You are on page 1of 240

‫اعداد واخراج‬

‫اسرة موقع الحكمة للثقافة السلمية‬


‫‪http://www.alhikmeh.com‬‬
‫‪----------------------------‬‬

‫اَلمَْثلُ‬
‫ل الُمنَزل‬
‫با ِ‬‫في تفسير كتا ِ‬
‫طبعة جديدة منّقحة مع إضافات‬
‫َتأليف‬
‫سر آية ال العظمى‬ ‫لمة الفقيه المف ّ‬ ‫الع ّ‬
‫شيرازي‬ ‫صر َمكارم ال ِ‬‫شيخ َنا ِ‬ ‫ال َ‬
‫شر‬‫ع َ‬
‫حادي َ‬ ‫جّلد ال َ‬
‫الم َ‬
‫]‪[5‬‬
‫سوَرُة الـّنور‬ ‫ُ‬
‫ن آية‬ ‫سّتو َ‬
‫َمدنّية وعدُد آياِتها أرَبع َو ِ‬
‫وهي تشكل الجزء الّثامن عشر من القرآن الكريم‬
‫"سورة الّنور"‬
‫‪:‬فضل سورة النور‬
‫جاء في حديث عن الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( قوله‪" :‬من قرأ سورة النور أعطي من‬
‫‪".‬الجر عشر حسنات بعدد كل مؤِمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقى‬
‫وجاء في حديث عن اِلمام الصادق)عليه السلم(‪" :‬حصنوا أموالكم وفروجكم بتلوة سورة الّنور‬
‫حٌد من أهل بيته‬‫ن قراءتها في كل يوم أو في كل ليلة لم يزن أ َ‬‫ن من أْدَم َ‬ ‫صنوا بها نساءكم‪ ،‬فإ ّ‬ ‫وح ّ‬
‫‪).‬أبدًا حتى يموت")‪1‬‬
‫والهتمام بمضمون السورة الذي دعا بطرق مختلفة ِإلى مكافحة عناصر اِلنحراف بالتزام العّفة‪،‬‬
‫‪.‬يوضح الغاية الساسية في الحديثين اعله ومفهومهما العملي‬
‫‪:‬محتوى سورة الّنور‬
‫صة بالطهارة والعفة‪ ،‬وكفاح اِلنحطاط الخلقي‪ ،‬لن محور تعاليمها‬ ‫يمكن اعتبار هذه السورة خا ّ‬
‫ينصب على تطهير المجتمع بطرق مختلفة ِمن الرذائل والفواحش‪ ،‬والقرآن الكريم يحقق هذا‬
‫‪:‬الهدف عبر مراحل‪ ،‬هي‬
‫المراحلة اُلولى‪ :‬بيان العقاب الشديد للمرأة الزانية والرجل الزاني‪ ،‬وهو ما ورد حاسمًا في الية‬
‫‪.‬الّثانية من هذه السورة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ تفسير مجمع البيان للية موضع البحث‪ ،‬وكتاب ثواب العمال للصدوق )حسبما نقله نور ‪1‬‬
‫‪).‬الثقلين‪ ،‬المجلد الّثالث‪ ،‬صفحة ‪568‬‬
‫]‪[8‬‬
‫المرحلة الّثانية‪ :‬بيان حد الزنا الذي ل َتْنِبغي ِإقاَمُته ِإّل بشروط مشّددة للغاية‪ ،‬إذ لُبّد من أربعةِ‬
‫شهود يشهدون أّنهم رأوا بُأّم أعُيِنهم رجل غريبًا َيْزني بأمرأة غريبة عنه‪َ ،‬يْفَعُل ِبها ِفْعَل الزوج‬
‫جه ساعة ُمباشرته إّياها‬ ‫‪.‬بزو ِ‬
‫ضي بينهما‪ ،‬أو ُيقّر أحُدهما أو كلهما بالحق‬ ‫ن القا ِ‬
‫عَ‬‫‪َ.‬ولو شهَد الرجُل على زوجِته بالّزنا لل َ‬
‫س حّد الّزنا‪ ،‬أي ثمانين جلدة‪،‬‬ ‫ت َبأربعِة شهود جلَدُه القاضي أربعة أخما ِ‬ ‫ومن اّتهم محصنًة ولم يأ ِ‬
‫ى عن العقاب‬ ‫حُرماِتِهم وهو في منج ّ‬
‫س َوَهتك ُ‬‫ن على النا ِ‬ ‫طْع َ‬
‫ن بإمكانه ال ّ‬
‫حُد أ ّ‬
‫ل يتصّوَر أ َ‬ ‫‪ِ.‬لئ ّ‬
‫ثّم طرحت الية بهذه المناسبة الحديث المعروف باسم اِلفك‪ ،‬وما فيه من اّتهام إحدى نساء‬
‫ضحًا للمسلمين َمَدى‬ ‫النبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ .‬فعّقب القرآن المجيد على هذه المسألة ُمو َ‬
‫عدوانًا على الناس‪ ،‬وكاشفًا عّما ينتظر القائم‬ ‫حشة ُ‬ ‫عِة إشاعِة الفا ِ‬‫بشاعة اِلفتراء والتهمِة‪َ ،‬وفظا َ‬
‫‪.‬بذلك من عقوبات ِإلهية‬
‫ي‪ ،‬من أجل أل‬ ‫وفي المرحلة الّثالثة‪ :‬تناولت الية أحد السبل المهّمة لجتناب التدهور الخلق ّ‬
‫ن اِلسلم يهتم فقط بمعاقبة المذنبين‬ ‫‪ُ.‬يتصّوَر أ ّ‬
‫ن أحد أسباب‬ ‫فطرحت الية نظر الرجال ِإلى النساء بشهوة أو بالعكس‪ ،‬وحجاب المرأة المسلمة‪ ،‬ل ّ‬
‫اِلنحراف الجنسي المهّمة ناجم عن هاتين المسألتين‪ .‬وإذا لم تحل هاتان المسألتان جذريًا‪ ،‬ل‬
‫ن القضاُء على اِلنحطاط والتفسخ‬ ‫‪.‬يمك ُ‬
‫خّل بالشرف ـ دعا القرآن المجيد ِإلى الزواج‬ ‫وفي المرحلة الّرابعة‪ :‬كخطوة للنجاة من التلوث بما ُي ِ‬
‫‪.‬اليسير التكاليف‪ ،‬ليحارب اِلشباع الجنسي غيرالمشروع باشباع مشروع‬
‫وفي المرحلة الخامسة‪ :‬بّينت اليات جانبًا من آداب المعاملة‪ ،‬ومبادىء تربية الولد وعدم دخول‬
‫البناء الغرفة المخصصة للوالدين في ساعات الخلوة والستراحة ِإّل بإذن منهما‪ ،‬بغية المحافظة‬
‫على أفكارهم من اِلنحراف‪ .‬كما بّينت‬
‫]‪[9‬‬
‫‪.‬آداب الحياِة اُلسرّية عاّمة‬
‫صة بالتوحيد والمبدأ والمعاد واِلمتثال لتعاليم‬
‫وفي المرحلة السادسة‪ :‬جاء ذكر مسائل خا ّ‬
‫ي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ .‬كّل ذلك خلل البحوث المطروحة‪ .‬ومن المعلوم أن اِلعتقاد‬ ‫الّنب ّ‬
‫بالوحدانية والّنبوة والمبدأ والمعاد‪ .‬يدعم مناهج التربية الخلقية في الفرِد والجماعة‪ ،‬فذلك‬
‫صُل واشَتّد‬
‫ي ال ْ‬
‫عَلْيه‪ ،‬تورق وتثمر ِإذا قو َ‬
‫ن أمور فروع َ‬
‫‪.‬اِلعتقاد هو الصل‪ ،‬وما عداُه َم ْ‬
‫وتطرقت بحوث هذه اليات ِإلى حكومة المؤمنين الصالحين العالمية‪ ،‬وأشارت ِإلى تعاليم إسلمية‬
‫‪ُ.‬أخرى‪ ،‬وهي تشكل ـ بمجموعها ـ وحدة متكاملة شاملة‬
‫***‬
‫]‪[10‬‬
‫اليات‬
‫جِلُدوا ُكّل‬
‫ن)‪ (1‬الّزاِنَيُة َوالّزاِنى َفا ْ‬ ‫ت َبّيَنـت ّلَعّلُكْم َتَذّكُرو َ‬
‫ضَنـَها َوَأْنَزْلَنا ِفيَهآ َءَاَيـ ِ‬ ‫سوَرٌة َأنَزْلَنـَها َوَفَر ْ‬ ‫ُ‬
‫خِر‬‫ل َواْلَيْوِم اَْل ِ‬
‫ن ِبا ِ‬
‫ن ُكْنُتْم ُتْؤِمُنو َ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫نا ِ‬ ‫خْذُكْم ِبِهَما َرْأَفٌة ِفى ِدي ِ‬‫جْلَدة َوَل َتْأ ُ‬ ‫حد ّمْنُهَما ِماَئَة َ‬ ‫َو ِ‬
‫حَهآ ِإّل‬
‫شِرَكًة َوالّزاِنَيُة َل َينكِ ُ‬
‫ح ِإّل َزاِنَيًة أْو ُم ْ‬ ‫ن )‪(2‬الّزاِنى َل َينِك ُ‬ ‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬ ‫طاِئَفٌة ّم َ‬
‫عذاَبُهَما َ‬ ‫شَهْد َ‬ ‫َوْلَي ْ‬
‫ن)‪3‬‬ ‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬ ‫ك َ‬ ‫حّرَم َذِل َ‬
‫ك َو ُ‬
‫شِر ٌ‬‫)َزان َأْو ُم ْ‬
‫الّتفسير‬
‫‪:‬حد الزاني والزانية‬
‫ن مضمونها يشعشع في‬ ‫ن آية النور فيها من أهم آياتها‪ ،‬إضافة ِإلى أ ّ‬ ‫سّميت هذه السورة بالّنور ل ّ‬
‫جوانح الرجل والمرأة والسرة والبشر عّفة وطهارة‪ ،‬وحرارة تقوى‪ ،‬ويعمر القلوب بالتوحيد‬
‫‪).‬واِليمان بالمعاد واِلستجابة لدعوة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وُأولى آيات هذه السورة المباركة بمثابة إشارة ِإلى مجمل بحوث السورة )سورة أنزلناها‬
‫‪).‬وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون‬
‫]‪[11‬‬
‫سورة" كلمة مشتّقة من "السور" أي الجدار المرتفع‪ ،‬ثّم أطلقت على الجدران التي تحيط بالمدن"‬
‫ن هذه الجدران كانت تعزل المدينة عن المنطقة المحيطة بها‪،‬‬
‫لحمايتها من مهاجمة العداء‪ .‬وبما أ ّ‬
‫فقد استعملت كلمة "سورة" تدريجيًا في كل قطعة مفصولة عن شيء‪ ،‬ومنها استعملت لتعني‬
‫ن "سورة" بناء جميل مرتفع‪ ،‬وهذه الكلمة تطلق‬ ‫ِقسمًا من القرآن‪ .‬كما قال بعض اللغويين‪ِ :‬إ ّ‬
‫أيضًا على قسم من بناء كبير‪ ،‬وتطلق السورة على أقسام القرآن المختلفة المفصولة بعضها عن‬
‫‪).‬بعض)‪1‬‬
‫ن هذه العبارة إشارة ِإلى كون أحكام ومواضيع هذه السورة ـ من اعتقادات وآداب‬ ‫وعلى كل حال فإ ّ‬
‫‪.‬وأوامر ِإلهية ـ ذات أهّمّية فائقة‪ ،‬لّنها كلها من ال‬
‫ن "الفرض" يعني قطع الشي الصلب والتأثير فيه كما يقول‬ ‫وتؤّكد ذلك عبارة "فرضناها"‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬الراغب في مفرداته‬
‫وعبارة )آيات بينات( قد تكون إشارة ِإلى الحقائق المنبعثة عن التوحيد والمبدأ والمعاد والّنبوة‪،‬‬
‫التي تناولتها هذه السورة‪ .‬وهي إزاء "فرضنا" التي تشير ِإلى الوامر اِللهية والحكام الشرعية‬
‫التي بّينتها هذه السورة‪ .‬وبعباره أخرى‪ :‬إحداها تشير ِإلى العتقادات‪ ،‬واُلخرى ِإلى الحكام‬
‫‪.‬الشرعية‬
‫‪.‬ويحتمل أن تعني "اليات البينات" الدلة التي استندت ِإليها هذه الحكام الشرعية‬
‫وعبارة )لعلكم تذكرون( تؤّكد أن جذور جميع العتقادات الصحيحة‪ ،‬وتعاليم اِلسلم التطبيقية‪،‬‬
‫‪.‬تكمن في فطرة البشر‬
‫‪.‬وعلى هذا الساس فإن بيانها يعتبر نوعًا من التذكير‬
‫وبعد هذا الستعراض العام‪ .‬تناولت السورة أّول حكم حاسم للزاني والزانية‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫رابع‪ ،‬مادة "سور ‪1‬‬ ‫‪".‬ـ "لسان العرب" المجلد ال ّ‬
‫]‪[12‬‬
‫الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( ولتأكيد هذا الحكم قالت )ول تأخذكم بهما(‬
‫‪).‬رأفة في دين ال إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر‬
‫وأشارت الية في نهايتها ِإلى مسألة أخرى لكمال الستنتاج من العذاب اِللهي )وليشهد عذابهما‬
‫‪).‬طائفة من المؤمنين‬
‫‪:‬وتشتمل هذه الية على ثلثة تعاليم‬
‫‪.‬ـ الحكم بمعاقبة النساء والرجال الذين يمارسون الزنا ‪1‬‬
‫للهي بعيدًا عن الرأفِة بمن يقاُم عليه‪ ،‬فهذه الرأفُة الكاذبة تؤّدي ِإلى الفساد ‪2‬‬ ‫ـ إقامة هذا الحكم ا ِ‬
‫وانحطاط المجتمع‪ .‬وتضع اليُة اِليمان بال ويوم الحساب ُمقاِبل الرأفِة التي َقْد يحس بها أحد‬
‫ط َ‬
‫ف‬ ‫تجاه الزاني والزانية ساعِة ِإقامة الحّد عليهما‪ ،‬لن أداء الحكام اِللهية من غير تأُثِر بالعوا ِ‬
‫ن لكل حكم من أحكامه‬ ‫دليل على صدق اِليمان بالمبدأ والمعاد‪ ،‬واليمان بال العالم الحكيم يعني أ ّ‬
‫‪.‬غاية وهدف حكيم‪ ،‬واليمان بالمعاد ُيشعر اِلنسان بالمسؤولية إزاء كل مخالفة‬
‫وذكر بهذا الصدد حديث مهم عن الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ُ" :‬يؤتي بوال نقص‬
‫من الحّد سوطًا‪ ،‬فيقال له‪ِ :‬لَم فعلت ذلك؟ فيقول‪ :‬رحمًة لعبادك‪ ،‬فيقال له‪ :‬أنت أرحم بهم مّني؟!‬
‫فيؤمر به إلى النار‪ ،‬ويؤتى بمن زاد سوطًا‪ ،‬فيقال له‪ :‬لم فعلت ذلك؟ فيقول‪ :‬لينتهوا عن معاصيك!‬
‫)فيقول‪ :‬أنت أحكم به مّني؟! فيؤمر به إلى الّنار!"‪1).‬‬
‫ن إقامة ‪3‬‬
‫ن ِم ْ‬
‫ـ أوجب ال حضور عدد من المؤمنين في ساحة معاقبة الزناة ليتعظ الناس بما يرو َ‬
‫حكم ال العادل على المذنبين‪ ،‬وبملحظة النسيج اِلجتماعي للبشر نرى أن انحطاط الشخص ل‬
‫ينحصر فيه‪ ،‬بل يسري ِإلى الخرين‪ ،‬ولتمام التطهير يجب أن يكون العقاب علنًا مثلمًا كان الذنب‬
‫‪.‬علنًا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫رازي‪ ،‬المجلد الّثالث والعشرين‪ ،‬صفحة ‪1 148‬‬
‫‪.‬ـ تفسير الفخر ال ّ‬
‫]‪[13‬‬
‫وبهذا يّتضح الجواب عن السؤال‪ِ :‬لَم يعّرض اِلسلُم كرامة إنسان بين الناس إلى الخدش‬
‫س بكتماِنِه في‬ ‫حٌد َولم يبُلغ القضاء‪ ،‬فل بأ َ‬ ‫طِلْع عليه أ َ‬‫سّرًا ِلَم َي ّ‬
‫ب ِ‬
‫والمتهان؟ فيقال‪ :‬ما َداَم الذن ُ‬
‫جْرُم بالِدّلِة‬
‫سُترُه‪ ،‬أّما إذا ظهر ال ُ‬
‫ب َمنْ َي ْ‬‫سُتُرْه بلطِفِه وُيح ّ‬
‫النفس وإستغفاِر ال ِمْنُه‪ ،‬فإّنه تعالى َي ْ‬
‫ث على استفظاعه َوَبشاعته‪.‬‬ ‫الشرعّية‪ ،‬فلُبّد من تنفيذ العقاب بشكل يبطل آثار الذنب السيئة‪ ،‬ويبع ُ‬
‫ومن الطبيعي أن يولي المجتمع السليم الحكاَم اهتمامًا كبيرًا‪ ،‬فتكرار التحّدي للحدود الشرعّية‬
‫عَلنًا‬
‫حّد َ‬ ‫ن هنا وجبت إقامة هذا ال َ‬ ‫ُيْفِقُدها فاعليتها في صياَنَة الطمأنينة والستقرار في النفوس‪ ،‬وِم ْ‬
‫ت سبيل‬ ‫شة ساَء ْ‬ ‫ح َ‬
‫س ِمن تكرار فا ِ‬ ‫‪.‬ليمتنع النا ُ‬
‫سوِء ِفعله أكثر من اهتمامه ِبما‬ ‫س على ُ‬ ‫طلع النا ِ‬ ‫ويجب أن ل ننسى أن كثيرًا من الناس يهتم با ّ‬
‫حّد على الّزاني بحضور الناس‪،‬‬ ‫ب على ذلك الِفعل الشنيع‪ .‬ولهذا وجبت إقامة ال َ‬ ‫َيْنِزُل به من العقا ِ‬
‫وهذا العلن لقامة هذا الحّد اِللهي أمام الناس قد يمنع المفسدين ِمن الستمرار في الَفساِد‬
‫‪.‬ويكون بمثابة فرامل قوية امام التمادي في ركوب الشهوات‬
‫وبعد بيان حّد الّزنا‪ ،‬جاء بيان حكم الزواج من هؤلء في الية الّثالثة وكما يلي )الزاني ل ينكح ِإّل‬
‫‪).‬زانية أو مشركة والزانية ل ينكحها إّل زان أو مشرك وحّرم ذلك على المؤمنين‬
‫ن قضّية طبيعَية‬ ‫عْ‬
‫سرون في كون هذه الية بيانًا لحكم إلهي‪ ،‬أو خبرًا َ‬ ‫‪.‬اختلف المف ّ‬
‫ن الية تبّين واقعة ملموسة فقط‪ ،‬فالمنحطون يختارُون المنحطات‪ ،‬وكذِلك يفعْل َ‬
‫ن‬ ‫فيرى البعض أ ّ‬
‫سُمو المتطّهرون المؤمنون عن ذلك‪ .‬ويحّرمون على أنفسهم اختيار‬ ‫هن في اختيارهن‪ ،‬بينما َي ْ‬
‫شَهُد به ظاِهُر الية الذي جاء على شكل جملة‬ ‫الزواج من ذلك الصنف تزكيًة وتطهيرًا‪ ،‬وهذا ما َي ْ‬
‫‪.‬خبرية‬
‫ن مجموعة ُأخرى ترى في هذه العبارة حكمًا شرعيًا وأمرًا ِإلهيًا يمنع‬ ‫ِإّل أ ّ‬
‫]‪[14‬‬
‫ن اِلنحرافات‬ ‫ت من الزواج مع الزناة‪ ،‬ل ّ‬ ‫ت‪ ،‬ويمنع المؤمنا ِ‬ ‫المؤمنين من الزواج مع الزانيا ِ‬
‫ن وينأى عنه‬ ‫ن ذلك عاٌر يأباُه المؤِم ُ‬‫ض الجسميِة المعدية في الغالب‪ .‬فضل عن أ ّ‬ ‫‪.‬الخلقية كالمرا ِ‬
‫مضافًا إلى المصير المبهم والمشكوك للبناء الذين ينشؤون في احضان ملوثة ومشكوكة‪ .‬ينتظر‬
‫!البناَء من مثل هذا الزواج‬
‫‪.‬ولهذه السباب والخصوصيات منعه السلم‬
‫‪.‬والشاهد على هذا التفسير جملة )وحّرم ذلك على المؤمنين( اّلتي تدّل على تحريم الزنا‬
‫والدليل الخر أحاديث عديدة رويت عن الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( وسائر الئّمة‬
‫سرت هذه الية باعتبارها حكمًا إلهيًا ينص على المنع‬ ‫‪.‬المعصومين)عليهم السلم( التي ف ّ‬
‫ن رجل من المسلمين استأذن‬ ‫سرين كتب بشأن نزول هذه الية‪ :‬إ ّ‬ ‫وحتى أن بعض كبار المف ّ‬
‫الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( في أن يتزوج "أم مهزول" وهي امرأة كانت تسافح ولها راية‬
‫على بابها‪ ،‬فنزلت الية)‪ ،(1‬عن عبدال بن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة والزهري‪ ،‬والمراد‬
‫خَبر‬
‫‪.‬بالية النهي وإن كان ظاهرها ال َ‬
‫ويؤيده ما روي عن أبي جعفر)عليه السلم( وأبي عبدال)عليه السلم( أّنهما قال‪" :‬هم رجال‬
‫ساء كانوا على عهد رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( مشهورين بالزنا‪ ،‬فنهى ال عن‬ ‫ون َ‬
‫ُأولئك الرجال والنساء‪ ،‬والناس على تلك المنزلة‪ ،‬فمن شهر بشيء من ذلك وأقيم عليه الحد فل‬
‫‪).‬تزوجوه حتى تعرف توبته")‪2‬‬
‫‪.‬ول بد أن نذّكر أن العديد من الحكام جاء جمل خبرية‪ .‬ول ضرورة لن تكون إنشائيًة آمرًة ناهيًة‬
‫ف عن‬ ‫ش ُ‬
‫ن المشركين كانوا يعطفون على الُزناُة‪ ،‬وهذا يك ِ‬ ‫والجديُر باِلنتَباِه َأ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ مجمع البيان‪ ،‬تفسير الية موضع البحث والقرطبي في تفسيره لهذه الية‪ .‬حيث رويا هذا ‪1‬‬
‫‪.‬الحديث‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان‪ ،‬من تفسير الية موضع البحث ‪2‬‬
‫]‪[15‬‬
‫ن‪ .‬قال الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( "ل يزني الزاني حين‬
‫ك صنوا ِ‬
‫شر َ‬
‫ن الّزنا وال ّ‬
‫أّ‬
‫يزني وهو مؤمن‪ ،‬ول يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن‪ ،‬فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه اليمان‬
‫)كخلع القميص")‪1‬‬
‫***‬
‫ملحظات‬
‫ـ الحالت التي يعدم فيها الزاني ‪1‬‬
‫صن والمحصنة‪ ،‬فحّدُهما القتل‪ ،‬إذا ثبت‬ ‫ما ذكرته اليُة السابقة حْكٌم عاّم ُيستثنى منه زنا المح ّ‬
‫جْرُم‬
‫‪.‬عليهما ال ُ‬
‫ش معه‪ ،‬والمحصنة هي المرأة المتزوجة التي يعيش‬ ‫ويقصد بالمحصن الرجل الذي له زوجة تعي ُ‬
‫ن حّده القتل‬
‫‪.‬زوجها معها فمن توفر له السبيل المشروع لرضاء الغريزة الجنسية ثّم يزني فإ ّ‬
‫‪.‬كما أن الزنا بالمحرمات حكمه العدام‬
‫وكذلك الزنا بالعنف والكراه‪ ،‬أي الغتصاب فحكمه القتل أيضًا‪ .‬وفي بعض الحالت يحكم إضافة‬
‫‪ِ.‬إلى الجلد بالنفي وأحكام ُأخرى ذكرتها الكتب الفقهية‬
‫ـ لماذا ذكرت الزانية أول؟ ‪2‬‬
‫ن ممارسة هذا العمل الذي يخالف العفة‪ ،‬هي في غايِة القبح‪ ،‬وتزداُد ُقبحًا وبشاعًة‬ ‫ل شك في أ ّ‬
‫بالنسبة للمرأِة‪ ،‬فحياؤها أكثر من حياء الرجل‪ ،‬والخروج عليه دليل تمرد شديد جّدا‪ .‬وإضافة إلى‬
‫‪.‬أنّ عاقبته المشؤومَة بالنسبِة لها أكبر رغم فداحِتِه َوَوباِله على الطرفين كليهما‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ الكافي‪ ،‬الصول‪ ،‬المجلد الثاني‪ ،‬صفحة ‪) 26‬المطبعة السلمية عام ‪ .(1388‬حسبما نقله ‪1‬‬
‫‪.‬صاحب نور الثقلين‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪571‬‬
‫]‪[16‬‬
‫ويحتمل أن تكون المرأة مصدر الوساوس في اقتراف هذا الذنب‪ ،‬وتعتبر في كثير من الحيان‬
‫السبب الصلي فيه‪ .‬ولهذا كله ذكرت الية الزانية أول ثّم الزاني‪ .‬إّل أن النساء والرجال من أهل‬
‫‪.‬العّفة واليمان يجتنبون هذه العمال‬
‫ـ لماذا تكون العقوبة علنية؟ ‪3‬‬
‫تستوجب الية السابقة ـ التي جاءت بصيغة المر ـ حضور طائفة من المؤمنين حين تنفيَذ حّد‬
‫ن القرآن لم يشترط أن يجري ذلك في المل العام‪ ،‬بل وقفه على الظروف‪ ،‬ويكفي حضور‬ ‫الزنا‪ ،‬لك ّ‬
‫‪).‬ثلثة أشخاص أو أكثر وفق ما يقرر القاضي)‪1‬‬
‫ن الهدف هو أن يكون هذا الحكم عبرة للناس جميعًا‪،‬‬ ‫وفلسفة هذا الحكم واضحة; لّنه أّول‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬وسببًا لتطهير المجتمع‬
‫‪.‬وثانيًا‪ :‬ليكون خجل المذنب مانعًا له من ارتكاب هذا الذنب في المستقبل‬
‫وثالثًا‪ :‬متى نفذ الحّد بحضور مجموعة من الناس يتبرأ القاضي والقائمين على تنفيذ الحّد من أية‬
‫‪.‬تهمة كاِلرتشاء أو المهادنة أو التفرقة أو ممارسة التعذيب وأمثال ذلك‬
‫‪.‬ورابعًا‪ :‬حضور مجموعة من الناس يمنع التعنت واِلفراط في تنفيذ الحّد‬
‫وخامسًا‪ :‬حضور الناس يمنع المجرم من نشر الشائعات واِلتهامات ضد القاضي‪ ،‬كما يحول هذا‬
‫‪.‬الحضور من نشاط المجرم التخريبي في المستقبل وغير ذلك من الفوائد‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سرين في ضرورة حضور مجموعة من المؤمنين حين تنفيذ حّد الزنا‪ ،‬في ‪1‬‬ ‫ـ شكك عدد من المف ّ‬
‫‪.‬حين أن المر بالحضور ظاهر من الية‪ ،‬وهي ل تقصد اِلستحباب‬
‫]‪[17‬‬
‫ـ ماذا كان حّد الزاني سابقًا؟ ‪4‬‬
‫ن الحكم قبل نزول سورة الّنور كان السجن‬ ‫يستفاد من اليتين )‪ (15‬و )‪ (16‬من سورة النساء أ ّ‬
‫المَؤّيد للزانية )فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت(وإلحاق الذى بالزناة غير المحصنين‬
‫)فآذوهما( ولم يحدد مقدار هذا الذى حتى حددته هذه اليُة بمائة جلدة‪ .‬وعلى هذا حّل اِلعدام‬
‫حّدَد الذى لغير المحصن بمائة جلدة‬ ‫محل السجن المؤيد في الحكم على الزانية المحصنة‪ ،‬و ُ‬
‫طلع راجع الّتفسير المثل في تفسير اليتين )‪ (15‬و )‪ (16‬من سورة النساء‬ ‫‪)).‬ولمزيد من اِل ّ‬
‫لفراط والتفريط عند تنفيذ الحّد ‪5‬‬ ‫!ـ منع ا ِ‬
‫ن القضايا اِلنسانية والعاطفية توجب بذل أقصى الجهود لمنع إصابة بريء بهذا‬ ‫ل ريب في أ ّ‬
‫العقاب‪ ،‬وإصدار العفو وفق الحكام اِللهية‪ ،‬أّما إذا ثبت الذنب فلُبّد ِمن الحسم ِمن غير تأثر‬
‫ق بالنظام اِلجتماعي ضررًا‬ ‫ح ُ‬‫ف ُيل ِ‬
‫ق‪ ،‬فهيجاُنها الجار ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫بالمشاعر الكاذبة والعواطف البشرية إّل بال َ‬
‫‪.‬كبيرًا‬
‫صُر‬‫ول سيما وقد وردت في الية عبارة‪" :‬في دين ال" أي‪ :‬عندما يكون الحكم من ال فهو أَْب َ‬
‫عي من أجل‬ ‫شْر ِ‬
‫ي في إقامة حكم َ‬ ‫وأحَكم بمواِقع الرأفِة والّرحمِة‪ ،‬فحين ينهى عن اِلنفعال العاطف ّ‬
‫ن أكثرية الناس تتمّلكهم هذه الحالة‪ ،‬فيحتمل غلبة عواطفهم واحساساتهم على عقلهم وايمانهم‪.‬‬ ‫أّ‬
‫ب الِعّزِة‬
‫عانا إليه َر ّ‬
‫عّما َد َ‬
‫ف َ‬‫ف‪ ،‬وهذا انحرا ُ‬ ‫ول جداَل في وجود فئة قليلة من الناس ِتِميُل ِإلى الُعْن ِ‬
‫ن الَعْدِل واِلحسان اللذين ل يظهران ِإّل بإقامِة أحكاِمِه الرشيدة‪ ،‬فل ينبغي‬ ‫حكمِة ـ سبحاَنُه ـ ِم َ‬ ‫وال ِ‬
‫‪ِ.‬لُمسِلم أن يزيد أو ينقص في حكم ال سبحانه‬
‫]‪[18‬‬
‫‪:‬ـ شروط تحريم الزواج بالزانية والزاني ‪6‬‬
‫ت الحاديث الشريفُة ذلك‬ ‫ذكرنا أن ظاهر اليات السابقة يحّرم الزواج من الزانية والزاني‪ ،‬وخصص ِ‬
‫بالذين اشتهروا بالزنى ولم يتوبوا‪ ،‬وأّما إذا لم يشتهروا بهذا العمل القبيح‪ ،‬أو أّنهم تركوه‬
‫‪.‬وطّهروا أنفسهم منه‪ ،‬وحافظوا على عفتهم‪ ،‬فل مانع من الزواج منهم‬
‫أّما الدليل على الصورة الّثانية‪ ،‬وهي حالة التوبة‪ ،‬فإنه ل ينطبق عنوان الزاني والزانية على‬
‫هؤلء فكانت حالة مؤّقتة زالت عنهم‪ .‬أّما في الحالة اُلولى فقد ورد هذا القيد في الروايات‬
‫اِلسلمية ويؤيده سبب نزول الية السابقة‪ .‬ففي حديث معتبر عن المام الصادق)عليه السلم( أن‬
‫الفقيه المعروف "زرارة" سَأله عن تفسير )الزاني ل ينكح إّل زانية(‪ .‬فقال المام)عليه السلم(‪:‬‬
‫"هن نساء مشهورات بالزنا ورجال مشهورون بالزنا‪ ،‬قد شهروا بالزنا وعرفوا به‪ ،‬والناس اليوم‬
‫بذلك المنزل‪ ،‬فمن أقيم عليه حد الزنا‪ ،‬أو شهر بالزنا‪ ،‬ل ينبغي لحد أن يناكحه حتى يعرف منه‬
‫)توبته")‪1‬‬
‫‪.‬كما جاءت أحاديث ُأخرى بهذا المضمون‬
‫‪:‬ـ فلسفة تحريم الزنا ‪7‬‬
‫ل يخفى على أحد مساويء هذا العمل القبيح على الفرد والمجتمع‪ ،‬ومع ذلك نرى من اللزم بيان‬
‫ي إلى الدمار‬
‫ن ممارسة هذا العمل القبيح وانتشاره يعّرض النظام السر ّ‬ ‫‪.‬هذا المعنى باختصار‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬ويجعل العلقة بين البن وأبيه غامضة وسلبية‬
‫جناة خطرين‬ ‫ن الولد المجهولي النسب يتحولون إلى ُ‬ ‫وقد بّينت لنا التجربة أ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫رابع عشر‪ ،‬ص ‪1 335‬‬
‫‪.‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ال ّ‬
‫]‪[19‬‬
‫‪.‬على المجتمع‬
‫ن هذا العمل القبيح يؤدي إلى مصادمات بين أصحاب المطامع والهواء‬ ‫‪.‬كما أ ّ‬
‫‪.‬إضافة إلى انتشار أنواع المراض النفسية والجلدية‪ .‬وذلك ليس خافياً على أحد‬
‫ض وارتكاب الجرائم من هذا القبيل )ولمزيد اِلطلع راجع الّتفسير‬
‫ومن نتائجه المشؤومة اِلجها ُ‬
‫‪).‬المثل آخر الية ‪ 32‬من سورة اِلسراء‬
‫***‬
‫]‪[20‬‬
‫اليتان‬
‫شَهـَدًة‬
‫جْلَدًة َوَل َتْقَبُلوا َلُهْم َ‬
‫ن َ‬ ‫جِلُدوُهْم َثَمـِني َ‬
‫شَهدآَء َفا ْ‬ ‫ت ُثّم َلْم َيْأُتوا ِبَأْرَبَعِة ُ‬
‫صنـ ِ‬
‫ح َ‬ ‫ن اُلم ْ‬ ‫ن َيْرُمو َ‬ ‫َوالِّذي َ‬
‫حيٌم)‪5‬‬‫غُفوٌر ّر ِ‬ ‫ل َ‬‫نا َ‬ ‫حوا َفِإ ّ‬ ‫ك َوَأصَْل ُ‬
‫ن َتاُبوا ِمن َبْعِد َذِل َ‬‫ن)‪َ (4‬إّل اّلِذي َ‬ ‫سُقو َ‬
‫ك ُهُم اْلَفـ ِ‬‫)َأَبَدًا َوُأؤَلـئ َ‬
‫الّتفسير‬
‫‪:‬عقوبة البهتان‬
‫ت عليه اليات السابقة من عقوبات شديدة للزاني والزانية فيسيئون‬ ‫ص ْ‬‫َقد يستِغّل المعترضون ما َن ّ‬
‫خرون هذا‬ ‫للمتطّهرين‪ ،‬فبّينت اليات اللحقُة هنا عقوبات شديدة للذين يرمون المحصنات‪ ،‬وُيس ّ‬
‫الحكم لغراضهم الدنيئة‪ .‬فجاءت هاتان اليتان لحفظ الحرمات الطاهرة وصيانة الكرامات ِمن‬
‫‪.‬عبث هؤلء المفسدين‬
‫تقول الية‪) :‬والذين يرمون المحصنات ثّم لم يأتوا بأربعة شهداء(فالشخاص الذين يّتهمون‬
‫النساء العفيفات بعمل ينافي العّفة )أي الزنا(‪ ،‬ولم يأتوا بأربعة شهود عدول لثبات ادعائهم‪.‬‬
‫فحكمهم )فاجلدوهم ثمانين جلدة( وتضيف‬
‫]‪[21‬‬
‫‪).‬الية حكمين أخرين‪) :‬ول تقبلوا لهم شهادة أبدًا‪ ،‬وُأولئك هم الفاسقون‬
‫ن كلمهم‬ ‫فهنا ل يقع مثل هؤلء الشخاص تحت طائلة العقاب الفيزيقي الشديد فحسب‪ ،‬بل إ ّ‬
‫وشهادتهم يسقطان عن العتبار أيضًا‪ ،‬لكيل يتمكنوا من التلعب بسمعة الخرين وتلويث شرفهم‬
‫في المستقبل‪ ،‬مضافًا إلى أن وصمة الفسق تكتب على جببينهم فيفتضح أمرأهم في المجتمع‪ .‬وذلك‬
‫‪.‬لمنِعهم من تلويث سمعة الطاهرين‬
‫ف والطهارِة‪ ،‬ليس خاصًا بهذه المسألة‪ ،‬ففي كثير من‬ ‫وهذا التشديد في الحكم المشّرع لحفظ الشر ِ‬
‫التعاليم اِلسلمية نراه ماثل أمامنا للهمية البالغة التي يمنحها اِلسلم لشرف المرأة والرجل‬
‫‪.‬المؤمن الطاهر‬
‫وجاء في حديث عن اِلمام الصادق)عليه السلم(‪" :‬إذا اتهم المؤمن أخاه انماث اِليمان من قلبه‬
‫‪).‬كما ينماث الملح في الماء")‪1‬‬
‫ب رحمته في وجه التائبين‪ ،‬الذين تابوا من‬ ‫ن المولى العزيَز الحكيَم سبحانه وتعالى ل يسّد با َ‬ ‫ولِك ّ‬
‫ذنوبهم وطّهروا أنفسهم‪ ،‬وندموا على ما فّرطوا‪ ،‬وسعوا في تعويض ما فاتهم ِمن البّر )إلّ الذين‬
‫ن ال غفور رحيم‬ ‫‪).‬تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإ ّ‬
‫سرون في كون هذا اِلستثناء يعود إلى جملة )ُأولئك هم الفاسقون( أو ِإلى جملة‬ ‫وقد اختلف المف ّ‬
‫ن معًا‪ ،‬فمعنى ذلك قبول‬‫ن اِلستثناُء عائدًا إلى الجملتي ِ‬
‫)ول تقبلوا لهم شهادة أبدًا(‪ ،‬فإذا كا َ‬
‫شهادتهم بعد التوبة وإزاَلُته الحكَم بفسقهم‪ .‬أّما إذا كان عائدًا إلى الجملة الخيرة‪ ،‬فإن الحكم‬
‫عليهم بالفسق سيزول عنهم في جميع الحكام اِلسلمية‪ ،‬إّل أن شهادتهم تظل باطلة ل ُتقَبُل منهم‬
‫‪.‬حتى آخر أعمارهم‬
‫إّل أن المبادىء المعمول بها في "ُأصول الفقه" تقول‪" :‬إن الستثناء الوارد‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ أصول الكافي‪ ،‬المجلد الثاني‪ ،‬صفحة ‪ ،269‬باب التهمة وسوء الظن ‪1‬‬
‫]‪[22‬‬
‫بعد عّدة جمل يعود إلى الخيرِة منها‪ ،‬إّل في حالة وجود قرائن تنص على شمول هذه الجمل بهذا‬
‫الستثناء‪ .‬وهنا يوجد مثل هذه القرينة‪ ،‬لّنه عندما يزول الحكم بالفسق عن الشخص بتوبته إلى‬
‫ن عدم قبول الشهادة كان من أجل فسقه‪ .‬فإذا تاب ورجعت‬ ‫ال‪ ،‬فل يبقى دليل على َرّد شهادته ل ّ‬
‫‪.‬إليه ملكة العدالة فل يسمى فاسقًا‬
‫وجاءت أحاديث عن أهل البيت)عليهم السلم( مؤّكدة هذا المعنى‪ ،‬فقد روى أحمد بن محمد عن‬
‫الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد وحماد عن القاسم بن سليمان قال‪ :‬سألت أبا عبدال)عليه‬
‫السلم( عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدًا‪ ،‬ثّم يتوب ول نعلم منه إّل خيرًا أتجوز شهادته؟ قال‪:‬‬
‫‪"".‬نعم‪ .‬ما يقال عندكم؟‬
‫‪.‬قلت‪ :‬يقولون‪ :‬توبته فيما بينه وبين ال‪ ،‬ول تقبل شهادته أبدًا‬
‫)فقال‪" :‬بئس ما قالوا‪ :‬كان أبي يقول‪ :‬إذا تاب ولم نعلم منه إّل خيرًا جازت شهادته")‪1‬‬
‫‪.‬كما رويت أحاديث ُأخرى في هذا الباب بهذا المعنى‪ ،‬ولكن يوجد حديث واحد يحمل على التقية‬
‫ومن الضروري أن نذّكر بأن كلمة "أبدًا" في جملة )ل تقبلوا لهم شهادة أبدًا(دليل على عمومية‬
‫صة الستثناء المتصل به(‪ ،‬فالرأي القائل أن‬‫ن كل عام يقبل الستثناء )خا ّ‬ ‫الحكم‪ .‬وكما نعلم فإ ّ‬
‫‪.‬لفظة )أبدًا( تمنع تأثير التوبة خطأ مؤّكد‬
‫***‬
‫بحوث‬
‫"ـ المراد من كلمة "رمى ‪1‬‬
‫رمي" في الصل هو اطلق السهم أو قذف الحجر وأمثالهما‪ ،‬وطبيعي أنه"‬ ‫ال ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ‪ 18‬كتاب الشهادات‪ ،‬الباب ‪ 36‬صفحة ‪1 282‬‬
‫]‪[23‬‬
‫يؤذي في معظم الوقات‪ ،‬وقد استخدمت الكلمة هنا كناية عن اتهام الشخاص وسبابهم ووصِفهم‬
‫‪.‬بما ل يليق‪ ،‬لن هذه الكلمات كالسهم يصيب الشخص ويجرحه‬
‫ولعل ذلك هو السبب في استخدام هذه اليات ـ واليات المقبلة ـ لهذه الكلمة بشكل مطلق‪ ،‬فلم تِرِد‬
‫اليُة على هذا النحو )والذين يرمون المحصنات بالزنا( وإّنما جاءت )والذين يرمون المحصنات(‬
‫صة مع ملحظة القرائن الكلمية يستبطن معنى )الزنا(‪ ،‬وعدم التصريح‬ ‫لنّ مفهوم "يرمون" وخا ّ‬
‫به ول سيما عند الحديث عن النساء العفيفات نوع من الحترام لهن‪ .‬وهذا التعبير مثال بارٌز‬
‫‪.‬لكرام المتطهرين‪ ،‬ونموذج لحترام الدب والعفة في الكلم‬
‫ـ لماذا أربعة شهود؟ ‪2‬‬
‫من المعلوم أن شاهدين عادلين يكفيان ـ في الشريعة اِلسلمية ـ لثبات حق‪ ،‬أوذنب اقترفه‬
‫شخص ما‪ ،‬حتى وإن كان قتل النفس‪ .‬أّما في إثبات الزنا فقد اشترط ال تعالى أربعة شهود‪ .‬وقد‬
‫يكون ذلك لن الناس يتعجلون الحكم في هذه المسألة‪ ،‬ويتطاولون بإلصاق تهمة الزنا بمجّرد‬
‫الشك‪ ،‬ولهذا شّدد اِلسلم في هذا المجال ليحفظ حرمات الناس وشرفهم‪ .‬أّما في القضايا اُلخرى ـ‬
‫‪.‬حتى قتل النفس ـ فإن موقف الناس يختلف‬
‫إضافة إلى أن قتل النفس ذو طرف واحد في الدعوى‪ ،‬أي إنّ المجرم واحد‪ ،‬أّما الزنا فذو طرفين‪،‬‬
‫حيث يثبت الذنب على شخصين أو ُيْنَفى عنهما‪ ،‬فإذ كان المخصص لكل طرف شاهدين‪ ،‬فيكون‬
‫‪.‬المجموع أربعة شهود‬
‫وهذا الكلم تضمنه الحديث التالي‪ :‬عن أبي حنيفة قال‪ :‬قلت لبي عبدال)عليه السلم(أّيهما أشّد‬
‫الزنا أم القتل؟ قال‪ :‬فقال)عليه السلم(‪ :‬القتل‪ :‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬فما بال القتل جاز فيه شاهدان‪ ،‬ول‬
‫‪:‬يجوز في الزنا ِإّل أربعة؟ فقال لي‪ :‬ما عندكم فيه يا أبا حنيفة‪ ،‬قال‬
‫]‪[24‬‬
‫ن ال أجرى في الشهادة كلمتين على العباد‪ ،‬قال‪ :‬ليس كذلك‬ ‫قلت‪ :‬ما عندنا فيه إّل حديث عمر‪ ،‬إ ّ‬
‫ن الرجل والمرأة‬ ‫ن الزنا فيه حّدان‪ ،‬ول يجوز أن يشهد كّل اثنين على واحد‪ ،‬ل ّ‬ ‫يا أبا حنيفة ولك ّ‬
‫‪).‬جميعًا عليهما الحّد‪ ،‬والقتل إّنما يقام الحّد على القاتل ويدفع عن المقتول)‪1‬‬
‫وهناك حالت معينة في الزنا‪ ،‬ينفذ الحد فيها على طرف واحد )كالزنا باِلكراه وأمثاله( إّل أنها‬
‫حالت مستثناة والمتعارف فيه اتفاق الطرفين‪ ،‬ومن المعلوم أن غايات الحكام تتبع الغالب في‬
‫‪.‬الفراد‬
‫شرط المهم في قبول التوبة ‪3‬‬ ‫ـ ال ّ‬
‫ن التوبة ليست فقط بالندامة على ما اقترفه النسان وتصميمه على تركه في‬ ‫قلنا مرارًا‪ :‬إ ّ‬
‫جه‬‫المستقبل‪ ،‬بل تقتضي ـ إضافة إلى هذا ـ أن يقوم الشخص بالتعويض عن ذنوبه اقترفها‪ ،‬فإذا و ّ‬
‫ضّرَر باّتهامه‪،‬‬
‫المرء تهمة لمرأة أو رجل طاهر ثّم تاب‪ ،‬فيجب عليه أن يعيد العتبار إلى من َت َ‬
‫ن كل الذين سمعوها عنه‬ ‫‪.‬وذِلك بأن يكذب هذه التهمة َبْي َ‬
‫فعبارة )واصلحوا( التي أعقبت عبارة )تابوا( هي إشارة إلى هذه الحقيقة‪ ،‬حيث أوجبت التوبة ـ‬
‫كما قلنا ـ أول‪ ،‬ثّم إصلح ما أفسده وإعادة ماء وجه الذي أساء إليه‪ ،‬وليس صحيحًا أن يّتهم‬
‫حف وأجهزة العلم‪ ،‬ثّم يستغفر في خلوة‬ ‫ن أخاُه ظلمًا في مل عام‪ ،‬أو يعلن عن ذلك في الص ّ‬ ‫إنسا ٌ‬
‫‪.‬داره ـ مثل ـ ويطلب من ال الصفح عنه‪ ،‬وبالطبع لن يقبل ال مثل هذه التوبة‬
‫لذلك روي عن أئّمة المسلمين قال الّراوي‪ :‬سألته عن الذي يقذف المحصنات‪ ،‬تقبل شهادته بعد‬
‫‪:‬الحّد إذا مات؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قلت‪ ،‬وما توبته؟ قال‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ نور الثقلين‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪1 574‬‬
‫]‪[25‬‬
‫‪).‬ل يجىء فيكذب نفسه عند المام ويقول‪" :‬قد افتريت على فلنة ويتوب مّما قال")‪1‬‬
‫‪:‬ـ أحكام القذف ‪4‬‬
‫‪.‬يوجد باب تحت عنوان "حد القذف" في كتاب الحدود‬
‫و"القذف" على وزن "َفْعُل" يعني لغًة رمي الشيء نحو هدف بعيد‪ ،‬إّل أّنه استخدمت كلمة‬
‫‪".‬رمى" كناية عن إتهام شخص ما في عرضه‪ ،‬أو بتعبير آخر‪ :‬هو سباب يرتبط بهذه اُلمور‬
‫و "القذف" إذا جرى بلفظ صريح‪ ،‬وبأي لغة وأية صورة فحّدة ـ كما قلنا سابقًا ـ هو ثمانون جلدًة‪.‬‬
‫وإذا لم يكن صريحًا فيعّزر القاذف‪) .‬ولم ترد في الشريعة اِلسلمية حدود للتعزير‪ ،‬بل وكل التعزير‬
‫‪).‬إلى تقدير القاضي‪ ،‬ليقرر حدودها وفق خصائص المذنب وكيفية وقوع الذنب والشروط اُلخرى‬
‫وإذا وجه شخص اتهامًا لمجموعة من الناس‪ ،‬وكرره بالنسبة لكل واحد منهم‪ ،‬فإنه يواجه حّد‬
‫حّد واحٌد إن طالبوا القاضي‬‫القذف لكل تهمة تفّوه بها‪ ،‬أّما إذا اتهمهم مّرة واحدة‪ ،‬فينّفُذ بحقه َ‬
‫جميعًا مرة واحدة‪ .‬وأّما إذا أقام كّل واحد منهم الدعوى بصورة مستقلة‪ ،‬فإنه يعاقب المذنب بعدد‬
‫‪.‬هذه الدعاوي‬
‫وهذا الموضوع من الهمية إلى درجة أّنه إذا إتهم شخصًا ومات المتهم‪ ،‬فلورثته الحق في‬
‫المطالبة باقامة الحّد على الذي إتهم مورّثهم بشيء‪ .‬وبما أن هذا الحكم مرتبط بحق الشخص‪،‬‬
‫فلصاحب الحق العفو عن الذنب وإسقاط الحّد عنه‪ ،‬بإستثناء حالة تكرر هذا الذنب من شخص‬
‫‪.‬معين بحيث يعرض وجود وشرف المجتمع إلى الخطر‪ ،‬فيكون حسابه عسيرًا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد الثامن عشر‪ ،‬صفحة )‪) (283‬أبواب الشهادات باب ‪ 36‬الحديث ‪1 4‬‬
‫]‪[26‬‬
‫ن حاكم الشرع يعزرهما‪ ،‬ولهذا ل يجوز للشخص َرّد‬ ‫سَقط الحد عنهما‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫ب شخصان َ‬ ‫وإذا تسا ّ‬
‫ن يطلب من حاكم الشرع معاقبة المذنب‬ ‫سباب بالمثل‪َ ،‬بل َلُه أ ْ‬
‫‪.‬ال ّ‬
‫ن هذا الحكم اِلسلمي َيْرمي إلى المحافظة على سمعة الناس وشرفهم‪ ،‬وإلى‬ ‫وعلى كل حال فإ ّ‬
‫الحيلولِة دون انتشار المفاسد اِلجتماعية والخلقية التي يبتلي المجتمع بها عن هذا الطريق‪ .‬ولو‬
‫ك المفسدون يعملون ما يحلو لهم يسّبون ويتهمون الشخاص والمجتمع متى شاؤوا دون‬ ‫ُتِر َ‬
‫رادع‪ ،‬لتعرض شرف الناس وكرامتهم إلى الهتك‪ ،‬ولوصل المر بسبب هذه التهم الباطلة إلى‬
‫وقوع الريبة بين الزوج وزوجته‪ ،‬وسوء ظن الب بشرعية ولده إلى الخطر‪ .‬ويسيطر الشك‬
‫وسوء الظن على المجتمع كله‪ .‬وترّوج الشائعات فتصيب الطاهرين أيضًا‪ .‬وهنا يستوجب العمل‬
‫‪.‬بحزم كبير مثلما عامل اِلسلم هؤلء المسيئين مرّوجي التهم والشائعات‬

‫حّدهم‪ ،‬ولتتم المحافظة على‬


‫أجل‪ ،‬يجب أن ُيضربوا ثمانين جلدة إزاء كل تهمة بالزنا ليقفوا عند َ‬
‫‪.‬كرامة الناس وشرفهم‬
‫***‬

‫]‪[27‬‬

‫اليات‬

‫ل إِّنُه َلِمنَ‬
‫ت ِبا ِ‬
‫شَهـَد ِ‬
‫حِدِهْم َأْرَبُع َ‬
‫شَهـَدُة َأ َ‬
‫سُهْم َف َ‬
‫شَهدآُء ِإّل َأْنُف ُ‬ ‫ن ّلُهْم ُ‬‫جُهْم َوَلْم َيُك ْ‬ ‫ن َأْزوا َ‬ ‫ن َيْرُمو َ‬
‫َواّلِذي َ‬
‫شَهَد‬
‫ن َت ْ‬
‫ب َأ ْ‬
‫عْنَها اْلَعذا َ‬
‫ن )‪َ(7‬وَيْدَرُؤا َ‬ ‫ن اْلَكـِذبي َ‬
‫ن ِم َ‬
‫ن َكا َ‬ ‫عَلْيِه ِإ ْ‬
‫ل َ‬‫تا ِ‬ ‫ن َلْعَن َ‬‫سُة َأ ّ‬‫خـِم َ‬ ‫ن )‪َ(6‬واْل َ‬ ‫صـِدِقي َ‬
‫ال ّ‬
‫ن)‪(9‬‬ ‫صـِدقي َ‬
‫ن اْل ّ‬‫ن ِم َ‬‫عَلْيَهآ ِإن َكا َ‬
‫ل َ‬ ‫با ِ‬ ‫ض َ‬‫غ َ‬ ‫ن َ‬‫سَة أ ّ‬ ‫خـِم َ‬ ‫ن)‪َ (8‬واْل َ‬ ‫ن اْلَكـِذبي َ‬ ‫ل ِإّنُه َلِم َ‬
‫ت ِبا ِ‬‫شَهـَد ِ‬
‫َأْرَبَع َ‬
‫حِكيٌم)‪10‬‬ ‫ب َ‬ ‫ل َتّوا ٌ‬ ‫نا ُ‬‫حَمُتُه َوأ ّ‬ ‫عَلْيُكْم َوَر ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ضُل ا ِ‬‫)َوَلْو َل َف ْ‬

‫سبب الّنزول‬
‫روى ابن عباس أن سعد بن عبادة )سيد النصار( من الخزرج‪ ،‬قال لرسول ال)صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم( بحضور جمع من الصحاب‪" :‬يا رسول ال! لو أتيت لكاع )زوجته( وقد يفخذها رجل‬
‫لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء‪ ،‬فوال ما كنت لتي باربعة شهداء حتى يفرغ من‬
‫حاجته ويذهب‪ ،‬وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة‪ ،‬فقال الّنبي)صلى ال عليه وآله‬
‫‪).‬وسلم‬
‫]‪[28‬‬
‫يا معشر النصار ما َتسمعون إلى ما قال سيدكم؟‬
‫فقالوا‪ :‬ل تلمه فإّنه رجل غيور‪ .‬ما تزوج امرأة إّل بكرًا‪ ،‬ول طّلق امرأة له فاجترى رجل مّنا أن‬
‫‪.‬يتزوجها‬
‫فقال سعد بن عبادة‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬بأبي أنت وُأمي‪ ،‬وال إّني لعرف أّنها من ال‪ ،‬وأّنها حق‪،‬‬
‫‪.‬ولكن عجبت من ذلك لما اخبرتك‬
‫ن ال يأبى إّل ذاك‬
‫‪.‬فقال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ :‬فإ ّ‬
‫‪.‬فقال‪ :‬صدق ال ورسوله‬
‫فلم يلبثوا إّل يسيرًا حتى جاء ابن عم له‪ ،‬يقال له‪ :‬هلل بن ُأمية قد رأى رجل مع امرأته ليل‪،‬‬
‫شاُء فوجدت معها‬ ‫ع َ‬
‫فجاء شاكيًا إلى الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( فقال‪ :‬إّني جئت أهلي ِ‬
‫‪.‬رجل رأيته بعيني وسمعته بُأذني‬
‫فكره ذلك رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( حتى رؤيت الكراهة في وجهه‪ ،‬فقال هلل‪ :‬إّني‬
‫‪.‬لرى الكراهة في وجهك‪ ،‬وال يعلم إّني لصادق‪ ،‬وإّني لرجو أن يجعل ال لي فرجًا‬
‫فهّم رسوُل ال بضربه‪ ،‬واجتمعت النصار وقالوا‪ :‬ابتلينا بما قال سعد‪ ،‬أيجلد هلل وتبطل‬
‫شهادته؟ فنزل الوحي وأمسكوا عن الكلم حين عرفوا أن الوحي قد نزل‪ ،‬فأنزل ال تعالى )والذين‬
‫ن ال تعالى‬‫يرمون أزواجهم( اليات‪ ،‬فقال رسوُل ال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ :‬أبشريا هلل‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪.‬قد جعل فرجًا‬
‫)فقال‪ :‬قد كنت أرجوا ذاك من ال تعالى‪1).‬‬
‫‪.‬وبنزول اليات السابقة علم المسلمون الحل السليم لهذه المشكلة‪ ،‬وشرحها كما يأتي‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ تفاسير مجمع البيان‪ ،‬وفي ظلل القرآن‪ ،‬ونورالثقلين‪ ،‬والميزان‪ ،‬في تفسير اليات موضع ‪1‬‬
‫‪).‬البحث )مع بعض الختلف‬
‫]‪[29‬‬
‫الّتفسير‬
‫!عقاب توجيه التهمة إلى الزوجة‬
‫ن هذه اليات في حكم اِلستثناء الوارد على حد القذف‪ ،‬فل ُيطبق حّد‬ ‫يستنتج من سبب الّنزول أ ّ‬
‫القذف )ثمانين جلدة( على زوج يّتهم زوجته بممارسة الزنا مع رجل آخر‪ ،‬وتقبل شهادته لوحدها‪.‬‬
‫ويمكن في هذه الحالة أن يكون صادقًا كما يمكن أن يكون كاذبًا في شهادته‪ .‬وهنا يقدم القرآن‬
‫‪:‬المجيد حل أمثل هو‬
‫على الزوج أن يشهد أربع مرات على صدق ادعائه )والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم‬
‫الشهداء إّل أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بال إّنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة ال‬
‫عليه إن كان من الكاذبين( وبهذا على الرجل أن يعيد هذه العبارة "اشهد بال إني لمن الصادقين‬
‫فيما رميتها من الزنا" أربع مرات لثبات ادعائه من جهة‪ ،‬وليدفع عن نفسه حد القذف من جهة‬
‫ي إن كنت من الكاذبين‬‫‪ُ".‬أخرى‪ .‬ويقول في الخامسة‪" :‬لعنة ال عل ّ‬
‫وهنا تقف المرأة على مفترق طريقين‪ ،‬فإّما أن تقر بالتهمة التي وجهها إليها زوجها‪ ،‬أو تنكرها‬
‫‪.‬على وفق ما ذكرته اليات التالية‬
‫‪.‬ففي الحالة اُلولى تثبت التهمة‬
‫وفي الّثانية )ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بال إّنه لمن الكاذبين والخامسة أن‬
‫غضب ال عليها إن كان من الصادقين(‪ .‬وبهذا الترتيب تشهد المرأة خمس مرات مقابُل شهادات‬
‫الرجل الخمس ـ أيضًا ـ لتنفي التهمة عنها‪ .‬بأن تكرر أربع شهادات "أشهد بال إّنه لمن الكاذبين‬
‫ي إن كان من الصادقين‬‫‪".‬فيما رماني من الزنا" وفي الخامسة تقول "أن غضب ال عل ّ‬
‫ت منهما هي ما يسّمى بـ "اللعان"‪ ،‬لستخدام عبارة اللعن في الشهادة‬ ‫‪.‬وهِذِه الشهادا ُ‬
‫‪.‬وليترتب على هذين الزوجين أربعة أحكام نهائية‬
‫]‪[30‬‬
‫‪.‬أّولها‪ :‬انفصالهما دون طلق‬
‫وثانيها‪ :‬تحرم الزوج على الزوجة إلى البد‪ ،‬أي ل يمكنهما العودة إلى الحياة الزوجية معًا بعقد‬
‫‪.‬جديد‬
‫وثالثها‪ :‬سقوط حد القذف عن الرجل‪ ،‬وحد الزنا عن المرأة )وإذا رفض أحدهما تنفيذ هذه‬
‫حّد القذف إن كان الرافض الرجل‪ ،‬وإن كانت المرأة يقام عليها حد الزنا‬ ‫‪.‬الشهادات يقام عليه َ‬
‫‪.‬ورابعها‪ :‬الطفل الذي يولد بعد هذه القضية ل ينسب إلى الرجل‪ ،‬وتحفظ نسبته للمرأة فقط‬
‫ولم ترد تفاصيل الحكم السابق في اليات المذكورة أعله‪ ،‬وإّنما جاء في آخر الية موضع البحث‬
‫)ولول فضل ال عليكم ورحمته وإن ال تّواب حكيم(‪ .‬فهذه الية إشارة إجمالية إلى تأكيد الحكام‬
‫ن فضل من ال‪ ،‬إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان‪ ،‬بشكل‬ ‫السابقة‪ ،‬لّنها تدل على أن اللعا َ‬
‫‪.‬صحيح‬
‫فمن جهة ل يجبر الرجل على التزام الصمت إزاء سوء تصرف زوجته ويمتنع من مراجعة الحاكم‬
‫‪.‬الشرعي‬
‫ومن جهة ُأخرى ل تتعرض المرأة إلى حّد الزنا الخاص بالمحصنة بمجّرد توجيه التهمة إليها‪ ،‬بل‬
‫‪.‬يمنحها السلم حق الدفاع عن نفسها‬
‫ومن جهة ثالثة ل يلزم الرجل البحث عن شهود أربعة إن واجه هذه المشكلة‪ ،‬لثبات هذه التهمة‬
‫‪.‬النكراء والكشف عن هذه الفضيحة المخزية‬
‫ومن جهة رابعة يفصل بين هذين الزوجين ول يسمح لهما بالعودة إلى الحياة الزوجية بعقد جديد‬
‫في المستقبل أبدًا‪ ،‬لتعّذر الستمراُر في الحياة الزوجيِة إن كانت التهمة صادقة‪ ،‬كما أن المرأة‬
‫تصاب بصدمة نفسية إن كانت التهمة كاذبة‪ .‬وتجعل الحياة المشتركة ثانية صعبة للغاية ول‬
‫‪.‬تقتصر على حياة باردة وخاملة‪ ،‬بل ينتج عن هذه التهمة عداء مستفحٌل بينهما‬
‫]‪[31‬‬
‫‪.‬ومن جهة خامسة توضح الية مستقبل الوليد الذي يولد بعد توجيه هذه التهمة‬
‫ن لطفِ‬
‫عْ‬‫ن بها على عباده‪ .‬وحل هذه المشكلة بشكل عادُل ُيعّبُر َ‬
‫هذا كله فضل من ال ورحمة م ّ‬
‫ل بعباِدِه َوَرحمته لهم‪ .‬ولو دققنا النظر في الحكم لرأينا أّنه ل يتقاطع مع ضرورة وجود شهود‬
‫ا ِ‬
‫‪.‬أربعة في هذه القضية‪ .‬إذ أن تكرار كل من الرجل والمرأة شهادتهما أربع مرات يعوض عن ذلك‬
‫***‬

‫ملحظات‬
‫ـ لماذا استثني الزوجان من حكم القذف؟ ‪1‬‬
‫سؤال الّول الذي يطرح نفسه هنا‪ :‬ما هي خاصية الزوجين‪ ،‬ليصدر هذا الحكم المستثنى‬ ‫ال ّ‬
‫بحّقهما؟‬
‫ونجد جواب هذا السؤال من جهة في سبب نزول الية‪ ،‬وهو عدم تمكن الرجل من التزام الصمت‬
‫‪.‬إزاء مشاهدته لزوجته وهي تخونه مع رجل آخر‬
‫جه إلى القاضي وهو يصرخ‬ ‫كيف له أن يمتنع عن رد الفعل إزاء العتداء على شرفه؟ وإذا تو ّ‬
‫ويستنجد‪ ،‬فقد يواجه حّد القذف‪ ،‬لعدم تيقن القاضي من صدق دعواه‪ .‬وإذا حاول إحضار أربعة‬
‫شهود‪ ،‬فإن ذلك صعب عليه لمساسه بشرفه‪ ،‬وقد تنتهي الحادثة ول يمكنه إحضار شهوده في‬
‫‪.‬الوقت المناسب‬
‫ن الغرباء يّتهمون بعضهم بعضًا بسهولة‪ ،‬ولكن الرجل والمرأة نادرًا ما يّتهم‬
‫ومن جهة ُأخرى‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪.‬أحدهما الخر‬
‫ولهذا السبب حكم الشارع في هذه القضية بوجوب إحضار أربعة شهود في غير الزوجين‪ ،‬وإّل‬
‫صهما‬‫حّد القذف على الذي يوجه تهمة الزنا‪ ،‬وليس المر كذلك بالنسبة للزوجين‪ ،‬ولهذا خ ّ‬ ‫ُنّفَذ َ‬
‫صة في هذه الحالة‬
‫‪.‬الحكم المذكور لما فيهما من ميزات خا ّ‬
‫]‪[32‬‬
‫ـ كيفية اللعان ‪2‬‬
‫توصلنا بعد اِليضاحات التي ذكرناها خلل تفسير هذه اليات‪ ،‬إلى وجوب تكرار الرجل شهادته‬
‫حّد القذف‪ .‬وبهذا فإن هذه‬ ‫أربع مرات ليثبت صحة دعواه في اتهامه لزوجته بالزنا‪ ،‬ولينجو من َ‬
‫‪.‬الشهادات الربع من الزوج بمثابة أربعة شهود‪ ،‬وفي الخامسة يتقبل لعنة ال عليه إن كان كاذبًا‬
‫ومع اللتفات إلى أن تنفيذ هذه الحكام يتم عادة في محيط اسلمي ملتزم وبيئة متدّينة‪ ،‬ويرى‬
‫الزوج نفسه مضطرًا للوقوف بين يدي الحاكم الشرعي‪ ،‬ليدلي بشهادته أربع مرات بشكل حاسم ل‬
‫يقبل الشك والترديد‪ ،‬وفي الخامسة يطلب من ال أن يلعنه إن كان كاذبًا‪ ،‬فهذا كله يمنع الرجل من‬
‫‪.‬التهّور وتوجيه اتهام باطل إلى زوجته‬
‫أّما المرأة التي تريد الدفاع عن نفسها وترى نفسها بريئة من هذه التهمة‪ ،‬فعليها تكرار شهادتها‬
‫أربع مرات وتشهد أن التهمة باطلة‪ ،‬ليجاد موازنة بين شهادتي الرجل والمرأة‪ ،‬وبما أن الّتهمة‬
‫موجهة للمرأة‪ ،‬فإّنها تدافع عن نفسها بعبارة أقوى في المرحلة الخامسة‪ ،‬حيث تدعو ال أن ينزل‬
‫‪.‬غضبه عليها إن كانت كاذبة‬
‫ن "اللعنة" إبتعاد عن الرحمة‬‫‪.‬وكما نعلم فإ ّ‬
‫ن الغضب يستلزم العقاب‪ ،‬فهو أكثر من البتعاد عن‬ ‫وأّما "الغضب" فإّنه أمر أشد من اللعنة‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬الرحمة‬
‫سَوأ من )الضالين( على الرغم من‬ ‫ن )المغضوب عليهم( هم أ ْ‬ ‫ولهذا قلنا في تفسير سورة الحمد‪ :‬إ ّ‬
‫ن الضاّلين هم بالتأكيد بعيدون عن رحمة ال تعالى‬ ‫‪.‬أ ّ‬

‫‪:‬ـ العقاب المحذوف في الية ‪3‬‬


‫جاءت الية الخيرُة ـ مّما نحن بصدده ـ جملًة شرطيًة لم يذكر جزاءها‬
‫]‪[33‬‬
‫حيث تقول‪) :‬ولول فضل ال عليكم ورحمته وإن ال تّواب حكيم(‪ .‬لكّنها لم تذكر نتيجة ذلك‪.‬‬
‫وبملحظة القرائن فيها يّتضح لنا جواب الشرط‪ .‬والصمت إزاء مسألة ما يكشف عن أهميتها‬
‫البالغة‪ ،‬ويثير في مخيلة المرء تصورات عديدة لها‪ .‬وكل تصور منها له مفهوم جديد‪ .‬فهنا قد‬
‫‪.‬يكون جواب الشرط‪ :‬لو ل فضل ال ورحمته عليكم‪ ،‬لكشف عن أعمالكم وفضحكم‬
‫‪.‬أو‪ :‬لول فضل ال ورحمته عليكم‪ ،‬لعاقبكم فورًا وأهلككم‬
‫‪.‬أو‪ :‬لول هذا الفضل‪ ،‬لما وضع ال سبحانه وتعالى مثل هذه الحكام الدقيقة من أجل تربيتكم‬
‫‪).‬وفي الواقع فإن حذف جواب الشرط يثير في فكر القارىء كل هذه اُلمور)‪1‬‬

‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫لخرى قال‪" :‬لو ل ما أنعم ال ‪1‬‬‫ـ ذكر تفسير "الميزان" جواب الشرط بشكل يشمل التفاسير ا ُ‬
‫عليكم من نعمة الدين وتوبته لمذنبيكم وتشريع الشرائع لنظم أمور حياتكم‪ ،‬لزمتكم الشقوة‪،‬‬
‫‪".‬وأهلكتكم المعصية والخطيئة‪ ،‬واختل نظام حياتكم بالجهالة‬
‫]‪[34‬‬

‫اليات‬

‫س َ‬
‫ب‬ ‫خْيٌر ّلُكْم ِلُكّل اْمِرىء ّمْنُهم ّما اْكَت َ‬
‫شّرا ّلُكْم َبْل ُهَو َ‬
‫سُبوُه َ‬
‫ح َ‬
‫صَبٌة ّمنُكْم َل َت ْ‬
‫ع ْ‬
‫ك ُ‬
‫جآُءو ِباِلْف ِ‬
‫ن َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ِإ ّ‬
‫ن َواْلُمْؤِمَنـ ُ‬
‫ت‬ ‫ن اْلُمْؤِمُنو َ‬ ‫ظّ‬ ‫سِمْعُتُموُه َ‬ ‫ظيٌم)‪ّ (11‬لْوَل ِإْذ َ‬ ‫عِ‬ ‫ب َ‬ ‫عَذا ٌ‬ ‫ِمنَ اِْلْثِم َواّلِذى َتَوّلى ِكْبَرُه ِمْنُهْم َلُه َ‬
‫شَهَدآِء‬‫شَهَدآَء َفِإَذ َلْم َيْأُتوا ِبال ّ‬‫عَلْيِه ِبَأْرَبَعِة ُ‬
‫جآُءو َ‬ ‫ن )‪ّ(12‬لوَل َ‬ ‫ك ّمِبي ٌ‬ ‫خْيرًا َوَقاُلوا َهَذآ ِإْف ٌ‬
‫سِهْم َ‬‫ِبَأْنُف ِ‬
‫سُكمْ ِفى َمآ‬ ‫خَرِة َلَم ّ‬
‫عَلْيُكْم َوَرحَْمُتُه ِفى الّدْنَيا َواَْل ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ضُل ا ِ‬‫ن)‪َ (13‬وَلْوَل َف ْ‬ ‫ل ُهُم اْلَكـِذُبو َ‬ ‫عنَد ا ِ‬
‫ك ِ‬‫َفُأْولـِئ َ‬
‫سُبوَنُه‬‫ح َ‬
‫عْلٌم َوَت ْ‬
‫س َلُكْم ِبِه ِ‬ ‫ن ِبَأْفَواِهُكم ّما َلْي َ‬ ‫سَنِتُكْم َوَتُقوُلو َ‬
‫ظيٌم)‪ِ (14‬إْذ َتَلّقْوَنُه ِبَأْل ِ‬ ‫عِ‬‫ب َ‬ ‫عَذا ٌ‬‫ضُتْم ِفيِه َ‬
‫َأَف ْ‬
‫ك َهَذا ُبْهَتـ ٌ‬
‫ن‬ ‫حـَن َ‬
‫سْب َ‬‫ن ّنَتَكّلَم ِبَهَذا ُ‬‫سِمْعُتُموُه ُقْلُتْم ّما َيُكونُ َلَنآ َأ ْ‬
‫ظيٌم)‪َ (15‬وَلْوَل ِإْذ َ‬ ‫عِ‬‫ل َ‬ ‫عنَد ا ِ‬‫َهّينًا َوُهَو ِ‬
‫ظيٌم)‪16‬‬ ‫)عَ ِ‬

‫سبب الّنزول‬
‫‪:‬ذكر سببين لنزول اليات السابقة‬
‫أّولهما‪ :‬ما روته عائشة زوجة الّرسول قالت‪ :‬كان رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( إذا أراد‬
‫أن‬
‫]‪[35‬‬
‫ن خرج سهمها خرج بها رسول ال)صلى ال عليه وآله‬ ‫يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأّيته ّ‬
‫وسلم(معه‪ .‬قالت عائشة‪ :‬فأقرع بيننا في غزوة)‪ (1‬غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول‬
‫ال)صلى ال عليه وآله وسلم( بعد ما نزل الحجاب وأنا ُأحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى‬
‫‪.‬إذا فرغ رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( من غزوته تلك وقفل‬
‫فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش‬
‫فلّما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار)‪ .(2‬قد انقطع فالتمست عقدي‬
‫وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي‬
‫كنت أركب‪ ،‬وهم يحسبون أني فيه‪ ،‬وكانت النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم إّنما تأكل المرأة‬
‫العلقة)‪ (3‬من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا‬
‫الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ول مجيب‬
‫ي فبينا أنا جالسة في منزلي‬ ‫فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أّنهم سيفقدوني فيرجعون إل ّ‬
‫‪.‬غلبتني عيني فنمت‬
‫وكان صفوان بن المعطل السلمي ثّم الذكر إّني من وراء الجيش فأدلج)‪(4‬فأصبح عند منزلي فرأى‬
‫سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين‬
‫عرفني فخمرت وجهي بجلبابي وال ما كلمني كلمة واحدة ول سمعت منه كلمة غير استرجاعه‬
‫طى على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن‬ ‫حتى أناخ راحلته فو ّ‬
‫‪.‬نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ هي غزوة بني المصطلق في العام الخامس لللهجرة ‪1‬‬
‫ـ ظفار كقطام بلد باليمين قرب صنعاء‪ ،‬وجزع ظفاري منسوب إليها والجزع الخرز وهو الذي ‪2‬‬
‫‪.‬فيه سواد وبياض‬
‫‪.‬ـ العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق ‪3‬‬
‫‪.‬ـ أدلج القوم‪ :‬ساروا الليل كله أو في آخره ‪4‬‬
‫]‪[36‬‬
‫ي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا والناس‬ ‫وكان الذي تولى الفك عبدال بن ُأب ّ‬
‫يفيضون في قول أصحاب الفك ل ُأشعر بشيء من ذلك‪ ،‬وهو يريبني في وجعي أني ل أعرف من‬
‫ي فيسلم ثّم‬
‫رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إّنما عل ّ‬
‫يقول‪ :‬كيف تيكم؟ ثّم ينصرف فذاك الذي يريبني ول ُأشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت‬
‫وخرجت معي ُأم مسطح قبل المناصع)‪ (1‬وهي متبرزنا وكّنا ل نخرج إّل ليل إلى ليل‪ ،‬وذلك قبل‬
‫أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الّول في التبّرز قبل الغائط فكّنا نتأذى بالكنف‬
‫‪.‬أن نتخذها عند بيوتنا‬
‫فانطلقت أنا وُأم مسطح فأقبلت أنا وُأم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا)‪ (2‬من ثيابنا فعثرت ُأم مسطح‬
‫في مرطها)‪ (3‬فقالت‪ :‬تعس مسطح فقلت لها‪ :‬بئس ما قلت أتسبين رجل شهد بدرًا؟ قالت‪ :‬إي‬
‫هنتاه)‪ (4‬أو لم تسمعي ما قال؟ قلت‪ :‬وما قال‪ :‬فأخبرتني بقول أهل الفك فازددت مرضًا على‬
‫‪.‬مرضي‬
‫ي رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( فسلم ثّم قال‪ :‬كيف تيكم؟‬ ‫فلما رجعت إلى بيتي دخل عل ّ‬
‫فقلت‪ :‬أتأذن لي أن آتي أبوي؟ ـ قالت‪ :‬وأنا حينئذ ُأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ـ قالت‪ :‬فأذن‬
‫لي رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( فجئت لبوي فقلت ُلمي‪ :‬يا ُأمتاه ما يتحدث الناس؟‬
‫قالت يا بنية هوني عليك فوال لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحّبها ولها ضرائر إّل أكثرن‬
‫عليها فقلت‪ :‬سبحان ال ولقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ل يرقًا لي دمع‬
‫‪.‬ول أكتحل بنوم ثّم أصبحت أبكي‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ المناصع‪ :‬المواضع يتخلى فيها لبول أو حاجة ‪1‬‬
‫‪.‬ـ أي رفعنا ثيابنا ‪2‬‬
‫‪.‬ـ المرط ـ بالكسر ـ كساء واسع يؤتزر به وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به ‪3‬‬
‫‪.‬ـ خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه ‪4‬‬
‫]‪[37‬‬
‫ودعا رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( علي بن أبي طالب وُأسامة بن زيد حين استلبث‬
‫الوحي يستأمرهما في فراق أهله‪ ،‬فأّما اسامة فأشار على رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ فقال‪ :‬يا رسول ال)صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم(أهلك ول نعلم إّل خيرًا‪ ،‬وأّما علي بن أبي طالب فقال‪ :‬يا رسول ال لم يضّيق ال‬
‫عليك‪ ،‬والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك‪ ،‬فدعا رسول ال)صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم(بريرة فقال‪ :‬أي بريرة هل رأيت شيئًا يريبك؟ قالت بريرة‪ :‬ل والذي بعثك بالحق إن رأيت‬
‫‪.‬عليها أمرًا أغمضه أكثر من أّنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله‬
‫فقام رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( فاستعذر يومئذ من عبدال بن أبي فقال وهو على‬
‫المنبر‪ :‬يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوال ما علمت على‬
‫‪.‬أهلي إّل خيرًا‪ ،‬ولقد ذكروا رجل ما علمت عليه إّل خيرًا وما كان يدخل على أهلي إّل معي‬
‫فقام سعد بن معاذ النصاري فقال‪ :‬يا رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( أنا أعذرك منه إن‬
‫كان من الوس ضربت عنقه وإن كان من إخواتنا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك‪ ،‬فقام سعد‬
‫بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجل صالحًا ولكن احتملته الحمّية ابن عم سعد فقال‬
‫لسعد بن عبادة‪ :‬كذبت لعمر ال ما تقتله ول تقدر على قتله‪ ،‬فقام ُأسيد بن خضير وهو ابن عم‬
‫سعد بن عبادة‪ ،‬قال‪ :‬كذبت لنقتلنه فإّنك منافق تجادل عن المنافقين‪ ،‬فتثاورا الحّيان‪ :‬الوس‬
‫والخزرج حتى هّموا أن يقتتلوا ورسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(قائم على المنبر فلم يزل‬
‫‪.‬رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( يخفضهم حتى سكنوا وسكت‬
‫فبكيت يومي ذلك فل يرقًا لي دمع ول أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا ل‬
‫‪.‬أكتحل بنوم ول يرقًا لي دمع وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي‬
‫]‪[38‬‬
‫ي امرأة من البصار فأذنت لها فجلست تبكي‬
‫فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عل ّ‬
‫معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(ثّم جلس ولم يجلس‬
‫ي ما قيل قبلها وقد لبث شهرًا ل يوحى إليه في شأني بشيء‪ ،‬فتشهد حين جلس‬ ‫عندي منذ قيل ف ّ‬
‫ثّم قال‪ :‬أّما بعد يا عائشة إّنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرؤك ال‪ ،‬وإن كنت ألممت‬
‫‪.‬بذنب فاستغفري ال وتوبي إليه فإن العبد إذا إعترف بذنبه ثّم تاب تاب ال عليه‬
‫فلّما قضى رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( مقالته قلص)‪ (1‬دمعي حتى ما ُأحس منه قطرة‪،‬‬
‫فقلت لبي‪ :‬أجب عّني رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ .‬قال‪ :‬وال ما أدري ما أقول لرسول‬
‫ال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬فقلت ُلمي‪ :‬أجيبي عني رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪،‬‬
‫‪).‬قالت‪ :‬وال ما أدري ما أقول لرسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫فقلت وأنا جارية حديثة السن ل أقرأ كثيرًا من القرآن‪ :‬إّني وال لقد علمت أّنكم سمعتم هذا‬
‫الحديث حتى استقر في أنفسكم وصّدقتم به فلئن قلت لكم‪ :‬إّني بريئة وال يعلم أني بريئة ل‬
‫تصّدقوني‪ ،‬ولئن اعترفت لكم بأمر وال يعلم أّني منه بريئة لتصّدقّني‪ ،‬وال ل أجد لي ولكم مثل‬
‫‪.‬إّل قول أبي يوسف‪ :‬فصبر جميل وال المستعان على ما تصفون‬
‫ثّم تحّولت فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن ال مبّرئي ببراءتي ولكن وال‬
‫ما كنت أظن أن ال منزل في شأني وحيًا يتلى‪ ،‬ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم ال في‬
‫‪.‬بأمر يتلى‪ ،‬ولكن كنت أرجو أن يرى رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( رؤيا يبّرئني ال بها‬
‫قالت‪ :‬فوال ما رام رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( مجلسه ول خرج أحد من أهل البيت‬
‫حتى ُأنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحّدر منه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ قلص‪ :‬اجتمع وانقبض ‪1‬‬
‫]‪[39‬‬
‫مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ُأنزل عليه فلّما سري عن رسول‬
‫ال)صلى ال عليه وآله وسلم( سري عنه وهو يضحك فكان أّول كلمة تكلم بها أن قال‪ :‬أبشري يا‬
‫عائشة أّما ال فقد بّرأك‪ ،‬فقالت ُأمي‪ :‬قومي إليه‪ ،‬فقلت‪ :‬وال ل أقوم اليه ول أحمد إّل ال الذي‬
‫‪.‬أنزل براءتي‪ ،‬وأنزل ال‪" :‬إن الذين جاؤا بالفك عصبة منكم" العشر اليات كلها‬
‫فلما أنزل ال هذا في براءتي قال أبوبكر‪ ،‬وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره‪:‬‬
‫وال ل ُأنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل ال‪" :‬ول يأتِل ُأولو الفضل‬
‫ب أن‬
‫منكم والسعة أن يؤتوا ُأولي القربى والمساكين ـ إلى قوله ـ رحيم" قال أبوبكر‪ :‬وال إّني ُاح ّ‬
‫‪.‬يغفر ال لي فرجع إلى َمسطح النفقة التي كان ينفق عليه‪ ،‬وقال‪ :‬وال ل أنزعها منه أبدًا‬
‫قالت عائشة‪ :‬فكان رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( يسأل زينب أبنة حجش عن أمري فقال‪:‬‬
‫يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت‪ :‬يا رسول ال أحمي سمعي وبصري ما علمت إّل خيرًا‪،‬‬
‫قالت‪ :‬وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( فعصمها ال بالورع‪،‬‬
‫)وطفقت اختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الفك‪1).‬‬
‫إمام باقر)عليه السلم( يقول‪ :‬لما هلك إبراهيم بن رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( حزن‬
‫عليه حزنًا شديدًا فقالت عائشة‪ :‬ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إّل ابن جريح‪ ،‬فبعث رسول‬
‫‪.‬ال)صلى ال عليه وآله وسلم( عليًا)عليه السلم( وأمره بقتله‬
‫فذهب علي)عليه السلم( ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط فضرب علي)عليه‬
‫السلم(باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى علّيا)عليه السلم( عرف في وجهه‬
‫الغضب فأدبر راجعًا ولم يفتح باب البستان فوثب علي)عليه السلم( على الحائط ونزل ِإلى‬
‫البستان واتبعه وولى جريح مدبرًا فلما خشي أن يرهقه)‪ (2‬صعد في نخلة وصعد‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير الميزان‪ ،‬ج‪ ،15‬ص‪ 96‬ـ ‪1 100‬‬
‫‪.‬ـ أرهقه‪ :‬أدركه ‪2‬‬
‫]‪[40‬‬
‫علي)عليه السلم( في أثره فلما دنا منه رمي بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فِإذا ليس له ما‬
‫‪.‬للرجال ول له ماللنساء‬
‫فانصرف علي)عليه السلم( ِإلى النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( فقال له‪ :‬يا رسول ال ِإذا‬
‫ي في الوبر أم ُأثّبت؟ قال‪ :‬لبل تثّبت‪ .‬قال‪ :‬والذي بعثك‬
‫بعثتني في المر أكون كالسمار المحم ّ‬
‫)بالحق ما له ماللرجال وما له ماللنساء‪ ،‬فقال‪ :‬الحمدال الذي صرف عّنا السوء أهل البيت‪1).‬‬
‫***‬

‫‪:‬تحقيق المسألة‬
‫على رغم مّما ذكرته معظم المصادر السلمية لهذين السببين فإن هناك أمورًا غامضًة في السبب‬
‫‪:‬الّول تثير النقاش‪ ،‬منها‬
‫رسول الكرم)صلى ال عليه وآله ‪1‬‬ ‫ن ال ّ‬
‫ـ يستفاد من تعابير هذا الحديث ـ رغم تناقضاته ـ أ ّ‬
‫وسلم(وقع تحت تأثير الشائعة‪ ،‬وأدى ذلك إلى مشاورِتِه أصحاَبُه وتغيير سلوِكِه مع عائشة حتى‬
‫‪.‬ابتعد عنها لمّدة طويلة‬
‫وهذا الموضوع ل ينسجم مع عصمِة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وحسب‪ ،‬بل كل مسلم ثابت‬
‫اِليمان ل ينبغي أن يقع تحت تأثير الشائعات دون مبرر‪ ،‬وإذا تأّثر بالشائعة فعليه أل ُيغّير سلوَكُه‬
‫سَتسِلم للشائعِة وأثرها فكيف بالمعصوم‬‫‪.‬عمليًا‪ ،‬ول َي ْ‬
‫ن العتاب الشديد الذي ذكرته اليات التالية وتساءلت‪ :‬لماذا وقع بعض‬ ‫فهل يمكن التصديق أ ّ‬
‫المؤمنين تحت تأثير هذه الشائعة‪ ،‬ولماذا لم يطلبوا شهودًا أربعة‪ ،‬يشمل النبي)صلى ال عليه‬
‫‪.‬وآله وسلم(؟ هذه تساؤلت تدفعنا في أقل تقدير إلى الشك في صحة سبب الّنزول الول‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص‪1 103‬‬
‫]‪[41‬‬
‫ل على أن حكم القذف )التهام بعمل مخل بالشرف والعفة( نزل قبل ‪2‬‬
‫ـ رغم أن ظاهر اليات َيُد ّ‬
‫حديث اِلفك‪ ،‬فلماذا لم يستدع الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( عبدال بن أبي سلول وعددًا آخر‬
‫ن نشروا هذه الشائعة ليجري الحد الذي فرضه ال؟ )اّل أن يقال بأن آيات القذف والفك نزلت‬ ‫مّم ْ‬
‫سويًة‪ ،‬وأن حكم القذف قد شرح حينذاك لتناسبه مع الموضوع‪ ،‬ففي هذه الصورة ينتفي هذا‬
‫‪).‬الشكال ولكن يبقى الّول على قّوته‬
‫ن ما يثير فيه النقاش هو عّدة ُأمور‪ ،‬منها‬‫‪:‬أّما بالنسبة لسبب الّنزول الّثاني‪ ،‬فإ ّ‬
‫ص واحٌد ل غير‪ ،‬في الوقت الذي ‪1‬‬ ‫ـ إن الذي وجه التهمة ـ وفقًا لسبب الّنزول هذا ـ هو شخ ٌ‬
‫ذكرت اليات فيه أّنهم مجموعة‪ ،‬وقد رّوجوا لها لدرجة شيوعها تقريبًا في المدينة كلها‪ .‬لهذا‬
‫استخدمت اليات ضمير جمع للمؤمنين الذي عاتبتهم بشّدة‪ ،‬والذين توّرطوا في تصديق وترويج‬
‫‪.‬هذه الشائعة‪ ،‬وهذا ل ينسجم أبدًا مع سبب الّنزول الّثاني‬
‫ـ يبقى سؤال هو‪ :‬إذا كانت عائشة ارتكبت هذا الثم )القذف( ثّم ثبت خلقة‪ ،‬فلماذا لم ُينّفِذ ‪2‬‬
‫حّد القذف بحقها؟‬‫النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( َ‬
‫ـ كيف يمكن للنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( أن يصدر حكم القتل بحق شخص بشهادة ‪3‬‬
‫ن التنافس بين زوجات رجل واحد أمرًا اعتيادّيا‪ ،‬والنحراف عن الحق والعدل‬ ‫امرأة واحدة؟ مع أ ّ‬
‫‪.‬أو ارتكاب إحداهن لخطأ على القل ممكن‬
‫وليس مهمًا ما يكون سبب الّنزول‪ ،‬بل المهم أن نعلم من مجموع اليات هو أنه قد اتهم شخص‬
‫بريء بعمل مخّل بالعفة والشرف حين نزول هذه اليات‪ ،‬وأن الشائعات كانت منتشرة في المدينة‪،‬‬
‫كما يفهم من الدلئل الموجودة في هذه الية‪ ،‬أن هذه التهمة كانت موجهة لشخص له أهمية‬
‫صة في المجتمع آنذاك‪ .‬وأن مجموعة من المنافقين المتظاهرين بالسلم أرادوا الخلل‬‫خا ّ‬
‫بالمجتمع اِلسلمي بترويجهم هذه الشائعة‪ ،‬فنزلت هذه اليات‪ ،‬وتصّدت لهذه الحادثة بقوة‪،‬‬
‫ودفعت‬
‫]‪[42‬‬
‫‪.‬المنحرفين والمنافقين الحاقدين إلى جحورهم‬
‫ومهما يكن سبب نزول هذه الحكام‪ ،‬فإنها ل تخص سبب الّنزول وحده‪ ،‬ول تنصرف لزمانه‬
‫‪.‬ومكانه فقط‪ ،‬بل هي أحكام نافذة في ُكّل بيئة وزمان‬
‫بعد هذا الحديث نشرع في تفسير هذه اليات لنرى كيف يتابع القرآن بفصاحته وبلغته هذه‬
‫صة‪ ،‬وكيف يبحث تفاصيلها بدقة‬ ‫‪.‬الحادثة الخا ّ‬
‫***‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬حديث الفك المثير‬
‫تقول أّول آية من اليات موضع البحث‪ ،‬دون أن تطرح أصل الحادثة )إن الذين جاؤا بالفك عصبة‬
‫ف الجمِل الزائدة‪ ،‬والكتفاء بما تدّل عليه الكلمات من‬
‫منكم( لن من علئم الفصاحة والبلغة‪ ،‬حذ َ‬
‫‪.‬معان شاملة‬
‫كلمة "الفك" على وزن "فكر" كما يقول الراغب الصفهاني‪ :‬يقصد بها كل مصروف عن وجهه‪،‬‬
‫الذي يحق له أن يكون عليه‪ ،‬ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب "مؤتفكة" ثّم اطلقت على كل‬
‫‪".‬كلم منحرف عن الحق ومجانب للصواب‪ ،‬ومن ذلك يطلق على الكذب "أفك‬
‫ويرى "الطبرسي" في مجمع البيان أن الفك ل يطلق على كل كذبة بل الكذبة الكبيرة التي تبدل‬
‫الموضوع عن حالته الصلية‪ ،‬وعلى هذا يستفاد أن كلمة "الفك" بنفسها تبّين أهمية هذه الحادثة‬
‫‪.‬وكذب التهمة المطروحة‬
‫ب‪ ،‬وجمعها أعصاب‪ ،‬وهي التي تربط‬ ‫ص ْ‬
‫ن "ُفْعَلة" مشتّقة من الَع َ‬
‫وأّما كلمة "الُعصبة" فعلى وز ِ‬
‫عضلت الجسم بعضها مع بعض‪ ،‬وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم‪ ،‬ثّم أطلقت كلمة "عصبة"‬
‫‪.‬على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة‬
‫]‪[43‬‬
‫واستخدام هذه الكلمة يكشف عن اِلرتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث‬
‫‪.‬الفك‪ ،‬حيث كانوا يشكلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات‬
‫‪).‬وقال البعض‪ :‬إن هذه المفردة تستعمل في عشرة إلى أربعين شخصًا)‪1‬‬
‫وعلى كل حال فإن القرآن طمأن وهّدأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية‬
‫متطهرة )ل تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم(‪ ،‬لّنه كشف عن حقيقِة عدد من العداء المهزومين‬
‫‪.‬أو المنافقين الجبناء‪ ،‬وفضح أمر هؤلء المرائين‪ ،‬وسّود وجوههم إلى البد‬
‫‪.‬ولو لم تكن هذه الحادثة‪ ،‬لما افتضح أمرهم بهذا الشكل‪ ،‬ولكانوا أكثر خطرًا على المسلمين‬
‫ن عليهم‬‫ن هذا الحادث عّلم المسلمين أن اّتباع الذين يرّوجون الشائعات يجّرهم إلى الشقاء‪ ،‬وأ ّ‬ ‫إّ‬
‫ن ل ينظروا إلى‬‫أن َيِقُفوا بقّوة امام هذا العمل‪ .‬كما عّلم هذا الحادث المسلمين درسًا آخر‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫حروا فيه‪ ،‬فقد يكون فيه خيرًا كثيرًا رغم سوء ظاهره‬‫ث المؤلم‪ ،‬بل عليهم أن يتب ّ‬‫‪.‬ظاهر الحاِد ِ‬
‫ق‪ ،‬لن شرف‬ ‫ن ذكر ضمير "لكم" يعّم جميع المؤمنين في هذا الحادث‪ ،‬وهذا ح ّ‬ ‫ومّما يلفت النظر أ ّ‬
‫‪.‬المؤمنين وكيانهم الجتماعي ل ينفصل بعضه عن بعض‪ ،‬فهم شركاء في السّراء والضّراء‬
‫‪:‬ثمّ تعّقب هذه الية بذكر مسألتين‬
‫أّولهما‪) :‬لكل امرىء منهم ما اكتسب من الثم( إشارة إلى أنّ المسؤولية الكبرى التي تقع على‬
‫عاتق كبار المذنبين ل تحول دون تحمل الخرين لجزء من هذه المسؤولية‪ ،‬ولهذا يتحمل كّل‬
‫‪.‬شخص مسؤوليته إزاء أية مؤامرة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪".‬ـ نقل تفسير "روح المعاني" هذا المعنى عن كتاب "الصحاح ‪1‬‬
‫]‪[44‬‬
‫سرين‪ :‬إن الشخص‬ ‫والمسألة الّثانية‪) :‬والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم( قال بعض المف ّ‬
‫‪.‬المقصود هو "عبدال بن أبي سلول" قائد أصحاب الفك‬
‫‪.‬وقال آخرون‪ :‬إّنه مسطح بن ُأثاثة‪ .‬وحسان بن ثابت كمصاديف لهذا الخطاب‬
‫ن الذي نشط في هذا الحادث أكثر من الخرين‪ ،‬وأضرم نار الفك‪ ،‬هو قائد هذه‬ ‫وعلى كل حال‪ ،‬فإ ّ‬
‫عقابًا عظيمًا ِلكبر ذنبه‪) .‬ويحتمل أن كلمة "تولى" يقصد بها رأس‬ ‫ب ِ‬‫المجموعة الذي سُيعاَق ُ‬
‫‪).‬مروجي حديث اِلفك‬
‫جهت الية التالية‪ :‬إلى المؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات‪،‬‬ ‫ثّم َتو ّ‬
‫‪).‬فل متهم بشّدة )لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا‬
‫ست مؤمنين آخرين‬ ‫جِه المنافقين بقّوة‪ ،‬بل استمعتم إلى أقوالهم اّلتي م ّ‬
‫أي‪ِ :‬لَماذا لم تقفوا في َو ْ‬
‫كانوا بمنزلة أنفسكم منكم‪ .‬ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة وتقولوا بأن هذا الكلم كذب وافتراء‪:‬‬
‫‪)).‬وقالوا هذا افك مبين‬
‫أّنكم كنتم تعرفون جيدًا الماضي القبيح لهذه المجموعة من المنافقين‪ ،‬وتعرفون جيدًا طهارة الذي‬
‫‪.‬اّتهم‪ ،‬وكنتم مطمئنين من عدم صدق هذه التهمة وفق الدلئل المتوفرة لديكم‬
‫وكنتم تعلمون أيضًا بما يحاك من مؤامرات ضّد النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( من قبل العداء‬
‫والمنافقين‪ ،‬لذا فإّنكم تستحقون اللوم والتأنيب لمجرد هذه الشائعات الكاذبة‪ ،‬وللتزامكم الصمت‬
‫إزاءها‪ ،‬فكيف بكم وقد اشتركتم في نشر هذه الشائعة بوعي أو دون وعي منكم؟‬
‫ومّما يلفت النظر أن الية السابقة بدل من أن تقول‪ :‬عليكم أن تحسنوا الظن بالمتهم وتصدقوا‬
‫ن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا(وهذه العبارة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى‬ ‫تهمته‪ ،‬فإنها تقول )ظ ّ‬
‫ن أنفس المؤمنين كنفس واحدة‪ ،‬فإذا اتهم‬ ‫أّ‬
‫]‪[45‬‬
‫أحدهم‪ ،‬فكأن التهمة موجهة لجميعهم‪ ،‬ومثالهم في ذلك كمن اشتكى عضو منه فهبت بقية‬
‫‪.‬العضاء لنجدته‬
‫‪).‬وهكذا يجب أن يهب المسلم للدفاع عن إخوته وأخواته في الدين مثلما يدافع عن نفسه)‪1‬‬
‫وقد استعملت كلمة "النفس" في آيات أخرى من القرآن في هذا المعنى أيضًا ـ في مثل هذه‬
‫الحالت ـ كما هو في الية )‪ (11‬من سورة الحجرات )ول تلمزوا أنفسكم(! أّما الستناد إلى‬
‫‪.‬الرجال والنساء المؤمنين فيشير إلى قدرة اليمان على ردع سوء الظن بالخرين‬

‫وحتى هذه اللحظة كانت الملمة ذات طابع أخلقي ومعنوي‪ ،‬وتقضي بعدم التزام المؤمنين جانب‬
‫‪.‬الصمت إزاء مثل هذه التهم القبيحة‪ ،‬أو أن يكونوا وسيلة بيد ُمرّوجي الشائعات‬
‫ثّم تهتم اليات بالجانب القضائي للمسألة فتقول‪) :‬لول جاءوا عليه بأربعة شهداء( أي لماذا لم‬
‫‪).‬تطلبوا منهم اليتان بأربعة شهود‪) .‬فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند ال هم الكاذبون‬
‫ن هذه الملمة تبّين أن الحكم بأداء أربعة أشخاص لشهادتهم‪ ،‬وكذلك حد القذف في حالة عدمه‬ ‫إّ‬
‫‪.‬قد نزل قبل اليات التي تناولت حديث الفك‬
‫وأّما الجواب عن سؤال‪ :‬كيف لم يقدم النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( على تنفيذ هذا الحّد؟ فإّنه‬
‫واضح‪ ،‬لّنه)صلى ال عليه وآله وسلم( لم يقدم على شيء ما لم يسند من قبل الناس‪ ،‬فالتعصب‬
‫القبلي قد يؤدي إلى مقاوة سلبية لبعض أحكام ال ولو بصورة مؤقتة‪ ،‬وقد ذكر المؤرخون أ ّ‬
‫ن‬
‫‪.‬المر كان هكذا في هذه القضية‬
‫وأخيرًا جمعت الية التالية هذه الملمات‪ ،‬فقالت )ولول فضل ال عليكم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ وأّما قول البعض بأن المضاف محذوف وتقديره "ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفس بعضهم ‪1‬‬
‫‪.‬خيرًا" ليس صائبًا ويفقد الية جمالها وروعتها‬
‫]‪[46‬‬
‫‪).‬ورحمته في الدنيا والخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم‬
‫ونظرًا لن "أفضتم" مشتقة من الفاضة‪ ،‬بمعنى خروج الماء بكثرة‪ ،‬واسُتْعِملت في حالت ُأخرى‬
‫ن شائعة التهام توسعت بشكل شملت المؤمنين مضافًا إلى‬ ‫للتوغل في الماء‪َ ،‬نَتج ِمن هِذِه العبارة أ ّ‬
‫‪).‬مروجيها الصليين )المنافقين‬
‫وتبّين الية التالية ـ في الحقيقة ـ البحث السابق‪ .‬وهو كيف ابتلي المؤمنين بهذا الذنب العظيم‬
‫نتيجة تساهلهم؟ فتقول )إذ تلقونه بألسنتكم( أي تذّكروا كيف رحبتم بهذه التهمة الباطلة‬
‫‪).‬فتناقلتموها )وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ول تحسبونه هينًا هو عندال عظيم‬
‫‪:‬وتشير هذه الية إلى ثلثة أنواع من ذنوبهم العظيمة في هذا المجال‬
‫‪.‬الّول‪َ :‬تَقّبل الشائعة‪ :‬استقبالها وتناقلها‬
‫‪.‬الّثاني‪ :‬نشر الشائعة دون أي تحقيق أو علم بصدقها‬
‫الّثالث‪ :‬استصغار الشائعة واعتبارها وسيلة لّلهو وقضاء الوقت‪ ،‬في وقت تمس فيه كيان المجتمع‬
‫‪.‬اِلسلمي وشرفه‪ ،‬إضافة إلى مساسها بشرف بعض المسلمين‬
‫ن الية استعملت تعبير "بألسنتكم" تارًة أخرى تعبير "بأفواهكم" على الرغِم‬ ‫ومّما يلفت النظر أ ّ‬
‫ن جميَع الكلم يصدر عن طريق الفم واللسان‪ ،‬إشارة إلى أّنكم لم تطلبوا الدليل على الكلم‬ ‫من أ ّ‬
‫شَرُه‪ ،‬والمر الوحيد الذي كان بأيديكم هو لقلقة‬
‫غ لكم َن ْ‬
‫الذي تقبلتموه‪ ،‬ول تملكون دليل ُيسّو ُ‬
‫‪.‬لسانكم وحركات أفواهكم‬
‫ونظرًا لهول هذه الحادثة التي استصغرها بعض المسلمين‪ ،‬أكدتها الية ثانية‪ ،‬فاّنبتهم مّرة ُأخرى‬
‫ولذعتهم بعباراتها إْذ قالت )ولول إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان‬
‫‪).‬عظيم‬
‫]‪[47‬‬
‫وسبق لهذه الية أن وجهت اللوم لهم لسوء ظنهم بالذي وجه إليه التهام باطل‪ ،‬وهنا تقول الية‪:‬‬
‫إضافة إلى وجوب حسن الظن بالمتهم يجب أل تسمحوا لنفسكم بالتحدث عنه‪ ،‬ول تتناولوا التهمة‬
‫!الموجهة إليه‪ ،‬فكيف بكم وقد كنتم سببًا لنشرها‬
‫عليكم أن تعجبوا لهذه التهمة الكبيرة‪ ،‬وأن تذكروا ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وأن تلجأوا إلى ال‬
‫يطهركم من نشر هذه التهمة وإشاعتها‪ .‬ومع كل السف استصغرتموها ونشرتموها بكل يسر‪،‬‬
‫‪.‬فأصبحتم بذلك آلًة بيد المنافقين المتآمرين المروجين للشائعات‬
‫هذا وسنتناول بالبحث ـ خلل تفسير اليات القادمة ـ ذنب اختلق الشائعة ودوافعها‪ ،‬والسبيل إلى‬
‫‪.‬مكافحتها‪ ،‬بعون ال وتوفيقه‬
‫***‬
‫]‪[48‬‬

‫اليات‬

‫حِكيٌم)‪(18‬‬ ‫عِليٌم َ‬‫ل َ‬ ‫ت َوا ُ‬‫ل َلُكُم اَْلَيـ ِ‬


‫نا ُ‬‫ن)‪َ (17‬وُيَبّي ُ‬ ‫ل َأن َتُعوُدوا ْلِمْثِلِه أَبَدًا ِإن ُكنُتم ّمْؤِمِني َ‬‫ظُكُم ا ُ‬ ‫َيُع ِ‬
‫ل َيْعَلُم‬
‫خَرُة َوا ُ‬
‫عَذابٌ َأِليٌم ِفى الّدْنَيا َواَْل ِ‬
‫ن َءاَمُنوا َلُهْم َ‬ ‫شُة ِفى اّلِذي َ‬
‫ح َ‬
‫شيَع اْلَفـ ِ‬ ‫ن َأن َت ِ‬
‫حّبو َ‬
‫ن ُي ِ‬‫ِإنّ اّلِذي َ‬
‫حيٌم)‪20‬‬ ‫ف ّر ِ‬
‫ل َرُءو ٌ‬ ‫نا َ‬ ‫حَمُتُه َوَأ ّ‬
‫عَلْيُكْم َوَر ْ‬
‫ل َ‬
‫ضُل ا ِ‬‫ن)‪َ (19‬وَلْوَل َف ْ‬ ‫)َوأَْنُتْم َلَتْعَلُمو َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬حرمة إشاعة الفحشاء‬
‫تحدثت هذه اليات أيضًا عن حديث الفك‪ ،‬والنتائج المشؤومة والليمة لختلق الشائعات‬
‫ونشرها‪ ،‬واتهام الشخاص الطاهرين بتهمة تمس شرفهم وعفتهم‪ .‬وهذه القضية مهمه بدرجة أن‬
‫ض لها من طرق مختلفة مؤثرة‪ ،‬باحثًا محلل لها من أجل‬ ‫عَر َ‬
‫القرآن المجيد تناولها عّدة مرات‪ ،‬و َ‬
‫أّل تتكرر مثل هذه الواقعة الليمة في المجتمع السلمي‪ ،‬فذكر أول )يعظكم ال أن تعودوا لمثله()‬
‫‪1).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ لهذه الجملة كلمة محذوفة هي حرف "ل" وتقديرها‪" :‬يعظكم ال أن ل تعودوا لمثله أبدًا" ‪1‬‬
‫وإذا لم نقّدر محذوفًا‪ ،‬فإن عبارة "يعظكم" تعني ينهاكم‪ .‬أي إن ال ينهاكم من العودة إلى مثل هذا‬
‫‪.‬العمل‬
‫]‪[49‬‬
‫أي أن من علمات اليمان أن ل يتوجه النسان نحو الذنوب العظام‪ ،‬وإذا ارتكبها فذلك يدّل على‬
‫ن الندم على‬‫عدم إيمانه أو ضعفه‪ ،‬والجملة المذكورة تشكل ـ في الحقيقة ـ أحد أركان التوبة‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫الماضي ل يكفي‪ ،‬بل يجب التصميم على عدم تكرار ارتكاب الذنوب في المستقبل‪ ،‬لتكون توبة‬
‫‪.‬كاملة‬
‫ن هذا الكلم ليس اعتياديًا‪ ،‬بل صادر عن ال العليم الحكيم‪ ،‬ولبيان الحقائق‬ ‫ولتأكيد أكثر على أ ّ‬
‫‪).‬ذات الَثر الَفّعال في مصير النسان‪ ،‬يقول سبحانه وتعالى )ويبّين ال لكم اليات وال عليم حكيم‬
‫فهو يعلم تفاصيل أعمالكم تمام العلم‪ ،‬ويصدر أحكاَمُه بمقتضى حكمته الهاِديِة لكم‪ .‬وبتعبير آخر‪:‬‬
‫إنه يعلم حاجاتكم وما يضّركم وما ينفعكم بمقتضى علمه الواسع‪ ،‬ويصدر أحكامه وأوامره‬
‫‪.‬المتناسبة لحتياجاتكم بمقتضى حكمته‬
‫ولتثبيت المر نقل الكلم من مورده الخاص إلى بيان عام لقانون شامل دائم‪ ،‬فقال‪) :‬إن الذين‬
‫‪).‬يحّبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم من الدنيا والخرة‬
‫ن القرآن الكريم لم يقل "الذين يشيعون الفاحشة‪ ،‬بل قال‪) :‬الذين يحبون أن‬ ‫ومّما يلفت النظر أ ّ‬
‫تشيع الفاحشة( وهذا يحكي عن الهمية القصوى التي يدليها القرآن لذلك‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬أّنه ل‬
‫ينبغي توهم أن ذلك كان من أجل زوجة النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أو شخص آخر‬
‫بمنزلتها‪ ،‬بل من أجل كّل مؤمن ومؤمنة‪ ،‬فل خصوصية في ذلك‪ ،‬إّنما هي عاّمة للجميع على‬
‫‪.‬الرغم من أن كل حالة لها خصائصها‪ ،‬وقد تزيد الواحدة على اُلخرى في الخصائص أو تنقص‬
‫كما يجب النتباه إلى أن إشاعة الفحشاء ل تنحصر في ترويج ُتهمة كاذبة ضد مسلم مؤمن‪ ،‬يتهم‬
‫بعمل مخل بالشرف‪ ،‬بل هذه مصداق من مصاديقها ولهذا التعبير مفهوم واسع يضم كل عمل‬
‫‪.‬يساعد في نشر الفحشاء والمنكر‬
‫وقد وردت في القرآن المجيِد كلمُة "الفحشاء" غالبًا للدللة على العمل‬
‫]‪[50‬‬
‫المخل بالعّفة والشرف‪ .‬ولكن من الناحية اللغوية‪ ،‬فقد ذكر الراغب الصفهاني مفهومًا واسعًا لها‬
‫‪.‬فقال‪ :‬الفحش والفحشاء والفاحشة‪ ،‬ما عظم قبحه من الفعال والقوال‬
‫ويستعمل القرآن أحيانًا هذا المفهوم الواسع‪ ،‬حيث يقول )والذين يجتنبون كبائر الثم والفواحش(‪.‬‬
‫))‪1‬‬
‫‪:‬وبهذا يّتضح المفهوم الواسع للية‬
‫أّما قول القرآن الكريم‪) :‬لهم عذاب عظيم في الدنيا( فقد يكون إشارة إلى الحدود والتعزيرات‬
‫الشرعية‪ .‬وردود الفعل الجتماعية‪ ،‬وما يبتلى به الناس في هذه الدنيا من مظاهر مشؤومة بسبب‬
‫أعمالهم القبيحة‪ ،‬إضافة إلى عدم تقبل أية شهادة منهم‪ ،‬وإدانتهم بالفسق والفجور وافتضاح‬
‫‪.‬أمرهم‪ .‬كل ذلك من النتائج الدنيوية التي تترتب على أقوالهم وأعمالهم القبيحة‬
‫وأّما عذابهم الليم في الخرة‪ ،‬فيكون في ابتعادهم عن رحمةِ ال‪ ،‬واستحقاقهم غضب ال وعذاب‬
‫‪.‬النار‬
‫وتختم الية بالقول )وال يعلم وأنتم ل تعلمون( أجل‪ ،‬وإن ال يعلم بالعاقبة المشؤومة التي تنتظر‬
‫‪.‬الذي يشيعون الفحشاء في الدنيا والخرة‪ ،‬ولكّنكم ل تعلمون أبعاد هذه القضية‬
‫إّنه يعلم الذين يبيتون في قلوبهم حب هذا الذنب‪ ،‬ويعلم الذين يمارسونه تحت واجهات خداعة‪ ،‬أّما‬
‫‪.‬أنتم فل تعلمون ذلك ول تدركوَنُه‬
‫‪.‬أجل‪ ،‬يعلم ال كيف ينزل أحكامه ليحول دون ارتكاب هذه العمال القبيحة‬
‫ن بصدِده ِمن اليات التي تناولت حديث الفك ومكافحة إشاعة‬ ‫وكررت الية الخيرُة ـ مّما َنح ُ‬
‫الفحشاء‪ ،‬وَقْذف المؤمنين المتطهرين ـ هذه الحقيقة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة الشورى‪1 37 ،‬‬
‫]‪[51‬‬
‫)لتؤّكد القول )ولول فضل ال عليكم ورحمته وإن ال رؤوف رحيم(‪1).‬‬
‫***‬

‫بحوث‬
‫ـ مامعنى إشاعة الفحشاء؟ ‪1‬‬
‫عْ‬
‫ن‬ ‫حْرمة يجب أن ل تِقّل َ‬
‫بما أن النسان مخلوق إجتماعي‪ ،‬فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه َلُه ُ‬
‫عُد في طهارِة الخر‪ ،‬وقبح كّل منهما يسري إلى‬
‫حْرمِتِه الشخصّيِة‪ ،‬وطهارُة ِكّل ِمْنُهما ُتسا ِ‬
‫حبه‪ .‬وبموجب هذا المبدأ كافح السلم بشّدة ُكّل عمل ينشر السموم في المجتمع‪ ،‬أو يدفعه نحو‬ ‫صا ِ‬
‫‪.‬الهاوية واِلنحطاط‬
‫ولهذا السبب حارب السلم ـ بقوة ـ الغيبة والنميمة‪ ،‬لن الغيبة تكشف العيوب الخفية‪ ،‬وتسيء‬
‫‪.‬إلى حرمة المجتمع‬
‫أوجب السلم ستر العيوب والسبب في ذلك هو ما تقدم من الحيلولة دون انتشار الذنوب في‬
‫‪.‬المجتمع‪ ،‬واكتسابها طابع العمومية والشمول‬
‫وعندما نرى اختصاص الذنب العلني بأهمية أكثر من الذنب الذي يرتكب في الخفاء‪ ،‬حتى أن‬
‫المام علي بن موسى الرضا)عليه السلم( قال‪" :‬المذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور‬
‫‪.‬له")‪ .(2‬فالسبب هو ماذكرنا‬
‫وهكذا لنفس السبب يدين القرآن ـ بشّدة ـ ارتكاب الذنوب في العلن‪ ،‬كإشاعة الفحشاء التي ذكرتها‬
‫اليات السابقة فارتكاب الذنوب كالنار التي تسري في الهشيم‪ ،‬تأتي على المجتمع ِمن أساسه‬
‫خره حتى َتْهِدَمُه َوَتْذروُه‪ ،‬لهذا يجب السراع لطفاء هذه النار‪ ،‬أو لمحاصرتها على القل‪ .‬أّما‬ ‫فتن ُ‬
‫‪،‬إذا زدنا النار لهيبًا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سكم ‪1‬‬‫ل عليكم لم ّ‬
‫ـ لهذه الجملة محذوف كما يبدو في آيات ُاخرى سبقت‪ ،‬وتقديره "لول فضل ا ّ‬
‫‪".‬فيما أفضتم فيه عذاب عظيم‬
‫‪.‬ـ أصول الكافي‪ ،‬المجلد الثاني‪ ،‬باب ستر العيوب ‪2‬‬
‫]‪[52‬‬
‫‪.‬ونقلناها من مكان إلى آخر‪ ،‬فإّنها ستحرق الجميع‪ ،‬ول يمكن َبعَْدئذ إطفاُؤها أو السيطرة عليها‬
‫وإضافة إلى ذلك‪ ،‬فإّنه لو عظم الذنب في نظر عاّمة الناس‪ ،‬وتّمت المحافظة على سلمة ظاهر‬
‫المجتمع من التلوث والفساد‪ ،‬فإن ذلك يمنع انتشار الفاحشة بصورة مؤكدة‪ .‬أّما اشاعة الفحشاء‬
‫والذنوب والتجاهر بالفسق‪ ،‬فمن نشأنها أن تحطم هذا السد الحاجز للفساد‪ .‬ويستصغر شأن‬
‫‪.‬الذنوب من قبل الناس‪ ،‬ويسهل التورط فيها‬
‫وقد جاء في حديث للرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( قوله "من أذاع فاحشة كان‬
‫‪).‬كمبتدئها")‪1‬‬
‫وجاء في حديث آخر عن محمد بن الفضيل المام موسى بن جعفر)عليه السلم( قال‪ :‬قلت له‪:‬‬
‫جعلت فداك الرجل من اخواني بلغني عنه الشيء الذي اكرهه فاسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني‬
‫عنه قوم ثقات؟ فقال المام)عليه السلم( لي‪" :‬يا محّمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك‪ ،‬وإن شهد‬
‫عندك خمسون قسامة‪ .‬وقال لك قول فصدقه وكذبهم‪ ،‬ول تذيعن عليه شيئًا تشينه به وتهدم به‬
‫مروءته‪ ،‬فتكون من الذين قال ال عّزوجّل‪):‬إن الذين يحّبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا‬
‫‪).‬لهم عذاب أليم في الدنيا والخرة()‪3)(2‬‬
‫ن لشاعة الفحشاء صورًا عديدًة فتارة يكون من قبيل افتعال تهمة كاذبة وَنقِلها‬ ‫ومّما يلزم ذكره أ ّ‬
‫‪.‬بين الناس‬
‫‪.‬واخرى يكون بانشاء مراِكَز للفساد ونشر الفحشاء‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ أصول الكافي‪ ،‬المجلد الثاني‪ ،‬باب القبح ‪1‬‬
‫‪.‬ـ كتاب ثواب العمال‪ ،‬حسبما ذكره تفسير نور الثقلين‪ ،‬المجلد الّثالث‪ ،‬صفحة ‪2 582‬‬
‫ـ لهذه القضية استنثاءات‪ ،‬منها موضوع الشهادة في المحكمة‪ ،‬أو حالت النهي عن المنكر ‪3‬‬
‫‪.‬حيث ل سبيل إّل بكشف العمل القبيح الذي يرتكبه شخص ما والشهادة ضده‬
‫]‪[53‬‬
‫‪.‬وثالثة بتوفير وسائل المعصية للناس‪ ،‬أو تشجيعهم على ارتكاب الذنوب‬
‫ورابعة يرتكب الذنب في العلن دون ملحظة الدين‪ ،‬ول رعاية لقانون ول التفات لداب عاّمة‪،‬‬
‫ن لهذه الكلمة مفهومًا واسعًا )فتأملوا جيدًا‬
‫‪).‬وكل هذه مصاديق لشاعة الفحشاء‪ .‬ل ّ‬

‫ـ مصيبة الشائعات ‪2‬‬


‫ق واستبداِد الضطراب وانعدام الثقِة‪ ،‬وهِذِه‬ ‫طرِة الَقَل ِ‬
‫سْي َ‬
‫إن اختلق ونشر الشائعة الكاذبة ُيوّدي إلى َ‬
‫شَر الَفَزع‪ ،‬ليتسنى لهم‬ ‫ب النفسّية للمستعمرين بغية إثارة اْلَبْلبلِة َون ْ‬ ‫حْر ُ‬
‫ِمن أَهّم ما َتْرمي إليه ال َ‬
‫ي والسياس ّ‬
‫ي‬ ‫‪.‬الّتَغّلب الَعسكر ّ‬
‫فعندما يعجز العدو عن إلحاق الضرر بصورة مباشرة‪ ،‬يقوم بنشر الشائعات‪ ،‬لبث الرعب والقلق‬
‫ظُهوُر عليهم‬‫ن أهم قضاياهم حساسيٌة‪ ،‬وليتسّنى َلُه ال ُ‬ ‫عْ‬
‫حِرَفُهْم َ‬
‫في الناس‪ ،‬ليشغلهم بأنُفسهم‪َ ،‬وِلَي ْ‬
‫ن ِمنُهم في كل مجال‪ .‬واختلق الشائعة من السلحة المخربة المستعملة ضّد الصالحين‬ ‫والتمّك ُ‬
‫‪.‬والطيبين‪ِ ،‬لَعْزِلِهم وإقصاِء الناس عنهم‬
‫س السبل‬‫خ ّ‬ ‫وبحسب أسباب الّنزول المعروفة بشأن اليات موضع البحث لجأ المنافقون إلى أ َ‬
‫لتلويث سمعة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( والحط من شأنه المقّدس لدى الناس‪ ،‬باختلق‬
‫س طهارة وعفة إحدى زوجاته مستغلين في ذلك فرصة سنحت لهم‪ ،‬مّما أدى إلى‬ ‫شائعة تم ّ‬
‫تشويش أفكار المسلمين‪ ،‬وإدخال الحزن إلى قلوبهم‪ ،‬بحيث اضطرب الجميع‪ .‬وأصاب المؤمنين‬
‫ف المنافقين في الَوحِل بما‬
‫القلق الشديد حتى نزل الوحي وأنقذهم من هذه الحالة‪ ،‬ومّرغ أُنو َ‬
‫‪ .‬اختلقوا هذه الشائعة‪ .‬وجعلهم عبرة للخرين‬
‫ورغم أن اختلق الشائعة يعد نوعًا من الكفاح في المجتمعات التي تسودها الدكتاتورية ويفتقد‬
‫‪،‬الناس فيها الحرية‪ ...‬إّل أن من أسبابها ودوافعها النتقام‬
‫]‪[54‬‬
‫وتصفية الحساب مع أشخاص معنيين‪ ،‬وإزالة الثقة العاّمة بالشخصيات الكبيرة‪ .‬وحرف الرأي‬
‫‪.‬العام عن القضايا الجوهرية‬
‫ول يهمنا أن نعلم دوافع اختلق الشائعات‪ ،‬إّنما المهم تحذير المجتمع من مغبة الوقوع في برائن‬
‫الذين يختلقون الشائعات وينشرونها بين الناس‪ ،‬وبذلك يدمرون المجتمع وأنفسهم بأيديهم! وأن‬
‫نعّلم الناس بأن يدفنوا الشائعة في مهدها‪،‬وإّل فقد أدخلنا السرور إلى قلب العدو‪ ،‬وعرضنا أنفسنا‬
‫‪.‬إلى عذاب الدنيا والخرة كما نصت عليه اليات السابقة‬

‫ـ استصغار الذنب ‪3‬‬


‫جْرمٌ‬
‫ح َو ُ‬
‫ت استصغار نشر البهتان والتهمة‪ ،‬وهو خطأ فاِد ٌ‬‫يستفاد من اليات السابقة أنها استنكر ْ‬
‫عظيٌم وفي الحقيقة إن استصغار الذنب بذاته ذنب آخر‪ .‬فالذي يرتكب الذنب ويشعر بعظمة ذنبه‪،‬‬
‫‪.‬ويندم على ما فعل هو الذي يؤمل فيه التوبة والجبران‬
‫أّما الذي يستصغر الذنب ويقول‪ :‬ماأسعدني إن كان ذنبي هذا فقط فهذا الشخص يسير في طريق‬
‫خطر وقد يواصل ارتكاب ذنبه‪ ،‬لهذا نقرأ في حديث للمام علي)عليه السلم( قوله‪" :‬أشد الذنوب‬
‫‪).‬ما استهان به صاحبُه")‪1‬‬

‫***‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار‪ ،‬رقم ‪1 348‬‬
‫]‪[55‬‬

‫اليات‬

‫شآءِ‬
‫ح َ‬ ‫ن َفِإّنُه َيْأُمُر ِباْلَف ْ‬
‫طـ ِ‬ ‫شْي َ‬
‫طَوتِ ال ّ‬ ‫خُ‬‫ن َيّتِبْع ُ‬ ‫ن َوَم ْ‬
‫طـ ِ‬ ‫شْي َ‬
‫ت ال ّ‬ ‫طَو ِ‬‫خُ‬ ‫ن َءاَمُنوا َلَتّتِبُعوا ُ‬ ‫َيـَأّيَها اّلِذي َ‬
‫شآُء َوا ّ‬
‫ل‬ ‫ن َي َ‬‫ل ُيَزّكى َم ْ‬ ‫نا َ‬ ‫حد َأَبدًا َوَلـِك ّ‬‫ن َأ َ‬
‫حَمُتُه َما َزَكى ِمنُكم ّم ْ‬ ‫عَلْيُكْم َوَر ْ‬
‫ل َ‬ ‫ضُل ا ِ‬ ‫َواْلُمْنَكِر َوَلْوَل َف ْ‬
‫سـِكي َ‬
‫ن‬ ‫ن ُيْؤُتوآ ُأوِلى اْلُقْرَبى َواْلَم َ‬ ‫سَعِة َأ ْ‬‫ضِل ِمنُكْم َوال ّ‬ ‫عِليٌم)‪َ (21‬وَل َيْأَتِل ُأْوُلوا اْلَف ْ‬ ‫سِميٌع َ‬ ‫َ‬
‫حيٌم)‪(22‬‬ ‫غُفوٌر ّر ِ‬ ‫ل َلُكْم َوال َ‬ ‫ن أن َيْغِفَر ا ُ‬ ‫حّبو َ‬ ‫حوا َأَل ُت ِ‬ ‫صَف ُ‬‫ل َوْلَيْعُفوا َوْلَي ْ‬ ‫سِبيِل ا ِ‬ ‫ن ِفى َ‬ ‫جري َ‬ ‫َواْلُمَهـ ِ‬
‫ظيٌم)‪َ (23‬يْوَم‬ ‫عِ‬ ‫ب َ‬ ‫عَذا ٌ‬‫خَرِة َوَلُهْم َ‬ ‫ت ُلِعُنوا ِفى الّدْنَيا َواَْل ِ‬ ‫ت اْلُمْؤَمَنـ ِ‬‫ت اْلَغـِفَلـ ِ‬
‫صَنـ ِ‬‫ح َ‬ ‫ن اُْلم ْ‬‫ن َيْرُمو َ‬ ‫ِإنّ اّلِذي َ‬
‫ل ِديَنُهُم اْلحَ ّ‬
‫ق‬ ‫ن)‪َ (24‬يْوَمِئذ ُيَوّفيِهُم ا ُ‬ ‫جُلُهم ِبَما َكاُنوا َيْعَمُلو َ‬ ‫سنُتُهْم وَأْيِديِهْم َوأْر ُ‬ ‫عَلْيِهْم َأْل ِ‬
‫َتشَْهُد َ‬
‫طّيبي َ‬
‫ن‬ ‫ت ِلل ّ‬
‫طّيَبـ ُ‬ ‫ت َوال ّ‬ ‫خِبيَثـ ِ‬ ‫ن ِلْل َ‬
‫خِبيُثو َ‬‫ن َواْل َ‬‫خِبيثي َ‬‫ت ِلْل َ‬
‫خِبيَثـ ُ‬‫ن)‪ (25‬اْل َ‬ ‫ق اْلُمبي ُ‬‫ح ّ‬‫ل ُهَو اْل َ‬ ‫نا َ‬ ‫نأّ‬ ‫َوَيْعَلُمو َ‬
‫ق َكِريٌم)‪26‬‬ ‫ن َلُهم ّمْغِفَرٌة َوِرز ٌ‬ ‫ن ِمّما َيُقوُلو َ‬ ‫ك ُمَبّرُءو َ‬ ‫ت ُأْوَلئ َ‬
‫طّيَبـ ِ‬
‫ن ِلل ّ‬‫طّيُبو َ‬ ‫)َوال ّ‬
‫]‪[56‬‬
‫الّتفسير‬
‫!للعقوبات حساب‬
‫على الرغم من عدم متابعة هذه اليات حديث الفك بصراحة‪ ،‬إّل إّنها تعتبر مكملة لمضمون ذلك‬
‫البحث‪ ،‬وتحّذر المؤمنين جميعًا من تأثير الفكار الشيطانية التي تبدو أّول في صورة باهتة‪ ،‬فلبّد‬
‫من النتباه إليها‪ ،‬وإّل فالنتيجة سيئة للغاية‪ ،‬ول يمكن تلفيها بسهولة فعلى هذا حينما يشعر الفرد‬
‫بأّول وسوسة شيطانية بإشاعِة الفحشاء أو إرتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقّوة حاسمة‪،‬‬
‫سعه‬‫‪.‬حتى يمنع من انتشاره وتو ّ‬
‫وتخاطب الية اُلولى المؤمنين‪ ،‬فتقول )يا أّيها الذين آمنوا ل تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع‬
‫‪).‬خطوات الشيطان فإّنه يأمر بالفحشاء والمنكر()‪1‬‬
‫سرنا الشيطان بأنه كل مخلوق مؤذ وفاسد ومخّرب‪ ،‬يّتضح لنا شمولية هذا التحذير لبعاِد‬ ‫وإذا ف ّ‬
‫ن ذلك يتّم‬
‫حياتنا كلها‪ ،‬وحيث ل يمكن جّر أي إنسان مؤمن متطهر مّرة واحدة إلى الفساد‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪:‬خطوة بعد ُأخرى في طريق الفساد‬
‫‪.‬الخطوة اُلولى‪ :‬مرافقة الملوثين والمنحرفين‬
‫‪.‬الخطوة الّثانية‪ :‬المشاركة في مجالسهم‬
‫‪.‬الخطوة الّثالثة‪ :‬التفكير بارتكاب الذنوب‬
‫‪.‬الخطوة الّرابعة‪ :‬ارتكاب العمال المشتبه بها‬
‫‪.‬الخطوة الخامسة‪ :‬إرتكاب الذنوب الصغيرة‬
‫ن النسان في هذه المرحلة يسّلم نفسه لمجرم‬ ‫وأخيرًا البتلء بالكبائر‪ .‬وكأ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ هناك محذوف لجملة )ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء( وهو جواب الشرط ‪1‬‬
‫وتقديره "ومن يتبع خطوات الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر فإّنه يأمر بهما" )روح المعاني‪،‬‬
‫المجلد الثامن عشر‪ ،‬صفحة ‪ 112‬تفسير آخر اليات موضع البحث( ويجب اِلنتباه إلى أن جملة‬
‫‪.‬فإنه يأمر بالفحشاء‪ ،‬ل يمكن اعتبارها جوابًا للشرط‬
‫]‪[57‬‬
‫‪).‬ليقوده نحو الهاوية‪ ،‬أجل هذه )خطوات الشيطان()‪1‬‬
‫ن ال بها على النسان في هدايته فتقول‪) :‬ولو ل فضل‬ ‫ثّم تشير الية إلى أهم النعم الكبيرة التي م ّ‬
‫‪).‬ال عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن ال يزّكي من يشاء وال سميع عليم‬
‫ن الفضل والرحمة اللهية ينقذان النسان من النحطاط والنحراف من الذنوب‬ ‫ول شك في أ ّ‬
‫سُبَل اِلرتقاء والهتداء‪ ،‬وأعاَنُه‬
‫سرَ له ُ‬
‫سَل‪َ ،‬وي ّ‬
‫جميعًا‪ ،‬فال منحه الَعْقَل‪ ،‬ولطف به فأرسل إليِه الّر ُ‬
‫صة‪،‬‬
‫خْيِر‪ .‬وإضافة إلى هذه المواهب شمل ال الذين تطهروا بتوفيقاته الخا ّ‬ ‫على استكماِل ال َ‬
‫‪.‬وإمداداته التي يستحقونها‪ ،‬والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس‬
‫ن ال يهدي عباده‬ ‫ن عبارة "من يشاء" ل تعني المشيئة دون مبّرر‪ ،‬بل إ ّ‬ ‫وكما أسلفنا‪ .‬مرارًا‪ ،‬فإ ّ‬
‫الذين يسعون في نيلها‪ ،‬الذين يسيرون في الطريق إلى ال‪ ،‬ويجاهدون في سبيله‪ ،‬فيمسك ال‬
‫‪.‬بيدهم ويحفظهم من وساوس الشيطان وكيده حتى يبلغهم الهدف السمى‬
‫ن الفضل والرحمة اللهية تارة يكون لهما جانب تشريعي عن طريق الرسل‬ ‫وبعبارة ُأخرى‪ :‬إ ّ‬
‫عليهم السلم والكتب السماوية وما فيها من تعاليم إلهية وبشارات وإنذارات سماوية‪ .‬وُأخرى‬
‫‪.‬يتخذ الفضل والرحمة اِللهية جانبًا تكوينيًا عن طريق اِلمدادات المعنوية اِللهية‬
‫واليات موضع البحث استهدفت القسم الّثاني‪ ،‬بدليل عبارة "من يشاء"‪ ،‬ويجب النتباه إلى أن‬
‫ت غالبًا بمعنى‬
‫"الزكاة" و "التزكية" تعني في الصل النمو‪ ،‬والعمل من أجل النمو‪ ،‬إّل أنها ورد ْ‬
‫‪.‬التطّهر والتطهير‬
‫ن النمو والرشد ل يمكن أن يتحققا إّل‬‫ويمكن إرجاعها إلى أصل واحد‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ بحثنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الية )‪ (90‬من سورة النحل ‪1‬‬
‫]‪[58‬‬
‫‪.‬بزواِل الحواجز والتطهير من المفاسد والرذائل‬
‫سرين سببًا لنزول الية الّثانية ـ من اليات موضع البحث ـ يكشف عن تلحمها‬ ‫وذكر عدد من المف ّ‬
‫ن هذه الية نزلت بشأن عدد من الصحابة أقسموا على عدم تقديم‬ ‫مع اليات السابقة‪ ،‬قال‪ :‬إ ّ‬
‫مساعدة مالية إلى الذين توّرطوا في هذه القضية وأشاعوا هذه التهمة بين الناس‪ ،‬وأل يشاركوهم‬
‫‪.‬هموَمهم‪ ،‬فنزلت هذه الية لتمنعهم من َرّد فعل قاس‪ ،‬وأمرتهم بالعفو والسماح‬
‫وقد روى سبب الّنزول هذا "القرطبي" في شأن نزول هذه اليات في تفسيره عن ابن عباس‬
‫والضحاك‪ ،‬ورواه المرحوم "الطبرسي" عن ابن عّباس‪ ،‬ورواُه آخرون لدى تفسير اليات موضع‬
‫‪.‬البحث‪ ،‬وهو يمتاز بعموميته‬
‫سري أهل السنة ُيصّرون على أن هذه الية نزلت بخصوص "أبي بكر"‬ ‫إّل أن مجموعة من مف ّ‬
‫حيث أقسم بعد حادث الفك على عدم تقديم أية مساعدة مالية لـ "مسطح بن أثاثة" الذي كان ابن‬
‫خالته‪ ،‬أو ابن أخته‪ ،‬وهو الذين نشر شائعة الفك‪ ،‬في حين أنّ الضمائر التي استعملتها الية‪،‬‬
‫ن مجموعة من المسلمين اتخذوا قرارًا بقطع مساعداتهم عن هؤلء‬ ‫جاءت بصيغة الجمع‪ ،‬وتبّين أ ّ‬
‫ن هذه الية نهتهم عن العمل‬ ‫‪.‬المجرمين‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫ن اليات القرآنية ل تختص بسبب الّنزول فقط‪ ،‬بل تشمل جميع المؤمنين إلى يوم‬ ‫ومن المعلوم أ ّ‬
‫القيامة‪ ،‬فهي توصي المسلمين جميعًا بأّل يستسلموا لعواطفهم‪ ،‬وأّل يتخذوا مواقف عنيفة إزاء‬
‫‪.‬أخطاِء الخرين‬
‫‪:‬نعود الن إلى تفسير الية بملحظة سبب الّنزول هذا‬
‫يقول القرآن )ول يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا ُأولي القربى والمساكين والمهاجرين‬
‫‪).‬في سبيل ال‬
‫ن عددًا ممن توّرط في قضية الفك كانوا من المهاجرين في سبيل ال إْذ‬ ‫ن هذا التعبير يكشف أ ّ‬
‫إّ‬
‫خدعهم المنافقون‪ ،‬ولم ُيجز ال طردهم من المجتمع‬
‫]‪[59‬‬
‫‪.‬السلمي لماضيهم المجيد‪ ،‬كما لم يسمح بعقابهم أكثر مّما يستحقونه‬
‫كلمة "يأتل" مشتّقة من "ألّية" )على وزن عطّية( أي اليمين‪ ،‬أو إّنها مشتقة من "أُلو" )على‬
‫‪.‬وزن دلو( بمعنى التقصير والترك‬
‫سْم بقطع مثل هذه المساعدات)‪،(1‬‬ ‫ن الية تعني وفق المعنى الّول الّنهي عن هذا الَق َ‬‫وعلى هذا‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪.‬وعلى المعنى الّثاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل‬
‫ثّم تضيف الية )وليعفوا وليصفحوا( لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها‪) :‬أل‬
‫‪).‬تحّبون أن يغفر ال لكم‬
‫فإّنكم مثلما تأملون من ال العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم‪ ،‬يجب عليكم العفو والصفح عن الخرين‬
‫‪)).‬وال غفور رحيم‬
‫ن أصحاب الفك ُأدينوا بشّدة في آيات شديدة اللهجة‪ ،‬إّل أّنها تسيطر على‬ ‫والمثير للدهشة أ ّ‬
‫خاد‪ ،‬الول‪ :‬المر‬
‫شع أ ّ‬
‫شْع ُ‬
‫ت َت َ‬
‫مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحّد في العقوبة بثلث جمل ذا ِ‬
‫‪.‬بالعفو والسماح‬
‫‪.‬ثمّ تقول‪ :‬أل تحّبون أن يغفر ال لكم؟ فينبغي عليكم أن يعفوا وتصفحوا كذلك‬
‫‪".‬ولتأكيد ذلك تذكر الية صفتين من صفات ال "الغفور" و"الرحيم‬
‫وهكذا تقول الية للناس‪ :‬ل يمكنكم أن تكونوا أحرص من ال الذي هو صاحب هذا الحكم‪ ،‬وهو‬
‫‪.‬يأمركم بأّل تقطعوا مساعداتكم‬
‫مّما لشك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الفك لم يكونوا مشاركين في التآمر‬
‫‪.‬بهذا الصدد‪ ،‬ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الفك وتبعهم مسلمون مضّللون‬
‫صرون ومذنبون‪ ،‬ولكن بين هاتين المجموعتين‬ ‫ول شك في أّنهم جميعًا مق ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ في هذه الحالة يجب تقدير وجود حرف "ل" قبل "يؤتوا" فيكون التقدير "ول يأتل ‪ ...‬أن ل ‪1‬‬
‫‪".‬يؤتوا‬
‫]‪[60‬‬
‫‪.‬فرق كبير‪ ،‬وعلى هذا يجب أن ل يعامل الجميع سواسية‬
‫وعلى كل حال‪ ،‬ففي اليات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم‪ ،‬وتذكير لهم بأن ل‬
‫ن‪ ،‬ول ينبغي طردهم من المجتمع السلمي‪ ،‬أو اغلق‬ ‫يتجاوزوا الحّد المقّرر في معاقبِة المذنبي ِ‬
‫باب المساعدة في وجوهم‪ ،‬ذلك من أجل المحافظة عليهم كي ل يزدادوا انحرافًا فيقعوا في أحضان‬
‫‪.‬العدو‪ ،‬أو ينحازوا إلى جانبه‬
‫وترسم هذه اليات صورة للتعادل السلمي في جذبه ودفعه‪ ،‬وتشكل آيات الفك والعقوبات‬
‫الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الخرين في شرفهم "قوة الدفع"‪ .‬وأّما الية موضع‬
‫!"البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون ال غفورًا رحيمًا‪ .‬فإنها تكشف عن "قوة الجذب‬
‫ثّم تعود الية إلى قضية القذف واّتهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن‪ ،‬فتقول بشكل حازم‪:‬‬
‫‪)).‬إن الذين يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات لعنوا في الدنيا والخرة ولهم عذاب عظيم‬
‫ذكرت هذه الية المباركة ثلث صفات لهؤلء النسوة‪ ،‬كّل واحدة تشكل دليل على مدى الظلم الذي‬
‫ن‪" :‬المحصنات" أي العفيفات الطاهرات الذيل و"الغافلت"‬ ‫ن في شرفه ّ‬ ‫تعرضن إليه باتهامه ّ‬
‫البعيدات عن كل تهمة وتلّوث و"المؤمنات"‪ ،‬كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا‬
‫‪).‬العمل)‪1‬‬
‫ن من أي انحراف وتلّوث‪،‬‬ ‫ن عبارة ـ "غافلت" تلفت النظر‪ ،‬لّنها تكشف عن منتهى طهارته ّ‬ ‫كما أ ّ‬
‫أي أنهن غافلت عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأّنهن ل يعلمن بوجود مثل هذا العمل فتارة‬
‫يكون النسان في مقابل الذنب أن ل يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج وهذه‬
‫‪.‬مرحلة عالية من التقوى‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ الميزان‪ ،‬تفسير اليات موضع البحث‪ ،‬المجلد ‪ ،15‬صفحة ‪1 122‬‬
‫]‪[61‬‬
‫ن من بهتان في الخارج‪،‬‬ ‫ويحتمل أن يكون المراد من "الغافلت" أنهن ل يعلمن بما ينسب اليه ّ‬
‫ن الية تطرح موضوعًا جديدًا للبحث‪،‬‬ ‫ن‪ ،‬وفي النتيجة فإ ّ‬
‫ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسه ّ‬
‫ن الحديث‬ ‫لن اليات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم‪ .‬إّل أ ّ‬
‫هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحّد الشرعي‪ :‬فتقول الية‪ :‬أ ّ‬
‫ن‬
‫ن ال تعالى‬ ‫هؤلء ل يتصوروا أّنهم بهذا العمل سيكون بإمكانهم تجنب العقاب اللهي دائمًا‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا‪ .‬كما ينتظرهم العذاب العظيم في الخرة‬
‫إن هذه الية رغم مجيئها بعد حديث الفك‪ ،‬وظهورها بمظهر الرتباط بذلك الحادث‪ ،‬فإنها كبقية‬
‫‪.‬اليات التي تنزل لسبب خاص‪ ،‬وهي ذات مفهوم عاّم‪ ،‬ل تختص بحالة معينة‬
‫سرين كالفخر الرازي في "الّتفسير الكبير"‪ ،‬وآخرين‪،‬‬‫والذي يثير الدهشة هو إصرار بعض المف ّ‬
‫ن مفهوم هذه الية خاص باتهام نساء الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(ويجعلون هذا الذنب‬ ‫على أ ّ‬
‫بدرجة الكفر‪ ،‬ويستدلون بكلمة "اللعن" التي ذكرتها الية‪ ،‬في الوقت الذي ل يمكن فيه اعتبار‬
‫توجيه التهمة ـ حتى إن كان هذا الذنب عظيمًا كإتهام نساء الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫لوحده سببًا للكفر‪ .‬لهذا لم يعامل الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أصحاب الفك معاملة المرتدين‬
‫عن دينهم‪ .‬بل إن اليات التالية التي بّينا شرحها توصي بعدم تجاوز الحد المقرر لهم وعدم‬
‫‪.‬الفراط في عقابهم‪ ،‬فذنبهم ل ُيوازي الكفر بال‬
‫وأّما "لعنة ال" فهي تصدق على الكافرين ومرتكبي الكبائر أيضًا‪ ،‬وعليه أوردت هذه اليات‬
‫صة باللعان( مرتين كلمة "لعن" ضد الكذابين المسيئين‬‫المتحّدثة عن حّد القذف )في الحكام الخا ّ‬
‫للناس‪ .‬كما استعملت الحاديث السلمية كرارًا كلمة "اللعن" ضد مرتكبي الذنوب الكبيرة‪ .‬وحديث‬
‫‪".‬لعن ال في الخمر عشر طوائف‪ "...‬معروف‬
‫]‪[62‬‬
‫وتحدد الية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل اللهي‪ ،‬قائلة )ويوم تشهد‬
‫‪).‬عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون‬
‫تدور ألسنتهم بما ل تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق‪ .‬وعندما يجد المجرمون الدلئل والشواهد‬
‫العينية على ما اقترفوه من أعمال إجرامية‪ ،‬تراهم ُيعرفون بذنوبهم ويفضحون أمرهم خلفًا‬
‫‪.‬لرغبتهم الباطنية‪ ،‬حيث ل ينفع في ذلك اليوم إنكارهم للتهم الموجهة إليهم‬
‫جل‪ ،‬تنطق‬ ‫وتشهد أيديهم وأرجلهم‪ ،‬وكما ذكرت اليات القرآنية‪ :‬تنطق جلودهم وكأّنها شريط مس ّ‬
‫بما اقترف صاحبها من ذنوب‪ ،‬حيث رسمت آثار الجرائم عليها طوال عمره‪ ،‬حقًا إّنه يوم البروز‬
‫‪.‬والفتضاح‪ ،‬ويوم تنكشف فيه السرائر‬
‫وإذا وجدنا في بعض آيات القرآن إشارة إلى يوم القيامة تذكر )اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا‬
‫أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون()‪ (1‬فإّنه لخلف فيها مع هذا البحث‪ ،‬إذ يمكن أن تتعطل‬
‫الفواه عن الكلم أول‪ ،‬فتشهد سائر أعضاء الجسم‪ .‬وعندها تكشف اليدي والرجل الحقائق‪،‬‬
‫‪.‬ينطق اللسان بما جرى ويعترف بالذنوب كّلها‬
‫***‬

‫بحوث‬
‫ـ َمن هن الخبيثات وَمن هم الخبيثون؟ ‪1‬‬
‫سرون تعاريف مختلفة لـ "الخبيثات" و"الخبيثون" و"الطيبات" و"الطيبون‬ ‫‪".‬ذكر المف ّ‬
‫ن المراد هو الكلم السيء والتهمة والفتراء والكذب الصادر عن ‪1‬‬ ‫ـ قيل أ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة يس‪ ،‬الية ‪1 65‬‬
‫]‪[63‬‬
‫المخطئين والمذنبين من الناس‪ ،‬وعلى العكس من ذلك الكلم الطّيب ما يصدر عن الطّيبين‬
‫‪".‬المتطهرين‪ ،‬وحسبما يقول المثل المأثور "ينضح الناء بما فيه‬
‫ـ وقيل إن كلمة "الخبيثات" تعني "السيئات" وكل العمال السيئة وغير المرغوب فيها التي ‪2‬‬
‫صة بالطيبين من الناس‬
‫‪.‬تصدر عن الخبثاء من الناس‪ ،‬وعلى العكس من ذلك "الحسنات" الخا ّ‬
‫ـ "الخبيثات" و"الخبيثون" تعنيان النساء والرجال الساقطين‪ ،‬وهم عكس )الطيبات( ‪2‬‬
‫‪.‬و)الطيبون( الخاصتين بالنساء والرجال المتطهرين‬
‫‪:‬وظاهر الية قصد هذا المعنى بذاته‪ ،‬حيث هناك قرائن تؤّكد هذا المعنى‬
‫أ ـ جاءت هذه اليات إثر آيات الفك ـ وبعد آية )الزاني ل ينكح إّل زانية أو مشركة والزانية ل‬
‫‪.‬ينكحها إّل زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين(وهذا الّتفسير ينسجم مع مفهوم تلك اليات‬

‫ب ـ إن جملة )ُاولئك مبرءون مّما يقولون( التي تقصد الرجال والنساء الطاهرين من الدنس دليل‬
‫‪.‬آخر على صحة هذا الّتفسير‬
‫ج ـ قرينة المقابلة لجمع المذكر السالم في "الخبيثون" حيث يقصد بها الرجال الخبيثون‪ ،‬فمن ذلك‬
‫‪.‬يعلم أن الخبيثات جمع مؤنث حقيقي‪ ،‬وتعني النساء الساقطات‬
‫ن هذه الية كآية‬
‫صادق)عليهما السلم( "إ ّ‬‫د ـ إضافة إلى ذلك روي حديث عن المامين الباقر وال ّ‬
‫)الزاني ل ينكح إّل زانية أو مشركة( هّم رجال ونساء كانوا على عهد رسول ال‪ 6‬مشهورين‬
‫)بالزنا فنهى ال عن ُأولئك الرجال والنساء والناس على تلك منزلة‪1)."..‬‬
‫كما نقرأ في روايات كتاب النكاح‪ ،‬كيف كان أصحاب اِلمام يستفسرون منه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان‪ ،‬في تفسير اليات موضع البحث ‪1‬‬
‫]‪[64‬‬
‫أحيانًا عن الزواج بالخبيثات فيجيبهم سلبًا‪ .‬وهذا يدل على أن الخبيثة تعني المرأة الساقطة‪ ،‬وليس‬
‫‪).‬الكلم السيء ول العمل المنحط)‪1‬‬
‫والسؤال الخر‪ :‬هل أن خبث هذه المجموعة من النساء والرجال أو طيبهم يرادبه الشرف والعّفة‪،‬‬
‫أو يتعّلق بانحطاط في الفكر أو العمل أو القول؟‬
‫ن بع َ‬
‫ض‬ ‫إنّ المفهوم الّول للية هو الصوب‪ ،‬لّنه يطابق ما جاء في اليات والحاديث‪ ،‬لك ّ‬
‫ى واسعًا لكلمتي الخبيث والطيب اللتين وردتا في هذه اليات‪ ،‬ول يحصرهما‬ ‫الحاديث يعطي معن ً‬
‫‪.‬باِلنحطاط الخلقي وطهارة الشخص‬
‫وعلى هذا فل يبعد أن يكون مفهوم الية اُلولى خاصًا بذلك المعنى الخاص‪ ،‬إّل أنه بملحظة‬
‫‪.‬الملك والغاية من الحكم يمكن تعميمه وتوسعته‬
‫وبتعبير آخر‪ :‬إن الية السابقة بيان لميل الصنو إلى صنوه‪ ،‬رغم اختصاصها من حيث الموضوع‬
‫‪".‬يبحث العّفة والنحطاط الخلقي‪" ،‬تأملوا جيدًا‬

‫ـ هل هذا حكم تكويني أم تشريعي؟ ‪2‬‬


‫ك في أن المثال التالية تشير إلى سنة تكوينّية تطبق على المخلوقات جميعًا‪ ،‬حتى على ذرات‬ ‫لشّ‬
‫‪.‬الوجود في الرض والسماء‪ ،‬وهي جذب الشيء لنظيره كما يجذب الكهرب التبن‬
‫‪.‬أصحاب النور ينجذبون إلى أصحاب النور‬
‫‪.‬وأصحاب الّنار يميلون إلى أصحاب الّنار‬
‫‪.‬و"السنخية عّلة النظمام" كما يقول المثل‬
‫وعلى كل حال‪ ،‬فإن كل صنو يتبع صنوه‪ ،‬وكل مجموعة متجانسة ترتاح‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ‪ ،14‬صفحة ‪ ،337‬الباب ‪ 14‬من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ‪1‬‬
‫]‪[65‬‬
‫ن هذه الحقيقة ل تمنع من كون الية السابقة كما هي عليه الية )الزانية ل ينكحها‬
‫لفرادها‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫إّل زان أو مشرك( إشارة إلى حكم شرعي يمنع الزواج من النساء اللواتي اشتهرن بالعمل المخّل‬
‫‪.‬بالشرف‬
‫أليس لجميع الحكام التشريعية جذور تكوينية؟‬
‫أليس هناك انسجام بين السنن اِللهية‪ ،‬التشريعية منها والتكوينية؟ )ليضاح أكثر راجع شرح‬
‫‪).‬الية التي ذكرناها‬

‫‪:‬ـ جواب استفسار ‪3‬‬


‫الستفسار هو‪ :‬إننا نشاهد عبر التاريخ أو في حياتنا حالت ل تنسجم مع القانون السابق؟ ومثال‬
‫ذلك ما جاء في القرآن المجيد )ضرب ال مثل للذين كفروا امرأة نوح وأمرأة لوط كانتا تحت‬
‫عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما()‪ ...(1‬ومقابل هذه الحالة ذكر القرآن المجيد زوجة فرعون‬
‫ليمان والطهارة‪) :‬وضرب ال مثل للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك‬ ‫مثال ل ِ‬
‫‪).‬بيتًا في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين()‪2‬‬
‫كما شوهد نظير هاتين الحالتين في صدر السلم‪ ،‬حيث ابتلي بعض قادة المسلمين بنساء سيئات‪،‬‬
‫‪.‬وآخرون من ال عليهم بنساء مؤمنات جاء ذكرهن في كتب التاريخ السلمي‬
‫ن لكل قانون استثناءات‪ ،‬فلبّد من ذكر مسألتين‬‫‪:‬وفي الجواب عن ذلك نقول أّنه مضافًا إلى أ ّ‬
‫ن القصد من الخبث النحطاط الخلقي والسقوط بارتكاب ‪1‬‬ ‫ـ قلنا خلل تفسير الية موضع البحث‪ :‬إ ّ‬
‫أعمال مخلة بالشرف‪ ،‬والطيب ضد الخبث‪ ،‬وعلى‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة التحريم‪1 10 ،‬‬
‫‪.‬ـ سورة التحريم‪2 11 ،‬‬
‫]‪[66‬‬
‫ب السؤال السابق يكون واضحًا‪ ،‬لن نساء النبياء والئمة الطهار)عليهم السلم(‪ .‬لم‬ ‫هذا فجوا ُ‬
‫ينحرفن والم يخبثن أبدًا‪ ،‬وإّنما القصد من الخيانة في قصة نوح ولوط)عليهما السلم(‪ ،‬التجسس‬
‫لمصلحة الكّفار وليس خيانة شرفهما‪ ،‬وأساسًا إن هذا العيب من العيوب المنّفرة ونعلم أن المحيط‬
‫العائلي للنبياء)عليهم السلم( يجب أن يكون طاهرًا من أمثال هذه العيوب المنفرة للناس حتى ل‬
‫‪.‬يتقاطع مع هذف الّنبوة في جذب الناس إلى الرسالة اللهية‬
‫ن كافرات منذ البداية‪ ،‬بل ‪2‬‬ ‫ن نساء النبياء واِلئّمة)عليهم السلم(‪ ،‬لم يك ّ‬
‫ـ إضافة إلى ذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن على ما كانت عليه قبل‬ ‫يصبن بالضلل أحيانًا فيما بعد‪ ،‬ولهذا تستمر علقة النبياء والولياء به ّ‬
‫ن موسى)عليه‬ ‫ب موسى حين زواجها‪ ،‬إذ أ ّ‬ ‫ن أمرأة فرعون لم تكن مؤمنة بر ّ‬ ‫ن‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ضلله ّ‬
‫السلم( لم يكن قد ولد بعد‪ ،‬وقد آمنت برسالته السماوية بعد أن بعثه ال‪ ،‬ولم يكن لها مخرج إّل‬
‫‪.‬بمواصلة حياتها الزوجية والكفاح‪ ،‬حّتى انتهت حياتها باستشهادها‬
‫***‬
‫]‪[67‬‬

‫اليات‬

‫خيٌر ّلُكْم‬‫عَلى َأْهِلَها َذِلُكْم َ‬ ‫سّلُموا َ‬ ‫سوا َوُت َ‬ ‫سَتْأِن ُ‬


‫حّتى َت ْ‬ ‫غْيَر ُبُيوِتُكْم َ‬‫خُلوا ُبُيوتًا َ‬ ‫ن َءاَمُنوا َل َتْد ُ‬‫َيَأّيَها اّلِذي َ‬
‫جُعوا‬
‫ن ِقيَل َلُكُم اْر ِ‬ ‫ن َلُكْم َوِإ ْ‬
‫حّتى ُيْؤَذ َ‬ ‫خُلوَها َ‬ ‫ل َتْد ُ‬
‫حدًا َف َ‬‫جُدوا ِفيَهآ َأ َ‬ ‫ن)‪َ (27‬فِإن ّلْم َت ِ‬ ‫َلَعلُّكْم َتَذّكُرو َ‬
‫سُكوَنة‬‫غْيَر َم ْ‬‫خُلوا ُبُيوتًا َ‬ ‫ح َأن َتْد ُ‬ ‫جَنا ٌ‬
‫عَلْيُكْم ُ‬
‫س َ‬ ‫عِليٌم)‪ّ (28‬لْي َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل ِبَما َتْعَمُلو َ‬
‫جُعوا ُهَو َأْزَكى َلُكْم َوا ُ‬ ‫َفاْر ِ‬
‫ن)‪29‬‬ ‫ن َوَما َتْكُتُمو َ‬ ‫ل َيْعَلُم َما ُتْبُدو َ‬‫)ِفيَها َمتـٌع ّلُكْم َوا ُ‬

‫الّتفسير‬
‫ن َلُكم‬
‫حّتى يؤذ َ‬
‫‪:‬ل تدخلوا ُبُيوت الناس َ‬
‫بّينت هذه اليات جانبًا من أدب المعاشرة‪ ،‬والتعاليم السلمية اِلجتماعية التي لها علقة وثيقة‬
‫بقضايا عاّمة حول حفظ العّفة‪ ،‬أي كيفية الدخول إلى بيوت الناس‪ ،‬وكيفية الستئذان بالدخول‬
‫‪.‬إليها‬
‫حيث تقول أّول‪) :‬يا أّيها الذين آمنوا ل تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى‬
‫]‪[68‬‬
‫تستأنسوا وتسلموا على أهلها(‪ .‬وبهذا الترتيب عندما تعزمون على الدخول لبّد‪ ،‬من إخبار‬
‫‪.‬أصحاب البيت بذلك ونيل موافقتهم‬
‫ن الجملة‬‫والذي يلفت النظر في هذه الجملة استعمالها "تستأنسوا" ولم تستعمل "تستأذنوا" ل ّ‬
‫الّثانية لبيان الستئذان بالدخول فقط‪ ،‬في الوقت الذي تكون الجملة اُلولى مشتّقة من "أنس" أي‬
‫الستئذان المرافق للمحّبة واللطف والمعرفة والخلص‪ ،‬وتبّين كيف يجب أن يكون الستئذان‬
‫برفق وأدب وصداقة‪ ،‬بعيدًا عن أي حّدة وسوء خلق‪ .‬ولو تبحرنا في هذه الجملة على هذا الساس‬
‫لوجدنا فيها الكثير من الدب الذي يدور حول هذا الموضوع‪ ،‬وهو يعني أل تصرخوا وأّل تقرعوا‬
‫ن لكم‪ ،‬فتسّلموا أّول سلمًا يستبطن‬ ‫الباب بقوة‪ ،‬وأل تستأذنوا بعبارات حاّدة‪ ،‬وأل تدخلوا حتى ُيؤذ َ‬
‫‪.‬مشاعر السلم والود ورسالة المحبة والصداقة‬
‫ومّما يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة‪ ،‬مرافقته لجملتين‬
‫أولها‪) :‬ذلكم خير لكم( وثانيها‪) :‬لعلكم تذكرون(‪ .‬وهذا بحّد ذاته دليل على أن لهذه الحكام جذورًا‬
‫في أعماق العواطف والعقول النسانية‪ ،‬ولو دقق النسان النظر فيها لتذكر أن فيها الخير‬
‫‪.‬والصلح‬
‫وتّم هذا الحكم بجملة أخرى في الية التالية‪) :‬فإن لم تجدوا فيها أحدًا فل تدخلوها حتى يؤذن‬
‫‪).‬لكم‬
‫ق إعطاء اِلذن‬‫ن في المنزل أحد‪ ،‬ولكن من لَديه ح ّ‬‫قد يكون المراد من هذه العبارة أّنُه ُرّبما كا َ‬
‫‪.‬بالدخول غيرموجود‪ ،‬ففي هذه الحالة ل يحق للمرء الدخول إلى المنزل‬
‫أو قد ل يوجد أحد في المنزل‪ ،‬ولكن صاحب المنزل على مقربة من ذلك المكان‪ ،‬أو في منزل‬
‫الجيران بحيث لو طرق المرء الباب أو نادى صاحبه فقد يسمعه‪ ،‬ثّم يحضر ليسمح له بالدخول‪،‬‬
‫وعلى أي حال‪ ،‬فالمسألة المطروحة أن‬
‫]‪[69‬‬
‫‪.‬ل ندخل منزل دون إذن‬
‫ثّم تضيف الية )وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم( إشارة إلى أّنه ل لزوم لنزعاج‬
‫المرء إن لم يؤذن له بالدخول‪ ،‬فلعّل صاحب المنزل في وضع غير مريح‪ ،‬أو أن منزله لم يهيأ‬
‫!لستقبال الضيوف‬
‫ب الطلع والفضول حين رفضهم استقباله على استراق‬ ‫وبما أن بعض الناس قد يدفعهم ح ّ‬
‫السمع‪ ،‬أو التجنس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل وليطلع على أسرارهم‪ ،‬لهذا قالت‬
‫‪).‬الية‪) :‬وال بما تعملون عليم‬
‫وبما أن لكل حكم استثناًء‪ ،‬لرفع المشكلت والضرورات بشكل معقول عن طريقه‪ ،‬تقول آخر آية‬
‫‪).‬موضع البحث‪) :‬ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتًا غير مسكونة فيها متاع لكم‬
‫وتضيف في الختام )وال يعلم ما تبدون وما تكتمون(‪ .‬ولعل ذلك إشارة إلى استغلل البعض هذه‬
‫ن المنزل غير مسكون فيدخله بهدف الكشف عن بعض السرار‪ ،‬أو‬ ‫الستثناءات‪ ،‬فيتذّرع بأ ّ‬
‫ن ال يعلم بكّل هذه العمال‪،‬‬
‫الدخول إلى منازل مسكونة متذرعًا بعدم علمه بأّنها مسكونة‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫‪.‬ويعلم الذين يسيئون الستفادة من هذا الستثناء‬
‫***‬

‫بحوث‬
‫ـ المن والحرية في حريم المنزل ‪1‬‬
‫ل ريب في أن لوجود النسان بعدين‪ :‬بعد فردي‪ ،‬وآخر إجتماعي‪ ،‬ولهذا فله نوعان من الحياة‪:‬‬
‫صة‪ ،‬وأخرى عاّمة‪ .‬ولكل واحدة خصائصها وآدابها‪ ،‬حيث يضطر النسان في البيئة‬ ‫حياة خا ّ‬
‫الجتماعية إلى تحمل قيود كثيرة من حيث اللباس والحركة‪ ،‬ومواصلة النسان حياته على هذا‬
‫النسق وحده ـ خلل الربع‬
‫]‪[70‬‬
‫والعشرين ساعة ـ ُمتعب ويبعث على الضجر‪ ،‬إذ أّنه يرغب في أن يكون حرًا خلل فترة من الليل‬
‫والنهار ليستريح بعيدًا عن هذه القيود‪ ،‬مع أسرته وبين أولده‪ ،‬لهذا يلجأ إلى منزله الخاص به‪،‬‬
‫وينعزل بذلك عن المجتمع بشكل مؤقت‪ ،‬ليتخلص من قيوده‪ ،‬فيجب أن يكون محيط المنزل آمنًا‬
‫‪.‬إلى حّد كاف‬
‫وأّما إذا أراد كّل عابر الدخول إلى منازل الخرين‪ ،‬فل تبقى حرمة لمنازل الناس‪ ،‬ويسلب منها‬
‫أمنها وحريتها‪ ،‬وبهذا تتحول إلى بيئة عاّمة كالسوق والشارع‪ .‬ولهذا السبب كانت بين الناس ـ‬
‫صة في هذا المجال‪ .‬حتى أن جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى‬ ‫على مّر العصور ـ أعراف خا ّ‬
‫منازل الخرين دون استئذان وتعاقب عليه‪ ،‬وحتى في حالت الضرورة القصوى ولغرض حفظ‬
‫‪.‬المن وغايات أخرى أجيز عدد قليل على وفق القانون بالدخول إليها‬
‫صة في هذا المجال‪ ،‬ل يشاهد نظيرها إّل نادرًا‬ ‫صت الحكام السلمية على تعاليم وآداب خا ّ‬ ‫‪.‬ون ّ‬
‫نقرأ في حديث أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري استأذن على الّرسول)صلى ال عليه وآله‬
‫)وسلم( وهو مستقبل الباب فقال عليه الصلة والسلم‪" :‬ل تستأذن وأنت مستقبل الباب"‪1).‬‬
‫وجاء في حديث آخر أن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب‪.‬‬
‫ن الدور لم يكن‬ ‫من تلقاء وجهه ولكن من ركنه اليمن أو اليسر فيقول‪ :‬السلم عليكم‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫‪.‬عليها حينئذ ستور‬
‫وجاء في الحاديث السلمية ضرورة استئذان المرء حين دخوله إلى منزل والده أو والدته‪،‬‬
‫)وحتى حين الدخول إلى منزل ولده‪2).‬‬
‫وجاء في حديث عن الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( جوابًا على استفسار رجل‪ :‬قال‪ :‬أستأذن‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير فخر الرازي‪ ،‬المجلد ‪ ،23‬ص ‪ ،198‬آخر آية موضع البحث ‪1‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫]‪[71‬‬
‫على ُامي؟ أجاب)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬إّنها ليس لها خادم خادم غيري أفأستاذن‬
‫عليها كلما دخلت؟ قال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ :‬أتحب أن تراها عريانه؟ قال الرجل ل‪،‬‬
‫‪).‬فقال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ :‬فاستأذن عليها)‪1‬‬
‫ل النصاري قال‪" :‬خرج‬ ‫وجاء في حديث آخر عن المام الباقر)عليه السلم( عن جابر بن عبد ا ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله وسلم( يريد فاطمة)عليها السلم( وأنا معه فلما انتهينا إلى الباب‬ ‫رسول ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫وضع يده فدفعه ثّم قال‪ :‬السلم عليكم‪ ،‬فقالت‪ :‬فاطمة)عليها السلم(‪ :‬عليك السلم يا رسول ا ّ‬
‫ل‪ ،‬قال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪:‬أدخل ومن معي؟ قالت‪:‬‬ ‫قال‪ :‬أدخل؟ قالت‪ُ :‬ادخل يارسول ا ّ‬
‫ي قناع‪ ،‬فقال‪ :‬يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ففعلت‪ ،‬ثمّ قال‪:‬‬ ‫ل ليس عل ّ‬‫يارسول ا ّ‬
‫ل‪ ،‬قال أنا ومن‬
‫ل‪ ،‬قال أدخل قالت‪ :‬نعم يار سول ا ّ‬ ‫السلم عليكم‪ ،‬فقالت‪ :‬وعليك السلم يارسول ا ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله وسلم( فدخلت‪2)"...‬‬ ‫)معي؟ قالت‪ :‬ومن معك‪ ،‬قال جابر‪ :‬فدخل رسول ا ّ‬
‫وهذا الحديث يبّين لنا كيف كان النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وهو القدوة للمسلمين كافة‪،‬‬
‫‪.‬يراعي هذه اُلمور بدقة‪ ،‬وحتى جاء في حديث‬
‫ن يسمعون‪ ،‬والّثانية يحذرون‪،‬‬ ‫عن أبي عبدال الصادق)عليه السلم(قال‪" :‬الستيذان ثلثة‪ :‬أّوله ّ‬
‫)والّثالثة إن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا لم يفعلوا فيرجع المستأذن"‪3).‬‬
‫سرين ضرورة وجود فواصل زمنية بين كل استئذان وآخر‪ ،‬إذ قد يكون صاحب‬ ‫ويرى بعض المف ّ‬
‫المنزل لم يتهيأ ـ بعد ـ بلباس مناسب‪ ،‬أو يريد تغيير هيئة أو إعداد منزله‪ ،‬فيجب إعطاءه فرصًة‬
‫ليعّد نفسه ومنزله لستقبال ضيفه‪ ،‬وعلى الضيف النصراف دون انزعاج أو توّتر إن لم ُيسمح له‬
‫‪.‬بالدخول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير نور الثقلين‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬الصفحة ‪1 586‬‬
‫‪.‬ـ نور الثقلين‪ ،‬المجلد الّثالث‪ ،‬صفحة ‪2 587‬‬
‫رابع عشر‪ ،‬صفحة ‪ ،161‬أبواب مقدمات النكاح‪ ،‬الباب ‪3 23‬‬ ‫‪.‬ـ وسائل الشيعة المجلد ال ّ‬
‫]‪[72‬‬
‫ـ ما المقصود بالبيوت غيرالمسكونة؟ ‪2‬‬
‫سرين في ذلك‪ ،‬فقد قال‬ ‫في معرض الجابة على هذا السؤال لبّد من الشارة إلى اختلف المف ّ‬
‫البعض‪ :‬يقصد بها المباني التي ل يسكنها شخص معين‪ ،‬وهي لعموم الناس‪ ،‬كالمنازل العاّمة في‬
‫الطرق البرية والفنادق والحمامات العاّمة وأمثالها‪ .‬وقدجاء هذا المعنى بصراحة في حديث للمام‬
‫‪).‬الصادق)عليه السلم()‪1‬‬
‫ن هذا‬‫سر البعض ذلك بالخرائب التي ليست لها جدران ول أبواب‪ ،‬يدخلها من يشاء‪ ،‬غير أ ّ‬ ‫وف ّ‬
‫‪.‬الّتفسير يبدو بعيدًا جدًا عن الصواب‪ ،‬فل أحد يضع متاعه في هذه المنازل‬
‫وقال آخرون‪ :‬إّنها إشارة إلى مخازن التجار وحوانيتهم‪ ،‬التي احتوت على متاع الناس أمانًة لديهم‬
‫لغرض البيع‪ ،‬ويمكن لكّل صاحب متاع الدخول إلى هذا المخزن ليأخذ متاعه‪ ،‬وهذا الّتفسير أيضًا‬
‫‪.‬يبدو غير منسجم مع ما قصدته الية‬
‫كما يحتمل أّنها قصدت المنازل التي ليس فيها أحد‪ ،‬ويضع المرء متاعه فيها أمانًة بعد علمه‬
‫‪.‬برضا صاحبها ضمنًا في حراستها ورفعها عند الحاجة‬
‫ن الّتفسير الّول ينسجم انسجامًا أفضل مع معنى‬‫وبعض هذه التفاسير ل يتناقض مع غيره‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫الية وقصدها‪ ،‬ويّتضح بذلك أّنه ل يجوز لشخص له متاع في منزل أن يدخل المنزل دون استئذان‬
‫‪.‬من صاحبه حتى لو لم يكن في البيت أحد حينذاك‬

‫صص على منازل الناس ‪3‬‬


‫‪:‬ـ عقاب من يتل ّ‬
‫صص شخص على داخل منزل وشاهد امرأة فيه لم تتحجب‪،‬‬ ‫جاء في كتب الفقه والحديث‪ .‬إذا تل ّ‬
‫فلهل الدار أّول نهيُه عن هذا العمل‪ ،‬وإن امتنع رموه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫رابع عشر‪ ،‬صفحة ‪1 161‬‬ ‫‪.‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ال ّ‬
‫]‪[73‬‬
‫بالحجارة‪ .‬وإن عاود‪ ،‬فبامكانهم الدفاع عن أعراضهم بآلة جارحة‪ ،‬فلو ُقتل هذا الشخص في هذه‬
‫‪.‬الحالة فدمه هدر ول دّية له‬
‫وطبيعي أّنه لبّد من تتبع هذه الخطوات أّول بأول‪ .‬أي‪ :‬عليهم أّول إتباع السبيل اليسير لمنعه‪ ،‬ثّم‬
‫‪.‬اتباع ُاسلوب العنف‬
‫***‬

‫]‪[74‬‬

‫اليتان‬

‫ن)‪(30‬‬ ‫صَنُعو َ‬ ‫خِبيٌر ِبَما َي ْ‬ ‫ل َ‬ ‫نا َ‬ ‫ك َأْزَكى َلُهْم ِإ ّ‬ ‫جُهْم َذِل َ‬


‫ظوا ُفُرو َ‬ ‫حَف ُ‬ ‫صـِرِهْم َوَي ْ‬‫ن َأْب َ‬‫ضوا ِم ْ‬ ‫ن َيُغ ّ‬‫ُقل ّلْلُمْؤِمِني َ‬
‫ظَهَر ِمْنَها‬ ‫ن ِإّل َما َ‬ ‫ن ِزيَنَتُه ّ‬ ‫ن َوَل ُيْبِدي َ‬ ‫جُه ّ‬‫ن ُفُرو َ‬ ‫ظَ‬ ‫حَف ْ‬
‫ن َوَي ْ‬ ‫صـِرِه ّ‬‫ن َأْب َ‬‫ن ِم ْ‬ ‫ضَ‬ ‫ض ْ‬ ‫ت َيْغ ُ‬‫َوُقل ّلْلُمْؤِمَنـ ِ‬
‫ن َأْو‬
‫ن َأْو َءاَبآِء ُبُعوَلِتِه ّ‬ ‫ن َأْو َءاَبآِئِه ّ‬ ‫ن ِإّل ِلُبُعوَلِتِه ّ‬
‫ن ِزيَنَتُه ّ‬ ‫ن َوَل ُيْبِدي َ‬ ‫جُيوِبِه ّ‬ ‫عَلى ُ‬ ‫ن َ‬ ‫خُمِرِه ّ‬‫ن ِب ُ‬‫ضِرْب َ‬‫َوْلَي ْ‬
‫ن َأْو َما َمَلَك ْ‬
‫ت‬ ‫ن َأْو ِنسآِئِه ّ‬ ‫خَوِتِه ّ‬‫ن َأْو َبِنى َأ َ‬‫خَوِنِه ّ‬‫ن َأْو َبِنى ِإ ْ‬ ‫خَوِنِه ّ‬‫ن َأْو ِإ ْ‬
‫ن َأْو َأْبَنآِء ُبُعوَلِتِه ّ‬‫َأْبَنآِئِه ّ‬
‫سآِء َوَل‬ ‫ت الّن َ‬ ‫عْوَر ِ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ظَهُروا َ‬ ‫ن َلْم َي ْ‬‫طْفِل اّلِذي َ‬‫جاِل َأِو ال ّ‬ ‫ن الّر َ‬ ‫غْيِر ُأْوِلى اْلْرَبِة ِم َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن َأِو الّتـِبِعي َ‬‫َأْيَمـُنُه ّ‬
‫ن)‬‫حو َ‬ ‫ن َلَعّلُكْم ُتْفِل ُ‬
‫جِميعًا َأّيَه اْلُمْؤِمُنو َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن َوُتوُبوا ِإَلى ا ِ‬ ‫ن ِمن ِزيَنِتِه ّ‬ ‫خِفي َ‬‫ن ِلُيَعَلَم َما ُي ْ‬
‫جِلِه ّ‬
‫ن ِبَأْر ُ‬‫ضِرْب َ‬
‫َي ْ‬
‫)‪31‬‬

‫سبب الّنزول‬
‫جاء في كتاب الكافي حول سبب نزول أّول آية من اليات السابقة‪ ،‬عن‬
‫]‪[75‬‬
‫المام الباقر)عليه السلم( قال‪ :‬استقبل شاب من النصار أمرأة بالمدينة وكان النساء يقنعن خلف‬
‫آذانهن‪ ،‬فنظر إليها وهي مقبلة‪ ،‬فلّما جازت نظر إليها ودخل زقاق قد سّماه يعني فلن‪ ،‬فجعل ينظر‬
‫ق وجهه‪ ،‬فلّما مضت المرأة نظر فإذا الدماء‬
‫خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فش ّ‬
‫تسيل على ثوبه وصدره‪ ،‬فقال‪ :‬وال لتين رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( ولخبرّنه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فآتاه فلّما رآه رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( قال له‪ :‬ما هذا فأخبره‪ ،‬مهبط جبرئيل)عليه‬
‫السلم( بهذه الية‪) :‬قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن ال‬
‫)خبير بما يصنعون(‪1).‬‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬مكافحة السفور وخائنة العين‬
‫ن هذه السورة ـ في الحقيقة ـ اختصت بالعفة والطهارة وتطهير الناس من جميع‬ ‫قلنا في البداية‪ :‬إ ّ‬
‫صة بالنظر إلى الجنبية‬
‫النحرافات الجنسية‪ ،‬وبحوثها منسجمة‪ ،‬وهي تدور حول الحكام الخا ّ‬
‫صة بالقذف‬‫‪.‬والحجاب‪ ،‬ول يخفى على أحد ارتباط هذا البحث بالبحوث الخا ّ‬
‫‪).‬تقول الية أّول‪) :‬قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم‬
‫ض" من باب "رّد" وتعني في الصل التنقيص‪ ،‬وتطلق غالبًا على‬ ‫وكلمة "يغضوا" مشتّقة من "غ ّ‬
‫تخفيض الصوت وتقليل النظر‪ .‬لهذا لم تأمر الية أن يغمض المؤمنون عيونهم‪ .‬بل أمرت أن‬
‫ضوا من نظرهم‪ .‬وهذا التعبير الرائع جاء لينفي غلق العيون بشكل تام بحيث ل يعرف اِلنسان‬ ‫يغ ّ‬
‫حر فيها‪ ،‬بل أن يرمي‬
‫طريقه بمجّرد مشاهدته امرأة ليست من محارمه‪ ،‬فالواجب عليه أن ل يتب ّ‬
‫ض من نظره وأبعد ذلك المنظر من مخيلته‬
‫‪.‬ببصره إلى الرض‪ ،‬ويصدق فيه القول أنه غ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫رابع عشر‪ ،‬صفحة ‪ ،39‬تفسير نور الثقلين‪ ،‬والميزان‪ ،‬وروح ‪1‬‬ ‫ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ال ّ‬
‫‪.‬المعاني مع بعض الختلف في تفسير الية موضع البحث‬
‫]‪[76‬‬
‫ض النظر عنه‪) .‬أي أنه حذف‬ ‫ن القرآن الكريم لم يحدد الشيء الذي يستوجب غ ّ‬ ‫ومّما يلفت النظر أ ّ‬
‫ض النظر عن جميع الشياء التي حرم ال النظر‬ ‫متعّلق الفعل( ليكون دليل على عموميته‪ .‬أي غ ّ‬
‫‪.‬إليها‬
‫صة في الية التالية التي تتحدث عن قضية الحجاب‪،‬‬ ‫ولكن سياق الكلم في هذه اليات‪ ،‬وخا ّ‬
‫يوضح لنا جيدًا أنها تقصدالنظر إلى النساء غيرالمحارم‪ ،‬ويؤّكد هذا المعنى سبب الّنزول الذي‬
‫‪.‬ذكرناه)‪ (1‬سابقًا‬
‫ويّتضح لنا مّما سبق أن مفهوم الية السابقة ليس هو حرمة النظر الحاد إلى النساء غيرالمحارم‪،‬‬
‫ن النظر الطبيعي إلى غير المحارم مسموح به‪ ،‬بل إن نظر النسان يمتّد إلى حّيز‬ ‫ليتصور البعض أ ّ‬
‫واسع ويشمل دائره واسعة‪ ،‬فإذا وجد امرأة من غير المحارم عليه أن يخرجها عن دائرة نظره‪.‬‬
‫ض النظر‪) .‬فتأملوا جيدًا‬‫‪).‬وأّل ينظر إليها‪ ،‬ويواصل السير بعين مفتوحة‪ ،‬وهذا هو مفهوم غ ّ‬
‫الحكم الّثاني في الية السابقة‪ :‬هو "حفظ الفروج"‪ .‬و"الفرج" ـ كما قلنا سابقًا ـ يعني الفتحة‬
‫‪.‬والفاصلة بين شيئين‪ ،‬إّل أّنها هنا ورد كناية عن العورة‬
‫والقصد من حفظ الفرج ـ كما ورد في الحاديث ـ هو تغطيته عن النظار‪ ،‬وقد جاء في حديث عن‬
‫المام الصادق)عليه السلم( قوله‪" :‬كّل آية في القرآن فيها ذكر الفروج فهي من الزنا‪ ،‬إلّ هذه‬
‫‪).‬الية فإّنها من النظر")‪2‬‬
‫ن )ذلك أزكى لكم( ُكما‬ ‫إن السلم نهى عن هذا العمل المندفع مع الهواء النفسية والشهوات‪ ،‬ل ّ‬
‫صت عليه الية ـ موضع البحث ـ في ختامها‬ ‫‪.‬ن ّ‬
‫ثّم تحذر الية ُأولئك الذين ينظرون بشهوة إلى غير محارمهم‪ ،‬ويبررون عملهم هذا بأّنه غير‬
‫ن ال خبير بما تصنعون‬ ‫‪).‬متعّمد فتقول‪) :‬إ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سرون في تعليل وجود "من" في جملة )يغضوا من أبصارهم( فقال بعضهم إّنها ‪1‬‬ ‫ـ اختلف المف ّ‬
‫‪.‬للتبعيض وقيل‪ :‬إّنها زائدة‪ ،‬وقيل‪ :‬ابتدائية‪ .‬ولكن الظاهر هو المعنى الّول‬
‫ـ أصول الكافي‪ ،‬وتفسير علي بن إبراهيم )وفق ما نقله نورالثقلين المجلد الثالث‪ ،‬صفحة ‪2 ،587‬‬
‫‪588).‬‬
‫]‪[77‬‬
‫وتناولت الية التالية شرح واجبات النساء في هذا المجال‪ ،‬فأشارت أّول إلى الواجبات التي تشابه‬
‫‪).‬ما على الرجال‪ ،‬فتقول‪) :‬وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن‬
‫وبهذا حرم ال النظر بريبة على النساء أيضًا مثلما حّرمه على الرجال‪ ،‬وفرض تغطيه فروجهن‬
‫‪.‬عن أنظار الرجال والنساء مثلما جعل ذلك واجبًا على الرجال‬
‫‪:‬ثمّ أشارت الية إلى مسألة الحجاب في ثلث جمل‬
‫ل ما ظهر منها ‪1‬‬ ‫‪).‬ـ )ول يبدين زينتهن إ ّ‬
‫سرون في تفسير الزينة التي تجب تغطيتها‪ ،‬والزينة الظاهرة التي يسمح باظهارها‬ ‫‪.‬اختلف المف ّ‬
‫ن الزينة المخفية هي الزينة الطبيعية في المرأة )جمال جسم المرأة( في حين أن‬‫فقال البعض‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى قليل‬
‫وقال آخرون‪ :‬إّنها تعني موضع الزينة‪ :‬لن الكشف عن أداة الزينة ذاتها كالعضد والقلدة مسموح‬
‫ص موضعها‪ ،‬أي اليدين والصدر مثل‬ ‫‪.‬به‪ ،‬فالمنع يخ ُ‬
‫ص المنع أدوات الزينة عندما تكون على الجسم‪ ،‬وبالطبع يكون الكشف عن هذه‬ ‫وقال آخرون‪ :‬خ ّ‬
‫الزينة مرادفًا للكشف عن ذلك الجزء من الجسم‪) .‬و هذين الّتفسيرين الخيرين لهما نتيجة واحدة‬
‫‪).‬على الرغم من متابعة القضية عن طريقين مختلفين‬
‫والحق أّننا يجب أن نفسر الية على حسب ظاهرها ودون حكم مسّبق‪ ،‬وظاهرها هو الّتفسير‬
‫‪.‬الّثالث‬
‫وعلى هذا‪ ،‬فل يحق للنساء الكشف عن زينتهن المخفية‪ ،‬وإن كانت ل ُتظهر أجسامهن‪ ،‬أي ل‬
‫ص القرآن الذي نهاه ّ‬
‫ن‬ ‫يجوز لهن الكشف عن لباس يتزّين به تحت اللباس العادي أو العباءة‪ ،‬بن ّ‬
‫‪.‬عن ذلك‬
‫]‪[78‬‬
‫سروا الزينة المخفية‬‫وذكرت الحاديث التي ُرويت عن أهل البيت)عليهم السلم( هذا المعنى‪ ،‬فقد ف ّ‬
‫‪).‬بالقلدة والدملج )حلي يشّد أعلى الساعد( والخلخال)‪1‬‬
‫ن المراد من‬‫سرت أحاديث عديدُة ُأخرى الزينة الظاهرة بالخاتم والكحل وأمثاله‪ ،‬لهذا نفهم بأ ّ‬ ‫وقد ف ّ‬
‫‪).‬الزينة المخفية الزينة التي تحت الحجاب )فتأملوا جيدًا‬
‫خمار" ‪2‬‬‫خُمر" جمع " ِ‬ ‫ـ وثاني حكم ذكرته الية هو‪) :‬وليضربن بخمرهن على جيوبهن( وكلمة " ُ‬
‫على وزن "حجاب" في الصل تعني "الغطاء"‪ ،‬إّل أّنه يطلق بصورة اعتيادية على الشيء الذي‬
‫‪.‬تستخدمه النسوة لتغطية ُرؤوسهن‬
‫و"الجيوب" جمع "جيب" على وزن "غيب" بمعنى ياقة القميص‪ ،‬وأحيانًا يطلق على الجزء الذي‬
‫‪.‬يحيط بأعلى الصدر لمجاورته الياقة‬
‫ن قبل نزولها‪ ،‬يرمين أطراف الخمار على أكتافهن أو خلف‬ ‫ن النساء ك ّ‬‫ويستنتج من هذه الية أ ّ‬
‫الرأس بشكل يكشفن فيه عن الرقبة وجانبًا من الصدر‪ ،‬فأمرهن القرآن برمي أطراف الخمار حول‬
‫أعناقهن أي فوق ياقة القميص ليسترن بذلك الرقبة والجزء المكشوف من الصدر‪) .‬ويستنتج هذا‬
‫‪).‬المعنى أيضًا عن سبب نزول الية الذي ذكرناه آنفًا‬
‫ن وإظهار ‪3‬‬ ‫ـ وتشرح الية في حكمها الّثالث الحالت التي يجوز للنساء فيها الكشف عن حجابه ّ‬
‫ن‪ ،‬فتقول )ول يبدين زينتهن إّل‬ ‫‪).‬زينته ّ‬
‫‪).‬ـ )لبعولتهن ‪1‬‬
‫‪).‬ـ )أو آبائهن ‪2‬‬
‫‪).‬ـ )أو آباء بعولتهن ‪3‬‬
‫‪).‬ـ )أو أبنائهن ‪4‬‬
‫‪).‬ـ )أو أبناء بعولتهن ‪5‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير على بن إبراهيم لخر الية موضع البحث ‪1‬‬
‫]‪[79‬‬
‫إخوانهن ‪6‬‬ ‫‪).‬ـ )أو‬
‫بني إخوانهن ‪7‬‬ ‫‪).‬ـ )أو‬
‫بني أخواتهن ‪8‬‬ ‫‪).‬ـ )أو‬
‫نسائهن ‪9‬‬ ‫‪).‬ـ )أو‬
‫ما ملكت أيمانهن ‪10‬‬ ‫‪).‬ـ )أو‬
‫لربة من الرجال( أي الرجال الذين ل رغبة جنسية عندهم أصل ‪11‬‬
‫ـ )أو التابعين غير أولي ا ِ‬
‫‪.‬بالعنن أو بمرض غيره‬
‫‪).‬ـ )أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ‪12‬‬
‫ن( أي على ‪4‬‬
‫ن ليعلم ما يخفين من زينته ّ‬
‫ـ وتبّين الية رابع الحكام فتقول )ول يضربن بأرجله ّ‬
‫ن‪ ،‬ويبتعدن عن كّل شيء يثير نار الشهوة في قلوب‬
‫النساء أن يتحّفظن كثيرًا‪ ،‬ويحفظن عّفته ّ‬
‫‪.‬الرجال‪ ،‬حتى ل يتهمن باِلنحراف عن طريق العفة‬
‫ويجب أن يراقبن تصرفهن بشّدة بحيث ل يصل صوت خلخالهن إلى آذان غير المحارم‪ ،‬وهذا كله‬
‫‪.‬يؤّكد دّقة نظر السلم إلى هذه اُلمور‬
‫وإنتهت الية بدعوة جميع المؤمنين رجال ونساًء إلى التوبة والعودة إلى ال ليفلحوا )وتوبوا إلى‬
‫ال جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون( وتوبوا أّيها الناس مّما ارتكبتم من ذنوب في هذا المجال‪،‬‬
‫بعدما اطلعتم على حقائق الحكام السلمية‪ ،‬وعودوا إلى ال لتفلحوا‪ ،‬فل نجاة لكم من كّل‬
‫!النحرافات الخطرة إّل بلطف من ال ورحمته‪ ،‬فسّلموا أمركم إليه‬
‫صحيح أّنه ل معنى للذنوب والمعاصي ـ في هذه المسألة ـ قبل نزول هذه الحكام من ال‪ ،‬إّل أّننا‬
‫صة بالنحطاط الخلقي ذا جانب عقلني وكما في الصطلح أنها‬ ‫ن قسمًا من المسائل الخا ّ‬
‫نعلم بأ ّ‬
‫‪.‬من "المستقلت العقلية" ويكفي لوحده في تحديد المسؤولية‬
‫***‬
‫]‪[80‬‬
‫بحوث‬
‫ـ فلسفة الحجاب ‪1‬‬
‫ن الحديث عن الحجاب للمتغربين في عصرنا الذي سّموه بعصر التعري والحرية‬ ‫ك فيه أ ّ‬
‫مّما ل ش ّ‬
‫‪.‬الجنسية‪ ،‬ليس حديثًا ساّرا حيث يتصّورونه ُأسطوره يعود لعصور خلت‬
‫ن الفساد الذي ل حّد له‪ ،‬والمشاكل المتزايدة والناتجة عن هذه الحرّيات التي ل قيد لها‬ ‫إّل أ ّ‬
‫‪.‬ولحدود‪ ،‬أدى بالتدريج إلى ايجاد اُلذن الصاغية لهذا الحديث‬
‫صة في أجواء إيران بعد الثورة‬ ‫وقد تّم حّل كثير من القضايا في بيئات إسلمية ودينية ُأخرى‪ ،‬خا ّ‬
‫‪.‬السلمية‪ ،‬وُأجيب عن الكثير من هذه السئلة بشكل مقنع‬
‫‪.‬ومع كل هذا تستوجب أهمية الموضوع بحث هذه القضية بحثًا واسعًا وعميقًا‬
‫والقضية المطروحة )نقولها مع العتذار(‪ :‬هل من الصحيح أن ُتستغل النساء للتلّذذ من جانب‬
‫ن تحت تصرف جميع‬ ‫الرجال عن طريق السمع والنظر واللمس )باستثناء المجامعة( وأن َيُك ْ‬
‫ن؟‬
‫صة لزواجه ّ‬‫الرجال‪ ،‬أو أن تكون هذه اُلمور خا ّ‬
‫إنّ النقاش يدور حول هذا السؤال‪ :‬هل يجب بقاء النساء في سباق ل نهاية له في عرض‬
‫ن‪ ،‬وتحريك شهوات وأهواء الرجال؟ أو يجب تصفية هذه اُلمور من أجواء المجتمع‪،‬‬ ‫أجسامه ّ‬
‫!وتخصيصها باُلسرة والحياة الزوجية؟‬
‫السلم يساند السلوب الّثاني‪ .‬ويعتبر الحجاب جزءًا من هذا اُلسلوب‪ ،‬في الوقت الذي يساند فيه‬
‫!الغربيون والمتغربون الشهوانيون اُلسلوب الّول‬
‫ن اُلمور الجنسية سواًء كانت مجامعة أو استلذاذًا عن طريق السمع أو البصر أو‬ ‫يقول السلم‪ :‬إ ّ‬
‫ن ذلك يؤّدي إلى تلويث المجتمع وانحطاطه‪،‬‬ ‫ص بالزواج‪ ،‬ومحّرم على غيرهم‪ ،‬ل ّ‬ ‫اللمس خا ّ‬
‫وعبارة )ذلك أزكى لكم( التي جاءت في الية‬
‫]‪[81‬‬
‫‪.‬السابقة تشير إلى هذه المسألة‬
‫‪:‬إنّ فلسفة الحجاب ليست خافية على أحد للسباب التالية‬
‫صة الشباب ‪1‬‬
‫ـ إنّ تعري النساء وما يرافقه من تجميل وتدلل ـ وما شاكل ذلك ـ يحرك الرجال ـ خا ّ‬
‫طم أعصابهم‪ ،‬وتراهم قد غلب عليهم الهياج العصبي‪ ،‬وأحيانًا يكون ذلك مصدرًا للمراض‬ ‫ـ ويح ّ‬
‫النفسية‪ ،‬فأعصاب النسان محدودة التحّمل‪ ،‬ول تتمكن من اِلستمرار في حالة الهيجان؟‬
‫ن هذه الحالة من الهيجان المستمر سبب للمراض النفسية؟‬ ‫ألم يقل أطباء علم النفس بأ ّ‬
‫ن الغريزة الجنسية‪ ،‬أقوى الغرائز في النسان وأكثرها عمقًا‪ ،‬وكانت عبر‬‫صة إذا لحظنا أ ّ‬
‫خا ّ‬
‫ن وراء كّل حادثة مهّمة امرأة‬
‫!التاريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة‪ ،‬حتى قيل‪ :‬إ ّ‬
‫أليس إثارة الغرائز الجنسية لعبًا بالنار؟‬
‫وهل هذا العمل عقلني؟‬
‫السلم يريد للرجال والنساء المسلمين نفسًا مطمئنة وأعصابًا سليمة ونظرًا وسماعًا طاهرين‪،‬‬
‫‪.‬وهذه واحدة من فلسفات الحجاب‬
‫ن‪2‬‬‫ـ تبّين إحصاءات موثقة ارتفاع نسب الطلق وتفّكك اُلسرة في العالم‪ ،‬بسبب زيادة التعّري‪ ،‬ل ّ‬
‫ب الرجل من امرأة إلى أخرى‪ ،‬كّل يوم‪ ،‬بل كل ساعة‬ ‫‪.‬الناس أتباع الهوى غالبًا‪ ،‬وهكذا يتحّول ح ّ‬
‫أّما في البيئة التي يسودها الحجاب )والتعاليم السلمية اُلخرى( فالعلقة وثيقة بين الزوج‬
‫‪.‬وزوجته‪ ،‬ومشاعرهما وحبهما مشترك‬
‫وأّما في سوق التعري والحرية الجنسية‪ ،‬حيث المرأة سلعة تباع وتشترى‪ ،‬أو في أقل تقدير‬
‫موضع نظر وسمع الرجال‪ ،‬عندها يفقد عقد الزواج حرمته‪ ،‬وتنهار ُأسس اُلسر بسرعة كانهيار‬
‫بيت العنكبوت‪ ،‬ويتحمل هذه المصيبة البناء‬
‫]‪[82‬‬
‫‪.‬بعد أن يفقدوا أولياءهم ويفقدوا حنان اُلسرة‬
‫ـ انتشار الفحشاء وازدياد البناء غير الشرعين يعتبران من أنكى نتائج إلغاء الحجاب‪ ،‬ول ‪3‬‬
‫حاجة إلى إحصائية بهذا الصدد‪ ،‬فشواهدها ظاهرة في المجتمع الغربي‪ ،‬واضحة بدرجة ل تحتاج‬
‫‪.‬إلى بيان‬
‫ن السبب الرئيسي في إزدياد الفحشاء والبناء غيرالشرعيين ينحصر في إلغاء الحجاب‬ ‫ل نقول‪ :‬إ ّ‬
‫ن الستعمار المشؤوم والقضايا السياسية المخربة ليس لها دور قوي‬ ‫وعدم الستر‪ ،‬ول نقول‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬فيه‪ ،‬بل نقول‪ :‬إن التعري من السباب القوية لذلك‬
‫وكما نعلم فإن انتشار الفحشاء وازدياد البناء غير الشرعيين مصدر أنواع الجرائم في المجتمعات‬
‫‪.‬البشرية قديمًا وحديثًا‬

‫‪.‬وبهذا تتضح البعاد الخطرة لهذه القضية‬


‫ن الولدات غير الشرعية في بريطانيا بلغت بحسب إحصائياتهم خمسمائة ألف‬ ‫وعندما نسمع أ ّ‬
‫ن علماءها حّذروا المسؤولين من مغبة هذا الوضع‪ ،‬ليس لّنه ـ كما يقولون ـ‬ ‫طفل كّل عام‪ ،‬وأ ّ‬
‫بسبب مخالفته للقضايا الخلقية والدينية‪ ،‬وإّنما بسبب الخطر الذي أوجده هؤلء البناء لمن‬
‫صة بالجرائم‬
‫‪.‬المجتمع‪ ،‬فقد وجدوا أّنهم يمّثلون القسم العظم من ملفات القضايا الخا ّ‬
‫‪.‬ومن هنا ندرك أهمية هذه القضية‪ ،‬وأّنها كارثة حتى للذين ل يؤمنون بدين ول يهتمون بأخلق‬
‫وكّلما انتشر الفساد الجنسي في المجتمعات البشرية اّتسع التهديد لهذه المجتمعات وتعاظم الخطر‬
‫شي الهمال‬‫عليها‪ ،‬وقد برهنت دراسات العلماء في التربية على ظهور العمال المنافية للعفة‪ ،‬وتف ّ‬
‫في العمل والتأخر‪ ،‬وعدم الشعور بالمسؤولية‪ ،‬في المدارس المختلطة والمنشئات التي يعمل فيها‬
‫‪.‬الرجال والنساء بشكل مختلط‬
‫]‪[83‬‬
‫ـ قضية "ابتذال المرأة" وسقوط شخصيتها في المجتمع الغربي ذات أهمية كبيرة ل تحتاج إلى ‪4‬‬
‫أرقام‪ ،‬فعندما يرغب المجتمع في تعري المرأة‪ ،‬فمن الطبيعي أن يتبعه طلبها لدوات التجميل‬
‫والتظاهر الفاضح والنحدار السلوكي‪ ،‬وتسقط شخصّية المرأة في مجتمع يركز على جاذبيتها‬
‫‪.‬الجنسية‪ ،‬ليجعلها وسيلًة إعلمّية ُيرّوج بها لبيع سلعة أو لكسب سائح‬
‫وهذا السقوط يفقدها كّل قيمتها النسانية‪ ،‬إذ يصبح شبابها وجمالها وكأّنه المصدر الوحيد لفخرها‬
‫ت الخرين‪ ،‬الوحوش‬ ‫وشرفها‪ ،‬حتى ل يبقى لها من إنسانيتها سوى أّنها أداٌة لتباع شهوا ِ‬
‫!الكاسرة في صور البشر‬
‫!كيف يمكن للمرأة في هذا المجتمع أن تبرز علميًا وتسمو أخلقيًا؟‬
‫ط إلى حد البتذال‬ ‫ومن المؤسف أن تلعب المرأة باسم الفن‪ ،‬وتشتهر وتكسب المال الوفير‪ ،‬وتنح ّ‬
‫!في المجتمع‪ ،‬ليرحب بها مسّيرو هذا المجتمع المنحط خلقّيا‪ ،‬في المهرجانات والحفلت الساهرة؟‬
‫هكذا حال المرأة في المجتمع الغربي‪ ،‬وقد كان مجتمعنا قبل انتصار الثورة السلمية كذلك‪،‬‬
‫ونشكر ال على إنهاء تلك المظاهر المنحطة في بلدنا بعد تأسيس الجمهورية السلمية‪ ،‬فقد‬
‫عادت المرأة إلى مكانتها السامية التي أرادها ال لها‪ ،‬وها هي ذي تمارس دورًا إيجابيًا في‬
‫المجتمع مع محافظتها على حجابها السلمي‪ ،‬حتى أنها ساهمت بشكل فّعال خلف جبهات الحرب‬
‫‪.‬بمختلف العمال لدعم الجبهة والجهاد في سبيل ال‬
‫‪.‬وكان هذا جانبًا من الفلسفة الحيوية لموضوع الحجاب في السلم‪ .‬وهو ينسجم مع تفسيرنا‬

‫‪:‬الشكال الذي يورده معارضو الحجاب‬


‫نصل هنا إلى النتقادات التي يطرحها معارضو الحجاب‪ ،‬فنبحثها بشكل‬
‫]‪[84‬‬
‫‪:‬مضغوط‬
‫ن النساء يشكلن نصف المجتمع‪ ،‬والحجاب ‪1‬‬
‫ـ أهم النتقادات التي يذكرها معارضو الحجاب أ ّ‬
‫ن في معزل عن المجتمع‪ ،‬ويكون ذلك سببًا في تأخرهنّ الثقافي‪ ،‬وانعدام الستفادة من هذه‬ ‫يجعله ّ‬
‫ن في المنشئات الثقافية والجتماعية‬‫الطاقات العظيمة في ازدهار القتصاد‪ .‬وإذا شغر مكانه ّ‬
‫‪.‬أصبحن مواّد استهلكّية ليست بذات جدوى للمجتمع‬
‫سكين بهذا المنطق غفلوا عن عّدة ُأمور‪ ،‬أو تغافلوا عنها‪ ،‬للسباب التالية‪ :‬ـ‬ ‫ن هؤلء المتم ّ‬ ‫إّل أ ّ‬
‫ن الحجاب السلمي يعزل المرأة عن المجتمع؟‬ ‫أّول‪ :‬من الذي قال‪ :‬إ ّ‬
‫لئن صعب علينا الجواب عن هذا السؤال في السابق‪ ،‬فما نظن أّننا بعد قيام الجمهورية السلمية‬
‫المباركة بحاجة إلى دليل على نهضِة المرأة نهضة كريمًة ومشاركتها في تشييد المجتمع‬
‫السلمي المنشود مشاركًة تحقق النفع للمرأة واُلسره والحكومة واُلمة‪ ،‬فهي مسؤولة في‬
‫الدوائر والمصانع والمتاجر‪ ،‬وفي النشاط السياسي في المسيرات والمظاهرات‪ ،‬في الذاعة‬
‫صة في معالجة جرحي الحرب ـ وفي المدارس والجامعات‪،‬‬ ‫والتلفزيون‪ ،‬وفي المراكز الصحّية ـ خا ّ‬
‫‪.‬حّتى في ساحة الحرب ومجاهدة العدو‬
‫ن الواقع الجتماعي في بلدنا خير جواب عن هذا السؤال‪ :‬وإذ كّنا نتحدث في السابق‬ ‫وباختصار‪ :‬إ ّ‬
‫عن إمكانية حدوث ذلك‪ ،‬فإّننا اليوم نراه ماثل بين أعيننا‪ .‬وكما يقول الفلسفة‪ :‬خير دليل على‬
‫‪.‬إمكان وجود الشيء حدوثه‪ ،‬ول حاجة للبرهنة على وجود الواقع‬
‫حاء رجال المستقبل ـ الذين‬‫ثانيًا‪ :‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬أل ُتعتبر إدارة المنزل وتربية البناء الص ّ‬
‫يديرون عجلة القتصاد والسياسة في البلد ـ عمل؟‬
‫إن الذين ل يعّدون هذه المسؤولية للمرأة أمرًا ايجابيًا جاهلون بحقيقة دور‬
‫]‪[85‬‬
‫المرأة في اُلسرة وفي التربية‪ ،‬وفي بناء مجتمع سليم فّعال‪ ،‬بل ل يعترفون إّل بمغادرة الرجال‬
‫والنساء المنازل صباحًا ـ كالغربيين ـ ليلتحقوا بالدوائر والمصانع‪ .‬ويجعلون أبناءهم تحت رعاية‬
‫الخرين‪ ،‬في دور الحضانة‪ ،‬أو يغلقوا عليهم المنازل ليعيشوا في معتقل دون رعاية‪ ،‬حتى يعود‬
‫!الوالدان من العمل وقد أرهقهما التعب‬
‫طم شخصيتهم ويعرض‬ ‫ن إفتقاد الطفال للرعاية والعطف‪ ،‬يؤدي إلى تح ّ‬‫هؤلء غافلون عن أ ّ‬
‫‪.‬المجتمع إلى الخطر‬
‫ـ كما يتذرع معارضو الحجاب بادعائهم بأّنه يعوق المرأة عن نشاطها الجتماعي ول ينسجم مع ‪2‬‬
‫!العصر الحديث‪ ،‬ويقولون‪ :‬كيف تحفظ المرأة حجابها وطفلها وعملها في آن واحد؟‬
‫ن الحجاب ليس العباءة ونحوها‪ ،‬بل هو غطاء الجسم‪ ،‬فإن تسنى للمرأة‬ ‫إّنهم غافلون عن أ ّ‬
‫الحتجاب بالعباءة فذلك حسن‪ ،‬وإّل كفاها غطاُء الرأس واللباس المحتشم حجابًا‪ .‬وقد لّبت نساؤنا‬
‫صة العاملت ـ في مزارع الرز المملوكة لعوائلهن ـ هذا اللباس‪ ،‬حيث يمارسن‬ ‫الريفيات وخا ّ‬
‫ن عملّيا على إمكانية محافظة المرأة على‬
‫الحراثة والبذار والهتمام بالزرع ثّم حصاده‪ ،‬وبره ّ‬
‫ق العمال‬‫‪.‬حجابها دون أن يمنع ذلك ممارستها ل ش ّ‬
‫ن الحجاب يفصل بين الرجال والنساء‪ ،‬ويزيد في حرص ‪3‬‬ ‫ـ يعترض المخالفون للحجاب قائلين‪ :‬إ ّ‬
‫ن )المرء حريص على ما منع‬ ‫‪).‬الرجال بدل من إخماد هذا الحرص‪ ،‬ل ّ‬
‫وهذه سفسطة واضحة‪ ،‬فلو قارن المرء بين مجتمعنا على عهد الطاغوت واليوم لتجّلى له الح ّ‬
‫ق‬
‫صريحًا‪ ،‬فبالمس كان نزع الحجاب إجباريًا‪ ،‬واليوم يسود الحجاب السلمي مجتمعنا كله‪،‬‬
‫والفساد كان ينتشر بالمس في كل أنحاء البلد‪ ،‬ويسيطر التسيب على معظم السر‪ ،‬ويزداد‬
‫الطلق بنسبة عالية‪ ،‬وترتفع نسبة‬
‫]‪[86‬‬
‫ن كل الفساد قد زال في بلدنا‬
‫المواليد غير الشرعية‪ ،‬وآلف المصائب اُلخرى‪ .‬ونحن ل نجزم بأ ّ‬
‫واقتلعت جذوره‪ ،‬إّل أّنه مّما ل شك فيه أّنه قد انخفض بدرجة كبيرة‪ ،‬واستعاد مجتمعنا سلمته‬
‫‪.‬بدرجة كبيرة‬
‫وإذا استمر الوضع على هذا المنوال بعون من ال‪ ،‬فإّننا سنتمكن من حّل جميع المشاكل‪ .‬ويبلغ‬
‫‪.‬مجتمعنا مرتبة الطهارة الكاملة‪ ،‬ويحفظ للمرأة مكانتها الرفيعة‬

‫ـ استثناء الوجه والكفين ‪2‬‬


‫هناك اختلف في الرأي بين الفقهاء حول شمول حكم حجاب الوجه والكفين من الرسغ إلى أطراف‬
‫الصابع‪ ،‬أم ل؟‬
‫ن تغطية الوجه والكفين مستثنى من حكم الحجاب‪ ،‬في الوقت الذي أفتى‬ ‫الكثير من الفقهاء يرى أ ّ‬
‫ن القول باستثناء‬‫آخرون بوجوب تغطيتها‪ ،‬أو في القل احتاطوا في وجوب تغطيتها‪ ،‬وطبيعي أ ّ‬
‫‪.‬وجوب الحجاب على الوجه والكفين هو في حالة عدم نشوب فساد‪ ،‬وإّل فيجب تغطيتها‬
‫‪:‬وهناك قرائن في الية الشريفة تؤيد هذا الستثناء ويؤيد الرأي الّول‬
‫أ ـ استثناء الزينة الظاهر في الية السابقة‪ ،‬سواء دلت على أّنها تقصد موضع الزينة أو الزينة‬
‫‪.‬ذاتها‪ ،‬تكشف عن عدم وجوب تغطية الوجه والكفين‬
‫ب ـ إن حكم الية السابقة بوجوب رمي أطراف خمار المرأة على طرفي الياقة يفهم منه تغطية‬
‫جميع أجزاء الرأس والرقبة والصدر‪ .‬ولم يتحدث هذا الحكم عن تغطية الوجه‪ ،‬وهذا دليل آخر‬
‫‪.‬على هذا الرأي‬
‫وليضاح ذلك نقول‪ :‬كانت بعض نساء العرب يلبسن الخمار ويرمين طرفية على الكتفين بشكل‬
‫تبقى الرقبة وجزء من الصدر مكشوفين‪ ،‬وقد أصلح السلم هذه الحالة‪ ،‬فأمر بتغطية الرقبة‬
‫والصدر برمي طرفي الخمار على جانبي ياقة‬
‫]‪[87‬‬
‫‪.‬الثوب‪ ،‬لتبقى دائرة الوجه وحدها مكشوفة‬
‫ج ـ كما جاءت أحاديث إسلمية عديدة في هذا المجال تؤّكد ما ذهبنا إليه)‪(1‬مع وجود أحاديث‬
‫معارضة لها‪ ،‬ولكّنها ليست بتلك الدرجة من الصراحة‪ ،‬والجمع بينهما بالقول باستحباب تغطية‬
‫الوجه والكفين ـ عند خشية الفساد والنحراف ـ أمر ممكن‪ .‬كما تدل شواهد تاريخية على أ ّ‬
‫ن‬
‫تغطية الوجه بقناع لم تكن عاّمة في صدر السلم )ذكر شرح مفصل فقهي وروائي عن هذه‬
‫‪).‬القضية في البحوث الفقهية عن النكاح‬
‫ن هذا الحكم في وقت ل يؤدي إلى استغلل أو انحراف‬ ‫‪.‬إّل أّننا نؤّكد ثانية أ ّ‬
‫ن استثناء الوجه والكفين من حكم الحجاب ل يعني جواز النظر بشكل عمومي‬ ‫كما يجب القول‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬من قبل الرجال‪ ،‬وإّنما هو نوع من التسهيلت التي ُمنحت للمرأة في الحياة‬

‫ن؟ ‪3‬‬
‫ـ ما المقصود من نسائه ّ‬
‫ن النساء‬
‫ن تاسع مجموعة مستثناة بالطلع على زينة النساء ه ّ‬ ‫ذكرنا في تفسير الية السابقة أ ّ‬
‫ن" ندرك أّنها تقصد النساء المسلمات‪ ،‬ول يكشفن عن‬ ‫اُلخريات‪ ،‬وبملحظة عبارة "نسائه ّ‬
‫ن ما‬
‫ن لغير المسلمات‪ ،‬وفلسفة ذلك‪ ،‬أّنه من المحتمل أن يصفن ـ غير المسلمات ـ لزواجه ّ‬ ‫زينته ّ‬
‫‪.‬شاهدنه من زينة النساء المسلمات‪ .‬وهذا ليس عمل صائبًا من قبل المسلمات‬
‫وروي عن المام الصادق)عليه السلم( في كتاب )من ل يحضره الفقيه(‪" :‬ل ينبغي للمرأة أن‬
‫ن")‪2‬‬‫ن يصفن ذلك لزواجه ّ‬
‫‪).‬تكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإّنه ّ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ كتاب وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ‪ ،14‬صفحة ‪ ،145‬الباب ‪ ،109‬من أبواب مقدمات النكاح ‪1‬‬
‫‪.‬ـ من ل يحضره الفقيه‪ ،‬حسبما ذكره تفسير نور الثقلين‪ ،‬المجلد ‪ ،3‬صفحة ‪2 593‬‬
‫]‪[88‬‬
‫)ـ تفسير عبارة )أو ما ملكت أيمانهن ‪4‬‬
‫لظاهر هذه العبارة مفهوم واسع‪ ،‬ويدل على أّنه بإمكان المرأة الظهور دون حجاب بحضور‬
‫ن غير‬‫ن ذلك يعني فقط الظهور بين الجواري حتى لوك ّ‬ ‫ن بعض الحاديث صّرحت بأ ّ‬ ‫عبدها‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫مسلمات‪ ،‬ول يشمل هذا الحكم العبيد‪ .‬ففي حديث للمام أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(‪" :‬ل‬
‫‪).‬ينظر العبد إلى شعر سّيدته")‪1‬‬
‫ن ذلك خلفًا للحتياط‬
‫‪.‬ويستفاد من أحاديث ُأخرى تعميم هذا الحكم على الجواري والعبيد‪ ،‬إّل أ ّ‬

‫لربة من الرجال ‪5‬‬


‫)ـ تفسير )أولي ا ِ‬
‫رب" على وزن "عرب" وكما يقول الراغب الصفهاني في"‬ ‫اِلربة" في الصل مشتقة من "َأ َ‬
‫‪.‬مفرداته‪ ،‬شّدة الحاجة التي تدفع بالنسان إلى إيجاد حّل لها‬
‫كما استعملت بمعنى الحاجة بشكل عاّم‪ .‬والقصد هنا من "ُأولي الربة من الرجال" الذين لهم‬
‫ن "غير أولي الربة" هم الرجال الذين ل‬ ‫رغبة جنسية وهم بحاجة إلى زوجة‪ ،‬وعلى هذا‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪.‬رغبة جنسية لديهم أصل‬
‫ولكن من المقصود بذلك؟‬
‫سرين‬‫‪.‬هنالك اختلف بين المف ّ‬
‫ن الذين خمد لديهم دافع الشهوة الجنسية‪) ،‬كالقواعد من النساء‬
‫قال البعض منهم‪ :‬إّنهم كبار الس ّ‬
‫ن كالمتقاعدات في هذا المجال‬
‫‪).‬والنسوة اللتي تجاوزت أعمارهن حّد الزواج وه ّ‬
‫ن المقصود هو الخصي من الرجال‬ ‫‪.‬وقال آخرون‪ :‬إ ّ‬
‫سرين‪ :‬إّنه الرجل الخنثى‪ ،‬أي‪ :‬الذي ل يمتلك آلة الرجولة‬‫‪.‬وقال بعض المف ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬الباب ‪ ،124‬من مقدمات النكاح‪ ،‬الحديث الثامن ‪1‬‬
‫]‪[89‬‬
‫ن الّتفسير الذي يمكن العتماد عليه‪ .‬هو الذي جاء في أحاديث مؤّكدة عن اِلمامين الباقر‬ ‫إّل أ ّ‬
‫ن القصد هنا هو البلة من‬ ‫والصادق)عليهما السلم(‪" :‬هو الحمق الذي ل يأتي النساء" من أ ّ‬
‫س برغبة جنسية أبدًا‪ ،‬ويستفاد منهم في العمال البسيطة وخدمة الفراد‪،‬‬ ‫الرجال الذي ل يح ّ‬
‫‪).‬وعبارة "التابعين" تؤّكد هذا المعنى)‪1‬‬
‫صة من المسنين يصدق على‪.‬‬ ‫وبما أن هذا الوصف ـ أي عدم الشعور بالرغبة الجنسية ـ فئة خا ّ‬
‫فل نستبعد إمكانية توسعة مفهوم الية ليشمل هذه الفئة‪ ،‬وقد روي حديث عن اِلمام الكاظم)عليه‬
‫ن ذلك ل يعني أّنهم يصبحون من المحارم‪ ،‬غاية المر هو عدم وجوب‬ ‫السلم( يؤّكد ذلك‪ ،‬بيد أ ّ‬
‫‪.‬تغطية الرأس أو جزء من اليدين بحضور هذه المجموعة‬

‫ـ أي طفل مستثنى من هذا الحكم؟ ‪6‬‬


‫ن المجموعة الّثانية عشرة ـ أي الطفال الذين لم يبلغوا الحلم ـ مستثنون من حكم الحجاب‬
‫‪.‬ذكرنا أ ّ‬
‫وعبارة "لم يظهروا" تعني أحيانًا "لم يطلعوا" وأحيانًا ُأخرى "لم يعتدوا" لّنها جاءت بهذين‬
‫المعنيين‪ ،‬حيث استعملها القرآن مّرة بهذا المعنى‪ ،‬وُأخرى بالمعنى الّثاني‪ ،‬ومثال ذلك ما جاء في‬
‫‪).‬اليه )‪ (20‬من سورة الكهف )وأن يظهروا عليكم يرجموكم‬
‫‪).‬ونقرأ في الية الّثانية من سورة التوبة )كيف وأن يظهروا عليكم ل يرقبوا فيكم إّل ول ذّمة‬
‫ن هذا الفرق ليس له أثر كبير بالنسبة للية موضع البحث‪ .‬حيث المقصود فيها الطفال الذين‬ ‫إّل أ ّ‬
‫ليس لهم ميول جنسية‪ ،‬بسبب عدم قدرتهم وعدم اطلعهم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ لتوضح أكثر يراجع جواهر الكلم‪ ،‬المجلد ‪ ،29‬صفحة ‪ ،94‬وكذلك الوسائل الباب ‪ ،111‬من ‪1‬‬
‫‪.‬مقدمات النكاح )المجلد ‪ ،14‬ص ‪ (148‬وكذلك التهذيب المجلد السابع‪ ،‬صفحة ‪468‬‬
‫]‪[90‬‬
‫وعلى هذا يجب على النساء المسلمات أن يتحجبن بحضور الطفال الذين بلغوا مرحلة برزت فيها‬
‫‪.‬رغبتهم الجنسية وقدرتهم على ذلك‬

‫ـ لماذا لم يذكر العم والخال ضمن المحارم؟ ‪7‬‬


‫يطرح هذا السؤال بعد دراسة اليات السابقة‪ :‬لماذا لم يذكر العم والخال ضمن المحارم ـ قط ـ وهم‬
‫من المحارم؟‬
‫رّبما كان القرآن قد استهدف البلغة في تعابيره بعدم ذكر أّية كلمة إضافية‪ ،‬فقد دّل استثناء ابن‬
‫ن العّمة والخالة تعتبران من محارم الرجل‪ ،‬ويّتضح بذلك أن العم والخال‬ ‫الخ وابن الخت على أ ّ‬
‫‪.‬لحدى النساء هما من محارمها‬
‫ن الحرمة ذات جانبين‪ ،‬فمن جهة بنات اُلخت وبنات اُلخ من محارم الرجال‪،‬‬ ‫وبعبارة ُأخرى‪ :‬إ ّ‬
‫‪".‬وإّنه من الطبيعي سيكون من الجهة الّثانية العّم والخال من المحارم "فتدّبر‬

‫!ـ تحريم سبل الثارة ‪8‬‬


‫صت على حرمة المشي بقّوة من قبل النساء‬ ‫ن الية السابقة ن ّ‬
‫آخر كلم في هذا المجال هو أ ّ‬
‫‪.‬ليسمعن صوت الخلخال‬
‫صة بعّفة الناس وشرفهم‪،‬‬ ‫وهذا يدل على دّقة الحكام السلمية ومبلغ اهتمامها بالقضايا الخا ّ‬
‫‪.‬بحيث ل يسمح معها بالقيام بمثل هذه العمال‬
‫ومن البداهة أن ل يسمح السلم بإثارة شهوات الشباب‪ ،‬عن طريق نشر الصور الخلعية‪،‬‬
‫ن البيئة السلمية يجب‬‫والفلم المثيرة للشهوات‪ ،‬والقصص والروايات الجنسية‪ ،‬ول ريب في أ ّ‬
‫أن تكون طاهرة سليمة من هذه اُلمور التي تجّر أفرادها إلى مهاوي الفساد وظلماته‪ ،‬وتدفع‬
‫‪.‬بالشباب والشابات نحو النحطاط الخلقي والرذيلة‬
‫***‬
‫]‪[91‬‬

‫اليات‬

‫ضِلهِ َوالُ‬ ‫ل ِمن َف ْ‬ ‫عَباِدُكْم َوِإَمآِئُكْم ِإن َيُكوُنوا ُفَقَرآَء ُيْغِنِهُم ا ُ‬


‫ن ِ‬ ‫ن ِم ْ‬ ‫حي َ‬ ‫صـِل ِ‬‫حوْا اَْلَيـَمى ِمنُكْم َوال ّ‬ ‫َوَأنِك ُ‬
‫ن اْلِكَتـ َ‬
‫ب‬ ‫ن َيْبَتُغو َ‬
‫ضِلِه َواّلِذي َ‬
‫ل ِمن َف ْ‬ ‫حّتى ُيْغِنَيُهُم ا ُ‬‫ن ِنَكاحًا َ‬
‫جُدو َ‬‫ن َلَي ِ‬ ‫ف اّلِذي َ‬ ‫سَتْعِف ِ‬‫عِليٌم )‪َ(32‬وْلَي ْ‬ ‫سٌع َ‬ ‫َو ِ‬
‫ل اّلِذى َءاَتاُكْم َوَل ُتْكِرُهوا‬ ‫خْيرًا َوَءاُتوُهم ّمن ّماِل ا ِ‬ ‫عِلْمُتْم ِفيِهْم َ‬ ‫ن َ‬ ‫ت َأْيَمـُنُكْم َفَكاِتُبوُهْم ِإ ْ‬
‫ِمّما َمَلَك ْ‬
‫ل ِمن َبْعِد‬ ‫نا َ‬ ‫ن َفِإ ّ‬‫ن ُيْكِرِهُه ّ‬‫حَيوِة الّدنَْيا َوَم ْ‬‫ض اْل َ‬
‫عَر َ‬‫صنًا ّلَتْبَتُغوا َ‬‫ح ّ‬ ‫ن َت َ‬ ‫ن َأَرْد َ‬
‫عَلى اْلِبَغآِء ِإ ْ‬ ‫َفَتَيـِتُكْم َ‬
‫ظًة‬‫عَ‬‫خَلْوا ِمن َقْبِلُكْم َوَمْو ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫حيٌم)‪َ (33‬وَلَقْد َأْنَزْلَنآ ِإَلْيُكْم َءاَيـت ّمَبّينَـت َوَمَثل ّم َ‬ ‫غُفوٌر ّر ِ‬ ‫ن َ‬‫ِإْكرِهِه ّ‬
‫ن)‪34‬‬ ‫)ّللُْمّتِقي َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬الترغيب في زواج يسير التكاليف‬
‫طرحت هذه الية ـ منذ بدايتها حتى الن ـ سبل أمينًة متعّددة للحيلولة دون النحطاط الخلقي‬
‫والفساد‪ ،‬فكّل واحد من هذه السبل يرتقي باُلّمة َفردًا وجماعًة‬
‫]‪[92‬‬
‫طهر والستقامة‪ ،‬ويحول دون تقهقرها أو انحدارها في مهاوي الّرذيلة‪ ،‬وقد‬ ‫إلى عالم أرحب من ال ّ‬
‫أشارت اليات ـ موضع البحث ـ إلى أهم طرق مكافحة الفحشاء‪ ،‬أل وهو الزواج اليسير الذي يتّم‬
‫ن إشباع الغرائز بشكل سليم وشرعي خير سبيل لقتلع جذور‬ ‫بعيدًا عن أجواء الرياء والبذخ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬الذنوب‪ ،‬أو بعبارة ُأخرى‪ :‬كل مكافحة سلبية لبّد أن ترافقها مكافحة إبجابية‬
‫‪).‬لهذا تقول بداية الية موضع البحث‪) :‬وانكحوا اليامى منكم والصالحين من عبادكم وإماِئكم‬
‫و"اليامى" جمع "أّيم" على وزن "قّيم" وتعني في الصل المرأة التي ل زوج لها‪ ،‬وكذلك تطلق‬
‫هذه الكلمة على الرجل الذي ل زوجة له‪ ،‬فيدخل في هذا المفهوم كّل من ليس له زوج‪ ،‬سواء كان‬
‫‪.‬بكرًا أم ثّيبا‬
‫ن الزواج يتّم بالتراضي وحرية الختيار الطرفين‪ ،‬فالمراد‬ ‫وعبارة "أنكحوا" أي "زّوجوا" ـ وبما أ ّ‬
‫من هذا المر بالتزويج التمهيد للزواج‪ ،‬عن طريق تقديم العون المالي عند الحاجة‪ ،‬أو العثور‬
‫على زوجة مناسبة‪ ،‬أو التشجيع على الزواج والستفادة من وساطة الشخاص لحّل المشاكل‬
‫‪.‬المستجدة‬
‫ن مفهوم الية واسع‪ ،‬حتى أّنُه ليضم كّل خطوة وحديث في هذا المجال‪ .‬ول اختلف‬ ‫وباختصار‪ :‬إ ّ‬
‫ن أصل التعاون اِلسلمي يوجب تقديم العون من قبل المسلمين بعضهم لبعض‬ ‫‪.‬في أ ّ‬
‫صة‪ .‬وهي أهمّية بالغة المدى‪ ،‬إذ ورد حديث‬ ‫وجاء ذلك هنا بصراحة ليؤّكد أهمّية الزواج الخا ّ‬
‫بصددها عن أمير المؤمنين علي)عليه السلم( قوله‪" :‬أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في‬
‫)نكاح حتى يجمع ال بينهما"‪1).‬‬
‫وجاء في حديث آخر عن المام موسى الكاظم)عليه السلم( قوله‪" :‬ثلثة يستظلون‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ‪ ،14‬صفحة ‪) 27‬الباب ‪ 12‬من أبواب مقدمات النكاح ‪1‬‬
‫]‪[93‬‬
‫بظّل عرش ال يوم القيامة‪ ،‬يوم ل ظّل إّل ظّله‪ ،‬رجل زّوج أخاه المسلم‪ ،‬أو خدمه‪ ،‬أو كتم له‬
‫‪).‬سّرا")‪1‬‬
‫كما جاء في حديث عن الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( قوله في الذي يسعى لزواج‬
‫أخيه المسلم "كان له بكّل خطوة خطاها‪ ،‬أو بكّل كلمة تكلم بها في ذلك عمل سنة قيام ليلها وصيام‬
‫‪).‬نهارها")‪2‬‬
‫ن بعض العذار كالفقر أو عدم وجود وتوّفر المكانات اللزمة قد تقف حائل دون الزواج‪،‬‬ ‫وبما أ ّ‬
‫أو هو عذر للفرار من الزواج وتشكيل اُلسرة‪ .‬يقول القرآن بهذا الصدد‪) :‬إن يكونوا فقراء يغنهم‬
‫‪).‬ال من فضله إن ال واسع عليم‬
‫إنّ قدرة ال واسعة سعة تشمل عالم الوجود كّله‪ ،‬وعلمه واسع يحيط بما خفي وبما ظهر من‬
‫صة الذين يقدمون على الزواج ابتغاء المحافظة على عفتهم وطهارتهم‪،‬‬ ‫المقاصد والفعال‪ ،‬خا ّ‬
‫‪.‬وبهذا يشمل ال الجميع بفضله وكرمه‬
‫‪.‬ولنا في هذا المجال دراسة وتحليل‪ ،‬وسنذكر أحاديث عديدة في نهاية هذا البحث‬
‫ولكن أحيانًا بالرغم من بذل الجميع جهودهم لتهيئة مستلزمات زواج إنسان ما ل يفلحون في‬
‫ن أن إقدامه على‬ ‫ذلك‪ ،‬مّما يضطره إلى مضي فترة من الزمن محرومًا من الزواج‪ ،‬ولكي ل يظ ّ‬
‫الفساد أمرًا مباحًا تقتضيه الضرورة أسرعت الية التالية لتأمره بالطهارة والعّفة فقالت‪:‬‬
‫‪)).‬وليستعفف الذين ل يجدون نكاحًا حتى يغنيهم ال من فضله‬
‫فيجب عليه تجّنب التلوث والفساد في هذه المرحلة المتأّزمة ومواجهة المتحان اِللهي‪ ،‬حيث ل‬
‫‪.‬يقبل أي عذر منه‪ ،‬فلبّد أن يمتحن قّوة إيمانه وشخصيته وتقواه في هذه المرحلة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ‪ ،14‬صفحة ‪) 27‬الباب ‪ 12‬من أبواب مقدمات النكاح ‪1‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫]‪[94‬‬
‫ويهتم السلم كعادته بالعبيد الضعفاء اجتماعيًا من أجل تيسير حريتهم‪ ،‬فيتناول القرآن المجيد‬
‫مسألة المكاتبة )وهي تعهد الغلم بتوقيعه إتفاقًا ينص على القيام بعمل معّين أو دفع مبلغ مقابل‬
‫‪).‬عتقه(‪ ،‬فتقول الية )والذين يبتغون الكتاب مّما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا‬
‫وتقصد عبارة )علمتم فيهم خيرًا( أي قد بلغوا من النمو الجسمي ووجدتم فيهم صلحية لبرام‬
‫‪.‬العقد‪ ،‬وقدرتهم على إنجاز ما تعهدوا به‬
‫ن في ذلك ضررًا‬ ‫أّما إذا لم يتمكنوا من الوفاء بما عاهدوا عليه‪ ،‬فل ينبغي مكاتبتهم وعتقهم‪ ،‬ل ّ‬
‫عليهم وعلى المجتمع‪ ،‬فيجب تأجيل ذلك إلى وقت آخر يؤّهلهم من حيث القدرة والصلحية‪ ،‬ولجل‬
‫أل يقع العبيد في مشاكل ل يتمكنون من حّلها ويعجزون عن تسديد ما بذمتهم‪ ،‬يدعو القرآن الكريم‬
‫‪).‬إلى مساعدتهم فيقول‪) :‬وآتوهم من مال ال الذي آتاكم‬
‫سرين‪ :‬فقال عدد كبير منهم‪ :‬ـ إّنه حصة من الزكاة‪ ،‬مثلما‬ ‫هناك اختلف حول هذا المال بين المف ّ‬
‫‪.‬نصت عليه الية )‪ (60‬من سورة التوبة‪ .‬ليتمكن العبيد من الوفاء بدينهم وانعتاقهم‬
‫وقال آخرون‪ :‬على مالك الغلم أن يَتبرع بقسم من أقساط الّدين‪ ،‬أو يساعده بإعادته إليه‪ ،‬ليتمكن‬
‫‪.‬من الحياة الحّرة‬
‫كما يحتمل أن المقصود هنا منح العبيد في البداية مبلغًا للنفاق‪ ،‬أو جعله رأسمال لهم ليمكنهم من‬
‫ن التفاسير الثلثة‬ ‫صة‪ ،‬ودفع القساط التي بذّمتهم‪ ،‬وطبيعي أ ّ‬ ‫التجارة والعمل وإدارة شؤونهم الخا ّ‬
‫‪.‬هذه غير متناقضة‪ .‬ويمكن للية السابقة أن تستوعبها جميعًا‬
‫والهدف الحقيقي هو أن يشمل المسلمون هذه الطبقة المستضعفة بمساعداتهم لتتحرر بأسرع‬
‫‪.‬وقت ممكن‬
‫وروي عن المام الصادق)عليه السلم( في تفسير هذه الية‪" :‬تضع عنه من نجومه‬
‫]‪[95‬‬
‫‪).‬التي لم تكن تريد أن تنقصه‪ ،‬ول تزيد فوق ما في نفسك")‪1‬‬
‫إشارة إلى مجموعة من الناس كانوا يكاتبون عبيدهم بمبالغ أكبر مّما يعطونهم‪ ،‬ويتظاهرون‬
‫بمساعدتهم‪ .‬وقد نهى المام الصادق)عليه السلم( عن ذلك مبّينا أّنه يجب أن يكون التخفيض‬
‫‪.‬حقيقّيا‬
‫وعّقبت هذه الية بإشارة إلى أحد العمال القبيحة التي كان يمارسها عّباد الدنيا إزاء جواريهم‪:‬‬
‫‪)).‬ول تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنًا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا‬
‫سرين في سبب نزول هذه الية‪ :‬كان عبدال بن ُأبي يملك ست جوار يجبرهن على‬ ‫قال بعض المف ّ‬
‫البغاء‪ ،‬وعندما نزلت آيات قرآنية تنهى عن الفحشاء جئن إلى الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫ن عنده‪ ،‬فنزلت الية أعله ونهت عن ارتكاب هذا الثم)‪2‬‬ ‫‪).‬وعرضن شكواهن على سّيده ّ‬
‫وهذه الية تكشف عن مدى الرذيلة والنحطاط الخلقي الذي كان سائدًا في عهد الجاهليه‪ .‬وقد‬
‫واصل البعض أعماله القبيحة هذه حتى بعد ظهور السلم‪ ،‬حتى نزلت الية السابقة‪ ،‬وأنهت هذه‬
‫‪.‬العمال‬
‫ومع بالغ السف نجد عصرنا الذي سمي بجاهلية القرن العشرين‪ ،‬تمارس البشرية هذا العمل‬
‫بقوه وعلى قدم وساق في بلدان تّدعي المدنية والحضارة والدفاع عن حقوق النسان‪ .‬وكذلك كان‬
‫الوضع في بلدنا على عهد الطاغوت‪ ،‬إذ كان هذا العمل القبيح يمارس ببشاعة ومرارة‪ ،‬وكان‬
‫ن على‬‫ن إلى مراكز الفساد‪ ،‬ويجبره ّ‬‫البعض يخدع البنات البريئات والنساء الجاهلت‪ ،‬ويدفع به ّ‬
‫القيام بأعمال الرذيلة والفساد‪ ،‬ويغلق أبواب النجاة بوجوههنّ ليجني ثروات طائلة وتفصيل الكلم‬
‫‪.‬في ذلك مؤلم وخارج عن عهدة هذا الكتاب‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير نور الثقلين‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬صفحة ‪1 601‬‬
‫‪).‬ـ مجمع البيان في تفسير آخر الية موضع البحث‪ ،‬وتفسير القرطبي )مع بعض الختلف ‪2‬‬
‫]‪[96‬‬
‫ن الجرائم‬
‫ضر وإزالة معالم العبودية القديمة‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫وبالرغم من أن العالم المعاصر يّدعي التح ّ‬
‫حشا من كّل ما حدث في غابر الّيام‪ ،‬ونسأل ال أن يحفظ‬ ‫خلقية تشيع بشكل أكثر تو ّ‬ ‫والمفاسد ال ُ‬
‫اِلنسانية من شّر هؤلء الذين يّدعون التمّدن‪ .‬كما نحمده ونشكره على زوال هذه المعالم من‬
‫‪.‬إيران بعيد انتصار الثورة السلمية‬
‫ن إن رغبن في الفساد فل‬ ‫ن عبارة )إن أردن تحصنًا( ل تعني في مفهومها أنه ّ‬ ‫وجدير بالذكر أ ّ‬
‫مانع من إجبارهن‪ ،‬بل تعني نفي الموضوع بشكل تاّم من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع‪ ،‬ل ّ‬
‫ن‬
‫مسألة الكراه تصدق في حالة عدم الرغبة فيه‪ .‬وإّل فبيع الجسد وإشاعة هذا الفعل بأية صورة‬
‫‪.‬كانت هو من كبائر الذنوب‬
‫ن الجواري‬‫وجاءت هذه العبارة لتثير غيرة مالكي الجواري إن كان لهم أدنى غيرة‪ ،‬ومفهومها أ ّ‬
‫ن من الطبقة الدانية ولكن ل يرغبن في ارتكاب الفاحشة‪ .‬فلماذا ترتكبون هذه العمال‬ ‫مع أنه ّ‬
‫المنحطة على الرغم من تصوركم أّنكم طبقة راقية؟‬
‫وفي الختام ـ على حسب اُلسلوب الذي يتبعه القرآن ـ يفتح طريق التوبة للمذنبين‪ ،‬ويشجعهم‬
‫ن غفور رحيم‬ ‫ن ال من بعد إكراهه ّ‬‫‪).‬على إصلح أنفسهم‪) :‬ومن يكرههن فإ ّ‬
‫لك الجواري الذين غلب‬ ‫ويمكن أن تكون هذه الجملة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى الوضع السائد بين م ّ‬
‫‪.‬عليهم الندم‪ ،‬واستعدوا للتوبة وإصلح أنفسهم‬
‫‪.‬أو تكون هذه الجملة إشارة إلى النسوة اللواتي يرتكبن هذا العمل القبيح بإكراه من قبل أسياده ّ‬
‫ن‬
‫خص الموضوع المطروح خلل‬ ‫وعلى نهج القرآن‪ ،‬نجد آخر اليات ـ موضع البحث ـ تستنتج وتل ّ‬
‫إشارتها إلى البحوث السابقة‪) :‬ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات( وكذلك دروس وعبر من القوام‬
‫‪).‬الماضية تنفعكم في يومكم هذا‪) :‬ومثل من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين‬
‫***‬
‫]‪[97‬‬
‫‪:‬مسائل مهّمة‬
‫سّنة إلهية ‪1‬‬
‫ـ الزواج ُ‬
‫على الرغم من أن الزواج في الوقت الحاضر قد تعقد بما أحاطته العراف الجتماعية من عادات‬
‫خاطئة وخرافية أحيانًا‪ ،‬فأصبح طريقًا صعبًا ل يتمكن الشاب من سلوكه‪ ،‬فإّنه لو اجتزنا هذه‬
‫ن الزواج تعبير فطري منسجم مع قانون الخليقة وضروري لبقاء نسل النسان‪،‬‬ ‫العراقيل لدركنا أ ّ‬
‫وسكن لروحه‪ ،‬وراحة لجسمه‪ ،‬وحل للمشاكل النفسية والجتماعية‪ .‬فالسلم يخطو بانسجام مع‬
‫الخلق‪ ،‬وله تعابير جميلة مؤثرة‪ ،‬ومن جملتها حديث مشهور عن الّرسول العظم)صلى ال عليه‬
‫‪).‬وآله وسلم("تناكحوا وتناسلوا تكثروا‪ .‬فإّني أباهي بكم اُلمم يوم القيامة ولو بالسقط")‪1‬‬
‫ونقرأ حديثًا آخر له)صلى ال عليه وآله وسلم( "من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق ال في‬
‫‪).‬النصف الباقي")‪2‬‬
‫ن الغريزة الجنسية من أقوى وأشرس الغرائز في النسان‪،‬‬ ‫والسبب في كّل هذا الهتمام هو أ ّ‬
‫وتنافس الغرائز اُلخرى بأجمعها‪ ،‬وانحرافها يعّرض دين المرء إلى الخطر‪ ،‬ولذا يعلو صوت‬
‫حديث نبوي آخر‪" :‬شراركم عّزابكم")‪ (3‬لهذا شجعت اليات ـ موضع البحث ـ وأحاديث عديدة‬
‫‪.‬المسلمين على التعاون في تزويج العّزاب‪ ،‬وتقديم ما بوسعهم من مساعدات في هذا السبيل‬
‫وقد حّمل الّدين السلمي الباء مسؤولية كبيرة عن أبنائهم‪ ،‬والباء الذين يتصّرفون دون مبالة‬
‫إزاء هذه القضية‪ ،‬فإّنهم يشاركون في إنحراف أبنائهم‪ .‬كما نقرأ في حديث للرسول العظم)صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم( "من أدرك له ولٌد وعنده ما يزوجه فلم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ سفينة البحار‪ ،‬المجلد الول‪ ،‬صفحة ‪) 561‬مادة الزوج ‪1‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان‪ ،‬في تفسير الية موضع البحث ‪3‬‬
‫]‪[98‬‬
‫‪).‬يزوجه‪ ،‬فأحدث‪ ،‬فالثم بينهما!")‪1‬‬
‫وقد أّكدت تعاليم السلم ـ لهذا السبب أيضًا ـ بالتيسير في نفقات الزواج والمهر‪ ،‬لزالة الحواجز‬
‫ن المهر الغالي يقف حجر عثرة في وجه زواج العّزاب‪ .‬ففي‬ ‫صة إذا علمنا أ ّ‬
‫من طريق الُعّزاب‪ .‬خا ّ‬
‫‪).‬حديث للّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( يقول‪" :‬من شؤم المرأة غلء مهرها")‪2‬‬
‫‪).‬وجاء في حديث آخر أعقب الحديث السابق‪" :‬من شؤمها شّدة مؤونتها")‪3‬‬
‫ن الفقر ل يمكن أن يكون مانعًا للزواج‪ ،‬وقد يغني ال المرء بالزواج‬‫‪.‬وقد صّرحت الية السابقة بأ ّ‬
‫جة أّنهم فقراء‪ ،‬ول يتحملون هذه‬ ‫وبهذا حكمت الية وأدانت الذين يفرون من الزواج بح ّ‬
‫‪.‬المسؤولية اللهية والنسانية‪ ،‬بأعذار واهية‬
‫ن المرء يشعر بعد زواجه بمسؤوليته في الحياة‪ ،‬فيزج قواه‬ ‫والسبب في التأكيد على الزواج‪ ،‬هو أ ّ‬
‫للكسب الحلل‪ .‬بينما نجد العزاب في معظم الحالت مشردين! لعدم شعورهم بالمسؤولية‪.‬‬
‫والمتزوج يكتسب شخصية إجتماعية‪ ،‬حيث يجد نفسه مسؤول عن المحافظة على زوجته‪ ،‬وماء‬
‫وجه ُأسرته‪ ،‬وتأمين حياة سعيدة ومستقبل زاهر لها‪ .‬ويستغّل المتزوج جميع طاقاته للحصول‬
‫على دخل معتبر‪ ،‬فتراه يقتصد في نفقاته ليتغّلب على الفقر بأسرع وقت ممكن‪ ،‬لهذا ذكر المام‬
‫‪).‬الصادق)عليه السلم( "الرزق مع النساء والعيال")‪4‬‬
‫جاء في حديث للرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( حين شكا رجل إليه فقره فأجابه)صلى‬
‫‪).‬ال عليه وآله وسلم(‪" :‬تزّوج"‪ .‬فتزّوج فوسع له)‪5‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان في تفسير الية موضوع البحث ‪1‬‬
‫‪.‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد الخامس عشر‪ ،‬الباب الخامس من أبواب المهور صفحة ‪2 10‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪3‬‬
‫‪.‬ـ تفسير نور الثقلين‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬صفحة ‪4 595‬‬
‫رابع عشر‪ ،‬صفحة ‪ ،25‬الباب ‪" 11‬من أبواب مقدمات النكاح ‪5‬‬ ‫‪".‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ال ّ‬
‫]‪[99‬‬
‫ن المدادات اِللهية والقوى الروحية الخفية تساعد هذا الشخص الذي تزوج ليحفظ‬ ‫ول جدال في أ ّ‬
‫نفسه ويطهرها‪ .‬وعلى كّل مؤمن أن يطمئن لما وعده ال‪ ،‬فقد ذكر رسول ال)صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم( "من ترك التزويج مخافة العيلة فقد ساء ظّنه بال‪ ،‬إن ال عّزوجّل يقول‪) :‬أن يكونوا‬
‫‪).‬فقراء يغنهم ال من فضله()‪1‬‬
‫‪.‬وهناك أحاديث عديدة في هذا المجال‪ ،‬لو تناولناها جميعًا بالبحث لخرجنا عن بحثنا الّتفسيري هذا‬

‫‪).‬ـ المراد من عبارة )والصالحين من عبادكم وإمائكم ‪2‬‬


‫مّما يلفت النظر في اليات موضع البحث أّنها حين التحّدث عن زواج الرجال والنساء اليامي تأمر‬
‫بالتعجيل في الزواج‪ ،‬وعدم وضع العراقيل في وجهه‪ ،‬أّما بالنسبة للعبيد والجوارى‪ ،‬فتطلب توفر‬
‫‪.‬شرط الصلح فيهم للزواج‬
‫سرين )كالكاتب العظيم صاحب تفسير الميزان‪ ،‬وكذلك صاحب تفسير الصافي(‬ ‫وذهب عدد من المف ّ‬
‫‪.‬إلى صلحيتهم للزواج في حين أن هذا الشرط يجب أن يتوفر في النساء والرجال الحرار أيضًا‬
‫ن الصالحين يتمتعون بمكانة‬ ‫وقال البعض الخر‪ :‬إّنه يقصد الصلح من ناحية الخلق والعقيدة‪ ،‬ل ّ‬
‫صة من هذه الجهة‪ ،‬ولكن السؤال يبقى على حاله‬ ‫‪:‬خا ّ‬
‫لماذا لم يرد هذا الشرط في الحرار؟‬
‫ن أكثر العبيد في تلك الفترة في مستوى ثقافي وأخلقي‬‫ويحتمل أن يكون المراد غير هذا‪ :‬ـ إذ أ ّ‬
‫واطيء‪ ،‬فل يشعرون بأّية مسؤولية‪ ،‬ول ُيقدرون المشاعر المشتركة في الحياة‪ .‬فلو تزوجوا‬
‫‪.‬لتركوا زوجاتهم بسهولة‪ ،‬ومن هنا استوجبت الية التأكد من صلحيتهم للزواج‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫رابع عشر‪ ،‬صفحة ‪ ،24‬الباب ‪" 10‬من أبواب مقدمات النكاح ‪1‬‬ ‫‪".‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ال ّ‬
‫]‪[100‬‬
‫ومفهوم هذه الية أن يعّدوا العبيد للزواج أّول بتهذيب أخلقهم وزيادة صلحهم‪ ،‬ليكونوا بمستوى‬
‫‪.‬المسؤولية التي تقع على عاتقهم بعد الزواج‬

‫ـ ما هو عقد المكاتبة؟ ‪3‬‬


‫ن السلم وضع برنامج التحرر التدريجي للعبيد‪ ،‬واستفاد من كل فرصة لعتقهم‪ ،‬فكانت‬ ‫قلنا‪ :‬إ ّ‬
‫صت عليه اليات موضع البحث‬ ‫‪.‬قضية "المكاتبة" حكمًا يجب اتباعه‪ ،‬كما ن ّ‬
‫وتشتق "المكاتبة" من الكتابة‪ ،‬والكتابة في الصل مشتّقة من "كتب" بمعنى "الجمع" أي‪ :‬جمع‬
‫ن العقد بين المولى والعبد يتّم بكتابة مواّد يتفق عليها‪ ،‬فلذلك سّميت‬
‫الحروف والكلمات‪ .‬وبما أ ّ‬
‫"مكاتبة"‪ .‬فعقد المكاتبة نوع من التفاقات يتّم بين المولى وعبده‪ ،‬يلتزم العبد فيه بإعداد مبلغ من‬
‫‪.‬المال من عمل حّر‪ ،‬ليدفع أقساطًا لسّيده‪ ،‬فاذا دفع آخر قسط ينال حريته‬
‫‪.‬وأمر السلم أل تتجاوز هذه القساط ثمن العبد نفسه‬
‫عن دفع القساط المترتبة بذّمته‪ ،‬وجب أن تسّدد هذه القساط من بيت‬ ‫وإذا عجز العبد لسبب ما َ‬
‫ن بعض الفقهاء قال بصراحة‪ :‬إذا تعلقت زكاة بذّمة السّيد‪ ،‬وجب‬ ‫المال أو من الزكاة ليعتق‪ ،‬حّتى أ ّ‬
‫ي طرف من طرفي‬ ‫عليه احتساب هذه القساط منها‪ ،‬وهذا العقد لزم التنفيذ‪ ،‬ول يمكن فسخه من أ ّ‬
‫‪.‬العقد‬
‫ويّتضح بذلك كيف يجعل هذا المشروع عتق العبيد يسيرًا‪ ،‬ليعيشوا أحرارًا مستقلين حتى في فترة‬
‫‪.‬إعداد القساط‪ ،‬كما أن أسيادهم ل يتضررون بذلك‪ ،‬فل يدفعهم هذا إلى إلحاق الذى بعبيدهم‬
‫‪.‬ولعقد المكاتبة أحكام وفروع عديدة مذكورة في الكتب الفقهية في باب المكاتبة‬
‫***‬

‫]‪[101‬‬

‫اليات‬
‫جُة َكَأّنَها‬
‫جا َ‬
‫جة الّز َ‬ ‫جا َ‬‫ح ِفى ُز َ‬ ‫صَبا ُ‬
‫ح الِم ْ‬ ‫صَبا ٌ‬
‫شَكوة ِفيَها ِم ْ‬ ‫ض َمَثُل ُنوِرِه َكِم ْ‬‫ت َواَْلْر ِ‬ ‫سَمـَو ِ‬
‫ل ُنوُر ال ّ‬ ‫ا ُ‬
‫سُه‬
‫س ْ‬ ‫ضىُء َوَلْو َلْم َتْم َ‬ ‫غْربِّية َيَكاُد َزْيُتَها ُي ِ‬‫شْرِقّية َوَل َ‬ ‫جَرة ّمَبـَرَكة َزْيُتوَنة ّل َ‬ ‫شَ‬ ‫ى ُيوَقُد ِمن َ‬ ‫ب ُدّر ّ‬ ‫َكْوَك ٌ‬
‫عِليٌم)‪(35‬‬ ‫ىء َ‬ ‫شْ‬ ‫ل ِبُكّل َ‬ ‫س َوا ُ‬ ‫ل اْلْمَثَل ِللّنا ِ‬‫با ُ‬ ‫ضِر ُ‬ ‫شآُء َوَي ْ‬ ‫ن َي َ‬
‫ل ِلُنوِرِه َم ْ‬‫على ُنور َيْهِدى ا ُ‬ ‫َناٌر ّنوٌر َ‬
‫جاٌل ّل ُتْلِهيِهْم‬ ‫صاِل)‪ِ (36‬ر َ‬ ‫ح َلُه ِفيَها ِبالُغُدّو َواْل َ‬ ‫سّب ُ‬
‫سُمُه ُي َ‬‫ن ُتْرَفَع َوُيْذَكَر ِفيَها ا ْ‬‫ل َأ ْ‬
‫نا ُ‬ ‫ِفى ُبُيوت َأِذ َ‬
‫صـُر)‬‫ب َوالَْْب َ‬ ‫ب ِفيِه الُقُلو ُ‬ ‫ن َيْومًا َتَتَقّل ُ‬
‫خاُفو َ‬‫صَلوِة َوإِيَتآِء الّزَكوِة َي َ‬‫ل َوِإَقاِم ال ّ‬‫عن ِذْكِر ا ِ‬ ‫جـَرٌة َوَل َبْيٌع َ‬ ‫ِت َ‬
‫ساب)‪38‬‬ ‫ح َ‬ ‫شآُء ِبَغْيِر ِ‬ ‫ق َمن َي َ‬ ‫ل َيْرُز ُ‬‫ضِلِه َوا ُ‬
‫عِمُلوا َوَيِزيَدُهم ّمن َف ْ‬ ‫ن َما َ‬ ‫سَ‬ ‫ح َ‬ ‫ل َأ ْ‬
‫جِزَيُهُم ا ُ‬‫)‪ِ (37‬لَي ْ‬
‫الّتفسير‬
‫!آية النور‬
‫سرون والعرفاء السلميون كثيرًا عن مقاصد اليات‬ ‫تحدث الفلسفة والمف ّ‬
‫]‪[102‬‬
‫أعله‪ ،‬وهي ُمرتبطة بما سبقها من اليات الشريفة التي عرضت لقضية العفة ومكافحة الفحشاء‬
‫‪.‬بمختلف السبل‬
‫صة السيطرة على الغرائز الثائرة‪ ،‬ول سّيما الغريزة‬‫ن ضمانة تنفيذ الحكام اللهية‪ ،‬وخا ّ‬ ‫وبما أ ّ‬
‫الجنسية التي هي أقوى الغرائز‪ ،‬ل تتّم دون الستناد إلى اليمان‪ ،‬ومن هنا إمتد البحث إلى اليمان‬
‫ي‪ ،‬فقالت الية أّول‪) :‬ال نور السموات والرض‬ ‫‪).‬وأثره القو ّ‬
‫ن ال نور السموات والرض‪ ...‬النور الذي‬ ‫ما أحلى هذه الجملة! وما أثمنها من كلمات! أجل إ ّ‬
‫‪.‬يغمر كّل شيء ويضيئه‬
‫ن المراد هو‬‫ن كلمة "الّنور" تعني هنا "الهادي"‪ ،‬وذهب البعض الخر أ ّ‬ ‫سرين أ ّ‬
‫ويرى بعض المف ّ‬
‫سرها آخرون بـ "زينة السماوات والرض‬ ‫‪"".‬المنير"‪ .‬وف ّ‬
‫ن مفهوم هذه الية أوسع بكثير مّما ُذكر‪ ،‬فالقرآن المجيد‬‫وكّل هذه المعاني صحيحة‪ ،‬سوى أ ّ‬
‫سرت النور بأشياء عّدة منها‬‫‪:‬والحاديث اِلسلمية ف ّ‬
‫ـ "القرآن المجيد"‪ :‬ـ ذكرت الية )‪ (15‬من سورة المائدة‪) :‬قد جاءكم من ال نور وكتاب مبين( ‪1‬‬
‫‪).‬وجاء في الية )‪ (157‬من سورة العراف )واتبعوا النور الذي أنزل معه ُأولئك هم المفلحون‬
‫ـ "اليمان" ذكرت الية )‪ (257‬من سورة البقرة‪) .‬وال ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات ‪2‬‬
‫‪).‬إلى النور‬
‫ـ "الهداية اللهية" مثلما جاء في الية )‪ (122‬من سورة النعام )أو من كان ميتًا فأحييناه ‪3‬‬
‫!وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها(؟‬
‫ل أن يتّم نوره ولو ‪4‬‬
‫ـ "الدين السلمي" كما نقرأ في الية )‪ (32‬من سورة التوبة‪) :‬ويأبى ال إ ّ‬
‫‪).‬كره الكافرون‬
‫ـ الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( ـ نقرأ عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( في الية ‪5‬‬
‫)‪ (46‬من سورة‬
‫]‪[103‬‬
‫‪).‬الحزاب‪) :‬وداعيًا إلى ال بإذنه وسراجًا منيرًا‬
‫ـ الئمة الطهار‪ :‬كما جاء في الزيارة الجامعة لهم‪" :‬خلقكم ال أنوارًا فجعلكم بعرشه محدّقين"‪6 .‬‬
‫‪".‬وكذلك في نفس هذه الزيارة "وأنتم نور الخيار وهداة البرار‬
‫رف بالنور كما جاء في الحديث المشهور "العلم نور يقدفه ال في ‪7‬‬ ‫عّ‬‫ـ "العلم والمعرفة" حيث ُ‬
‫‪".‬قلب من يشاء‬
‫كلّ هذه من جهة‪ ،‬ومن الجهة اُلخرى علينا التدقيق في خصائص النور وميزانه‪ ،‬ليّتضح أّنه‬
‫‪:‬يمتاز بما يلي‬
‫ل جمال ولطف ‪1‬‬ ‫!ـ النور أجمل وألطف ما في العالم‪ ،‬وهو مصدر لك ّ‬
‫ـ النور أسرع الشياء‪ ،‬كما ثبت لمشهوري العلماء الكبار في العالم‪ ،‬إذ تبلغ سرعته ثلثمائة ‪2‬‬
‫ألف كيلومتر في الّثانية‪ .‬وبإمكانه الدوران حول الكرة الرضية سبع مرات في طرفة عين )أقّل من‬
‫‪).‬ثانية واحدة‬
‫ولهذا السبب تقاس المسافات الهائلة بين النجوم فقط بسرعة الضوء‪ ،‬والوحدة المستعملة في هذا‬
‫المجال هي السنة الضوئية‪ ،‬أي‪ :‬المسافة التي يقطعها الضوء وهو بتلك السرعة الهائلة ـ في سنة‬
‫‪.‬واحدة‬
‫ي شيء‪ ،‬فالنور ظاهر ‪3‬‬ ‫ـ بالنور يمكن مشاهدة الشياء في العالم‪ ،‬ومن دونه يستحيل رؤية أ ّ‬
‫‪.‬بنفسه ومظهر لغيره‬
‫ر‪4‬‬‫ـ إنّ ضوء الشمس ُيعّد من أهم أنواع النور في عالمنا‪ ،‬فهو ينمي الزهار والنباتات وبه تستم ّ‬
‫ي أن يستمّر في الحياة دون أن‬ ‫الحياة‪ ،‬بل هو رمز بقاء المخلوقات الحّية‪ ،‬ول يمكن لموجود ح ّ‬
‫‪.‬يستفيد من نور الشمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة‬
‫ولولها لعاشت ‪5‬‬ ‫ـ ثبت اليوم أن جميع اللوان يمكن مشاهدتها بنور الشمس أو النوار اُلخرى‪َ ،‬‬
‫‪.‬المخلوقات في عتمة قاتمة‬
‫]‪[104‬‬
‫ـ إنّ جميع أنواع الطاقة الموجودة في محيطنا )باستثناء الطاقة النووية( مصدرها الشمس من ‪6‬‬
‫قبيل حركة الرياح‪ ،‬سقوط المطر‪ ،‬وحركة النهر والوسائط فيها والشللت ولو دققنا في حركة‬
‫‪.‬جميع المخلوقات الحية لوجدناها ترتبط بنور الشمس‬
‫مصدر الحرارة وتدفئة الحياء كلها هو الشمس‪ ،‬حتى أن حرارة النار المتولدة من الخشب أو‬
‫ن هذه الشياء ِبحسب‬ ‫الفحم أو الفحم الحجري أو النفط ومشتقاته مصدرها حرارة الشمس‪ .‬ل ّ‬
‫الدراسات العلمية تعود إلى النباتات أو الحيوانات‪ ،‬وهذه بدورها قد استفادت من نور الشمس‬
‫ن حركة المحركات والمكائن أيضًا من بركات‬ ‫وحرارتها‪ ،‬فخزنت الفائض منها في جسمها‪ ،‬لهذا فإ ّ‬
‫‪.‬الشمس‬
‫رة‪ ،‬وبفقدان هذا النور تتبّدل الرض إلى ‪7‬‬ ‫ـ نور الشمس قاتل الميكروبات والمخلوقات المض ّ‬
‫ى كبير قد ابتلي سكانها بأنواع المراض ويصارعون الموت بين لحظة وُأخرى‬ ‫!مستشف ً‬
‫وكلما دققنا في عالم النور الذي يشكل ظاهرة فريدة‪ ،‬يّتضح لنا أثرُه البالغ الهمية وبركاته‬
‫‪.‬العظيمة‬
‫ب العالمين )رغم منزلته العظيمة‬
‫وبملحظة هاتين المقدمتين إذا أردنا تشبيه الذات المقدسة لر ّ‬
‫التي ل نظير لها ول شبيه( فل نجد خيرًا من النور؟! ال الذي خلق كل شيء في عالم الوجود‬
‫ونّوره‪ ،‬فأحيا المخلوقات الحية ببركته‪ ،‬ورزقها من فضل‪ ،‬ولو انقطعت رحمته عنها لحظة‪،‬‬
‫‪.‬لصبح الجميع في ظلمات الفناء والعدم‬
‫ن كل مخلوق يرتبط بال بمقدار معين يكتسب من النور بنفس ذلك المقدار‬ ‫‪:‬ومّما يلفت النظر أ ّ‬
‫‪.‬القرآن نور لّنه كلم ال‬
‫‪.‬والدين السلمي نور لّنه دينه‬
‫]‪[105‬‬
‫‪.‬النبياء أنوار لّنهم رسله‬
‫والئّمة المعصومون)عليهم السلم( أنوار إلهية‪ ،‬لّنهم حفظة دينه بعد الّنبي)صلى ال عليه وآله‬
‫‪).‬وسلم‬
‫‪.‬واليمان نور‪ ،‬لّنه رمز اللتحام به سبحانه وتعالى‬
‫‪ .‬والعلم نور‪ ،‬لّنه السبيل إلى معرفته ـ عّزوجّل ـ‬
‫ل نور السموات والرض‬ ‫‪.‬ولهذا‪ :‬ا ّ‬
‫وإذا استعملنا كلمة "النور" بمعناها الواسِع‪ ،‬أي الظاهر في ذاته والمظهر لغيره في هذه الحالة‬
‫يصبح استعمال كلمة النور الذات ال المقدسة حقيقة ول تشبيه فيها‪ ،‬لّنه ل يوجد أظهر من ال‬
‫ت وجوِده‬ ‫‪.‬تعالى في العالم‪ ،‬وكّل الشياء تظهر من بركا ِ‬
‫وجاء في كتاب التوحيد‪ ،‬عن المام علي بن موسى الرضا)عليه السلم( حين سئل عن معنى قوله‬
‫‪".‬تعالى‪):‬ال نور السموات والرض( قال "هاِد لهل السموات‪ ،‬وهاد لهل الرض‬
‫وهذه في الواقع واحدة من خصائص النور اِللهي‪ ،‬ول يمكن حصره بهذه الخصيصة‪ ،‬ولهذا يمكن‬
‫جمع كّل ما قيل في تفسير هذه الية‪ ،‬وكّل تفسير هوإشارة إلى أحِد َأبعاِد هذا النور الذي ل مثيل‬
‫‪.‬له‬
‫والجديُر بالذكر ما جاء في الفقرة السابعة والربعين من دعاء الجوشن الكبير الذي يحتوي على‬
‫ت ال تعالى‪" :‬يا نور النور‪ ،‬يا منور النور‪ ،‬يا خالق النور‪ ،‬يا مدبر النور‪ ،‬يا مقدر النور‪ ،‬يا‬ ‫صفا ِ‬
‫نور كّل نور‪ ،‬يا نورًا قبل كّل نور‪ ،‬يا نورًا بعد كّل نور‪ ،‬يا نورًا فوق كّل نور‪ ،‬يا نورًا ليس كمثله‬
‫‪.‬نور" وبهذا تأخذ أنوار الوجود نورها من نوره وتنتهي بنوره الطاهر‬
‫وقد أوضح القرآن بعد بيانه الحقائق السالفة ذلك‪ ،‬إْذ ذكر مثال رائعًا دقيقًا لكيفية النور اللهي‪:‬‬
‫)مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة‬
‫سه نار نور على نور يهدي ال‬ ‫مباركة زيتونة ل شرقية ول غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمس ّ‬
‫لنوره من يشاء ويضرب ال‬
‫]‪[106‬‬
‫‪).‬المثال للناس وال بكل شيء عليم‬
‫‪:‬ولشرح هذا المثال يجب اللمام بعدة ُأمور‬
‫وة التي تخصص في الجدار لوضع المصابيح الزيتية فيها لحفظها"‬ ‫المشكاة" في الصل تعني الُك ّ‬
‫من الرياح‪ ،‬وأحيانًا تبنى في الجدار فتحة صغيرة‪ ،‬يغطى جانبها المشرف على ساحة الدار‬
‫بالزجاج‪ ،‬لضاءة داخل وخارج الغرفة كما تحفظ المصباح من الرياح‪ .‬كما تطلق هذه الكلمة على‬
‫وعاء )الفانوس القديم( يصنع من زجاج على شكل متوازي المستطيلت له باب وفتحة في أعله‬
‫‪.‬لخروج الهواء الساخن‪ .‬وكانوا يضعون المصباح فيه‬
‫ن المشكاة محفظة للمصباح من الرياح الشديدة‪ ،‬وغالبًا ما يثبت في الجدار‬ ‫وباختصار نقول‪ :‬إ ّ‬
‫سه‬
‫‪.‬لتركيِز الضوء وسهولة انعكا ِ‬
‫سّميت الصفائح الشفافة بالزجاج لّنها"‬ ‫الزجاجة" تطلق في الساس على الحجار الشّفافة‪ ،‬و َ‬
‫تصنع من مواد معدنية‪ ،‬والزجاجة هنا تعني الزجاجة التي توضع فوق المصباح لتحفظ شعلته‪،‬‬
‫ن الهواء‪ ،‬لتزيد من نور الشعلة‬ ‫ظم جريا َ‬ ‫‪.‬وتن ّ‬
‫‪.‬المصباح" يتألف من وعاء للزيت وفتيل"‬
‫جّهز هذا‬‫عبارة )يوقد من شجرة مباركة زيتونة ل شرقية ول غربية( تشير إلى الطاقة التي ُت َ‬
‫ح بوقود ل ينضب معينه‪ .‬وزيت الزيتون من أجود الوقود المستعمل للمصابيح‪ ،‬ثّم أن هذا‬ ‫المصبا َ‬
‫س من جميِع جوانبه بشكل متساو‪ ،‬ل أن تكون‬ ‫صُل عليه من زيتون شجر يتعّرض للشم ِ‬ ‫ح َ‬
‫الزيت ُي ْ‬
‫ن البستان وبجانب حائط يمنع وصول أشعة الشمس إليها‪ ،‬كما ل‬ ‫الشجره في الجانب الشرقي ِم َ‬
‫تكون في جهة الغرب ليتعرض جانب واحد منها على أشعة الشمس‪ ،‬فل تنضج ثمرتها بصورة‬
‫‪.‬جيدة ول يكون زيتها نقيًا وصافيًا‬
‫ي نحتاج إلى توفر أربعة‬ ‫لستفادة من نور المصباح بإشعاع قو ّ‬ ‫وبعد هذا اليضاح يتبّين أّننا ل ِ‬
‫‪.‬أشياء‬
‫]‪[107‬‬
‫محفظة للمصباح" ل تقلل من نوره‪ ،‬بل تركز هذا النور وتعكسه و "زجاجة" تنظم جريان الهواء"‬
‫حول الشعلة‪ ،‬ويجب أن تكون شّفافة بدرجة ل تمنع تشعشع النور‪ ،‬و"مصباح" هو مصدر النور‪،‬‬
‫‪.‬وهو عبارة عن إناء فيه زيت وفي أعله الفتيل‬
‫لشتعال بدرجة يتصّور فيها اِلنسان إّنها‬ ‫وأخيرًا "مادة الحتراق" صافية خالصة شّفافة مستعدة ل ِ‬
‫سها قبس من النار‬‫‪.‬سوف تشعل لوحدها دون أن يم ّ‬
‫‪.‬كلّ هذه العبارات تكشف في الحقيقة عن ظاهر القضية‬
‫سرين تفاسير عديدة بشأن هذا التشبيه وأّنه ما هو "المشّبه"‬ ‫ومن جهُة ُأخرى أورد كبار المف ّ‬
‫ي نور إلهي يكون‬ ‫‪:‬ومن أ ّ‬
‫قال البعض‪ :‬المقصود هنا نور الهداية التي يجعله ال في قلوب المؤمنين‪ ،‬وبعبارة ُأخرى‪:‬‬
‫‪.‬المقصود اِليمان الذي استقّر في قلوب المؤمنين‬
‫ن المشّبه يعني هنا القرآن الذي ينير قلوب الناس‬ ‫‪.‬وقال آخرون‪ :‬إ ّ‬
‫‪).‬وآخرون‪ :‬إّنه اشارة إلى شخص الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫‪.‬وآخرون‪ :‬إّنه إشارة إلى أدلة التوحيد والعدل اِللهي‬
‫س كّل خير وسعادة‬ ‫‪.‬وآخرون‪ :‬إّنه روح الطاعِة والتقوى التي هي أسا ُ‬
‫ن هذِه التفاسير قد أوردت كّل ما جاء في القرآن والحاديث السلمية بعنوان‬ ‫وفي الحقيقة فإ ّ‬
‫مصاديق للنور‪ ،‬وجوهرها واحد‪ ،‬وهو نور الهداية بذاته‪ ،‬ومصدره القرآن والوحي ووجود‬
‫‪.‬النبياء‪ ،‬وينهل من أدلة التوحيد‪ ،‬ونتيجته التسليم بحكم ال والتمسك بالتقوى‬
‫ن نور اليمان الموجود في قلوب المؤمنين يحتوي على العناصر الربعة المتوفرة‬ ‫وتوضيح ذلك‪ :‬إ ّ‬
‫‪:‬في المصباح المضيء‪ ،‬هي‬
‫‪.‬المصباح" وهو شعلة اليمان في قلب المؤمن يضيء طريق الهداية"‬
‫‪.‬و"الزجاجة" هي قلب المؤمن ينظم اليمان في ذاته ويحفظه من كل سوء‬
‫و"المشكاة" صدر المؤمن‪ ،‬أو بعبارة ُأخرى‪ :‬شخصيته بما فيها وعيه وعلمه‬
‫]‪[108‬‬
‫‪.‬وفكرُه الذي يصون إيمانه من العاصير والخطار‬
‫للهي الذي يكون بمنتهى الصفاء والطهارة وتوقد شعلة"‬
‫شجرة مباركة زيتونة" هي الوحي ا ِ‬
‫إيمان المؤمنين ـ في الحقيقة ـ من نوُر ال الذي ينير السموات والرض وقد أشرق من قلوب‬
‫‪.‬المؤمنين‪ ،‬فأضاَء ُوجوَدهم ونور وجوههم‬
‫‪".‬فتراهم يمزجون الدّلة العقلئية بنور الوحي‪ ،‬فيكون مصداق "نور على نور‬
‫ولهذا ترى القلوب المستعدة لستقباِل النوِر اِللهي تهتدي‪ ،‬وهي المقصودة بعبارة)يهدي ال‬
‫ن المحافظة على النور اِللهي )نور الهداية واِليمان( يستوجب‬ ‫لنوره من يشاء( وعلى هذا فإ ّ‬
‫توفر مجموعة من المعارف والعلوم والوعي والخلق وبناء الذات‪ ،‬من أجل أن تكون كالمشكاة‬
‫‪.‬تحفظ هذا المصباح‬
‫ظُم هذا النور اِللهي كما تنظم الزجاجة شعلة المصباح‬
‫‪.‬كما تحتاج إلى قلب مستعد لين ّ‬
‫وتحتاج إلى مدد من الوحي‪ ،‬ليمنحها طاقة مثلما تمنحها الشجرة التي سّماها القرآن بعبارة‬
‫‪)).‬شجرة مباركة زيتونة‬
‫وتجب المحافظة على نوِر الوحي من التلوث والميول المادية والنحراف إلى الشرق أو الغرب‬
‫‪.‬الذي يؤّدي إلى التفسخ والندثار‬
‫ولتعبيء قوى النسان بشكل سليم بعيدًا عن كّل فكر مستورد وانحراف‪ ،‬لتكون مصداقًا لـ )يكاد‬
‫‪).‬زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار‬
‫صة به‪ ،‬أو رغبًة يساريًة أو‬ ‫سر وعقيدته الخا ّ‬
‫وكّل تفسير يتضّمن حكمًا مسبقًا ويتضّمن ذوق المف ّ‬
‫يمنيًة‪ ،‬أو خرافة يؤدي إلى تلويث سمعة هذه الشجرة المباركة‪ ،‬وُيقلل من تشعشع مصباحها‪.‬‬
‫‪.‬وأحيانًا ُيطفئه‬
‫ل لنوِرِه في هذه الية‪ ،‬وهو الذي أحاط بكّل شيء‬ ‫هذا هو المثال الذي ذكره ا ُ‬
‫]‪[109‬‬
‫‪.‬علمًا‬
‫ومّما سلف يّتضح لنا أن ما ذكرته الّروايات عن الئّمة المعصومين)عليهم السلم(بخصوص‬
‫ي السلم)صلى ال عليه وآله وسلم( والمصباح نور‬ ‫ن المشكاة هي قلب نب ّ‬ ‫تفسير هذه الية أ ّ‬
‫العلم‪ ،‬والزجاجة وصية علي)عليه السلم(‪ ،‬والشجرة المباركة إبراهيم الخليل)عليه السلم( الذي‬
‫ي ميل إلى اليهودية‬‫يرجع نسب بيت النبّوة إليه‪ ،‬وعبارة )ل شرقية ول غربية( تعني نفي أ ّ‬
‫ن هذه الية‬‫والنصرانية فهو وجه آخر لنور الهداية واليمان‪ ،‬ومصداق واضح لها‪ ،‬ول يعني أ ّ‬
‫‪.‬مختصة بهذا المصداق‬
‫ن النور اِللهي هو القرآن‪ ،‬أو الدلة العقلئية‪ ،‬أو‬ ‫سرين من أ ّ‬ ‫ن ما ذهب إليه بعض المف ّ‬ ‫كما أ ّ‬
‫‪.‬الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( بذاته‪ ،‬له جذور مشتركة بالّتفسير أعله‬
‫وقد شاهدنا حتى الن خصائص هذا النور اِللهي‪ ،‬نور الهداية واِليمان من خلل تشبيهه بمصباح‬
‫ي الضاءة‬ ‫‪.‬قو ّ‬
‫ويجب أن نعرف الن أين موضع هذا المصباح‪ ،‬وشكل موضعه؟ ليّتضح لنا ما كان ضروريًا‬
‫ن هذه المشكاة تقع )في بيوت أذن ال أن ترفع(‬ ‫إيضاحه في هذا المجال‪ .‬لهذا تقول الية التالية‪ :‬إ ّ‬
‫لكي تكون في مأمن من الشياطين والعداء والنتهازيين )ويذكر فيها اسمه( ويتلى فيها القرآن‬
‫‪.‬والحقائق اللهية‬
‫سرين هذه الية مرتبطًة كما قلنا بالية التي سبقتها)‪ .(1‬غير أن البعض‬ ‫وقد اعتبر العديد من المف ّ‬
‫ن ذلك بعيد عن الصواب‬ ‫ن هذه الجملة ترتبط بالجملة التي تليها‪ ،‬إّل أ ّ‬ ‫سرين يرى أ ّ‬ ‫‪.‬من المف ّ‬
‫أّما ما أورده البعض وتساءل عن مدى تأثير هذا النور الباهر في البيوت‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ هكذا يكون تقدير الية "هذه المشكاة في بيوت ‪ ...‬أو هذا المصباح في بيوت ‪ ...‬هذه الشجرة ‪1‬‬
‫ن عبارة "في‬ ‫في بيوت ‪ ...‬نورال في بيوت" في الوقت الذي يرى أصحاب الّتفسير الّثاني أ ّ‬
‫بيوت" تعود إلى كلمة "يسّبح" ليكون معنى الية )في بيوت أذن ال أن ترفع ويذكر فيها اسمه‬
‫يسبح له فيها بالغدو والصال( أي في الصباح والمساء‪ .‬إّل أن هذا الّتفسير ل ينسجم مع وجود‬
‫كلمة "فيها" لّنه يعد تكرارًا ل داعي له‪ ،‬إضافة إلى عدم انسجامها مع الحاديث الواردة بهذا‬
‫‪).‬الصدد )فتأملوا جيدًا‬
‫]‪[110‬‬
‫ن البيوت التي ورد ذكرها في هذه الية والتي‬ ‫المذكورة بتلك الخصوصيات‪ ،‬فجوابه واضح‪ ،‬ل ّ‬
‫يحرسها رجال أشداء يقظون‪ ،‬هم الذين يحفظون هذه المصابيح المنيرة‪ ،‬إضافة إلى أن هؤلء‬
‫‪.‬الرجال يبحثون عن مصدِر نور‪ ،‬فيهرعون إليه بعد أن يتعّرفون على موضع هذا النور‬
‫ولكن ماالمقصود من هذه البيوت؟‬
‫الجواب يّتضح بما ذكرته آخر الية من خصائص حيث تقول‪ :‬أّنه في هذه البيوت يسّبح أهلها‬
‫‪).‬صباحًا ومساءًا‪) :‬يسبح له فيها بالغدو والصال()‪1‬‬
‫رجال ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر ال وإقام الصلة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه(‬
‫ت بأمر‬ ‫صَن ْ‬
‫ح ّ‬‫ن هذه البيوت هي المراكز التي ُ‬ ‫ن هذه الخصائص تكشف عن أ ّ‬ ‫القلوب والبصار( إ ّ‬
‫من ال‪ ،‬وأّنها مركز لذكر ال ولبيان حقيقة السلم وتعاليم ال‪ ،‬ويضم هذا المعنى الواسع‬
‫ي)عليه‬ ‫صة بيت الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وبيت عل ّ‬ ‫المساجد وبيوت النبياء والولياء خا ّ‬
‫سرين ـ بالمساجد أو بيوت النبياء وأمثالها‬ ‫‪.‬السلم(‪ .‬ول دليل يؤّيُد حصرها من قبل بعض المف ّ‬
‫ي منها")‪2‬‬ ‫‪).‬وفي الحديث المروي عن المام الباقر)عليه السلم( "هي بيوت النبياء وبيت عل ّ‬
‫وفي حديث آخر حيث سئل الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( لّما قرأ الية‪ ،‬أي بيوت هذه؟ فقال‪:‬‬
‫ي وفاطمة‪ .‬قال‪:‬‬ ‫"بيوت النبياء" فقام أبو بكر فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هذا البيت منها‪ ،‬يعني بيت عل ّ‬
‫‪").‬نعم‪ ،‬من أفاضلها")‪3‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ول ‪1‬‬‫ـ "الغدو" على وزن "علو" بمعنى الصبح‪ ،‬ويقول الراغب الصفهاني‪ :‬الغدوة والغداة من أ ّ‬
‫‪.‬النهار‪ ،‬وقوبل في القرآن بالصال‪ ،‬نحو قوله )بالغدو والصال( وقوبل الغداة بالعش ّ‬
‫ي‬
‫سْل" وهو بدوره جمع للصيل بمعنى العصر‪ ،‬والسبب‬ ‫و"الصال" جمع "الصل" على وزن "ُر ُ‬
‫ن الغدو ذات بعد مصدري ول يجمع‬ ‫في ذكر الغدو مفردة والصال جمعًا؟ يقول فخر الرازي‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬المصدر‬
‫‪.‬ـ تفسير نورالثقلين‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪2 607‬‬
‫‪.‬ـ تفسير مجمع البيان للية موضع البحث ‪3‬‬
‫]‪[111‬‬
‫‪.‬وكل ذلك إشارة إلى مصاديق واضحة تذكرها الحاديث كعادتها حين تفسير القرآن‬
‫ن ُكّل مركز يقاُم بأمر من ال‪ ،‬ويذكر فيه اسمه ويسبح له فيها بالغدو والصال‪ ،‬وفيه رجال‬ ‫أجل‪ ،‬إ ّ‬
‫‪.‬ل تلهيهم تجارة عن ذكر ال‪ ،‬فهي مواضع لمشكاة النوار اللهية واِليمان والهداية‬
‫‪:‬ولهذه البيوت عّدة خصائص‬
‫ت بأمر من ال‬ ‫‪.‬أّولها‪ :‬أّنها شّيد ْ‬
‫‪.‬واُلخرى‪ :‬إن جدرانها ُرفعت وُأحكم بناؤها لتمنع تسلل الشياطين‬
‫‪.‬وثالثها‪ :‬أنها مركز لذكر ال‬
‫سوُنها ليل نهار‪ ،‬وهم يسبحون ال‪ ،‬ول تلهيهم الجواذب الدنيوية عن‬ ‫حر ُ‬ ‫ن فيها رجال َي ْ‬
‫وأخيرًا‪ :‬فإ ّ‬
‫‪.‬ذكر ال‬
‫‪.‬هذه البيوت بهذه الخصائص‪ ،‬مصادر للهداية واِليمان‬
‫ولبّد من التنبيه إلى ورود كلمتين في هذه الية هما "التجارة" و"البيع" وهما كلمتان تبدوان‬
‫ن التجارة عمل مستمر‪ ،‬والبيع ُينجز مرة واحدة‪،‬‬ ‫ن الفرق بينهما هو أ ّ‬
‫ى واحدًا‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫ن لهما معن ً‬ ‫وكأ ّ‬
‫‪.‬وقد تكون عابرة‬
‫ن هؤلء ل يمارسون أبدًا التجارة والبيع بل قالت‪ :‬إّنهم ل‬‫ن الية لم تقل‪ :‬أ ّ‬
‫ت إلى أ ّ‬
‫ويجب اللتفا ُ‬
‫‪.‬تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر ال‬
‫إّنهم يخافون يوم القيامة والعدل اِللهي الذي تتقّلب ِفْيه القلوبُ والبصار من الخوف والوحشة‬
‫ن الفعل المضارع‪" ،‬يخافون" يدّل على الستمرار في الخوف‪ ،‬وهذا الخوف‬ ‫)ويجب النتباه إلى أ ّ‬
‫‪).‬هو الذي دفعهم إلى تحمل مسؤولياتهم‪ ،‬ولبلوغ رسالتهم في الحياة‬
‫ق والحقيقة‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫شاق الح ّ‬‫وأشارت آخر هذه اليات إلى الجزاء الوافي لحراس نور الهداية وع ّ‬
‫‪))،‬ليجزيهم ال أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله‬
‫]‪[112‬‬
‫ن الفضل اللهي لمن كان جديرًا به غير محدود‪) :‬وال يرزق من يشاء بغير‬ ‫ول عجب في ذلك‪ ،‬ل ّ‬
‫‪).‬حساب‬
‫سرين عما تعنيه عبارة )أحسن ما عملوا( في هذه الية‪ ،‬أّنها إشارة إلى جميع‬ ‫وقال بعض المف ّ‬
‫‪.‬العمال الطيبة‪ ،‬سواء كانت واجبة أم مستحبة‪ ،‬صغيرة أم كبيرة‬
‫ن ال يكافيء الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬وأحيانًا بسبعمائة مثلها‪ ،‬حيث‬ ‫ويرى آخرون أّنها إشارة إلى أ ّ‬
‫نقرأ في الية )‪ (160‬من سورة النعام‪) :‬من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها(‪ .‬كما جاء في الية‬
‫)‪ (261‬من سورة البقرة حول جزاء المنفقين في سبيل ال أنّ المكافأة تعادل سبعمائة مرة أو‬
‫‪.‬ضعفها‬
‫ن ال يكافيء جميع أعمالهم بموجب‬ ‫ن المقصود هو أ ّ‬
‫سر العبارة السابقة بأ ّ‬
‫كما يمكن أن تف ّ‬
‫أفضلها‪ ،‬ويشمل ذلك أبسط أعمالهم وأوسطها‪ ،‬حيث يجعلها ال بمستوى أفضل العمال حين‬
‫‪.‬منحه المكافأة‬
‫وليس هذا بعيدًا عن رحمة ال وفضله‪ ،‬والعدالة تقضي بمساواة المكافأة مع العمل في سبيل ال‪،‬‬
‫ت كّل شيء‪ ،‬فهو يهب دون حساب ول حدود‪ ،‬فذاته المقدسة غير محدودة‪،‬‬ ‫ن رحمة ال وسع ْ‬ ‫إّل أ ّ‬
‫‪.‬وأنعمه ل تنتهي‪ ،‬وكرمه عظيم ل حدود له‬
‫***‬

‫ملحظات‬
‫بّينا كثيرًا من مسائل هذه اليات خلل تفسيرنا لها‪ ،‬وبقيت عّدة أحاديث يقتضي المر ذكرها ُبغية‬
‫‪.‬إتمام هذا البحث‬
‫ـ نقرأ في كتاب روضة الكافي حديثًا عن المام الصادق)عليه السلم( في تفسير آية النور‪" :‬إن ‪1‬‬
‫‪،‬المشكاة قلب محمد)صلى ال عليه وآله وسلم( والمصباح النور الذي فيه العلم‬
‫]‪[113‬‬
‫‪).‬والزجاجة قلب علي)عليه السلم( أو نفسه")‪1‬‬
‫ـ وجاء حديث آخر عن المام الباقر)عليه السلم( في توحيد الصدوق "إن المشكاة نور العلم في ‪2‬‬
‫صدر الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( والزجاجة صدر علي ‪ ...‬ونور علي نور إمام مؤيد بنور‬
‫العلم والحكمة في أثر المام من آل محمد)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬وذلك من لدن آدم إلى أن‬
‫تقوم الساعة‪ ،‬فهؤلء الوصياء الذين جعلهم ال عّزوجّل ـ خلفاء في أرضه وحجج على خلقه‪ ،‬ل‬
‫‪).‬تخلو الرض في كّل عصر من واحد منهم")‪2‬‬
‫سر حديث آخر عن المام الصادق)عليه السلم( المشكاة بفاطمة)عليها السلم(والمصباح ‪3‬‬ ‫ـ وف ّ‬
‫)بالحسن)عليه السلم( والزجاجة بالحسين)عليه السلم(‪3).‬‬
‫ن لليات مفهومًا واسعًا‪ ،‬وكّل حديث من هذه الحاديث بيان لمصداق بارز من‬
‫وكما أشرنا سابقًا فإ ّ‬
‫‪.‬مصاديقها دون الخلل بعموميتها‬
‫‪.‬وبهذا ل نجد تناقضًا في الحاديث السابقة‬
‫ـ نقرأ في حديث عن أبي جعفر الثمالي قال‪ :‬قال أبو جعفر)عليه السلم( الباقر لقتادة‪ :‬من أنت؟ ‪4‬‬
‫قال‪ :‬أنا قتادة ابن دعاّمة البصري فقال له أبو جعفر)عليه السلم(‪ :‬أنت فقيه أهل البصرة؟ قال‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فقال له المام الباقر)عليه السلم(‪ :‬ويحك باقتادة إن ال خلق خلقًا من خلقه فجعلهم حججًا‬
‫على خلقه‪ ،‬فهم أوتاد في أرضه قّوام بأمره نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه‪ ،‬أظلة عن يمين‬
‫عرشه قال‪ :‬فسكت قتادة طويل ثّم قال‪ :‬أصلحك ال وال لقد جلست بين يدي الفقهاء وقّدامهم‪ ،‬فما‬
‫‪.‬اضطرب قلبي قّدام واحد منهم ما اضطرب قّدامك‬
‫فقال له المام الباقر)عليه السلم(‪ :‬أتدري أين أنت؟ بين يدى‪) :‬بيوت اذن ال أن ترفع و يذكر‬
‫فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والصال رجال ل تلهيهم تجارة ول بيع عن‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ نور الثقلين في تفسير اليات موضع البحث )مع بعض التلخيص المجلد الثالث‪ ،‬صفحة ‪1 602‬‬
‫‪).‬و ‪603‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪3‬‬
‫]‪[114‬‬
‫‪.‬ذكر ال وأقام الصلة وإيتاء الزكاة( فأنت ثّم ونحن ُأولئك‬
‫)فقال له قتادة‪" :‬صدقت وال جعلني ال فداك وال ما هي بيوت حجارة ول طين‪1)"...‬‬
‫ـ وذكر حديث آخر حول رجال ال حماة الوحي والهداية‪" :‬هم التجار الذين ل تلهيهم تجارة ول ‪5‬‬
‫)بيع عن ذكر ال‪ ،‬إذا دخل مواقيت الصلة أدوا إلى ال حّقه فيها")‪2‬‬
‫ن هؤلء الرجال هّمهم ذكر ال ول يقدمون عليه شيئًا‪ ،‬رغم أّنهم يمارسون نشاطًا‬ ‫إشارة إلى أ ّ‬
‫‪.‬إقتصاديًا في الحياة‬
‫‪.‬ـ وصفت شجرة الزيتون في اليات السابقة بأّنها شجرة مباركة ‪6‬‬
‫ن كبار العلماِء أخبرونا‬‫وكان لهذه الشجرة أهمية بالغة حين نزول القرآن‪ ،‬وقد اّتضح ذلك اليوم‪ ،‬ل ّ‬
‫ع النباتات‪ ،‬وحول شجرة الزيتون يقولون‪ :‬إّنها‬ ‫ص أنوا ِ‬
‫بخلصة تجاربهم ودراساتهم عن خوا ّ‬
‫‪.‬مباركة حّقا‪ ،‬وثمرها مفيد جّدا‪ ،‬ويمنحنا أجود الزيوت‪ ،‬ولها دور حيوي في سلمة الجسم‬
‫ن أجزاء هذه الشجرة مفيدة ومريحة‪ ،‬وحتى رماد خشبها فيه منفعة‪ ،‬وهي أوُل‬ ‫يقول ابن عباس‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬شجرة نبتت بعد طوفان نوح)عليه السلم(‪ ،‬وقد دعا لها النبياء وباركوها‬
‫سرون الكبار عّدة تفاسير لعبارة "نور على نور" فقال المرحوم الطبرسي في مجمع ‪7‬‬ ‫ـ ذكر المف ّ‬
‫ن طريق الهداية‬
‫صُلو َ‬
‫‪.‬البيان‪ :‬إّنها إشارة إلى أنبياء من نسل واحد يتعاقبون على النبوة وُيوا ِ‬
‫ويقول الفخر الرازي في َتفسيرِه‪ :‬إّنها إشارة إلى تجمع شعاع النور وتراكمه‪ ،‬حيث ذكر حول‬
‫‪،‬المؤمن‪" :‬يقف المؤمن بين أربعة مواقف‪ ،‬فإذا وهبُه ال شكره‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق‪1 609 ،‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫]‪[115‬‬
‫وإذا أصابته مصيبة صبر وصمد‪ ،‬وإذا تكلم صدق‪ ،‬وإذا حّكم بين اثنين عدل‪ ،‬وهو إنسان واع بين‬
‫ي بين أموات‪ .‬إّنه يسير بين خمسة أنوار‪ :‬كلمه نور‪ ،‬عمله نور‪ ،‬إقامته نور‪،‬‬
‫جهلة ومثله كح ّ‬
‫‪".‬رحله نور‪ ،‬هدفه نور ال يوم القيامة‬
‫ويمكن أن يكون النور الّول الذي ذكرته الية إشارة إلى نور الهداية اِللهية عن طريق الوحي‪،‬‬
‫‪.‬والنور الّثاني نور الهداية عن طريق العقل‬
‫ن النور الّول هو نور الهداية التشريعة‪ ،‬والنور الّثاني نور الهداية التكوينية فهو نور على‬‫أو أ ّ‬
‫‪.‬نور‬
‫ع النور‪ ،‬ومرة‬‫سرت بالنبياء وُأخرى بأنوا ِ‬
‫سرت هذه العبارة بمختلف مصادر النور‪ ،‬مّرة ُف ّ‬ ‫وبهذا ف ّ‬
‫ن مفهوم الية واسع جداً‬ ‫ثالثة بمراحل النور المختلفة‪ ،‬وهي ممكنة جميعًا في آن واحد‪ ،‬ل ّ‬
‫‪)).‬فتأملوا جيدًا‬
‫***‬

‫]‪[116‬‬

‫اليتان‬

‫جَد الَ‬‫شْيئًا َوَو َ‬


‫جْدُه َ‬ ‫جآَءُه َلْم َي ِ‬
‫حّتى ِإَذا َ‬‫ن َمآًء َ‬ ‫ظمَأ ُ‬‫سُبُه ال ّ‬
‫ح َ‬
‫ب ِبِقيَعِة َي ْ‬
‫سرا ِ‬‫عَمـُلُهْم َك َ‬
‫ن َكَفُروا َأ ْ‬‫َوالِّذي َ‬
‫ن َفْوِقِه َمْو ٌ‬
‫ج‬ ‫ج ّم ْ‬‫شـُه َمْو ٌ‬ ‫ى َيْغ َ‬‫جّ‬‫حر ّل ّ‬
‫ظُلَمـت ِفى بَ ْ‬ ‫ب)‪َ (39‬أْو َك ُ‬ ‫سا ِ‬‫ح َ‬‫سِريُع اْل ِ‬
‫ل َ‬ ‫ساَبُه َوا ُ‬ ‫ح َ‬‫عنَدُه َفَوّفاُه ِ‬‫ِ‬
‫ل َلُه ُنورًا‬‫جَعِل ا ُ‬ ‫ج َيَدُه َلْم يََكْد َيرَيـَها َوَمن ّلْم َي ْ‬
‫خَر َ‬‫ق َبْعض ِإَذآ َأ ْ‬‫ضَها َفْو َ‬‫ت َبْع ُ‬‫ظُلَمـ ٌ‬
‫ب ُ‬ ‫حا ٌ‬ ‫سَ‬
‫ن َفْوِقِه َ‬ ‫ِم ْ‬
‫)َفَما َلُه ِمن ّنور)‪40‬‬

‫الّتفسير‬
‫أعمال سرابية‬
‫تحدثت اليات السابقة عن نور ال‪ ،‬نور اليمان والهداية‪ .‬ولتمام هذا البحث ولتوضيح المقارنة‬
‫ت هذه اليات عاَلم الكفر والجهل واللحاد المظلم‪،‬‬
‫بين الذين نّور ال قلوبهم وبين الخرين تناَوَل ْ‬
‫وتحدثت عن الكفار والمنافقين الذين وجودهم )ظلمات بعضها فوق بعض( خلفًا للمؤمنين الذين‬
‫‪).‬أصبحت حياتهم وأفكارهم )نور على نور‬
‫]‪[117‬‬
‫الكلم في الية اُلولى عن الذين يبحثون عن الماء في صحراَء جاّقة حارقة‪ ،‬ول يجدون غير‬
‫السراب فيموتون عطشًا‪ ،‬في الوقت الذي عثر فيه المؤمنون على نور اِليمان‪ ،‬ومنبع الهداية‬
‫الرائعة‪ ،‬فاستراحوا بجنبها‪ ،‬فتقول أّول‪) :‬والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماًء‬
‫حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا( ولكن يجد ال عند أعماله )ووجد ال عنده فوّفاه حسابه وال سريع‬
‫‪).‬الحساب‬
‫ب" بمعنى الطريق المنحدر‪ ،‬وتطلق كلمة السراب"‬ ‫حْر ْ‬
‫السراب" مشتق من السرب على وزن " َ‬
‫س لشعة‬ ‫على لمعان يشاهد في الصحارى والمنحدرات من بعيد وكأّنه ماء‪ ،‬وما هو إّل إنعكا ٌ‬
‫‪).‬الشمس)‪1‬‬
‫ن "القيعة" جمع "قاعة"‪ ،‬بمعنى الرض الواسعة التي لماء ول نبات فيها‪،‬‬ ‫ويرى البعض أ ّ‬
‫سرين‬ ‫ض المف ّ‬
‫ن َبْع َ‬
‫ويطلق ذلك على الصحاري التي يظهر فيها السراب في معظم الحيان‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫ن هذه الكلمة مفردة‪ ،‬وجمعها "قيعان" أو "قيعات")‪2‬‬ ‫‪).‬واللغويين يرون أ ّ‬
‫ب َأن تكون هذه الكلمة مفردة‪َ ،‬لّنها‬ ‫ج ُ‬
‫ن الَيُة ُتو ِ‬
‫ث المعنى‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن حي ُ‬
‫ورغم عدم وجود الفرق ِم ْ‬
‫‪.‬ذكرت السراب مفردًا والسراب الواحد يكون في أرض واحدة طبعًا‬
‫ي يغشاه موج من‬ ‫ثّم تناولت الية الّثانية مثال آخر لعمال الكفار وقالت‪) :‬أو كظلمات في بحر ّلج ّ‬
‫فوقه من فوقه سحاب( وبهذا المنوال تكون )ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد‬
‫‪).‬يراها‬
‫ن النور الحقيقي في حياة البشر هو نور اِليمان فقط‪ ،‬ومن دونه َتسوُد‬ ‫أجل‪ ،‬إ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ يقول علماء الفيزياء المعاصرون‪ :‬عند إرتفاع درجات الحرارة فالهواء المجاور للرض يتمدد ‪1‬‬
‫‪.‬ويزداد تخلخله فيختلف مع الطبقة المجاورة له‪ ،‬وبذلك تنعكس موجة الضوء ويحدث السراب‬
‫ـ تراجع التفاسير التالية‪ :‬مجمع البيان‪ ،‬روح المعاني‪ ،‬تفسير القرطبي‪ ،‬تفسير الفخر الرازي‪2 ،‬‬
‫‪.‬ومفردات الراغب‬
‫]‪[118‬‬
‫ف من عنِد ال )ومن لم يجعل ال له نورًا فما له من‬ ‫الحياُة الظلمات‪ ،‬ونور اِليمان هذا إّنما هو لط ٌ‬
‫‪).‬نور‬
‫ي" وهو البحر الواسع والعميق‪.‬‬‫جّ‬ ‫ولفهم عمق هذا المثال لبّد من الهتمام بمعنى كلمة "الل ّ‬
‫وبالصل مشتّقة من "اللجاج" بمعنى متابعة عمل ما )التي تطلق عادة على العمال غير‬
‫الصحيحة( ثّم ُأطلقت على تتابع أمواج البحر واستقرارها الواحدة بعد اُلخرى‪ ،‬ولقد استخدمت‬
‫ن البحر كّلما كان عميقًا وواسعًا تزداد أمواجه‬
‫‪.‬هذه الكلمة بهذا المعنى ل ّ‬

‫ع النور‪ ،‬لكّنه ل ينفذ إلّ‬


‫س أْقوى أنوا ِ‬
‫ن نور الشم ِ‬‫وَلوْ تصّورُتم بحرًا هائجًا عميقًا‪ ،‬ومع علمنا أ ّ‬
‫بمقدار ُمعّين في البحر‪ ،‬وآخر حدود نفوذه في العمق ل يتجاوز سبعمائة متر‪ ،‬حيث يسوُد الظلم‬
‫‪.‬الدائم أعماق البحار والمحيطات‬
‫س النوَر بشكل أفضل‪ ،‬بينما تكسر أمواج البحر أشعة الشمس‪،‬‬ ‫ن الماء إذا كان هادئًا يعك ُ‬ ‫كما نعلم َأ ّ‬
‫ق إّل ِبمقداِر أقل‪ .‬وإذا أضفنا إلى ذلك مسألة مرور سحاب داكن‬ ‫ول تسمح لها بالنفوذ إلى الُعم ِ‬
‫عتمة وسوادًا بشكل كبير)‪1‬‬ ‫ن الظلم َيْزداُد ُ‬
‫‪).‬اللون فوق هذا البحر الهائج‪ ،‬فإ ّ‬
‫إن الظلم في عمق البحر من جهة‪ ،‬وظلمة المواج الهائجة من جهة ُأخرى‪ ،‬وظلمة الغيوم‬
‫‪.‬السوداء من جهة ثالثة‪ ،‬ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض‬
‫ي شيء‪ ،‬مهما اقَترب مّنا‪ ،‬حّتى لو وضع النسان الشيء‬ ‫ن رؤية أ ّ‬ ‫وفي مثل هذا الظلم ل يمك ُ‬
‫ب عينيه لما استطاع مشاهدته‬ ‫‪ُ.‬نص َ‬
‫وهكذا حال الكفار الذين حرموا من نور اِليمان فابتلوا بهذه الظلمات‪ ،‬خلفًا للمؤمنين الذين نّور‬
‫‪).‬ال قلوبهم وطريقهم وهم مصداق )نور على نور‬
‫ن هذه الظلمات ثلثة أقسام‪ ،‬قد ابتلي غير المؤمنين‬ ‫سرين‪ :‬إ ّ‬
‫وقال بعض المف ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ يجب النتباه إلى أن "السحاب" يعني كما جاء من "لسان العرب" الغيوم الممطرة‪ ،‬وعادة ‪1‬‬
‫‪.‬تكون السحب المتراكمة أكثر عتمة‬
‫]‪[119‬‬
‫بها‪ ،‬وهي‪ :‬ظلمة العقيدة الباطلة‪ ،‬وظلمة القول الخاطيء‪ ،‬وظلمة السلوك السيء‪ ،‬وبعبارة ُأخرى‪:‬‬
‫ن أعماِل غيرالمؤمنين أساسها الفكري ظلمات‪ .‬وكذلك أقواَلُهم التي هي انعكاس لعقائدهم‪ ،‬ثّم‬ ‫إّ‬
‫‪.‬انسجامها مع افعالهم الظلمانية‬
‫ن هذه الظلمات الثلث عبارة عن مراحل جهل غيِر المؤمنين‪ ،‬وأّولها أّنهم ل‬ ‫وقال آخرون‪ :‬إ ّ‬
‫يعلمون‪ ،‬وثانيُتها أّنهم ل يعلمون بأّنهم ل يعلمون‪ ،‬وثالثتها أّنهم مع كل هذا يتصّورون أّنهم‬
‫‪.‬يعلمون‪ ،‬وبهذا يعيشون في جهل مرّكب َداِمس‬
‫ن أساس المعرفة ـ كما يقول القرآن المجيد ـ في ثلثة أشياء‪ :‬القلب والعين‬ ‫وقال البعض الخر‪ :‬إ ّ‬
‫والذن )وبالطبع يعني بالقلب العقل(‪ .‬كما جاء في الية )‪ (78‬من سورة النحل‪) :‬وال أخرجكم‬
‫من بطون أمهاتكم ل تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والبصار والفئدة()‪ .(1‬ولكن الكفار فقدوا‬
‫‪.‬بكفرهم نور العقل والسمع والبصر‪ ،‬فصاروا في ظلمات متراكمة‬
‫‪.‬ول تناقض بين هذه التفاسير الثلثة‪ ،‬كما هو واضح‪ ،‬إذ يمكن أن تشملهم هذه الية جميعًا‬
‫وعلى كّل حال‪ ،‬فيمكننا أن نصل إلى استنتاج عام من اليتين السابقتين‪ .‬فقد شّبهت الية أعمال‬
‫غيرالمؤمنين بنور كاذب كسراب يراه ظمآن في صحراء جافة‪ ،‬ل يروي هذا السراب العطاشى‬
‫‪.‬أبدًا‪ ،‬وإّنما يزيد في سعيهم للحصول على الماء فيرهقهم دون نتيجة تذكر‬
‫ثّم ينتقل القرآن من الحديث عن هذا النور الكاذب‪ ،‬الذي هو عبارة عن أعمال المنافقين إلى باطن‬
‫س النسان‪ ،‬وتظلم عليه‬ ‫هذه العمال‪ ،‬الباطن المظلم والمخيف والموحش حيث تتعطل فيه حوا ٌ‬
‫‪.‬الدنيا حتى ل يرى نفسه‪ ،‬فكيف يمكه رؤية الخرين‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير الفخر الرازي‪ ،‬للية موضع البحث ‪1‬‬
‫]‪[120‬‬
‫ن المرُء في هذه الظلمات في وحدة مطلقة وجهل دائم‪ ،‬ل يجد طريقه‪ ،‬ول رفيق سفره‪،‬‬ ‫وطبيعي أ ّ‬
‫سب شيئًا من مصدر النور‪ ،‬أي ال سبحانه‬ ‫ول موقف له‪ ،‬ول يملك وسيلة للنجاة‪ ،‬لّنه لم يكت ِ‬
‫‪.‬وتعالى‪ ،‬وقد ختم ال على قلبه بالجهل والضلل‬
‫ن النور مصدر أنواع الجمال والحياة والحركة‪ ،‬عكس الظلم الذي‬ ‫ولعلكم تتذكرون أّننا قلنا‪ :‬أ ّ‬
‫‪.‬يعتبر مصدر القبائح والموت والعدم والسكون والسكوت‬
‫الظلم مصدر الخوف والكراهية‪ ،‬وهو توأم الهّم والغّم‪ ،‬هكذا وضع الذين افتقدوا نور اِليمان‪،‬‬
‫‪.‬وغرقوا في ظلمات الكفر‬
‫***‬
‫]‪[121‬‬

‫اليتان‬

‫سِبيحَُه َوا ُ‬
‫ل‬ ‫لَتُه َوَت ْ‬
‫صَ‬‫عِلَم َ‬
‫صـّفـت ُكّل َقْد َ‬‫طْيُر َ‬
‫ض َوال ّ‬
‫ت َواَْلْر ِ‬
‫سَمـو ِ‬‫ح َلُه َمن ِفى ال ّ‬
‫سّب ُ‬
‫ل ُي َ‬
‫نا َ‬ ‫َأَلْم َتَر أ ّ‬
‫صيُر)‪42‬‬ ‫ل اْلَم ِ‬
‫ض َوِإَلى ا ِ‬
‫ت َواَْلْر ِ‬
‫سَمـو ِ‬
‫ك ال ّ‬
‫ل ُمْل ُ‬
‫ن)‪َ (41‬و ِ‬ ‫)عَِليٌم ِبَما َيْفَعُلو َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬الجميع يسّبح ل‬
‫تحدثت اليات السابقة عن نور ال‪ ،‬نور الهداية واليمان‪ ،‬وعن الظلمات المضاعفة للكفر‬
‫‪.‬والضلل‬
‫ت موضُع البحث‪ ،‬فإّنها تتحّدث عن دلئل النوار اللهية وأسباب الهداية‪ ،‬وتخاطب الية‬ ‫أّما اليا ُ‬
‫الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( فتقول‪) :‬ألم تر أن ال يسبح له من في السموات والرض(‬
‫وكذلك الطير يسّبحن ل في حال أنها باسطات اجنحتهن في السماء )والطير صاّفات كل قد علم‬
‫‪).‬صلته وتسبيحه(‪) .‬وال عليم بما يفعلون‬
‫ن هذا التسبيح العام دليل على خلِقِه تعالى لجميع المخلوقات‪ ،‬وخالقيته دليل على مالكيته‬
‫وبما أ ّ‬
‫ن ُكل ما في الوجود يرجع إليه سبحانه‪ ،‬فتضيف الية )ول ملك‬ ‫للوجود كله‪ ،‬وكذلك دليل على أ ّ‬
‫‪).‬السموات والرض وإلى ال المصير‬
‫]‪[122‬‬
‫كما يحتمل وجود رابطة بين هذه الية وسابقتها‪ ،‬حيث تحّدثت الية اُلولى في آخر جملة لها‪ ،‬عن‬
‫‪.‬علم ال بأعمال البشر جميعًا وعلمه بالمسبحين له‬
‫ن ل ما في السموات والرض‪،‬‬
‫أّما هذه الية فقد أشارت إلى محكمة العدل اِللهي في الخرة‪ ،‬وأ ّ‬
‫‪.‬وهو الحاِكُم والقديُر العاِدل في مصيِر الناس وما في الوجود‬
‫***‬

‫‪:‬مسائل مهمة‬
‫)ـ ماذا تعني عبارة )ألم تر ‪1‬‬
‫سرين‪َ ،‬تعني‪ :‬ألم تعلم‪ ،‬حيث التسبيح العام من قبل جميع المخلوقات‬ ‫حسبما يراها الكثير من المف ّ‬
‫‪.‬في العالم ل يمكن ادراكه بالعين‪ ،‬بل بالقلب والعقل‬
‫جدًا وكأّنها ترى بالعين المجّردة‪ ،‬استخدمت اليُة عبارة )ألم تر‬ ‫ن هذِه القضية واضحًة ِ‬ ‫‪).‬ولكو ِ‬
‫طب في هذه الية الّنبي)صلى ال عليه وآله‬ ‫ن المخا َ‬
‫كما يجب اِلنتباه إلى أّنه على الرغم من كو ِ‬
‫ن ذلك من أساليب القرآن‬ ‫سرين يرى أّنها تشمل الناس جميعًا‪ ،‬ل ّ‬ ‫ن عددًا من المف ّ‬ ‫وسلم( بالذات‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪.‬المجيد اتبعها في كثير من آياته‬
‫ص بالّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( في مرحلة الرؤيا‬ ‫ن هذا الخطاب خا ّ‬ ‫وقال البعض‪ :‬إ ّ‬
‫ل القدرة على مشاهدة تسبيح جميع المخلوقات‪ ،‬وكذلك منح سبحانه‬ ‫والمشاهدة‪ ،‬حيث منحه ا ُ‬
‫سكين ِبُهداه‬
‫ن له المتم ّ‬‫‪.‬وتعالى هذه القدرة لجميع عباده المخلصي َ‬
‫ت عن طريق العقل‪ ،‬وليس‬ ‫ص إدراَكُهم لتسبيح الموجودا ِ‬ ‫أّما بالنسبة لعاّمة الناس‪ ،‬فالمسألة تخ ّ‬
‫‪).‬بالمشاهدِة البصرّيِة)‪1‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير الصافي للية موضع البحث ‪1‬‬
‫]‪[123‬‬
‫ـ التسبيح العاّم لجميع المخلوقات ‪2‬‬
‫تحّدثت اليات المختلفة في القرآن المجيد عن أربع عبادات تمارسها مخلوقات هذا الكون العظيم‪،‬‬
‫هي‪ :‬التسبيح‪ ،‬والحمد‪ ،‬والسجود‪ ،‬والصلة‪ ،‬أّما الية موضع البحث‪ ،‬فقد تناولت الصلة‬
‫‪.‬والتبسيح‬
‫وتحدثت الية الخامسة عشرة من سورة الرعد عن السجود العام‪) :‬ول يسجد من في السموات‬
‫‪).‬والرض‬
‫أّما الية الّرابعة والربعون من سورة اِلسراء‪ ،‬فقد تحدثت عن التسبيح والحمد من قبل جميع‬
‫المخلوقات في الوجود كله )وإن من شيء إّل يسبح بحمده( وقدتناولنا حقيقة الحمد والتسبيح‬
‫العاّمين من قبل المخلوقات والتفاسير المختلفة الواردة بهذا الصدد‪ ،‬في تفسيرنا الية الّرابعة‬
‫‪:‬والربعين من سورة السراء‪ ،‬ونذكر هنا ملخصه‬
‫هناك تفسيران جديران بالهتمام‪ ،‬وهما‪ :‬ـ‬
‫ـ إنّ ذرات هذا العالم كلها ـ عاقلة أو غير عاقلة ـ لها نوع من الدراك والشعور‪ ،‬وهي تسبح في ‪1‬‬
‫‪.‬عاَلِمها ل وتحمده على الرغم ِمن عدم إدراكنا لها‪ .‬ولهذا الّتفسير أِدّلة قرآنية‬
‫ـ إن القصد من التسبيح والحمد هما ما نعبر عنه بعبارة "لسان حاله" أي نظام الوجود ‪2‬‬
‫وأسراره المدهشة الكامنة في كّل مخلوق تتحّدث بصراحة عن عظمة الخالق وعلمه وحكمته التي‬
‫ن لوحة فنية‬ ‫ي بديع يثير الدهشة والعجاب‪ ،‬حّتى أ ّ‬ ‫ل حدود لها‪ ،‬إْذ ُكّل مخلوق جميل‪ ،‬وكّل أثر فن ّ‬
‫وقطعة شعرية جميلة‪ ،‬تحمد وتسّبح ِلمبدعها‪ .‬فمن جهة تكشف عن صفاته )بحمدها له( ومن جهة‬
‫ُأخرى تنفي عنه أي عيب أو نقص )فتسبحه(‪ .‬فكيف وهذا الكون العظيم بما فيه من عجائب‬
‫وغرائب ل تنتهي! )للطلع أكثر على ذلك ُيراجع تفسير الية ‪ 44‬من سورة السراء في تفسيرنا‬
‫‪).‬هذا‬
‫]‪[124‬‬
‫ن عبارة )يسّبح له من في السموات والرض( تعني تسبيح كّل من في السماوات‬ ‫وإذا قُلنا‪ :‬إ ّ‬
‫ص هنا المعنى الّول‪ ،‬فهو تسبيح‬
‫ن التسبيح يخ ّ‬
‫والرض‪ ،‬ونحدد كلمة "من" بذوي العقول‪ ،‬فإ ّ‬
‫بوعي وإرادة ولزم هذا القول أن الطيور أيضًا لها شعور‪ ،‬لنّ كلمة الطيور جاءت بعد حرف‬
‫ن آيات قرآنية ُأخرى قالت بوجود مثل هذا الشعور لدى بعض الطيور‬‫"من"‪ .‬ول عجب في ذلك‪ ،‬ل ّ‬
‫‪)).‬يراجع تفسير الية ‪ 38‬من سورة النعام‬

‫ص بالطيور ‪3‬‬
‫‪:‬ـ التسبيح الخا ّ‬
‫صة في حالة بسط جناحيها في‬ ‫ح الطيور من بين جميع المخلوقات‪ ،‬وخا ّ‬ ‫ما السبب في ذكر تسبي ِ‬
‫السماء؟‬
‫صة تجلب نظر كل عاقل‬ ‫ن الطيور إضافة إلى تنّوعها الكبير‪ ،‬تمتاز بصفات خا ّ‬
‫المسألة تكمن في أ ّ‬
‫إليها‪ ،‬حيث تحّلق هذه الجسام ـ وبعضها ثقيل ـ في السماء خلفًا لقانون الجاذبية‪ ،‬وتطير بسرعة‬
‫من نقطة إلى ُأخرى في الجو‪ ،‬وتركب أمواج الرياح وهي باسطة جناحيها دون أي تعب أو جهد‪.‬‬
‫‪.‬بشكل يثير العجاب‬
‫والمثير فيها هو إدراكها لقضايا النواء الجوية‪ ،‬ومعلوماتها الدقيقة ِلَوضع الرض الجغرافي ـ‬
‫ن بعضها ُيهاجر من القطب الشمالي إلى القطب‬ ‫خلَل سفِرها وهجرتها من قارة إلى ُأخرى‪ ،‬حتى أ ّ‬
‫‪.‬الجنوبي‬
‫شدها إلى الهدف إّيان سفرها الطويل‪ ،‬حتى لو تلّبدت‬
‫فهي تمتلك جهاز توجيه خفي عجيب ير ُ‬
‫‪.‬السماُء بالغيوم‪ .‬وهذه من أكثر اُلمور إثارة للدهشة والعجب‪ ،‬ومن أوضح أدلة التوحيد‬
‫طيور الليل بدورها تملك رادارًا مدهشًا يخبرها حين الطيران في ظلمة الليل عن كّل حاجز أمامها‪،‬‬
‫حتى أن بعضها يرى سمّكة تحت الماء‪ ،‬فيخطفها بسرعة البرق‪ ،‬وهذه ميزة مدهشة في هذه‬
‫!!الطيور‬
‫]‪[125‬‬
‫صها بالذكر‬
‫ن هناك ُأمورًا عجيبة في الطيور جعلت القرآن المجيد يخ ّ‬
‫‪.‬وعلى كل حال فإ ّ‬

‫‪):‬ـ عبارة )كل قد علم صلته وتسبيحه ‪4‬‬


‫سرين ضمير "علم" إلى كلمة "كّل"‪ ،‬وبهذا يصبح معنى العبارة السابقة‪ :‬كّل‬ ‫نسب عدد من المف ّ‬
‫‪.‬من في الرض والسماء‪ ،‬وكذلك الطيور علم صلته وتسبيحه‬
‫ن ال علم صلة وتسبيح كّل‬ ‫ن ضمير )علم( يعود إلى ال تعالى‪ ،‬أي أ ّ‬ ‫سرين‪ :‬إ ّ‬‫وقال بعض المف ّ‬
‫‪.‬منهم‬
‫‪.‬والّتفسير الّول يلئم الية بشكل أفضل‬
‫‪.‬وبهذا الترتيب يعلم كّل مسّبح ل ُأسلوب تسبيحه وطريقته وشروطه وخصائص صلته‬
‫فإذا كان التسبيح بوعي من هذه الكائنات يّتضح جيدًا مفهوُم هذا الكلم‪ ،‬أّما إذا كان بلسان حالها‬
‫ص ُيعّبُر بشكل من الشكال عن عظمة ال‪ ،‬وكّل واحد‬ ‫ن كّل واحد منها له نظام خا ّ‬ ‫فيكون مفهومه أ ّ‬
‫‪.‬منها يعكس قدرة ال وحكمته‬

‫ـ ما المقصود بالصلة؟ ‪5‬‬


‫سرين كالمرحوم "الطبرسي" في مجمع البيان‪ ،‬و"اللوسي" في روح البيان‪ :‬إ ّ‬
‫ن‬ ‫قال بعض المف ّ‬
‫‪.‬الصلة هي الدعاء‬
‫وهذا هو مفهومها اللغوي‪ ،‬وبهذا تمارس جميع المخلوقات في الرض والسماء الدعاء إلى ال‬
‫ن عليها‬
‫بلسان حالها أو مقالها وتسأله الرحمة‪ ،‬لّنه أرحم الراحمين‪ ،‬وأّنه سبحانه وتعالى يم ّ‬
‫ل بحسب قابليته‬‫‪.‬برحمته ُك ً‬
‫‪،‬غاية المر إّنهم جميعًا يعلمون حاجتهم ومطلبهم وما ينبغي أن يدعون‬
‫]‪[126‬‬
‫سّلُموا‬
‫وإضافة إلى ذلك ـ وفق اليات التي أشرنا إليها سابقًا ـ فهم خاضعون لعظمة ال‪ ،‬وقد َ‬
‫بقوانين الخلق‪ ،‬وُيرّددون من العماق الثناء على صفاِتِه الكاملة سبحاَنه وتعالى‪ ،‬ونفي كّل نقص‬
‫جّل اسُمه المَقّدس‬
‫‪.‬عنه َ‬
‫سجود‬
‫‪".‬وبهذا الشكل تتّم العبادات الربع "الحمد" و"التسبيح" و"الدعاء" و"ال ّ‬

‫***‬

‫]‪[127‬‬

‫اليات‬

‫خَلـِلِه َوُيَنزُّل ِمنَ‬


‫ن ِ‬‫ج ِم ْ‬ ‫خُر ُ‬
‫ق َي ْ‬
‫جَعُلُه ُرَكامًا َفَترى اْلَوْد َ‬
‫ف َبْيَنُه ُثّم َي ْ‬
‫حابًا ُثّم ُيَؤّل ُ‬
‫سَ‬
‫جى َ‬ ‫ل ُيْز ِ‬‫نا َ‬ ‫َأَلمْ َتَر َأ ّ‬
‫سَنا َبْرِقِه َيْذَه ُ‬
‫ب‬ ‫شآُء َيَكاُد َ‬‫عن ّمن َي َ‬ ‫صِرُفُه َ‬‫شآُء َوَي ْ‬
‫ب ِبِه َمن َي َ‬ ‫صي ُ‬ ‫جَبال ِفيَها ِمن َبَرد َفُي ِ‬ ‫سَمآِء ِمن ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ق ُكّل َدآّبة ّمن‬ ‫خَل َ‬‫ل َ‬‫صـِر)‪َ (44‬وا ُ‬ ‫ك َلِعْبَرًة ُّلوِلى اْلْب َ‬
‫ن ِفى َذِل َ‬ ‫ل اّلْيَل َوالّنَهاَر ِإ ّ‬‫با ُ‬
‫صـِر)‪ُ (43‬يَقّل ُ‬ ‫ِباَْلْب َ‬
‫خُل ُ‬
‫ق‬ ‫عَلى َأْرَبع َي ْ‬ ‫شى َ‬ ‫جَلْينِ َوِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬ ‫عَلى ِر ْ‬ ‫شى َ‬ ‫طِنِه َوِمْنُهْم ّمن َيْم ِ‬ ‫عَلى َب ْ‬‫شى َ‬‫ّمآء َفِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬
‫ىء َقِديٌر)‪45‬‬ ‫شْ‬ ‫عَلى ُكّل َ‬ ‫ل َ‬
‫نا َ‬ ‫شآُء ِإ ّ‬
‫ل َما َي َ‬ ‫)ا ُ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬جانب آخر من الخلق العجيب‬
‫نواجه ثانية ـ في هذه اليات ـ جانبًا آخر من مسألة الخلق المدهشة‪ ،‬وما احتوته من آيات العلم‬
‫ل الطاهرة‬
‫تا ِ‬‫‪.‬والحكمه والعظمة‪ ،‬وكّل ذلك من أدّلة توحيد ذا ِ‬
‫ي)صلى ال عليه وآله وسلم( ثانية ويقول)ألم تر أن ال يزجي سحابًا‬ ‫ن المجيد النب ّ‬
‫ب القرآ ُ‬
‫ط ُ‬
‫يخا ِ‬
‫]‪[128‬‬
‫ثّم يؤلف بينه ثّم يجعله ركامًا( وبعد أن تتراكم السحب ترى قطرات المطر تخرج من بين السحاب‬
‫‪).‬وتهبط على الجبال والسهول والصحاري )فترى الودق يخرج من خلله‬
‫وكلمة "يزجي" مشتّقة من "الزجاء"‪ ،‬أي سوقه بُأسلوب لين لترتيب المخلوقات المتبعثرة هنا‬
‫‪.‬وهناك بقصد جمعها‬
‫وهذا التعبير يصدق بالنسبة للسحب‪ ،‬حيث ترتفع كّل قطعة منه من جانب من البحر‪ .‬ثّم تسوقها يد‬
‫‪.‬القدرة اللهية‪ .‬وتجمعها‪ ،‬فتراكم بعضها على بعض‬
‫‪.‬وكلمة "ركام" على وزن "غلم"‪ ،‬بمعنى الشياء المتراكمة بعضها فوق بعض‬
‫وأّما "الودق" على وزن "شرق"‪ ،‬فيرى الكثيرون أّنها حّبات المطر‪ ،‬إّل ّأن الراغب الصفهاني‬
‫يرى في مفرداته أّنها ذرات دقيقة من الماء‪ ،‬أي‪ :‬الرذاذ الذي يتناثر في الفضاء حين هطول‬
‫‪.‬المطر‬
‫والمعنى الّول أكثر ملءمة هنا‪ ،‬فما يدّل بشكل أكبر على عظمة ال هو ذرات المطر نفسها وليس‬
‫ن القرآن ُكّلما ذكر السحاب ونزول بركات ال من السماء‪ ،‬أشار فيها إلى‬
‫ُرذاذه‪ ،‬إضافة إلى أ ّ‬
‫المطر‪ .‬فهو الذي يحيي الرض بعد موتها ويبعث الحياة في الشجار والنباتات‪ ،‬ويروي عطش‬
‫‪.‬البشر والحيوان‬
‫وأشار القرآن إلى ظاهرة ُأخرى من ظواهر السماء المدهشة‪ ،‬وهي السحاب‪ ،‬حيث قال‪) :‬وينزل‬
‫من السماء من جبال فيها من برد( أي من جبال السحب في السماء تنزل قطرات المطر على شكل‬
‫ثلج َوَبَرد‪ ،‬فتكون بلء لمن يريد ال عذابه فتصيب هذه الثلوج المزارع والثمار وتتلفها وقد‬
‫تصيب الناس والحيوانات فتؤذيهم )فيصيب به من يشاء( ومن لم يرد تعذيبه دفع عنه هذا البلء‬
‫‪)).‬ويصرفه عمن يشاء‬
‫أجل‪ ،‬إّنه هو الذي ينّزل الغيث المخصب من سحابة تارة ‪ ...‬وهو الذي ُيصّيره بَردًا بأدنى تغيير‬
‫‪.‬بأمره فيصيب به )بالذى( من يشاء‪ ،‬وربما يكون ُمهلكًا أحيانًا‬
‫]‪[129‬‬
‫جَعَل نفع اِلنسان وضرره وموته وحياته متقارنة‪ ،‬بل‬‫وهذا يدّل على منتهى ُقدرته وعظمته ـ إذ َ‬
‫!مزج بعضها ببعض‬
‫وفي نهاية الية يشير إلى ظاهرة أخرى من الظواهر السماوية اّلتي هي من آيات التوحيد فيقول‬
‫‪).‬سبحانه )يكاد سنا برقه يذهب بالبصار‬
‫ب المؤلفة في الحقيقة من ذرات الماء تحمل في طّياتها الشحنات "الكهربائية"‪ ،‬وُتومض‬ ‫سح ُ‬
‫فال ُ‬
‫ك رعدها السمع من صوته‪ ،‬ورّبما اهتزت له جميع‬ ‫صّ‬
‫إيماضًا ُيذهل برقها )العيون( والبصار َوَي ُ‬
‫‪.‬الجواء‬
‫‪!...‬إن هذه الطاقة الهائلة يبن هذا البخار اللطيف لمثيرٌة للدهشة حّقا‬

‫‪:‬رّد على استفسار‬


‫سرون عن‬ ‫السؤال الذي بقي هنا هو‪ :‬ما هذا الجبل الذي في السماء ينزل منه الَبَرد؟ أجاب المف ّ‬
‫‪:‬هذا الستفسار بأجوبة مختلفة‪ ،‬هي‬
‫ن كلمة الجبال هنا كناية‪ ،‬مثلما نقول جبل من غذاء أو جبل من علم‪ .‬وعلى هذا ‪1‬‬ ‫ـ قال البعض‪ :‬إ ّ‬
‫ن هناك َبَردًا متراكمًا كالجبل في قلب السماء أوجد السحاب‪ ،‬وينزل‬‫فإنّ مفهوم الية السابقة‪ ،‬هو أ ّ‬
‫‪.‬قسم منه في المدن‪ ،‬وقسم آخر في الصحراء‪ ،‬ويصيب به من يشاء‬
‫‪.‬ـ وقال آخرون‪ :‬المقصود من الجبال السحب المتراكمة بحيث تشبه الجبل ‪2‬‬
‫ـ وذكر صاحب تفسير "في ظلل القرآن"‪ ،‬بيانًا آخر هو الوفق حسب الظاهر‪ ،‬وهو‪" :‬إن يدال ‪3‬‬
‫تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان‪ ،‬ثّم تؤلف بينه وتجمعه فإذا هو ركام بعضه فوق‬
‫بعض‪ ،‬فإذا ثقل خرج منه الماء والويل الهاطل‪ ،‬وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة‪ ،‬فيها قطع‬
‫البرد الثلجية الصغيرة‪ ،‬ومشهد السحاب كالجبال ل يبدو لنا كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو‬
‫فوق السحب أو‬
‫]‪[130‬‬
‫تسير بينها‪ ،‬فإذا المشهد مشهد جبال حقًا‪ ،‬بضخامتها ومساقطها وارتفاعها وانخفاضها‪ ،‬وإّنه‬
‫‪).‬لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس إّل بعد ما ركبوا الطائرات")‪1‬‬
‫ن قطرات المطر‬‫ن العلماء يرون في كيفية تكون الَبرد في السماء أ ّ‬ ‫ويمكن أن يضاف إلى ذلك أ ّ‬
‫ت ثلجًا‪ ،‬ثّم تدفعها أحيانًا العواصف‬
‫تنفصل من السحاب‪ ،‬وإذا مرت بطبقة باردة من الهواء أصبح ْ‬
‫الموجودة هناك إلى العلى‪ ،‬فتدخل قطع الثلج هذه إلى داخل السحب‪ ،‬ويكتسب بعضها مياهًا جديدة‬
‫‪.‬ثّم تهبط‪ ،‬فتجمد ثانية عند مرورها بطبقة من الهواء البارد جّدا‬
‫ن تقع على الرض بعد‬ ‫وكلما تكرر وقوع هذا العمل َنَمت هذه القطع من الثلج وآزداد وزنها‪ ،‬إلى أ ْ‬
‫ن العصار يهدأ فِيسقط البرد على‬ ‫ن دفِعها إلى اَلعلى مّرة ُأخرى‪ .‬أو أ ّ‬
‫عْ‬‫أن تعجز العاصير َ‬
‫‪.‬الرض‬
‫وبهذا الشرح العلمي يّتضح لنا المراد من كلمة "الجبال" التي وردت في هذه الية‪ ،‬لن تكّون‬
‫الَبَرد بقطع كبيرة وثقيلة ممكن في حال تراكم السحب‪ ،‬حتى يقذف العصار حّبات الَبَرد وسطها‪،‬‬
‫‪.‬لتكسب هذه الحّبات قدرًا أكبر من مياه السحب‬
‫ن الَبرد‪2).‬‬
‫)وذلك ممكن في حالة وجوِد جبال مرتفعة من السحب‪ ،‬لتكون مصدرًا جيدًا لتكو َ‬
‫ض الكّتاب‪ ،‬وخلصته كالتي‪" :‬أشارت‬ ‫ونقرأ هنا تحليل آخر ذكره بع ُ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ تفسير من ظلل القرآن المجلد )‪ 19‬ـ ‪ (20‬صفحة ‪ 109‬ـ ‪ 110‬ـ دار إحياء الكتب العربية ـ ‪1‬‬
‫‪.‬الطبعة اُلولى‬
‫ـ تكرر حرف )من( ثلث مرات في عبارة )وينزل من السماء من جبال فيها من يرد( أولها ‪2‬‬
‫ابتدائية‪ ،‬وثانيتها لها نسبة مع إبتدائية‪ ،‬وأّما الّثالثة فقد اختلف في تفسيرها كما ذكرنا أعله‪ ،‬فهي‬
‫بحسب الّتفسير الّول بيانية‪ ،‬ويكون مفهوم الجملة هو ينزل من السماء من جبال من برد‪ .‬وقد‬
‫حذف مفعول الفعل )ينزل( وهو البرد‪ ،‬ويفهم ذلك من قرينة في الكلم‪ ،‬وعلى حسب التفسيرين‬
‫الّثاني والّثالث اللذين اخترناهما تكون "من" إّما زائدة )حسبما نقله تفسير روح المعاني عن‬
‫‪.‬الخفش( أو هي للتبعيض‬
‫]‪[131‬‬
‫‪.‬اليات موضع البحث بصراحة إلى الجبال الثلج‪ ،‬أي الجبال التي فيها نوع من الثلوج‬
‫ى مرتفع زاد من‬ ‫ن اختراع الطائرات والتمكن من التحليق بها في مستو ً‬ ‫وهذا يثير النتباه كثيرًا‪ ،‬ل ّ‬
‫سحب مستورة ومتكونة من تراكمات ثلجية‪،‬‬ ‫آفاق علم البشر‪ ،‬فقد تمّكن العلماء من الوصول إلى ُ‬
‫‪.‬وحّقا ممكن أن تسمى بجبال الثلج‬
‫ن أحد علماء السوفيت استخدم ـ لعدة مرات ـ اسم "جبال السحب" و"جبال‬ ‫ومّما يثير الدهشة أ ّ‬
‫حب العواصف الثلجية‪ ،‬وبهذا يّتضح لنا وجود جبال من الثلج في‬ ‫سُ‬‫الثلج" خلل شرحه موضوع ُ‬
‫‪.‬السماء‬
‫وأشارت الية التالية إلى إحدى معاجز الخلق ودلئل عظمة ال‪ ،‬وهو خلق الليل والنهار بما فيهما‬
‫‪).‬من خصائص‪ ،‬حيث تقول )يقلب ال الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لولي البصار‬
‫حّل أحدهما‬ ‫ن تقلب الليل والنهار هو أْنه إذا َ‬
‫وذكرت لمعنى "يقّلب" عّدة تفاسير‪ ،‬فقال البعض‪ :‬إ ّ‬
‫حا الخر‬ ‫‪َ.‬م َ‬
‫ط بالفصول‬ ‫ث ذلك بصورة تدريجية وله ارتبا ٌ‬ ‫حُد ُ‬
‫وقال البعض‪ :‬إّنه قصر أحدهما وطوُل الخر‪ ،‬وَي ْ‬
‫‪.‬الربعة‬
‫‪).‬واعتْبر آخرون تقلبات الحّر والبرد‪ ،‬وحوادث ُأخرى تقع في الليل والنهار)‪1‬‬
‫ي تناقض‪ ،‬بل يمكن جمُعها في مفهوم عبارة "يقلب"‪ ،‬ول ريب ـ وَقْد‬ ‫وليس بين هذا التفاسير أ ُ‬
‫ن لتعاقب الليل والنهار والتغييرات التدريجية الحاصلة منه أثر َفّعال في‬ ‫برهن العلم على ذلك ـ أ ّ‬
‫‪.‬استدامة الحياة وبقاء النسان‪ ،‬وفي ذلك عبرة ُلولي البصار‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ الّتفسير الكبير للفخر الرازي‪ ،‬وتفسير مجمع البيان‪ ،‬وتفسير روح المعاني ‪1‬‬
‫]‪[132‬‬
‫وإذا كانت حرارة الشمس على نسق واحد‪ ،‬فإّنها ترفع درجة حرارة الهواء‪ ،‬وتقتل الحياء وتتعب‬
‫ن وقوع الليل بين نهارين يعّدل من أثر الشمس القوي ويلئمه‬‫‪.‬العصاب‪ ،‬لك ّ‬
‫ن التغييرات التدريجية في ساعات الليل والنهار هي السبب في ظهور الفصول الربعة‪،‬‬ ‫كما إ ّ‬
‫وعاِمٌل مؤّثٌر جّدا في نمو النباتات وحياة جميع الحياء وهطول المطر وتكوين المياه الجوقية التي‬
‫ن كنوِز الرض)‪1‬‬ ‫‪).‬هي ِم ْ‬
‫وأشارت آخر اليات ـ موضع البحث ـ إلى أبرز صورة وأوضح دليل على التوحيد‪ ،‬وهي مسألة‬
‫ن أصلها جميعًا من ماء‪ ،‬ومع‬‫الحياة بصورها المختلفة‪ ،‬فقالت‪) :‬وال خلق كل داّبة من ماء( أي أ ّ‬
‫هذا فلها صور مختلفة )فمنهم من يمشي على بطنه( كالزواحف‪) .‬ومنهم من يمشي على رجلين(‬
‫‪.‬كالنسان والطيور )ومنهم من يمشي على أربع( كالدواب‬
‫وليس الخلق محددًا بهِذِه المخلوقات‪ ،‬فالحياة لها صور ُأخرى متعددٌة بشكل كبير‪ ،‬سواَء كانت‬
‫أحياء بحرية أم حشرات بأنواعها المتعددة التي تبلغ آلف النواع‪ ،‬لهذا قالت الية في الختام‬
‫ل ما يشاء إن ال على كل شيء قدير‬ ‫‪)).‬يخلق ا ّ‬
‫***‬

‫بحوث‬
‫ـ ماذا يعني الماء هنا؟ ‪1‬‬
‫وإلى أي نوع من الماء أشارت الية موضع البحث؟‬
‫سرين بهذا الصدد ثلثُة آراء‬ ‫‪:‬للمف ّ‬
‫سرين هذا المعنى‪ ،‬وقد ‪1‬‬
‫ـ يقصد بالماء النطفة‪ ،‬وقد اختار الكثير من المف ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ بحثنا في هذا المجال في الّتفسير المثل عند تفسير الية )‪ (6‬من سورة يونس ‪1‬‬
‫]‪[133‬‬
‫‪.‬أشارت إليه بعض الحاديث‬
‫ن الحياء جميعًا لم تخلق من ماء النطفة‪ ،‬فمنها أحياء‬ ‫وهناك مشكلة تواجه هذا الّتفسير‪ ،‬إْذ أ ّ‬
‫مجهرية ذات خّلية واحدة‪ ،‬وُأخرى تخلق من انقسام الخليا وليس من النطفة إّل أن يقال بالنسبة‬
‫ن المراد هو الجانب النوعي وليس عامًا‬ ‫‪.‬للحكم أعله‪ :‬إ ّ‬
‫ول ‪2‬‬
‫نأّ‬‫ن المقصود هنا ظهور أّول مخلوق‪ ،‬فقد ذكرت بعض الحاديث أ ّ‬ ‫ـ والّتفسير الّثاني يقول‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬ما خلق ال الماء‪ ،‬ثّم خلق النسان من الماء‬
‫ن أّول عنصر حي ظهر في البحار‪ .‬وهذه ظاهرة‬ ‫وينسجم هذا مع النظريات الجديدة القائلة‪ :‬إ ّ‬
‫ي بجميع‬‫ن القدرة التي خلقت هذا الموجود الح ّ‬ ‫ق البحار وسواحلها‪) .‬وطبيعي فإ ّ‬ ‫سادت أعما َ‬
‫‪).‬تعقيداته ورعته في المراحل البعدية‪ ،‬هي قدرة أسمى من الطبيعة‪ ،‬أي إرادة ال تعالى‬
‫س تكوينها‪ ،‬وأكبر نسبة من ‪3‬‬ ‫ن الماَء يشّكل حاليًا أسا َ‬‫ن الماِء‪ ،‬هو أ ّ‬‫ق الحياِء ِم َ‬
‫ـ آخر تفسير لخل ِ‬
‫‪.‬بنائها‪ ،‬ول يمكن للحياء أن تواصل حياتها دون الماء‬
‫ن الّتفسيرين الّول والّثاني أقرب إلى الصواب‬ ‫وطبيعي أن ل نجد تناقضًا بين هذه التفاسير‪ ،‬لك ّ‬
‫‪).‬على ما يبدو)‪1‬‬

‫ـ جواب على استفسار ‪2‬‬


‫ن الحيوانات ل تحدد بهذه النواع الثلثة )الزواحف وثنائية الرجل‬ ‫يطرح هنا سؤال يقول‪ :‬إ ّ‬
‫ن هناك دواّبا لها أكثر من أربع أرجل؟‬‫وُرباعيتها( إذ أ ّ‬
‫)والجواب عنه يكمن في الية ذاتها‪ ،‬أي في قوِله تعالى )يخلق ال ما يشاء‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ل أننا ذكرنا عدم ثبوت ‪1‬‬
‫ـ استند البعض عن دعاة نظرية التطور إلى هذه اليه لثبات نظريتهم‪ ،‬إ ّ‬
‫هذه النظرية في تفسيرنا للية )‪ (26‬من سورة الحجر‪ .‬والجدير باِلهتمام هو أّنه يجب أن ل‬
‫نطبق اليات مع النظريات‪ .‬فاليات القرآنية تحكي عن حقائق ل تتغير‪ ،‬أّما النظريات العلمية‬
‫‪.‬فتتغير‬
‫]‪[134‬‬
‫ت كاّفة‪ ،‬مضافًا إلى أن أهم الحيوانات التي يستخدمها النسان‪ ،‬هي هذه‬ ‫فهي تتناول الحيوانا ِ‬
‫‪.‬النواع الثلثة‬
‫جل‪ ،‬تعتمد على أربع منها‪ ،‬والباقي منها‬
‫ن الحياء التي لها أكثر من أربع أْر ُ‬‫ويرى البعض أ ّ‬
‫‪).‬سواعد مساعدة لها)‪2)(1‬‬

‫‪:‬ـ صور الحياة المختلفة ‪3‬‬


‫ك رموزه‬
‫ن الحياة تعتبر أعجب ظاهرة في العالم‪ ،‬ذلك السّر الذي لم يقدر العلماء على ف ّ‬ ‫ل شك أ ّ‬
‫حَد يعلم كيف حدثت‬ ‫ن الحياء خلقت من ماّدة ل حياة فيها‪ ،‬إّل أّنه ل َأ َ‬ ‫حّتى الن‪ ،‬فالجميع يقول‪ :‬إ ّ‬
‫ي مختبر تبّدَل موجود عديم الحياة إلى آخر حي‪ ،‬على‬ ‫ي ظرف‪ ،‬إْذ لم يشهد أ ّ‬ ‫هذه الطفرة وفي أ ّ‬
‫الرغم من انشغال اللف من العلماء طوال سنين عديدة في التفكير بذلك‪ ،‬وإجراء تجارب ُمختبرية‬
‫‪.‬يخطئها الحصر‬
‫ن العلم البشري‬‫وهناك خيال من بعيد يتراءى للعلماء في هذا المجال‪ ،‬ولكّنه مجّرد خيال وشبح‪ ،‬فا ّ‬
‫‪.‬عاجز عن كشف أسرار الحياة َمع تقّدمه الهائل‪ ،‬وذلك لتعقد هذه السرار بدرجة كبيرة‬
‫ي‪ .‬ولكن المؤّكد‬
‫ي من غير ح ّ‬ ‫يحّ‬ ‫وفي الظروف السائدة توّلد الحياء من أحياء أخرى‪ ،‬ول يولد أ ّ‬
‫ن الحياُة تملك تاريخًا لظهورها‬ ‫‪.‬أن هذا الحال لم يكن كذلك في الماضي البعيد‪ .‬أو بعبارة ُأخرى‪ :‬أ ّ‬
‫ولكن كيف وتحت أية شروط؟‬
‫إنّ ذلك لغز لم تتضح حقيقته بعُد‪ ،‬والعجب من ذلك تنوع الحياِة في هذه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير القرطبي‪ ،‬وتفسير الفخر الرازي للية موضع البحث ‪1‬‬
‫ن الضمير "هم" في "منهم" رغم أّنه للجمع ‪2‬‬ ‫ـ لبّد من الهتمام بهذه المسألة لغويًا‪ ،‬وهي أ ّ‬
‫العاقل‪ ،‬فقد استخدمتها الية لغير العاقل أيضًا‪ .‬وكذلك حرف "من" وذلك بسبب استخدام هذه‬
‫‪.‬الكلمات أحيانًا لغير العاقل أيضًا‬
‫]‪[135‬‬
‫الصور الكاملة‪ ،‬تبدأ من الحياء المجهرية وحيدة الخلية حتى تصل إلى الحيتان العظيمة التي‬
‫‪.‬يتجاوز طوُل الواحدة منها الثلثين مترًا‪ ،‬وتبدو إحداها كأّنها جبل من لحم طائف في المحيط‬
‫ص به‬
‫ومن مئات اللف من الحشرات المختلفة إلى الف من الطيور الجميلة‪ ،‬كّل له عالمه الخا ّ‬
‫‪.‬وأسراُرُه الذاتية‬
‫وتشغل كتب علم الحيوان اليوم حّيزا كبيرًا من مكتبات العالم‪ ،‬ويستعرض مؤلفوها جوانب من‬
‫صة الحياء البحرية‬
‫‪.‬أسرار هذه الحياء‪ ،‬خا ّ‬
‫والبحر دومًا تكمن فيه السرار التي ما تزاُل معلوماُتنا قاصرة عن استكناهها‪ ،‬على الرغم من‬
‫عمِقه‪ ،‬حّقا ال اكبر‪ ،‬خلق كّل هذه الحياء‪ ،‬ومنحها ما تحتاج إليه‪ ،‬فما‬
‫يوُ‬ ‫سعة تطّورنا العلم ّ‬‫ِ‬
‫!أعظم قدرته وعلمه‬
‫سبحانه! كيف وضع كّل واحد منها في ظروف مناسبة له‪ ،‬ووّفر غذاءه وما يحتاج إليه‪ ،‬والعجب‬
‫ت‪ ،‬من ماء وقليل من تراب‬‫‪.‬من ذلك خلقه سبحانه وتعالى جميع هذه الكائنا ِ‬
‫***‬

‫]‪[136‬‬
‫اليات‬

‫ن َءاَمّنا ِبالِ‬ ‫سَتِقيم)‪َ (46‬وَيُقوُلو َ‬ ‫صرط ّم ْ‬ ‫شآُء ِإَلى ِ‬ ‫ل َيْهِدى َمن َي َ‬ ‫ّلَقْد َأنَزْلَنآ َءاَيـت ّمَبّيَنـت َوا ُ‬
‫عوْا إَِلى ا ِ‬
‫ل‬ ‫ن)‪َ (47‬وإَذا ُد ُ‬ ‫ك َوَمآ ُأوَلِئكَ ِباْلُمْؤِمِني َ‬
‫ق ّمْنُهْم ّمن َبْعِد َذِل َ‬‫طْعَنا ُثّم َيَتَوّلى َفِري ٌ‬ ‫سوِل َوَأ َ‬ ‫َوِبالّر ُ‬
‫ن)‪َ (49‬أ‬ ‫عِني َ‬
‫ق َيْأُتوا ِإَلْيِه ُمْذ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ن )‪َ(48‬وِإن َيُكن ّلُهُم اْل َ‬ ‫ضو َ‬ ‫ق ّمْنُهْم ّمْعِر ُ‬‫حُكَم َبْيَنُهْم ِإَذا َفِري ٌ‬‫سوِلِه ِلَي ْ‬
‫َورَ ُ‬
‫ن)‪50‬‬‫ظـِلُمو َ‬ ‫ك ُهُم ال ّ‬ ‫سوُلُه َبْل ُأوَلِئ َ‬ ‫عَلْيِهْم َوَر ُ‬‫ل َ‬ ‫فا ُ‬‫حي َ‬ ‫ن َأن َي ِ‬ ‫خاُفو َ‬‫ض َأِم اْرَتاُبوا َأْم َي َ‬
‫)ِفى ُقُلوِبِهم ّمَر ٌ‬

‫سبب الّنزول‬
‫سرون سببين لنزول بعض هذه اليات‬ ‫‪:‬ذكر المف ّ‬
‫قيل نزلت اليات في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة‪ ،‬فدعاه اليهودي‬
‫إلى رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( ودعاه المنافق إلى كعب بن الشراف )اليهودي( )حّتى‬
‫ن المنافق قال صراحة‪ :‬يحتمل أن ل يعدل محمدًا فينا‬
‫ن بعض الّروايات ذكرت أ ّ‬ ‫‪):‬أ ّ‬
‫]‪[137‬‬
‫وحكي أّنه كان بين علي)عليه السلم( وعثمان )وحسب رواية بين علي)عليه السلم( والمغيرة‬
‫بن وائل( منازعة في أرض اشتراها من علي)عليه السلم( فخرجت فيها أحجار‪ ،‬وأراد رّدها‬
‫بالعيب‪ ،‬فلم يأخذها فقال‪ :‬بيني وبينك رسوُل ال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ .‬فقال الحكم بن أبي‬
‫العاص )وهو من المنافقين(‪ :‬إن حاكمته إلى ابن عّمه يحكم له‪ ،‬فل تحاكمه إليه‪ ،‬فنزلت اليات‬
‫‪).‬واستنكرت عليه ذلك بشّدة‪ ،‬وهو المروي عن أبي جعفر الباقر)عليه السلم(أو قريب منه)‪1‬‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬اليمان وقبول حكم ال‬
‫تحدثت اليات السابقة عن اليمان بال وعن دلئل توحيده وعلئمه في عالم التكوين‪ ،‬بينما‬
‫تناولت اليات ـ موضع البحث ـ أَثَر اليمان وانعكاس التوحيد في حياة النسان‪ ،‬وإذعانه للح ّ‬
‫ق‬
‫‪.‬والحقيقة‬
‫تقول أّول‪) :‬لقد أنزلنا آيات مبينات( آيات تنور القلوب بنور اليمان والتوحيد‪ ،‬وتزيد في فكر‬
‫ن هذه اليات المبينات‬ ‫النسان نورًا وبهجة‪ ،‬وتبّدل ظلمات حياته إلى نور على نور‪ .‬وطبيعي أ ّ‬
‫ن الهداية اِللهية هي صاحبُة الدور الساسي )وال يهدي من يشاء إلى صراط‬ ‫ليمان‪ ،‬إّل أ ّ‬ ‫ُتمهد ل ِ‬
‫‪).‬مستقيم‬
‫ن إرادة ال ومشيئته ليست دون حساب‪ ،‬فهو سبحانه وتعالى يدخل نور الهداية إلى‬ ‫وكما نعلم فإ ّ‬
‫القلوب المستعدة لتقبله‪ ،‬أي التي أبدت المجاهدة في سبيل ال وقطعت خطوات للتقرب إليه‪،‬‬
‫سْعِيها في الوصول إلى لطفه سبحانه‬
‫‪.‬فأعانها على َقدِر َ‬
‫ثّم استنكرت الية الّثانية وذّمت مجموعة من المنافقين الذين يّدعون‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "مجمع البيان" وتفسير "روح المعاني" وتفسير "التبيان" وتفسير "القرطبي" وتفسير ‪1‬‬
‫‪").‬الفخر الرازي" وتفسير "الصافي" وتفسير "نورالثقلين" )مع بعض التصرف‬
‫]‪[138‬‬
‫اليمان في الوقت الذي خلت فيه قلوُبُهم من نور ال‪ ،‬فتقول الية عن هذه المجموعة )ويقولون‬
‫‪).‬آمنا بال وبالّرسول وأطعنا ثّم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما ُأولئك بالمؤمنين‬
‫ما هذا اليمان الذي ل يتجاوز حدود ألسنتهم‪ ،‬ول أثر له في أعمالهم؟‬
‫ثّم تذكر الية التي بعدها دليل واضحًا على عدم إيمانهم )وإذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم‬
‫‪).‬إذا فريق منهم معرضون‬
‫ولتأكيد عبادة هذه المجموعة للدنيا وفضح شركهم‪ُ ،‬تضيف الية )وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه‬
‫‪.‬مذعنين( وبكامل التسليم والخضوع‬
‫والجدير بالذكر أن العبارة اُلولى تحدثت عن الدعوة إلى ال ورسوله)صلى ال عليه وآله وسلم(‪.‬‬
‫وأّما العبارة التالية أي كلمة "ليحكم" فإّنها جاءت مفردة‪ ،‬وهي تشير إلى تحكيم الّرسول)صلى ال‬
‫ن تحكيم الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ليس منفصل عن‬ ‫عليه وآله وسلم( لوحده; وذلك ل ّ‬
‫ن كل الحكمين في الحقيقة واحد‬
‫‪.‬تحكيم ال تعالى‪ ،‬حيث أ ّ‬

‫ن ضمير الهاء المتصّلة في "إليه" يعود إلى الّنبي)صلى ال عليه وآله‬ ‫كما يجب النتباه إلى أ ّ‬
‫وسلم(نفسه‪ ،‬أو إلى تحكيمه‪ .‬وكذلك لبّد من اللتفات إلى أن الية نسبت التخُلف عن هذا الحكم‬
‫والعراض عن تحكيم الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( إلى مجموعة من المنافقين فقط‪ .‬ولعل‬
‫ن للنفاق مراتب أيضًا‬ ‫ذلك لن الفئات اُلخرى لم تكن بهذه الدرجة من الجرأة وعدم الحياء‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬كمراتب اليمان المختلفة‬
‫وبّينت الية الخيرة في ثلث جمل‪ ،‬الجذور الساسية ودوافع عدم التسليم إزاَء تحكيم‬
‫‪).‬الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( فقالت أّول )أفي قلوبهم مرض‬
‫هذه صفة من صفات المنافقين يتظاهرون باليمان‪ ،‬ولكّنهم ل ُيسّلمون بحكم ال ورسوله‪ ،‬ول‬
‫يستجيبون له‪ ،‬إّما بسبب انحرافهم قلبيًا عن التوحيد أو الشك والتردد )أم ارتابوا( وطبيعي أ ّ‬
‫ن‬
‫‪.‬الذي يترّدد في عقيدته‪ ،‬لن يستسلم لها أبدًا‬
‫وثالثها فيما لو لم يلحدوا ولم يشكوا‪ ،‬أي كانوا من المؤمنين‪) :‬أم يخافون أن‬
‫]‪[139‬‬
‫‪).‬يحيف ال عليهم ورسوله‬
‫في الوقت الذي يعتبر هذا تناقضًا صريحًا‪ ،‬إذ كيف للذي يؤمن برسالة محمد)صلى ال عليه وآله‬
‫سب الظلم إلى الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم(؟‬ ‫!وسلم( ويعتبر حكمه حكم ال تعالى أن َيْن ِ‬
‫وهل يمكن أن يظلم ال أحدًا؟‬
‫أليس الظلم وليد الجهل أو الحاجة أو الكبر؟‬
‫ن ال تعالى مقّدس عن كّل هذه الصفات )بل ُأولئك هم الظالمون( إّنهم ل يقتنعون بحّقهم‪ ،‬وهم‬ ‫إّ‬
‫ق أحد‪ ،‬ولهذا ل يستسلمون‬ ‫ن الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( ل يجحف بح ِ‬ ‫يعلمون أ ّ‬
‫‪.‬لحكمه‬
‫سر "في ظلل القرآن"‪ :‬في الية‪) :‬أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف‬ ‫ويرى مف ّ‬
‫لثبات‪ ،‬أي لثبات وجود مرض النفاق في قلوبهم فمرض‬ ‫ن السؤال الّول ل ِ‬ ‫ال عليهم ورسوله؟( أ ّ‬
‫‪.‬القلب جدير بأن ينشىء مثل هذا الثر‬
‫والسؤال الّثاني للتعجب‪ ،‬فهل هم يشّكون في حكم ال وهم يزعمون اليمان؟ هل هم يشّكون في‬
‫مجيئه من عند ال؟ أو هم يشّكون في صلحيته لقامة العدل؟‬
‫‪.‬والسؤال الّثالث لستنكار أمرهم الغريب‪ ،‬والتناقض الفاضح بين إدعائهم وعملهم‬
‫ب العالمين‪ ،‬فكيف‬
‫وإّنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان‪ ،‬فال خالق الجميع ور ّ‬
‫‪).‬يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب مخلوق آخر)‪1‬‬
‫ن عبارة "أم ارتابوا" تعني الشك في عدالِة الّرسول)صلى ال عليه‬ ‫سر هو أ ّ‬ ‫وما يورده هذا المف ّ‬
‫ك في أصل الّنبوة‬
‫سرين أّنُه الش ُ‬
‫وآله وسلم( وفي صحة تحكيمه في الوقت الذي يرى كثير من المف ّ‬
‫‪.‬كما هو الظاهر‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ تفسير في ظلل القرآن‪ ،‬المجلد )‪ 17‬ـ ‪ ،(20‬صفحة ‪ 115‬ـ طبعة دار إحياء الكتب العربية ـ ‪1‬‬
‫‪.‬الطبعة اُلولى‬
‫]‪[140‬‬
‫بحثان‬
‫ـ مرض النفاق ‪1‬‬
‫ليست هذِه المرة اُلولى التي يستخدم فيها القرآن عبارة "المرض" للنفاق‪ ،‬فقد استخدمها في‬
‫مطلع سورِة البقرة عند بيانه لصفات المنافقين )في قلوبهم مرض فزادهم ال َمرضًا( وكما ُقلنا‬
‫ن النفاق في حقيقته مرض وانحراف عن‬ ‫في المجلد الّول في أثناِء تفسير الية المذكورة‪ ،‬فإ ّ‬
‫حه مع بدنه‬ ‫‪.‬الطريق السوي‪ ،‬فالنسان السليم له صورة واحدة هي انسجاٌم رو ِ‬
‫ن ظاهره وباطنه‬ ‫فإذا كان مؤمنًا فكّل أجزاء بدنه تعبر عن إيمانها‪ ،‬وإذا كان عديم اليمان فإ ّ‬
‫‪.‬يكشفان عن كفره وانحرافه‬
‫ن ذلك يعتبر نوعًا من المرض‬ ‫‪.‬أّما إذا كان ُمتظاهرًا باليمان ومبطنًا للكفر‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن هؤلء الشخاص )المنافقين( ل يستحقون لطف ال ورحمته‪ ،‬بسبب عنادهم وإصرارهم‬ ‫وبما أ َ‬
‫ضي بمناهجهم المنحرفة‪ ،‬فقد تركهم ال على حالهم‪ ،‬ليزدادوا مرضًا‬ ‫‪.‬على الُم ِ‬
‫ي ُأسلوب يجب أن‬ ‫والمنافقون في الواقع أخطر مجموعة في المجتمع‪ ،‬لّنه ل يّتضح للمؤمن بأ ّ‬
‫ت المؤمنين ويصونون‬ ‫يعاملهم‪ ،‬فهم ليسوا أصدقاء وليبدون أّنهم أعداء‪ ،‬فيستفيدون من إمكانا ِ‬
‫أنفسهم عن العقاب المفروض على الكفار بالتظاهر وإخفاِء حقاِئقهم المشُؤوِمة‪ ،‬فأعمالهم أتعس‬
‫‪.‬من أعمال الكّفار‬
‫صُلوا هذا المنهج لمّدة طويلة‪ ،‬فلبّد أن يفتضح أمرهم وينكشف‬ ‫ولكن هؤلِء ل يمكنهم أن ُيوا ِ‬
‫ب ُنزولها‪ .‬افتضاحهم في عملية تحكيم واحدة‬ ‫باطنهم‪ .‬وكما ذكرت اليات ـ موضع البحث ـ وسب ُ‬
‫‪).‬وانكشاف باطنهم الخبيث)‪1‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ ليضاح أكثر حول صفات المنافقين يراجع الّتفسير المثل من بداية سورة البقرة آخر الية ‪1‬‬
‫‪.‬العاشرة وما يليها‬
‫]‪[141‬‬
‫‪:‬ـ الحكومة العادلة هي الحكومة اللهية فقط ‪2‬‬
‫صة الِكبر والبغضاء‬
‫لشك في أن النسان مهما سعى في تهذيب نفسه ِمن الصفات الرذيلة‪ ،‬خا ّ‬
‫وحب الذات والنانية‪ ،‬فإّنه قد يبتلى ببعضها دون وعي منه‪ ،‬إّل المعصوم من البشر‪ ،‬إذ يعصمه‬
‫‪.‬ال من الخطأ والزلل‬
‫ولهذا السبب نقول‪ :‬ال وحده هو المشّرع الحقيقي‪ ،‬لّنه إضافة إلى علمه المطلق بحاجات‬
‫النسان‪ ،‬فإّنه يعلم سبل سّد هذه الحاجات‪ ،‬وهو الذي ل يزّل ول ينحرف بسبب احتياجه وميول‬
‫‪.‬الحب والبغض فيه سبحانه‬
‫وقضاء ال والّنبي والمام المعصوم أفضل قضاء‪ ،‬ويليهم التابعون السائرون على نهجهم‬
‫ب الذات ل يرضخ لهذا القضاء‪ ،‬فهو‬ ‫ن البشر الذي يصاب بالكبر وح ّ‬
‫المتوكلون على ال‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫يبحث عن قضاء يشبع طمعه وشهواته‪ .‬ما أجمل العبارة التي استخدمتها الية الكريمة بحق‬
‫‪).‬هؤلء )ُأولئك هم الظالمون‬
‫ن المرور في مثل هذا المتحان‪ ،‬خير دليل على إيمان النسان أو عدم إيمانه‬ ‫‪.‬كما أ ّ‬
‫ويستوقفنا قوُل القرآن في موضِع آخر )فل ورّبك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثّم ل‬
‫‪).‬يجدوا في أنفسهم حرجًا مّما قضيت ويسلموا تسليمًا()‪1‬‬
‫ن لحقهم‬‫أجل‪ ،‬المؤمنون الحقيقيون ل يرتضون قضاَءك فحسب‪ ،‬وإّنما قد سّلموا أنفسهم لك حّتى إ ْ‬
‫‪.‬ضرٌر‬
‫أّما المنافقون‪ ،‬فل يقنعون بحكم من ال ورسوله)صلى ال عليه وآله وسلم( إّل ما يحقق‬
‫!مصالحهم‪ ،‬فهم عبيد لها‪ ،‬وعلى الرغم من ادعائهم اليمان‪ ،‬فهم مشركون حّقا‬

‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ النساء‪1 65 ،‬‬
‫]‪[142‬‬

‫اليات‬

‫ك ُهمُ‬‫طْعَنا َوُأؤَلـِئ َ‬
‫سِمْعَنا َوَأ َ‬
‫حُكَم َبْيَنُهْم َأن َيُقوُلوا َ‬ ‫سوِلِه ِلَي ْ‬‫ل َوَر ُ‬ ‫عوا ِإَلى ا ِ‬ ‫ن ِإَذا ُد ُ‬ ‫ن َقْوَل اْلُمْؤِمِني َ‬‫ِإّنَما َكا َ‬
‫سُموا ِبا ِ‬
‫ل‬ ‫ن )‪َ(52‬وأْق َ‬ ‫ك ُهُم اْلَفآِئُزو َ‬‫ل َوَيّتْقِه َفُأوَلـِئ َ‬‫شا َ‬ ‫خ َ‬ ‫سوَلُه َوَي ْ‬‫ل َوَر ُ‬ ‫طِع ا َ‬ ‫ن)‪َ (51‬وَمن ُي ِ‬ ‫حو َ‬ ‫اْلمُْفِل ُ‬
‫ن)‪ُ (53‬قْل‬ ‫خِبيُر ِبَما َتْعَمُلو َ‬‫ل َ‬‫نا َ‬ ‫عٌة ّمْعُروَفةٌ ِإ ّ‬ ‫طا َ‬‫سُموا َ‬ ‫ن ُقل ّل ُتْق ِ‬ ‫جّ‬ ‫خُر ُ‬‫ن َأَمْرَتُهْم َلَي ْ‬
‫جْهَد َأْيَمـنِهْم َلِئ ْ‬‫َ‬
‫طيُعوُه َتْهَتُدوا‬ ‫حّمْلُتْم َوِإن ُت ِ‬‫عَلْيُكْم ّما ُ‬
‫حّمَل َو َ‬ ‫عَلْيِه َما ُ‬ ‫سوَل َفِإن َتَوّلْوا َفِإّنَما َ‬ ‫طيُعوا الّر ُ‬ ‫ل َوَأ ِ‬‫طيُعوا ا َ‬ ‫أِ‬
‫ن)‪54‬‬ ‫سوِل إّل اْلَبَلـُغ اْلُمِبي ُ‬ ‫عَلى الّر ُ‬ ‫)َوَما َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬اليمان والتسليم التام إزاء الح ّ‬
‫ق‬
‫ت قلوبهم‪ ،‬وأصبحت ظلمات في ظلمات‪.‬‬ ‫لحظنا في اليات السابقة رّد فعل المنافقين‪ ،‬الذين اسوّد ْ‬
‫ن أن يحيف ال‬
‫خاُفو َ‬
‫وكيف لم يرضخوا لحكم ال ورسوله)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬وكأّنُهم َي َ‬
‫!ورسوله عليهم‪ ،‬فيضيع حّقهم‬
‫]‪[143‬‬
‫أّما اليات ـ موضع البحث ـ فإّنها تشرح موقف المؤمنين إزاء حكم ال ورسوله‪ ،‬فتقول )إّنما كان‬
‫‪).‬قول المؤمنين إذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا‬
‫!)ما أجمل هذا التعبير المختصر والمفيد )سمعنا وأطعنا‬
‫ت كلمة "إّنما" في الية السابقة لتحصر كلم المؤمنين في عبارة )سمعنا وأطعنا(‬ ‫وقد ورد ْ‬
‫‪.‬والواقع أن حقيقة اليمان يكمن في هاتين الكلمتين فقط‬
‫ن ال عالم بكّل شيء‪،‬‬ ‫جح شخص حكم شخص آخر على حكم ال‪ ،‬وهو يعتقد بأ ّ‬ ‫كيف يمكن أن ير ّ‬
‫ول حاجة له بأحد‪ ،‬وهو الرحمن الرحيم؟ وكيف له أن يقوم بعمل إزاء حكم ال إّل السمع‬
‫والطاعة؟‬
‫فما أحسن هذه الوسيلة لمتحان المؤمنين الحقيقيين ونجاحهم في المتحان؟! لهذا تختتم الية‬
‫ب الذي يسّلم أمَره إلى ال‪،‬‬ ‫ن الفلح نصي ُ‬‫حديثها بالقول‪) :‬وُأولئك هم المفلحون( ول شك في أ ّ‬
‫حكِمه في حياته المادية والمعنوية‬‫‪.‬ويعتقد بعدله و ُ‬
‫وتابعت الية الّثانية هذه الحقيقة بشكل أكثر عمومية‪ ،‬فتقول‪) :‬ومن يطع ال ورسوله ويخشى ال‬
‫‪).‬ويتقه فُأولئك هم الفائزون()‪1‬‬
‫وقد وصفت هذه الية المطيعين المتقين بالفائزين‪ ،‬كما وصفت اليُة السابقة الذين يرضخون لحكم‬
‫‪.‬ال ورسوله بالمفلحين‬
‫ى واحد تقريبًا‪ ،‬قال الراغب الصفهاني في‬‫ن "الفوز" و"الفلح" بمعن ً‬ ‫وُتفيد مصادر اللغة أ ّ‬
‫مفرداته‪" :‬الفوز‪ :‬الظفر بالخير مع حصول السلمة" و"الفلح‪ :‬الظفر وادراك البغية" )وفي‬
‫ن الشخاص المفلحين يشقون طريقهم إلى مقصدهم ويزيلون العقبات‬ ‫الصل بمعنى الشق‪ ،‬وبما أ ّ‬
‫منه أطلق الفلح على الفوز أيضًا( وبما أن‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ أصل "يتقه" بسكون القاف وكسر الهاء "يتقيه" وقد حذفت الياء منها لّنها في حالة جزم وقد ‪1‬‬
‫‪.‬حذفت إحدى الكسرتين المتاليتين لّنها ثقيلة للفظ‬
‫]‪[144‬‬
‫الكلم في الية السابقة كان عن الطاعة بشكل مطلق‪ ،‬وفي الية قبلها عن التسليم أمام حكم ال‪،‬‬
‫‪.‬وأحدهما عام والخر خاص‪ ،‬فنتيجة كليهما واحدة‬
‫ق الملحظة هو أن الية الخيرة ذكرت ثلثَة أوصاف للفائزين‪ :‬هي‪ :‬طاعة ال‬ ‫و ما يستح ّ‬
‫‪.‬والّرسول‪ ،‬وخشية ال‪ ،‬وتقوى ال‬
‫ى عام‪ ،‬والخشية فرعها الباطني‪ ،‬والتقوى فرعها‬ ‫ن الطاعة ذات معن ً‬
‫سرين‪ :‬إ ّ‬‫وقال بعض المف ّ‬
‫‪.‬الظاهري‪ .‬وقد تحدثت أّول عن الطاعِة بشكل عاّم‪ ،‬ثّم عن باطنها وظاهرها‬
‫وُروي عن المام الباقر)عليه السلم( في تفسير قوله تعالى‪ُ) :‬أولئك هم المفلحون(قال‪" :‬إ ّ‬
‫ن‬
‫‪).‬المعني بالية أميرالمؤمنين )علي )عليه السلم((")‪1‬‬
‫ن عليًا)عليه السلم( خير مصداق لهذه الية‪ ،‬وهذا هو المراد من هذا الحديث فل‬ ‫ول خلف في أ ّ‬
‫‪.‬يفقد الية عموميتها‬
‫ن بعض المنافقين‬ ‫لحن الية التالية ـ وكذلك سبب نزولها الذي ذكرته بعض التفاسير ـ يعني أ ّ‬
‫جهت اللوم الشديد إليهم‪ ،‬فجاءوا إلى‬ ‫تأثروا جدًا على ما هم فيه‪ ،‬بعد نزول اليات السابقة والتي و ّ‬
‫الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وأقسموا يمينًا مغلظة أّننا نسّلم أمرنا إليك‪ ،‬ولهذا أجاَبُهم القرآن‬
‫بشكل حاسم )وأقسموا بال جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن( إلى ميدان الجهاد‪ ،‬أو يخرجوا من‬
‫أموالهم وبيوتهم فقل لهم‪ :‬ل حاجة إلى القسم‪ ،‬وعليكم عمل اطاعة ال بصدق واخلص)قل ل‬
‫ن ال خبير بما تعملون‬‫‪).‬تقسموا طاعة معروفة إ ّ‬
‫ن كلمة "ليخرجن" في هذه الية يقصد منها الخروج للجهاد في سبيل‬ ‫سرين أ ّ‬‫يرى كثير من المف ّ‬
‫سرين آخرين يرون أّنها تقصد عدم التهالك على المال والحياة‪ ،‬وأتباع‬ ‫ن مف ّ‬ ‫ال‪ ،‬غير أ ّ‬
‫حّل وطاعته‬‫‪.‬الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( أينما رحل و َ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير نورالثقلين‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬صفحة ‪1 616‬‬
‫]‪[145‬‬
‫وقد وردت كلمة "الخروج" ومشتقاتها في القرآن المجيد بمعنى الخروج إلى ميادين الجهاد تارة‪،‬‬
‫ن اليات السابقة التي تحدثت‬ ‫ك المنزل والهل والوطن في سبيل ال تعالى تارة أخرى‪ ،‬إّل أ ّ‬ ‫وتر ِ‬
‫عن حكم الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( في القضايا المختلفة يجعلنا نتقبل الّتفسير الّثاني‪.‬‬
‫بمعنى أن المنافقين جاءوا إلى النبي)صلى ال عليه وآله وسلم(ليعربوا عن طاعتهم لحكُمه)صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم( والتسليم له‪ ،‬فأقسموا على اخراج قسم من أموالهم‪ ،‬بل أن يتركوا الحياة‬
‫‪.‬الدنيا إن أمرهم بذلك‬
‫ول مانع من الجمع بين الّتفسيرين‪ ،‬أي إّنهم كانوا على استعدادهم لترك أموالهم وأهليهم‪،‬‬
‫‪.‬والخروج للجهاد ولتضحية في سبيل ال‬
‫ن المنافقين يتقلبون في مواقفهم بحسب الظروف السائدة في المجتمع‪ ،‬فتراهم يقسمون‬ ‫ولكن بما أ ّ‬
‫اليمان المغّلظة حتى تشُعَر بأّنهم كاذبون‪ ،‬فقد َرّد القرآن ـ بصراحة ـ أّنه ل حاجة إلى اليمين‪،‬‬
‫ن ال خبير بما تعملون‪ .‬يعلم هل تكذبون في‬ ‫وإّنما ل ُبّد من البرهنة على صدق الدعاء بالعمل‪ ،‬ل ّ‬
‫يمينكم‪ ،‬أم تبغون تعديل مواضعكم واقعًا؟‬
‫لهذا أكدت الية التالية ـ التي هي آخر اليات موضع البحث ـ هذا المعنى‪ ،‬وتقول للرسول)صلى‬
‫‪).‬ال عليه وآله وسلم( أن‪) :‬قل أطيعوا ال وأطيعوا الّرسول‬
‫ن هذا المر ل يخرج عن إحدى حالتين‪) :‬فإن تولوا فإّنما عليه ما حمل وعليكم‬ ‫ثّم تضيف الية أ ّ‬
‫ما حملتم( ففي صورة العصيان فقد اّدى وظيفته وهو مسؤول عنها كما أّنكم مسؤولون عن‬
‫أعمالكم حين أن وظيفتكم الطاعة‪ ،‬ولكن )وإن تطيعوه تهتدوا( لّنه قائد ل يدعو لغير سبيل ال‬
‫ق والصواب‬ ‫‪.‬والح ّ‬
‫في كل الحوال )وما على الّرسول إّل البلغ المبين( وإّنه)صلى ال عليه وآله وسلم( مكّلف بإبلغ‬
‫س على الّنبي أن يجبر‬
‫خسروا‪َ .‬وَلْي َ‬
‫ن لم ُيطيعوه َ‬
‫الجميع ما أمر ال به‪ ،‬فإن أطاعوه استفادوا‪ ،‬وإ ْ‬
‫‪.‬الناس على الهداية وتقّبل دعوته‬
‫وما يلفت النظر في الية السابقة تعبيرها عن المسؤولية بـ "الحمِل" الثقيل‬
‫]‪[146‬‬
‫وهذا هو الواقع‪ ،‬فرسالة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( تستوجب البلغ عليه)صلى ال عليه‬
‫‪.‬وآله وسلم( وعلى الناس طاعته‪ .‬إّنها لمسؤوليٌة ل يطيق حملها إّل المخلصون‬
‫ولذا روى المام الباقر)عليه السلم( حديثًا عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( قال فيه "يا‬
‫معشر قّراء القرآن‪ ،‬اتقوا ال عّزوجّل فيما حملكم من كتابه‪ ،‬فإّني مسؤول‪ ،‬وأنتم مسؤولون‪ :‬إّني‬
‫حِمْلُتم من كتاب ال وسّنتي")‪1‬‬
‫‪).‬مسؤول عن تبليغ الرسالة‪ ،‬وأّما أنتم فتسألون عما ُ‬

‫***‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪1‬‬
‫]‪[147‬‬

‫الية‬

‫ن ِمن‬‫ف اّلِذي َ‬
‫خَل َ‬
‫سَت ْ‬
‫ض َكَما ا ْ‬ ‫خِلَفّنُهْم ِفى اَْلْر ِ‬
‫سَت ْ‬
‫ت َلَي ْ‬ ‫صـِلحـ ِ‬ ‫عِملُوْا ال ّ‬ ‫ن َءاَمُنوا ِمنُكْم َو َ‬ ‫ل اّلِذي َ‬ ‫َوعََد ا ُ‬
‫ن ِبى‬
‫شِرُكو َ‬
‫خْوِفِهْم َأْمنًا َيْعُبُدوَنِنى َل ُي ْ‬
‫ن َلُهْم ِديَنُهُم اّلِذى اْرَتضى َلُهْم َوَلُيَبّدَلّنُهْم ّمن َبْعِد َ‬ ‫َقْبلِِهْم َوَُليَمّكَن ّ‬
‫ن)‪55‬‬ ‫سُقو َ‬ ‫ك ُهُم اْلَفـ ِ‬
‫ك َفُأوَلـِئ َ‬
‫)شَْيئًا َوَمن َكَفَر َبْعَد َذِل َ‬

‫سبب الّنزول‬
‫سرين‪ .‬ومنهم السيوطي في "أسباب التنزيل" والطبرسي في "مجمع البيان"‬ ‫روى كثير من المف ّ‬
‫وسيد قطب في "في ظلل القرآن" والقرطبي في تفسيره‪ ،‬مع بعض الختلف‪ ،‬سبب نزول هذه‬
‫الية أنه‪ :‬عندما هاجر الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم(والمسلمون إلى المدينة‪ ،‬استقبلهم‬
‫النصار بترحاب‪ ،‬ولكن العرب تحالفوا ضدهم‪ .‬لهذا كان المسلمون يبيتون ليلتهم والسلح إلى‬
‫ق على المسلمين ذلك‪ .‬حتى تساءل البعض‪:‬‬ ‫جانبهم ل يفارقهم‪ ،‬إذ كانوا في حالة تأّهب تاّم‪ .‬وقد ش ّ‬
‫ن أنفسنا ول نخشى إّل ال؟ فنزلت‬‫إلى متى يدوم هذا الوضع؟ وهل يأتي زمان نستريح وتطمئ ّ‬
‫‪.‬الية السابقة تبشرهم بتحّقق ما يصبون إليه‬
‫]‪[148‬‬
‫الّتفسير‬
‫‪:‬حكومة المستضعفين العالمية‬
‫تحدثت الية السابقة عن طاعة ال ورسوله والتسليم له‪ ،‬وقد واصلت الية ـ موضع البحث ـ هذا‬
‫الموضوع‪ ،‬وبّينت نتيجة هذه الطاعة أل وهي الحكومة العالمية التي‪ :‬وعدها ال المؤمنين به‪.‬‬
‫فقالت الية مؤّكدة )وعد ال الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفّنهم في الرض كما‬
‫استخلف الذين من قبلهم(‪) .‬وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم( ويجعله متجذرًا وثابتًا وقويًا‬
‫‪.‬بين شعوب العالم‬
‫وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني ل يشركون بي شيئًا( وبعد سيادة حكم التوحيد في العالم(‬
‫وإجراء الحكام اِللهية‪ ،‬واستقرار المن واقتلع جذور الشرك‪) ،‬ومن كفر بعد ذلك فُأولئك هم‬
‫‪).‬الفاسقون‬
‫ن ال يبشر مجموعة من المسلمين الذين يتصفون‬ ‫وعلى كّل حال يبدو من مجمل هذه الية أ ّ‬
‫‪:‬باليمان والعمل الصالح بثلث بشائر‬
‫‪.‬ـ استخلفهم وحكومتهم في الرض ‪1‬‬
‫ل مكان )كما يستفاد من كلمة "تمكين ‪2‬‬
‫ق بشكل جذري وفي ك ّ‬ ‫‪"...).‬ـ نشر تعاليم الح ّ‬
‫‪.‬ـ انعدام جميع عوامل الخوف والضطراب ‪3‬‬
‫وينتج من كل هذا أن ُيعبد ال بكّل حرية‪ ،‬وُتطبق تعاليُمه ول يشرك به‪ ،‬ويتّم نشُر عقيدة التوحيد‬
‫‪.‬في كّل مكان‬
‫ويّتضح مّما يلي متى تّم وعد ال هذا؟ أو متى سيتم؟‬

‫***‬

‫]‪[149‬‬
‫بحوث‬
‫)ـ تفسير عبارة )كما استخلف الذين من قبلهم ‪1‬‬
‫سرين حول الذين أشارت إليهم الية الشريفة من الذين استخلفوا في‬ ‫هناك اختلف بين المف ّ‬
‫‪.‬الرض قبل المسلمين‬
‫سرين يرى أّنهم آدم وداود وسليمان)عليهم السلم(‪ ،‬حيث قالت الية )‪ (30‬من‬ ‫البعض من المف ّ‬
‫سورة البقرة حول آدم)عليه السلم()إّني جاعل في الرض خليفة( وفي الية )‪ (26‬من سورة ص‬
‫‪).‬جاء بصدد داود)عليه السلم( )يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض‬
‫ن سليمان)عليه السلم( وِرث حكم داود)عليه السلم( بمقتضى الية )‪ (16‬من سورة النمل‬ ‫وبما أ ّ‬
‫‪.‬فإّنه قد استخلف في الرض‬
‫ن عبارة‬
‫سرين ـ كالعلمة الطباطبائي في الميزان ـ استبعد هذا المعنى َوَرأى أ ّ‬ ‫لكن بعض المف ّ‬
‫ن القرآن المجيد لم ترد فيه هذه العبارة بخصوص‬ ‫ب مقاَم اَلنبياء‪ .‬إذ أ ّ‬
‫)الذين من قبلهم( ل ُتناس ُ‬
‫النبياء‪ .‬وإّنما هي إشارة إلى أمم خلت‪ ،‬وكانت على درجة من اليمان والعمل الصالح بحيث‬
‫‪.‬استخلفها ال في الرض‬
‫ن هذه الية إشارة إلى بني إسرائيل‪ ،‬لّنهم استخلفوا في الحكم في‬ ‫ويرى مفسرون آخرون أ ّ‬
‫الرض بعد ظهور موسى)عليه السلم( وتدمير حكم فرعون والفراعنة‪ ،‬حيث يقول القرآن المجيد‬
‫في الية )‪ (127‬من سورة العراف )وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الرض‬
‫ومغاربها التي باركنا فيها( ويضيف )ونمكن لهم الرض( أي جعلناهم حكامًا بعد أن استضعفوا في‬
‫‪.‬الرض‬
‫ك في أّنُه كان في بني إسرائيل ـ حتى في زمن موسى)عليه السلم( ـ أشخاص عرفوا‬ ‫ول ش ّ‬
‫ن الحكم كان بيد المؤمنين الصالحين‪) ،‬وبهذا يمكن دفع ما أشكل به البعض‬
‫بفسقهم وكفرهم‪ ،‬لك ّ‬
‫‪.‬على هذا الّتفسير( ويظهر أن الّتفسير الّثالث أقرب إلى الصواب‬

‫]‪[150‬‬
‫‪:‬ـ الذين وعدهم ال باستخلف الرض ‪2‬‬
‫لقد وعدال المؤمنين ذوي العمال الصالحة بالستخلف في الرض وتمكينهم من نشر دينهم‬
‫وتمتعهم بالمن الكامل‪ ،‬فما هي خصائص هؤلء الموعودين بالستخلف؟‬
‫ن الوعد بالستخلف خا ّ‬
‫ص‬ ‫سرين أ ّ‬‫سرين‪ :‬يرى البعض من المف ّ‬ ‫هناك اختلف بهذا الصدد بين المف ّ‬
‫بأصحاب الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( الذين استخلفهم ال في الرض في عصر‬
‫الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪) .‬ول يقصد بالرض جميعها‪ ،‬بل هو مفهوم يطلق على الجزء‬
‫‪).‬والكل‬
‫ص بالخلفاء الربعة الذين خلفوا الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم‬ ‫‪).‬ويرى آخرون أّنه خا ّ‬
‫ن مفهومه واسع يشمل جميع المسلمين الذين اتصفوا بهذه الصفات‬ ‫‪.‬ويرى البعض أ ّ‬
‫ويرى آخرون أّنه إشارة إلى حكومة المهدي )عج( الذي يخضع له الشرق والغرب في العالم‪،‬‬
‫ق في عهده في جميع أرجاء العالم‪ ،‬ويزول الضطراب والخوف والحرب وتتحقق‬ ‫ويجري حكم الح ّ‬
‫‪.‬للبشرية عبادة ال النقية من كّل أنواع الشرك‬
‫ن حكومة المهدي)عج( مصداق لها‪ ،‬إْذ‬ ‫ن هذه الية تشمل المسلمين الوائل‪ ،‬كما أ ّ‬ ‫ول ريب في أ ّ‬
‫عْدل وقسطًا بعد أن ُملئت‬
‫يتفق المسلمون كافة من شيعة وسنة على أن المهدي)عج( يمل الرض َ‬
‫‪.‬جورًا وظلمًا‬
‫ومع كل هذا ل مانع من تعميمها‪ .‬وينتج من ذلك تثبيت ُأسس اليمان والعمل الصالح بين‬
‫ن لهم الغلبة والحكم ذا السس الثابتة‬ ‫‪.‬المسلمين في كّل عصر وزمان‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن كلمة "الرض" مطلقة وغيرمحددة‪ ،‬وتشمل كّل الرض‪ ،‬وبذلك تنحصر‬ ‫أّما قول البعض‪ :‬إ ّ‬
‫بحكومة المهدي )أرواحنا له الفداء(‪ ،‬فهول ينسجم مع‬
‫]‪[151‬‬
‫عبارة )كما استخلف الذين من قبلهم(‪ ،‬لن خلفة وحكومة السابقين بالتأكيد لم تشمل الرض‬
‫‪.‬كلها‬
‫ن سبب نزول هذه الية يبّين لنا ـ على أقّل تقدير ـ وقوع مثل هذا الحكم في‬ ‫وإضافة إلى ذلك فإ ّ‬
‫عصر الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( )رغم حدوثه في أواخر حياته)صلى ال عليه وآله‬
‫‪)).‬وسلم‬
‫ن نتيجة جهود جميع النبياء والمرسلين حصول حكم يسوده التوحيد والمن‬ ‫ونقولها ثانية‪ :‬إ ّ‬
‫ي نوع من الشرك‪ ،‬وذلك حين ظهور المهدي)عج(‪ ،‬وهو من سللة‬ ‫الكامل والعبادة الخالية من أ ّ‬
‫النبياء)عليهم السلم( وحفيد الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬وهو المقصود في هذا‬
‫الحديث الذي تناقله جميع المسلمين عن الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم(‪" :‬لو لم يبق من‬
‫الدنيا إّل يوم لطّول ال ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي‪ ،‬اسمه اسمي‪ ،‬يمل الرض عدل‬
‫‪).‬وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا")‪1‬‬
‫لمة الطبرسي في تفسير هذه الية‪ :‬روي عن أهل بيت رسول‬ ‫ومّما يجدر ذكره هنا قول الع ّ‬
‫‪).‬ال)صلى ال عليه وآله وسلم( حول هذه الية‪" :‬إّنها في المهدي من آل محمد")‪2‬‬
‫وذكر تفسير "روح المعاني" وتفاسير عديدة لمؤلفين شيعة عن المام السجاد)عليه السلم( في‬
‫تفسير الية موضع البحث أنه قال‪" :‬هم وال شيعتنا ـ أهل البيت ـ يفعل ال ذلك بهم على يدي‬
‫رجل مّنا‪ ،‬وهو مهدي هذه اُلمة يمل الرض عدل وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا‪ ،‬وهو الذي قال‬
‫‪...".‬رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( فيه لو لم يبق من الدنيا إّل يوم‬
‫وكما قلنا‪ ،‬ل تعني هذه التفاسير حصر معنى هذه الية‪ ،‬بل بيان مصداقها التام‪ ،‬ومّما يؤسف له‬
‫سرين ـ كاللوسي في روح البيان ـ إلى هذه المسألة‪ ،‬فرفضوا هذه الحاديث‬ ‫‪.‬عدم انتباه بعض المف ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ إحتوى كتاب "منتخب الثر" على مائة وثلثة وعشرين حديثًا بهذا الصدد‪ ،‬من مصادر ‪1‬‬
‫صة السّنية منها‪ .‬للستزادة يراجع هذا الكتاب في صفحة ‪ ،247‬ومايليها‬ ‫‪.‬إسلمية مختلفة خا ّ‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان في تفسير الية موضع البحث ‪2‬‬
‫]‪[152‬‬
‫سر المشهور من أهل السنة عن المقداد بن السود عن الّرسول)صلى ال‬ ‫وروى القرطبي المف ّ‬
‫عليه وآله وسلم( أّنه قال‪" :‬ما على ظهر الرض بيت حجر ول مدر إّل أدخله ال كلمة السلم")‬
‫‪1).‬‬
‫ي)عج( وشرح أدلتها في كتب علماء السنة‬ ‫وللحصول على إيضاح أكثر حول حكومة المهد ّ‬
‫‪.‬والشيعة‪ ،‬يراجع تفسير الية )‪ (33‬من سورة التوبة‬

‫‪:‬ـ الهدف النهائي عبادة خالصة ‪3‬‬


‫ن مفهوم عبارة )يعبدونني ل يشركون بي شيئًا( من الناحية الدبية سواء كانت جملة حالية أم‬ ‫إّ‬
‫مستقبلية)‪ ،(2‬هو أن الهدف النهائي إعداُد حكومة عادلة راسخة اُلسس‪ ،‬ينتشر فيها الح ّ‬
‫ق‬
‫والمن والطمئنان‪ ،‬وتكون ذات تحصينات ُأسسها العبودية ل وتوحيده على نحو ما ذكرتهُ آية‬
‫‪).‬قرآنية ُأخرى تذكر الغاية من الخلق )وما خلقت الجن والنس إّل ليعبدون()‪3‬‬
‫عبادة هدفها السامي تربية البشر وتسامي أنفسهم‪ .‬عبادة ل يحتاج ال إليها‪ ،‬وإّنما يحتاج إليها‬
‫طي مراحل تكاملهم النساني‬ ‫‪.‬البشر ل ّ‬
‫ن الفكر السلمي ليس كالفكار المادية التي تتوخى مكاسب مادية ورفاهية في‬ ‫وعلى هذا فإ ّ‬
‫الحياة‪ ،‬بل تكون للحياة المادية قيمة في السلم إن أصبحت وسيلة لتحقيق هدف معنوي سام‪،‬‬
‫ب الشرك نافيًة للهواِء الّزائفة‪ ،‬يعني أّنه ل يمكن تحقق‬
‫فالهتمام بكون العبادة خاليًة من شوائ ِ‬
‫‪.‬هذه العبادة الصافية إّل بتشكيل حكومة عادلة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير القرطبي‪ ،‬المجلد السابع‪ ،‬صفحة ‪1 4292‬‬
‫لولى الجملة الحالية للضمير "هم" الذي جاء في اليات السابقة‪ .‬وفي الصورة ‪2‬‬ ‫ـ في الصورة ا ُ‬
‫‪.‬الّثانية تقدر بـ "ليعبدونني" واحتمل آخرون أنها جملة استئنافية وهو احتمال ضعيف‬
‫‪.‬ـ الذاريات‪3 65 ،‬‬
‫]‪[153‬‬
‫ق بالتربية والتعليم والتبليغ المستمر‪ ،‬ول‬
‫هذا ويمكن كسب مجموعة من الناس إلى جانب الح ّ‬
‫يمكن تعميم هذه الحالة في المجتمع إّل بتشكيل حكومة عادلة يقودها المؤمنون الصالحون‪ ،‬ولهذا‬
‫صة الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم(‪،‬‬ ‫سعى النبياء إلى تشكيل مثل هذه الحكومة خا ّ‬
‫َفبمجّرد وصوله)صلى ال عليه وآله وسلم( إلى المدينة المنورة‪ ،‬وفي أّول فرصة‪ ،‬شّكل نموذجًا‬
‫‪.‬لها‬
‫ن جميع الجهود ـ من حرب وسلم وبرامج تثقيفية واقتصادية‬ ‫ويمكن الستنتاج من ذلك أ ّ‬
‫صب في ظّل هذه الحكومة في مسيرة العبودية ل الخالية من كل شائبة من شوائب‬ ‫وعسكرية ـ تن ّ‬
‫‪.‬الشرك‬
‫ض من المذنبين والمنحرفين في ظّل حكومة الصالحين‬‫خلو الر ِ‬ ‫ولبّد من القول‪ :‬إّنه ل يعني ُ‬
‫ق والعدل‪ ،‬وعبادته عبادة خالية من صور الشرك‪ ،‬بل‬‫المؤمنين الذين يمّكنهم ال من نشر الح ّ‬
‫مفهوم هذه الحكومة هو أنها ُتدار من قبل المؤمنين الصالحين‪ ،‬والصفة السائدة في المجتمع هي‬
‫خلوه من الشرك‪ .‬وبما أن النسان خلق حّرا‪ ،‬فإن مجال النحراف موجود حتى في أفضل‬
‫‪).‬المجتمعات النسانية )فتأملوا جيدًا‬

‫***‬

‫]‪[154‬‬

‫اليتان‬

‫ن َكَفُروا‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫سَب ّ‬
‫ح َ‬
‫ن)‪َ (56‬ل َت ْ‬
‫حُمو َ‬
‫سوَل َلَعّلُكْم ُتْر َ‬‫طيُعوْا الّر ُ‬ ‫صَلوَة َوَءاُتْوا الّزَكوَة َوَأ ِ‬
‫َوَأِقيُموا ال ّ‬
‫صيُر)‪57‬‬ ‫س اْلَم ِ‬
‫ض َوَمْأَويُهْم الّناُر َوَلِبْئ َ‬
‫ن ِفى اْلْر ِ‬ ‫جِزي َ‬
‫)ُمْع ِ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬استحالة الفرار من حكومته تعالى‬
‫وعدت الية السابقة المؤمنين الصالحين بالخلفة في الرض‪ ،‬وتعيىء هاتان اليتان الناس‬
‫للتمهيد لهذه الحكومة‪ ،‬وخلل نفيها وجود حواجز كبيرة لهذا العمل‪ ،‬تضمن هي بذاتها نجاحه‪.‬‬
‫وفي الحقيقة أن إحدى هاتين اليتين بّينت المقتضي‪ ،‬بينما نفت الّثانية المانع‪ ،‬فهي تقول أّول‪:‬‬
‫‪)).‬وأقيموا الصلة‬
‫وهي الوسيلة التي توثق الصلة بين الخالق والمخلوق‪ ،‬وتقّرب الناس إلى بارئهم‪ ،‬وتمنع عنهم‬
‫‪.‬الفحشاء والمنكر‬
‫زكاة( وهي الوسيلة التي تربط النسان بأخيه النسان‪ ،‬وتقلل الفواصل بينهما‪ ،‬وتقوي(‬ ‫وآتوا ال ّ‬
‫‪.‬ارتباطهما العاطفي‬
‫وبشكل عام يكون في كّل شيء تبعًا للرسول‪) :‬وأطيعوا الّرسول( طاعة‬
‫]‪[155‬‬
‫تكونون بسببها من المؤمنين الصالحين الجديرين بقيادة الحكم في الرض )لعلكم ترحمون(‬
‫ق والعدل‬
‫‪.‬وتكونون لئقين لحمل رأية الح ّ‬
‫وإذا احتملتم أن العداء القوياء المعاندين يمنعوكم من تحقق ما وعدكم ال إّياه‪ ،‬فذلك غير‬
‫جب إرادته شيء‪ ،‬ولهذا )ل تحسبن الذين كفروا معجزين‬ ‫ممكن‪ ،‬لن قادٌر على كّل شيء‪ ،‬ول يح ُ‬
‫في الرض( فهؤلء الكفار ل يستطيعون الفرار من عقاب ال وعذابه في الرض‪ ،‬ول يقتصر ذلك‬
‫)على الدنيا فقط‪ ،‬بل أّنهم في الخرة )مأواهم النار ولبئس المصير‬
‫وكلمة "معجزين" جمع "معجز"‪ ،‬المشتّقة من العجاز بمعنى نفاذ القدرة‪ ،‬وأحيانًا يتابع المرء‬
‫شخصًا يفر من يديه‪ ،‬ول يمكنه القبض عليه وقد خرج من سلطته فهو يعجزه‪ ،‬لهذا استعملت‬
‫كلمة "معجز" بهذا المعنى‪ ،‬وكذلك تشير الية السابقة إلى المعنى ذاته‪ ،‬ومفهومها أّنكم ل يمكنكم‬
‫‪.‬الفراُر من حكومة ال‬
‫***‬
‫]‪[156‬‬

‫اليات‬

‫ن َقْبِل‬
‫ث َمّرت ِم ْ‬ ‫حُلَم ِمنُكْم َثَلـ َ‬‫ن َلْم َيْبُلُغوا اْل ُ‬
‫ت َأْيَمـُنُكْم َواّلِذي َ‬ ‫ن َمَلَك ْ‬‫سَتْئِذُنُكْم اّلِذي َ‬‫ن َءاَمُنوا ِلَي ْ‬ ‫َيَأّيَها اّلِذي َ‬
‫عْوَرت ّلُكْم َلْي َ‬
‫س‬ ‫ث َ‬‫شاِء َثَلـ ُ‬ ‫صَلوِة اْلِع َ‬ ‫ظِهيَرِة َوِمن َبْعِد َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن ِثَياَبُكم ّم َ‬‫ضُعو َ‬ ‫ن َت َ‬ ‫حي َ‬‫جِر َو ِ‬ ‫صَلوِة اْلَف ْ‬
‫َ‬
‫ت َوا ُ‬
‫ل‬ ‫ل َلُكْم اَْلَي ِ‬ ‫نا ُ‬ ‫ك ُيَبّي ُ‬
‫عَلى َبْعض َكَذِل َ‬ ‫ضُكْم َ‬ ‫عَلْيُكْم َبع ُ‬ ‫ن َ‬ ‫طّوُفو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح َبْعَدُه ّ‬ ‫جَنا ٌ‬‫عَلْيِهْم ُ‬
‫عَلْيُكْم َوَل َ‬ ‫َ‬
‫ن ال‬‫ك ُيَبّي ُ‬
‫ن ِمن َقْبِلِهْم َكَذِل َ‬‫سَتْئَذن اّلِذي َ‬ ‫سَتْئِذُنوا َكَما ا ْ‬ ‫حُلَم َفْلَي ْ‬‫طَفـُل ِمنُكُم اْل ُ‬‫حِكيٌم)‪َ (58‬وِإَذا َبَلَغ اَْل ْ‬ ‫عِليٌم َ‬ ‫َ‬
‫ح َأن‬
‫ن جَُنا ٌ‬ ‫عَلْيِه ّ‬
‫س َ‬ ‫ن ِنَكاحًا َفَلْي َ‬ ‫جو َ‬ ‫ن الّنسآِء اّلـِتى َل َيْر ُ‬ ‫عُد ِم َ‬ ‫حِكيٌم)‪َ (59‬واْلَقَو ِ‬ ‫عِليٌم َ‬ ‫ل َ‬ ‫َلُكمْ َءايـِتِه َوا ُ‬
‫عِليٌم)‪60‬‬ ‫سِميٌع َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن َوا ُ‬ ‫خيٌر ّلُه ّ‬
‫ن َ‬ ‫سَتْعِفْف َ‬‫ت ِبزيَنة َوَأن َي ْ‬ ‫جـا ِ‬ ‫غْيَر ُمَتَبّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن ِثَياَبُه ّ‬
‫ضْع َ‬
‫)َي َ‬

‫الّتفسير‬
‫ص بالوالدين‬
‫‪:‬آداب الدخول إلى المكان الخا ّ‬
‫ن أهم مسألة تابعتها هذه السورة ـ كما ذكرنا ـ هي مسألة العفاف العام‬
‫إّ‬
‫]‪[157‬‬
‫‪.‬ومكافحة كل انحطاط خلقي‪ ،‬بأبعاده المختلفة‬
‫وقد تناولت اليات ـ موضع البحث ـ إحدى المسائل التي ترتبط بهذه المسألة‪ ،‬وشرحت‬
‫‪.‬خصائصها‪ ،‬وهي استئذان الطفال البالغين وغيرالبالغين للدخول إلى الغرفة المخصصة للزوجين‬
‫فتقول أّول‪) :‬يا أّيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلث‬
‫مرات( فيجب على عبيدكم وأطفالكم الستئذان في ثلث أوقات )من قبل صلة الفجر وحين‬
‫‪).‬تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلة العشاء‬
‫الظهيرة" تعني كما يقول "الراغب الصفهاني" في مفرداته "والفيروزآبادي" في القاموس"‬
‫المحيط‪ :‬منتصف النهار وقريب الظهر حيث ينزع الناس عادة الملبس الضافية‪ ،‬وقد يختلي‬
‫‪.‬الزوج بزوجته‬
‫صة بكم(‬
‫‪.‬ثلث عورات لكم( أي هذه ثلث أوقات للخلوة خا ّ‬
‫ن"‬
‫العورة" مشتّقة من "العار"‪ ،‬أي‪ :‬العيب‪ .‬وأطلق العرب على العضو التناسلي العورة‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬الكشف عنه عار‬
‫ق الذي في الجدار أو الثوب‪ ،‬وأحيانًا تعني العيب بشكل عاّم‬‫‪.‬كما تعني العورة الش ّ‬
‫صة‬
‫ن إطلق كلمة )العورة( على هذه الوقات الثلثة بسبب كون الناس في حالة خا ّ‬ ‫وعلى كّل فإ ّ‬
‫‪.‬خلل هذه الوقات الثلثة‪ ،‬حيث ل يرتدون الملبس التي يرتدونها في الوقات اُلخرى‬

‫ن الطفال لم يبلغوا بعد س ّ‬


‫ن‬ ‫ن المخاطب هنا هم أولياء الطفال ليعلموهم هذه اُلصول‪ ،‬ل ّ‬‫وطبيعي أ ّ‬
‫‪.‬التكليف لتشملهم الواجبات الشرعية‬
‫ن عمومية الية تعني شمولها الطفال البنين والبنات‪ ،‬وكلمة "أّلذين" التي هي لجمع المذكر‬ ‫كما أ ّ‬
‫ن هذه العبارة‬
‫السالم‪ ،‬ل تمنع أن يكون مفهوم الية عامًا‪ ،‬ل ّ‬
‫]‪[158‬‬
‫ت في كثير من الموارد وقصد بها المجموع‪ ،‬كما في آية وجوب الصوم‪ ،‬فلفظ "أّلذين"‬ ‫استعمل ْ‬
‫‪).‬هناك َيُعّم المسلمين كافًة )سورة البقرة الية ‪83‬‬
‫ن هذه الية تتحّدث عن أطفال مميّزين يعرفون القضايا الجنسية‪ ،‬ويعلمون ماذا‬‫ولبّد من القول بأ ّ‬
‫تعني العورة‪ .‬لهذا أمرتهم بالستئذان عند الدخول إلى غرفة الوالدين‪ ،‬وهم يدركون سبب هذا‬
‫الستئذان‪ ،‬وجاءت عبارة "ثلث عورات" شاهدًا آخرًا على هذا المعنى ولكن هل أن الحكم‬
‫المتعلق بمن ملكت أيديكم يختص بالعبيد الذكور منهم أو يشمل الماء والجواري‪ ،‬هناك أحادي ٌ‬
‫ث‬
‫مختلفٌة في هذا المجال‪ ،‬ويمكن ترجيح الحاديث التي تؤيد ظاهر الية‪ ،‬أي شمولها الغلمان‬
‫‪.‬والجواري‬
‫وتختتم الية بالقول‪) :‬ليس عليكم ول عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض( فل‬
‫حرج ول إثم عليكم وعليهم إذا دخلوا بدون استئذان في غير هذه الوقات الثلثة‪ ،‬أجل‪) :‬كذلك‬
‫‪).‬يبّين ال لكم اليات وال عليم حكيم‬
‫كلمة )طوافون( مشتقة من "الطواف" بمعنى الدوران حول شيء ما‪ ،‬وقد جاءت بصيغة مبالغة‬
‫‪.‬لتأكيد تعدد الطواف‬
‫ن مفهوم الجملة يكون‪ :‬إنُه‬‫ن عبارة )بعضكم على بعض( جاءت بعد كلمة )طوافون( فإ ّ‬ ‫وبما أ ّ‬
‫مسموح لكم بالطواف حول بعضكم في غير هذه الوقات الثلثة‪ ،‬ولكم أن تتزاوروا فيما بينكم‬
‫‪.‬ويخدم بعضكم بعضًا‬
‫ن هذه العبارة بمنزلة دليل على عدم ضرورة‬ ‫وكما قال "الفاضل المقداد" في كنز العرفان‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن المسألة تتعقد إن رغبتم في الستئذان كّل مّرة)‪1‬‬‫‪).‬الستئذان في غير هذه الوقات‪ ،‬ل ّ‬
‫وبّينت الية التالية الحكم بالنسبة للبالغين‪ ،‬حيث تقول‪) :‬وإذا بلغ الطفال‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ كنزالعرفان‪ ،‬المجلد الثاني‪ ،‬صفحة ‪1 225‬‬
‫]‪[159‬‬
‫‪).‬منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم‬
‫وكلمة "الحلم" على وزن "كتب" بمعنى العقل والكناية عن البلوغ‪ ،‬الذي يعتبر توأمًا ِلطفرة عقلية‬
‫‪.‬وفكرية‪ ،‬ومرحلة جديدة في حياة النسان‬
‫ن الحلم بمعنى الرؤيا‪ ،‬فهي كناية عن احتلم الشباب حين البلوغ‬ ‫‪.‬وقيل أ ّ‬
‫ن الحكم بالنسبة للبالغين يختلف عنه بالنسبة للطفال‬ ‫وعلى كّل حال يستفاد من الية السابقة‪ ،‬أ ّ‬
‫ن حياتهم قد‬‫ن الوالدين في الوقات الثلثة فقط‪ ،‬ل ّ‬ ‫ن أولئك يجب عليهم إستئذا ُ‬ ‫غير البالغين‪ ،‬ل ّ‬
‫ن كّل مرة‪ ،‬وكما أّنهم لم يعرفوا المشاعر‬
‫امتزجت مع حياة والديهم بدرجة يستحيُل بها الستئذا ُ‬
‫الجنسية بعد‪ .‬أّما الشباب البالغ‪ ،‬فهم مكّلفون في جميع الوقات بالستئذان حين الدخول على‬
‫‪.‬الوالدين‬
‫صص لستراحِه الوالدين‪ .‬أّما إذا كان في غرفة عاّمة يجلس فيها‬ ‫ص هذا الحكم المكان المخ ّ‬ ‫وَيخ ّ‬
‫‪.‬آخرون أيضًا‪ ،‬فل حاجة للستئذان منهما بالدخول‬
‫ن عبارة )كما استأذن الذين من قبلهم( إشارة إلى الكبار الذين يستأذنون من‬ ‫والجدير بالذكر إ ّ‬
‫ت اليُة الشباب الذين بلغوا الرشد بهؤلء‪ ،‬الكبار‬ ‫‪.‬الوالدين حين الدخول إلى غرفتهما‪ .‬وقد أردف ِ‬
‫‪).‬وتقول الية في الختام للتأكيد والهتمام الفائق‪) :‬كذلك يبّين ال لكم آياته وال عليم حكيم‬
‫وهذا هو نفس التعبير الذي جاء في آخر الية السابقة دون تغيير‪ ،‬باستثناء استعمال الية السابقة‬
‫‪.‬كلمة "اليات" وهذه استعملت كلمة "آياته" ول فرق في معناهما‬
‫‪.‬وسنتناول بحث ميزات هذا الحكم‪ ،‬وكذلك فلسفته في ذيل تفسير هذه اليات‬
‫وفي آخر اليات ـ موضع البحث ـ استثناء لحكم الحجاب‪ ،‬حيث استثنت النساء العجائز والمسّنات‬
‫من هذا الحكم‪ ،‬فقال‪) :‬والقواعد من النساء اللتي ل‬
‫]‪[160‬‬
‫‪).‬يرجون نكاحًا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة‬
‫‪:‬ولهذا الستثناء شرطان‬
‫أولهما‪ :‬وصول هذه العجائز إلى عمر ل يتوقع أن يتزوجن فيه‪ ،‬أو بعبارة ُأخرى‪ :‬أن يفقدن كّل‬
‫‪.‬جاذبية ُأنثوية‬
‫ن‪ ،‬ويّتضح بذلك أّنه ل ضير في رفع الحجاب بعد إجراء‬ ‫وثانيهما‪ :‬أل يتزّين بزينة بعد رفع حجابه ّ‬
‫ن السلم من حكم الحجاب‬ ‫‪.‬هذين الشرطين‪ .‬ولهذا استثناه ّ‬
‫ي‪ ،‬بل‬‫ن ـ من الواضح ـ أّنه ل يقصد برفع العجائز للحجاب اباحة خلع الملبس كلها والتعر ّ‬ ‫كما أ ّ‬
‫‪.‬خلع اللباس الفوقاني فقط‪ .‬وكما عّبرت عنه بعض الحاديث بالجلباب والخمار‬
‫وجاء في حديث عن المام الصادق)عليه السلم( في شرح هذه الية‪" :‬الخمار والجلباب"‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫)بين يدي من كان؟ قال‪" :‬بين يدي من كان غير متبرجة بزينة"‪1).‬‬
‫‪).‬كما وردت أحاديث ُأخرى عن أهل البيت)عليهم السلم( بهذا المضمون أو ما يقاربه)‪2‬‬
‫‪).‬وتضيف الية في ختامها )وإن يستعففن خير لهن‬
‫فالسلم يرغب في أن تكون المرأة أكثر عّفة وأنقى وأطهر‪ .‬ولتحذير النساء اللواتي يسئن‬
‫ن‪ ،‬تقول الية محذرة‬ ‫الستفادة من هذه الحرية‪ ،‬ويتحدثن أو يتصرفن بُأسلوب ل يليق بشرفه ّ‬
‫إّياهن‪) :‬وال سميع عليم( كّلما تقولونه يسمعه ال‪ ،‬وما تكتمون في قلوبكم أو في أذهانكم يعلمه‬
‫‪.‬ال أيضًا‬

‫***‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ‪ 14‬كتاب النكاح صفحة ‪ ،147‬الباب ‪1 110‬‬
‫‪.‬ـ للستزادة يراجع المصدر السابق ‪2‬‬
‫]‪[161‬‬
‫بحثان‬
‫ـ فلسفة الستئذان والمفاسد المترتبة على عدم اللتزام به ‪1‬‬
‫ل يكفي اللجوء إلى القوة لقتلع جذور المفاسد الجتماعية كالعمال المخلة بالشرف‪ ،‬ول يرجى‬
‫نتيجة مرضية من العقاب فقط في القضايا الجتماعية‪ .‬وإّنما يستوجب اتباع عدة ُأمور كالتثقيف‬
‫السلمي‪ ،‬وتعليم آدابه الخلقية‪ ،‬واتباع السبل الصحيحة في القضايا العاطفية‪ .‬وإلى جانب هذه‬
‫‪.‬اُلمور يكون العقاب كعامل لردع المنحرفين عن الطريق السوي‬
‫ولهذا السبب بدأت سورة النور ـ وهي في الواقع سورة العفاف والشرف ـ بالحديث عن جلد‬
‫الرجال الزناة والنساء الزانيات‪ ،‬كما تحدثت في نفس الوقت عن تسهيل الزواج ورعاية الحجاب‬
‫السلمي‪ ،‬والنهي عن النظر بلذة وتحريم إتهام الخرين بشرفهم وناموسهم‪ ،‬وأخيرًا استئذان‬
‫‪.‬البناء حين الدخول إلى غرفة الوالدين‬
‫‪.‬وهذا يدّل على عدم إغفال السلم أي من هذه التفاصيل التي لها علقة بمسألة العفاف والشرف‬
‫صة اللذين يخدمانهما‪ ،‬كذلك‬
‫وعلى الخدم أن يستأذنوا حين الدخول إلى غرفة الزوجين الخا ّ‬
‫يستوجب على الطفال البالغين عدم الدخول إلى الغرفة المذكورة دون استئذان‪ ،‬وتعليم الطفال‬
‫غير البالغين الذين يرتبطون ارتباطًا وثيقًا بالوالدين‪ ،‬أن ل يدخلوا غرفة الوالدين دون استئذان‬
‫وعلى القل في الوقات الثلثة التي أشارت إليها الية "قبل صلوة الفجر وحين الظهر ومن بعد‬
‫‪".‬صلوة العشاء‬
‫وهذا نوع من الدب السلمي‪ ،‬رغم قّلة اللتزام به مع كّل السف‪ .‬ورغم بيان القرآن ذلك‬
‫بصراحة في اليات السابقة‪ .‬فإّنه من النادر أن يتناوله الخطباء‬
‫]‪[162‬‬
‫!والكّتاب‪ ،‬ول يعرف سبب إهمال هذا الحكم القرآني الحاسم؟‬
‫ن ظاهر الية يوجب هذا الحكم‪ ،‬وحتى لو اعتبرناه مستحبًا فإّنه ينبغي الحديث عنه‪ ،‬وبحث‬ ‫ورغم أ ّ‬
‫جزئياته‪ .‬ورغم تصور بعض السذج بأن الطفال ل يدركون شيئًا عن هذه اُلمور‪ ،‬وأن خدم البيت‬
‫ن الثابت هو حساسية الطفال بالنسبة لهذه القضية )فكيف بالنسبة للكبار(‪ .‬وقد‬ ‫ل يهتمون بها‪ ،‬فإ ّ‬
‫يؤدي إهمال الوالدين ورؤية الطفال لمشاهد ممنوعة إلى انحرافهم خلقيًا وأحيانًا إلى إصابتهم‬
‫‪.‬بأمراض نفسية‬
‫وقد واجهنا أشخاصًا اعترفوا بأّنهم اثيروا جنسيًا‪ ،‬أو ُأصيبوا بعقد نفسية لمشاهد جنسية من هذا‬
‫القبيل وقد شّبت في قلوب البعض منهم نار الحقد على الوالدين‪ ،‬إلى درجة الرغبة في قتلهما‪ ،‬أو‬
‫النتحار‪ .‬كّل ذلك بسبب الثر الذي زرعه في نفوسهم إهمال الوالدين‪ ،‬وعدم حيطتهم حين‬
‫‪.‬الممارسة الجنسية أومقدماتها‬
‫هنا تتضح لنا قيمة وأهمية هذا الحكم السلمي الذي بلغه العلماء المعاصرون‪ ،‬بينما جاء به‬
‫السلم قبل أربعة عشر قرنًا‪ .‬وهنا نجد لزامًا علينا توصية الباء واُلمهات بالجدية في الحياة‬
‫الزوجية‪ ،‬وتعليم أولدهم الستئذان حين الدخول إلى غرفتهما‪ ،‬واجتناب كّل عمل قد يثير الولد‬
‫ويحركهم‪ .‬ومن هذه العمال مبيت الزوجين بغرفة فيها أولد بالغون‪ ،‬فيجب اجتناب ذلك بالقدر‬
‫ن هذه اُلمور تؤّثر بشكل كبير في مستقبل أولدهما‬ ‫‪.‬الممكن‪ .‬وأن يعلما بأ ّ‬
‫ومّما يلفت النظر حديث للّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( يقول فيه "إّياكم وأن يجامع الرجل‬
‫‪).‬امرأته والصبي في المهد ينظر إليهما")‪1‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ بحارالنوار‪ ،‬المجلد ‪ ،103‬صفحة ‪1 295‬‬
‫]‪[163‬‬
‫‪:‬ـ حكم الحجاب بالنسبة للنساء العجائز ‪2‬‬
‫ن القرآن صريح في هذا‬‫لخلف في أصل هذا الستثناء في حكم الحجاب بين علماء المسلمين‪ ،‬ل ّ‬
‫ن هناك أقوال في خصوصيات هذا الحكم‬ ‫‪.‬المر‪ .‬إّل أ ّ‬
‫فبالنسبة لعمر هؤلء النسوة‪ ،‬والحد الذي يجب أن يبلغنه ليكنّ من القواعد‪ ،‬هناك أقوال‪ .‬فبعض‬
‫ن المراد هو "المسّنة"‪1).‬‬‫)الحاديث السلمية تنص على أ ّ‬
‫‪).‬بينما فسرته أحاديث أخرى بـ "القُعود عن النكاح")‪2‬‬
‫سرين يرى أّنها تعني "النساء اللواتي ل يطمئن‪ ،‬فيصلن إلى مرحلة عدم‬ ‫ولكن عدد من المف ّ‬
‫ن")‪3‬‬‫‪).‬الحمل‪ .‬ول يرغب أحد في الزواج به ّ‬
‫ن جميع هذه التعابير تشير إلى واقع محدد‪ ،‬هو بلوغهن سنًا ل يتزوجن عادة‪ .‬وقد يحدث‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫‪.‬نادرًا أن يقدم بعضهن على الزواج في هذا العمر‬
‫كما جاءت تعابير مختلفة في الحاديث السلمية حول المقدار من الجسم المسموح بكشفه‪ ،‬ل ّ‬
‫ن‬
‫ن ثيابهن غير متبرجات(‬‫ضْع َ‬
‫القرآن الكريم ذكر المسألة بشكل عام )فليس عليهن جناح أن َي َ‬
‫‪.‬ويقصد بهذه الثياب الملبس الفوقانية‬
‫وجاء في بعض الحاديث جوابًا على سؤال‪ :‬أي الثياب يجوز وضعها؟‬
‫‪).‬يجيب المام الصادق)عليه السلم( "الجلباب" )‪4‬‬
‫‪).‬بينما ذكر حديث آخر أنه "الجلباب والخمار")‪5‬‬
‫ن هذه الحاديث غير متناقضة‪ ،‬وقصدها جواز الكشف عن رؤوسهن‪ ،‬وعدم تغطية الشعر‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫والرقبة والوجه‪ .‬كما قالت أحاديث ُأخرى ـ وقال فقهاء ـ بشمول الستثناء إلى حّد الرسغ‪ .‬ول سند‬
‫‪.‬لدينا يسمح بأكثر من ذلك‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ‪ ،14‬كتاب النكاح‪ ،‬الباب ‪ ،110‬الحديث ‪1 4‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق‪ ،‬الحديث ‪2 5‬‬
‫‪.‬ـ الجواهر‪ ،‬المجلد ‪ ،29‬صفحة ‪ 85‬وكنز العرفان‪ ،‬المجلد ‪ ،2‬ص ‪3 226‬‬
‫‪.‬ـ وسائل الشيعة‪ ،‬كتاب النكاح‪ ،‬الباب ‪ ،110‬الحديث ‪4 1‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق‪ ،‬الحديث ‪ 2‬و ‪5 4‬‬
‫]‪[164‬‬
‫ن )غير متبرجات بزينة(وأن يخفين الزينة التي‬ ‫ن بشرط أن يك ّ‬‫ن ذلك مسموح له ّ‬ ‫وعلى كّل حال‪ ،‬فإ ّ‬
‫تحت الحجاب‪ ،‬والتي من الواجب إخفاؤها من قبل جميع النساء‪ ،‬وأن ل يرتدين الملبس التي‬
‫ن بعدم التحجب على‬ ‫تنزين بها النساء‪ ،‬والتي تثير انتباه الخرين‪ .‬وبتعبير آخر‪ :‬إّنه مسموح له ّ‬
‫‪.‬أن يخرجن إلى الشارع بلباس محتشم ودون تزين بزينة‬
‫ن الفضل لهن أن يخرجن محجبات كالنساء اُلخريات‪ ،‬كما جاء‬ ‫وهذا كّله ليس حكمًا إلزاميًا‪ .‬إذ أ ّ‬
‫ن معرضات إلى الزلل ـ وإن كان نادرًا‬ ‫‪.‬في آخر الية المذكورة‪ ،‬إذ ه ّ‬

‫***‬
‫]‪[165‬‬

‫الية‬

‫ن َتْأُكُلوا‬‫سُكْم َأ ْ‬
‫على َأنُف ِ‬ ‫ج َول َ‬ ‫حَر ٌ‬‫ض َ‬ ‫عَلى اْلَمِري ِ‬ ‫ج َوَل َ‬ ‫حَر ٌ‬‫ج َ‬ ‫عَر ِ‬ ‫على اَْل ْ‬ ‫ج َوَل َ‬ ‫حَر ٌ‬‫عَمى َ‬ ‫عَلى اَْل ْ‬ ‫َلْيسَ َ‬
‫عَمـِمُكْم‬‫ت َأ ْ‬‫خَوِتُكم َأْو ُبُيو ِ‬
‫ت َأ َ‬
‫خَوِنُكْم َأْو ُبُيو ِ‬ ‫ت ِإ ْ‬
‫ت ُأّمَهـِتُكْم َأْو ُبُيو ِ‬‫ت َءاَبآِئُكْم َأْو ُبُيو ِ‬ ‫ِمن ُبُيوِتُكْم َأْو ُبُيو ِ‬
‫عَلْيُكم‬
‫س َ‬ ‫صِديِقُكْم َلْي َ‬
‫حُه َأْو َ‬ ‫خـَلـِتُكْم َأْو َما َمَلْكُتم ّمَفاِت َ‬
‫ت َ‬‫خَوِلُكْم َأْو ُبُيو ِ‬ ‫ت َأ ْ‬‫عّمـِتُكْم َأْو ُبُيو ِ‬‫ت َ‬ ‫َأْو ُبُيو ِ‬
‫ل َمَبـِرَكًة‬‫عنِد ا ِ‬ ‫حّيْة ّمن ِ‬ ‫سُكْم َت ِ‬
‫على َأنُف ِ‬ ‫سّلُموا َ‬ ‫خْلُتم ُبُيوتًا َف َ‬ ‫شَتاتًا فِإَذا َد َ‬‫جِميعًا َأْو َأ ْ‬
‫ح َأن َتْأُكُلوا َ‬ ‫جَنا ٌ‬‫ُ‬
‫ن)‪61‬‬ ‫ت َلَعّلُكْم َتْعِقُلو َ‬
‫ل َلُكْم اَْلَيـ ِ‬
‫نا ُ‬ ‫ك ُيَبّي ُ‬
‫طّيَبًة َكَذِل َ‬
‫)َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬البيوت التي يسمح بالكل فيها‬
‫تحدثت اليات السابقة عن الستئذان في أوقات معينة‪ ،‬أو بشكل عام حين الدخول إلى المنزل‬
‫ص بالب واُلم‬
‫‪.‬الخا ّ‬
‫أّما الية موضع البحث فإّنها استثناء لهذا الحكم‪ ،‬حيث يجوز للبعض‬
‫]‪[166‬‬
‫وبشروط معينة‪ ،‬الدخول إلى منازل القرباء وأمثالهم‪ ،‬وحّتى أّنه يجوز لهم الكل فيها دون‬
‫ج ول على العرج حرج ول على‬ ‫استئذان‪ ،‬حيث تقول هذه الية أول )ليس على العمى حر ٌ‬
‫‪).‬المريض حرج‬
‫ن أهل المدينة كانوا ـ كما ورد بصراحة في بعض الحاديث ـ وقبل قبولهم السلم‪ ،‬يمنعون‬ ‫لّ‬
‫‪.‬العمى والعرج والمريض من المشاركة في مائدتهم‪ ،‬ويتنّفرون من هذا العمل‬
‫صة‪ ،‬ليس‬
‫وعلى عكس ذلك كانت مجموعة منهم بعد إسلمها‪ ،‬تفرد لمثل هؤلء موائد خا ّ‬
‫لحتقارهم المشاركة معهم على مائدة واحدة‪ ،‬وإّنما لسباب إنسانية‪ ،‬فالعمى قد ل يرى الغذاء‬
‫الجيد في المائدة‪ ،‬وهم يرونه‪ ،‬ويأكلونه‪ ،‬وهذا خلف الخلق السليم‪ ،‬وكذلك المر بالنسبة للعرج‬
‫والمريض‪ ،‬حيث يحتمل تأخرهما عن الغذاء‪ ،‬وتقدم السالمين عليهما‪ .‬ولهذا كّله لم يشاركوهم‬
‫الغذاء على مائدة واحدة‪ .‬ولهذا كان العمى والعرج والمريض يسحب نفسه حتى ل يزعج‬
‫‪.‬الخرين بشيء‪ .‬ويعتبر الواحد منهم نفسه مذنبًا إن شارك السالمين غذاءهم في مائدة واحدة‬
‫وقد استفسر من الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( عن هذا الموضوع‪ ،‬فنزلت الية السابقة التي‬
‫صت على عدم وجود مانع من مشاركة العمى والعرج والمريض للصحيح غذاءه على مائدة‬ ‫ن ّ‬
‫)واحدة‪1).‬‬
‫ن القصد أّنه‬
‫وقد فسر آخرون هذه العبارة باستثناء هذه الفئات الثلث من حكم الجهاد‪ ،‬أو أ ّ‬
‫مسموح لكم استصحاب العاجزين معكم إلى الحد عشر بيتًا التي أشارت إليها الية في آخرها‪،‬‬
‫‪.‬ليشاركوكم في غذائكم‬
‫إّل أن هذين التفسيرين ـ كما يبدو ـ بعيدان عن قصد الية‪ ،‬ول ينسجمان مع‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ ذكرت هذا الّتفسير أيضًا‪ ،‬التفاسير التالية "الدر المنثور" و "نور الثقلين" و "مجمع البيان" ‪1‬‬
‫‪".‬و"الصافي" و"الّتفسير الكبير" و"التبيان‬
‫]‪[167‬‬
‫‪).‬ظاهرها‪) .‬فتأملوا جيدًا‬
‫‪).‬ثّم يضيف القرآن المجيد )ول على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم‬
‫‪.‬والمقصود بعبارة بيوتكم البناء أو الزوجات‬
‫‪).‬أو بيوت آبائكم(‬
‫‪).‬أو بيوت أمهاتكم(‬
‫‪).‬أو بيوت إخوانكم(‬
‫‪).‬أو بيوت إخواتكم(‬
‫‪).‬أو بيوت أعمامكم(‬
‫‪).‬أو بيوت عماتكم(‬
‫‪).‬أو بيوت أخوالكم(‬
‫‪).‬أو بيوت خالتكم(‬
‫‪).‬أو ما ملكتم مفاتحه(‬
‫‪).‬أو صديقكم(‬
‫ن هذا الحكم له شروط وإيضاحات سيأتي ذكرها في آخر تفسير الية‬ ‫‪.‬بالطبع فإ ّ‬
‫‪).‬ثّم تضيف الية )ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا‬
‫ن مجموعة من المسلمين كانوا يمتنعون عن الكل منفردين‪ ،‬بل كانوا يبقون جياعًا لمّدة‬ ‫ذكر أ ّ‬
‫حتى يجدوا من يشاركهم غذاءهم‪ ،‬فعلمهم القرآن المجيد أن تناول الغذاء مسموح بصورة جماعية‬
‫)أو فردية‪1).‬‬
‫ن مجموعة من العرب كانت تقدم غذاء الضيف على حدة احترامًا له‪ ،‬ول‬ ‫ويرى البعض‪ :‬إ ّ‬
‫‪).‬يشاركونه الغذاء )حتى ل يخجل أثناء تناوله الطعام‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير التبيان‪ ،‬للية موضع البحث ‪1‬‬
‫]‪[168‬‬
‫)لقد رفعت الية المذكورة هذه التقاليد واعتبروا غير محمودة)‪1‬‬
‫ن البعض كان يرى عدم جواز تناول الغنياء الغذاء مع الفقراء‪ ،‬والمحافظة على‬ ‫وقال آخرون‪ :‬إ ّ‬
‫الفروق الطبقية حتى على مائدة الطعام‪ .‬لهذا نفى القرآن المجيد هذا التقليد الخاطىء والظالم‬
‫)بذكره العبارة السابقة‪2).‬‬
‫‪.‬ول مانع من احتواء الية السابقة لكّل هذه المعاني‬
‫ثّم تشير الية إلى أحد التعاليم الخلقية فتقول‪) :‬وإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم تحية من‬
‫‪).‬عند ال مباركة طيبة( واختتمت بهذه العبارة )كذلك يبّين ال لكم اليات لعلكم تعقلون‬
‫ن المقصود من عبارة "بيوتًا" في هذه الية‪ ،‬هي البيوت الحد عشرة‬ ‫سرين‪ :‬إ ّ‬
‫وقال بعض المف ّ‬
‫‪.‬المذكورة سابقًا‬
‫‪.‬وقال آخرون‪ :‬إّنها المساجد‬
‫ولكن بيدو أنها عاّمة‪ ،‬تشمل جميع البيوت‪ ،‬سواء الحد عشر بيتًا التي يجوز للمرء الكل فيها‪ ،‬أو‬
‫‪.‬غيرها كبيوت الصدقاء والقرباء‪ .‬حيث ل يوجد دليل على تضييق المفهوم الواسع لهذه الية‬
‫ولكن ما هو المقصود من عبارة )سّلموا على أنفسكم(؟‬
‫سرين أّنه سلم البعض على البعض‪ ،‬مثلما‬ ‫نجد هنا عددًا من التفاسير‪ :‬حيث يرى البعض من المف ّ‬
‫صة بني إسرائيل )سورة البقرة الية ‪) (54‬فاقتلوا أنفسكم‬ ‫‪).‬جاء في ق ّ‬
‫ورأى آخرون أّنه يعني السلم على الزوجة والبناء والهل‪ ،‬حيث هم بمنزلة النفس‪ ،‬لهذا‬
‫استخدمت الية تعبير "النفس"‪ ،‬كما جاء هذا التعبير أيضًا في آية المباهلة )سورة آل عمران‬
‫الية ‪ .(61‬وهذا يبّين لنا أن قرب الشخص من‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪1‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫]‪[169‬‬
‫ي)عليه السلم(‬ ‫الخر قد يصل إلى درجة أّنه يكون كنفسه‪ ،‬أي يكونان كنفس واحدة‪ ،‬مثلما كان عل ّ‬
‫‪).‬من الّرسول محّمد)صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ن الية السابقة أشارت إلى بيوت لم يسكنها أحد‪ ،‬حيث يحيي المرء نفسه‬ ‫سرين أ ّ‬ ‫ويرى بعض المف ّ‬
‫سلم عليكم من قبل رّبنا‪ .‬أو‪ :‬السلم علينا وعلى عباد ال الصالحين‪ .‬ونرى‬ ‫عند دخولها فيقول‪ :‬ال ّ‬
‫ي منزل كان‪ ،‬ويجب أن‬ ‫عدم وجود تناقض بين هذه التفاسير‪ .‬حيث يجب السلم عند الدخول إلى أ ّ‬
‫يسلم المؤمنون بعضهم على بعض‪ ،‬ويسّلم أهل المنزل أحدهم على الخر‪ .‬وأّما إذا لم يجد أحدًا في‬
‫‪.‬المنزل فيحيي المرُء نفسه‪ ،‬حيث تعود هذه التحيات بالسلمة على النسان ذاته‬
‫ص تفسير هذه الية‬ ‫لهذا نقرأ في حديث عن المام الباقر)عليه السلم( يجيب فيه على سؤال يخ ّ‬
‫فيقول‪" :‬هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثّم يردون عليه فهو سلمكم على أنفسكم"‪).‬‬
‫)‪1‬‬
‫ن كان فيه‬
‫وفي حديث عن الباقر)عليه السلم( أيضًا‪ ،‬يقول فيه‪" :‬إذا دخل الرجل منكم بيته فإ ّ‬
‫فليسلم عليه‪ ،‬وإن لم يكن فيه أحد فليقل‪ :‬السلم علينا من عند رّبنا‪ ،‬يقول ال عّزوجّل "تحّية من‬
‫‪).‬عند ال مباركة طيبة")‪2‬‬
‫***‬

‫بحوث‬
‫ـ هل أن تناول غذاء الخرين غير منوط بإذنهم؟ ‪1‬‬
‫ن ال تعالى سمح أن يأكل النسان في بيوت أقربائه الُمقّربين‬‫كما شاهدنا في الية السابقة‪ ،‬أ ّ‬
‫وبعض الصدقاء وأمثالهم‪ ،‬وأصبح عدد هذه البيوت أحد عشر بيتًا‪ .‬ولم تشترط الية استئذانهم‬
‫لتناول الطعام‪ ،‬ول شك في عدم وجوب‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ نورالثقلين‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪1 627‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫]‪[170‬‬
‫ن بوجود الذن بالكل يمكن تناول الغذاء العائد لي شخص‪ ،‬وبذلك ل تبقى ميزة‬ ‫الستئذان‪ .‬إذ أ ّ‬
‫‪.‬لهذه المجموعة المؤلفة من أحد عشر بيتًا‬
‫فهل يشترط توفر الرضى القلبي يتناول الغذاء "وكما يقال من شاهد الحال"‪ .‬بسبب الصلة الوثيقة‬
‫بين الطرفين إن ظاهر اطلق الية ينفي هذا الشرط‪ ،‬إذ يكفي احتمال حصول رضاه فقط وعادة‬
‫‪.‬يحصل الرضى‬
‫أّما إذا كانت الحالة تؤّكد عدم رضى صاحب الطعام في تناول غذاءه‪ ،‬فبالرغم من اطلق الية‬
‫ن مثل هذا‬‫صة أ ّ‬
‫وشمولها لهذا المورد أيضًا‪ ،‬إّل أّنه ل يبعد إنصراف الية عن هذا المورد‪ ،‬وخا ّ‬
‫ن الطلقات ل تشمل الفراد النادرة‬ ‫‪.‬المورد نادر الوقوع‪ ،‬ومن المعلوم أ ّ‬
‫ن الية المذكورة تخصص اليات والّروايات التي تشترط في التصرف بأموال‬ ‫وعلى هذا فإ ّ‬
‫الخرين احراز رضاهم في دائرة محدودة‪ .‬وتكرر القول بأن هذا التخصيص‪ .‬في نطاق محدد‪ ،‬أي‬
‫‪.‬تناول الغذاء بمقدار الحاجة تناول بعيدًا عن السراف‬
‫والذي ذكرناه متعارف عليه بين كبار فقهائنا‪ .‬وجاء بعضه بصراحة في الحاديث السلمية‪ ،‬حيث‬
‫ذكر رواية معتبرة عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قال عند الستفسار منه عبارة "أو‬
‫صديقكم" الوارد في هذه الية قال)عليه السلم(‪" :‬هو وال الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير‬
‫‪).‬إذنه")‪1‬‬
‫كما ذكرت أحاديث ُأخرى بهذا المضمون‪ ،‬أّكدت أّنه ل يشترط الستئذان في هذه الحالت‪) .‬وبالطبع‬
‫ل يوجد خلف بين الفقهاء حول عدِم جواز الكل من غذاء الخرين دون استئذان‪ ،‬الذي نهت عنه‬
‫‪).‬الية بصراحة مع العلم بهذا النهي‪ .‬لهذا أهملت الية السابقة ذكرُه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ وسائل الشيعة‪ ،‬المجلد ‪ ،16‬صفحة ‪ ،434‬كتاب الطعمة والشربة ـ أبواب آداب المائدة ـ ‪1‬‬
‫‪.‬الباب ‪ 24‬الحديث‪1 ،‬‬
‫]‪[171‬‬
‫‪).‬وحول عبارتي "عدم الفساد" و"عدم السراف" فقد صرحت بعض الحاديث بذلك أيضًا)‪1‬‬
‫ول بد من الشارة إلى أّنه ورد حديث في هذا الباب يقول بأّنه يمكن الستفادة فقط من غذاء‬
‫ن الفقهاء أعرضوا عن هذا الحديث لضعف سنده‬ ‫ي غذاء‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫‪.‬خاص وليس أ ّ‬
‫سرين الطعمة الممتازة التي يحفظها صاحب المنزل لنفسه‪ ،‬أو لضيوفه‬ ‫واستثنى بعض المف ّ‬
‫صة‪ .‬وهذا الستثناء غير بعيد‪ ،‬بسبب انصراف الية عنه)‪2‬‬ ‫‪).‬المقربين‪ ،‬أو لمناسبات خا ّ‬

‫‪:‬ـ فلسفة هذا الحكم السلمي ‪2‬‬


‫يمكن أن يثير هذا الحكم تساؤل بالمقارنة مع الحكام الشديدة التي نصت عليها التعاليم في تحريم‬
‫!الغصب‪ ،‬هو‪ :‬كيف سمح السلم بذلك‪ ،‬رغم تشديده في قضية التصرف بأموال الخرين؟‬
‫ن هذا السؤال ينسجم مع طبيعة البيئات المادية تمامًا‪ ،‬كالمجتمع الغربي‪ ،‬حيث يطرد‬ ‫إّننا نرى أ ّ‬
‫البناء من المنزل حين البلوغ! ول يهتمون بالوالدين حين إصابتهم بالعجز أو الشيخوخة! حيث‬
‫نشاهد البناء هناك‪ ،‬ل يثمنون أتعاب الوالدين ول يشفقون عليهما‪ ،‬بسبب تسلط التفكير المادي‬
‫!على العلقات الجتماعية في الغرب! ول خبر هناك عن العاطفة النسانية والشفقة‬
‫صة‬
‫ن التعاليم السلمية والعواطف النسانية التي تمتد جذورها في المجتمع السلمي‪ ،‬خا ّ‬ ‫إّل أ ّ‬
‫‪.‬بين الهل والقرباء والصدقاء‪ ،‬قد مّيزت المجتمع السلمي عن المجتمع الغربي‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق‪ ،‬الحديث‪1 4‬‬
‫‪).‬ـ ليضاح أكثر يراجع جواهر الكلم المجلد ‪ ،36‬صفحة ‪) ،406‬كتاب الطعمة والشربة ‪2‬‬
‫]‪[172‬‬
‫ن السلم جعل علقات القرباء والصدقاء أسمى من اُلمور المادية‪ ،‬وهذا يعكسه‬ ‫والواقع أ ّ‬
‫الصفاء والود اللذان يسودان المجتمع السلمي الحقيقي‪ ،‬حيث يبتعد أفراد هذا المجتمع عن‬
‫‪.‬الصفات غير المحمودة كالبخل وحب الذات‬
‫ول ريب أن أحكام الغصب تكون نافذة في غير هذه الدائرة‪ .‬ولكن السلم في داخل هذه الدائرة‬
‫يفضل القضايا العاطفية والروابط النسانية‪ ،‬فهي التي ينبغي أن تسود العلقات بين القرباء‬
‫‪.‬والصدقاء جميعًا‬

‫ـ من هو الصديق؟ ‪3‬‬
‫ن للصداقة مفهومًا واسعًا‪ ،‬وهي تعني هنا بالتأكيد الصدقاء الخاصين الذين تربطهم‬ ‫ل شك أ ّ‬
‫علقات وثيقة‪ ،‬وهذه العلقة توجب التزاور فيما بينهم والكل من طعام الخر‪ ،‬ول حاجة هنا ـ كما‬
‫‪.‬أسلفنا ـ إلى احراز الرضا‪ ،‬بل يجوز الكل بمجّرد عدم العلم بعدم رضا صاحب الغذاء‬
‫سرين حول هذه الية‪ :‬الصديق هو الذي يصدق في علقاته معك‬ ‫‪.‬لهذا قال بعض المف ّ‬
‫‪.‬وقيل‪ :‬الصديق هو الذي يصّدق ظاهره باطنه وكما يبدو فإن الجميع يشيرون إلى حقيقة واحدة‬
‫ن الذي ل يسمح بمشاركة صديقه لغذائه‪ ،‬ل يمكن اعتباره صديقًا‬ ‫!ويّتضح من هذه العبارة أ ّ‬
‫ومن المناسب هنا أن نقرأ حديثًا عن اِلمام الصادق)عليه السلم( ضّم مفهوم الصداقة الواسع‬
‫‪:‬وشروطها الكاملة‬
‫ل بحدودها‪ ،‬فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فإنسبه إلى الصداقة‪"،‬‬ ‫ل تكون الصداقة إ ّ‬
‫‪.‬ومن لم يكن فيه شيء منها فل تنسبه إلى شيء من الصداقة‬
‫‪.‬فأّولها‪ :‬أن تكون سريرته وعلنيته لك واحدة‬
‫]‪[173‬‬
‫‪.‬والّثاني‪ :‬أن يرى زينك زينه وشينك شينه‬
‫‪.‬والّثالثة‪ :‬أن ل تغيره عليك ولية ول مال‬
‫‪.‬والّرابعة‪ :‬أن ل تمنعك شيئًا تناله مقدرته‬
‫)والخامسة‪ :‬وهي تجمع هذه الخصال أن ل يسلمك عند النكبات"‪1).‬‬

‫)ـ تفسير عبارة )ماملكتم مفاتحه ‪4‬‬


‫ن المسلمين في صدر السلم كانوا يسلمون أحيانًا مفاتيح منازلهم‬ ‫جاء في بعض أسباب الّنزول أ ّ‬
‫إلى الذين ل يشملهم الجهاد‪ .‬حين توجههم إلى الجهاد في سبيل ال‪ .‬وكانوا يسمحون له بتناول‬
‫ن هؤلء كانوا يمتنعون من الكل في هذه المنازل خوفًا من ارتكاب‬ ‫الطعام من هذه المنازل‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫‪.‬إثم في ذلك‬
‫ن المراد من عبارة )ما ملكتم مفاتحه( هو ما ذكرنا‪2).‬‬ ‫)وحسب هذه الرواية فإ ّ‬
‫وروي عن ابن عباس أيضًا أن قصد الية هو وكيل الشخص على ما يملكه من ماء وبستان‬
‫‪.‬ومواشي‪ ،‬حيث سمح له بتناول الفاكهة من بستان الموّكل بقدر حاجته والشرب من حليب ماشيته‬
‫سر آخرون ذلك بحارس المخزن الذي يسمح له بتناول قليل من المواد الغذائية الموجودة في‬ ‫كما ف ّ‬
‫‪.‬هذا المخزن‬
‫ومع ملحظة سائر المجموعات التي ورد ذكرها في هذه الية‪ ،‬يبدو أّنها تقصد الذين يسلمون‬
‫مفاتيح منازلهم لشخاص مؤثقين ومقربين لهم‪ ،‬وهذا التقارب الوثيق بينهما يؤدي إلى أن يكونوا‬
‫‪.‬في صف القرباء والصدقاء المقّربين‪ ،‬وسواًء كان وكيل رسميًا أم ل‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ أصول الكافي‪ ،‬المجلد الثاني‪ ،‬صفحة ‪1 467‬‬
‫ـ تفسير القرطبي‪ ،‬المجلد الّثاني عشر‪ ،‬ص ‪) 315‬وجاء في وسائل الشيعة المجلد السادس ‪2‬‬
‫‪).‬عشر‪ ،‬صفحة ‪ ،436‬الباب ‪ 24‬من أبواب المائدة حديث بهذا المضمون‬
‫]‪[174‬‬
‫ن بعض الحاديث تفسر عبارة )ما ملكتم مفاتحه( بالوكيل الذي يتعهد باِلشراف على‬ ‫وإذا لحظنا أ ّ‬
‫ن ذلك مصداق للية وليس لتحديد معناها وحصرها بهذا الّتفسير‬ ‫‪.‬أموال شخص آخر‪ ،‬فإ ّ‬

‫ـ السلم والتحية ‪5‬‬


‫التحية" مشتّقة من الحياة‪ ،‬بمعنى الدعاء لسلمة الخرين‪ ،‬سواء كانت بشكل السلم عليكم‪ ،‬أو"‬
‫السلم علينا‪ ،‬أو قول كحّياك ال‪ ،‬فكل هذا إعراب عن المحبة التي يبديها الشخص عند لقائه‬
‫‪.‬بآخر‪ ،‬وتدعى بالتحية‬
‫ويقصد بعبارة )تحية من عند ال مباركة طيبة(‪ .‬ربط التحية بال بشكل ما‪ ،‬أي "السلم عليكم"‪،‬‬
‫حد يرى ربط الدعاء بال‪ ،‬وطبيعي أ ّ‬
‫ن‬ ‫سلم ال عليكم‪ ،‬أو نسأل ال أن يسلمكم‪ ،‬إذ أن كل مو ّ‬
‫الدعاء بهذا الشكل يكون مباركًا وطيبًا‪) .‬تناولنا بحث السلم وأهميته ووجوب الرّد على التحية‪،‬‬
‫‪).‬في تفسير الية ‪ 86‬من سورة النساء‬
‫***‬
‫]‪[175‬‬

‫اليات‬

‫سَتْئِذُنوُه‬
‫حّتى َي ْ‬ ‫جاِمع ّلْم َيْذَهُبوا َ‬ ‫عَلى َأْمر َ‬ ‫سوِلِه َوِإَذا َكاُنوا َمَعُه َ‬ ‫ل َوَر ُ‬‫ن َءاَمُنوا ِبا ِ‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ض شْأِنِهْم َفْأَذن ّلمَ ِ‬
‫ن‬ ‫ك ِلَبْع ِ‬ ‫سَتْئَذُنو َ‬‫سوِلِه َفِإَذا ا ْ‬‫ل َوَر ُ‬ ‫ن ِبا ِ‬‫ن ُيْؤِمُنو َ‬‫ك اّلِذي َ‬‫ك ُأوَلِئ َ‬‫سَتْئِذُنو َ‬
‫ن َي ْ‬‫ِإنّ اّلِذي َ‬
‫ضُكم‬
‫عآءِ َبْع ِ‬ ‫سوِل َبْيَنُكْم َكُد َ‬
‫عآَء الّر ُ‬ ‫جَعُلوا ُد َ‬ ‫حيٌم)‪ّ (62‬ل َت ْ‬ ‫غُفوٌر ّر ِ‬ ‫ل َ‬ ‫نا َ‬ ‫ل ِإ ّ‬
‫سَتْغِفْر َلُهُم ا َ‬ ‫ت ِمْنُهْم َوا ْ‬ ‫شْئ َ‬ ‫ِ‬
‫صيَبُهْم ِفْتَنٌة َأْو‬‫ن َأْمِرِه َأن ُت ِ‬ ‫عْ‬ ‫ن َ‬ ‫خاِلُفو َ‬‫ن ُي َ‬
‫حَذِر اّلِذي َ‬‫ن ِمنُكْم ِلَواذًا َفْلَي ْ‬
‫سّلُلو َ‬
‫ن َيَت َ‬‫ل اّلِذي َ‬‫َبْعضًا َقْد َيْعَلُم ا ُ‬
‫جُعو َ‬
‫ن‬ ‫عَلْيِه َوَيْوَم ُيْر َ‬‫ض َقْد َيْعَلُم َمآ أَنُتْم َ‬
‫ت َواَْلْر ِ‬ ‫سَمـوا ِ‬ ‫ل َما ِفى ال ّ‬ ‫ن ِ‬‫ب َأِليٌم )‪َ(63‬أَل ِإ ّ‬ ‫عَذا ٌ‬‫صيَبُهْم َ‬ ‫ُي ِ‬
‫عِليٌم)‪64‬‬ ‫ىء َ‬ ‫شْ‬ ‫ل ِبُكّل َ‬ ‫عِمُلوا َوا ُ‬ ‫)ِإَلْيِه َفُيَنّبُئُهْم ِبَما َ‬

‫سبب الّنزول‬
‫ن هذه اليه‬
‫ذكرت عدة أسباب لنزول الية اُلولى من اليات أعله‪ ،‬فقد جاء في بعض الحاديث أ ّ‬
‫نزلت في "حنظلة بن أبي عياش" الذي صادف زواجه ليلة معركة ُأحد‪ ،‬وكان الّرسول)صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم( يشاور أصحابه حول هذه المعركة‪ ،‬فجاءه‬
‫]‪[176‬‬
‫‪).‬حنظلة يستأذنه المبيت عند زوجته‪ ،‬فأجازه)صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وقد بّكر حنظلة لللتحاق بصفوف المسلمين‪ ،‬وكان على عجل من أمره بحيث لم يتمكن من‬
‫‪.‬الغتسال‪ .‬ودخل المعركة على هذه الحال‪ ،‬وقاتل حتى قتل في سبيل ال‬
‫قال رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( فيه "رأيت الملئكة تغسل حنظلة بماء المزن في‬
‫‪".‬صحائف فضة بين السماء والرض‬
‫‪).‬لهذا سمي حنظلة بعدها بـ "غسيل الملئكة")‪1‬‬
‫وذكر سبب آخر لنزول هذه الية حيث "روى ابن إسحاق" في سبب نزول هذه اليات أّنه لما‬
‫سمع رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( بتجمع قريش والحزاب على حربه ـ وما أجمعوا له‬
‫من المر ضرب الخندق على المدينة‪ .‬فعمل فيه رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( ترغيبًا‬
‫للمسلمين في الجر‪ ،‬وعمل معه المسلمون فيه فدأب ودأبوا‪ ،‬وأبطأ عن رسول ال)صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم( وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين ل ينجزون إّل اليسير من العمل‪،‬‬
‫أو يتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ول إذنه‪ ،‬وجعل الرجل من‬
‫المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لبّد منها‪ ،‬يذكر ذلك لرسول ال)صلى ال عليه وآله‬
‫‪.‬وسلم(ويسأله في اللحوق بحاجته فيأذن له‬
‫فإذا قضى حاجته‪ ،‬رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابًا له‪ ،‬فأنزل ال تعالى‬
‫في ُأولئك المؤمنين )إّنما المؤمنون ‪ (...‬الية‪ ،‬ثّم قال تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون‬
‫من العمل ويذهبون بغير إذن من الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪) :‬ول تجعلوا دعاء الّرسول‬
‫)بينكم ‪ (...‬الية)‪2‬‬
‫***‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير علي بن إبراهيم‪ ،‬حسبما نقله تفسير نورالثقلين‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬صفحة ‪1 628‬‬
‫‪.‬ـ في ظلل القرآن ـ طبعة دار إحياء الكتب العربية ـ الجزء السابع عشر‪ ،‬ص ‪2 126‬‬
‫]‪[177‬‬
‫الّتفسير‬
‫ي وحده‬‫!ل تتركوا النب ّ‬
‫سرين حول علقة هذه اليات بسابقتها‪ ،‬وفيهم المرحوم "الطبرسي" في مجمع‬ ‫قال بعض المف ّ‬
‫ن اليات السابقة طرحت للبحث جانبًا من‬‫البيان "وسيد قطب" في تفسير في ظلل القرآن‪ :‬بما أ ّ‬
‫ن اليات موضع البحث تناولت كيفية تعامل المسلمين‬ ‫ُأسلوب التعامل مع الصدقاء والقرباء‪ .‬فإ ّ‬
‫مع قائدهم النبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ .‬وقد أّكدت التزام الوقار أمامه‪ ،‬وطاعته وعدم ترك‬
‫‪.‬الجماعة إّل بإذنه‬

‫ن اليات السابقة تحدثت عن ضرورة طاعة ال ورسوله)صلى ال عليه وآله‬ ‫ويمكن أيضًا أ ّ‬
‫وسلم(‪ ،‬ومن علئم طاعته عدم تركه أو القيام بعمل ما دون إذن منه‪ ،‬لهذا تحدثت اليات ـ موضع‬
‫البحث ـ حول هذا الموضوع‪ .‬فتقول أّول‪) :‬إّنما المؤمنون الذين آمنوا بال ورسوله وإذا كانوا‬
‫‪).‬على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه‬
‫والمراد من "أمر جامع" كّل عمل يقتضي إجتماع الناس فيه ويتطلب تعاونهم‪ ،‬سواء كان عمل‬
‫‪.‬استشاريًا‪ ،‬أو مسألة حول الجهاد ومقاتلة العدو‪ ،‬أو صلة جمعة في الظروف الستثنائية وأمثالها‬
‫سرين‪ ،‬قالوا بأّنه يعني الستشارة أو الجهاد أو صلة الجمعة أو العيد‬ ‫ن بعض المف ّ‬ ‫وإذا وجدنا أ ّ‬
‫فنقول‪ :‬إّنهم عكسوا جانبًا من معاني هذه الية‪ .‬وأسباب الّنزول السابقة أيضًا هي من مصاديق‬
‫‪.‬هذا الحكم العام‬
‫ن هذا من شروط النظم والتنظيم ول يمكن لية مجموعة منظمة منسجمة أن تهمله‪،‬‬ ‫وفي الحقيقة إ ّ‬
‫صة إذا كان قائد‬
‫فغياب شخص واحد قد تترتب عليه صعوبات ويلحق ضررًا بالهدف النهائي‪ ،‬خا ّ‬
‫‪.‬الجماعة رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( وكلمه مطاع‬
‫صة والتفرغ‬ ‫ن الذن ل يعني الستئذان الشكلي لقضاء الشخص أعماله الخا ّ‬ ‫كما يجب النتباه إلى أ ّ‬
‫لتجارته‪ .‬وإّنما أن يكون صادقًا في الستئذان‪ .‬فإذا وجد القائد أن غياب هذا الشخص يلحق ضررًا‪،‬‬
‫فمن حقه أن ل يأذن له‪ ،‬وعليه أن‬
‫]‪[178‬‬
‫يضحي بمصلحته من أجل هدف أسمى‪ .‬لهذا تضيف الية‪) :‬إنّ الذين يستأذنوك أولئك الذين‬
‫‪).‬يؤمنون بال ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم‬
‫ن هؤلء المؤمنين ل يستأذن أحدهم لعمل بسيط في حين أّنهم اجتمعوا لمر أهم‪،‬‬ ‫ومن الواضح أ ّ‬
‫‪.‬والمقصود من عبارة "شأنهم"‪ ،‬العمال الضرورية والمهّمة فقط‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬ل تعني إذن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( للشخاص دون دراسة جوانب‬
‫المسألة وأثر حضور وغياب الفراد‪ ،‬بل جاء هذا التعبير ليطلق يد الّنبي)صلى ال عليه وآله‬
‫‪.‬وسلم( وأن ل يأذن لحد حين إحساسه بضرورة حضوره في الجماعة‬
‫ودليل هذا الكلم ما جاء في الية )‪ (43‬من سورة التوبة حيث يلم الّرسول)صلى ال عليه وآله‬
‫‪).‬وسلم( لذنه بعض الفراد‪) :‬عفى ال عنك لم أذنت لهم حتى يتبّين الذين صدقوا وتعلم الكاذبين‬
‫وتبّين هذه الية كيف أوجبت على الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( التحقيق قبل الذن‪ ،‬وأن‬
‫‪.‬يلحظ أبعاد هذه المسؤولية اللهية‬
‫ن ال غفور رحيم‬‫‪).‬وتقول الية في الختام‪) :‬واستغفر لهم ال إ ّ‬
‫و هنا يطرح سؤال‪ :‬ما الغرض من هذا الستغفار؟ فهل هم مذنبون رغم أخذهم الذن من الّرسول‬
‫بالمغادرة‪ ،‬كي يحتاجوا إلى استغفاره لهم؟‬
‫‪:‬و للجواب على هذا السؤال هناك وجهان‬
‫ن الْولى أن ل يقع اِلستئذان منهم وإن أذن لهم‪ ،‬لن ذلك‬ ‫أحدهما‪ :‬أن يستغفر لهم تنبيهًا على أ ّ‬
‫صة على مصلحة المسلمين‪ ،‬و ل يخلو هذا المر من "الترك‬ ‫يعتبر تقديم الشخص لمصلحته الخا ّ‬
‫الولى" ولذا يحتاج الى الستغفار )كالستغفار‬
‫]‪[179‬‬
‫)على عمل مكروه(‪1).‬‬
‫كما تبّين هذه العبارة ضرورة عدم الستئذان بالقدر الممكن‪ .‬واتباع التضحية و اليثار حتى ل‬
‫‪.‬يتورطوا بارتكاب عمل تركه أْولى كمغادرة الجماعة لعمل بسيط‬
‫ل تعالى في‬‫سكهم بآداب ا ّ‬
‫و الوجه الثاني‪ :‬يحتمل أّنه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة لتم ّ‬
‫)الستئذان‪2).‬‬
‫ص هذه التعاليم‬
‫ولكن نرى عدم وجود تناقض بين هذين الوجهين‪ ،‬كما أّنه من الطبيعي أن ل تخ ّ‬
‫التنظيمية الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( وأصحابه فقط‪ .‬وإّنما هي واجبة التباع إزاء كّل‬
‫قائد إلهي‪ ،‬سواء كان نبيًا أم إمامًا أم عالمًا نائبًا لهما‪ ،‬حيث يتوقف مصير المسلمين على هذه‬
‫الطاعة‪ .‬كما يحتمه ـ إضافة إلى القرآن ـ العقل والمنطق‪ ،‬لنّ الستمرار التنظيم يتوقف على‬
‫‪.‬رعاية هذه المبادىء‪ ،‬ول يمكن إدارة المجتمع بدونها‬
‫سري أهل السنة لهذه الية بأّنها دليل على جواز الجتهاد وتوقف الحكم‬ ‫و المدهش تفسير كبار مف ّ‬
‫ن الجتهاد المطروح في مباحث الصول والفقه يخص الحكام‬ ‫على رأي المجتهد‪ .‬ول يخفى أ ّ‬
‫ن الجتهاد في الموضوع ل يقبل النكار‪،‬‬ ‫الشرعية‪ ،‬ول يتعلق بالجتهاد في الموضوعات حيث أ ّ‬
‫صة بدائرة‬‫فكل قائد جيش أو مدير دائرة أو مشرف على جماعة يجتهد في القضايا الجرائية الخا ّ‬
‫عمله‪ .‬وليس هذا دليل على إمكان الجتهاد في الحكام الشرعية العاّمة بإيجاب حكم بدعوى‬
‫‪.‬المصلحة العاّمة‪ ،‬أو نفي حكم أو تشريع آخر‬
‫ثمّ بّينت الية التالية حكمًا آخر له علقة بتعاليم النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( حيث‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ الّتفسير الكبير للفخر الرازي‪ ،‬وروح المعاني‪ ،‬وتفسير القرطبي لليات موضع البحث ‪1‬‬
‫ـ الّتفسير الكبير للفخر الرازي ـ في تفسيره للية موضع البحث صفحة ‪ 39‬من طبعة دار الكتب ‪2‬‬
‫‪.‬العلمية بطهران ـ الطبعة الّثانية‬
‫]‪[180‬‬
‫‪).‬تقول‪):‬ل تجعلوا دعاء الّرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا‬
‫إن الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( عندما يدعوكم للجتماع‪ ،‬فإنه لبّد من أن يكون لمسألة‬
‫إلهية مهّمة‪ ،‬لهذا يجب عليكم الهتمام بدعوته‪ ،‬واللتزام بتعاليمه‪ ،‬وأّل تهملوها‪ ،‬فأمره من ال‬
‫‪.‬ودعوته منه سبحانه وتعالى‬
‫ثّم تضيف الية )قد يعلم ال الذين يتسللون منكم لواذًا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم‬
‫‪).‬فتنة أو يصيبهم عذاب أليم‬
‫ل السيف من"‬ ‫ن يقال‪ :‬س ّ‬
‫يتسللون" مشتّقة من "تسلل"‪ ،‬وتعني سحب الشيء من موضعه‪ ،‬كأ ّ‬
‫‪".‬غمده‪ .‬كما يطلق على الذين يفرون سّرا من مكان تجمع محدد لهم‪ ،‬كلمة "متسللون‬
‫لواذًا" مشتّقة من "ملوذة" بمعنى الختفاء‪ ،‬وتعني هنا اختفاء البعض وراء البعض أو خلف"‬
‫جدار‪ ،‬أو بتعبير آخر‪ :‬استغفال الخرين ثّم الفرار من مكان تجمعهم‪ ،‬وهذا ما كان يقوم به‬
‫المنافقون حينما يوجه الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( الدعوة للجهاد أو لمر مهم آخر‪ ،‬يقول‬
‫ن عملكم النفاقي هذا إن خفي على الناس فإّنه ل يخفى على ال‪ ،‬وسيعاقبكم‬ ‫لهم القرآن المجيد‪" :‬إ ّ‬
‫‪".‬على هذه العمال ومخالفتكم لوامر الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( في الدنيا والخرة‬
‫سرين‪ :‬إّنها القتل‪ ،‬وآخرون قالوا‪ :‬إّنها تعني الضلل‪،‬‬
‫ماذا يقصد به "فتنة" هنا؟ قال بعض المف ّ‬
‫‪.‬كما قال بعضهم‪ :‬إّنها السلطان الظالم‪ ،‬وقيل‪ :‬إّنها بلء النفاق الذي يتوغل في قلب النسان‬
‫كما يحتمل أن تعني الفتنة الفتن الجتماعية ومشاكلها‪ ،‬وأن يسود الهرج والمرج في المجتمع‪،‬‬
‫‪.‬وابتلئه بالهزيمة‪ ،‬وسائر الفتن اُلخرى التي يبتلى بها المجتمع في حالة عصيانه أوامر قائده‬
‫و على كّل حال فالفتنة ذات مفهوم واسع يضّم جميع هذه اُلمور وغيرها‪ ،‬مثلما يضّم العذاب الليم‬
‫‪.‬عذاب الدنيا أو عذاب الخرة أو كليهما‬
‫]‪[181‬‬
‫‪:‬و مّما يجب النتباه إليه في تفسير الية محل البحث وجود احتمالين إضافة إلى ما ذكرناه هما‬
‫ن القصد من قوله تعالى‪) :‬ل تجعلوا دعاء الّرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا( أّنكم عندما‬ ‫الّول‪ :‬أ ّ‬
‫تدعو الّنبى)صلى ال عليه وآله وسلم( فينبغي أن تدعوه بأدب واحترام يليق بمنزلته‪ ،‬وليس كما‬
‫ن جماعة من المسلمين لم يتعلموا ـ بعد ـ الداب‬ ‫تدعون بعضكم بعضًا‪ ،‬والسبب يكمن في أ ّ‬
‫السلمية في التعامل مع الخرين‪ ،‬فكانوا ينادون الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( بعبارة‪ :‬يا‬
‫محّمد! وهذا ل يليق بنداء قائد إلهي كبير‪ .‬وتستهدف الية تعليم الناس أن يدعوا الّرسول صّلى‬
‫ى ال‬ ‫‪.‬ال عليه وآله وسّلم بعبارات رزينة وبأسلوب مؤدب‪ ،‬كأن يدعوه‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أو‪ :‬يا نب ّ‬
‫وهذا الّتفسير ورد في بعض الّروايات أيضًا إّل أّنه ل ينسجم مع ظاهر الية التي تحدثت عن‬
‫الستجابة لدعوة الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ووجوب عدم الغياب عن الجماعة دون‬
‫استئذان منه)صلى ال عليه وآله وسلم( إّل أن نقول‪ :‬إن كل المعنيين مقصودان للية واحدة‪ ،‬وأن‬
‫‪ .‬مفهوم الية شامل للتفسيرين الّول والّثاني‬
‫و الخر‪ :‬ويبدو أّنه ضعيف جّدا‪ ،‬وهو أّل تجعلوا دعاء الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( على أحد‬
‫ى)صلى ال عليه وآله‬ ‫ن دعاء ولعن النب ّ‬‫الشخاص ولعنه له كدعاء بعضكم على بعض)‪ ،(1‬ل ّ‬
‫‪.‬وسلم( يتّم وفق حساب دقيق وخاضع للتعاليم اللهية‪ ،‬وهو نافذ حتمًا‬
‫ص به‪ ،‬ولهذا‬‫و لكن ليس لهذا الّتفسير علقة بأّول الية ونهايتهًا‪ ،‬ولم يرد حديث إسلمي خا ّ‬
‫‪.‬السبب ل يمكن قبوله‬
‫ن أوامر‬ ‫سروا عبارة )فليحذر الذين يخالفون عن أمره( بأ ّ‬ ‫ن علماء اُلصول ف ّ‬‫و تجدر الشارة إلى أ ّ‬
‫الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( تدل على الوجوب‪ ،‬إّل أنّ هذا الستدلل فيه نواقص ُاشير‬
‫‪.‬إليها في علم اُلصول‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ لقد جاء بعد كلمة الدعاء "لم" فإّنها تعني البتهال والدعاء‪ ،‬أّما إذا جاء الحرف "على" فإّنها ‪1‬‬
‫تعني الدعاء على شخص لغير صالحه‪ ،‬وإذا افتقدت الجملة أي من هذين الحرفين فيحتمل أن‬
‫‪.‬تتضّمن العبارة المعنيين‬
‫]‪[182‬‬
‫و آخر آية من اليات موضع البحث‪ ،‬ـ والتي هي آخر سورة النور ـ اشارة بليغة إلى قضية المبدأ‬
‫والمعاد التي تعتبر دافعًا لمتثال التعاليم اللهية جميعًا‪ ،‬وضمان لتنفيذ جميع الوامر والنواهي‪،‬‬
‫)ومنها التي وردت في هذه السورة حيث تقول‪) :‬أل أن ل ما في السموات والرض‬
‫ن ال العالم بكّل شيء )قد يعلم ما أنتم عليه( أي يعلم ُأسلوبكم في التعامل و أعمالكم واعتقادكم‬‫فإ ّ‬
‫ومقاصدكم‪ ،‬فكّلها واضحة له سبحانه وتعالى‪ .‬وثابتة في لوحة علمه )و يوم يرجعون إليه فينبئهم‬
‫‪).‬بما عملوا( ويجازيهم بها )وال بكل شيء عليم‬
‫و مّما يلفت النظر تأكيد الية ثلث مرات على علم ال بأعمال البشر‪ .‬ليشعر النسان أّنه مراقب‬
‫بشكل دائم‪ ،‬ول يخفى على ال شيء من أعمال هذا النسان أبدًا‪ .‬ولهذا العتقاد أثره التربوي‬
‫‪.‬الكبير ويضمن سيطرة النسان على نفسه إزاء النحرافات والذنوب‬
‫إلهي‪ ،‬نّور قلوبنا بنور العلم واليمان‪ ،‬وقّو مشكاة وجودنا للمحافظة على هذا اليمان‪ ،‬لنجتاز‬
‫‪.‬صراطك المستقيم الذي سار عليه أنبياؤك لكسب رضاك‪ ،‬ولتحفظنا بلطفك من كل انحراف‬
‫رّباه‪ ،‬نّور أبصارنا بنور العفة‪ ،‬وقلوبنا بنور المعرفة‪ ،‬وأرواحنا بنور التقوى‪ ،‬ونور وجودنا كله‬
‫‪.‬بنور الهداية‪ ،‬واحفظنا من التيه والغفلة‪ ،‬وأعذنا من وساوس الشيطان‬
‫طد أركان حكومة العدل السلمي من أجل تنفيذ حدودك‪ ،‬واحفظ مجتمعنا من الزلل‬ ‫إلهي‪ ،‬و ّ‬
‫‪.‬والسقوط في هاوية الرذيلة‪ ،‬إنك على كل شيء قدير‬

‫نهاية سورة النور‬


‫***‬
‫]‪[183‬‬

‫سوَرُة الُفرقا ْ‬
‫ن‬ ‫ُ‬

‫ن آية‬
‫سْبُعو َ‬
‫سْبع َو َ‬
‫عَدُد آياِتها َ‬
‫َمكّية َو َ‬

‫]‪[185‬‬

‫"سورة الفرقان"‬

‫‪:‬محتوى سورة الفرقان‬


‫هذه السورة بحكم كونها من السور المكية)‪ ،(1‬فإن أكثر ارتكازها على المسائل المتعلقة بالمبدأ‬
‫والمعاد‪ ،‬وبيان نبوة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( والمواجهة مع الشرك والمشركين‪ ،‬والنذار‬
‫‪.‬من العواقب الوخيمة للكفر وعبادة الصنام والذنوب‬
‫و تتألف هذه السورة في مجملها من ثلثة أقسام‪ :‬ـ‬
‫القسم الّول‪ :‬الذي يشكل مطلع هذه السورة‪ ،‬يدحض منطق المشركين بشّدة‪ ،‬و يستعرض‬
‫ذرائعهم‪ ،‬ويرّد عليها‪ ،‬ويخوفهم من عذاب ال‪ ،‬وحساب يوم القيامة‪ ،‬و عقوبات جهنم الليمة‪،‬‬
‫ويذكّرهم بمقاطع من قصص القوام الماضية الذين افترستهم على أثر مخالفتهم لدعوة النبياء ـ‬
‫‪.‬الشدائد والبليا والعقوبات‪ ،‬وذلك على سبيل الدرس والعبرة لهؤلء المشركين المعاندين‬
‫في القسم الثانى‪ :‬لجل إكمال هذا البحث‪ ،‬تبحث اليات بعض دلئل التوحيد ومظاهر عظمة ال في‬
‫الكوان‪ ،‬بدءًا من ضياء الشمس إلى ظلمة وعتمة الليل‪ ،‬وهبوب الرياح‪ ،‬ونزول المطار‪ ،‬وإحياء‬
‫الراضي الموات‪ ،‬وخلق السماوات والرضين في ستة أّيام‪ ،‬وخلق الشمس والقمر‪ ،‬وسيرهما‬
‫‪.‬المنظم في الفلك السماوية‪ ،‬وما شابه ذلك‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سرين على أن ثلث آيات من هذه السورة )‪ (70 ،69 ،68‬نزلت في المدينة‪1 ،‬‬ ‫ـ ُيصر بعض المف ّ‬
‫شّرعت في هذه اليات‪ ،‬في حين أن التدقيق في‬ ‫ن أحكامًا مثل قتل النفس والزنا‪ُ ،‬‬ ‫ولعل ذلك ل ّ‬
‫ن السياق واحد متصل ومنسجم تمامًا حول )عباد‬ ‫اليات التي قبلها والتي بعدها‪ ،‬يكشف جيدًا عن أ ّ‬
‫‪.‬الرحمن( وبيان أوصافهم‪ ،‬لذا فالظاهر أن السورة نزلت كلها في مّكة‬
‫]‪[186‬‬
‫‪).‬فالقسم الّول في الحقيقة ـ يحدد مفهوم )ل إله(‪ ،‬والقسم الّثاني يحدد مفهوم )إّل ال‬
‫القسم الثالث‪ :‬مختصر جذاب جّدا‪ ،‬وجامع لصفات المؤمنين الحقيقيين )عباد الرحمن( وعباد ال‬
‫المخلصين‪ ،‬في مقايسة مع الكفار المتعصبين الذين ذكروا في القسم الّول‪ ،‬فتتحدد منزلة كل من‬
‫ن هذه الصفات مجموعة من العتقاديات والعمال الصالحة‬ ‫الفريقين تمامًا‪ .‬كما أّننا سنرى أ ّ‬
‫‪.‬ومكافحة الشهوات‪ ،‬وامتلك الوعي الكافي‪ ،‬والحساس واللتزام بالمسؤولية الجتماعية‬
‫و اسم هذه السورة قد ُاخذ من آيتها اُلولى‪ ،‬التي تعبر عن القرآن بـ "الفرقان" )الفاصل بين‬
‫‪).‬الحق والباطل‬

‫‪:‬فضيلة سورة الفرقان‬


‫ورد في حديث عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أن "من قرأ سورة الفرقان )و تدّبر في‬
‫محتواها وعمل بما ورد فيها( بعث يوم القيامة وهو مؤمن أن الساعة آتية ل ريب فيها‪ ،‬وأن ال‬
‫)‪...‬يبعث من في القبور"‪) (1).‬أي مؤمن بأن الساعة‬
‫و نقل في حديث آخر عن إسحاق بن عمار عن المام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلم‬
‫أّنه قال له‪" :‬يابن عمار‪ ،‬ل تدع قراءة سورة )تبارك الذي نزل الفرقان على عبده( فإن من قرأها‬
‫)في كل ليلة لم يعذبه ال أبدًا‪ ،‬ولم يحاسبه‪ ،‬وكان منزله في الفردوس العلى"‪2).‬‬
‫كما أننا سنرى ـ في تفسير هذه السورة ـ أن كّل من تل بحق صفات عباد ال المخلصين المبّينة‬
‫ن منِزله الفردوس‬‫في السورة كما هي‪ ،‬وامتزجت بقلبه وروحه‪ ،‬وبنى صفاته أعماله طبقًا لها فإ ّ‬
‫‪.‬العلى‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان آخر الية مورد البحث ‪1‬‬
‫‪ .‬ـ ثواب العمال للصدوق‪ ،‬طبقًا لنقل نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪2 2‬‬
‫]‪[187‬‬

‫اليتان‬
‫ض َوَلْم‬
‫ت واَلْر ِ‬
‫سَمَو ِ‬
‫ك ال ّ‬
‫ن َنذيرًا)‪ (1‬اّلِذى َلُه ُمْل ُ‬
‫ن َلْلَعـَلِمي َ‬
‫عْبِدِه ِلَيُكو َ‬
‫عَلى َ‬
‫ن َ‬‫ك اّلِذى َنّزَل اْلُفْرَقا َ‬‫َتَباَر َ‬
‫ىء َفَقّدَرُه َتْقِديرًا)‪2‬‬
‫شْ‬
‫ق ُكّل َ‬‫خَل َ‬ ‫كوَ‬ ‫ك ِفى اْلُمْل ِ‬ ‫شري ٌ‬
‫خْذ َوَلدًا َوَلْم َيُكن ّلُه َ‬‫)َيّت ِ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬المقياس العلى للمعرفة‬
‫تبدأ هذه السورة بجملة "تبارك" من مادة "بركة"‪ ،‬ونعلم أنّ الشيء ذو بركة‪ ،‬عبارة عن أّنه ذو‬
‫دوام وخير ونفع كامل‪ .‬يقول تعالى‪) :‬تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا(‪).‬‬
‫)‪1‬‬
‫ن ثبوت البركة لذات الخالق عّزوجّل بواسطة نزول الفرقان‪ ،‬يعني أّنه أنزل قرآنًا‬ ‫الملفت للنتباه أ ّ‬
‫فاصل بين الحق والباطل‪ ،‬وهذا يدل على أن أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك النسان بيده‬
‫‪.‬وسيلة المعرفة ـ معرفة الحق من الباطل‬
‫ن كلمة "الفرقان" وردت بمعنى "القرآن" تارًة‪ ،‬و تارًة بمعنى‬ ‫و هنا وقفة مهّمة أيضًا‪ ،‬وهي أ ّ‬
‫معجزات مميزة للحق من الباطل‪ ،‬ووردت بمعنى "التوراة" تارًة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ ورد شرح كلمة "البركة" في ج ‪ ،5‬آخر الية )‪ (54‬من سروة العراف‪ ،‬شرح اصل ‪1‬‬
‫‪"".‬البركة‬
‫]‪[188‬‬
‫‪.‬أخرى‬
‫جملُة الكتاب‪ ،‬والفرقان‪:‬‬
‫عن القرآن والفرقان‪ ،‬أهما شيئان‪ ،‬أو شيء واحد؟ فقال‪" :‬القرآن‪ُ :‬‬
‫‪".‬المحكم الواجب العمل به‬
‫ن آيات القرآن‬
‫ن الفرقان هو جميع آيات القرآن‪ ،‬والمراد هو أ ّ‬ ‫ول منافاة بين هذا القول وبين أ ّ‬
‫‪.‬المحكمات تعتبر مصداقًا أوضح وأبرز للفرقان وللتمييز بين الحق والباطل‬
‫ن القرآن المجيد ذكرها كمكافأة عظيمة للمتقين‪:‬‬ ‫ولموهبة "الفرقان والمعرفة" أهمية بالغة بحيث أ ّ‬
‫ن تتقوا ال يجعل لكم فرقانًا‪1)(..‬‬ ‫‪)).‬يا أّيها الذي آمنوا إ ْ‬
‫ن الهواء والذنوب تلقي على وجه الحق‬ ‫نعم‪ ،‬فبدون التقوى ل يمكن تمييز الحق من الباطل‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬حجابًا كثيفًا‪ ،‬وتعمي بصر ابن آدم وبصيرته‬
‫‪.‬و على أية حال‪ ،‬فالقرآن المجيد هو الفرقان العلى‬
‫‪.‬القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في نظام حياة البشر‬
‫القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في مسير الحياة الفردية والجتماعية‪ ،‬وهو الميزان‬
‫‪.‬والمحك على صعيد الفكار والعقائد‪ ،‬والقوانين‪ ،‬والحكام‪ ،‬والداب‪ ،‬والخلق‬
‫وهذه الوقفة مهّمة أيضًا‪ ،‬حيث يقول تعالى )نّزل الفرقان على عبده( نعم‪ ،‬فمقام العبودية والنقياد‬
‫‪.‬التاّمين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان‪ ،‬ولتلقي موازين الحق والباطل‬
‫ن هدف الفرقان النهائي هو إنذار العالمين‪،‬‬ ‫والنكتة الخيرة التي طرحت في هذه الية‪ ،‬تبّين أ ّ‬
‫النذار الذي نتيجته الحساس بالمسؤولية تجاه التكاليف الملقاة على عاتق النسان‪ .‬وعبارة‬
‫ن شريعة السلم‬ ‫"للعالمين" كاشفة عن أ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .‬ـ سورة النفال‪ ،‬الية ‪1 29‬‬
‫]‪[189‬‬
‫عالمية ل تختص بمنطقة معينة‪ ،‬ول بقوم أو عنصر معينين‪ .‬بل إن بعضهم قد استدل منها على‬
‫خاتمية الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬وذلك أن "العالمين" كما أّنها غير محدودة من حيث‬
‫المكان‪ ،‬فكذلك مطلقة من حيث الزمان أيضًا‪ ،‬فـ "العالمين" تشمل جميع الجيال القادمة أيضًا‬
‫‪)!).‬فتأمل‬
‫الية الّثانية تصف ال الذي نزل الفرقان بأربع صفات‪ ،‬صفة منها هي الساس‪ ،‬والبقية نتائج‬
‫‪).‬وفروع لها‪ ،‬فتقول أّول‪) :‬الذي له ملك السموات والرض()‪1‬‬
‫نعم‪ ،‬إّنه الحاكم على كل عالم الوجود‪ ،‬وكل السماوات والرض‪ ،‬فل شيء خارج عن سلطة‬
‫حكومته‪ ،‬وباللتفات إلى تقدم "له" على "ملك السموات" الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية‬
‫يستفاد أن الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والرض منحصرة به تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬ذلك لن حكومته عاّمة وخالدة وواقعية‪ ،‬بخلف حاكمية غيره التي هي جزئية ومتزلزلة‪.‬‬
‫‪.‬وفي نفس الوقت فهي مرتبطة به سبحانه‬
‫‪).‬ثّم يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد اُلخرى‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬ولم يتخذ ولدًا()‪2‬‬
‫و كما قلنا من قبل فإن الحاجة إلى الولد من حيث الصل إّما لجل الستفادة من طاقته البشرية في‬
‫العمال‪ ،‬أو لجل الستعانة به حال الضعف والعجز والشيخوخة‪ ،‬أو لجل الستئناس به في حال‬
‫‪.‬الوحدة‪ ،‬ومن المعلوم أن ذاته المقدسة عّزوجّل منّزهة عن أي واحد من تلك الحتياجات‬
‫ن "المسيح")عليه السلم( ابن ال‪ ،‬أو ما‬ ‫وبهذا الترتيب‪ ،‬يدحض اعتقاد النصارى بأ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ كلمة )الُمْلك( كما يقول "الراغب" في "المفردات" بمعنى تملك الشيء والحاكمية عليه‪ ،‬في ‪1‬‬
‫حين أن )الِمْلك( ليس دليل على الحاكمية وتصرف المالك دائمًا‪ .‬وبهذا الترتيب‪ :‬فكُل ُملك ُملكًا‪ ،‬في‬
‫ن ليس كل ِملك ُملكًا‬ ‫‪.‬حين أ ّ‬
‫ـ ورد إيضاح أكثر حول نفي الولد عن ال تعالى‪ ،‬ودلئل ذلك في تفسير الية )‪ (116‬من سورة ‪2‬‬
‫‪.‬البقرة‬
‫]‪[190‬‬
‫ن "العزير" ابن ال‪ ،‬وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب‪ ،‬ثّم يضيف جل ذكره‪:‬‬ ‫يعتقده اليهود أ ّ‬
‫‪)).‬ولم يكن له شريك في الملك‬
‫فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو الشركاء‪ ،‬ويتوهمونهم شركاء ل في العبادة‪،‬‬
‫ويتوسلون بهم من أجل الشفاعة‪ ،‬ويسألونهم المعونة لقضاء حوائجهم‪ ،‬حتى آل بهم المر أّنهم‬
‫كانوا يقولون بصراحة ـ حين التلبية للحج ـ جمل قبيحة ملوثة بالشرك‪ ،‬مثل‪" :‬لبيك ل شريك لك‪،‬‬
‫ن القرآن يدين ويدحض كل هذه الوهام‬ ‫‪.‬إّل شريكًا هو لك‪ ،‬تملكه وما ملك"‪ .‬فإ ّ‬
‫‪).‬و يقول تعالى في العبارة الخيرة‪) :‬وخلق كّل شيء فقّدره تقديرًا‬
‫ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأن قسمًا من موجودات هذا العالم مخلوقات "ال"‪،‬‬
‫‪".‬وأن قسمًا منها مخلوقات "الشيطان‬
‫و بهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين ال والشيطان‪ ،‬ذلك لّنهم كانوا يتوهمون الدنيا‬
‫مجموعة من "الخير" و "الشر"‪ ،‬والحال أّل شيء في عالم الوجود إّل الخير من وجهة نظر‬
‫الموحد الحق‪ .‬فإذا رأينا شّرا‪ ،‬فإّما أن يكون ذا جنبة "نسبية" أو "عدمية"‪ ،‬أو أن يكون نتيجة‬
‫‪)!.‬لعمالنا )فتأمل‬
‫***‬

‫بحث‬
‫‪:‬تقدير الموجودات بدقة‬
‫ليس نظام العالم الدقيق والمتقن ـ وحده ـ من الدلئل المحكمة على معرفة ال وتوحيده‪ ،‬فتقديراته‬
‫الدقيقة أيضًا دليل واضح آخر‪ ،‬أّننا ل يمكن أن نعتبر مقادير موجودات هذا العالم المختلفة‪،‬‬
‫‪.‬وكميتها وكيفيتها المحسوبة‪ ،‬معلولة للصدفة التي ل تتوافق مع حساب الحتمالت‬
‫صى العلماء المر في هذا الصدد‪ ،‬وأزاحوا الستار عن أسراره‬‫و قد تق ّ‬
‫]‪[191‬‬
‫‪.‬المدهشة التي تذهل فكر النسان‪ ،‬وتترك لسانه يترنم بتمجيد عظمة وقدرة الخالق بل اختيار‬
‫‪:‬و نعرض لكم ـ ها هنا ـ جانبًا من ذلك‬
‫يقول العلماء‪ :‬لو كانت قشرة الرض أسمك مّما هي عليه الن بمقدار بضعة أقدام‪ ،‬لما وجد غاز‬
‫"الوكسجين" الذي يعتبر المادة الصلية للحياة‪ ،‬ولو كانت البحار أعمق من عمقها الفعلي عّدة‬
‫أقدام ل متصت جميع ما في الجو من الكاربون و الوكسجين‪ ،‬ولما امكن وجود حياة لحيوان‬
‫ونبات على سطح الرض‪ ،‬ويحتمل أن تقوم قشرة الرض والبحار بامتصاص كل الوكسجين‪،‬‬
‫‪.‬وكان على النسان أن ينتظر نمو النباتات التي تلفظ الوكسجين‬
‫ن للوكسجين مصادر مختلفة‪ ،‬ولكن مهما كان‬ ‫وطبقًا للحسابات الدقيقة في هذا المجال يّتضح أ ّ‬
‫ن كميته مطابقة لحتياجاتنا بالضبط‬‫‪.‬مصدره فإ ّ‬
‫ن بعض الشهب التي تحترق كل‬ ‫ولو كانت طبقة الغلف الجوي أرق مّما هي عليه الن مّما هو‪ ،‬فإ ّ‬
‫يوم بالمليين في الهواء الخارجي‪ ،‬كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الرضية‪ ،‬وهي تسير بسرعة‬
‫تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميل في الّثانية‪ ،‬وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل‬
‫للحتراق‪ .‬ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لرتطمت كلها بالرض ولكانت العاقبة مروعة‪،‬‬
‫ولو تعرض النسان للصطدام بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة‪،‬‬
‫‪.‬لتحول الى رماد لمجّرد حرارته‬
‫الغلف الجوي سميك بالقدر اللزم بالضبط لمرور الشعة ذات التأثير الكيموي التي يحتاج إليها‬
‫الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات‪ ،‬دون أن تضر بالنسان‪ ،‬إّل إذا عّرض نفسه لها مدة‬
‫أطول من اللزم‪ .‬وعلى الرغم من النبعاثات الغازية من اعماق الرض طول الدهور‪ ،‬ومعظمها‬
‫ن الهواء باق دون تلوث في الواقع‪ ،‬ودون تغير في نسبته المتوازنة اللزمة لوجود‬ ‫سام‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪.‬النسان‬
‫ن الجهاز الذي يقوم بهذه الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء‬ ‫‪،‬إ ّ‬
‫]‪[192‬‬
‫أى البحار والمحيطات التي هي مصدر الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل‪ ،‬وأخيرًا استمد‬
‫النسان نفسه جميع تلك المقومات الحيوية منهما‪ ،‬فدع من يدرك ذلك يقف في روعة أمام عظمته‬
‫!تعالى‪ ،‬ويقّر بواجباته شاكرًا‬
‫ن التعادل العجيب بين الوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية‪ ،‬وعالم‬ ‫إّ‬
‫النبات كّله‪ ،‬قد استرعت أنظار كل العالم المفكر‪ ،‬غير أن أهمية ثاني أوكسيد الكاربون لم يدركها‬
‫الجميع بعد‪ ،‬وثاني أوكسيد الكاربون هو الغاز المألوف في تعبئة ماء الصودا‪ ،‬وهوغاز ثقيل‪،‬‬
‫ولحسن الحظ يعلق بالرض‪ ،‬و ليتّم فصله إلى أوكسجين وكاربون إّل بصعوبة كبيرة‪ ،‬وإذا أشعلت‬
‫ن الخشب ـ الذي يتكون غالبًا من الوكسجين والكاربون والهيدروجين ـ يتحلل تحت تأثير‬ ‫نارًا‪ ،‬فإ ّ‬
‫الحرارة ويتحد الكاربون مع الوكسجين بشّدة‪ ،‬وينتج من ذلك ثاني أوكسيد الكاربون‪.‬‬
‫والهيدروجين الذي يطلق يتحد بمثل تلك الشدة مع الوكسجين فنحصل على بخار الماء‪ .‬ومعظم‬
‫‪.‬الدخان هو كاربون خالص غير متحد مع غيره‬
‫وحين يتنفس رجل فإّنه يستنشق الوكسجين فيتلقاه الدم‪ ،‬ويقوم بتوزيعه الى جميع انحاء جسمه‪،‬‬
‫ويقوم هذا الكسجين يحرق طعامه في كل خلية ببطء شديد عند درجة حرارة واطئة نسبيًا‪،‬‬
‫‪.‬النتيجة هي ثاني أوكسيد الكاربون وبخار الماء‬
‫و بذلك يتسلل ثاني أوكسيد الكاربون إلى رئتيه‪ ،‬ويعود الى الجو مّرة ُاخرى من خلل الزفير‪ ،‬وكّل‬
‫‪.‬كائن حيواني حي يمتص الوكسجين ويلفظ ثاني اوكسيد الكاربون‬
‫ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان ـ مهما يكن من وحشيته‪ ،‬أو ضخامته‪،‬‬
‫ن النسان وحده بامكانه قلب هذا التوازن الذي للطبيعة‬
‫أو مكره ـ من السيطرة على العالم غير أ ّ‬
‫بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر‪ ،‬وسرعان ما يلقى جزاءه القاسي على ذلك ماثل في‬
‫تطورات آفات الحيوان‬
‫]‪[193‬‬
‫‪.‬والحشرات والنبات‬
‫والواقعة التية مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود النسان‪ ،‬فمنذ سنوات عديدة‬
‫زرع نوع من الصّبار )الكاكتوس( في أستراليا كسياج وقائي‪ .‬ولكن هذا الزرع مضى في سبيله‬
‫حتى غطي مساحة تقرب من مساحة إنجلترا‪ ،‬وزاحم أهالي المدن والقرى‪ ،‬وأتلف مزارعهم‪،‬‬
‫وحال دون الزراعة‪ ،‬ولم يجد الهالي وسيلة لصده عن النتشار‪ ،‬وصارت أستراليا في خطر من‬
‫!اكتساحها بجيش من الزرع الصامت‪ ،‬يتقدم في سبيله دون عائق‬
‫وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرًا حشرة ل تعيش إّل على ذلك الصبار ول‬
‫تتغذى بغيره‪ ،‬وهي سريعة النتشار وليس لها عدو يعوقها في أستراليا‪ .‬وما لبثت هذه الحشرة‬
‫حتى تغلبت على الصّبار‪ ،‬ثّم تراجعت‪ ،‬ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية‪ ،‬تكفي لصد الصّبار‬
‫‪.‬عن النتشار إلى البّد‬
‫‪.‬وهكذا توافرت الضوابط والموازين‪ ،‬وكانت دائمًا مجدية‬
‫ولماذا لم تسيطر بعوضة الملريا على العالم وتقتل بذلك النوع البشري مع أن البعوض متوفر في‬
‫جميع انحاء العالم حتى في القطبين؟ ومثل ذلك أيضًا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء‬
‫‪.‬التي تقدمت شمال في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك‬
‫و لماذا لم تتطور ذبابة "تسي تسي" "الذبابة المنومة" حتى تستطيع أن تعيش في غير مناطقها‬
‫الحارة‪ ،‬وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر النسان الطاعون والوبئة والجراثيم‬
‫الفتاكة التي لم يكن منها وقاء حتى المس القريب‪ ،‬وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد‬
‫‪).‬الوقاية الصحية‪ ،‬ليعلم أن بقاء الجنس البشري معها يدعو حقًا إلى الدهشة!)‪1‬‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ ُاقتباس من كتاب "النسان ل يقوم وحده" تأليف كريسي موريسون‪ ،‬ترجمه محمود صالح ‪1‬‬
‫‪.‬الفلكي بعنوان )العلم يدعو لليمان(‪ ،‬من الصفحات ‪160 ،159 ،71 ،70 ،66 ،65‬‬
‫]‪[194‬‬

‫اليات‬

‫ضّرا َوَل َنْفَعًا َولَ‬‫سِهْم َ‬ ‫ن َلنُف ِ‬‫ن َوَل يَْمِلُكو َ‬ ‫خَلُقو َ‬‫شْيئًا َوُهْم ُي ْ‬
‫ن َ‬ ‫خُلُقو َ‬
‫خُذوْا ِمن ُدوِنِه َءاِلَهًة ّل َي ْ‬ ‫َو اّت َ‬
‫علْيِه َقْوٌم‬
‫عاَنُه َ‬‫ك اْفَتِراُه َوَأ َ‬
‫ن َهَذآ ِإّلإْف ٌ‬
‫ن َكَفُروْا ِإ ْ‬‫شورًا)‪َ (3‬وَقاَل اّلِذي َ‬ ‫حَيوًة َوَل ُن ُ‬ ‫ن َمْوتًا وَل َ‬ ‫َيْمِلكو َ‬
‫صيل)‬ ‫عَلْيِه ُبْكَرًة َوأ ِ‬
‫ن اْكَتَتَبَها َفِهى ُتْمَلى َ‬ ‫طيُر اَْلّولي َ‬ ‫سـ ِ‬‫ظْلمًا َوُزورًا )‪َ(4‬وَقاُلوْا أ َ‬ ‫جآُءو ُ‬ ‫ن َفَقْد َ‬‫خُرو َ‬ ‫َءا َ‬
‫حيمًا)‪6‬‬ ‫غُفورًا ّر ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ض ِإّنُه َكا َ‬
‫ت َواَْلْر ِ‬ ‫سَمـو ِ‬ ‫سّر ِفى ال ّ‬ ‫)‪ُ (5‬قْل أنَزَلُه اّلِذى َيْعَلُم ال ّ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬اِلتهامات المتعددة اللوان‬
‫هذه اليات ـ في الحقيقة ـ تتمة للبحث الذي ورد في اليات السابقة‪ ،‬في مسألة المواجهة مع‬
‫الشرك وعبادة الوثان‪ .‬ثّم في الدعاءات الواهية لعبدة الوثان‪ ،‬واتهاماتهم فيما يتعلق بالقرآن‪،‬‬
‫‪.‬وشخص الّنبي صّلى ال عليه وآله وسّلم‬
‫الية اُلولى ـ في الواقع ـ تجر المشركين إلى المحاكمة‪ ،‬ولتحريك وجدانهم‬
‫]‪[195‬‬
‫تقول بمنطق واضح وبسيط‪ ،‬وفي نفس الوقت قاطع وداحض‪) :‬واتخذوا من دون ال آلهة ل‬
‫‪).‬يخلقون شيئًا وهم يخلقون‬
‫المعبود الحقيقي هو خالق عالم الوجود‪ ،‬ول يدعي المشركون هذا الدعاء لوثانهم‪ ،‬بل يعتقدون‬
‫‪.‬أّنها مخلوقة ل‬
‫وبعُد‪ ،‬فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الوثان التي ل تملك لنفسها نفعًا ول ضرًا‪ ،‬ول تملك‬
‫موتًا ول حياة ول نشورًا‪ ،‬فما بالك بما تستطيعه للخرين!؟ )ول يملكون لنفسهم ضرًا ول نفعًا‬
‫‪).‬ول يملكون موتًا ول حياة ول نشورًا‬
‫واُلصول المهّمة عند النسان هي هذه اُلمور الخمسة بالذات‪ :‬النفع والضر‪ ،‬والموت‪ ،‬والحياة‪،‬‬
‫‪.‬والنشور‬
‫‪.‬فمن يكن بحق مالكًا أصيل لهذه اُلمور‪ ،‬يكن بالنسبة إلينا جديرًا بالعبادة‬
‫لكن هذه الصنام غير قادرة أصل على هذه اُلمور لنفسها‪ ،‬فكيف تريد أن توّفر هذه اُلمور لمن‬
‫!يعبدها من المشركين؟‬
‫أي منطق مفتضح هذا!؟ أن ينقاد النسان ويتذلل على أعتاب موجود ل اختيار له في نفسه‪ ،‬فما‬
‫بالك باختياره للخرين!؟‬
‫هذه الوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب‪ ،‬بل إّنها ل يؤمل منها شيء‬
‫‪.‬في الخرة أيضًا‬
‫ن هذه الفئة من المشركين‪ ،‬المخاطبة في هذه اليات‪ ،‬كانت تقبل بالمعاد‬ ‫هذا التعبير يدل على أ ّ‬
‫نوعًا من القبول )المعاد الروحي ل الجسدي(‪ ،‬أو أن القرآن ـ حتى مع عدم اعتقادهم بمسألة‬
‫المعاد ـ يتناول القضية كمسّلمة‪ ،‬فيخاطبهم بشكل قاطع على هذا الصعيد‪ ،‬وهذا مألوف‪ ،‬فاِلنسان‬
‫أحيانًا يكون أمام شخص منكر للحقيقة‪ ،‬لكّنه يدلي بكلمه طبقًا لفكاره هو‪ ،‬دون اعتناء بأفكار ذلك‬
‫ن خالقًا حينما يبتدع مخلوقًا‬ ‫ن دليل ضمنيًا على المعاد قد كمن في نفس الية‪ ،‬ل ّ‬ ‫صة وأ ّ‬‫المنكر‪ .‬خا ّ‬
‫‪،‬ـ وهو مالك موته وحياته وضّره ونفعه ـ لبّد أن يكون له هدف من خلقه‬
‫]‪[196‬‬
‫وليمكن أن يتحقق هذا الهدف فيما يخص الناس بدون اِليمان بالنشور‪ ،‬ذلك لّنه إذا انتهى بموت‬
‫اِلنسان كل شيء‪ ،‬فسوف تكون الحياة فارغة بل معنى‪ ،‬وهذا يدّل على أن ذلك الخالق لم يكن‬
‫‪.‬حكيمًا‬
‫إذا تأملنا جيدًا وجدنا مسألة "الضرر" جاءت في الية قبل "النفع" وذلك لن اِلنسان ينفر من‬
‫الضرر بالدرجة اُلولى‪ ،‬ولهذا كانت جملة "دفع الضرر أولى من جلب المنفعة" أحد القوانين‬
‫‪.‬العقلئية‬
‫وإذا كان "الضرر" و "النفع" و "الموت" و "الحياة" و "النشور" جاءت بصيغة النكرة‪ ،‬أيضًا‪،‬‬
‫فلجل بيان هذه الحقيقة‪ ،‬وهي أن هذه الوثان ل تملك نفعًا ول ضرًا ول موتًا ول حياة ول‬
‫نشورا‪ ،‬حتى في مورد واحد‪ ،‬فما بالك بالموارد كلها!؟‬
‫ن هذه الوثان‬‫وإذا ذكرت "ل يملكون" و "ل يخلقون" بصيغة "جمع المذكر العاقل" )في حال أ ّ‬
‫ن هذا الخطاب ل يتعلق بالوثان‬ ‫الحجرية والخشبية ليس لها أدنى عقل أو شعور( فذلك ل ّ‬
‫الحجرية والخشبية فحسب‪ ،‬بل بالجماعة التي كانت تعبد الملئكة أو المسيح‪ ،‬ولن العاقل وغير‬
‫العاقل مجتمعان في معنى هذه الجملة‪ ،‬فذكر الجميع بصيغة العاقل من باب "التغليب" كما في‬
‫‪.‬اِلصطلح الدبي‬
‫أو أن الخطاب في هذه العبارة كان طبقًا لعتقاد المخاطبين به‪ ،‬حتى يثبت عجزهم وعدم‬
‫استطاعتهم‪ ،‬يعني‪ :‬إذا كنتم تعتقدون أن هذه الوثان ذات عقل وشعور‪ ،‬فلماذا ل تستطيع أن تدفع‬
‫عن نفسها ضررًا‪ ،‬أو أن تجلب منفعة!؟‬
‫الية التالية ـ تتناول تحليلت الكفار ـ أو حججهم على الصح ـ في مقابل دعوة الّنبي)صلى ال‬
‫‪).‬عليه وآله وسلم(‪ ،‬فتقول‪) :‬وقال الذين كفروا إن هذا إّل إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون‬

‫في الواقع‪ ،‬إّنهم من أجل أن يلقوا عن عواتقهم مسؤولية تحمل الحق ـ شأن كل الذين أصروا على‬
‫معارضة القادة الربانيين على طول التاريخ ـ اتهموا الّرسول‬
‫]‪[197‬‬
‫صة وأّنهم قد استخدموا لفظة "هذا" ليحقروا‬ ‫صّلى ال عليه وآله وسّلم أّول باِلفتراء والكذب‪ ،‬خا ّ‬
‫‪.‬القرآن‬
‫ن اِلتيان بمثل هذا الكلم‬
‫ثّم من أجل أن يثبتوا أّنه غير قادر على اِلتيان بمثل هذا الكلم ـ ل ّ‬
‫المبين مهما يكن بحاجة إلى قدرة علمية وافرة‪ ،‬وما كانوا يريدون التسليم بهذا ـ ومن أجل أن‬
‫طة مدبرة ومحسوبة‪ ،‬قالوا‪ :‬إّنه لم يكن وحده في هذا العمل‪ ،‬بل أعانه قوم‬ ‫ن هذا خ ّ‬ ‫يقولوا أيضًا‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬آخرون‪ ،‬وهذه مؤامرة بالتأكيد‪ ،‬ويجب الوقوف بوجهها‬
‫ن المقصود بـ )قوم آخرون( جماعة من اليهود‬ ‫سرين قالوا‪ :‬إ ّ‬ ‫‪.‬بعض المف ّ‬
‫ن المقصود بذلك ثلثة نفر كانوا من أهل الكتاب‪ ،‬وهم‪" :‬عداس" و "يسار" و‬ ‫وقال آخرون‪ :‬إ ّ‬
‫‪"".‬حبر" أو "جبر‬
‫ن قسمًا منها‬
‫ن هذه المواضيع لم يكن لها وجود في أوساط مشركي مّكة‪ ،‬وإ ّ‬ ‫على أية حال ـ بما أ ّ‬
‫مثل قصص النبياء الولين كان عند اليهود وأهل الكتاب ـ فقد كان المشركون مضطرين الى نسبة‬
‫‪.‬هذه المطالب الى أهل الكتاب كي يخمدوا موجة إعجاب الناس من سماع هذه اليات‬
‫)لكن القرآن يرّد عليهم في جملة واحدة فقط‪ ،‬تلك هي‪) :‬فقد جاؤوا ظلمًا وزورًا(‪1).‬‬
‫رسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( اّتهموه"‬ ‫ن رجل أمينًا طاهرًا وصادقًا مثل ال ّ‬ ‫الظلم" هنا ل ّ‬
‫‪.‬بالكذب واِلفتراء على ال‪ ،‬وباِلشتراك مع جماعة من أهل الكتاب‪ .‬فظلموا أنفسهم والناس أيضًا‬
‫ن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( دعاهم‬ ‫و "الزور" هنا أن قولهم لم يكن له أساس مطلقًا‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬عّدة مرات إلى اِلتيان بسورة وآيات مثل القرآن‪ ،‬فعجزوا وضعفوا أمام هذا التحدي‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "جاؤا" من مادة "مجيء"‪ :‬يراد بها عادة معنى "القدوم"‪ ،‬لكّنها وردت هنا بمعنى "التيان"‪1 ،‬‬
‫كما نقرأ أيضًا في الية )‪ (81‬سورة يونس أن موسى)عليه السلم( قال للسحرة "ما جئتم به‬
‫‪".‬السحر‬
‫]‪[198‬‬
‫ن المر لو كان كذلك‪ ،‬لكانوا‬ ‫وهذا بالذات يدل على أن هذه اليات ليست من صنع عقل البشر‪ ،‬ل ّ‬
‫ن عجزهم دليل على‬ ‫يستطيعون بمعونة جماعة اليهود وأهل الكتاب أن يأتوا بمثلها‪ .‬ومن هنا فإ ّ‬
‫‪.‬كذبهم‪ ،‬وكذبهم دليل على ظلمهم‬
‫‪.‬لهذا فالجملة‪ ،‬القصيرة )فقد جاؤوا ظلمًا وزورًا( رد بليغ وداحض في مواجهة ادعاءاتهم الواهية‬
‫كلمة "زور" في الصل من "َزور" )على وزن غور( أخذت بمعنى‪ :‬أعلى الصدر‪ ،‬ثّم أطلقت على‬
‫كل شيء يتمايل عن حّد الوسط‪ ،‬وبما أن "الكذب" انحرف عن الحق‪ ،‬ومال إلى الباطل‪ ،‬فقد‪،‬‬
‫‪".‬سّموه "زوراً‬
‫تتناول الية التالية لونًا آخر من التحليلت المنحرفة والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق‬
‫‪).‬بالقرآن‪ ،‬فتقول‪) :‬وقالوا أساطير الولين أكتتبها‬
‫ل شيء عنده من قبل نفسه‪ ،‬ل علم ول ابتكار‪ ،‬فكيف له بالّنبوة والوحي! إّنه استعان بآخرين‪،‬‬
‫فجمع عّدة من الساطير القديمة‪ ،‬وأطلق عليها اسم الوحي والكتاب السماوي‪ .‬وهو يستلهمها من‬
‫‪).‬الخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف )فهي تملى عليه بكرة وأصيل‬
‫‪.‬إّنه يتلقى المعونة لجل هدفه في الوقات التي يقّل فيها تواجد الناس‪ ،‬أي بكرة وعشيًا‬
‫لتهامات التي نقلت عنهم في الية السابقة‪ .‬إّنهم في‬ ‫هذا الكلم ـ في الحقيقة ـ تفسير وتوضيح ل ِ‬
‫‪:‬هذه الجملة القصيرة أرادوا أن يفرضوا على القرآن مجموعة من نقاط الضعف‬
‫‪.‬أّولها‪ :‬أن ليس في القرآن موضوع جديد مطلقًا‪ ،‬بل مجموعة من الساطير القديمة‬
‫ن نبي اِلسلم ل يستطيع الستمرار بدعوته ـ حتى يومًا واحدًا ـ بدون مساعدة‬ ‫و الّثانية‪ :‬أ ّ‬
‫الخرين‪ ،‬فلبّد أن ُيملوا الموضوعات عليه بكرة وعشيًا‪ ،‬وعليه أن‬
‫]‪[199‬‬
‫‪.‬يكتبها‬
‫‪.‬واُلخرى‪ :‬أّنه يعرف القراءة والكتابة‪ .‬فإذا قال‪ :‬إّنني ُاّمي‪ ،‬فهي دعوى كاذبة‬
‫إّنهم ـ في الواقع ـ كانوا يريدون أن يفرقوا الناس عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( بواسطة‬
‫هذه الكاذيب والتهامات‪ ،‬في الوقت الذي يعلم كل العقلء الذين عاشوا مّدة في ذلك المجتمع‪ ،‬أ ّ‬
‫ن‬
‫الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( لم يكن قد درس عند أحد‪ ،‬مضافًا إلى أّنه لم تكن له أية رابطة‬
‫مع جماعة اليهود وأهل الكتاب‪ .‬وإذا كان يستلهم من الخرين كل يوم بكرة وعشيًا‪ ،‬فكيف أمكن‬
‫أن يخفى على أحد؟ فضل عن هذا‪ ،‬فإن آيات القرآن كانت تنزل عليه في السفر والحضر‪ ،‬بين‬
‫‪.‬الناس ومنفردًا‪ ،‬وفي كل حال‬
‫مضافًا إلى كل هذا‪ ،‬كان القرآن مجموعة من التعليمات اِلعتقادية‪ ،‬والحكام العملية‪ ،‬والقوانين‪،‬‬
‫ن ما ورد‬ ‫ومجموعة من قصص النبياء‪ ،‬ولم تكن قصص النبياء لتشكل كل القرآن‪ ،‬مضافًا إلى أ ّ‬
‫من قصص القوام الولين في القرآن لم يكن له شبه لما جاء في العهدين )التوراة واِلنجيل(‬
‫ن ما في العهدين مليء بالخرافات‪ ،‬والقرآن منّزه‬ ‫المحرفين‪ ،‬وأساطير العرب الخرافية‪ ،‬لذلك ل ّ‬
‫عنها‪ ،‬ولو وضعنا القرآن والعهدين جنبًا إلى جنب‪ ،‬وقايسنا بينهما‪ ،‬فسوف تتجلى حقيقة المر‬
‫)جيدًا‪1).‬‬
‫لذا فالية الخيرة تصرح بصيغة الرد على هذه اِلتهامات الواهية‪ ،‬فتقول‪) :‬قل أنزله الذي يعلم‬
‫السر في السموات والرض(‪ .‬إشارة إلى أن محتوى هذا الكتاب‪ ،‬والسرار‪ ،‬المتنوعة فيه من‬
‫علوم ومعارف وتاريخ القوام الولين‪ ،‬والقوانين واِلحتياجات البشريه‪ ،‬وحتى أسرار عالم‬
‫‪،‬الطبيعة والخبار المستقبلية‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن الّنبي)صلى ال عليه وآله ‪1‬‬ ‫ن المراد من جملة )اكتتبها(‪ :‬هو أ ّ‬ ‫سرين أ ّ‬‫ـ يعتقد جماعة من المف ّ‬
‫وسلم( أراد من الخرين أن يكتبوا له هذه اليات‪ ،‬وكذلك‪ ،‬جملة )تملى عليه( مفهومها‪ :‬هو أ ّ‬
‫ن‬
‫ُأولئك كانوا يلقونها إليه‪ ،‬وكان هو يحفظها‪ .‬لكّنه مع اللتفات إلى أّننا ل دليل لدينا على حمل‬
‫هاتين الجملتين على خلف الظاهر‪ ،‬يكون الّتفسير الذي ورد في المتن هو الصح‪ ،‬ففي الواقع إن‬
‫أولئك كانوا يريدون أن يتهموا الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( من هذا الطريق‪ ،‬بأّنه يقرأ‬
‫‪.‬ويكتب‪ ،‬لكّنه كان يظهر نفسه أميًا عمدًا‬
‫]‪[200‬‬
‫تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر‪ ،‬ولم ينظم بمساعدة هذا أو ذاك‪ .‬بل بعلم الذي هو‬
‫‪.‬جدير بأسرار السماء والرض‪ ،‬والمحيط بكل شيء علماً‬
‫لكن مع كل هذا‪ ،‬فإن القرآن يترك طريق التوبة مفتوحًا أمام هؤلء المغرضين والمنحرفين‪ ،‬فيقول‬
‫‪).‬تبارك وتعالى في ختام الية )إّنه كان غفورًا رحيمًا‬
‫فبمقتضى رحمته أرسل النبياء‪ ،‬وأنزل الكتب السماوية‪ ،‬وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظل‬
‫‪.‬اِليمان والتوبة عن ذنوبكم التي ل تحصى‬
‫***‬
‫]‪[201‬‬

‫اليات‬

‫ن َمَعُه َنِذيرًا)‪(7‬‬‫ك َفَيُكو َ‬


‫ق َلْوَل ُأنِزَل ِإَلْيِه َمَل ٌ‬‫سَوا ِ‬
‫شى ِفى اَْل ْ‬ ‫طَعاَم َوَيْم ِ‬‫سوِل َيْأُكُل اال ّ‬‫َوَقاُلوْا َماِل َهَذا الّر ُ‬
‫ظْر‬
‫حورًا)‪ (8‬ان ُ‬ ‫سُ‬‫جل ّم ْ‬ ‫ن ِإّل َر ُ‬ ‫ن ِإن َتّتِبُعو َ‬‫ظـِلُمو َ‬
‫جّنٌة َيْأُكُل ِمْنَها َوَقاَل ال ّ‬
‫ن َلُه َ‬ ‫َأْوُيْلَقى ِإَلْيِه َكنٌز َأْوَتكُو ُ‬
‫خْيرًا ّمن‬‫ك َ‬ ‫جَعَل َل َ‬
‫شآَء َ‬ ‫ك اّلِذى ِإن َ‬ ‫سِبيل)‪َ (9‬تَباَر َ‬ ‫ن َ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫سَت ِ‬‫ل َي ْ‬
‫ضّلوْا َف َ‬‫ك اَْلمَثـَل َف َ‬ ‫ضَرُبوْا َل َ‬ ‫ف َ‬‫َكْي َ‬
‫صورا)‪10‬‬ ‫ك ُق ُ‬‫جَعل ّل َ‬‫حِتَها اَْلْنَهـُر َوَي ْ‬
‫جِرى ِمن َت ْ‬ ‫جّنـت َت ْ‬ ‫ك َ‬‫)ذَِل َ‬

‫سبب الّنزول‬
‫في رواية عن اِلمام الحسن العسكري)عليه السلم(‪ ،‬أّنه قال‪ :‬قلت لبي علي بن محمد)عليهما‬
‫السلم(‪ :‬هل كان رسول ال )صلى ال عليه وآله وسلم( يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه‬
‫ن رسول ال كان قاعدًا ذات يوم بفناء الكعبة‪ ،‬فابتدأ عبدال‬ ‫جهم؟ قال‪ :‬مرارًا كثيرة وذلك أ ّ‬‫ويحا ّ‬
‫بن أبي أمية المخزومي فقال‪ :‬يا محمد لقد أّدعيت دعوى عظيمة‪ ،‬وقلت مقال هائل‪ ،‬زعمت أّنك‬
‫ب العالمين‬
‫ب العالمين‪ ،‬وما ينبغي لر ّ‬‫رسول ر ّ‬
‫]‪[202‬‬
‫وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرًا مثلنا‪ ،‬تأكل كما نأكل وتمشي في السواق كما‬
‫نمشي‪ ،‬فقال رسول ال‪ :‬الّلهّم أنت السامع لكل صوت‪ ،‬والعالم بكّل شيء‪ ،‬تعلم ما قاله عبادك‬
‫)فأنزل ال عليه‪ :‬يا محمد‪) :‬وقالوا ما لهذا الّرسول‪(...‬إلى قوله تعالى )و يجعل لك قصورًا(‪1).‬‬

‫الّتفسير‬
‫!لم ل يملك هذا الّرسول كنوزًا وجنات؟‬
‫عرض في اليات السابقة قسم من إشكالت الكفار فيما يخص القرآن المجيد‪ ،‬وأجيب عليها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ويعرض في هذه اليات قسم آخر يتعلق بشخص الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ويجاب‬
‫‪).‬عنها‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬وقالوا ما لهذا الّرسول يأكل الطعام ويمشي في السواق‬
‫ما هذا الّنبي الذي يحتاج إلى الغذاء كغيره من الفراد العاديين؟ ويمشي في السواق من أجل‬
‫الكسب والتجارة وشراء احتياجاته؟ فليست هذه سيرة الرسل ول طريقة الملوك والسلطين! وفي‬
‫!الوقت الذي يريد هذا الّرسول التبليغ بالدعوة اِللهية‪ ،‬ويريد أيضًا السلطنة على الجميع‬
‫لقد كان المشركون يرون أّنه ل يليق بذوي الشأن الذهاب إلى السواق لقضاء حوائجهم‪ ،‬بل ينبغي‬
‫‪.‬أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك‬
‫ثّم أضافوا‪) :‬لول ُأنزل إليه ملك فيكون معه نذيرًا(‪ ،‬فِلَم لم ُيرسل إليه ـ على القل ـ ملك من عند‬
‫ال‪ ،‬شاهد على صدق دعوته‪ ،‬وينذر معه الناس!؟‬
‫حسن جدًا‪ ،‬لنفرض أّننا وافقنا على أن رسول ال يمكن أن يكون إنسانًا‪ ،‬ولكن لماذا يكون فقيرًا‬
‫فاقدًا للثروة والمال!؟ )أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .‬ـ تفسير نور الثقلين‪ ،‬الجزء ‪ ،4‬الصفحة ‪1 6‬‬
‫]‪[203‬‬
‫‪).‬يأكل منها‬
‫ولم يكتفوا بهذا أيضًا‪ ،‬فقد اتهموه آخر المر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطىء‪ ،‬كما نقرأ في‬
‫ختام هذه الية نفسها )وقال الظالمون إن تتبعون إّل رجل مسحورًا(‪ .‬ذلك أّنهم كانوا يعتقدون أن‬
‫!السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الفراد فيسلبونهم قوام عقولهم‬
‫ن المشركين كانت لديهم عّدة إشكالت واهية حول‬ ‫من مجموع اليات أعله‪ ،‬يستفاد أ ّ‬
‫‪.‬الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬وكانوا يتنازلون عن مقالتهم مرحلة بعد مرحلة‬
‫أّول‪ :‬إّنه أساسًا يجب أن يكون ملكًا‪ ،‬وهذا الذي يأكل الطعام ويمشي في السواق ليس ملكًا‬
‫‪.‬بالضرورة‬
‫ل ـ على القل ـ ملكًا يرافقه ويعينه‬
‫‪.‬ثمّ قالوا‪ :‬حسن جّدا‪ ،‬إن لم يكن ملكًا‪ ،‬فيرسل ا ّ‬
‫ثّم تنازلوا عن هذا أيضًا‪ ،‬فقالوا‪ :‬لنفرض أن رسول ال بشر‪ ،‬فينبغي أن ُيلقى إليه كنز من‬
‫‪.‬السماء‪ ،‬ليكون دليل على أنه موضع اهتمام ال‬
‫ى من تلك الميزات‪ ،‬فينبغي على القل أل يكون‬ ‫وقالوا في نهاية المطاف‪ :‬لنفرض أنه لم يكن له أ ّ‬
‫إنسانًا فقيرًا‪ ،‬فليكن كأي مزارع مرفه‪ ،‬له بستان يضمن منه معيشته‪ .‬لكّنه فاقد لكّل هذا مع‬
‫ي!؟‬
‫السف‪ ،‬ويقول إّنني نب ّ‬
‫ن ادعاءة الكبير هذا‪ ،‬في مثل هذه الشرائط‪ ،‬دليٌل على أن ليس له عقل‬ ‫واستنتجوا في الختام‪ ،‬أ ّ‬
‫‪.‬سليم‬
‫الية التالية تبّين جواب جميع هذه اِلشكالت في عبارة موجزة‪) :‬انظر كيف ضربوا لك المثال‬
‫‪).‬فضلوا فل يستطيعون سبيل‬
‫هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة‪ ،‬فهم من خلل مجموعة من القوال الواهية التي‬
‫ل أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن ـ الذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه بال ـ‬
‫‪.‬ليخفوا وجه الحقيقة‬
‫]‪[204‬‬
‫حّقا‪ ،‬إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام استدللتنا المنطقية من خلل حفنة من الحجج‪،‬‬
‫الواهية‪ :‬فنقول من دون الجابة عليها بالتفصيل‪ :‬انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا‬
‫‪.‬معها أمام الدليل المنطقي‬
‫‪:‬و هكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها‪ ،‬لن‬
‫أّول‪ :‬لماذا يجب أن يكون الّرسول من جنس الملئكة؟ بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم‪ ،‬كما‬
‫يحكم به العقل والعلم‪ ،‬حتى يدرك جميع آلم ورغبات وحاجات ومشكلت ومسائل حياة النسان‬
‫تمامًا‪ ،‬ليكون قدوة عملية له على كل المستويات‪ ،‬وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج‪،‬‬
‫ومن المسّلم أن تأمين هذه الهداف لم يكن ليتحقق لو كان من الملئكة‪ ،‬ولقال الناس إذا حدثهم‬
‫عن الزهد وعدم اِلهتمام بالدنيا‪ :‬إّنه ملك‪ ،‬وليست له حاجات مادية تجّره إلى الدنيا وإذا دعا إلى‬
‫‪.‬الطهارة والعفة لقال الناس‪ :‬إنه ل يدري ما عاصفة الغريزة الجنسية‪ ،‬وعشرات )إذا( مثل تلك‬
‫ثانيًا‪ :‬ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشرًا من أجل تصديقه؟ أفليست المعجزات كافية لدراك هذه‬
‫صة معجزة عظيمة كالقرآن‬ ‫!الحقيقة‪ ،‬وخا ّ‬
‫ثالثًا‪ :‬أكل الطعام كسائر الناس‪ ،‬والمشي في السواق يكون سببًا للندماج بالناس أكثر‪ ،‬والغوص‬
‫‪.‬في أعماق حياتهم‪ ،‬ليؤدي رسالته بشكل أفضل‬
‫رابعًا‪ :‬عظمة الّرسول وشخصيته مردهما ليس إلى الكنز والنفائس ول بساتين النخيل والفواكه‬
‫الطازجة‪ ،‬هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر أن المكانة ـ و حتى القرب من ال ـ في‬
‫ن قيمة وجودك ليست بهذه‬‫ن النبياء جاؤوا ليقولوا‪ :‬أّيها اِلنسان‪ ،‬إ ّ‬
‫صة‪ ،‬في حال أ ّ‬
‫الثرياء خا ّ‬
‫‪.‬الشياء‪ ،‬إّنها بالعلم والتقوى واِليمان‬
‫خامسًا‪ :‬بأي مقياس كانوا يعتبرونه "مسحورًا" أو "مجنونًا"؟ الشخص الذي كان عقله معجزًا‬
‫بشهادة تأريخ حياته وانقلبه العظيم وتأسيسه الحضارة اِلسلمية‪ ،‬كيف يمكن إتهامه بهذه التهمة‬
‫المضحكة؟ أيصح أن نقول إن تحطيم‬
‫]‪[205‬‬
‫!الصنام ورفض اِلتباع العمى للجداد دليل على الجنون؟‬
‫صة مع القرائن الموجودة في الية‪ ،‬بمعنى القوال‬ ‫إتضح بناًء على ما قلناه أن )المثال( هنا‪ ،‬خا ّ‬
‫الفارغة الواهية‪ ،‬ولعل التعبير عنها بـ )المثال( بسبب أّنهم يلبسونها لباس الحق فكانها مثله‪،‬‬
‫)وأقوالهم مثل الدلة المنطقية‪ ،‬في حال أّنها ليست كذلك واقعًا‪1).‬‬
‫ن أعداء الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( كانوا‬ ‫و ينبغي أيضًا اِللتفات إلى هذه النكتة‪ ،‬وهي أ ّ‬
‫سرين قد احتمل أن‬‫يتهمونه ـ بـ "الساحر" وأحيانًا بـ "المسحور" وإن كان بعض المف ّ‬
‫"المسحور" بمعنى "الساحر" )لن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم الفاعل أحيانًا( ولكن الظاهر أن‬
‫‪.‬بينهما فرقًا‬
‫عندما يقال عنه بأّنه ساحر‪ ،‬فلن كلمه كان ذا نفوذ خارق في القلوب‪ ،‬ولّنهم ما كانوا يريدون‬
‫‪".‬اِلقرار بهذه الحقيقة‪ ،‬فقد لجأوا إلى اتهامه بـ "الساحر‬
‫خلوا في عقله وتصرفوا به‪ ،‬وعملوا على اختلل حواسه‪،‬‬ ‫أّما "المسحور" فمعناه أن السحرة تد ّ‬
‫هذا اِلّتهام نشأ من أن الّرسول كان محطمًا لسنتهم‪ ،‬ومخالفًا لعاداتهم وأعرافهم الخرافية‪ ،‬وقد‬
‫‪.‬وقف في وجه مصالحهم الفردية‬
‫أّما جواب جميع هذه اِلتهامات فقد اتضح من الكلم أعله‬
‫‪).‬و هنا يأتي هذا السؤال‪ ،‬وهو أّنه لماذا قال تعالى‪) :‬فضّلوا فل يستطيعون سبيل‬
‫ن اِلنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما‪ ،‬إذا كان مريدًا للحق‬ ‫الجواب هو أ ّ‬
‫باحثًا عنه‪ ،‬أّما من يتخذ موقفه ـ ابتداًء ـ على أساس أحكام‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سرين اعتبروا )المثال( هنا بمعنى )التشبيهات( لكّنهم لم يوضحوا هنا ما هي ‪1‬‬ ‫ـ كثير من المف ّ‬
‫التشبيهات التي قدمها المشركون‪ ،‬وبعض آخر اعتبر )المثال( هنا بمعنى )الصفات(‪ ،‬لن أحد‬
‫معاني )المثل( ـ طبقًا لما قاله الراغب في المفردات هو )الصفة(‪ ،‬فالمقصود هنا هي الصفة‬
‫الواهية التي ل أساس لها‪ ،‬ذلك لن ما في صدر وذيل الية القرآنية أعله يدل على هذا المعنى‪،‬‬
‫فمن جانب يقول بعنوان التعجب‪ :‬انظر آية أمثال ضربوا؟ ومن جانب آخر يقول‪ :‬الوصاف التي‬
‫‪.‬تؤدي الى ضللهم الذي ل هداية بعده‬
‫]‪[206‬‬
‫مسّبقة خاطئة ومضّلة‪ ،‬نابعة من الجهل والتزمت والعناد‪ ،‬فمضافًا إلى أّنه ل يعثر على الحق‪ ،‬فإّنه‬
‫‪.‬سيتخذ موقعه ضد الحق دائمًا‬
‫الية الخيرة مورد البحث ـ كالية التي قبلها ـ توجه خطابها إلى الّنبي)صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم(على سبيل تحقير مقولت ُأولئك‪ ،‬وأّنها ل تستحق اِلجابة عليها‪ ،‬يقول تعالى‪) :‬تبارك الذي‬
‫‪).‬إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك جنات تجري من تحتها النهار ويجعل لك قصورًا‬
‫و إّل‪ ،‬فهل أحٌد غير ال أعطى الخرين القصور والبساتين؟ من غير ال خلق جميع هذه النعم‬
‫والجمال في هذا العالم؟ ُترى أيستحيل على ال القادر المّنان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور‬
‫!البساتين؟‬
‫لكّنه ل يريد أبدًا أن يعتقد الناس أن مكانتك مرّدها المال والثروة والقصور‪ ،‬ويكونوا غافلين عن‬
‫القيم الواقعية‪ .‬إنه يريد أن تكون حياتك كالفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين‪ ،‬حتى يمكنك‬
‫‪.‬أن تكون ملذًا لجميع هؤلء ولعموم الناس‬
‫لل المشاكل‪،‬‬‫أّما لماذا يقول قصورًا وبساتين أفضل مّما أراده ُأولئك؟ فلن "الكنز" وحده ليس ح ّ‬
‫بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين‪ ،‬مضافًا الى أّنهم كانوا يقولون‪ :‬ليكن لك‬
‫بستان يؤمن معيشتك‪ ،‬أّما القرآن فيقول‪ :‬إن ال قادر على أن يجعل لك قصورًا وبساتين‪ ،‬لكن‬
‫‪.‬الهدف من بعثتك ورسالتك شيء آخر‬
‫ورد في "الخطبة القاصعه" من "نهج البلغة" بيان معبر وبليغ‪ :‬هنالك حيث يقول اِلمام)عليه‬
‫‪):‬السلم‬
‫ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون)عليهما السلم( على فرعون وعليهما مدارع ‪"...‬‬
‫ن أسلم بقاء ملكه ودوام عّزه فقال‪" :‬أل تعجبون من هذين‬ ‫الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إ ْ‬
‫يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال‬
‫]‪[207‬‬
‫ل ُألقي عليهما أساورة من ذهب‪ ،‬إعظامًا للذهب وجمعه‪ ،‬واحتقارًا للصوف‬ ‫الفقر والذل‪ ،‬فه ّ‬
‫ل سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الُذهبان‪ ،‬ومعادان العقيان‪،‬‬‫ولبسه‪ .‬ولو أراد ا ّ‬
‫ومغارس الجنان‪ ،‬وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الرض لفعل‪ ،‬ولو فعل لسقط البلء‬
‫وبطل الجزاء‪ ،‬واضمحلت النباء‪ ،‬ولما وجب للقابلين أجور المبتلين‪ ،‬ول استحق المؤمنون ثواب‬
‫المحسنين‪ ،‬ول لزمت السماء معانيها‪ ،‬ولكن ال سبحانه جعل رسله ُاولي قّوة في عزائمهم‪،‬‬
‫ى‪ ،‬وخصاصة تمل‬ ‫وضعفة فيما ترى العين من حالتهم‪ ،‬مع قناعة تمل القلوب والعيون غن ً‬
‫‪.‬البصار و السماع أذ ً‬
‫ى‬
‫و لو كانت النبياء أهل قوة ل ُترام وعّزة ل ُتضام‪ ،‬وملك تمتد نحوه أعناق الرجال‪ ،‬وِتشّد إليه‬
‫عقد الرحال‪ ،‬لكان ذلك أهون على الخلق في اِلعتبار وأبعد لهم في اِلستكبار‪ ،‬ولمنوا عن رهبة‬ ‫ُ‬
‫قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم‪ ،‬فكانت النّيات مشتركة والحسنات مقتسمة‪ ،‬ولكن ال سبحانه أراد‬
‫أن يكون التباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه واِلستكانة لمره واِلستسلم لطاعته‪،‬‬
‫صة ل تشوبها من غيرها شائبة‪ .‬وكلما كانت البلوى واِلختبار أعظم كانت المثوبة‬ ‫أمورًا له خا ّ‬
‫)والجزاء أجزل"‪1).‬‬
‫ن المراد بالجّنة والقصور‪ ،‬جّنة الخرة قصورها‪ ،‬لكن هذا‬ ‫ن البعض يرى بأ ّ‬‫و الجدير بالذكر أ ّ‬
‫)الّتفسير ل ينسجم مع ظاهر الية بأي وجه‪2).‬‬

‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ "الخطبة القاصعة"‪ ،‬الخطبة ‪ 192‬نهج البلغة ‪1‬‬
‫ـ وكذلك الذين قالوا‪ :‬إن المقصود هو جنات الدنيا وقصور الخرة‪ ،‬فالفعلن الماضي والمضارع ‪2‬‬
‫)جعل ويجعل( اللذان في الية‪ ،‬ينبغي أل يكونا باعثًا على هكذا وهم أيضًا‪ ،‬لّننا نعلم طبقًا لقواعد‬
‫‪.‬الدب العربي‪ ،‬أن الفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني‬
‫]‪[208‬‬

‫اليات‬

‫سِمُعوْا َلَها‬
‫ن َبعيد َ‬
‫سِعيرًا )‪ِ(11‬إذا َرَأْتُهم ّمن ّمَكا ِ‬
‫عِة َ‬
‫سا َ‬
‫ب بال ّ‬
‫عَتْدَنا ِلَمن َكّذ َ‬
‫عِة َوَا ْ‬
‫سا َ‬
‫َبْل َكّذُبوْا ِبال ّ‬
‫عوْا اْلَيَومَ‬‫ك ُثُبورًا )‪ّ (13‬ل َتْد ُ‬ ‫عوْا ُهَناِل َ‬ ‫ن َد َ‬‫ضّيقًا ّمَقّرِني َ‬‫َتَغّيظًا َوَزِفيرًا)‪َ (12‬وِإَذآ ُأْلُقوأ ِمْنَها َمَكانًا َ‬
‫جَزآًء‬
‫ت َلُهْم َ‬ ‫ن َكاَن ْ‬‫عَد اْلُمّتُقو َ‬
‫جّنُة اْلخُْلِد اّلِتى ُو ِ‬‫خْيٌر َأْم َ‬‫ك َ‬‫عوْا ُثُبورًا َكِثيرًا)‪ُ (14‬قْل َأَذِل َ‬ ‫حدًا َواْد ُ‬
‫ُثُبورًا َو ِ‬
‫سُئول)‪16‬‬ ‫عدًا ّم ْ‬ ‫ك َو ْ‬‫عَلى َرّب َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن َكا َ‬ ‫خـِلِدي َ‬
‫ن َ‬ ‫شآُءو َ‬‫صيرًا)‪ّ (15‬لُهْم ِفيَها َما َي َ‬ ‫)َومَ ِ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬مقارنة بين الجنة والنار‬
‫في هذه اليات ـ على أثر البحث في اليات السابقة حول إنحراف الكفار في مسألة التوحيد والّنبوة‬
‫ـ يتناول القرآن الكريم قسمًا آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد‪ ،‬ويّتضح مع بيان هذا القسم‬
‫أّنهم كانوا أسارى التزلزل واِلنحراف في تمام أصول الدين‪ ،‬في التوحيد‪ ،‬وفي النبوة‪ ،‬وفي‬
‫المعاد‪ ،‬حيث ورد القسمان‬
‫]‪[209‬‬
‫‪:‬الولن منه في اليات السابقة‪ ،‬ونقرأ الن القسم الثالث‬
‫‪).‬يقول تعالى أّول‪) :‬بل كذبوا بالساعة‬
‫ن كلمة "بل" تستعمل لجل "اِلضراب" فيكون المعنى‪ :‬أن ما يقوله ُأولئك الكفار على‬ ‫وبما أ ّ‬
‫صعيد نفي التوحيد والنبوة‪ ،‬إّنما ينبع في الحقيقة من إنكارهم المعاد‪ ،‬ذلك أنه إذا آمن النسان‬
‫بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء اِللهي‪ ،‬فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا اِلستهزاء واللمبالة‪ ،‬ولن‬
‫يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة الّنبي وبراهينه الظاهرة‪ ،‬ولن يتذلل أمام الصنام التي صنعها‬
‫‪.‬وزيّنها بيده‬
‫لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدللي‪ ،‬ذلك لن هذه الفئة لم تكن من أهل اِلستدلل والمنطق‪ ،‬بل‬
‫واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والليم‪ ،‬فهذا السلوب قد يكون‬
‫)أقوى تأثيرًا لمثل هؤلء الفراد يقول أّول‪) :‬واعتدنا لمن كّذب بالساعة سعيرًا(‪1).‬‬
‫ثّم وصف هذه النار المحرقة وصفًا عجيبًا‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها‬
‫‪).‬تغيظًا وزفيرًا‬
‫‪:‬في هذه الية‪ ،‬تعبيرات بليغة متعددة‪ ،‬تخبر عن شّدة هذا العذاب اِللهي‬
‫ـ إّنه ل يقول‪ :‬إّنهم يرون نار جهنم من بعيد‪ ،‬بل يقول‪ :‬إن النار هي التي تراهم ـ كأن لها عينًا ‪1‬‬
‫‪.‬وُأذنًا ـ فسّمرت عينها على الطريق بانتظار هؤلء المجرمين‬
‫ـ إّنها ل تحتاج إلى أن يقترب أولئك المجرمون منها‪ ،‬حتى تهيج‪ ،‬بل إّنها تزفر من مسافة ‪2‬‬
‫‪.‬بعيدة‪ ..‬من مسافة مسيرة عام‪ ،‬طبقًا لبعض الروايات‬
‫لنسان عن ‪3‬‬ ‫ـ وصفت هذه النار المحرقة بـ "التغيظ" وذلك عبارة عن الحالة التي يعّبر بها ا ِ‬
‫‪.‬غضبه بالصراخ والعويل‬
‫لنسان النفس من الصدر بقوة‪ ،‬وهذا ‪4‬‬ ‫ـ إن لجهنم "زفيرًا" يعني كما ينفث ا ِ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سْعر" على وزن "قعر" بمعنى التهاب النار‪ ،‬وعلى هذا يقال للسعير‪ :‬النار ‪1‬‬ ‫ـ "سعير" من " َ‬
‫‪.‬المشتعلة والمحيطة والمحرقة‬
‫]‪[210‬‬
‫‪.‬عادة في الحالة التي يكون اِلنسان مغضبًا جدًا‬
‫مجموع هذه الحالت يدل على أن نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار‬
‫‪".‬الحيوان المفترس الجائع لغذائه "نستجير بال‬
‫هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد‪ ،‬أّما حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى‪) :‬وإذا ُألقوا منها‬
‫)مكانًا ضيقًا مقّرنين دعوا هنالك ثبورًا(‪1).‬‬
‫ن جهنم صغيرة‪ ،‬فإّنه طبقًا للية )‪ (30‬من سورة ق )يوم نقول لجهنم هل امتلت‬ ‫هذا ليس ل ّ‬
‫صرون مكانًا ضيقَا في هذا المكان الواسع‪،‬‬ ‫وتقول هل من مزيد( فهي مكان واسع‪ ،‬لكن ُأولئك ُيح َ‬
‫)فهم "يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط"‪2).‬‬
‫كما أن كلمة "ثبور" في الصل بمعنى "الهلك والفساد"‪ ،‬فحينما يجد اِلنسان نفسه أمام شيء‬
‫‪".‬مخيف ومهلك‪ ،‬فإّنه يصرخ عاليًا "واثبورا" التي مفهومها ليقع الموت عل ّ‬
‫ي‬
‫‪).‬لكّنهم يجابون عاجل )ل تدعوا اليوم ثبورًا واحدًا وادعوا ثبورًا كثيرًا‬
‫على أية حال‪ ،‬فلن تنفعكم استغاثتكم في شيء‪ ،‬ولن يكون ثّمة موت أو هلك‪ ،‬بل ينبغي أن تظلوا‬
‫‪.‬أحياء لتذوقوا العذاب الليم‬
‫هذه الية في الحقيقة تشبه الية )‪ (16‬من سورة الطور حيث يقول تعالى )أصلوها فاصبروا أو ل‬
‫‪).‬تصبروا سواء عليكم إّنما تجزون ما كنتم تعملون‬
‫ن حسابهم مع‬‫َمن هو المتكلم مع الكافرين ها هنا؟ القرائن تدل على أّنهم ملئكة العذاب‪ ،‬ذلك ل ّ‬
‫‪.‬هؤلء‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "مقرنين" من "قرن" بمعنى قرب واجتماع شيئين أو أكثر مع بعضهما‪ ،‬ويقولون للحبل الذي ‪1‬‬
‫يربطون به الشياء "قرن"‪ ،‬ويقولون أيضًا لمن تقيد يده ورجله مع بعضهما بالغل والسلسل‬
‫‪").‬مقّرن" )من أجل توضيح أكثر في المسألة راجع آخر الية )‪ (49‬من سورة إبراهيم‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان‪ ،‬آخر الية مورد البحث ‪2‬‬
‫]‪[211‬‬
‫ن عذابهم‬‫وأّما لماذا يقال لهم هنا‪) :‬ل تدعوا ثبورًا واحدًا وادعوا ثبوراً كثيرًا(؟ رّبما كان ذلك ل ّ‬
‫الليم ليس مؤقتًا فينتهي بقول )واثبورا( واحدًا‪ ،‬بل ينبغي أن يرددوا هذه الجملة طيلة هذه المدة‪،‬‬
‫ن العقوبات اِللهية لهؤلء الظالمين المجرمين متعددة اللوان‪ ،‬حيث يرون الموت‬ ‫علوة على أ ّ‬
‫‪.‬أمام أعينهم إزاء كل مجازاة‪ ،‬فتعلوا أصواتهم بـ )واثبورا(‪ ،‬فكأّنهم يموتون ثّم يحيون وهكذا‬
‫ثّم يوجه الخطاب إلى الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬ويأمره أن يدعو ُأولئك إلى المقايسة‪،‬‬
‫‪).‬فيقول تعالى‪) :‬قل أذلك خيٌر أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاًء ومصيرًا‬
‫‪).‬تلك الجّنة التي )لهم فيها ما يشاؤون‬
‫‪).‬تلك الجّنة التي سيبقون فيها أبدًا )خالدين‬
‫‪).‬أجل‪ ،‬إّنه وعد ال الذي ُاخذه على نفسه‪) :‬كان على رّبك وعدًا مسؤول‬
‫هذا السؤال‪ ،‬وطلب هذه المقايسة‪ ،‬ليس لن أحدًا لديه شك في هذا المر‪ ،‬وليس لن تلك العذابات‬
‫الليمة المهولة تستحق الموازنة والمقايسة مع هذه النعم التي ل نظير لها‪ ،‬بل إن هذا النوع من‬
‫السئلة والمطالبة بالمقارنة لجل إيقاظ الضمائر الهامدة‪ ،‬حيث تجعلها أمام أمر بديهي واحد‪،‬‬
‫‪:‬وعلى مفترق طريقين‬
‫ن تلك النعم أفضل وأعظم )وهو ما سيقولونه حتمًا( فقد حكموا على‬ ‫فإذا قالوا في الجواب‪ :‬إ ّ‬
‫ن العذاب أفضل من هذه النعمة‪ ،‬فقد وّقعوا على‬ ‫ن أعمالهم خلف ذلك‪ .‬وإذا قالوا‪ :‬إ ّ‬ ‫أنفسهم بأ ّ‬
‫ن السجن هو‬ ‫وثيقة جنونهم‪ ،‬وهذا يشبه ما إذا حذرنا شابًا ترك المدرسة والجامعة بقولنا‪ :‬اعلم أ ّ‬
‫مكان الذين فروا من العلم ووقعوا في أحضان الفساد‪ ،‬ترى السجن أفضل أم الوصول إلى‬
‫المقامات الرفيعة!؟‬

‫***‬

‫]‪[212‬‬
‫ملحظات‬
‫ول إلى هذه النكتة‪ ،‬وهي اليات الكريمة وصفت الجّنة بالخلود تارًة وصفة ‪1‬‬ ‫ـ ينبغي اِللتفات أ ّ‬
‫لهل الجّنة تارًة ُأخرى‪ ،‬ليكون تأكيدًا على هذه الحقيقة‪ ،‬وهي كما أن الجنة خالدة‪ ،‬فكذلك‬
‫‪.‬ساكنوها‬
‫ـ قوله تعالى )لهم فيها ما يشاؤون( جاءت في مقابل حال الجهنميين في الية )‪ (54‬من سورة ‪2‬‬
‫‪).‬سبأ )وحيل بينهم وبين ما يشتهون‬
‫ـ التعبير بـ "مصير" بعد كلمة "جزاء" بالنسبة إلى الجّنة‪ ،‬كله تأكيد على ما يدخل في مفهوم ‪3‬‬
‫الجزاء‪ ،‬وهو بجميعه نقطة مقابلة إزاء مكان أهل الّنار‪ ،‬حيث ورد في اليات السابقة أّنهم يلقون‬
‫‪.‬في مكان ضيق محدود مقرنين بالصفاد‬
‫ـ قوله تعالى )كان على ربك وعدًا مسؤول( إشارة إلى أن المؤمنين كانوا في أدعيتهم يطلبون ‪4‬‬
‫من ال الجّنة وجميع نعمها‪ ،‬فهم السائلون‪ ،‬وال "المسؤول منه" كما نقرأ قول المؤمنين في‬
‫الية )‪ (194‬من سورة آل عمران )رّبنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك‪ ،(...‬لسان حال جميع‬
‫المؤمنين أيضًا‪ ،‬إّنهم يطلبون هذا الطلب من ال‪ ،‬لن لسان حال كل من يطيع أمره تبارك وتعالى‬
‫‪.‬أن يطلب ذلك‬
‫والملئكة كذلك يسألون ال الجّنة والخلود للمؤمنين‪ ،‬كما نقرأ في الية )‪ (8‬من سورة المؤمن‪:‬‬
‫‪)...).‬رّبنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم‬
‫ن كلمة )مسؤول( تأكيد على هذا الوعد اِللهي‪ ،‬الحتمي‪ ،‬يعني أ ّ‬
‫ن‬ ‫و يوجد هنا تفسير آخر‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫ن المؤمنين يستطيعون أن يطالبوا ال به‪ ،‬وهذا يشبه‬ ‫هذا الوعد على قدر عظيم من القطع بحيث أ ّ‬
‫ق في أن يطالبنا به‬
‫‪.‬ما إذا أعطينا وعدًا لحد‪ ،‬وأعطيناه ـ في الضمن ـ الح َ‬
‫‪).‬قطعًا ل يوجد أي مانع من أن تجتمع كل هذه المعاني في المفهوم الواسع لـ )مسؤول‬
‫للتفات إلى قوله تعالى )لهم فيها ما يشاؤون( ينشأ لدى البعض هذه ‪5‬‬ ‫ـ با ِ‬
‫]‪[213‬‬
‫السؤال‪ :‬إذا أخذنا في اِلعتبار المفهوم الواسع لهذه العبارة‪ ،‬فنتيجة هذا أن أهل الجّنة إذا أرادوا‬
‫مقام النبياء والولياء يعطى لهم‪ ،‬مثل‪ ،‬أو إذا طلبوا نجاة أقربائهم وأصدقائهم المذنبين‬
‫!المستحقين لجهنم‪ ،‬يعطون سؤلهم‪ ،‬وما سوى هذه الرغبات؟‬
‫ن الحجب تزول عن أعين أهل الجّنة فيدركون‬ ‫و يّتضح الجواب مع اِللتفات إلى هذه النكتة‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫الحقائق جيدًا‪ ،‬ويّتضح تناسبها في نظرهم كامل‪ ،‬إّنهم ل يخطر ببالهم أبدًا أن يطلبوا من ال‬
‫طلبات كهذه‪ ،‬وهذا يشبه تمامًا أن نطلب في الدنيا من طفل في اِلبتدائية أن يكون ُاستاذًا في‬
‫ي محكمة‪ ...‬ترى هل تخطر مثل هذه اُلمور في فكر أي‬ ‫ص مجرم قاض َ‬‫الجامعة‪ ،‬أو أن يكون ل ٌ‬
‫ن ما‬
‫ن كّل إرادتهم في طول إرادة ال‪ ،‬وإ ّ‬ ‫عاقل في الدنيا!؟ وفي الجّنة أيضًا كذلك‪ ،‬فضل عن هذا فإ ّ‬
‫‪.‬يريدونه هو ما يريده ال‬
‫***‬
‫]‪[214‬‬

‫اليات‬

‫سِبيَل)‬
‫ضّلوْا ال ّ‬
‫عَباِدى َهـُؤلِء َأْم ُهْم َ‬ ‫ضَلْلُتْم ِ‬
‫ل َفَيقُوُل َءَأنُتْم َأ ْ‬‫ن ا ِّ‬
‫ن ِمن ُدو ِ‬ ‫شُرُهْم َوَما َيْعُبُدو َ‬‫حُ‬ ‫َو َيْوَم َي ْ‬
‫حّتى‬‫ن َأْوِلَيآَء َوَلـِكن ّمّتْعَتُهْم َوَءاِبآَءُهْم َ‬
‫ك ِم ْ‬‫خَذ ِمن ُدوِن َ‬ ‫ن َينَبِغى َلَنآ َأن ّنّت ِ‬‫ك َما كَا َ‬ ‫حـَن َ‬
‫سب َ‬
‫‪َ (17‬قاُلوْا ُ‬
‫صرًا َوَمن‬‫صْرفًا وَلَن ْ‬ ‫ن َ‬ ‫طيُعو َ‬
‫سَت ِ‬
‫ن َفَما َت ْ‬ ‫سوْا الّذْكَر َوكاُنوْا َقْوَما ُبورًا)‪َ (18‬فَقْد َكّذُبوُكم ِبَما َتقُولُو َ‬ ‫َن ُ‬
‫عَذابًا َكِبيرًا)‪19‬‬ ‫ظِلم ّمنُكْم ُنِذْقُه َ‬‫)َي ْ‬
‫الّتفسير‬
‫‪:‬المحاكمة بين المعبودين وعبدتهم الضالين‬
‫كان الكلم في اليات السابقة حول مصير كل من المؤمنين والمشركين في القيامة وجزاء هذين‬
‫الفريقين‪ ،‬وتواصل هذه اليات نفس هذا الموضوع بشكل آخر‪ ،‬فتبّين السؤال الذي يسأل ال عنه‬
‫معبودي المشركين في القيامة وجوابهم‪ ،‬على سبيل التحذير‪ ،‬فيقول تعالى أول‪ :‬واذكر يوم يحشر‬
‫‪).‬ال هؤلء المشركين وما يعبدون من دون ال‪) :‬و يوم يحشرهم وما يعبدون من دون ال‬
‫‪).‬فيسأل المعبودين‪) :‬فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلء أم هم ضلوا السبيل‬
‫]‪[215‬‬
‫‪).‬ففي الجابة‪) :‬قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء‬
‫فليس فقط أّننا لم ندعهم إلى أنفسنا‪ ،‬بل إّننا كّنا نعترف بوليتك وربوبيتك‪ ،‬ولم نقبل غيرك معبودًا‬
‫‪.‬لنا ولغيرنا‬
‫ن ال تعالى رزقهم الكثير من مواهب الدنيا و نعيمها فتمتعوا هم‬ ‫وكان سبب انحراف أولئك هو‪ :‬أ ّ‬
‫وآباءهم وبدل من شكر ال تعالى غرقوا في هذه الملذات ونسوا ذكر ال‪) :‬ولكن متعتهم وآباَءهم‬
‫‪).‬حتى نسوا الذكر( ولهذا هلكوا واندثروا )وكانوا قومًا بورًا‬
‫ل تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركين فيقول‪) :‬فقد كذبتم بما تقولون‬ ‫‪).‬هنا يوجه ا ّ‬
‫ن المر هكذا‪ ،‬وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم‪) :‬فما‬ ‫لّ‬
‫‪).‬يستطيعون صرفًا ول نصرًا‪ ،‬ومن يظلم منكم نذقه عذابًا كبيرًا‬
‫ن موضوع البحث في الية هو "الشرك" الذي هو أحد‬ ‫ن "الظلم" له مفهوم واسع‪ ،‬ومع أ ّ‬ ‫ل شك أ ّ‬
‫‪.‬المصاديق الجلية للظلم‪ ،‬إّل أّنه ل يقدح بعمومية المفهوم‬
‫و الملفت للنظر أن "من يظلم" جاءت بصيغة الفعل المضارع‪ ،‬وهذا يدل على أن القسم الّول من‬
‫البحث وأن كان مرتبطًا بمناقشات البعث‪ ،‬لكن الجملة الخيرة خطاب لهم في الدنيا‪ ،‬لعل قلوب‬
‫المشركين تصبح مستعدة للتقبل على أثر سماعها )محاورات العبابدين والمعبودين في القيامة(‪،‬‬
‫)فيحول الخطاب من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم‪) :‬ومن يظلم منكم نذقه عذابًا كبيرًا(‪1).‬‬
‫***‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ر‪1‬‬ ‫ـ ويحتمل أن تكون الجملة الخيرة استمرارًا لمحاورة ال مع المشركين في القيامة‪ ،‬ول يض ّ‬
‫ن جملة )من يظلم‪ (..‬ذكرت بصورة قانون عام )جملة شرطية(‪ ،‬ونعلم أ ّ‬
‫ن‬ ‫كون الفعل مضارعًا‪ ،‬ل ّ‬
‫الفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني‪ ،‬وتبقى وحدة الرتباط بين الشرط وجوابه‬
‫‪.‬معتبرة‬
‫]‪[216‬‬
‫‪:‬مسائل مهمة‬
‫ـ من هم المقصودون بالمعبودين هنا!؟ ‪1‬‬
‫سرين المعروفين‬
‫‪:‬في الجابة على هذا السؤال‪ ،‬هناك تفسيران بين المف ّ‬
‫أّول‪ :‬أن يكون المقصود بالمعبودين إنسانًا )مثل المسيح( أو شيطانًا )مثل الجن( أو )الملئكة(‪،‬‬
‫حيث أن كّل واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين معبودًا لهم‪ .‬ولّنهم أهل عقل وشعور‬
‫وإدراك‪ ،‬فيمكنهم أن يكونوا موضع الستنطاق والمحاسبة‪ ،‬ولتمام الحجة‪ ،‬ولثبات كذب‬
‫ن هؤلء دعونا لعبادتهم! فهم يسألون عّما إذا كان هذا الدعاء‬ ‫المشركين الذين يقولون‪ :‬إ ّ‬
‫!صحيحًا؟ ولكّنهم يكذبون ادعاء المشركين بصراحة‬
‫ن ال يمنح الصنام في ذلك اليوم نوعًا من‬ ‫سرين هو أ ّ‬
‫الّتفسير الّثاني‪ :‬الذي ذكره جمع من المف ّ‬
‫الحياة والدراك والشعور‪ ،‬بالشكل الذي تستطيع فيه أن تكون موضع المحاسبة‪ ،‬لينطقوا بالجواب‬
‫‪.‬اللزم‪ :‬إلهنا‪ ،‬نحن ما أضللنا هؤلء‪ ،‬بل هم أنفسهم ضلوا بسبب انغماسهم في الشهوات والغرور‬
‫ن المقصود يشمل جميع المعبودين‪ ،‬سواء كانوا ذوو عقل وشعور‬ ‫و هناك الحتمال آخر‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫يخبرون بألسنتهم عن الوقائع‪ ،‬أام لم يكونوا من أهل العقل والشعور‪ ،‬حيث يعكسون الحقيقة‬
‫‪.‬أيضًا‪ ،‬بلسان حالهم‬
‫ن الفعال والضمائر تدل‬‫ولكن القرائن الموجودة في الية تتفق أكثر مع الّتفسير الّول‪ ،‬ذلك ل ّ‬
‫جميعها على أن طرف المحاورة هم أصحاب عقل وشعور‪ ،‬وهذا يتناسب مع معبودين كالمسيح‬
‫‪.‬والملئكة وأمثالهم‬
‫ن قوله تعالى )فقد كذبوكم‪ُ (...‬يظهر أن المشركين قد اّدعوا من قبل أن هؤلء‬ ‫إضافة إلى أ ّ‬
‫المعبودين قد أضلونا ودعونا لعبادتهم‪ ،‬وبعيد أن يكون المشركون قد ادعوا هذا بالنسبة إلى‬
‫ن الصنام ل‬‫الصنام الحجرية والخشبية‪ ،‬لّنهم ـ كما ورد في قصة إبراهيم ـ كانوا على يقين بأ ّ‬
‫تتكلم )لقد علمت ما هؤلء‬
‫]‪[217‬‬
‫‪).‬ينطقون()‪1‬‬
‫ل بالنسبة إلى المسيح)عليه السلم( في الية )‪ (116‬من سورة المائدة‪:‬‬ ‫في حين أّننا نقرأ مث ً‬
‫!)أأنت قلت للناس اّتخذوني وأمي إلهين من دون ال(؟‬
‫ن ادعاء المشركين وعبدة الصنام كان واهيًا وبل أساس‪ ،‬فُأولئك لم يدعوهم إلى‬ ‫ومن المسّلم أ ّ‬
‫‪.‬عبادة أنفسهم‬
‫الملفت هو أن المعبودين لم يقولوا في الجواب‪ :‬إلهنا‪ ،‬ما دعوناهم إلى عبادة أنفسنا‪ ،‬بل يقولون‪:‬‬
‫نحن ما اّتخذنا لنفسنا غيرك معبودًا‪ ،‬يعني في الوقت الذي نحن نعبدك وحدك‪ ،‬فمن اُلولى أّننا لم‬
‫صة وأن هذا الكلم يقترن مع )سبحانك( ومع )ماكان ينبغي لنا( التي‬‫ندعهم إلى أحد غيرك‪ ،‬خا ّ‬
‫‪.‬تكشف عن غاية أدبهم‪ ،‬وتأكيدهم على التوحيد‬

‫ـ دافع النحراف عن أصل التوحيد ‪2‬‬


‫ن المعبودين يعّدون العامل الصلي لنحراف هذا الفريق من المشركين هو )الحياة‬ ‫المهم هو أ ّ‬
‫المرفهة( لهم‪ ،‬ويقولون‪ ،‬إلهنا‪ ،‬مّتعت هؤلء وآباَءهم من نعم هذه الحياة‪ ،‬وهذا هو بالذات كان‬
‫سبب نسيانهم‪ ،‬فبدل من أن يعرفوا واهب هذه النعم فيشكرونه ويطيعونه‪ ،‬توغلوا في دوامة‬
‫‪.‬الغفلة والغرور‬
‫فالحياة المرفهة لجماعة ضيقِة الفق‪ ،‬ضعيفة اليمان‪ ،‬تبعث على الغرور من جهة‪ ،‬ذلك لّنهم في‬
‫ن فرعون كان يطّبل أحيانًا‬‫الوقت الذي ينالون النعم الكثيرة‪ ،‬ينسون أنفسهم وينسون ال‪ ،‬حتى أ ّ‬
‫‪)).‬أنا ال‬
‫ن هؤلء الفراد يميلون إلى التحرر من كل القيود التي تعيقهم في ملّذاتهم من‬‫ومن جهة ُأخرى‪ ،‬فإ ّ‬
‫قبيل الحلل والحرام‪ ،‬والمشروع واللمشروع وتمنعهم من‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ النبياء‪1 063 ،‬‬
‫]‪[218‬‬
‫الوصول إلى أهدافهم‪ ،‬ولهذها فهم ل يريدون أن يخضعوا أمام القوانين والمقررات الدينية‪ ،‬ول أن‬
‫‪.‬يقبلوا بيوم الحساب والجزاء‬
‫ن أتباع دين ال وتعليمات النبياء قليٌل في أوساط المرفهين دائمًا ولكن المستضعفين‬
‫و هكذا نجد أ ّ‬
‫‪.‬هم التباع الصامدون والمحّبون الوفياء للدين والمذهب‬
‫‪.‬إنّ هذا الكلم له استثناءات في كل الطرفين قطعًا‪ ،‬ولكن أكثرية كّل من الفريقين هم كما قلنا‬
‫ومّما تتضمنه الية أعله‪ ،‬أّنها لم تركز على رفاهية حياتهم فقط‪ ،‬بل ركزت على رفاهية حياة‬
‫ن النسان حينما ينشأ على الدلل والنعمة فإنه سوف يرى فارقًا وامتيازًا بينه‬ ‫آبائهم أيضًا‪ ،‬ذلك ل ّ‬
‫‪.‬وبين الخرين‪ ،‬ولن يكون مستعدًا لفقد المنافع المادية والحياة المرفهة بسهولة‬
‫في حين أن التقيد بأمر ال‪ ،‬وبتعاليم الدين تحتاج إلى اليثار‪ ،‬وأحيانًا إلى الهجرة‪ ،‬وتحتاج حتى‬
‫إلى الجهاد والشهادة‪ ،‬وأحيانًا إلى التعاطي مع أنواع المحروميات‪ ،‬وعدم التسليم للعدو‪ ،‬وهذه‬
‫اُلمور نادرًا ما تتوافق مع مزاج المرفهين‪ ،‬إّل إذا كانت نفوسهم أرفع من حياتهم المادية‪ ،‬فإذا‬
‫توفرت يومًا ما شكروا ال‪ ،‬وإّل فلن يتزلزلوا ولن ينزعجوا‪ ،‬وبعبارة ُأخرى‪ :‬إّنهم حاكمون على‬
‫‪.‬حياتهم المادية غير محكومين لها‪ ،‬أمراء عليها ل أسارى عندها‬
‫ن المقصود من قوله تعالى )نسوا الذكر(نسيان ذكر ال‪ ،‬حيث ورد‬ ‫و يستفاد أيضًا من التوضيح أ ّ‬
‫مكان ذلك في الية )‪ (19‬من سورة الحشر )ول تكونوا كالذين نسوا ال( أو نسيان يوم القيامة‬
‫ومحكمة العدل اللهي‪ ،‬كما جاء في الية )‪ (26‬سورة ص )لهم عذاب شديد بما نسوا يوم‬
‫‪.‬الحساب( أو نسيان كل منهما‪ ،‬وجميع التعاليم اللهية‬

‫]‪[219‬‬
‫‪".‬ـ كلمة "بور ‪3‬‬
‫ن شّدة الكساد تبعث على"‬
‫بور" من مادة "بوار" وهي في الصل بمعنى شّدة كساد الشيء‪ ،‬ول ّ‬
‫الفساد‪ ،‬كما جاء في المثل العربي "كسد حتى فسد"‪ ،‬فهذه الكلمة بمعنى الفساد‪ ،‬ثّم ُأطلقت بعد هذا‬
‫على الهلك‪ ،‬ولهذا يقولون للرض الخالية من الشجر والورد والنبات‪ ،‬والتي هي في الحقيقة‬
‫‪".‬فاسدة وميتة كلمة "بائر‬
‫ن هذا الفريق على أثر انغماسهم في‬ ‫ن قوله تعالى‪) :‬كانوا قومًا بورًا( إشارة إلى أ ّ‬
‫وعلى هذا فإ ّ‬
‫الحياة المادية المرفهة‪ ،‬ونسيانهم ال واليوم الخر‪ ،‬صاروا إلى الفساد والهلكة‪ ،‬وصارت أراضي‬
‫قلوبهم كالصحراء جافة وبائرة‪ ،‬وُأخليت من أزاهير ملكات القيم النسانية‪ ،‬وفواكه الفضيلة‬
‫‪.‬والحياة المعنوية‬
‫مطالعة حال اُلمم الغرقى في الدلل والنعمة اليوم‪ ،‬الغافلة عن ال وعن الخلق‪ ،‬توضح عمق‬
‫معنى هذه الية في كيفية غرق هذه اُلمم في بحر الفساد الخلقي‪ ،‬وكيف اجتثت الفضائل‬
‫)النسانية من أرض وجودهم البائرة‪1).‬‬

‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن كلمة "بور" تأتي بمعنى اسم الفاعل‪ ،‬وتأتي واحدة في المفرد ‪1‬‬
‫ـ تعتبر بعض المصادر أ ّ‬
‫‪".‬والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث‪ ،‬وبعض يعدها جمع "بائر‬
‫]‪[220‬‬

‫الية‬

‫ضُكمْ ِلَبْعض‬
‫جَعْلَناَبْع َ‬
‫ق َو َ‬
‫سوا ِ‬
‫ن ِفى اَْل ْ‬
‫شو َ‬
‫طَعاَم َوَيْم ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن ِإّل ِإّنُهْم َلَيْأُكُلو َ‬
‫سلي َ‬
‫ن اْلُمْر َ‬‫ك ِم َ‬‫سْلَنا َقْبَل َ‬
‫َوَمآ َأْر َ‬
‫صيرًا)‪20‬‬ ‫ك َب ِ‬
‫ن َرّب َ‬‫ن َوَكا َ‬‫صِبُرو َ‬ ‫)ِفْتَنًة َأَت ْ‬
‫سبب الّنزول‬
‫سرين وأصحاب السير كابن إسحاق في سيرته في سبب نزول هذه الية "أن‬ ‫أورد جماعة من المف ّ‬
‫سادات قريش "عتبة بن ربيعة" وغيره اجتمعوا معه)صلى ال عليه وآله وسلم(فقالوا‪ :‬يا محمد‪،‬‬
‫ب المال جمعنا لك من أموالنا‪ ،‬فلما أبى رسول‬‫ب الرياسة وليناك علينا‪ ،‬وإن كنت تح ّ‬
‫إن كنت تح ّ‬
‫ال)صلى ال عليه وآله وسلم( عن ذلك‪ ،‬رجعوا في باب الحتجاج معه فقالوا‪ :‬ما بالك وأنت‬
‫رسول ال تأكل الطعام‪ ،‬وتقف بالسواق! فعّيروه بأكل الطعام‪ ،‬لّنهم أرادوا أن يكون الّرسول ملكًا‪،‬‬
‫وعّيروه بالمشي في السواق حين رأوا الكاسرة والقياصرة والملوك والجبابرة يترفعون عن‬
‫السواق‪ ،‬وكان)عليه السلم(يخالطهم في أسواقهم‪ ،‬ويأمرهم وينهاهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا يريد أن يتملك‬
‫‪:‬علينا‪ ،‬فما له يخالف سيرة الملوك؟ فأجابهم ال بقوله‪ ،‬وأنزل على نبّيه‬
‫]‪[221‬‬
‫ل أّنهم ليأكلون الطعام ويمشون في السواق(فل تغتم ول(‬
‫وما أرسلنا من قبلك من المرسلين إ ّ‬
‫)تحزن‪ ،‬فأّنها شكاة ظاهٌر عنك عاُرها"‪1).‬‬

‫الّتفسير‬
‫هكذا كان جميع النبياء‬
‫في عّدة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين بهذه الصيغة‪ :‬لماذا يأكل رسول ال‬
‫الطعام‪ ،‬ويمشي في السواق؟ وأجيب عليها بجواب إجمالي ومقتضب‪ ،‬أّما الية مورد البحث‬
‫فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جوابًا أكثر تفصيل وصراحة‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬وما أرسلنا قبلك‬
‫من المرسلين إّل أّنهم ليأكلون الطعام ويمشون في السواق( فقد كانوا من البشر ويعاشرون‬
‫‪.‬الناس‪ ،‬وفي ذات الوقت )وجعلنا بعضكم لبعض فتنة( وامتحانًا‬
‫ن اختيار النبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير‬ ‫وهذا المتحان‪ ،‬قد يكون بسبب أ ّ‬
‫صة إذا‬
‫ن البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم‪ ،‬خا ّ‬ ‫المحرومة هو امتحان عظيم بذاته‪ ،‬ل ّ‬
‫ى واطىء من حيث اِلمكانات المادية‪ ،‬وهم في مستوى عال ماديًا‪ ،‬أو أن أعمارهم‬ ‫كان في مستو ً‬
‫‪.‬أكبر‪ ،‬أو أّنهم أكثر شهرة في المجتمع‬
‫ن الناس عمومًا بعضهم لبعض فتنة‪ ،‬ذلك أن‬ ‫ويرد احتمال آخر في المراد بالفتنة‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫المتقاعدين والعجزة والمرضى واليتام والمزمنين فتنة للقوياء والصحاء السالمين‪ ،‬وبالعكس‪،‬‬
‫ن الفراد الصحاء القوياء فتنة للضعفاء والعجزة‬ ‫‪.‬فإ ّ‬
‫ن الفريق الّثاني راض برضا ال! أم ل؟‬ ‫ُترى هل أ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ وإن كان قد جاء مضمون الرواية أعله في كثير من التفاسير‪ ،‬ولكن ما ذكرناه أعله مطابق ‪1‬‬
‫للرواية التي أوردها القرطبي في تفسيره "الجامع لحكام القرآن" ج ‪ ،13‬ص ‪ 5‬دار إحياء‬
‫‪.‬التراث العربي ‪ /‬بيروت‬
‫]‪[222‬‬
‫!وهل أن الفريق الّول يؤدي مسؤوليته وتعهده إزاء الفريق الّثاني‪ ،‬أم ل؟‬
‫من هنا‪ ،‬ل تقاطع بين هذين الّتفسيرين فمن الممكن أن يجتمع كلهما في المفهوم الواسع للية‬
‫‪.‬في أن الناس بعضهم لبعض فتنة‬
‫‪:‬و على أثر هذا القول‪ ،‬جعل الجميع موضع الخطاب فقال تعالى‬
‫أتصبرون(؟(‬
‫ن أهم ركن للنجاح في جميع هذه المتحانات هو الصبر والستقامة والشجاعة‪ ...‬الصبر‬ ‫ذلك ل ّ‬
‫والستقامة أمام خيالت الغرور الذي يمنع من قبول الحق‪ ...‬الصبر والستقامة أمام المشكلت‬
‫الناشئة من المسؤوليات وأداء الرسالت‪ ،‬وكذلك الجلد أمام المصائب والحوادث الليمة التي ل‬
‫‪.‬تخلو منها حياة النسان على كل حال‬
‫ن من الممكن اجتياز هذا المتحان اللهي العظيم بقّوة الستقامة و الصبر‪1).‬‬ ‫)والخلصة‪ :‬أ ّ‬
‫ويقول تعالى في ختام الية بصيغة التحذير‪) :‬وكان رّبك بصيرًا( فينبغي أل يتصور أحد أن شيئًا‬
‫من تصرفاته حيال الختبارات اللهية يظل خافيًا ومستورًا عن عين ال وعلمه الذي ل يخفى عليه‬
‫‪.‬شيء‪ .‬إّنه يراها بدقة ويعلمها جميعًا‬

‫‪:‬سؤال‬
‫يرد هاهنا استفسار‪ ،‬وهو أن رّد القرآن على المشركين في اليات أعله قائم على أن جميع‬
‫النبياء‪ ،‬كانوا من البشر‪ .‬وهذا ل يحّل المشكلة‪ ،‬بل يزيد من حّدتها‪ ،‬ذلك أن من الممكن أن يعمموا‬
‫‪.‬إشكالهم على جميع النبياء‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ من أجل توضيح أكثر في مسألة الختبارات اللهية‪ ،‬والغاية من هذه الختبارات وسائر أبعاد ‪1‬‬
‫صل في ذيل الية )‪ (55‬من سورة البقرة‬ ‫‪.‬ذلك‪ ،‬بحثنا ذلك بشكل مف ّ‬
‫]‪[223‬‬
‫‪:‬و الجواب‬
‫ن اليات القرآنية المختلفة تدّل على أن إشكالهم على شخص الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪،‬‬ ‫أّ‬
‫‪...‬وكانوا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه وضعًا خاصًا به‪ ،‬ولهذا كانوا يقولون‪ :‬مالهذا الّرسول‬
‫يقول القرآن في جوابهم‪ :‬ليس هذا منحصرًا بالّرسول العظم)صلى ال عليه وآله وسلم( أن يأكل‬
‫الطعام ويمشي في السواق‪ ،‬فجميع النبياء كانت لهم مثل هذه الوصاف‪ ،‬وعلى فرض أّنهم‬
‫سيعممون هذا الشكال على جميع النبياء‪ ،‬فقد أعطى القرآن جوابهم أيضًا حيث يقول‪) :‬ولو‬
‫جعلناه ملكًا لجعلناه رجل( "كي يستطيع أن يكون أسوة وأنموذجًا للناس في كل مجالت"‪ .‬إشارة‬
‫إلى أن النسان فقط يستطيع أن يكون مرشدًا للنسان‪ ،‬فهو الواقف على جميع حاجاته ورغباته‬
‫‪.‬ومشكلته ومسائله‬

‫***‬
‫]‪[224‬‬

‫اليات‬

‫عَتْو‬
‫سِهْم َو َ‬ ‫سَتْكَبُروْا ِفى َأنُف ِ‬
‫عَلْيَنا اْلَمَلـِئَكُة َأْو َنَرى َرّبَنا َلَقِد ا ْ‬
‫ن ِلَقآَءَنا َلْوَل ُأنِزَل َ‬‫جو َ‬ ‫ن َلَيْر ُ‬
‫َوَقاَل اّلِذي َ‬
‫جورًا)‪(22‬‬ ‫حُ‬‫جرًا ّم ْ‬
‫حْ‬ ‫ن ِ‬ ‫جِرِمينَ َوَيقُوُلو َ‬ ‫شَرى َيْوَمِئذ ّلْلُم ْ‬ ‫ن اْلَمَلـِئَكَة َلُب ْ‬
‫عُتّوًا َكبيرًا)‪َ (21‬يْوَم َيَرْو َ‬ ‫ُ‬
‫خْيٌر ّمسَتَقّرا‬‫جّنِة َيْوَمِئذ َ‬‫ب اْل َ‬‫حـ ُ‬‫صَ‬ ‫جَعْلَنـُه َهَبآًء ّمنُثورًا)‪َ (23‬أ ْ‬ ‫عَمل َف َ‬ ‫ن َ‬ ‫عِملُوْا ِم ْ‬
‫َوَقِدْمنآ ِإَلى َما َ‬
‫ن َمِقيل)‪24‬‬ ‫سُ‬ ‫ح َ‬‫)وََأ ْ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬الدعاءات الكبيرة‬
‫ن المشركين يصرون على الفرار من ثقل التعهدات والمسؤوليات التي يضعها على عواتقهم‬ ‫قلنا أ ّ‬
‫اليمان بال واليوم الخر‪ ،‬فكانوا يقولون تارًة‪ :‬لماذا يحتاج الّرسول إلى الطعام ويمشي في‬
‫‪.‬السواق؟ حيث قرأنا الجابة عليها في اليات السابقة‬
‫اليات الحالية‪ ،‬تطرح شكلين آخرين من ذرائعهم وتجيب عليها‪ ،‬فيقول‬
‫]‪[225‬‬
‫‪).‬تعالى أّول‪) :‬وقال الذين ل يرجون لقاءنا لول أنزل علينا الملئكة أو نرى رّبنا‬
‫ن الّنبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا‪ .‬لكن أن يتنزل الوحي عليه‬ ‫فعلى فرض أّننا سنقبل أ ّ‬
‫وحده‪ ،‬ول نراه نحن‪ ،‬فهذا مال يمكن القبول به‪ ،‬ما المانع من أن يظهر الملك فيؤّكد صحة نبوة‬
‫الّرسول؟ أو أن يسمعنا بعضًا من الوحي!؟ أو أن نرى رّبنا بأعيننا حتى ل يبقى عندنا مكان لي‬
‫شك أو شبهة!؟‬
‫‪).‬هذه هي السئلة التي تمنعنا من قبول دعوة محمد)صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫المهم هو أن القرآن يصنف هؤلء المتعللين بالذرائع تحت عنوان )ل يرجون لقاءنا(‪ ،‬حيث يدل‬
‫ن منبع هذه القوال الواهية هو عدم اليمان بالخرة‪ ،‬وعدم القبول بالمسؤولية أمام ال‬ ‫‪.‬على أ ّ‬
‫في الية )‪ (7‬من سورة الحجر نقرأ أيضًا شبيهًا لهذا القول‪ ،‬حيث قالوا )لو ما تأتينا بالملئكة إن‬
‫كنت من الصادقين( وقرأنا أيضًا في مطلع سورة الفرقان هذه أن المشركين كانوا يقولون‪) :‬لول‬
‫‪).‬أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرًا‬
‫في حين أن من حق أي إنسان لثبات قضية ما‪ ،‬أن يطالب بالدليل فقط‪ .‬أّما نوع الدليل‪ ،‬فمن‬
‫المسّلم أّنه ل فرق فيه‪ ،‬في الوقت الذي أثبت رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(ـ بإظهار‬
‫المعجزات ومن جملتها القرآن نفسه ـ حقانية دعوته بوضوح‪ ،‬إذن فما معنى هذه الذرائع؟‬
‫وأفضل دليل على أّنهم لم يكونوا يقولون هذه القوال من أجل التحقيق حول نبوة الّنبي‪ ،‬هو أّنهم‬
‫طلبوا أن يشاهدوا الخالق‪ ،‬وأنزلوه إلى حّد جسم يمكن رؤيته‪ ،‬ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو‬
‫بني إسرائيل أيضًا‪ ،‬فسمعوا الجواب القاطع على ذلك‪ ،‬حيث ورد شرحه في سورة العراف الية‬
‫‪143 .‬‬
‫لذا يقول القرآن في الجابة على هذه الطلبات في آخر الية مورد البحث‪) :‬لقد استكبروا في‬
‫‪).‬أنفسهم وعتو عتوًا كبيرًا‬
‫‪،‬العتو" على وزن "غلو"‪ ،‬بمعنى المتناع عن الطاعة‪ ،‬والتمرد على المر"‬
‫]‪[226‬‬
‫‪.‬مصحوبًا بالعناد واللجاجة‬
‫ن هؤلء صاروا أسارى الغرور والتكّبر في‬ ‫و تعبير "في أنفسهم" من الممكن أن يكون بمعنى‪ :‬أ ّ‬
‫أنفسهم‪ .‬ومن الممكن أن يكون أيضًا بمعنى أّنهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه‬
‫‪.‬المعاذير‬
‫في عصرنا وزماننا أيضًا‪ ،‬يوجد أشخاص يكررون منطق المشركين الغابرين‪ ،‬فيقولون‪ :‬مادمنا ل‬
‫نرى ال في مختبراتنا‪ ،‬ول نشاهد الروح تحت مبضع الجراحة‪ ،‬فلن نصّدق! بوجودهما ومنبع‬
‫‪.‬الثنين واحد وهوا الستكبار والعتو‬
‫ن جميع الشخاص الذين يحصرون وسائل المعرفة في الحس والتجربة‬ ‫و من حيث الصل‪ ،‬فإ ّ‬
‫فقط‪ ،‬يكررون نفس هذا القول بشكل ضمني‪ ،‬فكّل الماديين داخلون في هذا الصنف‪ ،‬في حين أ ّ‬
‫ن‬
‫‪.‬الحواس ل تدرك إّل جزًء ضئيل ل يذكر من مادة هذا العالم‬
‫ن هؤلء الذين يطلبون أن يروا الملئكة‪ ،‬سوف يرونهم آخر‬ ‫ثّم يقول تعالى بصيغة التهديد‪ :‬إ ّ‬
‫)المر‪ ،‬لكن )يوم يرون الملئكة ل بشرى يومئذ للمجرمين(‪1).‬‬
‫بلى سوف لن ُيسّروا برؤية الملئكة في ذلك اليوم‪ ،‬لّنهم سيرون علمات العذاب برؤيتهم‬
‫الملئكة‪ ،‬وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أّنهم سيطلقون صرخات اِلستغاثة التي كانوا يطلقونها‬
‫في الدنيا حال اِلحساس بالخطر أمام الخرين‪ ،‬فيقولون‪ :‬اَلمان‪ ..‬اَلمان‪ ،‬اعفوا عّنا‪) :‬ويقولون‬
‫‪).‬حجرًا محجوراً‬
‫ن النار التي هم أوقدوها‬
‫ولكن ل هذه الجملة ـ ولغيرها ـ لها أثر على مصيرهم المحتوم‪ ،‬ذلك ل ّ‬
‫ستلتهم أطرافهم شاءوا أم أبوا‪ ،‬وستتجسد أمامهم العمال السيئة التي ارتكبوها‪ ،‬فل يملكون شيئًا‬
‫‪.‬لنفسهم‬
‫كلمة "حجر" )على وزن قشر( تقال في الصل للمنطقة التي حجروها‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سرين‪ ،‬ويحتمل أيضًا أن تكون لنشاء ‪1‬‬ ‫ـ كلمة )ل( ها هنا‪ ،‬قد تكون للنفي‪ ،‬كما قال كثير من المف ّ‬
‫الدعاء السلبي‪ ،‬حيث يصبح معنى الجملة في هذه الصورة‪ ،‬هكذا‪" :‬في ذلك اليوم ل كانت بشرى‬
‫‪".‬للمجرمين‬
‫]‪[227‬‬
‫وجعلوها ممنوعة الورود‪ ،‬وعندما يقال "حجر إسماعيل" فلن حائطًا ُأنشيء حوله فحجز داخله‪.‬‬
‫يقولون للعقل أيضًا "حجرًا" لّنه يمنع النسان من العمال المخالفة‪ .‬لذا نقرأ في الية )‪ (5‬من‬
‫سورة الفجر )هل في ذلك قسم لذي حجر(‪ ،‬وأيضًا "اصحاب الحجر" الذين ورد اسمهم في القرآن‬
‫)الية ‪ 80‬من سورة الحجر( وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لنفسهم بيوتًا حجرية محكمة‬
‫‪.‬في قلوب الجبال‪ ،‬فكانوا يعيشون في أمانها‬
‫‪".‬هذا في ما يخص كلمة "حجر‬
‫أّما جملة "حجرًا محجورًا"فقد كانت اصطلحًا بين العرب‪ ،‬إذا التقوا بشخص يخافونه‪ ،‬فأّنهم‬
‫‪.‬يقولون هذه الجملة أمامه لخذ المان‬
‫صة في الشهر الحرم‪ ،‬حيث كانت الحرب ممنوعة‪ ،‬فحينما يواجه‬ ‫كان هذا عرف العرب‪ ،‬خا ّ‬
‫شخص آخر‪ ،‬ويحتمل خرق هذا الُعرف والتعرض للذى‪ ،‬فإّنه يكرر هذه الجملة‪ ،‬والطرف المقابل‬
‫‪.‬ـ أيضًا ـ مع سماعة لها كان يعطيه المان‪ ،‬فيخرجه من القلق والضطراب والخوف‬
‫ن معنى الجملة المذكورة هو‪" :‬أريد المان‪ ،‬المان الذي ل رجعة فيه ول تغيير"‪1).‬‬ ‫)على هذا فإ ّ‬
‫ن المجرمين هنا هم أصحاب هذا القول‪ ،‬وتناسب الفعال الموجودة في‬ ‫اّتضح مّما قلناه أعله‪ ،‬أ ّ‬
‫الية‪ ،‬والسير التاريخي‪ ،‬وسابقة هذه الجملة في أوساط العرب ـ أيضًا ـ يستدعي هذا‪ ،‬ولكن‬
‫ن الملئكة هم أصحاب هذا القول‪ ،‬و هدفهم منع المشركين من رحمة ال‬ ‫‪.‬البعض احتمل أ ّ‬
‫ن أصحاب هذا القول هم المجرمون‪ ،‬يقولونه بعضهم لبعض‪ ،‬ولكن الظاهر هو‬ ‫وقال آخرون‪ :‬إ ّ‬
‫سرين‪ ،‬أو ذكروه كأّول‬
‫المعنى الول‪ ،‬حيث اختاره كثير من المف ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن "حجرًا" مفعول لفعل مقدر و "محجورًا" جاءت للتوكيد‪ ،‬فهي في ‪1‬‬ ‫ـ ومن الناحية الدبية فإ ّ‬
‫‪).‬الصل )أطلب منك منعًا ل سبيل إلى رفعه ودفعه‬
‫]‪[228‬‬
‫)تفسير لذلك‪1).‬‬
‫سرون احتمالين‪ :‬أحدهما‪:‬‬ ‫أّما أي يوم ذلك اليوم الذي يلتقي فيه المجرمون بالملئكة؟ فقد ذكر المف ّ‬
‫هو يوم الموت حيث يرى النسان ملك الموت‪ ،‬كما نقرأ في الية )‪ (93‬من سورة النعام‪) :‬ولو‬
‫ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم(‪ .‬والّثاني‪ :‬أ ّ‬
‫ن‬
‫‪.‬المقصود هو يوم القيامة والنشور‪ ،‬حيث يكون المجرمون أمام ملئكة العذاب فيشاهدونهم‬
‫و مع النتباه إلى اليات التية التي تتكلم عن النشور‪ ،‬خصوصًا جملة )يومئذ( التي تشير إليه‪،‬‬
‫ن الّتفسير الّثاني هو القرب‬‫‪.‬يتبّين أ ّ‬
‫الية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلء المجرمين في الخرة‪ ،‬فتقول‪) :‬وقدمنا إلى ما عملوا‬
‫‪).‬من عمل فجعلناه هباًء منثورًا‬
‫كلمة "العمل" على ما قاله "الراغب" في المفردات بمعنى‪ :‬كل فعل يكون بقصد‪ ،‬ولكن الفعل أعم‬
‫)منه‪ ،‬فهو يطلق على الفعال التي تكون بقصد أو بغير قصد‪2).‬‬
‫جملة "قدمنا" من "القدوم" بمعنى "المجيء" أو "الذهاب على أثر شيء" وهي هنا دليل على‬
‫تأكيد وجّدية المسألة‪ ،‬يعني مسّلما وبشكل قاطع أن جميع أعمال ُأولئك التي قاموا بها عن قصد‬
‫وإرادة ـ وإن كانت أعمال خير ظاهرًا ـ سنمحوها كما تمحى ذرات الغبار في الهواء‪ ،‬لشركهم‬
‫‪.‬وكفرهم‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ تفسير الميزان‪ ،‬تفسير الفخر الرازي‪ ،‬في ظلل القرآن‪ ،‬تفسير أبو الفتوح الرازي‪ ،‬ذيل آية ‪1‬‬
‫‪.‬البحث‬
‫ن له بيانًا خلف ذلك في مادة "فعل"‪2 .‬‬
‫ـ يذهب )الراغب( الى هذا الفرق في مادة "عمل"‪ ،‬ولو أ ّ‬
‫لكن مع اللتفات إلى موارد استعمال هاتين الكلمتين يكون هذا الفرق صحيحًا‪ ،‬طبعًا يمكن أن يكون‬
‫‪".‬له استثناءات كما يقولون للثيران التي تعمل "عوامل‬
‫]‪[229‬‬
‫‪:‬آفات العمل الصالح‬
‫كلمة "هباء" بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جّدا التي ل ُترى بالعين المجّردة وفي الحال العادية أبدًا‬
‫إّل في الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو ُكّوة‪ ،‬فيكشف عن هذه‬
‫‪.‬الذرات ويمكن مشاهدتها‬
‫هذا التعبير يدل على أن أعمال ُأولئك ل قيمة لها ول اثر إلى حّد كأّنهم لم يعملوا شيئًا‪ ،‬وإن كانوا‬
‫‪.‬قد سعوا واجتهدوا سنين طويلة‬
‫هذه الية نظيرة الية )‪ (18‬من سورة إبراهيم التي تقول‪) :‬مثل الذين كفروا برّبهم أعمالهم‬
‫‪).‬كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف‬
‫ن الشيء الذي يعطي عمل النسان الشكل والمحتوى‪ ،‬هو‬ ‫الدليل المنطقي لذلك واضح أيضًا‪ ،‬ل ّ‬
‫الّنية والدافع وغاية العمل النهائية‪ ،‬فأهل اليمان يتوجهون لنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى‬
‫أساس أهداف مقدسة طاهرة‪ ،‬وخطط سليمة صحيحة‪ ،‬في حين أن من ل إيمان لهم‪ ،‬فغالبًا يقعون‬
‫‪.‬أسارى التظاهر والرياء والغرور و العجب‪ ،‬فيكون سببًا في انعدام أية قيمة لعمالهم‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬نحن نعرف مساجد من مئات السنين‪ ،‬لم تترك عليها القرون الماضية أدنى‬
‫تأثير‪ ،‬وبعكسها نرى بيوتًا تظهر فيها الشروخ وعلمات الضعف مع مضي شهر واحد أو سنة‬
‫واحدة‪ ،‬فاُلولى بنيت من كل النواحي بناًء محكمًا بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية‪ ،‬أّما‬
‫الّثانية فلن الهدف من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة‪ ،‬فالعناية فيها‬
‫)كانت بالزخرفة فقط‪1).‬‬
‫من وجهة نظر المنطق السلمي‪ ،‬فإن للعمال الصالحة آفات‪ ،‬ينبغي مراقبتها بدقة‪ ،‬فقد يكون‬
‫العمل أحيانًا خرابًا وفاسدًا منذ البداية‪ ،‬كمثل العمل الذي يتخذ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ بحثنا في هذا الصدد بصورة أكثر تفصيل في )ذيل الية ‪ 18‬من سورة إبراهيم ‪1‬‬
‫]‪[230‬‬
‫ء(‬
‫‪).‬ريا ً‬
‫و احيانًا ُاخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو اصاب النسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة‬
‫‪.‬عمله بسبب ذلك‬
‫و قد يمحى أثر العمل الصالح بعد النتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية‪ ،‬كمثل النفاق‬
‫‪.‬الذي تتبعه "مّنة"‪ ،‬أو كالعمال الصالحة التي يعقبها كفر وارتداد‬
‫حتى ارتكاب الذنوب أحيانًا يترك أثره على العمل الصالح بعدها ـ طبقًا لبعض الّروايات السلمية ـ‬
‫)كما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث ل تقبل أعماله عند ال أربعين يومًا‪1).‬‬
‫على أية حال‪ ،‬فللسلم منهج فذ‪ ،‬دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح‪ .‬نقرأ في‬
‫‪:‬حديث عن المام الباقر)عليه السلم( قال‬
‫يبعث ال عّزوجّل يوم القيامة قومًا بين أيديهم نور كالقباطي‪ ،‬ثّم يقول له‪) :‬كن هباًء منثورًا( ثّم‬
‫قال‪ :‬أّما وال ـ يا أبا حمزة ـ إّنهم كانوايصومون ويصلون‪ ،‬ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من‬
‫الحرام أخذوه‪ ،‬وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين )عليه السلم( أنكروه‪ ،‬قال‪ :‬والهباء‬
‫)المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس"‪2).‬‬
‫و بما أن القرآن ـ عادة ـ يضع الحسن والسيء متقابلين حتى يّتضح وضع كل منهما بالمقايسة‬
‫ن الية التي بعدها تتحدث عن أهل الجّنة فتقول‪) :‬أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن‬ ‫فإ ّ‬
‫‪).‬مقيل‬
‫ن صيغة "أفعل‬ ‫ن وضع أهل جهنم حسن‪ ،‬ووضع أهل الجّنة أحسن‪ ،‬ل ّ‬ ‫ليس معنى هذا الكلم أ ّ‬
‫التفضيل" تأتي أحيانًا حيث يكون أحد الطراف واجدًا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪".‬ـ سفينة البحار‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ،427‬مادة "خمر ‪1‬‬
‫‪ .‬ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقًا لنقل نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪2 9‬‬
‫]‪[231‬‬
‫صلت‪) :‬أفمن ُيلقى في الّنار‬
‫للمفهوم‪ ،‬وآلخر فاقدًا له كليًا‪ .‬مثل نقرأ في الية )‪ (40‬من سورة ف ّ‬
‫‪).‬خير أم من يأتي آمنًا يوم القيامة‬
‫‪.‬مستقر" بمعنى محل الستقرار"‬
‫و "مقيل" بمعنى محل الستراحة في منتصف النهار‪ ،‬من مادة "قيلولة"‪ ،‬وقد جاءت بمعنى النوم‬
‫‪.‬منتصف النهار‬

‫***‬
‫]‪[232‬‬

‫اليتان‬

‫ن َيْومًا‬
‫ن وَكا َ‬
‫حَمـ ِ‬
‫ق ِللّر ْ‬
‫ح ّ‬
‫ك َيْوَمِئذ اْل َ‬
‫سَمآُء ِباْلَغَمـِم َوُنّزَل اْلَمَلـِئَكُة َتنِزيل )‪(25‬اْلُمْل ُ‬
‫ق ال ّ‬
‫شّق ُ‬‫َو َيْوَم َت َ‬
‫سيرًا)‪26‬‬ ‫ع ِ‬‫ن َ‬‫عَلى اْلَكـِفِري َ‬‫)َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬تشقق السماء بالغمام‬
‫مّرة أخرى يواصل القرآن في هذه اليات البحث حول القيامة‪ ،‬ومصير المجرمين في ذلك اليوم‪،‬‬
‫فيقول أّول‪ :‬إن يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم‪:‬‬
‫))ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملئكة تنزيل(‪1).‬‬
‫الغمام" من "الغم" بمعنى ستر الشيء‪ ،‬لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس يقال له "الغمام"‪"،‬‬
‫‪".‬وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسّمونه "الغم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫رت ‪1‬‬
‫ـ جملة "يوم تشقق السماء" في الواقع عطف على جملة "يوم يرون الملئكة" التي م ّ‬
‫ن "يوم" هنا متعلق بذلك الشيء الذي كان في الية السابقة‪ ،‬يعني جملة "ل‬ ‫سابقًا‪ ،‬وعلى هذا فأ ّ‬
‫بشرى"‪ .‬ويعتقد جماعة أّنه متعلق بفعل مقّدر‪ ،‬مثل )أذكْر( و "الباء" في "الغمام" يمكن أن تكون‬
‫‪.‬بمعنى الملبسة‪ ،‬أو بمعنى "عن"‪ ،‬أو للسببية كما تقدم في تفسير اليات أعله‬
‫]‪[233‬‬
‫هذه الية ـ في الحقيقة ـ رّد على طلبات المشركين‪ ،‬وعلى إحدى ذرائعهم‪ ،‬لّنهم كانوا يتوقعون أن‬
‫يأتي ال والملئكة ـ طبقًا لساطيرهم وخرافاتهم من خلل الغيم‪ ،‬فيدعونهم إلى الحق‪ ،‬وفي‬
‫ن ال أحيانًا يظهر ما بين الغيوم‪1).‬‬
‫)أساطير اليهود جاء ـ أيضًا ـ أ ّ‬
‫يقول القرآن في الرّد عليهم‪ :‬نعم الملئكة )وليس ال( يأتون إليهم يومًا ما‪ ،‬لكن أي يوم؟ اليوم‬
‫‪.‬الذي تتحقق فيه مجازاة وعقوبة هؤلء المجرمين‪ ،‬وينهي ادعاءاتهم الباطلة‬
‫ولكن ما هو المقصود من تشقق السماء بالغمام‪ ،‬مع أّننا نعلم أن ل وجود حولنا لشيء يسمى‬
‫السماء‪ ،‬يكون قابل للتشقق؟‬
‫سرين مثل "العلمة الطباطبائي" في تفسير "الميزان"‪ :‬المقصود هو تشقق سماء‬ ‫قال بعض المف ّ‬
‫عالم الشهود‪ ،‬وزوال حجاب الجهل والغباء وظهور عالم الغيب‪ ،‬فيكون للنسان إدراك ورؤية‬
‫تختلف كثيرًا عّما هي عليه اليوم‪ ،‬فحينئذ تزول الحجب‪ ،‬فيرون الملئكة وهي تتنزل من العالم‬
‫‪.‬العلى‬
‫ن المقصود من السماء هو الجرام السماوية التي تتلشى على أثر‬ ‫ثّمة تفسير آخر‪ ،‬هو أ ّ‬
‫انفجارات متوالية‪ ،‬فيمل الغيم الحاصل من هذه النفجارات ومن تلشي الجبال صفحة السماوات‪،‬‬
‫)وبناًء على هذا فالفلك السماوية تتشقق مع الغيوم الحاصلة من ذلك‪2).‬‬
‫آيات كثيرة من القرآن المجيد‪ ،‬خصوصًا التي وردت في السور القصار آخر القرآن‪ ،‬تبّين هذه‬
‫الحقيقة‪ ،‬حيث تمل جميع عوالم الوجود تغيرات عظيمة‪ ،‬وانقلب وتحول عجيب‪ ،‬تتلشى الجبال‬
‫وتتناثر في الفضاء كذرات الغبار‪ ،‬الشمس تفقد نورها وكذلك النجوم‪ .‬ويلتقي الشمس والقمر‪،‬‬
‫وتمل نواحي الرض‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ في ظلل القرآن‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪) 154‬ذيل الية مورد البحث ‪1‬‬
‫‪.‬ـ "الباء" من الناحية الدبية في هذه الحالة للملبسة ‪2‬‬
‫]‪[234‬‬
‫‪.‬زلزلة وهّزة عجيبة‬
‫س السماء بغيوم كثيفة‪،‬‬
‫نعم‪ ،‬في مثل ذلك اليوم‪ ،‬زوال السماء‪ ،‬بمعنى الجرام السماوية‪ ،‬وتلّب ُ‬
‫‪.‬سيكون أمرًا طبيعيًا‬
‫‪:‬من الممكن توضيح نفس هذا الّتفسير بنحو آخر‬
‫شّدة التغيرات‪ ،‬وانفجارات الكواكب والسيارات يصير سببًا في تغطية السماء بغيم كثيف‪ ،‬ولكن‬
‫توجد انشقاقات بين هذا الغيم‪ ،‬وعلى هذا فالسماء التي ترى بالعين في الحوال العادية‪ ،‬تتشقق‬
‫)بواسطة هذه الغيوم النفجارية العظيمة‪1).‬‬
‫تفسيرات أخرى قيلت لهذه الية أيضًا ل تتوافق مع الصول العلمية والمنطقية‪ ،‬وفي نفس الوقت‬
‫فالّتفسيرات الثلثة النفة ل تتنافى مع بعضها‪ ،‬فمن الممكن أن ترتفع حجب العالم المادي عن‬
‫عين النسان من جهة‪ ،‬فيشاهد عالم ماوراء الطبيعة‪ ،‬ومن جهة ُأخرى ستتلشى الجرام‬
‫السماوية‪ ،‬وتظهر الغيوم النفجارية‪ ،‬فتبرز التشققات ما بينها في ذلك اليوم‪ ،‬يوم نهاية هذا العالم‬
‫‪.‬وبداية النشور‪ ،‬يوم أليم جّدا للمجرمين الظالمين المعاندين الذين ل إيمان لهم‬
‫‪).‬بعد ذلك يتناول القرآن الكريم أوضح علئم ذلك اليوم فيقول‪) :‬الملك يومئذ الحق للرحمن‬
‫حتى ُأولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع‬
‫الزوال‪ ،‬يخرجون أيضًا من دائرة الملك‪ ،‬فتكون الحاكمية من كّل النواحي وجميع الجهات لذاته‬
‫صة‪ ،‬وبهذا )وكان يومًا على الكافرين عسيرًا‬ ‫‪).‬المقدسة خا ّ‬
‫صة‪ ،‬فتتداعى قلع الكافرين‪،‬‬
‫نعم‪ ،‬في ذلك اليوم تزول القوى الكاذبة تمامًا‪ ،‬وتكون الحاكمية ل خا ّ‬
‫وتزول قوى الجبابرة والطواغيت‪ ،‬وإن كانوا جميعًا في‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ في هذه الحالة "الباء" في "بالغمام" للسببية ‪1‬‬
‫]‪[235‬‬
‫هذا العالم ـ أيضًا ـ ل شيء أمام إرادته تبارك وتعالى‪ .‬واذا كان لهم في هذه الدنيا بهرجة‪ ،‬فبأي‬
‫ملذ يلوذون من الجزاء اللهي في يوم القيامة‪ ،‬يوم انكشاف الحقائق وزوال المجازات والخيالت‬
‫والوهام‪ ،‬ولهذا سيكون ذلك اليوم يومًا بالغ الصعوبة عليهم‪ ،‬في الوقت الذي يكون على‬
‫‪.‬المؤمنين سهل يسيرًا وهينًا جّدا‬
‫في حديث عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬قال رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( )في يوم كان‬
‫مقداره خمسين ألف سنة( فقلت‪ :‬ما أطول هذا اليوم!؟ فقال الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫ف عليه من صلة المكتوبة يصليها في‬ ‫"والذي نفسي بيده إّنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخ ّ‬
‫)الدنيا"‪1).‬‬
‫والتأمل الدقيق في سائر آيات القرآن يكشف عن دلئل صعوبة ذلك اليوم على الكافرين‪ ،‬ذلك أّننا‬
‫)نقرأ من جهة )و تقطعت بهم السباب(‪2).‬‬
‫)و من جهة أخرى )ما أغنى عنه ماله وما كسب(‪3).‬‬
‫)و من جهة ثالثة )يوم ل ُيغني مولى عن مولى شيئًا(‪4).‬‬
‫حتى الشفاعة التي هي وحدها طريق النجاة‪ ،‬تكون للمذنبين الذين كانت لهم صلة بال وبأولياء‬
‫)ال )من ذا الذي يشفع عنده إلبإذنه(‪5).‬‬
‫!!وايضًا )فل يؤذن لهم فيعتذرون(‪ (6)،‬فل يسمح لهم بالعتذار‪ ،‬فما بالك بقبول العذار الواهية‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير القرطبي "الجامع لحكام القرآن"‪ ،‬ج ‪ ،13‬ص ‪ ;23‬ج ‪ ،7‬ص ‪1 4739‬‬
‫‪.‬ـ سورة البقرة‪،‬الية ‪2 166‬‬
‫‪.‬ـ سورة تّبت‪ ،‬الية ‪3 2‬‬
‫‪.‬ـ سورة الدخان‪ ،‬الية ‪4 41‬‬
‫‪.‬ـ سوره البقرة‪ ،‬الية ‪5 255‬‬
‫‪.‬ـ سورة المرسلت‪ ،‬الية ‪6 36‬‬
‫]‪[236‬‬

‫اليات‬

‫خْذ‬
‫سِبيل)‪َ (27‬يـَوْيَلَتى َلْيَتِنى َلْم َأّت ِ‬ ‫سوِل َ‬ ‫ت َمَع الّر ُ‬
‫خْذ ُ‬
‫عَلى َيَدْيِه َيُقوُل َيـَلْيَتِنى اّت َ‬‫ظاِلُم َ‬
‫ض ال ّ‬
‫َوَيْوَم َيَع ّ‬
‫خُذول)‪29‬‬ ‫ن َ‬ ‫سـ ِ‬‫لن َ‬
‫ن ِل ِْ‬
‫طـ ُ‬
‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫جآَءِنى َوَكا َ‬
‫ن الّذْكِر َبْعَد ِإْذ َ‬‫عِ‬‫ضّلِنى َ‬ ‫خِليل)‪ّ (28‬لَقْد َأ َ‬‫)ُفلنًا َ‬
‫سبب الّنزول‬
‫قال ابن عباس‪ :‬نزل قوله تعالى‪) :‬ويوم َيعض الظالم( في عقبة بن أبي معيط‪ ،‬وُأبي بن خلف‪"،‬‬
‫وكانا متخاّلين‪ ،‬وذلك أن عقبة كان ل يقدم من سفر إّل صنع طعامًا فدعا إليه أشراف قومه‪ ،‬وكان‬
‫يكثر مجالسة الّرسول‪ ،‬فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعامًا ودعا الناس‪ ،‬فدعا رسول ال)صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم( إلى طعامه‪ ،‬فلما قربوا الطعام قال رسول ال )صلى ال عليه وآله وسلم(‪:‬‬
‫ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن ل إله إّل ال وأّني رسول ال‪ ،‬فقال عقبة‪ :‬أشهد أن ل إله إّل‬
‫ت يا عقبة؟ قال‪ :‬ل وال ما‬
‫ال وأشهد أن محمدًا رسول ال‪ .‬وبلغ ذلك ُأبي بن خلف فقال‪ :‬صبئ َ‬
‫ي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إّل أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من‬ ‫ت‪ ،‬ولكن دخل عل ّ‬
‫صبأ ُ‬
‫ت براض عنك أبدًا حتى تأتي فتبزق في وجهه‬ ‫ت له فطعم‪ ،‬فقال ُأبي‪ :‬ما كن ُ‬
‫‪،‬بيتي ولم يطعم‪ ،‬فشهد ُ‬
‫]‪[237‬‬
‫ففعل ذلك عقبة وارتّد‪ ،‬وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه‪ ،‬فقال النبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪:‬‬
‫ت رأسك بالسيف‪ ،‬فضرب عنقه يوم بدر صبرًا‪ ،‬وأّما ُأبي بن خلف‬ ‫ل ألقاك خارجًا من مّكة إّل علو ُ‬
‫‪".‬فقتله النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( يوم ُأحد بيده في المبارزة‬
‫وقال الضحاك‪ :‬لما بزق عقبة في وجه رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( عاد بزاقه في‬
‫‪.‬وجهه‪ ،‬فأحرق خديه‪ ،‬وكان أثر ذلك فيه حتى مات‬
‫)وقيل نزلت في كل كافر أو ظالم تبع غيره في الكفر أو الظلم وترك متابعة أمر ال تعالى‪1).‬‬
‫‪.‬نزلت اليات أعله لترسم صورة مصير الرجل الذي ُيبتلى بخليل ضال‪ ،‬ويجره إلى الضلل‬
‫صا‪ ،‬إّل أّنه ل يقيد مفهوم اليات أبدًا‪ ،‬وعمومية المفهوم‬
‫ن سبب الّنزول وإن يكن خا ّ‬ ‫وقلنا مرارًا أ ّ‬
‫‪.‬تشمل جميع المصاديق‬
‫***‬

‫الّتفسير‬
‫أضلني صديق السوء‬
‫ض منها في اليات السابقة‪ ،‬وفي هذه اليات اشارة‬‫يوم القيامة له مشاهد عجيبة‪ ،‬حيث ورد بع ٌ‬
‫الى قسم آخر منها‪ ،‬وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم‪ ،‬يقول تعالى أّول‪) :‬ويوم‬
‫‪).‬يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الّرسول سبيل()‪2‬‬
‫ض" )على وزن سّد( بمعنى الزم بالسنان‪ ،‬ويستخدم"‬ ‫ض" من مادة "ع ّ‬ ‫يع ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .‬ـ مجمع البيان‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪1 166‬‬
‫ـ جملة )يوم يعض الظالم‪ (...‬عطف على "يوم يرون" التي مضت قبل عّدة آيات‪ ،‬بعض يعتبرها ‪2‬‬
‫‪".‬أيضًا متعلقة بجملة مقدرة "اذكر‬
‫]‪[238‬‬
‫هذا التعبير عادة بالنسبة إلى الشخاص المهووسين من شّدة الحسرة والسف‪ ،‬كما في المثل‬
‫العربي‪ ،‬لن النسان في مثل هذه الحالت ل يعض الصبع دائمًا‪ ،‬بل يعض ظاهر اليد أحيانًا‪،‬‬
‫وكثيرًا ما يقال ـ كما في الية الية مورد البحث ـ "يديه" يعني كلتا اليدين حيث تبّين شّدة السف‬
‫‪.‬والحسرة بنحو أبلغ‬
‫و هذا العمل يصدر من هؤلء الشخاص حينما يطلعون على ماضيهم‪ ،‬ويعتبرون أنفسهم‬
‫مقصرين‪ ،‬فيصممون على اِلنتقام من أنفسهم بهذا الشكل لتهدئة سورة الغضب في نفوسهم‬
‫‪.‬والشعور بالراحة‬
‫وينبغي حّقا‪ ،‬أن يسمى ذلك اليوم )يوم الحسرة( كما ورد هذا الوصف بالذات في القرآن ليوم‬
‫القيامة أيضًا )سورة مريم الية ‪ ،(39‬ذلك لن المجرمين يرون أنفسهم في أتعس حال بين يدي‬
‫الحياة الخالدة‪ ،‬في الوقت الذي كانوا يستطيعون خلل أيام من الصبر والستقامة ومجاهدة النفس‬
‫واليثار أن يستبدلوا ذلك بحياة مشرفة وسعيدة‪ ،‬وهو يوم أسف أيضًا حتى بالنسبة إلى‬
‫‪.‬المحسنين‪ ،‬فهم يأسفون على أّنهم‪ :‬لماذا لم يحسنوا أكثر‬
‫ن هذا الظالم المعتدي الغارق في عالم السف‪ ،‬يقول‪):‬يا ويلتي ليتني لم‬ ‫ثّم يضيف القرآن الكريم أ ّ‬
‫)أتخذ فلنًا خليل(‪1).‬‬
‫واضح أن المقصود بـ "فلن" هو ذلك الذي أضله‪ :‬الشيطان أو صديق السوء أو القريب الضال‪،‬‬
‫‪.‬وفرٌد مثل "ُأبي" لـ "عقبة" الذي ورد في سبب الّنزول‬
‫هذه الية ـ والية التي قبلها ـ تعرضان حالتي نفي وإثبات متقابلتين في مكان واحد‪ ،‬يقول تعالى‪:‬‬
‫ت مع الّرسول سبيل(‪ ،‬وهنا يقول‪...) :‬ليتني لم أتخذ فلنًا خليل( حيث كانت التعاسة‬ ‫)يا ليتني اتخذ ُ‬
‫‪.‬كلها في ترك الرتباط بالّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬وقبول الرتباط بهذا الخليل الضال‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "خليل" تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله النسان مشاورًا لنفسه‪ .‬وللخليل ‪1‬‬
‫‪.‬معان أخرى أيضًا قد أوردناها في ذيل الية )‪ (125‬من سورة النساء‬
‫]‪[239‬‬
‫‪).‬ثّم يستمر ويقول‪) :‬لقد أضلني عن الذكر بعد إذجاءني‬
‫لو كانت الفاصلة كبيرة بيني وبين اليمان والسعادة الخالدة في الدنيا لم اكن آسف الى هذا الحد‪،‬‬
‫ولكني كنت قاب قوسين أو أدنى من السعادة الدائمة فصّدني رفيق السوء هذا عن عين ماء الحياة‬
‫‪.‬ظامئًا وأغرقني في دوامة التعاسة‬
‫ى واسع‪ ،‬ويشمل كل اليات اللهية التي نزلت في الكتب"‬ ‫الذكر" في الجملة أعله‪ ،‬له معن ً‬
‫‪.‬السماوية‪ ،‬بل يدخل في إطاره كّل ما يوجب يقظة ووعي النسان‬
‫وفي ختام الية يقول تعالى‪) :‬وكان الشيطان للنسان خذول( ذلك لّنه يجر النسان إلى مواقع‬
‫‪،‬الخطر والطرق المنحرفة‪ ،‬ثّم يتركه حيران ويذهب لسبيله‬
‫ن "خذول" صيغة مبالغة‪ ،‬بمعنى كثير الخذلن‬ ‫‪.‬وينبغي النتباه إلى أ ّ‬
‫وحقيقة الخذلن هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام العتماد‪ ،‬ولكن هذا الصديق يرفع يده‬
‫‪.‬عن مساعدته وإعانته تمامًا في اللحظات الحساسة‬
‫في هذه الجملة الخيرة )وكان الشيطان للنسان خذول( قد تكون من مقولة ال تعالى على سبيل‬
‫النذار لجميع الظالمين والظالين‪ ،‬أو تتمة لمقولة هؤلء الفراد المتحسرين في القيامة‪ ،‬ذكر‬
‫سرون تفسيرين‪ ،‬وكل منهما منسجم مع معنى الية‪ ،‬غير أن كونها مقولة ال تعالى أكثر‬ ‫المف ّ‬
‫‪.‬انسجامًا‬
‫***‬

‫بحث‬
‫‪:‬أثر الصديق في مصير اِلنسان‬
‫ل شك في أن عوامل بناء شخصية اِلنسان ـ بعد عزمه وإرادته وتصميمه ـ ُأمور مختلفة‪ ،‬من‬
‫ن اِلنسان قابل للتأثر‬
‫أهمها الجليس والصديق والمعاشر‪ ،‬ذلك ل ّ‬
‫]‪[240‬‬
‫شاء أم أبى‪ ،‬فيأخذ قسطًا مهمًا من أفكاره وصفاته الخلقية عن طريق أصدقائه‪ ،‬ولقد ثبتت هذه‬
‫‪.‬الحقيقة من الناحية العلمية وعن طريق التجربة والمشاهدات الحسية أيضًا‬
‫صا لدى السلم إلى حّد أّنه نقل في الّروايات السلمية‪ ،‬عن نب ّ‬
‫ي‬ ‫قابلية التأثر هذه نالت اهتمامًا خا ّ‬
‫ال سليمان)عليه السلم( أّنه قال‪" :‬ل تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب‪،‬‬
‫)فإّنما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه‪ ،‬وينسب إلى أصحابه وأخدانه"‪1).‬‬
‫يقول المام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)عليه السلم( في خطبة له‪" :‬ومن اشتبه عليكم‬
‫أمره ولم تعرفوا دينه‪ ،‬فانظروا إلى خلطائه‪ ،‬فإن كانوا أهل دين ال فهو على دين ال‪ ،‬وإن كانوا‬
‫ظ له من دين ال"‪2).‬‬ ‫)على غير دين ال‪ ،‬فل ح ّ‬
‫ن أثر الصديق في سعادة وشقاوة إنسان ما قد يكون من أهم العوامل أحيانًا‪ ،‬فقد يؤدي به‬ ‫حّقا‪ ،‬إ ّ‬
‫‪.‬إلى دركات الشقاء البدي‪ ،‬وقد يرقى به أحيانًا إلى غاية المجد‬
‫ن النسان قد يقترب من السعادة‪ ،‬لك ّ‬
‫ن‬ ‫اليات الحالية وسبب نزولها‪ ،‬تبّين ـ بوضوح ـ كيف أ ّ‬
‫وسوسة شيطانية واحدة من صديق سيء تقلبه رأسًا على عقب وتقلب مصيره‪ ،‬حيث سيع ّ‬
‫ض‬
‫‪".‬على يديه من الحسرة يوم القيامة‪ ،‬وستتعالى منه صرخة "ياويلتى‬
‫في كتاب "الِعشرة" وردت روايات كثيرة في نفس هذا الموضوع‪ ،‬تبّين أن السلم شديد ودقيق‬
‫‪.‬وثاقب النظرة في مسألة اختيار الصديق‬
‫ُننهي هذا البحث القصير بنقل حديثين في هذا الموضوع‪ ،‬ومن أراد الطلع أكثر في هذا‬
‫‪.‬الموضوع فليراجع كتاب "العشرة" من بحار النوار‪ ،‬الجزء ‪74‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ سفينة البحار‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ 27‬مادة )صدق ‪1‬‬
‫‪ .‬ـ بحار النوار‪ ،‬ج ‪ ،74‬ص ‪2 197‬‬
‫]‪[241‬‬
‫نقرأ في حديث عن التاسع من أئمة السلم العظام‪ ،‬المام محمد التقي الجواد)عليه السلم( "ِاّياك‬
‫)ومصاحبة الشرير‪ ،‬فإنه كالسيف المسلول‪ ،‬يحسن منظره ويقبح أثره"‪1).‬‬
‫وقال الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم(‪" :‬أربع يمتن القلب‪ :‬الذنب على الذنب‪...‬‬
‫)ومجالسة الموتى" قيل له‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬وما الموتى؟ قال‪" :‬كل غني مترف"‪2).‬‬

‫***‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ بحار النوار ج ‪ 74‬ص ‪1 198‬‬
‫‪ .‬ـ الخصال‪ ،‬للصدوق‪ ،‬طبقًا لنقل بحار النوار‪ ،‬ج ‪ ،74‬ص ‪2 195‬‬
‫]‪[242‬‬

‫اليات‬

‫عُدّوًا ّمنَ‬‫ى َ‬ ‫جَعْلَنا ِلُكّل َنِب ّ‬


‫ك َ‬‫جورًا)‪َ (30‬وَكذِل َ‬ ‫ن َمْه ُ‬‫خُذوْا َهَذا اْلُقْرَءا َ‬‫ن َقْوِمى اّت َ‬ ‫ب ِإ ّ‬
‫سوُل َيـَر ّ‬ ‫َو َقاَل الّر ُ‬
‫حَدًة‬
‫جْمَلًة َو ِ‬
‫ن ُ‬ ‫عَلْيِه اْلُقْرَءا ُ‬
‫ن َكَفُروْا َلْوَُل ُنّزَل َ‬ ‫صيرًا)‪َ (31‬وَقاَل اّلِذي َ‬ ‫ك َهاِديًا َوَن ِ‬‫ن َوَكفى ِبَرّب َ‬ ‫جِرِمي َ‬ ‫اُلم ْ‬
‫سيرًا)‪(33‬‬ ‫ن َتْف ِ‬ ‫سَ‬‫ح َ‬‫ق َوأ ْ‬ ‫ح ّ‬
‫ك ِباْل َ‬
‫جْئَنـ َ‬
‫ك ِبَمَثل ِإّل ِ‬‫ك َوَرّتْلَنـُه َتْرِتيل)‪َ (32‬وَل َيْأُتوَن َ‬ ‫ت ِبِه ُفَؤاَد َ‬‫ك ِلُنَثّب َ‬‫َكَذلِ َ‬
‫سِبيل)‪34‬‬ ‫ضّل َ‬ ‫شّر ّمكانًا َوأ َ‬ ‫ك َ‬ ‫جَهّنَم ُأْوَلـِئ َ‬
‫جوِهِهْم ِإَلى َ‬‫عَلى ُو ُ‬ ‫ن َ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬‫ن َي ْ‬ ‫)اّلِذي َ‬

‫الّتفسير‬
‫ن الناس قد هجروا القرآن‬‫‪:‬إلهي‪ ،‬إ ّ‬
‫كما تناولت اليات السابقة أنواعًا من ذرائع المشركين والكافرين المعاندين‪ ،‬تتناول الية اُلولى‬
‫في مورد البحث هنا حزن وشكاية الّرسول العظم)صلى ال عليه وآله وسلم( بين يدي ال‬
‫‪:‬عّزوجّل من كيفية تعامل هذه الفئة مع القرآن‪ ،‬فتقول‬
‫]‪[243‬‬
‫ن قومي اّتخذوا هذا القرآن مهجورًا(‪(1).‬‬
‫بإّ‬
‫)وقال الّرسول يا ر ّ‬
‫قول الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( هذا‪ ،‬وشكواه هذه‪ ،‬مستمران إلى هذا اليوم من فئة‬
‫عظيمة من المسلمين‪ ،‬يشكو بين يدي ال أّنهم دفنوا القرآن بيد النسيان‪ ،‬القرآن الذي هو رمز‬
‫الحياة ووسيلة النجاة‪ ،‬القرآن الذي هو سبب النتصار والحركة والترقي‪ ،‬القرآن الممتلىء ببرامج‬
‫‪.‬الحياة‪ ،‬هجروا هذا القرآن فمّدوا يد الستجداء إلى الخرين‪ ،‬حتى في القوانين المدنية والجزائية‬
‫إلى الن‪ ،‬لو تأملنا في وضع كثير من البلدان اِلسلمية‪ ،‬خصوصًا ُأولئك الذين يعيشون تحت‬
‫ن القرآن بينهم كتاب للمراسم والتشريفات‪ ،‬يذيعون‬ ‫هيمنة الشرق والغرب الثقافية‪ ،‬لوجدنا أ ّ‬
‫ألفاظه وحدها بأصوات عذبة عبر محطات البث‪ ،‬ويستخدمونه في زخرفة المساجد بعنوان الفن‬
‫المعماري‪ ،‬ولفتتاح منزل جديد‪ ،‬أو لحفظ مسافر‪ ،‬وشفاء مريض‪ ،‬وعلى الكثر للتلوة من أجل‬
‫‪.‬الثواب‬
‫ويستدلون بالقرآن‪ ،‬أحيانًا وغايتهم إثبات أحكامهم المسّبقة الخاطئة من خلل الستعانة باليات‪،‬‬
‫‪.‬وبالستفادة من المنهج المنحرف في الّتفسير بالرأي‬
‫في بعض البلدان السلمية‪ ،‬هناك مدارس في طول البلد وعرضها بعنوان‪ :‬مدارس "تحفيظ‬
‫القرآن" وفريق عظيم من الولد والبنات مشغولون بحفظ القرآن‪ ،‬في الوقت الذي تؤخذ أفكارهم‬
‫عن الغرب حينًا‪ ،‬وعن الشرق حينًا آخر‪ ،‬وتؤخذ قوانينهم وقراراتهم من الجانب‪ ،‬أّما القرآن‬
‫‪.‬فغطاء لمخالفاتهم فقط‬
‫ن قومي اّتخذوا هذا القرآن‬‫بإّ‬‫نعم‪ ،‬اليوم أيضًا يصرخ النبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪) :‬يا ر ّ‬
‫‪،‬مهجورًا(‪ .‬مهجورًا من ناحية لّبه ومحتواه‪ ،‬متروكًا من ناحية الفكر والتأمل‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( كان قد ذكر ‪1‬‬ ‫ـ الظاهر أن جملة "قال" فعل ماض‪ ،‬تدل على أ ّ‬
‫سرين أيضًا على هذا العتقاد‪ ،‬لكن بعضًا‬ ‫هذا القول على سبيل الشكوى في هذه الدنيا‪ ،‬وأكثر المف ّ‬
‫آخر مثل "العلمة الطباطبائي" في "الميزان" يعتقدون أن هذا القول مرتبط بيوم القيامة‪ ،‬والفعل‬
‫الماضي هنا بمعنى المضارع‪ .‬وذكر العلمة الطبرسي في مجمع البيان أيضًا هذا على سبيل‬
‫الحتمال‪ ،‬لكن الية التي بعدها‪ ،‬والتي فيها جنبة مواساة للّنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( دليل‬
‫‪.‬على أن الّتفسير المشهور هو الصح‬
‫]‪[244‬‬
‫‪.‬ومهمل من ناحية برامجه البناَءة‬
‫تقول الية التي بعدها في مواساة الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬حيث كان يواجه هذا‬
‫‪).‬الموقف العدائي للخصوم‪) :‬وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين‬
‫لست وحدك قدواجهت هذه العداوة الشديدة لهذه الفئة‪ ،‬فقد مرّ جميع النبياء بمثل هذه الظروف‪،‬‬
‫‪.‬حيث كان يتصدى لمخالفتهم فريق من )المجرمين( فكانوا يناصبونهم العداء‬
‫‪).‬ولكن إعلم أّنك لست وحيدًا‪ ،‬وبل معين )وكفى برّبك هاديًا ونصيرًا‬
‫ن ال هاديك‪ ،‬ول مؤامراتهم تستطيع‪ ،‬أن تحطمك‪ ،‬لن الخالق‬ ‫فل وساوسهم تستطيع أن تضلك‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬معينك‪ ،‬الخالق الذي علمه فوق كل العلوم‪ ،‬وقدرته أقوى من كل القدرات‬
‫الية التي بعدها‪ ،‬تشير أيضًا إلى ذريعة ُأخرى من ذرائع هؤلء المجرمين المتعللين بالمعاذير‪،‬‬
‫‪).‬فتقول‪) :‬وقال الذين كفروا لول نّزل عليه القرآن جملة واحدة‬
‫أليس القرآن جميعه من قبل ال!؟ أليس من الفضل أن ينزل جميع محتوى هذا الكتاب دفعة‬
‫واحدة حتى يقف الناس على عظمته أكثر؟ ولماذا تتنزل هذه اليات تدريجيًا وعلى فواصل زمنية‬
‫مختلفة؟‬
‫صة إذا كانوا من‬
‫و قد يأخذ هذا الشكال في كيفية نزول القرآن مأخذه من الفراد السطحيين‪ ،‬خا ّ‬
‫المتمحلين للعذار بأن هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس ومصدر كل حياة المسلمين‪،‬‬
‫ومحور كل قوانينهم السياسية و الجتماعية والحقوقية والعبادية‪ ،‬لماذا لم ينزل كامل ودفعة‬
‫ي السلم)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬حتى يقرأه أتباعه من البداية إلى النهاية‬ ‫واحدة على نب ّ‬
‫فيطلعون على محتواه‪ .‬واساسًا فقد كان الفضل للنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أيضًا أن يكون‬
‫ذا اطلع على جميع هذا القرآن دفعة واحدة‪ ،‬كيما يجيب الناس فورًا على كل ما يسألونه ويريدون‬
‫]‪[245‬‬
‫‪.‬منه‬
‫ولكن القرآن في تتمة نفس هذه الية يجيبهم‪) :‬وكذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيل(‪.‬وقد غفل‬
‫ُاولئك السطحيون عن هذه الحقيقة‪ ،‬فل شك أن نزول القرآن التدريجي له ارتباط وثيق بتثبيت قلب‬
‫‪.‬الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( والمؤمنين‪ ،‬وسيأتي بحث مفصل عن ذلك في نهاية هذه اليات‬
‫ثّم للتأكيد أكثر على هذا الجواب يقول تعالى‪) :‬ول يأتونك بمثل إّل جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا(‪.‬‬
‫ق يقمع‬‫أي أّنهم ل يأتون بمثل أو مقولة أو بحث لضعاف دعوتك ومقابلتها‪ ،‬إّل آتيناك بكلم ح ّ‬
‫‪.‬كلماتهم الجوفاء وأدلتهم الخاوية بأحسن بيان وأفضل تفسير‬
‫ن هؤلء العداء الحاقدين استنتجوا ـ بعد مجموعة من إشكالتهم ـ أن محّمدا وأصحابه مع‬ ‫وبما أ ّ‬
‫ن ذكر هذا القول ل‬
‫صفاتهم هذه وكتابهم هذا وبرامجهم هذه شّر خلق ال )العياذ بال(‪ ،‬ول ّ‬
‫ن ال سبحانه يتناول الجابة على هذا القول في الية‬ ‫يتناسب مع فصاحة وبلغة القرآن‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪:‬الخيرة مورد البحث دون أن ينقل أصل قولهم‪ ،‬يقول‬
‫ل سبيل(‬ ‫‪).‬الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شّر مكانًا وأض ّ‬
‫نعم‪ ،‬تتضح هناك نتيجة منهاهج حياة الناس‪ ،‬فريق لهم قامات منتصبة كشجر السرو‪ ،‬ووجوه‬
‫منيرة كالقمر‪ ،‬وخطوات واسعة‪ ،‬يتوجهون بسرعة إلى الجّنة‪ ،‬في مقابل فريق مطأطئي رؤوسهم‬
‫إلى الرض‪ ،‬تسحبهم ملئكة العذاب إلى جهّنم‪ ،‬هذا المصير المختلف يكشف عمن كان ضال‬
‫!وشقيًا! ومن كان مهتديًا وسعيدًا؟‬
‫***‬

‫بحوث‬
‫وا ‪1‬‬
‫ي عد ّ‬ ‫‪).‬ـ تفسير )جعلنا لكل نب ّ‬
‫يفهم من هذه الجملة ـ أحيانًا ـ أن ال من أجل مواساة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( يقول‪:‬‬
‫لست‬
‫]‪[246‬‬
‫وحدك لك عدّو‪ ،‬بل لقد جعلنا لكل نبي عدّوا‪ ،‬ولزم هذا القول إسناد وجود أعداء النبياء إلى ال‬
‫سرون أجوبة‬ ‫تعالى‪ ،‬المر الذي ل يتفق مع حكمته ول مع أصل حرية وإرادة النسان‪ .‬ذكر المف ّ‬
‫‪ ...‬متعددة على هذا السؤال‬
‫ن جميع متعلقاتنا‪ ،‬قدرتنا‪ ،‬قوانا‪ ،‬عقلنا‬
‫قلنا مرارًا أن جميع أعمال النسان منسوبة إلى ال‪ ،‬ل ّ‬
‫وفكرنا‪ ،‬وحتى حريتنا واختيارنا أيضًا من عنده‪ ،‬وعلى هذا فمن الممكن من هذه الناحية نسبة‬
‫ش في‬
‫وجود العداء للنبياء إلى ال‪ ،‬دون أن يستلزم ذلك الجبر وسلب الختيار‪ ،‬ول يرَد خد ٌ‬
‫!)مسؤوليتهم إزاء أعمالهم )فتأمل‬
‫مضافًا إلى أن وجود هؤلء العداء الشداء ومخالفتهم للنبياء‪ ،‬يكون سببًا في أن يصبح‬
‫‪.‬المؤمنون أقوى في عملهم‪ ،‬وأثبت قدمًا‪ ،‬فيتحقق المتحان اللهي بالنسبة إلى الجميع‬
‫ي عدّوا‬
‫هذه الية في الحقيقة مثل الية )‪ (112‬من سورة النعام حيث تقول‪) :‬وكذلك جعلنا لكّل نب ّ‬
‫‪).‬شياطين اِلنس والجن‪ ،‬يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا‬
‫أمام الزاهير تنمو الشواك‪ ،‬وفي قبال المحسنين يوجد المسيئون‪ ،‬دون أن تنتفي مسؤولية أي‬
‫‪.‬واحد من هاتين المجموعتين‬
‫ن المقصود من "جعلنا" هي أوامر ونواهي ومناهج النبياء البناءة التي تجر‬ ‫وقال البعض‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬بعض الضالين إلى العداوة‪ ،‬شاؤوا أم أبوا‬
‫‪.‬و إذا ُأسند ذلك إلى ال فلن الوامر والنواهي من جهته عّزوجّل‬
‫الّتفسير الخر‪ :‬أن هنالك فئة يطبع ال على قلوبهم ويعمي أبصارهم ويصم أسماعهم بسبب‬
‫اِلصرار على الذنب واِلفراط في التعصب واللجاجة‪ ،‬هذه الفئة يصبحون أعداء النبياء في نهاية‬
‫‪.‬المطاف‪ ،‬أّما أسباب ذلك فهي بما قدموا لنفسهم‬
‫‪.‬ول منافاة بين هذه التفاسير الثلثة‪ ،‬فمن الممكن أن تجتمع كلها في مفهوم الية‬
‫]‪[247‬‬
‫ـ الثار العميقة لنزول القرآن التدريجي ‪2‬‬
‫صحيح أّنه كان للقرآن نزولن‪ ،‬طبقًا للّروايات )بل لظاهر بعض اليات(‪ :‬أحدهما‪" :‬نزول دفعي"‬
‫مّرة واحدة في ليلة القدر على قلب الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬والخر‪" :‬نزول تدريجي"‬
‫في ثلث وعشرين سنة‪ ،‬لكن بل شك أن الّنزول المعترف به الذي كان الّنبي والناس يتفاعلون‬
‫‪.‬معه دائمًا هو الّنزول التدريجى للقرآن‬
‫وهذا الّنزول التدريجي بالذات صار سببًا لستفهامات العداء‪ :‬لماذا لم ينزل القرآن مّرة واحدة‬
‫ويجعل دفعة واحدة بين أيدي الناس‪ ،‬حتى يكونوا أكثر إطلعًا وتفهمًا‪ ،‬فل يبقى مكان للشك‬
‫والريبة؟‬
‫ن القرآن أجابهم جوابًا قصيرًا وجامعًا وبليغًا من خلل جملة )كذلك لنثبت به‬‫ولكن ـ كما رأينا ـ فإ ّ‬
‫‪.‬فؤادك(‪ ،‬فكلما تأملنا فيها أكثر تتجلى آثار الّنزول التدريجي للقرآن أوضح‬
‫ن التشريعات إذا كانت تتنزل بشكل تدريجي تبعًا للحاجات‪ ،‬ويكون لكل مسألة شاهد ‪1‬‬ ‫ـ ل شك أ ّ‬
‫ي‪ ،‬فستكون مؤثرة جّدا من ناحية "تلقي الوحي" وكذلك "إبلغ الناس‬ ‫‪".‬ومصداق عين ّ‬
‫ن الشخص أو الشخاص المراد تربيتهم ينبغي أن يؤخذ بأيديهم خطوة‬ ‫مباديء التربية تؤّكد أ ّ‬
‫خطوة‪ ،‬فينظم لهم لكل يوم برنامج‪ ،‬ويسلكوا من المرحلة الدنى التي شرعوا منها إلى المراحل‬
‫‪.‬العلى والبرامج التي تتدرج بهذه الكيفية تكون أكثر مقبولية وأعمق أثرًا‬
‫ن القرآن ليس كتابًا عاديًا يبحث في موضوع أو ‪2‬‬ ‫ـ إنّ هؤلء المعترضين غافلون أساسًا عن أ ّ‬
‫لمة التي تغيرت به‪ ،‬واستلهمت منه في جميع أبعاد الحياة ول‬ ‫علم معين‪ ،‬بل هو منهج حياتي ل ُ‬
‫‪.‬تزال‬
‫كثير من آيات القرآن نزلت في مناسبات تاريخية مثل معركة )بدر( و)ُأحد( و )الحزاب( و)حنين(‪،‬‬
‫سّنت التشريعات والستنتاجات من هذه‬ ‫وبذلك ُ‬
‫]‪[248‬‬
‫الحوادث‪ ،‬ترى هل يصح أن تكتب هذه مّرة واحدة وتعرض على الناس!؟‬
‫بعبارة ُأخرى‪ :‬القرآن مجموعة من أوامر ونواه‪ ،‬أحكام وقوانين‪ ،‬تاريخ وموعظة‪ ،‬ومجموعة من‬
‫الخطط ذات المدى الطويل أو القصير في مواجهة الحداث التي كانت تبرز أمام مسير اُلمة‬
‫السلمية‪ ،‬كتاب ـ كهذا ـ يبّين وينفذ جميع مناهجه حتى قوانينه الكلية عن طريق الحضور في‬
‫ن دفعة واحدة‬
‫‪.‬ميادين حياة اُلمة‪ ،‬ل يمكن أن ينظم وُيدّو َ‬
‫و هذا من قبيل أن يقوم قائد عظيم بكتابه ونشر جميع بياناته وإعلناته وأوامره ونواهيه ـ التي‬
‫يصدرها في المناسبات المختلفة ـ دفعة واحدة من أجل تسيير الثورة‪ُ ،‬ترى هل يعتبر هذا العمل‬
‫عقلئيًا!؟‬
‫ـ الّنزول التدريجي للقرآن كان سبب ارتباط الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( الدائم والمستمر ‪3‬‬
‫بمبدأ الوحي مّما يجعل قلبه الشريف أقوى وإرادته أشّد‪ .‬ومن غير الممكن إنكار تأثيره في‬
‫‪.‬المناهج التربوية‬
‫ن استمرار الوحي دليل على استمرار رسالة وسفارة الّنبي)صلى ال عليه ‪4‬‬ ‫ـ من جهة أخرى فإ ّ‬
‫وآله وسلم(‪ ،‬وسوف لن يترك مجال لوسوسة العداء لكي يقولوا‪ :‬لقد بعث هذا الّنبي ليوم واحد!‬
‫ثّم تركه ربه‪ ،‬كما نقرأ في التأريخ السلمي أن هذه الهمهمة ظهرت أثناء تأخر الوحي في بداية‬
‫‪.‬الدعوة‪ ،‬فأنزلت سورة )والضحى( لنفي ذلك‬
‫ـ ل شك أّنه إذا كان مقررًا لمناهج السلم أن تنزل جميعها دفعة واحدة‪ ،‬فقد كان من اللزم أن ‪5‬‬
‫ق دفعة واحدة أيضًا‪ ،‬لن الّنزول بدون تطبيق ُيفقد الّنزول قيمته‪ ،‬ومن المعلوم أن تطبيق‬ ‫تطّب َ‬
‫جميع المناهج أعم من العبادات كالزكاة والجهاد‪ ،‬ورعاية جميع الواجبات والمتناع عن كل‬
‫‪.‬المحرمات دفعة واحدة‪ ..‬عمل ثقيل جّدا قد يؤدي إلى فرار فئة كبيرة من السلم‬
‫‪.‬و بهذا يتبّين أن الّنزول التدريجي وبالتالي التطبيق التدريجي أفضل من جهات كثيرة‬
‫]‪[249‬‬
‫ي واحد من هذه التشريعات في صورة الّنزول التدريجي سيتم هضمه‬
‫نأ ّ‬
‫و بعبارة ُأخرى‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬واستيعابه بصورة جيدة‪ ،‬وفي حالة تعرضه لبعض الستفهامات يمكن طرحها والجابة عليها‬

‫ـ وفائدة ُاخرى من فوائد الّنزول التدريجي هو اتضاح عظمة وإعجاز القرآن‪ ،‬ذلك لن في كل ‪6‬‬
‫واقعة تنزل عّدة آيات كريمة تكون لوحدها دليل العظمة و العجاز‪ ،‬وكلما يتكرر تتجلى أكثر هذه‬
‫‪.‬العظمة وهذا اِلعجاز‪ ،‬فينفذ في أعماق قلوب الناس‬

‫‪:‬ـ معنى الترتيل في القرآن ‪3‬‬


‫كلمة "ترتيل" من مادة "رتل" )على وزن قمر( بمعنى انتظم واتسق‪ ،‬لذا فالعرب يقولون "رتل‬
‫النسان" لمن تكون أسنانه جيدة ومنتظمة ومتسقة‪ .‬وعلى هذا الساس يطلق الترتيل بمعنى‬
‫‪.‬القراءة المتسقة للكلم أو اليات بموجب نظام وحساب‬
‫ن آيات القرآن وإن نزلت‬‫و على هذا فجملة )ورتلناه ترتيل( إشارة إلى هذه الحقيقة‪ ،‬وهي أ ّ‬
‫ن هذا الّنزول كان على أساس نظام وحساب ومنهج بحيث ادى الى‬ ‫تدريجًا وفي مدة ‪ 23‬سنة‪ ،‬لك ّ‬
‫‪.‬رسوخه في الفكار وغرسه في القلوب‬
‫‪:‬في تفسير كلمة "ترتيل" نقلت روايات جذابة‪ ،‬نشير إلى بعضها كما يأتي‬
‫في تفسير "مجمع البيان" "نقل عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أّنه أمر ابن عباس‪" :‬إذا‬
‫قرأت القرآن فرتْله ترتيل" فسألته‪ :‬وما الترتيل؟ قال‪" :‬بينه تبيينًا ول تنثره نثر الدقل ول تهزه‬
‫هّز الشعر‪ ،‬قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب‪ ،‬ول يكونن هّم أحدكم آخر‬
‫]‪[250‬‬
‫)السورة"‪1).‬‬
‫و هناك رواية بهذه المضمون رواه الشيخ الكليني في "أصول الكافي" عن أمير المؤمنين‬
‫)علي)عليه السلم(‪2).‬‬
‫و نقل أيضًا عن المام الصادق)عليه السلم( "الترتيل أن تتمكث به وتحسن به صوتك‪ ،‬وإذا‬
‫مررت بآية فيها ذكر النار فتعّوذ بال من النار‪ ،‬وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فاسأل ال الجّنة"‪.‬‬
‫))‪3‬‬
‫)ـ تفسير)يحشرون على وجوههم إلى جهنم ‪4‬‬
‫سرين في ما هو المقصود بحشر هذه الفئة من المجرمين على وجوههم!؟‬ ‫أقوال كثيرة بين المف ّ‬
‫ن ملئكة العذاب يسحبونهم إلى جهنم وهم‬ ‫سروا ذلك بنفس معناه الحقيقي‪ ،‬وقالوا‪ :‬إ ّ‬ ‫بعضهم ف ّ‬
‫ملَقون على وجوههم إلى الرض‪ ،‬وهذا علمة على مهانتهم وذلتهم‪ ،‬لّنهم كانوا في الدنيا في‬
‫ل‪ ،‬هذا من جهة‬ ‫‪.‬غاية الكبر والغرور والستهانة بخلق ا ّ‬
‫ومن جهة أخرى تجسيد لضللتهم في هذا العالم‪ ،‬ذلك أن من يسحبونه بهذه الصورة ل يرى ما‬
‫‪.‬أمامه بأي شكل‪ ،‬وغافل عما حوله‬
‫و البعض الخر أخذوا بمعناه الكنائي‪ ،‬فقالوا تارة هذه الجملة كناية عن تعلق قلوب أولئك بالدنيا‪،‬‬
‫)فهم يسحبون إلى جهنم لن وجوه قلوبهم ل زالت مرتبطة بالدنيا‪4).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪ 170‬ذيل الية مورد البحث ‪1‬‬
‫‪).‬ـ أصول الكافي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪) 449‬باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ‪2‬‬
‫‪.‬ـ مجمع البحرين مادة رتل ‪3‬‬
‫ن عبارة "على وجوههم" أخذت محل العّلة‪ .‬فيكون مفهوم الجملة هكذا ‪4‬‬ ‫ـ طبقًا لهذا الّتفسير‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪)).‬يحشرون إلى جهنم لتعلق وجوه قلوبهم إلى الدنيا‬
‫]‪[251‬‬
‫وقالوا تارًة ُاخرى‪ :‬انها كناية مستعملة في الدب العربي حيث يقولون‪ :‬فلن مّر على وجهه‪،‬‬
‫‪.‬يعني أّنه لم يكن يدري أين يذهب‬
‫لكن الواضح أّننا مع عدم الدليل على المعنى الكنائي‪ ،‬لبّد من حملها على المعنى الّول‪ ،‬وهو‬
‫‪.‬المعنى الحقيقي‬

‫***‬
‫]‪[252‬‬

‫اليات‬

‫ن َكّذُبواْ‬ ‫ن َوِزيرًا)‪َ (35‬فُقْلَنا اْذَهَبآ ِإَلى اْلَقْوِم اّلِذي َ‬ ‫خاُه َهـُرو َ‬‫جَعْلَنا َمَعُه َأ َ‬
‫ب َو َ‬
‫سى اْلِكَتـ َ‬‫َوَلقَْد َءاَتْيَنا ُمو َ‬
‫عَتْدَنا‬
‫س ءاَيًة َوَأ ْ‬ ‫جَعْلنـُهْم ِللّنا ِ‬ ‫غَرْقنـُهْم َو َ‬ ‫سَل َأ ْ‬
‫ِبَأَيـِتَنا َفَدّمْرَنـُهْم َتْدِميرًا)‪َ (36‬وَقْوَم ُنوح ّلّما َكّذُبوْا الّر ُ‬
‫ضَرْبَنا‬‫ل َ‬ ‫ك َكِثيرًا )‪َ(38‬وُك ّ‬ ‫ن َذِل َ‬‫س َوُقرُوَنًا َبْي َ‬ ‫ب الّر ّ‬ ‫صحـ َ‬‫عادًا َوَثمُوَدْا َوَأ ْ‬ ‫عَذابًا َأِليمًا )‪َ(37‬و َ‬‫ن َ‬ ‫ظـِلِمي َ‬‫ِلل ّ‬
‫سْوِء َأَفَلْم َيُكوُنوْا َيَرْوَنَها‬‫طَر ال ّ‬ ‫ت َم َ‬‫طَر ْ‬ ‫عَلى اْلَقْرَيِة اّلِتى ُأْم ِ‬
‫لً َتّبْرَنا َتْتِبيرًا)‪َ (39‬وَلَقْد َأَتْوْا َ‬
‫َلُه َأْمَثـَل َوُك ّ‬
‫ن ُنشُورًا)‪40‬‬ ‫)َبل َكاُنوْا ل َيْرجُو َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪...‬مع كل هذه الدروس والعبر‪ ،‬ولكن‬
‫أشار القرآن المجيد في هذه اليات إلى تاريخ اُلمم الماضية ومصيرهم المشؤوم مؤّكدا على ست‬
‫صة )الفراعنة‪ ،‬وقوم نوح‪ ،‬وقوم عاد‪ ،‬وثمود‪ ،‬وأصحاب الّرس‪ ،‬وقوم لوط( وذلك لمواساة‬‫أمم بخا ّ‬
‫الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( من جهة‪ ،‬ولتهديد‬
‫]‪[253‬‬
‫المشركين المعاندين الذين مّر أنموذج من أقوالهم في اليات السابقة‪ ،‬من جهة ُأخرى ويجسد‬
‫‪.‬دروس العبرة من مصير هذه القوام بشكل مختصر وبليغ تمامًا‬
‫‪).‬يقول أّول‪) :‬ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرًا‬
‫فقد القيت على عاتقيهما لمسؤولية الثقيلة في جهاد الفراعنة‪ ،‬ويجب عليهما مواصلة هذا العمل‬
‫الثوري بمساعدة أحدهما الخر حتى يثمر )فقلنا إذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا( فإّنهم قد‬
‫كذبوا دلئل ال وآياته التي في الفاق وفي النفس وفي كل عالم الوجود‪ ،‬وأصروا على طريق‬
‫الشرك وعبادة الصنام من جهة‪ ..‬ومن جهة أخرى أعرضوا عن تعاليم النبياء السابقين‬
‫‪.‬وكذبوهم‬
‫ولكن بالرغم من جميع الجهود والمساعي التي بذلها موسى وهارون‪،‬بالرغم من رؤية كل تلك‬
‫المعجزات العظيمة والبينات المتنوعة‪ ،‬أصروا أيضًا على طريق الكفر واِلنكار‪ ،‬لذا )فدمرناهم‬
‫‪).‬تدميرًا‬
‫كلمة "تدمير" من مادة "دمار" بمعنى الهلك بُأسلوب يثير العجب‪ ،‬حيث كان هلك قوم فرعون‬
‫‪.‬في أمواج النيل المتلطمة بتلك الكيفية المعروفة من عجائب التاريخ حقًا‬
‫وكذلك‪) :‬وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية‪ ،‬واعتدنا للظالمين عذابًا‬
‫‪).‬أليمًا‬
‫ن ُأولئك كذبوا الرسل )ل رسول واحدًا فقط( ذلك أنه ل فرق بين‬ ‫الملفت للنتباه أّنه تعالى يقول‪ :‬إ ّ‬
‫أنبياء ال ورسله في أصل الدعوة‪ ،‬وتكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم‪ ،‬فضل عن أّنهم كانوا‬
‫‪.‬مخالفين لدعوة جميع أنبياء ال ومنكرين لجميع الديان‬
‫)وكذلك‪) :‬وعادًا وثمودًا وأصحاب الرس وقرونًا بين ذلك كثيرًا(‪1).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "وعادًا وثمودًا" عطف على ضمير "هم" في جملة "دمرناهم"‪ .‬واحتمل بعضهم أيضًا أن ‪1‬‬
‫العطف على "هم" في "جعلناهم"‪ ،‬أو يكون عطفًا على محل "الظالمين" لكن الحتمال الّول‬
‫‪.‬مناسب أكثر‬
‫]‪[254‬‬
‫‪).‬قوم عاد" هم قوم الّنبي "هود" العظيم‪ ،‬الذي بعث في منطقة )الحقاف( أو )اليمن"‬
‫و"قوم ثمود" قوم نبي ال "صالح" الذي بعث في منطقة وادي القرى )بين المدينة والشام(‪ ،‬أّما‬
‫‪.‬ما يتعلق بمسألة "أصحاب الرس" فسنبحثها في نهاية هذا البحث‬
‫قرون" جمع "قرن" وهي في الصل بمعنى الجماعة الذين يعيشون معًا في زمان واحد‪ ،‬ثّم"‬
‫‪).‬أطلقت على الزمان الطويل )أربعين أو مائة سنة‬
‫ل ضربنا له المثال‬ ‫‪).‬لكننا لم نجاز أولئك على غفلة أبدًا‪ ،‬بل )وك ّ‬
‫أجبنا على إشكالتهم‪ ،‬مثل اِلجابة على اِلشكالت التي يوردونها عليك‪ ،‬وبيّنا لهم الحكام اِللهية‬
‫وحقائق الدين‪ .‬أخطرناهم‪ ،‬أنذرناهم‪ ،‬كررنا عليهم مصائر وقصص الماضين‪ ،‬لكن حين لم ينفع أ ّ‬
‫ي‬
‫)من ذلك اهلكناهم ودّمرناهم تدميرًا‪) :‬وكل ّتبرنا تتبيرًا(‪1).‬‬
‫وفي نهاية المطاف ـ في الية الخيرة مورد البحث ـ يشير القرآن المجيد إلى خرائب مدن قوم‬
‫لوط التي تقع على بداية طريق الحجازيين إلى الشام‪ ،‬وإلى الثر الحي الناطق عن المصير الليم‬
‫لولئك الملوثين والمشركين‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم‬
‫‪).‬يكونوا يرونها‬
‫نعم‪ ،‬لقد كانوا يرون مشهد الخرائب هذه‪ ،‬لكّنهم لم يأخذوا منها العبرة‪ ،‬ذلك لّنهم )بل كانوا ل‬
‫‪).‬يرجون نشورًا‬
‫إّنهم يعدون الموت نهاية هذه الحياة‪ ،‬وإذا كان لهم اعتقاد بحياة ما بعد الموت فهو اعتقاد ضعيف‬
‫وبل أساس‪ ،‬ل يطبع أثرًا في ارواحهم ول ينعكس في مناهج‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ "تتبير" من مادة "تبر" )على وزن ضرر‪ ،‬وعلى وزن صبر( بمعنى الهلك التام ‪1‬‬
‫]‪[255‬‬
‫‪.‬حياتهم‪ ،‬ولهذا فهم يأخذون جميع الشياء مأخذ اللعب‪ ،‬ول يفكرون إّل بأهوائهم السريعة الزوال‬
‫***‬

‫بحثان‬
‫"ـ من هم "أصحاب الرس ‪1‬‬
‫س الحديث في نفسي" )قليل من حديثه‬ ‫س" في الصل بمعنى الثر القليل‪ ،‬فيقال مثل "ر ّ‬ ‫كلمة "ر ّ‬
‫سا من حمى" )يعني‪ :‬وجد قليل من الحّمى في نفسه(‪1).‬‬ ‫)في ذاكرتي( أو يقال‪ :‬وجد ر ّ‬
‫س" بمعنى البئر‬ ‫سرين اعتقدوا بأن "الر ّ‬
‫‪.‬وجماعة من المف ّ‬
‫ن أثرًا قليل جدًا بقي منهم‪ ،‬أو لّنهم كانت لهم‬‫على أية حال فتسمية هؤلء القوم بهذا السم‪ ،‬إّما ل ّ‬
‫‪.‬آبار كثيرة‪ ،‬أو لّنهم هلكوا وزالوا بسبب جفاف آبارهم‬
‫سرين‬ ‫‪:‬أّما من هم هؤلء القوم؟ هناك أقوال كثيرة بين المؤرخين والمف ّ‬
‫ـ يرى كثيرون أن "أصحاب الرس" كانوا طائفة تعيش في "اليمامة" وبعث لهم نبي اسمه ‪1‬‬
‫"حنظلة" كذبوه وألقوه في بئر‪ ،‬وذكروا أيضًا‪ :‬إّنهم ملوا هذا البئر بالرماح‪ ،‬وأغلقوا فم البئر بعد‬
‫)إلقاء الّنبي فيها بالحجارة حتى استشهد ذلك النبي‪2).‬‬
‫س" إشارة إلى قوم "شعيب" الذين كانوا يعبدون الصنام‪2 ،‬‬ ‫ـ البعض الخر يرى أن "أصحاب الر ّ‬
‫س" كان اسمًا لبئر عظيم‪ ،‬حيث أغاضه ال‪ ،‬فأهلك أهل‬ ‫وكانوا ذوي أغنام كثيرة وآبار ماء‪ ،‬و"الر ّ‬
‫‪.‬ذلك المكان‬
‫س" كانت قرية في أرض "اليمامة" حيث كان يعيش فيها جماعة من ‪3‬‬ ‫ـ بعض آخر يعتقد أن "الر ّ‬
‫‪.‬بقايا قوم ثمود‪ ،‬فهلكوا نتيجة طغيانهم وغرورهم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ مفردات الراغب ‪1‬‬
‫‪ .‬ـ أعلم القرآن ص ‪2 149‬‬
‫]‪[256‬‬
‫‪.‬ـ وذهب آخرون أّنهم كانوا جماعة من العرب الماضين‪ ،‬يعيشون)‪ (1‬بين الشام والحجاز ‪4‬‬
‫س" من بقايا عاد وثمود‪ ،‬ويعتبر )وبئر معطلة وقصر ‪5‬‬
‫ـ بعض التفاسير يعّرف "أصحاب الر ّ‬
‫مشيد(‪ (2).‬متعلقة بهم أيضًا‪ ،‬وذكر أن موطنهم في "حضرموت" واعتقد "الثعلبي" في "عرائس‬
‫‪.‬البيان" أن هذا القول هو الكثر اعتبارًا‬
‫سرين طبقوا "الرس" على "أرس" )في شمال آذربيجان‬ ‫!)البعض الخر من المف ّ‬
‫ـ العلمة الطبرسي في مجمع البيان‪ ،‬والفخر الرازي في الّتفسير الكبير‪ ،‬واللوسي في روح ‪6‬‬
‫المعاني نقلوا من جملة الحتمالت‪ ،‬أّنهم قوم يعيشون في أنطاكية الشام‪ ،‬وكان نبيهم "حبيب‬
‫‪".‬النجار‬
‫ـ في عيون أخبار الرضا‪ ،‬نقل حديث طويل حول "أصحاب الرس" خلصته‪" :‬إّنهم كانوا قومًا ‪7‬‬
‫يعبدون شجرة صنوبر يقال لها )شاه درخت( كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير‬
‫عين يقال لها )روشن آب( وكان لهم إثنتا عشرة قرية معمورة على شاطىء نهر يقال له‬
‫س"‪ ،‬يسمين بأسماء‪ :‬آبان‪ ،‬آذر‪ ،‬دي‪ ،‬بهمن أسفندار‪ ،‬فرودين‪ُ ،‬أردي بهشت‪ ،‬خرداد‪ ،‬مرداد‪،‬‬ ‫"الر ّ‬
‫ق العجم أسماء شهورهم‬ ‫‪.‬تير‪ ،‬مهر‪ ،‬شهريور‪ ،‬ومنها اشت ّ‬
‫وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حّبة‪ .‬أجروا عليها نهرًا من العين التي عند‬
‫الصنوبرة‪ ،‬وحّرموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم‪ ،‬ومن شرب منه قتلوه‪ ،‬ويقولون‪ :‬إّنه حياة‬
‫اللهة فل ينبغي لحد أن ينقص حياتها‪ .‬وقد جعلوا في كل شهر من السنة يومًا ـ في كل قرية‪،‬‬
‫عيدًا‪ ،‬يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ثّم‬
‫يحرقونها في النار‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ شرح نهج البلغه‪ ،‬لبن أبي الحديد‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪1 94‬‬
‫‪.‬ـ سورة الحج‪ ،‬الية ‪2 45‬‬
‫]‪[257‬‬
‫فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها وسطوعه في السماء ويبكون ويتضرعون‪ ،‬و الشيطان‬
‫يكلمهم من الشجرة‪ .‬وكان هذا دأبهم في القرى حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التي كان‬
‫يسكنها ملكهم واسمها )أسفندار( اجتمع إليها أهل القرى جميعًا وعّيدوا اثني عشر يومًا‪ ،‬وجاءوا‬
‫بأكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة‪ ،‬وكّلمهم إبليس وهو يعدهم ويمنيهم أكثر مّما‬
‫‪.‬كان من الشياطين في سائر العياد من سائر الشجر‬
‫ولما طال منهم الكفر بال وعبادة الشجرة‪ ،‬بعث ال إليهم رسول من بني إسرائيل من ولد يهودا‪،‬‬
‫فدعاهم برهة إلى عبادة ال وترك الشرك‪ ،‬فلم يؤمنوا‪ ،‬فدعا على الشجرة فيبست‪ ،‬فلما رأوا ذلك‬
‫ن آلهتنا غضبت علينا بذلك لما‬‫ن هذا الرجل سحر آلهتنا‪ ،‬وقال آخرون‪ :‬إ ّ‬ ‫ساءهم‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬إ ّ‬
‫رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه وشأنه من غير أن نغضب للهتنا‪ .‬فاجتمعت آراؤهم‬
‫على قتله فحفروا بئرًا عميقًا وألقوه فيها‪ ،‬وسّدوا فوهتها‪ ،‬فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى‬
‫)مات‪ ،‬فأتبعهم ال بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم"‪1).‬‬
‫س" في مقابل عاد‬‫قرائن متعددة تؤيد مضمون هذا الحديث‪ ،‬لن مع وجود ذكر "أصحاب الر ّ‬
‫‪.‬وثمود يكون احتمال أّنهم جماعة من هاتين اُلمتين بعيدًا جدًا‬
‫ن وجود هؤلء القوم في الجزيرة العربية والشامات وتلك الحدود ـ و هو الذي احتمله‬ ‫كذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫الكثيرون ـ بعيد أيضًا‪ ،‬ذلك لّنه يجب أن يكون له انعكاس في تاريخ العرب بحسب العادة‪ ،‬في‬
‫‪.‬الوقت الذي لم نر حتى انعكاسًا ضئيل لصحاب الرس لديهم‬
‫ن "الرس‬‫"مضافًا الى ذلك توافقه مع كثير من التفاسير اُلخرى‪ ،‬من جملتها‪ :‬أ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ عيون أخبار الرضا)عليه السلم(‪ ،‬طبقًا لنقل وتلخيص تفسير الميزان‪ ،‬ج ‪ ،15‬ص ‪1 219‬‬
‫والحديث في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن المام الرضا)عليه السلم( عن أمير‬
‫‪).‬المؤمنين)عليه السلم‬
‫]‪[258‬‬
‫‪.‬كان اسمًا لبئر )البئر التي ألقوا فيها نبيهم( أو أّنهم كانوا أصحاب زراعة ومواشي وأمثال ذلك‬
‫ن نساءهم كن منحرفات جنسيًا و يمارسن‬ ‫و ما ورد في رواية عن المام الصادق)عليه السلم(‪ :‬أ ّ‬
‫)"المساحقة" ل منافاة له مع هذا الحديث أيضًا)‪1‬‬
‫ي واحد فقط‪ ،‬لّنه)عليه‬
‫و من عبارة )نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪ (180‬يستفاد أنه كان لهم أكثر من نب ّ‬
‫السلم( يقول‪" :‬أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبّيين‪ ،‬وأطفأوا سنن المرسلين‪ ،‬وأحيوا‬
‫‪".‬سنن الجبارين!؟‬
‫ن من الممكن أن الرواية‬‫و كلم أمير المؤمنين)عليه السلم( هذا ل يتنافى مع الرواية أعله‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬تشير إلى مقطع من تاريخهم وكان قد بعث نبي فيهم‬
‫‪:‬ـ مجموعة من الدروس المؤثرة ‪2‬‬
‫ست فئات في اليات أعله‪ ،‬ذكرت أسماؤهم‪ :‬قوم فرعون قوم نوح المتعصبون‪ ،‬قوم عاد‬
‫المتجبرون‪ ،‬ثمود‪ ،‬أصحاب الرس‪ ،‬وقوم لوط‪ ،‬حيث كان كل منهم أسير نوع من النحراف الفكري‬
‫‪.‬والخلقي أّدى بهم إلى الهلك والشقاء‬
‫‪.‬الفراعنة كانوا ظالمين جائرين ومستعمرين واستثماريين وأنانيين‬
‫‪.‬قوم نوح كما هو معلوم كانوا معاندين ومتكبرين ومغرورين‬
‫‪.‬قوم عاد وقوم ثمود كانوا يتكلون على قدراتهم الذاتية‬
‫صة نسائهم‪ ،‬وكان قوم لوط غارقين‬
‫و كان أصحاب الرس في دوامة الفساد والشذوذ الجنسي وخا ّ‬
‫صة‪ ،‬والجميع منحرفون عن جادة التوحيد‪ .‬حيرى في‬ ‫في وحل من الفحشاء‪ ،‬وشذوذ الرجال بخا ّ‬
‫‪.‬الضللت‬
‫و هنا يريد القرآن أن ُينذر مشركي عصر الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وجميع الناس على‬
‫مدى‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .‬ـ الكافي‪ ،‬طبقًا لنقل تفسير نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪1 19‬‬
‫]‪[259‬‬
‫التاريخ‪ :‬ليكن لكم من القدرات والستطاعة والمكانات كل شيء ومهما كان لكم من اموال‬
‫ن نفس أسباب‬ ‫وثروات وحياة مرّفهة‪ ،‬فإن التلوث بالشرك والظلم والفساد سيستأصل أعماركم‪ ،‬وإ ّ‬
‫!تفوقكم تلك ستكون أسباب هلككم‬
‫قوم فرعون‪ :‬وقوم نوح‪ُ ،‬أهلكوا بالماء الذي هو أساس الحياة‪ ،‬قوم عاد بالعاصفة والرياح التي‬
‫صة أساس الحياة‪ ،‬قوم ثمود بالسحاب الحامل للصواعق‪ ،‬وقوم لوط بمطر‬ ‫هي أيضًا في ظروف خا ّ‬
‫من الحجارة نزل بعد الصاعقة‪ ،‬أو انفجار بركان على قول بعضهم‪ ،‬وأصحاب الرس طبقًا لذيل تلك‬
‫الرواية أعله‪ُ ،‬أبيدوا بنار تطلع من الرض‪ ،‬وبشعلة مهلكة انتشرت من السحاب‪ ،‬ليؤوب هذا‬
‫‪.‬النسان المغرور إلى نفسه‪ ،‬فيتمسك بطريق ال والعدالة والتقوى‬
‫***‬
‫]‪[260‬‬

‫اليات‬

‫ن َءاِلَهِتَنا َلْوَل َأن‬ ‫عْ‬ ‫ضّلَنا َ‬


‫سول)‪ِ (41‬إن َكاَد َلُي ِ‬ ‫ل َر ُ‬‫ث ا ُّ‬‫ك ِإّل ُهُزوًا َأَهَذا اّلِذى َبَع َ‬ ‫خُذوَن َ‬
‫ك ِإن َيّت ِ‬
‫َوِإَذا َرَأْو َ‬
‫خَذ ِإَلـَهُه َهَواُه‬ ‫ن اّت َ‬‫ت َم ِ‬
‫سِبيل )‪َ(42‬أَرَءْي َ‬ ‫ضّل َ‬‫ن َأ َ‬‫ب َم ْ‬‫ن الَعَذا َ‬‫ن َيَرْو َ‬
‫حي َ‬‫ن ِ‬ ‫ف َيْعَلُمو َ‬
‫سْو َ‬‫عَلْيَها َو َ‬
‫صَبْرَنا َ‬‫َ‬
‫ن ُهْم ِإّل َكاَْلْنَعـِم َبْل ُهْم‬‫ن ِإ ْ‬
‫ن َأْو َيْعِقُلو َ‬
‫سَمُعو َ‬
‫ن َأْكَثَرُهْم َي ْ‬
‫ب َأ ّ‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬‫عَلْيِه َوِكيل)‪َ (43‬أْم َت ْ‬ ‫ن َ‬‫ت َتُكو ُ‬ ‫َأَفَأن َ‬
‫سِبيل)‪44‬‬ ‫ضّل َ‬ ‫)أَ َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬أضّل من اَلنعام‬
‫ن القرآن المجيد ل يورد أقوال المشركين دفعة واحدة في آيات هذه السورة‪ ،‬بل‬‫الملفت للنتباه أ ّ‬
‫أورد بعضًا منها‪ ،‬فكان يتناولها بالرّد والموعظة والنذار‪ ،‬ثّم بعد ذلك يواصل تناول بعض آخر‬
‫‪.‬بهذا الترتيب‬
‫اليات الحالية‪ ،‬تتناول لونًا آخر من منطق المشركين وكيفية تعاملهم مع رسول السلم)صلى ال‬
‫‪.‬عليه وآله وسلم( ودعوته الحّقة‬
‫]‪[261‬‬
‫)يقول تعالى أول‪) :‬وإذا رأوك إن يّتخذونك إّل هزوًا أهذا الذي بعث ال رسول(‪1).‬‬
‫ي ادعاء عظيم يدعي؟ أي كلم عجيب يقول!؟ ‪ ...‬إّنها مهزلة‬ ‫وهكذا نجد هؤلء الكفار يتعجبون! أ ّ‬
‫!حّقا‬
‫ن رسول السلم)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬كان هو ذلك الشخص الذي‬ ‫لكن يجب أل ننسى أ ّ‬
‫عاش بينهم أربعين عامًا قبل الرسالة‪ ،‬وكان معروفًا بالمانة والصدق والذكاء والدراية‪ ،‬لك ّ‬
‫ن‬
‫س الكفر تناسوا صفاته هذه حينما تعرضت منافعهم الى الخطر‪ ،‬وتلقوا مسألة دعوة‬ ‫رؤو َ‬
‫الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ـ بالرغم من جميع تلك الشواهد والدلئل الناطقة ـ بالسخرية‬
‫‪.‬والستهزاء حتى لقد اّتهموه بالجنون‬
‫ثّم يواصل القرآن ذكر مقولت المشركين فينقل عن لسانهم )إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لول أن‬
‫‪).‬صبرنا عليها()‪2‬‬
‫لكن القرآن يجيبهم من عّدة طرق‪ ،‬ففي البداية من خلل جملة واحدة حاسمة يرد على مقولت‬
‫‪).‬هذه الفئة التي ما كانت أهل للمنطق‪) :‬وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيل‬
‫سرين مثل "الطبرسي" في‬ ‫يمكن أن يكون هذا العذاب إشارة إلى عذاب القيامة‪ ،‬كما قال بعض المف ّ‬
‫مجمع البيان‪ ،‬أو عذاب الدنيا مثل الهزيمة المنكرة يوم "بدر" وأمثالها‪ ،‬كما قال "القرطبي" في‬
‫‪.‬تفسيره المعروف‪ ،‬ويمكن أن تكون الشارة إليهما معًا‬
‫ن هذه الفئة الضالة في مقولتها هذه‪ ،‬وقعت في تناقض فاضح‪ ،‬فمن جهة تلقت‬ ‫الملفت للنظر أ ّ‬
‫الّنبي ودعوته بالسخرية‪ ،‬إشارة إلى أن ادعاءه بل أساس ول‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "هزوًا" مصدر‪ ،‬وجاء هنا بمعنى المفعول‪ ،‬وهذا الحتمال وارد أيضًا وهو أن يكون مضافًا ‪1‬‬
‫‪.‬مقدارًا )محل هزو(‪ ،‬أيضًا فالتعبير بـ "هذا" للتحقير ولتصغير الّنبي‬
‫ن كاد ليضلنا( مخففة‪ ،‬للتوكيد‪ ،‬وفي تقدير "إّنه كاد" وضميرها ضمير الشأن ‪2‬‬ ‫ن( في )إ ْ‬ ‫‪.‬ـ كلمة )إ ْ‬
‫]‪[262‬‬
‫يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد‪ ،‬ومن جهة ُأخرى أّنه لول تمسكهم بمذهب أجدادهم‪ ،‬فمن الممكن أن ـ‬
‫يؤثر عليهم كلم الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ويضّلهم عن ذلك المذهب‪ ،‬وهذا يدل على أّنهم‬
‫كانوا يعتبرون كلمه قويًا وجديًا ومؤثرًا ومحسوبًا‪ ،‬و هذا المنطق المضطرب ليس غريبًا عن‬
‫‪.‬هؤلء الفراد الحيارى اللجوجين‬
‫ن منكري الحق حينما يقفون قبالة المواج المتلطمة لمنطق القادة اللهيين‪،‬‬ ‫و كثيرًا ما ُيرى أ ّ‬
‫فإّنهم يختارون ُاسلوب الستهزاء تكتيكًا من أجل توهينه ودفعه‪ ،‬في حين أّنهم يخالفون سلوكهم‬
‫‪.‬هذا في الباطن‪ ،‬بل قد يأخذوه بجدية أحيانًا ويقفون ضده بجميع امكاناتهم‬
‫الجواب القرآني الّثاني على مقولتهم ورد في الية التي بعدها‪ ،‬موجهًا الخطاب إلى الّنبي)صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم( على سبيل المواساة وتسلية الخاطر‪ ،‬وأيضًا على سبيل بيان الدليل على‬
‫أصل عدم قبول دعوة الّنبي من قبل ُأولئك‪ ،‬فيقول‪) :‬أرأيت من اتخذ إلهه هواه( فهل أنت قادر مع‬
‫‪).‬هذا الحال على هدايته والدفاع عنه )أفأنت تكون عليه وكيل‬
‫يعني إذا وقف ُأولئك أمام دعوتك بالستهزاء والنكار وأنواع المخالفات‪ ،‬فلم يكن ذلك لن منطقك‬
‫ضعيف ودلئلك غير مقنعة‪ ،‬وفي دينك شك أو ريبة‪ ،‬بل لّنهم ليسوا أتباع العقل والمنطق‪،‬‬
‫فمعبودهم أهواؤهم النفسية‪ُ ،‬ترى أتنتظر أن يطيعك هكذا أشخاص‪ ،‬أو تستطيع أن تؤثر فيهم!؟‬
‫‪):‬أقوال مختلفة للمفسرين الكبار في معنى جملة‪) :‬أرأيت من اّتخذ إلهة هواه‬
‫ن لهم صنمًا‪ ،‬ذلك هو هواهم النفسي‪ ،‬وكل أعمالهم‬ ‫ن المقصود أ ّ‬
‫قال جماعة ـ كما قلنا آنفًا ـ ‪ :‬إ ّ‬
‫‪.‬تصدر من ذلك المنبع‬
‫ن المراد هو أّنهم ل يراعون المنطق بأي شكل في اختيارهم‬
‫ن جماعة ُأخرى ترى أ ّ‬
‫في حين أ ّ‬
‫الصنام‪ ،‬بل إّنهم متى ما كانت تقع أعينهم على قطعة حجر‪ ،‬أو شجرة جذابة‪ ،‬أو شيء آخر يثير‬
‫هواهم‪ ،‬فإّنهم يتوهمونه "معبودًا"‪ ،‬فكانوا يجثون‬
‫]‪[263‬‬
‫‪.‬على ركبهم أمامه‪ ،‬ويقدمون القربان‪ ،‬ويسألونه حل مشكلتهم‬
‫وذكر في سبب نزول هذه الية رواية مؤيدة لهذا المعنى‪ ،‬وهي أن إحدى السنين العجاف مّرت‬
‫على قريش‪ ،‬فضاق عليهم العيش‪ ،‬فخرجوا من مّكة وتفرقوا فكان الرجل إذا رأى شجرة حسنة أو‬
‫حجرًا حسنًا هويه فعبده‪ ،‬وكانوا ينحرون النعم ويلطخونها بالدم ويسمونها "سعد الصخرة"‪ ،‬وكان‬
‫إذا أصابهم داء في إبلهم أغنامهم جاؤوا إلى الصخرة فيمسحون بها الغنم والبل‪ ،‬فجاء رجل من‬
‫‪:‬العرب بإبل يريُد أن يمسح بالصخرة إبله ويتبرك بها‪ ،‬فنفرت إبله فتفرقت‪ ،‬فقال الرجل شعرًا‬
‫ت إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فما نحن من سعِد‬ ‫أتي ُ‬
‫ي ول رشِد‬ ‫وما سعِد إّل صخرة مستوية من الرض ل تهدي لغ ّ‬
‫‪:‬و مّر به رجل من العرب والثعلب يبول عليه فقال شعرًا‬
‫ن برأسه لقد ذّل من بالت عليه الثعالب)‪(1‬الّتفسيران أعله ل منافاة بينهما‪،‬‬ ‫ب يبول الثعلبا ُ‬ ‫ور ّ‬
‫ن اختيار الصنام‬‫فأصل عبادة الصنام ـ التي هي وليدة الخرافات ـ هو اتباع الهوى‪ ،‬كما أ ّ‬
‫‪.‬المختلفة بل أي منطق‪ ،‬فرع آخر عن أتباع الهوى أيضًا‬
‫‪.‬وسيأتي بحث مفصل في الملحظات التية‪ ،‬بصدد "اتباع الهوى والشهوات" إن شاء ال‬
‫ن الجواب القرآني الّثالث لهذه الفئة الضالة‪ ،‬هو قوله‪) :‬أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو‬ ‫وأخيرًا فإ ّ‬
‫‪).‬يعقلون‪ ،‬إن هم إّل كالنعام بل هم أضّل سبيل‬
‫ن النسان إّما أن يكون ذا‬ ‫يعني ل يؤذينك استهزاؤهم ومقولتهم السيئة وغير المنطقية أبدًا‪ ،‬ل ّ‬
‫‪".‬عقل‪ ،‬ويستخدم عقله‪ ،‬فيكون مصداقًا لـ "يعقلون‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي‪ ،‬طبقًا لنقل نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪1 20‬‬
‫]‪[264‬‬
‫أو أّنه فاقد للعلم ولكّنه يسمع قول العلماء‪ ،‬فيكون مصداقًا لـ "يسمعون"‪ ،‬لكن هذه الفئة ل من‬
‫ُأولئك ول من هؤلء‪ ،‬وعلى هذا فل فرق بينهم وبين النعام‪ .‬وواضح أّنه ل يتوقع من النعام غير‬
‫الصياح والرفس والفعال اللمنطقية‪ .‬بل هم أتعس من النعام وأعجز‪ ،‬إذ أن النعام ل تعقل ول‬
‫‪.‬فكر لها‪ ،‬وهؤلء لهم عقل وفكر‪ ،‬وتسافلوا إلى حال كهذه‬
‫ن القرآن يعّبر بـ "أكثرهم" هنا أيضًا‪ ،‬فل يعمم هذا الحكم على الجميع‪ ،‬لّنه قد يكون‬
‫المهم هو أ ّ‬
‫بينهم أفراد مخدوعون واقعًا‪ ،‬وحينما يواجهون الحق تنكشف عن أعينهم الحجب تدريجيًا‪،‬‬
‫‪.‬فيتقبلوا الحق‪ ،‬وهذا نفسه دليل على أن القرآن يراعي النصاف في المباحث القرآنية‬
‫***‬

‫بحثان‬
‫ـ اتباع الهوى وعواقبه الليمة ‪1‬‬
‫ن في كيان النسان غرائز وميول مختلفة‪ ،‬وجميعها ضروري لدامة حياته‪ ،‬الغيظ‬ ‫ل شك أ ّ‬
‫ن مبدع الوجود خلقها جميعًا‬ ‫والغضب‪ ،‬حب النفس‪ ،‬حب المال والحياة المادية‪ ،‬وأمثالها‪ ،‬ول شك أ ّ‬
‫‪.‬لذلك الهدف التكاملي‬
‫لكن المهم هو أّنها تتجاوز حدها أحيانًا‪ ،‬وتخرج عن مجالها‪ ،‬وتتمّرد على كونها أداة طيعة بيد‬
‫العقل‪ ،‬وتصّر على العصيان والطغيان‪ ،‬فتسجن العقل‪ ،‬وتتحكم بكل وجود النسان‪ ،‬وتأخذ زمام‬
‫‪.‬اختياره بيدها‬
‫هذا هو ما يعبرون عنه بـ "اتباع الهوى" الذي هو أخطر أنواع عبادة الصنام‪ ،‬بل إن عبادة‬
‫الصنام تنشأ عنه أيضًا‪ ،‬فليس عبثًا أن الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( اعتبر صنم‬
‫"الهوى" أعظم وأسوأ الصنام‪ ،‬لذا قال‪" :‬ما تحت ظل السماء من إله يعبد‬
‫]‪[265‬‬
‫ى متبع"‪1)،‬‬‫)من دون ال أعظم عند ال من هو ً‬
‫عبد على وجه الرض الهوى‬
‫‪".‬ونقرأ في حديث آخر عن بعض أئّمة اِلسلم "أبغض إله ُ‬
‫وإذا تأملنا جيدًا في أعماق هذا القول‪ ،‬نعلم جيدًا لماذا كان اتباع الهوى مصدر الغفلة‪ ،‬كما يقول‬
‫)القرآن‪) :‬ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه(‪2).‬‬
‫و من جهة ُأخرى فإن اتباع الهوى منبع الكفر وعدم اليمان‪ ،‬كما يقول القرآن )فل يصدنك عنها‬
‫)من ل يؤمن بها واتبع هواه(‪3).‬‬
‫ن اتباع الهوى أسوأ الضلل‪ ،‬يقول القرآن الكريم‪) :‬ومن أضل ممن اتبع هواه‬ ‫و من جهة ثالثة فإ ّ‬
‫ى من ال(‪4).‬‬ ‫)بغير هد ً‬
‫و من جهة رابعة فإن اتباع الهوى نقطة مقابلة لطلب الحق‪ ،‬ويخرج النسان عن طريق ال‪ ،‬كما‬
‫)نقرأ في القرآن‪) :‬فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل ال(‪5).‬‬
‫و من جهة خامسة فإن اتباع الهوى مانع من العدل والنصاف كما نقرأ في القرآن‪) :‬فل تتبعوا‬
‫)الهوى أن تعدلوا(‪6).‬‬
‫ن الفساد سوف‬‫ن نظام السماء والرض إذا دار حول محور أهواء وشهوات الناس‪ ،‬فإ ّ‬ ‫و أخيرًا‪ ،‬فإ ّ‬
‫)يعّم كّل ساحة الوجود‪) :‬ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والرض ومن فيهن(‪7).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير الدر المنثور‪ ،‬في ذيل الية مورد البحث‪ ،‬نقل عن تفسير الميزان‪ ،‬ج ‪ ،15‬ص ‪1 257‬‬
‫‪.‬ـ سورة الكهف‪ ،‬الية ‪2 28‬‬
‫‪.‬ـ سورة طه‪ ،‬الية ‪3 16‬‬
‫‪.‬ـ سورة القصص‪ ،‬الية ‪4 50‬‬
‫‪.‬ـ سورة ص‪ ،‬الية ‪5 26‬‬
‫‪.‬ـ سورة النساء‪ ،‬الية ‪6 135‬‬
‫‪.‬ـ سورة المؤمنون‪ ،‬الية ‪7 71‬‬
‫]‪[266‬‬
‫‪:‬وفي الروايات السلمية أيضًا‪ ،‬نلحظ تعبيرات مؤثرة في هذا الصدد‬
‫)نقرأ في رواية عن على)عليه السلم(‪" :‬الشقي من انخدع لهواه وغروره"‪1).‬‬
‫)وفي حديث آخر عنه)عليه السلم(‪ ،‬نقرأ أن‪" :‬الهوى عدو العقل"‪2).‬‬
‫س المحن"‪3).‬‬‫)نقرأ أيضًا‪" :‬الهوى ُأ ّ‬
‫)و عنه)عليه السلم(‪" :‬ل دين مع هوى")‪ (4‬و"ل عقل مع هوى"‪5).‬‬
‫والخلصة أن اتباع الهوى ليس من الدين وليس من العقل‪ ،‬وليس عاقبة اتباع الهوى إّل التعاسة‬
‫‪.‬والمحن والبلء‪ ،‬ول يثمر إّل المسكنة والشقاء والفساد‬
‫أحداث حياتنا والتجارب المّرة التي رأيناها في أّيام العمر بالنسبة إلينا وإلى الخرين‪ ،‬شاهد حي‬
‫‪.‬على جميع النكات التي وردت في اليات والّروايات أعله بصدد اتباع الهوى‬
‫‪.‬نرى أفرادًا يتجرعون المرارة إلى آخر أعمارهم‪ ،‬جزاء ساعة واحدة من أتباع الهوى‬
‫و نعرف شبابًا صاروا أسارى مصيدة اِلدمان الخطير‪ ،‬واِلنحرافات الجنسية و الخلقية‪ ،‬على أثر‬
‫انقيادهم للهوى‪ ،‬بحيث تحولوا إلى موجودات ذليلة ل قيمة لها‪ ،‬وفقدوا كل قواهم وطاقاتهم‬
‫‪.‬الذاتية‬
‫في التأريخ المعاصر والماضي‪ ،‬نلتقي بأسماء الذين قتلوا آلفًا وأحيانًا مليين من الناس البرياء‪،‬‬
‫‪.‬من أجل أهوائهم‪ ،‬بحيث أن الجيال تذكر أسماءهم المخزية بالسوء إلى البد‬
‫هذا الصل ل يقبل الستثناء‪ ،‬فحتى العلماء والعبابدون أهل السابقة مثل‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .‬ـ نهج البلغه‪ ،‬الخطبة ‪1 86‬‬
‫‪.‬ـ غرر الحكم‪ ،‬الجملة ‪2 265‬‬
‫‪ .‬ـ غرر الحكم‪ ،‬الجملة ‪3 1048‬‬
‫‪ .‬ـ غرر الحكم‪ ،‬الجملة ‪4 10531‬‬
‫‪ .‬ـ غرر الحكم‪ ،‬الجملة ‪5 10541‬‬
‫]‪[267‬‬
‫بلعم بن باعورا( سقطوا من قمة العظمة النسانية إلى الهاوية‪ ،‬نتيجة انقيادهم لهوى النفس‪(،‬‬
‫‪).‬حيث يمثلهم القرآن بالكلب النجس الذي ل ينفك عن النباح )الية ‪ 176‬سورة العراف‬
‫لهذا فل عجب أن يقول الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وأمير المؤمنين)عليه السلم(‪" :‬إنّ‬
‫أخوف ما أخاف عليكم إثنان‪ ،‬اتباع الهوى وطول المل‪ ،‬أّما اتباع الهوى فيصّد عن الحق‪ ،‬وأّما‬
‫)طول المل فينسي الخرة"‪1).‬‬
‫وردت أيضًا في النقطة المقابلة ـ يعني ترك أتباع الهوى ـ آيات وروايات توضح عمق هذه‬
‫المسألة من وجهة نظر السلم‪ ،‬إلى حد أن ُيعّد مفتاح الجّنة الخوف من ال‪ ،‬ومجاهدة النفس‪:‬‬
‫))وأّما من خاف مقام رّبه ونهى النفس عن الهوى فإن الجّنة هي المأوى(‪2).‬‬
‫)يقول علي)عليه السلم(‪" :‬أشجع الناس من غلب هواه"‪3).‬‬
‫و قد نقلت قصص كثيرة في حالت محبي الحق وأولياء ال‪ ،‬والعلماء والعظماء‪ ،‬حيث نالوا‬
‫‪.‬المقامات العالية نتيجة ترك أتباع الهوى‪ ،‬هذه المقامات لم تكن ممكنة بالطرق العادية‬

‫ل من النعام!؟ ‪2‬‬
‫ـ لماذا َأض ّ‬
‫لتجسيد أهمية الموضوع في اليات أعله‪ ،‬يبّين القرآن أّول‪ :‬أن الذين اّتخذوا اهواءهم آلهه‬
‫!يعبدونها هم كالنعام‪ ،‬وبعد ذلك يضيف مشددًا‪ :‬بل هم أضل‬
‫نظير هذا التعبير ورد أيضًا في الية )‪ (172‬من سورة العراف في أهل النار الذين يؤولون إلى‬
‫‪،‬هذا المصير نتيجة عدم الستفادة من السمع والبصر والعقل‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .‬ـ سفينة البحار‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪) 728‬ذيل مادة هوى( ونهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪ 28‬و‪1 42‬‬
‫‪.‬ـ سورة النازعات‪ ،‬الية ‪2 40‬‬
‫‪).‬ـ سفينة البحار‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪) 689‬مادة شجع ‪3‬‬
‫]‪[268‬‬
‫‪).‬يقول تعالى‪ُ) :‬أولئك كالنعام بل هم أضل‬
‫سرين قدموا بحوثًا جيدة في هذه المسألة‪ ،‬وهي ـ مع(‬
‫أضل(و إن كانت واضحة إجمال‪ ،‬لكن المف ّ‬
‫‪:‬تحليل وإضافات‬
‫ـ إذا لم تفهم النعام شيئًا‪ ،‬وليس لها أذن سامعة وعين باصرة‪ ،‬فذلك لعدم استعدادها الذاتي‪1 ،‬‬
‫لكن العجز منها اِلنسان الذي تكمن في وجوده خميرة جميع السعادات‪ ،‬والذي أفاض ال عليه‬
‫قدرًا عظيمًا من الستعدادات ليستطيع أن يكون خليفة ال في الرض‪ ،‬ولكن أفعاله الذميمة بلغت‬
‫به حّدا أسقطته عن مستوى النعام‪ ،‬وأذهبت كل لياقاته هدرًا‪ ،‬وهوى ِمن رتبة مسجود الملئكة‬
‫‪.‬إلى حضيض الشياطين الذليلة‪ .‬وهذا هو الضل والمؤلم حقًا‬
‫ن البشر الضالين يجب ‪2‬‬
‫ـ النعام غير مسؤولة تقريبًا‪ ،‬وليست مشمولة بالجزاء اللهي‪ ،‬في حين أ ّ‬
‫‪.‬عليهم أن يحملوا عبء كل أعمالهم على عواتقهم‪ ،‬ليروا جزاء أعمالهم بل نقص أو زيادة‬
‫ـ تؤدي النعام للنسان خدمات كثيرة‪ ،‬وتنجز له أعمال مختلفة‪ ،‬أّما طغاة البشر العصاة فل ‪3‬‬
‫‪.‬تتأتى منهم أية منفعة‪ ،‬بل يسببون آلفًا من البلءات والمصائب‬
‫ـ النعام ل خطر منها على أحد‪ ،‬فإذا كان ثّمة خطر منها‪ ،‬فخطر محدود‪ ،‬لكن الويل من النسان ‪4‬‬
‫غير المؤمن‪ ،‬والمستكبر‪ ،‬عابد الهوى‪ ،‬الذي يؤجج أحيانًا نار حرب يذهب ضحيتها المليين من‬
‫‪.‬الناس‬
‫ـ إذا لم يكن للنعام قانون ومنهج‪ ،‬فإّنها تتبع مسارًا عّينه ال لها على شكل غرائز‪ ،‬فهي تتحرك ‪5‬‬
‫على ذلك الخط‪ .‬أّما النسان المتمرد‪ ،‬فل يعترف بقوانين تكوينية ول قوانين تشريعية‪ ،‬ويعتبر‬
‫‪.‬هواه وشهواته حاكمًا على كل شيء‬
‫ـ النعام ل تبرير لديها لعمالها أصل‪ ،‬فإذا خالفت فهي المخالفة‪ ،‬وإذا أرادت أن تمضي في ‪6‬‬
‫طريقها حين تمضي فذلك هو الواقع‪ ،‬أّما النسان المتكبر‬
‫]‪[269‬‬
‫السفاك‪ ،‬عابد الهوى فكثيرًا ما يبرر جميع جرائمه بالشكل الذي يدعي فيه أّنه يؤدي مسؤولياته‬
‫‪.‬اللهية والنسانية‬
‫‪.‬ولهذها‪ ،‬فل موجود أكبر خطرًا وأشد ضررًا من إنسان متبع للهوى‪ ،‬عديم اليمان ومتمرد‬
‫!!ولهذا وصمته الية )‪ (22‬من سورة النفال بلقب )شر الدواب( وكم هو مناسب هذا اللقب؟‬

‫***‬
‫]‪[270‬‬

‫اليات‬

‫ضَنـهُ‬‫عَلْيِه َدِليل)‪ُ (45‬ثّم َقَب ْ‬ ‫س َ‬ ‫شْم َ‬ ‫جَعْلَنا ال ّ‬ ‫ساِكنًا ُثّم َ‬‫جَعَلُه َ‬ ‫شآَء َل َ‬
‫ضّل َوَلْو َ‬‫ف َمّد ال ّ‬ ‫ك َكْي َ‬ ‫َأَلمْ َتَر ِإَلى َرّب َ‬
‫شوَرًا)‪َ (47‬وُهَو‬ ‫جَعَل الّنَهاَر ُن ُ‬‫سَباتًا َو َ‬‫جَعَل َلُكُم اّلْيَل ِلَباسًا َوالّنْوَم ُ‬ ‫سيرًا )‪َ(46‬وُهَو اّلِذى َ‬ ‫ِإَلْيَنا َقْبضًا َي ِ‬
‫ى ِبِه َبْلَدًة ّمْيتًا‬
‫حَ‬
‫طُهورًا)‪ّ (48‬لُن ْ‬ ‫سَمآِء َمآَء َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫حَمِتِه َوَأنَزْلَنا ِم َ‬
‫ى َر ْ‬
‫ن َيَد ْ‬
‫شَرًا َبْي َ‬
‫ح ُب ْ‬‫سَل الّرَيـ َ‬ ‫اّلِذى َأْر َ‬
‫س ِإّل‬‫صّرْفَنـُه َبْينَُهْم ِلَيّذّكُروْا َفَأَبى َأْكَثُر الّنا ِ‬
‫ى َكِثيرًا)‪َ (49‬وَلَقْد َ‬ ‫سّ‬‫خَلْقَنآ َأْنَعـمًا َوَأَنا ِ‬‫سِقَيُه ِمّما َ‬‫َوُن ْ‬
‫)ُكُفورًا)‪50‬‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬حركة الظلل‬
‫في هذه اليات كلم في أقسام مهّمة من النعم اللهية‪ ،‬على سبيل بيان أسرار التوحيد ومعرفة ال‪،‬‬
‫ن المحاورات الكثيرة‬‫اُلمور التي يزيدنا التفكر فيها معرفة بخالقنا وقربًا منه‪ ،‬ومع اللتفات إلى أ ّ‬
‫‪.‬في اليات الماضية كانت مع المشركين‪ ،‬تّتضح صلة وارتباط هذه اليات باليات السابقة‬
‫]‪[271‬‬
‫في هذه اليات‪ ،‬كلم في نعمة "الضلل" ثّم في آثار وبركات "الليل" و"النوم و الستراحة"‬
‫و"ضياء" النهار و"هبوب الرياح" و"نزول المطر" و"إحياء الراضي الموات" و"سقاية"‬
‫‪.‬النعام والناس‬
‫‪).‬يقول تعالى أول‪) :‬ألم تر إلى رّبك كيف مد الظل‪ ،‬ولو شاء لجعله ساكناً‬
‫ن هذا الجزء من الية إشارة إلى أهمية نعمة الظلل الممتدة والمتحركة‬ ‫‪.‬ل شك أ ّ‬
‫ظلل التي ل تثبت على حال‪ ،‬بل هي في حركة وانتقال‬ ‫‪.‬ال ِ‬
‫سرين‬‫‪:‬ولكن أي ظل هو المقصود بالية؟ ثّمة أقوال في أوساط المف ّ‬
‫بعضهم يقول‪ :‬هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على الرض بعد طلوع الفجر وقبل‬
‫طلوع الشمس‪ ،‬وأهنأ الظلل والساعات هي تلك‪ ،‬هذا النور الشفاف‪ ،‬والظل المنبسط‪ ،‬يبدأ عند‬
‫‪.‬طلوع الفجر‪ ،‬يتلشى عند طلوع الشمس حيث يأخذ مكانه الضياء‬
‫و يرى البعض الخر أن المقصود هو ظل الليل بأجمعه‪ ،‬الذي يبدأ من لحظة الغروب وينتهي عند‬
‫ن الليل في الحقيقة هو ظل نصف الكرة الرضية المواجه‬ ‫لحظة طلوع الشمس‪ ،‬لّننا نعلم أ ّ‬
‫للشمس‪ ،‬وهو ظل مخروطي يكون في الطرف الخر ومنتشرًا في الفضاء الواسع‪ .‬وهذا الظل‬
‫‪.‬المخروطي في حركة دائمة ومع طلوع الشمس على منطقة يزول عنها ليتشكل في ُأخرى‬

‫‪.‬وقال آخرون‪ :‬المقصود هو الظل الذي يظهر للجسام بعد الظهر فينبسط شيئًا فشيئًا بالتدريج‬
‫ى واسعًا يشمل جميع الظلل‬ ‫طبيعي‪ ،‬أّنه لو لم تكن الجمل التية‪ ،‬لكّنا نفهم من هذه الجملة معن ً‬
‫الشاسعة‪ ،‬لكن سائر القرائن التي وردت على أثرها تدل على أن الّتفسير الّول أكثر تناسبًا‪ ،‬لّنه‬
‫‪).‬تعالى يقول على أثر ذلك‪) :‬ثّم جعلنا الشمس عليه دليل‬
‫]‪[272‬‬
‫إشارة إلى أن مفهوم الظل لم يكن ليّتضح لو لم تكن الشمس‪ ،‬فالظل من حيث الصل يخلق بسبب‬
‫ن "الظل" يطلق عادة على الظلمة الخفيفة اللون التي تظهر الشياء فيها‪ ،‬وهذا‬ ‫ضياء الشمس‪ ،‬ل ّ‬
‫في حالة ما إذا أضاء النور جسمًا مانعًا لنفوذ النور‪ ،‬فإن الظل يبدو في الجهة المقابلة‪ .‬بناًء على‬
‫هذا فليس تشخيص الظل يتم بواسطة النور طبقًا لقاعدة "تعرف الشياء بأضدادها" فقط‪ ،‬بل إ ّ‬
‫ن‬
‫‪.‬وجوده أيضًا من بركة النور‬
‫‪).‬بعد ذلك يبّين تعالى‪ :‬ثّم إّننا نجمعه جمعًا وئيدًا )ثّم قبضناه إلينا قبضًا يسيرًا‬
‫ن الظلل تزول تدريجيًا‪ ،‬حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم‬ ‫من المعلوم أن الشمس حينما تطلع فإ ّ‬
‫ن الشمس آنئذ تستقر تمامًا فوق رأس كل موجود‪ ،‬وفي مناطق‬ ‫الظل تمامًا في بعض المناطق‪ ،‬ل ّ‬
‫ُأخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص‪ ،‬ولهذا فالظل ل يظهر ول يختفي دفعًة واحدًة‪ ،‬وهذا نفسه‬
‫ن النتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضارًا بجميع المخلوقات‪.‬‬ ‫حكمة الخالق‪ ،‬ذلك ل ّ‬
‫لكن هذا النظام المتدرج في هذه الحالة النتقالية له أكبر المنفعة بالنسبة إلى الموجودات‪ ،‬دون أن‬
‫‪.‬يكون له أي ضرر‬
‫التعبير بـ "يسيرًا" إشارة إلى انقباض الظل التدريجي‪ ،‬أو إشارة إلى أن نظام النور والظلمة‬
‫‪.‬الخاص‪ ،‬شيء يسير هين بالنسبة إلى قدرة الخالق‪ .‬وكلمة )إلينا( تأكيد على هذه القدرة أيضًا‬
‫على أية حال‪ ،‬ل شك أن النسان كما يحتاج إلى أشعة "النور" في حياته‪ ،‬فهو كذلك يحتاج إلى‬
‫ن أشعة النور المستديمة تربك الحياة‪ ،‬كذلك‬ ‫"الظل" لتعديل ومنع "النور" أوقات اشتداده‪ ،‬فكما أ ّ‬
‫ن الظل الدائم الساكن مهلك أيضًا‬ ‫‪.‬فإ ّ‬
‫في الحالة اُلولى تحترق جميع الموجودات‪ ،‬وفي الحالة الّثانية تنجمد جميعًا‪ ،‬ولكن هذا النظام‬
‫لنسان‬ ‫‪.‬المتناوب من "النور" و"الظل" هو الذي يجعل الحياة ممكنة وسائغة ل ِ‬
‫]‪[273‬‬
‫ن آيات قرآنية ُأخرى تعّد وجود الليل والنهار‪ ،‬الواحد تلو الخر‪ ،‬من النعم اللهية العظيمة‪،‬‬
‫لذا فإ ّ‬
‫ففي موضع يقول تعالى‪) :‬قل أرأيتم إن جعل ال عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير‬
‫ال يأتيكم بضياء‪ ،‬أفل تسمعون(‪ .‬ويضيف مباشرة )قل أرأيتم إن جعل ال عليكم النهار سرمدًا إلى‬
‫)يوم القيامة من إله غير ال يأتيكم بليل تسكنون فيه أفل تبصرون(‪1).‬‬
‫ن هذا النظام من رحمة ال الذي جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا‬ ‫و يستنتج من هذا القول أ ّ‬
‫وتستريحوا فيهما‪ ،‬ولتستفيدوا في تحصيل المعاش من فضله‪ ،‬ولعلكم تشكرون )و من رحمته‬
‫)جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون(‪2).‬‬
‫‪.‬ولهذا يعد القرآن "الظل الممدود" إحدى نعم الجّنة‪ ،‬حيث ل نوَر ُمعش مرهق‪ ،‬ول ظلمة موحشة‬
‫بعد ذكر نعمة الظلل‪ ،‬تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين ُأخريين متناسبتين معها تناسبًا تامًا‪،‬‬
‫فيكشف جانبًا آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود ال‪ ،‬يقول تعالى‪) :‬وهو الذي جعل‬
‫‪).‬لكم الليل لباسًا‬
‫كم هو تعبير جميل ورائع )جعل لكم الليل لباسًا(‪ ...‬هذا الحجاب الظلمي الذي ل يستر الناس فقط‪،‬‬
‫بل كل الموجودات على الرض ويحفظها كاللباس‪ ،‬ويلتحفه النسان كالغطاء الذي يستفيد منه‬
‫‪.‬أثناء النوم‪ ،‬أو ليجاد الظلم‬
‫‪).‬ثّم يشير تعالى إلى نعمة النوم )و النوم سباتًا‬
‫السبات" في اللغة من "سبت" )على وزن وقت( بمعنى القطع‪ ،‬ثّم جاء بمعنى تعطيل العمل"‬
‫ن أّول أّيام السبوع يسّمونه في لغة العرب "يوم السبت" وهي تسمية ُأخذت‬ ‫للستراحة‪ ،‬ولذا فإ ّ‬
‫‪.‬من طريقة اليهود‪ ،‬لّنه يوم تعطيلهم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ القصص‪ 71 ،‬و‪1 72‬‬
‫‪.‬ـ القصص‪2 73 ،‬‬
‫]‪[274‬‬
‫هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم‪ ،‬لّننا نعلم أن‬
‫قسمًا مهمًا من الفعال البدنية يتوقف كليًا في حال النوم‪ ،‬وقسمًا آخر مثل عمل القلب وجهاز‬
‫التنفس يؤدي عمله بصورة وئيدة جّدا‪ ،‬ويستمر بصورة أكثر هدوًء كيما يرتفع التعب وتتجدد‬
‫‪.‬القوى‬
‫النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه‪ ،‬مجدد لجميع طاقات البدن‪ ،‬وباعث للنشاط والقّوة‪ ،‬وأفضل‬
‫وسيلة لهدوء العصاب‪ ،‬بعكس الرق خصوصًا لفترة طويلة ـ فهو ضاٌر جّدا وقد يؤدي الى‬
‫ن قطع برنامج النوم واحد من أهم أساليب التعذيب حيث يحطم كل مقاومة‬ ‫الموت أيضًا‪ .‬ولهذا فإ ّ‬
‫‪.‬النسان بسرعة‬
‫‪).‬وفي ختام الية‪ ،‬أشار تعالى إلى نعمة "النهار" فقال تعالى‪) :‬وجعل النهار نشورًا‬
‫كلمة "النشور" في الصل من النشر بمعنى البسط‪ ،‬في مقابل الطي ورّبما كان هذا التعبير إشارة‬
‫إلى انتشار الروح في أنحاء البدن‪ ،‬حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت‪ ،‬أو إشارة إلى انتشار‬
‫الناس في ساحة المجتمع‪ ،‬والحركة للمعاش على وجه الرض‪ .‬نقرأ في حديث عن الّنبي‬
‫الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( أّنه كان يقول كل صباح‪" :‬الحمد ل الذي أحيانًا بعد ما أماتنا‬
‫)وإليه النشور"‪1).‬‬
‫فضياء النهار من حيث روح وجسم النسان باعث على الحركة حّقا‪ ،‬كما أن الظلم باعث على‬
‫‪.‬النوم والهدوء‬
‫ث فيها‬‫ن الحركة والنشاط تشمل جميع الموجودات الحية و يستجد انبعا ٌ‬ ‫في عالم الطبيعة أيضًا‪ ،‬فإ ّ‬
‫بمجّرد سطوع أّول اشعة للشمس‪ ،‬فينطلق كل واحد منها إلى سبيله‪ ،‬وحتى النباتات تتنفس‬
‫وتتغذى وتنموا وتنضج أمام النور‪ ،‬أّما عند مغيب الشمس‪ ،‬فكأن الطبيعة تنفخ في صور انتهاء‬
‫العمل والسكون‪ ،‬الطيور تؤوب إلى‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير القرطبي ‪1‬‬
‫]‪[275‬‬
‫ط في نوع من النوم‬
‫‪.‬أوكارها‪ ،‬الموجودات الحية تفيء إلى الستراحة والنوم‪ ،‬حتى النبانات تغ ّ‬
‫بعد بيان هذه المواهب العظيمة ـ التي هي أهم ركائز الحياة النسانية ـ يتناول القرآن الكريم‬
‫موهبة ُأخرى مهّمة جّدا فيقول‪) :‬وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته‪ ،‬وأنزلنا من‬
‫‪).‬السماء ماًء طهورًا‬
‫ل يخفى أن دور الرياح هو أّنها الطلئع المتقدمة لنزول الرحمة اللهية‪ ،‬وإّل فلن تنزل قطرة مطر‬
‫‪.‬على الرض العطشى أبدًا‬
‫صحيح أن ضياء الشمس يبخر ماء البحار فيتصاعد في الفضاء‪ ،‬وتراكم هذه البخرة في طبقة‬
‫عليا باردة يشكل الغيوم الممطرة‪ ،‬ولكن إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي‬
‫‪.‬المحيطات باتجاه الراضي اليابسة‪ ،‬فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر‬
‫والخلصة أن وجود بشائر الرحمة هذه‪ ،‬التي تتحرك بشكل دائم في كل ارجاء الرض‪ ،‬سبب رواء‬
‫الجفاف على الرض‪ ،‬ونزول المطر الباعث على الحياة وتشكيل النهار والعيون والبار‪ ،‬ونمو‬
‫‪.‬أنواع النباتات‬
‫إنّ قسمًا من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم‪ ،‬في حركتها وامتزاجها برطوبة ملئمة‪ ،‬تبعث‬
‫النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر‪ ،‬هذه الرياح مثل البشير الذي ُينبىء عن قدوم مسافر‬
‫‪.‬عزيز‬
‫التعبير بـ "الرياح" بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها‪ ،‬فبعض شمالي‪ ،‬وبعض‬
‫جنوبي‪ ،‬وبعض يهب من الشرق إلى الغرب‪ ،‬ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق‪ ،‬فتكون سببًا‬
‫)في انتشار الغيوم في كل الفاق‪1).‬‬
‫المهم هنا هو أن "الماء" قد وصف بـ "الطهور" التي هي صيغة مبالغة من‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫شرًا" ـ بضم الشين ـ الذي هو جمع ‪1‬‬ ‫شرًا" ـ بسكون الشين مخفف ـ "ُب ُ‬ ‫ن "ُب ْ‬‫ـ يجب النتباه إلى أ ّ‬
‫‪".‬بشور" )على وزن قبول( بمعنى مبشر وبشير‬
‫]‪[276‬‬
‫الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أن الماء طاهر بذاته‪ ،‬ويطهر الشياء‬
‫!الملوثة‪ ...‬ثّمة أشياء كثيرة غير الماء طاهرة‪ ،‬ولكّنها ل تستطيع أن تكون مطهرة لغيرها‬
‫ن للماء خاصية كبيرة الهمية هي التطهير‪ ،‬فلول‬ ‫وعلى أية حال‪ ،‬فمضافًا إلى خاصية الحياء‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد والماء وإن لم يكن قاتل‬ ‫الماء فإ ّ‬
‫للميكروب عادة‪ ،‬ولكّنه يستطيع ازالتها وطردها بسبب خاصيته الفذة )الذابة(‪ .‬ومن هذه الناحية‬
‫‪.‬فإّنه يقدم مساعدة مؤثرة جّدا في مسألة سلمة النسان ومكافحة أنواع المراض‬
‫مضافًا إلى أن تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء‪ ،‬إذن فالماء مطهر‬
‫‪.‬للروح والجسم معًا‬
‫لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الهمية‪ ،‬اعتبرت في الدرجة الّثانية‪ ،‬لذا يضيف القرآن‬
‫ن الهدف من نزول المطر هو الحياء‪) :‬لنحي به بلدة ميتًا()‪1‬‬ ‫‪).‬الكريم في الية التي بعدها بأ ّ‬
‫ي كثيرًا‬
‫‪).‬وأيضًا )ونسقيه مّما خلقنا أنعامًا وأناس ّ‬
‫***‬

‫ملحظات‬
‫‪:‬و هنا ملحظات مهّمة‬
‫ـ في هذه الية ورد الكلم عن النعام والناسي الكثيرة مع أن جميع الناس والحيوانات تستفيد ‪1‬‬
‫!!من ماء المطر‬
‫هذه إشارة إلى البدو الرحل وساكني الخيام الذين ليس لديهم ماء مطلقًا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ ينبغي اللتفات إلى أن "بلدة" هنا بمعنى الصحراء‪ ،‬ومع أنّ هذا اللفظ مؤنث‪ ،‬فصفته التي هي ‪1‬‬
‫‪".‬ميتًا" وردت بصيغة المذكر‪ ،‬ذلك لن المراد بالمعنى "المكان" وهو مذكر‬
‫]‪[277‬‬
‫سوى ماء المطر حيث يستفيدون منه مباشرة‪ ،‬هذه النعمة الكبيرة محسوسة لديهم أكثر فحينما‬
‫سحب في السماء ويمطل عليهم المطر‪ ،‬وتمتلىء الراضي المنخفضة من ماء المطر‬ ‫تظهر ال ُ‬
‫ب في وجودهم ووجود‬ ‫الزلل‪ ،‬فيرتوون منه ويسقون انعامهم‪ ،‬ويشعرون بنشاط الحياة يد ّ‬
‫‪.‬أنعامهم‬
‫ـ جملة "نسقيه" من مادة "إسقاء" وفرقها عن "سقى"كما قال الراغب في المفردات وآخرون ‪2‬‬
‫ن السقاء بمعنى تهيئة الماء وجعله للسقاية‪ ،‬ليشرب منه النسان متى أراد‪،‬‬ ‫سرين‪ ،‬هو أ ّ‬
‫من المف ّ‬
‫في حين أن مادة "سقى" بمعنى أن ُيعطى من يريد الماء حتى يشرب‪ ،‬وبعبارة أخرى فإن السقاء‬
‫ى أوسع وأعم‬‫‪.‬له معن ً‬
‫ول عن الراضي الميتة‪ ،‬ثّم النعام ثّم الناسي‪ ،‬وهذا التعبير رّبما ‪3‬‬‫ـ في هذه الية‪ ،‬ورد الكلم أ ّ‬
‫كان لن الراضي إذا لم تحي بالمطر‪ ،‬فلن يكون للنعام طعام‪ ،‬وإذا لم تعش النعام‪ ،‬فلن يستطيع‬
‫‪.‬النسان إن يتعذى منها‬
‫لرتباط الوثيق بين هاتين ‪4‬‬ ‫ـ طرح مسألة اِلحياء بالماء بعد مسألة التطهير‪ ،‬قد يكون إشارة إلى ا ِ‬
‫‪).‬المسألتين )حول آثار اِلحياء بالماء‪ ،‬ثّمة بحث مفصل في ذيل الية ‪ 30‬سورة النبياء‬
‫في الية الخيرة ـ مورد البحث ـ يشير تعالى إلى القرآن فيقول‪ :‬جعلنا هذه اليات بينهم بصور‬
‫مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلله على قدرة الخالق‪ ،‬لكن كثيرًا من الناس لم يتخذوا‬
‫‪).‬موقفًا إزاء ذلك إّل النكار والكفران‪) :‬ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إّل كفورًا‬
‫سرين مثل العلمة الطبرسي في تفسيره‪ ،‬والشيخ الطوسي في تفسير‬ ‫وإن أرجع كثير من المف ّ‬
‫التبيان‪ ،‬والعلمة الطباطبائي في تفسير الميزان وآخرين‪ ،‬الضمير في جملة "صرفناه" إلى المطر‪،‬‬
‫حيث يكون مفهومها هكذا‪ :‬أنزلنا المطر في جهات ومناطق مختلفة من الرض‪ ،‬ووزعناه بين‬
‫‪.‬الناس ليتذكروا هذه النعمة العظمى‬
‫]‪[278‬‬
‫لكن الحق أن هذا الضمير يرجع إلى القرآن وآياته‪ ،‬لن هذا التعبير )بصيغة الفعل الماضي‬
‫والمضارع( ورد في عشرة مواضع من القرآن المجيد‪ ،‬حيث ُأرجع في تسعة مواضع إلى آيات‬
‫القرآن وبياناته صراحة‪ ،‬وُأتبع بجملة "ليذكروا" أو ما يشابهها في موارد متعددة‪ .‬على هذا فمن‬
‫‪.‬البعيد جدًا أن يأخذ هذا التعبير مفهومًا آخر في هذا المورد الواحد‬
‫ن "تصريف" التي هي بمعنى التحويل من حال إلى حال‪ ،‬ليس لها تناسب‬ ‫و من حيث الصل فإ ّ‬
‫كثير مع نزول المطر‪ ،‬في وقت هي أكثر تناسبًا مع آيات القرآن التي تأتي في انحاء مختلفة‪،‬‬
‫‪.‬أحيانًا بصورة وعد‪ ،‬وأحيانًا بصورة أمر‪ ،‬وُأخرى بصورة نهي‪ ،‬وأحيانًا بصورة قصص الماضين‬
‫***‬
‫]‪[279‬‬

‫اليات‬
‫جَهادًا َكبيرًا)‪َ (52‬وُهَو اّلِذى‬ ‫جـِهْدُهم ِبِه ِ‬ ‫ن َو َ‬‫طِع اْلَكـِفِري َ‬‫ل ُت ِ‬
‫شْئَنا َلَبَعْثَنا ِفى ُكّل َقْرَية ّنِذيزًا)‪َ (51‬ف َ‬ ‫َوَلْو ِ‬
‫جورًا)‪َ (53‬وُهَو‬ ‫حُ‬
‫جرًا ّم ْ‬‫حْ‬ ‫جَعَل َبْيَنُهَما بَْرَزخًا َو ِ‬
‫ج َو َ‬‫جا ٌ‬‫ح ُأ َ‬
‫ت َوَهَذا ِمْل ٌ‬ ‫ب ُفَرا ٌ‬
‫عْذ ٌ‬‫ن َهَذا َ‬ ‫حَرْي ِ‬‫ج اْلَب ْ‬
‫َمرَ َ‬
‫ل َما َل‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ن ِمن ُدو ِ‬
‫ك َقِديرًا)‪َ (54‬وَيْعُبُدو َ‬ ‫ن َرّب َ‬ ‫صْهرًا َوَكا َ‬‫سبًا َو ِ‬ ‫جَعَلُه َن َ‬
‫شرًا َف َ‬
‫ن اْلَمآِء َب َ‬
‫ق ِم َ‬ ‫خَل َ‬‫اّلِذى َ‬
‫ظِهيرًا)‪55‬‬ ‫عَلى َرّبِه َ‬ ‫ن الَكاِفُر َ‬ ‫ضّرُهْم َوَكا َ‬
‫)َينَفُعُهْم َوَل َي ُ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬بحران متجاوران‪ :‬عذب فرات وملح ُأجاج‬
‫الية اُلولى ـ مورد البحث ـ أشارت إلى عظمة مقام الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬يقول‬
‫تعالى‪ :‬لو أردنا لبعثنا نبّيا في كل مدينة وبلد‪ ،‬لكّننا لم نفعل هذا وألقينا مسؤولية هداية العالمين‬
‫‪).‬على عاتقك‪) :‬ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا‬
‫ن ال عّزوجّل ـ طبقًا لليات السابقة ـ قادر على إرسال قطرات المطر الباعث على الحياة إلى‬ ‫كما أ ّ‬
‫كل الراضي الميتة‪ ،‬فله القدرة أيضًا على إنزال الوحي‬
‫]‪[280‬‬
‫ي في كل قرية‪ ،‬وأن يبعث لكل ُأمة نذيرًا‪ ،‬لكن ال يختار لعباده ما هو أصلح‪،‬‬ ‫والنبّوة على قلب نب ّ‬
‫ن تمركز النبّوة في وجود فرد واحد يكون باعثًا على وحدة وانسجام الناس‪ ،‬ومانعًا من كل فرقة‬ ‫لّ‬
‫‪.‬وتشتت‬
‫و يحتمل أن بعض المشركين أوردوا هذا الشكال وهو‪ :‬ألم يكن من الفضل أن يبعث ال نبّيا في‬
‫!كل مدينة وقرية؟‬
‫لكن القرآن يقول في رّدهم‪ :‬لو أراد ال ذلك لفعل‪ ،‬لكن هذا التشتت ليس في صالح المم والشعوب‬
‫‪.‬قطعًا‬
‫وعلى أية حال‪ ،‬فكما أن هذه الية دليل على عظمة مقام الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬فهي‬
‫‪.‬دليل كذلك على وجوب وحدة القائد‪ ،‬وعلى ثقل عبء مسؤوليته‬
‫وبنفس هذا الدليل‪ ،‬يبّين ال تبارك وتعالى في الية التالية‪ ،‬أمرين إلهيين مهمين يشكلن منهجين‬
‫أساسيين للنبياء‪ ،‬فيوجه الخطاب أّول إلى الّرسول العظم)صلى ال عليه وآله وسلم( ويقول‪:‬‬
‫‪)).‬فل تطع الكافرين‬
‫ن التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى‬ ‫ط أية خطوة على طريق التوافق مع انحرافاتهم‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ل تخ ُ‬
‫‪.‬ال‪ ،‬قف أمامهم بقّوة‪ ،‬واسَع إلى إصلحهم‪ ،‬لكن كن حذرًا ول تتسلم لهواءهم وخرافاتهم‬
‫‪).‬أّما القانون الّثاني فهو‪ :‬جاهد ُأولئك بالقرآن‪) :‬وجاهدهم به جهادًا كبيرًا‬
‫جهادًا كبيرًا بعظمة رسالتك‪ ،‬وبعظمة جهاد كل النبياء الماضين‪ ،‬الجهاد الذي يشمل جميع البعاد‬
‫‪.‬الروحية والفكرية للناس‪ ،‬ويشمل كل الصعدة المادية والمعنوية‬
‫ل شك أن المقصود من الجهاد في هذا الموضع هو الجهاد الفكري والثقافي والتبليغي وليس‬
‫ن هذه السورة مكية‪ ،‬والمر بالجهاد المسلح لم يكن قد نزل في مّكة‪ .‬وعلى‬ ‫الجهاد المسلح‪ ،‬ذلك ل ّ‬
‫ن الجهاد الفكري‬‫قول العلمة "الطبرسي" في مجمع البيان‪ ،‬أن هذه الية دليل واضح على أ ّ‬
‫والتبليغي في مواجهة وساوس‬
‫]‪[281‬‬
‫‪.‬المضلين وأعداء الحق من أكبر أنواع الجهاد‬
‫‪".‬وروي عن الّنبى)صلى ال عليه وآله وسلم(‪" :‬رجعنا من الجهاد الصغر إلى الجهاد الكبر‬
‫ورّبما كان هذا الحديث إشارة إلى نفس هذا الجهاد وإلى عظمة ما يؤديه العلماء في التبليغ‬
‫بالدين‪ ،‬هذا التعبير يجسد أيضًا عظمة مقام القرآن‪ ،‬ذلك لّنه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسلحه‬
‫ن قدرته البيانية واستدلله وتأثيره العميق وجاذبيته فوق تصور وقدرة البشر‬ ‫‪.‬القاطع‪ ،‬فإ ّ‬
‫الوسيلة المؤثرة والواضحة كوضوح الشمس وضياء النهار‪ ،‬والمطمئنة كطمأنية ستائر الليل‪،‬‬
‫والمحركة كحركة الرياح الخلقة‪ ،‬والعظيمة بعظمة الغيوم وفيما تبثه قطرات المطر من حياة‪،‬‬
‫‪.‬حيث أشارت إلى ذلك اليات السابقة‬
‫و بعد فاصلة وجيزة‪ ،‬يتناول القرآن الكريم مجددًا الستدلل على عظمة الخالق عن طريق بيان‬
‫نعمه في النظام الكوني‪ ،‬فيشير بعد ذكر المطر في اليات السابقة إلى عدم الختلط بين المياه‬
‫العذبة والمالحة‪) :‬وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا‬
‫‪).‬وحجرًا محجورًا‬
‫مرج" من مادة "المرج" )على وزن فلج( بمعنى الخلط أو الرسال‪ ،‬وهنا بمعنى المجاورة بين"‬
‫‪.‬الماء العذب والمالح‬
‫‪.‬عذب" بمعنى سائغ وطيب وبارد‪ ،‬و"فرات" بمعنى لذيذ وهنيء"‬
‫ر وحار‪) .‬بناء على هذا فملح وأجاج نقطتان مقابلتان لعذب"‬ ‫ملح" بمعى مالح‪ ،‬و"أجاج" بمعنى ُم ّ‬
‫‪).‬وفرات‬
‫‪.‬برزخ" بمعنى حجاب وحائل بين شيئين"‬
‫و جملة )حجرًا محجورًا( كما أشرنا سابقًا )ذيل الية ‪ 22‬من هذه السورة( كانت جملة لخذ‬
‫ف عنا‪ ،‬وآمنا‪،‬‬ ‫المان بين العرب يقولونها عندما يفاجؤون بشخص يخافونه ويرهبونه‪ ،‬يعني )أع ُ‬
‫‪).‬وابتعد عنا‬
‫على أية حال‪ ،‬فهذه الية تصور واحدًا من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق‬
‫]‪[282‬‬
‫في عالم مخلوقاته‪ ،‬وكيف يستقر حجاب غير مرئي‪ ،‬وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب‪،‬‬
‫‪.‬فل يسمح لهما بالختلط‬
‫و قد اّتضح اليوم أن هذا الحجاب اللمرئي‪ ،‬هو ذلك "التفاوت بين كثافة المالح والعذب" وفي‬
‫‪.‬الصطلح "تفاوت الوزن النوعي" لهما‪ ،‬حيث يكون سببًا في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة‬
‫سرين وقعوا في تعب من أجل اكتشاف مثل هذين البحرين في الكرة‬ ‫ن جماعة من المف ّ‬ ‫و رغم أ ّ‬
‫الرضية وأين يوجد بحر عذب الماء في جوار بحر مالح الماء ول يمتزجان!؟ لكن هذه المشكلة‬
‫انحلت لنا‪ ،‬لّننا نعلم أن جميع أنهار الماء‪ ،‬العذب العظيمة التي تصب في البحار عند الساحل‪،‬‬
‫تشكل بحرًا من الماء العذب‪ ،‬فتدفع المياه المالحة إلى الخلف‪ ،‬ويستمر هذا الوضع إلى مّدة‬
‫طويلة‪ ،‬وبسبب التفاوت في كثافتهما يمتنعان عن المتزاج مع بعضهما‪ ،‬فكل واحد منهما يقول‬
‫‪).‬للخر‪) :‬حجرًا محجورًا‬
‫ن سطح البحر يرتفع وينخفض بمقدار كبير بسبب المد والجزر اللذين يحصلن مّرتين‬ ‫الملفت هو أ ّ‬
‫في اليوم بتأثير جاذبية القمر وبذلك تغمر المياه العذبة التي شكلت بحرًا اليابسة في مصبات تلك‬
‫النهار وأطرافها‪ ،‬وقد استفاد الناس من هذه الحالة منذ قديم الزمان‪ ،‬فحفروا جداول كثيرة في‬
‫أطراف ملتقى النهار مع البحر‪ ،‬وزرعوا اراض شاسعة بالشجار‪ ،‬حيث تتّم سقايتها بنفس ذلك‬
‫‪.‬الماء العذب الذي ينتشر في مناطق واسعة بواسطة المد والجزر‬
‫توجد حتى الن في جنوب العراق وإيران مليين من أشجار النخيل‪ ،‬وقد شاهدنا عن قرب أ ّ‬
‫ن‬
‫قسمًا منها يسقى فقط بهذه الوسيلة‪ ،‬ويقع على بعد كبير من ساحل البحر‪ ،‬وأحيانًا يتغلب الماء‬
‫المالح حيث تقل المياه التي تصبها النهار الكبيرة في البحر في السنين المجدية‪ ،‬فيقلق‬
‫ن ذلك يضّر بزراعتهم ضررًا بالغًا‬
‫‪.‬المزارعون من أهل هذه المنطقة‪ ،‬ل ّ‬
‫]‪[283‬‬
‫لكن العادة ليست كذلك‪ ،‬فهذا الماء "العذب الفرات" المستقر إلى جوار الماء "المالح والجاج"‬
‫‪ُ.‬يعّد ذخيرة عظيمة لهم‬
‫معلوم أن وجود العلل الطبيعية في مثل هذه المسائل ل يقلل من قيمتها أبدًا‪ ،‬وإّل فما هي الطبيعة؟‬
‫‪.‬ليست هي إّل فعل ال وإرادته ومشيئته‪ ،‬وهو تعالى الذي منح هذه الخواص لهذه الموجودات‬
‫ن النسان حينما يجتاز هذه المناطق بالطائرة‪ ،‬يرى جيدًا هذان الماءان المختلفان‬ ‫و الملفت للنظر أ ّ‬
‫‪.‬في اللون‪ ،‬غير الممتزجين‪ ،‬فيذّكر هذا المشهد اِلنسان بهذه النكتة القرآنية‬
‫ن جعل هذه الية وسط آيات تتعلق بـ "الكفر" و"اليمان" رّبما تكون أيضًا إشارة وتمثيل لهذا‬ ‫إّ‬
‫المر‪ ،‬ففي المجتمع الواحد أحيانًا‪ ،‬وفي المدينة الواحدة‪ ،‬بل حتى في البيت الواحد أحيانًا‪ ،‬يتواجد‬
‫أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات‪ ،‬مع أفراد بل إيمان كالماء المالح الجاج‪ ...‬مع طرازين من‬
‫‪.‬الفكر‪ ،‬ونوعين من العقيدة‪ ،‬و نمطين من العمل‪ ،‬طاهر وغير طاهر‪ ،‬دون أن يمتزجا‬
‫في الية التالية ـ بمناسبة البحث في نزول المطر‪ ،‬وفي البحرين العذب والجاج المتجاورين‬
‫‪).‬يتحدث القرآن الكريم عن خلق النسان من الماء‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬وهو الذي خلق من الماء بشرًا‬
‫حقًا إن النحت في الماء‪ ،‬وخلق صورة بديعة كهذه على الماء‪ ،‬دليل على عظمة قدرة الخالق‪،‬‬
‫وكان الكلم في اليات السابقة حول إحياء النباتات بواسطة المطر‪ ،‬و الكلم ـ هنا عن مرحلة‬
‫‪.‬أعلى‪ ،‬يعني خلق النسان من الماء‬
‫سرين أقوال في المراد من الماء هنا‬ ‫‪:‬و بين المف ّ‬
‫ن خلقه‬‫ن المقصود من "بشر" هو النسان الول‪ ،‬يعني آدم)عليه السلم(‪ ،‬ذلك ل ّ‬ ‫ذهب جماعة أ ّ‬
‫كان من "طين" يعني عجينًا من ماء وتراب‪ ،‬إضافة إلى أن الماء كان أّول موجود خلقه ال تعالى‬
‫‪،‬طبقًا للّروايات السلمية‪ ،‬وخلق النسان من ذلك الماء‬
‫]‪[284‬‬
‫‪.‬وتنكير "بشر" شاهد على هذا المعنى‬
‫و ذهب جماعة آخرون أن المقصود من "الماء" هو ماء النطفة‪ ،‬حيث يتكون جميع الناس منه‬
‫بقدرة الخالق‪ ،‬ومع امتزاج نطفة الرجل "الحيمن" الذي يسبح في الماء مع "البويضة" نطفة‬
‫‪.‬المرأة‪ ،‬تتكون أول نواة لحياة النسان‪ ،‬يعني الخلية النسانية الحية اُلولى‬
‫لو تدّبر النسان وتأمل في مراحل انعقاد النطفة من بدايتها إلى نهايتها‪ ،‬فسيشاهد الكثير من آيات‬
‫‪.‬عظمة الحق وقدرة الخالق فيها‪ ،‬حيث تكفي وحدها لمعرفة ذاته المقدسة تبارك وتعالى‬
‫‪).‬الشاهد على هذا الّتفسير‪ ،‬جملة وردت في آخر الية‪ ،‬وسنشرحها )فجعله نسبًا وصهرًا‬
‫ن الماء يشكل القسم الكبر من وجود النسان‪ ،‬بالصورة التي يمكن القول‬ ‫فضل عن هذا‪ ،‬فل شك أ ّ‬
‫ن المادة الساس لوجود أي إنسان هي الماء‪ ،‬لهذا فإن مقاومة النسان إزاء العطش قليلة جّدا‪،‬‬ ‫أّ‬
‫‪.‬في حين يستطيع النسان أن يقاوم أّياما وأسابيع حيال قّلة المواد الغذائية‬
‫ن جميع هذه المعاني تجتمع في مفهوم الية‪ ،‬أي أن النسان الّول خلق من‬ ‫و يحتمل قويًا أيضًا‪ ،‬أ ّ‬
‫ماء‪ ،‬وأن تكّون جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضًا‪ ،‬وأن الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم‬
‫النسان أيضًا‪ ...‬الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم‪ ،‬كيف صار مبدأ ايجاد مثل هذا‬
‫‪.‬الخلق الجميل!؟ وهذا دليل بّين على قدرته تبارك وتعالى‬
‫‪).‬بعد ذكر خلق النسان‪ ،‬يورد جّل ذكره الكلم عن انتشار النسان‪ ،‬فيقول‪) :‬فجعله نسبًا وصهرًا‬
‫المقصود من "النسب" هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد‪ ،‬مثل ارتباط‬
‫الب والبن‪ ،‬أو الخوة بعضهم مع بعض‪ ،‬أّما المقصود من‬
‫]‪[285‬‬
‫صهر" التي هي في الصل بمعنى "الختن" هو الرتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق‪"،‬‬
‫مثل ارتباط النسان بأقرباء زوجته‪ ،‬وهذان الثنان هما ما يعبر عنه الفقهاء في مباحث النكاح بـ‬
‫‪"".‬النسب" و "السبب‬
‫في القرآن المجيد في سورة النساء‪ ،‬أشير إلى المحارم النسبية النسب في سبعة موارد )الم‪،‬‬
‫البنت‪ ،‬الخت‪ ،‬العمة‪ ،‬الخالة‪ ،‬بنت الخ‪ ،‬بنت الخت( وإلى المحارم السببية في أربعة موارد )بنت‬
‫‪).‬الزوجة‪ ،‬أم الزوجة‪ ،‬زوجة البن‪ ،‬زوجة الب‬
‫سرين في تفسير هذه الجملة‪ ،‬لكن ماقلناه أوضح‬ ‫من المؤّكد أن هناك وجهات نظر ُأخرى لدى المف ّ‬
‫‪.‬وأقوى من جميعها‬
‫ن جماعة منهم اعتبروا "النسب" بمعنى أولد البن‪ ،‬و "الصهر" بمعنى أولد‬ ‫فمن جملتها أ ّ‬
‫‪.‬البنت‪ ،‬ذلك لن الرتباط النسبي يحسب على أساس الباء ل على أساس اُلمهات‬
‫ن هذا اشتباه كبير‪ ،‬استمّد‬‫و كما قلنا بشكل مفصل ـ في ذيل الية )‪ (61‬من سورة آل عمران ـ فإ ّ‬
‫من سنن أّيام ما قبل السلم‪ ،‬حيث اعتبروا النسب عن طريق الب فقط‪ ،‬وليس للم أي أثر‪ ،‬في‬
‫حين أن من المسلمات في الفقه السلمي وبين جميع علماء السلم أن الحرمة النسبية من ناحية‬
‫الب ومن ناحية اُلم أيضًا )ولزيادة الطلع‪ ،‬راجع الّتفسير ذيل الية )‪ (61‬من سورة آل‬
‫‪).‬عمران‬
‫و الجدير بالذكر‪ ،‬أن لدينا حديثًا معروفًا‪ ،‬نقل في كتب الشيعة والسنة‪ ،‬وطبقًا لهذا الحديث فإ ّ‬
‫ن‬
‫ن الّنبي زّوج‬
‫الية أعله نزلت في النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وعلي)عليه السلم(‪ ،‬وذلك أ ّ‬
‫ابنته فاطمة من علي)عليهما السلم(‪ ،‬ولهذا فقد كان علي)عليه السلم( ابن عّم الّنبي)صلى ال‬
‫)عليه وآله وسلم( وزوج ابنته أيضًا‪ ،‬وهذا معنى "نسبًا وصهرًا"‪1).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان‪ ،‬وتفسير روح المعاني‪ ،‬ذيل هذه الية ‪1‬‬
‫]‪[286‬‬
‫ولكن هذه الّروايات تعتبر بيان للمصاديق الواضحة‪ ،‬ول تقدح بعمومية مفهوم الية‪ ،‬فالية تشمل‬
‫كل ارتباط يكون عن طريق النسب والمصاهرة‪ ،‬وأحد مصاديقها الواضحة كان ارتباط علي)عليه‬
‫‪).‬السلم( من جهتين مع الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫‪).‬في ختام الية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية‪) :‬وكان رّبك قديرًا‬
‫و يبّين القرآن الكريم في نهاية المطاف في الية الخيرة ـ مورد البحث ـ انحراف المشركين عن‬
‫أصل التوحيد‪ ،‬من خلل المقايسة بين قدرة الصنام وقدرة الخالق‪ ،‬حيث مّرت نماذج منها في‬
‫‪).‬اليات السابقة‪ ،‬يقول‪) :‬ويعبدون من دون ال ما ل ينفعهم ول يضرهم‬
‫ن وجود المنفعة والضرر ل يكون وحده معيار العبادة‪ ،‬لكن القرآن يبّين من خلل هذا‬ ‫من المسّلم أ ّ‬
‫ن الصنام موجودات عديمة‬ ‫التعبير هذه النكتة‪ ،‬وهي أّنهم يفتقدون أية حجة في هذه العبادة‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬الخاصية تمامًا‪ ،‬وفاقدة لية قيمة‪ ،‬ولي تأثير سلبي أو إيجابي‬
‫و يضيف القرآن الكريم في ختام الية أن الكفرة يعين بعضهم بعضًا في مواجهة خالقهم "في‬
‫‪).‬طريق الكفر" )وكان الكافر على رّبه ظهيرًا‬
‫إن هؤلء ليسوا وحدهم في طريق الضلل‪ ،‬إنهم يقوي بعضهم بعضًا بشكل قاطع‪ ،‬ويعبئون القوى‬
‫سرين يحصر‬ ‫ويقيمون العراقيل ضد دين ال ونبّيه والمؤمنين الحقيقيين‪ .‬وإذا رأينا أن بعض المف ّ‬
‫ن الكافر في‬‫"الكافر" الوارد في هذه الية في "أبي جهل" فمن باب ذكر المصداق البارز‪ ،‬وإّل فإ ّ‬
‫‪.‬كل مورد له معنى واسع يشمل جميع الكفار‬

‫***‬

‫]‪[287‬‬
‫مسألتان‬
‫ـ وحدة القيادة ‪1‬‬
‫في الية اُلولى ـ مورد البحث ـ قرأنا قوله تعالى‪) :‬ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا( ولكننا لم‬
‫نفعل مثل هذا‪ ...‬ومن المسّلم أن علة ذلك لن النبياء قادة اُلمم‪ ،‬ونعلم أن التعدد في مسألة‬
‫ن الكلم هنا عن خاتم النبياء)صلى ال عليه‬ ‫صة و أ ّ‬
‫القيادة يؤدي إلى إضعاف كل ُأّمة وشعب‪ ،‬خا ّ‬
‫وآله وسلم(‪ ،‬ويجب أن تستمر هذه القيادة حتى نهاية العالم‪ .‬لذا تّتضح ـ أكثر ـ أهمية التمركز‬
‫‪.‬والوحدة في القيادة‬
‫القائد الواحد يستطيع أن يوحد جميع القوى‪ ،‬ويمنحها النسجام والوحدة‪ .‬وفي الحقيقة فإن مسألة‬
‫وحدة القيادة انعكاس لحقيقة التوحيد في المجتمع النساني‪ ،‬ويكون في النقطة المقابلة ظواهر‬
‫‪.‬الشرك والتفرقة والنفاق‬
‫و ما ورد في الية )‪ (24‬من سورة فاطر‪) :‬وإن من ُأمة إّل خل فيها نذير(فليس ثّمة منافاة مع‬
‫‪.‬البحث أعله‪ ،‬لن الكلم فيها عن اُلمة‪ ،‬ل أهل كل مدينة وكل بلد‬
‫ن هذا الصل صحيح أيضًا حتى في أدنى مستويات القيادة‪،‬‬ ‫فلو أغمضنا النظر عن مقام النبياء‪ ،‬فإ ّ‬
‫والشعوب التي صارت أسيرة التعدد في القيادة‪ ،‬إنتهت إلى التجزئة في سائر شؤونها‪ ،‬فضل عن‬
‫‪.‬الضعف والعجز‬

‫ـ القرآن وسيلة الجهاد الكبير ‪2‬‬


‫رباني البّناء"‬
‫‪.‬الجهاد الكبير" تعبير بليغ عن أهمية منهج الكفاح ال ّ‬
‫ن هذا العنوان قد ُأعطي للقرآن‪ ،‬أو بعبارة أخرى‪:‬‬
‫الملفت للنتباه في اليات أعله‪ ،‬هو أ ّ‬
‫‪.‬للشخاص الذين يجاهدون بالقرآن مظاهر الظلل والنحرافات والتلوثات‬
‫هذا التعبير يبّين المواجهات المنطقية والعقائدية من جهة‪ ،‬ويكشف عن‬
‫]‪[288‬‬
‫‪.‬عظمة مقام القرآن من جهة ُأخرى‬
‫ن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام‪ ،‬والخنس بن شريق بن عمر‬ ‫ورد في بعض الّروايات‪ :‬أ ّ‬
‫بن وهب الثقفي حليف بني زهرة‪ ...‬خرجوا ليلة ليستمعوا إلى رسول ال)صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم( وهو يصلي من الليل في بيته‪ .‬فأخذ كّل رجل منهم مجلسًا يستمع فيه‪ ،‬وكّل ل يعلم بمكان‬
‫صاحبه‪ ،‬فباتوا يستمعون له‪ ،‬حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق‪ ،‬فتلوموا‪ ،‬وقال بعضهم‬
‫لبعض‪ :‬ل تعودوا‪ ،‬فلو رآكم بعض سفهائكم لوقعتم في نفسه شيئًا! ثّم انصرفوا‪ .‬حتى إذا كانت‬
‫الليلة الّثانية عاد كّل رجل منهم إلى مجلسه‪ ،‬فباتوا يستمعون له‪ ،‬حتى إذا طلع الفجر تفرقوا‪،‬‬
‫فجمعهم الطريق‪ ،‬فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أّول مّرة! ثّم انصرفوا‪ .‬حتى إذا كانت الليلة‬
‫الّثالثة أخذ كّل رجل منهم مجلسه‪ ،‬فباتوا يستمعون له‪ ،‬حتى إذا طلع الفجر تفرقوا‪ ،‬فجمعهم‬
‫‪.‬الطريق فقال بعضهم لبعض‪ :‬ل نبرح حتى نتعاهد أل نعود! فتعاهدوا على ذلك‪ ،‬ثّم تفرقوا‬
‫فلّما أصبح الخنس بن شريق أخذ عصاه‪ ،‬ثّم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته‪ ،‬فقال‪ :‬أخبرني ـ يا‬
‫أبا حنظلة ـ عن رأيك فيما سمعت من محّمد‪ .‬فقال‪ :‬يا أبا ثعلبة‪ ،‬وال لقد سمعت أشياء أعرفها‪،‬‬
‫‪.‬وأعرف ما يراد بها‪ ،‬وسمعت أشياء ما عرفت معناها‪ ،‬ول ما يراد بها‬
‫‪.‬قال الخنس‪ :‬وأنا والذي حلفت به‬
‫قال‪ :‬ثّم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل‪ ،‬فدخل عليه بيته‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا الحكم‪ ،‬ما رأيك فيما‬
‫سمعت من محّمد؟‬
‫فقال‪ :‬ماذا سمعت!؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف‪ .‬أطعموا فأطعمنا‪ ،‬وحملوا فحملنا‪،‬‬
‫وأعطوا فأعطينا‪ ،‬حتى إذا تجاثينا على الركب‪ ،‬وكّنا كفرسي رهان‪ ،‬قالوا‪ :‬مّنا نبي يأتيه الوحي‬
‫‪!!.‬من السماء‪ .‬فمتى ندرك مثل هذه؟ وال ل نؤمن به أبدًا ول نصدقه‬
‫]‪[289‬‬
‫)قال‪ :‬فقام عنه الخنس وتركه‪1).‬‬
‫نعم‪ ،‬جاذبية القرآن ردت هؤلء إلى أنفسهم ليالي متوالية‪ ،‬وكانوا حتى بياض الصبح غرقى هذه‬
‫الجاذبية اللهية‪ ،‬لكن التكبر والتعصب والحرص على المصالح المادية كان مسلطًا عليهم بحيث‬
‫‪.‬منعهم من قبول الحق‬
‫ن هذا الّنور اللهي له هذه القدرة على أن يجذب إليه كل قلب مستعد أينما كان‪ ،‬ولهذا‬
‫ول شك أ ّ‬
‫‪.‬كان القرآن وسيلة "الجهاد الكبير" في اليات مورد البحث‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .‬ـ سيرة ابن هشام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ;337‬وفي ظلل القرآن‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪1 172‬‬
‫]‪[290‬‬

‫اليات‬

‫خَذ ِإَلى َرّبهِ‬


‫شآَء َأن َيّت ِ‬
‫جر ِإّل َمن َ‬ ‫ن َأ ْ‬‫عَلْيِه ِم ْ‬
‫سَئُلُكم َ‬
‫شرًا َوَنِذيرًا)‪ُ (56‬قْل َمآ َأ ْ‬ ‫ك ِإّل ُمَب ّ‬
‫سلَنـ َ‬
‫َو َمآ َأْر َ‬
‫خِبيرًا )‪(58‬اّلِذى‬ ‫عَباِدِه َ‬
‫ب ِ‬‫حْمِدِه َوَكَفى ِبِه ِبُذُنو ِ‬
‫ح ِب َ‬
‫سّب ْ‬
‫ت َو َ‬ ‫ى اّلِذى َل َيُمو ُ‬ ‫حّ‬‫عَلى اْل َ‬
‫سِبيل)‪َ (57‬وَتَوّكْل َ‬ ‫َ‬
‫خِبيرًا)‬ ‫سَئْل ِبِه َ‬‫ن َف ْ‬‫حَمـ ُ‬
‫ش اّلر ْ‬
‫عَلى الَعْر ِ‬ ‫سَتَوى َ‬ ‫سّتِة َأّيام ُثّم ا ْ‬
‫ض َوَما َبْيَنُهَما ِفى ِ‬‫ت َواَْلْر َ‬ ‫سَمـَو ِ‬‫ق ال ّ‬‫خَل َ‬
‫َ‬
‫)‪59‬‬

‫الّتفسير‬
‫‪َ:‬أجري هو هدايتكم‬
‫كان الكلم في اليات السابقة حول إصرار الوثنيين على عبادتهم الصنام التي ل تضّر ول تنفع‪،‬‬
‫وفي الية الحالية اُلولى يشير القرآن إلى مهّمة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(قبالة هؤلء‬
‫)المتعصبين المعاندين‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬وما أرسلناك إّل مبشراً ونذيرًا(‪1).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن "مبشر" اسم فاعل فقط‪ ،‬هذا التفاوت ‪1‬‬ ‫ـ "نذير" في اعتقاد البعض صيغة مبالغة‪ ،‬في حين أ ّ‬
‫التعبيري يمكن أن يكون بسبب أن النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( كان في مواجهة فئة بل إيمان‬
‫وكان لها إصرار بالغ على انحرافها‪ ،‬فل بد أن يبالغ في إنذارها‪) .‬روح المعاني ذيل الية مورد‬
‫‪).‬البحث‬
‫]‪[291‬‬
‫إذا لم يتقبل هؤلء دعوتك‪ ،‬فل جناح عليك‪ ،‬فقد أديت مهمتك في البشارة واِلنذار‪ ،‬ودعوت‬
‫‪.‬القلوب المستعدة إلى ال‬
‫هذا الخطاب‪ ،‬كما يشخص مهّمة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬كذلك يسّليه‪ ،‬وفيه نوع من‬
‫‪.‬التهديد لهذه الفئة الضالة‪ ،‬وعدم المبالة بهم‬
‫ثّم يأمر الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أن يقول لهم أنني ل اريد منكم في مقابل هذا القرآن‬
‫وابلغكم رسالة السماء أي أجر وعوض‪) :‬قل ما أسألكم عليه من أجر(ثّم يضيف‪ :‬إن الجر‬
‫‪).‬الوحيد الذي أطلبه أن يهتدي الناس إلى طريق ال )إّل من شاء أن يتخذ إلى رّبه سبيل‬
‫يعني أجري وجزائي هو هدايتكم فقط‪ ،‬وبكامل الرادة والختيار أيضًا‪ ،‬فل إكراه ول إجبار فيه‪،‬‬
‫وكم هو جميل هذا التعبير الكاشف عن غاية لطف ومحبة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫‪.‬لتباعه‪ ،‬ذلك لّنه عّد)‪ (1‬أجره وجزاَءه سعادتهم‬
‫ن للّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أجرًا معنويًا عظيمًا على هداية المة‪ ،‬ذلك لن "الدال‬ ‫بديهي أ ّ‬
‫‪".‬على الخير كفاعله‬
‫سرون احتمالت ُأخرى أيضًا في تفسير هذه الية من جملتها‬ ‫‪:‬و ذكر المف ّ‬
‫ن معنى هذه الية هكذا "أنا ل أريد منكم أي جزاء إّل ما أردتم من‬‫سرين أ ّ‬‫يرى جماعة من المف ّ‬
‫)إنفاق الموال على المحتاجين في سبيل ال‪ ،‬وذلك مرتبط برغبتكم"‪2).‬‬
‫ن الّتفسير الّ‪.‬ل ‪.‬قرب إلى معنى الية‬ ‫‪.‬لك ّ‬
‫ن الضمير في "عليه" يرجع إلى القرآن وتبليغ دين اِلسلم‪ ،‬لن الكلم‬ ‫اّتضح مّما قلناه أعله‪ ،‬أ ّ‬
‫‪.‬كان في عدم المطالبة بالجر والجزاء في مقابل هذه الدعوة‬
‫هذه الجملة باِلضافة إلى أّنها تقطع حجج المشركين‪ ،‬فهي توضح أن قبول‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن بدا منقطًا لول وهلة ‪1‬‬
‫‪.‬ـ بناء على هذا فالستثناء في الية أعله "استثناء متصل" وإ ْ‬
‫‪".‬ـ الستثناء في هذه الحالة "استثناء منقطع ‪2‬‬
‫]‪[292‬‬
‫‪.‬هذه الدعوة اِللهية سهل ويسير جّدا لكل أحد‪ ،‬بل مشّقة ول خسارة‬
‫وهذا بنفسه شاهد على صدق دعوة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬ونقاء فكره ومنهجه‪ ،‬وذلك‬
‫لنّ الدعياء الكاذبين لبّد أن ُيدخلوا في هذا العمل رغبتهم في الجر والجزاء بصورة مباشرة أو‬
‫‪.‬غير مباشرة‬
‫و تبّين الية التي بعدها المعتمد الساس للّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪) :‬وتوكل على الحي‬
‫‪).‬الذي ل يموت‬
‫فمع هذا المعتمد والملجأ والمولى الذي ما زال ولن يزال حيًا دائمًا‪ ،‬فل حاجة لك بأجر وجزاء‬
‫‪.‬هؤلء‪ ،‬ول خوف عليك من ضررهم ومؤامراتهم‬
‫والن حيث المر على هذه الصورة فسبح ال تنزيهًا له من كل نقص‪ ،‬وأحمده إزاء كل هذه‬
‫‪).‬الكمالت )وسبح بحمده‬
‫ن تعالى هو المنّزه من كل عيب‬ ‫من الممكن اعتبار هذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬ونقص‪ ،‬وأهٌل لكل كمال وجمال‪ ،‬وحقيق بالتوكل عليه‬
‫ن ال مطلع على ذنوب عباده‬ ‫ثّم يضيف القرآن الكريم‪ :‬ل تقلق من بهتان ومؤامرات العداء‪ ،‬ل ّ‬
‫‪).‬وسيحاسبهم‪) :‬وكفى به بذنوب عباده خبيرًا‬
‫الية التالية بيان لقدرة الخالق في ساحة عالم الوجود‪ ،‬ووصف آخر لهذا الملذ المين‪ ،‬يقول‬
‫تعالى‪) :‬الذي خلق السماوات والرض وما بينهما في ستة أّيام(‪ .‬ثّم )استوى على العرش( فأخذ‬
‫‪.‬بتدبير العالم‬
‫ن من له هذه القدرة الواسعة يستطيع أن يحفظ المتوكلين عليه من كل خطر وحادثة‪ ،‬فكما أ ّ‬
‫ن‬ ‫إّ‬
‫ن إدارة وقيادة وتدبير ذلك العالم بأمر ذاته المقدسة‬‫‪.‬خلق العالم كان بواسطة قدرته‪ ،‬كذلك فإ ّ‬
‫ن ال ل يعجل في أي عمل‪ ،‬فإذا لم يجاز أعداءك‬ ‫ن خلق العالم بشكل تدريجي إشارة إلى أ ّ‬ ‫ضمنًا‪ ،‬فإ ّ‬
‫سريعًا‪ ،‬فلجل أن يمنحهم الفسحة والفرصة حتى يأخذوا بإصلح أنفسهم‪ ،‬فضل عن أن من يعجل‬
‫هو من يخاف الفوت‪ ،‬وهذا غير‬
‫]‪[293‬‬
‫‪.‬متصور بالنسبة إلى ال القادر المتعال‬
‫ن "اليوم" في مثل هذه الموارد بمعنى "المرحلة"‪،‬‬
‫في مسألة خلق عالم الوجود في ستة أّيام‪ ،‬فإ ّ‬
‫أو الفترة الزمنية وهذه الفترة من الممكن أن تستغرق مليين أو مليارات من السنين‪ ،‬وشواهد‬
‫هذا المعنى في الدب العربي وغيره كثيرة‪ ،‬بحثناه بشكل مفصل في تفسير الية )‪ (54‬من سورة‬
‫‪.‬العراف‪ ،‬وشرحنا هناك هذه المراحل الست‬
‫ن معنى "العرش" وجملة )استوى على العرش( وردت هناك أيضًا‬ ‫‪.‬و أيضًا فإ ّ‬
‫وفي ختام الية يضيف تعالى‪) :‬الرحمن(‪ :‬من شملت رحمته العاّمة جميع الموجودات‪ ،‬فالمطيع‬
‫‪.‬والعاصي والمؤمن والكافر يغترفون من خوان نعمته التي ل انقطاع فيها‬
‫والن‪ ،‬حيث رّبك الرحمن القادر المقتدر‪ ،‬فإذا أردت شيئًا فاطلب منه فإّنه المطلع على احتياجات‬
‫‪).‬جميع عباده‪) :‬فاسأل به خبيرًا‬
‫هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ نتيجة لمجموع البحوث السابقة‪ .‬يأمر ال الّنبي)صلى ال عليه وآله‬
‫ن لهم أّنني ل أريد منكم أجرًا‪ ،‬وتوكل على ال الجامع لكل الصفات‪ ،‬القادر‪ ،‬والرحمن‪،‬‬ ‫وسلم(‪ :‬أعِل ْ‬
‫‪.‬والخبير‪ ،‬والمطلع‪ ،‬وأطلب منه أي شيء تريده‬
‫سرين أقوال ُأخرى في تفسير هذه الجملة‪ ،‬فقد جعلوا السؤال هنا بمعنى الستفهام )ل الطلب(‪،‬‬ ‫للمف ّ‬
‫وقالوا‪ :‬إن مفهوم الجملة هو‪ :‬إذا أردت أن تسأل في موضوع خلق الوجود وقدرة الخالق‪ ،‬فاسأله‬
‫‪.‬هو‪ ،‬فهو العالم بكل شيء‬
‫بعض آخر‪ ،‬بالضافة إلى أّنهم فسروا "السؤال" بـ "الستفهام" قالوا‪ :‬إن المقصود بـ "الخبير"‬
‫‪.‬جبرئيل‪ ،‬أو الّنبي‪ ،‬يعني‪ :‬إسألهما عن صفات ال‬
‫الّتفسير الخير بعيد جّدا بالتأكيد‪ ،‬وما قبله أيضًا غير متناسب كثيرًا مع اليات السابقة‪ ،‬والقرب‬
‫هو ما قلناه في معنى الية من أن المقصود من السؤال‬
‫]‪[294‬‬
‫)هو الطلب من ال‪1).‬‬
‫***‬

‫مسألتان‬
‫ـ أجر الرسالة ‪1‬‬
‫ن أنبياء ال كانوا يبّينون هذه الحقيقة بصراحة‪ :‬إّننا ل نسأل أي‬ ‫نقرأ في كثير من آيات القرآن أ ّ‬
‫ن أجرنا على ال العظيم فقط‬ ‫‪.‬أجر من أي أحد‪ ،‬بل إ ّ‬
‫اليات ‪ 109‬و‪ 127‬و‪ 145‬و‪ 164‬و‪ 180‬سورة الشعراء‪ ،‬وكذلك اليات ‪ 29‬و ‪ 51‬سورة هود‪،‬‬
‫‪.‬والية ‪ 72‬سورة يونس و‪ 47‬سورة سبأ‪ ،‬تدل على هذا المعنى‬
‫ل شك أن عدم المطالبة بالجر هذه‪ ،‬تدفع كل اتهام عن النبياء‪ ،‬فضل عن أّنهم يستطيعون أن‬
‫يواصلوا عملهم بحرية تامة‪ ،‬وترتفع الموانع والحواجز التي قد تحدد من حرية ألسنتهم بسبب‬
‫‪.‬العلقة المادية‬
‫حظ ثلثة تعابير مختلفة فيما يخص الّرسول العظم)صلى ال عليه وآله‬ ‫أّما الملفت للنتباه فإّنه تل َ‬
‫‪).‬وسلم‬
‫ل من شاء أن يتخذ إلى رّبه ‪1‬‬ ‫ـ التعبير الذي ورد في اليات أعله )قل ما أسألكم عليه من أجر إ ّ‬
‫‪.‬سبيل( هذا التعبير الفذ البليغ الرائع‬
‫ل المودة في ‪2‬‬ ‫ـ التعبير الوارد في الية )‪ (23‬من سورة الشورى )قل ل أسألكم عليه أجرًا إ ّ‬
‫‪).‬القربى‬
‫ل‪3‬‬‫ـ التعبير الوارد في الية )‪ (47‬من سورة سبأ )قل ما سألتكم من أجر فهو لكم‪ ،‬إن أجري إ ّ‬
‫‪).‬على ال‬
‫من أنضمام هذه التعابير الثلثة إلى بعضها‪ ،‬تتحصل النتيجة التالية‪ :‬فيما يخص‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫لخرى‪ ،‬فإن "الباء" بمعنى ‪1‬‬
‫ـ طبقًا لهذا الّتفسير فـ "الباء" في "به" زائدة‪ ،‬أّما طبقًا للتفاسير ا ُ‬
‫‪"".‬عن‬
‫]‪[295‬‬
‫عّدت المودة في القربى أجر رسالته‪ ،‬فهذه المودة‬ ‫الّرسول العظم)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬إذا ُ‬
‫ـ من جانب ـ في نفع المؤمنين أنفسهم ل بنفع الّنبي‪ .‬ومن جانب آخر فإن هذه المودة وسيلة‬
‫‪.‬حصول الهداية على طريق ال تبارك وتعالى‬
‫ن مجموع هذه اليات يشير إلى أن المودة في قربى رسول ال)صلى ال عليه‬ ‫بناء على هذا‪ ،‬فإ ّ‬
‫وآله وسلم( هي استمرار منهج رسالة وقيادة ذلك الّنبي‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬لمواصلة طريق‬
‫الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وهدايته وقيادته يجب الرتباط بذوي قرباه‪ ،‬والعتماد على‬
‫قيادتهم‪ ،‬هذا هو المر الذي يدافع عنه اتباع أهل البيت في مسألة المامة‪ ،‬فإّنهم يعتقدون أن‬
‫‪.‬امتداد القيادة بعد الّنبي سيستمر إلى البد‪ ،‬ل في شكل النبّوة‪ ،‬بل في شكل المامة‬
‫و من اللزم اللتفات إلى هذه النكتة أيضًا‪ ،‬وهي أن المحبة عامل مؤثر في التباع‪ ،‬كما نقرأ في‬
‫‪.‬الية )‪ (31‬من سورة آل عمران‪) :‬قل إن كنتم تحّبون ال فاتبعوني‪ (...‬ذلك لّني المبلغ بأمره‬
‫ورابطة الحب من حيث الصل‪ ،‬تأخذ النسان باتجاه المحبوب وإراداته‪ ،‬وكلما كانت رابطة الحب‬
‫أكثر قّوة‪ ،‬كانت هذه الجاذبية قوية أكثر‪ .‬خصوصًا المحّبة التي يكون دافعها كمال "المحبوب"‪،‬‬
‫ويكون الحساس بهذا الكمال سببًا في أن يسعى النسان ليتقرب إلى مبدأ الكمال وإلى تنفيذ‬
‫)إراداته‪1).‬‬

‫ـ على من يجب التوكل؟ ‪2‬‬


‫في اليات أعله‪ ،‬يأمر ال تبارك وتعالى الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( بالتوكل‪ ،‬وأن يصرف‬
‫‪.‬النظر عن جميع المخلوقات‪ ،‬وينظر إلى ال عّزوجّل فقط‬
‫ولذلك يعدد صفات لهذه الذات المقدسة‪ ،‬هي في الحقيقة شرائط أساسية‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ من أجل توضيح أكثر في هذا الصدد‪ ،‬راجع الّتفسير المثل )ذيل الية ‪ 31‬سورة آل عمران ‪1‬‬
‫]‪[296‬‬
‫‪.‬فيمن يستطيع أن يكون ملذًا واقعيًا وآمنًا للناس‬
‫ن موجودًا ميتًا فاقدًا لخصائص الحياة ـ مثل الصنام ـ ل يمكنه‬‫اُلولى‪ :‬هي أن يكون حيًا‪ ،‬وذلك أ ّ‬
‫‪.‬أبدًا أن يكون معتمدًا‬
‫‪.‬الّثانية‪ :‬هي أن تكون حياته خالدة‪ ،‬بالشكل الذي ل يحدث احتمال موته تزلزل في فكر المتوكلين‬
‫الّثالثة‪ :‬هي أن يحيط بكل شيء علمًا‪ ،‬فيكون مطلعًا على احتياجات المتوكلين‪ ،‬وعلى خطط‬
‫‪.‬ومؤامرات العداء أيضًا‬
‫الّرابعة‪ :‬هي أن يكون على كل شيء قديرًا‪ ،‬حيث ل وجود فيه لي شكل من العجز وعدم‬
‫‪.‬الستطاعة الموجبين لضعف هذا الملجأ‬
‫‪.‬الخامسة‪ :‬هي أن تكون الحاكمية له على جميع اُلمور‪ ،‬وإدارتها بيده المقتدرة‬
‫ونحن نعلم أن هذه الصفات ليست إّل ل تبارك وتعالى‪ ،‬ولهذا فهو وحده الملجأ الباعث على‬
‫‪.‬الطمئنان الذي ل يتزلزل أمام كل الحوادث‬
‫***‬
‫]‪[297‬‬

‫اليات‬
‫جُد ِلَما َتْأُمُرَنا َوَزاَدُهْم ُنُفورًا)‪َ (60‬تَباَركَ‬
‫سُ‬
‫ن َأَن ْ‬
‫حَمـ ُ‬
‫ن َقاُلوْا َوَما الّر ْ‬
‫حَمـ ِ‬
‫جُدوْا ِللّر ْ‬
‫سُ‬‫َوِإَذا ِقيَل َلُهُم ا ْ‬
‫جَعَل اّلْيَل َوالّنَهاَر‬
‫سرجًا َوَقَمرًا ّمِنيرًا)‪َ (61‬وُهَو اّلِذى َ‬ ‫جَعَل ِفيها ِ‬ ‫سَمآِء ُبُروجًا َو َ‬ ‫جَعَل ِفى ال ّ‬ ‫اّلِذى َ‬
‫شُكورًا)‪62‬‬ ‫ن َأَراَد َأن َيّذّكَر َأْو أَراَد ُ‬
‫)خِْلَفًة ّلَم ْ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬البروج السماوية‬
‫كان الكلم في اليات الماضية عن عظمة وقدرة ال‪ ،‬وعن رحمته أيضًا‪ ،‬ويضيف ال تعالى في‬
‫‪).‬الية اُلولى هنا‪) :‬وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن‬
‫نحن ل نعرف "الرحمن" أصل‪ ،‬وهذه الكلمة ليس لها مفهوم واضح عندنا‪) ،‬أنسجد لما تأُمرنا(‬
‫نحن ل نخضع لي أحد‪ ،‬وسوف لن نكون أتباع أمر هذا أو ذاك )وزادهم نفورًا( اي أّنهم يتكلمون‬
‫‪.‬بهذا الكلم ويزدادون ابتعادًا ونفورًا عن الح ّ‬
‫ق‬
‫ن أنسب اسم من أسماء ال للدعوة إلى الخضوع والسجود بين يديه‬ ‫كأّ‬‫‪،‬ل ش ّ‬
‫]‪[298‬‬
‫هو ذلك السم الممتلىء جاذبية "الرحمن" مع مفهوم رحمته العاّمة الواسعة‪ ،‬لكن أولئك بسبب‬
‫عمى قلوبهم ولجاجتهم‪ ،‬لم يظهروا تأثرًا حيال هذه الدعوة‪ ،‬بل تلقوها بالسخرية والستهزاء‪،‬‬
‫وقالوا على سبيل التحقير‪) :‬وما الرحمن( كما قال فرعون حيال دعوة موسى)عليه السلم(‪) :‬وما‬
‫رب العالمين(‪ (1).‬فهؤلء لم يكونوا على استعداد حتى ليقولوا‪" :‬ومن الرحمن" أو "من ر ّ‬
‫ب‬
‫‪".‬العالمين‬
‫سرين يرى أن اسم "الرحمن" لم يكن مأنوسًا بين عرب الجاهلية‪ ،‬وحينما‬ ‫ورغم أن بعض المف ّ‬
‫سمعوا هذا الوصف من الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( طرحوا هذا السؤال على سبيل التعجب‬
‫واقعًا‪ ،‬حتى كان يقول البعض منهم‪" :‬ما نعرف الرحمن إّل رجل باليمامة" )يعنون به مسيلمة‬
‫‪").‬الكذاب الذي ادعى النبّوة كذبًا‪ ،‬وعرفه وقومه بهذا السم "الرحمن‬
‫ن مادة هذا السم وصيغته كلهما عربيان‪ ،‬وكان الّنبي)صلى ال عليه‬ ‫لكن هذا القول بعيد جّدا‪ ،‬ل ّ‬
‫وآله وسلم( يتلو ـ دائمًا ـ في بداية السور القرآنية‪ ،‬الية )بسم ال الرحمن الرحيم(وعلى هذا فلم‬
‫يكن هدف ُأولئك إّل التحجج والسخرية‪ ،‬والعبارة التالية شاهد على هذه الحقيقة أيضًا لنهم‬
‫‪).‬يقولون‪) :‬أنسجد لما تأمرنا‬
‫ن عمي القلوب من المعاندين‬‫وبما أن تعاليم القادة اللهيين تؤثر في القلوب المؤهلة فقط‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن آيات القرآن كقطرات المطر الباعثة على‬ ‫مضافًا الى عدم انتفاعهم بها‪ ،‬فإّنها تزيدهم نفورًا ل ّ‬
‫الحياة تنمي الورد والخضرة في البستان‪ ،‬والشوك في الرض السبخة‪ ،‬ولذا ل مجال للتعجب حيث‬
‫)يقول‪) :‬وزادهم نفورًا(‪2).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة الشعراء‪ ،‬الية ‪1 23‬‬
‫ن فاعل )زاد( هو ذلك المر بالسجود الذي ترك أثرًا معكوسًا في أولئك المرضى ‪2‬‬ ‫ـ على هذا فإ ّ‬
‫ن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( سجد بعد هذا الكلم وسجد‬ ‫سرين أ ّ‬ ‫قلوبهم‪ ،‬وإن نقل بعض المف ّ‬
‫المؤمنون أيضًا‪ ،‬فسّبب هذا ابتعاد ُأولئك أكثر‪ ،‬بناء على هذا ففاعل )زاد( السجدة‪ ،‬لكن المعنى‬
‫حة‬‫‪.‬الّول أكثر ص ّ‬
‫]‪[299‬‬
‫الية التالية إجابة على سؤالهم حيث كانوا يقولون‪" :‬وما الرحمن"‪ ،‬وإن كانوا يقولون هذا على‬
‫سبيل السخرية‪ ،‬لكن القرآن يجيبهم إجابة جادة‪ ،‬يقول تعالى‪) :‬تبارك الذي جعل في السماء‬
‫‪).‬بروجاً‬
‫البروج" جمع "برج" في الصل بمعنى "الظهور" ولذا يسمون ذلك القسم العلى والظهر من"‬
‫جدار أطراف المدينة أو محل تجمع الفرقة العسكرية "برج"‪ ،‬ولهذا أيضًا يقال حينما تظهر المرأة‬
‫‪.‬زينتها "تبرجت المرأة"‪ ،‬وهذه الكلمة تطلق أيضًا على القصور العالية‬
‫صة حيث تستقر الشمس والقمر‬ ‫على أية حال‪ ،‬فالبروج السماوية‪ ،‬إشارة إلى الصور الفلكية الخا ّ‬
‫في كل فصل وكل موضع من السنة إزاء واحد منها‪ ،‬يقولون مثل‪ :‬استقرت الشمس في برج‬
‫"الحمل" يعني أّنها تكون بمحاذاة "الصورة الفلكية"‪" ،‬الحمل"‪ ،‬أو القمر في "العقرب" يعني‬
‫وقفت كرة القمر أمام الصورة الفلكية "العقرب" )تطلق الصورة الفلكية على مجموعة من النجوم‬
‫‪).‬لها شكل خاص في نظر المشاهد‬
‫بهذا الترتيب‪ ،‬أشارت الية إلى منازل الشمس والقمر السماوية‪ ،‬وتضيف على أثر ذلك‪) :‬وجعل‬
‫‪).‬فيها سراجًا وقمرًا منيرًا()‪1‬‬
‫تبّين هذه الية النظم الدقيق لسير الشمس والقمر في السماء )و بديهي أن هذه التغييرات في‬
‫الحقيقة ترتبط بدوران الرض حول الشمس دائمًا(‪ .‬والنظام الفذ الدقيق الذي يحكمهما مليين‬
‫السنين بل زيادة أو نقصان‪ ،‬بالشكل الذي يستطيع الفلكيون ـ أحيانًا ـ أن يتنبؤا‪ .‬قبل مئات السنين‬
‫بوضع حركة الشمس والقمر في يوم معين وساعة معينة بالنسبة إلى مئات السنين التية‪ ،‬هذا‬
‫النظام الحاكم على هذه الفلك السماوية العظيمة شاهد ناطق على وجود الخالق المدبر‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن‪1‬‬ ‫ن ضمير "فيها" يرجع إلى البروج‪ ،‬وينبغي أن يكون هكذا‪ ،‬ذلك ل ّ‬ ‫ـ طبقًا للتفسير أعله‪ ،‬فإ ّ‬
‫الموضوع المهم هو دوران الشمس والقمر ضمن نظام خاص في البروج‪ :‬وليس وجود البروج‬
‫‪.‬في السماء فقط‬
‫]‪[300‬‬
‫‪.‬والمدير لعالم الوجود الكبير‬
‫مع هذه الدلئل الواضحة‪ ،‬ومع هذه المنازل البديعة والدقيقة للشمس والقمر‪ ،‬فهل مازلتم تجهلونه‬
‫وتقولون‪" :‬وما الرحمن"!؟‬
‫ن القمر بصفة "منير"؟ فمن الممكن أن يكون دليله أن‬ ‫أّما لماذا سميت الشمس‪" ،‬سراجًا"‪ ،‬وُقِر َ‬
‫"السراج" بمعنى المنبع الضوئي الذي نوره مستمٌد من ذاته وهذا ينطبق على حال الشمس‪ ،‬حيث‬
‫أنّ من المسلمات العلمية طبقًا للتحقيقات أن نورها من نفسها‪ .‬بخلف القمر الذي نوره من ضياء‬
‫الشمس‪ ،‬ولذا وصفه بـ "المنير" الذي يستمد نوره من غيره دائمًا‪) ،‬في الّتفسير المثل‪ ،‬أوردنا‬
‫‪).‬القول مفصل في هذا الصدد‪ ،‬ذيل الية ‪ 5‬و ‪ 6‬سورة يونس‬
‫في الية الخيرة‪ ،‬يواصل القرآن الكريم التعريف بالخالق سبحانه‪ ،‬ويتحدث مّرة ُأخرى في قسم‬
‫آخر من نظام الوجود‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬و هو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكر أو‬
‫‪).‬أراد شكورًا‬
‫هذا النظام البديع الحاكم على الليل والنهار‪ ،‬حيث يعقب أحدهما الخر متناوبين متواصلين على‬
‫هذا النظم مليين السنين‪ ...‬النظم الذي لوله لنعدمت حياة النسان نتيجًة لشدة النور والحرارة أو‬
‫الظلمة والعتمة‪ ،‬وهذا دليل رائع للذين يريدون أن يعرفوا ال عّزوجّل‬
‫ومن المعلوم أن نشوء نظام "الليل" و "النهار" نتيجة لدوران الرض حول الشمس‪ ،‬وأن‬
‫تغيراتهما التدريجية والمنظمة‪ ،‬حيث ينقص من أحدهما ويزاد في الخر دائمًا بسبب ميل محور‬
‫‪.‬الرض عن مدارها مّما يؤدي لوجود الفصول الربعة‬
‫فإذا دارت كرتنا الرضية في حركتها الدورانية أسرع أو أبطأ من دورانها الفعلي ففي احدى‬
‫ن الشمس تحرق‬ ‫الصور تطول الليالي الى درجة أّنها تجمد كل شيء‪ ،‬ويطول النهار الى درجة أ ّ‬
‫ن الفاصلة‬
‫كل شيء ‪ ...‬وفي صورة اخرى فإ ّ‬
‫]‪[301‬‬
‫ن القّوة المركزية الطاردة‬
‫القصيرة بين الليل والنهار كانت ستبطل تأثيرهما وفائدتهما‪ .‬فضل عن أ ّ‬
‫‪.‬كانت سترتفع بحيث ستقذف جميع الموجودات الرضية بعيدًا عن الكرة الرضية‬
‫ن التأمل في هذا النظام يوقظ فطرة معرفة ال في النسان من جهة )ولعل التعبير‬ ‫والخلصة أ ّ‬
‫بالتذكر والتذكير إشارة إلى هذه الحقيقة(‪ ،‬ومن جهة ُأخرى ُيحي روح الشكر فيه‪ ،‬وقد ُأشير إلى‬
‫‪).‬ذلك بقوله تعالى‪) :‬أو أراد شكورًا‬
‫الجدير بالذكر أّننا نقرأ في بعض الّروايات التي نقلت عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أو‬
‫الئّمة المعصومين في تفسير الية‪ ،‬أن تعاقب الليل والنهار من أجل أن النسان إذا أهمل اداء‬
‫واجب من واجباته تجاه ال سبحانه وتعالى فإّنه بإمكانه جبرانه أو قضاءه في الوقت الخر‬
‫منهما‪ .‬هذا المعنى من الممكن أن يكون تفسيرًا ثانيًا للية‪ ،‬ومّما سبق من كون اليات القرآنية‬
‫‪.‬ذات بطون‪ ،‬فل منافاة بين هذا المعنى والمعنى الّول أيضًا‬
‫وفي ذلك ورد في حديث عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قال‪" :‬كّل ما فاتك بالليل فاقضه‬
‫بالنهار‪ ،‬قال ال تبارك وتعالى‪) :‬وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد‬
‫)شكورًا( يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار‪ ،‬وما فاته بالنهار بالليل"‪1).‬‬
‫‪).‬نفس هذا المعنى نقله "الفخر الرازي" عن الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ من ل يحضره الفقيه‪ ،‬طبقًا لنقل نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ 4‬ذيل الية ‪1‬‬
‫]‪[302‬‬

‫اليات‬

‫سَلـمًا)‪َ (63‬واّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫ن َقاُلوْا َ‬ ‫جـِهُلو َ‬‫طَبُهُم اْل َ‬
‫خا َ‬‫ض َهْونًا َوِإَذا َ‬ ‫عَلى اَْلْر ِ‬ ‫ن َ‬
‫شو َ‬‫ن َيْم ُ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫حَمـ ِ‬
‫َوعَِباُد الّر ْ‬
‫ن‬
‫عَذاَبَها َكا َ‬
‫ن َ‬ ‫جَهّنَم ِإ ّ‬‫ب َ‬‫عَذا َ‬‫ف عَّنا َ‬ ‫صِر ْ‬ ‫ن َرّبَنا ا ْ‬ ‫ن َيقُوُلو َ‬
‫جدًا َوِقيمًا)‪َ (64‬واّلِذي َ‬ ‫سّ‬ ‫ن ِلَرّبِهْم ُ‬
‫َيِبيُتو َ‬
‫ن َبْي َ‬
‫ن‬ ‫سِرُفوْا َوَلْم َيْقُتُروْا َوَكا َ‬
‫ن ِإَذآ َأنَفُقوْا َلْم ُي ْ‬
‫سَتَقّرا َوُمَقامًا)‪َ (66‬واّلِذي َ‬ ‫ت ُم ْ‬
‫سآَء ْ‬‫غَرامًا)‪ِ (65‬إّنَها َ‬ ‫َ‬
‫ك َقَوامًا)‪67‬‬ ‫)ذِل َ‬

‫الّتفسير‬
‫صة لعباد الرحمن‬
‫‪:‬الصفات الخا ّ‬
‫صة لعباد الرحمن‪ ،‬إكمال لليات‬
‫هذه اليات ـ فما بعد ـ تستعرض بحثًا جامعًا فذًا حول الصفات الخا ّ‬
‫الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم ال "الرحمن" يقولون وملء رؤوسهم‬
‫استهزاء وغرور "وما الرحمن"؟ ورأينا أن القرآن يعّرف لهم "الرحمن" ضمن آيتين‪ ،‬وجاء‬
‫‪".‬الدور الن ليعّرف "عباد الرحمن‬
‫صة‪ ،‬حيث يرتبط بعضها بالجوانب العتقادية‪،‬‬ ‫تبّين هذه اليات اثنتي عشرة صفة من صفاتهم الخا ّ‬
‫وبعض منها أخلقي‪ ،‬ومنها ما هو إجتماعي‪ ،‬بعض منها‬
‫]‪[303‬‬
‫‪.‬يتعلق بالفرد‪ ،‬وبعض آخر بالجماعة‪ ،‬وهي أّول وآخرًا مجموعة من أعلى القيم النسانية‬
‫)يقول تعالى‪) :‬وعباد الرحمن الذين يمشون على الرض هونًا(‪1).‬‬
‫إن أول صفة لـ‪" :‬عباد الرحمن" هو نفي الكبر والغرور والتعالي‪ ،‬الذي يبدو في جميع أعمال‬
‫ن الملكات الخلقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال‬ ‫النسان حتى في طريقة المشي‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬وحركات النسان بحيث أن من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلقه ـ بدّقة ـ من أسلوب مشيته‬
‫‪.‬نعم‪ ،‬إّنهم متواضعون‪ ،‬والتواضع مفتاح اليمان‪ ،‬في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر‬
‫لقد رأينا بُأم أعيننا في الحياة اليومية‪ ،‬وقرأنا مرارًا في آيات القرآن أيضًا‪ ،‬أن المتكبرين‬
‫المغرورين لم يكونوا مستعدين حتى ليصغوا إلى كلم القادة اللهيين‪ ،‬كانوا يتلقون الحقائق‬
‫بالسخرية‪ ،‬ولم تكن رؤيتهم أبعد من أطراف ُأنوفهم‪ُ ،‬ترى أيمكن أن يجتمع اليمان في هذه الحال‬
‫!مع الكبر؟‬
‫نعم‪ ،‬هؤلء المؤمنون‪ ،‬عباد ربهم الرحمن‪ ،‬والعلمة اُلولى لعبوديتهم هو التواضع‪ ...‬التواضع‬
‫‪.‬الذي نفذ في جميع ذرات وجودهم‪ ،‬فهو ظاهر حتى في مشيتهم‬
‫ن إحدى أهم القواعد التي يأمر ال بها نبّيه هي )ول تمش في الرض مرحًا‪ ،‬إّنك لن‬ ‫فإذا رأينا أ ّ‬
‫‪.‬تخرق الرض ولن تبلغ الجبال طول()‪ (2‬فلنفس هذا السبب أيضًا‪ ،‬وهو أن التواضع روح اليمان‬
‫حّقا إذا كان للنسان أدنى معرفة بنفسه وبعالم الوجود‪ ،‬فسيعلم كم هو ضئيل‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "هون" مصدر‪ ،‬وهو بمعنى الناعم والهادي المتواضع‪ ،‬واستعمال المصدر في معنى اسم ‪1‬‬
‫‪.‬الفاعل هنا للتوكيد‪ ،‬يعني أّنهم في ما هم عليه كأّنهم عين الهدوء والتواضع‬
‫‪.‬ـ سورة السراء‪ ،‬الية ‪2 37‬‬
‫]‪[304‬‬
‫حيال هذا العالم الكبير‪ ،‬حتى وإن كانت رقبته كالجبال‪ ،‬فإن أعلى جبال الرض أمام عظمة الرض‬
‫أقل من تعرجات قشر )النارنج( بالنسبة إليها‪ ،‬تلكم الرض التي هي نفسها ل شيء بالنسبة الى‬
‫‪.‬الفلك العظيمة‬
‫ترى أليست هذه الحالة من الكبر والغرور‪ ،‬دليل على الجهل المطلق!؟‬
‫نقرأ في حديث رائع عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬أّنه كان يعبر أحد الزقة يومًا ما‪ ،‬فرأى‬
‫جماعة من الناس مجتمعين‪ ،‬فسألهم عن سبب ذلك فقالوا‪ :‬مجنون شغل الناس بأعمال جنونية‬
‫مضحكة‪ ،‬فقال‪ :‬رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ :‬أتريدون أن أخبركم من هو المجنون حقًا‪،‬‬
‫فسكتوا وأنصتوا بكل وجودهم فقال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪" :‬المتبختر في مشيه‪ ،‬الناظر في‬
‫عطفيه‪ ،‬المحرك جنبيه بمنكبيه‪ ،‬الذي ل يرجى خيره ول يؤمن شّره‪ ،‬فذلك المجنون‪ ،‬وهذا‬
‫‪!".‬مبتلى‬
‫الصفة الّثانية لـ "عباد الرحمن" الحلم والصبر‪ ،‬كما يقول القرآن في مواصلته هذه الية )وإذا‬
‫‪).‬خاطبهم الجاهلون قالوا سلمًا‬
‫‪.‬السلم الذي هو علمة اللمبالة المقترنة بالعظمة‪ ،‬وليس الناشيء عن الضعف‬
‫السلم دليل عدم المقابلة بالمثل حيال الجهلة الحمقى‪ ،‬سلم الوداع لقوالهم غير المتروية‪ ،‬ليس‬
‫‪.‬سلم التحية الذي هو علمة المحبة ورابطة الصداقة‬
‫‪.‬والخلصة‪ ،‬أنه السلم الذي هو علمة الحلم والصبر والعظمة‬
‫نعم‪ ،‬المظهر الخر من مظاهر عظمتهم الروحية‪ ،‬هو التحمل وسعة الصدر اللذين بدونهما سوف‬
‫ل يطوي أي إنسان طريق "العبودية ل" الصعب الممتلىء بالعقبات‪ ،‬خصوصًا في المجتمعات‬
‫‪.‬التي يكثر فيها الفاسدون و"مفسدون" وجهلة‬
‫وتتناول الية الّثانية‪ ،‬خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة ل‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬والذين يبيتون‬
‫‪).‬لرّبهم سجدًا وقيامًا‬
‫‪،‬في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة‪ ،‬وحيث ل مجال للتظاهر والرياء‬
‫]‪[305‬‬
‫حّرموا على أنفسهم لذة النوم‪ ،‬ونهضوا إلى ما هو ألّذ من ذلك‪ ،‬حيث ذكُر ال والقيام والسجود‬
‫بين يدي عظمته عّزوجّل‪ ،‬فيقضون شطرًا من الليل في مناجاة المحبوب‪ ،‬فينورون قلوبهم‬
‫‪.‬وأرواحهم بذكره وباسمه‬
‫ورغم أن جملة "يبيتون" دليل على أّنهم يقضون الليل بالسجود والقيام إلى الصباح‪ ،‬لكن المعلوم‬
‫ن ذلك يكون في بعض‬ ‫أنّ المقصود هو شطر كبير من الليل‪ ،‬وإن كان المقصود هو كل الليل فإ ّ‬
‫‪.‬الموارد‬
‫كما أن تقديم "السجود" على "القيام" بسبب أهميته‪ ،‬وإن كان القيام مقّدم على السجود عمليًا في‬
‫)حال الصلة‪1).‬‬
‫الصفة الّرابعة لهم هي الخوف من العذاب اللهي )والذين يقولون رّبنا اصرف عّنا عذاب جهنم إ ّ‬
‫ن‬
‫‪).‬عذابها كان غرامًا(‪ .‬أي شديدًا ومستديمًا‪) .‬إّنها ساءت مستقرًا ومقامًا‬
‫ن‬
‫و مع أّنهم مشتغلون بذكر ال وعبادته في الليالي‪ ،‬ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم‪ ،‬فإ ّ‬
‫قلوبهم أيضًا مملوءة بالخوف من المسؤوليات‪ ،‬ذلك الخوف الباعث على القّوة في الحركة أكثر‬
‫وأفضل باتجاه أداء التكاليف‪ ،‬ذلك الخوف الذي يوجه النسان من داخله كشرطي قوي‪ ،‬فينجز‬
‫تكاليفه على النحو الحسن دون أن يكون له آمر ورقيب‪ ،‬في ذات الوقت الذي يرى نفسه مقصرًا‬
‫‪.‬أمام ال‬
‫كلمة "غرام" في الصل بمعنى المصيبة‪ ،‬واللم الشديد الذي ل يفارق النسان‪ .‬ويطلق "الغريم")‬
‫‪ (2.‬على الشخص الدائن‪ ،‬لّنه يلزم النسان دائمًا من أجل أخذ حّقه‬
‫ويطلق "الغرام" أيضًا على العشق والعلقة المتوقدة التي تدفع النسان بإصرار باتجاه عمل أو‬
‫ن عذابها‬
‫شيء آخر‪ ،‬وتطلق هذه الكلمة على "جهنم" ل ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن "سجدًا" جمع "ساجد"‪" ،‬وقيامًا" جمع "قائم ‪1‬‬ ‫‪".‬ـ ينبغي النتباه إلى أ ّ‬
‫‪).‬ـ تطلق "الغريم" على "الدائن" و"المدين" أيضًا‪) .‬لسان العرب مادة غرم ‪2‬‬
‫]‪[306‬‬
‫‪.‬شديد ودائم ل يزول‬
‫ولعل الفرق بين "مستقرًا" و"مقامًا" أن جهنم مكان دائم للكافرين فهي لهم "مقام"‪ ،‬ومكان‬
‫‪.‬مؤقت للمؤمنين‪ ،‬أي "مستقر"‪ ،‬وبهذا الترتيب يكون قد ُأشير إلى كل الفريقين الذين يردان جهنم‬
‫ومن الواضح أن جهنم محل إقامة ومستقر سيء‪ ،‬وشتان بين الراحة والنعيم وبين النيران‬
‫‪.‬الحارقة‬
‫ى واحد‪ ،‬وتأكيد على دوام عقوبات‬ ‫ومن المحتمل أيضًا أن تكون "مستقرًا" و"مقامًا" كلهما لمعن ً‬
‫جهنم‪ ،‬وهو صحيح في مقابل الجّنة‪ ،‬حيث نقرأ عنها في آخر هذه اليات نفسها )خالدين فيها‬
‫)حسنت مستقرًا ومقامًا(‪1).‬‬
‫في الية الخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة لـ "عباد الرحمن" التي هي‬
‫العتدال والبتعاد عن أي نوع من الفراط والتفريط في الفعال‪ ،‬خصوصًا في مسألة اِلنفاق‪،‬‬
‫‪).‬فيقول تعالى‪) :‬والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا‬
‫الملفت للنتباه أنه يعتبر أصل النفاق أمرًا مسلمًا ل يحتاج إلى ذكر‪ ،‬ذلك لن النفاق أحد العمال‬
‫الضرورية لكل إنسان‪ ،‬لذا يورد الكلم في كيفية إنفاقهم فيقول‪ :‬إن إنفاقهم إنفاق عادل )معتدل(‬
‫بعيد عن أي إسراف وبخل‪ ،‬فل يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولدهم جياعًا‪ ،‬ول يقترون بحيث ل‬
‫‪.‬يستفيد الخرون من مواهبهم وعطاياهم‬
‫سرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى‬ ‫في تفسير "السراف" و "القتار" كنقطتين متقابلتين‪ ،‬للمف ّ‬
‫ن "السراف" هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد‪ ،‬وفي غير حق‪ ،‬وبل داع‪،‬‬ ‫أمر واحد‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫‪.‬و"اِلقتار" هو أن ينفق أقل من الواجب‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة الفرقان‪ ،‬الية ‪1 76‬‬
‫]‪[307‬‬
‫لسراف واِلقتار وحد اِلعتدال‪ ،‬تقول الّرواية‪:‬‬‫في إحدى الروايات اِلسلمية‪ ،‬ورد تشبيه رائع ل ِ‬
‫تل أبو عبد ال)عليه السلم( هذه الية‪) :‬والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك‬
‫قوامًا(‪ .‬قال‪ :‬فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده‪ ،‬فقال‪ :‬هذا اِلقتار الذي ذكره ال عّزوجّل في‬
‫كتابه‪ ،‬ثّم قبض قبضة ُأخرى فأرخى كّفه كّلها‪ ،‬ثّم قال‪ :‬هذا اِلسراف‪ ،‬ثّم أخذ قبضة أخرى فأرخى‬
‫)بعضها وأمسك بعضها وقال‪ :‬هذا القوام"‪1).‬‬
‫كلمة "قوام" )على وزن عوام( لغة بمعنى العدل واِلستقامة والحد والوسط بين شيئين‪ ،‬و"ُقوام"‬
‫‪).‬على وزن كتاب(‪ :‬الشيء الذي يكون أساس القيام والستقرار‬
‫***‬

‫مسألتان‬
‫ـ طريقة مشي المؤمنين ‪1‬‬
‫ن التواضع أحد علئم "عباد الرحمن"‪ ،‬التواضع الذي يهيمن على‬ ‫قرأنا في اليات أعله أ ّ‬
‫أرواحهم بحيث يظهر حتى في مشيتهم‪ ،‬التواضع الذي يدفعهم إلى التسليم أمام الحق‪ .‬لكن من‬
‫الممكن أحيانًا أن يتوهم البعض في التواضع ضعفًا وعجزًا وخورًا وكسل‪ ،‬وهذا النمط من التفكير‬
‫‪.‬خطير جّدا‬
‫التواضع في المشي ليس هو الضعف والخطوة الخائرة‪ ،‬بل إنّ الخطوات المحكمة التي تحكي عن‬
‫‪.‬الجدية والقدرة هي من صميم التواضع‬

‫نقرأ في سيرة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أن أحد أصحابه يقول‪" :‬مارأيت أحدًا أسرع في‬
‫ل)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬كأّنما الرض تطوى له‪ ،‬وإّنا لنجهد أنفسنا وإّنه‬
‫مشيته من رسول ا ّ‬
‫لغير‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ الكافي‪ :‬طبقًا لنقل تفسير نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪1 29‬‬
‫]‪[308‬‬
‫)مكترث"‪1).‬‬
‫ونقرأ في حديث آخر عن اِلمام الصادق)عليه السلم( في تفسير الية )الذين يمشون على‬
‫جبل عليها ل يتكلف ول يتبختر"‪2).‬‬ ‫)الرض( أّنه قال‪" :‬والرجل يمشي بسجيته التي ُ‬
‫وورد في حديث آخر‪ ،‬في حالت الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪" :‬قد كان يتكفأ في مشيه كإّنما‬
‫)يمشي في صبب"‪3).‬‬
‫يعني حينما كان الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( يمشي فإّنه يخطو خطوات سريعة‬
‫‪.‬دونما استعجال‪ ،‬كأّنما يمشي في منحدر‬
‫ن طريقة المشي ليست مقصودة بذاتها‪ ،‬بل هي نافذة إلى معرفة الحالة الروحية‬ ‫على أية حال فإ ّ‬
‫للنسان‪ ،‬والية في الحقيقة تشير إلى نفوذ روح التواضع والخشوع في أرواح وقلوب "عباد‬
‫‪".‬الرحمن‬
‫ـ البخل والسراف ‪2‬‬
‫ن "اِلسراف" واحد من العمال الذميمة بنظر القرآن واِلسلم‪ ،‬وورد ذم كثير له في‬ ‫ل شك أ ّ‬
‫ن فرعون لعال في الرض وأّنه لمن‬ ‫اليات والّروايات‪ ،‬فالسراف كان نهجًا فرعونيًا‪) :‬وإ ّ‬
‫)المسرفين(‪4).‬‬
‫)والمسرفون هم أصحاب جهنم والجحيم )وإن المسرفين هم أصحاب النار(‪5).‬‬
‫ومع اللتفات إلى أّنه أصبح ثابتًا اليوم أن منابع الثروات الرضية ليست‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ في ظلل القرآن‪ ،‬ذيل الية مورد البحث‪ ،‬وفي تفسير القرطبي ينقل رواية ُأخرى في هذا ‪1‬‬
‫‪.‬الصدد أيضًا لها شبه كبير بما قلناه أعله‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان‪ ،‬ذيل الية مورد البحث ‪2‬‬
‫‪.‬ـ تفسير روح المعاني‪ ،‬ذيل الية مورد البحث ‪3‬‬
‫‪.‬ـ سورة يونس‪ ،‬الية ‪4 83‬‬
‫‪.‬ـ سورة غافر‪ ،‬الية ‪5 43‬‬
‫]‪[309‬‬
‫كثيرة جدًا نسبة إلى زيادة الكثافة السكانية للبشرية حتى يمكن للنسان أن يسرف‪ ،‬وكل إسراف‬
‫سيكون سببًا في حرمان ُأناس ل ذنب لهم‪ ،‬فضل عن أن السراف عادة قرين التكبر والغرور‬
‫‪.‬والبعد عن خلق ال‬
‫ن التقتير والبخل أيضًا‪ ،‬ذميم وقبيح وغير مقبول بنفس الدرجة‪ ،‬فالصل على‬
‫في تفس الوقت فإ ّ‬
‫أساس النظرة التوحيدية‪ ،‬أن ال تبارك وتعالى هو المالك الصلي‪ ،‬ونحن جميعًا مستخلفون من‬
‫قبله‪ ،‬وكّل نوع من التصرف دون إجازته ورضاه فهو قبيح وغير مقبول‪ ،‬ونحن نعلم أن ال لم‬
‫‪.‬يأذن باِلسراف ولم يأذن بالبخل‬

‫***‬
‫]‪[310‬‬

‫اليات‬

‫ن َوَمن‬‫ق َوَل َيْزُنو َ‬


‫ح ّ‬
‫ل ِإل ِباْل َ‬
‫حّرَم ا ُّ‬‫س اّلِتى َ‬ ‫ن الّنْف َ‬ ‫خَر َوَل َيْقُتُلو َ‬‫ل ِإَلـهًا َءا َ‬
‫ن َمَع ا ِّ‬ ‫عو َ‬ ‫ن َل َيْد ُ‬ ‫َوالِّذي َ‬
‫ب َوَءاَم َ‬
‫ن‬ ‫خُلْد ِفيِه ُمَهانًا)‪ِ (69‬إّل َمن َتا َ‬ ‫ب َيْوَم اْلِقَيـَمِة وَي ْ‬
‫ف َلُه اْلَعَذا ُ‬
‫ضـَع ْ‬‫ق َأَثامًا )‪ُ(68‬ي َ‬ ‫ك َيلـ َ‬ ‫َيْفَعْل َذِل َ‬
‫حيمًا)‪َ (70‬وَمن َتا َ‬
‫ب‬ ‫غُفورًا ّر ِ‬‫ل َ‬ ‫ن ا ُّ‬‫سَنـت َوَكا َ‬ ‫ح َ‬‫سّيَئاِتِهْم َ‬‫ل َ‬‫ك ُيَبّدُل ا ُّ‬
‫صـِلحًا َفُأْوَلـِئ َ‬
‫عَمل َ‬ ‫عِمَل َ‬ ‫َو َ‬
‫ل َمَتابًا)‪71‬‬ ‫ب ِإَلى ا ِّ‬ ‫صِلحًا َفِإّنُه َيُتو ُ‬ ‫عِمَل َ‬ ‫)َو َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬بحث آخر في صفات عباد الرحمن‬
‫ميزة "عباد الرحمن" السادسة التي وردت في هذه اليات هي التوحيد الخالص الذي بيعدهم عن‬
‫كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬والذين ل يدعون مع ال إلهًا‬
‫‪).‬آخر‬
‫فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية والجتماعية‪ ،‬وانقشعت عن سماء أفكارهم‬
‫‪.‬وأرواحهم ظلمات الشرك‬
‫]‪[311‬‬
‫)الصفة السابعة طهارتهم من التلوث بدم البرياء )ول يقتلون النفس التي حرم ال إّل بالحق(‪1).‬‬
‫ويستفاد جيدًا من الية أعله أن جميع النفس النسانية محترمة في الصل‪ ،‬ومحرم إراقة دمائها‬
‫‪.‬إّل إذا تحققت أسباب ترفع هذا اِلحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم‬
‫‪).‬صفتهم الّثامنة هي أن عفافهم ل يتلوث أبدًا‪) :‬ول يزنون‬
‫إّنهم على مفترق طريقين‪ :‬الكفر واليمان‪ ،‬فينتخبون اليمان‪ ،‬وعلى مفترق طريقين المان‬
‫واللأمان في الرواح‪ ،‬فهم يتخيرون المان‪ ،‬وعلى مفترق طريقين‪ :‬الطهر والتلوث‪ :‬فهم‬
‫يتخيرون النقاء والطهر‪ .‬إّنهم يهيئون المحيط الخالي من كل انواع الشرك والتعدي والفساد‬
‫‪.‬والتلوث‪ ،‬بجدهم واجتهادهم‬
‫‪).‬وفي ختام هذه الية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر‪) :‬ومن يفعل ذلك يلق أثامًا‬
‫الثم" و "آثام" في الصل بمعنى العمال التي تمنع من وصول النسان إلى المثوبة‪ ،‬ثّم أطلقت"‬
‫‪.‬على كل ذنب‪ ،‬لكّنها هنا بمعنى جزاء الذنب‬
‫قال بعضهم أيضًا‪ :‬إن "إثم" بمعنى الذنب و "آثام" بمعنى عقوبة الذنب)‪ (2‬فإذا رأينا أن بعض‬
‫سرين ذكروها بمعنى صحراء أو جبل أو بئر في جهنم فهو في الواقع من قبيل بيان المصداق‬ ‫‪.‬المف ّ‬
‫‪.‬و حول فلسفة تحريم الزنا‪ ،‬قدمنا بحثًا مفصل في ذيل الية )‪ (33‬سورة السراء‬
‫ومن الملفت للنظر في الية أعله‪ ،‬أنها بحثت أول في مسألة الشرك‪ ،‬ثّم قتل‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ الستثناء في الجملة أعله "استثناء مفرغ" اصطلحًا‪ ،‬وكان في التقدير هكذا "ل يقتلون ‪1‬‬
‫‪".‬النفس التي حرم ال بسبب من السباب إّل بالحق‬
‫‪.‬ـ تفسير الفخر الرازي ‪2‬‬
‫]‪[312‬‬
‫النفس‪ ،‬ثّم الزنا‪ ،‬ويستفاد من بعض الّروايات أن هذه الذنوب الثلثة تكون من حيث الهمية‬
‫‪.‬بحسب الترتيب الذي أوردته الية‬
‫ينقل ابن مسعود عن الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬قال‪ :‬سألت رسول ال)صلى ال‬
‫ي؟ قال‪:‬‬‫عليه وآله وسلم(‪ :‬أي الذنب أعظم؟ قال‪" :‬أن تجعل ل ندًا وهو خلقك" قال‪ :‬قلت‪ :‬ثّم َأ ّ‬
‫ي؟ قال‪" :‬أن تزاني حليلة جارك" فأنزل ال‬ ‫"أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال‪ :‬قلت‪ :‬ثّم أ ّ‬
‫)تصديقها‪1).‬‬
‫وبالرغم من أن الكلم في هذا الحديث‪ ،‬ورد عن نوع خاص من القتل والزنا‪ ،‬لكن مع النتباه إلى‬
‫ن هذا الحكم يشمل جميع أنواع القتل والزنا‪ ،‬وما في الّرواية مصداق‬ ‫إطلق مفهوم الية يتجلى أ ّ‬
‫ح لهما‬ ‫‪.‬أوض ٌ‬
‫تتكيء الية التالية أيضًا على ما سبق‪ ،‬من أن لهذه الذنوب الّثلثة أهمية قصوى‪ ،‬فيقول تعالى‪:‬‬
‫‪)).‬يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا‬
‫‪:‬و يتجسد هنا سؤالن‬
‫الّول‪ :‬لماذا يتضاعف عذاب هذا النوع من الشخاص؟ ولماذا ل يجازون على قدر ذنوبهم؟ وهل‬
‫ينسجم هذا مع أصول العدالة!؟‬
‫ن الخلود هنا مرتبط بالكفار فقط‪ .‬والذنب‬ ‫ن الكلم هنا عن الخلود في العذاب‪ ،‬في حين أ ّ‬ ‫الّثاني‪ :‬إ ّ‬
‫الّول من هذه الذنوب الثلثة التي ذكرت في الية يكون كفرًا‪ ،‬فقط‪ ،‬وأّما قتل النفس والزنا فليسا‬
‫‪.‬سببًا للخلود في العذاب‬
‫سرون كثيرًا في الجابة على السؤال الول‪ ،‬وأصح ما أوردوه هو أن المقصود من‬ ‫بحث المف ّ‬
‫مضاعفة العذاب أن كل ذنب من هذه الذنوب الثلثة المذكورة في هذه الية سيكون له عقاب‬
‫‪.‬منفصل‪ ،‬فتكون العقوبات بمجموعها عذابًا مضاعفًا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ صحيح "البخاري" و "مسلم" طبقًا لنقل مجمع البيان ذيل الية مورد البحث ‪1‬‬
‫]‪[313‬‬
‫ن ذنبًا ما يكون أحيانًا مصدر الذنوب اُلخرى‪ ،‬مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات‬ ‫فضل عن أ ّ‬
‫‪.‬وارتكاب المحرمات‪ ،‬وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب اللهي‬
‫سرين هذه الية دليل على هذا الصل المعروف أن‪" :‬الكفار مكلفون بالفروع‬ ‫لهذا اّتخذ بعض المف ّ‬
‫‪".‬كما أّنهم مكلفون بالصول‬
‫وأّما في الجابة على السؤال الّثاني‪ :‬فيمكن القول أن بعض الذنوب عظيم إلى درجة يكون عندها‬
‫سببًا في الخروج من هذه الدنيا بل إيمان‪ ،‬كما قلنا في مسألة قتل النفس في ذيل الية )‪(93‬‬
‫)سورة النساء‪1).‬‬
‫صة إذا كان الزنا بمحصنة‬
‫‪.‬ومن الممكن أن يكون المر كذلك في مورد الزنا أيضًا‪ ،‬خا ّ‬
‫ومن المحتمل أيضًا أن "الخلود" في الية أعله يقصد به من يرتكب هذه الذنوب الثلثة معًا‪،‬‬
‫الشرك وقتل النفس والزنا‪ ،‬والشاهد على هذا المعنى‪ :‬الية التالية حيث تقول‪) :‬إّل من تاب وآمن‬
‫‪).‬وعمل عمل صالحًا‬
‫سرين ـ أيضًا ـ أن "الخلود" هنا بمعنى المدة الطويلة ل الخالدة‪ ،‬لكن الّتفسير‬ ‫واعتبر بعض المف ّ‬
‫‪.‬الّول والّثاني أصح‬
‫ومن الملفت للنظر هنا ـ فضل عن مسألة العقوبات العادية ـ عقوبة ُأخرى ذكرت أيضًا هي التحقير‬
‫والمهانة‪ ،‬أي البعد النفسي من العذاب‪ ،‬وقد تكون بذاتها تفسيرًا لمسألة مضاعفة العذاب‪ ،‬ذلك‬
‫‪.‬لّنهم يعذبون عذابًا جسديًا وعذابًا روحيًا‬
‫لكن القرآن المجيد كما مّر سابقًا‪ ،‬لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الوقات‪،‬‬
‫بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها‪ ،‬ففي‪ ،‬الية التالية يقول تعالى هكذا‪) :‬إّل من تاب‬
‫وآمن وعمل عمل صالحًا فُأولئك يبدل ال‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ الّتفسير المثل‪ ،‬الجزء الّثالث ‪1‬‬
‫]‪[314‬‬
‫‪).‬سيئاتهم حسنات‪ ،‬وكان ال غفورًا رحيمًا‬
‫كما مّر بنا في الية الماضية‪ ،‬ففي الوقت الذي ذكرت ثلثة ذنوب هي من أعظم الذنوب‪ ،‬تركت‬
‫الية باب التوبة مفتوحًا أمام هؤلء الشخاص‪ ،‬وهذا دليل على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة‬
‫إلى ال‪ ،‬بشرط أن تكون توبته حقيقية‪ ،‬وعلمتها ذلك العمل الصالح )الُمَعّوض( الذي ورد في‬
‫الية‪ ،‬وإّل فإن مجّرد الستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب ل يكون دليل على التوبة‬
‫‪.‬أبدًا‬
‫المسألة المهّمة فيما يتعلق بالية أعله هي‪ :‬كيف يبدل ال "سيئات" أولئك "حسنات"؟‬
‫***‬

‫‪:‬تبديل السيئات حسنات‬


‫‪:‬هنا عّدة تفاسير‪ ،‬يمكن القبول بها جميعًا‬
‫ـ حينما يتوب النسان ويؤمن بال‪ ،‬تتحّقق تحولت عميقة في جميع وجوده‪ ،‬وبسبب هذا ‪1‬‬
‫التحول والنقلب الداخلي تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات‪ ،‬فإذا كان قاتل للنفس‬
‫المحترمة في الماضى‪ ،‬فإّنه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين ومواجهة الظالمين‪.‬‬
‫وإذا كان زانيًا‪ ،‬فإّنه يكون بعدها عفيفًا وطاهرًا‪ ،‬وهذا التوفيق اللهي يناله العبد في ظل اليمان‬
‫‪.‬والتوبة‬
‫ـ أن ال تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة‪2 ،‬‬
‫ويضع مكانها حسنات‪ ،‬نقرأ في رواية عن أبي ذر‪ :‬قال‪ :‬قال رسول ال)صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم(‪" :‬يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا صغار ذنوبه‪ ،‬وتخبأ كبارها‪ ،‬فيقال‪ :‬عملت يوم‬
‫كذا وكذا‪ ،‬وهو يقّر ليس بمنكر‪ ،‬وهو مشفق من الكبائر أن تجيء‪ ،‬فإذا أراد ال خيرًا قال‪ :‬اعطوه‬
‫ت رسول ال )صلى‬ ‫ب لي ذنوب ما رأيتها ها هنا؟" قال‪ :‬ورأي ُ‬
‫مكان كل سيئة حسنة‪ ،‬فيقول‪ :‬يا ر ّ‬
‫‪،‬ال عليه وآله وسلم( ضحك حتى بدت نواجذه‬
‫]‪[315‬‬
‫)ثمّ تل‪) :‬فُأولئك يبدل ال سيئاتهم حسنات(‪1).‬‬
‫ـ الّتفسير الّثالت هو أن المقصود من السيئات ليس نفس العمال التي يقوم بها النسان‪ ،‬بل ‪3‬‬
‫آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس النسان‪ ،‬فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الثار السيئة‬
‫‪.‬من روحه ونفسه‪ ،‬وتبدل بآثار الخير‪ ،‬وهذا هو معنى تبديل السيئات حسنات‬
‫ول منافاة بين هذه التفاسير الثلثة قطعًا‪ ،‬ومن الممكن أن تجتمع كل هذه التفاسير الثلثة في‬
‫‪.‬مفهوم الية‬
‫الية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬ومن تاب وعمل صالحًا فإنه يتوب إلى‬
‫)ال متابًا(‪2).‬‬
‫يعني أن التوبة وترك الذنب ينبغي أل تكون بسبب قبح الذنب‪ ،‬بل ينبغي ـ إضافة إلى ذلك ـ أن‬
‫‪.‬يكون الدافع إليها خلوص النية‪ ،‬والعودة إلى ال تبارك وتعالى‬
‫ن القيمة السس‬ ‫ن ترك شرب الخمر أو الكذب بسبب إضرارهما مثل‪ ،‬وإن كان حسنًا‪ ،‬لك ّ‬ ‫لهذا فإ ّ‬
‫‪.‬لهذا الفعل ل تتحقق إّل إذا استمّد من الدافع الرّباني‬
‫سرين ذكروا تفسيرًا آخر لهذه الية‪ ،‬وهو أن هذه الجملة جواب على التعجب الذي قد‬ ‫بعض المف ّ‬
‫تسببه الية السابقة أحيانًا في بعض الذهان‪ ،‬وهو‪ :‬كيف يمكن أن يبدل ال السيئات حسنات؟!‪،‬‬
‫‪.‬فتجيب هذه الية‪ :‬حينما يؤوب النسان إلى ربه العظيم‪ ،‬فل عجب في هذا المر‬
‫‪.‬تفسير ثالث ذكر لهذه الية‪ ،‬وهو أن كّل من تاب من ذنبه فإّنه يعود إلى ال‪ ،‬ومثوبته بل حساب‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ عوالي اللئالي‪ ،‬طبقًا لنقل نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪1 33‬‬
‫‪.‬ـ "متاب" مصدر ميمي بمعنى التوبة‪ ،‬ولّنه مفعول مطلق هنا‪ ،‬فهو للتوكيد ‪2‬‬
‫]‪[316‬‬
‫صة وأّنه‬
‫وبالرغم من عدم وجود منافاة بين هذه التفاسير الثلثة‪ ،‬لكن الّتفسير الّول أقرب‪ ،‬خا ّ‬
‫‪.‬يتفق مع الّرواية المنقولة في تفسير علي بن إبراهيم القمي في ذيل هذه الية‬

‫***‬
‫]‪[317‬‬

‫اليات‬

‫ت َرّبِهمْ َلْم‬‫ن ِإَذا ُذّكُروْا ِبَأَيـ ِ‬‫ن الّزوَر َوِإَذا َمّروْا ِباالّلْغِو َمّروْا ِكَرامًا )‪َ(72‬واّلِذي َ‬ ‫شَهُدو َ‬
‫ن َل َي ْ‬ ‫َو اّلِذي َ‬
‫عُين‬‫جَنا َوُذّرّيـِتَنا ُقّرَة َأ ْ‬
‫ن َأْزَو ِ‬‫ب َلَنا ِم ْ‬‫ن َرّبَنا َه ْ‬
‫ن َيُقوُلو َ‬
‫عْمَيانًا)‪َ (73‬واّلِذي َ‬ ‫صّما َو ُ‬
‫عَلْيَها ُ‬ ‫َيخِّروْا َ‬
‫سَلـمًا)‪(75‬‬ ‫حّيًة َو َ‬ ‫ن ِفيَها َت ِ‬‫صَبرُوْا َوُيَلّقْو َ‬
‫ن اْلُغْرَفَة ِبَما َ‬
‫جَزْو َ‬
‫ك ُي ْ‬‫ن ِإَمامًا)‪ُ (74‬أْوَلِئ َ‬ ‫َواجَْعْلَنا ِلْلُمّتِقي َ‬
‫سَتَقّرا َوُمَقامًا)‪76‬‬ ‫ت ُم ْ‬
‫سَن ْ‬‫حُ‬‫ن ِفيها َ‬ ‫خـِلِدي َ‬‫)َ‬
‫الّتفسير‬
‫‪":‬جزاء "عباد الرحمن‬
‫في متابعة لليات الماضية التي كررت القول في خصائص "عباد الرحمن"‪ ،‬تشرح هذه اليات‬
‫‪:‬بقية هذه الصفات‬
‫ن هؤلء ل يشهدون بالباطل‬
‫الصفة الرفيعة التاسعة لهم‪ ،‬هي احترام وحفظ حقوق الخرين‪ :‬إ ّ‬
‫‪).‬مطلقًا‪) :‬والذين ل يشهدون الزور‬
‫سروا هذه الية على نحوين‬
‫سرون الكبار ف ّ‬‫‪:‬المف ّ‬
‫]‪[318‬‬
‫ن "الزور" لغة بمعنى التمايل‬ ‫اعتبر بعضهم "الزور" بمعنى "الشهادة بالباطل" كما قلنا أعله‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬والنحراف‪ ،‬وحيث أن الكذب والباطل والظلم من النحرافات‪ ،‬فإن "الزور" يطلق عليها‬
‫هذه العبارة )شهادة الزور( في كتاب الشهادات في فقهنا‪ ،‬موجودة بنفس هذا العنوان‪ ،‬وقد ُنهي‬
‫‪.‬عنها في روايات متعددة‪ ،‬وإن لم نرفي تلك الّروايات استدلل بالية أعله‬
‫ن المقصود من "الشهود" هو "الحضور" يعني أن عباد الرحمن ل‬ ‫الّتفسير الخر‪ :‬هو أ ّ‬
‫‪.‬يتواجدون في مجالس الباطل‬
‫سرت بـ "الغناء" أي‬ ‫وفي بعض الّروايات التي وردت عن طرق أئّمة أهل البيت)عليهم السلم(‪ ،‬ف ّ‬
‫‪.‬تلك المجالس التي يتّم فيها إنشاد اللهو مصحوبًا بأنغام اللت الموسيقية أو بدونها‬
‫ن مراد هذا النوع من الّروايات ليس هو تحديد مفهوم "الزور" الواسع بـ "الغناء"‪،‬‬ ‫ل شك أ ّ‬
‫فالغناء واحد من مصاديقه البارزة إنه يشمل سائر مجالس اللهو واللعب وشرب الخمر والكذب‬
‫‪.‬والغيبة وأمثال ذلك‬
‫ول يستبعد أيضًا أن يجتمع كل الّتفسيرين في معنى الية‪ ،‬وعلى هذا فعباد الرحمن ل يؤدون‬
‫ن الحضور في هذه‬ ‫الشهادة الكاذبة‪ ،‬ول يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة‪ ،‬ذلك ل ّ‬
‫‪.‬المجالس ـ فضل عن ارتكاب الذنب ـ فإنه مقدمة لتلوث القلب والروح‬
‫ثّم يشير تعالى في آخر الية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة‪ ،‬وهي امتلك الهدف اليجابي في الحياة‪،‬‬
‫‪).‬فيقول‪) :‬وإذا مروا باللغو مروا كرامًا‬
‫إّنهم ل يحضرون مجالس الباطل‪ ،‬ول يتلوثون باللغو والبطلن‪ .‬ومع اللتفات إلى أن "اللغو"‬
‫يشمل كل عمل ل ينطوي على هدف عقلئي‪ ،‬فإن ذلك يدل على أن "عباد الرحمن" يتحرون دائمًا‬
‫الهدف المعقول والمفيد والبناء‪ ،‬وينفرون من‬
‫]‪[319‬‬
‫اللهدفية والعمال الباطلة‪ ،‬فإذا اعترضهم هذا النوع من العمال في مسير حياتهم‪ ،‬مروا‬
‫بمحاذاتها مرور اللمبالي‪ ،‬ول مبالتهم نفسها دليل على عدم رضاهم الداخلي عن هذه العمال‪،‬‬
‫‪.‬فهم عظماء بحيث ل تؤثر عليهم الجواء الفاسدة ول تغيرهم‬
‫ن عدم اعتنائهم بهذه اُلمور من جهة أّنهم ل طريق لهم إلى مواجهة الفساد والنهي عن‬ ‫ول شك أ ّ‬
‫ك أّنهم سوف يقفون ويؤدون تكاليفهم حتى المرحلة الخيرة‬ ‫‪.‬المنكر‪ ،‬وإّل فل ش ّ‬
‫الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتلك العين الباصرة والذن السامعة حين مواجهتهم ليات‬
‫‪).‬الخالق‪ ،‬فيقول تعالى‪) :‬والذين إذا ذكروا بآيات رّبهم لم يخروا عليها صمًا وعميانًا‬
‫ن المقصود ليس الشارة إلى عمل الكفار‪ ،‬ذلك لّنهم ل اعتناء لهم بآيات ال أصل‪،‬‬ ‫من المسّلم أ ّ‬
‫بل إن المقصود‪ :‬فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر‪ ،‬الذين يقعون على آيات ال بأعين وآذان‬
‫موصدة‪ ،‬دون أن يتدبروا حقائقها ويسبروا غورها‪ ،‬فيعرفوا ما يريده ال ويتفكروا فيه‪،‬‬
‫‪.‬ويستهدوه في أعمالهم‬
‫ول يمكن طي طريق ال بعين وأذن موصدتين‪ ،‬فالذن السامعة والعين الباصرة لزمتان لطي هذا‬
‫‪.‬الطريق‪ ،‬العين الناظرة في الباطن‪ ،‬المتعمقة في الشياء‪ ،‬والذن المرهفة العارفة بلطائف الحكمة‬
‫ولو تأملنا جيدًا لدركنا أن ضرر هذه الفئة ذات العين والذان الموصدة وفي ظنها أّنها تتبع‬
‫اليات اللهية‪ ،‬ليس أقّل من ضرر العداء الذين يطعنون بأصل شريعة الحق عن وعي وسبق‬
‫‪.‬اصرار‪ ،‬بل أن ضررهم أكثر بمراتب أحيانًا‬
‫ن من اليسير خداع‬ ‫التلقي الواعي عن الدين هو المعين الساس للمقاومة والثبات والصمود‪ ،‬ل ْ‬
‫من يقتصر على ظواهر الدين‪ ،‬وبتحريفه يتم النحراف عن الخط الصيل‪ ،‬فيهوي بهم ذلك إلى‬
‫‪.‬وادي الكفر والضللة وعدم اليمان‬
‫]‪[320‬‬
‫هذا النوع من الفراد أداة بيد العداء‪ ،‬ولقمة سائغة للشياطين‪ ،‬المؤمنون وحدهم هم المتدبرون‬
‫‪.‬المبصرون السامعون كمثل الجبل الراسخ‪ ،‬فل يكونون لعبة بيد هذا أو ذاك‬
‫نقرأ في حديث عن أبي بصير‪ ،‬قال‪ :‬سألت أبا عبد ال)عليه السلم( عن قول ال عّزوجّل‪) :‬والذين‬
‫)إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًا وعميانًا(‪ ،‬قال‪" :‬مستبصرين ليسوا بشكاك"‪1).‬‬
‫صة لهؤلء المؤمنين الحقيقيين‪ ،‬هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم‬ ‫الصفة الّثانية عشر الخا ّ‬
‫وعوائلهم‪ ،‬وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤلء )والذين يقولون رّبنا هب لنا من أزواجنا‬
‫‪).‬وذرياتنا قرة أعين‬
‫بديهي أن معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء‪ ،‬بل إن الدعاء دليل شوقهم‬
‫‪.‬وعشقهم الداخلي لهذا المر‪ ،‬ورمز جدهم واجتهادهم‬
‫ن أفرادًا كهؤلء ل يقصرون في بذل مالديهم من طاقة وقدرة في تربية أبنائهم‬ ‫من المسّلم أ ّ‬
‫وأزواجهم‪ ،‬وتعريفهم بأصول وفروع السلم‪ ،‬وسبل الحق والعدالة وفي ما ل تصل إليه قدرتهم‬
‫‪.‬وطاقتهم‪ ،‬فإّنهم يدعون ال‪ ،‬يسألونه التوفيق بلطفه‬
‫فالدعاء الصحيح من حيث الصل‪ ،‬ينبغي أن يكون هكذا‪ :‬السعي بمقدار الستطاعة‪ ،‬والدعاء‬
‫‪.‬خارج حّد الستطاعة‬
‫ر به‪ ،‬هذا التعبير ُأخذ في الصل من كلمة "قر" التي بمعنى البرد‪"،‬‬ ‫قّرة العين" كناية عّمن ُيس ّ‬
‫سرين( أن دمعة الشوق والسرور باردة‪ ،‬ودموع‬ ‫وكما هو معروف )وقد صرح به كثير من المف ّ‬
‫الحزن والغم حارة حارقة‪ ،‬لذا فـ "قّرة عين" بمعنى الشيء الذي يسبب برودة عين النسان‪ ،‬يعني‬
‫)أن دمعة الشوق تنسكب من عينيه‪ ،‬وهذه كناية جميلة عن السرور والفرح‪2).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .‬ـ نور الثقلين‪ ،‬ج‪ ،4‬ص ‪1 43‬‬
‫‪.‬ـ الشاهد على هذا القول‪ ،‬الشعر الذي نقله القرطبي في تفسيره عن أحد الشعراء العرب ‪2‬‬
‫ت عيون دمعها اليوم ساكب‬ ‫ن قريرة وقر ْ‬‫س عي ٌ‬‫فكم سخنت بالم ِ‬
‫]‪[321‬‬
‫مسألة تربية البناء وإرشاد الزوجات‪ ،‬ومسؤولية الباء والمهات إزاء أطفالهم من أهم المسائل‬
‫‪.‬التي أكد عليها القرآن‪ ،‬وسنفصل القول فيها إن شاء ال في ذيل الية )‪ (6‬من سورة التحريم‬
‫وأخيرًا فالصفة الرفيعة الّثالثة عشر لعباد الرحمن التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر‬
‫معينة‪ :‬هي أّنهم ل يقنعون أبدًا أّنهم على طريق الحق‪ ،‬بل أن همتهم عالية بحيث يريدون أن‬
‫‪.‬يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين‪ ،‬ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضًا‬
‫إّنهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا‪ ،‬وليس هّمهم انقاذ أنفسهم من الغرق‪ ،‬بل إن سعيهم هو‬
‫‪.‬أن ينقذوا الغرقى‬
‫‪).‬لذا يقول في آخر الية‪ ،‬إّنهم الذين يقولون‪) :‬واجعلنا للمتقين إمامًا‬
‫ينبغي اللتفات إلى هذه النكتة أيضًا‪ ،‬إّنهم ل يدعون ليكونوا في موقع العظماء جزافًا‪ ،‬بل إّنهم‬
‫يهيئون أسباب العظمة والمامة بحيث تجتمع فيهم الصفات اللئقة بالقدوة الحقيقية‪ ،‬وهذا عمل‬
‫‪.‬عسير جدًا‪ ،‬وله شرائط صعبة وثقيلة‬
‫ن القرآن ل يذكر في هذه اليات صفات جميع المؤمنين‪ ،‬بل أوصاف نخبة ممتازة من‬ ‫ول ننس أ ّ‬
‫المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان "عباد الرحمن"‪ .‬نعم‪ ،‬إّنهم عباد الرحمن‪ ،‬وكما أن رحمة ال‬
‫ن رحمة ال بهؤلء العباد عاّمة أيضًا من أكثر من جهة‪ ،‬فعلمهم وفكرهم‬ ‫العاّمة تشمل الجميع فإ ّ‬
‫‪.‬وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بل انقطاع في طريق هداية خلق ال‬
‫‪ُ.‬أولئك نماذج وُأسوات المجتمع النساني‬
‫‪ُ.‬أولئك قدوات المتقين‬
‫إّنهم أنوار الهداية في البحار والصحاري‪ .‬ينادون التائهين إليهم لينقذوهم من الغرق في الدوامة‪،‬‬
‫‪.‬ومن السقوط في المزالق‬
‫]‪[322‬‬
‫ن هذه الية نزلت في علي)عليه السلم( وائّمة أهل البيت)عليهم السلم‬
‫‪).‬نقرأ في روايات متعددة أ ّ‬
‫)ونقرأ في رواية أخرى عن المام الصادق)عليه السلم(‪" :‬إيانا عنى"‪1).‬‬
‫ول شك أن أئمة أهل البيت)عليهم السلم( من أوضح مصاديق هذه الية‪ ،‬لكن هذا ل يمنع من‬
‫اتساع مفهوم الية‪ ،‬فالمؤمنون الخرون أيضًا يكون كل منهم إمامًا وقدوة للخرين بمستويات‬
‫‪.‬متفاوتة‬
‫سرين من هذه الية أن طلب الرئاسة المعنوية والروحانية ليس غير مذموم‬ ‫واستنتج بعض المف ّ‬
‫)فقط‪ ،‬بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضًا‪2).‬‬
‫وينبغي اللتفات ضمنًا إلى أن كلمة "إمام" وإن كانت للمفرد‪ ،‬إّل أّنها تأتي بمعنى الجمع‪ ،‬وهكذا‬
‫‪.‬هي في الية‬
‫بعد إكمال هذه الصفات الثلثة عشرة‪ ،‬يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلء مع جميع هذه‬
‫الخصائص‪ ،‬وفي صورة الكوكبة الصغيرة‪ ،‬فيبّين جزاءهم اللهي )ُأولئك يجزون الغرفة بما‬
‫‪).‬صبروا‬
‫غرفة" من مادة "غرف" )على وزن حرف(‪ :‬بمعنى رفع الشيء وتناوله‪ ،‬ويقال لما يغترف"‬
‫ويتناول "غرفة" )كاغتراف النسان الماء من العين بيده للشرب( ثّم ُأطلقت على القسام العليا‬
‫‪.‬من البناء‪ ،‬ومنازل الطبقات العليا‪ ،‬وهي هنا كناية عن أعلى منازل الجّنة‬
‫ن "عباد الرحمن" بامتلكهم هذه الصفات‪ ،‬يكونون في الصف الّول من المؤمنين‪ ،‬وينبغي‬ ‫لذلك فإ ّ‬
‫‪.‬أن تكون درجتهم في الجّنة أعلى درجة أيضًا‬
‫المهم أّنه يقول‪ :‬إن هذا المقام العالي قد ُأعطي لهم بسبب ما قدموا من ضريبة الصبر والستقامة‬
‫في طريق ال‪ ،‬ومن الممكن أن يتصور أن هذا وصف آخر من‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ أورد هذه الروايات في تفسير آخر هذه الية "علي بن إبراهيم"‪ ،‬ومؤلف كتاب نور الثقلين ‪1‬‬
‫‪.‬في تفسيريهما‬
‫‪".‬ـ يراجع تفسير "القرطبي" وتفسير "الفخر الرازي ‪2‬‬
‫]‪[323‬‬
‫أوصافهم‪ ،‬لكن هذا في الحقيقة ليس وصفًا جديدًا‪ ،‬بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة‪،‬‬
‫وإّل فهل يمكن أن نتصور عبادة الخالق‪ ،‬ومواجهة الطغيان والشهوات‪ ،‬وترك شهادة الزور‪،‬‬
‫‪.‬والتواضع والخشوع وغيرها من الصفات بدون صبر واستقامة‬
‫هذا البيان ُيذّكر النسان بالحديث المعروف عن أمير المؤمنين علي)عليه السلم(حيث يقول‪:‬‬
‫"والصبر من اليمان كالرأس من الجسد" فبقاء الجسد من بقاء الرأس‪ ،‬ذلك لن قيادة جميع‬
‫‪.‬أعضاء البدن تستقر في دماغ النسان‬
‫وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع‪ ،‬فالتحمل والصمود أمام مشكلت طريق الحق‪ ،‬والجهاد‬
‫والمواجهة ضد العصاة‪ ،‬والوقوف أمام دواعي الذنوب‪ ،‬تجتمع كلها في ذلك المفهوم‪ ،‬وإذا فسر‬
‫في بعض الّروايات بالصبر على الفقر والحرمان المالي‪ ،‬فمن المسلم أن ذلك من قبيل بيان‬
‫‪.‬المصداق‬
‫‪).‬ثّم يضيف تعالى‪) :‬ويلّقون فيها تحية وسلمًا‬
‫أهل الجّنة يحي بعضهم بعضًا‪ ،‬وتسلم الملئكة عليهم‪ ،‬وأعلى من كل ذلك أن ال يحييهم وُيسلم‬
‫عليهم‪ ،‬كما نقرأ في الية )‪ (58‬من سورة يس )سلم من ربّ رحيم(‪ ،‬ونقرأ في الية )‪ 23‬و‪(24‬‬
‫‪...).‬من سورة يونس )والملئكة يدخلون عليهم من كل باب سلم عليكم‬
‫سرين‪ ،‬لكن مع‬ ‫ُترى هل لـ "التحية" و"السلم" هنا معنيان‪ ،‬أم معنى واحد!؟ ثّمة أقوال بين المف ّ‬
‫اللتفات إلى أن "التحية" في الصل بمعنى الدعاء لحياة الغير‪ ،‬و"سلم" من مادة السلمة‪،‬‬
‫‪.‬وبمعنى الدعاء للغير‬
‫على هذا نستنتج‪ :‬أن الكلمة اُلولى بعنوان طلب الحياة‪ ،‬للمخاطب والكلمة الّثانية طلب اقتران هذه‬
‫‪.‬الحياة مع السلمة‪ ،‬ولو أن هاتين الكلمتين تأتيان بمعنى واحد أحيانًا‬
‫]‪[324‬‬
‫التحية" في العرف لها معنى أوسع‪ ،‬فهي كل ما يقولونه في بيان اللقاء مع الخرين‪ ،‬فيكون"‬
‫‪.‬سببًا في سرورهم واحترامهم وإظهار المحّبة لهم‬
‫‪).‬ثّم يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر‪) :‬خالدين فيها حسنت مستقرًا ومقامًا‬

‫***‬
‫]‪[325‬‬

‫الية‬

‫ن ِلَزاَما)‪77‬‬
‫ف َيُكو ُ‬
‫سْو َ‬
‫عآُؤُكْم َفَقْد َكّذْبُتْم َف َ‬
‫)ُقلْ َما َيْعَبُؤْاِبُكْم َرّبى َلْوَل ُد َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬لول دعاؤكم‪ ،‬لما كانت لكم قيمة‬
‫هذه الية التي هي الية الخيرة في سورة الفرقان‪ ،‬جاءت في الحقيقة نتيجة لكل السورة‪،‬‬
‫وللبحاث التي بصدد صفات "عباد الرحمن" في اليات السابقة‪ ،‬فيقول تبارك وتعالى مخاطبًا‬
‫‪).‬الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪) :‬قل ما يعبؤبكم رّبي لو ل دعاؤكم‬
‫يعبؤ" من مادة "عبء" بمعنى "الثقل"‪ ،‬وعلى هذا فجملة ل يعبأ يعني ليزن‪ ،‬وبعبارة ُأخرى ل"‬
‫‪.‬يعتني‬
‫ولو أن احتمالت كثيرة ذكرت هنا في مسألة معنى الدعاء‪ ،‬لكن أساس جميعها يعود إلى أصل‬
‫‪.‬واحد‬
‫‪.‬فذهب البعض‪ :‬إن الدعاء هو نفس ذلك المعنى المعروف للدعاء‬
‫سره بمعنى اليمان‬ ‫‪.‬بعض آخر ف ّ‬
‫‪.‬وبعض بمعنى العبادة والتوحيد‬
‫‪.‬وآخر‪ ،‬بمعنى الشكر‬
‫]‪[326‬‬
‫‪.‬وبعض‪ :‬بمعنى التضرع إلى ال في المحن والشدائد‬
‫ن أساس جميعها هو اليمان والتوجه إلى ال‬
‫‪.‬لك ّ‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬يكون مفهوم الية هكذا‪ :‬إن ما يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند ال هو اِليمان‬
‫‪.‬بال والتوجه إليه‪ ،‬والعبودية له‬
‫‪).‬ثّم يضيف تعالى‪) :‬فقد كذبتم فسوف يكون لزامًا‬
‫من الممكن التصور أن تضادًا بين بداية الية ونهايتها‪ ،‬أو أّنه ل يبدو على القل الرتباط‬
‫ن المقصود أساسًا هو‪ :‬أّنكم قد كذبتم فيما‬
‫والنسجام اللزم بينهما‪ ،‬ولكن إذا دققنا قليل يّتضح أ ّ‬
‫مضى بآيات ال وبأنبيائه‪ ،‬فإذا لم تتوجهوا إلى ال‪ ،‬ولم نسلكوا طريق اليمان به والعبودية له‪،‬‬
‫)فلن تكون لكم أية قيمة أو مقام عنده‪ ،‬وستحيط بكم عقوبات تكذيبكم‪1).‬‬
‫ومن جملة الشواهد الواضحة التي تؤيد هذا الّتفسير‪ ،‬الحديث المنقول عن المام الباقر)عليه‬
‫سِئَل‪" :‬كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء"؟ فقال)عليه السلم(‪" :‬كثرة الدعاء‬ ‫السلم(‪ ،‬أّنه ُ‬
‫)أفضل وقرأ هذه الية"‪2).‬‬
‫***‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سرين‪ ،‬وما قلناه في تفسيرها ‪1‬‬ ‫ـ الية أعله من اليات التي هي مورد مناقشات كثيرة بين المف ّ‬
‫سرين المعروفين ذكروا لها تفسير آخر خلصته هكذا‬ ‫‪.‬هو أوضح تفسير‪ ،‬لكن جماعة من المف ّ‬
‫ل اعتناء ل بكم‪ ،‬ذلك لّنكم كذبتم بآياته‪ ،‬إّل أن ال يدعوكم إلى اليمان )طبقًا لهذها الّتفسير‪:‬‬
‫‪"".‬دعاؤكم" من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول‪ ،‬وفاعله ضمير يعود إلى "رّبي‬
‫لكن طبقًا للتفسير الذي اخترناه فإن "دعاؤكم" من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل‪ ،‬وظاهر إضافة‬
‫‪).‬المصدر إلى الضمير هي أن تكون الضافة إلى الفاعل‪ ،‬إّل أن تظهر قرينة على خلفه‬
‫ن الهدف بيان‪ :‬إّنكم أّيها البشر‪ ،‬غالبًا ما سلكتم طريق التكذيب‪،‬‬ ‫ثّمة تفسير ثالث لهذه الية وهو أ ّ‬
‫فل وزن ول قدر لكم عند ال‪ ،‬إّل لجل تلك القلية مثل "عباد الرحمن" الذين يتوجهون إلى ال‬
‫ويدعونه بإخلص )هذا الّتفسير وإن كان صحيحًا من ناحية المعنى والمضمون‪ ،‬لكّنه ل يوافق‬
‫ن الضمير في "دعاؤكم" و"كذبتم" يعود ظاهرًا إلى فئة واحدة ل فئتين‬ ‫ظاهر الية كثيرًا‪ ،‬ذلك ل ّ‬
‫‪)!).‬فتأمل‬
‫رواية أيضًا تفاسير ُأخرى يتفاوت يسير‪ ،‬نقلت ‪2‬‬ ‫ـ تفسير الصافي‪ ،‬ذيل هذه الية ـ نقلوا لهذه ال ّ‬
‫أيضًا روايات ُأخرى شاهدة على الّتفسير أعله‪ ،‬بعضها عن أمالي الشيخ الطوسي‪ ،‬وبعضها عن‬
‫‪.‬تفسير علي بن إبراهيم ذيل هذه الية‬
‫]‪[327‬‬
‫بحث‬
‫‪:‬الدعاء طريق إصلح النفس ومعرفة ال‬
‫معلوم أن مسألة الدعاء أعطيت أهمية كبيرة في آيات القرآن والّروايات السلمية‪ ،‬حيث كانت‬
‫الية أعله أنموذجًا منها‪ ،‬غير أن قد يكون القبول بهذا المر ابتداًء صعبًا على البعض‪ ،‬كأّنه يقال‪:‬‬
‫الدعاء عمل سهل جّدا‪ ،‬ويمكن أن يؤديه الجميع أو يتوسعون أكثر فيقولون‪ :‬الدعاء عمل‬
‫‪.‬المغلوبين على أمرهم‪ ،‬المر الذي ل أهمية له‬
‫لكن الشتباه هنا ينشأ من أّنهم ينظرون إلى الدعاء الخالي من شرائطه‪ ،‬في حين إذا أخذت‬
‫صة للدعاء بنظر العتبار‪ ،‬فإن هذه الحقيقة تثبت بوضوح‪ .‬وهي أن الدعاء وسيلة‬ ‫الشرائط الخا ّ‬
‫‪.‬مؤثرة في إصلح النفس‪ ،‬والرتباط القريب بين ال والنسان‬
‫‪.‬أّول شرائط الدعاء‪ ،‬معرفة المدعو‬
‫الشرط الثاني‪ :‬تخلية القلب وإعداد الروح لدعائه تبارك وتعالى‪ ،‬ذلك لن النسان حينما يذهب‬
‫‪.‬باتجاه أحد‪ ،‬ينبغي أن يملك الستعداد للقائه‬
‫الشرط الّثالث للدعاء‪ :‬هو جلب رضاه من يدعوه النسان‪ ،‬ذلك لّنه ل يحتمل التأثير بدون ذلك‬
‫‪.‬النادرًا‬
‫وأخيرًا فالشرط الّرابع لستجابة الدعاء‪ :‬هو أن يستخدم النسان كّل قدرته‪ ،‬وقوته واستطاعته في‬
‫عمله‪ ،‬ويؤديه بأعلى درجة من الجّد والجتهاد‪ ،‬ثّم يرفع يديه ويوجه قلبه إلى بارئه بالدعاء في‬
‫‪.‬ماوراء ذلك‬

‫صر في العمل الذي يستطيع أن‬


‫ذلك لّنه ورد صريحًا في الّروايات السلمية‪ ،‬أن النسان إذا ق ّ‬
‫‪.‬يؤديه بنفسه‪ ،‬ثّم يتوسل بالدعاء فلن يستجاب دعاؤه‬
‫ن الدعاء وسيلة لمعرفة الخالق ومعرفة صفاته الجمالية والجللية‬‫‪،‬من هنا‪ ،‬فإ ّ‬
‫]‪[328‬‬
‫ووسيلة أيضًا للتوبة من الذنب‪ ،‬ولتطهير الروح‪ ،‬وسبب أيضًا لداء الحسنات للجهاد والجّد‬
‫‪.‬والجتهاد إلى منتهى الستطاعة‬
‫‪:‬لهذا نجد عبارات مهّمة حول الدعاء ل يمكن فهمها إّل على ضوء ما قلناه‪ ،‬مثل‬
‫نقرأ في رواية عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪" :‬الدعاء سلح المؤمن‪ ،‬وعمود الدين‪،‬‬
‫)ونور السماوات والرض"‪1).‬‬
‫ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين علي)عليه السلم(‪" :‬الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد‬
‫)الفلح‪ ،‬وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي‪ ،‬وقلب تقي"‪2).‬‬
‫)ونقرأ في حديث عن المام الصادق)عليه السلم(‪" :‬الدعاء أنفذ من السنان"‪3).‬‬
‫فضل عن كل ذلك‪ ،‬فإن من الطبيعي أن حوادث تقع في حياة النسان‪ ،‬فتغرقه في اليأس من حيث‬
‫السباب الظاهرية‪ ،‬فالدعاء يمكنه أن يكون شرفة على أمل الفوز‪ ،‬ووسيلة مؤثرة في مواجهة‬
‫‪.‬اليأس والقنوط‬
‫لهذا فالدعاء إزاء الحوادث الصعبة المرهقة‪ ،‬يمنح النسان قدرة وقوة وأمل وطمأنينة‪ ،‬وأثرًا ل‬
‫‪.‬يمكن إنكاره من الناحية النفسية‬
‫وقّدمنا بحثًا مفصل بصدد مسألة الدعاء‪ ،‬وفلسفته‪ ،‬وشرائطه‪ ،‬ونتائجه‪ ،‬في الّتفسير المثل ذيل‬
‫‪.‬الية )‪ (186‬من سورة البقرة‪ ،‬فتفضل بمراجعته هناك من أجل التوضيح أكثر‬
‫صة عبادك‪ ،‬وترحم علينا بتوفيق اكتساب خصائص وصفات "عباد الرحمن‬ ‫‪".‬الّلهّم‪ ،‬أجعلنا من خا ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ ُاصول الكافي‪ ،‬الجزء الّثاني‪ ،‬أبواب الدعاء باب أن الدعاء سلح المؤمن ‪1‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪3‬‬
‫]‪[329‬‬
‫‪.‬رّبنا‪ ،‬افتح لنا أبواب الدعاء واجعل ذلك سببًا لتثمين وجودنا بين يديك‬
‫‪.‬الّلهّم‪ ،‬تفضل علينا بتوفيقات الدعاء المطلوبة بين يديك‪ ،‬ول تحرمنا من الستجابة‬
‫‪.‬إّنك على كل شيء قدير وبالجابة جدير‬

‫***‬
‫نهاية سورة الفرقان‬
‫]‪[330‬‬

‫]‪[331‬‬

‫شَعَراء‬
‫سوَرُة ال ّ‬
‫ُ‬

‫عَدُد آياِتَها مئتان وسبع وعشرون آية‬


‫مكّية َو َ‬
‫]‪[332‬‬

‫]‪[333‬‬

‫"سورة الشعراء"‬

‫‪:‬محتوى سورة الشعراء‬


‫ن جميع آيات هذه السورة المائتين وسبع وعشرين نزلت في مّكة عدا‬ ‫سرين أ ّ‬
‫المعروف بين المف ّ‬
‫)اليات الربع الخيرة‪1).‬‬
‫ن السور المكية‬‫إيقاع آيات هذه السورة يتناغم أيضًا مع إيقاعات السور المكية اُلخرى‪ ،‬ونعلم أ ّ‬
‫التي أنزلت في بداية دعوة السلم‪ ،‬تستند على بيان اُلصول العتقادية‪ :‬التوحيد والمعاد‪ ،‬ودعوة‬
‫‪.‬أنبياء ال‪ ،‬وأهمية القرآن‬
‫‪.‬وتدور جميع موضوعات سورة الشعراء حول هذه المسائل تقريبًا‬
‫‪:‬و يمكن تلخيص محتوى هذه السورة في عدة أقسام‬
‫القسم الّول‪ :‬مطلع هذه السورة الذي يتكون من الحروف المقطعة‪ ،‬ثّم يتحدث في عظمة القرآن‪،‬‬
‫وتسلية الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( في مواجهة إصرار وحماقة المشركين‪ ،‬والشارة إلى‬
‫‪.‬بعض دلئل التوحيد‪ ،‬وصفات ال تبارك وتعالى‬
‫القسم الّثاني‪ :‬يحكي جوانب من قصص سبعة أنبياء عظام ومواجهاتهم مع أقوامهم‪ ،‬وفي مكابرات‬
‫صل الحديث أكثر في بعض منها‪ ،‬كما في قصة موسى‬ ‫وحماقات ُأولئك حيال هؤلء النبياء‪ ،‬حيث ف ّ‬
‫صة إبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط‬ ‫وفرعون‪ ،‬واختصره في بعض آخر منها‪ ،‬كما في ق ّ‬
‫‪.‬وشعيب‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ تفسير "مجمع البيان" وتفسير "الفخر الرازي" وتفسير "القرطبي" وتفسير "التبيان"‪1 ،‬‬
‫لمة الطباطبائي في‬ ‫سرين مثل الع ّ‬‫واستثنى في تفسير "روح المعاني" خمس آيات‪ .‬لكن بعض المف ّ‬
‫"الميزان" لم يقبل استثناء هذه اليات‪ .‬وسوف يكون لنا بحث أكثر إن شاء ال في ذيل هذه‬
‫‪.‬اليات‬
‫]‪[334‬‬
‫صة‪ ،‬أشير إلى منطق المشركين‪ .‬الضعيف الممزوج بالتعصب في كل عصر‬ ‫في هذا القسم بخا ّ‬
‫وزمان في مواجهة أنبياء ال‪ ،‬والذي يشبه كثيرًا منطق مشركي عصر الّنبي)صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم(‪ ،‬فكان هذا سببًا في تسلية الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( والمؤمنين الوائل‪ ،:‬ليعلموا‬
‫تاريخ هذا الصنف من الناس ومنطقهم‪ ،‬حتى ل يتأثروا ويتراخوا‪ ،‬وحتى ل يفسحوا للضعف‬
‫‪.‬والفتور ليجد طريقًا إلى أنفسهم‬
‫وفيه بشكل خاص أيضًا‪ ،‬تركيز على العذاب العظيم والبتلءات المروعة التي حّلت بهذه المم‪،‬‬
‫‪.‬والذي هو بذاته تهديد مؤثر لعداء الّنبي في تلك الشرائط‬
‫القسم الّثالث‪ :‬وتغلب عليه جنبه الستنتاج من القسمين الوليين‪ ،‬يتناول الحديث حول الّنبي)صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬وعظمة القرآن‪ ،‬وتكذيب المشركين‪ ،‬والوامر الصادرة إلى الّنبي)صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم( فيما يتعلق بطريقة الدعوة‪ ،‬وكيفية التعامل مع المؤمنين‪ ،‬ويختم السورة‬
‫‪.‬بالبشرى للمؤمنين الصالحين‪ ،‬وبالتهديد الشديد للظالمين‬
‫ن اسم هذه السورة أخذ من مجموعة اليات الخيرة التي تتحّدث حول الشعراء‬ ‫وبالمناسبة‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪.‬غير المؤمنين‬
‫وهناك نكتة جديرة باِلهتمام أيضًا‪ ،‬وهي أن هذه السورة تعتبر من أكبر السور بعد سورة البقرة‬
‫من حيث عدد اليات‪ ،‬وإن كانت ليست كذلك من حيث عدد الكلمات‪ ،‬بل هي أقصر من كثير من‬
‫‪.‬السور‬

‫‪:‬فضيلة سورة الشعراء‬


‫ورد في الحديث الشريف عن رسول السلم)صلى ال عليه وآله وسلم( في بيان أهمية تلوة هذه‬
‫‪:‬السورة أّنه قال‬
‫من قرأ سورة الشعراء كان له من الجر عشر حسنات بعدد كل من صّدق بنوح وكذب به‪ ،‬وهود"‬
‫‪".‬وشعيب وصالح وابراهيم‪ ،‬وبعدد كل من كذب بعيسى وصدق بمحّمد‬
‫]‪[335‬‬
‫ول يخفى أن كّل هذا الجر والثواب ليس على التلوة بدون التفكر والعمل بها‪ ،‬بل ان القرائن‬
‫المتعدد في روايات فضائل السور تحكي عن أن المراد من التلوة هي ما كانت مقدمة للتفكر‪ ،‬ثّم‬
‫‪.‬العزم والعمل‪ ،‬وقد أشرتا الى ذلك سابقًا‬
‫ن استحقاق الحسنات بعدد‬ ‫ومّما يؤيد هذا المعنى التعبير الوارد في نفس الحديث اعله‪ ،‬ل ّ‬
‫المصّدقين والمكذبين للنبياء من أجل أن يكون الشخص في صف المصّدقين ويتجّنب منهج‬
‫‪.‬المكذبين‬

‫***‬
‫]‪[336‬‬

‫اليات‬

‫شْأ ُنَنّزلْ‬
‫ن)‪ِ (3‬إن ّن َ‬ ‫ك َأّل َيُكوُنوْا ُمْؤِمِني َ‬‫سَ‬ ‫خٌع ّنْف َ‬‫ك َبـ ِ‬
‫ن)‪َ (2‬لَعّل َ‬ ‫ب الُمِبي ِ‬‫ت اْلِكَتـ ِ‬‫ك َءايـ ُ‬‫طـسـم)‪ِ (1‬تْل َ‬
‫حَدث ِإّل‬
‫ن ُم ْ‬ ‫حَمـ ِ‬‫ن الّر ْ‬
‫ن)‪َ (4‬وَما يَْأِتيِهم ّمن ِذْكر ّم َ‬ ‫ضِعي َ‬
‫خـ ِ‬ ‫عَنـُقُهْم َلَها َ‬ ‫ت َأ ْ‬
‫ظّل ْ‬‫سَمآِء َءاَيًة َف َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫علَْيِهم ّم َ‬
‫َ‬
‫ن)‪6‬‬ ‫سَتْهِزُءو َ‬ ‫سيْأِتيِهْم َأنَبـُؤْا َما َكانُوْا ِبِه َي ْ‬
‫ن)‪َ (5‬فَقْد َكّذبُوْا َف َ‬ ‫ضي َ‬
‫عْنُه ُمْعِر ِ‬‫)َكاُنوْا َ‬

‫الّتفسير‬
‫!إنهم ُيعرضون عن كل جديد‬
‫سَم‬
‫ط َ‬
‫‪).‬مّرة ُأخرى نواجه في بداية هذه السورة مثل آخر من الحروف المقطعة وهو‪َ ) :‬‬
‫وكان لنا في تفسير هذه الحروف المقطعة بحوث ُمسَهبة ومستقّلة في مستهل سورة البقرة‬
‫!وسورة آل عمران وسورة العراف! فل نرى حاجًة إلى التكرار والعادة‬
‫ن ما ينبغي أن نضيفه هنا هو ما ورد من روايات متعددة عن الّنبي)صلى ال عليه وآله‬‫إّل أ ّ‬
‫وسلم( أو‬
‫]‪[337‬‬
‫ن هذه الحروف علمات "مختصرة" عن‬ ‫بعض أصحابه في تفسير "طسم" ويدّل جميُعها على أ ّ‬
‫‪!...‬أسماء ال تعالى‪ ،‬أو أسماء القرآن‪ ،‬أو المكنة المقدسة‪ ،‬أو بعض أشجار الجّنة‬
‫وهذه الّروايات تؤيد الّتفسير الذي نقلناه في مستهّل سورة العراف في هذا الصدد‪ ،‬كما أّنها في‬
‫الوقت ذاته ل تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من أن المراد من هذه الحروف بيان أعجاز‬
‫!القرآن وعظمته‪ ،‬حيث أن هذا الكلم العظيم مؤلف من حروف بسيطة وصغيرة‬
‫‪).‬والية التالية تبّين عظمة القرآن بهذا النحو‪) :‬تلك آيات الكتاب المبين‬
‫ن "تلك" في لغة العرب اسم إشارة للبعيد‪ ،‬ويشار بها للمؤنث "المفرد" و"الجمع";‬ ‫وبالطبع فإ ّ‬
‫)كما قد يشار بها لجمع التكسير‪1).‬‬
‫وكما بّينا آنفًا فقد يعّبر في لغة العرب عن عظمة الشيء ـ وإن كان قريبًا ـ باسم الشارة )للبعيد(‬
‫!فكان الموضوع لهمّيته وارتفاع "وعلّو" مرتبته بعيد عّنا‪ ،‬ومكانه في السماوات الُعلى‬
‫صها وردت في بداية سورة يوسف وسورة‬ ‫ن هذه الية بن ّ‬‫ومّما ينبغي اللتفات إليه وملحظته أ ّ‬
‫القصص ـ أيضًا ـ دون زيادة أو نقصان‪ .‬كما أّنها وردت بعد الحروف المقطعة في مستهّل السور‬
‫‪.‬آنفة الذكر‪ ،‬وهي تدل على ارتباط هذه الحروف بعظمة القرآن‬
‫ف القرآن بـ "المبين" المشتق من "البيان"‪ ،‬هو إشارة إلى كونه جلّيا بّينا عظيمًا معجزًا ـ‬ ‫ووص ُ‬
‫ن القرآن‬
‫فكّلما أمعن النسان النظر في محتواه تعّرف على إعجازه أكثر فأكثر‪ ...‬ثّم بعد هذا فإ ّ‬
‫ضح سبيل السعادة والنصر والنجاة من الضلل‬ ‫!يبّين الحق ويميزه عن الباطل‪ ،‬ويو ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ كقوله تعالى )وتلك الّيام نداولها بين الناس ‪1‬‬
‫]‪[338‬‬
‫سك أن ل يكونوا مؤمنين‬
‫‪).‬والية التالية ُتسّري عن قلب الّنبي وتثبته فتقول‪) :‬لعلك باخٌع نف َ‬
‫خع( )على وزن الّدمع(! ومعناه إهلك النفس من شدة الغّم‪ ...‬وهذا‬ ‫كلمة "باخع" مشتّقة من )الَب ْ‬
‫التعبير يدّل على مدى تحّرق قلب الّنبي وشفقته ُلمته‪ ،‬وأداء رسالته‪ ،‬وما كان عليه من إصرار‬
‫خطته‪ ،‬وتجّلد في مواجهة شدته ومحنته‪ ،‬لّنه يرى القلوب المتعطشة الظامئة في جوار النبع‬ ‫في ِ‬
‫!القرآني الزلل‪ ،‬ولكّنها ل تزال على ظمئها ول ترتوي من معينه العذب‪ ،‬فكان يتحرق لذلك‬
‫ب يسير في الطريق المظالم‪،‬‬ ‫كان قلقًا ـ وباخعًا نفسه ـ أن يرى النسان الذي منحه ال العقل والل ّ‬
‫!بالرغم من كل هذا الضياء‪ ،‬ويهوي في الوادي السحيق ليكون من الهالكين‬
‫أجل‪ ،‬كان جميع النبياء على هذه الشاكلة من الشفاق على ُأممهم ول سيما الّرسول العظم)صلى‬
‫‪...‬ال عليه وآله وسلم( الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مّرة‬
‫سرين‪ :‬إن سبب نزول الية النفة الذكر هو أن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫قال بعض المف ّ‬
‫كان يدعو أهل مّكة إلى توحيد ال باستمرار‪ ،‬إّل أّنهم لم يؤمنوا‪ .‬فأسف الّنبي وتأثر تأثرًا بالغًا‬
‫حتى بدت أماراته في وجهه‪ ،‬فنزلت الية آنفة الذكر لتسّري عن قلب الّنبي)صلى ال عليه وآله‬
‫)وسلم(‪1).‬‬
‫ن ال على كل شيء قدير حتى أّنه يستطيع أن يسوقهم إلى اليمان به سوقًا ويضطّرهم‬ ‫ولبيان أ ّ‬
‫ن الية التالية تقول‪) :‬إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها‬ ‫إلى ذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪).‬خاضعين‬
‫وهي إشارة إلى أن ال قادر على إنزال معجزة مذهلة ـ من السماء ـ أو أن يرسل عليهم عذابًا‬
‫شديدًا فيذعنوا له‪ ،‬يطأطئوا برؤوسهم خضوعًا له‪ ،‬يستسلموا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير أبو الفتوح الرازي‪ ،‬ج ‪ 8‬ذيل الية محل البحث ‪1‬‬
‫]‪[339‬‬
‫المره وحكمه‪ ،‬إّل أن اليمان بإكراه ل قيمة له‪ .‬فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي‬
‫‪.‬وإدراك وتفكر‬
‫ن المراد بخضوع العناق خضوع أصحابها‪ ...‬فاللغة العربية تذكر الرقبة أو العنق‬ ‫ومن الواضح أ ّ‬
‫كناية عن النسان لّنها جزء مهّم منه‪ ،‬ويقال مثل كناية عن البغاة القساة‪ :‬غلظ الرقاب‪ ،‬وعن‬
‫!المضطهدين والضعفاء‪ :‬الرقاب الذليلة‬
‫ن العناق تعني الرؤساء‪ ،‬كما أن‬ ‫وبالطبع فهناك احتمالت ُأخَر لتفسير "أعناقهم" من جملتها أ ّ‬
‫‪.‬من التفاسير أن العناق تعني طوائف من الناس‪ .‬وجميع هذه الحتمالت ضعيفة‬
‫ثّم يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول‪) :‬وما يأتيهم من ذكر من‬
‫‪).‬الرحمن محدث إّل كانوا عنه معرضين‬
‫والتعبير بـ "ذكر" هو إشارة إلى أن القرآن موقظ ومنّبه‪ ،‬وهذا المر متحّقق في جميع آياته‬
‫‪!...‬وسوره! إّل أن هذه الجماعة معرضة عن ذكره وتنبيهه‪ ،‬فهي تفّر عن كل ذلك‬
‫والتعبير بـ "الرحمن" إشارة إلى أن نزول هذه اليات من قبل ال إّنما هو من رحمته العاّمة‪ ،‬إذ‬
‫!تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال‬
‫كما أن هذا التعبير ـ أيضًا ـ رّبما كان لتحريك الحساس بالشكر ل‪ ،‬فهذا الذكر من ال الذي عّمت‬
‫نعمه وجودكم من القرن إلى القدم‪ ،‬فكيف يمكن العراض عن ولي النعمة؟! وإذا كان سبحانه ل‬
‫‪...‬يتعجل بإنزال العذاب عليكم‪ ،‬فذلك من رحمته أيضًا‬
‫والتعبير بـ "محدث" ـ أي جديد ـ إشارة إلى أن آيات القرآن تنزل واحدًة تلو اُلخرى‪ ،‬وكّل منها‬
‫ذو محتوى جديد‪ ،‬ولكن ما جدوى ذلك‪ ،‬فهم مع كل هذه الحقائق الجديدة ـ معرضون‪ ...‬فكأّنهم‬
‫اّتفقوا على خرافات السلف وتعّلقوا بها ـ فهم ل يرضون أن يوّدعوا ضللهم وجهلهم وخرافاتهم!!‬
‫فأساسًا مهما كان‬
‫]‪[340‬‬
‫ن الجهلة والمتعصبين يخالفون الحق ول يذعنون له‬
‫‪...‬الجديد موجبًا للهداية‪ ،‬فإ ّ‬
‫ت‬
‫ونقرأ في سورة "المؤمنون" الية ‪ 68‬منه إذ تقول‪) :‬أفلم يدّبروا القول أم جاءهم مالم يأ ِ‬
‫!آباءهم الولين( فبذريعة مالم يأت آباءهم تجدهم متعصبين مخالفين‬
‫ن هؤلء ل يقفون عند حدود العراض‪ ،‬بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب‪ ،‬بل‬ ‫ثّم يضيف القرآن‪ :‬أ ّ‬
‫إلى أشّد منه ليصلوا إلى الستهزاء به‪ ،‬فيقول‪) :‬فقد كّذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به‬
‫‪).‬يستهزئون‬
‫النباء"‪ :‬جمع "انبأ"‪ ،‬أي الخبر المهّم‪ ،‬والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد"‬
‫سرين كالشيخ الطوسي في "التبيان"‪ ،‬قال بأن هذا العقاب‬ ‫ن بعض المف ّ‬‫الدنيوي والخروي‪ .‬على أ ّ‬
‫سرين يعتقدون بشموله لعقاب الدارين‪ ،‬وهو ـ في الواقع‬ ‫منحصر العقاب الخرة‪ .‬إّل أن أغلب المف ّ‬
‫طَلَقٌة‬
‫ن الية ُم ْ‬‫‪.‬ـ كذلك!‪ ...‬ل ّ‬
‫ن للكفر واِلنكار انعكاسات واسعة وشاملة في جميع حياة النسان‪...‬‬ ‫وبغض النظر عن كل ذلك فإ ّ‬
‫!فكيف يمكن السكوت عنها‬
‫والتحقيق في هذه الية والية السابقة يكشف أن النسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإّنه‬
‫‪ .‬يفصل نفسه عن الحق ـ بشكل مستمر ـ‬
‫ففي المرحلة اُلولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه‪ ...‬ثّم بالتدريج يبلغ مرحلة النكار‬
‫والتكذيب‪ ..‬ثّم يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والستهزاء‪ ...‬ونتيجًة لذلك ينال عقاب ال‬
‫‪".‬وجزاءه "وقد ورد نظير هذا التعبير في اليتين ‪ 4‬و ‪ 5‬من سورة النعام‬
‫***‬

‫ملحظتان‬
‫خطب أمير المؤمنين "في نهج البلغة" المعروفة بالخطبة ‪1‬‬
‫ـ ورد في بعض ُ‬
‫]‪[341‬‬
‫القاصعة إشارة إلى هذه الحقيقة‪ ،‬وهي أن ال أرسل النبياء على شاكلة يستطيع معها أن يؤمن‬
‫الناس بدعوتهم إلى ال دون إكراه‪ ،‬بحيث لو لم يكونوا كذلك لكان اليمان إجباريًا‪ ،‬إذ يقول‪" :‬ولْو‬
‫أراد ال سبحانه لنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان‬
‫وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الرضين لفعل‪ ...‬ولو فعل لسقط البلُء وبطل‬
‫‪).‬الجزاء‪1)"...‬‬
‫وورد في كتاب الكافي ذيل الية محل البحث "لو أنزل ال من السماء آية فظّلت أعناقهم لها‬
‫)خاضعين‪ .‬ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين"‪2).‬‬
‫ومّما يسترعي النظر أنه ورد في بعض الكتب المعروفة كالرشاد للشيخ المفيد‪ ،‬وروضة الكافي‪،‬‬
‫وكمال الدين للشيخ الصدوق‪ ،‬وتفسير القمي‪ ،‬أن المام الصادق)عليه السلم( قال في تفسير‬
‫الية‪) :‬إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية‪ (...‬قال‪" :‬تخضع رقابهم ـ يعني بني أمية ـ وهي‬
‫)الصيحة في السماء باسم صاحب المر ـ صلوات ال عليه ـ"‪3).‬‬
‫ن المراد من هذه الّروايات هو بيان مصداق من هذا المفهوم الواسع للية‪ ،‬إذ ستخضع‬ ‫وواضح أ ّ‬
‫أخيرًا جميع الحكومات الباغية والمتجبرة والظالمة التي تواصل السير على منهج حكومة بني‬
‫أمية‪ ،‬وذلك عندما يظهر المصلح المهدي)عليه السلم( إماُم الحكومة العالمية‪ ،‬فتستسلم إذعانًا‬
‫‪.‬لقدرته وحماية ال له وتنحني له إجلل‬
‫ول ـ للسلم ‪2‬‬ ‫ـ أحد البحوث التي كثر الكلم فيها والتعليق عليها في القرون اُلولى ـ أو الصدر ال ّ‬
‫هو البحث أو الكلم عن كون كلم ال قديمًا أو حادثًا؟! وقد انجّر هذا الكلم إلى كتب الّتفسير‬
‫سرين بالتعبير الوارد في الية آنفًا "محدث" على كون القرآن‬ ‫أيضًا‪ ،‬وقد استدل جماعة من المف ّ‬
‫‪.‬حادثًا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪".‬ـ راجع نهج البلغة‪ ،‬الخطبة القاصعة‪ ،‬رقم ‪" 192‬تواضع النبياء ‪1‬‬
‫‪.‬ـ الكافي حسب نقل تفسير نور الثقلين ذيل الية محل البحث ‪2‬‬
‫‪.‬ـ تفسير الميزان‪ ،‬ونور الثقلين ذيل اليات محل البحث ‪3‬‬
‫]‪[342‬‬
‫ي وجه‪،‬‬‫ن أساس هذا البحث ل يمكن أن يكون منطقّيا بأ ّ‬ ‫إّل أّنه ـ كما أشرنا من قبل أيضًا ـ فإ ّ‬
‫ن ذوي السلطة أو أولي المر في ذلك الزمان من بني أمية وبني العباس‪ ،‬كان لهم الثر‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫الكبير في هذه البحوث المضلة ليحرفوا أفكار المسلمين عن المسائل المهّمة والجدّية‪ ،‬وليشغلوا‬
‫‪.‬علماء المسلمين بهذه المسائل حفاظًا على حكومتهم وسلطتهم‬
‫لّنه إذا كان المراد من كلم ال هو محتوى القرآن‪ ،‬فهو من الزل في علم ال وال خبير بكل ما‬
‫‪.‬فيه‪ ،‬وإذا كان المراد منه نزول الوحي وكلمات القرآن وحروفه‪ ،‬فذلك حادث قطعًا ول خلف فيه‬
‫فبناء على ذلك فالقرآن تارة هو قديم بذلك النحو‪ ،‬وُأخرى هو حادث قطعًا بهذه الصورة‪ ،‬فعلى‬
‫المجتمع السلمي أن يكون فطنًا ول سيما العلماء‪ ،‬فل ُيبتلوا بالبحوث المضلة النحرافية‬
‫‪.‬المبتدعة من ِقَبِل الجبابرة وأعداء السلم‬

‫***‬
‫]‪[343‬‬
‫اليات‬

‫ن َأْكَثُرُهم‬
‫ك َلَيًة َوَما َكا َ‬
‫ض َكْم َأنَبْتَنا ِفيَها ِمن ُكّل َزْوج َكِريم)‪ِ (7‬إنّ ِفى َذِل َ‬‫َأَولَْم َيَرْوْا ِإَلى اَْلْر ِ‬
‫حيُم)‪9‬‬‫ك َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ‬ ‫ن َرّب َ‬
‫ن)‪َ (8‬وِإ ّ‬ ‫)ّمْؤِمني َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬الزوجية في النباتات‬
‫كان الكلم في اليات المتقدمة عن إعراض الكفار عن اليات التشريعية )أي القرآن المجيد(‪ ،‬أّما‬
‫في اليات محل البحث فالكلم عن اليات التكوينية ودلئل ال في خلِقه وما أوجده سبحانه‪،‬‬
‫فالكفار لم َيصّموا آذانهم ويوصدوا أبواب قلوبهم بوجه أحاديث الّنبي وكلماته فحسب‪ ،‬بل كانوا‬
‫‪.‬يحرمون أعينهم رؤية دلئل الحق المنتشرة حولهم‬
‫)فتقول الية اُلولى من هذه اليات‪) :‬أولم يروا إلى الرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم(‪1).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ يتعدي الفعل "يرى" عادة إلى المفعول بدون حرف الجر )إلى( وقد تتعدى إلى المفعولين‪1 ،‬‬
‫ن المراد منها النظر العميق الدقيق ل الرؤية السطحية‬
‫‪...‬وإّنما تعدت هنا بحرف الجر )إلى( ل ّ‬
‫]‪[344‬‬
‫سرين قالوا بأن‬ ‫ن أغلب المف ّ‬‫والتعبير بـ "زوج" في شأن النباتات يستحق الدّقة‪ ...‬فبالرغم من أ ّ‬
‫الزوج يعني النوع أو الصنف‪ ،‬وأن الزواج معناها الصناف والنواع‪ ،‬إّل أّنه ما يمنع أن نفسر‬
‫!معنى الزوج بما يتبادر إلى الذهن من المعنى المعروف وهو الشارة إلى الزوجّية في النباتات؟‬
‫كان الناس فيما مضى يدركون أن بعض النباتات لها جنسان )ذكر وُأنثى( وكانوا يستعينون بتلقيح‬
‫‪...‬النباتات لتثمر ‪ ...‬وكانت هذه المسألة معروفة وواضحة تمامًا في النخيل‬
‫ن العالم السويدي والخبير بعلم النبات "لينه" ُوّفق لول مّرة في أواسط القرن الثامن عشر‬ ‫إّل أ ّ‬
‫الميلدي لكتشاف هذه الحقيقة‪ ،‬وهي أن الزوجية في عالم النباتات قانون عام تقريبًا‪ ،‬والنباتات‬
‫‪...‬كسائر الحيوانات تحمل عن طريق تلقيح الذكر لنثاه ثّم تقذف بالثمار‬
‫ن القرآن المجيد أشاَر إلى هذه الظاهرة "الزوجية في النبات" في آيات مختلفة مرارًا قبل‬ ‫غير أ ّ‬
‫هذا العالم السويدي بقرون‪ ،‬كما هي الحال في اليات محل البحث‪ .‬وفي الية الّرابعة من سورة‬
‫الرعد‪ ،‬والية العاشرة من سورة لقمان‪ ،‬والية السابعة من سورة ق‪ .‬وهذه الشارة بنفسها‬
‫!إحدى معاجز القرآن العلمية‬
‫وكلمة "كريم" في الصل تعني كل شيء قّيم وثمين‪ ،‬فقد تستعمل في النسان‪ ،‬وقد تستعمل في‬
‫النبات‪ ،‬وقد تستعمل في الكتاب ]أي الرسالة المعهودة بين المتراسلين[ أيضًا‪ ...‬كما هي الحال في‬
‫ي كتاب كريم(‪1).‬‬ ‫)شأن حديث ملكة سبأ عن كتاب سليمان إليها إذا قالت‪) :‬إّني ُألقي إل ّ‬
‫والمراد من )كم أنبتنا فيها من كّل زوج كريم( هو النباتات المهّمة ذوات الفائدة‪ ،‬وطبعًا ما من‬
‫نبات إّل وله فائدة أو فوائد جّمة‪ ،‬ومع تقدم العلم تتجلى هذه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ النمل‪1 29 ،‬‬
‫]‪[345‬‬
‫‪.‬الحقيقة يومًا بعد يوم‬
‫ن في ذلك لية‬
‫‪).‬وتأتي الية التالية لتقول مؤّكدة بصراحة‪) :‬إ ّ‬
‫أجل إن اللتفات إلى هذه الحقيقة‪ ،‬وهي أن هذا التراب الذي ل قيمة له ظاهرًا‪ ،‬بما فيه من تركيب‬
‫معين هو مبدأ ظهور أنواع الزهار الجميلة‪ ،‬والشجار المثمرة الظليلة‪ ،‬والفواكه ذات اللوان‬
‫الزاهية‪ ،‬وما فيها من خواص مختلفة‪ .‬وهو ـ أي التراب ـ يبّين منتهى قدرة ال‪ ،‬إّل أن ُأولئك‬
‫طبع على قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات ال بأعينهم‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫الذين ُ‬
‫!يجحدونها ويكفرون بها‪ ،‬ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل‬
‫ن الية هذه تعّقب قائلة‪) :‬وما كان أكثرهم مؤمنين‬
‫‪).‬لذلك فإ ّ‬
‫ن عدم اليمان لدى ُأولئك أمسى كالصفة الراسخة فيهم‪ ،‬فل عجب أن ل ينتفعوا من هذه‬ ‫أي إ ّ‬
‫ن قابلّية المحل من شرائط التأثير الصيلة أيضًا كما نقرأ قوله تعالى‪ُ) :‬هدى للمتقين(‪).‬‬
‫اليات‪ ،‬ل ّ‬
‫)‪1‬‬
‫وفي آخر آية من اليات محل البحث يرد الخطاب في تعبير يدّل على التهديد والترهيب والتشويق‬
‫‪)...‬والترغيب‪ ،‬فيقول سبحانه‪) :‬وإن رّبك لهو العزيز الرحيم‬
‫العزيز" معناه المقتدر الذي ل يغلب ول ُيقهر‪ ،‬فهو قادر على إظهار اليات العظمى‪ ،‬كما أنه قادر"‬
‫على إهلك المكذبين وتدميرهم‪ ..‬إّل أّنه مع كل ذلك رحيم‪ ،‬ورحمته وسعت كل شيء‪ ،‬ويكفي‬
‫الرجوع بإخلص إليه في لحظة قصيرة! لتشمل رحمته من أناب إليه وتاب‪ ،‬فيعفو عنه بلطفه‬
‫!ورحمته‬
‫ولعل تقديم كلمة "العزيز" على "الرحيم" لّنه لو تقدمت كلمة الرحيم على العزيز لشعرت‬
‫الحساس بالضعف‪ ،‬إّل أّنه قدم سبحانه الوصف بالعزيز لُيعلم أّنه وهو في منتهى قدرته ذو رحمة‬
‫!واسعة‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ البقرة‪ ،‬الية ‪1 2‬‬
‫]‪[346‬‬

‫اليات‬

‫خافَ‬
‫ب ِإّنى َأ َ‬
‫ن)‪َ (11‬قاَل َر ّ‬ ‫عْونَ َأَل َيّتُقو َ‬
‫ن)‪َ (10‬قوَم ِفْر َ‬ ‫ظـِلِمي َ‬
‫ت اْلَقْوَم ال ّ‬ ‫ن اْئ ِ‬‫سى َأ ِ‬‫ك ُمو َ‬
‫َوإذْ َناَدى َرّب َ‬
‫ب َفَأخا ُ‬
‫ف‬ ‫ى َذن ٌ‬‫عَل ّ‬
‫ن )‪َ(13‬وَلُهْم َ‬
‫سْل ِإَلى َهـرُو َ‬ ‫ساِنى َفَأْر ِ‬
‫ق ِل َ‬
‫طِل ُ‬
‫صْدِرى َوَل َين َ‬ ‫ق َ‬ ‫ضي ُ‬‫ن )‪َ(12‬وَي ِ‬ ‫َأن ُيَكّذُبو ِ‬
‫ن)‪15‬‬ ‫سَتِمُعو َ‬‫ل َفاْذَهَبا ِبَأَيِتَنآ ِإّنا َمَعُكم ّم ْ‬
‫ن)‪َ (14‬قاَل َك ّ‬ ‫)َأن َيْقُتُلو ِ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬بداية رسالة موسى‬
‫ن في هذه السورة بيانًا لقصص سبعة من النبياء الكرام العظام‪ ،‬ليكون درس اعتبار لعاّمة‬
‫قلنا إ ّ‬
‫‪) ...‬المسلمين‪ ،‬ول سيما المسلمين الوائل في عصر الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫صة تتناولها هذه السورة هي قصة موسى)عليه السلم(‪ ،‬وتشرح جوانب مختلفة من حياته‬ ‫فأّول ق ّ‬
‫!ومواجهته لفرعون واتباعه حتى هلكهم بالغرق في النيل‬
‫وقد جاء الكلم عن بني إسرائيل وموسى وفرعون وقومه حتى الن في سور شتى "كالبقرة‬
‫والمائدة والعراف ويونس والسراء وطه" كما ورد الكلم في هذا الشأن أيضًا في بعض السور‬
‫‪!...‬التالية‬
‫]‪[347‬‬
‫وهذه البحوث وإن تكررت ـ بحسب الظاهر ـ إّل أن المعان أو التدقيق فيها يكشف عن أن كلّ‬
‫صة ذات المحتوى الغزير‪ ،‬ويعّول على هدف معين‬ ‫صا من هذه الق ّ‬
‫‪!...‬بحث منها يتناول جانبًا خا ّ‬
‫مثل‪ ..‬حين نزلت اليات ـ محل البحث ـ كان المسلمون قّلة ضعافًا وكان أعداؤهم كثرًة أولي قّوة‬
‫وبأس شديد‪ ،‬بحيث ل يمكن الموازنة بين الفرقتين‪ ،‬فكان ينبغي أن يبّين ال قصص اُلمم السابقة‬
‫المشابهة لحال هؤلء‪ ،‬ليعلم المسلمون أن هذه القّوة التي يمتلكها العداء وهذا الضعف الظاهري‬
‫ي منهما بنفسه إلى اندحار المسلمين‪ ،‬ولتزداد معنويات‬‫الذي يكتنف المسلمين لن يؤدي أ ّ‬
‫‪...‬المسلمين وتّثبت استقامتهم ومقاومتهم‬
‫ت النظر تكرار عبارة‪) :‬و ما كان أكثرهم مؤمنين وإن رّبك لهو العزيز الرحيم( بعد تمام‬ ‫ومّما يلف ُ‬
‫الحديث عن كل نبي‪ ...‬وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن الّنبي محّمد)صلى‬
‫ي على أن ذكر هذه الجوانب من قصص‬ ‫ال عليه وآله وسلم(‪ ..‬وهذا التساق في التعبير شاهد ح ّ‬
‫النبياء إّنما هو للظروف المتشابهة التي أكتنفت المسلمين من حيث الحالة النفسية والجتماعية‬
‫‪...‬كما كان عليها النبياء السابقون‬
‫فتقول اليتان اُلوليان من اليات محل البحث )وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين قوم‬
‫‪.‬فرعون أل يتقون(‪ .‬ويتركون ظلمهم وفسادهم وعنادهم للحق‬
‫ن الصفة الوحيدة المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم‪ ،‬ومن الواضح أن‬ ‫وينبغي اللتفات إلى أ ّ‬
‫الظلم له معنى جامٌع واسع ومن مصاديقه الشرك كما تقول الية )‪ (13‬من سورة لقمان )إ ّ‬
‫ن‬
‫‪)...‬الشرك لظلم عظيم‬
‫ن استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق اُلخرى‬ ‫كما أ ّ‬
‫أيضًا‪ ،‬ثّم بعد هذا كله فإن قوم فرعون ظلموا أنفسهم بأعمالهم المخالفة‪ ،‬وهكذا يمكن تلخيص‬
‫أهداف دعوة النبياء جميعهم بمبارزة الظلم‬
‫]‪[348‬‬
‫‪!...‬بجميع أبعاده‬
‫ب العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة‬ ‫ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لر ّ‬
‫ن( وأخشى أن ُأطرد قبل أن أكمل‬ ‫ب إّني أخاف أن يكذبو ِ‬
‫العظمى‪ ،‬فيقول في الية التالية‪) :‬قال ر ّ‬
‫‪...‬أداء رسالتي بما ُألقيه من صخب وتكذيب فل يتحقق الهدف المنشود‬
‫ن فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر‪،‬‬ ‫وكان لموسى الحق في كلمه هذا تمامًا‪ ،‬ل ّ‬
‫سوا بأدنى نغمة مخالفة لي شخص بادروا إلى‬ ‫بحيث لم يكن لحد أن يخالفهم ولو برأيه‪ ،‬وإذا أح ّ‬
‫‪..‬الجهاز عليه فورًا‬
‫‪).‬وإضافة إلى ذلك فان صدري ل يّتسع لستيعاب هذه الرسالة اللهية‪) :‬ويضيق صدري‬
‫‪)...‬ثّم بعد هذا كله فلساني قد يعجز عن بيانها‪) :‬ول ينطلق لساني‬
‫)فلذلك فإني أطلب أن تشّد أزري بأخي )فأرسل إلى هارون(‪1).‬‬
‫‪.‬لنؤدي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين‬
‫ي ذنب( كما يعتقدون لّني قتلت‬‫ن قوم فرعون يطاردونني )ولهم عل ّ‬ ‫وبغض النظر عن كّل ذلك فإ ّ‬
‫واحدًا منهم ـ حين كان يتنازع مع إسرائيلي مظلوم ـ بضربة حاسمة! وأنا قلق من ذلك )فأخاف أن‬
‫‪).‬يقتلو ِ‬
‫ن‬
‫ن موسى)عليه السلم( كان يرى أربع مشاكل كبرى في طريقه‪ ،‬فكان يطلب من ال‬ ‫وفي الحقيقة إ ّ‬
‫‪...‬حّلها لداء رسالته وهذه المشاكل هي‬
‫‪.‬مشكلة التكذيب‬
‫‪.‬مشكلة ضيق الصدر‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ف وتقديره‪ :‬فأرسل جبرئيل إلى هارون ‪1‬‬ ‫‪.‬ـ في هذه الجملة حذ ٌ‬
‫]‪[349‬‬
‫‪.‬مشكلة عدم الفصاحة الكافية‬
‫!و مشكلة القصاص‬
‫ن موسى لم يكن خائفًا على نفسه‪ ،‬بل كان خوفه أن ل يصل إلى الهدف والمقصد‬ ‫ويّتضح ضمنًا أ ّ‬
‫‪!...‬للسباب آنفة الذكر‪ ،‬لذلك فقد كان يطلب من ال سبحانه مزيد القّوة لهذه المواجهة‬
‫طلبات موسى)عليه السلم( من ال في هذا الصدد خير شاهد على هذه الحقيقة‪ ،‬إذ طلب أن يشرح‬
‫صدره وحّل عقدة لسانه وأن يرسل إلى هارون للمعاضدة في التبليغ كما جاء ذلك في سورة طه‬
‫سرلي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا‬ ‫ب اشرح لي صدري وي ّ‬ ‫بصورة أكثر تفصيل إذ قال‪) :‬ر ّ‬
‫قولي واجعل لي وزيرًا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري واشركه في أمري كي نسبحك كثيرًا‬
‫‪).‬ونذكرك كثيرًا‬
‫ل لن يضيق‬‫ل( فلن يستطيعوا قتلك‪ ،‬أو ك ّ‬ ‫فاستجاب ال طلب موسى ودعوة الصادقة و)قال ك ّ‬
‫صدرك وينعقد لسانك‪ ،‬وقد أجبنا دعوتك أيضًا في شأن أخيك‪ ،‬فهو مأمور معك في هذه المهّمة‪:‬‬
‫‪).‬فاذهبا بآياتنا( لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد ال‬
‫ن ال بعيد عنكم أو ل يسمع ما تقولن )إّنا معكم مستمعون‬ ‫‪)...‬ول تظّنا بأ ّ‬
‫فإنا معكما ولن اتتركما أبدًا‪ ،‬وسأنصركما في الحوادث الصعبة‪ ،‬فاذهبا مطمئني الخاطر‪ ،‬وامضيا‬
‫‪!...‬في هذا السبيل بأقدام ثابتة وعزيمة راسخة‬
‫ن ال سبحانه أعطى لموسى الطمئنان الكافي في جمل ثلث وحّقق له طلبه‪ ...‬إذ طمأنه‬ ‫وهكذا فإ ّ‬
‫ن قوم فرعون لن يقتلوه ولن يستطيعوا ذلك‪ ...‬ولن تحدث له مشكلة بسبب‬ ‫بقوله‪) :‬كل( على أ ّ‬
‫ضيق صدره أو التلكؤ في لسانِه وبقوله‪) :‬فاذهبا بآياتنا( أرسل أخاه ليعينه على أمره‪ .‬وبقوله‪:‬‬
‫‪)!...‬إنا معكم مستمعون( وعدهما أّنهما سيكونان أبدًا تحت ظل خيمته وحمايته‬
‫]‪[350‬‬
‫ومّما ينبغي اللتفات إليه ورود الضمير في آخر الجملة بصيغة الجمع في قوله‪) :‬إنا معكم( ولعل‬
‫ذلك إشارة إلى أن ال حاضر مع موسى وهارون ومن يواجهانهما من الطغاة والفراعنة في جميع‬
‫‪!...‬المحاورات‪ ،‬ويسمع ما يدور بينهم جميعًا‪ ،‬فينصر موسى وأخاه هارون على أولئك الطغاة‬
‫سرين من أن كلمة "مع" دالة على النصرة والحماية فل تشمل قوم‬ ‫وما ذهب إليه بعض المف ّ‬
‫حضور الخالق الدائم في جميع الميادين والمحاورات حتى‬ ‫فرعون‪ ،‬غير سديد‪ ،‬بل إن "مع" تعني ُ‬
‫مع المذنبين‪ ،‬حتى مع المذنبين‪ ،‬وحتى مع الموجودات التي ل روح فيها‪ ،‬فهو في كل مكان ول‬
‫‪.‬يخلو منه مكان‬
‫‪.‬والتعبير بـ "مستمعون"‪ ،‬أي الصغاء المقرون بالتوجه هو تأكيد على هذه الحقيقة أيضًا‬

‫***‬
‫]‪[351‬‬

‫اليات‬

‫ك ِفيَنا‬
‫سرِءيَل)‪َ (17‬قاَل َأَلْم ُنَرّب َ‬ ‫سْل َمَعَنا َبِنى ِإ ْ‬
‫ن َأْر ِ‬‫ن)‪َ (16‬أ ْ‬ ‫ب اْلَعـَلِمي َ‬
‫سوُل َر ّ‬‫ن َفُقوَل ِإّنا َر ُ‬ ‫عْو َ‬‫َفْأِتَيا ِفْر َ‬
‫ن)‪َ (19‬قاَل‬ ‫ن الكـِفِري َ‬‫ت ِم َ‬‫ت َوَأن َ‬
‫ك اّلِتى َفَعْل َ‬‫ت َفْعَلَت َ‬
‫ن)‪َ (18‬وَفَعْل َ‬ ‫سِني َ‬
‫ك ِ‬‫عُمِر َ‬
‫ن ُ‬ ‫ت ِفيَنا ِم ْ‬ ‫َوِليدًا َوَلِبْث َ‬
‫جَعَلِنى ِم َ‬
‫ن‬ ‫حْكمًا َو َ‬
‫ب ِلى َرّبى ُ‬ ‫خْفُتُكْم َفَوَه َ‬
‫ت ِمنُكْم َلّما ِ‬ ‫ن)‪َ (20‬فَفَرْر ُ‬ ‫ضآّلي َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫َفَعْلُتَهآ ِإذًا َوَأَنْا ِم َ‬
‫ت َبِنى ِإسرِءيَل)‪22‬‬
‫عّبد ّ‬
‫ن َ‬
‫ى َأ ْ‬
‫عَل ّ‬
‫ك ِنْعَمٌة َتُمّنَها َ‬
‫ن )‪َ(21‬وِتْل َ‬
‫سِلي َ‬
‫)اْلُمْر َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬مواجهة فرعون مواجهًة منطقية وقاطعة‬
‫انتهت في اليات المتقدمة المرحلة اُلولى لمأمورية "موسى)عليه السلم(" وهي موضوع الوحي‬
‫‪"!...‬والرسالة" وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير‬
‫وتعقيبًا على المرحلة النفة تأتي اليات ـ محل البحث ـ لتمثل المرحلة الّثانية‪ ،‬أي مواجهة موسى‬
‫!وهارون لفرعون‪ ،‬والكلم المصيري الذي جرى بينهم‬
‫تقول الية اُلولى من هذه اليات مقدمًة لهذه المرحلة‪) :‬فأتيا فرعون فقول‬
‫]‪[352‬‬
‫ب العالمين‬
‫‪).‬إّنا رسول ر ّ‬
‫ي ثمن‬‫وجملة )فأتيا فرعون( تكشف عن أّنهما ينبغي أن يواجها فرعون نفسه بأّية قيمة أو أ ّ‬
‫‪...‬كان‬
‫والتعبير بـ "رسول" بصيغة الفراد مع أّنهما "موسى وهارون" نبّيان مرسلن‪ ،‬يشير إلى وحدة‬
‫طة واحدة وهدف واحد‪1).‬‬ ‫خّ‬‫)دعوتهما‪ ،‬فكأّنهما روحان في بدن واحد لهما ِ‬
‫ب العالمين اطلبا منه أن ُيرسل بني إسرائيل ويرفع يده‬‫وضمن دعوتكما لفرعون بأّنكما رسول ر ّ‬
‫‪).‬عنهم‪) :‬أن أرسل معنا بني إسرائيل‬
‫وبديهي أن المراد من الية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل نيْر العبودّية والقهر والستعباد‪،‬‬
‫‪.‬ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون‪ ،‬وليس المراد هو إرسال بني إسرائيل معهما فحسب‬
‫وهنا يلتفت فرعون فيتكلم بكلمات مدروسة وممزوجة بالخبث والشيطنة لينفي الرسالة ويقول‬
‫‪...).‬لموسى‪) :‬ألم نرّبك فينا وليدًا‬
‫إْذ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فإنقذناك من الهلك‪ ،‬وهّيأنا لك مرضعة‪ ،‬وعفونا عن الحكم‬
‫الصادر في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشمول به‪ ،‬فترّبيت في محيط هادىء آمن منّعما‪...‬‬
‫‪).‬وبعد أن تربيت في بيتنا عشت زمانًا )ولبثت فينا من عمرك سنين‬
‫‪).‬ثّم توجه إلى موسى وذكّره بموضوع قتل القبطي فقال‪) :‬وفعلت فعلتك التي فعلت‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫رسول" من الكلمات التي تطلق على المفرد والجمع‪ ،‬وإن ‪1‬‬ ‫ـ يقول الراغب في "المفردات"‪" :‬ال ّ‬
‫سل" فمنهم من يرى أنها مصدر أيضاً ومعناها الرسالة‪ ،‬ونعرف أنه ل‬ ‫جمعت أحيانًا على "الر ُ‬
‫تثنية ول جمع في المصدر‪ .‬وقد ورد في لسان العرب أن الّرسول بمعنى الرسالة‪ ،‬إّل أن هذه‬
‫الكلمة تحمل المعنى الوصفي حتمًا‪ ،‬وكثيرًا ما تجمع أو تثنى وقد ورد في سورة طه عن هذه‬
‫‪"!...‬القصة وقصة موسى وهارون‪" :‬إّنا رسول ربك‬
‫]‪[353‬‬
‫!إشارًة إلى أنه كيف يمكنك أن تكون نبّيا ولديك مثل هذه السابقة؟‬
‫ثّم بعد هذا كله‪) :‬وأنت من الكافرين(! )أي بنعمة فرعون( فلطالما جلست على مائدتنا وتناولت‬
‫!من زادنا فكيف تكون نبّيا وأنت كافر بنعمتي؟‬
‫وفي الحقيقة; كان فرعون يريد أن يجعل موسى محكومًا بهذه التهم المواجهة إليه‪ ،‬وبهذا المنطق‬
‫‪.‬الستدراجي‬
‫صة القتل المذكورة هنا هو ما جاء في سورة القصص "الية ‪ 15‬منها" حيث جاء‬ ‫والمراد من ق ّ‬
‫فيها أن موسى وجد رجلين يقتتلن هذا من شيعته وهذا من عدّوه‪ ،‬فاستغاثة الذي هو من شيعته‬
‫‪!...‬على الذي من عدّوه فوكزه موسى فقضى عليه انتصارًا لشيعته‬
‫وعندما سمع موسى كلمات فرعون الممزوجة بالخبث والشيطنة أجاب على إشكالت فرعون‬
‫الثلثة‪ ،‬إّل أنه قّدم الجابة على الشكال الّثاني نظرًا لهميته‪) .‬أو أنه أساسًا لم يجد الشكال الّول‬
‫يستحق الجابة‪ ،‬لن تربية الشخص ل تكون دليل على عدم جواز هداية مرّبية إن كان المربي‬
‫)ضال‪ ،‬ليسلك سبيل الرشاد‬
‫‪).‬وعلى كل حال أجابه موسى)عليه السلم(‪) :‬قال فعلتها إذًا وأنا من الضالين‬
‫سرين على المراد من كلمة "الضالين" الواردة في تعبير موسى)عليه‬ ‫وهنا كلم طويل بن المف ّ‬
‫ي سابقُة سوء حتى قبل مرحلة النبّوة‪ ..‬لّنها تزلزل‬ ‫السلم(‪ ...‬لّنه كما نعلم ل مجال لن تكون للنب ّ‬
‫ن العصمة في‬ ‫موقعه في أفكار عاّمة الناس‪ ،‬ويبقى الهدف من بعثته ناقصًا غيِر تام‪ ،‬ولذلك فإ ّ‬
‫‪...‬النبياء لزمة حتى قبل زمان نبوتهم!‪ ...‬هذا من جهة‬
‫ومن جهة ُأخرى ينبغي أن يكون هذا الكلم جوابًا مسكتًا ومضحمًا لفرعون! لذلك فإن كثيرًا من‬
‫سرين يعتقدون أن المراد من "الضال" هنا هو كوُنه أخطأ في الموضوع‪ ،‬أي أن موسى كانت‬ ‫المف ّ‬
‫ضربته للرجل القبطي ل بقصد القتل‪ ،‬بل لكي‬
‫]‪[354‬‬
‫يحمي المظلوم ويدافع عنه‪ ،‬ولم يدر أّنه ستؤول ضربته إلى الجهاز عليه وقتله‪ ،‬فبناًء على ذلك‬
‫ن الضاّل هنا معناه "الغافل" والمراد منه الغافل عن العاقبة التي أّدى عمله إليها‬ ‫‪.‬فإ ّ‬
‫ي خطأ في قتل القبطي الظالم لّنه كان‬ ‫ن المراد من ذلك أّنه لم يكن أ ّ‬
‫سرين‪ :‬إ ّ‬
‫وقال بعض المف ّ‬
‫ن موسى)عليه السلم( يريد أن يقول‪ :‬إّنه لم يدر أن عاقبة عمله ستكون على هذا‬ ‫مستحقًا‪ ،‬بل إ ّ‬
‫الوجه‪ ،‬وأنه ل يستطيع البقاء في مصر وعليه أن يخرج بعيدًا عن وطنه‪ ،‬وأن يتأخر منهجه "في‬
‫‪".‬أداء رسالته‬
‫ن هذا ل يعّد جوابًا لفرعون‪ ،‬بل هو موضوع كان لموسى أن يبّينه لتباعه ومن‬ ‫ولكن الظاهر أ ّ‬
‫‪!...‬حوله من محّبيه! ل أنه رّد على إشكال فرعون‬
‫والّتفسير الّثالث الذي من المحتمل أن يكون مناسبًا أكثر لمقام موسى)عليه السلم(ـ من جهات‬
‫متعددة ـ ويتلءم وعظمة كيانه‪ ،‬أن موسى)عليه السلم( استخدم التورية في تعبيره جوابًا على‬
‫ن ال عّرفه إياه‬‫كلم فرعون‪ ،‬فقال كلمًا ظاهره أّنه لم يعرف طريق الحق في ذلك الزمان ‪ ...‬لك ّ‬
‫بعدئذ‪ ،‬ووهب له حكمًا ـ فجعله من المرسلين‪ ،‬إّل أنه كان يقصد في الباطن أنه لم يدر أن عمله‬
‫ن أصل عمله كان حقًا‬ ‫حينئذ سيؤدي إلى هذه النتيجة! من الجهد والعناء واضطراب البال ـ مع َأ ّ‬
‫ومطابقًا لقانون العدالة "أو أنه يوم كانت هذه الحادثة قد وقعت كان موسى)عليه السلم( قد ضّل‬
‫‪"...‬طريقه فصادف أمامه هذه القضّية‬
‫ونحن نعرف أن "التورية" هي أن يقول النسان كلمًا باطنه حق‪ ،‬إّل أن الطرف الخر يفهُم من‬
‫صة ُيبتلى النسان فيها بالحرج أو الضيق‪ ،‬ول‬ ‫ظاهره شيئًا آخر‪ ،‬وهذا المر يقع في موارد خا ّ‬
‫)يريد أن يكذب‪ ،‬وهو في الوقت ذاته على ظاهر كلمه‪1)...‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ هذا الكلم يوافق مضمون الحديث الوارد عن المام الرضا)عليه السلم( في تفسير الية‪1 ،‬‬
‫‪".‬راجع كتاب عيون اخبار الرضا‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪ 48‬نقل عن "نور الثقلين‬
‫]‪[355‬‬
‫!)ثّم يضيف موسى قائل‪) :‬ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًا وجعلني من المرسلين‬
‫سرين في المراد من "الحكم" في هذه الية‪ ،‬أهو مقام النبوة‪ ،‬أم‬
‫وهناك اختلف بين كلمات المف ّ‬
‫مقام العلم‪ ،‬أم سواهما؟! لكن مع ملحظة ذيل الية نفسها المذكور فيها مقام الرسالة بإزاء الحكم‬
‫!يّتضح أّنه غير الرسالة والنبّوة‬
‫والشاهد الخر على هذا الموضوع الية )‪ (79‬من سورة آل عمران إذ قال‪) :‬ما كان لبشر أن‬
‫‪...).‬يؤتيه ال الكتاب والحكم والنبّوة ثّم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون ال‬
‫إن كلمة "الحكم" تعني في اللغة‪ :‬المنع من أجل الصلح‪ ،‬هذا هو الصل في ما وضعت له‪ ،‬ولذا‬
‫صَدَقة( ثّم أطلقت هذه الكلمة على ما يطابق الحكمة‪،‬‬ ‫حَكمًة" على وزن ) َ‬‫سّموا لجام الحيوان " َ‬
‫ومن هنا سمي العقل والعلم حكمًا أيضًا لهذا التناسب‪ ،‬وقد يقال‪ :‬إّنه يستفاد من الية )‪ (14‬من‬
‫سورة القصص أن موسى)عليه السلم( كان قد بلغ مقام الحكم والعلم قبل هذه القضية إذ تقول‪:‬‬
‫‪)).‬ولما بلغ أشّده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا‬
‫فنجيب على ذلك أن للعلم والحكمة مراحل مختلفة‪ ،‬فكان موسى)عليه السلم( قد بلغ مرحلة منهما‬
‫‪!...‬من قبل‪ ،‬وحين بلغ مقام النبّوة أدرك المرحلة الكمل‬
‫ن به عليه في أّنه رّباه وتعهده منذ طفولته‬ ‫ثّم يرّد موسى)عليه السلم( على كلم فرعون الذي يم ّ‬
‫ي أن عّبدت بني إسرائيل‬‫‪).‬وصباُه‪ ،‬معترضًا عليه بلحن قاطع فيقول‪) :‬وتلك نعمة تمّنها عل ّ‬
‫ن يد الحوادث ساقتني ـ وأنا طفل رضيع ـ إلى قصرك‪ ،‬لترّبى في كنفك‪ ،‬وكان في ذلك‬ ‫صحيح أ ّ‬
‫ي وفي بيتهما؟‬
‫ت في أحضان والد ّ‬ ‫!بيان لقدرة ال‪ ،‬لكن ترى كيف جئت إليك؟ ولم ل تربي ُ‬
‫ألم يكن ذلك لّنك عّبدت بني إسرائيل وصّفدت أيديهم بنير السر! حتى‬
‫]‪[356‬‬
‫!أمرت أن ُيقتل الطفال الذكور وتستحيا النساء للخدمة؟‬
‫ي‪ ،‬وتلقيني في‬
‫فهذا الظالم المفرط من قبلك‪ ،‬كان سببًا لن تضعني ُامي في الصندوق حفاظًا عل ّ‬
‫أمواج النيل‪ ،‬وكانت مشيئة ال أن تسوق المواج "زورقي" الصغير حتى توصله إلى قصرك‪...‬‬
‫أجل إن ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين مّنتك وحرمني من بيت أبي الكريم‪ ،‬وصيرني في‬
‫‪!...‬قصرك الملّوث‬
‫‪.‬وبهذا الّتفسير يّتضح ارتباط جواب موسى بسؤال فرعون تمامًا‬
‫ن مراد موسى)عليه السلم( هو اِلعتراض على فرعون بأّنه لو‬ ‫كما يحتمل في تفسير هذه الية أ ّ‬
‫كانت تربيتي عندك نعمًة من قبلك‪ ،‬فهي إزاء ظلمك لبني إسرائيل بمثابه القطرة في مقابل البحر‪،‬‬
‫ي مع ما عندك من الظلم والجور على الناس؟‬ ‫!فأية نعمَة لك عل ّ‬
‫والّتفسير الّثالث لجواب موسى لفرعون‪ ،‬هو أّنه‪ :‬لو تربيت في قصرك وتمتعت بنعمك المختلفة‪،‬‬
‫فل تنس ُبناة قصرك الوائل فهم أرّقاء من قومي‪ ،‬والموجدون لجميع تلك النعم هم أسراؤك من‬
‫ي بجهود قومي وأتعابهم؟‬ ‫ن عل ّ‬
‫!بني إسرائيل‪ ،‬فكيف تم ّ‬
‫!وهذه التفاسير الثلثة ل تتنافى جميعًا‪ ،‬وإن كان الّتفسير الّول من بعض الجهات أكثر وضوحًا‬
‫ويستفاد من عبارة‪" :‬من المرسلين" ضمنًا بأّنني لست الوحيد المرسل من قبل ال‪ .‬فمن قبلي‬
‫سل عّدة‪ ،‬وأنا واحٌد منهم‪ ،‬إّل أن فرعون نسَيهم أو تناساهم‬‫!!جاء ُر ُ‬
‫***‬
‫]‪[357‬‬

‫اليات‬

‫ن)‪(24‬‬ ‫ض َوَما َبْيَنُهَما ِإن ُكنُتم ّموِقِني َ‬ ‫ت َواَْلْر ِ‬ ‫سَمـَو ِ‬‫ب ال ّ‬‫ن)‪َ (23‬قاَل َر ّ‬ ‫ب الَعـَلِمي َ‬
‫ن َوَما ِر ّ‬ ‫عْو ُ‬‫َقاَل ِفْر َ‬
‫سَل‬
‫سوَلُكُم اّلِذى ُأْر ِ‬
‫ن َر ُ‬‫ن)‪َ (26‬قاَل ِإ ّ‬ ‫ب َءاَباِئُكُم اَْلّوِلي َ‬
‫ن)‪َ (25‬قاَل َرّبُكْم َوَر ّ‬ ‫سَتِمُعو َ‬‫حْوَلُه َأَل َت ْ‬
‫ن َ‬ ‫َقاَل ِلَم ْ‬
‫ن)‪َ (28‬قاَل َلِئن اّتخَْذ َ‬
‫ت‬ ‫ب َوَما َبْيَنُهمآ ِإن ُكنُتْم َتْعِقُلو َ‬ ‫ق َواْلَمْغِر ِ‬‫شِر ِ‬‫ب اْلَم ْ‬
‫ن)‪َ (27‬قاَل َر ّ‬ ‫جُنو ٌ‬
‫ِإَلْيُكْم َلم ْ‬
‫ن)‪29‬‬ ‫جوِني َ‬‫سُ‬ ‫ن اْلَم ْ‬
‫ك ِم َ‬‫جَعَلّن َ‬
‫غْيِرى َل ْ‬ ‫)ِإَلهًا َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬التهام بالجنون والتهديد بالسجنِ‬
‫حين واجه موسى)عليه السلم( فرعون بلهجة شديدة‪ :‬وأجابه بضرس قاطع‪ ،‬وأفحم فرعون في‬
‫ب العالمين‪ ،‬و )قال‬
‫رّده‪ ،‬غّير فرعون مجرى كلمه‪ ،‬وسأل موسى عن معنى كلمه أّنه رسول ر ّ‬
‫ب العالمين‬
‫‪)..‬فرعون وما ر ّ‬
‫ومن المستبعد جّدا أن يكون فرعون قد سأل موسى)عليه السلم( هذا السؤال لفهم الحقيقة‬
‫‪.‬ومعرفة الموضوع‪ ،‬بل يبدو أّنه سأله متجاهل ومستهزئًا‬
‫]‪[358‬‬
‫ن موسى ـ على كل حال ـ لم يجد ُبدًا كسائر الباحثين الواعين اليقظين‪ ،‬أن يجيب على فرعون‬ ‫إّل أ ّ‬
‫بجّد‪ ...‬وحيث أن ذات ال سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس‪ ،‬فإّنه أخذ يحدثه عن آيات ال في‬
‫ب السماوات والرض وما بينهما إن كنُتْم موقنين‬ ‫‪).‬الفاق وآثاره الحّية إْذ )قال ر ّ‬
‫فالسماوات بما فيهن من عظمة‪ ،‬والرض على سعتها‪ ...‬والموجودات المتعددة بألوانها بحيث ل‬
‫تساوي أنت وقصرك بإزائها إّل ذّرة في مقابل المجّرة! كّلها من خلق رّبي‪ ،‬فمثل هذا الخالق‬
‫‪!...‬المدّبر لهذا العالم جدير بالعبادة‪ ،‬ل الموجود الضعيف التافه مثلك‬
‫ن لكّل موجود في هذا العالم رّبا‪ ،‬وكانوا‬ ‫وينبغي اللتفات إلى أن عبدة الوثان كانوا يعتقدون أ ّ‬
‫ظم متفرقة‪ ،‬إّل أن كلم موسى)عليه السلم( يشير إلى أن هذا النظام‬ ‫يعّدون العالم تركيبًا من ُن ُ‬
‫‪...‬الواحد المتحكم على هذه المجموعة في عالم الوجود دليل على أن له رّبا واحدًا‬
‫ن موسى)عليه السلم( يريد أن يفهم فرعون ومن‬ ‫وجملة )إن كنتم موقنين( لعلها إشارًة إلى أ ّ‬
‫حوله ـ ولو تلويحًا ـ أنه يعرف أن الهدف من هذا السؤال ليس إدراك الحقيقة‪ ...‬لّنه لو أراد‬
‫إدراك الحقيقة والبحث عنها لكان استدلله كافيًا‪ ..‬فكأّنه يقول لهم‪ :‬افتحوا أعينكم قليل وتفكروا‬
‫ساعة في السماوات والرض بما فيهما من الثار وعجائب المخلوقات‪ ...‬لتطلعوا على معالمها‬
‫!وتصححوا نظرتكم نحو الكون‬
‫إّل أن فرعون لم يتيقظ من نومة الغافلين بهذا البيان المتين المحكم لهذا المعلم الكبير الّرباني‬
‫السماوي‪ ...‬فعاد لمواصلة الستهزاء والسخرية‪ ،‬واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور‪ ،‬و )قال‬
‫‪).‬لمن حوله أل تستمعون‬
‫ومعلوم من هم الذين حول فرعون؟ فهم أشخاص من نسيجه وجماعة من أصحاب القّوة والظلم‬
‫‪.‬والقهر والمال‬
‫]‪[359‬‬
‫)يقول ابن عباس‪ :‬كان الذين حول فرعون هناك خمسمائة نفر‪ ،‬وهم يعّدون من خواص قومه‪1).‬‬
‫وكان الهدف من كلم فرعون أن ل يترك كلم موسى المنطقي يؤثر في القلوب المظلمة ُلولئك‬
‫‪.‬الرهط‪ ...‬فعّده كلمًا بل محتوى وغير مفهوم‬
‫إّل أن موسى)عليه السلم( عاد مّرة ُأخرى إلى كلمه المنطقي دون أي خوف ول وهن ول إيهام‪،‬‬
‫ب آبائكم الولين‬
‫‪).‬فواصل كلمه و )قال رّبكم ور ّ‬
‫إن موسى)عليه السلم( بدأ في المرحلة اُلولى بـ "اليات الفاقية"‪ ،‬وفي المرحلة الّثانية أشار‬
‫إلى "اليات النفسية"‪ ،‬وأشار إلى أسرار الخلق في وجود الناس أنفسهم وآثار ربوبية ال في‬
‫أرواح البشر وأجسامهم‪ ،‬ليفكر هؤلء المغرورون على القّل في أنفسهم ويحاولوا التعّرف عليها‬
‫‪.‬وبالتالي معرفة من خلقها‬
‫إّل أن فرعون تمادى في حماقته‪ ،‬وتجاوز مرحلة الستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون‪ ،‬فـ )قال إ ّ‬
‫ن‬
‫‪)...‬رسولكم الذي ُأرسل إليكم لمجنون‬
‫وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين‬
‫‪!...‬الّربانيين‬
‫ن رسولنا الذي‬ ‫ن يقول‪" :‬إ ّ‬
‫ومّما يستجلب النظر أن هذا الضاّل المغرور لم يكن مستعّدا حتى ل ّ‬
‫ن رسولكم الذي أرسل إليكم"‪ ،‬لن التعبير برسولكم ـ أيضًا ـ له طابع‬ ‫أرسل إلينا"‪ ،‬بل قال‪" :‬إ ّ‬
‫الستهزاء المقترن بالنظرة الستعلئية‪ ...‬يعني‪ :‬إنني أكبر من أن يدعوني رسول‪ ...‬وكان الهدف‬
‫ي المتين لئل يترك أثرًا في أفكار‬
‫من اتهامه موسى بالجنون هو إحباط وإفشال منطقه القو ّ‬
‫‪.‬الحاضرين‬
‫إّل أن هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى)عليه السلم( ومعنوياته العالية‪ ،‬وواصل بيان آثار ال‬
‫في عالم اليجاد في الفاق والنفس‪ ،‬مبينًا خط التوحيد الصيل فـ )قال‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ راجع تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل الية محل البحث ‪1‬‬
‫]‪[360‬‬
‫ب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون‬ ‫‪).‬ر ّ‬
‫ن حكومة رّبي‬ ‫فإذا كنت ـ يا فرعون ـ تحكم حكما ظاهرّيا في أرض محدودة تدعى مصر‪ ،‬فإ ّ‬
‫الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعًا‪ ،‬وآثاره تشرق في وجوه الموجودات!‪...‬‬
‫ن هذه الشمس في شروقها وغروبها وما يتحكم فيها من نظام‪ ،‬كل ذلك بنفسه آية له‬ ‫وأساسًا فإ ّ‬
‫ن العيب كامن فيكم‪ ،‬لّنكم ل تعقلون‪ ،‬ولم تعتادوا التفكير )وينبغي‬ ‫ودليل على عظمته‪ ...‬إّل أ ّ‬
‫اللتفات إلى أن جملة )إن كنتم تعقلون( هي إشارة إلى أنه لو كنتم تتفكرون وتستعملون العقل في‬
‫‪).‬ماضي حياتكم وحاضرها لتوصلتم إلى إدراك هذه المسألة‬
‫وفي الواقع إن موسى)عليه السلم( أجاب على اتهامهم إياه بالجنون بأسلوب بليغ بأّنه ليس‬
‫مجنونًا‪ ،‬وأن المجنون هو من ل يرى كل هذه الثار ودلئل وجود الخالق‪ ،‬والعجيب أنه مع وجود‬
‫‪!".‬الثار على باب الدار والجدار‪ ،‬فانه يوجد من ل يفكر في هذه الثار‬
‫ن موسى)عليه السلم( أشار بادىء المر إلى تدبير أمر السماوات والرض‪ ،‬إّل أنه‬ ‫وصحيح أ ّ‬
‫حيث أن السماء عالية جدًا‪ ،‬وأن الرض ذات أسرار غربية‪ ،‬فقد وضع موسى)عليه السلم( أخيرًا‬
‫إصبعه على نقطة ل يمكن لحد إنكارها; ويواجهها اِلنسان كّل يوم‪ ،‬وهي نظام طلوع الشمس‬
‫ن بيده نظامها أبدًا‬‫‪...‬وغروبها وما فيها من منهج دقيق‪ ...‬وليس لحد من البشر أن يدعي أ ّ‬
‫والتعبير بـ "ما بينهما" إشارة إلى الوحدة والرتباط في ما بين المشرق والمغرب‪ ،‬وهكذا كان‬
‫ب السماوات والرض وما بينهما‬ ‫‪).‬التعبير في شأن السماوات والرض‪) .‬قال ر ّ‬
‫‪...‬ويبّين التعبير )رُبكم ورب آبائكم الولين( أيضًا ارتباط النسل والوحدة فيه‬
‫غير أن هذا المنطق المتين الذي ل يتزعزع غاظ فرعون بشدة‪ ،‬فالتجأ إلى‬
‫]‪[361‬‬
‫استعمال "حربة" يفزع إليها المستكبرون عند الندحار‪ ،‬فجابه موسى و )قال لئن اتخذت إلهًا‬
‫‪).‬غيري لجعلنك من المسجونين‬
‫فأنا ل أعرف كلماتك‪ ،‬إّنما أعرف وجود اله ومعبود كبير وهو أنا‪ ...‬ومن قال بغيره فهو محكوم‬
‫‪!...‬بالعدام أو السجن‬
‫سرين أن اللف واللم في "من المسجونين" هما للعهد‪ ،‬وهي إشارة إلى سجن‬ ‫ويعتقد بعض المف ّ‬
‫)خاص من ألقي فيه يبقى سجينًا حتى تخرج جنازته‪1).‬‬
‫وفي الواقع كان فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الرهابي‪ ،‬لن مواصلة موسى)عليه‬
‫السلم( بمثل هذه الكلمات ستكون سببًا في إيقاظ الناس‪ ،‬وليس أخطر على الجبابرة من شيء‬
‫‪!...‬كإيقاظ الناس‬

‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ راجع تفسير الميزان‪ ،‬والفخر الرازي‪ ،‬وروح المعاني ذيل الية محل البحث ‪1‬‬
‫]‪[362‬‬

‫اليات‬

‫صاُه َفِإَذا ِهىَ‬


‫ع َ‬ ‫ن)‪َ (31‬فَأْلَقى َ‬ ‫صـِدِقي َ‬‫ن ال ّ‬
‫ت ِم َ‬
‫ت ِبِه ِإن ُكن َ‬ ‫ىء ّمِبين)‪َ (30‬قاَل فْأ ِ‬ ‫شْ‬ ‫ك ِب َ‬‫جْئُت َ‬
‫َقاَل َأَوَلْو ِ‬
‫عِليٌم)‬‫حٌر َ‬‫سـ ِ‬‫ن َهَذا َل َ‬ ‫حْوَلُه ِإ ّ‬
‫ن)‪َ (33‬قاَل ِلْلَملِء َ‬ ‫ظِري َ‬ ‫ضآُء ِللّنـ ِ‬
‫ى َبي َ‬‫ع َيَدُه َفِإَذا ِه َ‬
‫ن)‪َ (32‬وَنَز َ‬ ‫ن ّمِبي ٌ‬
‫ُثْعَبا ٌ‬
‫ث ِفى اْلَمَدآِئ ِ‬
‫ن‬ ‫خاُه َواْبَع ْ‬‫جْه َوَأ َ‬‫ن)‪َ (35‬قاُلوْا َأْر ِ‬ ‫حِرِه َفَماَذا َتْأُمُرو َ‬‫سْ‬‫ضُكم ِب ِ‬
‫ن َأْر ِ‬ ‫جُكم ّم ْ‬‫خِر َ‬‫‪ُ (34‬يريُد َأن ُي ْ‬
‫عِليم)‪37‬‬ ‫حار َ‬ ‫سّ‬ ‫ك ِبُكّل َ‬ ‫ن)‪َ (36‬يْأُتو َ‬ ‫شِري َ‬‫حـ ِ‬‫)َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬بلدكم في خطر‬
‫رأينا في اليات المتقدمة كيف حافظ موسى)عليه السلم( على تفّوقه ـ من حيث المنطق ـ على‬
‫فرعون‪ ،‬وبّين للحاضرين إلى أّية درجة يعّول مبدؤه على منطقه وعقله‪ ،‬وأن ادعاء فرعون واه‬
‫وضعيف‪ ،‬فتارة يسخر من موسى‪ ،‬وتارًة يرميه بالجنون‪ ،‬وأخيرًا يلجأ إلى التهديد بالسجن‬
‫‪!...‬والعدام‬
‫وهنا يقلب موسى)عليه السلم( صفحة جديدة‪ ،‬فعليه أن يسلك طريقًة أخرى يخذل‬
‫]‪[363‬‬
‫فيها فرعون ويعجزه‪ .‬عليه أن يلجأ إلى القّوة أيضًا‪ ،‬القّوة اللهية التي تنبع من العجاز‪ ،‬فالتفت‬
‫‪)...‬إلى فرعون متحّديا و )قال أو لوجئتك بشىء مبين‬
‫طة‬‫وهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود‪ ...‬لن موسى)عليه السلم( أشاَر إلى خ ّ‬
‫جديدة! ولفت انظار الحاضرين نحوه‪ ،‬إذ لو أراد فرعون أن ل يعتّد بكلمه‪ ،‬لعترض عليه الجميع‬
‫ولقالوا‪ :‬دعه ليرينا عمله المهم‪ ،‬فلو كان قادرًا على ذلك فلنرى‪ ،‬ونعلم حينئذ أّنه ل يمكن الوقوف‬
‫‪...‬امامه‪ ،‬وإّل فستنكشف مهزلته!! وعلى كل حال ليس من اليسير تجاوز كلم موسى ببساطة‬
‫فاضطر فرعون إلى الستجابة ل قتراح موسى)عليه السلم( و )قال فأت به إن كنت من‬
‫‪).‬الصادقين‬
‫‪".‬فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين( "بأمر ال(‬
‫ثّم أظهر إعجازًا آخر حيث أدخل يده في جيبه )اعلى الثوب( وأخرجها فاذا هي بيضاء منيرة‪:‬‬
‫‪)).‬ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين‬
‫في الحقيقة إن هاتين المعجزتين الكبيرتين‪ ،‬إحداهما كانت مظهر الخوف‪ ،‬واُلخرى مظهر المل‪،‬‬
‫فاُلولى تناسب مقام النذار‪ ،‬والّثانية للبشارة! واُلولى تبّين عذاب ال‪ ،‬واُلخرى نوٌر وآية رحمة!‬
‫ن المعجزة ينبغي أن تكون منسجمًة مع دعوة الّنبي)عليه السلم‬ ‫‪).‬ل ّ‬
‫الثعبان" معناه الحية العظيمة‪ ،‬ويحتمل الراغب في مفرداته أن "الثعبان" من مادة )ثعب("‬
‫ن حركة هذا الحيوان تشبه النهار المتحركة‬ ‫!المأخوذ معناه من جريان الماء‪ ،‬ل ّ‬
‫صا موسى)عليه السلم(تبدلت إلى‬ ‫نع ّ‬‫والتعبير بـ "المبين" لعله إشارة إلى هذه الحقيقة! وهي أ ّ‬
‫‪.‬ثعبان عظيم فعل‪ ،‬ولم يكن في المر من إيهام أو سحر‬
‫ن الية محل البحث عبرت ]عن تبدل العصا[ بـ‬ ‫ول بأس بذكر هذه اللطيفة الدقيقة هنا‪ ،‬وهي أ ّ‬
‫"ثعبان"‪ .‬أّما الية العاشرة من سورة النمل‪ ،‬والية الحادية‬
‫]‪[364‬‬
‫والثلثون من سورة القصص‪ ،‬فقد عبرت عنها بـ "جان" "ما تجّنه)‪(1‬الرض وما يمشي عليها‬
‫من الفاعي الصغار بسرعة وقفز"‪ .‬أّما الية العشرون من سورة طه فقد عّبرت عنها بأّنها‬
‫‪"".‬حية" "المشتّقة من الحياة‬
‫ن الختلف أو التفاوت‬ ‫وهذا التفاوت أو الختلف في التعابير مثير للسؤال في بدو النظر‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫‪:‬إّنما هو لبيان واحد من أمرين‬
‫ن أو حية ‪1‬‬ ‫ـ لعله إشارة إلى حالت ذلك الثعبان المتباينة‪ ،‬ففي البداية تبدلت العصا إلى جا ّ‬
‫‪!...‬صغيرة‪ ،‬ثّم بدأت تكبر حتى صارت ثعبانًا مبينًا‬
‫ل منها يرمز إلى بعض الخصائص ‪2‬‬ ‫ن هذه اللفاظ الثلثة "الثعبان‪ ،‬والجان‪ ،‬والحية" ك ّ‬ ‫ـ أو أ ّ‬
‫الموجودة في تلك العصا المتبدلة إلى حالة جديدة! فالثعبان إشارة إلى عظمتها‪ ،‬والجان إشارة إلى‬
‫!سرعتها‪ ،‬والحية إشارة إلى حياتها‬
‫غير أن فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته‬
‫الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى)عليه السلم(‪ ،‬وكذلك من أجل أن يرفع من‬
‫معنويات أصحابه والمل من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها‪ ،‬فقد )قال للمل‬
‫‪).‬حوله إن هذا لساحر عليم‬
‫ذلك النسان الذي كان يدعوه مجنونًا إلى لحظات آنفة‪ ،‬وإذا هو الن يعبر عنه بالعليم‪ ،‬وهكذا هي‬
‫طريقة الجبابرة وأسلوبهم‪ ،‬حيث تتبدل كلماتهم في مجلس واحد عّدة مّرات‪ ،‬ويحاولون التشبث‬
‫‪.‬بأي شيء للوصول إلى هدفهم‬
‫ن ذلك العصر‬ ‫وكان فرعون يعتقد أن اتهام موسى بالسحر ألصق به وأكثر قبول عند السامعين‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬كان عصر السحر‪ ،‬فإذا أظهر موسى)عليه السلم( معاجزه فمن اليسير توجيهها بالسحر‬
‫ومن أجل أن يعّبىء المل وُيثيَر حفيظتهم ضد موسى)عليه السلم(‪ ،‬قال لهم‪) :‬يريد أن‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن يجن "من الضداد في اللغة" والضّد في اللفاظ ما يحمل معنيين متضادين‪ ،‬مثل الجون ‪1‬‬ ‫ـجّ‬
‫ن بمعنى ستره وأظهره‬ ‫‪.‬يطلق على السود والبيض‪ ،‬وج ّ‬
‫]‪[365‬‬
‫‪).‬يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟‬
‫والغريب في المر أن فرعون الذي قال هذا الكلم هو الذي كان يقول من قبل‪) :‬أليس لي مل ُ‬
‫ك‬
‫!مصر(؟‬
‫ك الناس‪ ،‬فيقول‬ ‫والن حيث يرى عرشه متزعزعًا ينسى مالكيته المطلقة لهذه الرض‪ ،‬ويعّدها مل َ‬
‫‪!...‬لهم‪ :‬أرضكم في خطر‪ ،‬إن موسى يريد أن يخرجكم من أرضكم‪ ،‬ففكروا في حيلة‬
‫فرعون هذا لم يكن قبل ساعة مستعدًا لن يصغي لحد‪ ،‬كان المر بل منازع‪ ،‬أّما الن فهو في‬
‫حرج شديد يقول لمن حوله‪" :‬ماذا تأمرون"؟! إّنها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف‬
‫‪!...‬فحسب‬
‫ن أتباع فرعون ومن حوله ائتمروا فيما بينهم‬‫ويستفاد من الية )‪ (110‬من سورة العراف أ ّ‬
‫وتشاوروا في المر‪ ،‬وكانوا في حالة من اِلضطراب النفسي بحيث كان كّل منهم يسأل الخر‬
‫!قائل‪ :‬وأنت ما تقول؟ وماذا تأمرون؟‬
‫سّنة الجبابرة في كل عصر وزمان‪ ...‬فحين يسيطرون على الوضاع يزعمون أن كل‬ ‫أجل هذه ُ‬
‫شيء لهم‪ ،‬ويعدون الجميع عبيدهم‪ ،‬ول يفهمون شيئًا سوى منطق الستبداد‪ .‬إّل أّنهم حين تهتّز‬
‫عروشهم الظالمة ويرون حكوماتهم في خطر‪ ،‬ينزلون مؤقتًا عن استبدادهم ويلجأون إلى الناس‬
‫ويتحدثون باسم الناس‪ ،‬فالرض أرض الشعب‪ ،‬والحكومة تمثل الشعب ويحترمون آراء الشعب‪،‬‬
‫ولكن حين يستقر الطوفان ويهدأ التيار‪ ،‬فاذا هم أصحاب المس و"عادت حليمة إلى عادتها‬
‫‪".‬القديمة‬
‫ورأينا في عصرنا بقايا السلطين القدامى كيف يحسبون أن الدولة ملكهم المطلق حين ُتقبل الدنيا‬
‫عليهم‪ ،‬ويأمرون من يرفض إتباعهم بالخروج عن تلك البلد قائلين له‪ :‬اذهب في أرض ال‬
‫العريضة الواسعة‪ ،‬ففي هذا البلد لبّد من تنفيذ ما نقول ل غير‪ .‬ورأينا هذه الحالة عندما بدأت‬
‫هّبت رياح الثورة السلمية كيف‬
‫]‪[366‬‬
‫أن الطواغيت أخذوا باحترام الشعب وتعظيمه‪ ،‬وحتى أّنهم أقروا بذنوبهم وطلبوا العفو‪ ،‬ولكن‬
‫‪.‬الناس الذين عرفوا سجّيتهم طوال سنين مديدة لم ينخدعوا بذلك‬
‫وبعد المشاورة فيما بينهم التفت المل من قوم فرعون إليه و )قالوا أرجه وأخاه وابعث في‬
‫‪.‬المدائن حاشرين(‪ (1).‬أي أمهلهما وابعث رسلك الى جميع المناطق والمصار‬
‫حار عليم(‬
‫‪).‬يأتوك بكل س ّ‬
‫وفي الواقع أن رهط فرعون إّما أّنهم غفلوا‪ ،‬وإّما أّنهم قبلوا اتهامه لموسى واعين للمر‪ .‬فهيأوا‬
‫‪!...‬خطًة على أّنه ساحر‪ ،‬ولبّد من مواجهته بسحرة أعظم منه وأكثر مهارة‬
‫ن في بلدنا العريضة سحرًة كثيرين‪ ،‬فلبّد من جمع السحرة لحباط سحر‬ ‫ظإّ‬‫وقالوا‪ :‬لحسن الح ّ‬
‫‪).‬موسى)عليه السلم‬
‫وكلمة )حاشرين( مأخوذه من مادة )الحشر( ومعناه التعبئة والسوق لميدان الحرب وأمثال ذلك‪،‬‬
‫ي ثمن كان‬‫‪!...‬وهكذا فينبغي على المأمورين أن يعبئوا السحرة لمواجهة موسى)عليه السلم( بأ ّ‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫لستعجال في القضاء‪ ،‬والضمير في ‪1‬‬‫ـ )أرجه( مشتّقة من "اِلرجاء"‪ ،‬ومعناها التأخير وعدم ا ِ‬
‫!)أرجه( يعود على موسى‪ ،‬وأصل الكلمة كان )أرجئه( وحذفت الهمزة للتخفيف‬
‫]‪[367‬‬

‫اليات‬

‫سحََرَة ِإن‬
‫ن)‪َ (39‬لَعّلَنا َنّتِبُع ال ّ‬ ‫جَتِمُعو َ‬
‫س ُهْل َأنُتم ّم ْ‬‫ت َيْوم ّمْعُلوم)‪َ (38‬وِقيَل ِللّنا ِ‬ ‫حَرُة ِلِميَقـ ِ‬ ‫سَ‬ ‫جِمَع ال ّ‬ ‫َف ُ‬
‫ن)‪(41‬‬ ‫ن الَغـِلِبي َ‬
‫حُ‬ ‫جرًا ِإن ُكّنا َن ْ‬
‫ن َلَنا َل ْ‬
‫ن َأِئ ّ‬
‫عْو َ‬
‫حَرُة َقاُلوْا ِلِفْر َ‬
‫سَ‬
‫ن )‪َ(40‬فَلّما جآَء ال ّ‬ ‫َكاُنوْا ُهُم الغـِلِبي َ‬
‫ن)‪42‬‬ ‫ن الُمَقّرِبي َ‬
‫)َقاَل َنَعْم َوِإّنُكْم ِإذًا ّلِم َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬اجتماع السحرة من كّل مكان‬
‫صة المثيرة‪ ،‬إذ تحرك المأمورون بحسب اقتراح‬
‫في هذه اليات ُيعرض مشهدًا آخر من هذه الق ّ‬
‫أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم‪ ،‬وكان الوعد المحدد )فجمع السحرة‬
‫‪).‬لميقات يوم معلوم‬
‫وبتعبير آخر‪ :‬إّنهم هيأوهم من قبل لمثل هذا اليوم‪ ،‬كي تجتمعوا في الوعد المقرر في "ميدان‬
‫‪"...‬العرض‬
‫والمراد من "اليوم المعلوم" كما يستفاد من بعض اليات في سورة العراف‪ ،‬أّنه بعض أعياد أهل‬
‫مصر‪ ،‬وقد اختاره موسى)عليه السلم( للمواجهة ومنازلة السحرة‪ ...‬وكان هدفه أن يجد الناس‬
‫‪،‬فرصة أوسع للجتماع‪ ،‬لّنه كان مطمئنًا بأّنه سينتصر‬
‫]‪[368‬‬
‫وكان يريد أن يظهر آيات ال وضعف فرعون والمل من حوله للجميع‪ ،‬وليشرق نور اليمان في‬
‫‪!...‬قلوب جماعة كثيرين‬
‫طلب من الناس الحضور في هذا المشهد‪) :‬وقيل للناس هل أنتم مجتمعون(وهذا التعبير يدّل على‬ ‫وُ‬
‫ن المأمورين من ِقَبِل فرعون بذلوا قصارى جهودهم في هذا الصدد‪ ...‬وكانوا يعلمون أّنهم لو‬ ‫أّ‬
‫ن النسان يكره الجبار ويعرض عنه‬ ‫أجبروا الناس على الحضور لكان رّد الفعل سلبّيا‪ ،‬ل ّ‬
‫بالفطرة! لذلك قالوا‪ :‬هل ترغبون في الحضور؟ وهل أنتم مجتمعون؟ ومن البديهي أن هذا‬
‫‪.‬السلوب جّر الكثير إلى حضور ذلك المشهد‬
‫ن السحرة اذا انتصروا فمعنى ذلك‬ ‫ن الهدف من هذا الحضور والجتماع هو أ ّ‬ ‫وقيل للناس‪ :‬إ ّ‬
‫انتصار اللهة وينبغي علينا اتباعهم‪) :‬لعلنا نّتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين( فلبّد من تهييج‬
‫‪.‬الساحة للمساعدة في هزيمة عدو اللهة إلى البد‬
‫ن وجود المتفرجين كّلما كان أكثر شّد من أزر الطرف المبارز‪ ،‬وكان مدعاًة لن يبذل‬ ‫وواضح أ ّ‬
‫أقصى جهده‪ ،‬كما أنه يزيد من معنوياته وعندما ينتصر الطرف المبارز يستطيع أن يثير الصخب‬
‫والضجيج إلى درجًة يتوارى بها خصمه‪ ،‬كما أن وجود المتفرجين الموالين بإمكانه أن يضعف من‬
‫!روحّية الطرف المواجه "الخصم" فل يدعه ينتصر‬
‫ن موسى)عليه السلم(‬ ‫أجل إن اتباع فرعون بهذه المال كانوا يرغبون أن يحضر الناس‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ن وجه‬‫‪.‬كان يطلب ـ من ال ـ أن يحضر مثل هذا الجمع الحاشد الهائل! ليبّين هدفه بأحس ِ‬
‫كل هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة ُأخرى كان السحرة يحلمون بالجائزة من قبل فرعون )فلما جاء‬
‫ن لنا لجرًا إن كّنا نحن الغالبين‬
‫‪)...‬السحرة قالوا لفرعون َءإ ّ‬
‫وكان فرعون قلقًا مضطرب البال‪ ،‬لّنه في طريق مسدود‪ ،‬وكان مستعّدا لن‬
‫]‪[369‬‬
‫يمنح السحرة أقصى المتيازات‪ ،‬لذلك فقد أجابهم بالرضا و )قال نعم وإّنكم إذًا لمن المقّربين(‪ .‬اي‬
‫‪!...‬إن فرعون قال لهم‪ :‬ما الذي تريدون وتبتغون؟! المال أم الجاه‪ ،‬فكلهما تحت يد ّ‬
‫ي‬

‫وهذا التعبير يدّل على أن التقرب من فرعون في ذلك المحيط كان مهّما إلى درجة قصوى! بحيث‬
‫يذكره فرعون للسحرة ويعّده أجرًا عظيمًا‪ ،‬وفي الحقيقة ل أجر أعظم من أن يصل النسان إلى‬
‫‪!...‬مقربة من القدرة المطلوبة‬
‫ن عباد ال ل يرون أجرًا أعظيم من‬ ‫فإذا كان الضاّلون يعّدون التقرب من فرعون أعظم أجر‪ ،‬فإ ّ‬
‫التقرب الى ال تعالى حتى الجّنة بما فيها من النعيم المقيم ل تقاس بنظرة من وجهه الكريم‬
‫‪!...‬لهم‬
‫ن الشهداء في سبيل ال الذين ينبغي أن ينالوا أعظم الجر ليثارهم الكبير‪ ،‬ينالون‬ ‫ولذلك فإ ّ‬
‫‪!...‬التقرب من ال بشهادة القرآن! والتعبير القرآني )عند رّبهم( شاهد بليغ على هذه الحقيقة‬
‫ن المؤمن السليم القلب حين يؤدي العبادة ال‪ ،‬يؤديها بهدف "قربة الى ال‬ ‫‪"...‬وكذلك فإ ّ‬

‫***‬
‫]‪[370‬‬

‫اليات‬
‫حُ‬
‫ن‬ ‫ن ِإّنا َلَن ْ‬‫عْو َ‬‫صّيُهْم َوَقاُلوْا َبَعّزِة ِفْر َ‬ ‫ع ِ‬ ‫حَباَلُهْم َو ِ‬‫ن)‪َ (43‬فَأْلَقوْا ِ‬ ‫سى َأْلُقوْا َمآ َأنُتم ّمْلُقو َ‬ ‫َقاَل َلُهم ّمو َ‬
‫ن)‬ ‫جِدي َ‬ ‫سـ ِ‬
‫حَرُة َ‬ ‫سَ‬ ‫ى ال ّ‬ ‫ن)‪َ (45‬فُأْلِق َ‬ ‫ف َما َيْأِفُكو َ‬‫ى َتْلَق ُ‬‫صاُه فِإَذا ِه َ‬
‫ع َ‬ ‫سى َ‬ ‫ن)‪َ (44‬فَأْلَقى ُمو َ‬ ‫اْلَغـِلُبو َ‬
‫ن َلُكْم ِإّنُه‬
‫ن َءاَذ َ‬ ‫ن)‪َ (48‬قاَل َءاَمنُتْم َلُه َقْبَل َأ ْ‬ ‫سى َوَهـرو َ‬ ‫ب ُمو َ‬ ‫ن)‪َ (47‬ر ّ‬ ‫ب اْلَعـَلِمي َ‬
‫‪َ(46‬قاُلوْا ءاَمّنا ِبَر ّ‬
‫ن)‬
‫جَمِعي َ‬ ‫صّلَبّنُكْم َأ ْ‬
‫خَلـف َوَُل َ‬ ‫ن َ‬ ‫جَلُكم ّم ْ‬ ‫ن َأْيِدَيُكم َوَأْر ُ‬
‫طَع ّ‬
‫ن َُلَق ّ‬
‫ف َتْعَلُمو َ‬
‫سْو َ‬ ‫حَر َفَل َ‬‫سْ‬ ‫عّلَمُكُم ال ّ‬‫َلَكِبيُرُكُم اّلِذى َ‬
‫طـَينآ َأن ُكّنآ َأّوَل‬ ‫خَ‬ ‫طَمُع َأن َيْغِفرَ َلَنا رّبَنا َ‬ ‫ن )‪ِ(50‬إّنا َن ْ‬ ‫ضْيَر ِإّنآ ِإَلى َرّبَنا ُمنَقِلُبو َ‬‫‪َ (49‬قالُوْا َل َ‬
‫ن)‪51‬‬ ‫)الْمُْؤِمِني َ‬

‫الّتفسير‬
‫حَرَة‬
‫سَ‬
‫‪:‬نور اليمان في قلوب ال َ‬
‫حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالجر والقرب منه‪ ،‬وشّد من عزمهم‪ ،‬فإّنهم بدأوا بتهيئة‬
‫المقدمات ووفروا خلل ماسخت لهم الفرصة عصّيهم وحبالهم‪ ،‬ويظهر أّنهم صّيروها جوفاء‬
‫وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق ـ مثل ـ بحيث تتحرك‬
‫]‪[371‬‬
‫!وتلمع عند شروق الشمس عليها‬
‫وأخيرًا كان اليوم الموعود والميقات المعلوم‪ ،‬وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة‬
‫التاريخّية‪ ،‬ففرعون وقومه من جانب‪ ،‬والسحرة من جانب آخر‪ ،‬وموسى وأخوه هارون من جانب‬
‫!ثالث‪ ،‬كلهم حضروا هناك‬
‫وكعادة القرآن في حذف المقدمات المفهومة من خلل اليات المذكورة‪ ،‬والشروع بذكر أصل‬
‫الموضوع‪ ،‬فيتحّدث عن مواجهة موسى للسحرة حيث التفت إليهم و‪) :‬قال لهم موسى ألقوا ما‬
‫‪).‬أنتم ملقون‬
‫ن موسى)عليه السلم( قال ذلك عندما سأله‬ ‫ويستفاد من الية )‪ (115‬من سورة العراف‪ ،‬أ ّ‬
‫السحرة‪ :‬هل تلقي أنت أّول أم نلقي نحن أّول؟‬
‫وهذا القتراح من قبل موسى)عليه السلم( يدّل أّنه كان مطمئنًا لنتصاره‪ ،‬ودليل على هدوئه‬
‫وسكينته أمام ذلك الحشد الهائل من العداء وأتباع فرعون‪ ...‬كان هذا القتراح ُيعّد أّول "ضربة"‬
‫يدمغ بها السحرة‪ ،‬ويبّين فيها أنه يتمتع بالهدوء النفسي الخاص‪ ،‬وأّنه مرتبط بمكان آخر ومتصل‬
‫‪.‬به‬
‫وأّما السحرة الغارقون بغرورهم‪ ،‬والذين بذلوا أقصى جهودهم لنتصارهم في هذا "الميدان"‪ ،‬فقد‬
‫كانوا مستعدين ومؤّملين لن يغلبوا موسى)عليه السلم( )فألقوا حبالهم وعصّيهم وقالوا بعزة‬
‫)فرعون إنا لنحن الغالبون(‪1).‬‬
‫!أجل‪ ،‬لقد استندوا إلى عّزة فرعون كسائر المتملقين‪ ،‬وبدأوا باسمه وقدرته الواهية‬
‫ي كأّنها الفاعي والثعابين و‬
‫وهنا ـ كما يبّين القرآن في مكان آخر من سورة وآياته ـ تحركت العص ّ‬
‫))يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى(‪2).‬‬
‫وقد انتخب السحرة العصي كوسائل لسحرهم‪ ،‬لتتغّلب حسب تصّورهم على‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ "الحبال" جمع "حبل" على وزن )طبل( ومعناها واضح‪ ،‬والعصي جمع العصا ‪1‬‬
‫‪.‬ـ سورة طه‪ ،‬الية ‪2 66‬‬
‫]‪[372‬‬
‫‪...‬عصى موسى‪ ،‬وأضافوا عليها الحبال ليثبتوا علّوهم وفضلهم عليه‬
‫فتهللت أسارير وجوه الناس ووجه فرعون فرحًا‪ ،‬وأشرق المل في عيني فرعون وأتباعه‪،‬‬
‫سّروا سرورًا لم يكن ليخفى على أحد‪ ،‬وسرت فيهم نشوة الّلذة من هذا المشهد‬
‫!و ُ‬
‫ن موسى)عليه السلم( لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير‪،‬‬ ‫إّل أ ّ‬
‫فتقدم )فألقى موسى عصاه( فتحولت الى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وادوات السحرة‬
‫ف ما يأفكون(‪1).‬‬
‫)بسرعة بالغة )فإذا هي تلق ُ‬
‫شاهم الوجوم وفغرت الفواه من الدهشة‬ ‫وهنا طاف صمت مهيب على وجوه الحاضرين وغ ّ‬
‫والعجب‪ ،‬وجمدت العيون‪ ،‬ولكن سرعان ما انفجر المشهد بصراخ المتفرجين المذعورين ففر‬
‫‪...‬جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد‪ ،‬وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة‬
‫و تبّدل كل شيء‪ ،‬وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا ـ إلى تلك اللحظة ـ مع فرعون غارقين‬
‫في الشيطنة‪ ،‬ولّنهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه‪ ،‬فإّنهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن‬
‫‪).‬سحرًا‪ ،‬بل هي معجزة إلهية كبرى )فُألقي السحرة ساجدين‬
‫ن القرآن يعبر عن خضوع السحرة بـ "ُألقي" وهذا التعبير إشارة إلى منتهى التأثير‬ ‫الطريف أ ّ‬
‫‪...‬وجاذبية معجزة موسى لهم‪ ،‬حتى كأّنهم سقطوا على الرض وسجدوا دون اختيارهم‬
‫ب العالمين‬
‫‪).‬واقترن هذا العمل العبادي ـ وهو السجود ـ بالقول بلسانهم فـ )قالوا آمنا بر ّ‬
‫ولئل يبقى مجاُل للبهام والغموض والتردد‪ ،‬ولئل يفسر فرعون ذلك تفسيرًا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ )تلقف( مشتق من )اللقف( على زنه )السقف( ومعناه إمساك الشيء بسرعة‪ ،‬سواء كان ذلك ‪1‬‬
‫باليد أم الفم‪ ،‬ومعلوم أن المراد هنا اِلمساك بالفم والبتلع‪ ،‬و )يأفكون( مشتق من )الفك(‬
‫‪.‬ومعناه الكذب‪ ،‬وهي إشارة إلى وسائلهم الباطلة‬
‫]‪[373‬‬
‫ب موسى وهارون‬
‫‪).‬آخر فإّنهم قالوا‪) :‬ر ّ‬
‫ل لمر المبارزة وإلقاء العصا‬ ‫وهذا التعبير يّدل على أّنه وإن كان موسى)عليه السلم( متكف ً‬
‫ن أخاه هارون كان يعاضده في المر‪ ،‬وكان مستعدًا لتقديم أي عون‬ ‫ومحاججة السحرة‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫‪.‬لخيه‬
‫وهذا التبدل والتغّير المفاجيء العجيب في نفوس السحرة بحيث خطوا في لحظة واحدة من الظلمة‬
‫المطلقة إلى النور المبين‪ .‬ولم يكتفوا بذلك حتى أقحموا انفسهم في خطر القتل‪ ،‬وأعرضوا عن‬
‫مغريات فرعون ومصالحهم المادية‪ ...‬كّل ذلك لما كان عندهم من "علم" استطاعوا من خلله أن‬
‫!يتركوا الباطل ويتمسكوا بالح ّ‬
‫ق‬
‫ق‪ ،‬وقد سكروا من عطر‬ ‫ش ِ‬
‫إّنهم لم يجوبوا باقي الطريق بخطى العقل فحسب‪ ،‬بل ركبوا خيول الِع ْ‬
‫أزهاره‪ ،‬حتى كأّنهم لم يفيقوا من سكرتهم‪ ،‬وسنرى أّنهم ِلهذا السبب استقاموا بشجاعة أمام‬
‫‪...‬تهديدات فرعون الرهيبة‬
‫نقرُأ حديثًا عن الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( أنه قال‪" :‬ما من قلب إّل بين إصبعين من‬
‫أصابع الرحمان‪ ،‬إن شاء أقامه‪ ،‬وإن شاء أزاغه")‪) (1‬وبديهي أن مشيئة ال في هاتين‬
‫المرحلتين تتعلق باستعداد النسان‪ ،‬وهذا التوفيق أو سلب التوفيق إّنما هو لجل قابلية القلوب‬
‫‪).‬المختلفة‪ ،‬وليس اعتباطًا‬
‫أّما فرعون‪ ،‬فحيث وجد نفسه مهزومًا معنويًا ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر‪،‬‬
‫ي تأثير عميق ليمان السحرة في قلوب سائر الناس‪ ،‬ومن الممكن أن‬ ‫صة أنه كان يعرف أ ّ‬ ‫وخا ّ‬
‫يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة‪ ،‬فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر‪ ،‬فالتفت إلى‬
‫)السحرة و)قال آمنتم به قبل أن آذن لكم(‪2).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .‬ـ تفسير في ظلل القرآن‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪1 208‬‬
‫ـ جاء التعبير في هذه الية والية )‪ (71‬من سورة طه بـ )آمنتم له( وجاء التعبير في الية ) ‪2‬‬
‫‪ (123‬من سورة العراف )آمنتم به( وكما يقول أصحاب اللغة‪ :‬إن اليمان إذا تعدى باللم فإنه‬
‫!يعني الخضوع‪ ،‬وإذا تعدى بالباء فإنه يعني التصديق‬
‫]‪[374‬‬
‫لقد تربع على عرش الستبداد سنين طوال‪ ،‬ولم يكن يترقب من الناس أن ل يسجدوا أو يقوموا‬
‫بعمل دون إذنه فحسب‪ ،‬بل كان ترّقبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونًة به وبأمره‪ ،‬فليس‬
‫‪!.‬لهم أن يفّكروا دون اذنه!! وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبرين‬
‫هذا المغرور الطائش لم يكن مستعّدا لن يذكر اسم ال ول اسم موسى‪ ،‬بل اكتفى بالقول )آمنتم‬
‫!!له(! والمراد من هذا التعبير هو التحقير‬
‫إّل أن فرعون لم يقنع بهذا المقدار‪ ،‬بل أضاف جملتين ُأخريين لُيّثبت موقعه كما يتصّور أّول‪،‬‬
‫‪.‬وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلًة نيامًا‬
‫فإتهم السحرة أّول بأّنهم تواطؤوا مع موسى)عليه السلم( وتآمروا على أهل مصر جميعًا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪)).‬إّنه لكبيركم الذي علمكم السحر‬
‫وقد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه الساحة‪ ،‬فتضلوا أهل مصر وتجّروهم إلى الخضوع‬
‫تحت سيطرة حكومتكم; وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وُتحّلوا‬
‫‪...‬العبيد محلهم‬
‫إّل أنني ل أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة‪ ،‬وسأخنق المؤامرة في مهدها )فلسوف تعلمون‬
‫ن أيديكم وأرجلكم من خلف وُلصلبنكم أجمعين‬ ‫‪ُ).‬لقطع ّ‬
‫ل بالتعذيب والزجر بين المل العام‪ ،‬وعلى جذوع‬ ‫أي‪ :‬ل أكتفي بإعدامكم فحسب‪ ،‬بل أقتلكم قت ً‬
‫النخل‪) ،‬لن قطع اليدي والرجل من خلف يؤدي إلى الموت البطيء‪ ،‬فيذوق معه النسان‬
‫‪).‬التعذيب أكثر‬
‫وهذه هي طريقة الجبابرة والحّكام الظلمة في كل عصر وزمان‪ ،‬ففي البدء يتهمون الرجال‬
‫المصلحين بالتآمر ضد الناس‪ ،‬وبعد الستفادة من حربة التهمة يعملون السيف في رقاب ليضعف‬
‫‪.‬موقع المطالبين بالحق ول يجدوا معاضدًا لهم‪ ،‬فيزيحوهم من طريقهم‬
‫إّل أن فرعون لم يحقق هدفه هنا‪ ،‬لن السحرة قبل لحظة ـ والمؤمنين في هذه‬
‫]‪[375‬‬
‫اللحظة ـ قد غمر قلوبهم اليمان‪ ،‬وأضرمهم عشق ال; بحيث لم يهّزهم تهديد فرعون‪ ،‬فأجابوه‬
‫‪).‬بضرس قاطع واحبطوا خطته و )قالوا ل ضير إنا إلى رّبنا منقلبون‬
‫فأنت بهذا العمل ل تنقص مّنا شيئًا‪ ،‬بل توصلنا إلى معشوقنا الحقيقي والمعبود الواقعي‪ ،‬فيوم‬
‫كانت هذا التهديدات تؤثر فينا لم نعرف أنفسنا ولم نعرف رّبنا‪ ،‬وكّنا‪ ،‬ضالين مضلين‪ ،‬إّل أّننا‬
‫!)عثرنا اليوم على ضالتنا )فاقض ما أنت قاض‬
‫ثّم أضافوا بأّنهم واجهوا الّنبي موسى)عليه السلم( من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيرًا‪ ،‬ولكن مع ذلك‬
‫‪)...‬فـ )إنا نطمع أن يغفر لنا رّبنا خطايانا أن كنا أّول المؤمنين‬
‫إّننا ل نستوحش اليوم من أي شيء‪ ،‬ل من تهديداتك‪ ،‬ول من تقطيع اليدي والرجل من خلف‬
‫‪.‬ول من الصلب على جذوع النخل‬
‫وإذا كّنا نخاف من شيء‪ ،‬فإّنما نخاف من ذنوبنا الماضية‪ ،‬ونرجوا أن تمحى في ظل اليمان‬
‫طفِه‬
‫!وبفضل ال وُل ْ‬
‫أية طاقة وقّوة هذه التي إن ُوجدت في النسان صغرت عندها أعظم القوى‪ ،‬وهانت عنده أشد‬
‫!اُلمور‪ ،‬وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية واليثار؟‬
‫‪.‬إّنها قّوة اليمان‬
‫إّنها شعلة العشق النيرة‪ ،‬التي تجعل الشهادة في سبيل ال أحلى من الشهد والعسل‪ ،‬وتصّير‬
‫!الوصال إلى المحبوب أسمى الهداف‬
‫هذه هي القّوة التي استعان بها الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ورّبى المسلمين الوائل عليها‪،‬‬
‫وأوصل أمة جهلَء متأخرة إلى أوج الفخر بسرعة مذهلة‪ ،‬فكانت اُلمة المسلمة التي اذهلت‬
‫!الدنيا‬
‫إّل أن هذا المشهد ـ على كل حال ـ كان غاليًا وصعبًا على فرعون وقومه‪ ،‬بالرغم من أّنه طّبق‬
‫تهديداته ـ طبقًا لبعض الروايات ـ فاستشهد على يديه السحرة المؤمنون ـ إّل أن ذلك لم يطفىء‬
‫عواطف الناس تجاه موسى فحسب‪ ،‬بل أثارها‬
‫]‪[376‬‬
‫‪!...‬أكثر فأكثر‬
‫ففي كل مكان كانت اصداء الّنبي الجديد‪ ...‬وفي كل حدب وصوب حديث عن أوائل الشهداء‬
‫المؤمنين‪ ،‬وهكذا آمن جماعة بهذا النحو‪ ،‬حتى أن جماعة من قوم فرعون وأصحابه المقربين‬
‫‪.‬حتى زوجته‪ ،‬آمنوا بموسى ايضًا‬
‫وهنا ينقدح هذا السؤال‪ ،‬وهو‪ :‬كيف عبر السحرة التائبون المؤمنون عن أنفسهم بأّنهم أّول‬
‫‪...‬المؤمنين‬
‫!هل كان مرادهم أّنهم أّول المؤمنين في ذلك المشهد؟‬
‫!أو كان مرادهم أّنهم أّول المؤمنين من حماة فرعون؟‬
‫‪".‬أو أّنهم أّول المؤمنين الذين وردوا "الشهادة‬
‫‪.‬كل هذه اُلمور محتملة‪ ،‬ول تتنافى في مابينها‬
‫ن جماعة من بني إسرائيل أو من غيرهم آمنوا‬ ‫ح في صورة ما لو قلنا بأ ّ‬ ‫وهذه التفاسير إّنما تص ّ‬
‫بموسى قبل ذلك‪ ،‬أما لو قلنا بأّنهم أمروا بعد البعثة أن يتصلوا بفرعون مباشرًة وأن يوردوا‬
‫‪.‬الضربة اُلولى عليه‪ ،‬فل يبعد أن يكونوا أول المؤمنين‪ ،‬ول حاجة عندئذ إلى تفسير آخر‬

‫***‬
‫]‪[377‬‬

‫اليات‬

‫شِرين)‪(53‬‬ ‫ن حـ ِ‬ ‫ن ِفى اْلَمَدآِئ ِ‬


‫عْو ُ‬‫سَل ِفْر َ‬ ‫ن )‪َ(52‬فَأْر َ‬ ‫سِر ِبِعَباِدى ِإّنُكم ّمّتَبُعو َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫سى َأ ْ‬ ‫حْيَنآ ِإَلى ُمو َ‬
‫َوَأوْ َ‬
‫جَنـُهم ّمن‬
‫خَر ْ‬
‫ن )‪َ(56‬فَأ ْ‬ ‫حـِذُرو َ‬‫جِميٌع َ‬ ‫ن)‪َ (55‬وِإّنا َل َ‬ ‫ظو َ‬ ‫ن)‪َ (54‬وِإّنُهْم َلَنا َلَغآِئ ُ‬‫شْرِذَمٌة َقِليُلو َ‬
‫إنّ َهـُؤَلِء َل ِ‬
‫سرِءيَل)‪59‬‬ ‫ك َوَأوَرْثَنـَها َبِنى ِإ ْ‬‫عُيون)‪َ (57‬وُكُنوز َوَمقام َكريم )‪َ(58‬كَذِل َ‬ ‫)جَّنـت َو ُ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬مصير الفراعنة‬
‫ن موسى خرج منتصرًا من تلك المواجهة‪ .‬رغم عدم إيمان‬ ‫في اليات المتقدمة‪ ...‬رأينا كيف أ ّ‬
‫‪:‬فرعون وقومه إّل أن هذه القضية كان لها عدة آثار مهّمة‪ ،‬يعّد كٌل منها انتصارًا مهّما‬
‫حدة‪ ...‬لّنهم بعد ‪1‬‬
‫ـ آمن بنو إسرائيل بنبّيهم "موسى)عليه السلم(" والتّفوا حوله بقلوب مو ّ‬
‫سنوات طوال من القهر والتعسف والجور يرون نبّيا سماويًا في أوساطهم يضمن هدايتهم وعلى‬
‫ن يقود ثورتهم نحو الحرية وتحقيق النصر على فرعون‬ ‫‪..‬استعداد ل ّ‬
‫]‪[378‬‬
‫ق موسى)عليه السلم( طريقة وسط أهل مصر من القباط وغيرهم‪ ...‬ومال إليه جمع ‪2‬‬
‫ـ لقد ش ّ‬
‫!منهم‪ ،‬أو على القل خافوا من مخالفته‪ ،‬وطافت أصداء دعوة موسى في أرجاء مصر جمعاء‬
‫ن فرعون لم ير في نفسه القدرة ـ ل من جهة أفكار عاّمة الناس‪ ،‬ول من ‪3‬‬ ‫ـ وأهّم من كل ذلك أ ّ‬
‫صا كهذه العصا‪ ،‬ولسان مؤثر كلسان موسى‬ ‫ع َ‬
‫‪.‬جهة الخوف على مقامة ـ على مواجهة رجل له َ‬
‫هذه اُلمور هيأت أرضية ملئمة لن ينشر موسى)عليه السلم( دعوته بين الناس‪ ،‬ويتّم الحجة‬
‫!عليهم‬
‫ومّرت سنون طوال على هذا المنوال‪ ،‬وموسى)عليه السلم( يظهر المعاجز تلو المعاجز ـ كما‬
‫أشارت إليها سورة العراف وبيّناها في ذيل اليات ‪ 130‬ـ ‪ 135‬منها ـ إلى جانب منطقه المتين‪،‬‬
‫حتى ابتلى ال أهل مصر بالقحط والجذب لسنوات لعلهم يّتقون "لمزيد اليضاح ل بأس بمراجعة‬
‫‪"...‬تفسير اليات آنفة الذكر‬
‫ولّما أتّم موسى على أهل مصر الحجة البالغة‪ ،‬وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين‪،‬‬
‫ي على موسى أن يخرج بقومه من مصر‪ ،‬واليات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أّول‪:‬‬ ‫نزل الوح ُ‬
‫‪)).‬وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أّنكم متبعون‬
‫ن على فرعون‬ ‫وهذه خطة إلهية على موسى)عليه السلم( أن يمتثلها ويسري بقومه ليل‪ ،‬وإ ّ‬
‫‪.‬وقومه أن يعلموا ذلك فيتبعوهم ليحدث ما يحدث بأمر ال‬
‫والتعبير بـ "عبادي" بضمير الفراد‪ ،‬مع أن الفعل )أوحينا( في الجملة ذاتها مسند إلى ضمير‬
‫‪...‬الجمع‪ ،‬إّنما هو لبيان منتهى محبة ال لعباده المؤمنين‬
‫وفعل امتثل موسى)عليه السلم( هذا المر‪ ،‬وعبأ بني إسرائيل بعيدًا عن أعين أعدائهم‪ ،‬وأمرهم‬
‫صة لتنفيذ أمر ال لتكون خطته نافذة‬‫‪.‬بالتحرك‪ ،‬واختار الليل خا ّ‬
‫إّل أن من البديهي أن حركة جماعة بهذا الشكل ليس هينًا يسيرًا يمكن‬
‫]‪[379‬‬
‫إخفاؤه لزمان طويل‪ ،‬فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه‪ ،‬وكما يحدثنا القرآن‬
‫عن ذلك أن فرعون أرسل رسله وأعوانه الى المدن لجمع القوات‪) :‬فأرسل فرعون في المدائن‬
‫‪).‬حاشرين‬
‫ن في تلك الظروف‪ ،‬وصول إبلغ فرعون إلى المدائن‪ ،‬وجميع مناطق مصر‪ ،‬يحتاج إلى‬ ‫بالطبع فإ ّ‬
‫زمان معتنى به لكن من الطبيعي أن يصل هذا البلغ المدن القريبة بسرعة وتتحرك القوى المعّدة‬
‫‪...‬فورًا‪ ،‬وتؤدي مقدمة الجيش مهّمتها‪ ،‬وتتبعها بقية الفواج بالتدريج‬
‫ولتعبئة الناس ـ ضمنًا ـ وتهيئة الرضية لثارتهم ضد موسى وقومه‪ ،‬أمر فرعون أن ُيعَلن )إ ّ‬
‫ن‬
‫‪).‬هؤلء لشرذمة قليلون‬
‫‪.‬فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه الفئة القليلة حتمًا‬
‫و "الشرذمة" في الصل تعني القلة من الجماعة‪ ،‬كما تعني ما تبقى من الشيء‪ ،‬ويطلق على‬
‫ن هؤلء "أي موسى وقومه"‬ ‫اللبوس الممزق الخلق "شراذم"‪ ،‬فبناًء على هذا يكون المعنى أ ّ‬
‫بالضافة إلى أّنهم قليلون فهم متفرقون‪ ،‬فكأن فرعون‪ ،‬بهذا التعبير أراد أن يجسم عدم انسجام‬
‫‪...‬بني إسرائيل من حيث أعداد الجيش فيهم‬
‫ثّم تضيف الية اُلخرى حاكية عن لسان فرعون )وإّنهم لنا لغائظون( فمن يسقي مزارعنا غدًا‪،‬‬
‫!ومن يبنى لنا القصور؟ ومن يخدم في البيوت والقصور غيرهم؟‬
‫ثّم إّنا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا‪) :‬وإنا لجميع حاذرون(‬
‫‪.‬ومستعدون جميعًا لمواجهتهم‬
‫سر‬
‫سر بعضهم "حاذرون" على أنها من الحَذر‪ ،‬بمعنى الخوف والخشية من التآمر‪ ،‬وف ّ‬ ‫وقد ف ّ‬
‫بعضهم )حاذرون( على أنها من الحِذر‪ ،‬بمعنى الفطنة والتهيؤ من حيث السلح والقّوة‪ .‬إّل أن‬
‫هذين الّتفسيرين ل منافاة بينهما‪ ،‬فرّبما كان فرعون‬
‫]‪[380‬‬
‫‪.‬وقومه قلقين من موسى ومستعدين لمواجهته أيضًا‬
‫ثّم يذكر القرآن النتيجة الجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته‪ ،‬وقيام حكومة بني‬
‫‪).‬إسرائيل‪ ،‬فيقول‪) :‬فأخرجناهم من جنات وعيون‪ ...‬وكنوز ومقام كريم‬
‫‪).‬أجل )كذلك وأورثناها بني إسرائيل‬
‫سرين في المراد من كلمة )مقام كريم(‪ ،‬فقال بعضهم بأّنها القصور‬ ‫وهناك اختلف بين المف ّ‬
‫‪...‬المجللة والمساكن المظللة‬
‫‪.‬وقال بعضهم بأّنها المجالس المنعقدة بالحبور والسرور والنشاط‬
‫وقال بعضهم‪ :‬المراد مقام الحكام والمراء‪ ،‬الذين يجلسون على كراسيهم ومن حولهم أتباعهم‬
‫‪...‬وجنودهم يمتثلون أوامرهم‬
‫وقال بعضهم‪ :‬بل يعني المنابر التي كان يصعدها الخطباء "المنابر التي كانت لصالح فرعون‬
‫‪".‬وحكومته وجهازه فهي بمثابة أبواق إعلم له‬
‫وبالطبع فإن المعنى الّول أنسب من الجميع كما يبدو‪ ،‬رغم أن هذه المعاني غير متباينة ومن‬
‫الممكن أن تجتمع هذه المعاني جميعًا في مفهوم الية‪ ...‬فالمستكبرون )فرعون وقومه( أخرجوا‬
‫من قصورهم وحكومتهم وموقعهم وقدرتهم‪ ،‬كما أخرجوا من مجالسهم المنعقدة بالحبور‬
‫‪.‬والسرور‬
‫***‬

‫ملحظتان‬
‫ر؟ ‪1‬‬‫!ـ َهْل حكَم بُنو إسرائيَل في مص َ‬
‫سرين‬
‫ن جمعًا من المف ّ‬
‫على أساس تعبير اليات المتقدمة )كذلك وأورثناها بني اسرائيل(‪ ...‬فإ ّ‬
‫يعتقدون أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر وسيطروا على‬
‫]‪[381‬‬
‫)الحكم‪ ،‬ومكثوا في مصر حاكمين مّدة‪1).‬‬
‫‪.‬وظاهر اليات المتقدمة يناسب هذا الّتفسير‬
‫سرين يعتقد أن بني إسرائيل تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلك فرعون‬ ‫في حين أن بعض المف ّ‬
‫)وأتباعه‪ ،‬إّل أّنهم بعد مّدة مديدة رجعوا إلى مصر وشكلوا فيها حكومتهم‪2).‬‬
‫‪.‬وتتطابق فصول التوراة الحالية المتعلقة بهذا القسم مع هذا الّتفسير‬
‫سرين أن بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين‪ ،‬فجماعة منهم بقيت‬ ‫ويعتقد بعض آخر من المف ّ‬
‫‪.‬في مصر وحكمت فيها‪ ،‬وتحركت جماعة منهم مع موسى نحو بيت المقدس‬
‫وذكر احتمال آخر‪ ،‬وهو أن بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى)عليه السلم( وفي زمان الّنبي‬
‫!سليمان بن داود‪ ،‬والية )كذلك وأورثناها بني إسرائيل( ناظرة إلى هذا المعنى‬
‫إّل أّنه مع ملحظة أن موسى)عليه السلم( نبي ثائر كبير‪ ،‬فمن البعيد جّدا أن يترك هذه الرض‬
‫التي تهاوت أركان حكومتها وقد اصبحت مقاليد ُامورها بيده فيذرها كليًا دون أن يخطط لها خطة‬
‫ويتجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصحاري الشاسعة‪ ،‬ول سيما أن بني إسرائيل قد سكنوا‬
‫مصر لسنين طوال‪ ،‬وتعودوا على محيطها‪ ،‬فبناًء على هذا ل يخرج المر من أحد حالين‪ ...‬أّما أن‬
‫نقول‪ :‬إن بني إسرائيل عادوا جميعًا إلى مصر وحكموا فيها‪ ،‬أو أن نقول‪ :‬إن قسمًا منهم بقوا في‬
‫مصر بأمر موسى)عليه السلم( واستولوا على العرش وحكموا في مصر!‪ ...‬وفي غير هاتين‬
‫‪...‬الحالين ل يتجّلى مفهوم لخراج الفراعنة منها ووراثة بني اسرائيل لها‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سر هذا الموضوع ‪1‬‬
‫ـ راجع مجمع البيان والقرطبي‪ :‬ذيل اليات محل البحث‪ ،‬كما أن اللوسي ف ّ‬
‫‪!.‬في روح المعاني تفسيرًا يستحق النظر‬
‫‪.‬ـ روح المعاني ذيل اليات محل البحث ‪2‬‬
‫]‪[382‬‬
‫ـ ترتيب اليات ‪2‬‬
‫يشرح القرآن فيما يأتي من اليات كيفية غرق فرعون واتباعه‪ ،‬وهذا المر يدعو إلى التساوءل‪:‬‬
‫كيف يذكر القرآن إخراج فرعون وقومه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم وإيراثه "ذلك" بني‬
‫‪...‬إسرائيل! ثّم يذكر كيفية غرق فرعون وقومه؟ مع أن الترتيب الطبيعي لليات ليس كذلك‬
‫هذا المر رّبما يكون من قبيل بيان الجمال ثّم التفصيل‪ ،‬أي أن القرآن ذكر الموضوع أّول بصورة‬
‫خر‬‫!مجملة‪ ،‬ثّم وضحه في اليات اُل َ‬
‫‪".‬كما يمكن أن يكون من قبيل ذكر النتيجة‪ ،‬ثّم شرح المقدمات "فتدبر‬

‫***‬
‫]‪[383‬‬

‫اليات‬

‫ن َمِع َ‬
‫ى‬ ‫ل ِإ ّ‬
‫ن)‪َ (61‬قاَل َك ّ‬ ‫سى ِإّنا َلُمْدَرُكو َ‬ ‫ب ُمو َ‬ ‫حـ ُ‬
‫صَ‬‫ن َقاَل َأ ْ‬‫جْمَعا ِ‬
‫ن)‪َ(60‬فَلّما َتَرءا ال َ‬ ‫شِرِقي َ‬ ‫َفَأْتَبُعوُهم ّم ْ‬
‫ن ُكّل ِفْرق َكاّلطْوِد‬ ‫ق َفَكا َ‬‫ك اْلَبحَْر َفانَفَل َ‬
‫صا َ‬ ‫ضِرب ّبَع َ‬ ‫نا ْ‬ ‫سى َأ ِ‬‫حْيَنآ ِإَلى ُمو َ‬ ‫ن)‪َ (62‬فَأْو َ‬ ‫سَيْهِدي ِ‬
‫َرّبى َ‬
‫ن)‬
‫غَرْقَنا اَْلخَِري َ‬‫ن)‪ُ (65‬ثّم َأ ْ‬ ‫جَمِعي َ‬‫سى َوَمن ّمَعُه َأ ْ‬ ‫ن)‪َ (64‬وَأنجْيَنا ُمو َ‬ ‫خِري َ‬‫ظيِم)‪َ (63‬وَأْزَلْفَنا َثّم اَْل َ‬ ‫العَ ِ‬
‫حيُم)‪68‬‬ ‫ن َرّبكَ َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ‬ ‫ن)‪َ (67‬وِإ ّ‬ ‫ن َأْكَثُرُهم ّمْؤِمِني َ‬
‫ك َلَيًة َوَما َكا َ‬ ‫ن ِفى َذِل َ‬ ‫)‪ِ (66‬إ ّ‬

‫الّتفسير‬
‫عاقبة فرعون وأتباعه الوخيمة‬
‫صة موسى وفرعون‪ ،‬وهو كيفية هلك فرعون وقومه‪،‬‬ ‫في هذه اليات يبرز المشهد الخير من ق ّ‬
‫!ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم‬
‫ن فرعون أرسل المدائن حاشرين‪ ،‬وهيَأ مقدارًا كافيًا من "القّوة"‬
‫وكما قرأنا في اليات المتقدمة فإ ّ‬
‫سرين‪ :‬كان ما أرسله فرعون على أّنه مقدمة الجيش ستمائة ألف مقاتل‪،‬‬ ‫والجيش‪ ،‬قال بعض المف ّ‬
‫وتبعهم نفسه بألف ألف مقاتل "أي‬
‫]‪[384‬‬
‫)مليون"‪1).‬‬
‫تحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة‪ ،‬فبلغوهم صباحًا كما تقول الية اُلولى من اليات محل‬
‫‪).‬البحث‪) :‬فاتبعوهم مشرقين)‪ (2‬فلّما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إّنا لمدركون‬
‫فأمامنا بحر خضم متلطم بالمواج‪ ،‬ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها‬
‫الكاملة‪ ...‬هؤلء الغاضبون علينا وهم الذين قتلوا أطفالنا البرياء سنين طوال‪ ...‬وفرعون نفسه‬
‫رجل دموي جبار‪ ...‬فعلى هذا سيحاصروننا بسرعة‪ ،‬ويقتلوننا جميعًا بحّد السيوف‪ ،‬أو سيأسروننا‬
‫‪.‬ويعذبوننا‪ ،‬والقرائن جميعها تدل على ذلك‬
‫وهنا مّرت لحظات عسيرة على بني إسرائيل‪ ...‬لحظات ُمّرة ليمكن وصف مرارتها‪ ...‬ولعل‬
‫‪.‬جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم‬
‫ن موسى)عليه السلم( كان مطمئنًا هادىء البال‪ ،‬وكان يعرف أن وعد ال في هلك فرعون‬ ‫إّل أ ّ‬
‫‪!...‬وقومه ونجاة بني إسرائيل ليتخلف أبدًا ولن يخلف ال وعده رسله‬
‫ي سيهدين‬ ‫ل إن معي رّب ْ‬
‫‪).‬لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال الطمئنان والثقة و )قال ك ّ‬
‫ولعّل هذا التعبير يشير إلى وعد ال لموسى وأخيه هارون حين أمرهما بإنذار قومهما‪ ،‬إذ قال‬
‫)لهما‪) :‬إّني معكما أسمع وأرى(‪3).‬‬
‫صة تعويله في كلمه على كلمة )رّبي( أي ال‬ ‫إذ كان موسى يعلم أن ال معه في كل مكان‪ ،‬وخا ّ‬
‫ن موسى)عليه السلم( كان يدري أّنه‬ ‫المالك والمرّبي هذا يدل على أ ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ كلمة مليون وأخواتها )مليار‪ ،‬بليون الخ( من مصطلحات العصر وهي غير عربية‪ ،‬وكان ‪1‬‬
‫‪.‬العرب يقولون ألف ألف‬
‫سرين‪ :‬المراد من "مشرقين"‪ ،‬أن بني اسرائيل ساروا نحو الشرق‪ ،‬واّتباع ‪2‬‬ ‫ـ قال بعض المف ّ‬
‫ن بيت المقدس يقع شرق مصر‬ ‫!فرعون وقومه بالتجاه نفسه‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬ـ سورة طه‪ ،‬الية ‪3 46‬‬
‫]‪[385‬‬
‫‪...‬ل يطوي هذا الطريق بخطاه‪ ،‬بل بلطف ال القادر الرحيم‬
‫وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كلمه دون أن يصدقوه‪ ،‬وكانوا ينتظرون آخر لحظات‬
‫‪...).‬حياتهم‪ ،‬صدر أمر ال كما يقول القرآن‪) :‬فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر‬
‫!تلك العصا التي هي في يوم آية إنذار‪ ،‬وفي يوم آخر آية رحمة ونجاة‬
‫فامتثل موسى)عليه السلم( أمر ربه فضرب البحر‪ ،‬فإذا أمامه مشهد رائع عجيب‪ ،‬تهللت له‬
‫ق البحر )فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم‬‫!)أسارير وجوه بني إسرائيل‪ ،‬إذا انش ّ‬
‫ق" من مادة "فْرق" على زنة "حلق"‬ ‫و "انفلق" مأخوذ من "الَفَلق" ومعناه النشقاق و "َفَر َ‬
‫!ومعناه النفصال‬
‫وبتعبير آخر‪ ،‬كما يقول الراغب في مفرداته‪ :‬أن الفرق بين )فلق( و )فرق( هو أن الّول يشير إلى‬
‫النشقاق )أو النشطار( والّثاني يشير إلى النفصال‪ ،‬ولذا تطلق الفرقة والِفَرق على القطعة أو‬
‫‪!...‬الجماعة التي انفصلت عن البقّية‬
‫‪.‬الطود" معناه الجبل العظيم‪ ،‬ووصف الطود بالعظمة في الية تأكيد آخر على معناه"‬
‫ن ال الذي ينفذ أمره في كل شيء‪ ،‬وبأمره تموج البحار وتتصرف الرياح‬ ‫وعلى كل حال‪ ،‬فإ ّ‬
‫وتتحرك العواصف وكل شيء في عالم الوجود من رشحات فضله وقدرته أصدر أمره الى البحر‪،‬‬
‫ت كل‬
‫طُرق سالكة‪ ،‬فمّر ْ‬‫وأمواجه‪ ،‬فالتحمت المواج وتراكمت بعضها إلى بعض‪ ،‬وظهرت ما بينها ُ‬
‫!فرقة من بني إسرائيل في إحدى الطرق‬
‫ن فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق‪ ،‬ولم‬ ‫إّل أ ّ‬
‫ب غرورهم‪ ،‬فاتبعوا موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم‪ ،‬كما يقول القرآن في‬ ‫ينزلوا عن َمرك ِ‬
‫‪)...‬هذا الشأن‪) :‬وأزلفنا ثّم الخرين‬
‫]‪[386‬‬
‫وهكذا ورد فرعون وقومه البحر أيضًا‪ ،‬واتبعوا عبيدهم القدماء الذين استرّقوهم بطغيانهم‪ ،‬وهم‬
‫!غافلون عن أن لحظات عمرهم تقترب من النهاية‪ ،‬وأن عذاب ال سينزل فيهم‬
‫‪).‬وتقول الية التالية‪) :‬وأنجينا موسى ومن معه أجمعين‬
‫وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر‪ ،‬ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر‪،‬‬
‫صدر أمر ال فعادت المواج إلى حالتها اُلولى فانهالت عليهم فجأًة‪ ،‬فهلك فرعون وقومه في‬
‫شة في وسط المواج المتلطمة‬ ‫‪.‬البحر‪ ،‬وصار كل منهم كالق ّ‬
‫‪)...‬ويبّين القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول‪) :‬ثّم أغرقنا الخرين‬
‫وهكذا انتهى كل شيء في لحظة واحدة‪ ...‬فالرقاء أصبحوا أحرارًا‪ ،‬وهلك الجبابرة‪ ،‬وانطوت‬
‫صفحة من صفحات التأريخ‪ ،‬وانتهت تلك الحضارة المشيدة على دماء المستضعفين‪ ،‬وورث‬
‫ك المستضعفون بعدهم‬ ‫‪.‬الحكومة والُمل َ‬
‫ى‪ ،‬وفي آذانهم وقرًا‪ ،‬وعلى‬ ‫ن في أعينهم عم ً‬ ‫ن في ذلك لية وما كان أكثرهم مؤمنين( فكأ ّ‬ ‫أجل )إ ّ‬
‫‪.‬قلوب أقفال‬
‫ب إذًا أّل يؤمن بك‬
‫ث ل يؤمن فرعون وقومه مع ما رأوا من المشاهد العجيبة‪ ،‬فل تعج ُ‬ ‫فحي ُ‬
‫المشركون ـ يا محمد ـ ول تحزن عليهم لعدم إيمانهم‪ ،‬فالتاريخ ـ يحمل بين طياته وثناياه كثيرًا من‬
‫!هذه المشاهد‬
‫والتعبير بـ "أكثرهم" إشارة إلى أن جماعة من قوم فرعون آمنوا بموسى والتحقوا بأصحابه‪ ،‬ل‬
‫آسيُة امرأة فرعون فحسب‪ ،‬ول رفيق موسى المخلص المذكور في القرآن على أنه مؤمن من آل‬
‫‪.‬فرعون‪ ،‬بل آخرون أيضًا كالسحرة التائبين مثل‬
‫أّما آخر آية من هذه اليات فتشير في عبارة موجزة وذات معنى غزير إلى قدرة ال ورحمته‬
‫‪).‬المطلقة واللمتناهية‪ ،‬فتقول‪) :‬وإن رّبك لهو العزيز الرحيم‬
‫]‪[387‬‬
‫فمن عزته أنه متى شاء أن يهلك المم المسرفة الباغية أصدر أمره فأهلكها‪ ،‬ول يحتاج أن يرسل‬
‫جنودًا من ملئكة السماء لهلك ُأمة جّبارة‪ ...‬فيكفي أن يهلكها بما هو سبب حياتها‪ ،‬كما أهلك‬
‫!!فرعون وقومه بالنيل الذي كان أساس حياتهم وثروتهم وقدرتهم‪ ،‬فإذا هو يقبرهم فيه‬
‫ومن رحمته أّنه ل يعجل في المر أبدًا‪ ،‬بل يمهل سنين طوال‪ .‬ويرسل معاجزه إتمامًا للحجة‪ ،‬ومن‬
‫‪.‬رحمته أن يخلص هؤلء المستعبدين من قبضة الجبابرة الظالمين‬
‫***‬

‫‪:‬مسائل مهمة‬
‫!ـ معبر بني إسرائيل ‪1‬‬
‫ورد التعبير في القرآن مرارًا عن موسى أنه عبر بقومه "البحر")‪ (1‬كما جاء في بعض اليات‬
‫)لفظ "اليّم" بدل من البحر‪2).‬‬
‫والن ينبغي أن نعرف ما المراد من "البحر" و "اليم" هنا‪ ،‬أهو إشارة إلى النهر الكبير الواسع‬
‫في مصر‪ ،‬النيل الذي يروي جميع أراضيها؟ أم هو إشارة إلى البحر الحمر "المعروف ببحر‬
‫القلزم في بعض المصطلحات"؟‬
‫سرين ـ أنه إشارة إلى البحر الحمر‪ ...‬إّل‬ ‫يستفاد من التوراة الحالية ـ وكذلك من كلمات بعض المف ّ‬
‫ن المراد منه هو نهر النيل‪ ،‬لن "البحر" كما يقول‬ ‫أن القرائن الموجودة والمتوفرة تدل على أ ّ‬
‫الراغب في مفرداته يعني في اللغة الماء الكثير الواسع‪ ،‬واليم بهذا المعنى أيضًا‪ .‬فل مانع إذًا من‬
‫‪.‬إطلق الكلمتين على نهر النيل‬
‫‪:‬وأّما القرائن المؤيدة لهذا الرأي فهي‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ اقرأ في سورة "يونس‪ :‬الية ‪ 90‬ـ وطه الية ‪ 77‬ـ والشعراء الية ‪ ،63‬والية محل البحث ‪1‬‬
‫‪.‬أيضًا‬

‫‪.‬ـ اقرأ سورة طه الية ‪ 78‬ـ والقصص الية ‪ 40‬ـ والذاريات الية ‪2 40‬‬
‫]‪[388‬‬
‫ـ أنّ منطقة سكن الفراعنة التي كانت مركزًا لمدن مصر العامرة كانت نقطة قريبًة من النيل ‪1‬‬
‫ن بني إسرائيل‬‫حتمًا‪ ...‬وإذا أخذنا بنظر العتبار معيار محلهم الفعلي "الهرام" أوما حولها‪ ،‬فإ ّ‬
‫لبّد لهم أن يعبروا نهر النيل ليصلوا إلى الرض المقدسة‪ ،‬لن هذه المنطقة تقع غرب النيل ولبّد‬
‫!"لهم من أن يتجهوا نحو الشرق للوصول إلى الرض المقدسة! "فلحظوا بدقة‬
‫ـ أنّ الفاصلة بين المناطق العامرة)‪ (1‬من مصر والتي هي قريبة من النيل بالطبع‪ ،‬بعيدة عن ‪2‬‬
‫‪...‬البحر الحمر بحيث ل يمكن أن ُتطوى المسافة بينها وبين البحر بليلة أو نصف ليلة‬
‫ويستفاد من اليات المتقدمة بوضوح أن بني إسرائيل غادروا أرض الفراعنة ليل‪ ،‬وطبيعي أن‬
‫‪".‬تكون المغادرة في الليل‪ .‬أّما فرعون وجيشه فقد اتبعوهم حتى بلغوهم مشرقين "عند الصباح‬
‫ـ لم تكن حاجة ليعبر بنو إسرائيل البحر الحمر حتى يصلوا الرض المقدسة‪ ،‬إذ كانت هناك ‪3‬‬
‫منطقة يابسة ضيقة قبل حفر ترعة السويس "أو ما يصطلح عليها بقناة السويس"‪ ...‬إّل أن‬
‫نفترض أن البحر الحمر كان متصل بالبحر البيض المتوسط في الزمن السابق‪ ،‬ولم تكن هناك‬
‫ي وجه‬
‫‪!...‬منطقة يابسة‪ ،‬وهذا الفرض غير ثابت بأ ّ‬
‫ل ُأمه" الية ‪ 39‬من سورة طه‪ ،‬كما ‪4‬‬ ‫ـ ُيعّبر القرآن عن قصة موسى بإلقائه في "اليم" "من ِقَب ِ‬
‫يعبر عن غرق فرعون وأتباعه بقوله‪) :‬فغشيهم من اليم ما غشيهم(الية ‪ 78‬من السورة ذاتها‪.‬‬
‫وكلتا القضيتين في قصة واحدة وسورة واحدة أيضًا )طه( وكون اللفظين مطلقين ـ )اليم( في‬
‫الية السابقة و)اليم( في الية اللحقة ـ ُيشعر بأّنهما واحد‪ ...‬ومع ملحظة أن أّم موسى لم تلق‬
‫موسى في‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ العامرة هنا اسم فاعل بمعنى المفعول أي المعمورة ‪1‬‬
‫]‪[389‬‬
‫البحر الحمر قطعًا‪ ،‬بل ألقته في النيل طبقًا لما تذكره التواريخ‪ ،‬فيعلم أن غرق فرعون وقومه كان‬
‫‪".‬في النيل "فلحظوا بدّقة‬

‫ـ كيفية نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه ‪2‬‬


‫سرين ممن ل يميل إلى كون نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه معجزًة‪ ،‬بل‬ ‫هناك بعض المف ّ‬
‫جهوا ذلك كله بأسباب طبيعية‬
‫‪،.‬حادثة طبيعية‪ ،‬كما يصّرون على ذلك‪ ،‬فو ّ‬
‫ن هذا الموضوع يمكن تطبيقه بواسطة الجسور المتحركة المستعملة في العصر‬ ‫لذلك قالوا‪ :‬إ ّ‬
‫)الحديث‪1).‬‬
‫صة‪ ،‬وكان يمكنه العبور من‬ ‫ن موسى)عليه السلم( كان مطلعًا على طرق خا ّ‬ ‫وقال بعضهم‪ :‬إ ّ‬
‫البرازخ )أو الطرق الموجودة في بحر سوف( أي خليج السويس‪ ،‬إلى جزيرة سيناء‪ .‬وانفلق‬
‫‪)...‬البحر ـ في اليات محل البحث ـ إشارة إلى هذا المعنى)‪2‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬من المحتمل جدًا أن يكون وصول موسى وقومه البحر عند منتهى جزره‪ ،‬فاستطاع‬
‫أن يعبر بهم من النقاط اليابسة ويجتازها بسرعة‪ ،‬ولكن عندما ورد فرعون وقومه البحر شرع‬
‫‪...‬المّد فورًا فُأغرقوا بالنيل حينئذ وهلكوا‬
‫ولكن الحق أن أّيا من هذه الحتمالت ل ينسجم وظاهر اليات ـ إن لم نقل وصريح اليات ـ ومع‬
‫صة معجزة عصا موسى نفسها‪ ،‬فل‬ ‫قبول معاجز النبياء الوارد بيانها مرارًا في سور القرآن‪ ،‬وخا ّ‬
‫‪...‬حاجة لمثل هذه التوجيهات‬
‫فما يمنع أن تتراكم أمواج النيل بعد ضربها من ِقَبل موسى بالعصا بأمر ال الحاكم على قانون‬
‫الَعلّية في عالم الوجود‪ ،‬وتنجذب متأثرة بما فيها من سّر غامض‪ ،‬لتترك طريقًا َيبسًا بّينا )يمّر في‬
‫وسط البحر( ثّم تتلشى هذه الجاذبّية بعد‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .‬ـ أعلم القرآن‪ ،‬ص ‪1 622‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫]‪[390‬‬
‫مدة‪ ،‬ويعود البحر إلى حالته الطبيعية وإلى أمواجه المتلطمة!‪ ...‬وليس هذا استثناًء في قانون‬
‫!العلّية‪ ،‬بل هو اعتراف بتأثير علل غير معتادة‪ ،‬ل نعرفها لقصور علمنا أو لقّلة معلوماتنا‬

‫ـ ال عزيز رحيم ‪3‬‬


‫ينبغي ملحظة هذه اللطيفة‪ ،‬إذ جاءت الية الخيرة ـ من اليات محل البحث ـ بمثابه استنتاج لما‬
‫جرى من أمر موسى وفرعون وقومهما‪ ،‬وانتصار جيش الحق وانهزام الباطل! إذ تصف هذه‬
‫ن قدرته ل تضعف ول ُتقهر‪،‬‬ ‫الية "ال" سبحانه بالعزيز الرحيم‪ ...‬فالوصف الّول إشارة إلى أ ّ‬
‫صة بتقديم وصف )العزيز( على‬ ‫والوصف الّثاني إشارة إلى أنه يوصل رحمته لعباده جميعًا‪ ،‬وخا ّ‬
‫‪)!...‬الرحيم( لئل ُيتوّهم أن رحمته من منطلق الضعف‪ ،‬بل هو مع قدرته رحيم‬
‫ن يرى أن وصفه بالعزيز إشارة إلى اندحار أعدائه‪ ،‬ووصفه بالرحيم‬ ‫سرين َم ْ‬‫ن من المف ّ‬
‫وبالطبع فإ ّ‬
‫ن الجميع‬‫إشارة إلى انتصار أوليائه‪ ،‬إّل أنه ل مانع أبدًا أن يشمل الوصفان الطائفتين معًا‪ ...‬ل ّ‬
‫‪...‬ينعمون برحمته حتى المسيئون‪ ...‬والجميع يخافون من سطوته حتى الصالحون‬
‫***‬
‫]‪[391‬‬

‫اليات‬

‫ظّل َلَها‬
‫صَنامًا َفَن َ‬
‫ن )‪َ(70‬قاُلوْا َنْعُبُد َأ ْ‬ ‫عَلْيِهْم َنَبَأ ِإْبَرِهيَم)‪ (69‬إْذ َقاَل َِلِبيِه َوَقْوِمِه َما َتْعُبُدو َ‬ ‫َواْتُل َ‬
‫جْدَنآ‬‫ن)‪َ (73‬قالُوْا َبْل َو َ‬ ‫ضّرو َ‬ ‫ن)‪َ (72‬أْو َينَفُعوَنُكْم َأْو َي ُ‬ ‫عو َ‬‫سَمُعوَنُكْم ِإْذ َتْد ُ‬
‫ن)‪َ (71‬قاَل َهْل َي ْ‬ ‫عـُكِفي َ‬‫َ‬
‫ن)‪َ (76‬فِإّنُهْم‬ ‫ن)‪َ (75‬أنُتْم َوَءابآُؤُكُم اَْلْقَدُمو َ‬ ‫ن)‪َ (74‬قاَل َأَفَرَءْيُتم ّما ُكنُتْم َتْعُبُدو َ‬ ‫ك َيْفَعلُو َ‬‫َءاَبآَءَنا َكَذِل َ‬
‫ن )‪َ(79‬وِإَذا‬ ‫سِقي ِ‬‫طِعُمِنى َوَي ْ‬‫ن)‪ (78‬واّلِذى ُهَو ُي ْ‬ ‫خَلَقِنى َفُهَو َيْهِدي ِ‬
‫ن )‪(77‬اّلِذى َ‬ ‫ب اْلَعـَلِمي َ‬
‫عُدّو ّلى ِإّل َر ّ‬ ‫َ‬
‫طيَئِتى َيْوَم‬ ‫خَ‬ ‫طَمُع َأن َيْغِفَرِلى َ‬ ‫ن )‪َ(81‬واّلِذى َأ ْ‬ ‫حِيي ِ‬
‫ن)‪ (80‬واّلِذى ُيِميُتِنى ُثّم ُي ْ‬ ‫شِفي َ‬‫ت َفُهَو َي ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫َمِر ْ‬
‫ن)‪82‬‬ ‫)الّدي ِ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬أعبُد رّبًا‪ ...‬هذه صفاته‬
‫ن ال يبّين حال سبعة من النبياء العظام‪ ،‬ومواجهاتهم‬
‫كما ذكرنا في بداية هذه السورة‪ ،‬فِإ ّ‬
‫أقوامهم لهدايتهم‪ ،‬لتكون "مدعاة" تسلية للّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( والمؤمنين القّلة معه‬
‫‪...‬في عصره‪ ،‬وفي الوقت ذاته إنذار لجميع العداء والمستكبرين أيضًا‬
‫]‪[392‬‬
‫صة موسى وفرعون المليئة بالدروس لتبّين قصة إبراهيم‬ ‫لذلك تعّقب هذه اليات على ق ّ‬
‫‪:‬ومواجهاته المشركين‪ ،‬وتبدأ هذه اليات بمحاورة إبراهيم لعمه آزر)‪ (1‬فتقول‬
‫ل عليهم نبأ إبراهيم(‬‫‪).‬وات ُ‬
‫سِم‪) :‬إْذقاَل‬
‫ي العظيم يرّكز القرآن الكريم على هذا الِق ْ‬
‫ومن بين جميع الخبار المتعلقة بهذا النب ّ‬
‫لبيِه وقومه ما تعبدون(؟‬
‫ي شيء يعبدون‪ ،‬لكن كان هدفه أن يستدرجهم ليعترفوا بما‬ ‫ن إبراهيم كان يعلم أ ّ‬
‫ومن المسّلم به أ ّ‬
‫!يعبدون‪ ،‬والتعبير بـ "ما" مبّين ضمنًا نوعًا من التحقير‬
‫سوا بالخجل‬‫فأجابوه مباشرًة )قالوا نعبُد أصنامًا فنظّل لها عاكفين(! وهذا التعبير يدّل على أّنهم يح ّ‬
‫من عملهم هذا‪ ،‬بل يفتخرون به‪ ،‬إذا كان كافيًا أن يجيبوه‪ :‬نعبد أصنامًا‪ ،‬إّل أّنهم أضافوا هذه‬
‫!)العبارة‪) :‬فنظل لها عاكفين‬
‫التعبير بـ "نظّل" ُيطلق عادة على العمال التي تؤدى خلل اليوم‪ ،‬وذكره بصيغة الفعل المضارع‬
‫‪.‬إشارة إلى الستمرار والدوام‬
‫كلمة "عاكفين" مأخوذة من "العكوف"‪ ،‬ومعناه التوجه نحو الشيء وملزمته باحترام‪ ،‬وهي‬
‫‪.‬تأكيد لما سبق من التعبير‬
‫الصنام" جمع الصنم‪ ،‬وهو الهيكل أو التمثال المصنوع من الذهب أو الخشب أو ما شاكلهما"‬
‫‪...‬للعبادة‪ ،‬وكانوا يتصورون أنها مظهر للتقديس‬
‫ن إبراهيم لما سمع كلَمهم رشقهم بنبال الشكال والعتراض بشّدة‪ ،‬وقمعهم‬ ‫وعلى كل حال‪ ،‬فإ ّ‬
‫بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق‪ ،‬فـ )قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو‬
‫!يضرون(؟‬
‫ن يسمَع نداء عابده‪ ،‬وأن ينصره في‬ ‫إن أقّل ما ينبغي توفره في المعبود هو أ ْ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن لفظ "الب" يطلق في لغة العرب والقرآن على الوالد كما يطلق على العم‪ ،‬وهنا ‪1‬‬ ‫ـ بّينا مرارًا أ ّ‬
‫‪.‬استعمل هذا اللفظ بمعناه الثاني‬
‫]‪[393‬‬
‫‪!...‬البلء‪ ،‬أو يضره عند مخالفة أمره‬
‫إّل أن هذه الصنام ليس فيها ما يدّل على أن َلها أقّل إحساس أو شعور أو أدنى تأثير في عواقب‬
‫الناس‪ ،‬فهي أحجار أو فلزات "أو معادن أو خشب ل قيمة لها! وإّنما أعطتها الخرافات هذه الهالة‬
‫‪!...‬وهذه القيمة الكاذبة‬
‫إّل أن عبدة الصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائمًا‪،‬‬
‫‪).‬فـ )قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون‬
‫وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم العمى لسلفهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي‬
‫ن فيه‪ ،‬وليس أي‬ ‫استطاعوا أن يرّدوا به على إبراهيم)عليه السلم(‪ ،‬وهو جواب دليُل بطلنه كام ٌ‬
‫ض عينيه‪ ،‬ول سيما أن تجارب الخلف أكثر‬ ‫عاقل يجيز لنفسه أن يقَفو أثَر غيره ويصم ُأذنيه ويغم ُ‬
‫‪!...‬من السلف عادة‪ ،‬ول يوجد دليل على تقليدهم العمى‬
‫والتعبير بـ )كذلك يفعلون( تأكيد أكثر على تقليدهم‪ ،‬أي نفعل كما كانوا يفعلون‪ ،‬سواًء عبدوا‬
‫‪.‬الصنام أم سواها‬
‫فالتفت إبراهيم ُموّبخا لهم ومبينًا موقفة منهم و )قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم‬
‫ب العالمين‬
‫‪)...‬القدمون فإّنهم عدّولي إّل ر ّ‬
‫‪...‬أجْل‪ ...‬إّنهم جميعًا أعدائي وأنا معاديهم‪ ،‬ول أسالمهم أبدًا‬
‫ومّما ينبغي اللتفات إليه أن إبراهيم الخليل)عليه السلم( يقول‪" :‬فإّنهم عدّو لي" وإن كان لزم‬
‫هذا التعبير أّنه عدّو لهم أيضًا‪ ،‬إّل أن هذا التعبير لعله ناشىء من أن عبادة الصنام أساس الشقاء‬
‫والضلل وعذاب الدنيا والخرة "للنسان"‪ ،‬وهذه اُلمور في حكم عداوتها للنسان‪ .‬أضف إلى‬
‫ذلك أنه يستفاد من آيات متعددة من القرآن أن الصنام تبرأ من عبدتها يوم القيامة وتعاديهم‪،‬‬
‫وتحاججهم بأمر ال وتنفر‬
‫]‪[394‬‬
‫)منهم‪1).‬‬
‫ب العالمين مع أّنه لم يكن من معبوداتهم‪ ،‬وكما يصطلح عليه استثناء منقطع‪ ،‬إّنما هو‬ ‫واستثناء ر ّ‬
‫‪.‬للتأكيد على التوحيد الخالص‬
‫كما َيِرُد هذا الحتمال وهو أن من بين عبدة الصنام من كان يعبُد ال إضافة إلى عبادة الصنام‪،‬‬
‫ب العالمين" من الصنام‪ ،‬رعايًة لهذا الموضوع‬‫‪...‬فاستثنى إبراهيم "ر ّ‬
‫وذكر الضمير "هم" الذي يستعمل عادًة للجمع "في العاقلين" وقد ورد في شأن الصنام‪ ،‬لما‬
‫‪...‬ذكرناه من بيان آنفًا‬
‫ب العالمين ويذكر نعمه المعنوية والمادّية‪ ،‬ويقايسها بالصنام التي ل‬
‫ثّم يصف إبراهيم الخليل ر ّ‬
‫‪...‬تسمع الدعاء ول تنفع ول تضّر‪ ،‬ليّتضح المر جلّيا‬
‫فيبدأ بذكر نعمة الخلق والهداية فيقول‪) :‬الذي خلقني فهو يهدين( فقد هداني في عالم التكوين‪،‬‬
‫ي وأرسل إل ّ‬
‫ي‬ ‫ووفر لي وسائل الحياة المادية والمعنوية‪ ،‬كما هداني في عالم التشريع فأوحى إل ّ‬
‫‪...‬الكتاب السماوي‬
‫وذكر "الفاء" بعد نعمة الخلق‪ ،‬هو إشارة إلى أن الهداية ل تنفصل عن الخلق أبدًا‪ ،‬وجملة‬
‫)يهدين( الواردة بصيغة الفعل المضارع‪ ،‬دليل واضح على استمرار هدايته‪ ،‬وحاجة النسان إليه‬
‫!في جميع مراحل عمره‬
‫فكأن أبراهيم في كلمه هذا يريد أن يبّين هذه الحقيقة‪ ،‬وهي إّنني كنت مع ال منذ أن خلقني‪،‬‬
‫ومعه في جميع الحوال‪ ،‬وأشعر بحضوره في حياتي‪ ،‬فهو وليي حيث ما كنت ويقلبني حيثما‬
‫‪!...‬شاء‬
‫وبعد بيان أولى مراحل الربوبية‪ ،‬وهي الهداية بعد الخلق‪ ،‬يذكر إبراهيم الخليل)عليه السلم( النعم‬
‫‪).‬المادية فيقول‪) :‬والذي يطعمني ويسقين‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ لمزيد اليضاح في هذا الصدد يراجع تفسير الية )‪ (82‬من سورة مريم ‪1‬‬
‫]‪[395‬‬
‫‪!...‬أجْل‪ ،‬إّنني أرى النعم جميعًا من لطفه‪ ،‬فلحمي وجلدي وطعامي وشرابي‪ ،‬كل ذلك من بركاته‬
‫‪).‬ولست مشمول بنعمة في حال الصحِة فقط‪ ،‬بل في كل حال )وإذا مرضت فهو يشفين‬
‫ن المرض أيضًا قد يكون من ال‪ ،‬إّل أن إبراهيم نسبه إلى نفسه رعاية للدب في الكلم‬
‫‪...‬ومع أ ّ‬
‫ثّم يتجاوز مرحلة الحياة الدنيا إلى مرحلة أوسع منها‪ ...‬إلى الحياة الدائمة في الدار الخرة‪،‬‬
‫ليكشف أنه على مائدة ال حيثما كان‪ ،‬ل في الدنيا فحسب‪ ،‬بل في الخرة أيضًا‪ .‬فيقول‪) :‬والذي‬
‫‪).‬يميتني ثّم يحيين‬
‫ن موتي بيده وعودتي إلى الحياة مّرة ُأخرى منه أيضًا‬ ‫‪..‬أجل‪ ،‬إ ّ‬
‫ق حبل رجائي على كرمه‪) :‬والذي أطمع أن يغفرلي خطيئتي‬ ‫وحين أِرُد عرصات يوم القيامة اعل ّ‬
‫‪).‬يوم الدين‬
‫ومّما ل شك فيه أن النبياء معصومون من الذنب‪ ،‬وليس عليهم وزر كي ُيغفر لهم‪ ...‬إّل أّنه ـ كما‬
‫قلنا سابقًا ـ قد تعّد حسنات البرار سيئات المقّربين أحيانًا‪ ،‬وقد يستغفرون أحيانًا من عمل صالح‬
‫ك اَلولى‬
‫‪.‬لّنهم تركوا خيرًا منه‪ ...‬فيقال عندئذ في حق أحدهم‪َ :‬تر َ‬
‫فإبراهيم)عليه السلم( ل يعّول على أعماله الصالحة‪ ،‬فهي ل شيء بإزاء كرم ال‪ ،‬ول ُتقاس بنعم‬
‫ال المتواترة‪ ،‬بل يعّول على لطف ال فحسب‪ ،‬وهذه هي آخر مرحلة من مراحل النقطاع إلى‬
‫‪!...‬ال‬
‫جل أن يبّين المعبود الحقيقي يمضي نحو خالقّية ال‬ ‫خص الكلم أن إبراهيم)عليه السلم( من أ ّ‬ ‫ومل ّ‬
‫‪:‬أول‪ ،‬ثّم يبّين بجلء مقام ربوبيته في جميع المراحل‬
‫‪.‬فالمرحلة اُلولى مرحلة الهداية‬
‫ثّم مرحلة النعم المادّية‪ ،‬وهي أعّم من إيجاد المقتضي والظروف الملئمة أو‬
‫]‪[396‬‬
‫‪...‬دفع الموانع‬
‫والمرحلة الخيرة هي مرحلة الحياة الدائمة في الدار اُلخرى‪ ،‬فهناك يتجّلى وجه الرب بالهبات‬
‫‪!...‬والصفح عن الذنوب ومغفرتها‬
‫وهكذا يبطل إبراهيم الخرافات التي كانت في قومه‪ ،‬من تعدد اللهة والرباب وينحني خضوعًا‬
‫‪.‬للخالق العظيم‬
‫***‬
‫]‪[397‬‬

‫اليات‬

‫جَعْلِنى ِمن‬
‫ن)‪َ (84‬وا ْ‬ ‫خِري َ‬‫ى اَْل ِ‬
‫صّدق ف ِ‬ ‫ن ِ‬
‫سا َ‬
‫جَعل ّلى ِل َ‬
‫ن)‪َ (83‬وا ْ‬ ‫حي َ‬
‫صـِل ِ‬‫حْقِنى بال ّ‬
‫حْكمًا َوَأْل ِ‬
‫ب ِلى ُ‬
‫ب َه ْ‬‫َر ّ‬
‫ن)‪87‬‬ ‫خِزِنى َيْوَم ُيْبَعُثو َ‬‫ن)‪َ (86‬وَلُت ْ‬
‫ضآّلي َ‬
‫ن ال ّ‬‫ن ِم َ‬‫غِفْر َِلِبى ِإّنُه‪َ ،‬كا َ‬
‫جّنِة الّنِعيِم )‪َ(85‬وا ْ‬
‫)وََرَثِة َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪ُ):‬دعاُء إبراهيم)عليه السلم‬
‫من هنا تبدأ أدعية إبراهيم الخليل وسؤالته من ال‪ ،‬فكأّنه بعد أن دعا قومه الضالين نحو ال‪،‬‬
‫وبّين آثار الربوبية المتجلّية في عالم الوجود‪ ...‬يتجه بوجهه نحو ال ويعرض عنهم‪ ،‬فكل ما‬
‫يحتاجه فانه يطلبه من ال‪ ،‬ليكشف للناس ولعبدة الصنام أنه مهما أرادوه من شؤون الدنيا‬
‫ي ـ على ربوبيته المطلقة‬‫‪.‬والخرة‪ ،‬فعليهم أن يسألوه من ال‪ ،‬وهو تأكيد آخر ـ ضمن ٌ‬
‫ب هب لي حكمًا والحقني بالصالحين‬ ‫‪).‬فأّول ما يطلبه إبراهيم من ساحته المقدسة هو )ر ّ‬
‫فالمقام الّول هنا الذي يريده إبراهيم لنفسه من ال هو الحكم‪ ،‬ثّم اللحاق‬
‫]‪[398‬‬
‫‪...‬بالصالحين‬
‫و "الحكم" و "الحكمة" كلهما من جذر واحد‪ ...‬و "الحكمة" كما يقول عنها الراغب في‬
‫مفرداته‪ :‬هي الوصول إلى الحق عن طريق العلم ومعرفة الموجودات والفعال الصالحة‪ ،‬وبتعبير‬
‫آخر‪ :‬هي معرفة القيم والمعايير التي يستطيع النسان بها أن يعرف الحق حيثما كان‪ ،‬ويميز‬
‫‪".‬الباطل في أي ثوب كان‪ ،‬وهو ما ُيعّبر عنه عند الفلسفة بـ "كمال القّوة النظرية‬
‫عّبر عنها بالخير الكثير‬‫وهي الحقيقة التي تلّقاها لقمان من رّبه )ولقد آتينا لقمان الحكمة(‪ (1).‬و ُ‬
‫‪).‬في الية )‪ (269‬من سورة البقرة )ومن يؤت الحكمة فقد ُأوتي خيرًا كثيرًا‬
‫ن للحكم مفهومًا أسمى من الحكمة‪ ...‬أي إّنه العلم المقترن باِلستعداد للتنفيذ والعمل‪،‬‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫!وبتعبير آخر‪ :‬إن الحكم هو القدرة على القضاء الصحيح الخالي من الهوى والخطأ‬
‫ن إبراهيم)عليه السلم( يطلب من ال قبل كل شيء المعرفة العميقة الصحيحة المقرونة‬ ‫أجْل‪ ،‬إ ّ‬
‫!بالحاكمّية‪ ،‬لن أي منهج ل يتحقق دون هذا الساس‬
‫وبعد هذا الطلب يسأل من ال إلحاقه بالصالحين‪ ،‬وهو إشارة إلى الجوانب العملية‪ ،‬أو كما يصطلح‬
‫‪"!...‬عليها بـ "الحكمة العملية" في مقابل الطلب السابق وهو "الحكمة النظرية‬
‫ول شك أن إبراهيم)عليه السلم( كان يتمتع بمقام "الحكم" وكان في زمرة الصالحين أيضًا‪ ...‬فلم‬
‫!سأل ال ذلك؟‬
‫الجواب على هذا السؤال هو أّنه ليس للحكمة حد معين‪ ،‬ول لصلح اِلنسان حّد‪ ،‬فهو يطلب ذلك‬
‫ليبلغ المراتب العليا من العلم والعمل يومًا بعد يوم‪ ،‬حتى وهو‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة لقمان‪ ،‬الية ‪1 12‬‬
‫]‪[399‬‬
‫‪...‬في موقع النبوة‪ ،‬وأنه من أولي العزم‪ ..‬ل يكتفي بهذه العناوين‬
‫ن إبراهيم)عليه السلم( يعلم أن كل ذلك من ال سبحانه‪ ،‬ومن الممكن في‬ ‫ثّم ـ إضافة إلى ذلك ـ فإ ّ‬
‫أي لحظة أن تسلب هذه المواهب أو تزل به القدم‪ ،‬لذا فهو يطلب دوامها من ال إضافة إلى‬
‫التكامل‪ ،‬كما أننا نخطو ونسير إن شاء ال في الصراط المستقيم‪ ،‬ومع ذلك فكّل يوم نسأل رّبنا في‬
‫!الصلة أن يهدينا الصراط المستقيم‪ ،‬ونطلب منه التكامل ومواصلة هذا الطريق‬
‫ب موضوعًا مهمًا آخر بهذه العبارة‪) :‬واجعل لي لسان صدق في‬ ‫ن‪ ...‬يطل ُ‬ ‫طَلبي ِ‬
‫وبعد هذين ال َ‬
‫‪).‬الخرين‬
‫ي اجعلني بحال تذكرني الجيال التية بخير‪ ،‬واجعل منهجي مستمرًا بينهم فيتخذوني ُأسوًة‬ ‫أ ْ‬
‫‪...‬وقدوة لهم فيتحركون ويسيرون في منهاجك المستقيم وسبيلك القويم‬
‫فاستجاب ال دعاء إبراهيم كما يقول سبحانه في القرآن الكريم‪) :‬وجعلنا لهم لسان صدق علّيا(‪).‬‬
‫)‪1‬‬
‫ول يبعد أن يكون هذا الطلب شامل لما سأله إبراهيُم الخليل ربه بعد بناء الكعبة‪ ،‬فقال‪) :‬ربنا‬
‫)وابعث فيهم رسول منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم(‪2).‬‬
‫ي اِلسلم‪ .‬وُذكر إبراهيم الخليل بالخير في هذه اُلمة عن‬ ‫ونعرف أن هذا الدعاء تحقق بظهور نب ّ‬
‫‪...‬هذا الطريق‪ ،‬وبقي هذا الذكر الجميل مستمرًا‬
‫ثّم ينظر إبراهيم إلى أفق أبعد من أفق الدنيا‪ ،‬ويتوجه إلى الدار الخرة‪ ،‬فيدعو بدعاء رابع فيقول‪:‬‬
‫‪)).‬واجعلني من ورثة جنة النعيم‬
‫جنة النعيم" التي تتماوج فيها النعم المعنوية والمادية‪ ،‬النعم التي ل زوال لها"‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة مريم‪ ،‬الية ‪1 50‬‬
‫‪.‬ـ البقرة‪ ،‬الية ‪2 129‬‬
‫]‪[400‬‬
‫ن ـ سجناَء الدنيا ـ فهي ما ل عين رأت ول‬ ‫ول اضمحلل‪ ...‬النعم التي ل يمكن أن نتصورها نح ُ‬
‫‪!...‬أذن سمعت‬
‫ن معنى الرث الحصول على الشيء دون‬ ‫وقلنا سابقًا‪ :‬إن التعبير بالرث في شأن الجّنة إّما ل ّ‬
‫مشّقة وعناء‪ ،‬ومن المسّلم أن تلك النعم التي في الجّنة تقاس بطاعاتنا‪ ،‬فطاعاتنا بالنسبة ل تمثل‬
‫ن ذلك ـ طبقًا لما ورد في بعض الّروايات ـ لن كل إنسان له بيت في الجنة‬ ‫شيئًا إليها!‪ ...‬أو أ ّ‬
‫‪ ...‬وآخر في النار‪ ،‬فإذا دخل الّنار ورث الخرون بيته في الجّنة‬
‫وفي خامس أدعيته يتوجه نظره إلى عّمه الضاّل‪ ،‬وكما وعده أّنه سيستغفر له‪ ،‬فإّنه يقول في هذا‬
‫‪).‬الدعاء‪) :‬واغفر لبي إّنه كان من الضالين‬
‫وهذا الوعد هو ما صرحت به الية )‪ (114‬من سورة التوبة إذ تحكي عنه )وما كان استغفار‬
‫إبراهيم لبيه إّل عن موعدة وعدها إياه(! وعده من قبل‪ ،‬وكان هدفه أن ينفذ إلى قلبه عن هذا‬
‫الطريق‪ ،‬وأن يجّره إلى طريق اليمان‪ ،‬لذلك قال له مثل هذا القول وعمل به أيضًا‪ ...‬وطبقًا لرواية‬
‫عن ابن عباس أن إبراهيم)عليه السلم(استغفر لعّمه آزر مرارًا‪ ،‬إّل أنه حين غادر آزر الدنيا كافرًا‬
‫وثبت عداؤه للدين الحق‪ ،‬قطع إبراهيم استغفار عن عمه‪ ،‬كما نرى في ذيل الية النص التالي‪:‬‬
‫))فلما تبّين أنه عدو ل تبرأ منه(‪1).‬‬
‫ن دعاءه السادس من رّبه في شأن يوم التغابن‪ ،‬يوم القيامة‪ ،‬بهذه الصورة )ول تخزني‬ ‫وأخيرًا فإ ّ‬
‫‪).‬يوم يبعثون‬
‫ول تخزني(‪ ،‬مأخوذ من مادة )خزي( على زنة )حزب( وكما يقول الراغب في مفرداته‪ ،‬معناه(‬
‫الذل والنكسار الروحي الذي يظهر على وجه النسان من‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ليضاح يراجع تفسير الية ‪ 114‬سورة التوبة ‪1‬‬ ‫‪.‬ـ لمزيد ا ِ‬
‫]‪[401‬‬
‫!الحياء المفرط‪ ،‬أو من جهة الخرين حين يحرجونه ويخجلونه‬
‫وهذا التعبير من إبراهيم‪ ،‬بالضافة إلى أنه درس للخرين‪ ،‬هو دليل على منتهى الحساس‬
‫‪.‬بالمسؤولية والعتماد على لطف ال العظيم‬

‫***‬
‫]‪[402‬‬

‫اليات‬

‫ن)‪(90‬‬ ‫جّنُة ِلْلُمّتِقي َ‬


‫ت اْل َ‬‫سِليم )‪َ(89‬وُأْزِلَف ِ‬ ‫ل ِبَقْلب َ‬ ‫ن َأَتى ا َ‬ ‫ن)‪ِ (88‬إّل َم ْ‬ ‫َيْوَم َل َينَفُع َماٌل َوَل َبُنو َ‬
‫صُروَنُكْم َأْو‬‫ل َهْل َين ُ‬ ‫ن ا ِّ‬ ‫ن)‪ِ (92‬من ُدو ِ‬ ‫ن َما ُكنُتْم َتْعُبُدو َ‬
‫ن )‪َ(91‬وِقيَل َلُهْم َأْي َ‬ ‫حيُم ِلْلَغاِوي َ‬
‫جِ‬
‫ت اْل َ‬‫َوُبّرَز ِ‬
‫ن)‪َ (95‬قاُلوْا َوُهْم ِفيَها‬ ‫جَمُعو َ‬ ‫سأْ‬ ‫جُنوُد ِإْبِلي َ‬‫ن )‪َ(94‬و ُ‬ ‫ن)‪َ (93‬فُكْبِكبُوْا ِفيَها ُهْم َواْلَغاُو َ‬ ‫صرُو َ‬ ‫َينَت ِ‬
‫ضّلَنآ ِإّل‬
‫ن )‪َ(98‬وَمآ َأ َ‬ ‫ب اْلَعـَلِمي َ‬‫سّويُكم ِبَر ّ‬
‫ضَلل ّمِبين)‪ِ (97‬إْذ ُن َ‬ ‫ل ِإن ُكّنا َلِفى َ‬ ‫ن )‪َ(96‬تا ِّ‬ ‫صُمو َ‬ ‫َيخَْت ِ‬
‫ن ِم َ‬
‫ن‬ ‫ن َلَنا َكّرًة َفَنُكو َ‬ ‫حِميم)‪َ (101‬فَلْو َأ ّ‬ ‫صِديق َ‬ ‫ن)‪َ (100‬وَل َ‬ ‫شـِفِعي َ‬
‫ن)‪َ (99‬فَما َلَنا ِمن َ‬ ‫جِرُمو َ‬ ‫اُْلم ْ‬
‫حيُم)‬ ‫ك َلُهَو الَعِزيُز الّر ِ‬ ‫ن َرّب َ‬‫ن)‪َ (103‬وِإ ّ‬ ‫ن َأْكَثُرُهم ّمْؤِمِني َ‬
‫ك َلَيًة َوَما َكا َ‬ ‫ن ِفى َذِل َ‬ ‫ن)‪ِ (102‬إ ّ‬ ‫اْلُمْؤِمني َ‬
‫)‪104‬‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬الخصام بين المشركين ومعبوداتهم‬
‫أشير في آخر آية من البحث السابق إلى يوم القيامة ومسألة المعاد‪ ...‬أّما في هذه اليات فنلحظ‬
‫تصوير يوم القيامة ببيان جامع‪ ،‬كما نلحظ فيها أهم المتاع‬
‫]‪[403‬‬
‫ل ظاهر اليات"‬
‫سوق"‪ ،‬وعاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين والضالين وجنود إبليس‪ ،‬ويد ّ‬
‫في تلك ال ُ‬
‫أن هذا الوصف وهذا التصوير هو من كلم إبراهيم الخليل‪ ،‬وأنه ختام دعائه رّبه‪ ،‬وهكذا يعتقد ـ‬
‫ن يحتمل أنه هو من كلم ال‪ ،‬وأن اليات محل البحث‬ ‫سرين‪ ...‬وإن كان هناك َم ْ‬
‫أيضًا ـ أغلب المف ّ‬
‫هي منه سبحانه جاءت مكملًة لكلم إبراهيم)عليه السلم( وموضحة له‪ ،‬إّل أن هذا الحتمال يبدو‬
‫‪!...‬ضعيفًا‬
‫‪).‬وعلى كل حال‪ ،‬فأّول ما تبدأ به هذه اليات هو )يوم ل ينفع ماٌل ول بنون‬
‫ن هاتين الدعامتين المهمتين في الحياة الدنيا "المال والبنون" ليس فيهما أدنى نفع‬ ‫وفي الحقيقة إ ّ‬
‫لصاحبهما يوم القيامة‪ ،‬وكل ما كان دون هاتين الدعامتين رتبًة من اُلمور الدنيوية ـ من باب‬
‫!أولى ـ ل نفع فيه‪ ،‬ول فائدة من ورائه‬
‫ن المراد من المال والبنين هنا ليس هو ما يكون ـ من المال والبنين ـ في مرضاة ال‪ ،‬بل‬ ‫وبديهي أ ّ‬
‫المراد منه الستناد إلى اُلمور المادّية‪ ،‬فالمراد إذًا هو أن هذه الدعامات المادية ل تحّل معضل في‬
‫ى من البنين والمال في مرضاة ال فلن يكون ذلك ماّديا‪ ..‬إذ يصطبغ‬ ‫ذلك اليوم ‪ ...‬أّما لو كان أ ّ‬
‫‪"!...‬بصيغة ال وُيعّد من "الباقيات الصالحات‬
‫ل بقلب سليم‬‫‪) .‬ثّم يضيف القرآن في ختام الية‪ ،‬على سبيل اِلستثناء )إّل من أتى ا ّ‬
‫ن أفضل ما ينجى يوم القيامة هو القلب السليم‪ ،‬وياله من تعبير رائع جامع‪ ،‬تعبير‬ ‫وهكذا يّتضح أ ّ‬
‫يتجسد فيه اِليمان والنية الخالصة‪ ،‬كما يحتوي على كل ما يكون من عمل صالح! ولم ل يكون‬
‫!لمثل هذا القلب من ثمر سوى العمل الصالح؟‬
‫وبتعبير آخر‪ :‬كما أن قلب النسان وروحه يؤثران في أعماله‪ ،‬فإن أعماله لها أثر واسع في القلب‬
‫‪!...‬أيضًا‪ ،‬سواًء كانت أعمال رحمانية أم شيطانية‬
‫]‪[404‬‬
‫ثّم يبّين القرآن الجّنة والنار بالنحو التالي فيقول‪) :‬وُأزلفت الجّنة للمتقين)‪(1‬وُبرزت الجحيم‬
‫للغاوين(‪ .‬أي الضالين‬
‫وهذا المر ـ في الحقيقة ـ قبل ورود كّل من أهل الجّنة والنار إليهما! فكّل طائفة ترى مكانها من‬
‫!قريب‪ ..‬فُيسّر المؤمنون ويستولي الرعب على الغاوين‪ ،‬وهذا أّول جزائهما هناك‬
‫ن القرآن ل يقول‪ :‬اقترب المتقون أو أزلف المتقون إلى الجنة‪ ،‬بل يقول‪) :‬وُأزلفت‬ ‫الطريف هنا أ ّ‬
‫ظِم شأِنهم‬
‫عَ‬
‫‪!...‬الجنة للمتقين( وهذا يدل على مقامهم الكريم و ِ‬
‫كما ينبغي الشارة إلى هذه اللطيفة‪ ،‬وهي أن التعبير بالغاوين هو التعبير ذاته الوارد في قصة‬
‫الشيطان‪ ،‬إذ طرده ال عن ساحته المقدسة فقال له‪) :‬إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلّ من‬
‫)اّتبعك من الغاوين(‪2).‬‬
‫ثّم يتحدث القرآن عن ملمِة هؤلء الضالين‪ ،‬وما ُيقاُل لهم من كلمات التوبيخ أو العتاب‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫)وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون ال( فهل يستطيعون معونتكم في هذه الشدة التي أنتم‬
‫‪)...‬فيها‪ ،‬أو أن يطلبوا منكم أو من غيركم النصر والمعونة )هل ينصرونكم أو ينتصرون()‪3‬‬
‫إّل أّنهم ل يملكون جوابًا لهذا السؤال! كما ل يتوقع أحد منهم ذلك!‪) ...‬فُكبُكبوا فيها هم‬
‫‪).‬والغاوون‬
‫ل منهم سُيلقى على الخر يوم القيامة! )وجنود إبليس أجمعون‬ ‫سرين‪ :‬إن ك ّ‬‫‪).‬كما يقول بعض المف ّ‬
‫وفي الحقيقة أن هذه الفرق الثلث‪ ،‬الصنام والعابدين لها وجنود إبليس‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ت‪ :‬فعل مشتق من )الزلفى( على وزن )كبرى( ومعنى الفعل "قربت ‪1‬‬ ‫‪".‬ـ ُأزلف ْ‬
‫‪.‬ـ سورة الحجر‪ ،‬الية ‪2 42‬‬
‫ـ قد يكون المراد من "ينتصرون" هو أن يطلبوا العون والنصر لنفسهم أو لغيرهم‪ ...‬أو ‪3‬‬
‫‪.‬مجموعهما‪ ،‬لننا سنلحظ في اليات المقبلة أن الَعبَدَة ومعبوديهم يساقون إلى النار‬
‫]‪[405‬‬
‫الدالين على هذا النحراف‪ ،‬يساقون جميعًا إلى النار‪ ...‬ولكن بهذه الكيفية‪ ...‬وهي أن تلقى الفرق‬
‫ب( معناه إلقاء‬‫ب(‪ ،‬و )الك ّ‬
‫فرقًة بعد أخرى في النار‪ .‬لن "ُكبِكبوا" في الصل مأخوذة من )ك ّ‬
‫الشيء بوجهه في الحفرة وما أشبهها‪ ،‬وتكراره "كبكب" يؤدي هذا المعنى من السقوط‪ ،‬وهذا يدّل‬
‫أّنهم حين ُيلقون في النار مثلهم كمثل الصخرة إذ تهوى من أعلى الجبل أو تلقى من قمة الجبل‪،‬‬
‫‪!.‬فهي تصل أول نقطًة ما في الوادي ثّم تتدحرج إلى نقاط ُأخر حتى تستقّر في القعر‬
‫إّل أن الكلم ل يقف عند هذا الحّد‪ ،‬بل يقع النزاع والجدال بين هذه الفرق أو الطوائف الثلث‪،‬‬
‫‪).‬فيجسم القرآن مخاصمتهم هنا‪ ،‬فيقول‪) :‬قالوا وهم فيها يختصمون‬
‫أجل‪ ...‬إن العبَدَة الضالين الغاوين يقسمون بال فيقولون‪) :‬تال إن كّنا لفي ضلل مبين)‪ (1‬إذ‬
‫‪)...‬نسويكم برب العالمين)‪ (2‬وما أضّلنا إّل المجرمون‬
‫المجرمون الذين كانوا سادة مجتمعاتنا ورؤساءنا وكبراءنا‪ ،‬فأضلونا حفظًا لمنافعهم‪ ،‬وجّرونا إلى‬
‫طريق الشقوة والغواية‪ ...‬كما يحتمل أن يكون المراد من المجرمين هم الشياطين أو السلف‬
‫‪.‬الضالين الذين جّروهم إلى هذه العاقبة الوخيمة‬
‫‪)...‬فيما لنا من شافعين ول صديق حميم(‬
‫والخلصة أن الصنام ل تشفع لنا كما كنا نتصور ذلك في الدنيا‪ ،‬ول يتأتى لي صديق أن يعيننا‬
‫‪...‬هنالك‬
‫ن كلمة )شافعين( جاءت في الية السابقة بصيغة الجمع كما ترى‪ ،‬إّل‬ ‫ومّما ينبغي اللتفات إليه‪ ،‬أ ّ‬
‫أن كلمة )صديق( جاءت بصيغة الفراد‪ ،‬ولعّل منشأ هذا التفاوت والختلف‪ ،‬هو أن هؤلء‬
‫الضالين يرون بأُم أعينهم المؤمنين الجانحين‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪)...‬ـ )إن كنا( مخففة من )إّنا كنا ‪1‬‬
‫‪...‬ـ ُيحتمل أن تكون )إذ( هنا للظرفية‪ ،‬كما يحتمل أن تكون تعليلية ‪2‬‬
‫]‪[406‬‬
‫يشفع لهم النبياء والوصياء أو الملئكة وبعض الصدقاء الصالحين‪ ،‬فُأولئك الضالون يتمنون‬
‫‪!...‬الشافعين أيضًا‪ ،‬وأن يكون عندهم صديق هنالك‬
‫سرين‪ ،‬تطلقان على المفرد‬ ‫إضافًة إلى ذلك فإن كلمتي )الصديق( و )العدو( كما يقول بعض المف ّ‬
‫‪...‬والجمع أيضًا‬
‫إّل أّنهم ما أسرع أن يلتفتوا إلى واقعهم المّر‪ ،‬إْذ ل جدوى هناك للحسرة ول مجال للعمل في تلك‬
‫ن لنا كّرة‬
‫الدار لجبران ما فات في دنياهم‪ ،‬فيتمنون العودة إلى دار الدنيا‪ ...‬ويقولون‪) :‬فلو أ ْ‬
‫‪)...‬فنكون من المؤمنين‬
‫وصحيح أّنهم في ذلك اليوم وفي عرصات القيامة يؤمنون برّبهم‪ ،‬إّل أن هذا اليمان نوع من‬
‫اليمان الضطراري غير المؤثر‪ ،‬وليس كاليمان الختياري‪ ،‬وفي هذه الدنيا حيث يكون أساسًا‬
‫‪.‬للهداية والعمل الصالح‬
‫ولكن ل يحقق هذا التمني شيئًا‪ ،‬ول يحّل ُمْعضل‪ ،‬ولن تسمح سنًة ال بذلك‪ ،‬وهم يدركون تلك‬
‫‪)...‬الحقيقة‪ ،‬لّنهم يتفّوهون بكلمة "لو")‪1‬‬
‫وأخيرًا بعد النتهاء من هذا الِقسِم من قصة إبراهيم‪ ،‬وكلماته مع قومه الضالين‪ ،‬ودعائه رّبه‪،‬‬
‫ووصفه ليوم القيامة‪ ،‬يكرر ال آيتين مثيرتين بمثابة النتيجة لعبادة جميعًا‪ ،‬وهاتان اليتان وردتا‬
‫في ختام قصة موسى وفرعون‪ ،‬كما وردتا في قصص النبياء الخرين من السورة ذاتها فيقول‪:‬‬
‫ن في ذلك ليًة وما كان أكثرهم مؤمنين وإن رّبك لهو العزيز الرحيم‬ ‫‪))...‬إ ّ‬
‫وتكرار هاتين اليتين‪ ،‬هو للتسرية عن قلب الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وتسليته ومن معه‬
‫من الصحابة القلة وكذلك المؤمنين في كل عصر ومصر لئل يستوحشوا في الطريق من قلة أهله‬
‫وكثرة العداء‪ ...‬وليطمئنوا إلى رحمة ال وعزته‪ ،‬كما أن هذا التكرار بنفسه تهديد للغاوين‬
‫الضالين‪ .‬وإشارة إلى أنه لو وجدوا الفرصة في حياتهم وأمهلهم ال إمهال فليس ذلك عن ضعف‬
‫!منه سبحانه‪ ،‬بل هو من رحمته وكرمه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪...‬ـ تعّد )لو( من حروف الشرط ـ وعادًة ـ تستعمل حينما يكون الشرط محال ‪1‬‬

‫]‪[407‬‬
‫ملحظات‬
‫ـ القلب السليم ـ وحده ـ وسيلة النجاة ‪1‬‬
‫في اثناء كلم إبراهيم الخليل)عليه السلم( قرأنا ضمن ما ساقته اليات المتقدمة من تعابير في‬
‫‪).‬وصف القيامة‪ ،‬أّنه ل ينفع في ذلك اليوم شيء )إّل من أتى ال بقلب سليم‬
‫ي انحراف أخلقي(‬ ‫السليم( مأخوذ من السلمة‪ ،‬وله مفهوم واضح‪ ،‬وهو السالم والبعيد من أ ّ‬
‫ي مرض آخر‬ ‫‪!...‬وعقائدي‪ ،‬أو أ ّ‬
‫)ُترى‪ ...‬ألْم يقل ال القرآن في شأن المنافقين )في قلوبهم مرض فزادهم ال مرضًا(‪1).‬‬
‫‪.‬ونلحظ تعاريف للقلب السليم في عدد من الحاديث الغزيرة المعنى‬
‫ي حديث عن المام الصادق)عليه السلم( ـ ذيل الية محل البحث)‪ (2‬ـ يقول فيه‪" :‬وكل قلب ‪1‬‬ ‫ـ فف ّ‬
‫‪".‬فيه شرك أو شك فهو ساقط‬
‫ر النسان إلى كل ‪2‬‬ ‫ـ ونعلم من جهة ُأخرى أن العلئق المادية الشديدة وحب الدنيا‪ ...‬كل ذلك يج ّ‬
‫ب الدنيا رأس كل خطيئة")‪3‬‬ ‫‪).‬انحراف وخطيئة‪ ،‬لن "ح ّ‬
‫ب الدنيا‪ ،‬كما ورد هذا المضمون في حديث للمام‬ ‫ولذلك فالقلب السليم هو القلب الخالي من ح ّ‬
‫ب الدنيا"‪4).‬‬
‫)الصادق)عليه السلم( ـ ذيل محل البحث ـ إذ يقول‪" :‬هو القلب الذي سلم من ح ّ‬
‫ن خير الزاد التقوى( ‪...‬‬‫ومع اللتفات إلى الية )‪ (197‬من سورة البقرة إذ تقول‪) :‬وتزّودوا فإ ّ‬
‫‪.‬يّتضح أن القلب السليم هو القلب الذي يكون محل لتقوى ال‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة البقرة‪ ،‬الية ‪1 10‬‬
‫‪.‬ـ راجع مجمع البيان ذيل اليات محل البحث ‪2‬‬
‫‪ .‬ـ بحار النوار‪ ،‬ج ‪ ،70‬ص ‪3 239‬‬
‫‪.‬ـ تفسير الصافي في ذيل الية محل البحث ‪4‬‬
‫]‪[408‬‬
‫لمام ‪3‬‬
‫ن القلب السليم هو القلب الذي ليس فيه سوى ال‪ ،‬كما يجيب ا ِ‬
‫ـ وآخر ما نقوله ـ هنا ـ أ ّ‬
‫الصادق)عليه السلم( على سؤال في هذا الشأن فيقول‪" :‬القلب السليم الذي يلقى رّبه وليس فيه‬
‫)أحد سواه"‪1).‬‬
‫سه‬
‫‪.‬ول يخفى أن المراد من القلب في مثل هذه الموارد هو روح النسان ونف ُ‬
‫وهناك مسائل كثيرة وردت في الروايات السلمية تتحدث حول سلمة القلب والفات التي تصيبه‪،‬‬
‫وطريق مبارزتها ومكافحتها‪ ،‬ويستفاد من مجموع هذا المفهوم السلمي المتين أن السلم يهتم‬
‫قبل كّل شيء بالساس الفكري والعقائدي والخلقي‪ ،‬لن جميع المناهج التطبيقية والعملية‬
‫‪!...‬للنسان هي إنعكاسات لذلك الساس وآثاره‬
‫ن سلمة القلب الظاهرية سبب لسلمة الجسم‪ ،‬وأن مرضه سبب لمرض أعضائه جميعًا‪،‬‬ ‫فكما أ ّ‬
‫لنّ تغذية الخليا في البدن تتّم بواسطة الدم الذي يتوزع وُيرسل إلى جميع العضاء بإعانِة القلب‬
‫على هذه المهّمة‪ ...‬فكذلك هي الحال بالنسبة لسلمة مناهج حياة النسان وفسادها‪ ،‬كل ذلك‬
‫‪...‬انعكاس عن سلمة العقيدة والخلق أو فسادهما‬
‫ن القلوب أربعة‪ :‬قلب فيه‬ ‫ونختتم هذا البحث بحديث عن المام الصادق)عليه السلم( إذ قال‪" :‬إ ّ‬
‫نفاق وإيمان‪ ،‬وقلب منكوس‪ ،‬وقلب مطبوع‪ ،‬وقلب أزهُر أجرد; "أجرد من غير ال" إلى أن‬
‫قال)عليه السلم(‪ :‬وأّما الزهر فقلب المؤمن‪ ،‬إن أعطاه شكر وإن ابتله صبر‪ .‬وأّما المنكوس‬
‫فقلب المشرك )أفمن يمشي مكبًا على وجهه أهدى أم من يمشي سّويا على صراط مستقيم( فإن‬
‫القلب الذي فيه إيمان ونفاق‪ ،‬فهم قوم كانوا بالطائف‪ ،‬فإن أدرك أحُدهم أجله على نفاقه هلك‪ ،‬وإن‬
‫)أدركه على إيمانه نجا"‪2).‬‬
‫ـ وجاء في الروايات متعددة عن المامين الصادقين )أبي جعفر وأبي ‪2‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ الكافي‪ ...‬طبقًا لما جاء في تفسير الصافي ـ ذيل الية محل البحث ‪1‬‬
‫رابعة‪ ،‬باب في ظلمة قلب المنافق ‪2‬‬
‫‪.‬ـ أصول الكافي ج ‪ 2‬ص ‪ 422‬طـ ال ّ‬
‫]‪[409‬‬
‫عبد ال)عليهما السلم(( في تفسير )فكبكبوا فيها هم والغاوون( قولهما‪" :‬هم قوم وصفوا عدل‬
‫)بألسنتهم ثّم خالفوه إلى غيره"‪1).‬‬
‫ن القول بل عمل قبيح ومذموم جّدا‪ ،‬إذ يلقي أصحابه في النار‪ ،‬فأولئك‬ ‫وهذا الحديث يدل على أ ّ‬
‫قوم ضالون مضّلون‪ ،‬وكلمهم يهدي‪ ،‬الناس إلى الحق‪ ،‬بينما عملهم يجّرهم إلى الباطل‪ ،‬بل إن‬
‫!عملهم كاشف عن عدم إيمانهم بأقوالهم‬
‫ي" ل تعني الضلل مطلقًا‪ ،‬بل‬ ‫وينبغي اللتفات ـ ضمنًا ـ إلى أن كلمة "غاوون" المأخوذة من "الغ ّ‬
‫‪.‬كما يقول الراغب في المفردات‪ :‬هو نوع من الجهل والضلل الناشيء عن فساد العقيدة‬
‫ـ وردت في ذيل الية )فما لنا من شافعين ول صديق حميم( روايات متعددة‪ ،‬وبعضها صريحة ‪3‬‬
‫)في أن‪" :‬الشافعون الئّمة والصديق من المؤمنين"‪2).‬‬
‫وجاء في حديث آخر عن جابر بن عبد ال النصاري أنه سمع رسول ال)صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم( يقول‪" :‬إن الرجل يقول في الجّنة‪ :‬ما فعل صديقي فلن؟ وصديقه في الجحيم‪ ،‬فيقول ال‪:‬‬
‫)أخرجوا له صديقه إلى الجّنة‪ ،‬فيقول من بقي في النار‪ :‬فما لنا من شافعين ول صديق حميم"‪3).‬‬
‫وبديهي أّنه ل الشفاعة بدون معيار وملك‪ ،‬ول السؤال في شأن الصديق دون حساب‪ ،‬فل بد من‬
‫وجود ارتباط أو علقة بين الشفيع والمشفوع له ليتحقق هذا الهدف‪" ...‬بيّنا تفصيل هذا‬
‫‪".‬الموضوع في بحث الشفاعة‪ ،‬في تفسير الية ‪ 48‬من سورة البقرة ـ فلُيراجع في محله‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ نقل هذه الرواية مؤلف تفسير نور الثقلين عن أصول الكافي‪ ،‬وتفسير علي بن إبراهيم‪1 ،‬‬
‫‪.‬والمحاسن للبرقي‬
‫‪.‬ـ المحاسن للبرقي‪ .‬ذيل الية محل البحث ‪2‬‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان ذيل الية ‪3‬‬
‫]‪[410‬‬

‫اليات‬

‫ن)‬
‫سوٌل َأِمي ٌ‬ ‫ن)‪ِ (106‬إّنى َلُكْم َر ُ‬ ‫ح َأَل َتّتُقو َ‬‫ن)‪ِ (105‬إْذ َقاَل َلُهْم َأخُوُهْم ُنو ٌ‬ ‫سِلي َ‬
‫ت َقْوُم ُنوح اْلُمْر َ‬ ‫َكّذَب ْ‬
‫ن)‬ ‫ب اْلَعـَلِمي َ‬‫عَلى َر ّ‬ ‫ى ِإّل َ‬‫جِر َ‬ ‫ن َأ ْ‬‫جر ِإ ْ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫عَلْيِه ِم ْ‬‫سَئُلُكْم َ‬
‫ن )‪َ(108‬وَمآ َأ ْ‬ ‫طيُعو ِ‬ ‫ل َوَأ ِ‬‫‪َ (107‬فاّتُقوْا ا َّ‬
‫عْلِمى ِبَما َكاُنوْا‬ ‫ن)‪َ (111‬قاَل َوَما ِ‬ ‫ك اَْلْرَذُلو َ‬ ‫ك َواّتَبَع َ‬
‫ن َل َ‬
‫ن)‪َ (110‬قاُلوْا َأُنْؤِم ُ‬ ‫طيُعو ِ‬‫ل َوَأ ِ‬ ‫‪َ(109‬فاّتُقوْا ا َّ‬
‫ن َأَنْا‬
‫ن)‪ِ (114‬إ ْ‬ ‫طاِرِد اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن)‪َ (113‬وَمآ َأَنْا ِب َ‬ ‫شُعُرو َ‬‫عَلى َرّبى َلو َت ْ‬ ‫ساُبُهْم ِإّل َ‬
‫ح َ‬
‫ن ِ‬ ‫ن)‪ِ (112‬إ ْ‬ ‫َيْعَمُلو َ‬
‫ن)‪115‬‬ ‫)ِإّل َنِذيٌر ّمِبي ٌ‬

‫الّتفسير‬
‫ف بك الرذلون؟‬ ‫ح‪ِ ،‬لَم يح ّ‬
‫!يا نو ُ‬
‫ضالين‪ ،‬عن قوم نوح)عليه السلم(‬
‫يتحّدث القرآن الكريم بعد النتهاء مّما جرى لبراهيم وقومه ال ّ‬
‫حديثًا للعبرة والتعاظ‪ ...‬فيذكر عنادهم وشّدتهم في موقفهم من نوح)عليه السلم( وعدم حيائهم‬
‫وعاقبتهم الليمة ضمن عّدة آيات‪ ...‬فيقول أّول‪) :‬كّذبت‬
‫]‪[411‬‬
‫)قوم نوح المرسلين(‪1).‬‬
‫ن لّما كانت دعوة المرسلين واحدة من حيث‬ ‫وواضح أن قوم نوح إّنما كذبوا نوحًا فحسب‪ ...‬ولك ْ‬
‫الصول‪ ،‬فقد عّد تكذيب نوح تكذيبًا للمرسلين جميعًا‪ ...‬ولذا قال القرآن )كذبت قوم نوح‬
‫‪).‬المرسلين‬
‫ن قوم نوح أساسًا كانوا منكرين لجميع الديان والمذاهب‪ ،‬سواًء قبل ظهور نوح أو‬ ‫كما ويحتمل أ ّ‬
‫‪...‬بعده‬
‫ثّم يشير القرآن الكريم إلى هذا الجانب من حياة نوح)عليه السلم(‪ ،‬الذي سبق أن أشار إليه في‬
‫‪)...‬كلمه حول إبراهيم وموسى)عليهما السلم(‪ ،‬فيقول‪) :‬إذ قال لهم أخوهم نوح أل تتقون‬
‫والتعبير بكلمة "أخ" تعبير يبّين منتهى المحّبة والعلقة الحميمة على أساس المساواة‪ ...‬أي أن‬
‫‪.‬نوحًا دون أن يطلب التفوق والستعلء عليهم‪ ،‬كان يدعوهم إلى تقوى ال في منتهى الصفاء‬
‫والتعبير باُلخوة لم َيرْد في شأن نوح في القرآن فحسب‪ ،‬بل جاء في شأن كثير من النبياء‪ ،‬كهود‬
‫وصالح ولوط‪ ،‬وهو يلهم جميع القادة والدلء على طريق الحق أن يراعوا في دعواتهم منتهى‬
‫المحبة المقرونة بالجتناب عن طلب التفوق لجذب النفوس نحو مذهب الحق‪ ،‬ول يستثقله‬
‫‪!...‬الناس‬
‫وبعد دعوة نوح قومه إلى التقوى التي هي أساس كل أنواع الهداية والنجاة‪ ،‬يضيف القرآن فيقول‬
‫على لسان نوح وهو يخاطب قومه‪) :‬إني لكم رسول أمين فاتقوا ال وأطيعون( فإن إطاعتي من‬
‫‪...‬إطاعة ال سبحانه‬
‫‪،‬وهذا التعبير يدّل على أن نوحًا)عليه السلم( كانت له صفة ممتدة من المانة بين قومه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ تأنيث لفظ )كذبت( لن )قوم( في معنى الجماعة‪ ،‬والجماعة فيها تأنيث لفظي‪ ...‬وقال بعضهم‪1 :‬‬
‫إن كلمة )قوم( بذاتها مؤنثة‪ ،‬لّنهم قالوا في تصغيرها "قويمة" نقل الوجه الّول الطبرسي في‬
‫مجمع البيان‪ ،‬ونقل الوجه الّثاني الفخر الرازي في تفسيره‪ ...‬إّل أن "اللوسى" قال في روح‬
‫‪...‬المعاني‪ :‬إن لفظ "قوم" يستعمل في المذكر والمؤنث على السواء‬
‫]‪[412‬‬
‫وكانوا يعرفونه بهذه الصفة السامية‪ ،‬فهو يقول لهم‪) :‬إّني لكم رسول أمين( ولهذا فإّني أمين‬
‫‪...‬أيضًا في أداء الرسالة اللهية‪ ،‬ولن تجدوا خيانًة مّني أبدًا‬
‫وتقديم التقوى على اِلطاعة‪ ،‬لنه مالم يكن هناك إيمان واعتقاد بال وخشية منه‪ ،‬فلن تتحقق‬
‫‪...‬الطاعة لنبّيه‬
‫ومّرة ُأخرى يتمسك نوح)عليه السلم( بحقانية دعوته‪ ،‬ويأتي بدليل آخر يقطع به لسان‬
‫ب العالمين‬‫‪).‬المتذرعين بالحجج الواهية‪ ،‬فيقول‪) :‬وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إّل على ر ّ‬
‫ومعلوم أن الدوافع اللهية ـ عادًة ـ دليل على صدق مدعي النبّوة‪ ،‬في حين أن الدوافع الماّدية تدل‬
‫بوضوح على أن الهدف من ورائها هو طلب المنفعة‪ ،‬ول سيما أن العرب في ذلك العصر كانوا‬
‫‪...‬يعرفون هذه المسألة في شأن الكهنة وأضرابهم‬
‫ثّم يذكر القرآن ذلك التعبير نفسه الذي جاء على لسان نوح‪ ،‬بعد التأكيد على رسالته وأمانته‪ ،‬إذ‬
‫‪)...‬يقول‪) :‬فاتقوا ال وأطيعون‬
‫سُبَل ما تذّرعوا به من الحجج الواهية موصدة‪ ،‬تمسكوا بهذه‬ ‫ن المشركين الحمقى‪ ،‬حين رأوا ُ‬ ‫إّل أ ّ‬
‫‪).‬المسألة‪ ،‬فـ )قالوا أنؤمن لك وأتبعك الرذلون‬
‫إن قيمة الزعيم ينبغي أن تعرف ممن حوله من التباع‪ ،‬وبعبارة أخرى "إن الولي يعرف من‬
‫زّواره ـ كما يقال" فحين نلحظ قومك يا نوح‪ ،‬نجدهم حفنًة من الراذل والفقراء والحفاة والكسبة‬
‫الضعاف‪ ،‬قد داروا حولك‪ ،‬فكيف تتوقع أن يتبعك الثرياء الغنياء الشرفاء والوجهاء ويخضعوا‬
‫!لك؟‬
‫ن الزعيم ُيعرف عن طريق أتباعه‪ ،‬إّل أن خطأهم‬ ‫وصحيح أّنهم كانوا صادقين ومصيبين في أ ّ‬
‫الكبير هو عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها‪ ...‬إذ كانوا يرون معيار الِقَيم في المال‬
‫والثروة واللبسة والبيوت والمراكب الغالية والجميلة‪ ،‬وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء‬
‫والتقوى والطهارة وطلب الحق‪ ،‬والصفات العليا‬
‫]‪[413‬‬
‫‪.‬للنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقّلة من الشراف‬
‫إن روح الطبقية كانت حاكمة على أفكارهم في أسوأ أشكالها‪ ،‬ولذلك كانوا يسّمون الفقراء الحفاة‬
‫‪.‬بالراذل‬
‫و "الراذل" جمع )أرذل( كما أّنه جمع )للرذل( ومعناه الحقير‪ ...‬ولو كانوا يتحررون من قيود‬
‫المجتمع الطبقي‪ ،‬لدركوا جيدًا أن إيمان هذه الطائفة نفسها دليل على حقانية دعوة الّنبي‬
‫!وأصالتها‬
‫ن نوحًا)عليه السلم( جابههم ورّدهم بتعبير متين‪ ،‬وجّردهم من سلحهم و )قال وما علمي بما‬ ‫إّل أ ّ‬
‫‪).‬كانوا يعملون‬
‫فما مضى منهم مضى‪ ،‬والمهم هو أّنهم اليوم استجابوا لدعوة الّنبي‪ ،‬وقالوا له‪ :‬لّبيك‪ ،‬وتوجهوا‬
‫ق من أن ينفذ إلى قلوبهم‬‫‪!...‬لبناء شخصياتهم‪ ،‬ومكنوا الح ّ‬
‫وإذا كانوا في ما مضى من الزمن قد عملوا صالحًا أو طالحًا‪ ،‬فلست ُمحاسبًا ول مسؤول عنهم‬
‫‪).‬آنئذ )إن حسابهم إّل على ربي لو تشعرون‬
‫ويستفاد من هذا الكلم ـ ضمنًا ـ أّنهم كانوا يريدون أن يتهموا هؤلء الطائفة من المؤمنين‪،‬‬
‫بالضافة إلى خلّو أيديهم‪ ،‬بسوء سابقتهم الخلقية والعملية‪ ،‬مع أن الفساد والنحراف الخلقي‬
‫عادًة في المجتمعات المرفهة أكثر من سواها بدرجات‪ ...‬فهم الذين تتوفر لديهم كل وسائل الفساد‪،‬‬
‫‪.‬وهم سكارى المقام والمال‪ ،‬وقّل أن يكونوا من الصالحين‬
‫إّل أن نوحًا)عليه السلم( ـ دون أن يصطدم بهم في مثل هذه اُلمور ـ يقول‪ :‬ما علمي بهم وبما‬
‫!كانوا يعملون‪ ،‬فإذا كان المر كما تزعمون فإّنما حسابهم على ربي لو تشعرون‬
‫لب الحق )وما أنا بطارد المؤمنين‬‫ي أن أبسط جناحي لجميع ط ّ‬ ‫‪).‬وإّنما عل ّ‬
‫وهذه العبارة في الحقيقة جواب ضمني لطلب هؤلء المثرين الغنياء المغرورين‪ ،‬الذين كانوا‬
‫يطلبون من نوح أن يطرد طائفة الفقراء من حوله‪ ،‬ليتقربوا‬
‫]‪[414‬‬
‫‪...‬منه ويكونوا من أتباعه بعد طرد ُأولئك الفقراء‬
‫‪).‬ولكن المسؤولية الملقاة على عاتقي هي أن أنذر الناس فحسب )إن أنا إّل نذير مبين‬
‫فمن سمع إنذاري وعاد إلى الصراط المستقيم بعد ضلله‪ ،‬فهو من أتباعي كائنًا من كان‪ ،‬وفي أي‬
‫!مستوى طبقي ومقام اجتماعي أو مادي‬
‫ح الّنبي الذي هو أول الرسل من أولي‬ ‫ض له نو ٌ‬
‫ومّما ينبغي اِللتفات إليه أن هذا اِليراد لم يتعّر ْ‬
‫العزم فحسب‪ ،‬بل وُوجَه الى الّنبي محمد)صلى ال عليه وآله وسلم( وسائر النبياء به‪ ،‬فالغنياء‬
‫كانوا ينظرون بنظاراتهم الفكرية السوداء شخصيات هؤلء الفقراء البيضاء‪ ،‬فيرونها سوداء‪،‬‬
‫ب ول نبي يتبعه مثل هؤلء العباد الفقراء‬‫‪!...‬فيطلبون طردهم دائمًا‪ .‬ولم يقبلوا بر ّ‬
‫إّل أنه ما أعذب وأحلى تعبير القرآن عنهم في سورة الكهف‪ ،‬إذ يقول‪) :‬واصبر نفسك مع الذين‬
‫ن ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ول تعُد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ول تطع‬ ‫يدعو َ‬
‫‪).‬من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً‬
‫وهذا اليراد أو الشكال يوردونه حتى على قادِة الحق والدّلء على الهدى في كل عصر وزمان‪،‬‬
‫‪.‬وهو أن معظم أتباعكم المستضعفون! أو الحفاة الجائعون‬
‫إّنهم يريدون أن يعيبوا بكلمهم هذا الرسالة والمذهب‪ ،‬مع أّنهم من حيث ل يشعرون‪ ،‬يمدحون‬
‫‪.‬ويطرون ذلك المذهب ويوّقعون على أصالته‬
‫***‬
‫]‪[415‬‬

‫اليات‬

‫ح َبْيِنى‬ ‫ن)‪ (117‬فاْفَت ْ‬ ‫ن َقْوِمى َكّذُبو ِ‬ ‫ن)‪َ (116‬قاَل َربّ ِإ ّ‬ ‫جوِمي َ‬ ‫ن الَمْر ُ‬‫ن ِم َ‬‫ح َلَتُكوَن ّ‬
‫َقالُوْا َلِئن ّلْم َتنَتِه َيـُنو ُ‬
‫غَرْقَنا‬‫ن)‪ُ (119‬ثّم َأ ْ‬ ‫حو ِ‬ ‫شُ‬‫ك الَم ْ‬‫جْيَنـُه َوَمن ّمَعهُ ِفى اْلُفْل ِ‬
‫ن)‪َ (118‬فَأن َ‬ ‫جِنى َوَمن اْلمْؤِمِني َ‬ ‫َوَبْيَنُهْم َفْتحًا َوَن ّ‬
‫حيُم)‬‫ك َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ‬
‫ن َرّب َ‬
‫ن)‪َ (121‬وِإ ّ‬ ‫ن َأْكَثُرُهم ّمْؤِمِني َ‬
‫ك َلَيًة َوَما َكا َ‬‫ن ِفى َذِل َ‬‫ن)‪ِ (120‬إ ّ‬ ‫َبْعدُ اْلَباِقي َ‬
‫)‪122‬‬

‫الّتفسير‬
‫ق المشركين‬‫‪:‬نجاُة نوح وغر ُ‬
‫كان رّد فعل هؤلء القوم الضالين في مواجهة نبّيهم نوح)عليه السلم(‪ ،‬هو منهج المستكبرين‬
‫على امتداد التاريخ وهو العتماد على القّوة والتهديد بالموت والفناء‪) :‬قالوا لئن لم تنته يا نوح‬
‫‪).‬لتكونن من المرجومين‬
‫ن الرجَم بالحجارة بينهم كان جاريًا في شأن المخالفين‪...‬‬ ‫والتعبير بـ "من المرجومين" يدُل على أ ّ‬
‫وفي الحقيقة إّنهم يقولون لنوح‪ :‬إذا قررت أن تواصل دعوتك للتوحيد‪ ...‬والستمرار على عقيدتك‬
‫ودينك‪ ،‬فستنال ما يناله المخالفون‬
‫]‪[416‬‬
‫)ـ عاّمة ـ وهو الرجم بالحجارة‪ ،‬الذي يعد واحدًا من أسوأ أنواع القتل‪1).‬‬
‫ولما رأى نوح أن دعوته المستمرة الطويلة بما فيها من منطق بّين‪ ...‬وبما يقترن بها من‬
‫إصطبار‪ ،‬لم تؤثر إّل في جماعة قلة آمنوا به‪ ...‬شكا إلى رّبه أخيرًا‪ ،‬وضمن بيان حاله‪ ،‬سأل ربه‬
‫ب إن قومي كذبون‬ ‫‪).‬أن ينجّيه من قبضة الظالمين‪ ،‬وأن ُيبعده عنهم‪ ...‬إذ )قال ر ّ‬
‫طلع على كل شيء‪ ،‬إّل أنه لبيان الشكوى وتمهيدًا للسؤال التالي‪ ،‬يذكر نوح مثل‬ ‫وصحيح أن ال م ّ‬
‫‪.‬هذا الكلم‬
‫ك من المصائب التي ُأبتلي بها‪ ،‬بل اشتكى من تكذيب قومه إّياه‬ ‫ن نوحًا لم يشت ِ‬‫ومّما يلفت النظر أ ّ‬
‫‪...‬فحسب‪ ،‬إذ لم يصدقوه ولم يقبلوا رسالته اللهية لهدايتهم‬
‫ثّم يلتفت إلى رّبه فيقول‪ :‬والن حيث لم يبق طريق لهداية هؤلء القوم فاقض بيننا وافصل بيني‬
‫‪).‬وبينهم‪) :‬فافتح بيني وبينهم فتحًا‬
‫الفتح" معناه واضح‪ ،‬وهو ما يقابل الغلق ويضاده‪ ،‬وله استعمالن‪ ...‬فتارة يستعمل في القضايا"‬
‫المادية كفتح الباب مثل‪ ،‬وتارة يستعمل في القضايا المعنوية كفتح الهّم ورفع الغم‪ ،‬وكفتح‬
‫!المستغلق من العلوم‪ ،‬وفتح القضية‪ ،‬اي بيان الحكم حسم النزاع‬
‫جني ومن معي من المؤمنين‬ ‫‪).‬ثّم يضيف فيقول‪) :‬ون ّ‬
‫وهنا يعبر القرآن عن إدراك رحمة ال نوحًا‪ ،‬وإهلك المكذبين بعاقبة وخيمة مفجعة‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫)فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون( اي المليء بالناس وانواع الحيوانات )ثّم أغرقنا بعُد‬
‫‪)...‬الباقين‬
‫ء‪ ،‬وقد"‬
‫المشحون" مأخوذ من مادة )شحن( على وزن )صحن( ومعناه المل ُ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "الرجم" مأخوذ من )رجام( على وزن )كتاب( وهو جمع )رجمة( على وزن )لقمة( ومعناها ‪1‬‬
‫القطعة من الحجر التي توضع على القبر‪ ،‬أو ما يطوف حوله عبدة الوثان‪ ،‬كما يعني الرجم‬
‫ي شكل كان‪ ،‬لن القتل كان بالحجر‬ ‫القذف بالحجارة حتى القتل‪ ،‬كما يأتي أحيانًا بمعنى القتل بأ ّ‬
‫‪.‬سابقًا‬
‫]‪[417‬‬
‫يستعمل بمعنى التجهيز‪ ...‬و"الشحناء" تطلق على العداوة التي تستوعب جميع جوانب اِلنسان‪،‬‬
‫ن ذلك الفلك ]أي السفينة[ كان مملوءًا من البشر وجميع‬ ‫والمراد من "المشحون" هنا هو أ ّ‬
‫الوسائل‪ ...‬ولم يكن فيه أي نقص‪ ...‬إي أن ال بعدما جهز السفينة وأعّدها للحركة‪ ،‬أرسل‬
‫الطوفان لئل ُيبتلى نوح وجميع من في الفلك بأي نوع من أنواع الذى‪ ...‬وهذا بنفسه إحدى نعم‬
‫!ال عليهم‬
‫وفي ختام هذه القصة القصيرة‪ ،‬يقول القرآن ما قاله في ختام قصة موسى وإبراهيم)عليهما‬
‫السلم(‪ ،‬فيكرر قوله‪) :‬إن في ذلك لية( أي في ما جرى لنوح)عليه السلم( ودعوته المستمرة‬
‫‪).‬وصبره ونجاته وغرق مخالفيه )وما كان أكثرهم مؤمنين‬
‫ن عاقبتك‬
‫ولهذا فل تحزن يا رسول ال من إعراض المشركين وعنادهم‪ ،‬واستقم كما ُأمرت‪ ...‬فإ ّ‬
‫‪.‬وعاقبة أصحابك عاقبة نوح وأصحابه‪ ،‬وعاقبة الضالين من قومك كعاقبة الضالين من قوم نوح‬
‫‪).‬و( اعلم )إن رّبك لهو العزيز الرحيم(‬
‫فرحمته تقتضي أن يمهلهم ويتّم عليهم الحجة بإعطاء الفرصة الكافية‪ ،‬وعزته تستلزم أن ينصرك‬
‫سَرًا‬
‫خ ْ‬‫‪!...‬عليهم‪ ،‬وتكون عاقبة أمرهم ُ‬
‫***‬
‫]‪[418‬‬

‫اليات‬

‫ن)‪(125‬‬ ‫سوٌل َأِمي ٌ‬ ‫ن )‪ِ(124‬إّنى َلُكْم َر ُ‬ ‫خوُهْم ُهوٌد َأَل َتّتُقو َ‬ ‫ن)‪ (123‬إْذ َقاَل َلُهْم َأ ُ‬ ‫سِلي َ‬‫عاٌد اْلُمْر َ‬‫ت َ‬ ‫َكّذَب ْ‬
‫ن)‪(127‬‬ ‫ب اْلَعـَلِمي َ‬
‫عَلى َر ّ‬‫ى ِإّل َ‬ ‫جِر َ‬‫ن َأ ْ‬‫جر ِإ ْ‬ ‫ن َأ ْ‬‫عَلْيِه ِم ْ‬
‫سَئُلُكْم َ‬‫ن)‪َ (126‬وَمآ َأ ْ‬ ‫طيُعو ِ‬ ‫ل َوَأ ِ‬‫َفاّتُقوْا ا َّ‬
‫شُتم‬
‫ط ْ‬‫شُتم َب َ‬ ‫ط ْ‬ ‫ن )‪َ(129‬وِإَذا َب َ‬ ‫خـُلُدو َ‬‫صاِنَع َلَعّلُكم َت ْ‬
‫ن َم َ‬ ‫خُذو َ‬ ‫ن)‪َ (128‬وَتّت ُ‬ ‫ن ِبُكّل ِريع َءاَيًة َتْعَبُثو َ‬ ‫َأَتْبُنو َ‬
‫ن)‪َ (132‬أَمّدُكم ِبَأْنَعـم‬ ‫ن )‪َ(131‬واّتُقوْا اّلِذى َأَمّدُكم بَما َتْعَلُمو َ‬ ‫طيُعو ِ‬ ‫ل َوَأ ِ‬‫ن)‪َ (130‬فاّتُقوْا ا َّ‬ ‫جّباِري َ‬‫َ‬
‫ظيم)‪135‬‬ ‫عِ‬ ‫عَذابَ َيْوم َ‬ ‫عَلْيُكْم َ‬‫ف َ‬ ‫خا ُ‬ ‫عُيون)‪ِ (134‬إّنى َأ َ‬ ‫جّنـت َو ُ‬ ‫ن )‪َ(133‬و َ‬ ‫)وََبِني َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬جنايات عاد واعمالهم العدوانية‬
‫والن يأتي الكلم عن "عاد" قوم "هود" إذ يعرض القرآن جانبًا من حياتهم وعاقبتهم‪ ،‬وما فيها‬
‫‪!...‬من دروس العبر‪ ،‬ضمن ثماني عشرة آيًة من آياته‬
‫عاُد" ـ كما قلنا من قبل ـ جماعة كانوا يقطنون في "الحقاف"‪ ،‬وهي منطقة في حضرموت تابعة"‬
‫‪...‬لليمن‪ ،‬تقع جنوب الجزيرة العربية‬
‫]‪[419‬‬
‫)فيقول القرآن‪) :‬كّذبت عاٌد المرسلين(‪1).‬‬
‫بالرغم من أّنهم كذبوا هودًا فحسب‪ ،‬إّل أّنه لّما كانت دعوة هود هي دعوة النبياء جميعًا‪ ،‬فكأّنهم‬
‫‪...‬كذبوا النبياء جميعًا‬
‫وبعد ذكر هذا الجمال يقع التفصيل‪ ،‬فيتحّدث القرآن عنهم فيقول‪) :‬إذ قال لهم أخوهم هود أل‬
‫‪).‬تتقون‬
‫لقد دعاهم إلى التوحيد والتقوى في منتهى الشفقة والعطف والحرص عليهم‪ ،‬لذلك عّبر عنه‬
‫‪"...‬القرآن بكلمة "أخوهم‬
‫ثّم أضاف قائل‪) :‬إّني لكم رسول أمين( وما سبق من حياتي بين ظهرانيكم يدل على هذه الحقيقة‪،‬‬
‫‪!...‬فإّني لم أخنكم أبدًا‪ ...‬ولم تجدوا مّني غير الصدق والحق‬
‫ن إطاعتكم إّياي إطاعة ل‬ ‫ثّم يضيف مؤّكدا‪ :‬لما كنتم تعرفونني جيدًا )فاتقوا ال وأطيعون( ‪ ...‬ل ّ‬
‫سبحانه‪ ...‬ول تتصوروا بأّني أدعوكم لنتفع من وراء دعوتي إّياكم في حياتي الدنيا وأنال المال‬
‫ب العالمين(‪ ...‬فجميع الِنَعم‬
‫والجاه‪ ،‬فلست كذلك )وما أسألكم عليه من أجر أن أجري إّل على ر ّ‬
‫ب العالمين جميعًا‬
‫ت شيئًا طلبته منه‪ ،‬فهو ر ّ‬
‫‪...‬والبركات من ِقَبلِه سبحانه‪ ،‬وإذا أرد ُ‬
‫‪...‬والقرآن الكريم يستند في هذا القسم من سيرة "هود" في قومه إلى أربعة ُأمور على الترتيب‬
‫فالمر الّول‪ :‬هو محتوى دعوة "هود" الذي يدور حول توحيد ال وتقواه‪ ،‬وقرأنا ذلك بجلء في‬
‫‪...‬ما مضى من الي‬
‫أّما اُلمور الثلثة الخر فيذكرها القرآن حاكيًا عن لسان هود في ثوب الستفهام النكاري‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫‪)).‬أتبنون بكل ريع آية تعبثون‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ لما كانت "عاد" قبيلًة‪ ،‬وتتألف من جماعة من الناس ُأنث الفعل كما ُيرى‪ ،‬فجاء )كذبت عاد( ‪1‬‬
‫ن لفظي القبيلة والجماعة مؤنثان‬ ‫‪...‬ل ّ‬
‫]‪[420‬‬
‫ق على المكان المرتفع‪ ،‬أّما كلمة )تعبثون( فمأخوذ من "العبث"‪ ،‬ومعناه"‬
‫الريع" في الصل ُيطل ُ‬
‫العمل بل هدف صحيح‪ ،‬ومع ملحظة كلمة )آية( التي تدل على العلمة يّتضح معنى العبارة‬
‫ن هؤلء القوم المثرين‪ ،‬كانوا يبنون على قمم الجبال والمرتفعات اُلخر مبان َ‬
‫ي‬ ‫بجلء‪ ...‬وهو أ ّ‬
‫عالية للظهور والتفاخر على الخرين‪ ،‬وهذه المباني ]كالبراج وما شاكلها[ لم يكن من روائها أي‬
‫!! هدف سوى لفت أنظار الخرين‪ ،‬وإظهار قدرتهم وقّوتهم ـ من خللها ـ‬
‫ن المراد من هذا التعبير هو المباني والمنازل التي كانت ُتبنى على‬‫سرين من أ ّ‬
‫وما قاله بعض المف ّ‬
‫المرتفعات‪ ،‬وكانت مركزًا للهو واللعب‪ ،‬كما هو جار في عصرنا بين الطغاة‪ ...‬فيبدو بعيدًا‪ ،‬لن هذا‬
‫‪).‬التعبير ل ينسجم مع كلمتي )الية( و)العبث‬
‫ن عادًا كانت تبني هذه البنايات للشراف‬ ‫سرين‪ ،‬وهو أ ّ‬‫ن هناك احتمال ثالث ذكره بعض المف ّ‬ ‫كما أ ّ‬
‫‪...‬على الشوارع العاّمة‪ ،‬ليستهزئوا منها بالمارة‪ ،‬إّل أن الّتفسير الّول يبدو أكثر صحة من سواه‬
‫وأّما المر الّثالث الذي ذكره القرآن حاكيًا على لسان هود منتقدًا به قومه‪ ،‬فهو قوله‪) :‬وتتخذون‬
‫‪).‬مصانع لعلكم تخلدون‬
‫المصانع" جمع "مصنع" ومعناه المكان أو البناء المجّلل المحكم‪ ،‬والّنبي هود ل يعترض عليهم"‬
‫لنّ لديهم هذه البنايات المريحة الملِئمة‪ ،‬بل يريد أن يقول لهم‪ :‬إّنكم غارقون في أمواج الدنيا‪،‬‬
‫ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في القصور حتى نسيتم الدار الخرة!‪ ...‬فلم تتخذوا‬
‫‪...‬الدنيا على أنها دار ممر‪ ،‬بل اتخذتموها دار مقر دائم لكم‬
‫ن مثل هذه المباني التي ُتذهل أهلها‪ ،‬وتجعلهم غافلين عن اليوم الخر‪ ،‬هي ل شك مذمومة‬ ‫!أجل‪ ،‬إ ّ‬
‫ن رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( خرج فرأى قبة‬ ‫و في بعض الّروايات عن أنس بن مالك أ ّ‬
‫]‪[421‬‬
‫فقال‪ :‬ما هذه؟ فقالوا له أصحابه‪ :‬هذا الرجل من النصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في‬
‫الناس أعرض عنه وصنع ذلك مرارًا حتى عرف الرجل الغضب به وبالعراض عنه‪ ،‬فشكى ذلك‬
‫ي وما‬
‫ي لنكر رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(ما أدرى ما حدث ف ّ‬ ‫إلى أصحابه وقال‪ :‬وال إل ّ‬
‫صنعت؟‬
‫قالوا‪ :‬خرج رسول ال فرأى قّبتك فقال‪ :‬لمن هذه؟ فأخبرناه‪ ،‬فرجع الى قّبته فسواها بالرض‪،‬‬
‫فخرج رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( ذات يوم فلم ير القبة فقال‪ :‬ما فعلت القبة التي كانت‬
‫ها هنا قالوا‪ :‬شكى إلينا صاحبها انحراصل عنه فاخبرناه فهدمها فقال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪:‬‬
‫)"إن كّل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة‪ ،‬إّل ما لُبّد منه"‪1).‬‬
‫ويعرف من هذه الّرواية وما شابهها من الّروايات نظر السلم بجلء‪ ،‬فكل بناء "طاغوتي" مشيد‬
‫بالسراف والبذخ ومستوجب للغفلة‪ ...‬يمقته السلم‪ ،‬ويكره للمسلمين أن يبنوا مثل هذه البنية‬
‫التي يبنيها المستكبرون المغرورون الغافلون عن ال‪ ،‬ول سيما في محيط يسكن فيه المحرومون‬
‫‪...‬والمستضعفون‬
‫ن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( لم يستعمل القوة للوصول إلى هذا‬ ‫إّل أن ما ينبغي التنويه به‪ ،‬أ ّ‬
‫الهدف اِلنساني أبدًا‪ ،‬ولم يأمر بتخريب البناء‪ ،‬بل استطاع أن يحقق هدفه برد فعل لطيف‬
‫‪!...‬كاِلعراض وعدم اِلهتمام بالبناء مثل‬
‫ثّم ينتقد الّنبي "هود" قومه على قسوتهم وبطشهم عند النزاع والجدال فيقول‪) :‬وإذا بطشتم‬
‫‪).‬بطشتم جبارين‬
‫فمن الممكن أن يعمل النسان عمل يستوجب العقوبة‪ ،‬إّل أّنه ل يصح تجاوز الحد واِلنحراف عن‬
‫جادة الحق والعدل عند محاسبته ومعاقبته‪ ،‬وأن يعامل ذو الجرم الصغير معاملة ذي الجرم‬
‫الكبير‪ ...‬وأن تسفك الدماء عند الغضب ويقع التماصع بالسيف)‪ ،(2‬فذلك ما كان يلجأ إليه‬
‫‪...‬الجبابرة والظلمة والطغاة آنئذ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان‪ :‬ذيل الية محل البحث‪ ،‬نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪1 63‬‬
‫)ـ التماصع‪ ،‬التطاحن والقتال‪) .‬المصحح ‪2‬‬
‫]‪[422‬‬
‫سوة‬‫ويرى الراغب في المفردات أن "البطش" على زنة )نقش( هو أخذ الشيء بقّوة وق ّ‬
‫‪...‬واستعلء‬
‫‪:‬وفي الحقيقة أن هودًا يوبخ عبدة الدنيا عن طرق ثلثة‬
‫ب الستعلء وحب الذات‪ ،‬والتي كانت تبنى على المرتفعات‬ ‫الّول‪ :‬علماتهم التي كانت مظهرًا لح ّ‬
‫‪.‬العالية ليفخروا بها على سواهم‬
‫ثّم يوبخهم على مصانعهم وقصورهم المحكمة‪ ،‬التي تجرهم إلى الغفلة عن ال‪ ،‬وإن الدنيا دار‬
‫‪.‬ممر ل مقر‬
‫‪...‬وأخيرًا فإّنه ينتقدهم في تجاوزهم الحّد والبطش عند النتقام‬
‫ب البقاء‪ .‬ويدّل هذا المر على‬
‫والقدر الجامع بين هذه اُلمور الثلثة هو اِلحساس باِلستعلء وح ّ‬
‫أن عشق الدنيا كان قد هيمن عليهم‪ ،‬وأغفلهم عن ذكر ال حتى ادعوا اللوهية‪ ...‬فهم باعمالهم‬
‫)هذه يؤّكدون هذه الحقيقة‪ ،‬وهي أن "حب الدنيا رأس كل خطيئة"‪1).‬‬
‫والقسم الّثالث من حديث هود مّما بّينه لقومه‪ ،‬هو ذكر نعم ال على عباده ليحرك فيهم ـ عن هذا‬
‫‪...‬الطريق ـ اِلحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو ال‬
‫وفي هذا الصدد يتبع الّنبي هود أسلوبي الجمال والتفصيل‪ ،‬وهما مؤثران في كثير من البحاث‪،‬‬
‫)فيلتفت نحوهم أول فيقول‪) :‬واتقوا الذي أمّدكم بما تعلمون(‪2).‬‬
‫‪)...‬وبعد هذا التعبير الُمجل يذكر تفصيل نعم ال عليهم‪ ،‬فيقول‪) :‬أمدكم بأنعام وبنين‬
‫صة في ذلك‬‫فمن جهة وّفر لكم اُلمور المادية‪ ،‬وكان القسم المهم منها ـ خا ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير الفخر الرازي ذيل الية محل البحث ‪1‬‬
‫ـ )أمّد( مأخوذ من "المداد"‪ ،‬ويطلق في الصل على أمور توضع بعضها بعد بعض بشكل ‪2‬‬
‫‪...‬منظم‪ ،‬وحيث أن ال يرسل نعمه بشكل منظم إلى عباده استعملت هذه الكلمة هنا أيضًا‬
‫]‪[423‬‬
‫العصر ـ النعام والمطايا من النياق وغيرها‪ .‬ومن جهة أخرى وفّر لكم القّوة الكافية وهي‬
‫‪"...‬البناء" للحفاظ على النعام وتدجينها‬
‫وهذا التعبير تكرر في آيات مختلفة‪ ،‬فعند عّد النعم المادية تذكر الموال أول ثّم البناء ثانيًا‪ ،‬وهم‬
‫الحفظة للموال ومنّموها‪ ،‬ويبدو أن هذا ترتيب طبيعي‪ ،‬ل أن الموال أهم من البناء‪ ...‬إذ نقرأ في‬
‫‪)...‬الية )‪ (6‬من سورة اِلسراء‪) ...‬وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا‬
‫‪).‬ثّم يضيف بعد ذلك‪) :‬وجنات وعيون‬
‫وهكذا فقد وفر ال لكم سبل الحياة جميعًا‪ ،‬من حيث البناء أو القّوة اِلنسانية‪ ،‬والزراعة والتدجين‬
‫‪!.‬ووسائل الحمل والنقل‪ ،‬بشكل ل يحس اِلنسان معه بأي نقص أو قلق في حياته‬
‫لكن ما الذي حدث حتى نسيتم واهب هذه النعم جميعًا‪ ،‬وأنتم تجلسون على مائدته ليل نهار‪ ،‬ول‬
‫!تعرفون قدره؟‬
‫ن هودًا في آخر مقطع من حديثه مع قومه ينذرهم ويهددهم بسوء الحساب وعقاب ال‬ ‫وأخيرًا‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪)...‬لهم‪ ،‬فيقول‪) :‬إّني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‬
‫ذلك اليوم الذي ترون فيه نتائج أعمالكم وظلمكم وغروركم واستكباركم‪ ،‬وحب الذات وترك عبادة‬
‫‪.‬ال‪ ...‬ترون كل ذلك بأم أعينكم‬
‫وعادة ـ يستعمل لفظ )اليوم العظيم( في القرآن‪ ،‬ويراد منه يوم القيامة العظيم من كل وجه‪ ...‬إّل‬
‫‪...‬أّنه قد يستعمل في القرآن في اليوم الصعب الموحش المؤلم على اُلمم‬
‫كما نقرأ في هذه السورة في قصة "شعيب"‪ ،‬أن قومه بعد أن جحدوه ولم يؤمنوا به وعاندوه‬
‫سمي ذلك اليوم‬ ‫واستهزؤوا به‪ ،‬أرسل ال عليهم صاعقة "وكانت قطعة من الغيم" فعاقبهم بها‪ ،‬ف ّ‬
‫‪).‬باليوم العظيم‪ ،‬كما تقول الية‪) :‬فأخذهم عذاب يوم الظلة إّنه كان عذاب يوم عظيم‬

‫]‪[424‬‬
‫فبناًء على هذا قد يكون التعبير بـ "يوم عظيم" في الية محل البحث‪ ،‬إشارة إلى اليوم الذي ابتلي‬
‫به المعاندون من قوم هود )عاد( بالعذاب الليم وهو العصار المدمر‪ ،‬وسيتجلى الشاهد على هذا‬
‫‪...‬المعنى في اليات المقبلة‬
‫كما يمكن أن يكون إشارة إلى يوم القيامة وعذابه‪ ...‬أو إلى العذابين معًا‪ ،‬فيوم العصار يوم‬
‫‪...‬عظيم‪،‬ويوم القيامة يوم عظيم أيضًا‬

‫***‬
‫]‪[425‬‬

‫اليات‬
‫ن)‪َ (137‬وَما‬ ‫ق ا َْلّوِلي َ‬‫خُل ُ‬
‫ن)‪ِ (136‬إنْ َهَذآ ِإّل ُ‬ ‫ظي َ‬‫عِ‬ ‫ن الَوا َ‬‫ت َأْم َلْم َتُكن ّم َ‬ ‫ظ َ‬ ‫عْ‬ ‫عَلْيَنآ َأَو َ‬
‫سَوآٌء َ‬ ‫َقاُلوْا َ‬
‫ن َرّب َ‬
‫ك‬ ‫ن)‪َ (139‬وِإ ّ‬ ‫ن َأْكَثُرُهم ّمْؤِمِني َ‬
‫ك َلَيًة َوَما َكا َ‬‫ن ِفى َذِل َ‬‫ن)‪َ (138‬فَكّذُبوُه َفَأْهَلْكَنـُهْم ِإ ّ‬ ‫ن ِبُمَعّذِبي َ‬
‫َنحْ ُ‬
‫حيُم)‪140‬‬ ‫)َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬ل تتعب نفسك في نصحنا‬
‫رأينا في اليات المتقدمة أحاديث الّنبي هود المحترق القلب شفقًة لقومه المعاندين "عاد" وما‬
‫حملته هذه الحاديث من معان غريزة سامية‪ ...‬والن ينبغي أن نعرف جواب قومه الجارح وغير‬
‫المنطقي ول المعقول‪ ،‬يقول القرآن في هذا الصدد )قالوا سواء علينا أَوعظت أْم لم تكن من‬
‫‪.‬الواعظين( فلن يؤثر ذلك فينا‪ ،‬فل تتعب نفسك‬
‫خلق الّولين‬
‫‪).‬أّما اعتراضك علينا بهذه اُلمور فل محل له من العراب )إن هذا إّل ُ‬
‫وليس المر كما تقول‪ ،‬فإّنه ل شيء بعد الموت )وما نحن بمعّذبين( ل في هذا‬
‫]‪[426‬‬
‫‪.‬العالم‪ ،‬ول في العالم الخر‬
‫ق" ـ بضم الخاء واللم ـ معناه العادة والسلوك والخلق لن هذه الكلمة جاءت بصيغة‬ ‫خل ُ‬‫و "ال ُ‬
‫جية والعادة الخلقية‪ ...‬وهى هنا إشارة إلى العمال التي كانت تصدر‬ ‫الفراد بمعنى الطبع والس ّ‬
‫منهم كعبادة الصنام‪ ،‬وبناء القصور العالية الجميلة‪ ،‬وحب الذات‪ ،‬والتفاخر عن طريق تشييد‬
‫البراج على النقاط المرتفعة‪ ،‬وكذلك البطش عند اِلنتقام أو الجزاء‪ ...‬أي إن ما نقوم به من‬
‫‪!...‬أعمال هو ما كان يقوم به السلف فل مجال للعتراض والنتقاد‬
‫ن ما تقوله في شأن ال والقيامة كلم باطل قيل من قبل )إّل‬ ‫ق" بعضهم بالكذب‪ ،‬أي إ ّ‬ ‫سر "الخل ُ‬ ‫وف ّ‬
‫ق الولين‪ .‬فيكون الخلق فيه على وزن‬ ‫خْل ُ‬
‫أن هذا الّتفسير إّنما ُيقبل إذا قرىء النص‪ :‬إن هذا إّل َ‬
‫‪)!).‬الحلق( إّل أن القراءة المشهورة ليست كذلك‬
‫‪).‬ويبّين القرآن عاقبة قوم هود الوبيلة فيقول‪) :‬فكذبوه فأهلكناهم‬
‫وفي ختام هذه الحداث يذكر القرآن تلكما الجملتين المعبّرتين‪ ،‬اللتين تكررتا في نهاية قصص‬
‫نوح وإبراهيم وموسى عليهما السلم‪ ...‬فيقول‪) :‬إن في ذلك لية( على قدرة ال‪ ،‬واستقامة‬
‫النبياء وعاقبة المستكبرين السيئة‪ ،‬ولكن مع ذلك )وما كان أكثرهم مؤمنين وإن رّبك لهو العزيز‬
‫‪).‬الرحيم‬
‫ن ليهتدوا‪ ...‬إّل أنه عند‬‫فيمهُل إمهال كافيًا‪ ،‬ويمنح الفرصة‪ ،‬ويبّين الدلئل الواضحة للمضلي َ‬
‫‪...‬المجازاة والعقاب‪ ،‬وبعد إتمام الحجة يأخذ أخذًا عسيرًا ل مفّر لحد منه أبدًا‬
‫***‬
‫]‪[427‬‬

‫اليات‬

‫ن)‬‫سوٌل َأِمي ٌ‬ ‫ن)‪ِ (142‬إّنى َلُكْم َر ُ‬ ‫ح َأل َتّتُقو َ‬ ‫صـِل ٌ‬


‫خوُهم َ‬ ‫ن)‪ِ (141‬إْذ قاَل َلُهْم َأ ُ‬ ‫سلي َ‬‫ت َثُموُد اْلُمْر َ‬‫َكّذَب ْ‬
‫ن)‬‫ب اْلَعـَلِمي َ‬
‫عَلى َر ّ‬ ‫ى ِإّل َ‬‫جِر َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫جر ِإ ْ‬‫ن َأ ْ‬
‫عَلْيِه ِم ْ‬
‫سَئُلُكْم َ‬
‫ن )‪َ(144‬وَمآ َأ ْ‬ ‫طيُعو ِ‬ ‫ل َوَأ ِ‬
‫‪َ (143‬فاّتُقوْا ا َ‬
‫ضيٌم)‬
‫طْلُعَها َه ِ‬ ‫خل َ‬ ‫عيون )‪َ(147‬وُزُروع َوَن ْ‬ ‫جّنـت َو ُ‬ ‫ن)‪ِ (146‬فى َ‬ ‫ن ِفى َما َهـُهنآَء اِمِني َ‬ ‫‪(145‬أُتْتَرُكو َ‬
‫طيُعوْا َأمَْر‬‫ن)‪َ (150‬ول ُت ِ‬ ‫طيُعو ِ‬‫ل َوَأ ِ‬
‫ن)‪َ (149‬فاّتُقوْا ا َّ‬ ‫جَباِل ُبُيوتًا َفـِرِهي َ‬‫ن اْل ِ‬
‫ن ِم َ‬‫حُتو َ‬‫‪َ (148‬وَتْن ِ‬
‫حون )‪152‬‬ ‫صِل ُ‬
‫ض َول ُي ْ‬ ‫ن ِفى اَْلْر ِ‬ ‫سُدو َ‬ ‫ن ُيْف ِ‬
‫ن)‪ (151‬اّلِذي َ‬ ‫سِرِفي َ‬
‫)الُْم ْ‬
‫الّتفسير‬
‫‪:‬ل تطيعوا المسرفين المفسدين‬
‫صة "ثمود" الموجزة القصيرة‪ ،‬ونبّيهم‬ ‫القسم الخامس من قصص النبياء في هذه السورة‪ ،‬هو ق ّ‬
‫"صالح" الذين كانوا يقطنون في "وادي الُقرى" بين المدينة والشام‪ ،‬وكانت حياتهم مترفة‬
‫‪...‬مرفهة‪ ...‬إّل أّنهم لطغيانهم وعنادهم ُأبيدوا وأبيروا حتى لم يبق منهم دّيار ولم تترك لهم آثار‬
‫]‪[428‬‬
‫صة هذه مشابهة لبداية قصة عاد "قوم هود" وبداية قصة نوح وقومه‪ ،‬وهي تكشف‬ ‫وبداية الق ّ‬
‫‪)...‬كيف يتكرر التاريخ‪ ،‬فتقول‪) :‬كذبت ثمود المرسلين‬
‫ن دعوة المرسلين جميعًا دعوة واحدة‪ ،‬فتكذيب ثمود نبّيهم صالحًا تكذيب للمرسلين أيضًا‬ ‫‪...‬ل ّ‬
‫صل القرآن ما كان بين صلح وقومه‪ ،‬فيقول‪) :‬إذ قال لهم أخوهم صالح‬ ‫وبعد ذكر هذا الجمال يف ّ‬
‫‪)...‬أل تتقون‬
‫لقد كان الّنبي صالح هاديًا ودليل لقومه مشفقًا عليهم‪ ،‬فهو بمثابه "الخ" لهم‪ ،‬ولم يكن لديه‬
‫نظرة استعلئية ول منافع مادّية‪ ،‬ولذلك فقد عّبر القرآن عنه بكلمة "أخوهم"‪ ...‬وقد بدأ دعوته‬
‫‪!...‬إّياهم كسائر النبياء بتقوى ال والحساس بالمسؤولية‬
‫ثّم يقول لهم معرفًا نفسه‪) :‬إّنى لكم رسول أمين( وسوابقي معكم شاهد مبين على هذا المر‬
‫‪)...‬فاتقوا ال وأطيعون( إْذ ل أريد إّل رضا ال والخير والسعادة لكم‬
‫ولذلك فأنا ل أطلب عوضًا منكم في تبليغي إّياكم‪) ...‬وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلّ على‬
‫‪...‬رب العالمين( فأنا أدعوكم له‪ ،‬وأرجو الثواب منه سبحانه‬
‫‪...‬كان هذا أّول قسم من سيرة صالح التي تلخصت في دعوته قومه وبيان رسالته إليهم‬
‫ثّم يضع "صالح" اصبعه على نقاط حساسة من حياتهم‪ ،‬فيتناولها بالنقد ويحاكمهم محاكمة‬
‫‪).‬وجدانية‪ ،‬فيقول‪) :‬أتتركون فيما ها هنا آمنين‬
‫وتتصورون أن هذه الحياة المادية التي تستغفل النسان دائمة له وهو خالد فيها! فلذلك تأمنون‬
‫!من الجزاء‪ ،‬وأن يد الموت ل تنوشكم؟‬
‫وبالسلوب المتين‪ُ ،‬اسلوب الجمال والتفصيل‪ ...‬يشرح الّنبي صالح لقومه تلك الجملة المغلقة‬
‫والمجملة بقوله‪ :‬وتحسبون أّنكم مخّلدون )في جنات وعيون‬
‫]‪[429‬‬
‫)وزروع ونخل طلعها هضيم(‪1).‬‬
‫‪).‬ثّم ينتقدهم على بيوتهم المرفهة الُمحكمة فيقول‪) :‬وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين‬
‫رح( ومعناه في الصل السرور المقرون باللمبالة وعبادة"‬
‫الفاِرُه" مشتق من )فره على وزن َف ِ‬
‫الهوى‪ ...‬كما يستعمل في المهارة عند العمل أحيانًا‪ ...‬ومع أن المعنيين ينسجمان مع الية‪ ،‬إّل أّنه‬
‫‪...‬مع ملحظة توبيخ نبّيهم صالح إّياهم وملمته لهم فيبدو أنّ المعنى الّول أنسب‬
‫ومن مجموع هذه اليات وبمقايستها مع ما تقدم من اليات في شأن عاد‪ ،‬يستفاد أن عادًا "قوم‬
‫هود" كان أكثر اهتمامهم في حب الذات والمقام والمفاخرة على سواهم‪ ...‬في حين أن ثمود "قوم‬
‫ن عاقبة‬‫صالح" كانوا أسرى بطونهم والحياة المرفهة"‪ ...‬ويهتمون أكبر اهتمامهم بالتنعم‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫الجماعتين كانت واحدة‪ ،‬لّنهم جعلوا دعوة النبياء التي تحررهم من سجن عبادة الذات للوصول‬
‫‪...‬إلى عبادة ال‪ ،‬جعلوها تحت أقدامهم‪ ،‬فنال كّل منهم عقابه الصارم الوبيل‬
‫وبعد ذكر هذه النتقادات يتحدث الّنبي صالح)عليه السلم( في القسم الّثالث من كلمه مع قومه‪،‬‬
‫‪).‬فيقول‪) :‬فاتقوا ال وأطيعون ول تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الرض ول يصلحون‬

‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "الطلع" مأخوذ من مادة "الطلوع" ويستعمل في ما يكون منه الرطب بعدئذ‪ ،‬وهو معروف ‪1‬‬
‫ق أول الربيع‪ .‬ثّم ُيلقح بيد النسان أو‬
‫ق عنه الِعذ ُ‬
‫وشكله جميل منضوم نضيد‪ ،‬له غلف ينش ّ‬
‫بالرياح ليكون الثمر‪ ...‬وقد يستعمل الطلع في الثمرة اُلولى للنخل! و "الهضيم" من مادة‬
‫"هضم"‪ ،‬وله معان مختلفة‪ ،‬فتارة يراد منه الثمرة الناضجة‪ ،‬وتارة يطلق على الثمر اللين القابل‬
‫للهضم‪ ،‬وتارة يطلق على المهضوم‪ ،‬وقد يستعمل بمعنى المنضوم المنضد‪ ،‬فإذا كان الطلع في‬
‫الية محل البحث بمعنى العذق أّول طلوعه‪ ،‬فالهضيم معناه المنضود‪ ،‬وإذا كان الطلع أول الثمر‬
‫‪...‬فالهضيم معناه الناضج اللين اللطيف‬
‫]‪[430‬‬
‫‪:‬ملحظة‬
‫ف والفساد في الرض‬
‫!العلقة بين السرا ِ‬
‫نأ ّ‬
‫ي‬ ‫نعرف أن "السراف" هو التجاوز عن حّد قانون التكوين وقانون التشريع‪ ...‬وواضح أيضًا أ ّ‬
‫تجاوز عن الحد موجب للفساد والختلل وبتعبير آخر‪ :‬إن مصدر الفساد هو السراف‪ ،‬ونتيجة‬
‫‪.‬السراف هي الفساد أيضًا‬
‫ن السراف له معنى واسع‪ ،‬فقد يطلق على المسائل المادية كالكل والشرب‪،‬‬ ‫وينبغي اللتفات إلى أ ّ‬
‫‪).‬كما في الية )‪ (31‬من سورة العراف )كلوا واشربوا ول تسرفوا‬
‫وقد َيِرُد في النتقام والقصاص ـ عند تجاوز الحد ـ كما في الية )‪ (33‬من سورة السراء‪)...‬فل‬
‫ف في القتل إنه كان منصورًا‬ ‫‪).‬يسر ْ‬
‫وقد يستعمل في اِلنفاق والبذل عند التبذير وعدم التدبير‪ ،‬كما في الية )‪ (67‬من سورة الفرقان‪:‬‬
‫‪)).‬والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا‬
‫وقد يأتي في الحكم أو القضاء الذي يجّر إلى الكذب‪ ،‬كما في الية )‪ (28‬من سورة غافر‪) :‬إن ال‬
‫!)ل يهدي من هو مسرف كّذاب‬
‫وقد يستعمل في العتقاد المنتهى إلى الشك والتردد والرتياب كما في الية )‪ (34‬من سورة غافر‬
‫‪).‬إذ تقول‪) :‬كذلك يضل ال من هو مسرف مرتاب‬
‫وقد يأتي بمعنى الستعلء والستكبار والستثمار كما جاء في الية )‪ (31‬من سورة الدخان في‬
‫‪).‬شأن فرعون )إّنه كان عاليًا من المسرفين‬
‫وأخيرًا فقد يأتي بمعنى مطلق الذنوب كما هو في الية )‪ (53‬من سورة الزمر )قل يا عبادي الذين‬
‫ل يغفر الذنوب جميعًا‬ ‫‪).‬أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من رحمة ال إن ا ّ‬
‫‪...‬وبملحظة كل ما بّيناه آنفًا‪ ،‬تّتضح العلقة بين السراف والفساد بجلء‬
‫لمة الطباطبائي في الميزان‪" :‬إن الكون على ما بين أجزائه من‬ ‫يقول الع ّ‬
‫]‪[431‬‬
‫التضاد والتزاحم‪ ،‬مؤلف تأليفًا خاصًا يتلئم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج والثار‪...‬‬
‫فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة‪ ،‬وهو بما بين أجزائه من الرتباط‬
‫صة‪ ،‬من غير أن يميل عن حاق‬ ‫صا يسير فيها بأعمال خا ّ‬ ‫التام يخط لكل من أجزائه سبيل خا ّ‬
‫ن في الميل واِلنحراف إفسادًا للنظام‬
‫وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط‪ ،‬فإ ّ‬
‫المرسوم ويتبعه إفساد غايته وغاية الكل‪ ...‬ومن الضروري أن خروج بعض الجزاء عن خطه‬
‫المخطوط له‪ ،‬وإفساد النظم المفروض له ولغيره‪ ،‬يستعقب منازعة بقية الجزاء له‪ ،‬فإن‬
‫استطاعت أن تقيمه وترده إلى وسط اِلعتدال فهو وإّل أفنته وعفت آثاره‪ ،‬حفظًا لصلح الكون‬
‫واستبقاًء لقوامه واِلنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية‪ ،‬فإن جرى على‬
‫ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له‪ ،‬وإن تعّدى حدود فطرته وأفسد في الرض‪ ،‬أخذه‬
‫ال سبحانه بالسنين والمثلت وأنواع النكال والنقمة‪ ،‬لعله يرجع إلى الصلح والسداد‪ ،‬قال ال‬
‫تعالى‪) :‬ظهر الفساد في البّر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم‬
‫)يرجعون(‪1).‬‬
‫وإن أقاموا مع ذلك على الفساد ـ لرسوخه في نفوسهم ـ أخذهم ال بعذاب اِلستئصال وطّهر‬
‫ن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من‬
‫الرض من قذارة فسادهم قال ال تعالى‪) :‬ولو أ ّ‬
‫)السماء والرض ولكن كّذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون()‪3)(2‬‬
‫ومن هنا يّتضح بجلء‪ِ ،‬لَم ذكر ال سبحانه في اليات المتقدمة السراف والفساد في الرض‬
‫‪.‬وعدم الصلح‪ ،‬في سياق واحد ومنسجم‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ الروم‪ ،‬الية ‪1 41‬‬
‫‪.‬ـ العراف‪ ،‬الية ‪2 96‬‬
‫‪.‬ـ راجع تفسير الميزان‪ ،‬الجزء ‪ ،15‬الصفحة ‪ 333‬ـ ‪3 334‬‬
‫]‪[432‬‬

‫اليات‬

‫ن)‪(154‬‬ ‫صـِدِقي َ‬
‫ن ال ّ‬‫ت ِم َ‬ ‫شٌر ّمْثُلَنا َفأتِ ِبآَية ِإن ُكن َ‬ ‫ت ِإّل َب َ‬
‫ن)‪َ (153‬مآ َأن َ‬ ‫حِري َ‬ ‫سّ‬ ‫ن اْلُم َ‬
‫ت ِم َ‬
‫َقالوْا ِإّنَمآ َأن َ‬
‫ب َيْوم‬‫عَذا ُ‬‫خَذُكْم َ‬
‫سوء َفَيْأ ُ‬ ‫سوَها ِب ُ‬ ‫ب َيْوم ّمْعُلوم)‪َ (155‬وَل َتَم ّ‬ ‫شْر ُ‬ ‫ب َوَلُكْم ِ‬ ‫شْر ٌ‬‫َقاَل َهِذِه َناَقٌة ّلَها ِ‬
‫ن أْكَثُرُهم‬
‫ك َلَيًة َوَما َكا َ‬ ‫ن ِفى َذِل َ‬‫خَذُهُم اْلَعَذابُ ِإ ّ‬
‫ن)‪َ (157‬فَأ َ‬ ‫حوْا َنـِدِمي َ‬
‫صَب ُ‬
‫ظيم)‪َ (156‬فَعَقُروَها فَأ ْ‬ ‫عِ‬‫َ‬
‫حيُم)‪159‬‬ ‫ك َلُهَو الَعِزيُز الّر ِ‬‫ن َرّب َ‬‫ن)‪َ (158‬وِإ ّ‬ ‫)ّمْؤِمِني َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬عناد قوم صالح ولجاجتهم‬
‫لقد استمعتم إلى منطق صالح المتين والمحب للخير‪ ،‬مع قومه المضلين ـ في اليات المتقدمة ـ‬
‫‪.‬والن لنستمع إلى جواب قومه في هذه اليات‬
‫حرين( فلذلك فقدت عقلك وتتكلم بكلمات غير‬‫إنهم واجهوه بكلم خشن و )قالوا إّنما أنت من المس ّ‬
‫‪.‬موزونة ول معقولة‬
‫ثمّ بعد هذا كله )ما أنت إّل بشر مثلنا( وكل عاقل ل يبيح لنفسه أن يطيع‬
‫]‪[433‬‬
‫‪.‬انسانًا مثله )فأت بآية إن كنت من الصادقين( لكي نؤمن بك ونتبعك‬
‫حر( مشتّقة من )السحر( ومعناها المسحور‪ ،‬أي المصاب بالسحر‪ ،‬إذ كانوا يعتقدون‬ ‫كلمة )المس ّ‬
‫ي صالحًا‬‫أن السحرة كانوا عن طريق السحر يعطلون عمل العقل‪ ،‬وهذا القول لم يّتهم به النب ّ‬
‫فحسب‪ ،‬بل اتهم به كثير من النبياء‪ ،‬حتى أن المشركين اّتهموا نبّينا محّمدا)صلى ال عليه وآله‬
‫جْل‪ ،‬إّنهم كانوا يرون معيار العقل أن يكون‬ ‫وسلم( به فقالوا‪) :‬إن تتبعون إّل رجل مسحورًا()‪ .(1‬أ َ‬
‫النسان متوفقًا مع البيئة والمحيط‪ ،‬فيأكل الخبز ـ مثل ـ بسعر يومه‪ ،‬ويطّبق نفسه على جميع‬
‫المفاسد‪ ...‬فلو أن رجل مصلحًا إلهّيا دعا الناس للقيام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة‬
‫حرا‬‫عّدوُه ـ بحسب منطقهم ـ مجنونًا "مس ّ‬
‫‪".‬وإصلحها‪َ ،‬‬
‫حرين"‪ ،‬صرفنا النظر عنها لعدم مناسبتها‬ ‫‪...‬وهناك احتمالت ُأخر في معنى "المس ّ‬
‫ن هؤلء المعاندين من قوم صالح‪ ،‬طلبوا منه معجزًة ل من أجل معرفة الحق‪ ،‬بل‬ ‫وعلى كل حال فإ ّ‬
‫حجة الواهية‪ ،‬وعلى نبّيهم أن ُيتم الحجة عليهم‪ ،‬فاستجاب لهم ـ وبأمر ال ـ قال‪) :‬هذه‬ ‫تذرعًا بال ُ‬
‫‪).‬ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم‬
‫و "الناقة" معروفة عند العرب‪ ،‬وهي أنثى الجَمِل‪ ،‬والقرآن لم يذكر خصائص هذه الناقة التي كان‬
‫لها حالة إعجازية‪ ،‬إّل أنه ذكرها بنحو الجمال‪ ...‬لكننا نعرف أّنها لم تكن ناقة كسائر النياق‬
‫سرين‪ :‬كانت هذه الناقة بحالة من العجاز بحيث خرجت من‬ ‫الطبيعية‪ ،‬فكما يقول جماعة من المف ّ‬
‫ي في يوم‪ ،‬واليوم الخر لهل الحي "أو‬ ‫قلب الجبل‪ .‬ومن خصائصها أّنها كانت تشرب ماء الح ّ‬
‫القرية" وهكذا دواليك‪ ...‬كما أشارت الية آنفة الذكر إلى هذا المعنى‪ ،‬ووردت الشارة إلى هذا‬
‫‪.‬المعنى في الية )‪ (28‬من سورة القمر أيضًا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة الفرقان‪ ،‬الية ‪1 8‬‬
‫]‪[434‬‬
‫سرون لها خصائص ُأخر)‪1‬‬
‫‪).‬وقد ذكر المف ّ‬
‫وعلى كل حال‪ ،‬كان على صالح)عليه السلم( أن ُيعلَمُهم أن هذه الناقة ناقة عجيبة وخارقة للعادة‪،‬‬
‫سوها بسوء‬ ‫وهي آية من آيات عظمة ال المطلقة فعليهم أن َيَدعوها على حالها‪ ،‬وقال‪) :‬ول تم ّ‬
‫‪)...‬فيأخذكم عذاب يوم عظيم‬
‫وبديهي أن المترفين قوم صالح المعاندين كانوا يعلمون أن يقظة الناس ستؤدي إلى الضرار‬
‫بمنافعهم الشخصية فتآمروا على نحر الناقة‪) :‬فعقروها فأصبحوا نادمين()‪ (2‬لّنهم رأوا انفسهم‬
‫‪.‬قاب قوسين من العذاب اللهي‬
‫ولما تجاوز طغيانهم الحّد‪ ،‬وأثبتوا بأعمالهم أّنهم غير مستعدين لقبول الحق‪ ،‬اقتضت إرادة ال‬
‫‪).‬ومشيئته أن يطهر الرض من وجودهم الملّوث )فأخذهم العذاب‬
‫وكما نقرأ في الية )‪ (78‬من سورة العراف‪ ،‬والية )‪ (67‬من سورة هود‪ ،‬ما جاء عن عذاب‬
‫ال لهم إجمال‪ ...‬أن الرض ُزلزلت من تحتهم ليل‪ ،‬فانتبهوا من نومهم وجثوا على الركب فما‬
‫أمهلهم العذاب وأخذتهم الرجفة والصيحة‪ ،‬فاهتزت حيطانهم وهوت عليهم فأماتتهم جاثمين على‬
‫‪!...‬حالهم ففارقوا الدنيا بحال موحشة رهيبة‬
‫ويقول القرآن في ختام هذه الحادثة ما قاله في ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم‬
‫إبراهيم)عليه السلم(‪ ،‬فيعّبر تعبيرًا بليغًا موجزًا يحمل بين ثناياه عاقبة أولئك الظالمين‪ :‬إن في‬
‫قصة قوم صالح‪ ،‬وفي صبره وتحمله واستقامته ومنطقه القويم من جهة‪ ،‬وعناد قومه وغرورهم‬
‫وانكارهم للمعجزة البّينة‪ ،‬والمصير‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪...‬ـ لمزيد اليضاح في هذا الصدد يراجع تفسير الية )‪ (61‬من سورة هود ‪1‬‬
‫عقر( على زنة )ُقفل( ومعناها في الصل أساس الشيء ‪2‬‬ ‫ـ كلمة )عقروها( مأخوذة من مادة ) ُ‬
‫‪.‬وجذره‪ ،‬وقد تأتي بمعنى حز الرأس‪ ،‬وتأتي بمعنى قطع الرجل من الحيوان‪ ،‬وما إلى ذلك‬
‫]‪[435‬‬
‫ن في ذلك لية وماكان أكثرهم مؤمنين‬
‫‪).‬السود الذي آلو إليه دروس وعبر‪) :‬إ ّ‬
‫أجْل‪ ،‬ليس لحد أن يغلب رّبه; فما فوق قوته من قّوة!! وهذه القّوة وهذه القدرة العظيمة ل تمنع‬
‫)أن يرحم أولياءه‪ ،‬بل أعداءه أيضًا‪) :‬وإن رّبك لهو العزيز الرحيم()‪1‬‬

‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ل أن القرآن يعبر عن هذا الفعل ‪1‬‬
‫ـ تقول الروايات إن الذي قتل ناقة صالح كان واحدًا ل غير‪ ...‬إ ّ‬
‫بصيغة الجمع )فعقروها(‪ .‬وهذا التعبير لن الخرين كانوا راضين بعمله ويضمون أصواتهم إلى‬
‫ن العلئق الفكرية‬
‫صوته‪ ،‬ويعتقدون بمعتقده‪ ...‬وتنفتح نافذة من هنا على أصل اسلمي‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫والمذهبّية تجعل المنتمين إليها في صف واحد‪ ،‬وتكون عاقبتهم واحدة‪ .‬لمزيد اليضاح يراجع‬
‫‪...‬الية )‪ (65‬من سورة هود‬
‫]‪[436‬‬

‫اليات‬

‫ن)‬
‫سوٌل َأِمي ٌ‬ ‫ن)‪ِ (161‬إّنى َلُكم َر ُ‬ ‫ط َأَل َتتُّقو َ‬ ‫خوُهْم ُلو ٌ‬‫ن)‪ِ (160‬إْذ َقاَل َلُهْم َأ ُ‬ ‫سِلي َ‬
‫ت َقْوُم ُلوط اْلُمْر َ‬ ‫َكّذَب ْ‬
‫ن)‬ ‫ب اْلَعـَلِمي َ‬
‫عَلى َر ّ‬ ‫ى ِإّل َ‬‫جِر َ‬
‫ن َأ ْ‬‫جر ِإ ْ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫عَلْيِه ِم ْ‬
‫سَئُلُكْم َ‬
‫ن )‪َ(163‬وَمآ َأ ْ‬ ‫طيُعو ِ‬ ‫ل َوَأ ِ‬
‫‪َ (162‬فاّتُقوْا ا َّ‬
‫جُكم َبْل َأنُتْم َقْوٌم‬
‫ن َأْزَوا ِ‬
‫ق َلُكْم َرّبُكم ّم ْ‬‫خَل َ‬
‫ن َما َ‬ ‫ن)‪َ (165‬وَتَذُرو َ‬ ‫ن اْلَعـَلِمي َ‬
‫ن ِم َ‬ ‫ن الّذْكَرا َ‬
‫‪َ(164‬أَتْأُتو َ‬
‫ن)‪166‬‬ ‫عاُدو َ‬‫)َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬السفلة المعتدون‬
‫ب من حياته وحياة قومه المنحرفين في هذه السورة ـ هو "لوط")عليه‬ ‫ي ـ ورد جان ٌ‬
‫سادس نب ّ‬
‫صة إبراهيم)عليه‬
‫السلم(‪ ،‬ومع أّنه كان يعيش في عصر إبراهيم الخليل‪ ،‬إّل أنّ قصته لم تأت بعد ق ّ‬
‫السلم(‪ ،‬لن القرآن لم يكن كتابًا تاريخيًا ليبّين الحوادث بترتيب وقوعها‪ ...‬بل يلفت النظر إلى‬
‫صة لوط وما جرى لقومه تنسجم في حياة‬ ‫جوانبه التربوية البناءة‪ ،‬والتي تقتضي تناسبًا آخر‪ ...‬وق ّ‬
‫‪...‬النبياء الخرين الذين ورد ذكرهم في ما بعد‬
‫‪).‬يقول القرآن أّول في هذا الصدد‪) :‬كذبت قوم لوط المرسلين‬
‫]‪[437‬‬
‫ن دعوة النبياء)عليهم السلم( واحدة‪ ،‬فتكذيب الواحد‬ ‫ورود "المرسلين" بصيغة الجمع‪ ،‬إّما ل ّ‬
‫ي نبي قبل لوط واقعًا وحقيقة‬
‫‪...‬منهم تكذيب للجميع‪ ،‬أو أن قوم لوط لم يؤمنوا بأ ّ‬
‫ثّم يشير القرآن الكريم إلى دعوة لوط التي تنسجم مع دعوة النبياء الخرين الماضين‪ ،‬فيقول‪) :‬إذ‬
‫‪).‬قال لهم أخوهم لوط أل تتقون‬
‫‪.‬ولحن كلماته وقلبه المتحرق لهم‪ ،‬العميق في توّده إليهم‪ ،‬يدل على أّنه بمثابة "الخ" لهم‬
‫ثّم أضاف لوط قائل‪) :‬إّني لكم رسول أمين( فلم تعرفوا عّني خيانة حتى الن‪ ...‬وسأرعى المانة‬
‫‪.‬في إيصال رسالة ال إليكم أبدًا‪) ...‬فاتقوا ال وأطيعون(فأنا زعيمكم إلى السعادة والنجاة‬
‫ل‪) :‬وما‬‫ن وراءها هدفًا ماّديا‪ ،‬ك ّ‬
‫ن هذه الدعوة وسيلة اتخذها للحياة والعيش‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ول تتصوروا أ ّ‬
‫‪).‬أسألكم عليه من أجر إن أجري إّل على رب العالمين‬
‫ن أهم نقطة في‬ ‫ثّم يتناول بالنقد أعمالهم القبيحة‪ ،‬وقسمًا من انحرافاتهم الخلقية‪ ...‬وحيث أ ّ‬
‫انحرافاتهم‪ ...‬هي مسألة اِلنحراف الجنسي‪ ،‬لذلك فإّنه رّكز عليها وقال‪) :‬أتأتون الذكران من‬
‫!!العالمين(‪ .‬فتختارون الذكور من بين الناس لشباع شهواتكم‬
‫أي‪ ،‬إّنكم على الرغم مّما خلق ال لكم من الجنس المخالف "النساء" حيث تستطيعون أن تعيشوا‬
‫معهن بالزواج المشروع عيشًا طاهرًا هادئًا‪ ،‬إّل أّنكم تركتم نعمة ال هذه وراءكم‪ ،‬ولّوثتم أنفسكم‬
‫‪...‬بمثل هذا العمل القبيح المخزي‬
‫كما ويحتمل في تفسير هذه الية أن "من العالمين" جاء قيداً لقوم لوط أنفسهم‪ ،‬أي إّنكم من دون‬
‫العالمين وحدكم المنحرفون بهذا النحراف والمبتلون به‪ ...‬كما أن هذا الحتمال ينسجم مع بعض‬
‫التواريخ إذ يقال أن أّول أّمة ارتكبت‬
‫]‪[438‬‬
‫اِلنحراف الجنسي "اللواط" بشكل واسع هي قوم لوط‪ (1)،‬إّل أن الّتفسير الّول مع الية التالية ـ‬
‫‪.‬أكثر إنسجامًا‬
‫‪).‬ثّم أضاف قائل‪) :‬وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون‬
‫فالحاجة والغريزة الطبيعية‪ ،‬سواًء كانت روحية أم جسمية لم تجّركم إلى هذا العمل النحرافي‬
‫‪...‬الشنيع ابدًا‪ ،‬وإّنما جّركم الطغيان والتجاوز‪ ،‬فتلوثتم وخزيتم به‬
‫إن ما تقومون به يشبه من يترك الثمر الطيب والنافع والسالم‪ ،‬ويمضي نحو الغذاء المسموم‬
‫!الملّوث المميت‪ ...‬فهذا الفعل ليس حاجة طبيعية‪ ...‬بل هو التجاوز والطغيان‬
‫***‬

‫بحثان‬
‫ـ النحراف الجنسي انحراف مخجل ‪1‬‬
‫حجر والنبياء والنمل والعنكبوت‪ ،‬إلى ما‬ ‫أشار القرآن في سور متعددة منه ـ كالعراف وهود وال ِ‬
‫كان عليه قوم لوط من الوزر الشنيع‪ ...‬إّل أن تعابيره ـ في السور المذكورة آنفًا ـ يختلف بعضها‬
‫‪:‬عن بعض‪ ...‬وفي الحقيقة إن كل تعبير من هذه التعابير يشير إلى ُبعد من أبعاد عملهم الشنيع‬
‫)ففي "العراف" نقرأ مخاطبة لوط إّياهم )بل أنتم قوم مسرفون(‪2).‬‬
‫وفي الية )‪ (74‬سورة النبياء يتحدث القرآن عن لوط فيقول‪) :‬ونجيناه من القرية التي كانت‬
‫‪).‬تعمل الخبائث انهم كانوا قوم سوء فاسقين‬
‫أّما في الية ـ محل البحث ـ فقد قرأنا مخاطبة لوط إياهم بقوله‪) :‬بل أنتم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ في شأن انحراف هؤلء القوم‪ ،‬يذكر التأريخ قصة يمكن مراجعتها في تفسير الية )‪ (81‬من ‪1‬‬
‫‪...‬سورة هود‬
‫‪.‬ـ سورة العراف‪ ،‬الية ‪2 81‬‬
‫]‪[439‬‬
‫‪).‬قوم عادون‬
‫‪".‬وجاء في الية )‪ (55‬من سورة النمل قوله لهم‪) :‬بل أنتم قوم تجهلون( "الية ‪55‬‬
‫كما جاء في الية )‪ (29‬من سورة العنكبوت على لسان لوط مخاطبًا إّياهم )إّنكم لتأتون الرجال‬
‫)وتقطعون السبيل(‪1).‬‬
‫وهكذا فقد ُذكر هذا العمل القبيح بعناوين "إسراف"‪" ،‬خبيث"‪" ،‬فسق"‪" ،‬تجاوز"‪" ،‬جهل"‪،‬‬
‫‪".‬و"قطع السبيل‬
‫ي" ذكر"‬ ‫السراف" من جهة أّنهم نسوا نظام الخلق في هذا المر‪ ،‬وتجاوزوا عن الحد‪ ،‬و"التعد ّ‬
‫‪.‬أيضًا لهذا السبب‬
‫ي عمل أقبح من هذا العمل الذي ُينَفرُ منه؟‬‫!و"الخبيث" هو ما ينفر منه طبع النسان السليم‪ ،‬وأ ّ‬
‫الفسق" معناه الخروج عن الطاعة ـ طاعة ال ـ والتعري عن الشخصّية النسانية‪ ،‬وهو من"‬
‫‪.‬لوازم هذا العمل حتمًا‬
‫‪!...‬و"الجهل" لعدم معرفتهم بعواقب هذا الفعل الوخيمة على الفرد والمجتمع‬
‫وأخيرًا فإن "قطع السبيل" هو النتيجة السيئة لهذا الفعل‪ ،‬لّنه سيؤدي إلى انقطاع النسل عند‬
‫ن العلقة نحو الجنس المشابه ستحل محل العلقة نحو الجنس المخالف‬ ‫اتساع هذا الفعل‪ ،‬ل ّ‬
‫‪).‬بالتدريج )كما هي الحال بالنسبة للواط والسحاق‬
‫‪.‬ـ العواقب الوخيمة للنحراف الجنسي ‪2‬‬
‫صل في أضرار هذا العمل‬ ‫بالرغم من بحثنا لهذا الموضوع في ذيل اليات ‪ 81‬ـ ‪ 83‬بحثًا مف ّ‬
‫القبيح‪ ،‬إّل أنه ـ نظرًا لهميته ـ نرى هنا من اللزم أن نذكر‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سره آخرون ‪1‬‬‫ـ قيل أن المراد من )تقطعون السبيل( أي تقطعون سبيل الفطرة وتداوم النسل‪ ،‬وف ّ‬
‫طاع طرق وسّراقا‬‫ن المراد هو أن قوم لوط كانوا ق ّ‬ ‫‪!...‬بأ ّ‬
‫]‪[440‬‬
‫خر مضافًا إلى ما سبق‬
‫!مطالب ُأ َ‬
‫ي )محّمد()صلى ال عليه وآله وسلم( أنه قال‪" :‬ل يجد ريح الجّنة زنوق وهو‬ ‫في الحديث عن النب ّ‬
‫)المخنث"‪1).‬‬
‫)وفي حديث آخر عن المام علي)عليه السلم( أنه قال‪" :‬اللواط هو الكفر"‪2).‬‬
‫وفي حديث عن المام علي بن موسى الرضا في فلسفة تحريم اللواط والسحاق أنه قال‪" :‬علة‬
‫لناث‪ ،‬لما ُركب في اِلناث وماطبع عليه الذكران‪ ،‬ولما في إتيان‬‫تحريم الذكران للذكران‪ ،‬واِلناث ل ِ‬
‫لناث من انقطاع النسل‪ ،‬وفساد التدبير‪ ،‬وخراب الدنيا"‪3).‬‬ ‫)الذكران الذكران‪ ،‬واِلناث ل ِ‬
‫وهذه المسألة قبيحة جّدا في نظر اِلسلم بحيث جعل ـ في أبواب الحدود ـ حّدة القتل دون شك‪...‬‬
‫‪...‬حتى الذين يقومون بعمل أدنى من اللواط والسحاق جعل لهم عقابًا صارمًا‬
‫ففي حديث عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أنه قال‪" :‬من قبل غلمًا من شهوة‪ ،‬ألجمه ال‬
‫)يوم القيامة بلجام من نار"‪4).‬‬
‫‪...‬وعقوبة من يفعل مثل هذا الفعل تتراوح من ثلثين سوطًا إلى تسعة وتسعين سوطًا‬
‫وعلى كل حال‪ ،‬فل شك أن النحراف الجنسي من أخطر النحرافات الجتماعية‪ ...‬لّنه يلقي بظله‬
‫‪.‬المشؤوم على جميع المسائل الخلقية‪ ،‬ويجر النسان إلى النحراف العاطفي‬
‫‪".‬وكان لنا بحث مفصل في هذا الصدد في ذيل الية ‪ 81‬من سورة هود"‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ بحار النوار‪ ،‬الطبعة الجديدة‪ ،‬ج ‪ ،79‬ص ‪1 67‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪3 64‬‬
‫‪.‬ـ بحار النوار‪ ،‬ج ‪ ،79‬ص ‪4 72‬‬
‫]‪[441‬‬

‫اليات‬

‫جّنى‬ ‫ب َن ِ‬
‫ن)‪َ (168‬ر ّ‬ ‫ن اْلَقاِلي َ‬
‫ن)‪َ (167‬قاَل ِإّنى َلَعَمِلُكم ّم َ‬ ‫جي َ‬‫خَر ِ‬‫ن اُْلم ْ‬‫ن ِم َ‬ ‫ط َلَتُكوَن ّ‬‫َقاُلوْا َلِئن ّلْم َتنَتِه َيـُلو ُ‬
‫ن)‪ُ (171‬ثمّ َدّمْرَنا‬ ‫جوزًا ِفى الَغـِبِري َ‬ ‫ن)‪ِ (170‬إّل عَ ُ‬ ‫جَمِعي َ‬‫جْيَنـُه َوَأْهَلُه َأ ْ‬
‫ن )‪َ(169‬فَن ّ‬ ‫َوَأْهِلى ِمّما َيْعَمُلو َ‬
‫ن َأْكَثُرُهم‬
‫ك َلَيًة َوَما َكا َ‬‫ن ِفى َذل َ‬ ‫ن)‪ِ (173‬إ ّ‬ ‫طُر اْلُمنَذِري َ‬
‫سآَء َم َ‬ ‫طرًا َف َ‬ ‫عَلْيُهم ّم َ‬ ‫طْرَنا َ‬ ‫ن)‪َ (172‬وَأْم َ‬ ‫اَْلخَِري َ‬
‫حيُم)‪175‬‬ ‫ك َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ‬ ‫ن َرّب َ‬‫ن )‪َ(174‬و ِإ ّ‬ ‫)ّمْؤِمِني َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬عاقبة قوم لوط‬
‫إن قوم لوط الغارقين بالغرور والمتمادية بهم رياح الشهوة‪ ،‬بدل من أن يذعنوا لنصائح هذا القائد‬
‫اللهي‪ ،‬فتدخل مواعظه في قلوبهم ويخلصوا من تلك المواج الرهيبة‪ ،‬فإنهم نهضوا لمواجهتِه و‬
‫‪))...‬قالوا لئن لم تنتِه يا لوط لتكونن من المخرجين‬
‫إن كلمك ُيبلبل أفكارنا‪ ،‬ويسلب اطمئناننا وهدوءنا‪ ،‬فنحن غير مستعدين‬
‫]‪[442‬‬
‫ن أقل ما تجزى به هو‬ ‫حتى للصغاء إلى كلمك‪ ...‬وإذا واصلت هذا اُلسلوب ولم تنته منه‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪...‬البعاد والخراج من هذه الرض‬
‫ونقرأ في مكان آخر من القرآن أن قوم لوط سعوا لتنفيذ تهديدهم‪ ،‬وأمروا بإخراج لوط وأهله‪،‬‬
‫‪).‬فقالوا‪) :‬أخرجوهم من قريتكم إّنهم ُاناس يتطّهرون‬
‫إن فعل هؤلء الضاّلين ـ بلغ بهم أن يعدوا التقوى والتطهر بينهم أكبر عيب‪ ،‬وأن يفخروا بالرجس‬
‫!وعدم الطهارة‪ ،‬وهذه هي العاقبة المشؤومة للمجتمع المسرع نحو الفساد‬
‫ن هذه الجماعة الفاسدة كانوا قد أخرجوا ُاناسًا‬‫ويستفاد من عبارة )لتكونن من المخرجين( أ ّ‬
‫طاهرين من حّيهم فهّددوا لوطًا بهذا المر أيضًا‪ ،‬وهو أنه إذا لم تنته فستنال ما ناله سواك من‬
‫‪...‬البعاد والخراج‬
‫صّرح في بعض التفاسير أّنهم كانوا ُيخرجون المتطهرين من القرية بأسوأ الحال)‪1‬‬ ‫‪)...‬وقد ُ‬

‫ن لوطًا لم يكترث بتهديدهم‪ ،‬وواصل نصحه لهم و )قال إّني لعملكم من القالين‬ ‫‪).‬إّل أ ّ‬
‫إّنه يريد أن يقول‪ :‬سأواصل انتقادي إّياكم‪ ...‬فافعلوا ما شئتم‪ ...‬فأنا ل أترك مواجهة هذه العمال‬
‫‪!...‬القبيحة بالعتراض والنقد‬
‫والتعبير بـ "من القالين" يدّل أيضًا على أن جماعة كانوا مثل الّنبي لوط يرفضون هذه العمال‬
‫‪.‬ويعترضون عليها‪ ...‬رغم أن المنحرفين أخرجوهم من قريتهم آخر المر‬
‫ك" ومعناها العداوة‬‫شِر َ‬
‫قو َ‬‫حَل َ‬
‫ي َ‬
‫ي( "على وزن ْ‬
‫كلمة "القاِلين" جمع "قال" من مادة )َقَلى( أو )َقِل َ‬
‫الشديدة التي تترك أثرها في قلب النسان‪ ،‬وهذا التعبير‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير روح المعاني‪ ،‬والّتفسير الكبير للفخر الرازي‪ ،‬ذيل اليات محل البحث ‪1‬‬
‫]‪[443‬‬
‫‪...‬يكشف عن شّدة تنّفر لوط من أعمالهم‬
‫والذي يسترعي النظر أن لوطًا يقول‪ :‬إّني لعملكم من القالين‪ .‬أي إّنني ل أعاديكم بأشخاصكم‪ ،‬بل‬
‫ب لكم وغير قال لكم‬‫‪.‬أعادي أعمالكم المخزية‪ ،‬فلو ابتعدتم عن هذا العمل الشنيع فأنا مح ّ‬
‫وأخيرًا لم تؤثر مواعظ لوط ونصائحه في قومه‪ ،‬فبّدل الفساد مجتمعهم كّله إلى مستنقع عفن‪...‬‬
‫وتّمت الحجة عليهم بمقدار كاف‪ ،‬وبلغت رسالة لوط مرحلتها النهائية‪ ...‬فعليه أن يغادر هذه‬
‫جي من معه ممن استجاب دعوته‪ ،‬لينزل عذاب ال على القوم الفاسقين‬ ‫المنطقة العفنة‪ ،‬وأن ين ّ‬
‫‪).‬فيهلكهم‪ ،‬فسأل لوط رّبه أن يخّلصه من قومه‪ ،‬فقال‪) :‬رب نجني وأهلي مّما كانوا يعملون‬
‫ن بعضهم احتمل أن يكون المراد من الهل من الية جميع من آمن به‪ ...‬إّل أن الية‬ ‫وبالرغم من أ ّ‬
‫‪ (36)).‬من سورة الذاريات تقول‪) :‬فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين‬
‫ولكن كما أشرنا من قبل ـ فإن بعض التعابير الواردة في اليات محل البحث‪ ،‬تشير إلى أن جماعة‬
‫‪...‬من المؤمنين به كانوا قد ُأبعدوا وُأخرجوا من القرية‬
‫ويستفاد مّما قيل ـ ضمنًا ـ أن دعاء لوط لهله لم يكن بسبب العلقة العاطفية والرتباط النسبي‬
‫‪...‬القرابتي‪ ،‬بل ليمانهم به‬
‫جيناه وأهله أجمعين إّل عجوزًا في الغابرين(‪1).‬‬
‫)فاستجاب ال دعاؤه كما تقول الية التالية‪) :‬فن ّ‬
‫وهذه العجوز لم تكن سوى زوج الّنبي لوط التي كانت منسجمة مع أفكار قومه الضالين‬
‫‪.‬وعقيدتهم‪ ،‬ولم تؤمن بلوط أبدًا‪ ،‬ولذلك ابتليت بما ُأبتلي به قومه من العذاب والهلك‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "الغابر" من مادة )الغبور( ومعناه الباقي‪ ،‬ومتى ما تحركتْ جماعة وبقي شخص في المكان ‪1‬‬
‫فإّنه يدعى )غابرًا( ولهذا السبب سمي التراب الباقي غبارًا‪ ...‬والغبرة‪ :‬الباقي من اللبن في ثدي‬
‫‪.‬الحيوان‬
‫]‪[444‬‬
‫‪".‬وقد بّينا تفصيل هذا الموضوع في ذيل اليات "‪ 81‬ـ ‪ 83‬من سورة هود‬
‫جى ال لوطًا والمؤمنين القّلة معه‪ ،‬فأمر أن يخرج بهم ليل من تلك المدينة ـ أو القرية ـ‬ ‫جْل‪ ،‬لقد ن ّ‬
‫أَ‬
‫فترك قومه الغارقين بالفسق والفجور على حالهم‪ ،‬فنزل عذاب ال في الغداة‪ ،‬فتزلزلت بهم‬
‫الرض وانهارت عليهم البنية والقصور الجميلة حتى اصبح عاليها سافلها وهلكوا جميعًا في‬
‫ديارهم‪ ،‬وقد عّبر القرآن عن كان ذلك بعبارة موجزة بليغة‪ ،‬فقال‪) :‬ثّم دمرنا الخرين( ولم يكف‬
‫ي مطر! إّنه وابل من احجار نزل على تلك الخرائب ليمحو أثرها‬ ‫ذلك بل )وأمطرنا عليهم مطرًا( وأ ّ‬
‫‪)!...‬من النظار‪) .‬فساء مطر المنذرين‬
‫‪...‬والمطار عادة تمنح الحياة‪ ،‬إّل أن هذا المطر كان موحشًا مهلكًا مخّربا‬
‫ويستفاد من الية )‪ (82‬من سورة هود أن قرى قوم لوط ومدنهم ُقلب عاليها سافلها أّول‪ ،‬ثّم‬
‫أمطرت بالحجر النضيد المتراكم‪ ،‬ولعله كان إمطارهم بالحجارة لمحوا آثارهم‪ ،‬فلم يبق منها غير‬
‫‪...‬تل كبير من الحجار والتراب بدل تلك المدن العامرة‬
‫ُترى هل كانت هذه الحجار قد حملت من الصحارى على أثر اعصار عظيم وسقطت على‬
‫!رؤوسهم؟ أو هي أحجار نزلت من السماء بأمر من ال عليهم؟‬
‫سرين كان هناك بركان أو جبل نار قد خمد لفترة‪ ،‬ثّم انفجر بأمر ال‬ ‫أو كما يقول بعض المف ّ‬
‫ن هذه الحجار ـ أو‬ ‫فأمطرهم بالحجارة‪ ،‬ليس ذلك معلومًا على نحو الدّقة! إّل أن من المسّلم به أ ّ‬
‫!هذا المطر المهلك ـ لم يترك للحياة في تلك الرض من أثر‬
‫وتفصيل هذا الموضوع ذكرناه في ذيل اليات ‪ 81‬ـ ‪ 83‬من سورة هود‪ ،‬كما ذكرناه في الجزء"‬
‫‪"...‬الثامن مع "لطائف" مختلفة فل بأس بمراجعتها‬
‫صة الجملتين اللتين تكررتا في القصص المشابهة لها في‬ ‫ومّرة ُأخرى نواجه في نهاية هذه الق ّ‬
‫‪:‬هذه السورة‪ ،‬في شأن خمسة أنبياء كرام آخرين‪ ،‬إذ يقول القرآن‬
‫]‪[445‬‬
‫ن في ذلك ليًة وما كان أكثرهم مؤمنين(‬
‫‪).‬إ ّ‬
‫وأّية آية أجلى من هذه الية التي تعرفكم على هذه المسائل المهّمة والبناءة‪ ،‬دون أن تحتاجوا إلى‬
‫ن التجربة ينبغي‬ ‫تجربة شخصية! أجل إن تاريخ الماضين عبرة وآية للتين‪ ،‬وليس تجربة‪ ،‬ل ّ‬
‫على اِلنسان أن يتحمل فيها خسائر ليحصل على نتائجها‪ ...‬إّل أنّنا هنا نحصل على النتائج من‬
‫‪!.‬خسائر الخرين‬
‫‪).‬وإن رّبك لهو العزيز الرحيم(‬
‫وأية رحمة أعظم من أّنه ل يعاقب أقوامًا فاسقين كقوم لوط فورًا‪ ،‬بل يمهلهم إمهال كافيًا لعلهم‬
‫‪!...‬يهتدون‪ ،‬ويجددوا نظرهم في أعمالهم‬
‫ف)‪ُ (1‬أسرة غير‬ ‫ف أل ِ‬
‫وأية رحمة أعظم من أن ل يخلط عقابه "الخضر باليابس" بل لو كان في أل ِ‬
‫!صالحة أسرة واحدة صالحة‪ ،‬فإنه ينجيها منها وينزل العذاب على ُاولئك‬
‫وأية عّزة أعظم من أن ترى بطرفة عين واحدة ديار الفاسقين قد ُدمرت تدميرًا ولم يبق منها أي‬
‫!أثر‬
‫فالرض التي كانت مهادًا لمنهم أمرت بإقبارهم‪ ،‬والمطر الذي تحيا به الرض والناس يكون‬
‫!مميتًا لهم‬

‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ ذكرنا آنفًا أن مصطلح ألف ألف هو التعبير العربي الصحيح وأن كلمة مليون ليست عربّية بل ‪1‬‬
‫‪.‬هى غربية فتأمل‬
‫]‪[446‬‬

‫اليات‬

‫ن)‬‫سوٌل َأِمي ٌ‬ ‫ن)‪ِ (177‬إّنى َلُكْم َر ُ‬ ‫ب َأَل َتّتُقو َ‬ ‫شَعْي ٌ‬


‫ن)‪ (176‬إْذ َقاَل َلُهْم ُ‬ ‫سِلي َ‬‫ب الَئْيَكِة اْلُمْر َ‬
‫صحـ ُ‬ ‫َكّذبَ َأ ْ‬
‫ن)‬ ‫ب اْلَعـَلِمي َ‬‫عَلى َر ّ‬ ‫ى ِإّل َ‬‫جِر َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫جر ِإ ْ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫عَلْيِه ِم ْ‬
‫سَئُلُكْم َ‬
‫ن )‪َ(179‬وَمآ َأ ْ‬ ‫طيُعو ِ‬ ‫ل َوَأ ِ‬
‫‪َ (178‬فاّتُقوْا ا َّ‬
‫سَتِقيِم)‪َ (182‬وَل‬ ‫س اْلُم ْ‬
‫طا ِ‬‫سَ‬ ‫ن)‪َ (181‬وِزُنوْا ِباْلِق ْ‬ ‫سِري َ‬ ‫خ ِ‬
‫ن اُْلم ْ‬
‫‪َ(180‬أْوُفوْا اْلَكْيَل َوَل َتُكونُوْا ِم َ‬
‫ن)‬
‫جِبّلَة اَْلّوِلي َ‬
‫خَلَقُكْم َواْل ِ‬
‫ن)‪َ (183‬واّتُقوْا اّلِذى َ‬ ‫سِدي َ‬‫ض ُمْف ِ‬
‫شَيآَءُهْم َوَل َتْعَثْوْا ِفى اَْلْر ِ‬ ‫س َأ ْ‬‫سوْا الّنا َ‬‫خُ‬‫َتْب َ‬
‫)‪184‬‬

‫الّتفسير‬
‫ب اليكة‬
‫‪:‬شعيب وأصحا ُ‬
‫صة السابعة‪ ،‬والحلقة الخيرة من قصص النبياء الواردة في هذه السورة‪ ...‬وهي‬
‫هذه هى الق ّ‬
‫‪.‬قصة "شعيب")عليه السلم( وقومه المعاندين‬
‫‪".‬كان هذا الّنبي يقطن في "مدين"‪" ،‬وهي مدينة تقع جنوب الشامات‬
‫‪".‬و "أيكة" على وزن )ليلة( "قرية أو أرض معمورة على مقربة من مدين‬
‫]‪[447‬‬
‫‪.‬والية )‪ (79‬من سورة الحجر تدل على أن "أيكة" كانت تقع في طريق أهل الحجاز إلى الشام‬
‫‪).‬تقول الية اُلولى من اليات محل البحث‪) :‬كذب أصحاب اليكة المرسلين‬
‫ن دعوتهم واحدة‪ ...‬أو لّنهم لم‬ ‫إّنهم لم يكذبوا نبّيهم شعيبًا فحسب‪ ،‬بل كذبوا جميع النبياء‪ ،‬ل ّ‬
‫ي رسالة سماوية أبدًا‬
‫‪...‬يصدقوا ويقبلوا بأ ّ‬
‫واليكة معناها في الصل محل مكتظ بالشجار‪ ،‬وهي هنا إشارة إلى منطقة تقع على مقربة من‬
‫"مدين"‪ ،‬سّميت بذلك لن فيها أشجارًا كثيرة وماًء وظلل!‪ ...‬والقرائن تشير إلى أّنهم كانوا‬
‫‪!...‬منّعمين مترفين ذوي حياة مرفهة وثروة كثيرة‪ ،‬ورّبما كانوا لهذه اُلمور غرقى الغرور والغفلة‬
‫‪).‬ثّم يتحدث القرآن إجمال عن شعيب)عليه السلم( وعنهم فيقول‪) :‬إذ قال لهم شعيب أل تتقون‬
‫وفي الحقيقة فإن دعوة شعيب)عليه السلم( انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر النبياء‪ ،‬وهي‬
‫التقوى ومخافة ال التي تعّد أساس المناهج الصلحية والتغييرات الخلقية واِلجتماعية‬
‫‪...‬جمعاء‬
‫والجدير بالذكر أن التعبير "أخوهم" الوارد في قصص صالح وهود ونوح ولوط)عليهم السلم(‪،‬‬
‫لم ُيلحظ هنا‪ .‬ولعل منشأ ذلك يعود إلى أن "شعيبًا" كان من أهل مدين أصل ـ وتربطه باهلها‬
‫روابط نسبية‪ ،‬وليس كذلك مع اصحاب اليكة‪ ...‬ولذلك نرى في سورة هود حين يشير القرآن إلى‬
‫إرسال "شعيب" إلى قومه من أهل مدين يقول‪) :‬وإلى مدين أخاهم شعيبًا( إّل أن الية محل البحث‬
‫لما كانت تتحدث عن أصحاب اليكة‪ ،‬وشعيب)عليه السلم( ل تربطه رابطة نسبية بهم لم تذكر‬
‫‪"...‬التعبير "أخاهم‬
‫ثّم أضاف شعيب قائل‪) :‬إّني لكم رسول أمين فاتقوا ال وأطيعون(فطاعتكم‬
‫]‪[448‬‬
‫‪.‬لي طاعة ل‬
‫‪).‬واعلموا أّني أبتغي ثوابه ووجهه )وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إّل على رب العالمين‬
‫وهذه التعابير هي التعابير ذاتها التي دعا بها سائر النبياء ُأَممهم‪ ،‬فهي متحدة المآل ومدروسة‪،‬‬
‫إذ تدعو إلى التقوى‪ ،‬وتؤّكد على سابقة أمانة الّنبي بين قومه‪ ،‬كما أّنها تؤّكد على أن الهدف من‬
‫ي من النبياء بما في يد‬‫الدعوة إلى ال معنوي فحسب‪ ،‬وليس ورائها هدف مادي‪ ،‬ول يطمع أ ّ‬
‫!الخرين‪ ،‬ليكون مثارًا للشكوك وذريعًة للمتذرعين‬
‫و "شعيب" كسائر النبياء الذين ورد جانب من تأريخ حياتهم في هذه السورة‪ ،‬فهو يدعو قومه‬
‫بعد الدعوة العاّمة للتقوى وطاعة ال‪ ،‬إلى إصلح انحرافاتهم الخلقية والجتماعية وينتقدهم‬
‫على هذه النحرافات‪ ،‬وحيث أن أهم انحراف عند قومه كان الضطراب القتصادي‪ ،‬والستثمار‬
‫والظلم الفاحش في الثمان والسلع‪ ،‬والتطفيف في الكيل‪ ،‬لذلك فقد اهتم بهذه المسائل أكثر من‬
‫غيرها‪ ،‬وقال لهم‪) :‬أوفوا الكيل ول تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس)‪(1‬المستقيم ول‬
‫‪).‬تبخسوا الناس أشياءهم ول تعثوا في الرض مفسدين‬
‫وفي هذه اليات الخيرة الثلث يأمر شعيب هؤلء القوم الضالين بخمسة أوامر في عبارات‬
‫سرين أن هذه العبارات بعضها يؤّكد بعضًا‪ ،‬إّل أن التدقيق فيها يدّل‬ ‫موجزة‪ ،‬ويتصور بعض المف ّ‬
‫على أن هذه الوامر الخمسة في الواقع تشير إلى خمسة مطالب أساسية ومختلفة‪ ،‬أو بتعبير آخر‪:‬‬
‫‪!...‬هي أربعة أوامر ونتيجة كلّية‬
‫ولكي يّتضح هذه الختلف أو التفاوت‪ ،‬فإنه يلزم اللتفات إلى هذه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "القسطاس"‪" ،‬على وزن ِنسناس" معناه "ميزان"‪ ...‬قال بعضهم‪ :‬أصل هذه الكلمة رومّية‪1 ،‬‬
‫وقال بعضهم‪ .‬بل هي عربية‪ ،‬ويعتقد بعضهم أن القسطاس ميزان كبير‪ ،‬أما الميزان نفسه‬
‫المستعمل في لغة العرب فهو الصغير‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن للقسطاس مؤشرًا ولسانًا فهو لذلك دقيق‬
‫‪!...‬الوزن‬
‫]‪[449‬‬
‫الحقيقة‪ ...‬وهي أن قوم شعيب )أهل مدين وأصحاب اليكة( كانوا مستقرين في منطقة حساسة‬
‫تجارية‪ ،‬وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام‪ ،‬أو العائدة من الشام إلى الحجاز‪،‬‬
‫خر‬
‫‪.‬ومن مناطق ُأ َ‬
‫ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في اثناء الطريق إلى ُأمور كثيرة‪ ...‬وطالما يسيُء أهل‬
‫المنطقة الستفادة من هذه الحالة‪ ،‬فهم يستغلونها فيشترون بضائعهم بأبخس ثمن‪ ...‬ويبيعون‬
‫عليهم المستلزمات بأعلى ثمن "وينبغي اللتفات إلى أن أكثر المعاملت في ذلك الحين كانت قائمة‬
‫‪"...‬على أساس المعاوضة سلعة بسلعة‬
‫وربما تذرعوا عند شراء البضاعة بأن فيها عدة عيوب‪ ،‬وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عّرفوها‬
‫بأحسن التعاريف‪ ،‬وعندما يزنون لنفسهم يستوفون الوزن‪ ،‬وإذا كالوا الخرين أو وزنوا لهم ل‬
‫يهتمون بالميزان الصحيح والستيفاء السليم‪ ،‬وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه اُلمور‬
‫‪!...‬على كل حال ومضطر إليها‪ ،‬فل بد له من أن يقبلها ويسكت عليها‬
‫ن أهل المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل‬ ‫وبغض النظر عن القوافل التي تمّر عليهم‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪.‬ببضائعهم مع هؤلء المطففين‪ ،‬وليسوا بأحس حظًا من أصحاب القوافل أيضاً‬
‫فقيمة المتاع سواًء كان الجنس يراد بيعُه أو شراؤة تتعين بحسب رغبة الكسبة هؤلء‪ .‬والوزن‬
‫والمكيال على كل حال بأيديهم‪ ،‬فهذا المسكين المستضعف عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد‬
‫!غاسله‬
‫ومع ملحظة ما ذكرناه آنفًا‪ ،‬نعود الن إلى تعابير اليات المختلفة‪ ...‬فتارة يقول شعيب لقومه‪:‬‬
‫أوفوا الكيل‪ ،‬وفي مكان آخر يقول‪ :‬زنوا بالقسطاس المستقيم‪ ،‬ونعرف أن تقويم الجناس‬
‫والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن‪ ،‬فهو يشير الى كل واحد منهما ويهتم به اهتمامًا‬
‫خاصًا‪ ...‬لمزيد التأكيد على أن ل يبخسوا الناس‬
‫]‪[450‬‬
‫‪...‬أشياءهم‬
‫ن التطفيف أن بخس الناس له طرق شتى‪ ،‬فتارًة يكون الميزان صحيحًا إّل صاحبه ل يؤدي‬ ‫ثّم إ ّ‬
‫حقه‪ ،‬وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان‪ ...‬فهو يغش صاحبه بما فيه من عيب‪ ،‬وقد جاءت‬
‫‪.‬الشارات في اليات النفة إلى جميع هذه اُلمور‬
‫وبعد اتضاح هذين التعبيرين )وأوفوا الكيل ‪ ...‬وزنوا القسطاس( نأتي الى معنى )ل تبخسوا(‬
‫المأخوذة من "البخس"‪ ،‬وهو في الصل النقص ظلمًا من حقوق الناس‪ ...‬وقد يأتي أحيانًا بمعنى‬
‫الغش أو التلعب المنتهي إلى تضييع حقوق الخرين‪ ...‬فبناًء على ما تقدم‪ ،‬فإن الجملة النفة‬
‫)ول تبخسوا الناس أشياءهم( لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل‪،‬‬
‫!والتلعب في المعاملت‪ ،‬وغمط حقوق الخرين‬
‫وأّما جملة )ول تكونوا من المخسرين( فمع ملحظة أن "المخسر" هو من يوقع الخر أو الشيء‬
‫في الخسران‪ ...‬فمعناه واسع أيضًا‪ ،‬إذ يشمل بالضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن‬
‫!يكون سببًا للخسارة وإيذاء الطرف الخر في المعاملة‬
‫ن جميع ما ُذكر من الستغلل وسوء اِلستفادة والظلم‪ ،‬والمخالفة في المعاملة والغش‬ ‫وهكذا فإ ّ‬
‫‪...‬والخسار‪ ،‬سواءًا كان ذلك في الكمية أو الكيفية‪ ،‬كله داخل في التعليمات آنفة الذكر‬
‫ن شعيبًا‬‫وحيث أن الضطراب القتصادي‪ ،‬أو الزمة القتصادية‪ ،‬أساس ل ضطراب المجتمع‪ ،‬فإ ّ‬
‫يختتم هذه التعليمات بعنوان جامع فيقول‪) :‬ول تعثوا في الرض مفسدين(‪ .‬فتجّروا المجتمع الى‬
‫هاوية الفساد والنحطاط‪ ،‬فعليكم أن تضعوا حّدا لي نوع من الستثمار والعدوان وتضييع حقوق‬
‫‪.‬الخرين‬
‫‪،‬وهذه التعليمات ليست بناءة للمجتمع الثري الظالم في عصر شعيب فحسب‬
‫]‪[451‬‬
‫‪!...‬بل هي بناءة ونافعة لكل عصر وزمان‪ ،‬وداعية إلى العدالة القتصادية‬
‫ثّم إن "شعيبًا" في آخر تعليماته ـ في هذا القسم ـ يدعوهم مرد ُاخرى إلى تقوى ال فيقول‪:‬‬
‫‪)).‬واتقوا الذي خلقكم والجبلة الولين‬
‫خلقوا على هذه الرض‪ ،‬فآباؤكم والمم اُلخرى جاءوا وذهبوا‪ ،‬فل‬ ‫فلستم أول قوم أو جماعة ُ‬
‫‪...‬تنسوا ماضيهم وما تقبلون عليه‬
‫الجبلة" مأخوذة من )الجبل( وهو معروف "ما ارتفع من الرض كثيرًا" ويسمى الطود أحيانًا‪(...‬‬
‫‪...‬فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في العظمة‬
‫!قال بعضهم‪ :‬الجبلة مقدار عددها عشرة آلف‬
‫‪...‬كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة النسانية‪ ،‬لّنها ل تتغير‪ ،‬كما أن الجبل ل يتغّير عادًة‬
‫والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أن شعيبًا يقول‪ :‬إّنما أدعوكم إلى ترك الظلم والفساد‪ ،‬وأداء حقوق‬
‫ن ذلك موجود في داخل الفطرة النسانية منذ الخلق الّول‪ ،‬وأنا جئتكم‬ ‫الناس ورعاية العدل‪ ،‬ل ّ‬
‫‪...‬لحياء هذه الفطرة‬
‫إّل أّنه ـ وللسف ـ لم تؤثر كلمات هذا الّنبي المشفق‪ ،‬فأجابوه بمنطق "ُمّر وفظ" سنقرؤه في‬
‫‪...‬اليات المقبلة‬

‫***‬
‫]‪[452‬‬

‫اليات‬

‫سِق ْ‬
‫ط‬ ‫ن)‪َ (186‬فَأ ْ‬ ‫ن اْلَكـِذِبي َ‬
‫ك َلِم َ‬
‫ظّن َ‬
‫شٌر ّمْثُلَنا َوِإن ّن ُ‬
‫ت ِإّل َب َ‬‫ن)‪َ (185‬وَمآ َأن َ‬ ‫حِري َ‬ ‫سّ‬ ‫ن اْلُم َ‬ ‫ت ِم َ‬
‫َقاُلوْا ِإّنَمآ َأن َ‬
‫ن )‪َ(188‬فَكّذُبوُه‬ ‫عَلُم ِبَما َتْعَمُلو َ‬
‫ن)‪َ (187‬قاَل َرّبى َأ ْ‬ ‫صـِدِقي َ‬
‫ن ال ّ‬‫ت ِم َ‬‫سَمآِء ِإن ُكن َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫سفًا ّم َ‬
‫عَلْيَنا ِك َ‬
‫َ‬
‫ن َأْكَثُرُهم‬
‫ك َلَيًة َوَما َكا َ‬ ‫ن ِفى َذِل َ‬‫ظيم)‪ِ (189‬إ ّ‬ ‫عِ‬ ‫ب َيْوم َ‬ ‫عَذا َ‬
‫ن َ‬ ‫ظّلِة ِإّنُه َكا َ‬
‫ب َيْوِم ال ّ‬‫عَذا ُ‬‫خَذُهْم َ‬ ‫َفَأ َ‬
‫حيُم)‪191‬‬ ‫ك َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ‬‫ن َرّب َ‬‫ن)‪َ (190‬وِإ ّ‬ ‫)ّمؤِْمِني َ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬عاقبة الحمقى‬
‫لما رأى قوم شعيب الظالمون ـ أّنهم ل يملكون دليل ليواجهوا به منطقه المتين‪ ...‬ومن أجل أن‬
‫‪.‬يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم‪ ،‬رشقوه بسيل من الُتهم والكاذيب‬
‫فالتهمة اُلولى هي ما يلصقها الجبابرة دائمًا والمجرمون بالنبياء‪ ،‬وهي‬
‫]‪[453‬‬
‫حرين()‪ (1‬ولُيرى في كلمك ما هو منطقي!!‬ ‫السحر فاّتهموه بها و )قالوا إّنما أنت من المس ّ‬
‫!!وتظن أّنك بهذا الكلم تستطيع تقييد حريتنا في التصرف في أموالنا كما نشاء‬
‫ثّم ما الفارق بينك وبيننا لنّتبعك؟! ول مزّية لك علينا )وما أنت إّل بشر مثلنا وإن نظّنك لمن‬
‫‪).‬الكاذبين‬
‫وبعد إلقاء هذا الكلم المتناقض‪ ،‬إذ تارًة يدعونه )من الكاذبين( ورجل انتهازيًا‪ ،‬وتارًة يدعونه‬
‫حرين‪ ،‬وكان كلمهم الخير هو‪ :‬إن كنت نبّيا )فاسقط علينا كسفًا من السماء‬ ‫مجنونًا أو من المس ّ‬
‫‪.‬إن كنت من الصادقين( حيث كنت تهددنا دائمًا بهذا اللون من العذاب‬
‫سَفة( على وزن )قطعة( ومعناها قطعة أيضًا والمراد من هذه‬ ‫سف" على وزن )ِفَرق( جمع )ِك ْ‬ ‫و "ِك َ‬
‫‪"...‬القطع من السماء" هي قطع الحجار التي تهوي من السماء‬
‫وهكذا يبلغ بهم صلفهم ووقاحتهم وعدم حيائهم إلى هذه الدرجة‪ ،‬وأظهروا كفرهم وتكذيبهم في‬
‫‪.‬أسوأ الصور‬
‫إّل أن شعيبًا)عليه السلم(‪ ،‬وهو يواجه هذه التعبيرات غير الموزونة والكلمات القبيحة وطلبهم‬
‫‪)...‬عذاب ال‪ ،‬كان جوابه الوحيد لهم أن )قال رّبي أعلم بما تعملون‬
‫ن المر خارج عن يدي‪ ،‬وأن إنزال العذاب وإسقاط الكسف من السماء غيُر مخول‬ ‫و يشير إلى أ ّ‬
‫بها ليطلب كل ذلك مّني‪ ...‬فال يعرف أعمالكم ويعلم بها‪ ،‬وما أنتم أهل له‪ ،‬فمتى لم تنفع المواعظ‬
‫ن عذابه ل مرد له وسيقطع دابركم ل محالة‬ ‫جة اللزمة‪ ،‬فإ ّ‬ ‫‪!...‬وتّمت الح ّ‬
‫وهذا التعبير وأمثاله مّما يرُد على لسان النبياء‪ ،‬وما نلحظُه في آيات‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫حر" كما أشرنا من قبل إليه‪ ،‬هو المسحور‪ ...‬أو الذي يقع عليه السحر من قبل ‪1‬‬ ‫ـ "المس ّ‬
‫عقِله ويبطلوا عمله‬‫حرة‪ ،‬لينفذوا في َ‬ ‫سَ‬ ‫!!ال َ‬
‫]‪[454‬‬
‫القرآن يدل على أّنهم كانوا يوكلون جميع اُلمور إلى ال‪ ،‬وإّنها بإذنه وأمره‪ ،‬ولم يّدعوا أّنهم‬
‫‪!.‬قادرون على كل شيء‪ ،‬أو أّنهم يفعلون ما يشاءون‬
‫وعلى كل حال فإن عذاب ال أزف موعده ـ وكما يعبر القرآن عنه في الية التالية قائل‪) :‬فكذبوه‬
‫‪).‬فأخذهم عذاب يوم الظّلة إنه كان عذاب يوم عظيم‬
‫‪...‬الظلة" في الصل معناها القطعة من السحاب المظّلل‪ :‬أي ذي الظل"‬
‫سرين في ذيل هذه الية‪ :‬إن حّرا شديدًا محرقًا حّل في أرضهم سبعة أّيام‪ ،‬ولم‬ ‫يقول أغلب المف ّ‬
‫يهب نسيم بارد مطلقًا‪ ،‬فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء ـ بعد السبعة أّيام ـ وتحرك نسيم‬
‫‪.‬عليل فخرجوا من بيوتهم‪ ،‬واستظّلوا تحت السحاب من شّدة الحّر‬
‫وفجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل‪ ،‬واحرقتهم بنارها وزلزلت الرض‬
‫‪.‬وهلكوا جميعًا‬
‫ونعرف أن الصاعقة تنتج عن تلقح القوى أو "الطاقة" الموجبة والسالبة‪ ،‬أو ما يعبر عنها‬
‫بالشحنات الكهربائية وحين تتلقح هذه الشحنات بين السحاب والرض ينتج عنها صوت مرعب‬
‫وشعلة موحشة‪ ،‬وقد تهتز الرض عند وقوعها فيتزلزل محل سقوطها‪ ...‬وهكذا يّتضح أن اختلف‬
‫التعابير في آيات القرآن الواردة عن عذاب قوم شعيب‪ ،‬يعود إلى حقيقة واحدة! ففي سورة‬
‫العراف جاء التعبير بالرجفة )الية )‪ (91‬وفي سورة هود جاء التعبير بالصيحة )الية ‪ (94‬أّما‬
‫‪)...‬في اليات محل البحث فقد جاء التعبير بـ )عذاب يوم الظلة‬
‫سرين "كالقرطبي والفخر الرازي وغيرهم" يحتمل أن أصحاب اليكة‬ ‫ن بعض المف ّ‬ ‫وبالرغم من أ ّ‬
‫وأهل مدين كانوا جماعتين أو طائفتين‪ ،‬وكل طائفة نزل عليهم عذاب خاص‪ ،‬إّل أنه مع ملحظة‬
‫‪!...‬هذه اليات المتعلقة بهذا القسم ـ بدقة ـ يتجّلى أن هذا اِلحتمال غير وارد‬
‫ختمت القصص الست السابقة عن أنبياء ال الكرام‪ ،‬إذ‬ ‫صة هذه بما ُ‬ ‫وُتختتم الق ّ‬
‫]‪[455‬‬
‫يقول القرآن‪ :‬إن في حكاية أصحاب اليكة ودعوة نبّيهم شعيب وعنادهم وتكذيبهم‪ ،‬وبالتالي نزول‬
‫‪).‬العذاب على هؤلء المتكبرين درس وعبرة لمن اعتبر )إن في ذلك ليًة وما كان أكثرهم مؤمنين‬
‫ومع ذلك كله فإن ال رحيم ودود يمهلهم لعلهم يرجعون ويصلحون أنفسهم‪ ،‬فإذا تماُدْوا في الغي‬
‫‪.‬واستوجبوا عذاب ال‪ ،‬أخذهم أخذ عزيز مقتدر‬
‫‪).‬أجل )وإن رّبك لهو العزيز الرحيم‬
‫***‬

‫بحوث‬
‫عوات النبياء ‪1‬‬
‫ـ النسجام التام في َد َ‬
‫في ختام قصص هؤلء النبياء السبعة نجة أن هذه القصص تشّكل حلقة كاملة من حيث الدروس‬
‫التربوية‪ ...‬وينبغي أن نلتفت إلى هذه "اللطيفة")‪ (1‬وهي أن قصص هؤلء النبياء جميعًا جاءت‬
‫خر من القرآن أيضًا‪ .‬إّل أنها لم ُتعَرض بهذا العرض بحيث نجد أن بداية دعوتهم‬ ‫في سور ُأ َ‬
‫ن نهاياتها منسجمة أيضًا‬‫‪.‬منسجمة‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ولوحظ في خمسة أقسام من هذه الِقصص أن محتوى الدعوة هو تقوى ال‪ ،‬ثّم الشارة إلى أمانة‬
‫الّنبي‪ ،‬وعدم مطالبته قومه بالجر على تبليغه إّياهم‪ ...‬وبعد هذه المسائل تعالج المسائل‬
‫‪...‬الجتماعية‪ ،‬والنحرافات الخلقية‪ ،‬من قبل النبياء بلغة تنّم عن الشفاق والمحبة‬
‫ثّم يبّين القرآن رّد فعل اُلمم المنحرفة تجاه أنبيائهم‪ ،‬وأخيرًا عاقبتهم الوخيمة‪ ،‬ويذكر عذاب كل‬
‫‪...‬منهم وكيفيته‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ق وهي الشيء الخفي الذي يحتاج إلى دقة لدراكه‪) .‬المصحح ‪1‬‬
‫)ـ اللطيفة‪ ،‬مّما لطف ود ّ‬
‫]‪[456‬‬
‫‪...‬وفي نهاية كل من هذه القصص السبع يشير القرآن إلى أن في ذلك آية وأن أكثرهم ل يؤمنون‬
‫صة منها على قدرة ال )وعزته( ورحمته‬ ‫‪.‬ثّم يؤّكد القرآن أيضًا في نهاية كل ق ّ‬
‫وهذا النسجام ـ قبل كل شيء ـ يدّل على تجلي مفهوم وحدة دعوات النبياء‪ ،‬بحيث كانوا ذوي‬
‫منهج واحد وبداية واحدة ونهاية واحدة‪ ...‬وجميعهم كانوا معلمي مدارس النسانية‪ ...‬وبالرغم‬
‫ن اُلصول‬ ‫ن محتوى هذه المدارس كان ينبغي أن يتغّير بتقدم الزمن والمجتمع النساني‪ ،‬إّل أ ّ‬ ‫من أ ّ‬
‫‪.‬والنتائج تبقى على حالها‬
‫ثّم بعد هذا كله‪ ،‬فإن هذه القصص كانت تسّري عن قلب الّنبي والمؤمنين القّلة في ذلك العصر‬
‫)والمؤمنون في كل عصر( وتسّلي خاطرهم‪ ،‬لئل يحزنوا وييأسوا من كثرة المشركين والعداء‬
‫‪...‬الضالين‪ ،‬وأن يثقوا ويتوقعوا العاقبة لهم‪ ...‬وأن يكون أملهم بذلك كبيرًا‬
‫ن عذاب‬‫كما أن ذلك إنذار للجبابرة والمستكبرين والظالين ـ في كل عصر وزمان ـ لئل يتصوروا بأ ّ‬
‫ال بعيد عنهم‪ ...‬العذاب بأنواعه كالزلزلة والصاعقة‪ ،‬والطوفان والبركان‪ ...‬وانشقاق الرض‬
‫والخسف‪ ،‬والمطار الغزيرة التي تعقبها السيول المدّمرة‪ ،‬والنسان المعاصر ضعيف أمامها‬
‫كضعف النسان الغابر‪ ...‬لن النسان المعاصر ـ بالرغم من جميع قواه وتقدمه الصناعي عاجز‬
‫‪!...‬أمام الطوفان والصاعقة والزلزلة‪ ...‬ويبقى ضعيفًا ل حول له ول طول‬
‫كل ذلك من أجل أن الهدف من قصص القرآن هو تكامل الناس وبلوغهم الرشد‪ ،‬والهدف تنوير‬
‫ن الهدف هو مواجهة الظلم والنحراف‬ ‫‪...‬القلوب ومعالجة الهوى بالتعّقل‪ ...‬وأخيرًا فإ ّ‬

‫]‪[457‬‬
‫‪:‬ـ التقوى‪ ،‬بداية دعوة النبياء جميعًا ‪2‬‬
‫مّما يلفت النظر أن قسمًا مهمًا من قصص هؤلء النبياء ـ الوارد ذكرهم في سورة الشعراء ـ ذكر‬
‫في سورة هود والعراف‪ ،‬إّل أن في بداية ذكرهم وبيان سيرتهم في اقوامهم الدعوة إلى وحدانية‬
‫!)ال ـ عادًة ـ وُيبتدأ في تلك السور عند ذكرهم‪ .‬بجملة )يا قوم اعبدوا ال مالكم من إله غيره‬
‫إّل أّنه في هذه السورة )الشعراء( ـ كما لحظنا ـ كانت بداية دعوتهم قومهم )أل تتقون(‪ ...‬والحق‬
‫أّنهما تعودان إلى نتيجة واحدة‪ ...‬لّنه إذا لم ُتوجد في النسان أدنى مراتب التقوى‪ ،‬وهي طلب‬
‫الحق‪ ،‬فإنه ل يؤثر فيه شيء‪ ،‬ل الدعوة إلى التوحيد ول غيرها‪ ...‬لذا فإّننا نقرأ في بداية سورة‬
‫‪).‬البقرة قوله تعالى‪) :‬ذلك الكتاب ل ريب فيه هدى للمتقين‬
‫ن التقوى لها مراحل ـ أو مراتب ـ وكل مرتبة هي درجة للرقي إلى المرحلة التالية أو‬ ‫وبالطبع فإ ّ‬
‫‪...‬المرتبة اُلخرى‬
‫كما نلحظ اختلفًا آخر بين هذه السورة وسورتي العراف وهود‪ ،‬ففي سورتي العراف وهود‬
‫خر فكانت تحت الشعاع‪ ،‬إّل أنه في‬ ‫كانت دعوة النبياء تتركز على نبذ الصنام‪ ،‬أّما المسائل اُل َ‬
‫سورة الشعراء هذه تتركز الدعوة على مكافحة النحرافات الخلقية والجتماعية‪ ،‬كالمفاخرة‬
‫وطلب الستعلء‪ ،‬والسراف‪ ،‬والنحراف الجنسي‪ ،‬والستثمار والتطفيف‪ .‬إلخ‪ ...‬وهذا المر‬
‫!يكشف بأن تكرار هذه القصص في القرآن له حساب خاص‪ ،‬ولكّل هدف معين يعرف من السياق‬

‫ـ النحرافات الخلقية ‪3‬‬


‫ن القوام المذكورين في هذه السورة‪ ،‬بالضافة إلى انحرافهم عن أصل التوحيد‬ ‫مّما يلفت النظر أ ّ‬
‫ل مشتركًا‬
‫نحو الشرك وعبادة الوثان‪ ،‬الذي يعّد أص ً‬
‫]‪[458‬‬
‫صة "وكل قوم لهم انحرافات‬‫بينهم‪ ،‬فإنهم كانوا متورطين بانحرافات أخلقية واجتماعية خا ّ‬
‫صة‬
‫‪"...‬خا ّ‬
‫‪).‬فبعضهم كانوا أهل مفاخرة وتكبر ‪ ...‬كقوم هود)عليه السلم‬
‫‪).‬وبعضهم كانوا أهل إسراف وترف كقوم صالح)عليه السلم‬
‫‪).‬وبعضهم كانوا مبتلين بالنحراف الجنسي كقوم لوط)عليه السلم‬
‫‪).‬وبعضهم كانوا عبدة المال بحيث كانوا يتلعبون بالمعاملت كقوم شعيب)عليه السلم‬
‫‪).‬وبعضهم كانوا مغرورين بالثروة كقوم نوح)عليه السلم‬
‫‪...‬إّل أن عقابهم كان متشابهًا إلى حّد ما‪ ،‬وكانت نهايتهم الهلك‬
‫‪.‬فبعضهم أهلكوا بالصاعقة والزلزلة كقوم شعيب وقوم لوط وقوم صالح وقوم هود‬
‫)وبعضهم أهلكوا بالطوفان كقوم نوح)عليه السلم‬
‫وفي الحقيقة‪ ،‬فإن الرض التي هي مهد للدعة والطمئنان‪ ،‬وكانوا يمرحون عليها‪ُ ،‬أمرت‬
‫‪!...‬بإهلكهم‬
‫!والماء والهواء الذين هما سببا حياتهم نفذا المر بإماتتهم‬
‫وما أعجب أن تكون حياة النسان في قلب الموت‪ ،‬وموته في قلب الحياة‪ ،‬وهو مع كل ذلك غافل‬
‫!مغرور‬

‫***‬
‫]‪[459‬‬

‫اليات‬

‫ن)‬
‫ن اْلُمنِذِري َ‬‫ن ِم َ‬ ‫ك ِلَتُكو َ‬
‫عَلى َقْلِب َ‬
‫ن )‪َ (193‬‬
‫ح اَْلِمي ُ‬‫ن)‪َ (192‬نَزَل ِبِه اّلرو ُ‬ ‫ب اْلَعـَلِمي َ‬
‫َوِإّنُه َلَتنِزيُل َر ّ‬
‫ن)‪َ (196‬أَوَلْم َيُكن ّلُهْم َءاَيًة َأن َيْعَلَمهُ‬
‫ى ّمِبين )‪َ(195‬وِإّنُه َلِفى ُزُبِر اَْلّوِلي َ‬‫عَرِب ّ‬‫سان َ‬ ‫‪ِ (194‬بِل َ‬
‫سرِءيَل)‪197‬‬ ‫عَلَمـُؤْا َبِنى ِإ ْ‬
‫)ُ‬

‫الّتفسير‬
‫ب "السابقين"‪1).‬‬ ‫)عظمة القرآن في ُكُت ِ‬
‫بعد بيان سبع قصص عن النبياء السابقين‪ ،‬والعبر الكامنة في تأريخ حياتهم‪ ،‬يعود القرآن مرة‬
‫أخرى إلى البحث الذي شرعت به السورة‪ ،‬بحث عظمة القرآن وحقانية هذا الكلم اللهي المبين‪،‬‬
‫ب العالمين‬
‫‪).‬إذ يقول‪) :‬وإّنه لتنزيل ر ّ‬
‫وأساسًا فإن بيان جوانب مختلفة عن سير النبياء السابقين بهذه الدقة والظرافة‪ ،‬والخو من أي‬
‫نوع من الخرافات والساطير الكاذبة‪ ،‬وفي محيط مليء بالساطير والخرافات‪ ،‬ومن ِقَبِل إنسان ل‬
‫يعرف القراءة والكتابة‪ ،‬أو لم يسبق له‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ كلمة "السابقين" نعت ومنعوته محذوف وتقديره النبياء )المصحح ‪1‬‬
‫]‪[460‬‬
‫ب العالمين‪ ،‬وهذا نفسه دليل‬
‫أن تعلمهما‪ ...‬كل ذلك بنفسه دليل على أن هذا الكتاب تنزيل من ر ّ‬
‫!!على إعجاز القرآن‬
‫‪).‬لذلك تضيف الية التالية قائلًة‪) :‬نزل به الروح المين‬
‫ولو كان القرآن لم ُينزله ملك الوحي "الروح المين من ِقَبِل ال" لم يكن بهذا الشراق والصفاء‬
‫‪...‬والخلو من الخرافات والساطير والباطيل‬
‫ومّما يلفت النظر أن ملك الوحي وصف بوصفين في الية‪ :‬الّول أّنه الروح‪ ،‬والوصف الّثاني أّنه‬
‫‪...‬المين‬
‫‪!...‬فالروح هي أساس الحياة‪ ،‬والمانة‪ ،‬هي شرط أصيل في الهداية والقيادة‬
‫)أجل‪ ،‬إن هذا الروح المين نزل بالقرآن )على قلبك لتكون من المنذرين(‪1).‬‬
‫فالهدف هو أن تنذر الناس‪ ،‬وأن تحذرهم من مغبة النحراف عن التوحيد‪ ،‬ليحذروا من سوء‬
‫العاقبة‪ ...‬إن الهدف من بيان تأريخ السالفين لم يكن مجّرد شرفًا فكريًا ولملء الفراغ‪ ،‬بل إيجاد‬
‫‪!...‬الحساس بالمسؤولية واليقظة‪ ،‬والهدف هو التربية وبناء شخصية النسان‬
‫ي مبين‬ ‫ن القرآن ُأنزل )بلسان عرب ّ‬ ‫جة لحد ول عذر‪ ،‬فإ ّ‬‫‪)...‬ولئل تبقى ح ّ‬
‫فهذا القرآن نازل بلسان عربي فصيح‪ ،‬خال من البهام‪ ،‬للنذار واليقاظ‪ ،‬ول سيما أنه نزل في‬
‫‪...‬محيط يتذرع أهله بالحجج الواهية‪ ،‬نزل بليغًا واضحًا‬
‫‪...‬هذا اللسان العربي هو أكمل اللسنة واللغات وأغناها أدبًا ومقامًا‬
‫والجدير بالذكر أن أحد معاني "عربي" هو ذو الفصاحة والبلغة ـ بقطع النظر عن كيفية اللسان‪،‬‬
‫‪...‬وكما يقول الراغب في المفردات‪ :‬العربي‪ :‬الفصيح البّين من الكلم‬
‫وفي هذه الصورة فإنه ليس المعّول على لسان العرب‪ ،‬بل الساس صراحة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ واضح ـ هنا ـ أن المراد من القلب هو روح الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬ل القلب الذي ‪1‬‬
‫خة للدم‪ ...‬وانتخاب هذا التعبير إشارة إلى أّنك يا رسول ال استوعبت القرآن بروحك‬ ‫يعّد مض ّ‬
‫‪.‬وقلبك‪ ،‬وهذه المعجزة السماوية مقّرها قلبك‬
‫]‪[461‬‬
‫القرآن ووضوح مفاهيمه‪ ،‬واليات التالية تؤية هذا المعنى‪ ،‬كما جاء في الية )‪ (44‬من سورة‬
‫‪).‬فصلت )ولو جعلناه قرءانًا أعجمّيا لقالوا لول فصلت آياته‬
‫‪!...‬فالمراد من العجمي هنا هو االكلم غير الفصيح‬
‫)والية التالية تشير إلى دليل آخر من دلئل حقانية القرآن فتقول‪) :‬وإنه لفي ُزبِر الولين(‪1).‬‬
‫صة أن أوصاف هذا الّنبي العظيم وأوصاف هذا الكتاب السماوي الخالد‪ ،‬جاءت في توراة‬ ‫وخا ّ‬
‫موسى)عليه السلم( بحيث أن علماء بني إسرائيل كانوا يعرفون كل ذلك‪ ،‬حتى قيل أن إيمان‬
‫قبيلتي الوس والخزرج بالّنبي محمد)صلى ال عليه وآله وسلم( كان على أثر ما كان يتوقعة‬
‫‪..‬علماء اليهود عن ظهور هذا الّنبي العظيم‪ ،‬ونزول هذا الكتاب السماوي الكريم‬
‫ن القرآن يضيف هنا قائل‪) :‬أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل‬ ‫‪).‬لذا فإ ّ‬

‫وواضح أنه مع وجود ُاولئك العلماء من بني إسرائيل في ذلك المحيط المليء بالمشركين‪ ،‬لم يكن‬
‫‪..‬من الممكن أن يتحدث القرآن عن نفسه "جزافًا" واعتباطًا‬
‫لّنه كان سيرّد عليه من كل حدب وصوب بالنكار‪ ،‬وهذا بنفسه دليل على أن هذا الموضوع كان‬
‫جلّيا في ذلك المحيط‪ ،‬بحيث لم يبق مجال للنكار حين نزول اليات ـ محل البحث ـ‬
‫ونقرأ في الية )‪ (89‬من سورة البقرة أيضًا‪) :‬وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما‬
‫‪).‬جاءهم ما عرفوا كفروا به‬
‫ي على صدق آيات القرآن وحقانية دعوته‬ ‫‪!...‬وكل هذا شاهد جل ّ‬
‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "الزبر" جمع‪ :‬زبور ومعناه الكتاب‪ ،‬وهو في الصل من مادة )زبر( على وزن )أسر( اي ‪1‬‬
‫‪...‬كتابة‬
‫]‪[462‬‬

‫اليات‬

‫سَلْكَنـُه ِفى‬‫ك َ‬‫ن)‪َ (199‬كَذِل َ‬ ‫عَلْيِهم ّما َكاُنوْا ِبِه ُمْؤِمني َ‬


‫ن)‪َ (198‬فَقَرَأُه‪َ ،‬‬ ‫جِمي َ‬ ‫عَ‬ ‫ض اَْل ْ‬
‫عَلى َبْع ِ‬‫َوَلوْ َنّزْلَنـُه َ‬
‫ب اَْلِليَم)‪َ (201‬فَيْأِتَيُهم َبْغَتًة َوُهْم َل‬ ‫حّتى َيَرُوْا اْلَعَذا َ‬
‫ن ِبِه َ‬‫ن )‪َ (200‬ل ُيْؤِمُنو َ‬ ‫جِرِمي َ‬
‫ب اُْلم ْ‬‫ُقُلو ِ‬
‫ن)‪203‬‬ ‫ظُرو َ‬
‫ن ُمن َ‬‫حُ‬
‫ن)‪َ (202‬فَيُقوُلوْا َهْل َن ْ‬ ‫شُعُرو َ‬ ‫)َي ْ‬

‫الّتفسير‬
‫‪...‬لو ُنّزل القرآن على العاجم‬
‫في هذه اليات يتكلم القرآن على واحدة من الذرائع الحتمالية من قبل الكفار وموقفه منها‪،‬‬
‫ويستكمل البحث السابق في نزول القرآن بلسان عربي مبين‪ ،‬فيقول‪) :‬ولو نزلناه على بعض‬
‫‪).‬العجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين‬
‫قلنا سابقًا أن كلمة "عربي" قد يراد منها من ينتمي إلى العرب‪ ،‬وقد تطلق على الكلم الفصيح‬
‫أيضًا‪ .‬و"عجمي" في مقابل العربي كذلك له معنيان‪ ،‬فقد ُيراد منه من ينتمي إلى غير العرب‪ ،‬وقد‬
‫يراد منه الكلم غير الفصيح‪ ،‬وكل المعنيين في الية النفة محتمل‪ ،‬إّل أن الحتمال الكثر هو أن‬
‫‪.‬المقصود غير العرب‪ ،‬كما يبدو‬
‫بعض العرب ممن يتمسك بالعرقية ويعبد القومية كانوا متعصبين الى درجة‬
‫]‪[463‬‬
‫ن القرآن نزل على عربي شريف من‬ ‫بحيث لو نزل القرآن على غير العرب لما آمن به ورغم أ ّ‬
‫أسرة كريمة‪ ،‬في بيان رائع رائق بليغ وقد بشرت به الكتب السماوية السابقة‪ ...‬وشهد بذلك‬
‫علماء بني إسرائيل‪ ،‬ومع ذلك كّله لم يؤمن به الكثير من العرب‪ ،‬فكيف إذا كان نبّيهم ليس فيه أية‬
‫‪!...‬صفة من الصفات المذكورة‬
‫‪).‬ثّم تضيف الية لمزيد التأكيد‪) :‬كذلك سلكناه في قلوب المجرمين‬
‫في بيان بليغ وبلسان رجل من بينهم‪ ،‬وهم يعرفونه ويعرفون سيرته وأخلقة‪ ...‬وبمحتوى بشرت‬
‫به الكتب السماوية السابقة‪ ...‬والخلصة‪ ...‬إننا نسلكه بجميع هذه الوصاف في قلوب المجرمين‬
‫ليكون مقبول سهل مطبوعًا إّل أن هذه القلوب المرضى تمتنع عن قبوله‪ ...‬فمثله كمثل الطعام‬
‫‪.‬الطيب النافع الذي تلفظه المعدة السقيمة‬
‫التعبير "سلكناه" من مادة )سلوك( ومعناه العبور من الطريق‪ ،‬فيرد فيه من طرف ويخرج من(‬
‫)آخر‬
‫ولذلك تقول الية‪) :‬ل يؤمنون به حتى يروا العذاب الليم( أي إن هؤلء المجرمين المعاندين‪،‬‬
‫‪...‬يظلون على حالهم حتى نزول العذاب‬
‫سرين في تفسير الية أن المراد من )كذلك سلكناه في قلوب المجرمين( هو أننا‬ ‫واحتمل بعض المف ّ‬
‫‪.‬أدخلنا العناد واللجاجة والعصبية وعدم التأثير في قلوب المجرمين‪ ،‬بسبب ذنوبهم وجرمهم‬
‫‪).‬وطبقًا لهذا المعنى فالية محل البحث تشبه الية )ختم ال على قلوبهم()‪1‬‬
‫سرين‪.‬‬‫إّل أن الّتفسير الّول أكثر انسجامًا مع اليات السابقة واللحقة‪ ،‬لذلك فقد اختاره أغلب المف ّ‬
‫))‪2‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة البقرة‪ ،‬الية ‪1 7‬‬
‫ـ في عدد من اليات المتقدمة وردت خمسة ضمائر مفردة في الجمل التالية‪" :‬نزلناه"‪" ،‬قرأه"‪2 ،‬‬
‫"ما كانوا به"‪" ،‬سلكناه"‪" ،‬ل يؤمنون به"‪ ،‬وهي تعود على القرآن طبقًا للتفسير الّول‪ ،‬وطبقًا‬
‫للتفسير الّثاني فإن بعضها يعود على القرآن‪ ،‬وبعضها على العناد من قبل المشركين‪ ،‬وهذا المر‬
‫!مع عدم وجود القرينة مشكل‬
‫]‪[464‬‬
‫)أجل‪ ،‬إّنهم ل يؤمنون حتى يروا العذاب )فيأتيهم بغتًة وهم ل يشعرون(‪1).‬‬
‫ل شك أن المراد من هذا العذاب الذي يأخذهم بغتًة‪ ،‬هو عذاب الدنيا والبلء المهلك وعقاب‬
‫‪!...‬الستئصال‬
‫ن القرآن يحكي عن حالهم فيقول‪ :‬إّنهم في هذه الحال يرجعون إلى أنفسهم‪ ،‬ويندمون على‬ ‫لذا فإ ّ‬
‫أفعالهم‪ ،‬ويتملكهم الخوف من المصير المرعب‪ ،‬ويودون بأن يعطوا فرصة لجبران ما فات‬
‫‪)...‬واليمان بالرسالة اللهية‪) :‬فيقولوا هل نحن منظرون‬
‫***‬

‫بحوث‬
‫‪!...‬ـ العصبية القومية والقبلية الشديدة ‪1‬‬
‫ل شك أن كل إنسان يرتبط بأرض أو قبيلة أو قومية فإّنه يعشقها‪ ،‬وهذه العلقة بالرض أو‬
‫القبيلة‪ ،‬ليست غير معيبة فحسب‪ ،‬بل هي عامل بّناء لبناء المجتمع‪ ،‬إّل أن لهذا المر حدودًا‪ ،‬فلو‬
‫‪.‬تجاوز الحدود فإنه سينقلب إلى عامل مخرب‪ ،‬ورّبما إلى عامل مفجع‬
‫والمراد من التعصب أو العصبية القومية أو القبلية المذمومة والسلبية‪ ،‬هو الفراط في التعصب‬
‫‪...‬أو العصبية‬
‫التعصب" و "العصبية" في الصل من مادة )عصب( ومعناه واضح‪ ،‬وهو الغضروف الذي يربط"‬
‫المفاصل‪ ،‬ثّم أطلق التعصب والعصبية على كل ارتباط‪ ...‬إّل أن هذا اللفظ أو هذين اللفظين‬
‫‪.‬يستعملن عادة في المفهوم الفراطي المذموم‬
‫إن الدفاع المفرط عن القوم أو القبيلة أو الرض والوطن‪ ،‬كان مصدرًا لكثير‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ ينبغي اللتفات إلى أن جملة "فيأتيهم" منصوبة ومعطوفة على "حتى يروا"‪ ،‬وينبغي بيان ‪1‬‬
‫‪.‬معناها بهذه العلقة‬
‫]‪[465‬‬
‫من الحروب على طول التاريخ‪ ،‬وعامل على انتقال الخرافات والتقاليد السيئة على أنها آداب‬
‫خر‬
‫!وسنن في قبيلة ما أو ُاّمة ما! إلى ُامم ُأ َ‬
‫هذا الدفاع أو النتماء المتطرف‪ ،‬قد يبلغ حدًا بحيث يرى أسوأ أفراد قبيلته في نظره جميل‪،‬‬
‫وأحسن أفراد القبيلة اُلخرى في نظره سيئًا‪ ...‬وكذلك الحال بالنسبة إلى السنن والداب السيئة‬
‫ن التعصب القومي يلقي ستارًا من الجهل والنانية على أفكار النسان‬ ‫والحسنة‪ ...‬وبتعبير آخر‪ :‬إ ّ‬
‫!وعقله‪ ،‬ويلغي التقييم الصحيح‬
‫هذه الحالة من العصبية كانت لها صورة أكثر حدة بين بعض اُلمم‪ ،‬ومنهم العرب المعروفون‬
‫‪.‬بالتعصب‬
‫‪.‬وقد قرأنا في اليات النفة أّنه لو أنزل ال القرآن على غير العرب لما كانوا به مؤمنين‬
‫خلق مذموم‪ ،‬حتى أّننا نقرأ حديثاً‬‫وقد ورد في الّروايات السلمية التحذير من التعصب‪ ،‬على أّنه ُ‬
‫عن رسول)صلى ال عليه وآله وسلم( يقول فيه‪" :‬من كان في قلبه حّبة من خردل من عصبية‪،‬‬
‫)بعثه ال يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"‪1).‬‬
‫ونقرأ حديثًا آخر عن المام الصادق)عليه السلم( يقول فيه‪" :‬من تعصب أو ُتعصب له فقد خلع‬
‫)ربقة اليمان من عنقه"‪2).‬‬
‫‪...‬ويستفاد من الّروايات السلمية أيضًا‪ ،‬أن إبليس أّول من تعصب‬
‫يقول المام علي)عليه السلم( في بعض خطبه ـ المعروفة بالقاصعة ـ في مجال التعصب كلمًا‬
‫‪:‬بليغًا مؤثرًا‪ ،‬ننقل جانبًا منه هنا‬
‫أّما إبليس فتعصب على آدم لصله‪ ،‬وطعن عليه في خلقته‪ ،‬فقال‪ :‬أنا ناري"‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪).‬ـ ُاصول الكافي‪ ،‬الجزء الّثاني )باب العصبية ص ‪1 32‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫]‪[466‬‬
‫)وأنت طيني(‪1).‬‬
‫ثّم يضيف المام علي في خطبته هذه قائل‪" :‬فإن كان ل بّد من العصبية‪ ،‬فليكن تعصبكم لمكارم‬
‫)الخصال‪ ،‬ومحامد الفعال‪ ،‬ومحاسن اُلمور"‪2).‬‬
‫ويّتضح من هذا الحديث ـ بجلء أن التعصب والدفاع المستميت عن بعض الحقائق واليجابيات‬
‫ليس غير مذمومًا فحسب‪ ،‬بل بامكانه أن يسّد فراغًا روحيًا قد ينشأ من ترك بعض العادات‬
‫‪.‬الجاهلية المقيتة‬
‫لذلك نقرأ عن المام زين العابدين علي بن الحسين)عليه السلم( حين سئل عن التعصب قوله‪:‬‬
‫"العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرًا من خيار قوم آخرين‪ ،‬وليس‬
‫)من العصبية أن يحب الرجل قومه‪ ،‬ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"‪3).‬‬
‫‪).‬والتعبير الخر عن العصبية الوارد في بعض الروايات أو اليات هو الحمية )حمية الجاهلية‬
‫‪:‬وبالرغم من أن الحاديث في هذا المجال كثيرة‪ ،‬إّل أننا نختم بحثنا بحديثين منها‬
‫ن ال يعذب ستًة بست ـ العرب بالعصبية‪ ،‬والدهاقنة‬ ‫يقول أمير المؤمنين علي)عليه السلم( "إ ّ‬
‫)بالكبر‪ ،‬والمراء بالجور‪ ،‬والفقهاء بالحسد‪ ،‬والتجار بالخيانة‪ ،‬وأهل الرستاق بالجهل(‪4).‬‬
‫ك والشرك والحمّية والغضب والبغي‬ ‫وكان رسول ال يتعوذ في كل يوم من ست "من الش ّ‬
‫)والحسد"‪5).‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ نهج البلغه‪ ،‬الخطبة القاصعة‪ ،‬رقمها ‪1 192‬‬
‫‪.‬ـ المصدر السابق ‪2‬‬
‫‪.‬ـ ُاصول الكافى‪ ،‬ج ‪ ،2‬باب العصبية‪ ،‬ص ‪3 233‬‬
‫‪.‬ـ البحار‪ ،‬ج ‪ ،73‬ص ‪4 289‬‬
‫‪.‬ـ المصدر نفسه ‪5‬‬
‫]‪[467‬‬
‫‪...‬ـ طلب الرجوع إلى الدنيا ‪2‬‬
‫من لحظة الموت تبدأ حسرات المجرمين وآهاتهم‪ ،‬وتشتعل في قلوبهم رغبة الرجوع إلى الدنيا‪،‬‬
‫‪...‬ويصرخون ويدعون ولت حين مناص‬
‫وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة في هذا الصدد‪ ،‬أكثرها بساطة هذه الية محل البحث )هل نحن‬
‫‪ُ).‬منظرون‬
‫‪).‬أّما في الية )‪ (27‬من سورة النعام فنقرأ‪) :‬يا ليتنا ُنرّد ول نكذب بآيات رّبنا‬
‫‪).‬أّما في الية )‪ (66‬سورة الحزاب فتقول منها‪) :‬يا ليتنا أطعنا ال وأطعنا الرسول‬
‫ونقرأ في اليتين ‪ 99‬ـ ‪ 100‬من سورة المؤمنون‪) :‬حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون‬
‫‪).‬لعلي أعمل صالحًا فيما تركت‬
‫وهذه الحالة تستمر حتى في صوره وقوف المجرمين على حافة النار‪ ،‬كما في الية ‪ 27‬من‬
‫سورة النعام‪ ،‬إذ تقول‪) :‬ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا ُنرّد ول نكّذب بآيات ربنا‬
‫‪)...‬ونكون من المؤمنين‬
‫إّل أن هذه العودة لن تتحقق‪ ،‬لّنها سنة ال سبحانه‪ ،‬ولن تجد لسنة ال تبديل‪ ،‬ولن تجد لسنة ال‬
‫تحويل‪ ،‬فلو قطعت ثمرة غير ناضجة من الشجرة ثّم عادت‪ ،‬ولو سقط الجنين من بطن ُاّمه قبل‬
‫‪...‬اكتماله‪ ،‬ثّم عاد الى الرحم‪ ...‬ل مكن أن يعود هؤلء‬
‫فبناًء على ذلك فإن الطريق الوحيد المعقول‪ ،‬هو التوّقي من حسرة ما بعد الموت بالتوبة من‬
‫‪!...‬الذنب‪ ،‬والعمال الصالحة‪ ،‬ما دامت الفرصة سانحة وإّل فل ينفع الندم بعد فوات الوان‬

‫‪:‬ـ فضل العجم ‪3‬‬


‫جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن اِلمام الصادق ذيل اليات محل البحث‬
‫]‪[468‬‬
‫أنه قال‪" :‬لو نزل القرآن على العجم ما آمنت به العرب‪ ...‬وقد نزل على العرب فآمنت به العجم‪،‬‬
‫)فهذه فضيلة العجم"‪1).‬‬
‫‪".‬وفي هذا الصدد كانت لنا إشارات ذيل الية ‪ 54‬من سورة المائدة"‬

‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫رابع من تفسير نور الثقلين‪ ،‬ص ‪1 165‬‬ ‫‪.‬ـ الجزء ال ّ‬
‫]‪[469‬‬

‫اليات‬

‫ن)‪(206‬‬ ‫عُدو َ‬ ‫جآَءُهم ّما َكاُنوْا ُيو َ‬ ‫ن)‪ُ (205‬ثّم َ‬ ‫سِني َ‬‫ت ِإن ّمّتْعَنـُهْم ِ‬
‫ن)‪َ (204‬أَفَرَءْي ُ‬ ‫جُلو َ‬
‫سَتْع ِ‬
‫َأَفِبَعَذاِبَنا َي ْ‬
‫ن)‪ِ (208‬ذْكَرى َوَما ُكّنا‬ ‫ن)‪َ (207‬وَمآ َأْهَلْكَنا ِمن َقْرَية ِإّل َلَها ُمنِذُرو َ‬ ‫عْنُهم ّما َكاُنوْا ُيَمّتُعو َ‬‫غَنى َ‬ ‫َمآ َأ ْ‬
‫عِ‬
‫ن‬ ‫ن)‪ِ (211‬إّنُهْم َ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫سَت ِ‬
‫ن)‪َ (210‬وَما َينَبِغى َلُهْم َوَما َي ْ‬ ‫طي ُ‬
‫شيـ ِ‬
‫ت ِبِه ال ّ‬‫ن)‪َ (209‬وَما َتَنّزَل ْ‬ ‫ظـلِِمي َ‬ ‫َ‬
‫ن)‪212‬‬ ‫سْمِع َلَمْعُزوُلو َ‬ ‫)ال ّ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬تهمة ُاخرى للقرآن‬
‫حيث أن اليات المتقدمة ختمت بجملة )هل نحن منظرون( التي يقوُلها المجرمون عندما يأتيهم‬
‫العذاب بغتة وهم عل أبواب الهلك‪ ،‬طالبين اِلمهال والرجوع للتعويض عما فاتهم من العمال‪.‬‬
‫‪:‬فاليات محل البحث ترّد عليهم عن طريقين‬
‫‪).‬الّول قوله تعالى‪) :‬أفبعذابنا يستعجلون‬
‫إشارة إلى أّنه طالما استهزأتم أّيها المجرمون‪ ،‬وسخرتم من أنبيائكم‪ ،‬وطلبتم منهم نزول العذاب‬
‫بسرعة‪ ...‬لكن حين أصبحتم في قبضة العذاب تطلبون المهال‬
‫]‪[470‬‬
‫لتعوضوا عّما فات من العمال‪ ،‬وكنتم ترون المر لهوًا ولعباً في يوم‪ ،‬لكن في اليوم الخر‬
‫وجدتموه جدّيا ـ‬
‫جة البالغة‪ ...‬لكن اذا تّمت الحجة‪،‬‬ ‫ن سنة ال أن ل يعذب قومًا حتى ُيتّم عليهم الح ّ‬‫وعلى كل حال فإ ّ‬
‫وفسح لهم المجال‪ ،‬ولم يثوبوا الى رشدهم أنزل عذابه فل ينفع البتهال‪ ،‬والرجوع نحو ساحة‬
‫‪.‬ذي الجلل‬
‫‪).‬والخر أّنه )أفرأيت إن مّتعناهم سنين ثّم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كان يمّتعون‬
‫فعلى فرض أّنهم ُأمهلوا ثانية )ولن ُيمهلوا بعد إتمام الحجة عليهم( وعلى فرض أن ُيعّمروا سنين‬
‫طوال في هذه الدنيا ويغرقوا في بحر الغفلة والغرور‪ ،‬ال يكون عملهم التمتع والتلذذ بالمواهب‬
‫ل أبدًا‪ ..‬فمن المسّلم أّنهم ل يعوضون عّما فاتهم‪.‬‬ ‫المادّية فحسب‪ .‬وهل يعوضون عما فاتهم؟! ك ّ‬
‫وهل تغني المواهب المادية عنهم شيئًا عند نزول العذاب؟ وهل تحّل مشكلتهم أو تحدث تغييرًا في‬
‫!عاقبتهم؟‬
‫كما َيِرُد هذا الحتمال في تفسير اليات النفة‪ ،‬وهو أّنهم ل يطلبون المهال للرجوع نحو الحق‬
‫والتعويض عما فات‪ ،‬بل يطلبون المهال لمزيد التمتع من النعم الزائلة في هذه الدنيا‪ ،‬إّل أن هذا‬
‫التمتع ل يغني عنهم شيئًا‪ ،‬ول بد أن يرحلوا ـ إن عاجل وإن آجل ـ من هذه الدار الفانية إلى تلك‬
‫‪...‬الدار الباقية‪ ،‬وأن يواجهوا أعمالهم هناك‬
‫وهنا يثار سؤاٌل ـ وهو أّنه مع اللتفات إلى أن ال بمستقبل كل قوم وجماعة‪ ،‬فما الحاجة إلى‬
‫المهال؟‬
‫ثّم أن اُلمم السالفة كذبت أنبياءها واحدًا بعد الخر‪ ،‬وبمقتضى قوله تعالى‪) :‬وما كان أكثرهم‬
‫مؤمنين( الوارد في نهاية تلك القصص إن أكثرهم لم يؤمنوا‪ ،‬فعلم يأتي النبياء منذرين‬
‫!ومبشرين؟‬
‫فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأن ذلك سنة ال )وما أهلكنا من قرية إّل‬
‫]‪[471‬‬
‫جة وتقديم النصح والموعظة ليتذكروا ويستيقظوا من‬ ‫لها منذرون( فنرسل النبياء لهم لتمام الح ّ‬
‫)غفلتهم )ذكرى(‪1).‬‬
‫ولو كنا نأخذهم بدون إتمام الحجة‪ ،‬وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين ـ من ِقَبِل ال ـ لكان ظلمًا‬
‫‪).‬مّنا )وما كّنا ظالمين‬
‫جة عليهم‬ ‫‪...‬فمن الظلم أن ُنهلك غير الظالمين‪ ،‬أو نهلك الظالمين دون إتمام الح ّ‬
‫وما ورد في هذه اليات هو في الحقيقة بيان للقاعدة العقلية المعروفة بـ "قاعدة قبح العقاب بل‬
‫بيان" وشبيه لهذه الية ما جاء في الية )‪ (15‬من سورة السراء‪) :‬وما كنا معّذبين حتى نبعث‬
‫‪).‬رسول‬
‫ن العقاب بدون البيان الكافي قبيح‪ ،‬كما أنه ظلم‪ ،‬وال العادل الحكيم محال أن يفعل ذلك‬ ‫أجل‪ ..‬إ ّ‬
‫أبدًا‪ ،‬وهذا ما يعبر عنه في علم الصول بـ )أصل البراءة( ومعناه أن كل حكم لم يقم عليه الدليل‪،‬‬
‫‪"..‬فإّنه ُينفى بواسطة هذا الصل "لمزيد التوضيح يراجع تفسير الية ‪ 57‬من سورة السراء‬
‫ثّم يرد القرآن على إحدى الذرائع أو الُتهم الباطلة من ِقَبِل اعداء القرآن وهي أن الّنبي مرتبط‬
‫ببعض الجن‪ ،‬وهو يعلمه هذه اليات‪ ،‬والحال أن القرآن يؤّكد أن هذه اليات هي من "تنزيل ر ّ‬
‫ب‬
‫‪".‬العالمين‬
‫‪).‬فيضيف هنا قائل‪) :‬وما تنزلت به الشياطين‬
‫‪).‬ثّم يبّين جواب هذه التهمة الواهية التي اختلقها العداء فيقول‪) :‬وما ينبغي لهم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ول‪ :‬أنه مفعول لجله والعامل ‪1‬‬‫ـ للمفسرين في محل )ذكرى( من العراب أربعة إحتمالت ‪ ...‬ال ّ‬
‫‪".‬منذرون" والّتفسير المذكور آنفًا في المتن هو على هذا الساس‬
‫ن معناهما واحد أو هما متقاربان في المعنى‬‫‪.‬الّثاني‪ :‬أّنه مفعول مطلق لكلمة "منذرون" ل ّ‬
‫‪.‬الّثالث‪ :‬أّنه حال من الضمير في منذرون‬
‫‪).‬الّرابع‪ :‬أّنها خبر لمبتداء محذوف تقديره )هذه ذكرى‬
‫]‪[472‬‬
‫أي أن محتوى هذا الكتاب العظيم الذي يدعو الى الحق والطهارة والعدل والتقوى‪ ،‬ونفي كل أنواع‬
‫الشرك‪ ،‬يدّل دللة واضحة على أّنه ل شباهة له بأفكار الشياطين وما يلقونه‪ .‬فالشياطين ل يصدر‬
‫‪.‬منهم إّل الشر والفساد‪ ،‬وهذا كتاب خير وصلح‪ ،‬فالدّقة في محتواه تكشف عن أصالته‬
‫‪).‬ثّم إن الشياطين ليست لهم القدرة على ذلك )وما يستطيعون‬
‫فإذا كانت لهم القدرة فينبغي على سائر من كان في محيط نزول القرآن كالكهنة المرتبطين‬
‫بالشياطين )أو على القل كان المشركون ُيّدعون بأّنهم مرتبطون بالشياطين( أن يأتوا بمثل هذا‬
‫القرآن‪ ،‬مع أّنهم عجزوا عن التيان بمثله‪ ،‬وهذا العجز أثبت أن القرآن فوق قدرتهم ومستوى‬
‫‪!...‬بلغتهم وأفكارهم‬
‫ومضافًا إلى كل ذلك‪ ،‬فإن الكهنة أنفسهم كانوا يعترفون أّنهم بعد ولدة الّنبي)صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم( انقطعت علقتهم بالشياطين الذين كانوا يأتونهم بأخبار السماء و )إنهم عن السمع‬
‫‪).‬لمعزُولون‬
‫ويستفاد من سائر آيات القرآن أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع من‬
‫ي السلم)صلى‬ ‫الملئكة‪ ،‬فينقلون ما يدور بين الملئكة من مطالب إلى أوليائهم‪ ،‬إّل أّنه بظهور نب ّ‬
‫ال عليه وآله وسلم( وولدته انقطع استراق السمع تمامًا‪ ،‬وزال الرتباط الخبري بين الشياطين‬
‫‪...‬وأوليائهم‬
‫وهذا المر كان يعلم به المشركون أنفسهم‪ ،‬وعلى فرض أن المشركين كانوا ل يعلمون‪ ،‬فإن‬
‫)القرآن أخبرهم بذلك‪1).‬‬
‫‪...‬ولذا فقد جعله القرآن دليل في اليات النفة لدحض ما يتقوله العداء‬
‫‪:‬وهكذا فقد أجاب القرآن على هذا اِلتهام من ثلثة طرق‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ول من سيرة ابن هشام‪1 ،‬‬ ‫ـ لمزيد اليضاح في منع الشياطين عن استراق السمع يراجع الجزء ال ّ‬
‫‪.‬ص ‪ 217‬فما بعد‬
‫]‪[473‬‬
‫‪.‬ـ عدم التناسب بين محتوى القرآن وإلقاء الشياطين ‪1‬‬
‫‪.‬ـ عدم قدرة الشياطين على ذلك ‪2‬‬
‫‪.‬ـ منع الشياطين من إستراق السمع ‪3‬‬

‫***‬
‫]‪[474‬‬

‫اليات‬

‫خِفضْ‬ ‫ن)‪َ (214‬وا ْ‬‫ك اَْلْقَرِبي َ‬


‫شيَرَت َ‬
‫ع ِ‬
‫ن)‪َ (213‬وَأنِذْر َ‬ ‫ن اْلُمَعّذِبي َ‬
‫ن ِم َ‬
‫خَر َفَتُكو َ‬
‫ل ِإَلـًها َءا َ‬
‫ع َمَع ا ِّ‬‫ل َتْد ُ‬
‫َف َ‬
‫ن )‪َ(216‬وَتَوّكْل‬
‫ك َفُقْل ِإّنى َبِرىٌء ّمّما َتْعَمُلو َ‬
‫صْو َ‬
‫ع َ‬‫ن َ‬ ‫ن)‪َ (215‬فِإ ْ‬ ‫ن اْلمْؤِمِني َ‬‫ك ِم َ‬
‫ن اّتَبَع َ‬
‫ك ِلَم ِ‬
‫حَ‬ ‫جَنا َ‬
‫َ‬
‫ن)‪ِ (219‬إّنُه هَُو‬
‫جِدي َ‬
‫سـ ِ‬
‫ك ِفى ال ّ‬
‫ن َتُقوُم )‪َ(218‬وَتَقّلبَ َ‬
‫حي َ‬
‫ك ِ‬
‫حيِم)‪ (217‬اّلِذى َيَرا َ‬
‫عَلى اْلَعِزيِز الّر ِ‬
‫َ‬
‫سِميُع اْلَعِليُم)‪220‬‬ ‫)ال ّ‬

‫الّتفسير‬
‫‪...‬وأنذر عشيرتك القربين‬
‫تعقيبًا على البحاث الواردة في اليات السابقة في شأن مواقف المشركين من السلم والقرآن‪...‬‬
‫طته في خمسة أوامر‪ ،‬في مواجهة‬ ‫فإن ال سبحانه يبّين لنبّيه ـ في اليات محل البحث ـ منهجه وخ ّ‬
‫‪...‬المشركين‬
‫وقبل كل شيء فإن ال يدعو الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( إلى العتقاد التام بالتوحيد;‬
‫التوحيد الذي هو أساس دعوات النبياء جميعًا‪ ...‬يقول سبحانه‪) :‬فل تدع مع ال إلهًا آخر فتكون‬
‫‪)...‬من المعذبين‬
‫ي)صلى ال عليه وآله وسلم( كان من المقطوع به أّنه ينادي إلى التوحيد ول يمكن أن‬ ‫ن النب ّ‬
‫ومع أ ّ‬
‫]‪[475‬‬
‫ن أهمية هذه المسألة كانت بحيث أن يكون شخص‬ ‫ُيتصور انحرافه عن هذا الصل‪ ...‬إّل أ ّ‬
‫الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ـ قبل كل شيء ـ مخاطبًا بها‪ .‬ليعرف الخرون موقفهم‪ ...‬ثّم إن‬
‫‪...‬بناء الخرين يبدأ من بناء شخصية النسان نفسِه‬
‫ثّم يأمره ال في مرحلة ُاخرى أن ينطلق إلى مدى أرحب في دعوته قائل‪) :‬وأنذر عشيرتك‬
‫)القربين(‪1).‬‬
‫ك أّنه للوصول إلى منهج تغييري ثوري واسع‪ ،‬لبّد من البتداء من الحلقات الدنى‬ ‫ول ش ّ‬
‫والصغر‪ ،‬فما أحسن أن يبدأ الّنبي دعوته من أقربائه وأرحامه‪ ،‬لّنهم يعرفون سوابقه النزيهة‬
‫أكثر من سواهم كما أن علئق القربى والموّدة تستدعي الصغاء إلى كلمه أكثر من غيرهم‪ ،‬وأن‬
‫ث الحسُد والحقُد والمخاصمة‬ ‫!يكونوا أبعد من سواهم من حي ُ‬
‫ن هذا المر يدّل على أن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ليس لديه أية مداهنة‬ ‫إضافة إلى ذلك فإ ّ‬
‫‪!...‬ول مساومة مع أحد‪ ،‬ليستثني أقرباءه المشركين عن دعوته إلى التوحيد والحق والعدل‬
‫وعندما نزلت هذه الية‪ ،‬قام الّنبي بما ينبغي عليه من أجل تنفيذ هذا المر اللهي‪ ،‬وسيأتي تفصيل‬
‫‪...‬ذلك كله في حقل البحوث بإذن ال‬
‫ن ال يوصي الّنبي في دائرة أوسع فيقول‪ :‬عليك أن تعامل اتباعك باللطف‬ ‫أّما المرحلة الّثالثة‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪).‬والمحبة‪) :‬واخفض جناحك لمن اّتبعك من المؤمنين‬
‫وهذا التعبير الجميل الرائع كناية عن التواضع المشفوع بالمحبة واللطف‪ ،‬كما أن الطيور تخفض‬
‫أجنحتها لفراخها محّبة منها لها‪ ،‬وتجعلها تحت أجنحتها لتكون مصانًة من الحوادث المحتملة‪،‬‬
‫ولتحفظها من التشتت والتفّرق! فكذلك المر بالنسبة للّنبي إذ ُأمَر أن يخفض جناحه للمؤمنين‬
‫‪.‬الصادقين‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ العشيرة مشتّقة من "العشرة" العدد المعروف ]‪ [10‬وحيث أن العشرة تعتبر في نفسها عددًا ‪1‬‬
‫كامل‪ ،‬فقد سمي أقرباء الرجل الذين يكمل بهم عشيرة‪ ،‬ولعل المعاشرة مأخوذة من هذا المعنى‪،‬‬
‫‪.‬لّنها تجعل الناس بصورة مجموعة كاملة‬
‫]‪[476‬‬
‫وهذا التعبير الرائع ذو المعنى الغزير يبّين دقائق مختلفة في شأن محبة المؤمنين‪ ،‬ويمكن إدراكها‬
‫‪!...‬بأدنى التفاتة‬
‫وذكر هذه الجملة ـ ضمنًا ـ بعد مسألة النذار يكشف عن هذه الحقيقة‪ ،‬وهي إذا كان التعويل على‬
‫الخشونة في بعض الموارد بمقتضى الضرورات التربوية‪ ،‬فإّنه وبل فاصلة يأتي التعويل على‬
‫‪...‬المحّبة والعاطفة ليتوفر منهما نمط مناسب‬
‫ثّم تأتي المرحلة الّرابعة وهي أن العداء لم يقبلو دعوتك وعصوا أوامرك‪ .‬فل تبتئس ول تحزن‪:‬‬
‫!)فإن عصوك فقل إّني بريء مّما تعملون(‪ ...‬ليعرفوا موقفك منهم‬
‫ن الضمير في عصوك ـ يعود على عشيرة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( القربين‪...‬‬ ‫والظاهر أ ّ‬
‫ي إذا لم يذعنوا بعد دعوتك إياهم للحق‪ ،‬وواصلوا شركهم وعنادهم‪ ،‬فعليك أن تبّين موقفك منهم‪،‬‬ ‫أ ْ‬
‫وهذا التوقع الذي احتمله القرآن حدث فعل‪ ،‬كما سنذكر ذلك في البحوث القادمة‪ ،‬إذ امتنع الجميع‬
‫عن قبول دعوة الّنبي ما عدا عليًا)عليه السلم(‪ ...‬فبعضهم لذ بالصمت‪ ،‬وبعضهم أبدى مخالفته‬
‫‪...‬عن طريق الستهزاء والسخرية‬
‫‪).‬وأخيرًا فالمر اللهي الخامس للّنبي لكمال مناهجه السابقة‪ ،‬هو‪) :‬وتوّكل على العزيز الرحيم‬
‫فل تدع لعنادهم مجال للتأثير على عزيمتك‪ ...‬ول لقّلة العوان والنصار طريقًا لتوهين ارادتك‪،‬‬
‫‪...‬فلست وحدك‪ ...‬وسندك وملذك هو ال القادر العزيز الذي ل يقهر‪ ،‬والرحيم الذي لحّد لرحمته‬
‫‪!...‬ال الذي سمعت وصفه في ختام قصص النبياء بالعزيز الرحيم‬
‫ال الذي بقدرته أحبط ظلم فرعون وغرور نمرود‪ ،‬وتمّرد قوم نوح‪ ،‬وأنانية قوم هود‪ ،‬واتباع‬
‫‪.‬الشهوات لقوم لوط‪ .‬وكذلك انقذ أنبياءه ورسله الذين كانوا قّلة‪ ،‬وشملهم برحمته الواسعة‬
‫‪).‬ذلك ال )الذي يراك حين تقوم وتقّلبك في الساجدين‬
‫]‪[477‬‬
‫‪)...‬أجل )إنه هو السميع العليم‬
‫وهكذا تذكر اليات ثلث صفات ل بعد وصفه بالعزيز الرحيم وكّل منها يمنح المل ويشّد من عزم‬
‫الّنبي على مواصلة طريقِة‪ ،‬إذ أن ال يرى جهوده وأتعابه وحركاته وسكناتِه‪ ،‬وقيامه وسجوده‬
‫‪!...‬وركعاته‬
‫‪.‬ذلك ال الذي يسمع صوته‬
‫‪...‬ال الذي يعلم حاجاته وطلباته حاجته‬
‫‪.‬أجل‪ ،‬فعلى هذا الله توكل‪ ،‬وأركن إليه أبدًا‬
‫***‬

‫بحثان‬
‫‪).‬ـ تفسير )وتقلبك في الساجدين ‪1‬‬
‫سرين أقوال مختلفة في معنى قوله تعالى‪) :‬الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين‬ ‫‪).‬بين المف ّ‬
‫‪.‬وظاهر الية هو ما ذكرناه آنفًا‪ ،‬أن ال يرى قيامك وانتقالك وحركتك بين الساجدين‬
‫وهذا القيام يمكن أن يكون قيامًا للصلة‪ ،‬أو القيام للعبادة من النوم‪ ،‬أو القيام للصلة فرادى‪ ،‬وفي‬
‫‪.‬مقام تقلبك في الساجدين‪ ...‬الذي يشير إلى صلة الجماعة‬
‫التقلب" معناه الحركة والنتقال من حال إلى حال‪ ،‬وهذا التعبير لعله إشارة إلى سجود النبيّ بين"‬
‫الساجدين في أثناء الصلة‪ ،‬أو إلى حركة الّنبي وتنقله بين أصحابه وهم مشغولون بالعبادة‪ ،‬وكان‬
‫‪...‬يتابع أحوالهم ويسأل عنهم‬
‫ن هذا التعبير إشارة إلى أن ال سبحانه ل يخفى عليه شيٌء من حالتك وسعيك‪،‬‬ ‫وفي المجموع فإ ّ‬
‫سواًء كانت شخصّية فردية‪ ،‬أم كانت مع المؤمنين في صورة جماعية‪ ،‬لتدبير ُامور العباد ولنشر‬
‫مبدأ الحق مع اللتفات الى َان الفعال الواردة‬
‫]‪[478‬‬
‫‪".‬في الية مضارعة وفيها معنى الحال والستقبال‬
‫وهنا تفسيران آخران ذكرا في معنى الية‪ ،‬إّل أّنهما ل ينسجمان مع ظاهرها‪ ،‬ولعلهما من بطون‬
‫‪:‬الية‬
‫ن المراد من الية رؤية الّنبي ونظره إلى المصلين والساجدين خلفه‪ ،‬لّنه كما يرى من‬ ‫الّول‪ :‬أ ّ‬
‫أمامه يرى من خلفه كما ورد في الحديث‪" :‬ل ترفعوا قبلي ول تضعوا قبلي‪ ،‬فإّني أراكم من خلفي‬
‫‪.‬كما أراكم من أمامي")‪ (1‬ثّم تل الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( الية آنفة الذكر‬
‫ن انتقال في أصلب النبّيين من لدن آدم حتى أبيه عبد ال‪ ،‬كّله تحت نظر‬ ‫ن المراد منه أ ّ‬ ‫الّثاني‪ :‬أ ّ‬
‫ي موحد ساجد إلى ساجد آخر فإن ال عليم‬ ‫ال سبحانه‪ ،‬أي حين تنتقل نطفتك المباركة من نب ّ‬
‫‪...‬بذلك‬
‫وقد جاء في تفسير علي بن ابراهيم عن المام الباقر)عليه السلم( في تفسير )وتقلبك في‬
‫الساجدين( ما يشير إلى هذا المعنى‪ ،‬قال)عليه السلم(‪" :‬في أصلب النبيين صلوات ال عليهم"‪).‬‬
‫)‪2‬‬
‫وفي تفسير مجمع البيان في توضيح هذه الجملة جاء عن اِلمامين الباقر والصادق)عليهما‬
‫ي‪ ،‬حتى أخرجه من صلب أبيه‪ ،‬عن نكاح غير‬ ‫ي بعد نب ّ‬
‫السلم( ما يلي‪" :‬في أصلب النبيين نب ّ‬
‫)سفاح من لدن آدم"‪3).‬‬
‫وبالطبع فإّنه بقطع النظر عن اليات آنفة الذكر وتفسيراتها‪ ،‬فإن الدلئل المتوفرة تدّل على أن‬
‫والد الّنبي وأجداده لم يكونوا مشركين أبدًا‪ ،‬وولدوا في محيط منّزه عن الشرك والدنس "لمزيد‬
‫‪...‬اليضاح يراجع تفسير الية‪ 74 ،‬من سورة النعام" إّل أن التفاسير النفة هي من بطون الية‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان ذيل الية محل البحث ‪1‬‬
‫‪.‬ـ تفسير نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪2 69‬‬
‫‪.‬ـ مجمع البيان ذيل اليات محل البحث ‪3‬‬
‫]‪[479‬‬
‫"ـ إنذار القربين "حديث يوم الدار ‪2‬‬
‫وفقًا لما ورد في التواريخ السلمية‪ُ ،‬أمر الّنبي في السنة الّثالثة بدعوته القربين من عشيرته‪،‬‬
‫ن دعوته حتى ذلك الحين كانت مخفية "سرّية"‪ ،‬وكان الذين دخلوا في اِلسلم عددًا قليل‪ ،‬لذلك‬ ‫لّ‬
‫حين نزلت الية‪) :‬وأنذر عشيرتك القربين( والية )فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين()‬
‫‪ (1).‬أمر الّنبي أن يجعل دعوته علنية‪ ،‬وبدأ ذلك بدعوة أهله وأقربائه)‪2‬‬
‫ي "عشيرته" إلى بيت عّمه أبي طالب‪،‬‬ ‫وأّما كيفية إبلغه وإنذاره إّياهم‪ ،‬فهو بإجمال أّنه دعا النب ّ‬
‫وكانوا في ذلك اليوم حوالي أربعين رجل‪ ،‬وكان ممن حضر هذه الدعوة بعض أعمام الّنبي)صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم( كأبي طالب والحمزة وأبو لهب والعباس‪ ،‬وبعد أن تناولوا الطعام‪ ،‬وأراد‬
‫الّنبي أن يؤدي ما عليه‪ ،‬تكلم أبولهب كلمات أحبط بها خطة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬لذا‬
‫‪.‬فقد دعاهم الّنبي في اليوم التالي أيضًا‬
‫وبعد أن تناولوا الطعام‪ ،‬قال)صلى ال عليه وآله وسلم(‪" :‬يا بني عبد المطلب‪ ،‬إّني وال ما أعلم‬
‫شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مّما جئتكم بخير الدنيا والخرة‪ ...‬وقد أمرني ال أن أدعوكم إليه‬
‫فأيكم يؤازرني على أمري هذا‪ ،‬على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟" فأحجم القوم عنها‬
‫ي ال‪ ،‬أنا أكون وزيرك عليه"‪ ،‬فأخذ رسول ال‬ ‫غير علي‪ ،‬وكان أصغرهم )سنًا(‪ ،‬فقال‪" :‬يا نب ّ‬
‫ي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا" فقام القوم يضحكون‪،‬‬ ‫ن هذا وصي ّ‬‫برقبته‪ ،‬وقال‪" :‬إ ّ‬
‫)ويقولون لبي طالب‪ :‬قد أمرك أن تسمع لبنك وتطيع‪3).‬‬
‫وقد نقل هذا الحديث كثير من أهل السنة كابن جرير الطبري‪ ،‬وابن أبي حاتم‪ ،‬وابن مردويه‪ ،‬وأبو‬
‫نعيم‪ ،‬والبيهقي‪ ،‬والثعلبي‪ ،‬كما نقله "ابن الثير" في‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ سورة الحج‪ ،‬الية ‪1 94‬‬
‫‪.‬ـ راجع سيرة ابن هشام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪2 280‬‬
‫‪.‬ـ المراجعات‪ ،‬ص ‪3 130‬‬
‫]‪[480‬‬
‫)الجزء الّثاني من كتابه "الكامل"‪ ،‬وأبو الفداء في الجزء الّول من تأريخه‪ ،‬وجماعة آخرون‪1).‬‬
‫وهذا الحديث يوضع لنا كيف كان الّنبي وحيدًا حينذاك‪ ،‬وكيف رّدوا عليه دعوته بالسخرية‬
‫‪...‬والستهزاء‪ ،‬وكيف وقف علي)عليه السلم( إلى جانب الّنبي في وحدته ناصرًا ومعينًا‬
‫وفي حديث آخر أن الّنبي دعا قريشًا واحدًا واحدًا وحذرهم من النار فقال‪" :‬يا بني كعب أنقذوا‬
‫‪".‬أنفسكم من النار‬

‫وكان يدعو أحيانًا بهذا الخطاب بني عبد شمس‪ ،‬وبني عبد مناف‪ ،‬وبني عبد المطلب‪ ،‬وبني هاشم‬
‫‪.‬فيقول‪" :‬انقذوا أنفسكم من النار"‪ (2).‬فلست قادرًا على الدفاع عنكم في حال كفركم‬

‫***‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ لمزيد اليضاح يراجع كتاب المراجعات‪ ،‬ص ‪ 130‬فما بعد وكتاب إحقاق الحق‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪1‬‬
‫‪62.‬‬
‫‪.‬ـ تفسير القرطبي‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪ 4859‬ذيل اليات محل البحث مع شيء من الختصار ‪2‬‬
‫]‪[481‬‬

‫اليات‬

‫سْمَع َوَأْكَثُرُهْم‬
‫ن ال ّ‬‫عَلى ُكّل َأّفاك َأِثيم)‪ُ (222‬يْلُقو َ‬ ‫ن)‪َ (221‬تَنّزُل َ‬ ‫طي ُ‬‫شَيـ ِ‬
‫عَلى َمن َتَنّزُل ال َ‬ ‫َهْل ُأَنّبُئُكْم َ‬
‫ن)‪َ (225‬وَأّنُهْم‬ ‫ن)‪َ (224‬أَلْم َتَر َأّنُهْم ِفى ُكّل َواد َيِهيُمو َ‬ ‫شَعَرآُء َيّتِبُعُهُم اْلَغاُو َ‬‫ن)‪َ (223‬وال ّ‬ ‫َكـِذبُو َ‬
‫صُروْا ِمن‬ ‫ل َكِثيرًا َوانَت َ‬
‫حـتِ َو َذَكُروْا ا َّ‬
‫صـِل َ‬
‫عِمُلوْا ال ّ‬ ‫ن َءاَمُنوْا َو َ‬‫ن)‪ِ (226‬إّل اّلِذي َ‬ ‫ن َما َلَيْفَعُلو َ‬‫َيُقوُلو َ‬
‫ن)‪227‬‬ ‫ى ُمنَقَلب َينَقِلُبو َ‬ ‫ظَلُموْا َأ ّ‬
‫ن َ‬ ‫سَيْعَلُم اّلِذي َ‬
‫ظِلُموْا َو َ‬ ‫)َبْعِد َما ُ‬

‫الّتفسير‬
‫‪:‬الّنبي ليس شاعرًا‬
‫هذه اليات ـ محل البحث ـ هي آخر اليات من سورة الشعراء‪ ،‬تعود ثانية لترّد على التهام‬
‫السابق ـ من قبل العداء ـ بأن القرآن من إلقاء الشياطين‪ ،‬تردهم ببيان أخاذ بليغ مفحم‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫)هل أنبئكم على من تنّزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم( أي الكاذب المذنب‪ ،‬حيث يلقون اليهم‬
‫مايسمعونه مع اضافة‬
‫]‪[482‬‬
‫)أكاذيب كثيرة عليه )يلقون السمع وأكثرهم كاذبون(‪1).‬‬
‫وملخص الكلم أن ما تلقيه الشياطين له علئم واضحة‪ ،‬ويمكن معرفته بعلئمه أيضًا‪ .‬فالشيطان‬
‫موجود مؤذ ومخرب‪ ،‬وما يلقيه يجري في مسير الفساد والتخريب‪ ،‬وأتباعه هم الكذابون‬
‫المجرمون‪ ،‬وليس شيء من هذه اُلمور ينطبق على القرآن‪ ،‬ول على مبّلغه‪ ،‬وليس فيها أي شبه‬
‫‪.‬بهما‬
‫والناس في ذلك العصر ـ وذلك المحيط ـ كانوا يعرفون الّنبي محّمدا)صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم(وُاسلوبه وطريقته‪ ،‬في صدقه وأمانته وصلحه في جميع المجالت‪ ...‬ومحتوى القرآن ليس‬
‫!فيه سوى العدل والحق والصلح‪ ،‬فكيف يمكن أن تتهموه بأّنه من إلقاء الشياطين؟‬
‫والمراد من )الفاك الثيم( هو الكاهن المرتبط بالشياطين فتارًة يقوم الشياطين باستراق السمع‬
‫لحاديث الملئكة‪ ،‬ثّم بعد مزجه بأباطيل كثيرة ينقلونه الى الكهنة‪ .‬وهم بدورهم يضيفون عليه‬
‫‪...‬عشرات الكاذيب وينقلونها إلى الناس‬
‫صة‪ ،‬ومنع الشياطين من الصعود إلى السماء واستراق السمع‪ .‬كان ما يلقيه‬ ‫وبعد نزول الوحي خا ّ‬
‫‪...‬الشياطين إلى الكهنة خفَنًة من الكاذيب والراجيف‬
‫فمع هذه الحال كيف يمكن أن يقاس محتوى القرآن بما تلقيه الشياطين‪ ...‬وأن يقاس الّنبي‬
‫‪!...‬الصادق المين بحفنة من الكهنة الفاكين الكاذبين‬
‫‪):‬وهناك تفاسير مختلفة لجملة )يلقون السمع‬
‫فمنها‪ :‬أن الضمير في )يلقون( عائد على الشياطين و "السمع" المراد منه المسموعات‪ ،‬أي أن‬
‫الشياطين يلقون مسموعاتهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون "ويضيفون على ما يلقيه الشياطين‬
‫‪!"...‬أكاذيب كثيرة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "أّفاك" من‪" :‬الفك"‪ .‬والفك هو الكذب الكبير‪ .‬فمعنى الفلك من يكذب كثيرًا أكاذيب كبيرة‪1 ...‬‬
‫و "أثيم" من مادة "إثم" على وزن )إسم( ومعناه في الصل‪ :‬العمل الذي يؤخر صاحبه عن‬
‫‪...‬الثواب‪ ،‬ويطلق عادة على الذنب‪ ،‬فالثيم هو المذنب‬
‫]‪[483‬‬
‫ومنها‪ :‬إن الضمير في الفعل يعود على الفاكين‪ ،‬إذ أّنهم كانوا يلقون ـ ما يسمعون من الشياطين ـ‬
‫!)إلى عاّمة الناس‪ ،‬إّل أن الّتفسير الّول أصح ظاهرًا)‪1‬‬
‫وفي الية الّرابعة ـ من اليات محل البحث ـ يرّد القرآن على اتهام آخر كان الكفار يرمون به‬
‫الّنبي فيدعونه شاعرًا‪ ،‬كما في الية )‪ (5‬من سورة النبياء )بل هو شاعر( وربما دعوه بالشاعر‬
‫المجنون‪ ،‬كما جاء في الية )‪ (36‬من سورة الصافات )ويقولون أإنا لتاركوا ألهتنا لشاعر‬
‫‪).‬مجنون‬
‫فالقرآن يردهم هنا ببيان بليغ منطقي‪ ،‬بأن منهج الّنبي يختلف عن منهج الشعراء‪ .‬فالشعراء‬
‫يتحركون في عالم من الخيال‪ ،‬وهو يتحرك على أرض الواقع والواقعيات‪ ،‬لتنظيم العالم‬
‫‪...‬النساني‬
‫والشعراء يبحثون عن العيش واللذة والغزل )كما هي الحال بالنسبة لشعراء ذلك العصر في‬
‫صة حيث يظهر ذلك من أشعارهم بوضوح‬ ‫‪).‬الحجاز خا ّ‬
‫‪).‬ولذا فإن أتباعهم هم الضالون‪) :‬والشعراء يتبعهم الغاوون‬
‫)ثمّ يضيف القرآن على الجملة آنفة الذكر معّقبا )ألم تر أّنهم في كل واد يهيمون(‪2).‬‬
‫فهم غارقون في أخيلتهم وتشبيهاتهم الشعرية‪ ،‬حتى أن القوافي تجرهم إلى هذا التجاه أو ذاك‪،‬‬
‫‪...‬ويهيمون معها في كل واد‬
‫وهم غالبًا ليسوا أصحاب منطق واستدلل‪ ،‬وأشعارهم تنبع مّما تهيج به عواطفهم وقرائحهم‪...‬‬
‫‪!...‬وهذه العواطف تسوقهم في كل آن من واد لخر‬
‫فحين يرضون عن أحد يمدحونه ويرفعونه إلى أوج السماء‪ ،‬وإن كان حقه أن‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ لن )يلقون( في مثل هذه الموارد معناها نقل الخبار والمطالب‪ ،‬كما جاء في الية )‪ (53‬من ‪1‬‬
‫سورة الحج )ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض( وجملة )أكثرهم كاذبون(‬
‫‪).‬تتناسب مع الشياطين‪ ،‬لن الّفاكين كلهم كاذبون ل أكثرهم )فلحظوا بدقة‬
‫‪...‬ـ "يهيمون" فعل مضارع من "الهيام"‪ ،‬ومعناه المشي بل هدف ‪2‬‬
‫]‪[484‬‬
‫‪...‬يكون في اسفل السافلين‪ ،‬وُيلبسونه ثوب الملك الجميل وإن كان شيطانًا لعينًا‬
‫ومتى سخطوا على أحد هجوه هجوًا مرًا وأنزلوه في شعرهم الى أسفل السافلين‪ ،‬وإن كان‬
‫‪.‬موجودًا سماّويا‬
‫صة شعراء ذلك‬ ‫ُترى هل ُيشبه محتوى القرآن الدقيق المنطلقات الشعرية أو الفكرية للشعراء وخا ّ‬
‫العصر‪ ،‬الذين لم تكن منطلقاتهم إّل وصف الخمر والجمال والعشق والمدح لقبائلهم وهجو‬
‫‪...‬أعدائهم‬
‫ثّم إن الشعراء عادًة هم رجال خطابة وجماهير ل أبطال قتال‪ ،‬وكذلك أصحاب أقوال ل أعمال‪ ،‬لذلك‬
‫ن الية التالية تضيف فتقول عنهم‪) :‬وأّنهم يقولون ما ل يفعلون‬‫‪).‬فإ ّ‬
‫غير أن الّنبي الكريم)صلى ال عليه وآله وسلم( رجل عمل من قرنه إلى قدمه‪ ،‬وقد اعترف بعزمه‬
‫!الراسخ واستقامته العجيبة حتى أعداؤه‪ ،‬فأين الشاعر من الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(؟‬
‫ومّما تقدم من الوصاف التي ذكرها القرآن عن الشعراء‪ ،‬يمكن أن يقال بأن القرآن وصفهم بثلث‬
‫‪:‬علمات‬
‫‪.‬اُلولى‪ :‬أّنهم يتبعهم الغاوون الضالون‪ ،‬ويفّرون من الواقع‪ ،‬ويلجاؤون إلى الخيال‬
‫!والّثانية‪ :‬أّنهم رجال ل هدف لهم‪ ،‬ومتقّلبون فكرّيا‪ ،‬وواقعون تحت تأثير العواطف‬
‫‪...‬والّثالثة‪ :‬أّنهم يقولون مال يفعلون‪ ...‬وحتى في المجال الواقعي ل يطبقون كلمهم على أنفسهم‬
‫!إّل أنه ل شيء من هذه الوصاف يصدق على الّنبي‪ ،‬فهو في الطرف المقابل لها تمامًا‬
‫و لّما كان بين الشعراء أناس مخلصون هادفون وأهل أعمال ل أقوال‪ ،‬ودعاة نحو الحق والصدق‬
‫"وإن كان مثل هؤلء الشعراء قليل يومئذ"‪ .‬فالقرآن من أجل‬
‫]‪[485‬‬
‫أّل يضيع حق هؤلء الشعراء المؤمنين المخلصين الصادقين‪ ،‬استثناهم عن بقية الشعراء‪ ،‬فقال‬
‫‪).‬عنهم‪) :‬إّل الذين آمنوا وعملوا الصالحات‬
‫هؤلء المستثنون من الشعراء لم يكن هدفهم الشعر فحسب‪ ،‬بل يهدفون في شعرهم أهدافًا الهية‬
‫‪).‬وانسانية‪ ،‬ول يغرقون في الشعار فيغفلون عن ذكر ال‪ ،‬بل كما يقول القرآن‪) :‬وذكروا ال كثيرًا‬
‫ظلموا كان شعرهم انتصارًا للحق )وانتصروا من‬ ‫وأشعارهم تذكر الناس بال أيضًا‪ ...‬وإذا ما ُ‬
‫‪).‬بعدما ظلموا‬
‫‪...‬فإذا هجوا جماعة هجوهم من أجل الحق ودفاعًا عن الحق الذي يهجوه ُاولئك فيذبون عنه‬
‫وهكذا فقد بّين القرآن أربع صفات للشعراء الهادفين‪ ،‬وهي اليمان‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬وذكر ال‬
‫‪...‬كثيرًا‪ ،‬والنتصار للحق من بعدما ظلموا‪ ،‬مستعينين بشعرهم في الذب عنه‬
‫وحيث أن معظم آيات هذه السورة هو للتسلية عن قلب الّنبي‪ ،‬والتسرية عنه‪ ،‬وعن المؤمنين‬
‫القّلة في ذلك اليوم في قبال كثرة العداء‪ ،‬وحيث أن كثيرًا من آيات هذه السورة في مقام الدفاع‬
‫عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ضد التهم الموجهة إليه من قبل أعدائه‪ ،‬وغير اللئقة به ـ‬
‫فإن السورة ُتختتم بجملة ذات معنى غزير‪ ،‬وفيها تهديد لولئك العداء اللّداء‪ ،‬إذ تقول‪) :‬وسيعلم‬
‫ي منقلب ينقلبون‬
‫‪).‬الذين ظلموا أ ّ‬
‫سرين أرادوا أن يحصروا هذا النقلب والعاقبة المرة للظالمين بنار‬ ‫وبالرغم من أن بعض المف ّ‬
‫جهنّم‪ ...‬إّل أنه ل دليل على تقييد ذلك وتحديده بها‪ ...‬بل لعله إشارة إلى هزائمهم المتتابعة‬
‫والمتلحقة في المعارك السلمية‪ ،‬كمعركة بدر وغيرها‪ ،‬وما أصابهم من ضعف وذلة في دنياهم‪،‬‬
‫‪.‬فمفهوم هذه الية عام‪ ،‬بالضافة إلى ذلك عذابهم وانقلبهم إلى النار في آخر المطاف‬
‫***‬
‫]‪[486‬‬
‫بحوث‬
‫ـ ِلمَ كانوا يتهمون الّنبي بالشعر ‪1‬‬
‫إن واحدًة من التهم التي كانت توجه للّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( هي الشعر‪ ،‬وأّنه شاعر‪،‬‬
‫‪...‬فاليات ـ آنفة الذكر ـ كانت ردًا على هذا التهام أيضًا‬
‫شَبه بالشعر‪ ،‬ل من حيث الشكل والظاهر ول من‬ ‫لقد كانوا يعرفون جيدًا أن القرآن ليس له أقل َ‬
‫حيث المحتوى‪ ،‬فالشعر فيه وزن وقافية وأبيات مشطرة‪ ،‬وليس كذلك القرآن‪ .‬والشعر فيه تخّيل‬
‫‪.‬وتشبيهات كثيرة وغزل مّما ليس في القرآن أيضًا‬
‫إّل أّنهم حيث كانوا يرون أثر القرآن الكبير في جذب أفكار الناس وإيقاعه الخاص في قلوبهم‪،‬‬
‫فللقاء الستار على هذا النور اللهي‪ ،‬سموه "سحرًا" تارًة‪ ،‬لّنه كان ذا نفوذ وتأثير "خفي" في‬
‫!الفكار‪ .‬ودعوة "شعرًا" تارة ُأخرى لّنه كان يهّز القلوب ويأخذها معه‬
‫لقد أرادوا أن يذموا القرآن فمدحوه بهذا الكلم‪ ،‬وكان كلمهم سندًا ودليل حيًا على نفوذ القرآن‬
‫‪.‬الخارق للعادة في أفكار الناس وفي قلوبهم‬
‫يقول القران في تنزيه الّنبي عن الشعر‪) :‬وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إّل ذكر وقرآن‬
‫‪).‬مبين لينذر من كان حّيا وبحق القول على الكافرين()‪1‬‬

‫لسلم ‪2‬‬
‫ـ الشعر والشاعرية في ا ِ‬
‫ل شك أن الذوق الشعري والفن الشاعري كسائر رؤوس الموال‪ ،‬له قيمته في صورة ما لو‬
‫استعمل استعمال صحيحًا وله أثر إيجابي‪ ...‬إّل أّنه اذا صار وسيلة تخريب وهدم للبناء العقائدي‬
‫والخلقي في المجتمع‪ ،‬فل قيمة له‪ ،‬بل يعتبر وسيلة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ يس‪ ،‬الية ‪1 69‬‬
‫]‪[487‬‬
‫‪...‬ضارة عندئذ‬
‫فالشعر ينبغي أن يؤدي دورة في وجود النسان ليكون ذا قيمة كبرى‪ ،‬وأن ل يسوق الناس نحو‬
‫‪.‬الخيال أو الضياع أو الشغال دون جدوى‪ ،‬لّنه سيكون وسيلة للضرر واِلضرار‬
‫‪:‬ويّتضح بهذا الجواب على السؤال التالي‬
‫ماذا يفهم من اليات المتقدمة‪ ،‬هل الشاعرّية أمٌر حسن أو غير حسن‪ ،‬وهل يوافق السلم الشعر‬
‫!أو يخالفه؟‬
‫فالجواب على ذلك أن تقويم)‪ (1‬السلم في هذا المجال قائم على الهداف والوجوه والنتائج‪...‬‬
‫وكما قال المام علي)عليه السلم( حين كان بعض أصحابه يتكلمون على مائدة الفطار في إحدى‬
‫ليالي شهر رمضان‪ ،‬وجرى كلمهم في الشعر والشعراء‪ ،‬فخاطبهم أمير المؤمنين علي)عليه‬
‫السلم( قائل‪" :‬اعلموا أن ملك أمركم الدين‪ ،‬وعصمتكم التقوى‪ ،‬وزينتكم الدب وحصون‬
‫)أعراضكم الحلم"‪2).‬‬
‫فكلم المام علي)عليه السلم( إشارة إلى أن الشعر وسيلة‪ ...‬ومعيار تقويمه الهدف الذي قيل من‬
‫‪!...‬أجله‬
‫إّل أّنه ـ وللسف ـ استغّل الشعر على امتداد تاريخ آداب اُلمم والملل لغراض سيئة‪ ،‬وتلّوث هذا‬
‫الذوق اللهي اللطيف‪ ،‬فسقط في الوحل بسبب البيئة الفاسدة‪ ،‬وبلغ الشعر أحيانًا درجة من‬
‫النحطاط بحيث صار من أهم عوامل الفساد والتخريب‪ ،‬ول سيما في العصر الجاهلي الذي كان‬
‫عصر انحطاط الفكر العربي وأخلِقه!‪ .‬فكان الشعر والشراب والغارات بعضها إلى جنب بعض مّما‬
‫!مميزات ذلك العصر‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ "التقويم" له معان متعددة منها تقويم الود أي إقامة العوجاج‪ ،‬وتقويم الشيء إعطاء قيمته ‪1‬‬
‫أو معرفتها‪ ،‬وهو هنا بهذا المعنى‪ .‬وما يجري على السنة الكتاب وأقلمهم بلفظ )تقييم( خطأ‬
‫‪).‬مشهور وغير صحيح )المصحح‬
‫‪.‬ـ شرح نهج البلغة‪ ،‬لبن أبي الحديد ج ‪ ،20‬ص ‪2 461‬‬
‫]‪[488‬‬
‫ولكن من يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة‪ ،‬وهي أن الشعار البّناءة والهادفة على امتداد التاريخ‪،‬‬
‫خلقت طاقات كثيرة وحماسة قصوى‪ ،‬ورّبما عبأت ُامة مغلوبة بوجه أعدائها‪ ،‬فشدتها على العدّو‬
‫‪".‬فهزمته وانتصرت "بهذه الشعار‬
‫وفي فترة نضوج الثورة السلمية رأينا بأم أعيننا كيف أثرت الشعار الحماسية في نفوس‬
‫الناس‪ ،‬فحركتهم وأثارتهم حتى جرت دماء الثورة في مفاصلهم‪ ،‬وجعلتهم صفًا واحدًا وزلزلت‬
‫‪...‬قصور العداء وهزمتهم‬
‫كما نسأل‪ :‬من يستطيع أن ينكر أن شعرًا أخلقيًا ينفذ في أعماق النسان ويغّير محتواه لدرجًة ل‬
‫‪...‬يبلغها كتاب علمي غزيز المحتوى‬
‫ن من‬ ‫أجل‪ ،‬إن الشعر كما قال عنه الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( "إن من الشعر لحكمة وإ ّ‬
‫)البيان لسحرًا"‪1).‬‬
‫‪...‬وللكلمات الموزونة وإيقاعها ـ أحيانًا ـ مضاء السيف ونفوذ السهم في قلب العدو‬
‫ففي بعض أحاديث الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ـ في مثل هذه الشعار ـ أنه قال‪..." :‬‬
‫)والذي نفس محمد بيده فكأّنما تنضحونهم بالنبل"‪2).‬‬
‫أجل‪ ...‬قال الّنبي ذلك حين كان العدو يهجو المسلمين ليضعف معنوياتهم وروحّياتهم‪ ،‬فأمر الّنبي‬
‫‪.‬شعراء المسلمين أن يرّدوا عليهم بالهجاء المقذع‪ ،‬لذمهم وتقوية روحّية المسلمين‬
‫ن جبرئيل‬ ‫جُهْم فإ ّ‬
‫وقال)صلى ال عليه وآله وسلم( في شأن أحد الشعراء المدافعين عن السلم "أه ُ‬
‫ك"‪3).‬‬ ‫)َمَع َ‬
‫ن" الذي كان ينشد قصائد‬‫صة حين سأل كعب بن مالك "الشاعر المؤم ُ‬ ‫وخا ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫رسول هذا جماعة كثيرة من علماء الشيعة والسنة في كتبهم "يراجع كتاب ‪1‬‬ ‫ـ نقل حديث ال ّ‬
‫‪".‬الغدير‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪9‬‬
‫‪.‬ـ مسند أحمد‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪2 260‬‬
‫‪ .‬ـ مسند أحمد‪ ،‬ج ‪ :،4‬ص ‪3 299‬‬
‫]‪[489‬‬
‫في تقوية اِلسلم ـ وكانت اليات قد نزلت في ذم الشعراء ـ فقال يا رسول ال‪ :‬ما أصنع؟!‬
‫ن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه"‪1).‬‬ ‫)فقال)صلى ال عليه وآله وسلم( "إ ّ‬
‫وقد ورد عن أئمة أهل البيت)عليهم السلم( وصف كثير في الشعر والشعراء الهادفين والدعاء‬
‫‪".‬لهم وإيصال الجوائز إليهم‪ ،‬بحيث يطول الكلم في ذلك "إن أردنا نقل الروايات عنهم‬
‫إّل أّنه من المؤسف أنه على طول التاريخ أسقط جماعة هذه المنحة اللهية والذوق اللطيف‪ ،‬الذي‬
‫جه إلى الحضيض‪ ،‬وكذبوا فيه كثيرًا حتى قيل في‬
‫هو من أجمل مظاهر الخلق‪ ،‬فأنزلوه من أْو ُ‬
‫‪".‬المثل المعروف‪" :‬أعذبه أكذبه‬
‫خروه في خدمة الجبابرة والظالمين وتمّلقوا لهم‪ ،‬رجاء صلة محتقرة رخيصة‬ ‫‪...‬ورّبما س ّ‬
‫!أو أّنهم أفرطوا في وصف الشراب والفجور والفسق أحيانًا‪ ،‬إلى درجة يخجل القلم عن ذكرها‬
‫ورّبما أشعلوا الحروب بنيران أشعارهم‪ ،‬وجروا الناس إلى القتل والغارات‪ ،‬ولطخوا الرض بدماء‬
‫‪.‬البرياء‬
‫خروا‬
‫إّل أن في الطرف الخر ـ وفي قبالهم ـ الشعراء الذين آمنوا بمبدئهم‪ ،‬واشتدت همتهم‪ ،‬فس ّ‬
‫هذه القريحة الملكوتية في سبيل حرية الناس والتقوى‪ ،‬ومواجهة اللصوص والمستكبرين‬
‫!والجبابرة‪ ،‬فبلغوا أوج الفخر‬
‫)ورّبما دافعوا عن الحق فاشتروا بكل بيت من أبيات شعرهم بيتًا في الجّنة‪2).‬‬
‫ربما وقفوا في وجوه حكام الظلم والجور كبني أمية وبني العباس الذين كانوا يحبسون النفاس‬
‫في الصدور‪ ،‬فُتجلى القلوب بقصيدة كقصيدة دعبل "مدارس‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير القرطبي‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪1 869‬‬
‫ت شعر بنى ال له بيتًا في الجنة"‪" ،‬الغدير‪2 ،‬‬‫ـ جاء عن المام الصادق أّنه قال‪" :‬من قال فينا بْي َ‬
‫‪".‬ج ‪ ،2‬ص ‪3‬‬
‫]‪[490‬‬
‫ق لثام الباطل‪ ،‬فكأّنما كان يجري على لسانهم روح القدس‪.‬‬ ‫آيات خلت من تلوة" وأماطوا عن الح ّ‬
‫))‪1‬‬
‫سون في أنفسهم الحتقار والزدراء‬ ‫ورّبما أنشدوا الشعار لنهاض المضطهدين الذين كانوا يح ّ‬
‫‪...‬من قبل الظلمة‪ ...‬فهاجوهم وأثاروهم بتلك الشعار‬
‫والقرآن يقول في شأن هؤلء‪) :‬إّل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا ال وانتصروا من بعدما‬
‫ظلموا‬ ‫‪ُ ).‬‬
‫مّما يلفت النظر أن هؤلء الشعراء قد يتركون شعرًا خالدًا مؤثرًا بليغًا‪ ...‬حتى أن أئّمة السلم‬
‫الكرام ـ كما تقول بعض الّروايات ـ أوصوا شيعتهم وأصحابهم بحفظ أشعارهم كما ورد ذلك في‬
‫شأن "أشعار العبدي"‪ .‬إذ ورد عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قال‪" :‬يا معشر الشيعة‪ ،‬علموا‬
‫)أولدكم شعر العبدي‪ ،‬فإّنه على دين ال"‪2).‬‬
‫ونختتم هذا البحث بقصيدة للعبدي‪ ،‬وهي من قصائده المعروفة‪ ،‬في شأن خلفة المام علي)عليه‬
‫ي الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( إذ قال‬ ‫‪:‬السلم( وص ّ‬
‫وقالوا رسول ال ما اختار بعده إمامًا ولكّنا لنفسنا اخترنا‬
‫أقمنا إمامًا إن أقام على الهدى أطعنا وإن ضل الهداية قّومنا‬
‫فقلنا‪ :‬إذًا أنتم إمام إمامكم بحمد من الرحمن تهتم ول تهنا‬
‫ولكننا اخترنا الذي اختار رّبنا لنا يوم خم ما اعتدينا ول حلنا‬
‫ب زدنا منك نورًا وثبتنا)‪3‬‬‫)ونحن على نور من ال واضح فيا ر ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـ في حديث آخر عن المام الصادق)عليه السلم( أنه قال‪" :‬ما قال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيد ‪1‬‬
‫‪"...‬بروح القدس" "عيون أخبار الرضا‬
‫‪.‬ـ نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪2 71‬‬
‫‪.‬ـ الكنى واللقاب‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪3 455‬‬
‫]‪[491‬‬
‫ر ال ‪3‬‬
‫‪:‬ـ ِذْك ُ‬
‫‪...‬قرأنا في اليات ـ آنفة الذكر ـ أن من خصائص الشعراء الهادفين هو أّنهم يذكرون ال كثيراً‬
‫ونقرأ في بعض الحاديث المروّية عن المام الصادق)عليه السلم( أنه يقول‪ :‬قول ال عزوجل‪:‬‬
‫)وذكروا ال كثيرًا( ما هذا الذكر الكثير؟ قال‪" :‬من سبح تسبيح فاطمة الزهراء)عليها السلم( فقد‬
‫)ذكر ال الذكر الكثير"‪1).‬‬
‫كما جاء عنه)عليه السلم( أنه قال‪ :‬من أشّد ماقرض ال على خلقه ذكر ال كثيرًا‪ ...‬ثّم قال)عليه‬
‫السلم(‪" :‬ل أعني سبحان ال والحمد ل ول إله إّل ال وال أكبر‪ ،‬وإن كان منه‪ ،‬ولكن ذكر ال‬
‫)عِْنَدما أحّل وحّرم! فإن كان طاعًة عمل بها‪ ،‬وإن كان معصيةً تركها!"‪2).‬‬
‫‪...‬رّبنا‪ ،‬أمل قلوبنا بذكرك‪ ،‬لنختار ما يرضيك‪ ،‬ونترك ما يسخطك‬
‫رّبنا‪ ،‬اجعل ألسنتنا بليغة‪ ،‬وأقلمنا سّيالة‪ ،‬وقلوبنا مليئة بالخلص‪ ،‬لنستعمل ذلك في سبيلك‬
‫ب العالمين‬
‫‪.‬وابتغاء رضوانك‪ ،‬آمين ر ّ‬

‫***‬
‫إنتهاء سورة الشعراء‬
‫ونهاية المجلد الحادي عشر‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪.‬ـ تفسير نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪1 73‬‬
‫‪.‬ـ تفسير نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪ ،73‬نقل عن اصول الكافي ‪2‬‬
‫]‪[492‬‬

You might also like