Professional Documents
Culture Documents
اَلمَْثلُ
ل الُمنَزل
با ِفي تفسير كتا ِ
طبعة جديدة منّقحة مع إضافات
َتأليف
سر آية ال العظمى لمة الفقيه المف ّ الع ّ
شيرازي صر َمكارم ال ِشيخ َنا ِ ال َ
شرع َ
حادي َ جّلد ال َ
الم َ
][5
سوَرُة الـّنور ُ
ن آية سّتو َ
َمدنّية وعدُد آياِتها أرَبع َو ِ
وهي تشكل الجزء الّثامن عشر من القرآن الكريم
"سورة الّنور"
:فضل سورة النور
جاء في حديث عن الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( قوله" :من قرأ سورة النور أعطي من
".الجر عشر حسنات بعدد كل مؤِمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقى
وجاء في حديث عن اِلمام الصادق)عليه السلم(" :حصنوا أموالكم وفروجكم بتلوة سورة الّنور
حٌد من أهل بيتهن قراءتها في كل يوم أو في كل ليلة لم يزن أ َن من أْدَم َ صنوا بها نساءكم ،فإ ّ وح ّ
).أبدًا حتى يموت")1
والهتمام بمضمون السورة الذي دعا بطرق مختلفة ِإلى مكافحة عناصر اِلنحراف بالتزام العّفة،
.يوضح الغاية الساسية في الحديثين اعله ومفهومهما العملي
:محتوى سورة الّنور
صة بالطهارة والعفة ،وكفاح اِلنحطاط الخلقي ،لن محور تعاليمها يمكن اعتبار هذه السورة خا ّ
ينصب على تطهير المجتمع بطرق مختلفة ِمن الرذائل والفواحش ،والقرآن الكريم يحقق هذا
:الهدف عبر مراحل ،هي
المراحلة اُلولى :بيان العقاب الشديد للمرأة الزانية والرجل الزاني ،وهو ما ورد حاسمًا في الية
.الّثانية من هذه السورة
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ تفسير مجمع البيان للية موضع البحث ،وكتاب ثواب العمال للصدوق )حسبما نقله نور 1
).الثقلين ،المجلد الّثالث ،صفحة 568
][8
المرحلة الّثانية :بيان حد الزنا الذي ل َتْنِبغي ِإقاَمُته ِإّل بشروط مشّددة للغاية ،إذ لُبّد من أربعةِ
شهود يشهدون أّنهم رأوا بُأّم أعُيِنهم رجل غريبًا َيْزني بأمرأة غريبة عنهَ ،يْفَعُل ِبها ِفْعَل الزوج
جه ساعة ُمباشرته إّياها .بزو ِ
ضي بينهما ،أو ُيقّر أحُدهما أو كلهما بالحق ن القا ِ
عََ.ولو شهَد الرجُل على زوجِته بالّزنا لل َ
س حّد الّزنا ،أي ثمانين جلدة، ت َبأربعِة شهود جلَدُه القاضي أربعة أخما ِ ومن اّتهم محصنًة ولم يأ ِ
ى عن العقاب حُرماِتِهم وهو في منج ّ
س َوَهتك ُن على النا ِ طْع َ
ن بإمكانه ال ّ
حُد أ ّ
ل يتصّوَر أ َ ِ.لئ ّ
ثّم طرحت الية بهذه المناسبة الحديث المعروف باسم اِلفك ،وما فيه من اّتهام إحدى نساء
ضحًا للمسلمين َمَدى النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( .فعّقب القرآن المجيد على هذه المسألة ُمو َ
عدوانًا على الناس ،وكاشفًا عّما ينتظر القائم حشة ُ عِة إشاعِة الفا ِبشاعة اِلفتراء والتهمِةَ ،وفظا َ
.بذلك من عقوبات ِإلهية
ي ،من أجل أل وفي المرحلة الّثالثة :تناولت الية أحد السبل المهّمة لجتناب التدهور الخلق ّ
ن اِلسلم يهتم فقط بمعاقبة المذنبين ُ.يتصّوَر أ ّ
ن أحد أسباب فطرحت الية نظر الرجال ِإلى النساء بشهوة أو بالعكس ،وحجاب المرأة المسلمة ،ل ّ
اِلنحراف الجنسي المهّمة ناجم عن هاتين المسألتين .وإذا لم تحل هاتان المسألتان جذريًا ،ل
ن القضاُء على اِلنحطاط والتفسخ .يمك ُ
خّل بالشرف ـ دعا القرآن المجيد ِإلى الزواج وفي المرحلة الّرابعة :كخطوة للنجاة من التلوث بما ُي ِ
.اليسير التكاليف ،ليحارب اِلشباع الجنسي غيرالمشروع باشباع مشروع
وفي المرحلة الخامسة :بّينت اليات جانبًا من آداب المعاملة ،ومبادىء تربية الولد وعدم دخول
البناء الغرفة المخصصة للوالدين في ساعات الخلوة والستراحة ِإّل بإذن منهما ،بغية المحافظة
على أفكارهم من اِلنحراف .كما بّينت
][9
.آداب الحياِة اُلسرّية عاّمة
صة بالتوحيد والمبدأ والمعاد واِلمتثال لتعاليم
وفي المرحلة السادسة :جاء ذكر مسائل خا ّ
ي)صلى ال عليه وآله وسلم( .كّل ذلك خلل البحوث المطروحة .ومن المعلوم أن اِلعتقاد الّنب ّ
بالوحدانية والّنبوة والمبدأ والمعاد .يدعم مناهج التربية الخلقية في الفرِد والجماعة ،فذلك
صُل واشَتّد
ي ال ْ
عَلْيه ،تورق وتثمر ِإذا قو َ
ن أمور فروع َ
.اِلعتقاد هو الصل ،وما عداُه َم ْ
وتطرقت بحوث هذه اليات ِإلى حكومة المؤمنين الصالحين العالمية ،وأشارت ِإلى تعاليم إسلمية
ُ.أخرى ،وهي تشكل ـ بمجموعها ـ وحدة متكاملة شاملة
***
][10
اليات
جِلُدوا ُكّل
ن) (1الّزاِنَيُة َوالّزاِنى َفا ْ ت َبّيَنـت ّلَعّلُكْم َتَذّكُرو َ
ضَنـَها َوَأْنَزْلَنا ِفيَهآ َءَاَيـ ِ سوَرٌة َأنَزْلَنـَها َوَفَر ْ ُ
خِرل َواْلَيْوِم اَْل ِ
ن ِبا ِ
ن ُكْنُتْم ُتْؤِمُنو َ
ل ِإ ْ
نا ِ خْذُكْم ِبِهَما َرْأَفٌة ِفى ِدي ِجْلَدة َوَل َتْأ ُ حد ّمْنُهَما ِماَئَة َ َو ِ
حَهآ ِإّل
شِرَكًة َوالّزاِنَيُة َل َينكِ ُ
ح ِإّل َزاِنَيًة أْو ُم ْ ن )(2الّزاِنى َل َينِك ُ ن اْلُمْؤِمِني َ طاِئَفٌة ّم َ
عذاَبُهَما َ شَهْد َ َوْلَي ْ
ن)3 عَلى اْلُمْؤِمِني َ ك َ حّرَم َذِل َ
ك َو ُ
شِر ٌ)َزان َأْو ُم ْ
الّتفسير
:حد الزاني والزانية
ن مضمونها يشعشع في ن آية النور فيها من أهم آياتها ،إضافة ِإلى أ ّ سّميت هذه السورة بالّنور ل ّ
جوانح الرجل والمرأة والسرة والبشر عّفة وطهارة ،وحرارة تقوى ،ويعمر القلوب بالتوحيد
).واِليمان بالمعاد واِلستجابة لدعوة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم
وُأولى آيات هذه السورة المباركة بمثابة إشارة ِإلى مجمل بحوث السورة )سورة أنزلناها
).وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون
][11
سورة" كلمة مشتّقة من "السور" أي الجدار المرتفع ،ثّم أطلقت على الجدران التي تحيط بالمدن"
ن هذه الجدران كانت تعزل المدينة عن المنطقة المحيطة بها،
لحمايتها من مهاجمة العداء .وبما أ ّ
فقد استعملت كلمة "سورة" تدريجيًا في كل قطعة مفصولة عن شيء ،ومنها استعملت لتعني
ن "سورة" بناء جميل مرتفع ،وهذه الكلمة تطلق ِقسمًا من القرآن .كما قال بعض اللغويينِ :إ ّ
أيضًا على قسم من بناء كبير ،وتطلق السورة على أقسام القرآن المختلفة المفصولة بعضها عن
).بعض)1
ن هذه العبارة إشارة ِإلى كون أحكام ومواضيع هذه السورة ـ من اعتقادات وآداب وعلى كل حال فإ ّ
.وأوامر ِإلهية ـ ذات أهّمّية فائقة ،لّنها كلها من ال
ن "الفرض" يعني قطع الشي الصلب والتأثير فيه كما يقول وتؤّكد ذلك عبارة "فرضناها" ،ل ّ
.الراغب في مفرداته
وعبارة )آيات بينات( قد تكون إشارة ِإلى الحقائق المنبعثة عن التوحيد والمبدأ والمعاد والّنبوة،
التي تناولتها هذه السورة .وهي إزاء "فرضنا" التي تشير ِإلى الوامر اِللهية والحكام الشرعية
التي بّينتها هذه السورة .وبعباره أخرى :إحداها تشير ِإلى العتقادات ،واُلخرى ِإلى الحكام
.الشرعية
.ويحتمل أن تعني "اليات البينات" الدلة التي استندت ِإليها هذه الحكام الشرعية
وعبارة )لعلكم تذكرون( تؤّكد أن جذور جميع العتقادات الصحيحة ،وتعاليم اِلسلم التطبيقية،
.تكمن في فطرة البشر
.وعلى هذا الساس فإن بيانها يعتبر نوعًا من التذكير
وبعد هذا الستعراض العام .تناولت السورة أّول حكم حاسم للزاني والزانية
ــــــــــــــــــــــــــــ
رابع ،مادة "سور 1 ".ـ "لسان العرب" المجلد ال ّ
][12
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( ولتأكيد هذا الحكم قالت )ول تأخذكم بهما(
).رأفة في دين ال إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر
وأشارت الية في نهايتها ِإلى مسألة أخرى لكمال الستنتاج من العذاب اِللهي )وليشهد عذابهما
).طائفة من المؤمنين
:وتشتمل هذه الية على ثلثة تعاليم
.ـ الحكم بمعاقبة النساء والرجال الذين يمارسون الزنا 1
للهي بعيدًا عن الرأفِة بمن يقاُم عليه ،فهذه الرأفُة الكاذبة تؤّدي ِإلى الفساد 2 ـ إقامة هذا الحكم ا ِ
وانحطاط المجتمع .وتضع اليُة اِليمان بال ويوم الحساب ُمقاِبل الرأفِة التي َقْد يحس بها أحد
ط َ
ف تجاه الزاني والزانية ساعِة ِإقامة الحّد عليهما ،لن أداء الحكام اِللهية من غير تأُثِر بالعوا ِ
ن لكل حكم من أحكامه دليل على صدق اِليمان بالمبدأ والمعاد ،واليمان بال العالم الحكيم يعني أ ّ
.غاية وهدف حكيم ،واليمان بالمعاد ُيشعر اِلنسان بالمسؤولية إزاء كل مخالفة
وذكر بهذا الصدد حديث مهم عن الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم(ُ" :يؤتي بوال نقص
من الحّد سوطًا ،فيقال لهِ :لَم فعلت ذلك؟ فيقول :رحمًة لعبادك ،فيقال له :أنت أرحم بهم مّني؟!
فيؤمر به إلى النار ،ويؤتى بمن زاد سوطًا ،فيقال له :لم فعلت ذلك؟ فيقول :لينتهوا عن معاصيك!
)فيقول :أنت أحكم به مّني؟! فيؤمر به إلى الّنار!"1).
ن إقامة 3
ن ِم ْ
ـ أوجب ال حضور عدد من المؤمنين في ساحة معاقبة الزناة ليتعظ الناس بما يرو َ
حكم ال العادل على المذنبين ،وبملحظة النسيج اِلجتماعي للبشر نرى أن انحطاط الشخص ل
ينحصر فيه ،بل يسري ِإلى الخرين ،ولتمام التطهير يجب أن يكون العقاب علنًا مثلمًا كان الذنب
.علنًا
ــــــــــــــــــــــــــــ
رازي ،المجلد الّثالث والعشرين ،صفحة 1 148
.ـ تفسير الفخر ال ّ
][13
وبهذا يّتضح الجواب عن السؤالِ :لَم يعّرض اِلسلُم كرامة إنسان بين الناس إلى الخدش
س بكتماِنِه في حٌد َولم يبُلغ القضاء ،فل بأ َ طِلْع عليه أ َسّرًا ِلَم َي ّ
ب ِ
والمتهان؟ فيقال :ما َداَم الذن ُ
جْرُم بالِدّلِة
سُترُه ،أّما إذا ظهر ال ُ
ب َمنْ َي ْسُتُرْه بلطِفِه وُيح ّ
النفس وإستغفاِر ال ِمْنُه ،فإّنه تعالى َي ْ
ث على استفظاعه َوَبشاعته. الشرعّية ،فلُبّد من تنفيذ العقاب بشكل يبطل آثار الذنب السيئة ،ويبع ُ
ومن الطبيعي أن يولي المجتمع السليم الحكاَم اهتمامًا كبيرًا ،فتكرار التحّدي للحدود الشرعّية
عَلنًا
حّد َ ن هنا وجبت إقامة هذا ال َ ُيْفِقُدها فاعليتها في صياَنَة الطمأنينة والستقرار في النفوس ،وِم ْ
ت سبيل شة ساَء ْ ح َ
س ِمن تكرار فا ِ .ليمتنع النا ُ
سوِء ِفعله أكثر من اهتمامه ِبما س على ُ طلع النا ِ ويجب أن ل ننسى أن كثيرًا من الناس يهتم با ّ
حّد على الّزاني بحضور الناس، ب على ذلك الِفعل الشنيع .ولهذا وجبت إقامة ال َ َيْنِزُل به من العقا ِ
وهذا العلن لقامة هذا الحّد اِللهي أمام الناس قد يمنع المفسدين ِمن الستمرار في الَفساِد
.ويكون بمثابة فرامل قوية امام التمادي في ركوب الشهوات
وبعد بيان حّد الّزنا ،جاء بيان حكم الزواج من هؤلء في الية الّثالثة وكما يلي )الزاني ل ينكح ِإّل
).زانية أو مشركة والزانية ل ينكحها إّل زان أو مشرك وحّرم ذلك على المؤمنين
ن قضّية طبيعَية عْ
سرون في كون هذه الية بيانًا لحكم إلهي ،أو خبرًا َ .اختلف المف ّ
ن الية تبّين واقعة ملموسة فقط ،فالمنحطون يختارُون المنحطات ،وكذِلك يفعْل َ
ن فيرى البعض أ ّ
سُمو المتطّهرون المؤمنون عن ذلك .ويحّرمون على أنفسهم اختيار هن في اختيارهن ،بينما َي ْ
شَهُد به ظاِهُر الية الذي جاء على شكل جملة الزواج من ذلك الصنف تزكيًة وتطهيرًا ،وهذا ما َي ْ
.خبرية
ن مجموعة ُأخرى ترى في هذه العبارة حكمًا شرعيًا وأمرًا ِإلهيًا يمنع ِإّل أ ّ
][14
ن اِلنحرافات ت من الزواج مع الزناة ،ل ّ ت ،ويمنع المؤمنا ِ المؤمنين من الزواج مع الزانيا ِ
ن وينأى عنه ن ذلك عاٌر يأباُه المؤِم ُض الجسميِة المعدية في الغالب .فضل عن أ ّ .الخلقية كالمرا ِ
مضافًا إلى المصير المبهم والمشكوك للبناء الذين ينشؤون في احضان ملوثة ومشكوكة .ينتظر
!البناَء من مثل هذا الزواج
.ولهذه السباب والخصوصيات منعه السلم
.والشاهد على هذا التفسير جملة )وحّرم ذلك على المؤمنين( اّلتي تدّل على تحريم الزنا
والدليل الخر أحاديث عديدة رويت عن الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( وسائر الئّمة
سرت هذه الية باعتبارها حكمًا إلهيًا ينص على المنع .المعصومين)عليهم السلم( التي ف ّ
ن رجل من المسلمين استأذن سرين كتب بشأن نزول هذه الية :إ ّ وحتى أن بعض كبار المف ّ
الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( في أن يتزوج "أم مهزول" وهي امرأة كانت تسافح ولها راية
على بابها ،فنزلت الية) ،(1عن عبدال بن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة والزهري ،والمراد
خَبر
.بالية النهي وإن كان ظاهرها ال َ
ويؤيده ما روي عن أبي جعفر)عليه السلم( وأبي عبدال)عليه السلم( أّنهما قال" :هم رجال
ساء كانوا على عهد رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( مشهورين بالزنا ،فنهى ال عن ون َ
ُأولئك الرجال والنساء ،والناس على تلك المنزلة ،فمن شهر بشيء من ذلك وأقيم عليه الحد فل
).تزوجوه حتى تعرف توبته")2
.ول بد أن نذّكر أن العديد من الحكام جاء جمل خبرية .ول ضرورة لن تكون إنشائيًة آمرًة ناهيًة
ف عن ش ُ
ن المشركين كانوا يعطفون على الُزناُة ،وهذا يك ِ والجديُر باِلنتَباِه َأ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ مجمع البيان ،تفسير الية موضع البحث والقرطبي في تفسيره لهذه الية .حيث رويا هذا 1
.الحديث
.ـ مجمع البيان ،من تفسير الية موضع البحث 2
][15
ن .قال الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( "ل يزني الزاني حين
ك صنوا ِ
شر َ
ن الّزنا وال ّ
أّ
يزني وهو مؤمن ،ول يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ،فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه اليمان
)كخلع القميص")1
***
ملحظات
ـ الحالت التي يعدم فيها الزاني 1
صن والمحصنة ،فحّدُهما القتل ،إذا ثبت ما ذكرته اليُة السابقة حْكٌم عاّم ُيستثنى منه زنا المح ّ
جْرُم
.عليهما ال ُ
ش معه ،والمحصنة هي المرأة المتزوجة التي يعيش ويقصد بالمحصن الرجل الذي له زوجة تعي ُ
ن حّده القتل
.زوجها معها فمن توفر له السبيل المشروع لرضاء الغريزة الجنسية ثّم يزني فإ ّ
.كما أن الزنا بالمحرمات حكمه العدام
وكذلك الزنا بالعنف والكراه ،أي الغتصاب فحكمه القتل أيضًا .وفي بعض الحالت يحكم إضافة
ِ.إلى الجلد بالنفي وأحكام ُأخرى ذكرتها الكتب الفقهية
ـ لماذا ذكرت الزانية أول؟ 2
ن ممارسة هذا العمل الذي يخالف العفة ،هي في غايِة القبح ،وتزداُد ُقبحًا وبشاعًة ل شك في أ ّ
بالنسبة للمرأِة ،فحياؤها أكثر من حياء الرجل ،والخروج عليه دليل تمرد شديد جّدا .وإضافة إلى
.أنّ عاقبته المشؤومَة بالنسبِة لها أكبر رغم فداحِتِه َوَوباِله على الطرفين كليهما
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ الكافي ،الصول ،المجلد الثاني ،صفحة ) 26المطبعة السلمية عام .(1388حسبما نقله 1
.صاحب نور الثقلين ،المجلد الثالث ،ص 571
][16
ويحتمل أن تكون المرأة مصدر الوساوس في اقتراف هذا الذنب ،وتعتبر في كثير من الحيان
السبب الصلي فيه .ولهذا كله ذكرت الية الزانية أول ثّم الزاني .إّل أن النساء والرجال من أهل
.العّفة واليمان يجتنبون هذه العمال
ـ لماذا تكون العقوبة علنية؟ 3
تستوجب الية السابقة ـ التي جاءت بصيغة المر ـ حضور طائفة من المؤمنين حين تنفيَذ حّد
ن القرآن لم يشترط أن يجري ذلك في المل العام ،بل وقفه على الظروف ،ويكفي حضور الزنا ،لك ّ
).ثلثة أشخاص أو أكثر وفق ما يقرر القاضي)1
ن الهدف هو أن يكون هذا الحكم عبرة للناس جميعًا، وفلسفة هذا الحكم واضحة; لّنه أّول :إ ّ
.وسببًا لتطهير المجتمع
.وثانيًا :ليكون خجل المذنب مانعًا له من ارتكاب هذا الذنب في المستقبل
وثالثًا :متى نفذ الحّد بحضور مجموعة من الناس يتبرأ القاضي والقائمين على تنفيذ الحّد من أية
.تهمة كاِلرتشاء أو المهادنة أو التفرقة أو ممارسة التعذيب وأمثال ذلك
.ورابعًا :حضور مجموعة من الناس يمنع التعنت واِلفراط في تنفيذ الحّد
وخامسًا :حضور الناس يمنع المجرم من نشر الشائعات واِلتهامات ضد القاضي ،كما يحول هذا
.الحضور من نشاط المجرم التخريبي في المستقبل وغير ذلك من الفوائد
ــــــــــــــــــــــــــــ
سرين في ضرورة حضور مجموعة من المؤمنين حين تنفيذ حّد الزنا ،في 1 ـ شكك عدد من المف ّ
.حين أن المر بالحضور ظاهر من الية ،وهي ل تقصد اِلستحباب
][17
ـ ماذا كان حّد الزاني سابقًا؟ 4
ن الحكم قبل نزول سورة الّنور كان السجن يستفاد من اليتين ) (15و ) (16من سورة النساء أ ّ
المَؤّيد للزانية )فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت(وإلحاق الذى بالزناة غير المحصنين
)فآذوهما( ولم يحدد مقدار هذا الذى حتى حددته هذه اليُة بمائة جلدة .وعلى هذا حّل اِلعدام
حّدَد الذى لغير المحصن بمائة جلدة محل السجن المؤيد في الحكم على الزانية المحصنة ،و ُ
طلع راجع الّتفسير المثل في تفسير اليتين ) (15و ) (16من سورة النساء )).ولمزيد من اِل ّ
لفراط والتفريط عند تنفيذ الحّد 5 !ـ منع ا ِ
ن القضايا اِلنسانية والعاطفية توجب بذل أقصى الجهود لمنع إصابة بريء بهذا ل ريب في أ ّ
العقاب ،وإصدار العفو وفق الحكام اِللهية ،أّما إذا ثبت الذنب فلُبّد ِمن الحسم ِمن غير تأثر
ق بالنظام اِلجتماعي ضررًا ح ُف ُيل ِ
ق ،فهيجاُنها الجار ُ ح ّ بالمشاعر الكاذبة والعواطف البشرية إّل بال َ
.كبيرًا
صُرول سيما وقد وردت في الية عبارة" :في دين ال" أي :عندما يكون الحكم من ال فهو أَْب َ
عي من أجل شْر ِ
ي في إقامة حكم َ وأحَكم بمواِقع الرأفِة والّرحمِة ،فحين ينهى عن اِلنفعال العاطف ّ
ن أكثرية الناس تتمّلكهم هذه الحالة ،فيحتمل غلبة عواطفهم واحساساتهم على عقلهم وايمانهم. أّ
ب الِعّزِة
عانا إليه َر ّ
عّما َد َ
ف َف ،وهذا انحرا ُ ول جداَل في وجود فئة قليلة من الناس ِتِميُل ِإلى الُعْن ِ
ن الَعْدِل واِلحسان اللذين ل يظهران ِإّل بإقامِة أحكاِمِه الرشيدة ،فل ينبغي حكمِة ـ سبحاَنُه ـ ِم َ وال ِ
ِ.لُمسِلم أن يزيد أو ينقص في حكم ال سبحانه
][18
:ـ شروط تحريم الزواج بالزانية والزاني 6
ت الحاديث الشريفُة ذلك ذكرنا أن ظاهر اليات السابقة يحّرم الزواج من الزانية والزاني ،وخصص ِ
بالذين اشتهروا بالزنى ولم يتوبوا ،وأّما إذا لم يشتهروا بهذا العمل القبيح ،أو أّنهم تركوه
.وطّهروا أنفسهم منه ،وحافظوا على عفتهم ،فل مانع من الزواج منهم
أّما الدليل على الصورة الّثانية ،وهي حالة التوبة ،فإنه ل ينطبق عنوان الزاني والزانية على
هؤلء فكانت حالة مؤّقتة زالت عنهم .أّما في الحالة اُلولى فقد ورد هذا القيد في الروايات
اِلسلمية ويؤيده سبب نزول الية السابقة .ففي حديث معتبر عن المام الصادق)عليه السلم( أن
الفقيه المعروف "زرارة" سَأله عن تفسير )الزاني ل ينكح إّل زانية( .فقال المام)عليه السلم(:
"هن نساء مشهورات بالزنا ورجال مشهورون بالزنا ،قد شهروا بالزنا وعرفوا به ،والناس اليوم
بذلك المنزل ،فمن أقيم عليه حد الزنا ،أو شهر بالزنا ،ل ينبغي لحد أن يناكحه حتى يعرف منه
)توبته")1
.كما جاءت أحاديث ُأخرى بهذا المضمون
:ـ فلسفة تحريم الزنا 7
ل يخفى على أحد مساويء هذا العمل القبيح على الفرد والمجتمع ،ومع ذلك نرى من اللزم بيان
ي إلى الدمار
ن ممارسة هذا العمل القبيح وانتشاره يعّرض النظام السر ّ .هذا المعنى باختصار :إ ّ
.ويجعل العلقة بين البن وأبيه غامضة وسلبية
جناة خطرين ن الولد المجهولي النسب يتحولون إلى ُ وقد بّينت لنا التجربة أ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
رابع عشر ،ص 1 335
.ـ وسائل الشيعة ،المجلد ال ّ
][19
.على المجتمع
ن هذا العمل القبيح يؤدي إلى مصادمات بين أصحاب المطامع والهواء .كما أ ّ
.إضافة إلى انتشار أنواع المراض النفسية والجلدية .وذلك ليس خافياً على أحد
ض وارتكاب الجرائم من هذا القبيل )ولمزيد اِلطلع راجع الّتفسير
ومن نتائجه المشؤومة اِلجها ُ
).المثل آخر الية 32من سورة اِلسراء
***
][20
اليتان
شَهـَدًة
جْلَدًة َوَل َتْقَبُلوا َلُهْم َ
ن َ جِلُدوُهْم َثَمـِني َ
شَهدآَء َفا ْ ت ُثّم َلْم َيْأُتوا ِبَأْرَبَعِة ُ
صنـ ِ
ح َ ن اُلم ْ ن َيْرُمو َ َوالِّذي َ
حيٌم)5غُفوٌر ّر ِ ل َنا َ حوا َفِإ ّ ك َوَأصَْل ُ
ن َتاُبوا ِمن َبْعِد َذِل َن)َ (4إّل اّلِذي َ سُقو َ
ك ُهُم اْلَفـ ِ)َأَبَدًا َوُأؤَلـئ َ
الّتفسير
:عقوبة البهتان
ت عليه اليات السابقة من عقوبات شديدة للزاني والزانية فيسيئون ص َْقد يستِغّل المعترضون ما َن ّ
خرون هذا للمتطّهرين ،فبّينت اليات اللحقُة هنا عقوبات شديدة للذين يرمون المحصنات ،وُيس ّ
الحكم لغراضهم الدنيئة .فجاءت هاتان اليتان لحفظ الحرمات الطاهرة وصيانة الكرامات ِمن
.عبث هؤلء المفسدين
تقول الية) :والذين يرمون المحصنات ثّم لم يأتوا بأربعة شهداء(فالشخاص الذين يّتهمون
النساء العفيفات بعمل ينافي العّفة )أي الزنا( ،ولم يأتوا بأربعة شهود عدول لثبات ادعائهم.
فحكمهم )فاجلدوهم ثمانين جلدة( وتضيف
][21
).الية حكمين أخرين) :ول تقبلوا لهم شهادة أبدًا ،وُأولئك هم الفاسقون
ن كلمهم فهنا ل يقع مثل هؤلء الشخاص تحت طائلة العقاب الفيزيقي الشديد فحسب ،بل إ ّ
وشهادتهم يسقطان عن العتبار أيضًا ،لكيل يتمكنوا من التلعب بسمعة الخرين وتلويث شرفهم
في المستقبل ،مضافًا إلى أن وصمة الفسق تكتب على جببينهم فيفتضح أمرأهم في المجتمع .وذلك
.لمنِعهم من تلويث سمعة الطاهرين
ف والطهارِة ،ليس خاصًا بهذه المسألة ،ففي كثير من وهذا التشديد في الحكم المشّرع لحفظ الشر ِ
التعاليم اِلسلمية نراه ماثل أمامنا للهمية البالغة التي يمنحها اِلسلم لشرف المرأة والرجل
.المؤمن الطاهر
وجاء في حديث عن اِلمام الصادق)عليه السلم(" :إذا اتهم المؤمن أخاه انماث اِليمان من قلبه
).كما ينماث الملح في الماء")1
ب رحمته في وجه التائبين ،الذين تابوا من ن المولى العزيَز الحكيَم سبحانه وتعالى ل يسّد با َ ولِك ّ
ذنوبهم وطّهروا أنفسهم ،وندموا على ما فّرطوا ،وسعوا في تعويض ما فاتهم ِمن البّر )إلّ الذين
ن ال غفور رحيم ).تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإ ّ
سرون في كون هذا اِلستثناء يعود إلى جملة )ُأولئك هم الفاسقون( أو ِإلى جملة وقد اختلف المف ّ
ن معًا ،فمعنى ذلك قبولن اِلستثناُء عائدًا إلى الجملتي ِ
)ول تقبلوا لهم شهادة أبدًا( ،فإذا كا َ
شهادتهم بعد التوبة وإزاَلُته الحكَم بفسقهم .أّما إذا كان عائدًا إلى الجملة الخيرة ،فإن الحكم
عليهم بالفسق سيزول عنهم في جميع الحكام اِلسلمية ،إّل أن شهادتهم تظل باطلة ل ُتقَبُل منهم
.حتى آخر أعمارهم
إّل أن المبادىء المعمول بها في "ُأصول الفقه" تقول" :إن الستثناء الوارد
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ أصول الكافي ،المجلد الثاني ،صفحة ،269باب التهمة وسوء الظن 1
][22
بعد عّدة جمل يعود إلى الخيرِة منها ،إّل في حالة وجود قرائن تنص على شمول هذه الجمل بهذا
الستثناء .وهنا يوجد مثل هذه القرينة ،لّنه عندما يزول الحكم بالفسق عن الشخص بتوبته إلى
ن عدم قبول الشهادة كان من أجل فسقه .فإذا تاب ورجعت ال ،فل يبقى دليل على َرّد شهادته ل ّ
.إليه ملكة العدالة فل يسمى فاسقًا
وجاءت أحاديث عن أهل البيت)عليهم السلم( مؤّكدة هذا المعنى ،فقد روى أحمد بن محمد عن
الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد وحماد عن القاسم بن سليمان قال :سألت أبا عبدال)عليه
السلم( عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدًا ،ثّم يتوب ول نعلم منه إّل خيرًا أتجوز شهادته؟ قال:
"".نعم .ما يقال عندكم؟
.قلت :يقولون :توبته فيما بينه وبين ال ،ول تقبل شهادته أبدًا
)فقال" :بئس ما قالوا :كان أبي يقول :إذا تاب ولم نعلم منه إّل خيرًا جازت شهادته")1
.كما رويت أحاديث ُأخرى في هذا الباب بهذا المعنى ،ولكن يوجد حديث واحد يحمل على التقية
ومن الضروري أن نذّكر بأن كلمة "أبدًا" في جملة )ل تقبلوا لهم شهادة أبدًا(دليل على عمومية
صة الستثناء المتصل به( ،فالرأي القائل أنن كل عام يقبل الستثناء )خا ّ الحكم .وكما نعلم فإ ّ
.لفظة )أبدًا( تمنع تأثير التوبة خطأ مؤّكد
***
بحوث
"ـ المراد من كلمة "رمى 1
رمي" في الصل هو اطلق السهم أو قذف الحجر وأمثالهما ،وطبيعي أنه" ال ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ وسائل الشيعة ،المجلد 18كتاب الشهادات ،الباب 36صفحة 1 282
][23
يؤذي في معظم الوقات ،وقد استخدمت الكلمة هنا كناية عن اتهام الشخاص وسبابهم ووصِفهم
.بما ل يليق ،لن هذه الكلمات كالسهم يصيب الشخص ويجرحه
ولعل ذلك هو السبب في استخدام هذه اليات ـ واليات المقبلة ـ لهذه الكلمة بشكل مطلق ،فلم تِرِد
اليُة على هذا النحو )والذين يرمون المحصنات بالزنا( وإّنما جاءت )والذين يرمون المحصنات(
صة مع ملحظة القرائن الكلمية يستبطن معنى )الزنا( ،وعدم التصريح لنّ مفهوم "يرمون" وخا ّ
به ول سيما عند الحديث عن النساء العفيفات نوع من الحترام لهن .وهذا التعبير مثال بارٌز
.لكرام المتطهرين ،ونموذج لحترام الدب والعفة في الكلم
ـ لماذا أربعة شهود؟ 2
من المعلوم أن شاهدين عادلين يكفيان ـ في الشريعة اِلسلمية ـ لثبات حق ،أوذنب اقترفه
شخص ما ،حتى وإن كان قتل النفس .أّما في إثبات الزنا فقد اشترط ال تعالى أربعة شهود .وقد
يكون ذلك لن الناس يتعجلون الحكم في هذه المسألة ،ويتطاولون بإلصاق تهمة الزنا بمجّرد
الشك ،ولهذا شّدد اِلسلم في هذا المجال ليحفظ حرمات الناس وشرفهم .أّما في القضايا اُلخرى ـ
.حتى قتل النفس ـ فإن موقف الناس يختلف
إضافة إلى أن قتل النفس ذو طرف واحد في الدعوى ،أي إنّ المجرم واحد ،أّما الزنا فذو طرفين،
حيث يثبت الذنب على شخصين أو ُيْنَفى عنهما ،فإذ كان المخصص لكل طرف شاهدين ،فيكون
.المجموع أربعة شهود
وهذا الكلم تضمنه الحديث التالي :عن أبي حنيفة قال :قلت لبي عبدال)عليه السلم(أّيهما أشّد
الزنا أم القتل؟ قال :فقال)عليه السلم( :القتل :قال :فقلت :فما بال القتل جاز فيه شاهدان ،ول
:يجوز في الزنا ِإّل أربعة؟ فقال لي :ما عندكم فيه يا أبا حنيفة ،قال
][24
ن ال أجرى في الشهادة كلمتين على العباد ،قال :ليس كذلك قلت :ما عندنا فيه إّل حديث عمر ،إ ّ
ن الرجل والمرأة ن الزنا فيه حّدان ،ول يجوز أن يشهد كّل اثنين على واحد ،ل ّ يا أبا حنيفة ولك ّ
).جميعًا عليهما الحّد ،والقتل إّنما يقام الحّد على القاتل ويدفع عن المقتول)1
وهناك حالت معينة في الزنا ،ينفذ الحد فيها على طرف واحد )كالزنا باِلكراه وأمثاله( إّل أنها
حالت مستثناة والمتعارف فيه اتفاق الطرفين ،ومن المعلوم أن غايات الحكام تتبع الغالب في
.الفراد
شرط المهم في قبول التوبة 3 ـ ال ّ
ن التوبة ليست فقط بالندامة على ما اقترفه النسان وتصميمه على تركه في قلنا مرارًا :إ ّ
جهالمستقبل ،بل تقتضي ـ إضافة إلى هذا ـ أن يقوم الشخص بالتعويض عن ذنوبه اقترفها ،فإذا و ّ
ضّرَر باّتهامه،
المرء تهمة لمرأة أو رجل طاهر ثّم تاب ،فيجب عليه أن يعيد العتبار إلى من َت َ
ن كل الذين سمعوها عنه .وذِلك بأن يكذب هذه التهمة َبْي َ
فعبارة )واصلحوا( التي أعقبت عبارة )تابوا( هي إشارة إلى هذه الحقيقة ،حيث أوجبت التوبة ـ
كما قلنا ـ أول ،ثّم إصلح ما أفسده وإعادة ماء وجه الذي أساء إليه ،وليس صحيحًا أن يّتهم
حف وأجهزة العلم ،ثّم يستغفر في خلوة ن أخاُه ظلمًا في مل عام ،أو يعلن عن ذلك في الص ّ إنسا ٌ
.داره ـ مثل ـ ويطلب من ال الصفح عنه ،وبالطبع لن يقبل ال مثل هذه التوبة
لذلك روي عن أئّمة المسلمين قال الّراوي :سألته عن الذي يقذف المحصنات ،تقبل شهادته بعد
:الحّد إذا مات؟ قال :نعم ،قلت ،وما توبته؟ قال
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ نور الثقلين ،المجلد الثالث ،ص 1 574
][25
).ل يجىء فيكذب نفسه عند المام ويقول" :قد افتريت على فلنة ويتوب مّما قال")1
:ـ أحكام القذف 4
.يوجد باب تحت عنوان "حد القذف" في كتاب الحدود
و"القذف" على وزن "َفْعُل" يعني لغًة رمي الشيء نحو هدف بعيد ،إّل أّنه استخدمت كلمة
".رمى" كناية عن إتهام شخص ما في عرضه ،أو بتعبير آخر :هو سباب يرتبط بهذه اُلمور
و "القذف" إذا جرى بلفظ صريح ،وبأي لغة وأية صورة فحّدة ـ كما قلنا سابقًا ـ هو ثمانون جلدًة.
وإذا لم يكن صريحًا فيعّزر القاذف) .ولم ترد في الشريعة اِلسلمية حدود للتعزير ،بل وكل التعزير
).إلى تقدير القاضي ،ليقرر حدودها وفق خصائص المذنب وكيفية وقوع الذنب والشروط اُلخرى
وإذا وجه شخص اتهامًا لمجموعة من الناس ،وكرره بالنسبة لكل واحد منهم ،فإنه يواجه حّد
حّد واحٌد إن طالبوا القاضيالقذف لكل تهمة تفّوه بها ،أّما إذا اتهمهم مّرة واحدة ،فينّفُذ بحقه َ
جميعًا مرة واحدة .وأّما إذا أقام كّل واحد منهم الدعوى بصورة مستقلة ،فإنه يعاقب المذنب بعدد
.هذه الدعاوي
وهذا الموضوع من الهمية إلى درجة أّنه إذا إتهم شخصًا ومات المتهم ،فلورثته الحق في
المطالبة باقامة الحّد على الذي إتهم مورّثهم بشيء .وبما أن هذا الحكم مرتبط بحق الشخص،
فلصاحب الحق العفو عن الذنب وإسقاط الحّد عنه ،بإستثناء حالة تكرر هذا الذنب من شخص
.معين بحيث يعرض وجود وشرف المجتمع إلى الخطر ،فيكون حسابه عسيرًا
ــــــــــــــــــــــــــــ
).ـ وسائل الشيعة ،المجلد الثامن عشر ،صفحة )) (283أبواب الشهادات باب 36الحديث 1 4
][26
ن حاكم الشرع يعزرهما ،ولهذا ل يجوز للشخص َرّد سَقط الحد عنهما ،إّل أ ّ
ب شخصان َ وإذا تسا ّ
ن يطلب من حاكم الشرع معاقبة المذنب سباب بالمثلَ ،بل َلُه أ ْ
.ال ّ
ن هذا الحكم اِلسلمي َيْرمي إلى المحافظة على سمعة الناس وشرفهم ،وإلى وعلى كل حال فإ ّ
الحيلولِة دون انتشار المفاسد اِلجتماعية والخلقية التي يبتلي المجتمع بها عن هذا الطريق .ولو
ك المفسدون يعملون ما يحلو لهم يسّبون ويتهمون الشخاص والمجتمع متى شاؤوا دون ُتِر َ
رادع ،لتعرض شرف الناس وكرامتهم إلى الهتك ،ولوصل المر بسبب هذه التهم الباطلة إلى
وقوع الريبة بين الزوج وزوجته ،وسوء ظن الب بشرعية ولده إلى الخطر .ويسيطر الشك
وسوء الظن على المجتمع كله .وترّوج الشائعات فتصيب الطاهرين أيضًا .وهنا يستوجب العمل
.بحزم كبير مثلما عامل اِلسلم هؤلء المسيئين مرّوجي التهم والشائعات
][27
اليات
ل إِّنُه َلِمنَ
ت ِبا ِ
شَهـَد ِ
حِدِهْم َأْرَبُع َ
شَهـَدُة َأ َ
سُهْم َف َ
شَهدآُء ِإّل َأْنُف ُ ن ّلُهْم ُجُهْم َوَلْم َيُك ْ ن َأْزوا َ ن َيْرُمو َ
َواّلِذي َ
شَهَد
ن َت ْ
ب َأ ْ
عْنَها اْلَعذا َ
ن )َ(7وَيْدَرُؤا َ ن اْلَكـِذبي َ
ن ِم َ
ن َكا َ عَلْيِه ِإ ْ
ل َتا ِ ن َلْعَن َسُة َأ ّخـِم َ ن )َ(6واْل َ صـِدِقي َ
ال ّ
ن)(9 صـِدقي َ
ن اْل ّن ِم َعَلْيَهآ ِإن َكا َ
ل َ با ِ ض َغ َ ن َسَة أ ّ خـِم َ ن)َ (8واْل َ ن اْلَكـِذبي َ ل ِإّنُه َلِم َ
ت ِبا ِشَهـَد ِ
َأْرَبَع َ
حِكيٌم)10 ب َ ل َتّوا ٌ نا ُحَمُتُه َوأ ّ عَلْيُكْم َوَر ْ ل َ ضُل ا ِ)َوَلْو َل َف ْ
سبب الّنزول
روى ابن عباس أن سعد بن عبادة )سيد النصار( من الخزرج ،قال لرسول ال)صلى ال عليه
وآله وسلم( بحضور جمع من الصحاب" :يا رسول ال! لو أتيت لكاع )زوجته( وقد يفخذها رجل
لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ،فوال ما كنت لتي باربعة شهداء حتى يفرغ من
حاجته ويذهب ،وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة ،فقال الّنبي)صلى ال عليه وآله
).وسلم
][28
يا معشر النصار ما َتسمعون إلى ما قال سيدكم؟
فقالوا :ل تلمه فإّنه رجل غيور .ما تزوج امرأة إّل بكرًا ،ول طّلق امرأة له فاجترى رجل مّنا أن
.يتزوجها
فقال سعد بن عبادة :يا رسول ال ،بأبي أنت وُأمي ،وال إّني لعرف أّنها من ال ،وأّنها حق،
.ولكن عجبت من ذلك لما اخبرتك
ن ال يأبى إّل ذاك
.فقال)صلى ال عليه وآله وسلم( :فإ ّ
.فقال :صدق ال ورسوله
فلم يلبثوا إّل يسيرًا حتى جاء ابن عم له ،يقال له :هلل بن ُأمية قد رأى رجل مع امرأته ليل،
شاُء فوجدت معها ع َ
فجاء شاكيًا إلى الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( فقال :إّني جئت أهلي ِ
.رجل رأيته بعيني وسمعته بُأذني
فكره ذلك رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( حتى رؤيت الكراهة في وجهه ،فقال هلل :إّني
.لرى الكراهة في وجهك ،وال يعلم إّني لصادق ،وإّني لرجو أن يجعل ال لي فرجًا
فهّم رسوُل ال بضربه ،واجتمعت النصار وقالوا :ابتلينا بما قال سعد ،أيجلد هلل وتبطل
شهادته؟ فنزل الوحي وأمسكوا عن الكلم حين عرفوا أن الوحي قد نزل ،فأنزل ال تعالى )والذين
ن ال تعالىيرمون أزواجهم( اليات ،فقال رسوُل ال)صلى ال عليه وآله وسلم( :أبشريا هلل ،فإ ّ
.قد جعل فرجًا
)فقال :قد كنت أرجوا ذاك من ال تعالى1).
.وبنزول اليات السابقة علم المسلمون الحل السليم لهذه المشكلة ،وشرحها كما يأتي
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ تفاسير مجمع البيان ،وفي ظلل القرآن ،ونورالثقلين ،والميزان ،في تفسير اليات موضع 1
).البحث )مع بعض الختلف
][29
الّتفسير
!عقاب توجيه التهمة إلى الزوجة
ن هذه اليات في حكم اِلستثناء الوارد على حد القذف ،فل ُيطبق حّد يستنتج من سبب الّنزول أ ّ
القذف )ثمانين جلدة( على زوج يّتهم زوجته بممارسة الزنا مع رجل آخر ،وتقبل شهادته لوحدها.
ويمكن في هذه الحالة أن يكون صادقًا كما يمكن أن يكون كاذبًا في شهادته .وهنا يقدم القرآن
:المجيد حل أمثل هو
على الزوج أن يشهد أربع مرات على صدق ادعائه )والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم
الشهداء إّل أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بال إّنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة ال
عليه إن كان من الكاذبين( وبهذا على الرجل أن يعيد هذه العبارة "اشهد بال إني لمن الصادقين
فيما رميتها من الزنا" أربع مرات لثبات ادعائه من جهة ،وليدفع عن نفسه حد القذف من جهة
ي إن كنت من الكاذبينُ".أخرى .ويقول في الخامسة" :لعنة ال عل ّ
وهنا تقف المرأة على مفترق طريقين ،فإّما أن تقر بالتهمة التي وجهها إليها زوجها ،أو تنكرها
.على وفق ما ذكرته اليات التالية
.ففي الحالة اُلولى تثبت التهمة
وفي الّثانية )ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بال إّنه لمن الكاذبين والخامسة أن
غضب ال عليها إن كان من الصادقين( .وبهذا الترتيب تشهد المرأة خمس مرات مقابُل شهادات
الرجل الخمس ـ أيضًا ـ لتنفي التهمة عنها .بأن تكرر أربع شهادات "أشهد بال إّنه لمن الكاذبين
ي إن كان من الصادقين".فيما رماني من الزنا" وفي الخامسة تقول "أن غضب ال عل ّ
ت منهما هي ما يسّمى بـ "اللعان" ،لستخدام عبارة اللعن في الشهادة .وهِذِه الشهادا ُ
.وليترتب على هذين الزوجين أربعة أحكام نهائية
][30
.أّولها :انفصالهما دون طلق
وثانيها :تحرم الزوج على الزوجة إلى البد ،أي ل يمكنهما العودة إلى الحياة الزوجية معًا بعقد
.جديد
وثالثها :سقوط حد القذف عن الرجل ،وحد الزنا عن المرأة )وإذا رفض أحدهما تنفيذ هذه
حّد القذف إن كان الرافض الرجل ،وإن كانت المرأة يقام عليها حد الزنا .الشهادات يقام عليه َ
.ورابعها :الطفل الذي يولد بعد هذه القضية ل ينسب إلى الرجل ،وتحفظ نسبته للمرأة فقط
ولم ترد تفاصيل الحكم السابق في اليات المذكورة أعله ،وإّنما جاء في آخر الية موضع البحث
)ولول فضل ال عليكم ورحمته وإن ال تّواب حكيم( .فهذه الية إشارة إجمالية إلى تأكيد الحكام
ن فضل من ال ،إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان ،بشكل السابقة ،لّنها تدل على أن اللعا َ
.صحيح
فمن جهة ل يجبر الرجل على التزام الصمت إزاء سوء تصرف زوجته ويمتنع من مراجعة الحاكم
.الشرعي
ومن جهة ُأخرى ل تتعرض المرأة إلى حّد الزنا الخاص بالمحصنة بمجّرد توجيه التهمة إليها ،بل
.يمنحها السلم حق الدفاع عن نفسها
ومن جهة ثالثة ل يلزم الرجل البحث عن شهود أربعة إن واجه هذه المشكلة ،لثبات هذه التهمة
.النكراء والكشف عن هذه الفضيحة المخزية
ومن جهة رابعة يفصل بين هذين الزوجين ول يسمح لهما بالعودة إلى الحياة الزوجية بعقد جديد
في المستقبل أبدًا ،لتعّذر الستمراُر في الحياة الزوجيِة إن كانت التهمة صادقة ،كما أن المرأة
تصاب بصدمة نفسية إن كانت التهمة كاذبة .وتجعل الحياة المشتركة ثانية صعبة للغاية ول
.تقتصر على حياة باردة وخاملة ،بل ينتج عن هذه التهمة عداء مستفحٌل بينهما
][31
.ومن جهة خامسة توضح الية مستقبل الوليد الذي يولد بعد توجيه هذه التهمة
ن لطفِ
عْن بها على عباده .وحل هذه المشكلة بشكل عادُل ُيعّبُر َ
هذا كله فضل من ال ورحمة م ّ
ل بعباِدِه َوَرحمته لهم .ولو دققنا النظر في الحكم لرأينا أّنه ل يتقاطع مع ضرورة وجود شهود
ا ِ
.أربعة في هذه القضية .إذ أن تكرار كل من الرجل والمرأة شهادتهما أربع مرات يعوض عن ذلك
***
ملحظات
ـ لماذا استثني الزوجان من حكم القذف؟ 1
سؤال الّول الذي يطرح نفسه هنا :ما هي خاصية الزوجين ،ليصدر هذا الحكم المستثنى ال ّ
بحّقهما؟
ونجد جواب هذا السؤال من جهة في سبب نزول الية ،وهو عدم تمكن الرجل من التزام الصمت
.إزاء مشاهدته لزوجته وهي تخونه مع رجل آخر
جه إلى القاضي وهو يصرخ كيف له أن يمتنع عن رد الفعل إزاء العتداء على شرفه؟ وإذا تو ّ
ويستنجد ،فقد يواجه حّد القذف ،لعدم تيقن القاضي من صدق دعواه .وإذا حاول إحضار أربعة
شهود ،فإن ذلك صعب عليه لمساسه بشرفه ،وقد تنتهي الحادثة ول يمكنه إحضار شهوده في
.الوقت المناسب
ن الغرباء يّتهمون بعضهم بعضًا بسهولة ،ولكن الرجل والمرأة نادرًا ما يّتهم
ومن جهة ُأخرى ،فإ ّ
.أحدهما الخر
ولهذا السبب حكم الشارع في هذه القضية بوجوب إحضار أربعة شهود في غير الزوجين ،وإّل
صهماحّد القذف على الذي يوجه تهمة الزنا ،وليس المر كذلك بالنسبة للزوجين ،ولهذا خ ّ ُنّفَذ َ
صة في هذه الحالة
.الحكم المذكور لما فيهما من ميزات خا ّ
][32
ـ كيفية اللعان 2
توصلنا بعد اِليضاحات التي ذكرناها خلل تفسير هذه اليات ،إلى وجوب تكرار الرجل شهادته
حّد القذف .وبهذا فإن هذه أربع مرات ليثبت صحة دعواه في اتهامه لزوجته بالزنا ،ولينجو من َ
.الشهادات الربع من الزوج بمثابة أربعة شهود ،وفي الخامسة يتقبل لعنة ال عليه إن كان كاذبًا
ومع اللتفات إلى أن تنفيذ هذه الحكام يتم عادة في محيط اسلمي ملتزم وبيئة متدّينة ،ويرى
الزوج نفسه مضطرًا للوقوف بين يدي الحاكم الشرعي ،ليدلي بشهادته أربع مرات بشكل حاسم ل
يقبل الشك والترديد ،وفي الخامسة يطلب من ال أن يلعنه إن كان كاذبًا ،فهذا كله يمنع الرجل من
.التهّور وتوجيه اتهام باطل إلى زوجته
أّما المرأة التي تريد الدفاع عن نفسها وترى نفسها بريئة من هذه التهمة ،فعليها تكرار شهادتها
أربع مرات وتشهد أن التهمة باطلة ،ليجاد موازنة بين شهادتي الرجل والمرأة ،وبما أن الّتهمة
موجهة للمرأة ،فإّنها تدافع عن نفسها بعبارة أقوى في المرحلة الخامسة ،حيث تدعو ال أن ينزل
.غضبه عليها إن كانت كاذبة
ن "اللعنة" إبتعاد عن الرحمة.وكما نعلم فإ ّ
ن الغضب يستلزم العقاب ،فهو أكثر من البتعاد عن وأّما "الغضب" فإّنه أمر أشد من اللعنة ،ل ّ
.الرحمة
سَوأ من )الضالين( على الرغم من ن )المغضوب عليهم( هم أ ْ ولهذا قلنا في تفسير سورة الحمد :إ ّ
ن الضاّلين هم بالتأكيد بعيدون عن رحمة ال تعالى .أ ّ
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
لخرى قال" :لو ل ما أنعم ال 1ـ ذكر تفسير "الميزان" جواب الشرط بشكل يشمل التفاسير ا ُ
عليكم من نعمة الدين وتوبته لمذنبيكم وتشريع الشرائع لنظم أمور حياتكم ،لزمتكم الشقوة،
".وأهلكتكم المعصية والخطيئة ،واختل نظام حياتكم بالجهالة
][34
اليات
س َ
ب خْيٌر ّلُكْم ِلُكّل اْمِرىء ّمْنُهم ّما اْكَت َ
شّرا ّلُكْم َبْل ُهَو َ
سُبوُه َ
ح َ
صَبٌة ّمنُكْم َل َت ْ
ع ْ
ك ُ
جآُءو ِباِلْف ِ
ن َ
ن اّلِذي َ
ِإ ّ
ن َواْلُمْؤِمَنـ ُ
ت ن اْلُمْؤِمُنو َ ظّ سِمْعُتُموُه َ ظيٌم)ّ (11لْوَل ِإْذ َ عِ ب َ عَذا ٌ ِمنَ اِْلْثِم َواّلِذى َتَوّلى ِكْبَرُه ِمْنُهْم َلُه َ
شَهَدآِءشَهَدآَء َفِإَذ َلْم َيْأُتوا ِبال ّعَلْيِه ِبَأْرَبَعِة ُ
جآُءو َ ن )ّ(12لوَل َ ك ّمِبي ٌ خْيرًا َوَقاُلوا َهَذآ ِإْف ٌ
سِهْم َِبَأْنُف ِ
سُكمْ ِفى َمآ خَرِة َلَم ّ
عَلْيُكْم َوَرحَْمُتُه ِفى الّدْنَيا َواَْل ِ ل َ ضُل ا ِن)َ (13وَلْوَل َف ْ ل ُهُم اْلَكـِذُبو َ عنَد ا ِ
ك َِفُأْولـِئ َ
سُبوَنُهح َ
عْلٌم َوَت ْ
س َلُكْم ِبِه ِ ن ِبَأْفَواِهُكم ّما َلْي َ سَنِتُكْم َوَتُقوُلو َ
ظيٌم)ِ (14إْذ َتَلّقْوَنُه ِبَأْل ِ عِب َ عَذا ٌضُتْم ِفيِه َ
َأَف ْ
ك َهَذا ُبْهَتـ ٌ
ن حـَن َ
سْب َن ّنَتَكّلَم ِبَهَذا ُسِمْعُتُموُه ُقْلُتْم ّما َيُكونُ َلَنآ َأ ْ
ظيٌم)َ (15وَلْوَل ِإْذ َ عِل َ عنَد ا َِهّينًا َوُهَو ِ
ظيٌم)16 )عَ ِ
سبب الّنزول
:ذكر سببين لنزول اليات السابقة
أّولهما :ما روته عائشة زوجة الّرسول قالت :كان رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( إذا أراد
أن
][35
ن خرج سهمها خرج بها رسول ال)صلى ال عليه وآله يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأّيته ّ
وسلم(معه .قالت عائشة :فأقرع بيننا في غزوة) (1غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول
ال)صلى ال عليه وآله وسلم( بعد ما نزل الحجاب وأنا ُأحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى
.إذا فرغ رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( من غزوته تلك وقفل
فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش
فلّما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار) .(2قد انقطع فالتمست عقدي
وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي
كنت أركب ،وهم يحسبون أني فيه ،وكانت النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم إّنما تأكل المرأة
العلقة) (3من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا
الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ول مجيب
ي فبينا أنا جالسة في منزلي فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أّنهم سيفقدوني فيرجعون إل ّ
.غلبتني عيني فنمت
وكان صفوان بن المعطل السلمي ثّم الذكر إّني من وراء الجيش فأدلج)(4فأصبح عند منزلي فرأى
سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين
عرفني فخمرت وجهي بجلبابي وال ما كلمني كلمة واحدة ول سمعت منه كلمة غير استرجاعه
طى على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن حتى أناخ راحلته فو ّ
.نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ هي غزوة بني المصطلق في العام الخامس لللهجرة 1
ـ ظفار كقطام بلد باليمين قرب صنعاء ،وجزع ظفاري منسوب إليها والجزع الخرز وهو الذي 2
.فيه سواد وبياض
.ـ العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق 3
.ـ أدلج القوم :ساروا الليل كله أو في آخره 4
][36
ي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا والناس وكان الذي تولى الفك عبدال بن ُأب ّ
يفيضون في قول أصحاب الفك ل ُأشعر بشيء من ذلك ،وهو يريبني في وجعي أني ل أعرف من
ي فيسلم ثّم
رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إّنما عل ّ
يقول :كيف تيكم؟ ثّم ينصرف فذاك الذي يريبني ول ُأشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت
وخرجت معي ُأم مسطح قبل المناصع) (1وهي متبرزنا وكّنا ل نخرج إّل ليل إلى ليل ،وذلك قبل
أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الّول في التبّرز قبل الغائط فكّنا نتأذى بالكنف
.أن نتخذها عند بيوتنا
فانطلقت أنا وُأم مسطح فأقبلت أنا وُأم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا) (2من ثيابنا فعثرت ُأم مسطح
في مرطها) (3فقالت :تعس مسطح فقلت لها :بئس ما قلت أتسبين رجل شهد بدرًا؟ قالت :إي
هنتاه) (4أو لم تسمعي ما قال؟ قلت :وما قال :فأخبرتني بقول أهل الفك فازددت مرضًا على
.مرضي
ي رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( فسلم ثّم قال :كيف تيكم؟ فلما رجعت إلى بيتي دخل عل ّ
فقلت :أتأذن لي أن آتي أبوي؟ ـ قالت :وأنا حينئذ ُأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ـ قالت :فأذن
لي رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( فجئت لبوي فقلت ُلمي :يا ُأمتاه ما يتحدث الناس؟
قالت يا بنية هوني عليك فوال لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحّبها ولها ضرائر إّل أكثرن
عليها فقلت :سبحان ال ولقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ل يرقًا لي دمع
.ول أكتحل بنوم ثّم أصبحت أبكي
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ المناصع :المواضع يتخلى فيها لبول أو حاجة 1
.ـ أي رفعنا ثيابنا 2
.ـ المرط ـ بالكسر ـ كساء واسع يؤتزر به وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به 3
.ـ خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه 4
][37
ودعا رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( علي بن أبي طالب وُأسامة بن زيد حين استلبث
الوحي يستأمرهما في فراق أهله ،فأّما اسامة فأشار على رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(
بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ فقال :يا رسول ال)صلى ال عليه
وآله وسلم(أهلك ول نعلم إّل خيرًا ،وأّما علي بن أبي طالب فقال :يا رسول ال لم يضّيق ال
عليك ،والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك ،فدعا رسول ال)صلى ال عليه وآله
وسلم(بريرة فقال :أي بريرة هل رأيت شيئًا يريبك؟ قالت بريرة :ل والذي بعثك بالحق إن رأيت
.عليها أمرًا أغمضه أكثر من أّنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله
فقام رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( فاستعذر يومئذ من عبدال بن أبي فقال وهو على
المنبر :يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوال ما علمت على
.أهلي إّل خيرًا ،ولقد ذكروا رجل ما علمت عليه إّل خيرًا وما كان يدخل على أهلي إّل معي
فقام سعد بن معاذ النصاري فقال :يا رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( أنا أعذرك منه إن
كان من الوس ضربت عنقه وإن كان من إخواتنا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ،فقام سعد
بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجل صالحًا ولكن احتملته الحمّية ابن عم سعد فقال
لسعد بن عبادة :كذبت لعمر ال ما تقتله ول تقدر على قتله ،فقام ُأسيد بن خضير وهو ابن عم
سعد بن عبادة ،قال :كذبت لنقتلنه فإّنك منافق تجادل عن المنافقين ،فتثاورا الحّيان :الوس
والخزرج حتى هّموا أن يقتتلوا ورسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(قائم على المنبر فلم يزل
.رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( يخفضهم حتى سكنوا وسكت
فبكيت يومي ذلك فل يرقًا لي دمع ول أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا ل
.أكتحل بنوم ول يرقًا لي دمع وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي
][38
ي امرأة من البصار فأذنت لها فجلست تبكي
فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عل ّ
معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(ثّم جلس ولم يجلس
ي ما قيل قبلها وقد لبث شهرًا ل يوحى إليه في شأني بشيء ،فتشهد حين جلس عندي منذ قيل ف ّ
ثّم قال :أّما بعد يا عائشة إّنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرؤك ال ،وإن كنت ألممت
.بذنب فاستغفري ال وتوبي إليه فإن العبد إذا إعترف بذنبه ثّم تاب تاب ال عليه
فلّما قضى رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( مقالته قلص) (1دمعي حتى ما ُأحس منه قطرة،
فقلت لبي :أجب عّني رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( .قال :وال ما أدري ما أقول لرسول
ال)صلى ال عليه وآله وسلم( ،فقلت ُلمي :أجيبي عني رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(،
).قالت :وال ما أدري ما أقول لرسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم
فقلت وأنا جارية حديثة السن ل أقرأ كثيرًا من القرآن :إّني وال لقد علمت أّنكم سمعتم هذا
الحديث حتى استقر في أنفسكم وصّدقتم به فلئن قلت لكم :إّني بريئة وال يعلم أني بريئة ل
تصّدقوني ،ولئن اعترفت لكم بأمر وال يعلم أّني منه بريئة لتصّدقّني ،وال ل أجد لي ولكم مثل
.إّل قول أبي يوسف :فصبر جميل وال المستعان على ما تصفون
ثّم تحّولت فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن ال مبّرئي ببراءتي ولكن وال
ما كنت أظن أن ال منزل في شأني وحيًا يتلى ،ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم ال في
.بأمر يتلى ،ولكن كنت أرجو أن يرى رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( رؤيا يبّرئني ال بها
قالت :فوال ما رام رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( مجلسه ول خرج أحد من أهل البيت
حتى ُأنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحّدر منه
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ قلص :اجتمع وانقبض 1
][39
مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ُأنزل عليه فلّما سري عن رسول
ال)صلى ال عليه وآله وسلم( سري عنه وهو يضحك فكان أّول كلمة تكلم بها أن قال :أبشري يا
عائشة أّما ال فقد بّرأك ،فقالت ُأمي :قومي إليه ،فقلت :وال ل أقوم اليه ول أحمد إّل ال الذي
.أنزل براءتي ،وأنزل ال" :إن الذين جاؤا بالفك عصبة منكم" العشر اليات كلها
فلما أنزل ال هذا في براءتي قال أبوبكر ،وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره:
وال ل ُأنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل ال" :ول يأتِل ُأولو الفضل
ب أن
منكم والسعة أن يؤتوا ُأولي القربى والمساكين ـ إلى قوله ـ رحيم" قال أبوبكر :وال إّني ُاح ّ
.يغفر ال لي فرجع إلى َمسطح النفقة التي كان ينفق عليه ،وقال :وال ل أنزعها منه أبدًا
قالت عائشة :فكان رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( يسأل زينب أبنة حجش عن أمري فقال:
يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت :يا رسول ال أحمي سمعي وبصري ما علمت إّل خيرًا،
قالت :وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( فعصمها ال بالورع،
)وطفقت اختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الفك1).
إمام باقر)عليه السلم( يقول :لما هلك إبراهيم بن رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( حزن
عليه حزنًا شديدًا فقالت عائشة :ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إّل ابن جريح ،فبعث رسول
.ال)صلى ال عليه وآله وسلم( عليًا)عليه السلم( وأمره بقتله
فذهب علي)عليه السلم( ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط فضرب علي)عليه
السلم(باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى علّيا)عليه السلم( عرف في وجهه
الغضب فأدبر راجعًا ولم يفتح باب البستان فوثب علي)عليه السلم( على الحائط ونزل ِإلى
البستان واتبعه وولى جريح مدبرًا فلما خشي أن يرهقه) (2صعد في نخلة وصعد
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير الميزان ،ج ،15ص 96ـ 1 100
.ـ أرهقه :أدركه 2
][40
علي)عليه السلم( في أثره فلما دنا منه رمي بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فِإذا ليس له ما
.للرجال ول له ماللنساء
فانصرف علي)عليه السلم( ِإلى النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( فقال له :يا رسول ال ِإذا
ي في الوبر أم ُأثّبت؟ قال :لبل تثّبت .قال :والذي بعثك
بعثتني في المر أكون كالسمار المحم ّ
)بالحق ما له ماللرجال وما له ماللنساء ،فقال :الحمدال الذي صرف عّنا السوء أهل البيت1).
***
:تحقيق المسألة
على رغم مّما ذكرته معظم المصادر السلمية لهذين السببين فإن هناك أمورًا غامضًة في السبب
:الّول تثير النقاش ،منها
رسول الكرم)صلى ال عليه وآله 1 ن ال ّ
ـ يستفاد من تعابير هذا الحديث ـ رغم تناقضاته ـ أ ّ
وسلم(وقع تحت تأثير الشائعة ،وأدى ذلك إلى مشاورِتِه أصحاَبُه وتغيير سلوِكِه مع عائشة حتى
.ابتعد عنها لمّدة طويلة
وهذا الموضوع ل ينسجم مع عصمِة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وحسب ،بل كل مسلم ثابت
اِليمان ل ينبغي أن يقع تحت تأثير الشائعات دون مبرر ،وإذا تأّثر بالشائعة فعليه أل ُيغّير سلوَكُه
سَتسِلم للشائعِة وأثرها فكيف بالمعصوم.عمليًا ،ول َي ْ
ن العتاب الشديد الذي ذكرته اليات التالية وتساءلت :لماذا وقع بعض فهل يمكن التصديق أ ّ
المؤمنين تحت تأثير هذه الشائعة ،ولماذا لم يطلبوا شهودًا أربعة ،يشمل النبي)صلى ال عليه
.وآله وسلم(؟ هذه تساؤلت تدفعنا في أقل تقدير إلى الشك في صحة سبب الّنزول الول
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ المصدر السابق ،ص1 103
][41
ل على أن حكم القذف )التهام بعمل مخل بالشرف والعفة( نزل قبل 2
ـ رغم أن ظاهر اليات َيُد ّ
حديث اِلفك ،فلماذا لم يستدع الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( عبدال بن أبي سلول وعددًا آخر
ن نشروا هذه الشائعة ليجري الحد الذي فرضه ال؟ )اّل أن يقال بأن آيات القذف والفك نزلت مّم ْ
سويًة ،وأن حكم القذف قد شرح حينذاك لتناسبه مع الموضوع ،ففي هذه الصورة ينتفي هذا
).الشكال ولكن يبقى الّول على قّوته
ن ما يثير فيه النقاش هو عّدة ُأمور ،منها:أّما بالنسبة لسبب الّنزول الّثاني ،فإ ّ
ص واحٌد ل غير ،في الوقت الذي 1 ـ إن الذي وجه التهمة ـ وفقًا لسبب الّنزول هذا ـ هو شخ ٌ
ذكرت اليات فيه أّنهم مجموعة ،وقد رّوجوا لها لدرجة شيوعها تقريبًا في المدينة كلها .لهذا
استخدمت اليات ضمير جمع للمؤمنين الذي عاتبتهم بشّدة ،والذين توّرطوا في تصديق وترويج
.هذه الشائعة ،وهذا ل ينسجم أبدًا مع سبب الّنزول الّثاني
ـ يبقى سؤال هو :إذا كانت عائشة ارتكبت هذا الثم )القذف( ثّم ثبت خلقة ،فلماذا لم ُينّفِذ 2
حّد القذف بحقها؟النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( َ
ـ كيف يمكن للنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( أن يصدر حكم القتل بحق شخص بشهادة 3
ن التنافس بين زوجات رجل واحد أمرًا اعتيادّيا ،والنحراف عن الحق والعدل امرأة واحدة؟ مع أ ّ
.أو ارتكاب إحداهن لخطأ على القل ممكن
وليس مهمًا ما يكون سبب الّنزول ،بل المهم أن نعلم من مجموع اليات هو أنه قد اتهم شخص
بريء بعمل مخّل بالعفة والشرف حين نزول هذه اليات ،وأن الشائعات كانت منتشرة في المدينة،
كما يفهم من الدلئل الموجودة في هذه الية ،أن هذه التهمة كانت موجهة لشخص له أهمية
صة في المجتمع آنذاك .وأن مجموعة من المنافقين المتظاهرين بالسلم أرادوا الخللخا ّ
بالمجتمع اِلسلمي بترويجهم هذه الشائعة ،فنزلت هذه اليات ،وتصّدت لهذه الحادثة بقوة،
ودفعت
][42
.المنحرفين والمنافقين الحاقدين إلى جحورهم
ومهما يكن سبب نزول هذه الحكام ،فإنها ل تخص سبب الّنزول وحده ،ول تنصرف لزمانه
.ومكانه فقط ،بل هي أحكام نافذة في ُكّل بيئة وزمان
بعد هذا الحديث نشرع في تفسير هذه اليات لنرى كيف يتابع القرآن بفصاحته وبلغته هذه
صة ،وكيف يبحث تفاصيلها بدقة .الحادثة الخا ّ
***
الّتفسير
:حديث الفك المثير
تقول أّول آية من اليات موضع البحث ،دون أن تطرح أصل الحادثة )إن الذين جاؤا بالفك عصبة
ف الجمِل الزائدة ،والكتفاء بما تدّل عليه الكلمات من
منكم( لن من علئم الفصاحة والبلغة ،حذ َ
.معان شاملة
كلمة "الفك" على وزن "فكر" كما يقول الراغب الصفهاني :يقصد بها كل مصروف عن وجهه،
الذي يحق له أن يكون عليه ،ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب "مؤتفكة" ثّم اطلقت على كل
".كلم منحرف عن الحق ومجانب للصواب ،ومن ذلك يطلق على الكذب "أفك
ويرى "الطبرسي" في مجمع البيان أن الفك ل يطلق على كل كذبة بل الكذبة الكبيرة التي تبدل
الموضوع عن حالته الصلية ،وعلى هذا يستفاد أن كلمة "الفك" بنفسها تبّين أهمية هذه الحادثة
.وكذب التهمة المطروحة
ب ،وجمعها أعصاب ،وهي التي تربط ص ْ
ن "ُفْعَلة" مشتّقة من الَع َ
وأّما كلمة "الُعصبة" فعلى وز ِ
عضلت الجسم بعضها مع بعض ،وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم ،ثّم أطلقت كلمة "عصبة"
.على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة
][43
واستخدام هذه الكلمة يكشف عن اِلرتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث
.الفك ،حيث كانوا يشكلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات
).وقال البعض :إن هذه المفردة تستعمل في عشرة إلى أربعين شخصًا)1
وعلى كل حال فإن القرآن طمأن وهّدأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية
متطهرة )ل تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم( ،لّنه كشف عن حقيقِة عدد من العداء المهزومين
.أو المنافقين الجبناء ،وفضح أمر هؤلء المرائين ،وسّود وجوههم إلى البد
.ولو لم تكن هذه الحادثة ،لما افتضح أمرهم بهذا الشكل ،ولكانوا أكثر خطرًا على المسلمين
ن عليهمن هذا الحادث عّلم المسلمين أن اّتباع الذين يرّوجون الشائعات يجّرهم إلى الشقاء ،وأ ّ إّ
ن ل ينظروا إلىأن َيِقُفوا بقّوة امام هذا العمل .كما عّلم هذا الحادث المسلمين درسًا آخر ،وهو أ ّ
حروا فيه ،فقد يكون فيه خيرًا كثيرًا رغم سوء ظاهرهث المؤلم ،بل عليهم أن يتب ّ.ظاهر الحاِد ِ
ق ،لن شرف ن ذكر ضمير "لكم" يعّم جميع المؤمنين في هذا الحادث ،وهذا ح ّ ومّما يلفت النظر أ ّ
.المؤمنين وكيانهم الجتماعي ل ينفصل بعضه عن بعض ،فهم شركاء في السّراء والضّراء
:ثمّ تعّقب هذه الية بذكر مسألتين
أّولهما) :لكل امرىء منهم ما اكتسب من الثم( إشارة إلى أنّ المسؤولية الكبرى التي تقع على
عاتق كبار المذنبين ل تحول دون تحمل الخرين لجزء من هذه المسؤولية ،ولهذا يتحمل كّل
.شخص مسؤوليته إزاء أية مؤامرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
".ـ نقل تفسير "روح المعاني" هذا المعنى عن كتاب "الصحاح 1
][44
سرين :إن الشخص والمسألة الّثانية) :والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم( قال بعض المف ّ
.المقصود هو "عبدال بن أبي سلول" قائد أصحاب الفك
.وقال آخرون :إّنه مسطح بن ُأثاثة .وحسان بن ثابت كمصاديف لهذا الخطاب
ن الذي نشط في هذا الحادث أكثر من الخرين ،وأضرم نار الفك ،هو قائد هذه وعلى كل حال ،فإ ّ
عقابًا عظيمًا ِلكبر ذنبه) .ويحتمل أن كلمة "تولى" يقصد بها رأس ب ِالمجموعة الذي سُيعاَق ُ
).مروجي حديث اِلفك
جهت الية التالية :إلى المؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات، ثّم َتو ّ
).فل متهم بشّدة )لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا
ست مؤمنين آخرين جِه المنافقين بقّوة ،بل استمعتم إلى أقوالهم اّلتي م ّ
أيِ :لَماذا لم تقفوا في َو ْ
كانوا بمنزلة أنفسكم منكم .ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة وتقولوا بأن هذا الكلم كذب وافتراء:
)).وقالوا هذا افك مبين
أّنكم كنتم تعرفون جيدًا الماضي القبيح لهذه المجموعة من المنافقين ،وتعرفون جيدًا طهارة الذي
.اّتهم ،وكنتم مطمئنين من عدم صدق هذه التهمة وفق الدلئل المتوفرة لديكم
وكنتم تعلمون أيضًا بما يحاك من مؤامرات ضّد النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( من قبل العداء
والمنافقين ،لذا فإّنكم تستحقون اللوم والتأنيب لمجرد هذه الشائعات الكاذبة ،وللتزامكم الصمت
إزاءها ،فكيف بكم وقد اشتركتم في نشر هذه الشائعة بوعي أو دون وعي منكم؟
ومّما يلفت النظر أن الية السابقة بدل من أن تقول :عليكم أن تحسنوا الظن بالمتهم وتصدقوا
ن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا(وهذه العبارة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى تهمته ،فإنها تقول )ظ ّ
ن أنفس المؤمنين كنفس واحدة ،فإذا اتهم أّ
][45
أحدهم ،فكأن التهمة موجهة لجميعهم ،ومثالهم في ذلك كمن اشتكى عضو منه فهبت بقية
.العضاء لنجدته
).وهكذا يجب أن يهب المسلم للدفاع عن إخوته وأخواته في الدين مثلما يدافع عن نفسه)1
وقد استعملت كلمة "النفس" في آيات أخرى من القرآن في هذا المعنى أيضًا ـ في مثل هذه
الحالت ـ كما هو في الية ) (11من سورة الحجرات )ول تلمزوا أنفسكم(! أّما الستناد إلى
.الرجال والنساء المؤمنين فيشير إلى قدرة اليمان على ردع سوء الظن بالخرين
وحتى هذه اللحظة كانت الملمة ذات طابع أخلقي ومعنوي ،وتقضي بعدم التزام المؤمنين جانب
.الصمت إزاء مثل هذه التهم القبيحة ،أو أن يكونوا وسيلة بيد ُمرّوجي الشائعات
ثّم تهتم اليات بالجانب القضائي للمسألة فتقول) :لول جاءوا عليه بأربعة شهداء( أي لماذا لم
).تطلبوا منهم اليتان بأربعة شهود) .فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند ال هم الكاذبون
ن هذه الملمة تبّين أن الحكم بأداء أربعة أشخاص لشهادتهم ،وكذلك حد القذف في حالة عدمه إّ
.قد نزل قبل اليات التي تناولت حديث الفك
وأّما الجواب عن سؤال :كيف لم يقدم النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( على تنفيذ هذا الحّد؟ فإّنه
واضح ،لّنه)صلى ال عليه وآله وسلم( لم يقدم على شيء ما لم يسند من قبل الناس ،فالتعصب
القبلي قد يؤدي إلى مقاوة سلبية لبعض أحكام ال ولو بصورة مؤقتة ،وقد ذكر المؤرخون أ ّ
ن
.المر كان هكذا في هذه القضية
وأخيرًا جمعت الية التالية هذه الملمات ،فقالت )ولول فضل ال عليكم
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ وأّما قول البعض بأن المضاف محذوف وتقديره "ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفس بعضهم 1
.خيرًا" ليس صائبًا ويفقد الية جمالها وروعتها
][46
).ورحمته في الدنيا والخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم
ونظرًا لن "أفضتم" مشتقة من الفاضة ،بمعنى خروج الماء بكثرة ،واسُتْعِملت في حالت ُأخرى
ن شائعة التهام توسعت بشكل شملت المؤمنين مضافًا إلى للتوغل في الماءَ ،نَتج ِمن هِذِه العبارة أ ّ
).مروجيها الصليين )المنافقين
وتبّين الية التالية ـ في الحقيقة ـ البحث السابق .وهو كيف ابتلي المؤمنين بهذا الذنب العظيم
نتيجة تساهلهم؟ فتقول )إذ تلقونه بألسنتكم( أي تذّكروا كيف رحبتم بهذه التهمة الباطلة
).فتناقلتموها )وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ول تحسبونه هينًا هو عندال عظيم
:وتشير هذه الية إلى ثلثة أنواع من ذنوبهم العظيمة في هذا المجال
.الّولَ :تَقّبل الشائعة :استقبالها وتناقلها
.الّثاني :نشر الشائعة دون أي تحقيق أو علم بصدقها
الّثالث :استصغار الشائعة واعتبارها وسيلة لّلهو وقضاء الوقت ،في وقت تمس فيه كيان المجتمع
.اِلسلمي وشرفه ،إضافة إلى مساسها بشرف بعض المسلمين
ن الية استعملت تعبير "بألسنتكم" تارًة أخرى تعبير "بأفواهكم" على الرغِم ومّما يلفت النظر أ ّ
ن جميَع الكلم يصدر عن طريق الفم واللسان ،إشارة إلى أّنكم لم تطلبوا الدليل على الكلم من أ ّ
شَرُه ،والمر الوحيد الذي كان بأيديكم هو لقلقة
غ لكم َن ْ
الذي تقبلتموه ،ول تملكون دليل ُيسّو ُ
.لسانكم وحركات أفواهكم
ونظرًا لهول هذه الحادثة التي استصغرها بعض المسلمين ،أكدتها الية ثانية ،فاّنبتهم مّرة ُأخرى
ولذعتهم بعباراتها إْذ قالت )ولول إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان
).عظيم
][47
وسبق لهذه الية أن وجهت اللوم لهم لسوء ظنهم بالذي وجه إليه التهام باطل ،وهنا تقول الية:
إضافة إلى وجوب حسن الظن بالمتهم يجب أل تسمحوا لنفسكم بالتحدث عنه ،ول تتناولوا التهمة
!الموجهة إليه ،فكيف بكم وقد كنتم سببًا لنشرها
عليكم أن تعجبوا لهذه التهمة الكبيرة ،وأن تذكروا ال سبحانه وتعالى ،وأن تلجأوا إلى ال
يطهركم من نشر هذه التهمة وإشاعتها .ومع كل السف استصغرتموها ونشرتموها بكل يسر،
.فأصبحتم بذلك آلًة بيد المنافقين المتآمرين المروجين للشائعات
هذا وسنتناول بالبحث ـ خلل تفسير اليات القادمة ـ ذنب اختلق الشائعة ودوافعها ،والسبيل إلى
.مكافحتها ،بعون ال وتوفيقه
***
][48
اليات
الّتفسير
:حرمة إشاعة الفحشاء
تحدثت هذه اليات أيضًا عن حديث الفك ،والنتائج المشؤومة والليمة لختلق الشائعات
ونشرها ،واتهام الشخاص الطاهرين بتهمة تمس شرفهم وعفتهم .وهذه القضية مهمه بدرجة أن
ض لها من طرق مختلفة مؤثرة ،باحثًا محلل لها من أجل عَر َ
القرآن المجيد تناولها عّدة مرات ،و َ
أّل تتكرر مثل هذه الواقعة الليمة في المجتمع السلمي ،فذكر أول )يعظكم ال أن تعودوا لمثله()
1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ لهذه الجملة كلمة محذوفة هي حرف "ل" وتقديرها" :يعظكم ال أن ل تعودوا لمثله أبدًا" 1
وإذا لم نقّدر محذوفًا ،فإن عبارة "يعظكم" تعني ينهاكم .أي إن ال ينهاكم من العودة إلى مثل هذا
.العمل
][49
أي أن من علمات اليمان أن ل يتوجه النسان نحو الذنوب العظام ،وإذا ارتكبها فذلك يدّل على
ن الندم علىعدم إيمانه أو ضعفه ،والجملة المذكورة تشكل ـ في الحقيقة ـ أحد أركان التوبة ،إذ أ ّ
الماضي ل يكفي ،بل يجب التصميم على عدم تكرار ارتكاب الذنوب في المستقبل ،لتكون توبة
.كاملة
ن هذا الكلم ليس اعتياديًا ،بل صادر عن ال العليم الحكيم ،ولبيان الحقائق ولتأكيد أكثر على أ ّ
).ذات الَثر الَفّعال في مصير النسان ،يقول سبحانه وتعالى )ويبّين ال لكم اليات وال عليم حكيم
فهو يعلم تفاصيل أعمالكم تمام العلم ،ويصدر أحكاَمُه بمقتضى حكمته الهاِديِة لكم .وبتعبير آخر:
إنه يعلم حاجاتكم وما يضّركم وما ينفعكم بمقتضى علمه الواسع ،ويصدر أحكامه وأوامره
.المتناسبة لحتياجاتكم بمقتضى حكمته
ولتثبيت المر نقل الكلم من مورده الخاص إلى بيان عام لقانون شامل دائم ،فقال) :إن الذين
).يحّبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم من الدنيا والخرة
ن القرآن الكريم لم يقل "الذين يشيعون الفاحشة ،بل قال) :الذين يحبون أن ومّما يلفت النظر أ ّ
تشيع الفاحشة( وهذا يحكي عن الهمية القصوى التي يدليها القرآن لذلك .وبعبارة أخرى :أّنه ل
ينبغي توهم أن ذلك كان من أجل زوجة النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أو شخص آخر
بمنزلتها ،بل من أجل كّل مؤمن ومؤمنة ،فل خصوصية في ذلك ،إّنما هي عاّمة للجميع على
.الرغم من أن كل حالة لها خصائصها ،وقد تزيد الواحدة على اُلخرى في الخصائص أو تنقص
كما يجب النتباه إلى أن إشاعة الفحشاء ل تنحصر في ترويج ُتهمة كاذبة ضد مسلم مؤمن ،يتهم
بعمل مخل بالشرف ،بل هذه مصداق من مصاديقها ولهذا التعبير مفهوم واسع يضم كل عمل
.يساعد في نشر الفحشاء والمنكر
وقد وردت في القرآن المجيِد كلمُة "الفحشاء" غالبًا للدللة على العمل
][50
المخل بالعّفة والشرف .ولكن من الناحية اللغوية ،فقد ذكر الراغب الصفهاني مفهومًا واسعًا لها
.فقال :الفحش والفحشاء والفاحشة ،ما عظم قبحه من الفعال والقوال
ويستعمل القرآن أحيانًا هذا المفهوم الواسع ،حيث يقول )والذين يجتنبون كبائر الثم والفواحش(.
))1
:وبهذا يّتضح المفهوم الواسع للية
أّما قول القرآن الكريم) :لهم عذاب عظيم في الدنيا( فقد يكون إشارة إلى الحدود والتعزيرات
الشرعية .وردود الفعل الجتماعية ،وما يبتلى به الناس في هذه الدنيا من مظاهر مشؤومة بسبب
أعمالهم القبيحة ،إضافة إلى عدم تقبل أية شهادة منهم ،وإدانتهم بالفسق والفجور وافتضاح
.أمرهم .كل ذلك من النتائج الدنيوية التي تترتب على أقوالهم وأعمالهم القبيحة
وأّما عذابهم الليم في الخرة ،فيكون في ابتعادهم عن رحمةِ ال ،واستحقاقهم غضب ال وعذاب
.النار
وتختم الية بالقول )وال يعلم وأنتم ل تعلمون( أجل ،وإن ال يعلم بالعاقبة المشؤومة التي تنتظر
.الذي يشيعون الفحشاء في الدنيا والخرة ،ولكّنكم ل تعلمون أبعاد هذه القضية
إّنه يعلم الذين يبيتون في قلوبهم حب هذا الذنب ،ويعلم الذين يمارسونه تحت واجهات خداعة ،أّما
.أنتم فل تعلمون ذلك ول تدركوَنُه
.أجل ،يعلم ال كيف ينزل أحكامه ليحول دون ارتكاب هذه العمال القبيحة
ن بصدِده ِمن اليات التي تناولت حديث الفك ومكافحة إشاعة وكررت الية الخيرُة ـ مّما َنح ُ
الفحشاء ،وَقْذف المؤمنين المتطهرين ـ هذه الحقيقة
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة الشورى1 37 ،
][51
)لتؤّكد القول )ولول فضل ال عليكم ورحمته وإن ال رؤوف رحيم(1).
***
بحوث
ـ مامعنى إشاعة الفحشاء؟ 1
عْ
ن حْرمة يجب أن ل تِقّل َ
بما أن النسان مخلوق إجتماعي ،فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه َلُه ُ
عُد في طهارِة الخر ،وقبح كّل منهما يسري إلى
حْرمِتِه الشخصّيِة ،وطهارُة ِكّل ِمْنُهما ُتسا ِ
حبه .وبموجب هذا المبدأ كافح السلم بشّدة ُكّل عمل ينشر السموم في المجتمع ،أو يدفعه نحو صا ِ
.الهاوية واِلنحطاط
ولهذا السبب حارب السلم ـ بقوة ـ الغيبة والنميمة ،لن الغيبة تكشف العيوب الخفية ،وتسيء
.إلى حرمة المجتمع
أوجب السلم ستر العيوب والسبب في ذلك هو ما تقدم من الحيلولة دون انتشار الذنوب في
.المجتمع ،واكتسابها طابع العمومية والشمول
وعندما نرى اختصاص الذنب العلني بأهمية أكثر من الذنب الذي يرتكب في الخفاء ،حتى أن
المام علي بن موسى الرضا)عليه السلم( قال" :المذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور
.له") .(2فالسبب هو ماذكرنا
وهكذا لنفس السبب يدين القرآن ـ بشّدة ـ ارتكاب الذنوب في العلن ،كإشاعة الفحشاء التي ذكرتها
اليات السابقة فارتكاب الذنوب كالنار التي تسري في الهشيم ،تأتي على المجتمع ِمن أساسه
خره حتى َتْهِدَمُه َوَتْذروُه ،لهذا يجب السراع لطفاء هذه النار ،أو لمحاصرتها على القل .أّما فتن ُ
،إذا زدنا النار لهيبًا
ــــــــــــــــــــــــــــ
سكم 1ل عليكم لم ّ
ـ لهذه الجملة محذوف كما يبدو في آيات ُاخرى سبقت ،وتقديره "لول فضل ا ّ
".فيما أفضتم فيه عذاب عظيم
.ـ أصول الكافي ،المجلد الثاني ،باب ستر العيوب 2
][52
.ونقلناها من مكان إلى آخر ،فإّنها ستحرق الجميع ،ول يمكن َبعَْدئذ إطفاُؤها أو السيطرة عليها
وإضافة إلى ذلك ،فإّنه لو عظم الذنب في نظر عاّمة الناس ،وتّمت المحافظة على سلمة ظاهر
المجتمع من التلوث والفساد ،فإن ذلك يمنع انتشار الفاحشة بصورة مؤكدة .أّما اشاعة الفحشاء
والذنوب والتجاهر بالفسق ،فمن نشأنها أن تحطم هذا السد الحاجز للفساد .ويستصغر شأن
.الذنوب من قبل الناس ،ويسهل التورط فيها
وقد جاء في حديث للرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( قوله "من أذاع فاحشة كان
).كمبتدئها")1
وجاء في حديث آخر عن محمد بن الفضيل المام موسى بن جعفر)عليه السلم( قال :قلت له:
جعلت فداك الرجل من اخواني بلغني عنه الشيء الذي اكرهه فاسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني
عنه قوم ثقات؟ فقال المام)عليه السلم( لي" :يا محّمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك ،وإن شهد
عندك خمسون قسامة .وقال لك قول فصدقه وكذبهم ،ول تذيعن عليه شيئًا تشينه به وتهدم به
مروءته ،فتكون من الذين قال ال عّزوجّل):إن الذين يحّبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا
).لهم عذاب أليم في الدنيا والخرة()3)(2
ن لشاعة الفحشاء صورًا عديدًة فتارة يكون من قبيل افتعال تهمة كاذبة وَنقِلها ومّما يلزم ذكره أ ّ
.بين الناس
.واخرى يكون بانشاء مراِكَز للفساد ونشر الفحشاء
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ أصول الكافي ،المجلد الثاني ،باب القبح 1
.ـ كتاب ثواب العمال ،حسبما ذكره تفسير نور الثقلين ،المجلد الّثالث ،صفحة 2 582
ـ لهذه القضية استنثاءات ،منها موضوع الشهادة في المحكمة ،أو حالت النهي عن المنكر 3
.حيث ل سبيل إّل بكشف العمل القبيح الذي يرتكبه شخص ما والشهادة ضده
][53
.وثالثة بتوفير وسائل المعصية للناس ،أو تشجيعهم على ارتكاب الذنوب
ورابعة يرتكب الذنب في العلن دون ملحظة الدين ،ول رعاية لقانون ول التفات لداب عاّمة،
ن لهذه الكلمة مفهومًا واسعًا )فتأملوا جيدًا
).وكل هذه مصاديق لشاعة الفحشاء .ل ّ
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ نهج البلغة ،الكلمات القصار ،رقم 1 348
][55
اليات
شآءِ
ح َ ن َفِإّنُه َيْأُمُر ِباْلَف ْ
طـ ِ شْي َ
طَوتِ ال ّ خُن َيّتِبْع ُ ن َوَم ْ
طـ ِ شْي َ
ت ال ّ طَو ِخُ ن َءاَمُنوا َلَتّتِبُعوا ُ َيـَأّيَها اّلِذي َ
شآُء َوا ّ
ل ن َي َل ُيَزّكى َم ْ نا َ حد َأَبدًا َوَلـِك ّن َأ َ
حَمُتُه َما َزَكى ِمنُكم ّم ْ عَلْيُكْم َوَر ْ
ل َ ضُل ا ِ َواْلُمْنَكِر َوَلْوَل َف ْ
سـِكي َ
ن ن ُيْؤُتوآ ُأوِلى اْلُقْرَبى َواْلَم َ سَعِة َأ ْضِل ِمنُكْم َوال ّ عِليٌم)َ (21وَل َيْأَتِل ُأْوُلوا اْلَف ْ سِميٌع َ َ
حيٌم)(22 غُفوٌر ّر ِ ل َلُكْم َوال َ ن أن َيْغِفَر ا ُ حّبو َ حوا َأَل ُت ِ صَف ُل َوْلَيْعُفوا َوْلَي ْ سِبيِل ا ِ ن ِفى َ جري َ َواْلُمَهـ ِ
ظيٌم)َ (23يْوَم عِ ب َ عَذا ٌخَرِة َوَلُهْم َ ت ُلِعُنوا ِفى الّدْنَيا َواَْل ِ ت اْلُمْؤَمَنـ ِت اْلَغـِفَلـ ِ
صَنـ ِح َ ن اُْلم ْن َيْرُمو َ ِإنّ اّلِذي َ
ل ِديَنُهُم اْلحَ ّ
ق ن)َ (24يْوَمِئذ ُيَوّفيِهُم ا ُ جُلُهم ِبَما َكاُنوا َيْعَمُلو َ سنُتُهْم وَأْيِديِهْم َوأْر ُ عَلْيِهْم َأْل ِ
َتشَْهُد َ
طّيبي َ
ن ت ِلل ّ
طّيَبـ ُ ت َوال ّ خِبيَثـ ِ ن ِلْل َ
خِبيُثو َن َواْل َخِبيثي َت ِلْل َ
خِبيَثـ ُن) (25اْل َ ق اْلُمبي ُح ّل ُهَو اْل َ نا َ نأّ َوَيْعَلُمو َ
ق َكِريٌم)26 ن َلُهم ّمْغِفَرٌة َوِرز ٌ ن ِمّما َيُقوُلو َ ك ُمَبّرُءو َ ت ُأْوَلئ َ
طّيَبـ ِ
ن ِلل ّطّيُبو َ )َوال ّ
][56
الّتفسير
!للعقوبات حساب
على الرغم من عدم متابعة هذه اليات حديث الفك بصراحة ،إّل إّنها تعتبر مكملة لمضمون ذلك
البحث ،وتحّذر المؤمنين جميعًا من تأثير الفكار الشيطانية التي تبدو أّول في صورة باهتة ،فلبّد
من النتباه إليها ،وإّل فالنتيجة سيئة للغاية ،ول يمكن تلفيها بسهولة فعلى هذا حينما يشعر الفرد
بأّول وسوسة شيطانية بإشاعِة الفحشاء أو إرتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقّوة حاسمة،
سعه.حتى يمنع من انتشاره وتو ّ
وتخاطب الية اُلولى المؤمنين ،فتقول )يا أّيها الذين آمنوا ل تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع
).خطوات الشيطان فإّنه يأمر بالفحشاء والمنكر()1
سرنا الشيطان بأنه كل مخلوق مؤذ وفاسد ومخّرب ،يّتضح لنا شمولية هذا التحذير لبعاِد وإذا ف ّ
ن ذلك يتّم
حياتنا كلها ،وحيث ل يمكن جّر أي إنسان مؤمن متطهر مّرة واحدة إلى الفساد ،فإ ّ
:خطوة بعد ُأخرى في طريق الفساد
.الخطوة اُلولى :مرافقة الملوثين والمنحرفين
.الخطوة الّثانية :المشاركة في مجالسهم
.الخطوة الّثالثة :التفكير بارتكاب الذنوب
.الخطوة الّرابعة :ارتكاب العمال المشتبه بها
.الخطوة الخامسة :إرتكاب الذنوب الصغيرة
ن النسان في هذه المرحلة يسّلم نفسه لمجرم وأخيرًا البتلء بالكبائر .وكأ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ هناك محذوف لجملة )ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء( وهو جواب الشرط 1
وتقديره "ومن يتبع خطوات الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر فإّنه يأمر بهما" )روح المعاني،
المجلد الثامن عشر ،صفحة 112تفسير آخر اليات موضع البحث( ويجب اِلنتباه إلى أن جملة
.فإنه يأمر بالفحشاء ،ل يمكن اعتبارها جوابًا للشرط
][57
).ليقوده نحو الهاوية ،أجل هذه )خطوات الشيطان()1
ن ال بها على النسان في هدايته فتقول) :ولو ل فضل ثّم تشير الية إلى أهم النعم الكبيرة التي م ّ
).ال عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن ال يزّكي من يشاء وال سميع عليم
ن الفضل والرحمة اللهية ينقذان النسان من النحطاط والنحراف من الذنوب ول شك في أ ّ
سُبَل اِلرتقاء والهتداء ،وأعاَنُه
سرَ له ُ
سَلَ ،وي ّ
جميعًا ،فال منحه الَعْقَل ،ولطف به فأرسل إليِه الّر ُ
صة،
خْيِر .وإضافة إلى هذه المواهب شمل ال الذين تطهروا بتوفيقاته الخا ّ على استكماِل ال َ
.وإمداداته التي يستحقونها ،والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس
ن ال يهدي عباده ن عبارة "من يشاء" ل تعني المشيئة دون مبّرر ،بل إ ّ وكما أسلفنا .مرارًا ،فإ ّ
الذين يسعون في نيلها ،الذين يسيرون في الطريق إلى ال ،ويجاهدون في سبيله ،فيمسك ال
.بيدهم ويحفظهم من وساوس الشيطان وكيده حتى يبلغهم الهدف السمى
ن الفضل والرحمة اللهية تارة يكون لهما جانب تشريعي عن طريق الرسل وبعبارة ُأخرى :إ ّ
عليهم السلم والكتب السماوية وما فيها من تعاليم إلهية وبشارات وإنذارات سماوية .وُأخرى
.يتخذ الفضل والرحمة اِللهية جانبًا تكوينيًا عن طريق اِلمدادات المعنوية اِللهية
واليات موضع البحث استهدفت القسم الّثاني ،بدليل عبارة "من يشاء" ،ويجب النتباه إلى أن
ت غالبًا بمعنى
"الزكاة" و "التزكية" تعني في الصل النمو ،والعمل من أجل النمو ،إّل أنها ورد ْ
.التطّهر والتطهير
ن النمو والرشد ل يمكن أن يتحققا إّلويمكن إرجاعها إلى أصل واحد ،إذ أ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ بحثنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الية ) (90من سورة النحل 1
][58
.بزواِل الحواجز والتطهير من المفاسد والرذائل
سرين سببًا لنزول الية الّثانية ـ من اليات موضع البحث ـ يكشف عن تلحمها وذكر عدد من المف ّ
ن هذه الية نزلت بشأن عدد من الصحابة أقسموا على عدم تقديم مع اليات السابقة ،قال :إ ّ
مساعدة مالية إلى الذين توّرطوا في هذه القضية وأشاعوا هذه التهمة بين الناس ،وأل يشاركوهم
.هموَمهم ،فنزلت هذه الية لتمنعهم من َرّد فعل قاس ،وأمرتهم بالعفو والسماح
وقد روى سبب الّنزول هذا "القرطبي" في شأن نزول هذه اليات في تفسيره عن ابن عباس
والضحاك ،ورواه المرحوم "الطبرسي" عن ابن عّباس ،ورواُه آخرون لدى تفسير اليات موضع
.البحث ،وهو يمتاز بعموميته
سري أهل السنة ُيصّرون على أن هذه الية نزلت بخصوص "أبي بكر" إّل أن مجموعة من مف ّ
حيث أقسم بعد حادث الفك على عدم تقديم أية مساعدة مالية لـ "مسطح بن أثاثة" الذي كان ابن
خالته ،أو ابن أخته ،وهو الذين نشر شائعة الفك ،في حين أنّ الضمائر التي استعملتها الية،
ن مجموعة من المسلمين اتخذوا قرارًا بقطع مساعداتهم عن هؤلء جاءت بصيغة الجمع ،وتبّين أ ّ
ن هذه الية نهتهم عن العمل .المجرمين ،إّل أ ّ
ن اليات القرآنية ل تختص بسبب الّنزول فقط ،بل تشمل جميع المؤمنين إلى يوم ومن المعلوم أ ّ
القيامة ،فهي توصي المسلمين جميعًا بأّل يستسلموا لعواطفهم ،وأّل يتخذوا مواقف عنيفة إزاء
.أخطاِء الخرين
:نعود الن إلى تفسير الية بملحظة سبب الّنزول هذا
يقول القرآن )ول يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا ُأولي القربى والمساكين والمهاجرين
).في سبيل ال
ن عددًا ممن توّرط في قضية الفك كانوا من المهاجرين في سبيل ال إْذ ن هذا التعبير يكشف أ ّ
إّ
خدعهم المنافقون ،ولم ُيجز ال طردهم من المجتمع
][59
.السلمي لماضيهم المجيد ،كما لم يسمح بعقابهم أكثر مّما يستحقونه
كلمة "يأتل" مشتّقة من "ألّية" )على وزن عطّية( أي اليمين ،أو إّنها مشتقة من "أُلو" )على
.وزن دلو( بمعنى التقصير والترك
سْم بقطع مثل هذه المساعدات)،(1 ن الية تعني وفق المعنى الّول الّنهي عن هذا الَق َوعلى هذا ،فإ ّ
.وعلى المعنى الّثاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل
ثّم تضيف الية )وليعفوا وليصفحوا( لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها) :أل
).تحّبون أن يغفر ال لكم
فإّنكم مثلما تأملون من ال العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم ،يجب عليكم العفو والصفح عن الخرين
)).وال غفور رحيم
ن أصحاب الفك ُأدينوا بشّدة في آيات شديدة اللهجة ،إّل أّنها تسيطر على والمثير للدهشة أ ّ
خاد ،الول :المر
شع أ ّ
شْع ُ
ت َت َ
مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحّد في العقوبة بثلث جمل ذا ِ
.بالعفو والسماح
.ثمّ تقول :أل تحّبون أن يغفر ال لكم؟ فينبغي عليكم أن يعفوا وتصفحوا كذلك
".ولتأكيد ذلك تذكر الية صفتين من صفات ال "الغفور" و"الرحيم
وهكذا تقول الية للناس :ل يمكنكم أن تكونوا أحرص من ال الذي هو صاحب هذا الحكم ،وهو
.يأمركم بأّل تقطعوا مساعداتكم
مّما لشك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الفك لم يكونوا مشاركين في التآمر
.بهذا الصدد ،ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الفك وتبعهم مسلمون مضّللون
صرون ومذنبون ،ولكن بين هاتين المجموعتين ول شك في أّنهم جميعًا مق ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ في هذه الحالة يجب تقدير وجود حرف "ل" قبل "يؤتوا" فيكون التقدير "ول يأتل ...أن ل 1
".يؤتوا
][60
.فرق كبير ،وعلى هذا يجب أن ل يعامل الجميع سواسية
وعلى كل حال ،ففي اليات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم ،وتذكير لهم بأن ل
ن ،ول ينبغي طردهم من المجتمع السلمي ،أو اغلق يتجاوزوا الحّد المقّرر في معاقبِة المذنبي ِ
باب المساعدة في وجوهم ،ذلك من أجل المحافظة عليهم كي ل يزدادوا انحرافًا فيقعوا في أحضان
.العدو ،أو ينحازوا إلى جانبه
وترسم هذه اليات صورة للتعادل السلمي في جذبه ودفعه ،وتشكل آيات الفك والعقوبات
الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الخرين في شرفهم "قوة الدفع" .وأّما الية موضع
!"البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون ال غفورًا رحيمًا .فإنها تكشف عن "قوة الجذب
ثّم تعود الية إلى قضية القذف واّتهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن ،فتقول بشكل حازم:
)).إن الذين يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات لعنوا في الدنيا والخرة ولهم عذاب عظيم
ذكرت هذه الية المباركة ثلث صفات لهؤلء النسوة ،كّل واحدة تشكل دليل على مدى الظلم الذي
ن" :المحصنات" أي العفيفات الطاهرات الذيل و"الغافلت" ن في شرفه ّ تعرضن إليه باتهامه ّ
البعيدات عن كل تهمة وتلّوث و"المؤمنات" ،كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا
).العمل)1
ن من أي انحراف وتلّوث، ن عبارة ـ "غافلت" تلفت النظر ،لّنها تكشف عن منتهى طهارته ّ كما أ ّ
أي أنهن غافلت عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأّنهن ل يعلمن بوجود مثل هذا العمل فتارة
يكون النسان في مقابل الذنب أن ل يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج وهذه
.مرحلة عالية من التقوى
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ الميزان ،تفسير اليات موضع البحث ،المجلد ،15صفحة 1 122
][61
ن من بهتان في الخارج، ويحتمل أن يكون المراد من "الغافلت" أنهن ل يعلمن بما ينسب اليه ّ
ن الية تطرح موضوعًا جديدًا للبحث، ن ،وفي النتيجة فإ ّ
ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسه ّ
ن الحديث لن اليات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم .إّل أ ّ
هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحّد الشرعي :فتقول الية :أ ّ
ن
ن ال تعالى هؤلء ل يتصوروا أّنهم بهذا العمل سيكون بإمكانهم تجنب العقاب اللهي دائمًا ،ل ّ
.سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا .كما ينتظرهم العذاب العظيم في الخرة
إن هذه الية رغم مجيئها بعد حديث الفك ،وظهورها بمظهر الرتباط بذلك الحادث ،فإنها كبقية
.اليات التي تنزل لسبب خاص ،وهي ذات مفهوم عاّم ،ل تختص بحالة معينة
سرين كالفخر الرازي في "الّتفسير الكبير" ،وآخرين،والذي يثير الدهشة هو إصرار بعض المف ّ
ن مفهوم هذه الية خاص باتهام نساء الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(ويجعلون هذا الذنب على أ ّ
بدرجة الكفر ،ويستدلون بكلمة "اللعن" التي ذكرتها الية ،في الوقت الذي ل يمكن فيه اعتبار
توجيه التهمة ـ حتى إن كان هذا الذنب عظيمًا كإتهام نساء الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(
لوحده سببًا للكفر .لهذا لم يعامل الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أصحاب الفك معاملة المرتدين
عن دينهم .بل إن اليات التالية التي بّينا شرحها توصي بعدم تجاوز الحد المقرر لهم وعدم
.الفراط في عقابهم ،فذنبهم ل ُيوازي الكفر بال
وأّما "لعنة ال" فهي تصدق على الكافرين ومرتكبي الكبائر أيضًا ،وعليه أوردت هذه اليات
صة باللعان( مرتين كلمة "لعن" ضد الكذابين المسيئينالمتحّدثة عن حّد القذف )في الحكام الخا ّ
للناس .كما استعملت الحاديث السلمية كرارًا كلمة "اللعن" ضد مرتكبي الذنوب الكبيرة .وحديث
".لعن ال في الخمر عشر طوائف "...معروف
][62
وتحدد الية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل اللهي ،قائلة )ويوم تشهد
).عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون
تدور ألسنتهم بما ل تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق .وعندما يجد المجرمون الدلئل والشواهد
العينية على ما اقترفوه من أعمال إجرامية ،تراهم ُيعرفون بذنوبهم ويفضحون أمرهم خلفًا
.لرغبتهم الباطنية ،حيث ل ينفع في ذلك اليوم إنكارهم للتهم الموجهة إليهم
جل ،تنطق وتشهد أيديهم وأرجلهم ،وكما ذكرت اليات القرآنية :تنطق جلودهم وكأّنها شريط مس ّ
بما اقترف صاحبها من ذنوب ،حيث رسمت آثار الجرائم عليها طوال عمره ،حقًا إّنه يوم البروز
.والفتضاح ،ويوم تنكشف فيه السرائر
وإذا وجدنا في بعض آيات القرآن إشارة إلى يوم القيامة تذكر )اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا
أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون() (1فإّنه لخلف فيها مع هذا البحث ،إذ يمكن أن تتعطل
الفواه عن الكلم أول ،فتشهد سائر أعضاء الجسم .وعندها تكشف اليدي والرجل الحقائق،
.ينطق اللسان بما جرى ويعترف بالذنوب كّلها
***
بحوث
ـ َمن هن الخبيثات وَمن هم الخبيثون؟ 1
سرون تعاريف مختلفة لـ "الخبيثات" و"الخبيثون" و"الطيبات" و"الطيبون ".ذكر المف ّ
ن المراد هو الكلم السيء والتهمة والفتراء والكذب الصادر عن 1 ـ قيل أ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة يس ،الية 1 65
][63
المخطئين والمذنبين من الناس ،وعلى العكس من ذلك الكلم الطّيب ما يصدر عن الطّيبين
".المتطهرين ،وحسبما يقول المثل المأثور "ينضح الناء بما فيه
ـ وقيل إن كلمة "الخبيثات" تعني "السيئات" وكل العمال السيئة وغير المرغوب فيها التي 2
صة بالطيبين من الناس
.تصدر عن الخبثاء من الناس ،وعلى العكس من ذلك "الحسنات" الخا ّ
ـ "الخبيثات" و"الخبيثون" تعنيان النساء والرجال الساقطين ،وهم عكس )الطيبات( 2
.و)الطيبون( الخاصتين بالنساء والرجال المتطهرين
:وظاهر الية قصد هذا المعنى بذاته ،حيث هناك قرائن تؤّكد هذا المعنى
أ ـ جاءت هذه اليات إثر آيات الفك ـ وبعد آية )الزاني ل ينكح إّل زانية أو مشركة والزانية ل
.ينكحها إّل زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين(وهذا الّتفسير ينسجم مع مفهوم تلك اليات
ب ـ إن جملة )ُاولئك مبرءون مّما يقولون( التي تقصد الرجال والنساء الطاهرين من الدنس دليل
.آخر على صحة هذا الّتفسير
ج ـ قرينة المقابلة لجمع المذكر السالم في "الخبيثون" حيث يقصد بها الرجال الخبيثون ،فمن ذلك
.يعلم أن الخبيثات جمع مؤنث حقيقي ،وتعني النساء الساقطات
ن هذه الية كآية
صادق)عليهما السلم( "إ ّد ـ إضافة إلى ذلك روي حديث عن المامين الباقر وال ّ
)الزاني ل ينكح إّل زانية أو مشركة( هّم رجال ونساء كانوا على عهد رسول ال 6مشهورين
)بالزنا فنهى ال عن ُأولئك الرجال والنساء والناس على تلك منزلة1)."..
كما نقرأ في روايات كتاب النكاح ،كيف كان أصحاب اِلمام يستفسرون منه
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ مجمع البيان ،في تفسير اليات موضع البحث 1
][64
أحيانًا عن الزواج بالخبيثات فيجيبهم سلبًا .وهذا يدل على أن الخبيثة تعني المرأة الساقطة ،وليس
).الكلم السيء ول العمل المنحط)1
والسؤال الخر :هل أن خبث هذه المجموعة من النساء والرجال أو طيبهم يرادبه الشرف والعّفة،
أو يتعّلق بانحطاط في الفكر أو العمل أو القول؟
ن بع َ
ض إنّ المفهوم الّول للية هو الصوب ،لّنه يطابق ما جاء في اليات والحاديث ،لك ّ
ى واسعًا لكلمتي الخبيث والطيب اللتين وردتا في هذه اليات ،ول يحصرهما الحاديث يعطي معن ً
.باِلنحطاط الخلقي وطهارة الشخص
وعلى هذا فل يبعد أن يكون مفهوم الية اُلولى خاصًا بذلك المعنى الخاص ،إّل أنه بملحظة
.الملك والغاية من الحكم يمكن تعميمه وتوسعته
وبتعبير آخر :إن الية السابقة بيان لميل الصنو إلى صنوه ،رغم اختصاصها من حيث الموضوع
".يبحث العّفة والنحطاط الخلقي" ،تأملوا جيدًا
اليات
الّتفسير
ن َلُكم
حّتى يؤذ َ
:ل تدخلوا ُبُيوت الناس َ
بّينت هذه اليات جانبًا من أدب المعاشرة ،والتعاليم السلمية اِلجتماعية التي لها علقة وثيقة
بقضايا عاّمة حول حفظ العّفة ،أي كيفية الدخول إلى بيوت الناس ،وكيفية الستئذان بالدخول
.إليها
حيث تقول أّول) :يا أّيها الذين آمنوا ل تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى
][68
تستأنسوا وتسلموا على أهلها( .وبهذا الترتيب عندما تعزمون على الدخول لبّد ،من إخبار
.أصحاب البيت بذلك ونيل موافقتهم
ن الجملةوالذي يلفت النظر في هذه الجملة استعمالها "تستأنسوا" ولم تستعمل "تستأذنوا" ل ّ
الّثانية لبيان الستئذان بالدخول فقط ،في الوقت الذي تكون الجملة اُلولى مشتّقة من "أنس" أي
الستئذان المرافق للمحّبة واللطف والمعرفة والخلص ،وتبّين كيف يجب أن يكون الستئذان
برفق وأدب وصداقة ،بعيدًا عن أي حّدة وسوء خلق .ولو تبحرنا في هذه الجملة على هذا الساس
لوجدنا فيها الكثير من الدب الذي يدور حول هذا الموضوع ،وهو يعني أل تصرخوا وأّل تقرعوا
ن لكم ،فتسّلموا أّول سلمًا يستبطن الباب بقوة ،وأل تستأذنوا بعبارات حاّدة ،وأل تدخلوا حتى ُيؤذ َ
.مشاعر السلم والود ورسالة المحبة والصداقة
ومّما يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة ،مرافقته لجملتين
أولها) :ذلكم خير لكم( وثانيها) :لعلكم تذكرون( .وهذا بحّد ذاته دليل على أن لهذه الحكام جذورًا
في أعماق العواطف والعقول النسانية ،ولو دقق النسان النظر فيها لتذكر أن فيها الخير
.والصلح
وتّم هذا الحكم بجملة أخرى في الية التالية) :فإن لم تجدوا فيها أحدًا فل تدخلوها حتى يؤذن
).لكم
ق إعطاء اِلذنن في المنزل أحد ،ولكن من لَديه ح ّقد يكون المراد من هذه العبارة أّنُه ُرّبما كا َ
.بالدخول غيرموجود ،ففي هذه الحالة ل يحق للمرء الدخول إلى المنزل
أو قد ل يوجد أحد في المنزل ،ولكن صاحب المنزل على مقربة من ذلك المكان ،أو في منزل
الجيران بحيث لو طرق المرء الباب أو نادى صاحبه فقد يسمعه ،ثّم يحضر ليسمح له بالدخول،
وعلى أي حال ،فالمسألة المطروحة أن
][69
.ل ندخل منزل دون إذن
ثّم تضيف الية )وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم( إشارة إلى أّنه ل لزوم لنزعاج
المرء إن لم يؤذن له بالدخول ،فلعّل صاحب المنزل في وضع غير مريح ،أو أن منزله لم يهيأ
!لستقبال الضيوف
ب الطلع والفضول حين رفضهم استقباله على استراق وبما أن بعض الناس قد يدفعهم ح ّ
السمع ،أو التجنس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل وليطلع على أسرارهم ،لهذا قالت
).الية) :وال بما تعملون عليم
وبما أن لكل حكم استثناًء ،لرفع المشكلت والضرورات بشكل معقول عن طريقه ،تقول آخر آية
).موضع البحث) :ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتًا غير مسكونة فيها متاع لكم
وتضيف في الختام )وال يعلم ما تبدون وما تكتمون( .ولعل ذلك إشارة إلى استغلل البعض هذه
ن المنزل غير مسكون فيدخله بهدف الكشف عن بعض السرار ،أو الستثناءات ،فيتذّرع بأ ّ
ن ال يعلم بكّل هذه العمال،
الدخول إلى منازل مسكونة متذرعًا بعدم علمه بأّنها مسكونة ،إّل أ ّ
.ويعلم الذين يسيئون الستفادة من هذا الستثناء
***
بحوث
ـ المن والحرية في حريم المنزل 1
ل ريب في أن لوجود النسان بعدين :بعد فردي ،وآخر إجتماعي ،ولهذا فله نوعان من الحياة:
صة ،وأخرى عاّمة .ولكل واحدة خصائصها وآدابها ،حيث يضطر النسان في البيئة حياة خا ّ
الجتماعية إلى تحمل قيود كثيرة من حيث اللباس والحركة ،ومواصلة النسان حياته على هذا
النسق وحده ـ خلل الربع
][70
والعشرين ساعة ـ ُمتعب ويبعث على الضجر ،إذ أّنه يرغب في أن يكون حرًا خلل فترة من الليل
والنهار ليستريح بعيدًا عن هذه القيود ،مع أسرته وبين أولده ،لهذا يلجأ إلى منزله الخاص به،
وينعزل بذلك عن المجتمع بشكل مؤقت ،ليتخلص من قيوده ،فيجب أن يكون محيط المنزل آمنًا
.إلى حّد كاف
وأّما إذا أراد كّل عابر الدخول إلى منازل الخرين ،فل تبقى حرمة لمنازل الناس ،ويسلب منها
أمنها وحريتها ،وبهذا تتحول إلى بيئة عاّمة كالسوق والشارع .ولهذا السبب كانت بين الناس ـ
صة في هذا المجال .حتى أن جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى على مّر العصور ـ أعراف خا ّ
منازل الخرين دون استئذان وتعاقب عليه ،وحتى في حالت الضرورة القصوى ولغرض حفظ
.المن وغايات أخرى أجيز عدد قليل على وفق القانون بالدخول إليها
صة في هذا المجال ،ل يشاهد نظيرها إّل نادرًا صت الحكام السلمية على تعاليم وآداب خا ّ .ون ّ
نقرأ في حديث أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري استأذن على الّرسول)صلى ال عليه وآله
)وسلم( وهو مستقبل الباب فقال عليه الصلة والسلم" :ل تستأذن وأنت مستقبل الباب"1).
وجاء في حديث آخر أن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب.
ن الدور لم يكن من تلقاء وجهه ولكن من ركنه اليمن أو اليسر فيقول :السلم عليكم ،وذلك ل ّ
.عليها حينئذ ستور
وجاء في الحاديث السلمية ضرورة استئذان المرء حين دخوله إلى منزل والده أو والدته،
)وحتى حين الدخول إلى منزل ولده2).
وجاء في حديث عن الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( جوابًا على استفسار رجل :قال :أستأذن
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير فخر الرازي ،المجلد ،23ص ،198آخر آية موضع البحث 1
.ـ المصدر السابق 2
][71
على ُامي؟ أجاب)صلى ال عليه وآله وسلم( :نعم .قال :إّنها ليس لها خادم خادم غيري أفأستاذن
عليها كلما دخلت؟ قال)صلى ال عليه وآله وسلم( :أتحب أن تراها عريانه؟ قال الرجل ل،
).فقال)صلى ال عليه وآله وسلم( :فاستأذن عليها)1
ل النصاري قال" :خرج وجاء في حديث آخر عن المام الباقر)عليه السلم( عن جابر بن عبد ا ّ
ل)صلى ال عليه وآله وسلم( يريد فاطمة)عليها السلم( وأنا معه فلما انتهينا إلى الباب رسول ا ّ
ل،
وضع يده فدفعه ثّم قال :السلم عليكم ،فقالت :فاطمة)عليها السلم( :عليك السلم يا رسول ا ّ
ل ،قال)صلى ال عليه وآله وسلم(:أدخل ومن معي؟ قالت: قال :أدخل؟ قالتُ :ادخل يارسول ا ّ
ي قناع ،فقال :يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ففعلت ،ثمّ قال: ل ليس عل ّيارسول ا ّ
ل ،قال أنا ومن
ل ،قال أدخل قالت :نعم يار سول ا ّ السلم عليكم ،فقالت :وعليك السلم يارسول ا ّ
ل)صلى ال عليه وآله وسلم( فدخلت2)"... )معي؟ قالت :ومن معك ،قال جابر :فدخل رسول ا ّ
وهذا الحديث يبّين لنا كيف كان النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وهو القدوة للمسلمين كافة،
.يراعي هذه اُلمور بدقة ،وحتى جاء في حديث
ن يسمعون ،والّثانية يحذرون، عن أبي عبدال الصادق)عليه السلم(قال" :الستيذان ثلثة :أّوله ّ
)والّثالثة إن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا لم يفعلوا فيرجع المستأذن"3).
سرين ضرورة وجود فواصل زمنية بين كل استئذان وآخر ،إذ قد يكون صاحب ويرى بعض المف ّ
المنزل لم يتهيأ ـ بعد ـ بلباس مناسب ،أو يريد تغيير هيئة أو إعداد منزله ،فيجب إعطاءه فرصًة
ليعّد نفسه ومنزله لستقبال ضيفه ،وعلى الضيف النصراف دون انزعاج أو توّتر إن لم ُيسمح له
.بالدخول
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير نور الثقلين ،المجلد الثالث ،الصفحة 1 586
.ـ نور الثقلين ،المجلد الّثالث ،صفحة 2 587
رابع عشر ،صفحة ،161أبواب مقدمات النكاح ،الباب 3 23 .ـ وسائل الشيعة المجلد ال ّ
][72
ـ ما المقصود بالبيوت غيرالمسكونة؟ 2
سرين في ذلك ،فقد قال في معرض الجابة على هذا السؤال لبّد من الشارة إلى اختلف المف ّ
البعض :يقصد بها المباني التي ل يسكنها شخص معين ،وهي لعموم الناس ،كالمنازل العاّمة في
الطرق البرية والفنادق والحمامات العاّمة وأمثالها .وقدجاء هذا المعنى بصراحة في حديث للمام
).الصادق)عليه السلم()1
ن هذاسر البعض ذلك بالخرائب التي ليست لها جدران ول أبواب ،يدخلها من يشاء ،غير أ ّ وف ّ
.الّتفسير يبدو بعيدًا جدًا عن الصواب ،فل أحد يضع متاعه في هذه المنازل
وقال آخرون :إّنها إشارة إلى مخازن التجار وحوانيتهم ،التي احتوت على متاع الناس أمانًة لديهم
لغرض البيع ،ويمكن لكّل صاحب متاع الدخول إلى هذا المخزن ليأخذ متاعه ،وهذا الّتفسير أيضًا
.يبدو غير منسجم مع ما قصدته الية
كما يحتمل أّنها قصدت المنازل التي ليس فيها أحد ،ويضع المرء متاعه فيها أمانًة بعد علمه
.برضا صاحبها ضمنًا في حراستها ورفعها عند الحاجة
ن الّتفسير الّول ينسجم انسجامًا أفضل مع معنىوبعض هذه التفاسير ل يتناقض مع غيره ،إّل أ ّ
الية وقصدها ،ويّتضح بذلك أّنه ل يجوز لشخص له متاع في منزل أن يدخل المنزل دون استئذان
.من صاحبه حتى لو لم يكن في البيت أحد حينذاك
][74
اليتان
سبب الّنزول
جاء في كتاب الكافي حول سبب نزول أّول آية من اليات السابقة ،عن
][75
المام الباقر)عليه السلم( قال :استقبل شاب من النصار أمرأة بالمدينة وكان النساء يقنعن خلف
آذانهن ،فنظر إليها وهي مقبلة ،فلّما جازت نظر إليها ودخل زقاق قد سّماه يعني فلن ،فجعل ينظر
ق وجهه ،فلّما مضت المرأة نظر فإذا الدماء
خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فش ّ
تسيل على ثوبه وصدره ،فقال :وال لتين رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( ولخبرّنه ،قال:
فآتاه فلّما رآه رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( قال له :ما هذا فأخبره ،مهبط جبرئيل)عليه
السلم( بهذه الية) :قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن ال
)خبير بما يصنعون(1).
الّتفسير
:مكافحة السفور وخائنة العين
ن هذه السورة ـ في الحقيقة ـ اختصت بالعفة والطهارة وتطهير الناس من جميع قلنا في البداية :إ ّ
صة بالنظر إلى الجنبية
النحرافات الجنسية ،وبحوثها منسجمة ،وهي تدور حول الحكام الخا ّ
صة بالقذف.والحجاب ،ول يخفى على أحد ارتباط هذا البحث بالبحوث الخا ّ
).تقول الية أّول) :قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم
ض" من باب "رّد" وتعني في الصل التنقيص ،وتطلق غالبًا على وكلمة "يغضوا" مشتّقة من "غ ّ
تخفيض الصوت وتقليل النظر .لهذا لم تأمر الية أن يغمض المؤمنون عيونهم .بل أمرت أن
ضوا من نظرهم .وهذا التعبير الرائع جاء لينفي غلق العيون بشكل تام بحيث ل يعرف اِلنسان يغ ّ
حر فيها ،بل أن يرمي
طريقه بمجّرد مشاهدته امرأة ليست من محارمه ،فالواجب عليه أن ل يتب ّ
ض من نظره وأبعد ذلك المنظر من مخيلته
.ببصره إلى الرض ،ويصدق فيه القول أنه غ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
رابع عشر ،صفحة ،39تفسير نور الثقلين ،والميزان ،وروح 1 ـ وسائل الشيعة ،المجلد ال ّ
.المعاني مع بعض الختلف في تفسير الية موضع البحث
][76
ض النظر عنه) .أي أنه حذف ن القرآن الكريم لم يحدد الشيء الذي يستوجب غ ّ ومّما يلفت النظر أ ّ
ض النظر عن جميع الشياء التي حرم ال النظر متعّلق الفعل( ليكون دليل على عموميته .أي غ ّ
.إليها
صة في الية التالية التي تتحدث عن قضية الحجاب، ولكن سياق الكلم في هذه اليات ،وخا ّ
يوضح لنا جيدًا أنها تقصدالنظر إلى النساء غيرالمحارم ،ويؤّكد هذا المعنى سبب الّنزول الذي
.ذكرناه) (1سابقًا
ويّتضح لنا مّما سبق أن مفهوم الية السابقة ليس هو حرمة النظر الحاد إلى النساء غيرالمحارم،
ن النظر الطبيعي إلى غير المحارم مسموح به ،بل إن نظر النسان يمتّد إلى حّيز ليتصور البعض أ ّ
واسع ويشمل دائره واسعة ،فإذا وجد امرأة من غير المحارم عليه أن يخرجها عن دائرة نظره.
ض النظر) .فتأملوا جيدًا).وأّل ينظر إليها ،ويواصل السير بعين مفتوحة ،وهذا هو مفهوم غ ّ
الحكم الّثاني في الية السابقة :هو "حفظ الفروج" .و"الفرج" ـ كما قلنا سابقًا ـ يعني الفتحة
.والفاصلة بين شيئين ،إّل أّنها هنا ورد كناية عن العورة
والقصد من حفظ الفرج ـ كما ورد في الحاديث ـ هو تغطيته عن النظار ،وقد جاء في حديث عن
المام الصادق)عليه السلم( قوله" :كّل آية في القرآن فيها ذكر الفروج فهي من الزنا ،إلّ هذه
).الية فإّنها من النظر")2
ن )ذلك أزكى لكم( ُكما إن السلم نهى عن هذا العمل المندفع مع الهواء النفسية والشهوات ،ل ّ
صت عليه الية ـ موضع البحث ـ في ختامها .ن ّ
ثّم تحذر الية ُأولئك الذين ينظرون بشهوة إلى غير محارمهم ،ويبررون عملهم هذا بأّنه غير
ن ال خبير بما تصنعون ).متعّمد فتقول) :إ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
سرون في تعليل وجود "من" في جملة )يغضوا من أبصارهم( فقال بعضهم إّنها 1 ـ اختلف المف ّ
.للتبعيض وقيل :إّنها زائدة ،وقيل :ابتدائية .ولكن الظاهر هو المعنى الّول
ـ أصول الكافي ،وتفسير علي بن إبراهيم )وفق ما نقله نورالثقلين المجلد الثالث ،صفحة 2 ،587
588).
][77
وتناولت الية التالية شرح واجبات النساء في هذا المجال ،فأشارت أّول إلى الواجبات التي تشابه
).ما على الرجال ،فتقول) :وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن
وبهذا حرم ال النظر بريبة على النساء أيضًا مثلما حّرمه على الرجال ،وفرض تغطيه فروجهن
.عن أنظار الرجال والنساء مثلما جعل ذلك واجبًا على الرجال
:ثمّ أشارت الية إلى مسألة الحجاب في ثلث جمل
ل ما ظهر منها 1 ).ـ )ول يبدين زينتهن إ ّ
سرون في تفسير الزينة التي تجب تغطيتها ،والزينة الظاهرة التي يسمح باظهارها .اختلف المف ّ
ن الزينة المخفية هي الزينة الطبيعية في المرأة )جمال جسم المرأة( في حين أنفقال البعض :إ ّ
.استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى قليل
وقال آخرون :إّنها تعني موضع الزينة :لن الكشف عن أداة الزينة ذاتها كالعضد والقلدة مسموح
ص موضعها ،أي اليدين والصدر مثل .به ،فالمنع يخ ُ
ص المنع أدوات الزينة عندما تكون على الجسم ،وبالطبع يكون الكشف عن هذه وقال آخرون :خ ّ
الزينة مرادفًا للكشف عن ذلك الجزء من الجسم) .و هذين الّتفسيرين الخيرين لهما نتيجة واحدة
).على الرغم من متابعة القضية عن طريقين مختلفين
والحق أّننا يجب أن نفسر الية على حسب ظاهرها ودون حكم مسّبق ،وظاهرها هو الّتفسير
.الّثالث
وعلى هذا ،فل يحق للنساء الكشف عن زينتهن المخفية ،وإن كانت ل ُتظهر أجسامهن ،أي ل
ص القرآن الذي نهاه ّ
ن يجوز لهن الكشف عن لباس يتزّين به تحت اللباس العادي أو العباءة ،بن ّ
.عن ذلك
][78
سروا الزينة المخفيةوذكرت الحاديث التي ُرويت عن أهل البيت)عليهم السلم( هذا المعنى ،فقد ف ّ
).بالقلدة والدملج )حلي يشّد أعلى الساعد( والخلخال)1
ن المراد منسرت أحاديث عديدُة ُأخرى الزينة الظاهرة بالخاتم والكحل وأمثاله ،لهذا نفهم بأ ّ وقد ف ّ
).الزينة المخفية الزينة التي تحت الحجاب )فتأملوا جيدًا
خمار" 2خُمر" جمع " ِ ـ وثاني حكم ذكرته الية هو) :وليضربن بخمرهن على جيوبهن( وكلمة " ُ
على وزن "حجاب" في الصل تعني "الغطاء" ،إّل أّنه يطلق بصورة اعتيادية على الشيء الذي
.تستخدمه النسوة لتغطية ُرؤوسهن
و"الجيوب" جمع "جيب" على وزن "غيب" بمعنى ياقة القميص ،وأحيانًا يطلق على الجزء الذي
.يحيط بأعلى الصدر لمجاورته الياقة
ن قبل نزولها ،يرمين أطراف الخمار على أكتافهن أو خلف ن النساء ك ّويستنتج من هذه الية أ ّ
الرأس بشكل يكشفن فيه عن الرقبة وجانبًا من الصدر ،فأمرهن القرآن برمي أطراف الخمار حول
أعناقهن أي فوق ياقة القميص ليسترن بذلك الرقبة والجزء المكشوف من الصدر) .ويستنتج هذا
).المعنى أيضًا عن سبب نزول الية الذي ذكرناه آنفًا
ن وإظهار 3 ـ وتشرح الية في حكمها الّثالث الحالت التي يجوز للنساء فيها الكشف عن حجابه ّ
ن ،فتقول )ول يبدين زينتهن إّل ).زينته ّ
).ـ )لبعولتهن 1
).ـ )أو آبائهن 2
).ـ )أو آباء بعولتهن 3
).ـ )أو أبنائهن 4
).ـ )أو أبناء بعولتهن 5
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير على بن إبراهيم لخر الية موضع البحث 1
][79
إخوانهن 6 ).ـ )أو
بني إخوانهن 7 ).ـ )أو
بني أخواتهن 8 ).ـ )أو
نسائهن 9 ).ـ )أو
ما ملكت أيمانهن 10 ).ـ )أو
لربة من الرجال( أي الرجال الذين ل رغبة جنسية عندهم أصل 11
ـ )أو التابعين غير أولي ا ِ
.بالعنن أو بمرض غيره
).ـ )أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء 12
ن( أي على 4
ن ليعلم ما يخفين من زينته ّ
ـ وتبّين الية رابع الحكام فتقول )ول يضربن بأرجله ّ
ن ،ويبتعدن عن كّل شيء يثير نار الشهوة في قلوب
النساء أن يتحّفظن كثيرًا ،ويحفظن عّفته ّ
.الرجال ،حتى ل يتهمن باِلنحراف عن طريق العفة
ويجب أن يراقبن تصرفهن بشّدة بحيث ل يصل صوت خلخالهن إلى آذان غير المحارم ،وهذا كله
.يؤّكد دّقة نظر السلم إلى هذه اُلمور
وإنتهت الية بدعوة جميع المؤمنين رجال ونساًء إلى التوبة والعودة إلى ال ليفلحوا )وتوبوا إلى
ال جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون( وتوبوا أّيها الناس مّما ارتكبتم من ذنوب في هذا المجال،
بعدما اطلعتم على حقائق الحكام السلمية ،وعودوا إلى ال لتفلحوا ،فل نجاة لكم من كّل
!النحرافات الخطرة إّل بلطف من ال ورحمته ،فسّلموا أمركم إليه
صحيح أّنه ل معنى للذنوب والمعاصي ـ في هذه المسألة ـ قبل نزول هذه الحكام من ال ،إّل أّننا
صة بالنحطاط الخلقي ذا جانب عقلني وكما في الصطلح أنها ن قسمًا من المسائل الخا ّ
نعلم بأ ّ
.من "المستقلت العقلية" ويكفي لوحده في تحديد المسؤولية
***
][80
بحوث
ـ فلسفة الحجاب 1
ن الحديث عن الحجاب للمتغربين في عصرنا الذي سّموه بعصر التعري والحرية ك فيه أ ّ
مّما ل ش ّ
.الجنسية ،ليس حديثًا ساّرا حيث يتصّورونه ُأسطوره يعود لعصور خلت
ن الفساد الذي ل حّد له ،والمشاكل المتزايدة والناتجة عن هذه الحرّيات التي ل قيد لها إّل أ ّ
.ولحدود ،أدى بالتدريج إلى ايجاد اُلذن الصاغية لهذا الحديث
صة في أجواء إيران بعد الثورة وقد تّم حّل كثير من القضايا في بيئات إسلمية ودينية ُأخرى ،خا ّ
.السلمية ،وُأجيب عن الكثير من هذه السئلة بشكل مقنع
.ومع كل هذا تستوجب أهمية الموضوع بحث هذه القضية بحثًا واسعًا وعميقًا
والقضية المطروحة )نقولها مع العتذار( :هل من الصحيح أن ُتستغل النساء للتلّذذ من جانب
ن تحت تصرف جميع الرجال عن طريق السمع والنظر واللمس )باستثناء المجامعة( وأن َيُك ْ
ن؟
صة لزواجه ّالرجال ،أو أن تكون هذه اُلمور خا ّ
إنّ النقاش يدور حول هذا السؤال :هل يجب بقاء النساء في سباق ل نهاية له في عرض
ن ،وتحريك شهوات وأهواء الرجال؟ أو يجب تصفية هذه اُلمور من أجواء المجتمع، أجسامه ّ
!وتخصيصها باُلسرة والحياة الزوجية؟
السلم يساند السلوب الّثاني .ويعتبر الحجاب جزءًا من هذا اُلسلوب ،في الوقت الذي يساند فيه
!الغربيون والمتغربون الشهوانيون اُلسلوب الّول
ن اُلمور الجنسية سواًء كانت مجامعة أو استلذاذًا عن طريق السمع أو البصر أو يقول السلم :إ ّ
ن ذلك يؤّدي إلى تلويث المجتمع وانحطاطه، ص بالزواج ،ومحّرم على غيرهم ،ل ّ اللمس خا ّ
وعبارة )ذلك أزكى لكم( التي جاءت في الية
][81
.السابقة تشير إلى هذه المسألة
:إنّ فلسفة الحجاب ليست خافية على أحد للسباب التالية
صة الشباب 1
ـ إنّ تعري النساء وما يرافقه من تجميل وتدلل ـ وما شاكل ذلك ـ يحرك الرجال ـ خا ّ
طم أعصابهم ،وتراهم قد غلب عليهم الهياج العصبي ،وأحيانًا يكون ذلك مصدرًا للمراض ـ ويح ّ
النفسية ،فأعصاب النسان محدودة التحّمل ،ول تتمكن من اِلستمرار في حالة الهيجان؟
ن هذه الحالة من الهيجان المستمر سبب للمراض النفسية؟ ألم يقل أطباء علم النفس بأ ّ
ن الغريزة الجنسية ،أقوى الغرائز في النسان وأكثرها عمقًا ،وكانت عبرصة إذا لحظنا أ ّ
خا ّ
ن وراء كّل حادثة مهّمة امرأة
!التاريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة ،حتى قيل :إ ّ
أليس إثارة الغرائز الجنسية لعبًا بالنار؟
وهل هذا العمل عقلني؟
السلم يريد للرجال والنساء المسلمين نفسًا مطمئنة وأعصابًا سليمة ونظرًا وسماعًا طاهرين،
.وهذه واحدة من فلسفات الحجاب
ن2ـ تبّين إحصاءات موثقة ارتفاع نسب الطلق وتفّكك اُلسرة في العالم ،بسبب زيادة التعّري ،ل ّ
ب الرجل من امرأة إلى أخرى ،كّل يوم ،بل كل ساعة .الناس أتباع الهوى غالبًا ،وهكذا يتحّول ح ّ
أّما في البيئة التي يسودها الحجاب )والتعاليم السلمية اُلخرى( فالعلقة وثيقة بين الزوج
.وزوجته ،ومشاعرهما وحبهما مشترك
وأّما في سوق التعري والحرية الجنسية ،حيث المرأة سلعة تباع وتشترى ،أو في أقل تقدير
موضع نظر وسمع الرجال ،عندها يفقد عقد الزواج حرمته ،وتنهار ُأسس اُلسر بسرعة كانهيار
بيت العنكبوت ،ويتحمل هذه المصيبة البناء
][82
.بعد أن يفقدوا أولياءهم ويفقدوا حنان اُلسرة
ـ انتشار الفحشاء وازدياد البناء غير الشرعين يعتبران من أنكى نتائج إلغاء الحجاب ،ول 3
حاجة إلى إحصائية بهذا الصدد ،فشواهدها ظاهرة في المجتمع الغربي ،واضحة بدرجة ل تحتاج
.إلى بيان
ن السبب الرئيسي في إزدياد الفحشاء والبناء غيرالشرعيين ينحصر في إلغاء الحجاب ل نقول :إ ّ
ن الستعمار المشؤوم والقضايا السياسية المخربة ليس لها دور قوي وعدم الستر ،ول نقول :إ ّ
.فيه ،بل نقول :إن التعري من السباب القوية لذلك
وكما نعلم فإن انتشار الفحشاء وازدياد البناء غير الشرعيين مصدر أنواع الجرائم في المجتمعات
.البشرية قديمًا وحديثًا
ن؟ 3
ـ ما المقصود من نسائه ّ
ن النساء
ن تاسع مجموعة مستثناة بالطلع على زينة النساء ه ّ ذكرنا في تفسير الية السابقة أ ّ
ن" ندرك أّنها تقصد النساء المسلمات ،ول يكشفن عن اُلخريات ،وبملحظة عبارة "نسائه ّ
ن ما
ن لغير المسلمات ،وفلسفة ذلك ،أّنه من المحتمل أن يصفن ـ غير المسلمات ـ لزواجه ّ زينته ّ
.شاهدنه من زينة النساء المسلمات .وهذا ليس عمل صائبًا من قبل المسلمات
وروي عن المام الصادق)عليه السلم( في كتاب )من ل يحضره الفقيه(" :ل ينبغي للمرأة أن
ن")2ن يصفن ذلك لزواجه ّ
).تكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإّنه ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ كتاب وسائل الشيعة ،المجلد ،14صفحة ،145الباب ،109من أبواب مقدمات النكاح 1
.ـ من ل يحضره الفقيه ،حسبما ذكره تفسير نور الثقلين ،المجلد ،3صفحة 2 593
][88
)ـ تفسير عبارة )أو ما ملكت أيمانهن 4
لظاهر هذه العبارة مفهوم واسع ،ويدل على أّنه بإمكان المرأة الظهور دون حجاب بحضور
ن غيرن ذلك يعني فقط الظهور بين الجواري حتى لوك ّ ن بعض الحاديث صّرحت بأ ّ عبدها ،إّل أ ّ
مسلمات ،ول يشمل هذا الحكم العبيد .ففي حديث للمام أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(" :ل
).ينظر العبد إلى شعر سّيدته")1
ن ذلك خلفًا للحتياط
.ويستفاد من أحاديث ُأخرى تعميم هذا الحكم على الجواري والعبيد ،إّل أ ّ
اليات
الّتفسير
:الترغيب في زواج يسير التكاليف
طرحت هذه الية ـ منذ بدايتها حتى الن ـ سبل أمينًة متعّددة للحيلولة دون النحطاط الخلقي
والفساد ،فكّل واحد من هذه السبل يرتقي باُلّمة َفردًا وجماعًة
][92
طهر والستقامة ،ويحول دون تقهقرها أو انحدارها في مهاوي الّرذيلة ،وقد إلى عالم أرحب من ال ّ
أشارت اليات ـ موضع البحث ـ إلى أهم طرق مكافحة الفحشاء ،أل وهو الزواج اليسير الذي يتّم
ن إشباع الغرائز بشكل سليم وشرعي خير سبيل لقتلع جذور بعيدًا عن أجواء الرياء والبذخ ،ل ّ
.الذنوب ،أو بعبارة ُأخرى :كل مكافحة سلبية لبّد أن ترافقها مكافحة إبجابية
).لهذا تقول بداية الية موضع البحث) :وانكحوا اليامى منكم والصالحين من عبادكم وإماِئكم
و"اليامى" جمع "أّيم" على وزن "قّيم" وتعني في الصل المرأة التي ل زوج لها ،وكذلك تطلق
هذه الكلمة على الرجل الذي ل زوجة له ،فيدخل في هذا المفهوم كّل من ليس له زوج ،سواء كان
.بكرًا أم ثّيبا
ن الزواج يتّم بالتراضي وحرية الختيار الطرفين ،فالمراد وعبارة "أنكحوا" أي "زّوجوا" ـ وبما أ ّ
من هذا المر بالتزويج التمهيد للزواج ،عن طريق تقديم العون المالي عند الحاجة ،أو العثور
على زوجة مناسبة ،أو التشجيع على الزواج والستفادة من وساطة الشخاص لحّل المشاكل
.المستجدة
ن مفهوم الية واسع ،حتى أّنُه ليضم كّل خطوة وحديث في هذا المجال .ول اختلف وباختصار :إ ّ
ن أصل التعاون اِلسلمي يوجب تقديم العون من قبل المسلمين بعضهم لبعض .في أ ّ
صة .وهي أهمّية بالغة المدى ،إذ ورد حديث وجاء ذلك هنا بصراحة ليؤّكد أهمّية الزواج الخا ّ
بصددها عن أمير المؤمنين علي)عليه السلم( قوله" :أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في
)نكاح حتى يجمع ال بينهما"1).
وجاء في حديث آخر عن المام موسى الكاظم)عليه السلم( قوله" :ثلثة يستظلون
ــــــــــــــــــــــــــــ
).ـ وسائل الشيعة ،المجلد ،14صفحة ) 27الباب 12من أبواب مقدمات النكاح 1
][93
بظّل عرش ال يوم القيامة ،يوم ل ظّل إّل ظّله ،رجل زّوج أخاه المسلم ،أو خدمه ،أو كتم له
).سّرا")1
كما جاء في حديث عن الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( قوله في الذي يسعى لزواج
أخيه المسلم "كان له بكّل خطوة خطاها ،أو بكّل كلمة تكلم بها في ذلك عمل سنة قيام ليلها وصيام
).نهارها")2
ن بعض العذار كالفقر أو عدم وجود وتوّفر المكانات اللزمة قد تقف حائل دون الزواج، وبما أ ّ
أو هو عذر للفرار من الزواج وتشكيل اُلسرة .يقول القرآن بهذا الصدد) :إن يكونوا فقراء يغنهم
).ال من فضله إن ال واسع عليم
إنّ قدرة ال واسعة سعة تشمل عالم الوجود كّله ،وعلمه واسع يحيط بما خفي وبما ظهر من
صة الذين يقدمون على الزواج ابتغاء المحافظة على عفتهم وطهارتهم، المقاصد والفعال ،خا ّ
.وبهذا يشمل ال الجميع بفضله وكرمه
.ولنا في هذا المجال دراسة وتحليل ،وسنذكر أحاديث عديدة في نهاية هذا البحث
ولكن أحيانًا بالرغم من بذل الجميع جهودهم لتهيئة مستلزمات زواج إنسان ما ل يفلحون في
ن أن إقدامه على ذلك ،مّما يضطره إلى مضي فترة من الزمن محرومًا من الزواج ،ولكي ل يظ ّ
الفساد أمرًا مباحًا تقتضيه الضرورة أسرعت الية التالية لتأمره بالطهارة والعّفة فقالت:
)).وليستعفف الذين ل يجدون نكاحًا حتى يغنيهم ال من فضله
فيجب عليه تجّنب التلوث والفساد في هذه المرحلة المتأّزمة ومواجهة المتحان اِللهي ،حيث ل
.يقبل أي عذر منه ،فلبّد أن يمتحن قّوة إيمانه وشخصيته وتقواه في هذه المرحلة
ــــــــــــــــــــــــــــ
).ـ وسائل الشيعة ،المجلد ،14صفحة ) 27الباب 12من أبواب مقدمات النكاح 1
.ـ المصدر السابق 2
][94
ويهتم السلم كعادته بالعبيد الضعفاء اجتماعيًا من أجل تيسير حريتهم ،فيتناول القرآن المجيد
مسألة المكاتبة )وهي تعهد الغلم بتوقيعه إتفاقًا ينص على القيام بعمل معّين أو دفع مبلغ مقابل
).عتقه( ،فتقول الية )والذين يبتغون الكتاب مّما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا
وتقصد عبارة )علمتم فيهم خيرًا( أي قد بلغوا من النمو الجسمي ووجدتم فيهم صلحية لبرام
.العقد ،وقدرتهم على إنجاز ما تعهدوا به
ن في ذلك ضررًا أّما إذا لم يتمكنوا من الوفاء بما عاهدوا عليه ،فل ينبغي مكاتبتهم وعتقهم ،ل ّ
عليهم وعلى المجتمع ،فيجب تأجيل ذلك إلى وقت آخر يؤّهلهم من حيث القدرة والصلحية ،ولجل
أل يقع العبيد في مشاكل ل يتمكنون من حّلها ويعجزون عن تسديد ما بذمتهم ،يدعو القرآن الكريم
).إلى مساعدتهم فيقول) :وآتوهم من مال ال الذي آتاكم
سرين :فقال عدد كبير منهم :ـ إّنه حصة من الزكاة ،مثلما هناك اختلف حول هذا المال بين المف ّ
.نصت عليه الية ) (60من سورة التوبة .ليتمكن العبيد من الوفاء بدينهم وانعتاقهم
وقال آخرون :على مالك الغلم أن يَتبرع بقسم من أقساط الّدين ،أو يساعده بإعادته إليه ،ليتمكن
.من الحياة الحّرة
كما يحتمل أن المقصود هنا منح العبيد في البداية مبلغًا للنفاق ،أو جعله رأسمال لهم ليمكنهم من
ن التفاسير الثلثة صة ،ودفع القساط التي بذّمتهم ،وطبيعي أ ّ التجارة والعمل وإدارة شؤونهم الخا ّ
.هذه غير متناقضة .ويمكن للية السابقة أن تستوعبها جميعًا
والهدف الحقيقي هو أن يشمل المسلمون هذه الطبقة المستضعفة بمساعداتهم لتتحرر بأسرع
.وقت ممكن
وروي عن المام الصادق)عليه السلم( في تفسير هذه الية" :تضع عنه من نجومه
][95
).التي لم تكن تريد أن تنقصه ،ول تزيد فوق ما في نفسك")1
إشارة إلى مجموعة من الناس كانوا يكاتبون عبيدهم بمبالغ أكبر مّما يعطونهم ،ويتظاهرون
بمساعدتهم .وقد نهى المام الصادق)عليه السلم( عن ذلك مبّينا أّنه يجب أن يكون التخفيض
.حقيقّيا
وعّقبت هذه الية بإشارة إلى أحد العمال القبيحة التي كان يمارسها عّباد الدنيا إزاء جواريهم:
)).ول تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنًا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا
سرين في سبب نزول هذه الية :كان عبدال بن ُأبي يملك ست جوار يجبرهن على قال بعض المف ّ
البغاء ،وعندما نزلت آيات قرآنية تنهى عن الفحشاء جئن إلى الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(
ن عنده ،فنزلت الية أعله ونهت عن ارتكاب هذا الثم)2 ).وعرضن شكواهن على سّيده ّ
وهذه الية تكشف عن مدى الرذيلة والنحطاط الخلقي الذي كان سائدًا في عهد الجاهليه .وقد
واصل البعض أعماله القبيحة هذه حتى بعد ظهور السلم ،حتى نزلت الية السابقة ،وأنهت هذه
.العمال
ومع بالغ السف نجد عصرنا الذي سمي بجاهلية القرن العشرين ،تمارس البشرية هذا العمل
بقوه وعلى قدم وساق في بلدان تّدعي المدنية والحضارة والدفاع عن حقوق النسان .وكذلك كان
الوضع في بلدنا على عهد الطاغوت ،إذ كان هذا العمل القبيح يمارس ببشاعة ومرارة ،وكان
ن علىن إلى مراكز الفساد ،ويجبره ّالبعض يخدع البنات البريئات والنساء الجاهلت ،ويدفع به ّ
القيام بأعمال الرذيلة والفساد ،ويغلق أبواب النجاة بوجوههنّ ليجني ثروات طائلة وتفصيل الكلم
.في ذلك مؤلم وخارج عن عهدة هذا الكتاب
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير نور الثقلين ،المجلد الثالث ،صفحة 1 601
).ـ مجمع البيان في تفسير آخر الية موضع البحث ،وتفسير القرطبي )مع بعض الختلف 2
][96
ن الجرائم
ضر وإزالة معالم العبودية القديمة ،إّل أ ّ
وبالرغم من أن العالم المعاصر يّدعي التح ّ
حشا من كّل ما حدث في غابر الّيام ،ونسأل ال أن يحفظ خلقية تشيع بشكل أكثر تو ّ والمفاسد ال ُ
اِلنسانية من شّر هؤلء الذين يّدعون التمّدن .كما نحمده ونشكره على زوال هذه المعالم من
.إيران بعيد انتصار الثورة السلمية
ن إن رغبن في الفساد فل ن عبارة )إن أردن تحصنًا( ل تعني في مفهومها أنه ّ وجدير بالذكر أ ّ
مانع من إجبارهن ،بل تعني نفي الموضوع بشكل تاّم من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ،ل ّ
ن
مسألة الكراه تصدق في حالة عدم الرغبة فيه .وإّل فبيع الجسد وإشاعة هذا الفعل بأية صورة
.كانت هو من كبائر الذنوب
ن الجواريوجاءت هذه العبارة لتثير غيرة مالكي الجواري إن كان لهم أدنى غيرة ،ومفهومها أ ّ
ن من الطبقة الدانية ولكن ل يرغبن في ارتكاب الفاحشة .فلماذا ترتكبون هذه العمال مع أنه ّ
المنحطة على الرغم من تصوركم أّنكم طبقة راقية؟
وفي الختام ـ على حسب اُلسلوب الذي يتبعه القرآن ـ يفتح طريق التوبة للمذنبين ،ويشجعهم
ن غفور رحيم ن ال من بعد إكراهه ّ).على إصلح أنفسهم) :ومن يكرههن فإ ّ
لك الجواري الذين غلب ويمكن أن تكون هذه الجملة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى الوضع السائد بين م ّ
.عليهم الندم ،واستعدوا للتوبة وإصلح أنفسهم
.أو تكون هذه الجملة إشارة إلى النسوة اللواتي يرتكبن هذا العمل القبيح بإكراه من قبل أسياده ّ
ن
خص الموضوع المطروح خلل وعلى نهج القرآن ،نجد آخر اليات ـ موضع البحث ـ تستنتج وتل ّ
إشارتها إلى البحوث السابقة) :ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات( وكذلك دروس وعبر من القوام
).الماضية تنفعكم في يومكم هذا) :ومثل من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين
***
][97
:مسائل مهّمة
سّنة إلهية 1
ـ الزواج ُ
على الرغم من أن الزواج في الوقت الحاضر قد تعقد بما أحاطته العراف الجتماعية من عادات
خاطئة وخرافية أحيانًا ،فأصبح طريقًا صعبًا ل يتمكن الشاب من سلوكه ،فإّنه لو اجتزنا هذه
ن الزواج تعبير فطري منسجم مع قانون الخليقة وضروري لبقاء نسل النسان، العراقيل لدركنا أ ّ
وسكن لروحه ،وراحة لجسمه ،وحل للمشاكل النفسية والجتماعية .فالسلم يخطو بانسجام مع
الخلق ،وله تعابير جميلة مؤثرة ،ومن جملتها حديث مشهور عن الّرسول العظم)صلى ال عليه
).وآله وسلم("تناكحوا وتناسلوا تكثروا .فإّني أباهي بكم اُلمم يوم القيامة ولو بالسقط")1
ونقرأ حديثًا آخر له)صلى ال عليه وآله وسلم( "من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق ال في
).النصف الباقي")2
ن الغريزة الجنسية من أقوى وأشرس الغرائز في النسان، والسبب في كّل هذا الهتمام هو أ ّ
وتنافس الغرائز اُلخرى بأجمعها ،وانحرافها يعّرض دين المرء إلى الخطر ،ولذا يعلو صوت
حديث نبوي آخر" :شراركم عّزابكم") (3لهذا شجعت اليات ـ موضع البحث ـ وأحاديث عديدة
.المسلمين على التعاون في تزويج العّزاب ،وتقديم ما بوسعهم من مساعدات في هذا السبيل
وقد حّمل الّدين السلمي الباء مسؤولية كبيرة عن أبنائهم ،والباء الذين يتصّرفون دون مبالة
إزاء هذه القضية ،فإّنهم يشاركون في إنحراف أبنائهم .كما نقرأ في حديث للرسول العظم)صلى
ال عليه وآله وسلم( "من أدرك له ولٌد وعنده ما يزوجه فلم
ــــــــــــــــــــــــــــ
).ـ سفينة البحار ،المجلد الول ،صفحة ) 561مادة الزوج 1
.ـ المصدر السابق 2
.ـ مجمع البيان ،في تفسير الية موضع البحث 3
][98
).يزوجه ،فأحدث ،فالثم بينهما!")1
وقد أّكدت تعاليم السلم ـ لهذا السبب أيضًا ـ بالتيسير في نفقات الزواج والمهر ،لزالة الحواجز
ن المهر الغالي يقف حجر عثرة في وجه زواج العّزاب .ففي صة إذا علمنا أ ّ
من طريق الُعّزاب .خا ّ
).حديث للّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( يقول" :من شؤم المرأة غلء مهرها")2
).وجاء في حديث آخر أعقب الحديث السابق" :من شؤمها شّدة مؤونتها")3
ن الفقر ل يمكن أن يكون مانعًا للزواج ،وقد يغني ال المرء بالزواج.وقد صّرحت الية السابقة بأ ّ
جة أّنهم فقراء ،ول يتحملون هذه وبهذا حكمت الية وأدانت الذين يفرون من الزواج بح ّ
.المسؤولية اللهية والنسانية ،بأعذار واهية
ن المرء يشعر بعد زواجه بمسؤوليته في الحياة ،فيزج قواه والسبب في التأكيد على الزواج ،هو أ ّ
للكسب الحلل .بينما نجد العزاب في معظم الحالت مشردين! لعدم شعورهم بالمسؤولية.
والمتزوج يكتسب شخصية إجتماعية ،حيث يجد نفسه مسؤول عن المحافظة على زوجته ،وماء
وجه ُأسرته ،وتأمين حياة سعيدة ومستقبل زاهر لها .ويستغّل المتزوج جميع طاقاته للحصول
على دخل معتبر ،فتراه يقتصد في نفقاته ليتغّلب على الفقر بأسرع وقت ممكن ،لهذا ذكر المام
).الصادق)عليه السلم( "الرزق مع النساء والعيال")4
جاء في حديث للرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( حين شكا رجل إليه فقره فأجابه)صلى
).ال عليه وآله وسلم(" :تزّوج" .فتزّوج فوسع له)5
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ مجمع البيان في تفسير الية موضوع البحث 1
.ـ وسائل الشيعة ،المجلد الخامس عشر ،الباب الخامس من أبواب المهور صفحة 2 10
.ـ المصدر السابق 3
.ـ تفسير نور الثقلين ،المجلد الثالث ،صفحة 4 595
رابع عشر ،صفحة ،25الباب " 11من أبواب مقدمات النكاح 5 ".ـ وسائل الشيعة ،المجلد ال ّ
][99
ن المدادات اِللهية والقوى الروحية الخفية تساعد هذا الشخص الذي تزوج ليحفظ ول جدال في أ ّ
نفسه ويطهرها .وعلى كّل مؤمن أن يطمئن لما وعده ال ،فقد ذكر رسول ال)صلى ال عليه وآله
وسلم( "من ترك التزويج مخافة العيلة فقد ساء ظّنه بال ،إن ال عّزوجّل يقول) :أن يكونوا
).فقراء يغنهم ال من فضله()1
.وهناك أحاديث عديدة في هذا المجال ،لو تناولناها جميعًا بالبحث لخرجنا عن بحثنا الّتفسيري هذا
][101
اليات
جُة َكَأّنَها
جا َ
جة الّز َ جا َح ِفى ُز َ صَبا ُ
ح الِم ْ صَبا ٌ
شَكوة ِفيَها ِم ْ ض َمَثُل ُنوِرِه َكِم ْت َواَْلْر ِ سَمـَو ِ
ل ُنوُر ال ّ ا ُ
سُه
س ْ ضىُء َوَلْو َلْم َتْم َ غْربِّية َيَكاُد َزْيُتَها ُي ِشْرِقّية َوَل َ جَرة ّمَبـَرَكة َزْيُتوَنة ّل َ شَ ى ُيوَقُد ِمن َ ب ُدّر ّ َكْوَك ٌ
عِليٌم)(35 ىء َ شْ ل ِبُكّل َ س َوا ُ ل اْلْمَثَل ِللّنا ِبا ُ ضِر ُ شآُء َوَي ْ ن َي َ
ل ِلُنوِرِه َم ْعلى ُنور َيْهِدى ا ُ َناٌر ّنوٌر َ
جاٌل ّل ُتْلِهيِهْم صاِل)ِ (36ر َ ح َلُه ِفيَها ِبالُغُدّو َواْل َ سّب ُ
سُمُه ُي َن ُتْرَفَع َوُيْذَكَر ِفيَها ا ْل َأ ْ
نا ُ ِفى ُبُيوت َأِذ َ
صـُر)ب َوالَْْب َ ب ِفيِه الُقُلو ُ ن َيْومًا َتَتَقّل ُ
خاُفو َصَلوِة َوإِيَتآِء الّزَكوِة َي َل َوِإَقاِم ال ّعن ِذْكِر ا ِ جـَرٌة َوَل َبْيٌع َ ِت َ
ساب)38 ح َ شآُء ِبَغْيِر ِ ق َمن َي َ ل َيْرُز ُضِلِه َوا ُ
عِمُلوا َوَيِزيَدُهم ّمن َف ْ ن َما َ سَ ح َ ل َأ ْ
جِزَيُهُم ا ُ)ِ (37لَي ْ
الّتفسير
!آية النور
سرون والعرفاء السلميون كثيرًا عن مقاصد اليات تحدث الفلسفة والمف ّ
][102
أعله ،وهي ُمرتبطة بما سبقها من اليات الشريفة التي عرضت لقضية العفة ومكافحة الفحشاء
.بمختلف السبل
صة السيطرة على الغرائز الثائرة ،ول سّيما الغريزةن ضمانة تنفيذ الحكام اللهية ،وخا ّ وبما أ ّ
الجنسية التي هي أقوى الغرائز ،ل تتّم دون الستناد إلى اليمان ،ومن هنا إمتد البحث إلى اليمان
ي ،فقالت الية أّول) :ال نور السموات والرض ).وأثره القو ّ
ن ال نور السموات والرض ...النور الذي ما أحلى هذه الجملة! وما أثمنها من كلمات! أجل إ ّ
.يغمر كّل شيء ويضيئه
ن المراد هون كلمة "الّنور" تعني هنا "الهادي" ،وذهب البعض الخر أ ّ سرين أ ّ
ويرى بعض المف ّ
سرها آخرون بـ "زينة السماوات والرض "".المنير" .وف ّ
ن مفهوم هذه الية أوسع بكثير مّما ُذكر ،فالقرآن المجيدوكّل هذه المعاني صحيحة ،سوى أ ّ
سرت النور بأشياء عّدة منها:والحاديث اِلسلمية ف ّ
ـ "القرآن المجيد" :ـ ذكرت الية ) (15من سورة المائدة) :قد جاءكم من ال نور وكتاب مبين( 1
).وجاء في الية ) (157من سورة العراف )واتبعوا النور الذي أنزل معه ُأولئك هم المفلحون
ـ "اليمان" ذكرت الية ) (257من سورة البقرة) .وال ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات 2
).إلى النور
ـ "الهداية اللهية" مثلما جاء في الية ) (122من سورة النعام )أو من كان ميتًا فأحييناه 3
!وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها(؟
ل أن يتّم نوره ولو 4
ـ "الدين السلمي" كما نقرأ في الية ) (32من سورة التوبة) :ويأبى ال إ ّ
).كره الكافرون
ـ الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( ـ نقرأ عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( في الية 5
) (46من سورة
][103
).الحزاب) :وداعيًا إلى ال بإذنه وسراجًا منيرًا
ـ الئمة الطهار :كما جاء في الزيارة الجامعة لهم" :خلقكم ال أنوارًا فجعلكم بعرشه محدّقين"6 .
".وكذلك في نفس هذه الزيارة "وأنتم نور الخيار وهداة البرار
رف بالنور كما جاء في الحديث المشهور "العلم نور يقدفه ال في 7 عّـ "العلم والمعرفة" حيث ُ
".قلب من يشاء
كلّ هذه من جهة ،ومن الجهة اُلخرى علينا التدقيق في خصائص النور وميزانه ،ليّتضح أّنه
:يمتاز بما يلي
ل جمال ولطف 1 !ـ النور أجمل وألطف ما في العالم ،وهو مصدر لك ّ
ـ النور أسرع الشياء ،كما ثبت لمشهوري العلماء الكبار في العالم ،إذ تبلغ سرعته ثلثمائة 2
ألف كيلومتر في الّثانية .وبإمكانه الدوران حول الكرة الرضية سبع مرات في طرفة عين )أقّل من
).ثانية واحدة
ولهذا السبب تقاس المسافات الهائلة بين النجوم فقط بسرعة الضوء ،والوحدة المستعملة في هذا
المجال هي السنة الضوئية ،أي :المسافة التي يقطعها الضوء وهو بتلك السرعة الهائلة ـ في سنة
.واحدة
ي شيء ،فالنور ظاهر 3 ـ بالنور يمكن مشاهدة الشياء في العالم ،ومن دونه يستحيل رؤية أ ّ
.بنفسه ومظهر لغيره
ر4ـ إنّ ضوء الشمس ُيعّد من أهم أنواع النور في عالمنا ،فهو ينمي الزهار والنباتات وبه تستم ّ
ي أن يستمّر في الحياة دون أن الحياة ،بل هو رمز بقاء المخلوقات الحّية ،ول يمكن لموجود ح ّ
.يستفيد من نور الشمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة
ولولها لعاشت 5 ـ ثبت اليوم أن جميع اللوان يمكن مشاهدتها بنور الشمس أو النوار اُلخرىَ ،
.المخلوقات في عتمة قاتمة
][104
ـ إنّ جميع أنواع الطاقة الموجودة في محيطنا )باستثناء الطاقة النووية( مصدرها الشمس من 6
قبيل حركة الرياح ،سقوط المطر ،وحركة النهر والوسائط فيها والشللت ولو دققنا في حركة
.جميع المخلوقات الحية لوجدناها ترتبط بنور الشمس
مصدر الحرارة وتدفئة الحياء كلها هو الشمس ،حتى أن حرارة النار المتولدة من الخشب أو
ن هذه الشياء ِبحسب الفحم أو الفحم الحجري أو النفط ومشتقاته مصدرها حرارة الشمس .ل ّ
الدراسات العلمية تعود إلى النباتات أو الحيوانات ،وهذه بدورها قد استفادت من نور الشمس
ن حركة المحركات والمكائن أيضًا من بركات وحرارتها ،فخزنت الفائض منها في جسمها ،لهذا فإ ّ
.الشمس
رة ،وبفقدان هذا النور تتبّدل الرض إلى 7 ـ نور الشمس قاتل الميكروبات والمخلوقات المض ّ
ى كبير قد ابتلي سكانها بأنواع المراض ويصارعون الموت بين لحظة وُأخرى !مستشف ً
وكلما دققنا في عالم النور الذي يشكل ظاهرة فريدة ،يّتضح لنا أثرُه البالغ الهمية وبركاته
.العظيمة
ب العالمين )رغم منزلته العظيمة
وبملحظة هاتين المقدمتين إذا أردنا تشبيه الذات المقدسة لر ّ
التي ل نظير لها ول شبيه( فل نجد خيرًا من النور؟! ال الذي خلق كل شيء في عالم الوجود
ونّوره ،فأحيا المخلوقات الحية ببركته ،ورزقها من فضل ،ولو انقطعت رحمته عنها لحظة،
.لصبح الجميع في ظلمات الفناء والعدم
ن كل مخلوق يرتبط بال بمقدار معين يكتسب من النور بنفس ذلك المقدار :ومّما يلفت النظر أ ّ
.القرآن نور لّنه كلم ال
.والدين السلمي نور لّنه دينه
][105
.النبياء أنوار لّنهم رسله
والئّمة المعصومون)عليهم السلم( أنوار إلهية ،لّنهم حفظة دينه بعد الّنبي)صلى ال عليه وآله
).وسلم
.واليمان نور ،لّنه رمز اللتحام به سبحانه وتعالى
.والعلم نور ،لّنه السبيل إلى معرفته ـ عّزوجّل ـ
ل نور السموات والرض .ولهذا :ا ّ
وإذا استعملنا كلمة "النور" بمعناها الواسِع ،أي الظاهر في ذاته والمظهر لغيره في هذه الحالة
يصبح استعمال كلمة النور الذات ال المقدسة حقيقة ول تشبيه فيها ،لّنه ل يوجد أظهر من ال
ت وجوِده .تعالى في العالم ،وكّل الشياء تظهر من بركا ِ
وجاء في كتاب التوحيد ،عن المام علي بن موسى الرضا)عليه السلم( حين سئل عن معنى قوله
".تعالى):ال نور السموات والرض( قال "هاِد لهل السموات ،وهاد لهل الرض
وهذه في الواقع واحدة من خصائص النور اِللهي ،ول يمكن حصره بهذه الخصيصة ،ولهذا يمكن
جمع كّل ما قيل في تفسير هذه الية ،وكّل تفسير هوإشارة إلى أحِد َأبعاِد هذا النور الذي ل مثيل
.له
والجديُر بالذكر ما جاء في الفقرة السابعة والربعين من دعاء الجوشن الكبير الذي يحتوي على
ت ال تعالى" :يا نور النور ،يا منور النور ،يا خالق النور ،يا مدبر النور ،يا مقدر النور ،يا صفا ِ
نور كّل نور ،يا نورًا قبل كّل نور ،يا نورًا بعد كّل نور ،يا نورًا فوق كّل نور ،يا نورًا ليس كمثله
.نور" وبهذا تأخذ أنوار الوجود نورها من نوره وتنتهي بنوره الطاهر
وقد أوضح القرآن بعد بيانه الحقائق السالفة ذلك ،إْذ ذكر مثال رائعًا دقيقًا لكيفية النور اللهي:
)مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة
سه نار نور على نور يهدي ال مباركة زيتونة ل شرقية ول غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمس ّ
لنوره من يشاء ويضرب ال
][106
).المثال للناس وال بكل شيء عليم
:ولشرح هذا المثال يجب اللمام بعدة ُأمور
وة التي تخصص في الجدار لوضع المصابيح الزيتية فيها لحفظها" المشكاة" في الصل تعني الُك ّ
من الرياح ،وأحيانًا تبنى في الجدار فتحة صغيرة ،يغطى جانبها المشرف على ساحة الدار
بالزجاج ،لضاءة داخل وخارج الغرفة كما تحفظ المصباح من الرياح .كما تطلق هذه الكلمة على
وعاء )الفانوس القديم( يصنع من زجاج على شكل متوازي المستطيلت له باب وفتحة في أعله
.لخروج الهواء الساخن .وكانوا يضعون المصباح فيه
ن المشكاة محفظة للمصباح من الرياح الشديدة ،وغالبًا ما يثبت في الجدار وباختصار نقول :إ ّ
سه
.لتركيِز الضوء وسهولة انعكا ِ
سّميت الصفائح الشفافة بالزجاج لّنها" الزجاجة" تطلق في الساس على الحجار الشّفافة ،و َ
تصنع من مواد معدنية ،والزجاجة هنا تعني الزجاجة التي توضع فوق المصباح لتحفظ شعلته،
ن الهواء ،لتزيد من نور الشعلة ظم جريا َ .وتن ّ
.المصباح" يتألف من وعاء للزيت وفتيل"
جّهز هذاعبارة )يوقد من شجرة مباركة زيتونة ل شرقية ول غربية( تشير إلى الطاقة التي ُت َ
ح بوقود ل ينضب معينه .وزيت الزيتون من أجود الوقود المستعمل للمصابيح ،ثّم أن هذا المصبا َ
س من جميِع جوانبه بشكل متساو ،ل أن تكون صُل عليه من زيتون شجر يتعّرض للشم ِ ح َ
الزيت ُي ْ
ن البستان وبجانب حائط يمنع وصول أشعة الشمس إليها ،كما ل الشجره في الجانب الشرقي ِم َ
تكون في جهة الغرب ليتعرض جانب واحد منها على أشعة الشمس ،فل تنضج ثمرتها بصورة
.جيدة ول يكون زيتها نقيًا وصافيًا
ي نحتاج إلى توفر أربعة لستفادة من نور المصباح بإشعاع قو ّ وبعد هذا اليضاح يتبّين أّننا ل ِ
.أشياء
][107
محفظة للمصباح" ل تقلل من نوره ،بل تركز هذا النور وتعكسه و "زجاجة" تنظم جريان الهواء"
حول الشعلة ،ويجب أن تكون شّفافة بدرجة ل تمنع تشعشع النور ،و"مصباح" هو مصدر النور،
.وهو عبارة عن إناء فيه زيت وفي أعله الفتيل
لشتعال بدرجة يتصّور فيها اِلنسان إّنها وأخيرًا "مادة الحتراق" صافية خالصة شّفافة مستعدة ل ِ
سها قبس من النار.سوف تشعل لوحدها دون أن يم ّ
.كلّ هذه العبارات تكشف في الحقيقة عن ظاهر القضية
سرين تفاسير عديدة بشأن هذا التشبيه وأّنه ما هو "المشّبه" ومن جهُة ُأخرى أورد كبار المف ّ
ي نور إلهي يكون :ومن أ ّ
قال البعض :المقصود هنا نور الهداية التي يجعله ال في قلوب المؤمنين ،وبعبارة ُأخرى:
.المقصود اِليمان الذي استقّر في قلوب المؤمنين
ن المشّبه يعني هنا القرآن الذي ينير قلوب الناس .وقال آخرون :إ ّ
).وآخرون :إّنه اشارة إلى شخص الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم
.وآخرون :إّنه إشارة إلى أدلة التوحيد والعدل اِللهي
س كّل خير وسعادة .وآخرون :إّنه روح الطاعِة والتقوى التي هي أسا ُ
ن هذِه التفاسير قد أوردت كّل ما جاء في القرآن والحاديث السلمية بعنوان وفي الحقيقة فإ ّ
مصاديق للنور ،وجوهرها واحد ،وهو نور الهداية بذاته ،ومصدره القرآن والوحي ووجود
.النبياء ،وينهل من أدلة التوحيد ،ونتيجته التسليم بحكم ال والتمسك بالتقوى
ن نور اليمان الموجود في قلوب المؤمنين يحتوي على العناصر الربعة المتوفرة وتوضيح ذلك :إ ّ
:في المصباح المضيء ،هي
.المصباح" وهو شعلة اليمان في قلب المؤمن يضيء طريق الهداية"
.و"الزجاجة" هي قلب المؤمن ينظم اليمان في ذاته ويحفظه من كل سوء
و"المشكاة" صدر المؤمن ،أو بعبارة ُأخرى :شخصيته بما فيها وعيه وعلمه
][108
.وفكرُه الذي يصون إيمانه من العاصير والخطار
للهي الذي يكون بمنتهى الصفاء والطهارة وتوقد شعلة"
شجرة مباركة زيتونة" هي الوحي ا ِ
إيمان المؤمنين ـ في الحقيقة ـ من نوُر ال الذي ينير السموات والرض وقد أشرق من قلوب
.المؤمنين ،فأضاَء ُوجوَدهم ونور وجوههم
".فتراهم يمزجون الدّلة العقلئية بنور الوحي ،فيكون مصداق "نور على نور
ولهذا ترى القلوب المستعدة لستقباِل النوِر اِللهي تهتدي ،وهي المقصودة بعبارة)يهدي ال
ن المحافظة على النور اِللهي )نور الهداية واِليمان( يستوجب لنوره من يشاء( وعلى هذا فإ ّ
توفر مجموعة من المعارف والعلوم والوعي والخلق وبناء الذات ،من أجل أن تكون كالمشكاة
.تحفظ هذا المصباح
ظُم هذا النور اِللهي كما تنظم الزجاجة شعلة المصباح
.كما تحتاج إلى قلب مستعد لين ّ
وتحتاج إلى مدد من الوحي ،ليمنحها طاقة مثلما تمنحها الشجرة التي سّماها القرآن بعبارة
)).شجرة مباركة زيتونة
وتجب المحافظة على نوِر الوحي من التلوث والميول المادية والنحراف إلى الشرق أو الغرب
.الذي يؤّدي إلى التفسخ والندثار
ولتعبيء قوى النسان بشكل سليم بعيدًا عن كّل فكر مستورد وانحراف ،لتكون مصداقًا لـ )يكاد
).زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار
صة به ،أو رغبًة يساريًة أو سر وعقيدته الخا ّ
وكّل تفسير يتضّمن حكمًا مسبقًا ويتضّمن ذوق المف ّ
يمنيًة ،أو خرافة يؤدي إلى تلويث سمعة هذه الشجرة المباركة ،وُيقلل من تشعشع مصباحها.
.وأحيانًا ُيطفئه
ل لنوِرِه في هذه الية ،وهو الذي أحاط بكّل شيء هذا هو المثال الذي ذكره ا ُ
][109
.علمًا
ومّما سلف يّتضح لنا أن ما ذكرته الّروايات عن الئّمة المعصومين)عليهم السلم(بخصوص
ي السلم)صلى ال عليه وآله وسلم( والمصباح نور ن المشكاة هي قلب نب ّ تفسير هذه الية أ ّ
العلم ،والزجاجة وصية علي)عليه السلم( ،والشجرة المباركة إبراهيم الخليل)عليه السلم( الذي
ي ميل إلى اليهوديةيرجع نسب بيت النبّوة إليه ،وعبارة )ل شرقية ول غربية( تعني نفي أ ّ
ن هذه اليةوالنصرانية فهو وجه آخر لنور الهداية واليمان ،ومصداق واضح لها ،ول يعني أ ّ
.مختصة بهذا المصداق
ن النور اِللهي هو القرآن ،أو الدلة العقلئية ،أو سرين من أ ّ ن ما ذهب إليه بعض المف ّ كما أ ّ
.الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( بذاته ،له جذور مشتركة بالّتفسير أعله
وقد شاهدنا حتى الن خصائص هذا النور اِللهي ،نور الهداية واِليمان من خلل تشبيهه بمصباح
ي الضاءة .قو ّ
ويجب أن نعرف الن أين موضع هذا المصباح ،وشكل موضعه؟ ليّتضح لنا ما كان ضروريًا
ن هذه المشكاة تقع )في بيوت أذن ال أن ترفع( إيضاحه في هذا المجال .لهذا تقول الية التالية :إ ّ
لكي تكون في مأمن من الشياطين والعداء والنتهازيين )ويذكر فيها اسمه( ويتلى فيها القرآن
.والحقائق اللهية
سرين هذه الية مرتبطًة كما قلنا بالية التي سبقتها) .(1غير أن البعض وقد اعتبر العديد من المف ّ
ن ذلك بعيد عن الصواب ن هذه الجملة ترتبط بالجملة التي تليها ،إّل أ ّ سرين يرى أ ّ .من المف ّ
أّما ما أورده البعض وتساءل عن مدى تأثير هذا النور الباهر في البيوت
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ هكذا يكون تقدير الية "هذه المشكاة في بيوت ...أو هذا المصباح في بيوت ...هذه الشجرة 1
ن عبارة "في في بيوت ...نورال في بيوت" في الوقت الذي يرى أصحاب الّتفسير الّثاني أ ّ
بيوت" تعود إلى كلمة "يسّبح" ليكون معنى الية )في بيوت أذن ال أن ترفع ويذكر فيها اسمه
يسبح له فيها بالغدو والصال( أي في الصباح والمساء .إّل أن هذا الّتفسير ل ينسجم مع وجود
كلمة "فيها" لّنه يعد تكرارًا ل داعي له ،إضافة إلى عدم انسجامها مع الحاديث الواردة بهذا
).الصدد )فتأملوا جيدًا
][110
ن البيوت التي ورد ذكرها في هذه الية والتي المذكورة بتلك الخصوصيات ،فجوابه واضح ،ل ّ
يحرسها رجال أشداء يقظون ،هم الذين يحفظون هذه المصابيح المنيرة ،إضافة إلى أن هؤلء
.الرجال يبحثون عن مصدِر نور ،فيهرعون إليه بعد أن يتعّرفون على موضع هذا النور
ولكن ماالمقصود من هذه البيوت؟
الجواب يّتضح بما ذكرته آخر الية من خصائص حيث تقول :أّنه في هذه البيوت يسّبح أهلها
).صباحًا ومساءًا) :يسبح له فيها بالغدو والصال()1
رجال ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر ال وإقام الصلة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه(
ت بأمر صَن ْ
ح ّن هذه البيوت هي المراكز التي ُ ن هذه الخصائص تكشف عن أ ّ القلوب والبصار( إ ّ
من ال ،وأّنها مركز لذكر ال ولبيان حقيقة السلم وتعاليم ال ،ويضم هذا المعنى الواسع
ي)عليه صة بيت الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وبيت عل ّ المساجد وبيوت النبياء والولياء خا ّ
سرين ـ بالمساجد أو بيوت النبياء وأمثالها .السلم( .ول دليل يؤّيُد حصرها من قبل بعض المف ّ
ي منها")2 ).وفي الحديث المروي عن المام الباقر)عليه السلم( "هي بيوت النبياء وبيت عل ّ
وفي حديث آخر حيث سئل الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( لّما قرأ الية ،أي بيوت هذه؟ فقال:
ي وفاطمة .قال: "بيوت النبياء" فقام أبو بكر فقال :يا رسول ال ،هذا البيت منها ،يعني بيت عل ّ
").نعم ،من أفاضلها")3
ــــــــــــــــــــــــــــ
ول 1ـ "الغدو" على وزن "علو" بمعنى الصبح ،ويقول الراغب الصفهاني :الغدوة والغداة من أ ّ
.النهار ،وقوبل في القرآن بالصال ،نحو قوله )بالغدو والصال( وقوبل الغداة بالعش ّ
ي
سْل" وهو بدوره جمع للصيل بمعنى العصر ،والسبب و"الصال" جمع "الصل" على وزن "ُر ُ
ن الغدو ذات بعد مصدري ول يجمع في ذكر الغدو مفردة والصال جمعًا؟ يقول فخر الرازي ،ل ّ
.المصدر
.ـ تفسير نورالثقلين ،المجلد الثالث ،ص 2 607
.ـ تفسير مجمع البيان للية موضع البحث 3
][111
.وكل ذلك إشارة إلى مصاديق واضحة تذكرها الحاديث كعادتها حين تفسير القرآن
ن ُكّل مركز يقاُم بأمر من ال ،ويذكر فيه اسمه ويسبح له فيها بالغدو والصال ،وفيه رجال أجل ،إ ّ
.ل تلهيهم تجارة عن ذكر ال ،فهي مواضع لمشكاة النوار اللهية واِليمان والهداية
:ولهذه البيوت عّدة خصائص
ت بأمر من ال .أّولها :أّنها شّيد ْ
.واُلخرى :إن جدرانها ُرفعت وُأحكم بناؤها لتمنع تسلل الشياطين
.وثالثها :أنها مركز لذكر ال
سوُنها ليل نهار ،وهم يسبحون ال ،ول تلهيهم الجواذب الدنيوية عن حر ُ ن فيها رجال َي ْ
وأخيرًا :فإ ّ
.ذكر ال
.هذه البيوت بهذه الخصائص ،مصادر للهداية واِليمان
ولبّد من التنبيه إلى ورود كلمتين في هذه الية هما "التجارة" و"البيع" وهما كلمتان تبدوان
ن التجارة عمل مستمر ،والبيع ُينجز مرة واحدة، ن الفرق بينهما هو أ ّ
ى واحدًا ،إّل أ ّ
ن لهما معن ً وكأ ّ
.وقد تكون عابرة
ن هؤلء ل يمارسون أبدًا التجارة والبيع بل قالت :إّنهم لن الية لم تقل :أ ّ
ت إلى أ ّ
ويجب اللتفا ُ
.تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر ال
إّنهم يخافون يوم القيامة والعدل اِللهي الذي تتقّلب ِفْيه القلوبُ والبصار من الخوف والوحشة
ن الفعل المضارع" ،يخافون" يدّل على الستمرار في الخوف ،وهذا الخوف )ويجب النتباه إلى أ ّ
).هو الذي دفعهم إلى تحمل مسؤولياتهم ،ولبلوغ رسالتهم في الحياة
ق والحقيقة ،فقالت:
شاق الح ّوأشارت آخر هذه اليات إلى الجزاء الوافي لحراس نور الهداية وع ّ
))،ليجزيهم ال أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله
][112
ن الفضل اللهي لمن كان جديرًا به غير محدود) :وال يرزق من يشاء بغير ول عجب في ذلك ،ل ّ
).حساب
سرين عما تعنيه عبارة )أحسن ما عملوا( في هذه الية ،أّنها إشارة إلى جميع وقال بعض المف ّ
.العمال الطيبة ،سواء كانت واجبة أم مستحبة ،صغيرة أم كبيرة
ن ال يكافيء الحسنة بعشر أمثالها ،وأحيانًا بسبعمائة مثلها ،حيث ويرى آخرون أّنها إشارة إلى أ ّ
نقرأ في الية ) (160من سورة النعام) :من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها( .كما جاء في الية
) (261من سورة البقرة حول جزاء المنفقين في سبيل ال أنّ المكافأة تعادل سبعمائة مرة أو
.ضعفها
ن ال يكافيء جميع أعمالهم بموجب ن المقصود هو أ ّ
سر العبارة السابقة بأ ّ
كما يمكن أن تف ّ
أفضلها ،ويشمل ذلك أبسط أعمالهم وأوسطها ،حيث يجعلها ال بمستوى أفضل العمال حين
.منحه المكافأة
وليس هذا بعيدًا عن رحمة ال وفضله ،والعدالة تقضي بمساواة المكافأة مع العمل في سبيل ال،
ت كّل شيء ،فهو يهب دون حساب ول حدود ،فذاته المقدسة غير محدودة، ن رحمة ال وسع ْ إّل أ ّ
.وأنعمه ل تنتهي ،وكرمه عظيم ل حدود له
***
ملحظات
بّينا كثيرًا من مسائل هذه اليات خلل تفسيرنا لها ،وبقيت عّدة أحاديث يقتضي المر ذكرها ُبغية
.إتمام هذا البحث
ـ نقرأ في كتاب روضة الكافي حديثًا عن المام الصادق)عليه السلم( في تفسير آية النور" :إن 1
،المشكاة قلب محمد)صلى ال عليه وآله وسلم( والمصباح النور الذي فيه العلم
][113
).والزجاجة قلب علي)عليه السلم( أو نفسه")1
ـ وجاء حديث آخر عن المام الباقر)عليه السلم( في توحيد الصدوق "إن المشكاة نور العلم في 2
صدر الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( والزجاجة صدر علي ...ونور علي نور إمام مؤيد بنور
العلم والحكمة في أثر المام من آل محمد)صلى ال عليه وآله وسلم( ،وذلك من لدن آدم إلى أن
تقوم الساعة ،فهؤلء الوصياء الذين جعلهم ال عّزوجّل ـ خلفاء في أرضه وحجج على خلقه ،ل
).تخلو الرض في كّل عصر من واحد منهم")2
سر حديث آخر عن المام الصادق)عليه السلم( المشكاة بفاطمة)عليها السلم(والمصباح 3 ـ وف ّ
)بالحسن)عليه السلم( والزجاجة بالحسين)عليه السلم(3).
ن لليات مفهومًا واسعًا ،وكّل حديث من هذه الحاديث بيان لمصداق بارز من
وكما أشرنا سابقًا فإ ّ
.مصاديقها دون الخلل بعموميتها
.وبهذا ل نجد تناقضًا في الحاديث السابقة
ـ نقرأ في حديث عن أبي جعفر الثمالي قال :قال أبو جعفر)عليه السلم( الباقر لقتادة :من أنت؟ 4
قال :أنا قتادة ابن دعاّمة البصري فقال له أبو جعفر)عليه السلم( :أنت فقيه أهل البصرة؟ قال:
نعم ،فقال له المام الباقر)عليه السلم( :ويحك باقتادة إن ال خلق خلقًا من خلقه فجعلهم حججًا
على خلقه ،فهم أوتاد في أرضه قّوام بأمره نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه ،أظلة عن يمين
عرشه قال :فسكت قتادة طويل ثّم قال :أصلحك ال وال لقد جلست بين يدي الفقهاء وقّدامهم ،فما
.اضطرب قلبي قّدام واحد منهم ما اضطرب قّدامك
فقال له المام الباقر)عليه السلم( :أتدري أين أنت؟ بين يدى) :بيوت اذن ال أن ترفع و يذكر
فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والصال رجال ل تلهيهم تجارة ول بيع عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ نور الثقلين في تفسير اليات موضع البحث )مع بعض التلخيص المجلد الثالث ،صفحة 1 602
).و 603
.ـ المصدر السابق 2
.ـ المصدر السابق 3
][114
.ذكر ال وأقام الصلة وإيتاء الزكاة( فأنت ثّم ونحن ُأولئك
)فقال له قتادة" :صدقت وال جعلني ال فداك وال ما هي بيوت حجارة ول طين1)"...
ـ وذكر حديث آخر حول رجال ال حماة الوحي والهداية" :هم التجار الذين ل تلهيهم تجارة ول 5
)بيع عن ذكر ال ،إذا دخل مواقيت الصلة أدوا إلى ال حّقه فيها")2
ن هؤلء الرجال هّمهم ذكر ال ول يقدمون عليه شيئًا ،رغم أّنهم يمارسون نشاطًا إشارة إلى أ ّ
.إقتصاديًا في الحياة
.ـ وصفت شجرة الزيتون في اليات السابقة بأّنها شجرة مباركة 6
ن كبار العلماِء أخبروناوكان لهذه الشجرة أهمية بالغة حين نزول القرآن ،وقد اّتضح ذلك اليوم ،ل ّ
ع النباتات ،وحول شجرة الزيتون يقولون :إّنها ص أنوا ِ
بخلصة تجاربهم ودراساتهم عن خوا ّ
.مباركة حّقا ،وثمرها مفيد جّدا ،ويمنحنا أجود الزيوت ،ولها دور حيوي في سلمة الجسم
ن أجزاء هذه الشجرة مفيدة ومريحة ،وحتى رماد خشبها فيه منفعة ،وهي أوُل يقول ابن عباس :إ ّ
.شجرة نبتت بعد طوفان نوح)عليه السلم( ،وقد دعا لها النبياء وباركوها
سرون الكبار عّدة تفاسير لعبارة "نور على نور" فقال المرحوم الطبرسي في مجمع 7 ـ ذكر المف ّ
ن طريق الهداية
صُلو َ
.البيان :إّنها إشارة إلى أنبياء من نسل واحد يتعاقبون على النبوة وُيوا ِ
ويقول الفخر الرازي في َتفسيرِه :إّنها إشارة إلى تجمع شعاع النور وتراكمه ،حيث ذكر حول
،المؤمن" :يقف المؤمن بين أربعة مواقف ،فإذا وهبُه ال شكره
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ المصدر السابق1 609 ،
.ـ المصدر السابق 2
][115
وإذا أصابته مصيبة صبر وصمد ،وإذا تكلم صدق ،وإذا حّكم بين اثنين عدل ،وهو إنسان واع بين
ي بين أموات .إّنه يسير بين خمسة أنوار :كلمه نور ،عمله نور ،إقامته نور،
جهلة ومثله كح ّ
".رحله نور ،هدفه نور ال يوم القيامة
ويمكن أن يكون النور الّول الذي ذكرته الية إشارة إلى نور الهداية اِللهية عن طريق الوحي،
.والنور الّثاني نور الهداية عن طريق العقل
ن النور الّول هو نور الهداية التشريعة ،والنور الّثاني نور الهداية التكوينية فهو نور علىأو أ ّ
.نور
ع النور ،ومرةسرت بالنبياء وُأخرى بأنوا ِ
سرت هذه العبارة بمختلف مصادر النور ،مّرة ُف ّ وبهذا ف ّ
ن مفهوم الية واسع جداً ثالثة بمراحل النور المختلفة ،وهي ممكنة جميعًا في آن واحد ،ل ّ
)).فتأملوا جيدًا
***
][116
اليتان
الّتفسير
أعمال سرابية
تحدثت اليات السابقة عن نور ال ،نور اليمان والهداية .ولتمام هذا البحث ولتوضيح المقارنة
ت هذه اليات عاَلم الكفر والجهل واللحاد المظلم،
بين الذين نّور ال قلوبهم وبين الخرين تناَوَل ْ
وتحدثت عن الكفار والمنافقين الذين وجودهم )ظلمات بعضها فوق بعض( خلفًا للمؤمنين الذين
).أصبحت حياتهم وأفكارهم )نور على نور
][117
الكلم في الية اُلولى عن الذين يبحثون عن الماء في صحراَء جاّقة حارقة ،ول يجدون غير
السراب فيموتون عطشًا ،في الوقت الذي عثر فيه المؤمنون على نور اِليمان ،ومنبع الهداية
الرائعة ،فاستراحوا بجنبها ،فتقول أّول) :والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماًء
حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا( ولكن يجد ال عند أعماله )ووجد ال عنده فوّفاه حسابه وال سريع
).الحساب
ب" بمعنى الطريق المنحدر ،وتطلق كلمة السراب" حْر ْ
السراب" مشتق من السرب على وزن " َ
س لشعة على لمعان يشاهد في الصحارى والمنحدرات من بعيد وكأّنه ماء ،وما هو إّل إنعكا ٌ
).الشمس)1
ن "القيعة" جمع "قاعة" ،بمعنى الرض الواسعة التي لماء ول نبات فيها، ويرى البعض أ ّ
سرين ض المف ّ
ن َبْع َ
ويطلق ذلك على الصحاري التي يظهر فيها السراب في معظم الحيان ،إّل أ ّ
ن هذه الكلمة مفردة ،وجمعها "قيعان" أو "قيعات")2 ).واللغويين يرون أ ّ
ب َأن تكون هذه الكلمة مفردةَ ،لّنها ج ُ
ن الَيُة ُتو ِ
ث المعنى ،فإ ّ
ن حي ُ
ورغم عدم وجود الفرق ِم ْ
.ذكرت السراب مفردًا والسراب الواحد يكون في أرض واحدة طبعًا
ي يغشاه موج من ثّم تناولت الية الّثانية مثال آخر لعمال الكفار وقالت) :أو كظلمات في بحر ّلج ّ
فوقه من فوقه سحاب( وبهذا المنوال تكون )ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد
).يراها
ن النور الحقيقي في حياة البشر هو نور اِليمان فقط ،ومن دونه َتسوُد أجل ،إ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ يقول علماء الفيزياء المعاصرون :عند إرتفاع درجات الحرارة فالهواء المجاور للرض يتمدد 1
.ويزداد تخلخله فيختلف مع الطبقة المجاورة له ،وبذلك تنعكس موجة الضوء ويحدث السراب
ـ تراجع التفاسير التالية :مجمع البيان ،روح المعاني ،تفسير القرطبي ،تفسير الفخر الرازي2 ،
.ومفردات الراغب
][118
ف من عنِد ال )ومن لم يجعل ال له نورًا فما له من الحياُة الظلمات ،ونور اِليمان هذا إّنما هو لط ٌ
).نور
ي" وهو البحر الواسع والعميق.جّ ولفهم عمق هذا المثال لبّد من الهتمام بمعنى كلمة "الل ّ
وبالصل مشتّقة من "اللجاج" بمعنى متابعة عمل ما )التي تطلق عادة على العمال غير
الصحيحة( ثّم ُأطلقت على تتابع أمواج البحر واستقرارها الواحدة بعد اُلخرى ،ولقد استخدمت
ن البحر كّلما كان عميقًا وواسعًا تزداد أمواجه
.هذه الكلمة بهذا المعنى ل ّ
اليتان
سِبيحَُه َوا ُ
ل لَتُه َوَت ْ
صَعِلَم َ
صـّفـت ُكّل َقْد َطْيُر َ
ض َوال ّ
ت َواَْلْر ِ
سَمـو ِح َلُه َمن ِفى ال ّ
سّب ُ
ل ُي َ
نا َ َأَلْم َتَر أ ّ
صيُر)42 ل اْلَم ِ
ض َوِإَلى ا ِ
ت َواَْلْر ِ
سَمـو ِ
ك ال ّ
ل ُمْل ُ
ن)َ (41و ِ )عَِليٌم ِبَما َيْفَعُلو َ
الّتفسير
:الجميع يسّبح ل
تحدثت اليات السابقة عن نور ال ،نور الهداية واليمان ،وعن الظلمات المضاعفة للكفر
.والضلل
ت موضُع البحث ،فإّنها تتحّدث عن دلئل النوار اللهية وأسباب الهداية ،وتخاطب الية أّما اليا ُ
الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( فتقول) :ألم تر أن ال يسبح له من في السموات والرض(
وكذلك الطير يسّبحن ل في حال أنها باسطات اجنحتهن في السماء )والطير صاّفات كل قد علم
).صلته وتسبيحه() .وال عليم بما يفعلون
ن هذا التسبيح العام دليل على خلِقِه تعالى لجميع المخلوقات ،وخالقيته دليل على مالكيته
وبما أ ّ
ن ُكل ما في الوجود يرجع إليه سبحانه ،فتضيف الية )ول ملك للوجود كله ،وكذلك دليل على أ ّ
).السموات والرض وإلى ال المصير
][122
كما يحتمل وجود رابطة بين هذه الية وسابقتها ،حيث تحّدثت الية اُلولى في آخر جملة لها ،عن
.علم ال بأعمال البشر جميعًا وعلمه بالمسبحين له
ن ل ما في السموات والرض،
أّما هذه الية فقد أشارت إلى محكمة العدل اِللهي في الخرة ،وأ ّ
.وهو الحاِكُم والقديُر العاِدل في مصيِر الناس وما في الوجود
***
:مسائل مهمة
)ـ ماذا تعني عبارة )ألم تر 1
سرينَ ،تعني :ألم تعلم ،حيث التسبيح العام من قبل جميع المخلوقات حسبما يراها الكثير من المف ّ
.في العالم ل يمكن ادراكه بالعين ،بل بالقلب والعقل
جدًا وكأّنها ترى بالعين المجّردة ،استخدمت اليُة عبارة )ألم تر ن هذِه القضية واضحًة ِ ).ولكو ِ
طب في هذه الية الّنبي)صلى ال عليه وآله ن المخا َ
كما يجب اِلنتباه إلى أّنه على الرغم من كو ِ
ن ذلك من أساليب القرآن سرين يرى أّنها تشمل الناس جميعًا ،ل ّ ن عددًا من المف ّ وسلم( بالذات ،فإ ّ
.المجيد اتبعها في كثير من آياته
ص بالّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( في مرحلة الرؤيا ن هذا الخطاب خا ّ وقال البعض :إ ّ
ل القدرة على مشاهدة تسبيح جميع المخلوقات ،وكذلك منح سبحانه والمشاهدة ،حيث منحه ا ُ
سكين ِبُهداه
ن له المتم ّ.وتعالى هذه القدرة لجميع عباده المخلصي َ
ت عن طريق العقل ،وليس ص إدراَكُهم لتسبيح الموجودا ِ أّما بالنسبة لعاّمة الناس ،فالمسألة تخ ّ
).بالمشاهدِة البصرّيِة)1
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير الصافي للية موضع البحث 1
][123
ـ التسبيح العاّم لجميع المخلوقات 2
تحّدثت اليات المختلفة في القرآن المجيد عن أربع عبادات تمارسها مخلوقات هذا الكون العظيم،
هي :التسبيح ،والحمد ،والسجود ،والصلة ،أّما الية موضع البحث ،فقد تناولت الصلة
.والتبسيح
وتحدثت الية الخامسة عشرة من سورة الرعد عن السجود العام) :ول يسجد من في السموات
).والرض
أّما الية الّرابعة والربعون من سورة اِلسراء ،فقد تحدثت عن التسبيح والحمد من قبل جميع
المخلوقات في الوجود كله )وإن من شيء إّل يسبح بحمده( وقدتناولنا حقيقة الحمد والتسبيح
العاّمين من قبل المخلوقات والتفاسير المختلفة الواردة بهذا الصدد ،في تفسيرنا الية الّرابعة
:والربعين من سورة السراء ،ونذكر هنا ملخصه
هناك تفسيران جديران بالهتمام ،وهما :ـ
ـ إنّ ذرات هذا العالم كلها ـ عاقلة أو غير عاقلة ـ لها نوع من الدراك والشعور ،وهي تسبح في 1
.عاَلِمها ل وتحمده على الرغم ِمن عدم إدراكنا لها .ولهذا الّتفسير أِدّلة قرآنية
ـ إن القصد من التسبيح والحمد هما ما نعبر عنه بعبارة "لسان حاله" أي نظام الوجود 2
وأسراره المدهشة الكامنة في كّل مخلوق تتحّدث بصراحة عن عظمة الخالق وعلمه وحكمته التي
ن لوحة فنية ي بديع يثير الدهشة والعجاب ،حّتى أ ّ ل حدود لها ،إْذ ُكّل مخلوق جميل ،وكّل أثر فن ّ
وقطعة شعرية جميلة ،تحمد وتسّبح ِلمبدعها .فمن جهة تكشف عن صفاته )بحمدها له( ومن جهة
ُأخرى تنفي عنه أي عيب أو نقص )فتسبحه( .فكيف وهذا الكون العظيم بما فيه من عجائب
وغرائب ل تنتهي! )للطلع أكثر على ذلك ُيراجع تفسير الية 44من سورة السراء في تفسيرنا
).هذا
][124
ن عبارة )يسّبح له من في السموات والرض( تعني تسبيح كّل من في السماوات وإذا قُلنا :إ ّ
ص هنا المعنى الّول ،فهو تسبيح
ن التسبيح يخ ّ
والرض ،ونحدد كلمة "من" بذوي العقول ،فإ ّ
بوعي وإرادة ولزم هذا القول أن الطيور أيضًا لها شعور ،لنّ كلمة الطيور جاءت بعد حرف
ن آيات قرآنية ُأخرى قالت بوجود مثل هذا الشعور لدى بعض الطيور"من" .ول عجب في ذلك ،ل ّ
)).يراجع تفسير الية 38من سورة النعام
ص بالطيور 3
:ـ التسبيح الخا ّ
صة في حالة بسط جناحيها في ح الطيور من بين جميع المخلوقات ،وخا ّ ما السبب في ذكر تسبي ِ
السماء؟
صة تجلب نظر كل عاقل ن الطيور إضافة إلى تنّوعها الكبير ،تمتاز بصفات خا ّ
المسألة تكمن في أ ّ
إليها ،حيث تحّلق هذه الجسام ـ وبعضها ثقيل ـ في السماء خلفًا لقانون الجاذبية ،وتطير بسرعة
من نقطة إلى ُأخرى في الجو ،وتركب أمواج الرياح وهي باسطة جناحيها دون أي تعب أو جهد.
.بشكل يثير العجاب
والمثير فيها هو إدراكها لقضايا النواء الجوية ،ومعلوماتها الدقيقة ِلَوضع الرض الجغرافي ـ
ن بعضها ُيهاجر من القطب الشمالي إلى القطب خلَل سفِرها وهجرتها من قارة إلى ُأخرى ،حتى أ ّ
.الجنوبي
شدها إلى الهدف إّيان سفرها الطويل ،حتى لو تلّبدت
فهي تمتلك جهاز توجيه خفي عجيب ير ُ
.السماُء بالغيوم .وهذه من أكثر اُلمور إثارة للدهشة والعجب ،ومن أوضح أدلة التوحيد
طيور الليل بدورها تملك رادارًا مدهشًا يخبرها حين الطيران في ظلمة الليل عن كّل حاجز أمامها،
حتى أن بعضها يرى سمّكة تحت الماء ،فيخطفها بسرعة البرق ،وهذه ميزة مدهشة في هذه
!!الطيور
][125
صها بالذكر
ن هناك ُأمورًا عجيبة في الطيور جعلت القرآن المجيد يخ ّ
.وعلى كل حال فإ ّ
***
][127
اليات
الّتفسير
:جانب آخر من الخلق العجيب
نواجه ثانية ـ في هذه اليات ـ جانبًا آخر من مسألة الخلق المدهشة ،وما احتوته من آيات العلم
ل الطاهرة
تا ِ.والحكمه والعظمة ،وكّل ذلك من أدّلة توحيد ذا ِ
ي)صلى ال عليه وآله وسلم( ثانية ويقول)ألم تر أن ال يزجي سحابًا ن المجيد النب ّ
ب القرآ ُ
ط ُ
يخا ِ
][128
ثّم يؤلف بينه ثّم يجعله ركامًا( وبعد أن تتراكم السحب ترى قطرات المطر تخرج من بين السحاب
).وتهبط على الجبال والسهول والصحاري )فترى الودق يخرج من خلله
وكلمة "يزجي" مشتّقة من "الزجاء" ،أي سوقه بُأسلوب لين لترتيب المخلوقات المتبعثرة هنا
.وهناك بقصد جمعها
وهذا التعبير يصدق بالنسبة للسحب ،حيث ترتفع كّل قطعة منه من جانب من البحر .ثّم تسوقها يد
.القدرة اللهية .وتجمعها ،فتراكم بعضها على بعض
.وكلمة "ركام" على وزن "غلم" ،بمعنى الشياء المتراكمة بعضها فوق بعض
وأّما "الودق" على وزن "شرق" ،فيرى الكثيرون أّنها حّبات المطر ،إّل ّأن الراغب الصفهاني
يرى في مفرداته أّنها ذرات دقيقة من الماء ،أي :الرذاذ الذي يتناثر في الفضاء حين هطول
.المطر
والمعنى الّول أكثر ملءمة هنا ،فما يدّل بشكل أكبر على عظمة ال هو ذرات المطر نفسها وليس
ن القرآن ُكّلما ذكر السحاب ونزول بركات ال من السماء ،أشار فيها إلى
ُرذاذه ،إضافة إلى أ ّ
المطر .فهو الذي يحيي الرض بعد موتها ويبعث الحياة في الشجار والنباتات ،ويروي عطش
.البشر والحيوان
وأشار القرآن إلى ظاهرة ُأخرى من ظواهر السماء المدهشة ،وهي السحاب ،حيث قال) :وينزل
من السماء من جبال فيها من برد( أي من جبال السحب في السماء تنزل قطرات المطر على شكل
ثلج َوَبَرد ،فتكون بلء لمن يريد ال عذابه فتصيب هذه الثلوج المزارع والثمار وتتلفها وقد
تصيب الناس والحيوانات فتؤذيهم )فيصيب به من يشاء( ومن لم يرد تعذيبه دفع عنه هذا البلء
)).ويصرفه عمن يشاء
أجل ،إّنه هو الذي ينّزل الغيث المخصب من سحابة تارة ...وهو الذي ُيصّيره بَردًا بأدنى تغيير
.بأمره فيصيب به )بالذى( من يشاء ،وربما يكون ُمهلكًا أحيانًا
][129
جَعَل نفع اِلنسان وضرره وموته وحياته متقارنة ،بلوهذا يدّل على منتهى ُقدرته وعظمته ـ إذ َ
!مزج بعضها ببعض
وفي نهاية الية يشير إلى ظاهرة أخرى من الظواهر السماوية اّلتي هي من آيات التوحيد فيقول
).سبحانه )يكاد سنا برقه يذهب بالبصار
ب المؤلفة في الحقيقة من ذرات الماء تحمل في طّياتها الشحنات "الكهربائية" ،وُتومض سح ُ
فال ُ
ك رعدها السمع من صوته ،ورّبما اهتزت له جميع صّ
إيماضًا ُيذهل برقها )العيون( والبصار َوَي ُ
.الجواء
!...إن هذه الطاقة الهائلة يبن هذا البخار اللطيف لمثيرٌة للدهشة حّقا
بحوث
ـ ماذا يعني الماء هنا؟ 1
وإلى أي نوع من الماء أشارت الية موضع البحث؟
سرين بهذا الصدد ثلثُة آراء :للمف ّ
سرين هذا المعنى ،وقد 1
ـ يقصد بالماء النطفة ،وقد اختار الكثير من المف ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ بحثنا في هذا المجال في الّتفسير المثل عند تفسير الية ) (6من سورة يونس 1
][133
.أشارت إليه بعض الحاديث
ن الحياء جميعًا لم تخلق من ماء النطفة ،فمنها أحياء وهناك مشكلة تواجه هذا الّتفسير ،إْذ أ ّ
مجهرية ذات خّلية واحدة ،وُأخرى تخلق من انقسام الخليا وليس من النطفة إّل أن يقال بالنسبة
ن المراد هو الجانب النوعي وليس عامًا .للحكم أعله :إ ّ
ول 2
نأّن المقصود هنا ظهور أّول مخلوق ،فقد ذكرت بعض الحاديث أ ّ ـ والّتفسير الّثاني يقول :إ ّ
.ما خلق ال الماء ،ثّم خلق النسان من الماء
ن أّول عنصر حي ظهر في البحار .وهذه ظاهرة وينسجم هذا مع النظريات الجديدة القائلة :إ ّ
ي بجميعن القدرة التي خلقت هذا الموجود الح ّ ق البحار وسواحلها) .وطبيعي فإ ّ سادت أعما َ
).تعقيداته ورعته في المراحل البعدية ،هي قدرة أسمى من الطبيعة ،أي إرادة ال تعالى
س تكوينها ،وأكبر نسبة من 3 ن الماَء يشّكل حاليًا أسا َن الماِء ،هو أ ّق الحياِء ِم َ
ـ آخر تفسير لخل ِ
.بنائها ،ول يمكن للحياء أن تواصل حياتها دون الماء
ن الّتفسيرين الّول والّثاني أقرب إلى الصواب وطبيعي أن ل نجد تناقضًا بين هذه التفاسير ،لك ّ
).على ما يبدو)1
][136
اليات
ن َءاَمّنا ِبالِ سَتِقيم)َ (46وَيُقوُلو َ صرط ّم ْ شآُء ِإَلى ِ ل َيْهِدى َمن َي َ ّلَقْد َأنَزْلَنآ َءاَيـت ّمَبّيَنـت َوا ُ
عوْا إَِلى ا ِ
ل ن)َ (47وإَذا ُد ُ ك َوَمآ ُأوَلِئكَ ِباْلُمْؤِمِني َ
ق ّمْنُهْم ّمن َبْعِد َذِل َطْعَنا ُثّم َيَتَوّلى َفِري ٌ سوِل َوَأ َ َوِبالّر ُ
ن)َ (49أ عِني َ
ق َيْأُتوا ِإَلْيِه ُمْذ ِ
ح ّ ن )َ(48وِإن َيُكن ّلُهُم اْل َ ضو َ ق ّمْنُهْم ّمْعِر ُحُكَم َبْيَنُهْم ِإَذا َفِري ٌسوِلِه ِلَي ْ
َورَ ُ
ن)50ظـِلُمو َ ك ُهُم ال ّ سوُلُه َبْل ُأوَلِئ َ عَلْيِهْم َوَر ُل َ فا ُحي َ ن َأن َي ِ خاُفو َض َأِم اْرَتاُبوا َأْم َي َ
)ِفى ُقُلوِبِهم ّمَر ٌ
سبب الّنزول
سرون سببين لنزول بعض هذه اليات :ذكر المف ّ
قيل نزلت اليات في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة ،فدعاه اليهودي
إلى رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( ودعاه المنافق إلى كعب بن الشراف )اليهودي( )حّتى
ن المنافق قال صراحة :يحتمل أن ل يعدل محمدًا فينا
ن بعض الّروايات ذكرت أ ّ ):أ ّ
][137
وحكي أّنه كان بين علي)عليه السلم( وعثمان )وحسب رواية بين علي)عليه السلم( والمغيرة
بن وائل( منازعة في أرض اشتراها من علي)عليه السلم( فخرجت فيها أحجار ،وأراد رّدها
بالعيب ،فلم يأخذها فقال :بيني وبينك رسوُل ال)صلى ال عليه وآله وسلم( .فقال الحكم بن أبي
العاص )وهو من المنافقين( :إن حاكمته إلى ابن عّمه يحكم له ،فل تحاكمه إليه ،فنزلت اليات
).واستنكرت عليه ذلك بشّدة ،وهو المروي عن أبي جعفر الباقر)عليه السلم(أو قريب منه)1
الّتفسير
:اليمان وقبول حكم ال
تحدثت اليات السابقة عن اليمان بال وعن دلئل توحيده وعلئمه في عالم التكوين ،بينما
تناولت اليات ـ موضع البحث ـ أَثَر اليمان وانعكاس التوحيد في حياة النسان ،وإذعانه للح ّ
ق
.والحقيقة
تقول أّول) :لقد أنزلنا آيات مبينات( آيات تنور القلوب بنور اليمان والتوحيد ،وتزيد في فكر
ن هذه اليات المبينات النسان نورًا وبهجة ،وتبّدل ظلمات حياته إلى نور على نور .وطبيعي أ ّ
ن الهداية اِللهية هي صاحبُة الدور الساسي )وال يهدي من يشاء إلى صراط ليمان ،إّل أ ّ ُتمهد ل ِ
).مستقيم
ن إرادة ال ومشيئته ليست دون حساب ،فهو سبحانه وتعالى يدخل نور الهداية إلى وكما نعلم فإ ّ
القلوب المستعدة لتقبله ،أي التي أبدت المجاهدة في سبيل ال وقطعت خطوات للتقرب إليه،
سْعِيها في الوصول إلى لطفه سبحانه
.فأعانها على َقدِر َ
ثّم استنكرت الية الّثانية وذّمت مجموعة من المنافقين الذين يّدعون
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "مجمع البيان" وتفسير "روح المعاني" وتفسير "التبيان" وتفسير "القرطبي" وتفسير 1
").الفخر الرازي" وتفسير "الصافي" وتفسير "نورالثقلين" )مع بعض التصرف
][138
اليمان في الوقت الذي خلت فيه قلوُبُهم من نور ال ،فتقول الية عن هذه المجموعة )ويقولون
).آمنا بال وبالّرسول وأطعنا ثّم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما ُأولئك بالمؤمنين
ما هذا اليمان الذي ل يتجاوز حدود ألسنتهم ،ول أثر له في أعمالهم؟
ثّم تذكر الية التي بعدها دليل واضحًا على عدم إيمانهم )وإذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم
).إذا فريق منهم معرضون
ولتأكيد عبادة هذه المجموعة للدنيا وفضح شركهمُ ،تضيف الية )وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه
.مذعنين( وبكامل التسليم والخضوع
والجدير بالذكر أن العبارة اُلولى تحدثت عن الدعوة إلى ال ورسوله)صلى ال عليه وآله وسلم(.
وأّما العبارة التالية أي كلمة "ليحكم" فإّنها جاءت مفردة ،وهي تشير إلى تحكيم الّرسول)صلى ال
ن تحكيم الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ليس منفصل عن عليه وآله وسلم( لوحده; وذلك ل ّ
ن كل الحكمين في الحقيقة واحد
.تحكيم ال تعالى ،حيث أ ّ
ن ضمير الهاء المتصّلة في "إليه" يعود إلى الّنبي)صلى ال عليه وآله كما يجب النتباه إلى أ ّ
وسلم(نفسه ،أو إلى تحكيمه .وكذلك لبّد من اللتفات إلى أن الية نسبت التخُلف عن هذا الحكم
والعراض عن تحكيم الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( إلى مجموعة من المنافقين فقط .ولعل
ن للنفاق مراتب أيضًا ذلك لن الفئات اُلخرى لم تكن بهذه الدرجة من الجرأة وعدم الحياء ،ل ّ
.كمراتب اليمان المختلفة
وبّينت الية الخيرة في ثلث جمل ،الجذور الساسية ودوافع عدم التسليم إزاَء تحكيم
).الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( فقالت أّول )أفي قلوبهم مرض
هذه صفة من صفات المنافقين يتظاهرون باليمان ،ولكّنهم ل ُيسّلمون بحكم ال ورسوله ،ول
يستجيبون له ،إّما بسبب انحرافهم قلبيًا عن التوحيد أو الشك والتردد )أم ارتابوا( وطبيعي أ ّ
ن
.الذي يترّدد في عقيدته ،لن يستسلم لها أبدًا
وثالثها فيما لو لم يلحدوا ولم يشكوا ،أي كانوا من المؤمنين) :أم يخافون أن
][139
).يحيف ال عليهم ورسوله
في الوقت الذي يعتبر هذا تناقضًا صريحًا ،إذ كيف للذي يؤمن برسالة محمد)صلى ال عليه وآله
سب الظلم إلى الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم(؟ !وسلم( ويعتبر حكمه حكم ال تعالى أن َيْن ِ
وهل يمكن أن يظلم ال أحدًا؟
أليس الظلم وليد الجهل أو الحاجة أو الكبر؟
ن ال تعالى مقّدس عن كّل هذه الصفات )بل ُأولئك هم الظالمون( إّنهم ل يقتنعون بحّقهم ،وهم إّ
ق أحد ،ولهذا ل يستسلمون ن الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( ل يجحف بح ِ يعلمون أ ّ
.لحكمه
سر "في ظلل القرآن" :في الية) :أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف ويرى مف ّ
لثبات ،أي لثبات وجود مرض النفاق في قلوبهم فمرض ن السؤال الّول ل ِ ال عليهم ورسوله؟( أ ّ
.القلب جدير بأن ينشىء مثل هذا الثر
والسؤال الّثاني للتعجب ،فهل هم يشّكون في حكم ال وهم يزعمون اليمان؟ هل هم يشّكون في
مجيئه من عند ال؟ أو هم يشّكون في صلحيته لقامة العدل؟
.والسؤال الّثالث لستنكار أمرهم الغريب ،والتناقض الفاضح بين إدعائهم وعملهم
ب العالمين ،فكيف
وإّنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان ،فال خالق الجميع ور ّ
).يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب مخلوق آخر)1
ن عبارة "أم ارتابوا" تعني الشك في عدالِة الّرسول)صلى ال عليه سر هو أ ّ وما يورده هذا المف ّ
ك في أصل الّنبوة
سرين أّنُه الش ُ
وآله وسلم( وفي صحة تحكيمه في الوقت الذي يرى كثير من المف ّ
.كما هو الظاهر
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ تفسير في ظلل القرآن ،المجلد ) 17ـ ،(20صفحة 115ـ طبعة دار إحياء الكتب العربية ـ 1
.الطبعة اُلولى
][140
بحثان
ـ مرض النفاق 1
ليست هذِه المرة اُلولى التي يستخدم فيها القرآن عبارة "المرض" للنفاق ،فقد استخدمها في
مطلع سورِة البقرة عند بيانه لصفات المنافقين )في قلوبهم مرض فزادهم ال َمرضًا( وكما ُقلنا
ن النفاق في حقيقته مرض وانحراف عن في المجلد الّول في أثناِء تفسير الية المذكورة ،فإ ّ
حه مع بدنه .الطريق السوي ،فالنسان السليم له صورة واحدة هي انسجاٌم رو ِ
ن ظاهره وباطنه فإذا كان مؤمنًا فكّل أجزاء بدنه تعبر عن إيمانها ،وإذا كان عديم اليمان فإ ّ
.يكشفان عن كفره وانحرافه
ن ذلك يعتبر نوعًا من المرض .أّما إذا كان ُمتظاهرًا باليمان ومبطنًا للكفر ،فإ ّ
ن هؤلء الشخاص )المنافقين( ل يستحقون لطف ال ورحمته ،بسبب عنادهم وإصرارهم وبما أ َ
ضي بمناهجهم المنحرفة ،فقد تركهم ال على حالهم ،ليزدادوا مرضًا .على الُم ِ
ي ُأسلوب يجب أن والمنافقون في الواقع أخطر مجموعة في المجتمع ،لّنه ل يّتضح للمؤمن بأ ّ
ت المؤمنين ويصونون يعاملهم ،فهم ليسوا أصدقاء وليبدون أّنهم أعداء ،فيستفيدون من إمكانا ِ
أنفسهم عن العقاب المفروض على الكفار بالتظاهر وإخفاِء حقاِئقهم المشُؤوِمة ،فأعمالهم أتعس
.من أعمال الكّفار
صُلوا هذا المنهج لمّدة طويلة ،فلبّد أن يفتضح أمرهم وينكشف ولكن هؤلِء ل يمكنهم أن ُيوا ِ
ب ُنزولها .افتضاحهم في عملية تحكيم واحدة باطنهم .وكما ذكرت اليات ـ موضع البحث ـ وسب ُ
).وانكشاف باطنهم الخبيث)1
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ ليضاح أكثر حول صفات المنافقين يراجع الّتفسير المثل من بداية سورة البقرة آخر الية 1
.العاشرة وما يليها
][141
:ـ الحكومة العادلة هي الحكومة اللهية فقط 2
صة الِكبر والبغضاء
لشك في أن النسان مهما سعى في تهذيب نفسه ِمن الصفات الرذيلة ،خا ّ
وحب الذات والنانية ،فإّنه قد يبتلى ببعضها دون وعي منه ،إّل المعصوم من البشر ،إذ يعصمه
.ال من الخطأ والزلل
ولهذا السبب نقول :ال وحده هو المشّرع الحقيقي ،لّنه إضافة إلى علمه المطلق بحاجات
النسان ،فإّنه يعلم سبل سّد هذه الحاجات ،وهو الذي ل يزّل ول ينحرف بسبب احتياجه وميول
.الحب والبغض فيه سبحانه
وقضاء ال والّنبي والمام المعصوم أفضل قضاء ،ويليهم التابعون السائرون على نهجهم
ب الذات ل يرضخ لهذا القضاء ،فهو ن البشر الذي يصاب بالكبر وح ّ
المتوكلون على ال ،إّل أ ّ
يبحث عن قضاء يشبع طمعه وشهواته .ما أجمل العبارة التي استخدمتها الية الكريمة بحق
).هؤلء )ُأولئك هم الظالمون
ن المرور في مثل هذا المتحان ،خير دليل على إيمان النسان أو عدم إيمانه .كما أ ّ
ويستوقفنا قوُل القرآن في موضِع آخر )فل ورّبك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثّم ل
).يجدوا في أنفسهم حرجًا مّما قضيت ويسلموا تسليمًا()1
ن لحقهمأجل ،المؤمنون الحقيقيون ل يرتضون قضاَءك فحسب ،وإّنما قد سّلموا أنفسهم لك حّتى إ ْ
.ضرٌر
أّما المنافقون ،فل يقنعون بحكم من ال ورسوله)صلى ال عليه وآله وسلم( إّل ما يحقق
!مصالحهم ،فهم عبيد لها ،وعلى الرغم من ادعائهم اليمان ،فهم مشركون حّقا
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ النساء1 65 ،
][142
اليات
ك ُهمُطْعَنا َوُأؤَلـِئ َ
سِمْعَنا َوَأ َ
حُكَم َبْيَنُهْم َأن َيُقوُلوا َ سوِلِه ِلَي ْل َوَر ُ عوا ِإَلى ا ِ ن ِإَذا ُد ُ ن َقْوَل اْلُمْؤِمِني َِإّنَما َكا َ
سُموا ِبا ِ
ل ن )َ(52وأْق َ ك ُهُم اْلَفآِئُزو َل َوَيّتْقِه َفُأوَلـِئ َشا َ خ َ سوَلُه َوَي ْل َوَر ُ طِع ا َ ن)َ (51وَمن ُي ِ حو َ اْلمُْفِل ُ
ن)ُ (53قْل خِبيُر ِبَما َتْعَمُلو َل َنا َ عٌة ّمْعُروَفةٌ ِإ ّ طا َسُموا َ ن ُقل ّل ُتْق ِ جّ خُر ُن َأَمْرَتُهْم َلَي ْ
جْهَد َأْيَمـنِهْم َلِئ َْ
طيُعوُه َتْهَتُدوا حّمْلُتْم َوِإن ُت ِعَلْيُكْم ّما ُ
حّمَل َو َ عَلْيِه َما ُ سوَل َفِإن َتَوّلْوا َفِإّنَما َ طيُعوا الّر ُ ل َوَأ ِطيُعوا ا َ أِ
ن)54 سوِل إّل اْلَبَلـُغ اْلُمِبي ُ عَلى الّر ُ )َوَما َ
الّتفسير
:اليمان والتسليم التام إزاء الح ّ
ق
ت قلوبهم ،وأصبحت ظلمات في ظلمات. لحظنا في اليات السابقة رّد فعل المنافقين ،الذين اسوّد ْ
ن أن يحيف ال
خاُفو َ
وكيف لم يرضخوا لحكم ال ورسوله)صلى ال عليه وآله وسلم( ،وكأّنُهم َي َ
!ورسوله عليهم ،فيضيع حّقهم
][143
أّما اليات ـ موضع البحث ـ فإّنها تشرح موقف المؤمنين إزاء حكم ال ورسوله ،فتقول )إّنما كان
).قول المؤمنين إذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا
!)ما أجمل هذا التعبير المختصر والمفيد )سمعنا وأطعنا
ت كلمة "إّنما" في الية السابقة لتحصر كلم المؤمنين في عبارة )سمعنا وأطعنا( وقد ورد ْ
.والواقع أن حقيقة اليمان يكمن في هاتين الكلمتين فقط
ن ال عالم بكّل شيء، جح شخص حكم شخص آخر على حكم ال ،وهو يعتقد بأ ّ كيف يمكن أن ير ّ
ول حاجة له بأحد ،وهو الرحمن الرحيم؟ وكيف له أن يقوم بعمل إزاء حكم ال إّل السمع
والطاعة؟
فما أحسن هذه الوسيلة لمتحان المؤمنين الحقيقيين ونجاحهم في المتحان؟! لهذا تختتم الية
ب الذي يسّلم أمَره إلى ال، ن الفلح نصي ُحديثها بالقول) :وُأولئك هم المفلحون( ول شك في أ ّ
حكِمه في حياته المادية والمعنوية.ويعتقد بعدله و ُ
وتابعت الية الّثانية هذه الحقيقة بشكل أكثر عمومية ،فتقول) :ومن يطع ال ورسوله ويخشى ال
).ويتقه فُأولئك هم الفائزون()1
وقد وصفت هذه الية المطيعين المتقين بالفائزين ،كما وصفت اليُة السابقة الذين يرضخون لحكم
.ال ورسوله بالمفلحين
ى واحد تقريبًا ،قال الراغب الصفهاني فين "الفوز" و"الفلح" بمعن ً وُتفيد مصادر اللغة أ ّ
مفرداته" :الفوز :الظفر بالخير مع حصول السلمة" و"الفلح :الظفر وادراك البغية" )وفي
ن الشخاص المفلحين يشقون طريقهم إلى مقصدهم ويزيلون العقبات الصل بمعنى الشق ،وبما أ ّ
منه أطلق الفلح على الفوز أيضًا( وبما أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ أصل "يتقه" بسكون القاف وكسر الهاء "يتقيه" وقد حذفت الياء منها لّنها في حالة جزم وقد 1
.حذفت إحدى الكسرتين المتاليتين لّنها ثقيلة للفظ
][144
الكلم في الية السابقة كان عن الطاعة بشكل مطلق ،وفي الية قبلها عن التسليم أمام حكم ال،
.وأحدهما عام والخر خاص ،فنتيجة كليهما واحدة
ق الملحظة هو أن الية الخيرة ذكرت ثلثَة أوصاف للفائزين :هي :طاعة ال و ما يستح ّ
.والّرسول ،وخشية ال ،وتقوى ال
ى عام ،والخشية فرعها الباطني ،والتقوى فرعها ن الطاعة ذات معن ً
سرين :إ ّوقال بعض المف ّ
.الظاهري .وقد تحدثت أّول عن الطاعِة بشكل عاّم ،ثّم عن باطنها وظاهرها
وُروي عن المام الباقر)عليه السلم( في تفسير قوله تعالىُ) :أولئك هم المفلحون(قال" :إ ّ
ن
).المعني بالية أميرالمؤمنين )علي )عليه السلم((")1
ن عليًا)عليه السلم( خير مصداق لهذه الية ،وهذا هو المراد من هذا الحديث فل ول خلف في أ ّ
.يفقد الية عموميتها
ن بعض المنافقين لحن الية التالية ـ وكذلك سبب نزولها الذي ذكرته بعض التفاسير ـ يعني أ ّ
جهت اللوم الشديد إليهم ،فجاءوا إلى تأثروا جدًا على ما هم فيه ،بعد نزول اليات السابقة والتي و ّ
الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وأقسموا يمينًا مغلظة أّننا نسّلم أمرنا إليك ،ولهذا أجاَبُهم القرآن
بشكل حاسم )وأقسموا بال جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن( إلى ميدان الجهاد ،أو يخرجوا من
أموالهم وبيوتهم فقل لهم :ل حاجة إلى القسم ،وعليكم عمل اطاعة ال بصدق واخلص)قل ل
ن ال خبير بما تعملون).تقسموا طاعة معروفة إ ّ
ن كلمة "ليخرجن" في هذه الية يقصد منها الخروج للجهاد في سبيل سرين أ ّيرى كثير من المف ّ
سرين آخرين يرون أّنها تقصد عدم التهالك على المال والحياة ،وأتباع ن مف ّ ال ،غير أ ّ
حّل وطاعته.الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( أينما رحل و َ
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير نورالثقلين ،المجلد الثالث ،صفحة 1 616
][145
وقد وردت كلمة "الخروج" ومشتقاتها في القرآن المجيد بمعنى الخروج إلى ميادين الجهاد تارة،
ن اليات السابقة التي تحدثت ك المنزل والهل والوطن في سبيل ال تعالى تارة أخرى ،إّل أ ّ وتر ِ
عن حكم الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( في القضايا المختلفة يجعلنا نتقبل الّتفسير الّثاني.
بمعنى أن المنافقين جاءوا إلى النبي)صلى ال عليه وآله وسلم(ليعربوا عن طاعتهم لحكُمه)صلى
ال عليه وآله وسلم( والتسليم له ،فأقسموا على اخراج قسم من أموالهم ،بل أن يتركوا الحياة
.الدنيا إن أمرهم بذلك
ول مانع من الجمع بين الّتفسيرين ،أي إّنهم كانوا على استعدادهم لترك أموالهم وأهليهم،
.والخروج للجهاد ولتضحية في سبيل ال
ن المنافقين يتقلبون في مواقفهم بحسب الظروف السائدة في المجتمع ،فتراهم يقسمون ولكن بما أ ّ
اليمان المغّلظة حتى تشُعَر بأّنهم كاذبون ،فقد َرّد القرآن ـ بصراحة ـ أّنه ل حاجة إلى اليمين،
ن ال خبير بما تعملون .يعلم هل تكذبون في وإّنما ل ُبّد من البرهنة على صدق الدعاء بالعمل ،ل ّ
يمينكم ،أم تبغون تعديل مواضعكم واقعًا؟
لهذا أكدت الية التالية ـ التي هي آخر اليات موضع البحث ـ هذا المعنى ،وتقول للرسول)صلى
).ال عليه وآله وسلم( أن) :قل أطيعوا ال وأطيعوا الّرسول
ن هذا المر ل يخرج عن إحدى حالتين) :فإن تولوا فإّنما عليه ما حمل وعليكم ثّم تضيف الية أ ّ
ما حملتم( ففي صورة العصيان فقد اّدى وظيفته وهو مسؤول عنها كما أّنكم مسؤولون عن
أعمالكم حين أن وظيفتكم الطاعة ،ولكن )وإن تطيعوه تهتدوا( لّنه قائد ل يدعو لغير سبيل ال
ق والصواب .والح ّ
في كل الحوال )وما على الّرسول إّل البلغ المبين( وإّنه)صلى ال عليه وآله وسلم( مكّلف بإبلغ
س على الّنبي أن يجبر
خسرواَ .وَلْي َ
ن لم ُيطيعوه َ
الجميع ما أمر ال به ،فإن أطاعوه استفادوا ،وإ ْ
.الناس على الهداية وتقّبل دعوته
وما يلفت النظر في الية السابقة تعبيرها عن المسؤولية بـ "الحمِل" الثقيل
][146
وهذا هو الواقع ،فرسالة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( تستوجب البلغ عليه)صلى ال عليه
.وآله وسلم( وعلى الناس طاعته .إّنها لمسؤوليٌة ل يطيق حملها إّل المخلصون
ولذا روى المام الباقر)عليه السلم( حديثًا عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( قال فيه "يا
معشر قّراء القرآن ،اتقوا ال عّزوجّل فيما حملكم من كتابه ،فإّني مسؤول ،وأنتم مسؤولون :إّني
حِمْلُتم من كتاب ال وسّنتي")1
).مسؤول عن تبليغ الرسالة ،وأّما أنتم فتسألون عما ُ
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ المصدر السابق 1
][147
الية
ن ِمنف اّلِذي َ
خَل َ
سَت ْ
ض َكَما ا ْ خِلَفّنُهْم ِفى اَْلْر ِ
سَت ْ
ت َلَي ْ صـِلحـ ِ عِملُوْا ال ّ ن َءاَمُنوا ِمنُكْم َو َ ل اّلِذي َ َوعََد ا ُ
ن ِبى
شِرُكو َ
خْوِفِهْم َأْمنًا َيْعُبُدوَنِنى َل ُي ْ
ن َلُهْم ِديَنُهُم اّلِذى اْرَتضى َلُهْم َوَلُيَبّدَلّنُهْم ّمن َبْعِد َ َقْبلِِهْم َوَُليَمّكَن ّ
ن)55 سُقو َ ك ُهُم اْلَفـ ِ
ك َفُأوَلـِئ َ
)شَْيئًا َوَمن َكَفَر َبْعَد َذِل َ
سبب الّنزول
سرين .ومنهم السيوطي في "أسباب التنزيل" والطبرسي في "مجمع البيان" روى كثير من المف ّ
وسيد قطب في "في ظلل القرآن" والقرطبي في تفسيره ،مع بعض الختلف ،سبب نزول هذه
الية أنه :عندما هاجر الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم(والمسلمون إلى المدينة ،استقبلهم
النصار بترحاب ،ولكن العرب تحالفوا ضدهم .لهذا كان المسلمون يبيتون ليلتهم والسلح إلى
ق على المسلمين ذلك .حتى تساءل البعض: جانبهم ل يفارقهم ،إذ كانوا في حالة تأّهب تاّم .وقد ش ّ
ن أنفسنا ول نخشى إّل ال؟ فنزلتإلى متى يدوم هذا الوضع؟ وهل يأتي زمان نستريح وتطمئ ّ
.الية السابقة تبشرهم بتحّقق ما يصبون إليه
][148
الّتفسير
:حكومة المستضعفين العالمية
تحدثت الية السابقة عن طاعة ال ورسوله والتسليم له ،وقد واصلت الية ـ موضع البحث ـ هذا
الموضوع ،وبّينت نتيجة هذه الطاعة أل وهي الحكومة العالمية التي :وعدها ال المؤمنين به.
فقالت الية مؤّكدة )وعد ال الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفّنهم في الرض كما
استخلف الذين من قبلهم() .وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم( ويجعله متجذرًا وثابتًا وقويًا
.بين شعوب العالم
وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني ل يشركون بي شيئًا( وبعد سيادة حكم التوحيد في العالم(
وإجراء الحكام اِللهية ،واستقرار المن واقتلع جذور الشرك) ،ومن كفر بعد ذلك فُأولئك هم
).الفاسقون
ن ال يبشر مجموعة من المسلمين الذين يتصفون وعلى كّل حال يبدو من مجمل هذه الية أ ّ
:باليمان والعمل الصالح بثلث بشائر
.ـ استخلفهم وحكومتهم في الرض 1
ل مكان )كما يستفاد من كلمة "تمكين 2
ق بشكل جذري وفي ك ّ "...).ـ نشر تعاليم الح ّ
.ـ انعدام جميع عوامل الخوف والضطراب 3
وينتج من كل هذا أن ُيعبد ال بكّل حرية ،وُتطبق تعاليُمه ول يشرك به ،ويتّم نشُر عقيدة التوحيد
.في كّل مكان
ويّتضح مّما يلي متى تّم وعد ال هذا؟ أو متى سيتم؟
***
][149
بحوث
)ـ تفسير عبارة )كما استخلف الذين من قبلهم 1
سرين حول الذين أشارت إليهم الية الشريفة من الذين استخلفوا في هناك اختلف بين المف ّ
.الرض قبل المسلمين
سرين يرى أّنهم آدم وداود وسليمان)عليهم السلم( ،حيث قالت الية ) (30من البعض من المف ّ
سورة البقرة حول آدم)عليه السلم()إّني جاعل في الرض خليفة( وفي الية ) (26من سورة ص
).جاء بصدد داود)عليه السلم( )يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض
ن سليمان)عليه السلم( وِرث حكم داود)عليه السلم( بمقتضى الية ) (16من سورة النمل وبما أ ّ
.فإّنه قد استخلف في الرض
ن عبارة
سرين ـ كالعلمة الطباطبائي في الميزان ـ استبعد هذا المعنى َوَرأى أ ّ لكن بعض المف ّ
ن القرآن المجيد لم ترد فيه هذه العبارة بخصوص ب مقاَم اَلنبياء .إذ أ ّ
)الذين من قبلهم( ل ُتناس ُ
النبياء .وإّنما هي إشارة إلى أمم خلت ،وكانت على درجة من اليمان والعمل الصالح بحيث
.استخلفها ال في الرض
ن هذه الية إشارة إلى بني إسرائيل ،لّنهم استخلفوا في الحكم في ويرى مفسرون آخرون أ ّ
الرض بعد ظهور موسى)عليه السلم( وتدمير حكم فرعون والفراعنة ،حيث يقول القرآن المجيد
في الية ) (127من سورة العراف )وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الرض
ومغاربها التي باركنا فيها( ويضيف )ونمكن لهم الرض( أي جعلناهم حكامًا بعد أن استضعفوا في
.الرض
ك في أّنُه كان في بني إسرائيل ـ حتى في زمن موسى)عليه السلم( ـ أشخاص عرفوا ول ش ّ
ن الحكم كان بيد المؤمنين الصالحين) ،وبهذا يمكن دفع ما أشكل به البعض
بفسقهم وكفرهم ،لك ّ
.على هذا الّتفسير( ويظهر أن الّتفسير الّثالث أقرب إلى الصواب
][150
:ـ الذين وعدهم ال باستخلف الرض 2
لقد وعدال المؤمنين ذوي العمال الصالحة بالستخلف في الرض وتمكينهم من نشر دينهم
وتمتعهم بالمن الكامل ،فما هي خصائص هؤلء الموعودين بالستخلف؟
ن الوعد بالستخلف خا ّ
ص سرين أ ّسرين :يرى البعض من المف ّ هناك اختلف بهذا الصدد بين المف ّ
بأصحاب الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( الذين استخلفهم ال في الرض في عصر
الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم() .ول يقصد بالرض جميعها ،بل هو مفهوم يطلق على الجزء
).والكل
ص بالخلفاء الربعة الذين خلفوا الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم ).ويرى آخرون أّنه خا ّ
ن مفهومه واسع يشمل جميع المسلمين الذين اتصفوا بهذه الصفات .ويرى البعض أ ّ
ويرى آخرون أّنه إشارة إلى حكومة المهدي )عج( الذي يخضع له الشرق والغرب في العالم،
ق في عهده في جميع أرجاء العالم ،ويزول الضطراب والخوف والحرب وتتحقق ويجري حكم الح ّ
.للبشرية عبادة ال النقية من كّل أنواع الشرك
ن حكومة المهدي)عج( مصداق لها ،إْذ ن هذه الية تشمل المسلمين الوائل ،كما أ ّ ول ريب في أ ّ
عْدل وقسطًا بعد أن ُملئت
يتفق المسلمون كافة من شيعة وسنة على أن المهدي)عج( يمل الرض َ
.جورًا وظلمًا
ومع كل هذا ل مانع من تعميمها .وينتج من ذلك تثبيت ُأسس اليمان والعمل الصالح بين
ن لهم الغلبة والحكم ذا السس الثابتة .المسلمين في كّل عصر وزمان ،وأ ّ
ن كلمة "الرض" مطلقة وغيرمحددة ،وتشمل كّل الرض ،وبذلك تنحصر أّما قول البعض :إ ّ
بحكومة المهدي )أرواحنا له الفداء( ،فهول ينسجم مع
][151
عبارة )كما استخلف الذين من قبلهم( ،لن خلفة وحكومة السابقين بالتأكيد لم تشمل الرض
.كلها
ن سبب نزول هذه الية يبّين لنا ـ على أقّل تقدير ـ وقوع مثل هذا الحكم في وإضافة إلى ذلك فإ ّ
عصر الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( )رغم حدوثه في أواخر حياته)صلى ال عليه وآله
)).وسلم
ن نتيجة جهود جميع النبياء والمرسلين حصول حكم يسوده التوحيد والمن ونقولها ثانية :إ ّ
ي نوع من الشرك ،وذلك حين ظهور المهدي)عج( ،وهو من سللة الكامل والعبادة الخالية من أ ّ
النبياء)عليهم السلم( وحفيد الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( ،وهو المقصود في هذا
الحديث الذي تناقله جميع المسلمين عن الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم(" :لو لم يبق من
الدنيا إّل يوم لطّول ال ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي ،اسمه اسمي ،يمل الرض عدل
).وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا")1
لمة الطبرسي في تفسير هذه الية :روي عن أهل بيت رسول ومّما يجدر ذكره هنا قول الع ّ
).ال)صلى ال عليه وآله وسلم( حول هذه الية" :إّنها في المهدي من آل محمد")2
وذكر تفسير "روح المعاني" وتفاسير عديدة لمؤلفين شيعة عن المام السجاد)عليه السلم( في
تفسير الية موضع البحث أنه قال" :هم وال شيعتنا ـ أهل البيت ـ يفعل ال ذلك بهم على يدي
رجل مّنا ،وهو مهدي هذه اُلمة يمل الرض عدل وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا ،وهو الذي قال
...".رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( فيه لو لم يبق من الدنيا إّل يوم
وكما قلنا ،ل تعني هذه التفاسير حصر معنى هذه الية ،بل بيان مصداقها التام ،ومّما يؤسف له
سرين ـ كاللوسي في روح البيان ـ إلى هذه المسألة ،فرفضوا هذه الحاديث .عدم انتباه بعض المف ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ إحتوى كتاب "منتخب الثر" على مائة وثلثة وعشرين حديثًا بهذا الصدد ،من مصادر 1
صة السّنية منها .للستزادة يراجع هذا الكتاب في صفحة ،247ومايليها .إسلمية مختلفة خا ّ
.ـ مجمع البيان في تفسير الية موضع البحث 2
][152
سر المشهور من أهل السنة عن المقداد بن السود عن الّرسول)صلى ال وروى القرطبي المف ّ
عليه وآله وسلم( أّنه قال" :ما على ظهر الرض بيت حجر ول مدر إّل أدخله ال كلمة السلم")
1).
ي)عج( وشرح أدلتها في كتب علماء السنة وللحصول على إيضاح أكثر حول حكومة المهد ّ
.والشيعة ،يراجع تفسير الية ) (33من سورة التوبة
***
][154
اليتان
ن َكَفُروا
ن اّلِذي َ
سَب ّ
ح َ
ن)َ (56ل َت ْ
حُمو َ
سوَل َلَعّلُكْم ُتْر َطيُعوْا الّر ُ صَلوَة َوَءاُتْوا الّزَكوَة َوَأ ِ
َوَأِقيُموا ال ّ
صيُر)57 س اْلَم ِ
ض َوَمْأَويُهْم الّناُر َوَلِبْئ َ
ن ِفى اْلْر ِ جِزي َ
)ُمْع ِ
الّتفسير
:استحالة الفرار من حكومته تعالى
وعدت الية السابقة المؤمنين الصالحين بالخلفة في الرض ،وتعيىء هاتان اليتان الناس
للتمهيد لهذه الحكومة ،وخلل نفيها وجود حواجز كبيرة لهذا العمل ،تضمن هي بذاتها نجاحه.
وفي الحقيقة أن إحدى هاتين اليتين بّينت المقتضي ،بينما نفت الّثانية المانع ،فهي تقول أّول:
)).وأقيموا الصلة
وهي الوسيلة التي توثق الصلة بين الخالق والمخلوق ،وتقّرب الناس إلى بارئهم ،وتمنع عنهم
.الفحشاء والمنكر
زكاة( وهي الوسيلة التي تربط النسان بأخيه النسان ،وتقلل الفواصل بينهما ،وتقوي( وآتوا ال ّ
.ارتباطهما العاطفي
وبشكل عام يكون في كّل شيء تبعًا للرسول) :وأطيعوا الّرسول( طاعة
][155
تكونون بسببها من المؤمنين الصالحين الجديرين بقيادة الحكم في الرض )لعلكم ترحمون(
ق والعدل
.وتكونون لئقين لحمل رأية الح ّ
وإذا احتملتم أن العداء القوياء المعاندين يمنعوكم من تحقق ما وعدكم ال إّياه ،فذلك غير
جب إرادته شيء ،ولهذا )ل تحسبن الذين كفروا معجزين ممكن ،لن قادٌر على كّل شيء ،ول يح ُ
في الرض( فهؤلء الكفار ل يستطيعون الفرار من عقاب ال وعذابه في الرض ،ول يقتصر ذلك
)على الدنيا فقط ،بل أّنهم في الخرة )مأواهم النار ولبئس المصير
وكلمة "معجزين" جمع "معجز" ،المشتّقة من العجاز بمعنى نفاذ القدرة ،وأحيانًا يتابع المرء
شخصًا يفر من يديه ،ول يمكنه القبض عليه وقد خرج من سلطته فهو يعجزه ،لهذا استعملت
كلمة "معجز" بهذا المعنى ،وكذلك تشير الية السابقة إلى المعنى ذاته ،ومفهومها أّنكم ل يمكنكم
.الفراُر من حكومة ال
***
][156
اليات
ن َقْبِل
ث َمّرت ِم ْ حُلَم ِمنُكْم َثَلـ َن َلْم َيْبُلُغوا اْل ُ
ت َأْيَمـُنُكْم َواّلِذي َ ن َمَلَك ْسَتْئِذُنُكْم اّلِذي َن َءاَمُنوا ِلَي ْ َيَأّيَها اّلِذي َ
عْوَرت ّلُكْم َلْي َ
س ث َشاِء َثَلـ ُ صَلوِة اْلِع َ ظِهيَرِة َوِمن َبْعِد َ ن ال ّ ن ِثَياَبُكم ّم َضُعو َ ن َت َ حي َجِر َو ِ صَلوِة اْلَف ْ
َ
ت َوا ُ
ل ل َلُكْم اَْلَي ِ نا ُ ك ُيَبّي ُ
عَلى َبْعض َكَذِل َ ضُكْم َ عَلْيُكْم َبع ُ ن َ طّوُفو َ ن َ ح َبْعَدُه ّ جَنا ٌعَلْيِهْم ُ
عَلْيُكْم َوَل َ َ
ن الك ُيَبّي ُ
ن ِمن َقْبِلِهْم َكَذِل َسَتْئَذن اّلِذي َ سَتْئِذُنوا َكَما ا ْ حُلَم َفْلَي ْطَفـُل ِمنُكُم اْل ُحِكيٌم)َ (58وِإَذا َبَلَغ اَْل ْ عِليٌم َ َ
ح َأن
ن جَُنا ٌ عَلْيِه ّ
س َ ن ِنَكاحًا َفَلْي َ جو َ ن الّنسآِء اّلـِتى َل َيْر ُ عُد ِم َ حِكيٌم)َ (59واْلَقَو ِ عِليٌم َ ل َ َلُكمْ َءايـِتِه َوا ُ
عِليٌم)60 سِميٌع َ ل َ ن َوا ُ خيٌر ّلُه ّ
ن َ سَتْعِفْف َت ِبزيَنة َوَأن َي ْ جـا ِ غْيَر ُمَتَبّر َ ن َ ن ِثَياَبُه ّ
ضْع َ
)َي َ
الّتفسير
ص بالوالدين
:آداب الدخول إلى المكان الخا ّ
ن أهم مسألة تابعتها هذه السورة ـ كما ذكرنا ـ هي مسألة العفاف العام
إّ
][157
.ومكافحة كل انحطاط خلقي ،بأبعاده المختلفة
وقد تناولت اليات ـ موضع البحث ـ إحدى المسائل التي ترتبط بهذه المسألة ،وشرحت
.خصائصها ،وهي استئذان الطفال البالغين وغيرالبالغين للدخول إلى الغرفة المخصصة للزوجين
فتقول أّول) :يا أّيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلث
مرات( فيجب على عبيدكم وأطفالكم الستئذان في ثلث أوقات )من قبل صلة الفجر وحين
).تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلة العشاء
الظهيرة" تعني كما يقول "الراغب الصفهاني" في مفرداته "والفيروزآبادي" في القاموس"
المحيط :منتصف النهار وقريب الظهر حيث ينزع الناس عادة الملبس الضافية ،وقد يختلي
.الزوج بزوجته
صة بكم(
.ثلث عورات لكم( أي هذه ثلث أوقات للخلوة خا ّ
ن"
العورة" مشتّقة من "العار" ،أي :العيب .وأطلق العرب على العضو التناسلي العورة ،ل ّ
.الكشف عنه عار
ق الذي في الجدار أو الثوب ،وأحيانًا تعني العيب بشكل عاّم.كما تعني العورة الش ّ
صة
ن إطلق كلمة )العورة( على هذه الوقات الثلثة بسبب كون الناس في حالة خا ّ وعلى كّل فإ ّ
.خلل هذه الوقات الثلثة ،حيث ل يرتدون الملبس التي يرتدونها في الوقات اُلخرى
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ وسائل الشيعة ،المجلد 14كتاب النكاح صفحة ،147الباب 1 110
.ـ للستزادة يراجع المصدر السابق 2
][161
بحثان
ـ فلسفة الستئذان والمفاسد المترتبة على عدم اللتزام به 1
ل يكفي اللجوء إلى القوة لقتلع جذور المفاسد الجتماعية كالعمال المخلة بالشرف ،ول يرجى
نتيجة مرضية من العقاب فقط في القضايا الجتماعية .وإّنما يستوجب اتباع عدة ُأمور كالتثقيف
السلمي ،وتعليم آدابه الخلقية ،واتباع السبل الصحيحة في القضايا العاطفية .وإلى جانب هذه
.اُلمور يكون العقاب كعامل لردع المنحرفين عن الطريق السوي
ولهذا السبب بدأت سورة النور ـ وهي في الواقع سورة العفاف والشرف ـ بالحديث عن جلد
الرجال الزناة والنساء الزانيات ،كما تحدثت في نفس الوقت عن تسهيل الزواج ورعاية الحجاب
السلمي ،والنهي عن النظر بلذة وتحريم إتهام الخرين بشرفهم وناموسهم ،وأخيرًا استئذان
.البناء حين الدخول إلى غرفة الوالدين
.وهذا يدّل على عدم إغفال السلم أي من هذه التفاصيل التي لها علقة بمسألة العفاف والشرف
صة اللذين يخدمانهما ،كذلك
وعلى الخدم أن يستأذنوا حين الدخول إلى غرفة الزوجين الخا ّ
يستوجب على الطفال البالغين عدم الدخول إلى الغرفة المذكورة دون استئذان ،وتعليم الطفال
غير البالغين الذين يرتبطون ارتباطًا وثيقًا بالوالدين ،أن ل يدخلوا غرفة الوالدين دون استئذان
وعلى القل في الوقات الثلثة التي أشارت إليها الية "قبل صلوة الفجر وحين الظهر ومن بعد
".صلوة العشاء
وهذا نوع من الدب السلمي ،رغم قّلة اللتزام به مع كّل السف .ورغم بيان القرآن ذلك
بصراحة في اليات السابقة .فإّنه من النادر أن يتناوله الخطباء
][162
!والكّتاب ،ول يعرف سبب إهمال هذا الحكم القرآني الحاسم؟
ن ظاهر الية يوجب هذا الحكم ،وحتى لو اعتبرناه مستحبًا فإّنه ينبغي الحديث عنه ،وبحث ورغم أ ّ
جزئياته .ورغم تصور بعض السذج بأن الطفال ل يدركون شيئًا عن هذه اُلمور ،وأن خدم البيت
ن الثابت هو حساسية الطفال بالنسبة لهذه القضية )فكيف بالنسبة للكبار( .وقد ل يهتمون بها ،فإ ّ
يؤدي إهمال الوالدين ورؤية الطفال لمشاهد ممنوعة إلى انحرافهم خلقيًا وأحيانًا إلى إصابتهم
.بأمراض نفسية
وقد واجهنا أشخاصًا اعترفوا بأّنهم اثيروا جنسيًا ،أو ُأصيبوا بعقد نفسية لمشاهد جنسية من هذا
القبيل وقد شّبت في قلوب البعض منهم نار الحقد على الوالدين ،إلى درجة الرغبة في قتلهما ،أو
النتحار .كّل ذلك بسبب الثر الذي زرعه في نفوسهم إهمال الوالدين ،وعدم حيطتهم حين
.الممارسة الجنسية أومقدماتها
هنا تتضح لنا قيمة وأهمية هذا الحكم السلمي الذي بلغه العلماء المعاصرون ،بينما جاء به
السلم قبل أربعة عشر قرنًا .وهنا نجد لزامًا علينا توصية الباء واُلمهات بالجدية في الحياة
الزوجية ،وتعليم أولدهم الستئذان حين الدخول إلى غرفتهما ،واجتناب كّل عمل قد يثير الولد
ويحركهم .ومن هذه العمال مبيت الزوجين بغرفة فيها أولد بالغون ،فيجب اجتناب ذلك بالقدر
ن هذه اُلمور تؤّثر بشكل كبير في مستقبل أولدهما .الممكن .وأن يعلما بأ ّ
ومّما يلفت النظر حديث للّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( يقول فيه "إّياكم وأن يجامع الرجل
).امرأته والصبي في المهد ينظر إليهما")1
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ بحارالنوار ،المجلد ،103صفحة 1 295
][163
:ـ حكم الحجاب بالنسبة للنساء العجائز 2
ن القرآن صريح في هذالخلف في أصل هذا الستثناء في حكم الحجاب بين علماء المسلمين ،ل ّ
ن هناك أقوال في خصوصيات هذا الحكم .المر .إّل أ ّ
فبالنسبة لعمر هؤلء النسوة ،والحد الذي يجب أن يبلغنه ليكنّ من القواعد ،هناك أقوال .فبعض
ن المراد هو "المسّنة"1).)الحاديث السلمية تنص على أ ّ
).بينما فسرته أحاديث أخرى بـ "القُعود عن النكاح")2
سرين يرى أّنها تعني "النساء اللواتي ل يطمئن ،فيصلن إلى مرحلة عدم ولكن عدد من المف ّ
ن")3).الحمل .ول يرغب أحد في الزواج به ّ
ن جميع هذه التعابير تشير إلى واقع محدد ،هو بلوغهن سنًا ل يتزوجن عادة .وقد يحدث ويبدو أ ّ
.نادرًا أن يقدم بعضهن على الزواج في هذا العمر
كما جاءت تعابير مختلفة في الحاديث السلمية حول المقدار من الجسم المسموح بكشفه ،ل ّ
ن
ن ثيابهن غير متبرجات(ضْع َ
القرآن الكريم ذكر المسألة بشكل عام )فليس عليهن جناح أن َي َ
.ويقصد بهذه الثياب الملبس الفوقانية
وجاء في بعض الحاديث جوابًا على سؤال :أي الثياب يجوز وضعها؟
).يجيب المام الصادق)عليه السلم( "الجلباب" )4
).بينما ذكر حديث آخر أنه "الجلباب والخمار")5
ن هذه الحاديث غير متناقضة ،وقصدها جواز الكشف عن رؤوسهن ،وعدم تغطية الشعر ويبدو أ ّ
والرقبة والوجه .كما قالت أحاديث ُأخرى ـ وقال فقهاء ـ بشمول الستثناء إلى حّد الرسغ .ول سند
.لدينا يسمح بأكثر من ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ وسائل الشيعة ،المجلد ،14كتاب النكاح ،الباب ،110الحديث 1 4
.ـ المصدر السابق ،الحديث 2 5
.ـ الجواهر ،المجلد ،29صفحة 85وكنز العرفان ،المجلد ،2ص 3 226
.ـ وسائل الشيعة ،كتاب النكاح ،الباب ،110الحديث 4 1
.ـ المصدر السابق ،الحديث 2و 5 4
][164
ن )غير متبرجات بزينة(وأن يخفين الزينة التي ن بشرط أن يك ّن ذلك مسموح له ّ وعلى كّل حال ،فإ ّ
تحت الحجاب ،والتي من الواجب إخفاؤها من قبل جميع النساء ،وأن ل يرتدين الملبس التي
ن بعدم التحجب على تنزين بها النساء ،والتي تثير انتباه الخرين .وبتعبير آخر :إّنه مسموح له ّ
.أن يخرجن إلى الشارع بلباس محتشم ودون تزين بزينة
ن الفضل لهن أن يخرجن محجبات كالنساء اُلخريات ،كما جاء وهذا كّله ليس حكمًا إلزاميًا .إذ أ ّ
ن معرضات إلى الزلل ـ وإن كان نادرًا .في آخر الية المذكورة ،إذ ه ّ
***
][165
الية
ن َتْأُكُلواسُكْم َأ ْ
على َأنُف ِ ج َول َ حَر ٌض َ عَلى اْلَمِري ِ ج َوَل َ حَر ٌج َ عَر ِ على اَْل ْ ج َوَل َ حَر ٌعَمى َ عَلى اَْل ْ َلْيسَ َ
عَمـِمُكْمت َأ ْخَوِتُكم َأْو ُبُيو ِ
ت َأ َ
خَوِنُكْم َأْو ُبُيو ِ ت ِإ ْ
ت ُأّمَهـِتُكْم َأْو ُبُيو ِت َءاَبآِئُكْم َأْو ُبُيو ِ ِمن ُبُيوِتُكْم َأْو ُبُيو ِ
عَلْيُكم
س َ صِديِقُكْم َلْي َ
حُه َأْو َ خـَلـِتُكْم َأْو َما َمَلْكُتم ّمَفاِت َ
ت َخَوِلُكْم َأْو ُبُيو ِ ت َأ ْعّمـِتُكْم َأْو ُبُيو ِت َ َأْو ُبُيو ِ
ل َمَبـِرَكًةعنِد ا ِ حّيْة ّمن ِ سُكْم َت ِ
على َأنُف ِ سّلُموا َ خْلُتم ُبُيوتًا َف َ شَتاتًا فِإَذا َد َجِميعًا َأْو َأ ْ
ح َأن َتْأُكُلوا َ جَنا ٌُ
ن)61 ت َلَعّلُكْم َتْعِقُلو َ
ل َلُكْم اَْلَيـ ِ
نا ُ ك ُيَبّي ُ
طّيَبًة َكَذِل َ
)َ
الّتفسير
:البيوت التي يسمح بالكل فيها
تحدثت اليات السابقة عن الستئذان في أوقات معينة ،أو بشكل عام حين الدخول إلى المنزل
ص بالب واُلم
.الخا ّ
أّما الية موضع البحث فإّنها استثناء لهذا الحكم ،حيث يجوز للبعض
][166
وبشروط معينة ،الدخول إلى منازل القرباء وأمثالهم ،وحّتى أّنه يجوز لهم الكل فيها دون
ج ول على العرج حرج ول على استئذان ،حيث تقول هذه الية أول )ليس على العمى حر ٌ
).المريض حرج
ن أهل المدينة كانوا ـ كما ورد بصراحة في بعض الحاديث ـ وقبل قبولهم السلم ،يمنعون لّ
.العمى والعرج والمريض من المشاركة في مائدتهم ،ويتنّفرون من هذا العمل
صة ،ليس
وعلى عكس ذلك كانت مجموعة منهم بعد إسلمها ،تفرد لمثل هؤلء موائد خا ّ
لحتقارهم المشاركة معهم على مائدة واحدة ،وإّنما لسباب إنسانية ،فالعمى قد ل يرى الغذاء
الجيد في المائدة ،وهم يرونه ،ويأكلونه ،وهذا خلف الخلق السليم ،وكذلك المر بالنسبة للعرج
والمريض ،حيث يحتمل تأخرهما عن الغذاء ،وتقدم السالمين عليهما .ولهذا كّله لم يشاركوهم
الغذاء على مائدة واحدة .ولهذا كان العمى والعرج والمريض يسحب نفسه حتى ل يزعج
.الخرين بشيء .ويعتبر الواحد منهم نفسه مذنبًا إن شارك السالمين غذاءهم في مائدة واحدة
وقد استفسر من الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( عن هذا الموضوع ،فنزلت الية السابقة التي
صت على عدم وجود مانع من مشاركة العمى والعرج والمريض للصحيح غذاءه على مائدة ن ّ
)واحدة1).
ن القصد أّنه
وقد فسر آخرون هذه العبارة باستثناء هذه الفئات الثلث من حكم الجهاد ،أو أ ّ
مسموح لكم استصحاب العاجزين معكم إلى الحد عشر بيتًا التي أشارت إليها الية في آخرها،
.ليشاركوكم في غذائكم
إّل أن هذين التفسيرين ـ كما يبدو ـ بعيدان عن قصد الية ،ول ينسجمان مع
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ ذكرت هذا الّتفسير أيضًا ،التفاسير التالية "الدر المنثور" و "نور الثقلين" و "مجمع البيان" 1
".و"الصافي" و"الّتفسير الكبير" و"التبيان
][167
).ظاهرها) .فتأملوا جيدًا
).ثّم يضيف القرآن المجيد )ول على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم
.والمقصود بعبارة بيوتكم البناء أو الزوجات
).أو بيوت آبائكم(
).أو بيوت أمهاتكم(
).أو بيوت إخوانكم(
).أو بيوت إخواتكم(
).أو بيوت أعمامكم(
).أو بيوت عماتكم(
).أو بيوت أخوالكم(
).أو بيوت خالتكم(
).أو ما ملكتم مفاتحه(
).أو صديقكم(
ن هذا الحكم له شروط وإيضاحات سيأتي ذكرها في آخر تفسير الية .بالطبع فإ ّ
).ثّم تضيف الية )ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا
ن مجموعة من المسلمين كانوا يمتنعون عن الكل منفردين ،بل كانوا يبقون جياعًا لمّدة ذكر أ ّ
حتى يجدوا من يشاركهم غذاءهم ،فعلمهم القرآن المجيد أن تناول الغذاء مسموح بصورة جماعية
)أو فردية1).
ن مجموعة من العرب كانت تقدم غذاء الضيف على حدة احترامًا له ،ول ويرى البعض :إ ّ
).يشاركونه الغذاء )حتى ل يخجل أثناء تناوله الطعام
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير التبيان ،للية موضع البحث 1
][168
)لقد رفعت الية المذكورة هذه التقاليد واعتبروا غير محمودة)1
ن البعض كان يرى عدم جواز تناول الغنياء الغذاء مع الفقراء ،والمحافظة على وقال آخرون :إ ّ
الفروق الطبقية حتى على مائدة الطعام .لهذا نفى القرآن المجيد هذا التقليد الخاطىء والظالم
)بذكره العبارة السابقة2).
.ول مانع من احتواء الية السابقة لكّل هذه المعاني
ثّم تشير الية إلى أحد التعاليم الخلقية فتقول) :وإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم تحية من
).عند ال مباركة طيبة( واختتمت بهذه العبارة )كذلك يبّين ال لكم اليات لعلكم تعقلون
ن المقصود من عبارة "بيوتًا" في هذه الية ،هي البيوت الحد عشرة سرين :إ ّ
وقال بعض المف ّ
.المذكورة سابقًا
.وقال آخرون :إّنها المساجد
ولكن بيدو أنها عاّمة ،تشمل جميع البيوت ،سواء الحد عشر بيتًا التي يجوز للمرء الكل فيها ،أو
.غيرها كبيوت الصدقاء والقرباء .حيث ل يوجد دليل على تضييق المفهوم الواسع لهذه الية
ولكن ما هو المقصود من عبارة )سّلموا على أنفسكم(؟
سرين أّنه سلم البعض على البعض ،مثلما نجد هنا عددًا من التفاسير :حيث يرى البعض من المف ّ
صة بني إسرائيل )سورة البقرة الية ) (54فاقتلوا أنفسكم ).جاء في ق ّ
ورأى آخرون أّنه يعني السلم على الزوجة والبناء والهل ،حيث هم بمنزلة النفس ،لهذا
استخدمت الية تعبير "النفس" ،كما جاء هذا التعبير أيضًا في آية المباهلة )سورة آل عمران
الية .(61وهذا يبّين لنا أن قرب الشخص من
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ المصدر السابق 1
.ـ المصدر السابق 2
][169
ي)عليه السلم( الخر قد يصل إلى درجة أّنه يكون كنفسه ،أي يكونان كنفس واحدة ،مثلما كان عل ّ
).من الّرسول محّمد)صلى ال عليه وآله وسلم
ن الية السابقة أشارت إلى بيوت لم يسكنها أحد ،حيث يحيي المرء نفسه سرين أ ّ ويرى بعض المف ّ
سلم عليكم من قبل رّبنا .أو :السلم علينا وعلى عباد ال الصالحين .ونرى عند دخولها فيقول :ال ّ
ي منزل كان ،ويجب أن عدم وجود تناقض بين هذه التفاسير .حيث يجب السلم عند الدخول إلى أ ّ
يسلم المؤمنون بعضهم على بعض ،ويسّلم أهل المنزل أحدهم على الخر .وأّما إذا لم يجد أحدًا في
.المنزل فيحيي المرُء نفسه ،حيث تعود هذه التحيات بالسلمة على النسان ذاته
ص تفسير هذه الية لهذا نقرأ في حديث عن المام الباقر)عليه السلم( يجيب فيه على سؤال يخ ّ
فيقول" :هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثّم يردون عليه فهو سلمكم على أنفسكم").
)1
ن كان فيه
وفي حديث عن الباقر)عليه السلم( أيضًا ،يقول فيه" :إذا دخل الرجل منكم بيته فإ ّ
فليسلم عليه ،وإن لم يكن فيه أحد فليقل :السلم علينا من عند رّبنا ،يقول ال عّزوجّل "تحّية من
).عند ال مباركة طيبة")2
***
بحوث
ـ هل أن تناول غذاء الخرين غير منوط بإذنهم؟ 1
ن ال تعالى سمح أن يأكل النسان في بيوت أقربائه الُمقّربينكما شاهدنا في الية السابقة ،أ ّ
وبعض الصدقاء وأمثالهم ،وأصبح عدد هذه البيوت أحد عشر بيتًا .ولم تشترط الية استئذانهم
لتناول الطعام ،ول شك في عدم وجوب
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ نورالثقلين ،المجلد الثالث ،ص 1 627
.ـ المصدر السابق 2
][170
ن بوجود الذن بالكل يمكن تناول الغذاء العائد لي شخص ،وبذلك ل تبقى ميزة الستئذان .إذ أ ّ
.لهذه المجموعة المؤلفة من أحد عشر بيتًا
فهل يشترط توفر الرضى القلبي يتناول الغذاء "وكما يقال من شاهد الحال" .بسبب الصلة الوثيقة
بين الطرفين إن ظاهر اطلق الية ينفي هذا الشرط ،إذ يكفي احتمال حصول رضاه فقط وعادة
.يحصل الرضى
أّما إذا كانت الحالة تؤّكد عدم رضى صاحب الطعام في تناول غذاءه ،فبالرغم من اطلق الية
ن مثل هذاصة أ ّ
وشمولها لهذا المورد أيضًا ،إّل أّنه ل يبعد إنصراف الية عن هذا المورد ،وخا ّ
ن الطلقات ل تشمل الفراد النادرة .المورد نادر الوقوع ،ومن المعلوم أ ّ
ن الية المذكورة تخصص اليات والّروايات التي تشترط في التصرف بأموال وعلى هذا فإ ّ
الخرين احراز رضاهم في دائرة محدودة .وتكرر القول بأن هذا التخصيص .في نطاق محدد ،أي
.تناول الغذاء بمقدار الحاجة تناول بعيدًا عن السراف
والذي ذكرناه متعارف عليه بين كبار فقهائنا .وجاء بعضه بصراحة في الحاديث السلمية ،حيث
ذكر رواية معتبرة عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قال عند الستفسار منه عبارة "أو
صديقكم" الوارد في هذه الية قال)عليه السلم(" :هو وال الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير
).إذنه")1
كما ذكرت أحاديث ُأخرى بهذا المضمون ،أّكدت أّنه ل يشترط الستئذان في هذه الحالت) .وبالطبع
ل يوجد خلف بين الفقهاء حول عدِم جواز الكل من غذاء الخرين دون استئذان ،الذي نهت عنه
).الية بصراحة مع العلم بهذا النهي .لهذا أهملت الية السابقة ذكرُه
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ وسائل الشيعة ،المجلد ،16صفحة ،434كتاب الطعمة والشربة ـ أبواب آداب المائدة ـ 1
.الباب 24الحديث1 ،
][171
).وحول عبارتي "عدم الفساد" و"عدم السراف" فقد صرحت بعض الحاديث بذلك أيضًا)1
ول بد من الشارة إلى أّنه ورد حديث في هذا الباب يقول بأّنه يمكن الستفادة فقط من غذاء
ن الفقهاء أعرضوا عن هذا الحديث لضعف سنده ي غذاء ،إّل أ ّ
.خاص وليس أ ّ
سرين الطعمة الممتازة التي يحفظها صاحب المنزل لنفسه ،أو لضيوفه واستثنى بعض المف ّ
صة .وهذا الستثناء غير بعيد ،بسبب انصراف الية عنه)2 ).المقربين ،أو لمناسبات خا ّ
ـ من هو الصديق؟ 3
ن للصداقة مفهومًا واسعًا ،وهي تعني هنا بالتأكيد الصدقاء الخاصين الذين تربطهم ل شك أ ّ
علقات وثيقة ،وهذه العلقة توجب التزاور فيما بينهم والكل من طعام الخر ،ول حاجة هنا ـ كما
.أسلفنا ـ إلى احراز الرضا ،بل يجوز الكل بمجّرد عدم العلم بعدم رضا صاحب الغذاء
سرين حول هذه الية :الصديق هو الذي يصدق في علقاته معك .لهذا قال بعض المف ّ
.وقيل :الصديق هو الذي يصّدق ظاهره باطنه وكما يبدو فإن الجميع يشيرون إلى حقيقة واحدة
ن الذي ل يسمح بمشاركة صديقه لغذائه ،ل يمكن اعتباره صديقًا !ويّتضح من هذه العبارة أ ّ
ومن المناسب هنا أن نقرأ حديثًا عن اِلمام الصادق)عليه السلم( ضّم مفهوم الصداقة الواسع
:وشروطها الكاملة
ل بحدودها ،فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فإنسبه إلى الصداقة"، ل تكون الصداقة إ ّ
.ومن لم يكن فيه شيء منها فل تنسبه إلى شيء من الصداقة
.فأّولها :أن تكون سريرته وعلنيته لك واحدة
][173
.والّثاني :أن يرى زينك زينه وشينك شينه
.والّثالثة :أن ل تغيره عليك ولية ول مال
.والّرابعة :أن ل تمنعك شيئًا تناله مقدرته
)والخامسة :وهي تجمع هذه الخصال أن ل يسلمك عند النكبات"1).
اليات
سَتْئِذُنوُه
حّتى َي ْ جاِمع ّلْم َيْذَهُبوا َ عَلى َأْمر َ سوِلِه َوِإَذا َكاُنوا َمَعُه َ ل َوَر ُن َءاَمُنوا ِبا ِ ن اّلِذي َ
ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ
ض شْأِنِهْم َفْأَذن ّلمَ ِ
ن ك ِلَبْع ِ سَتْئَذُنو َسوِلِه َفِإَذا ا ْل َوَر ُ ن ِبا ِن ُيْؤِمُنو َك اّلِذي َك ُأوَلِئ َسَتْئِذُنو َ
ن َي ِْإنّ اّلِذي َ
ضُكم
عآءِ َبْع ِ سوِل َبْيَنُكْم َكُد َ
عآَء الّر ُ جَعُلوا ُد َ حيٌم)ّ (62ل َت ْ غُفوٌر ّر ِ ل َ نا َ ل ِإ ّ
سَتْغِفْر َلُهُم ا َ ت ِمْنُهْم َوا ْ شْئ َ ِ
صيَبُهْم ِفْتَنٌة َأْون َأْمِرِه َأن ُت ِ عْ ن َ خاِلُفو َن ُي َ
حَذِر اّلِذي َن ِمنُكْم ِلَواذًا َفْلَي ْ
سّلُلو َ
ن َيَت َل اّلِذي ََبْعضًا َقْد َيْعَلُم ا ُ
جُعو َ
ن عَلْيِه َوَيْوَم ُيْر َض َقْد َيْعَلُم َمآ أَنُتْم َ
ت َواَْلْر ِ سَمـوا ِ ل َما ِفى ال ّ ن ِب َأِليٌم )َ(63أَل ِإ ّ عَذا ٌصيَبُهْم َ ُي ِ
عِليٌم)64 ىء َ شْ ل ِبُكّل َ عِمُلوا َوا ُ )ِإَلْيِه َفُيَنّبُئُهْم ِبَما َ
سبب الّنزول
ن هذه اليه
ذكرت عدة أسباب لنزول الية اُلولى من اليات أعله ،فقد جاء في بعض الحاديث أ ّ
نزلت في "حنظلة بن أبي عياش" الذي صادف زواجه ليلة معركة ُأحد ،وكان الّرسول)صلى ال
عليه وآله وسلم( يشاور أصحابه حول هذه المعركة ،فجاءه
][176
).حنظلة يستأذنه المبيت عند زوجته ،فأجازه)صلى ال عليه وآله وسلم
وقد بّكر حنظلة لللتحاق بصفوف المسلمين ،وكان على عجل من أمره بحيث لم يتمكن من
.الغتسال .ودخل المعركة على هذه الحال ،وقاتل حتى قتل في سبيل ال
قال رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( فيه "رأيت الملئكة تغسل حنظلة بماء المزن في
".صحائف فضة بين السماء والرض
).لهذا سمي حنظلة بعدها بـ "غسيل الملئكة")1
وذكر سبب آخر لنزول هذه الية حيث "روى ابن إسحاق" في سبب نزول هذه اليات أّنه لما
سمع رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( بتجمع قريش والحزاب على حربه ـ وما أجمعوا له
من المر ضرب الخندق على المدينة .فعمل فيه رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( ترغيبًا
للمسلمين في الجر ،وعمل معه المسلمون فيه فدأب ودأبوا ،وأبطأ عن رسول ال)صلى ال عليه
وآله وسلم( وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين ل ينجزون إّل اليسير من العمل،
أو يتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ول إذنه ،وجعل الرجل من
المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لبّد منها ،يذكر ذلك لرسول ال)صلى ال عليه وآله
.وسلم(ويسأله في اللحوق بحاجته فيأذن له
فإذا قضى حاجته ،رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابًا له ،فأنزل ال تعالى
في ُأولئك المؤمنين )إّنما المؤمنون (...الية ،ثّم قال تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون
من العمل ويذهبون بغير إذن من الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم() :ول تجعلوا دعاء الّرسول
)بينكم (...الية)2
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير علي بن إبراهيم ،حسبما نقله تفسير نورالثقلين ،المجلد الثالث ،صفحة 1 628
.ـ في ظلل القرآن ـ طبعة دار إحياء الكتب العربية ـ الجزء السابع عشر ،ص 2 126
][177
الّتفسير
ي وحده!ل تتركوا النب ّ
سرين حول علقة هذه اليات بسابقتها ،وفيهم المرحوم "الطبرسي" في مجمع قال بعض المف ّ
ن اليات السابقة طرحت للبحث جانبًا منالبيان "وسيد قطب" في تفسير في ظلل القرآن :بما أ ّ
ن اليات موضع البحث تناولت كيفية تعامل المسلمين ُأسلوب التعامل مع الصدقاء والقرباء .فإ ّ
مع قائدهم النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( .وقد أّكدت التزام الوقار أمامه ،وطاعته وعدم ترك
.الجماعة إّل بإذنه
ن اليات السابقة تحدثت عن ضرورة طاعة ال ورسوله)صلى ال عليه وآله ويمكن أيضًا أ ّ
وسلم( ،ومن علئم طاعته عدم تركه أو القيام بعمل ما دون إذن منه ،لهذا تحدثت اليات ـ موضع
البحث ـ حول هذا الموضوع .فتقول أّول) :إّنما المؤمنون الذين آمنوا بال ورسوله وإذا كانوا
).على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه
والمراد من "أمر جامع" كّل عمل يقتضي إجتماع الناس فيه ويتطلب تعاونهم ،سواء كان عمل
.استشاريًا ،أو مسألة حول الجهاد ومقاتلة العدو ،أو صلة جمعة في الظروف الستثنائية وأمثالها
سرين ،قالوا بأّنه يعني الستشارة أو الجهاد أو صلة الجمعة أو العيد ن بعض المف ّ وإذا وجدنا أ ّ
فنقول :إّنهم عكسوا جانبًا من معاني هذه الية .وأسباب الّنزول السابقة أيضًا هي من مصاديق
.هذا الحكم العام
ن هذا من شروط النظم والتنظيم ول يمكن لية مجموعة منظمة منسجمة أن تهمله، وفي الحقيقة إ ّ
صة إذا كان قائد
فغياب شخص واحد قد تترتب عليه صعوبات ويلحق ضررًا بالهدف النهائي ،خا ّ
.الجماعة رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( وكلمه مطاع
صة والتفرغ ن الذن ل يعني الستئذان الشكلي لقضاء الشخص أعماله الخا ّ كما يجب النتباه إلى أ ّ
لتجارته .وإّنما أن يكون صادقًا في الستئذان .فإذا وجد القائد أن غياب هذا الشخص يلحق ضررًا،
فمن حقه أن ل يأذن له ،وعليه أن
][178
يضحي بمصلحته من أجل هدف أسمى .لهذا تضيف الية) :إنّ الذين يستأذنوك أولئك الذين
).يؤمنون بال ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم
ن هؤلء المؤمنين ل يستأذن أحدهم لعمل بسيط في حين أّنهم اجتمعوا لمر أهم، ومن الواضح أ ّ
.والمقصود من عبارة "شأنهم" ،العمال الضرورية والمهّمة فقط
ومن جهة أخرى ،ل تعني إذن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( للشخاص دون دراسة جوانب
المسألة وأثر حضور وغياب الفراد ،بل جاء هذا التعبير ليطلق يد الّنبي)صلى ال عليه وآله
.وسلم( وأن ل يأذن لحد حين إحساسه بضرورة حضوره في الجماعة
ودليل هذا الكلم ما جاء في الية ) (43من سورة التوبة حيث يلم الّرسول)صلى ال عليه وآله
).وسلم( لذنه بعض الفراد) :عفى ال عنك لم أذنت لهم حتى يتبّين الذين صدقوا وتعلم الكاذبين
وتبّين هذه الية كيف أوجبت على الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( التحقيق قبل الذن ،وأن
.يلحظ أبعاد هذه المسؤولية اللهية
ن ال غفور رحيم).وتقول الية في الختام) :واستغفر لهم ال إ ّ
و هنا يطرح سؤال :ما الغرض من هذا الستغفار؟ فهل هم مذنبون رغم أخذهم الذن من الّرسول
بالمغادرة ،كي يحتاجوا إلى استغفاره لهم؟
:و للجواب على هذا السؤال هناك وجهان
ن الْولى أن ل يقع اِلستئذان منهم وإن أذن لهم ،لن ذلك أحدهما :أن يستغفر لهم تنبيهًا على أ ّ
صة على مصلحة المسلمين ،و ل يخلو هذا المر من "الترك يعتبر تقديم الشخص لمصلحته الخا ّ
الولى" ولذا يحتاج الى الستغفار )كالستغفار
][179
)على عمل مكروه(1).
كما تبّين هذه العبارة ضرورة عدم الستئذان بالقدر الممكن .واتباع التضحية و اليثار حتى ل
.يتورطوا بارتكاب عمل تركه أْولى كمغادرة الجماعة لعمل بسيط
ل تعالى فيسكهم بآداب ا ّ
و الوجه الثاني :يحتمل أّنه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة لتم ّ
)الستئذان2).
ص هذه التعاليم
ولكن نرى عدم وجود تناقض بين هذين الوجهين ،كما أّنه من الطبيعي أن ل تخ ّ
التنظيمية الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( وأصحابه فقط .وإّنما هي واجبة التباع إزاء كّل
قائد إلهي ،سواء كان نبيًا أم إمامًا أم عالمًا نائبًا لهما ،حيث يتوقف مصير المسلمين على هذه
الطاعة .كما يحتمه ـ إضافة إلى القرآن ـ العقل والمنطق ،لنّ الستمرار التنظيم يتوقف على
.رعاية هذه المبادىء ،ول يمكن إدارة المجتمع بدونها
سري أهل السنة لهذه الية بأّنها دليل على جواز الجتهاد وتوقف الحكم و المدهش تفسير كبار مف ّ
ن الجتهاد المطروح في مباحث الصول والفقه يخص الحكام على رأي المجتهد .ول يخفى أ ّ
ن الجتهاد في الموضوع ل يقبل النكار، الشرعية ،ول يتعلق بالجتهاد في الموضوعات حيث أ ّ
صة بدائرةفكل قائد جيش أو مدير دائرة أو مشرف على جماعة يجتهد في القضايا الجرائية الخا ّ
عمله .وليس هذا دليل على إمكان الجتهاد في الحكام الشرعية العاّمة بإيجاب حكم بدعوى
.المصلحة العاّمة ،أو نفي حكم أو تشريع آخر
ثمّ بّينت الية التالية حكمًا آخر له علقة بتعاليم النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( حيث
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ الّتفسير الكبير للفخر الرازي ،وروح المعاني ،وتفسير القرطبي لليات موضع البحث 1
ـ الّتفسير الكبير للفخر الرازي ـ في تفسيره للية موضع البحث صفحة 39من طبعة دار الكتب 2
.العلمية بطهران ـ الطبعة الّثانية
][180
).تقول):ل تجعلوا دعاء الّرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا
إن الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( عندما يدعوكم للجتماع ،فإنه لبّد من أن يكون لمسألة
إلهية مهّمة ،لهذا يجب عليكم الهتمام بدعوته ،واللتزام بتعاليمه ،وأّل تهملوها ،فأمره من ال
.ودعوته منه سبحانه وتعالى
ثّم تضيف الية )قد يعلم ال الذين يتسللون منكم لواذًا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم
).فتنة أو يصيبهم عذاب أليم
ل السيف من" ن يقال :س ّ
يتسللون" مشتّقة من "تسلل" ،وتعني سحب الشيء من موضعه ،كأ ّ
".غمده .كما يطلق على الذين يفرون سّرا من مكان تجمع محدد لهم ،كلمة "متسللون
لواذًا" مشتّقة من "ملوذة" بمعنى الختفاء ،وتعني هنا اختفاء البعض وراء البعض أو خلف"
جدار ،أو بتعبير آخر :استغفال الخرين ثّم الفرار من مكان تجمعهم ،وهذا ما كان يقوم به
المنافقون حينما يوجه الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( الدعوة للجهاد أو لمر مهم آخر ،يقول
ن عملكم النفاقي هذا إن خفي على الناس فإّنه ل يخفى على ال ،وسيعاقبكم لهم القرآن المجيد" :إ ّ
".على هذه العمال ومخالفتكم لوامر الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( في الدنيا والخرة
سرين :إّنها القتل ،وآخرون قالوا :إّنها تعني الضلل،
ماذا يقصد به "فتنة" هنا؟ قال بعض المف ّ
.كما قال بعضهم :إّنها السلطان الظالم ،وقيل :إّنها بلء النفاق الذي يتوغل في قلب النسان
كما يحتمل أن تعني الفتنة الفتن الجتماعية ومشاكلها ،وأن يسود الهرج والمرج في المجتمع،
.وابتلئه بالهزيمة ،وسائر الفتن اُلخرى التي يبتلى بها المجتمع في حالة عصيانه أوامر قائده
و على كّل حال فالفتنة ذات مفهوم واسع يضّم جميع هذه اُلمور وغيرها ،مثلما يضّم العذاب الليم
.عذاب الدنيا أو عذاب الخرة أو كليهما
][181
:و مّما يجب النتباه إليه في تفسير الية محل البحث وجود احتمالين إضافة إلى ما ذكرناه هما
ن القصد من قوله تعالى) :ل تجعلوا دعاء الّرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا( أّنكم عندما الّول :أ ّ
تدعو الّنبى)صلى ال عليه وآله وسلم( فينبغي أن تدعوه بأدب واحترام يليق بمنزلته ،وليس كما
ن جماعة من المسلمين لم يتعلموا ـ بعد ـ الداب تدعون بعضكم بعضًا ،والسبب يكمن في أ ّ
السلمية في التعامل مع الخرين ،فكانوا ينادون الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( بعبارة :يا
محّمد! وهذا ل يليق بنداء قائد إلهي كبير .وتستهدف الية تعليم الناس أن يدعوا الّرسول صّلى
ى ال .ال عليه وآله وسّلم بعبارات رزينة وبأسلوب مؤدب ،كأن يدعوه :يا رسول ال ،أو :يا نب ّ
وهذا الّتفسير ورد في بعض الّروايات أيضًا إّل أّنه ل ينسجم مع ظاهر الية التي تحدثت عن
الستجابة لدعوة الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ووجوب عدم الغياب عن الجماعة دون
استئذان منه)صلى ال عليه وآله وسلم( إّل أن نقول :إن كل المعنيين مقصودان للية واحدة ،وأن
.مفهوم الية شامل للتفسيرين الّول والّثاني
و الخر :ويبدو أّنه ضعيف جّدا ،وهو أّل تجعلوا دعاء الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( على أحد
ى)صلى ال عليه وآله ن دعاء ولعن النب ّالشخاص ولعنه له كدعاء بعضكم على بعض) ،(1ل ّ
.وسلم( يتّم وفق حساب دقيق وخاضع للتعاليم اللهية ،وهو نافذ حتمًا
ص به ،ولهذاو لكن ليس لهذا الّتفسير علقة بأّول الية ونهايتهًا ،ولم يرد حديث إسلمي خا ّ
.السبب ل يمكن قبوله
ن أوامر سروا عبارة )فليحذر الذين يخالفون عن أمره( بأ ّ ن علماء اُلصول ف ّو تجدر الشارة إلى أ ّ
الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( تدل على الوجوب ،إّل أنّ هذا الستدلل فيه نواقص ُاشير
.إليها في علم اُلصول
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ لقد جاء بعد كلمة الدعاء "لم" فإّنها تعني البتهال والدعاء ،أّما إذا جاء الحرف "على" فإّنها 1
تعني الدعاء على شخص لغير صالحه ،وإذا افتقدت الجملة أي من هذين الحرفين فيحتمل أن
.تتضّمن العبارة المعنيين
][182
و آخر آية من اليات موضع البحث ،ـ والتي هي آخر سورة النور ـ اشارة بليغة إلى قضية المبدأ
والمعاد التي تعتبر دافعًا لمتثال التعاليم اللهية جميعًا ،وضمان لتنفيذ جميع الوامر والنواهي،
)ومنها التي وردت في هذه السورة حيث تقول) :أل أن ل ما في السموات والرض
ن ال العالم بكّل شيء )قد يعلم ما أنتم عليه( أي يعلم ُأسلوبكم في التعامل و أعمالكم واعتقادكمفإ ّ
ومقاصدكم ،فكّلها واضحة له سبحانه وتعالى .وثابتة في لوحة علمه )و يوم يرجعون إليه فينبئهم
).بما عملوا( ويجازيهم بها )وال بكل شيء عليم
و مّما يلفت النظر تأكيد الية ثلث مرات على علم ال بأعمال البشر .ليشعر النسان أّنه مراقب
بشكل دائم ،ول يخفى على ال شيء من أعمال هذا النسان أبدًا .ولهذا العتقاد أثره التربوي
.الكبير ويضمن سيطرة النسان على نفسه إزاء النحرافات والذنوب
إلهي ،نّور قلوبنا بنور العلم واليمان ،وقّو مشكاة وجودنا للمحافظة على هذا اليمان ،لنجتاز
.صراطك المستقيم الذي سار عليه أنبياؤك لكسب رضاك ،ولتحفظنا بلطفك من كل انحراف
رّباه ،نّور أبصارنا بنور العفة ،وقلوبنا بنور المعرفة ،وأرواحنا بنور التقوى ،ونور وجودنا كله
.بنور الهداية ،واحفظنا من التيه والغفلة ،وأعذنا من وساوس الشيطان
طد أركان حكومة العدل السلمي من أجل تنفيذ حدودك ،واحفظ مجتمعنا من الزلل إلهي ،و ّ
.والسقوط في هاوية الرذيلة ،إنك على كل شيء قدير
سوَرُة الُفرقا ْ
ن ُ
ن آية
سْبُعو َ
سْبع َو َ
عَدُد آياِتها َ
َمكّية َو َ
][185
"سورة الفرقان"
اليتان
ض َوَلْم
ت واَلْر ِ
سَمَو ِ
ك ال ّ
ن َنذيرًا) (1اّلِذى َلُه ُمْل ُ
ن َلْلَعـَلِمي َ
عْبِدِه ِلَيُكو َ
عَلى َ
ن َك اّلِذى َنّزَل اْلُفْرَقا ََتَباَر َ
ىء َفَقّدَرُه َتْقِديرًا)2
شْ
ق ُكّل َخَل َ كوَ ك ِفى اْلُمْل ِ شري ٌ
خْذ َوَلدًا َوَلْم َيُكن ّلُه َ)َيّت ِ
الّتفسير
:المقياس العلى للمعرفة
تبدأ هذه السورة بجملة "تبارك" من مادة "بركة" ،ونعلم أنّ الشيء ذو بركة ،عبارة عن أّنه ذو
دوام وخير ونفع كامل .يقول تعالى) :تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا().
)1
ن ثبوت البركة لذات الخالق عّزوجّل بواسطة نزول الفرقان ،يعني أّنه أنزل قرآنًا الملفت للنتباه أ ّ
فاصل بين الحق والباطل ،وهذا يدل على أن أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك النسان بيده
.وسيلة المعرفة ـ معرفة الحق من الباطل
ن كلمة "الفرقان" وردت بمعنى "القرآن" تارًة ،و تارًة بمعنى و هنا وقفة مهّمة أيضًا ،وهي أ ّ
معجزات مميزة للحق من الباطل ،ووردت بمعنى "التوراة" تارًة
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ ورد شرح كلمة "البركة" في ج ،5آخر الية ) (54من سروة العراف ،شرح اصل 1
"".البركة
][188
.أخرى
جملُة الكتاب ،والفرقان:
عن القرآن والفرقان ،أهما شيئان ،أو شيء واحد؟ فقال" :القرآنُ :
".المحكم الواجب العمل به
ن آيات القرآن
ن الفرقان هو جميع آيات القرآن ،والمراد هو أ ّ ول منافاة بين هذا القول وبين أ ّ
.المحكمات تعتبر مصداقًا أوضح وأبرز للفرقان وللتمييز بين الحق والباطل
ن القرآن المجيد ذكرها كمكافأة عظيمة للمتقين: ولموهبة "الفرقان والمعرفة" أهمية بالغة بحيث أ ّ
ن تتقوا ال يجعل لكم فرقانًا1)(.. )).يا أّيها الذي آمنوا إ ْ
ن الهواء والذنوب تلقي على وجه الحق نعم ،فبدون التقوى ل يمكن تمييز الحق من الباطل ،ل ّ
.حجابًا كثيفًا ،وتعمي بصر ابن آدم وبصيرته
.و على أية حال ،فالقرآن المجيد هو الفرقان العلى
.القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في نظام حياة البشر
القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في مسير الحياة الفردية والجتماعية ،وهو الميزان
.والمحك على صعيد الفكار والعقائد ،والقوانين ،والحكام ،والداب ،والخلق
وهذه الوقفة مهّمة أيضًا ،حيث يقول تعالى )نّزل الفرقان على عبده( نعم ،فمقام العبودية والنقياد
.التاّمين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان ،ولتلقي موازين الحق والباطل
ن هدف الفرقان النهائي هو إنذار العالمين، والنكتة الخيرة التي طرحت في هذه الية ،تبّين أ ّ
النذار الذي نتيجته الحساس بالمسؤولية تجاه التكاليف الملقاة على عاتق النسان .وعبارة
ن شريعة السلم "للعالمين" كاشفة عن أ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة النفال ،الية 1 29
][189
عالمية ل تختص بمنطقة معينة ،ول بقوم أو عنصر معينين .بل إن بعضهم قد استدل منها على
خاتمية الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ،وذلك أن "العالمين" كما أّنها غير محدودة من حيث
المكان ،فكذلك مطلقة من حيث الزمان أيضًا ،فـ "العالمين" تشمل جميع الجيال القادمة أيضًا
)!).فتأمل
الية الّثانية تصف ال الذي نزل الفرقان بأربع صفات ،صفة منها هي الساس ،والبقية نتائج
).وفروع لها ،فتقول أّول) :الذي له ملك السموات والرض()1
نعم ،إّنه الحاكم على كل عالم الوجود ،وكل السماوات والرض ،فل شيء خارج عن سلطة
حكومته ،وباللتفات إلى تقدم "له" على "ملك السموات" الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية
يستفاد أن الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والرض منحصرة به تبارك
وتعالى ،ذلك لن حكومته عاّمة وخالدة وواقعية ،بخلف حاكمية غيره التي هي جزئية ومتزلزلة.
.وفي نفس الوقت فهي مرتبطة به سبحانه
).ثّم يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد اُلخرى ،فيقول تعالى) :ولم يتخذ ولدًا()2
و كما قلنا من قبل فإن الحاجة إلى الولد من حيث الصل إّما لجل الستفادة من طاقته البشرية في
العمال ،أو لجل الستعانة به حال الضعف والعجز والشيخوخة ،أو لجل الستئناس به في حال
.الوحدة ،ومن المعلوم أن ذاته المقدسة عّزوجّل منّزهة عن أي واحد من تلك الحتياجات
ن "المسيح")عليه السلم( ابن ال ،أو ما وبهذا الترتيب ،يدحض اعتقاد النصارى بأ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ كلمة )الُمْلك( كما يقول "الراغب" في "المفردات" بمعنى تملك الشيء والحاكمية عليه ،في 1
حين أن )الِمْلك( ليس دليل على الحاكمية وتصرف المالك دائمًا .وبهذا الترتيب :فكُل ُملك ُملكًا ،في
ن ليس كل ِملك ُملكًا .حين أ ّ
ـ ورد إيضاح أكثر حول نفي الولد عن ال تعالى ،ودلئل ذلك في تفسير الية ) (116من سورة 2
.البقرة
][190
ن "العزير" ابن ال ،وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب ،ثّم يضيف جل ذكره: يعتقده اليهود أ ّ
)).ولم يكن له شريك في الملك
فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو الشركاء ،ويتوهمونهم شركاء ل في العبادة،
ويتوسلون بهم من أجل الشفاعة ،ويسألونهم المعونة لقضاء حوائجهم ،حتى آل بهم المر أّنهم
كانوا يقولون بصراحة ـ حين التلبية للحج ـ جمل قبيحة ملوثة بالشرك ،مثل" :لبيك ل شريك لك،
ن القرآن يدين ويدحض كل هذه الوهام .إّل شريكًا هو لك ،تملكه وما ملك" .فإ ّ
).و يقول تعالى في العبارة الخيرة) :وخلق كّل شيء فقّدره تقديرًا
ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأن قسمًا من موجودات هذا العالم مخلوقات "ال"،
".وأن قسمًا منها مخلوقات "الشيطان
و بهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين ال والشيطان ،ذلك لّنهم كانوا يتوهمون الدنيا
مجموعة من "الخير" و "الشر" ،والحال أّل شيء في عالم الوجود إّل الخير من وجهة نظر
الموحد الحق .فإذا رأينا شّرا ،فإّما أن يكون ذا جنبة "نسبية" أو "عدمية" ،أو أن يكون نتيجة
)!.لعمالنا )فتأمل
***
بحث
:تقدير الموجودات بدقة
ليس نظام العالم الدقيق والمتقن ـ وحده ـ من الدلئل المحكمة على معرفة ال وتوحيده ،فتقديراته
الدقيقة أيضًا دليل واضح آخر ،أّننا ل يمكن أن نعتبر مقادير موجودات هذا العالم المختلفة،
.وكميتها وكيفيتها المحسوبة ،معلولة للصدفة التي ل تتوافق مع حساب الحتمالت
صى العلماء المر في هذا الصدد ،وأزاحوا الستار عن أسرارهو قد تق ّ
][191
.المدهشة التي تذهل فكر النسان ،وتترك لسانه يترنم بتمجيد عظمة وقدرة الخالق بل اختيار
:و نعرض لكم ـ ها هنا ـ جانبًا من ذلك
يقول العلماء :لو كانت قشرة الرض أسمك مّما هي عليه الن بمقدار بضعة أقدام ،لما وجد غاز
"الوكسجين" الذي يعتبر المادة الصلية للحياة ،ولو كانت البحار أعمق من عمقها الفعلي عّدة
أقدام ل متصت جميع ما في الجو من الكاربون و الوكسجين ،ولما امكن وجود حياة لحيوان
ونبات على سطح الرض ،ويحتمل أن تقوم قشرة الرض والبحار بامتصاص كل الوكسجين،
.وكان على النسان أن ينتظر نمو النباتات التي تلفظ الوكسجين
ن للوكسجين مصادر مختلفة ،ولكن مهما كان وطبقًا للحسابات الدقيقة في هذا المجال يّتضح أ ّ
ن كميته مطابقة لحتياجاتنا بالضبط.مصدره فإ ّ
ن بعض الشهب التي تحترق كل ولو كانت طبقة الغلف الجوي أرق مّما هي عليه الن مّما هو ،فإ ّ
يوم بالمليين في الهواء الخارجي ،كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الرضية ،وهي تسير بسرعة
تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميل في الّثانية ،وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل
للحتراق .ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لرتطمت كلها بالرض ولكانت العاقبة مروعة،
ولو تعرض النسان للصطدام بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة،
.لتحول الى رماد لمجّرد حرارته
الغلف الجوي سميك بالقدر اللزم بالضبط لمرور الشعة ذات التأثير الكيموي التي يحتاج إليها
الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات ،دون أن تضر بالنسان ،إّل إذا عّرض نفسه لها مدة
أطول من اللزم .وعلى الرغم من النبعاثات الغازية من اعماق الرض طول الدهور ،ومعظمها
ن الهواء باق دون تلوث في الواقع ،ودون تغير في نسبته المتوازنة اللزمة لوجود سام ،فإ ّ
.النسان
ن الجهاز الذي يقوم بهذه الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء ،إ ّ
][192
أى البحار والمحيطات التي هي مصدر الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل ،وأخيرًا استمد
النسان نفسه جميع تلك المقومات الحيوية منهما ،فدع من يدرك ذلك يقف في روعة أمام عظمته
!تعالى ،ويقّر بواجباته شاكرًا
ن التعادل العجيب بين الوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية ،وعالم إّ
النبات كّله ،قد استرعت أنظار كل العالم المفكر ،غير أن أهمية ثاني أوكسيد الكاربون لم يدركها
الجميع بعد ،وثاني أوكسيد الكاربون هو الغاز المألوف في تعبئة ماء الصودا ،وهوغاز ثقيل،
ولحسن الحظ يعلق بالرض ،و ليتّم فصله إلى أوكسجين وكاربون إّل بصعوبة كبيرة ،وإذا أشعلت
ن الخشب ـ الذي يتكون غالبًا من الوكسجين والكاربون والهيدروجين ـ يتحلل تحت تأثير نارًا ،فإ ّ
الحرارة ويتحد الكاربون مع الوكسجين بشّدة ،وينتج من ذلك ثاني أوكسيد الكاربون.
والهيدروجين الذي يطلق يتحد بمثل تلك الشدة مع الوكسجين فنحصل على بخار الماء .ومعظم
.الدخان هو كاربون خالص غير متحد مع غيره
وحين يتنفس رجل فإّنه يستنشق الوكسجين فيتلقاه الدم ،ويقوم بتوزيعه الى جميع انحاء جسمه،
ويقوم هذا الكسجين يحرق طعامه في كل خلية ببطء شديد عند درجة حرارة واطئة نسبيًا،
.النتيجة هي ثاني أوكسيد الكاربون وبخار الماء
و بذلك يتسلل ثاني أوكسيد الكاربون إلى رئتيه ،ويعود الى الجو مّرة ُاخرى من خلل الزفير ،وكّل
.كائن حيواني حي يمتص الوكسجين ويلفظ ثاني اوكسيد الكاربون
ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان ـ مهما يكن من وحشيته ،أو ضخامته،
ن النسان وحده بامكانه قلب هذا التوازن الذي للطبيعة
أو مكره ـ من السيطرة على العالم غير أ ّ
بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر ،وسرعان ما يلقى جزاءه القاسي على ذلك ماثل في
تطورات آفات الحيوان
][193
.والحشرات والنبات
والواقعة التية مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود النسان ،فمنذ سنوات عديدة
زرع نوع من الصّبار )الكاكتوس( في أستراليا كسياج وقائي .ولكن هذا الزرع مضى في سبيله
حتى غطي مساحة تقرب من مساحة إنجلترا ،وزاحم أهالي المدن والقرى ،وأتلف مزارعهم،
وحال دون الزراعة ،ولم يجد الهالي وسيلة لصده عن النتشار ،وصارت أستراليا في خطر من
!اكتساحها بجيش من الزرع الصامت ،يتقدم في سبيله دون عائق
وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرًا حشرة ل تعيش إّل على ذلك الصبار ول
تتغذى بغيره ،وهي سريعة النتشار وليس لها عدو يعوقها في أستراليا .وما لبثت هذه الحشرة
حتى تغلبت على الصّبار ،ثّم تراجعت ،ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية ،تكفي لصد الصّبار
.عن النتشار إلى البّد
.وهكذا توافرت الضوابط والموازين ،وكانت دائمًا مجدية
ولماذا لم تسيطر بعوضة الملريا على العالم وتقتل بذلك النوع البشري مع أن البعوض متوفر في
جميع انحاء العالم حتى في القطبين؟ ومثل ذلك أيضًا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء
.التي تقدمت شمال في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك
و لماذا لم تتطور ذبابة "تسي تسي" "الذبابة المنومة" حتى تستطيع أن تعيش في غير مناطقها
الحارة ،وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر النسان الطاعون والوبئة والجراثيم
الفتاكة التي لم يكن منها وقاء حتى المس القريب ،وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد
).الوقاية الصحية ،ليعلم أن بقاء الجنس البشري معها يدعو حقًا إلى الدهشة!)1
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ ُاقتباس من كتاب "النسان ل يقوم وحده" تأليف كريسي موريسون ،ترجمه محمود صالح 1
.الفلكي بعنوان )العلم يدعو لليمان( ،من الصفحات 160 ،159 ،71 ،70 ،66 ،65
][194
اليات
ضّرا َوَل َنْفَعًا َولَسِهْم َ ن َلنُف ِن َوَل يَْمِلُكو َ خَلُقو َشْيئًا َوُهْم ُي ْ
ن َ خُلُقو َ
خُذوْا ِمن ُدوِنِه َءاِلَهًة ّل َي ْ َو اّت َ
علْيِه َقْوٌم
عاَنُه َك اْفَتِراُه َوَأ َ
ن َهَذآ ِإّلإْف ٌ
ن َكَفُروْا ِإ ْشورًا)َ (3وَقاَل اّلِذي َ حَيوًة َوَل ُن ُ ن َمْوتًا وَل َ َيْمِلكو َ
صيل) عَلْيِه ُبْكَرًة َوأ ِ
ن اْكَتَتَبَها َفِهى ُتْمَلى َ طيُر اَْلّولي َ سـ ِظْلمًا َوُزورًا )َ(4وَقاُلوْا أ َ جآُءو ُ ن َفَقْد َخُرو َ َءا َ
حيمًا)6 غُفورًا ّر ِ ن َ ض ِإّنُه َكا َ
ت َواَْلْر ِ سَمـو ِ سّر ِفى ال ّ )ُ (5قْل أنَزَلُه اّلِذى َيْعَلُم ال ّ
الّتفسير
:اِلتهامات المتعددة اللوان
هذه اليات ـ في الحقيقة ـ تتمة للبحث الذي ورد في اليات السابقة ،في مسألة المواجهة مع
الشرك وعبادة الوثان .ثّم في الدعاءات الواهية لعبدة الوثان ،واتهاماتهم فيما يتعلق بالقرآن،
.وشخص الّنبي صّلى ال عليه وآله وسّلم
الية اُلولى ـ في الواقع ـ تجر المشركين إلى المحاكمة ،ولتحريك وجدانهم
][195
تقول بمنطق واضح وبسيط ،وفي نفس الوقت قاطع وداحض) :واتخذوا من دون ال آلهة ل
).يخلقون شيئًا وهم يخلقون
المعبود الحقيقي هو خالق عالم الوجود ،ول يدعي المشركون هذا الدعاء لوثانهم ،بل يعتقدون
.أّنها مخلوقة ل
وبعُد ،فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الوثان التي ل تملك لنفسها نفعًا ول ضرًا ،ول تملك
موتًا ول حياة ول نشورًا ،فما بالك بما تستطيعه للخرين!؟ )ول يملكون لنفسهم ضرًا ول نفعًا
).ول يملكون موتًا ول حياة ول نشورًا
واُلصول المهّمة عند النسان هي هذه اُلمور الخمسة بالذات :النفع والضر ،والموت ،والحياة،
.والنشور
.فمن يكن بحق مالكًا أصيل لهذه اُلمور ،يكن بالنسبة إلينا جديرًا بالعبادة
لكن هذه الصنام غير قادرة أصل على هذه اُلمور لنفسها ،فكيف تريد أن توّفر هذه اُلمور لمن
!يعبدها من المشركين؟
أي منطق مفتضح هذا!؟ أن ينقاد النسان ويتذلل على أعتاب موجود ل اختيار له في نفسه ،فما
بالك باختياره للخرين!؟
هذه الوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب ،بل إّنها ل يؤمل منها شيء
.في الخرة أيضًا
ن هذه الفئة من المشركين ،المخاطبة في هذه اليات ،كانت تقبل بالمعاد هذا التعبير يدل على أ ّ
نوعًا من القبول )المعاد الروحي ل الجسدي( ،أو أن القرآن ـ حتى مع عدم اعتقادهم بمسألة
المعاد ـ يتناول القضية كمسّلمة ،فيخاطبهم بشكل قاطع على هذا الصعيد ،وهذا مألوف ،فاِلنسان
أحيانًا يكون أمام شخص منكر للحقيقة ،لكّنه يدلي بكلمه طبقًا لفكاره هو ،دون اعتناء بأفكار ذلك
ن خالقًا حينما يبتدع مخلوقًا ن دليل ضمنيًا على المعاد قد كمن في نفس الية ،ل ّ صة وأ ّالمنكر .خا ّ
،ـ وهو مالك موته وحياته وضّره ونفعه ـ لبّد أن يكون له هدف من خلقه
][196
وليمكن أن يتحقق هذا الهدف فيما يخص الناس بدون اِليمان بالنشور ،ذلك لّنه إذا انتهى بموت
اِلنسان كل شيء ،فسوف تكون الحياة فارغة بل معنى ،وهذا يدّل على أن ذلك الخالق لم يكن
.حكيمًا
إذا تأملنا جيدًا وجدنا مسألة "الضرر" جاءت في الية قبل "النفع" وذلك لن اِلنسان ينفر من
الضرر بالدرجة اُلولى ،ولهذا كانت جملة "دفع الضرر أولى من جلب المنفعة" أحد القوانين
.العقلئية
وإذا كان "الضرر" و "النفع" و "الموت" و "الحياة" و "النشور" جاءت بصيغة النكرة ،أيضًا،
فلجل بيان هذه الحقيقة ،وهي أن هذه الوثان ل تملك نفعًا ول ضرًا ول موتًا ول حياة ول
نشورا ،حتى في مورد واحد ،فما بالك بالموارد كلها!؟
ن هذه الوثانوإذا ذكرت "ل يملكون" و "ل يخلقون" بصيغة "جمع المذكر العاقل" )في حال أ ّ
ن هذا الخطاب ل يتعلق بالوثان الحجرية والخشبية ليس لها أدنى عقل أو شعور( فذلك ل ّ
الحجرية والخشبية فحسب ،بل بالجماعة التي كانت تعبد الملئكة أو المسيح ،ولن العاقل وغير
العاقل مجتمعان في معنى هذه الجملة ،فذكر الجميع بصيغة العاقل من باب "التغليب" كما في
.اِلصطلح الدبي
أو أن الخطاب في هذه العبارة كان طبقًا لعتقاد المخاطبين به ،حتى يثبت عجزهم وعدم
استطاعتهم ،يعني :إذا كنتم تعتقدون أن هذه الوثان ذات عقل وشعور ،فلماذا ل تستطيع أن تدفع
عن نفسها ضررًا ،أو أن تجلب منفعة!؟
الية التالية ـ تتناول تحليلت الكفار ـ أو حججهم على الصح ـ في مقابل دعوة الّنبي)صلى ال
).عليه وآله وسلم( ،فتقول) :وقال الذين كفروا إن هذا إّل إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون
في الواقع ،إّنهم من أجل أن يلقوا عن عواتقهم مسؤولية تحمل الحق ـ شأن كل الذين أصروا على
معارضة القادة الربانيين على طول التاريخ ـ اتهموا الّرسول
][197
صة وأّنهم قد استخدموا لفظة "هذا" ليحقروا صّلى ال عليه وآله وسّلم أّول باِلفتراء والكذب ،خا ّ
.القرآن
ن اِلتيان بمثل هذا الكلم
ثّم من أجل أن يثبتوا أّنه غير قادر على اِلتيان بمثل هذا الكلم ـ ل ّ
المبين مهما يكن بحاجة إلى قدرة علمية وافرة ،وما كانوا يريدون التسليم بهذا ـ ومن أجل أن
طة مدبرة ومحسوبة ،قالوا :إّنه لم يكن وحده في هذا العمل ،بل أعانه قوم ن هذا خ ّ يقولوا أيضًا :إ ّ
.آخرون ،وهذه مؤامرة بالتأكيد ،ويجب الوقوف بوجهها
ن المقصود بـ )قوم آخرون( جماعة من اليهود سرين قالوا :إ ّ .بعض المف ّ
ن المقصود بذلك ثلثة نفر كانوا من أهل الكتاب ،وهم" :عداس" و "يسار" و وقال آخرون :إ ّ
"".حبر" أو "جبر
ن قسمًا منها
ن هذه المواضيع لم يكن لها وجود في أوساط مشركي مّكة ،وإ ّ على أية حال ـ بما أ ّ
مثل قصص النبياء الولين كان عند اليهود وأهل الكتاب ـ فقد كان المشركون مضطرين الى نسبة
.هذه المطالب الى أهل الكتاب كي يخمدوا موجة إعجاب الناس من سماع هذه اليات
)لكن القرآن يرّد عليهم في جملة واحدة فقط ،تلك هي) :فقد جاؤوا ظلمًا وزورًا(1).
رسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( اّتهموه" ن رجل أمينًا طاهرًا وصادقًا مثل ال ّ الظلم" هنا ل ّ
.بالكذب واِلفتراء على ال ،وباِلشتراك مع جماعة من أهل الكتاب .فظلموا أنفسهم والناس أيضًا
ن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( دعاهم و "الزور" هنا أن قولهم لم يكن له أساس مطلقًا ،ل ّ
.عّدة مرات إلى اِلتيان بسورة وآيات مثل القرآن ،فعجزوا وضعفوا أمام هذا التحدي
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "جاؤا" من مادة "مجيء" :يراد بها عادة معنى "القدوم" ،لكّنها وردت هنا بمعنى "التيان"1 ،
كما نقرأ أيضًا في الية ) (81سورة يونس أن موسى)عليه السلم( قال للسحرة "ما جئتم به
".السحر
][198
ن المر لو كان كذلك ،لكانوا وهذا بالذات يدل على أن هذه اليات ليست من صنع عقل البشر ،ل ّ
ن عجزهم دليل على يستطيعون بمعونة جماعة اليهود وأهل الكتاب أن يأتوا بمثلها .ومن هنا فإ ّ
.كذبهم ،وكذبهم دليل على ظلمهم
.لهذا فالجملة ،القصيرة )فقد جاؤوا ظلمًا وزورًا( رد بليغ وداحض في مواجهة ادعاءاتهم الواهية
كلمة "زور" في الصل من "َزور" )على وزن غور( أخذت بمعنى :أعلى الصدر ،ثّم أطلقت على
كل شيء يتمايل عن حّد الوسط ،وبما أن "الكذب" انحرف عن الحق ،ومال إلى الباطل ،فقد،
".سّموه "زوراً
تتناول الية التالية لونًا آخر من التحليلت المنحرفة والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق
).بالقرآن ،فتقول) :وقالوا أساطير الولين أكتتبها
ل شيء عنده من قبل نفسه ،ل علم ول ابتكار ،فكيف له بالّنبوة والوحي! إّنه استعان بآخرين،
فجمع عّدة من الساطير القديمة ،وأطلق عليها اسم الوحي والكتاب السماوي .وهو يستلهمها من
).الخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف )فهي تملى عليه بكرة وأصيل
.إّنه يتلقى المعونة لجل هدفه في الوقات التي يقّل فيها تواجد الناس ،أي بكرة وعشيًا
لتهامات التي نقلت عنهم في الية السابقة .إّنهم في هذا الكلم ـ في الحقيقة ـ تفسير وتوضيح ل ِ
:هذه الجملة القصيرة أرادوا أن يفرضوا على القرآن مجموعة من نقاط الضعف
.أّولها :أن ليس في القرآن موضوع جديد مطلقًا ،بل مجموعة من الساطير القديمة
ن نبي اِلسلم ل يستطيع الستمرار بدعوته ـ حتى يومًا واحدًا ـ بدون مساعدة و الّثانية :أ ّ
الخرين ،فلبّد أن ُيملوا الموضوعات عليه بكرة وعشيًا ،وعليه أن
][199
.يكتبها
.واُلخرى :أّنه يعرف القراءة والكتابة .فإذا قال :إّنني ُاّمي ،فهي دعوى كاذبة
إّنهم ـ في الواقع ـ كانوا يريدون أن يفرقوا الناس عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( بواسطة
هذه الكاذيب والتهامات ،في الوقت الذي يعلم كل العقلء الذين عاشوا مّدة في ذلك المجتمع ،أ ّ
ن
الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( لم يكن قد درس عند أحد ،مضافًا إلى أّنه لم تكن له أية رابطة
مع جماعة اليهود وأهل الكتاب .وإذا كان يستلهم من الخرين كل يوم بكرة وعشيًا ،فكيف أمكن
أن يخفى على أحد؟ فضل عن هذا ،فإن آيات القرآن كانت تنزل عليه في السفر والحضر ،بين
.الناس ومنفردًا ،وفي كل حال
مضافًا إلى كل هذا ،كان القرآن مجموعة من التعليمات اِلعتقادية ،والحكام العملية ،والقوانين،
ن ما ورد ومجموعة من قصص النبياء ،ولم تكن قصص النبياء لتشكل كل القرآن ،مضافًا إلى أ ّ
من قصص القوام الولين في القرآن لم يكن له شبه لما جاء في العهدين )التوراة واِلنجيل(
ن ما في العهدين مليء بالخرافات ،والقرآن منّزه المحرفين ،وأساطير العرب الخرافية ،لذلك ل ّ
عنها ،ولو وضعنا القرآن والعهدين جنبًا إلى جنب ،وقايسنا بينهما ،فسوف تتجلى حقيقة المر
)جيدًا1).
لذا فالية الخيرة تصرح بصيغة الرد على هذه اِلتهامات الواهية ،فتقول) :قل أنزله الذي يعلم
السر في السموات والرض( .إشارة إلى أن محتوى هذا الكتاب ،والسرار ،المتنوعة فيه من
علوم ومعارف وتاريخ القوام الولين ،والقوانين واِلحتياجات البشريه ،وحتى أسرار عالم
،الطبيعة والخبار المستقبلية
ــــــــــــــــــــــــــــ
ن الّنبي)صلى ال عليه وآله 1 ن المراد من جملة )اكتتبها( :هو أ ّ سرين أ ّـ يعتقد جماعة من المف ّ
وسلم( أراد من الخرين أن يكتبوا له هذه اليات ،وكذلك ،جملة )تملى عليه( مفهومها :هو أ ّ
ن
ُأولئك كانوا يلقونها إليه ،وكان هو يحفظها .لكّنه مع اللتفات إلى أّننا ل دليل لدينا على حمل
هاتين الجملتين على خلف الظاهر ،يكون الّتفسير الذي ورد في المتن هو الصح ،ففي الواقع إن
أولئك كانوا يريدون أن يتهموا الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( من هذا الطريق ،بأّنه يقرأ
.ويكتب ،لكّنه كان يظهر نفسه أميًا عمدًا
][200
تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر ،ولم ينظم بمساعدة هذا أو ذاك .بل بعلم الذي هو
.جدير بأسرار السماء والرض ،والمحيط بكل شيء علماً
لكن مع كل هذا ،فإن القرآن يترك طريق التوبة مفتوحًا أمام هؤلء المغرضين والمنحرفين ،فيقول
).تبارك وتعالى في ختام الية )إّنه كان غفورًا رحيمًا
فبمقتضى رحمته أرسل النبياء ،وأنزل الكتب السماوية ،وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظل
.اِليمان والتوبة عن ذنوبكم التي ل تحصى
***
][201
اليات
سبب الّنزول
في رواية عن اِلمام الحسن العسكري)عليه السلم( ،أّنه قال :قلت لبي علي بن محمد)عليهما
السلم( :هل كان رسول ال )صلى ال عليه وآله وسلم( يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه
ن رسول ال كان قاعدًا ذات يوم بفناء الكعبة ،فابتدأ عبدال جهم؟ قال :مرارًا كثيرة وذلك أ ّويحا ّ
بن أبي أمية المخزومي فقال :يا محمد لقد أّدعيت دعوى عظيمة ،وقلت مقال هائل ،زعمت أّنك
ب العالمين
ب العالمين ،وما ينبغي لر ّرسول ر ّ
][202
وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرًا مثلنا ،تأكل كما نأكل وتمشي في السواق كما
نمشي ،فقال رسول ال :الّلهّم أنت السامع لكل صوت ،والعالم بكّل شيء ،تعلم ما قاله عبادك
)فأنزل ال عليه :يا محمد) :وقالوا ما لهذا الّرسول(...إلى قوله تعالى )و يجعل لك قصورًا(1).
الّتفسير
!لم ل يملك هذا الّرسول كنوزًا وجنات؟
عرض في اليات السابقة قسم من إشكالت الكفار فيما يخص القرآن المجيد ،وأجيب عليها، ُ
ويعرض في هذه اليات قسم آخر يتعلق بشخص الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ويجاب
).عنها ،فيقول تعالى) :وقالوا ما لهذا الّرسول يأكل الطعام ويمشي في السواق
ما هذا الّنبي الذي يحتاج إلى الغذاء كغيره من الفراد العاديين؟ ويمشي في السواق من أجل
الكسب والتجارة وشراء احتياجاته؟ فليست هذه سيرة الرسل ول طريقة الملوك والسلطين! وفي
!الوقت الذي يريد هذا الّرسول التبليغ بالدعوة اِللهية ،ويريد أيضًا السلطنة على الجميع
لقد كان المشركون يرون أّنه ل يليق بذوي الشأن الذهاب إلى السواق لقضاء حوائجهم ،بل ينبغي
.أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك
ثّم أضافوا) :لول ُأنزل إليه ملك فيكون معه نذيرًا( ،فِلَم لم ُيرسل إليه ـ على القل ـ ملك من عند
ال ،شاهد على صدق دعوته ،وينذر معه الناس!؟
حسن جدًا ،لنفرض أّننا وافقنا على أن رسول ال يمكن أن يكون إنسانًا ،ولكن لماذا يكون فقيرًا
فاقدًا للثروة والمال!؟ )أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير نور الثقلين ،الجزء ،4الصفحة 1 6
][203
).يأكل منها
ولم يكتفوا بهذا أيضًا ،فقد اتهموه آخر المر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطىء ،كما نقرأ في
ختام هذه الية نفسها )وقال الظالمون إن تتبعون إّل رجل مسحورًا( .ذلك أّنهم كانوا يعتقدون أن
!السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الفراد فيسلبونهم قوام عقولهم
ن المشركين كانت لديهم عّدة إشكالت واهية حول من مجموع اليات أعله ،يستفاد أ ّ
.الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ،وكانوا يتنازلون عن مقالتهم مرحلة بعد مرحلة
أّول :إّنه أساسًا يجب أن يكون ملكًا ،وهذا الذي يأكل الطعام ويمشي في السواق ليس ملكًا
.بالضرورة
ل ـ على القل ـ ملكًا يرافقه ويعينه
.ثمّ قالوا :حسن جّدا ،إن لم يكن ملكًا ،فيرسل ا ّ
ثّم تنازلوا عن هذا أيضًا ،فقالوا :لنفرض أن رسول ال بشر ،فينبغي أن ُيلقى إليه كنز من
.السماء ،ليكون دليل على أنه موضع اهتمام ال
ى من تلك الميزات ،فينبغي على القل أل يكون وقالوا في نهاية المطاف :لنفرض أنه لم يكن له أ ّ
إنسانًا فقيرًا ،فليكن كأي مزارع مرفه ،له بستان يضمن منه معيشته .لكّنه فاقد لكّل هذا مع
ي!؟
السف ،ويقول إّنني نب ّ
ن ادعاءة الكبير هذا ،في مثل هذه الشرائط ،دليٌل على أن ليس له عقل واستنتجوا في الختام ،أ ّ
.سليم
الية التالية تبّين جواب جميع هذه اِلشكالت في عبارة موجزة) :انظر كيف ضربوا لك المثال
).فضلوا فل يستطيعون سبيل
هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة ،فهم من خلل مجموعة من القوال الواهية التي
ل أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن ـ الذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه بال ـ
.ليخفوا وجه الحقيقة
][204
حّقا ،إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام استدللتنا المنطقية من خلل حفنة من الحجج،
الواهية :فنقول من دون الجابة عليها بالتفصيل :انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا
.معها أمام الدليل المنطقي
:و هكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها ،لن
أّول :لماذا يجب أن يكون الّرسول من جنس الملئكة؟ بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم ،كما
يحكم به العقل والعلم ،حتى يدرك جميع آلم ورغبات وحاجات ومشكلت ومسائل حياة النسان
تمامًا ،ليكون قدوة عملية له على كل المستويات ،وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج،
ومن المسّلم أن تأمين هذه الهداف لم يكن ليتحقق لو كان من الملئكة ،ولقال الناس إذا حدثهم
عن الزهد وعدم اِلهتمام بالدنيا :إّنه ملك ،وليست له حاجات مادية تجّره إلى الدنيا وإذا دعا إلى
.الطهارة والعفة لقال الناس :إنه ل يدري ما عاصفة الغريزة الجنسية ،وعشرات )إذا( مثل تلك
ثانيًا :ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشرًا من أجل تصديقه؟ أفليست المعجزات كافية لدراك هذه
صة معجزة عظيمة كالقرآن !الحقيقة ،وخا ّ
ثالثًا :أكل الطعام كسائر الناس ،والمشي في السواق يكون سببًا للندماج بالناس أكثر ،والغوص
.في أعماق حياتهم ،ليؤدي رسالته بشكل أفضل
رابعًا :عظمة الّرسول وشخصيته مردهما ليس إلى الكنز والنفائس ول بساتين النخيل والفواكه
الطازجة ،هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر أن المكانة ـ و حتى القرب من ال ـ في
ن قيمة وجودك ليست بهذهن النبياء جاؤوا ليقولوا :أّيها اِلنسان ،إ ّ
صة ،في حال أ ّ
الثرياء خا ّ
.الشياء ،إّنها بالعلم والتقوى واِليمان
خامسًا :بأي مقياس كانوا يعتبرونه "مسحورًا" أو "مجنونًا"؟ الشخص الذي كان عقله معجزًا
بشهادة تأريخ حياته وانقلبه العظيم وتأسيسه الحضارة اِلسلمية ،كيف يمكن إتهامه بهذه التهمة
المضحكة؟ أيصح أن نقول إن تحطيم
][205
!الصنام ورفض اِلتباع العمى للجداد دليل على الجنون؟
صة مع القرائن الموجودة في الية ،بمعنى القوال إتضح بناًء على ما قلناه أن )المثال( هنا ،خا ّ
الفارغة الواهية ،ولعل التعبير عنها بـ )المثال( بسبب أّنهم يلبسونها لباس الحق فكانها مثله،
)وأقوالهم مثل الدلة المنطقية ،في حال أّنها ليست كذلك واقعًا1).
ن أعداء الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( كانوا و ينبغي أيضًا اِللتفات إلى هذه النكتة ،وهي أ ّ
سرين قد احتمل أنيتهمونه ـ بـ "الساحر" وأحيانًا بـ "المسحور" وإن كان بعض المف ّ
"المسحور" بمعنى "الساحر" )لن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم الفاعل أحيانًا( ولكن الظاهر أن
.بينهما فرقًا
عندما يقال عنه بأّنه ساحر ،فلن كلمه كان ذا نفوذ خارق في القلوب ،ولّنهم ما كانوا يريدون
".اِلقرار بهذه الحقيقة ،فقد لجأوا إلى اتهامه بـ "الساحر
خلوا في عقله وتصرفوا به ،وعملوا على اختلل حواسه، أّما "المسحور" فمعناه أن السحرة تد ّ
هذا اِلّتهام نشأ من أن الّرسول كان محطمًا لسنتهم ،ومخالفًا لعاداتهم وأعرافهم الخرافية ،وقد
.وقف في وجه مصالحهم الفردية
أّما جواب جميع هذه اِلتهامات فقد اتضح من الكلم أعله
).و هنا يأتي هذا السؤال ،وهو أّنه لماذا قال تعالى) :فضّلوا فل يستطيعون سبيل
ن اِلنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما ،إذا كان مريدًا للحق الجواب هو أ ّ
باحثًا عنه ،أّما من يتخذ موقفه ـ ابتداًء ـ على أساس أحكام
ــــــــــــــــــــــــــــ
سرين اعتبروا )المثال( هنا بمعنى )التشبيهات( لكّنهم لم يوضحوا هنا ما هي 1 ـ كثير من المف ّ
التشبيهات التي قدمها المشركون ،وبعض آخر اعتبر )المثال( هنا بمعنى )الصفات( ،لن أحد
معاني )المثل( ـ طبقًا لما قاله الراغب في المفردات هو )الصفة( ،فالمقصود هنا هي الصفة
الواهية التي ل أساس لها ،ذلك لن ما في صدر وذيل الية القرآنية أعله يدل على هذا المعنى،
فمن جانب يقول بعنوان التعجب :انظر آية أمثال ضربوا؟ ومن جانب آخر يقول :الوصاف التي
.تؤدي الى ضللهم الذي ل هداية بعده
][206
مسّبقة خاطئة ومضّلة ،نابعة من الجهل والتزمت والعناد ،فمضافًا إلى أّنه ل يعثر على الحق ،فإّنه
.سيتخذ موقعه ضد الحق دائمًا
الية الخيرة مورد البحث ـ كالية التي قبلها ـ توجه خطابها إلى الّنبي)صلى ال عليه وآله
وسلم(على سبيل تحقير مقولت ُأولئك ،وأّنها ل تستحق اِلجابة عليها ،يقول تعالى) :تبارك الذي
).إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك جنات تجري من تحتها النهار ويجعل لك قصورًا
و إّل ،فهل أحٌد غير ال أعطى الخرين القصور والبساتين؟ من غير ال خلق جميع هذه النعم
والجمال في هذا العالم؟ ُترى أيستحيل على ال القادر المّنان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور
!البساتين؟
لكّنه ل يريد أبدًا أن يعتقد الناس أن مكانتك مرّدها المال والثروة والقصور ،ويكونوا غافلين عن
القيم الواقعية .إنه يريد أن تكون حياتك كالفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين ،حتى يمكنك
.أن تكون ملذًا لجميع هؤلء ولعموم الناس
لل المشاكل،أّما لماذا يقول قصورًا وبساتين أفضل مّما أراده ُأولئك؟ فلن "الكنز" وحده ليس ح ّ
بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين ،مضافًا الى أّنهم كانوا يقولون :ليكن لك
بستان يؤمن معيشتك ،أّما القرآن فيقول :إن ال قادر على أن يجعل لك قصورًا وبساتين ،لكن
.الهدف من بعثتك ورسالتك شيء آخر
ورد في "الخطبة القاصعه" من "نهج البلغة" بيان معبر وبليغ :هنالك حيث يقول اِلمام)عليه
):السلم
ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون)عليهما السلم( على فرعون وعليهما مدارع "...
ن أسلم بقاء ملكه ودوام عّزه فقال" :أل تعجبون من هذين الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إ ْ
يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال
][207
ل ُألقي عليهما أساورة من ذهب ،إعظامًا للذهب وجمعه ،واحتقارًا للصوف الفقر والذل ،فه ّ
ل سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الُذهبان ،ومعادان العقيان،ولبسه .ولو أراد ا ّ
ومغارس الجنان ،وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الرض لفعل ،ولو فعل لسقط البلء
وبطل الجزاء ،واضمحلت النباء ،ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ،ول استحق المؤمنون ثواب
المحسنين ،ول لزمت السماء معانيها ،ولكن ال سبحانه جعل رسله ُاولي قّوة في عزائمهم،
ى ،وخصاصة تمل وضعفة فيما ترى العين من حالتهم ،مع قناعة تمل القلوب والعيون غن ً
.البصار و السماع أذ ً
ى
و لو كانت النبياء أهل قوة ل ُترام وعّزة ل ُتضام ،وملك تمتد نحوه أعناق الرجال ،وِتشّد إليه
عقد الرحال ،لكان ذلك أهون على الخلق في اِلعتبار وأبعد لهم في اِلستكبار ،ولمنوا عن رهبة ُ
قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم ،فكانت النّيات مشتركة والحسنات مقتسمة ،ولكن ال سبحانه أراد
أن يكون التباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه واِلستكانة لمره واِلستسلم لطاعته،
صة ل تشوبها من غيرها شائبة .وكلما كانت البلوى واِلختبار أعظم كانت المثوبة أمورًا له خا ّ
)والجزاء أجزل"1).
ن المراد بالجّنة والقصور ،جّنة الخرة قصورها ،لكن هذا ن البعض يرى بأ ّو الجدير بالذكر أ ّ
)الّتفسير ل ينسجم مع ظاهر الية بأي وجه2).
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ "الخطبة القاصعة" ،الخطبة 192نهج البلغة 1
ـ وكذلك الذين قالوا :إن المقصود هو جنات الدنيا وقصور الخرة ،فالفعلن الماضي والمضارع 2
)جعل ويجعل( اللذان في الية ،ينبغي أل يكونا باعثًا على هكذا وهم أيضًا ،لّننا نعلم طبقًا لقواعد
.الدب العربي ،أن الفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني
][208
اليات
سِمُعوْا َلَها
ن َبعيد َ
سِعيرًا )ِ(11إذا َرَأْتُهم ّمن ّمَكا ِ
عِة َ
سا َ
ب بال ّ
عَتْدَنا ِلَمن َكّذ َ
عِة َوَا ْ
سا َ
َبْل َكّذُبوْا ِبال ّ
عوْا اْلَيَومَك ُثُبورًا )ّ (13ل َتْد ُ عوْا ُهَناِل َ ن َد َضّيقًا ّمَقّرِني ََتَغّيظًا َوَزِفيرًا)َ (12وِإَذآ ُأْلُقوأ ِمْنَها َمَكانًا َ
جَزآًء
ت َلُهْم َ ن َكاَن ْعَد اْلُمّتُقو َ
جّنُة اْلخُْلِد اّلِتى ُو ِخْيٌر َأْم َك َعوْا ُثُبورًا َكِثيرًا)ُ (14قْل َأَذِل َ حدًا َواْد ُ
ُثُبورًا َو ِ
سُئول)16 عدًا ّم ْ ك َو ْعَلى َرّب َ ن َ ن َكا َ خـِلِدي َ
ن َ شآُءو َصيرًا)ّ (15لُهْم ِفيَها َما َي َ )َومَ ِ
الّتفسير
:مقارنة بين الجنة والنار
في هذه اليات ـ على أثر البحث في اليات السابقة حول إنحراف الكفار في مسألة التوحيد والّنبوة
ـ يتناول القرآن الكريم قسمًا آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد ،ويّتضح مع بيان هذا القسم
أّنهم كانوا أسارى التزلزل واِلنحراف في تمام أصول الدين ،في التوحيد ،وفي النبوة ،وفي
المعاد ،حيث ورد القسمان
][209
:الولن منه في اليات السابقة ،ونقرأ الن القسم الثالث
).يقول تعالى أّول) :بل كذبوا بالساعة
ن كلمة "بل" تستعمل لجل "اِلضراب" فيكون المعنى :أن ما يقوله ُأولئك الكفار على وبما أ ّ
صعيد نفي التوحيد والنبوة ،إّنما ينبع في الحقيقة من إنكارهم المعاد ،ذلك أنه إذا آمن النسان
بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء اِللهي ،فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا اِلستهزاء واللمبالة ،ولن
يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة الّنبي وبراهينه الظاهرة ،ولن يتذلل أمام الصنام التي صنعها
.وزيّنها بيده
لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدللي ،ذلك لن هذه الفئة لم تكن من أهل اِلستدلل والمنطق ،بل
واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والليم ،فهذا السلوب قد يكون
)أقوى تأثيرًا لمثل هؤلء الفراد يقول أّول) :واعتدنا لمن كّذب بالساعة سعيرًا(1).
ثّم وصف هذه النار المحرقة وصفًا عجيبًا ،فيقول تعالى) :إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها
).تغيظًا وزفيرًا
:في هذه الية ،تعبيرات بليغة متعددة ،تخبر عن شّدة هذا العذاب اِللهي
ـ إّنه ل يقول :إّنهم يرون نار جهنم من بعيد ،بل يقول :إن النار هي التي تراهم ـ كأن لها عينًا 1
.وُأذنًا ـ فسّمرت عينها على الطريق بانتظار هؤلء المجرمين
ـ إّنها ل تحتاج إلى أن يقترب أولئك المجرمون منها ،حتى تهيج ،بل إّنها تزفر من مسافة 2
.بعيدة ..من مسافة مسيرة عام ،طبقًا لبعض الروايات
لنسان عن 3 ـ وصفت هذه النار المحرقة بـ "التغيظ" وذلك عبارة عن الحالة التي يعّبر بها ا ِ
.غضبه بالصراخ والعويل
لنسان النفس من الصدر بقوة ،وهذا 4 ـ إن لجهنم "زفيرًا" يعني كما ينفث ا ِ
ــــــــــــــــــــــــــــ
سْعر" على وزن "قعر" بمعنى التهاب النار ،وعلى هذا يقال للسعير :النار 1 ـ "سعير" من " َ
.المشتعلة والمحيطة والمحرقة
][210
.عادة في الحالة التي يكون اِلنسان مغضبًا جدًا
مجموع هذه الحالت يدل على أن نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار
".الحيوان المفترس الجائع لغذائه "نستجير بال
هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد ،أّما حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى) :وإذا ُألقوا منها
)مكانًا ضيقًا مقّرنين دعوا هنالك ثبورًا(1).
ن جهنم صغيرة ،فإّنه طبقًا للية ) (30من سورة ق )يوم نقول لجهنم هل امتلت هذا ليس ل ّ
صرون مكانًا ضيقَا في هذا المكان الواسع، وتقول هل من مزيد( فهي مكان واسع ،لكن ُأولئك ُيح َ
)فهم "يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط"2).
كما أن كلمة "ثبور" في الصل بمعنى "الهلك والفساد" ،فحينما يجد اِلنسان نفسه أمام شيء
".مخيف ومهلك ،فإّنه يصرخ عاليًا "واثبورا" التي مفهومها ليقع الموت عل ّ
ي
).لكّنهم يجابون عاجل )ل تدعوا اليوم ثبورًا واحدًا وادعوا ثبورًا كثيرًا
على أية حال ،فلن تنفعكم استغاثتكم في شيء ،ولن يكون ثّمة موت أو هلك ،بل ينبغي أن تظلوا
.أحياء لتذوقوا العذاب الليم
هذه الية في الحقيقة تشبه الية ) (16من سورة الطور حيث يقول تعالى )أصلوها فاصبروا أو ل
).تصبروا سواء عليكم إّنما تجزون ما كنتم تعملون
ن حسابهم معَمن هو المتكلم مع الكافرين ها هنا؟ القرائن تدل على أّنهم ملئكة العذاب ،ذلك ل ّ
.هؤلء
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "مقرنين" من "قرن" بمعنى قرب واجتماع شيئين أو أكثر مع بعضهما ،ويقولون للحبل الذي 1
يربطون به الشياء "قرن" ،ويقولون أيضًا لمن تقيد يده ورجله مع بعضهما بالغل والسلسل
").مقّرن" )من أجل توضيح أكثر في المسألة راجع آخر الية ) (49من سورة إبراهيم
.ـ مجمع البيان ،آخر الية مورد البحث 2
][211
ن عذابهموأّما لماذا يقال لهم هنا) :ل تدعوا ثبورًا واحدًا وادعوا ثبوراً كثيرًا(؟ رّبما كان ذلك ل ّ
الليم ليس مؤقتًا فينتهي بقول )واثبورا( واحدًا ،بل ينبغي أن يرددوا هذه الجملة طيلة هذه المدة،
ن العقوبات اِللهية لهؤلء الظالمين المجرمين متعددة اللوان ،حيث يرون الموت علوة على أ ّ
.أمام أعينهم إزاء كل مجازاة ،فتعلوا أصواتهم بـ )واثبورا( ،فكأّنهم يموتون ثّم يحيون وهكذا
ثّم يوجه الخطاب إلى الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ،ويأمره أن يدعو ُأولئك إلى المقايسة،
).فيقول تعالى) :قل أذلك خيٌر أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاًء ومصيرًا
).تلك الجّنة التي )لهم فيها ما يشاؤون
).تلك الجّنة التي سيبقون فيها أبدًا )خالدين
).أجل ،إّنه وعد ال الذي ُاخذه على نفسه) :كان على رّبك وعدًا مسؤول
هذا السؤال ،وطلب هذه المقايسة ،ليس لن أحدًا لديه شك في هذا المر ،وليس لن تلك العذابات
الليمة المهولة تستحق الموازنة والمقايسة مع هذه النعم التي ل نظير لها ،بل إن هذا النوع من
السئلة والمطالبة بالمقارنة لجل إيقاظ الضمائر الهامدة ،حيث تجعلها أمام أمر بديهي واحد،
:وعلى مفترق طريقين
ن تلك النعم أفضل وأعظم )وهو ما سيقولونه حتمًا( فقد حكموا على فإذا قالوا في الجواب :إ ّ
ن العذاب أفضل من هذه النعمة ،فقد وّقعوا على ن أعمالهم خلف ذلك .وإذا قالوا :إ ّ أنفسهم بأ ّ
ن السجن هو وثيقة جنونهم ،وهذا يشبه ما إذا حذرنا شابًا ترك المدرسة والجامعة بقولنا :اعلم أ ّ
مكان الذين فروا من العلم ووقعوا في أحضان الفساد ،ترى السجن أفضل أم الوصول إلى
المقامات الرفيعة!؟
***
][212
ملحظات
ول إلى هذه النكتة ،وهي اليات الكريمة وصفت الجّنة بالخلود تارًة وصفة 1 ـ ينبغي اِللتفات أ ّ
لهل الجّنة تارًة ُأخرى ،ليكون تأكيدًا على هذه الحقيقة ،وهي كما أن الجنة خالدة ،فكذلك
.ساكنوها
ـ قوله تعالى )لهم فيها ما يشاؤون( جاءت في مقابل حال الجهنميين في الية ) (54من سورة 2
).سبأ )وحيل بينهم وبين ما يشتهون
ـ التعبير بـ "مصير" بعد كلمة "جزاء" بالنسبة إلى الجّنة ،كله تأكيد على ما يدخل في مفهوم 3
الجزاء ،وهو بجميعه نقطة مقابلة إزاء مكان أهل الّنار ،حيث ورد في اليات السابقة أّنهم يلقون
.في مكان ضيق محدود مقرنين بالصفاد
ـ قوله تعالى )كان على ربك وعدًا مسؤول( إشارة إلى أن المؤمنين كانوا في أدعيتهم يطلبون 4
من ال الجّنة وجميع نعمها ،فهم السائلون ،وال "المسؤول منه" كما نقرأ قول المؤمنين في
الية ) (194من سورة آل عمران )رّبنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ،(...لسان حال جميع
المؤمنين أيضًا ،إّنهم يطلبون هذا الطلب من ال ،لن لسان حال كل من يطيع أمره تبارك وتعالى
.أن يطلب ذلك
والملئكة كذلك يسألون ال الجّنة والخلود للمؤمنين ،كما نقرأ في الية ) (8من سورة المؤمن:
)...).رّبنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم
ن كلمة )مسؤول( تأكيد على هذا الوعد اِللهي ،الحتمي ،يعني أ ّ
ن و يوجد هنا تفسير آخر ،وهو أ ّ
ن المؤمنين يستطيعون أن يطالبوا ال به ،وهذا يشبه هذا الوعد على قدر عظيم من القطع بحيث أ ّ
ق في أن يطالبنا به
.ما إذا أعطينا وعدًا لحد ،وأعطيناه ـ في الضمن ـ الح َ
).قطعًا ل يوجد أي مانع من أن تجتمع كل هذه المعاني في المفهوم الواسع لـ )مسؤول
للتفات إلى قوله تعالى )لهم فيها ما يشاؤون( ينشأ لدى البعض هذه 5 ـ با ِ
][213
السؤال :إذا أخذنا في اِلعتبار المفهوم الواسع لهذه العبارة ،فنتيجة هذا أن أهل الجّنة إذا أرادوا
مقام النبياء والولياء يعطى لهم ،مثل ،أو إذا طلبوا نجاة أقربائهم وأصدقائهم المذنبين
!المستحقين لجهنم ،يعطون سؤلهم ،وما سوى هذه الرغبات؟
ن الحجب تزول عن أعين أهل الجّنة فيدركون و يّتضح الجواب مع اِللتفات إلى هذه النكتة ،وهو أ ّ
الحقائق جيدًا ،ويّتضح تناسبها في نظرهم كامل ،إّنهم ل يخطر ببالهم أبدًا أن يطلبوا من ال
طلبات كهذه ،وهذا يشبه تمامًا أن نطلب في الدنيا من طفل في اِلبتدائية أن يكون ُاستاذًا في
ي محكمة ...ترى هل تخطر مثل هذه اُلمور في فكر أي ص مجرم قاض َالجامعة ،أو أن يكون ل ٌ
ن ما
ن كّل إرادتهم في طول إرادة ال ،وإ ّ عاقل في الدنيا!؟ وفي الجّنة أيضًا كذلك ،فضل عن هذا فإ ّ
.يريدونه هو ما يريده ال
***
][214
اليات
سِبيَل)
ضّلوْا ال ّ
عَباِدى َهـُؤلِء َأْم ُهْم َ ضَلْلُتْم ِ
ل َفَيقُوُل َءَأنُتْم َأ ْن ا ِّ
ن ِمن ُدو ِ شُرُهْم َوَما َيْعُبُدو َحُ َو َيْوَم َي ْ
حّتىن َأْوِلَيآَء َوَلـِكن ّمّتْعَتُهْم َوَءاِبآَءُهْم َ
ك ِم ْخَذ ِمن ُدوِن َ ن َينَبِغى َلَنآ َأن ّنّت ِك َما كَا َ حـَن َ
سب َ
َ (17قاُلوْا ُ
صرًا َوَمنصْرفًا وَلَن ْ ن َ طيُعو َ
سَت ِ
ن َفَما َت ْ سوْا الّذْكَر َوكاُنوْا َقْوَما ُبورًا)َ (18فَقْد َكّذُبوُكم ِبَما َتقُولُو َ َن ُ
عَذابًا َكِبيرًا)19 ظِلم ّمنُكْم ُنِذْقُه َ)َي ْ
الّتفسير
:المحاكمة بين المعبودين وعبدتهم الضالين
كان الكلم في اليات السابقة حول مصير كل من المؤمنين والمشركين في القيامة وجزاء هذين
الفريقين ،وتواصل هذه اليات نفس هذا الموضوع بشكل آخر ،فتبّين السؤال الذي يسأل ال عنه
معبودي المشركين في القيامة وجوابهم ،على سبيل التحذير ،فيقول تعالى أول :واذكر يوم يحشر
).ال هؤلء المشركين وما يعبدون من دون ال) :و يوم يحشرهم وما يعبدون من دون ال
).فيسأل المعبودين) :فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلء أم هم ضلوا السبيل
][215
).ففي الجابة) :قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء
فليس فقط أّننا لم ندعهم إلى أنفسنا ،بل إّننا كّنا نعترف بوليتك وربوبيتك ،ولم نقبل غيرك معبودًا
.لنا ولغيرنا
ن ال تعالى رزقهم الكثير من مواهب الدنيا و نعيمها فتمتعوا هم وكان سبب انحراف أولئك هو :أ ّ
وآباءهم وبدل من شكر ال تعالى غرقوا في هذه الملذات ونسوا ذكر ال) :ولكن متعتهم وآباَءهم
).حتى نسوا الذكر( ولهذا هلكوا واندثروا )وكانوا قومًا بورًا
ل تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركين فيقول) :فقد كذبتم بما تقولون ).هنا يوجه ا ّ
ن المر هكذا ،وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم) :فما لّ
).يستطيعون صرفًا ول نصرًا ،ومن يظلم منكم نذقه عذابًا كبيرًا
ن موضوع البحث في الية هو "الشرك" الذي هو أحد ن "الظلم" له مفهوم واسع ،ومع أ ّ ل شك أ ّ
.المصاديق الجلية للظلم ،إّل أّنه ل يقدح بعمومية المفهوم
و الملفت للنظر أن "من يظلم" جاءت بصيغة الفعل المضارع ،وهذا يدل على أن القسم الّول من
البحث وأن كان مرتبطًا بمناقشات البعث ،لكن الجملة الخيرة خطاب لهم في الدنيا ،لعل قلوب
المشركين تصبح مستعدة للتقبل على أثر سماعها )محاورات العبابدين والمعبودين في القيامة(،
)فيحول الخطاب من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم) :ومن يظلم منكم نذقه عذابًا كبيرًا(1).
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ر1 ـ ويحتمل أن تكون الجملة الخيرة استمرارًا لمحاورة ال مع المشركين في القيامة ،ول يض ّ
ن جملة )من يظلم (..ذكرت بصورة قانون عام )جملة شرطية( ،ونعلم أ ّ
ن كون الفعل مضارعًا ،ل ّ
الفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني ،وتبقى وحدة الرتباط بين الشرط وجوابه
.معتبرة
][216
:مسائل مهمة
ـ من هم المقصودون بالمعبودين هنا!؟ 1
سرين المعروفين
:في الجابة على هذا السؤال ،هناك تفسيران بين المف ّ
أّول :أن يكون المقصود بالمعبودين إنسانًا )مثل المسيح( أو شيطانًا )مثل الجن( أو )الملئكة(،
حيث أن كّل واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين معبودًا لهم .ولّنهم أهل عقل وشعور
وإدراك ،فيمكنهم أن يكونوا موضع الستنطاق والمحاسبة ،ولتمام الحجة ،ولثبات كذب
ن هؤلء دعونا لعبادتهم! فهم يسألون عّما إذا كان هذا الدعاء المشركين الذين يقولون :إ ّ
!صحيحًا؟ ولكّنهم يكذبون ادعاء المشركين بصراحة
ن ال يمنح الصنام في ذلك اليوم نوعًا من سرين هو أ ّ
الّتفسير الّثاني :الذي ذكره جمع من المف ّ
الحياة والدراك والشعور ،بالشكل الذي تستطيع فيه أن تكون موضع المحاسبة ،لينطقوا بالجواب
.اللزم :إلهنا ،نحن ما أضللنا هؤلء ،بل هم أنفسهم ضلوا بسبب انغماسهم في الشهوات والغرور
ن المقصود يشمل جميع المعبودين ،سواء كانوا ذوو عقل وشعور و هناك الحتمال آخر ،وهو أ ّ
يخبرون بألسنتهم عن الوقائع ،أام لم يكونوا من أهل العقل والشعور ،حيث يعكسون الحقيقة
.أيضًا ،بلسان حالهم
ن الفعال والضمائر تدلولكن القرائن الموجودة في الية تتفق أكثر مع الّتفسير الّول ،ذلك ل ّ
جميعها على أن طرف المحاورة هم أصحاب عقل وشعور ،وهذا يتناسب مع معبودين كالمسيح
.والملئكة وأمثالهم
ن قوله تعالى )فقد كذبوكمُ (...يظهر أن المشركين قد اّدعوا من قبل أن هؤلء إضافة إلى أ ّ
المعبودين قد أضلونا ودعونا لعبادتهم ،وبعيد أن يكون المشركون قد ادعوا هذا بالنسبة إلى
ن الصنام لالصنام الحجرية والخشبية ،لّنهم ـ كما ورد في قصة إبراهيم ـ كانوا على يقين بأ ّ
تتكلم )لقد علمت ما هؤلء
][217
).ينطقون()1
ل بالنسبة إلى المسيح)عليه السلم( في الية ) (116من سورة المائدة: في حين أّننا نقرأ مث ً
!)أأنت قلت للناس اّتخذوني وأمي إلهين من دون ال(؟
ن ادعاء المشركين وعبدة الصنام كان واهيًا وبل أساس ،فُأولئك لم يدعوهم إلى ومن المسّلم أ ّ
.عبادة أنفسهم
الملفت هو أن المعبودين لم يقولوا في الجواب :إلهنا ،ما دعوناهم إلى عبادة أنفسنا ،بل يقولون:
نحن ما اّتخذنا لنفسنا غيرك معبودًا ،يعني في الوقت الذي نحن نعبدك وحدك ،فمن اُلولى أّننا لم
صة وأن هذا الكلم يقترن مع )سبحانك( ومع )ماكان ينبغي لنا( التيندعهم إلى أحد غيرك ،خا ّ
.تكشف عن غاية أدبهم ،وتأكيدهم على التوحيد
][219
".ـ كلمة "بور 3
ن شّدة الكساد تبعث على"
بور" من مادة "بوار" وهي في الصل بمعنى شّدة كساد الشيء ،ول ّ
الفساد ،كما جاء في المثل العربي "كسد حتى فسد" ،فهذه الكلمة بمعنى الفساد ،ثّم ُأطلقت بعد هذا
على الهلك ،ولهذا يقولون للرض الخالية من الشجر والورد والنبات ،والتي هي في الحقيقة
".فاسدة وميتة كلمة "بائر
ن هذا الفريق على أثر انغماسهم في ن قوله تعالى) :كانوا قومًا بورًا( إشارة إلى أ ّ
وعلى هذا فإ ّ
الحياة المادية المرفهة ،ونسيانهم ال واليوم الخر ،صاروا إلى الفساد والهلكة ،وصارت أراضي
قلوبهم كالصحراء جافة وبائرة ،وُأخليت من أزاهير ملكات القيم النسانية ،وفواكه الفضيلة
.والحياة المعنوية
مطالعة حال اُلمم الغرقى في الدلل والنعمة اليوم ،الغافلة عن ال وعن الخلق ،توضح عمق
معنى هذه الية في كيفية غرق هذه اُلمم في بحر الفساد الخلقي ،وكيف اجتثت الفضائل
)النسانية من أرض وجودهم البائرة1).
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ن كلمة "بور" تأتي بمعنى اسم الفاعل ،وتأتي واحدة في المفرد 1
ـ تعتبر بعض المصادر أ ّ
".والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ،وبعض يعدها جمع "بائر
][220
الية
ضُكمْ ِلَبْعض
جَعْلَناَبْع َ
ق َو َ
سوا ِ
ن ِفى اَْل ْ
شو َ
طَعاَم َوَيْم ُ
ن ال ّ
ن ِإّل ِإّنُهْم َلَيْأُكُلو َ
سلي َ
ن اْلُمْر َك ِم َسْلَنا َقْبَل َ
َوَمآ َأْر َ
صيرًا)20 ك َب ِ
ن َرّب َن َوَكا َصِبُرو َ )ِفْتَنًة َأَت ْ
سبب الّنزول
سرين وأصحاب السير كابن إسحاق في سيرته في سبب نزول هذه الية "أن أورد جماعة من المف ّ
سادات قريش "عتبة بن ربيعة" وغيره اجتمعوا معه)صلى ال عليه وآله وسلم(فقالوا :يا محمد،
ب المال جمعنا لك من أموالنا ،فلما أبى رسولب الرياسة وليناك علينا ،وإن كنت تح ّ
إن كنت تح ّ
ال)صلى ال عليه وآله وسلم( عن ذلك ،رجعوا في باب الحتجاج معه فقالوا :ما بالك وأنت
رسول ال تأكل الطعام ،وتقف بالسواق! فعّيروه بأكل الطعام ،لّنهم أرادوا أن يكون الّرسول ملكًا،
وعّيروه بالمشي في السواق حين رأوا الكاسرة والقياصرة والملوك والجبابرة يترفعون عن
السواق ،وكان)عليه السلم(يخالطهم في أسواقهم ،ويأمرهم وينهاهم ،فقالوا :هذا يريد أن يتملك
:علينا ،فما له يخالف سيرة الملوك؟ فأجابهم ال بقوله ،وأنزل على نبّيه
][221
ل أّنهم ليأكلون الطعام ويمشون في السواق(فل تغتم ول(
وما أرسلنا من قبلك من المرسلين إ ّ
)تحزن ،فأّنها شكاة ظاهٌر عنك عاُرها"1).
الّتفسير
هكذا كان جميع النبياء
في عّدة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين بهذه الصيغة :لماذا يأكل رسول ال
الطعام ،ويمشي في السواق؟ وأجيب عليها بجواب إجمالي ومقتضب ،أّما الية مورد البحث
فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جوابًا أكثر تفصيل وصراحة ،فيقول تعالى) :وما أرسلنا قبلك
من المرسلين إّل أّنهم ليأكلون الطعام ويمشون في السواق( فقد كانوا من البشر ويعاشرون
.الناس ،وفي ذات الوقت )وجعلنا بعضكم لبعض فتنة( وامتحانًا
ن اختيار النبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير وهذا المتحان ،قد يكون بسبب أ ّ
صة إذا
ن البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم ،خا ّ المحرومة هو امتحان عظيم بذاته ،ل ّ
ى واطىء من حيث اِلمكانات المادية ،وهم في مستوى عال ماديًا ،أو أن أعمارهم كان في مستو ً
.أكبر ،أو أّنهم أكثر شهرة في المجتمع
ن الناس عمومًا بعضهم لبعض فتنة ،ذلك أن ويرد احتمال آخر في المراد بالفتنة ،وهو أ ّ
المتقاعدين والعجزة والمرضى واليتام والمزمنين فتنة للقوياء والصحاء السالمين ،وبالعكس،
ن الفراد الصحاء القوياء فتنة للضعفاء والعجزة .فإ ّ
ن الفريق الّثاني راض برضا ال! أم ل؟ ُترى هل أ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ وإن كان قد جاء مضمون الرواية أعله في كثير من التفاسير ،ولكن ما ذكرناه أعله مطابق 1
للرواية التي أوردها القرطبي في تفسيره "الجامع لحكام القرآن" ج ،13ص 5دار إحياء
.التراث العربي /بيروت
][222
!وهل أن الفريق الّول يؤدي مسؤوليته وتعهده إزاء الفريق الّثاني ،أم ل؟
من هنا ،ل تقاطع بين هذين الّتفسيرين فمن الممكن أن يجتمع كلهما في المفهوم الواسع للية
.في أن الناس بعضهم لبعض فتنة
:و على أثر هذا القول ،جعل الجميع موضع الخطاب فقال تعالى
أتصبرون(؟(
ن أهم ركن للنجاح في جميع هذه المتحانات هو الصبر والستقامة والشجاعة ...الصبر ذلك ل ّ
والستقامة أمام خيالت الغرور الذي يمنع من قبول الحق ...الصبر والستقامة أمام المشكلت
الناشئة من المسؤوليات وأداء الرسالت ،وكذلك الجلد أمام المصائب والحوادث الليمة التي ل
.تخلو منها حياة النسان على كل حال
ن من الممكن اجتياز هذا المتحان اللهي العظيم بقّوة الستقامة و الصبر1). )والخلصة :أ ّ
ويقول تعالى في ختام الية بصيغة التحذير) :وكان رّبك بصيرًا( فينبغي أل يتصور أحد أن شيئًا
من تصرفاته حيال الختبارات اللهية يظل خافيًا ومستورًا عن عين ال وعلمه الذي ل يخفى عليه
.شيء .إّنه يراها بدقة ويعلمها جميعًا
:سؤال
يرد هاهنا استفسار ،وهو أن رّد القرآن على المشركين في اليات أعله قائم على أن جميع
النبياء ،كانوا من البشر .وهذا ل يحّل المشكلة ،بل يزيد من حّدتها ،ذلك أن من الممكن أن يعمموا
.إشكالهم على جميع النبياء
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ من أجل توضيح أكثر في مسألة الختبارات اللهية ،والغاية من هذه الختبارات وسائر أبعاد 1
صل في ذيل الية ) (55من سورة البقرة .ذلك ،بحثنا ذلك بشكل مف ّ
][223
:و الجواب
ن اليات القرآنية المختلفة تدّل على أن إشكالهم على شخص الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(، أّ
...وكانوا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه وضعًا خاصًا به ،ولهذا كانوا يقولون :مالهذا الّرسول
يقول القرآن في جوابهم :ليس هذا منحصرًا بالّرسول العظم)صلى ال عليه وآله وسلم( أن يأكل
الطعام ويمشي في السواق ،فجميع النبياء كانت لهم مثل هذه الوصاف ،وعلى فرض أّنهم
سيعممون هذا الشكال على جميع النبياء ،فقد أعطى القرآن جوابهم أيضًا حيث يقول) :ولو
جعلناه ملكًا لجعلناه رجل( "كي يستطيع أن يكون أسوة وأنموذجًا للناس في كل مجالت" .إشارة
إلى أن النسان فقط يستطيع أن يكون مرشدًا للنسان ،فهو الواقف على جميع حاجاته ورغباته
.ومشكلته ومسائله
***
][224
اليات
عَتْو
سِهْم َو َ سَتْكَبُروْا ِفى َأنُف ِ
عَلْيَنا اْلَمَلـِئَكُة َأْو َنَرى َرّبَنا َلَقِد ا ْ
ن ِلَقآَءَنا َلْوَل ُأنِزَل َجو َ ن َلَيْر ُ
َوَقاَل اّلِذي َ
جورًا)(22 حُجرًا ّم ْ
حْ ن ِ جِرِمينَ َوَيقُوُلو َ شَرى َيْوَمِئذ ّلْلُم ْ ن اْلَمَلـِئَكَة َلُب ْ
عُتّوًا َكبيرًا)َ (21يْوَم َيَرْو َ ُ
خْيٌر ّمسَتَقّراجّنِة َيْوَمِئذ َب اْل َحـ ُصَ جَعْلَنـُه َهَبآًء ّمنُثورًا)َ (23أ ْ عَمل َف َ ن َ عِملُوْا ِم ْ
َوَقِدْمنآ ِإَلى َما َ
ن َمِقيل)24 سُ ح َ)وََأ ْ
الّتفسير
:الدعاءات الكبيرة
ن المشركين يصرون على الفرار من ثقل التعهدات والمسؤوليات التي يضعها على عواتقهم قلنا أ ّ
اليمان بال واليوم الخر ،فكانوا يقولون تارًة :لماذا يحتاج الّرسول إلى الطعام ويمشي في
.السواق؟ حيث قرأنا الجابة عليها في اليات السابقة
اليات الحالية ،تطرح شكلين آخرين من ذرائعهم وتجيب عليها ،فيقول
][225
).تعالى أّول) :وقال الذين ل يرجون لقاءنا لول أنزل علينا الملئكة أو نرى رّبنا
ن الّنبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا .لكن أن يتنزل الوحي عليه فعلى فرض أّننا سنقبل أ ّ
وحده ،ول نراه نحن ،فهذا مال يمكن القبول به ،ما المانع من أن يظهر الملك فيؤّكد صحة نبوة
الّرسول؟ أو أن يسمعنا بعضًا من الوحي!؟ أو أن نرى رّبنا بأعيننا حتى ل يبقى عندنا مكان لي
شك أو شبهة!؟
).هذه هي السئلة التي تمنعنا من قبول دعوة محمد)صلى ال عليه وآله وسلم
المهم هو أن القرآن يصنف هؤلء المتعللين بالذرائع تحت عنوان )ل يرجون لقاءنا( ،حيث يدل
ن منبع هذه القوال الواهية هو عدم اليمان بالخرة ،وعدم القبول بالمسؤولية أمام ال .على أ ّ
في الية ) (7من سورة الحجر نقرأ أيضًا شبيهًا لهذا القول ،حيث قالوا )لو ما تأتينا بالملئكة إن
كنت من الصادقين( وقرأنا أيضًا في مطلع سورة الفرقان هذه أن المشركين كانوا يقولون) :لول
).أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرًا
في حين أن من حق أي إنسان لثبات قضية ما ،أن يطالب بالدليل فقط .أّما نوع الدليل ،فمن
المسّلم أّنه ل فرق فيه ،في الوقت الذي أثبت رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(ـ بإظهار
المعجزات ومن جملتها القرآن نفسه ـ حقانية دعوته بوضوح ،إذن فما معنى هذه الذرائع؟
وأفضل دليل على أّنهم لم يكونوا يقولون هذه القوال من أجل التحقيق حول نبوة الّنبي ،هو أّنهم
طلبوا أن يشاهدوا الخالق ،وأنزلوه إلى حّد جسم يمكن رؤيته ،ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو
بني إسرائيل أيضًا ،فسمعوا الجواب القاطع على ذلك ،حيث ورد شرحه في سورة العراف الية
143 .
لذا يقول القرآن في الجابة على هذه الطلبات في آخر الية مورد البحث) :لقد استكبروا في
).أنفسهم وعتو عتوًا كبيرًا
،العتو" على وزن "غلو" ،بمعنى المتناع عن الطاعة ،والتمرد على المر"
][226
.مصحوبًا بالعناد واللجاجة
ن هؤلء صاروا أسارى الغرور والتكّبر في و تعبير "في أنفسهم" من الممكن أن يكون بمعنى :أ ّ
أنفسهم .ومن الممكن أن يكون أيضًا بمعنى أّنهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه
.المعاذير
في عصرنا وزماننا أيضًا ،يوجد أشخاص يكررون منطق المشركين الغابرين ،فيقولون :مادمنا ل
نرى ال في مختبراتنا ،ول نشاهد الروح تحت مبضع الجراحة ،فلن نصّدق! بوجودهما ومنبع
.الثنين واحد وهوا الستكبار والعتو
ن جميع الشخاص الذين يحصرون وسائل المعرفة في الحس والتجربة و من حيث الصل ،فإ ّ
فقط ،يكررون نفس هذا القول بشكل ضمني ،فكّل الماديين داخلون في هذا الصنف ،في حين أ ّ
ن
.الحواس ل تدرك إّل جزًء ضئيل ل يذكر من مادة هذا العالم
ن هؤلء الذين يطلبون أن يروا الملئكة ،سوف يرونهم آخر ثّم يقول تعالى بصيغة التهديد :إ ّ
)المر ،لكن )يوم يرون الملئكة ل بشرى يومئذ للمجرمين(1).
بلى سوف لن ُيسّروا برؤية الملئكة في ذلك اليوم ،لّنهم سيرون علمات العذاب برؤيتهم
الملئكة ،وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أّنهم سيطلقون صرخات اِلستغاثة التي كانوا يطلقونها
في الدنيا حال اِلحساس بالخطر أمام الخرين ،فيقولون :اَلمان ..اَلمان ،اعفوا عّنا) :ويقولون
).حجرًا محجوراً
ن النار التي هم أوقدوها
ولكن ل هذه الجملة ـ ولغيرها ـ لها أثر على مصيرهم المحتوم ،ذلك ل ّ
ستلتهم أطرافهم شاءوا أم أبوا ،وستتجسد أمامهم العمال السيئة التي ارتكبوها ،فل يملكون شيئًا
.لنفسهم
كلمة "حجر" )على وزن قشر( تقال في الصل للمنطقة التي حجروها
ــــــــــــــــــــــــــــ
سرين ،ويحتمل أيضًا أن تكون لنشاء 1 ـ كلمة )ل( ها هنا ،قد تكون للنفي ،كما قال كثير من المف ّ
الدعاء السلبي ،حيث يصبح معنى الجملة في هذه الصورة ،هكذا" :في ذلك اليوم ل كانت بشرى
".للمجرمين
][227
وجعلوها ممنوعة الورود ،وعندما يقال "حجر إسماعيل" فلن حائطًا ُأنشيء حوله فحجز داخله.
يقولون للعقل أيضًا "حجرًا" لّنه يمنع النسان من العمال المخالفة .لذا نقرأ في الية ) (5من
سورة الفجر )هل في ذلك قسم لذي حجر( ،وأيضًا "اصحاب الحجر" الذين ورد اسمهم في القرآن
)الية 80من سورة الحجر( وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لنفسهم بيوتًا حجرية محكمة
.في قلوب الجبال ،فكانوا يعيشون في أمانها
".هذا في ما يخص كلمة "حجر
أّما جملة "حجرًا محجورًا"فقد كانت اصطلحًا بين العرب ،إذا التقوا بشخص يخافونه ،فأّنهم
.يقولون هذه الجملة أمامه لخذ المان
صة في الشهر الحرم ،حيث كانت الحرب ممنوعة ،فحينما يواجه كان هذا عرف العرب ،خا ّ
شخص آخر ،ويحتمل خرق هذا الُعرف والتعرض للذى ،فإّنه يكرر هذه الجملة ،والطرف المقابل
.ـ أيضًا ـ مع سماعة لها كان يعطيه المان ،فيخرجه من القلق والضطراب والخوف
ن معنى الجملة المذكورة هو" :أريد المان ،المان الذي ل رجعة فيه ول تغيير"1). )على هذا فإ ّ
ن المجرمين هنا هم أصحاب هذا القول ،وتناسب الفعال الموجودة في اّتضح مّما قلناه أعله ،أ ّ
الية ،والسير التاريخي ،وسابقة هذه الجملة في أوساط العرب ـ أيضًا ـ يستدعي هذا ،ولكن
ن الملئكة هم أصحاب هذا القول ،و هدفهم منع المشركين من رحمة ال .البعض احتمل أ ّ
ن أصحاب هذا القول هم المجرمون ،يقولونه بعضهم لبعض ،ولكن الظاهر هو وقال آخرون :إ ّ
سرين ،أو ذكروه كأّول
المعنى الول ،حيث اختاره كثير من المف ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ن "حجرًا" مفعول لفعل مقدر و "محجورًا" جاءت للتوكيد ،فهي في 1 ـ ومن الناحية الدبية فإ ّ
).الصل )أطلب منك منعًا ل سبيل إلى رفعه ودفعه
][228
)تفسير لذلك1).
سرون احتمالين :أحدهما: أّما أي يوم ذلك اليوم الذي يلتقي فيه المجرمون بالملئكة؟ فقد ذكر المف ّ
هو يوم الموت حيث يرى النسان ملك الموت ،كما نقرأ في الية ) (93من سورة النعام) :ولو
ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم( .والّثاني :أ ّ
ن
.المقصود هو يوم القيامة والنشور ،حيث يكون المجرمون أمام ملئكة العذاب فيشاهدونهم
و مع النتباه إلى اليات التية التي تتكلم عن النشور ،خصوصًا جملة )يومئذ( التي تشير إليه،
ن الّتفسير الّثاني هو القرب.يتبّين أ ّ
الية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلء المجرمين في الخرة ،فتقول) :وقدمنا إلى ما عملوا
).من عمل فجعلناه هباًء منثورًا
كلمة "العمل" على ما قاله "الراغب" في المفردات بمعنى :كل فعل يكون بقصد ،ولكن الفعل أعم
)منه ،فهو يطلق على الفعال التي تكون بقصد أو بغير قصد2).
جملة "قدمنا" من "القدوم" بمعنى "المجيء" أو "الذهاب على أثر شيء" وهي هنا دليل على
تأكيد وجّدية المسألة ،يعني مسّلما وبشكل قاطع أن جميع أعمال ُأولئك التي قاموا بها عن قصد
وإرادة ـ وإن كانت أعمال خير ظاهرًا ـ سنمحوها كما تمحى ذرات الغبار في الهواء ،لشركهم
.وكفرهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ تفسير الميزان ،تفسير الفخر الرازي ،في ظلل القرآن ،تفسير أبو الفتوح الرازي ،ذيل آية 1
.البحث
ن له بيانًا خلف ذلك في مادة "فعل"2 .
ـ يذهب )الراغب( الى هذا الفرق في مادة "عمل" ،ولو أ ّ
لكن مع اللتفات إلى موارد استعمال هاتين الكلمتين يكون هذا الفرق صحيحًا ،طبعًا يمكن أن يكون
".له استثناءات كما يقولون للثيران التي تعمل "عوامل
][229
:آفات العمل الصالح
كلمة "هباء" بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جّدا التي ل ُترى بالعين المجّردة وفي الحال العادية أبدًا
إّل في الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو ُكّوة ،فيكشف عن هذه
.الذرات ويمكن مشاهدتها
هذا التعبير يدل على أن أعمال ُأولئك ل قيمة لها ول اثر إلى حّد كأّنهم لم يعملوا شيئًا ،وإن كانوا
.قد سعوا واجتهدوا سنين طويلة
هذه الية نظيرة الية ) (18من سورة إبراهيم التي تقول) :مثل الذين كفروا برّبهم أعمالهم
).كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف
ن الشيء الذي يعطي عمل النسان الشكل والمحتوى ،هو الدليل المنطقي لذلك واضح أيضًا ،ل ّ
الّنية والدافع وغاية العمل النهائية ،فأهل اليمان يتوجهون لنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى
أساس أهداف مقدسة طاهرة ،وخطط سليمة صحيحة ،في حين أن من ل إيمان لهم ،فغالبًا يقعون
.أسارى التظاهر والرياء والغرور و العجب ،فيكون سببًا في انعدام أية قيمة لعمالهم
على سبيل المثال ،نحن نعرف مساجد من مئات السنين ،لم تترك عليها القرون الماضية أدنى
تأثير ،وبعكسها نرى بيوتًا تظهر فيها الشروخ وعلمات الضعف مع مضي شهر واحد أو سنة
واحدة ،فاُلولى بنيت من كل النواحي بناًء محكمًا بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية ،أّما
الّثانية فلن الهدف من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة ،فالعناية فيها
)كانت بالزخرفة فقط1).
من وجهة نظر المنطق السلمي ،فإن للعمال الصالحة آفات ،ينبغي مراقبتها بدقة ،فقد يكون
العمل أحيانًا خرابًا وفاسدًا منذ البداية ،كمثل العمل الذي يتخذ
ــــــــــــــــــــــــــــ
).ـ بحثنا في هذا الصدد بصورة أكثر تفصيل في )ذيل الية 18من سورة إبراهيم 1
][230
ء(
).ريا ً
و احيانًا ُاخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو اصاب النسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة
.عمله بسبب ذلك
و قد يمحى أثر العمل الصالح بعد النتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية ،كمثل النفاق
.الذي تتبعه "مّنة" ،أو كالعمال الصالحة التي يعقبها كفر وارتداد
حتى ارتكاب الذنوب أحيانًا يترك أثره على العمل الصالح بعدها ـ طبقًا لبعض الّروايات السلمية ـ
)كما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث ل تقبل أعماله عند ال أربعين يومًا1).
على أية حال ،فللسلم منهج فذ ،دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح .نقرأ في
:حديث عن المام الباقر)عليه السلم( قال
يبعث ال عّزوجّل يوم القيامة قومًا بين أيديهم نور كالقباطي ،ثّم يقول له) :كن هباًء منثورًا( ثّم
قال :أّما وال ـ يا أبا حمزة ـ إّنهم كانوايصومون ويصلون ،ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من
الحرام أخذوه ،وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين )عليه السلم( أنكروه ،قال :والهباء
)المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس"2).
و بما أن القرآن ـ عادة ـ يضع الحسن والسيء متقابلين حتى يّتضح وضع كل منهما بالمقايسة
ن الية التي بعدها تتحدث عن أهل الجّنة فتقول) :أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن فإ ّ
).مقيل
ن صيغة "أفعل ن وضع أهل جهنم حسن ،ووضع أهل الجّنة أحسن ،ل ّ ليس معنى هذا الكلم أ ّ
التفضيل" تأتي أحيانًا حيث يكون أحد الطراف واجدًا
ــــــــــــــــــــــــــــ
".ـ سفينة البحار ،ج ،1ص ،427مادة "خمر 1
.ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقًا لنقل نور الثقلين ،ج ،4ص 2 9
][231
صلت) :أفمن ُيلقى في الّنار
للمفهوم ،وآلخر فاقدًا له كليًا .مثل نقرأ في الية ) (40من سورة ف ّ
).خير أم من يأتي آمنًا يوم القيامة
.مستقر" بمعنى محل الستقرار"
و "مقيل" بمعنى محل الستراحة في منتصف النهار ،من مادة "قيلولة" ،وقد جاءت بمعنى النوم
.منتصف النهار
***
][232
اليتان
ن َيْومًا
ن وَكا َ
حَمـ ِ
ق ِللّر ْ
ح ّ
ك َيْوَمِئذ اْل َ
سَمآُء ِباْلَغَمـِم َوُنّزَل اْلَمَلـِئَكُة َتنِزيل )(25اْلُمْل ُ
ق ال ّ
شّق َُو َيْوَم َت َ
سيرًا)26 ع ِن َعَلى اْلَكـِفِري َ)َ
الّتفسير
:تشقق السماء بالغمام
مّرة أخرى يواصل القرآن في هذه اليات البحث حول القيامة ،ومصير المجرمين في ذلك اليوم،
فيقول أّول :إن يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم:
))ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملئكة تنزيل(1).
الغمام" من "الغم" بمعنى ستر الشيء ،لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس يقال له "الغمام""،
".وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسّمونه "الغم
ــــــــــــــــــــــــــــ
رت 1
ـ جملة "يوم تشقق السماء" في الواقع عطف على جملة "يوم يرون الملئكة" التي م ّ
ن "يوم" هنا متعلق بذلك الشيء الذي كان في الية السابقة ،يعني جملة "ل سابقًا ،وعلى هذا فأ ّ
بشرى" .ويعتقد جماعة أّنه متعلق بفعل مقّدر ،مثل )أذكْر( و "الباء" في "الغمام" يمكن أن تكون
.بمعنى الملبسة ،أو بمعنى "عن" ،أو للسببية كما تقدم في تفسير اليات أعله
][233
هذه الية ـ في الحقيقة ـ رّد على طلبات المشركين ،وعلى إحدى ذرائعهم ،لّنهم كانوا يتوقعون أن
يأتي ال والملئكة ـ طبقًا لساطيرهم وخرافاتهم من خلل الغيم ،فيدعونهم إلى الحق ،وفي
ن ال أحيانًا يظهر ما بين الغيوم1).
)أساطير اليهود جاء ـ أيضًا ـ أ ّ
يقول القرآن في الرّد عليهم :نعم الملئكة )وليس ال( يأتون إليهم يومًا ما ،لكن أي يوم؟ اليوم
.الذي تتحقق فيه مجازاة وعقوبة هؤلء المجرمين ،وينهي ادعاءاتهم الباطلة
ولكن ما هو المقصود من تشقق السماء بالغمام ،مع أّننا نعلم أن ل وجود حولنا لشيء يسمى
السماء ،يكون قابل للتشقق؟
سرين مثل "العلمة الطباطبائي" في تفسير "الميزان" :المقصود هو تشقق سماء قال بعض المف ّ
عالم الشهود ،وزوال حجاب الجهل والغباء وظهور عالم الغيب ،فيكون للنسان إدراك ورؤية
تختلف كثيرًا عّما هي عليه اليوم ،فحينئذ تزول الحجب ،فيرون الملئكة وهي تتنزل من العالم
.العلى
ن المقصود من السماء هو الجرام السماوية التي تتلشى على أثر ثّمة تفسير آخر ،هو أ ّ
انفجارات متوالية ،فيمل الغيم الحاصل من هذه النفجارات ومن تلشي الجبال صفحة السماوات،
)وبناًء على هذا فالفلك السماوية تتشقق مع الغيوم الحاصلة من ذلك2).
آيات كثيرة من القرآن المجيد ،خصوصًا التي وردت في السور القصار آخر القرآن ،تبّين هذه
الحقيقة ،حيث تمل جميع عوالم الوجود تغيرات عظيمة ،وانقلب وتحول عجيب ،تتلشى الجبال
وتتناثر في الفضاء كذرات الغبار ،الشمس تفقد نورها وكذلك النجوم .ويلتقي الشمس والقمر،
وتمل نواحي الرض
ــــــــــــــــــــــــــــ
).ـ في ظلل القرآن ،ج ،6ص ) 154ذيل الية مورد البحث 1
.ـ "الباء" من الناحية الدبية في هذه الحالة للملبسة 2
][234
.زلزلة وهّزة عجيبة
س السماء بغيوم كثيفة،
نعم ،في مثل ذلك اليوم ،زوال السماء ،بمعنى الجرام السماوية ،وتلّب ُ
.سيكون أمرًا طبيعيًا
:من الممكن توضيح نفس هذا الّتفسير بنحو آخر
شّدة التغيرات ،وانفجارات الكواكب والسيارات يصير سببًا في تغطية السماء بغيم كثيف ،ولكن
توجد انشقاقات بين هذا الغيم ،وعلى هذا فالسماء التي ترى بالعين في الحوال العادية ،تتشقق
)بواسطة هذه الغيوم النفجارية العظيمة1).
تفسيرات أخرى قيلت لهذه الية أيضًا ل تتوافق مع الصول العلمية والمنطقية ،وفي نفس الوقت
فالّتفسيرات الثلثة النفة ل تتنافى مع بعضها ،فمن الممكن أن ترتفع حجب العالم المادي عن
عين النسان من جهة ،فيشاهد عالم ماوراء الطبيعة ،ومن جهة ُأخرى ستتلشى الجرام
السماوية ،وتظهر الغيوم النفجارية ،فتبرز التشققات ما بينها في ذلك اليوم ،يوم نهاية هذا العالم
.وبداية النشور ،يوم أليم جّدا للمجرمين الظالمين المعاندين الذين ل إيمان لهم
).بعد ذلك يتناول القرآن الكريم أوضح علئم ذلك اليوم فيقول) :الملك يومئذ الحق للرحمن
حتى ُأولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع
الزوال ،يخرجون أيضًا من دائرة الملك ،فتكون الحاكمية من كّل النواحي وجميع الجهات لذاته
صة ،وبهذا )وكان يومًا على الكافرين عسيرًا ).المقدسة خا ّ
صة ،فتتداعى قلع الكافرين،
نعم ،في ذلك اليوم تزول القوى الكاذبة تمامًا ،وتكون الحاكمية ل خا ّ
وتزول قوى الجبابرة والطواغيت ،وإن كانوا جميعًا في
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ في هذه الحالة "الباء" في "بالغمام" للسببية 1
][235
هذا العالم ـ أيضًا ـ ل شيء أمام إرادته تبارك وتعالى .واذا كان لهم في هذه الدنيا بهرجة ،فبأي
ملذ يلوذون من الجزاء اللهي في يوم القيامة ،يوم انكشاف الحقائق وزوال المجازات والخيالت
والوهام ،ولهذا سيكون ذلك اليوم يومًا بالغ الصعوبة عليهم ،في الوقت الذي يكون على
.المؤمنين سهل يسيرًا وهينًا جّدا
في حديث عن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( )في يوم كان
مقداره خمسين ألف سنة( فقلت :ما أطول هذا اليوم!؟ فقال الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(
ف عليه من صلة المكتوبة يصليها في "والذي نفسي بيده إّنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخ ّ
)الدنيا"1).
والتأمل الدقيق في سائر آيات القرآن يكشف عن دلئل صعوبة ذلك اليوم على الكافرين ،ذلك أّننا
)نقرأ من جهة )و تقطعت بهم السباب(2).
)و من جهة أخرى )ما أغنى عنه ماله وما كسب(3).
)و من جهة ثالثة )يوم ل ُيغني مولى عن مولى شيئًا(4).
حتى الشفاعة التي هي وحدها طريق النجاة ،تكون للمذنبين الذين كانت لهم صلة بال وبأولياء
)ال )من ذا الذي يشفع عنده إلبإذنه(5).
!!وايضًا )فل يؤذن لهم فيعتذرون( (6)،فل يسمح لهم بالعتذار ،فما بالك بقبول العذار الواهية
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير القرطبي "الجامع لحكام القرآن" ،ج ،13ص ;23ج ،7ص 1 4739
.ـ سورة البقرة،الية 2 166
.ـ سورة تّبت ،الية 3 2
.ـ سورة الدخان ،الية 4 41
.ـ سوره البقرة ،الية 5 255
.ـ سورة المرسلت ،الية 6 36
][236
اليات
خْذ
سِبيل)َ (27يـَوْيَلَتى َلْيَتِنى َلْم َأّت ِ سوِل َ ت َمَع الّر ُ
خْذ ُ
عَلى َيَدْيِه َيُقوُل َيـَلْيَتِنى اّت َظاِلُم َ
ض ال ّ
َوَيْوَم َيَع ّ
خُذول)29 ن َ سـ ِلن َ
ن ِل ِْ
طـ ُ
شْي َ
ن ال ّ
جآَءِنى َوَكا َ
ن الّذْكِر َبْعَد ِإْذ َعِضّلِنى َ خِليل)ّ (28لَقْد َأ َ)ُفلنًا َ
سبب الّنزول
قال ابن عباس :نزل قوله تعالى) :ويوم َيعض الظالم( في عقبة بن أبي معيط ،وُأبي بن خلف"،
وكانا متخاّلين ،وذلك أن عقبة كان ل يقدم من سفر إّل صنع طعامًا فدعا إليه أشراف قومه ،وكان
يكثر مجالسة الّرسول ،فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعامًا ودعا الناس ،فدعا رسول ال)صلى
ال عليه وآله وسلم( إلى طعامه ،فلما قربوا الطعام قال رسول ال )صلى ال عليه وآله وسلم(:
ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن ل إله إّل ال وأّني رسول ال ،فقال عقبة :أشهد أن ل إله إّل
ت يا عقبة؟ قال :ل وال ما
ال وأشهد أن محمدًا رسول ال .وبلغ ذلك ُأبي بن خلف فقال :صبئ َ
ي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إّل أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من ت ،ولكن دخل عل ّ
صبأ ُ
ت براض عنك أبدًا حتى تأتي فتبزق في وجهه ت له فطعم ،فقال ُأبي :ما كن ُ
،بيتي ولم يطعم ،فشهد ُ
][237
ففعل ذلك عقبة وارتّد ،وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه ،فقال النبي)صلى ال عليه وآله وسلم(:
ت رأسك بالسيف ،فضرب عنقه يوم بدر صبرًا ،وأّما ُأبي بن خلف ل ألقاك خارجًا من مّكة إّل علو ُ
".فقتله النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( يوم ُأحد بيده في المبارزة
وقال الضحاك :لما بزق عقبة في وجه رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( عاد بزاقه في
.وجهه ،فأحرق خديه ،وكان أثر ذلك فيه حتى مات
)وقيل نزلت في كل كافر أو ظالم تبع غيره في الكفر أو الظلم وترك متابعة أمر ال تعالى1).
.نزلت اليات أعله لترسم صورة مصير الرجل الذي ُيبتلى بخليل ضال ،ويجره إلى الضلل
صا ،إّل أّنه ل يقيد مفهوم اليات أبدًا ،وعمومية المفهوم
ن سبب الّنزول وإن يكن خا ّ وقلنا مرارًا أ ّ
.تشمل جميع المصاديق
***
الّتفسير
أضلني صديق السوء
ض منها في اليات السابقة ،وفي هذه اليات اشارةيوم القيامة له مشاهد عجيبة ،حيث ورد بع ٌ
الى قسم آخر منها ،وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم ،يقول تعالى أّول) :ويوم
).يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الّرسول سبيل()2
ض" )على وزن سّد( بمعنى الزم بالسنان ،ويستخدم" ض" من مادة "ع ّ يع ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ مجمع البيان ،ج ،7ص 1 166
ـ جملة )يوم يعض الظالم (...عطف على "يوم يرون" التي مضت قبل عّدة آيات ،بعض يعتبرها 2
".أيضًا متعلقة بجملة مقدرة "اذكر
][238
هذا التعبير عادة بالنسبة إلى الشخاص المهووسين من شّدة الحسرة والسف ،كما في المثل
العربي ،لن النسان في مثل هذه الحالت ل يعض الصبع دائمًا ،بل يعض ظاهر اليد أحيانًا،
وكثيرًا ما يقال ـ كما في الية الية مورد البحث ـ "يديه" يعني كلتا اليدين حيث تبّين شّدة السف
.والحسرة بنحو أبلغ
و هذا العمل يصدر من هؤلء الشخاص حينما يطلعون على ماضيهم ،ويعتبرون أنفسهم
مقصرين ،فيصممون على اِلنتقام من أنفسهم بهذا الشكل لتهدئة سورة الغضب في نفوسهم
.والشعور بالراحة
وينبغي حّقا ،أن يسمى ذلك اليوم )يوم الحسرة( كما ورد هذا الوصف بالذات في القرآن ليوم
القيامة أيضًا )سورة مريم الية ،(39ذلك لن المجرمين يرون أنفسهم في أتعس حال بين يدي
الحياة الخالدة ،في الوقت الذي كانوا يستطيعون خلل أيام من الصبر والستقامة ومجاهدة النفس
واليثار أن يستبدلوا ذلك بحياة مشرفة وسعيدة ،وهو يوم أسف أيضًا حتى بالنسبة إلى
.المحسنين ،فهم يأسفون على أّنهم :لماذا لم يحسنوا أكثر
ن هذا الظالم المعتدي الغارق في عالم السف ،يقول):يا ويلتي ليتني لم ثّم يضيف القرآن الكريم أ ّ
)أتخذ فلنًا خليل(1).
واضح أن المقصود بـ "فلن" هو ذلك الذي أضله :الشيطان أو صديق السوء أو القريب الضال،
.وفرٌد مثل "ُأبي" لـ "عقبة" الذي ورد في سبب الّنزول
هذه الية ـ والية التي قبلها ـ تعرضان حالتي نفي وإثبات متقابلتين في مكان واحد ،يقول تعالى:
ت مع الّرسول سبيل( ،وهنا يقول...) :ليتني لم أتخذ فلنًا خليل( حيث كانت التعاسة )يا ليتني اتخذ ُ
.كلها في ترك الرتباط بالّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ،وقبول الرتباط بهذا الخليل الضال
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "خليل" تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله النسان مشاورًا لنفسه .وللخليل 1
.معان أخرى أيضًا قد أوردناها في ذيل الية ) (125من سورة النساء
][239
).ثّم يستمر ويقول) :لقد أضلني عن الذكر بعد إذجاءني
لو كانت الفاصلة كبيرة بيني وبين اليمان والسعادة الخالدة في الدنيا لم اكن آسف الى هذا الحد،
ولكني كنت قاب قوسين أو أدنى من السعادة الدائمة فصّدني رفيق السوء هذا عن عين ماء الحياة
.ظامئًا وأغرقني في دوامة التعاسة
ى واسع ،ويشمل كل اليات اللهية التي نزلت في الكتب" الذكر" في الجملة أعله ،له معن ً
.السماوية ،بل يدخل في إطاره كّل ما يوجب يقظة ووعي النسان
وفي ختام الية يقول تعالى) :وكان الشيطان للنسان خذول( ذلك لّنه يجر النسان إلى مواقع
،الخطر والطرق المنحرفة ،ثّم يتركه حيران ويذهب لسبيله
ن "خذول" صيغة مبالغة ،بمعنى كثير الخذلن .وينبغي النتباه إلى أ ّ
وحقيقة الخذلن هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام العتماد ،ولكن هذا الصديق يرفع يده
.عن مساعدته وإعانته تمامًا في اللحظات الحساسة
في هذه الجملة الخيرة )وكان الشيطان للنسان خذول( قد تكون من مقولة ال تعالى على سبيل
النذار لجميع الظالمين والظالين ،أو تتمة لمقولة هؤلء الفراد المتحسرين في القيامة ،ذكر
سرون تفسيرين ،وكل منهما منسجم مع معنى الية ،غير أن كونها مقولة ال تعالى أكثر المف ّ
.انسجامًا
***
بحث
:أثر الصديق في مصير اِلنسان
ل شك في أن عوامل بناء شخصية اِلنسان ـ بعد عزمه وإرادته وتصميمه ـ ُأمور مختلفة ،من
ن اِلنسان قابل للتأثر
أهمها الجليس والصديق والمعاشر ،ذلك ل ّ
][240
شاء أم أبى ،فيأخذ قسطًا مهمًا من أفكاره وصفاته الخلقية عن طريق أصدقائه ،ولقد ثبتت هذه
.الحقيقة من الناحية العلمية وعن طريق التجربة والمشاهدات الحسية أيضًا
صا لدى السلم إلى حّد أّنه نقل في الّروايات السلمية ،عن نب ّ
ي قابلية التأثر هذه نالت اهتمامًا خا ّ
ال سليمان)عليه السلم( أّنه قال" :ل تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب،
)فإّنما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه ،وينسب إلى أصحابه وأخدانه"1).
يقول المام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)عليه السلم( في خطبة له" :ومن اشتبه عليكم
أمره ولم تعرفوا دينه ،فانظروا إلى خلطائه ،فإن كانوا أهل دين ال فهو على دين ال ،وإن كانوا
ظ له من دين ال"2). )على غير دين ال ،فل ح ّ
ن أثر الصديق في سعادة وشقاوة إنسان ما قد يكون من أهم العوامل أحيانًا ،فقد يؤدي به حّقا ،إ ّ
.إلى دركات الشقاء البدي ،وقد يرقى به أحيانًا إلى غاية المجد
ن النسان قد يقترب من السعادة ،لك ّ
ن اليات الحالية وسبب نزولها ،تبّين ـ بوضوح ـ كيف أ ّ
وسوسة شيطانية واحدة من صديق سيء تقلبه رأسًا على عقب وتقلب مصيره ،حيث سيع ّ
ض
".على يديه من الحسرة يوم القيامة ،وستتعالى منه صرخة "ياويلتى
في كتاب "الِعشرة" وردت روايات كثيرة في نفس هذا الموضوع ،تبّين أن السلم شديد ودقيق
.وثاقب النظرة في مسألة اختيار الصديق
ُننهي هذا البحث القصير بنقل حديثين في هذا الموضوع ،ومن أراد الطلع أكثر في هذا
.الموضوع فليراجع كتاب "العشرة" من بحار النوار ،الجزء 74
ــــــــــــــــــــــــــــ
).ـ سفينة البحار ،ج ،2ص 27مادة )صدق 1
.ـ بحار النوار ،ج ،74ص 2 197
][241
نقرأ في حديث عن التاسع من أئمة السلم العظام ،المام محمد التقي الجواد)عليه السلم( "ِاّياك
)ومصاحبة الشرير ،فإنه كالسيف المسلول ،يحسن منظره ويقبح أثره"1).
وقال الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم(" :أربع يمتن القلب :الذنب على الذنب...
)ومجالسة الموتى" قيل له :يا رسول ال ،وما الموتى؟ قال" :كل غني مترف"2).
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ بحار النوار ج 74ص 1 198
.ـ الخصال ،للصدوق ،طبقًا لنقل بحار النوار ،ج ،74ص 2 195
][242
اليات
الّتفسير
ن الناس قد هجروا القرآن:إلهي ،إ ّ
كما تناولت اليات السابقة أنواعًا من ذرائع المشركين والكافرين المعاندين ،تتناول الية اُلولى
في مورد البحث هنا حزن وشكاية الّرسول العظم)صلى ال عليه وآله وسلم( بين يدي ال
:عّزوجّل من كيفية تعامل هذه الفئة مع القرآن ،فتقول
][243
ن قومي اّتخذوا هذا القرآن مهجورًا((1).
بإّ
)وقال الّرسول يا ر ّ
قول الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( هذا ،وشكواه هذه ،مستمران إلى هذا اليوم من فئة
عظيمة من المسلمين ،يشكو بين يدي ال أّنهم دفنوا القرآن بيد النسيان ،القرآن الذي هو رمز
الحياة ووسيلة النجاة ،القرآن الذي هو سبب النتصار والحركة والترقي ،القرآن الممتلىء ببرامج
.الحياة ،هجروا هذا القرآن فمّدوا يد الستجداء إلى الخرين ،حتى في القوانين المدنية والجزائية
إلى الن ،لو تأملنا في وضع كثير من البلدان اِلسلمية ،خصوصًا ُأولئك الذين يعيشون تحت
ن القرآن بينهم كتاب للمراسم والتشريفات ،يذيعون هيمنة الشرق والغرب الثقافية ،لوجدنا أ ّ
ألفاظه وحدها بأصوات عذبة عبر محطات البث ،ويستخدمونه في زخرفة المساجد بعنوان الفن
المعماري ،ولفتتاح منزل جديد ،أو لحفظ مسافر ،وشفاء مريض ،وعلى الكثر للتلوة من أجل
.الثواب
ويستدلون بالقرآن ،أحيانًا وغايتهم إثبات أحكامهم المسّبقة الخاطئة من خلل الستعانة باليات،
.وبالستفادة من المنهج المنحرف في الّتفسير بالرأي
في بعض البلدان السلمية ،هناك مدارس في طول البلد وعرضها بعنوان :مدارس "تحفيظ
القرآن" وفريق عظيم من الولد والبنات مشغولون بحفظ القرآن ،في الوقت الذي تؤخذ أفكارهم
عن الغرب حينًا ،وعن الشرق حينًا آخر ،وتؤخذ قوانينهم وقراراتهم من الجانب ،أّما القرآن
.فغطاء لمخالفاتهم فقط
ن قومي اّتخذوا هذا القرآنبإّنعم ،اليوم أيضًا يصرخ النبي)صلى ال عليه وآله وسلم() :يا ر ّ
،مهجورًا( .مهجورًا من ناحية لّبه ومحتواه ،متروكًا من ناحية الفكر والتأمل
ــــــــــــــــــــــــــــ
ن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( كان قد ذكر 1 ـ الظاهر أن جملة "قال" فعل ماض ،تدل على أ ّ
سرين أيضًا على هذا العتقاد ،لكن بعضًا هذا القول على سبيل الشكوى في هذه الدنيا ،وأكثر المف ّ
آخر مثل "العلمة الطباطبائي" في "الميزان" يعتقدون أن هذا القول مرتبط بيوم القيامة ،والفعل
الماضي هنا بمعنى المضارع .وذكر العلمة الطبرسي في مجمع البيان أيضًا هذا على سبيل
الحتمال ،لكن الية التي بعدها ،والتي فيها جنبة مواساة للّنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( دليل
.على أن الّتفسير المشهور هو الصح
][244
.ومهمل من ناحية برامجه البناَءة
تقول الية التي بعدها في مواساة الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( ،حيث كان يواجه هذا
).الموقف العدائي للخصوم) :وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين
لست وحدك قدواجهت هذه العداوة الشديدة لهذه الفئة ،فقد مرّ جميع النبياء بمثل هذه الظروف،
.حيث كان يتصدى لمخالفتهم فريق من )المجرمين( فكانوا يناصبونهم العداء
).ولكن إعلم أّنك لست وحيدًا ،وبل معين )وكفى برّبك هاديًا ونصيرًا
ن ال هاديك ،ول مؤامراتهم تستطيع ،أن تحطمك ،لن الخالق فل وساوسهم تستطيع أن تضلك ،ل ّ
.معينك ،الخالق الذي علمه فوق كل العلوم ،وقدرته أقوى من كل القدرات
الية التي بعدها ،تشير أيضًا إلى ذريعة ُأخرى من ذرائع هؤلء المجرمين المتعللين بالمعاذير،
).فتقول) :وقال الذين كفروا لول نّزل عليه القرآن جملة واحدة
أليس القرآن جميعه من قبل ال!؟ أليس من الفضل أن ينزل جميع محتوى هذا الكتاب دفعة
واحدة حتى يقف الناس على عظمته أكثر؟ ولماذا تتنزل هذه اليات تدريجيًا وعلى فواصل زمنية
مختلفة؟
صة إذا كانوا من
و قد يأخذ هذا الشكال في كيفية نزول القرآن مأخذه من الفراد السطحيين ،خا ّ
المتمحلين للعذار بأن هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس ومصدر كل حياة المسلمين،
ومحور كل قوانينهم السياسية و الجتماعية والحقوقية والعبادية ،لماذا لم ينزل كامل ودفعة
ي السلم)صلى ال عليه وآله وسلم( ،حتى يقرأه أتباعه من البداية إلى النهاية واحدة على نب ّ
فيطلعون على محتواه .واساسًا فقد كان الفضل للنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أيضًا أن يكون
ذا اطلع على جميع هذا القرآن دفعة واحدة ،كيما يجيب الناس فورًا على كل ما يسألونه ويريدون
][245
.منه
ولكن القرآن في تتمة نفس هذه الية يجيبهم) :وكذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيل(.وقد غفل
ُاولئك السطحيون عن هذه الحقيقة ،فل شك أن نزول القرآن التدريجي له ارتباط وثيق بتثبيت قلب
.الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( والمؤمنين ،وسيأتي بحث مفصل عن ذلك في نهاية هذه اليات
ثّم للتأكيد أكثر على هذا الجواب يقول تعالى) :ول يأتونك بمثل إّل جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا(.
ق يقمعأي أّنهم ل يأتون بمثل أو مقولة أو بحث لضعاف دعوتك ومقابلتها ،إّل آتيناك بكلم ح ّ
.كلماتهم الجوفاء وأدلتهم الخاوية بأحسن بيان وأفضل تفسير
ن هؤلء العداء الحاقدين استنتجوا ـ بعد مجموعة من إشكالتهم ـ أن محّمدا وأصحابه مع وبما أ ّ
ن ذكر هذا القول ل
صفاتهم هذه وكتابهم هذا وبرامجهم هذه شّر خلق ال )العياذ بال( ،ول ّ
ن ال سبحانه يتناول الجابة على هذا القول في الية يتناسب مع فصاحة وبلغة القرآن ،فإ ّ
:الخيرة مورد البحث دون أن ينقل أصل قولهم ،يقول
ل سبيل( ).الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شّر مكانًا وأض ّ
نعم ،تتضح هناك نتيجة منهاهج حياة الناس ،فريق لهم قامات منتصبة كشجر السرو ،ووجوه
منيرة كالقمر ،وخطوات واسعة ،يتوجهون بسرعة إلى الجّنة ،في مقابل فريق مطأطئي رؤوسهم
إلى الرض ،تسحبهم ملئكة العذاب إلى جهّنم ،هذا المصير المختلف يكشف عمن كان ضال
!وشقيًا! ومن كان مهتديًا وسعيدًا؟
***
بحوث
وا 1
ي عد ّ ).ـ تفسير )جعلنا لكل نب ّ
يفهم من هذه الجملة ـ أحيانًا ـ أن ال من أجل مواساة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( يقول:
لست
][246
وحدك لك عدّو ،بل لقد جعلنا لكل نبي عدّوا ،ولزم هذا القول إسناد وجود أعداء النبياء إلى ال
سرون أجوبة تعالى ،المر الذي ل يتفق مع حكمته ول مع أصل حرية وإرادة النسان .ذكر المف ّ
...متعددة على هذا السؤال
ن جميع متعلقاتنا ،قدرتنا ،قوانا ،عقلنا
قلنا مرارًا أن جميع أعمال النسان منسوبة إلى ال ،ل ّ
وفكرنا ،وحتى حريتنا واختيارنا أيضًا من عنده ،وعلى هذا فمن الممكن من هذه الناحية نسبة
ش في
وجود العداء للنبياء إلى ال ،دون أن يستلزم ذلك الجبر وسلب الختيار ،ول يرَد خد ٌ
!)مسؤوليتهم إزاء أعمالهم )فتأمل
مضافًا إلى أن وجود هؤلء العداء الشداء ومخالفتهم للنبياء ،يكون سببًا في أن يصبح
.المؤمنون أقوى في عملهم ،وأثبت قدمًا ،فيتحقق المتحان اللهي بالنسبة إلى الجميع
ي عدّوا
هذه الية في الحقيقة مثل الية ) (112من سورة النعام حيث تقول) :وكذلك جعلنا لكّل نب ّ
).شياطين اِلنس والجن ،يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا
أمام الزاهير تنمو الشواك ،وفي قبال المحسنين يوجد المسيئون ،دون أن تنتفي مسؤولية أي
.واحد من هاتين المجموعتين
ن المقصود من "جعلنا" هي أوامر ونواهي ومناهج النبياء البناءة التي تجر وقال البعض :إ ّ
.بعض الضالين إلى العداوة ،شاؤوا أم أبوا
.و إذا ُأسند ذلك إلى ال فلن الوامر والنواهي من جهته عّزوجّل
الّتفسير الخر :أن هنالك فئة يطبع ال على قلوبهم ويعمي أبصارهم ويصم أسماعهم بسبب
اِلصرار على الذنب واِلفراط في التعصب واللجاجة ،هذه الفئة يصبحون أعداء النبياء في نهاية
.المطاف ،أّما أسباب ذلك فهي بما قدموا لنفسهم
.ول منافاة بين هذه التفاسير الثلثة ،فمن الممكن أن تجتمع كلها في مفهوم الية
][247
ـ الثار العميقة لنزول القرآن التدريجي 2
صحيح أّنه كان للقرآن نزولن ،طبقًا للّروايات )بل لظاهر بعض اليات( :أحدهما" :نزول دفعي"
مّرة واحدة في ليلة القدر على قلب الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ،والخر" :نزول تدريجي"
في ثلث وعشرين سنة ،لكن بل شك أن الّنزول المعترف به الذي كان الّنبي والناس يتفاعلون
.معه دائمًا هو الّنزول التدريجى للقرآن
وهذا الّنزول التدريجي بالذات صار سببًا لستفهامات العداء :لماذا لم ينزل القرآن مّرة واحدة
ويجعل دفعة واحدة بين أيدي الناس ،حتى يكونوا أكثر إطلعًا وتفهمًا ،فل يبقى مكان للشك
والريبة؟
ن القرآن أجابهم جوابًا قصيرًا وجامعًا وبليغًا من خلل جملة )كذلك لنثبت بهولكن ـ كما رأينا ـ فإ ّ
.فؤادك( ،فكلما تأملنا فيها أكثر تتجلى آثار الّنزول التدريجي للقرآن أوضح
ن التشريعات إذا كانت تتنزل بشكل تدريجي تبعًا للحاجات ،ويكون لكل مسألة شاهد 1 ـ ل شك أ ّ
ي ،فستكون مؤثرة جّدا من ناحية "تلقي الوحي" وكذلك "إبلغ الناس ".ومصداق عين ّ
ن الشخص أو الشخاص المراد تربيتهم ينبغي أن يؤخذ بأيديهم خطوة مباديء التربية تؤّكد أ ّ
خطوة ،فينظم لهم لكل يوم برنامج ،ويسلكوا من المرحلة الدنى التي شرعوا منها إلى المراحل
.العلى والبرامج التي تتدرج بهذه الكيفية تكون أكثر مقبولية وأعمق أثرًا
ن القرآن ليس كتابًا عاديًا يبحث في موضوع أو 2 ـ إنّ هؤلء المعترضين غافلون أساسًا عن أ ّ
لمة التي تغيرت به ،واستلهمت منه في جميع أبعاد الحياة ول علم معين ،بل هو منهج حياتي ل ُ
.تزال
كثير من آيات القرآن نزلت في مناسبات تاريخية مثل معركة )بدر( و)ُأحد( و )الحزاب( و)حنين(،
سّنت التشريعات والستنتاجات من هذه وبذلك ُ
][248
الحوادث ،ترى هل يصح أن تكتب هذه مّرة واحدة وتعرض على الناس!؟
بعبارة ُأخرى :القرآن مجموعة من أوامر ونواه ،أحكام وقوانين ،تاريخ وموعظة ،ومجموعة من
الخطط ذات المدى الطويل أو القصير في مواجهة الحداث التي كانت تبرز أمام مسير اُلمة
السلمية ،كتاب ـ كهذا ـ يبّين وينفذ جميع مناهجه حتى قوانينه الكلية عن طريق الحضور في
ن دفعة واحدة
.ميادين حياة اُلمة ،ل يمكن أن ينظم وُيدّو َ
و هذا من قبيل أن يقوم قائد عظيم بكتابه ونشر جميع بياناته وإعلناته وأوامره ونواهيه ـ التي
يصدرها في المناسبات المختلفة ـ دفعة واحدة من أجل تسيير الثورةُ ،ترى هل يعتبر هذا العمل
عقلئيًا!؟
ـ الّنزول التدريجي للقرآن كان سبب ارتباط الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( الدائم والمستمر 3
بمبدأ الوحي مّما يجعل قلبه الشريف أقوى وإرادته أشّد .ومن غير الممكن إنكار تأثيره في
.المناهج التربوية
ن استمرار الوحي دليل على استمرار رسالة وسفارة الّنبي)صلى ال عليه 4 ـ من جهة أخرى فإ ّ
وآله وسلم( ،وسوف لن يترك مجال لوسوسة العداء لكي يقولوا :لقد بعث هذا الّنبي ليوم واحد!
ثّم تركه ربه ،كما نقرأ في التأريخ السلمي أن هذه الهمهمة ظهرت أثناء تأخر الوحي في بداية
.الدعوة ،فأنزلت سورة )والضحى( لنفي ذلك
ـ ل شك أّنه إذا كان مقررًا لمناهج السلم أن تنزل جميعها دفعة واحدة ،فقد كان من اللزم أن 5
ق دفعة واحدة أيضًا ،لن الّنزول بدون تطبيق ُيفقد الّنزول قيمته ،ومن المعلوم أن تطبيق تطّب َ
جميع المناهج أعم من العبادات كالزكاة والجهاد ،ورعاية جميع الواجبات والمتناع عن كل
.المحرمات دفعة واحدة ..عمل ثقيل جّدا قد يؤدي إلى فرار فئة كبيرة من السلم
.و بهذا يتبّين أن الّنزول التدريجي وبالتالي التطبيق التدريجي أفضل من جهات كثيرة
][249
ي واحد من هذه التشريعات في صورة الّنزول التدريجي سيتم هضمه
نأ ّ
و بعبارة ُأخرى :إ ّ
.واستيعابه بصورة جيدة ،وفي حالة تعرضه لبعض الستفهامات يمكن طرحها والجابة عليها
ـ وفائدة ُاخرى من فوائد الّنزول التدريجي هو اتضاح عظمة وإعجاز القرآن ،ذلك لن في كل 6
واقعة تنزل عّدة آيات كريمة تكون لوحدها دليل العظمة و العجاز ،وكلما يتكرر تتجلى أكثر هذه
.العظمة وهذا اِلعجاز ،فينفذ في أعماق قلوب الناس
***
][252
اليات
ن َكّذُبواْ ن َوِزيرًا)َ (35فُقْلَنا اْذَهَبآ ِإَلى اْلَقْوِم اّلِذي َ خاُه َهـُرو َجَعْلَنا َمَعُه َأ َ
ب َو َ
سى اْلِكَتـ ََوَلقَْد َءاَتْيَنا ُمو َ
عَتْدَنا
س ءاَيًة َوَأ ْ جَعْلنـُهْم ِللّنا ِ غَرْقنـُهْم َو َ سَل َأ ْ
ِبَأَيـِتَنا َفَدّمْرَنـُهْم َتْدِميرًا)َ (36وَقْوَم ُنوح ّلّما َكّذُبوْا الّر ُ
ضَرْبَنال َ ك َكِثيرًا )َ(38وُك ّ ن َذِل َس َوُقرُوَنًا َبْي َ ب الّر ّ صحـ َعادًا َوَثمُوَدْا َوَأ ْ عَذابًا َأِليمًا )َ(37و َن َ ظـِلِمي َِلل ّ
سْوِء َأَفَلْم َيُكوُنوْا َيَرْوَنَهاطَر ال ّ ت َم َطَر ْ عَلى اْلَقْرَيِة اّلِتى ُأْم ِ
لً َتّبْرَنا َتْتِبيرًا)َ (39وَلَقْد َأَتْوْا َ
َلُه َأْمَثـَل َوُك ّ
ن ُنشُورًا)40 )َبل َكاُنوْا ل َيْرجُو َ
الّتفسير
...مع كل هذه الدروس والعبر ،ولكن
أشار القرآن المجيد في هذه اليات إلى تاريخ اُلمم الماضية ومصيرهم المشؤوم مؤّكدا على ست
صة )الفراعنة ،وقوم نوح ،وقوم عاد ،وثمود ،وأصحاب الّرس ،وقوم لوط( وذلك لمواساةأمم بخا ّ
الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( من جهة ،ولتهديد
][253
المشركين المعاندين الذين مّر أنموذج من أقوالهم في اليات السابقة ،من جهة ُأخرى ويجسد
.دروس العبرة من مصير هذه القوام بشكل مختصر وبليغ تمامًا
).يقول أّول) :ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرًا
فقد القيت على عاتقيهما لمسؤولية الثقيلة في جهاد الفراعنة ،ويجب عليهما مواصلة هذا العمل
الثوري بمساعدة أحدهما الخر حتى يثمر )فقلنا إذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا( فإّنهم قد
كذبوا دلئل ال وآياته التي في الفاق وفي النفس وفي كل عالم الوجود ،وأصروا على طريق
الشرك وعبادة الصنام من جهة ..ومن جهة أخرى أعرضوا عن تعاليم النبياء السابقين
.وكذبوهم
ولكن بالرغم من جميع الجهود والمساعي التي بذلها موسى وهارون،بالرغم من رؤية كل تلك
المعجزات العظيمة والبينات المتنوعة ،أصروا أيضًا على طريق الكفر واِلنكار ،لذا )فدمرناهم
).تدميرًا
كلمة "تدمير" من مادة "دمار" بمعنى الهلك بُأسلوب يثير العجب ،حيث كان هلك قوم فرعون
.في أمواج النيل المتلطمة بتلك الكيفية المعروفة من عجائب التاريخ حقًا
وكذلك) :وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ،واعتدنا للظالمين عذابًا
).أليمًا
ن ُأولئك كذبوا الرسل )ل رسول واحدًا فقط( ذلك أنه ل فرق بين الملفت للنتباه أّنه تعالى يقول :إ ّ
أنبياء ال ورسله في أصل الدعوة ،وتكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم ،فضل عن أّنهم كانوا
.مخالفين لدعوة جميع أنبياء ال ومنكرين لجميع الديان
)وكذلك) :وعادًا وثمودًا وأصحاب الرس وقرونًا بين ذلك كثيرًا(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "وعادًا وثمودًا" عطف على ضمير "هم" في جملة "دمرناهم" .واحتمل بعضهم أيضًا أن 1
العطف على "هم" في "جعلناهم" ،أو يكون عطفًا على محل "الظالمين" لكن الحتمال الّول
.مناسب أكثر
][254
).قوم عاد" هم قوم الّنبي "هود" العظيم ،الذي بعث في منطقة )الحقاف( أو )اليمن"
و"قوم ثمود" قوم نبي ال "صالح" الذي بعث في منطقة وادي القرى )بين المدينة والشام( ،أّما
.ما يتعلق بمسألة "أصحاب الرس" فسنبحثها في نهاية هذا البحث
قرون" جمع "قرن" وهي في الصل بمعنى الجماعة الذين يعيشون معًا في زمان واحد ،ثّم"
).أطلقت على الزمان الطويل )أربعين أو مائة سنة
ل ضربنا له المثال ).لكننا لم نجاز أولئك على غفلة أبدًا ،بل )وك ّ
أجبنا على إشكالتهم ،مثل اِلجابة على اِلشكالت التي يوردونها عليك ،وبيّنا لهم الحكام اِللهية
وحقائق الدين .أخطرناهم ،أنذرناهم ،كررنا عليهم مصائر وقصص الماضين ،لكن حين لم ينفع أ ّ
ي
)من ذلك اهلكناهم ودّمرناهم تدميرًا) :وكل ّتبرنا تتبيرًا(1).
وفي نهاية المطاف ـ في الية الخيرة مورد البحث ـ يشير القرآن المجيد إلى خرائب مدن قوم
لوط التي تقع على بداية طريق الحجازيين إلى الشام ،وإلى الثر الحي الناطق عن المصير الليم
لولئك الملوثين والمشركين ،فيقول تعالى) :ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم
).يكونوا يرونها
نعم ،لقد كانوا يرون مشهد الخرائب هذه ،لكّنهم لم يأخذوا منها العبرة ،ذلك لّنهم )بل كانوا ل
).يرجون نشورًا
إّنهم يعدون الموت نهاية هذه الحياة ،وإذا كان لهم اعتقاد بحياة ما بعد الموت فهو اعتقاد ضعيف
وبل أساس ،ل يطبع أثرًا في ارواحهم ول ينعكس في مناهج
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ "تتبير" من مادة "تبر" )على وزن ضرر ،وعلى وزن صبر( بمعنى الهلك التام 1
][255
.حياتهم ،ولهذا فهم يأخذون جميع الشياء مأخذ اللعب ،ول يفكرون إّل بأهوائهم السريعة الزوال
***
بحثان
"ـ من هم "أصحاب الرس 1
س الحديث في نفسي" )قليل من حديثه س" في الصل بمعنى الثر القليل ،فيقال مثل "ر ّ كلمة "ر ّ
سا من حمى" )يعني :وجد قليل من الحّمى في نفسه(1). )في ذاكرتي( أو يقال :وجد ر ّ
س" بمعنى البئر سرين اعتقدوا بأن "الر ّ
.وجماعة من المف ّ
ن أثرًا قليل جدًا بقي منهم ،أو لّنهم كانت لهمعلى أية حال فتسمية هؤلء القوم بهذا السم ،إّما ل ّ
.آبار كثيرة ،أو لّنهم هلكوا وزالوا بسبب جفاف آبارهم
سرين :أّما من هم هؤلء القوم؟ هناك أقوال كثيرة بين المؤرخين والمف ّ
ـ يرى كثيرون أن "أصحاب الرس" كانوا طائفة تعيش في "اليمامة" وبعث لهم نبي اسمه 1
"حنظلة" كذبوه وألقوه في بئر ،وذكروا أيضًا :إّنهم ملوا هذا البئر بالرماح ،وأغلقوا فم البئر بعد
)إلقاء الّنبي فيها بالحجارة حتى استشهد ذلك النبي2).
س" إشارة إلى قوم "شعيب" الذين كانوا يعبدون الصنام2 ، ـ البعض الخر يرى أن "أصحاب الر ّ
س" كان اسمًا لبئر عظيم ،حيث أغاضه ال ،فأهلك أهل وكانوا ذوي أغنام كثيرة وآبار ماء ،و"الر ّ
.ذلك المكان
س" كانت قرية في أرض "اليمامة" حيث كان يعيش فيها جماعة من 3 ـ بعض آخر يعتقد أن "الر ّ
.بقايا قوم ثمود ،فهلكوا نتيجة طغيانهم وغرورهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ مفردات الراغب 1
.ـ أعلم القرآن ص 2 149
][256
.ـ وذهب آخرون أّنهم كانوا جماعة من العرب الماضين ،يعيشون) (1بين الشام والحجاز 4
س" من بقايا عاد وثمود ،ويعتبر )وبئر معطلة وقصر 5
ـ بعض التفاسير يعّرف "أصحاب الر ّ
مشيد( (2).متعلقة بهم أيضًا ،وذكر أن موطنهم في "حضرموت" واعتقد "الثعلبي" في "عرائس
.البيان" أن هذا القول هو الكثر اعتبارًا
سرين طبقوا "الرس" على "أرس" )في شمال آذربيجان !)البعض الخر من المف ّ
ـ العلمة الطبرسي في مجمع البيان ،والفخر الرازي في الّتفسير الكبير ،واللوسي في روح 6
المعاني نقلوا من جملة الحتمالت ،أّنهم قوم يعيشون في أنطاكية الشام ،وكان نبيهم "حبيب
".النجار
ـ في عيون أخبار الرضا ،نقل حديث طويل حول "أصحاب الرس" خلصته" :إّنهم كانوا قومًا 7
يعبدون شجرة صنوبر يقال لها )شاه درخت( كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير
عين يقال لها )روشن آب( وكان لهم إثنتا عشرة قرية معمورة على شاطىء نهر يقال له
س" ،يسمين بأسماء :آبان ،آذر ،دي ،بهمن أسفندار ،فرودينُ ،أردي بهشت ،خرداد ،مرداد، "الر ّ
ق العجم أسماء شهورهم .تير ،مهر ،شهريور ،ومنها اشت ّ
وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حّبة .أجروا عليها نهرًا من العين التي عند
الصنوبرة ،وحّرموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم ،ومن شرب منه قتلوه ،ويقولون :إّنه حياة
اللهة فل ينبغي لحد أن ينقص حياتها .وقد جعلوا في كل شهر من السنة يومًا ـ في كل قرية،
عيدًا ،يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ثّم
يحرقونها في النار
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ شرح نهج البلغه ،لبن أبي الحديد ،ج ،1ص 1 94
.ـ سورة الحج ،الية 2 45
][257
فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها وسطوعه في السماء ويبكون ويتضرعون ،و الشيطان
يكلمهم من الشجرة .وكان هذا دأبهم في القرى حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التي كان
يسكنها ملكهم واسمها )أسفندار( اجتمع إليها أهل القرى جميعًا وعّيدوا اثني عشر يومًا ،وجاءوا
بأكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة ،وكّلمهم إبليس وهو يعدهم ويمنيهم أكثر مّما
.كان من الشياطين في سائر العياد من سائر الشجر
ولما طال منهم الكفر بال وعبادة الشجرة ،بعث ال إليهم رسول من بني إسرائيل من ولد يهودا،
فدعاهم برهة إلى عبادة ال وترك الشرك ،فلم يؤمنوا ،فدعا على الشجرة فيبست ،فلما رأوا ذلك
ن آلهتنا غضبت علينا بذلك لمان هذا الرجل سحر آلهتنا ،وقال آخرون :إ ّ ساءهم ،فقال بعضهم :إ ّ
رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه وشأنه من غير أن نغضب للهتنا .فاجتمعت آراؤهم
على قتله فحفروا بئرًا عميقًا وألقوه فيها ،وسّدوا فوهتها ،فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى
)مات ،فأتبعهم ال بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم"1).
س" في مقابل عادقرائن متعددة تؤيد مضمون هذا الحديث ،لن مع وجود ذكر "أصحاب الر ّ
.وثمود يكون احتمال أّنهم جماعة من هاتين اُلمتين بعيدًا جدًا
ن وجود هؤلء القوم في الجزيرة العربية والشامات وتلك الحدود ـ و هو الذي احتمله كذلك ،فإ ّ
الكثيرون ـ بعيد أيضًا ،ذلك لّنه يجب أن يكون له انعكاس في تاريخ العرب بحسب العادة ،في
.الوقت الذي لم نر حتى انعكاسًا ضئيل لصحاب الرس لديهم
ن "الرس"مضافًا الى ذلك توافقه مع كثير من التفاسير اُلخرى ،من جملتها :أ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ عيون أخبار الرضا)عليه السلم( ،طبقًا لنقل وتلخيص تفسير الميزان ،ج ،15ص 1 219
والحديث في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن المام الرضا)عليه السلم( عن أمير
).المؤمنين)عليه السلم
][258
.كان اسمًا لبئر )البئر التي ألقوا فيها نبيهم( أو أّنهم كانوا أصحاب زراعة ومواشي وأمثال ذلك
ن نساءهم كن منحرفات جنسيًا و يمارسن و ما ورد في رواية عن المام الصادق)عليه السلم( :أ ّ
)"المساحقة" ل منافاة له مع هذا الحديث أيضًا)1
ي واحد فقط ،لّنه)عليه
و من عبارة )نهج البلغة ،الخطبة (180يستفاد أنه كان لهم أكثر من نب ّ
السلم( يقول" :أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبّيين ،وأطفأوا سنن المرسلين ،وأحيوا
".سنن الجبارين!؟
ن من الممكن أن الروايةو كلم أمير المؤمنين)عليه السلم( هذا ل يتنافى مع الرواية أعله ،ل ّ
.تشير إلى مقطع من تاريخهم وكان قد بعث نبي فيهم
:ـ مجموعة من الدروس المؤثرة 2
ست فئات في اليات أعله ،ذكرت أسماؤهم :قوم فرعون قوم نوح المتعصبون ،قوم عاد
المتجبرون ،ثمود ،أصحاب الرس ،وقوم لوط ،حيث كان كل منهم أسير نوع من النحراف الفكري
.والخلقي أّدى بهم إلى الهلك والشقاء
.الفراعنة كانوا ظالمين جائرين ومستعمرين واستثماريين وأنانيين
.قوم نوح كما هو معلوم كانوا معاندين ومتكبرين ومغرورين
.قوم عاد وقوم ثمود كانوا يتكلون على قدراتهم الذاتية
صة نسائهم ،وكان قوم لوط غارقين
و كان أصحاب الرس في دوامة الفساد والشذوذ الجنسي وخا ّ
صة ،والجميع منحرفون عن جادة التوحيد .حيرى في في وحل من الفحشاء ،وشذوذ الرجال بخا ّ
.الضللت
و هنا يريد القرآن أن ُينذر مشركي عصر الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وجميع الناس على
مدى
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ الكافي ،طبقًا لنقل تفسير نور الثقلين ،ج ،4ص 1 19
][259
التاريخ :ليكن لكم من القدرات والستطاعة والمكانات كل شيء ومهما كان لكم من اموال
ن نفس أسباب وثروات وحياة مرّفهة ،فإن التلوث بالشرك والظلم والفساد سيستأصل أعماركم ،وإ ّ
!تفوقكم تلك ستكون أسباب هلككم
قوم فرعون :وقوم نوحُ ،أهلكوا بالماء الذي هو أساس الحياة ،قوم عاد بالعاصفة والرياح التي
صة أساس الحياة ،قوم ثمود بالسحاب الحامل للصواعق ،وقوم لوط بمطر هي أيضًا في ظروف خا ّ
من الحجارة نزل بعد الصاعقة ،أو انفجار بركان على قول بعضهم ،وأصحاب الرس طبقًا لذيل تلك
الرواية أعلهُ ،أبيدوا بنار تطلع من الرض ،وبشعلة مهلكة انتشرت من السحاب ،ليؤوب هذا
.النسان المغرور إلى نفسه ،فيتمسك بطريق ال والعدالة والتقوى
***
][260
اليات
الّتفسير
:أضّل من اَلنعام
ن القرآن المجيد ل يورد أقوال المشركين دفعة واحدة في آيات هذه السورة ،بلالملفت للنتباه أ ّ
أورد بعضًا منها ،فكان يتناولها بالرّد والموعظة والنذار ،ثّم بعد ذلك يواصل تناول بعض آخر
.بهذا الترتيب
اليات الحالية ،تتناول لونًا آخر من منطق المشركين وكيفية تعاملهم مع رسول السلم)صلى ال
.عليه وآله وسلم( ودعوته الحّقة
][261
)يقول تعالى أول) :وإذا رأوك إن يّتخذونك إّل هزوًا أهذا الذي بعث ال رسول(1).
ي ادعاء عظيم يدعي؟ أي كلم عجيب يقول!؟ ...إّنها مهزلة وهكذا نجد هؤلء الكفار يتعجبون! أ ّ
!حّقا
ن رسول السلم)صلى ال عليه وآله وسلم( ،كان هو ذلك الشخص الذي لكن يجب أل ننسى أ ّ
عاش بينهم أربعين عامًا قبل الرسالة ،وكان معروفًا بالمانة والصدق والذكاء والدراية ،لك ّ
ن
س الكفر تناسوا صفاته هذه حينما تعرضت منافعهم الى الخطر ،وتلقوا مسألة دعوة رؤو َ
الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ـ بالرغم من جميع تلك الشواهد والدلئل الناطقة ـ بالسخرية
.والستهزاء حتى لقد اّتهموه بالجنون
ثّم يواصل القرآن ذكر مقولت المشركين فينقل عن لسانهم )إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لول أن
).صبرنا عليها()2
لكن القرآن يجيبهم من عّدة طرق ،ففي البداية من خلل جملة واحدة حاسمة يرد على مقولت
).هذه الفئة التي ما كانت أهل للمنطق) :وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيل
سرين مثل "الطبرسي" في يمكن أن يكون هذا العذاب إشارة إلى عذاب القيامة ،كما قال بعض المف ّ
مجمع البيان ،أو عذاب الدنيا مثل الهزيمة المنكرة يوم "بدر" وأمثالها ،كما قال "القرطبي" في
.تفسيره المعروف ،ويمكن أن تكون الشارة إليهما معًا
ن هذه الفئة الضالة في مقولتها هذه ،وقعت في تناقض فاضح ،فمن جهة تلقت الملفت للنظر أ ّ
الّنبي ودعوته بالسخرية ،إشارة إلى أن ادعاءه بل أساس ول
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "هزوًا" مصدر ،وجاء هنا بمعنى المفعول ،وهذا الحتمال وارد أيضًا وهو أن يكون مضافًا 1
.مقدارًا )محل هزو( ،أيضًا فالتعبير بـ "هذا" للتحقير ولتصغير الّنبي
ن كاد ليضلنا( مخففة ،للتوكيد ،وفي تقدير "إّنه كاد" وضميرها ضمير الشأن 2 ن( في )إ ْ .ـ كلمة )إ ْ
][262
يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد ،ومن جهة ُأخرى أّنه لول تمسكهم بمذهب أجدادهم ،فمن الممكن أن ـ
يؤثر عليهم كلم الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ويضّلهم عن ذلك المذهب ،وهذا يدل على أّنهم
كانوا يعتبرون كلمه قويًا وجديًا ومؤثرًا ومحسوبًا ،و هذا المنطق المضطرب ليس غريبًا عن
.هؤلء الفراد الحيارى اللجوجين
ن منكري الحق حينما يقفون قبالة المواج المتلطمة لمنطق القادة اللهيين، و كثيرًا ما ُيرى أ ّ
فإّنهم يختارون ُاسلوب الستهزاء تكتيكًا من أجل توهينه ودفعه ،في حين أّنهم يخالفون سلوكهم
.هذا في الباطن ،بل قد يأخذوه بجدية أحيانًا ويقفون ضده بجميع امكاناتهم
الجواب القرآني الّثاني على مقولتهم ورد في الية التي بعدها ،موجهًا الخطاب إلى الّنبي)صلى
ال عليه وآله وسلم( على سبيل المواساة وتسلية الخاطر ،وأيضًا على سبيل بيان الدليل على
أصل عدم قبول دعوة الّنبي من قبل ُأولئك ،فيقول) :أرأيت من اتخذ إلهه هواه( فهل أنت قادر مع
).هذا الحال على هدايته والدفاع عنه )أفأنت تكون عليه وكيل
يعني إذا وقف ُأولئك أمام دعوتك بالستهزاء والنكار وأنواع المخالفات ،فلم يكن ذلك لن منطقك
ضعيف ودلئلك غير مقنعة ،وفي دينك شك أو ريبة ،بل لّنهم ليسوا أتباع العقل والمنطق،
فمعبودهم أهواؤهم النفسيةُ ،ترى أتنتظر أن يطيعك هكذا أشخاص ،أو تستطيع أن تؤثر فيهم!؟
):أقوال مختلفة للمفسرين الكبار في معنى جملة) :أرأيت من اّتخذ إلهة هواه
ن لهم صنمًا ،ذلك هو هواهم النفسي ،وكل أعمالهم ن المقصود أ ّ
قال جماعة ـ كما قلنا آنفًا ـ :إ ّ
.تصدر من ذلك المنبع
ن المراد هو أّنهم ل يراعون المنطق بأي شكل في اختيارهم
ن جماعة ُأخرى ترى أ ّ
في حين أ ّ
الصنام ،بل إّنهم متى ما كانت تقع أعينهم على قطعة حجر ،أو شجرة جذابة ،أو شيء آخر يثير
هواهم ،فإّنهم يتوهمونه "معبودًا" ،فكانوا يجثون
][263
.على ركبهم أمامه ،ويقدمون القربان ،ويسألونه حل مشكلتهم
وذكر في سبب نزول هذه الية رواية مؤيدة لهذا المعنى ،وهي أن إحدى السنين العجاف مّرت
على قريش ،فضاق عليهم العيش ،فخرجوا من مّكة وتفرقوا فكان الرجل إذا رأى شجرة حسنة أو
حجرًا حسنًا هويه فعبده ،وكانوا ينحرون النعم ويلطخونها بالدم ويسمونها "سعد الصخرة" ،وكان
إذا أصابهم داء في إبلهم أغنامهم جاؤوا إلى الصخرة فيمسحون بها الغنم والبل ،فجاء رجل من
:العرب بإبل يريُد أن يمسح بالصخرة إبله ويتبرك بها ،فنفرت إبله فتفرقت ،فقال الرجل شعرًا
ت إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فما نحن من سعِد أتي ُ
ي ول رشِد وما سعِد إّل صخرة مستوية من الرض ل تهدي لغ ّ
:و مّر به رجل من العرب والثعلب يبول عليه فقال شعرًا
ن برأسه لقد ذّل من بالت عليه الثعالب)(1الّتفسيران أعله ل منافاة بينهما، ب يبول الثعلبا ُ ور ّ
ن اختيار الصنامفأصل عبادة الصنام ـ التي هي وليدة الخرافات ـ هو اتباع الهوى ،كما أ ّ
.المختلفة بل أي منطق ،فرع آخر عن أتباع الهوى أيضًا
.وسيأتي بحث مفصل في الملحظات التية ،بصدد "اتباع الهوى والشهوات" إن شاء ال
ن الجواب القرآني الّثالث لهذه الفئة الضالة ،هو قوله) :أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو وأخيرًا فإ ّ
).يعقلون ،إن هم إّل كالنعام بل هم أضّل سبيل
ن النسان إّما أن يكون ذا يعني ل يؤذينك استهزاؤهم ومقولتهم السيئة وغير المنطقية أبدًا ،ل ّ
".عقل ،ويستخدم عقله ،فيكون مصداقًا لـ "يعقلون
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي ،طبقًا لنقل نور الثقلين ،ج ،4ص 1 20
][264
أو أّنه فاقد للعلم ولكّنه يسمع قول العلماء ،فيكون مصداقًا لـ "يسمعون" ،لكن هذه الفئة ل من
ُأولئك ول من هؤلء ،وعلى هذا فل فرق بينهم وبين النعام .وواضح أّنه ل يتوقع من النعام غير
الصياح والرفس والفعال اللمنطقية .بل هم أتعس من النعام وأعجز ،إذ أن النعام ل تعقل ول
.فكر لها ،وهؤلء لهم عقل وفكر ،وتسافلوا إلى حال كهذه
ن القرآن يعّبر بـ "أكثرهم" هنا أيضًا ،فل يعمم هذا الحكم على الجميع ،لّنه قد يكون
المهم هو أ ّ
بينهم أفراد مخدوعون واقعًا ،وحينما يواجهون الحق تنكشف عن أعينهم الحجب تدريجيًا،
.فيتقبلوا الحق ،وهذا نفسه دليل على أن القرآن يراعي النصاف في المباحث القرآنية
***
بحثان
ـ اتباع الهوى وعواقبه الليمة 1
ن في كيان النسان غرائز وميول مختلفة ،وجميعها ضروري لدامة حياته ،الغيظ ل شك أ ّ
ن مبدع الوجود خلقها جميعًا والغضب ،حب النفس ،حب المال والحياة المادية ،وأمثالها ،ول شك أ ّ
.لذلك الهدف التكاملي
لكن المهم هو أّنها تتجاوز حدها أحيانًا ،وتخرج عن مجالها ،وتتمّرد على كونها أداة طيعة بيد
العقل ،وتصّر على العصيان والطغيان ،فتسجن العقل ،وتتحكم بكل وجود النسان ،وتأخذ زمام
.اختياره بيدها
هذا هو ما يعبرون عنه بـ "اتباع الهوى" الذي هو أخطر أنواع عبادة الصنام ،بل إن عبادة
الصنام تنشأ عنه أيضًا ،فليس عبثًا أن الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( اعتبر صنم
"الهوى" أعظم وأسوأ الصنام ،لذا قال" :ما تحت ظل السماء من إله يعبد
][265
ى متبع"1)،)من دون ال أعظم عند ال من هو ً
عبد على وجه الرض الهوى
".ونقرأ في حديث آخر عن بعض أئّمة اِلسلم "أبغض إله ُ
وإذا تأملنا جيدًا في أعماق هذا القول ،نعلم جيدًا لماذا كان اتباع الهوى مصدر الغفلة ،كما يقول
)القرآن) :ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه(2).
و من جهة ُأخرى فإن اتباع الهوى منبع الكفر وعدم اليمان ،كما يقول القرآن )فل يصدنك عنها
)من ل يؤمن بها واتبع هواه(3).
ن اتباع الهوى أسوأ الضلل ،يقول القرآن الكريم) :ومن أضل ممن اتبع هواه و من جهة ثالثة فإ ّ
ى من ال(4). )بغير هد ً
و من جهة رابعة فإن اتباع الهوى نقطة مقابلة لطلب الحق ،ويخرج النسان عن طريق ال ،كما
)نقرأ في القرآن) :فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل ال(5).
و من جهة خامسة فإن اتباع الهوى مانع من العدل والنصاف كما نقرأ في القرآن) :فل تتبعوا
)الهوى أن تعدلوا(6).
ن الفساد سوفن نظام السماء والرض إذا دار حول محور أهواء وشهوات الناس ،فإ ّ و أخيرًا ،فإ ّ
)يعّم كّل ساحة الوجود) :ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والرض ومن فيهن(7).
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير الدر المنثور ،في ذيل الية مورد البحث ،نقل عن تفسير الميزان ،ج ،15ص 1 257
.ـ سورة الكهف ،الية 2 28
.ـ سورة طه ،الية 3 16
.ـ سورة القصص ،الية 4 50
.ـ سورة ص ،الية 5 26
.ـ سورة النساء ،الية 6 135
.ـ سورة المؤمنون ،الية 7 71
][266
:وفي الروايات السلمية أيضًا ،نلحظ تعبيرات مؤثرة في هذا الصدد
)نقرأ في رواية عن على)عليه السلم(" :الشقي من انخدع لهواه وغروره"1).
)وفي حديث آخر عنه)عليه السلم( ،نقرأ أن" :الهوى عدو العقل"2).
س المحن"3).)نقرأ أيضًا" :الهوى ُأ ّ
)و عنه)عليه السلم(" :ل دين مع هوى") (4و"ل عقل مع هوى"5).
والخلصة أن اتباع الهوى ليس من الدين وليس من العقل ،وليس عاقبة اتباع الهوى إّل التعاسة
.والمحن والبلء ،ول يثمر إّل المسكنة والشقاء والفساد
أحداث حياتنا والتجارب المّرة التي رأيناها في أّيام العمر بالنسبة إلينا وإلى الخرين ،شاهد حي
.على جميع النكات التي وردت في اليات والّروايات أعله بصدد اتباع الهوى
.نرى أفرادًا يتجرعون المرارة إلى آخر أعمارهم ،جزاء ساعة واحدة من أتباع الهوى
و نعرف شبابًا صاروا أسارى مصيدة اِلدمان الخطير ،واِلنحرافات الجنسية و الخلقية ،على أثر
انقيادهم للهوى ،بحيث تحولوا إلى موجودات ذليلة ل قيمة لها ،وفقدوا كل قواهم وطاقاتهم
.الذاتية
في التأريخ المعاصر والماضي ،نلتقي بأسماء الذين قتلوا آلفًا وأحيانًا مليين من الناس البرياء،
.من أجل أهوائهم ،بحيث أن الجيال تذكر أسماءهم المخزية بالسوء إلى البد
هذا الصل ل يقبل الستثناء ،فحتى العلماء والعبابدون أهل السابقة مثل
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ نهج البلغه ،الخطبة 1 86
.ـ غرر الحكم ،الجملة 2 265
.ـ غرر الحكم ،الجملة 3 1048
.ـ غرر الحكم ،الجملة 4 10531
.ـ غرر الحكم ،الجملة 5 10541
][267
بلعم بن باعورا( سقطوا من قمة العظمة النسانية إلى الهاوية ،نتيجة انقيادهم لهوى النفس(،
).حيث يمثلهم القرآن بالكلب النجس الذي ل ينفك عن النباح )الية 176سورة العراف
لهذا فل عجب أن يقول الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وأمير المؤمنين)عليه السلم(" :إنّ
أخوف ما أخاف عليكم إثنان ،اتباع الهوى وطول المل ،أّما اتباع الهوى فيصّد عن الحق ،وأّما
)طول المل فينسي الخرة"1).
وردت أيضًا في النقطة المقابلة ـ يعني ترك أتباع الهوى ـ آيات وروايات توضح عمق هذه
المسألة من وجهة نظر السلم ،إلى حد أن ُيعّد مفتاح الجّنة الخوف من ال ،ومجاهدة النفس:
))وأّما من خاف مقام رّبه ونهى النفس عن الهوى فإن الجّنة هي المأوى(2).
)يقول علي)عليه السلم(" :أشجع الناس من غلب هواه"3).
و قد نقلت قصص كثيرة في حالت محبي الحق وأولياء ال ،والعلماء والعظماء ،حيث نالوا
.المقامات العالية نتيجة ترك أتباع الهوى ،هذه المقامات لم تكن ممكنة بالطرق العادية
ل من النعام!؟ 2
ـ لماذا َأض ّ
لتجسيد أهمية الموضوع في اليات أعله ،يبّين القرآن أّول :أن الذين اّتخذوا اهواءهم آلهه
!يعبدونها هم كالنعام ،وبعد ذلك يضيف مشددًا :بل هم أضل
نظير هذا التعبير ورد أيضًا في الية ) (172من سورة العراف في أهل النار الذين يؤولون إلى
،هذا المصير نتيجة عدم الستفادة من السمع والبصر والعقل
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سفينة البحار ،ج ،2ص ) 728ذيل مادة هوى( ونهج البلغة ،الخطبة 28و1 42
.ـ سورة النازعات ،الية 2 40
).ـ سفينة البحار ،ج ،1ص ) 689مادة شجع 3
][268
).يقول تعالىُ) :أولئك كالنعام بل هم أضل
سرين قدموا بحوثًا جيدة في هذه المسألة ،وهي ـ مع(
أضل(و إن كانت واضحة إجمال ،لكن المف ّ
:تحليل وإضافات
ـ إذا لم تفهم النعام شيئًا ،وليس لها أذن سامعة وعين باصرة ،فذلك لعدم استعدادها الذاتي1 ،
لكن العجز منها اِلنسان الذي تكمن في وجوده خميرة جميع السعادات ،والذي أفاض ال عليه
قدرًا عظيمًا من الستعدادات ليستطيع أن يكون خليفة ال في الرض ،ولكن أفعاله الذميمة بلغت
به حّدا أسقطته عن مستوى النعام ،وأذهبت كل لياقاته هدرًا ،وهوى ِمن رتبة مسجود الملئكة
.إلى حضيض الشياطين الذليلة .وهذا هو الضل والمؤلم حقًا
ن البشر الضالين يجب 2
ـ النعام غير مسؤولة تقريبًا ،وليست مشمولة بالجزاء اللهي ،في حين أ ّ
.عليهم أن يحملوا عبء كل أعمالهم على عواتقهم ،ليروا جزاء أعمالهم بل نقص أو زيادة
ـ تؤدي النعام للنسان خدمات كثيرة ،وتنجز له أعمال مختلفة ،أّما طغاة البشر العصاة فل 3
.تتأتى منهم أية منفعة ،بل يسببون آلفًا من البلءات والمصائب
ـ النعام ل خطر منها على أحد ،فإذا كان ثّمة خطر منها ،فخطر محدود ،لكن الويل من النسان 4
غير المؤمن ،والمستكبر ،عابد الهوى ،الذي يؤجج أحيانًا نار حرب يذهب ضحيتها المليين من
.الناس
ـ إذا لم يكن للنعام قانون ومنهج ،فإّنها تتبع مسارًا عّينه ال لها على شكل غرائز ،فهي تتحرك 5
على ذلك الخط .أّما النسان المتمرد ،فل يعترف بقوانين تكوينية ول قوانين تشريعية ،ويعتبر
.هواه وشهواته حاكمًا على كل شيء
ـ النعام ل تبرير لديها لعمالها أصل ،فإذا خالفت فهي المخالفة ،وإذا أرادت أن تمضي في 6
طريقها حين تمضي فذلك هو الواقع ،أّما النسان المتكبر
][269
السفاك ،عابد الهوى فكثيرًا ما يبرر جميع جرائمه بالشكل الذي يدعي فيه أّنه يؤدي مسؤولياته
.اللهية والنسانية
.ولهذها ،فل موجود أكبر خطرًا وأشد ضررًا من إنسان متبع للهوى ،عديم اليمان ومتمرد
!!ولهذا وصمته الية ) (22من سورة النفال بلقب )شر الدواب( وكم هو مناسب هذا اللقب؟
***
][270
اليات
ضَنـهُعَلْيِه َدِليل)ُ (45ثّم َقَب ْ س َ شْم َ جَعْلَنا ال ّ ساِكنًا ُثّم َجَعَلُه َ شآَء َل َ
ضّل َوَلْو َف َمّد ال ّ ك َكْي َ َأَلمْ َتَر ِإَلى َرّب َ
شوَرًا)َ (47وُهَو جَعَل الّنَهاَر ُن ُسَباتًا َو َجَعَل َلُكُم اّلْيَل ِلَباسًا َوالّنْوَم ُ سيرًا )َ(46وُهَو اّلِذى َ ِإَلْيَنا َقْبضًا َي ِ
ى ِبِه َبْلَدًة ّمْيتًا
حَ
طُهورًا)ّ (48لُن ْ سَمآِء َمآَء َ ن ال ّ حَمِتِه َوَأنَزْلَنا ِم َ
ى َر ْ
ن َيَد ْ
شَرًا َبْي َ
ح ُب ْسَل الّرَيـ َ اّلِذى َأْر َ
س ِإّلصّرْفَنـُه َبْينَُهْم ِلَيّذّكُروْا َفَأَبى َأْكَثُر الّنا ِ
ى َكِثيرًا)َ (49وَلَقْد َ سّخَلْقَنآ َأْنَعـمًا َوَأَنا ِسِقَيُه ِمّما ََوُن ْ
)ُكُفورًا)50
الّتفسير
:حركة الظلل
في هذه اليات كلم في أقسام مهّمة من النعم اللهية ،على سبيل بيان أسرار التوحيد ومعرفة ال،
ن المحاورات الكثيرةاُلمور التي يزيدنا التفكر فيها معرفة بخالقنا وقربًا منه ،ومع اللتفات إلى أ ّ
.في اليات الماضية كانت مع المشركين ،تّتضح صلة وارتباط هذه اليات باليات السابقة
][271
في هذه اليات ،كلم في نعمة "الضلل" ثّم في آثار وبركات "الليل" و"النوم و الستراحة"
و"ضياء" النهار و"هبوب الرياح" و"نزول المطر" و"إحياء الراضي الموات" و"سقاية"
.النعام والناس
).يقول تعالى أول) :ألم تر إلى رّبك كيف مد الظل ،ولو شاء لجعله ساكناً
ن هذا الجزء من الية إشارة إلى أهمية نعمة الظلل الممتدة والمتحركة .ل شك أ ّ
ظلل التي ل تثبت على حال ،بل هي في حركة وانتقال .ال ِ
سرين:ولكن أي ظل هو المقصود بالية؟ ثّمة أقوال في أوساط المف ّ
بعضهم يقول :هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على الرض بعد طلوع الفجر وقبل
طلوع الشمس ،وأهنأ الظلل والساعات هي تلك ،هذا النور الشفاف ،والظل المنبسط ،يبدأ عند
.طلوع الفجر ،يتلشى عند طلوع الشمس حيث يأخذ مكانه الضياء
و يرى البعض الخر أن المقصود هو ظل الليل بأجمعه ،الذي يبدأ من لحظة الغروب وينتهي عند
ن الليل في الحقيقة هو ظل نصف الكرة الرضية المواجه لحظة طلوع الشمس ،لّننا نعلم أ ّ
للشمس ،وهو ظل مخروطي يكون في الطرف الخر ومنتشرًا في الفضاء الواسع .وهذا الظل
.المخروطي في حركة دائمة ومع طلوع الشمس على منطقة يزول عنها ليتشكل في ُأخرى
.وقال آخرون :المقصود هو الظل الذي يظهر للجسام بعد الظهر فينبسط شيئًا فشيئًا بالتدريج
ى واسعًا يشمل جميع الظلل طبيعي ،أّنه لو لم تكن الجمل التية ،لكّنا نفهم من هذه الجملة معن ً
الشاسعة ،لكن سائر القرائن التي وردت على أثرها تدل على أن الّتفسير الّول أكثر تناسبًا ،لّنه
).تعالى يقول على أثر ذلك) :ثّم جعلنا الشمس عليه دليل
][272
إشارة إلى أن مفهوم الظل لم يكن ليّتضح لو لم تكن الشمس ،فالظل من حيث الصل يخلق بسبب
ن "الظل" يطلق عادة على الظلمة الخفيفة اللون التي تظهر الشياء فيها ،وهذا ضياء الشمس ،ل ّ
في حالة ما إذا أضاء النور جسمًا مانعًا لنفوذ النور ،فإن الظل يبدو في الجهة المقابلة .بناًء على
هذا فليس تشخيص الظل يتم بواسطة النور طبقًا لقاعدة "تعرف الشياء بأضدادها" فقط ،بل إ ّ
ن
.وجوده أيضًا من بركة النور
).بعد ذلك يبّين تعالى :ثّم إّننا نجمعه جمعًا وئيدًا )ثّم قبضناه إلينا قبضًا يسيرًا
ن الظلل تزول تدريجيًا ،حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم من المعلوم أن الشمس حينما تطلع فإ ّ
ن الشمس آنئذ تستقر تمامًا فوق رأس كل موجود ،وفي مناطق الظل تمامًا في بعض المناطق ،ل ّ
ُأخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص ،ولهذا فالظل ل يظهر ول يختفي دفعًة واحدًة ،وهذا نفسه
ن النتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضارًا بجميع المخلوقات. حكمة الخالق ،ذلك ل ّ
لكن هذا النظام المتدرج في هذه الحالة النتقالية له أكبر المنفعة بالنسبة إلى الموجودات ،دون أن
.يكون له أي ضرر
التعبير بـ "يسيرًا" إشارة إلى انقباض الظل التدريجي ،أو إشارة إلى أن نظام النور والظلمة
.الخاص ،شيء يسير هين بالنسبة إلى قدرة الخالق .وكلمة )إلينا( تأكيد على هذه القدرة أيضًا
على أية حال ،ل شك أن النسان كما يحتاج إلى أشعة "النور" في حياته ،فهو كذلك يحتاج إلى
ن أشعة النور المستديمة تربك الحياة ،كذلك "الظل" لتعديل ومنع "النور" أوقات اشتداده ،فكما أ ّ
ن الظل الدائم الساكن مهلك أيضًا .فإ ّ
في الحالة اُلولى تحترق جميع الموجودات ،وفي الحالة الّثانية تنجمد جميعًا ،ولكن هذا النظام
لنسان .المتناوب من "النور" و"الظل" هو الذي يجعل الحياة ممكنة وسائغة ل ِ
][273
ن آيات قرآنية ُأخرى تعّد وجود الليل والنهار ،الواحد تلو الخر ،من النعم اللهية العظيمة،
لذا فإ ّ
ففي موضع يقول تعالى) :قل أرأيتم إن جعل ال عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير
ال يأتيكم بضياء ،أفل تسمعون( .ويضيف مباشرة )قل أرأيتم إن جعل ال عليكم النهار سرمدًا إلى
)يوم القيامة من إله غير ال يأتيكم بليل تسكنون فيه أفل تبصرون(1).
ن هذا النظام من رحمة ال الذي جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا و يستنتج من هذا القول أ ّ
وتستريحوا فيهما ،ولتستفيدوا في تحصيل المعاش من فضله ،ولعلكم تشكرون )و من رحمته
)جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون(2).
.ولهذا يعد القرآن "الظل الممدود" إحدى نعم الجّنة ،حيث ل نوَر ُمعش مرهق ،ول ظلمة موحشة
بعد ذكر نعمة الظلل ،تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين ُأخريين متناسبتين معها تناسبًا تامًا،
فيكشف جانبًا آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود ال ،يقول تعالى) :وهو الذي جعل
).لكم الليل لباسًا
كم هو تعبير جميل ورائع )جعل لكم الليل لباسًا( ...هذا الحجاب الظلمي الذي ل يستر الناس فقط،
بل كل الموجودات على الرض ويحفظها كاللباس ،ويلتحفه النسان كالغطاء الذي يستفيد منه
.أثناء النوم ،أو ليجاد الظلم
).ثّم يشير تعالى إلى نعمة النوم )و النوم سباتًا
السبات" في اللغة من "سبت" )على وزن وقت( بمعنى القطع ،ثّم جاء بمعنى تعطيل العمل"
ن أّول أّيام السبوع يسّمونه في لغة العرب "يوم السبت" وهي تسمية ُأخذت للستراحة ،ولذا فإ ّ
.من طريقة اليهود ،لّنه يوم تعطيلهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ القصص 71 ،و1 72
.ـ القصص2 73 ،
][274
هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم ،لّننا نعلم أن
قسمًا مهمًا من الفعال البدنية يتوقف كليًا في حال النوم ،وقسمًا آخر مثل عمل القلب وجهاز
التنفس يؤدي عمله بصورة وئيدة جّدا ،ويستمر بصورة أكثر هدوًء كيما يرتفع التعب وتتجدد
.القوى
النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه ،مجدد لجميع طاقات البدن ،وباعث للنشاط والقّوة ،وأفضل
وسيلة لهدوء العصاب ،بعكس الرق خصوصًا لفترة طويلة ـ فهو ضاٌر جّدا وقد يؤدي الى
ن قطع برنامج النوم واحد من أهم أساليب التعذيب حيث يحطم كل مقاومة الموت أيضًا .ولهذا فإ ّ
.النسان بسرعة
).وفي ختام الية ،أشار تعالى إلى نعمة "النهار" فقال تعالى) :وجعل النهار نشورًا
كلمة "النشور" في الصل من النشر بمعنى البسط ،في مقابل الطي ورّبما كان هذا التعبير إشارة
إلى انتشار الروح في أنحاء البدن ،حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت ،أو إشارة إلى انتشار
الناس في ساحة المجتمع ،والحركة للمعاش على وجه الرض .نقرأ في حديث عن الّنبي
الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( أّنه كان يقول كل صباح" :الحمد ل الذي أحيانًا بعد ما أماتنا
)وإليه النشور"1).
فضياء النهار من حيث روح وجسم النسان باعث على الحركة حّقا ،كما أن الظلم باعث على
.النوم والهدوء
ث فيهان الحركة والنشاط تشمل جميع الموجودات الحية و يستجد انبعا ٌ في عالم الطبيعة أيضًا ،فإ ّ
بمجّرد سطوع أّول اشعة للشمس ،فينطلق كل واحد منها إلى سبيله ،وحتى النباتات تتنفس
وتتغذى وتنموا وتنضج أمام النور ،أّما عند مغيب الشمس ،فكأن الطبيعة تنفخ في صور انتهاء
العمل والسكون ،الطيور تؤوب إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير القرطبي 1
][275
ط في نوع من النوم
.أوكارها ،الموجودات الحية تفيء إلى الستراحة والنوم ،حتى النبانات تغ ّ
بعد بيان هذه المواهب العظيمة ـ التي هي أهم ركائز الحياة النسانية ـ يتناول القرآن الكريم
موهبة ُأخرى مهّمة جّدا فيقول) :وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته ،وأنزلنا من
).السماء ماًء طهورًا
ل يخفى أن دور الرياح هو أّنها الطلئع المتقدمة لنزول الرحمة اللهية ،وإّل فلن تنزل قطرة مطر
.على الرض العطشى أبدًا
صحيح أن ضياء الشمس يبخر ماء البحار فيتصاعد في الفضاء ،وتراكم هذه البخرة في طبقة
عليا باردة يشكل الغيوم الممطرة ،ولكن إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي
.المحيطات باتجاه الراضي اليابسة ،فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر
والخلصة أن وجود بشائر الرحمة هذه ،التي تتحرك بشكل دائم في كل ارجاء الرض ،سبب رواء
الجفاف على الرض ،ونزول المطر الباعث على الحياة وتشكيل النهار والعيون والبار ،ونمو
.أنواع النباتات
إنّ قسمًا من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم ،في حركتها وامتزاجها برطوبة ملئمة ،تبعث
النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر ،هذه الرياح مثل البشير الذي ُينبىء عن قدوم مسافر
.عزيز
التعبير بـ "الرياح" بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها ،فبعض شمالي ،وبعض
جنوبي ،وبعض يهب من الشرق إلى الغرب ،ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق ،فتكون سببًا
)في انتشار الغيوم في كل الفاق1).
المهم هنا هو أن "الماء" قد وصف بـ "الطهور" التي هي صيغة مبالغة من
ــــــــــــــــــــــــــــ
شرًا" ـ بضم الشين ـ الذي هو جمع 1 شرًا" ـ بسكون الشين مخفف ـ "ُب ُ ن "ُب ْـ يجب النتباه إلى أ ّ
".بشور" )على وزن قبول( بمعنى مبشر وبشير
][276
الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أن الماء طاهر بذاته ،ويطهر الشياء
!الملوثة ...ثّمة أشياء كثيرة غير الماء طاهرة ،ولكّنها ل تستطيع أن تكون مطهرة لغيرها
ن للماء خاصية كبيرة الهمية هي التطهير ،فلول وعلى أية حال ،فمضافًا إلى خاصية الحياء ،فإ ّ
ن أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد والماء وإن لم يكن قاتل الماء فإ ّ
للميكروب عادة ،ولكّنه يستطيع ازالتها وطردها بسبب خاصيته الفذة )الذابة( .ومن هذه الناحية
.فإّنه يقدم مساعدة مؤثرة جّدا في مسألة سلمة النسان ومكافحة أنواع المراض
مضافًا إلى أن تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء ،إذن فالماء مطهر
.للروح والجسم معًا
لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الهمية ،اعتبرت في الدرجة الّثانية ،لذا يضيف القرآن
ن الهدف من نزول المطر هو الحياء) :لنحي به بلدة ميتًا()1 ).الكريم في الية التي بعدها بأ ّ
ي كثيرًا
).وأيضًا )ونسقيه مّما خلقنا أنعامًا وأناس ّ
***
ملحظات
:و هنا ملحظات مهّمة
ـ في هذه الية ورد الكلم عن النعام والناسي الكثيرة مع أن جميع الناس والحيوانات تستفيد 1
!!من ماء المطر
هذه إشارة إلى البدو الرحل وساكني الخيام الذين ليس لديهم ماء مطلقًا
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ ينبغي اللتفات إلى أن "بلدة" هنا بمعنى الصحراء ،ومع أنّ هذا اللفظ مؤنث ،فصفته التي هي 1
".ميتًا" وردت بصيغة المذكر ،ذلك لن المراد بالمعنى "المكان" وهو مذكر
][277
سوى ماء المطر حيث يستفيدون منه مباشرة ،هذه النعمة الكبيرة محسوسة لديهم أكثر فحينما
سحب في السماء ويمطل عليهم المطر ،وتمتلىء الراضي المنخفضة من ماء المطر تظهر ال ُ
ب في وجودهم ووجود الزلل ،فيرتوون منه ويسقون انعامهم ،ويشعرون بنشاط الحياة يد ّ
.أنعامهم
ـ جملة "نسقيه" من مادة "إسقاء" وفرقها عن "سقى"كما قال الراغب في المفردات وآخرون 2
ن السقاء بمعنى تهيئة الماء وجعله للسقاية ،ليشرب منه النسان متى أراد، سرين ،هو أ ّ
من المف ّ
في حين أن مادة "سقى" بمعنى أن ُيعطى من يريد الماء حتى يشرب ،وبعبارة أخرى فإن السقاء
ى أوسع وأعم.له معن ً
ول عن الراضي الميتة ،ثّم النعام ثّم الناسي ،وهذا التعبير رّبما 3ـ في هذه الية ،ورد الكلم أ ّ
كان لن الراضي إذا لم تحي بالمطر ،فلن يكون للنعام طعام ،وإذا لم تعش النعام ،فلن يستطيع
.النسان إن يتعذى منها
لرتباط الوثيق بين هاتين 4 ـ طرح مسألة اِلحياء بالماء بعد مسألة التطهير ،قد يكون إشارة إلى ا ِ
).المسألتين )حول آثار اِلحياء بالماء ،ثّمة بحث مفصل في ذيل الية 30سورة النبياء
في الية الخيرة ـ مورد البحث ـ يشير تعالى إلى القرآن فيقول :جعلنا هذه اليات بينهم بصور
مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلله على قدرة الخالق ،لكن كثيرًا من الناس لم يتخذوا
).موقفًا إزاء ذلك إّل النكار والكفران) :ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إّل كفورًا
سرين مثل العلمة الطبرسي في تفسيره ،والشيخ الطوسي في تفسير وإن أرجع كثير من المف ّ
التبيان ،والعلمة الطباطبائي في تفسير الميزان وآخرين ،الضمير في جملة "صرفناه" إلى المطر،
حيث يكون مفهومها هكذا :أنزلنا المطر في جهات ومناطق مختلفة من الرض ،ووزعناه بين
.الناس ليتذكروا هذه النعمة العظمى
][278
لكن الحق أن هذا الضمير يرجع إلى القرآن وآياته ،لن هذا التعبير )بصيغة الفعل الماضي
والمضارع( ورد في عشرة مواضع من القرآن المجيد ،حيث ُأرجع في تسعة مواضع إلى آيات
القرآن وبياناته صراحة ،وُأتبع بجملة "ليذكروا" أو ما يشابهها في موارد متعددة .على هذا فمن
.البعيد جدًا أن يأخذ هذا التعبير مفهومًا آخر في هذا المورد الواحد
ن "تصريف" التي هي بمعنى التحويل من حال إلى حال ،ليس لها تناسب و من حيث الصل فإ ّ
كثير مع نزول المطر ،في وقت هي أكثر تناسبًا مع آيات القرآن التي تأتي في انحاء مختلفة،
.أحيانًا بصورة وعد ،وأحيانًا بصورة أمر ،وُأخرى بصورة نهي ،وأحيانًا بصورة قصص الماضين
***
][279
اليات
جَهادًا َكبيرًا)َ (52وُهَو اّلِذى جـِهْدُهم ِبِه ِ ن َو َطِع اْلَكـِفِري َل ُت ِ
شْئَنا َلَبَعْثَنا ِفى ُكّل َقْرَية ّنِذيزًا)َ (51ف َ َوَلْو ِ
جورًا)َ (53وُهَو حُ
جرًا ّم ْحْ جَعَل َبْيَنُهَما بَْرَزخًا َو ِ
ج َو َجا ٌح ُأ َ
ت َوَهَذا ِمْل ٌ ب ُفَرا ٌ
عْذ ٌن َهَذا َ حَرْي ِج اْلَب ْ
َمرَ َ
ل َما َل ن ا ِّ
ن ِمن ُدو ِ
ك َقِديرًا)َ (54وَيْعُبُدو َ ن َرّب َ صْهرًا َوَكا َسبًا َو ِ جَعَلُه َن َ
شرًا َف َ
ن اْلَمآِء َب َ
ق ِم َ خَل َاّلِذى َ
ظِهيرًا)55 عَلى َرّبِه َ ن الَكاِفُر َ ضّرُهْم َوَكا َ
)َينَفُعُهْم َوَل َي ُ
الّتفسير
:بحران متجاوران :عذب فرات وملح ُأجاج
الية اُلولى ـ مورد البحث ـ أشارت إلى عظمة مقام الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ،يقول
تعالى :لو أردنا لبعثنا نبّيا في كل مدينة وبلد ،لكّننا لم نفعل هذا وألقينا مسؤولية هداية العالمين
).على عاتقك) :ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا
ن ال عّزوجّل ـ طبقًا لليات السابقة ـ قادر على إرسال قطرات المطر الباعث على الحياة إلى كما أ ّ
كل الراضي الميتة ،فله القدرة أيضًا على إنزال الوحي
][280
ي في كل قرية ،وأن يبعث لكل ُأمة نذيرًا ،لكن ال يختار لعباده ما هو أصلح، والنبّوة على قلب نب ّ
ن تمركز النبّوة في وجود فرد واحد يكون باعثًا على وحدة وانسجام الناس ،ومانعًا من كل فرقة لّ
.وتشتت
و يحتمل أن بعض المشركين أوردوا هذا الشكال وهو :ألم يكن من الفضل أن يبعث ال نبّيا في
!كل مدينة وقرية؟
لكن القرآن يقول في رّدهم :لو أراد ال ذلك لفعل ،لكن هذا التشتت ليس في صالح المم والشعوب
.قطعًا
وعلى أية حال ،فكما أن هذه الية دليل على عظمة مقام الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ،فهي
.دليل كذلك على وجوب وحدة القائد ،وعلى ثقل عبء مسؤوليته
وبنفس هذا الدليل ،يبّين ال تبارك وتعالى في الية التالية ،أمرين إلهيين مهمين يشكلن منهجين
أساسيين للنبياء ،فيوجه الخطاب أّول إلى الّرسول العظم)صلى ال عليه وآله وسلم( ويقول:
)).فل تطع الكافرين
ن التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى ط أية خطوة على طريق التوافق مع انحرافاتهم ،فإ ّ ل تخ ُ
.ال ،قف أمامهم بقّوة ،واسَع إلى إصلحهم ،لكن كن حذرًا ول تتسلم لهواءهم وخرافاتهم
).أّما القانون الّثاني فهو :جاهد ُأولئك بالقرآن) :وجاهدهم به جهادًا كبيرًا
جهادًا كبيرًا بعظمة رسالتك ،وبعظمة جهاد كل النبياء الماضين ،الجهاد الذي يشمل جميع البعاد
.الروحية والفكرية للناس ،ويشمل كل الصعدة المادية والمعنوية
ل شك أن المقصود من الجهاد في هذا الموضع هو الجهاد الفكري والثقافي والتبليغي وليس
ن هذه السورة مكية ،والمر بالجهاد المسلح لم يكن قد نزل في مّكة .وعلى الجهاد المسلح ،ذلك ل ّ
ن الجهاد الفكريقول العلمة "الطبرسي" في مجمع البيان ،أن هذه الية دليل واضح على أ ّ
والتبليغي في مواجهة وساوس
][281
.المضلين وأعداء الحق من أكبر أنواع الجهاد
".وروي عن الّنبى)صلى ال عليه وآله وسلم(" :رجعنا من الجهاد الصغر إلى الجهاد الكبر
ورّبما كان هذا الحديث إشارة إلى نفس هذا الجهاد وإلى عظمة ما يؤديه العلماء في التبليغ
بالدين ،هذا التعبير يجسد أيضًا عظمة مقام القرآن ،ذلك لّنه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسلحه
ن قدرته البيانية واستدلله وتأثيره العميق وجاذبيته فوق تصور وقدرة البشر .القاطع ،فإ ّ
الوسيلة المؤثرة والواضحة كوضوح الشمس وضياء النهار ،والمطمئنة كطمأنية ستائر الليل،
والمحركة كحركة الرياح الخلقة ،والعظيمة بعظمة الغيوم وفيما تبثه قطرات المطر من حياة،
.حيث أشارت إلى ذلك اليات السابقة
و بعد فاصلة وجيزة ،يتناول القرآن الكريم مجددًا الستدلل على عظمة الخالق عن طريق بيان
نعمه في النظام الكوني ،فيشير بعد ذكر المطر في اليات السابقة إلى عدم الختلط بين المياه
العذبة والمالحة) :وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا
).وحجرًا محجورًا
مرج" من مادة "المرج" )على وزن فلج( بمعنى الخلط أو الرسال ،وهنا بمعنى المجاورة بين"
.الماء العذب والمالح
.عذب" بمعنى سائغ وطيب وبارد ،و"فرات" بمعنى لذيذ وهنيء"
ر وحار) .بناء على هذا فملح وأجاج نقطتان مقابلتان لعذب" ملح" بمعى مالح ،و"أجاج" بمعنى ُم ّ
).وفرات
.برزخ" بمعنى حجاب وحائل بين شيئين"
و جملة )حجرًا محجورًا( كما أشرنا سابقًا )ذيل الية 22من هذه السورة( كانت جملة لخذ
ف عنا ،وآمنا، المان بين العرب يقولونها عندما يفاجؤون بشخص يخافونه ويرهبونه ،يعني )أع ُ
).وابتعد عنا
على أية حال ،فهذه الية تصور واحدًا من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق
][282
في عالم مخلوقاته ،وكيف يستقر حجاب غير مرئي ،وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب،
.فل يسمح لهما بالختلط
و قد اّتضح اليوم أن هذا الحجاب اللمرئي ،هو ذلك "التفاوت بين كثافة المالح والعذب" وفي
.الصطلح "تفاوت الوزن النوعي" لهما ،حيث يكون سببًا في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة
سرين وقعوا في تعب من أجل اكتشاف مثل هذين البحرين في الكرة ن جماعة من المف ّ و رغم أ ّ
الرضية وأين يوجد بحر عذب الماء في جوار بحر مالح الماء ول يمتزجان!؟ لكن هذه المشكلة
انحلت لنا ،لّننا نعلم أن جميع أنهار الماء ،العذب العظيمة التي تصب في البحار عند الساحل،
تشكل بحرًا من الماء العذب ،فتدفع المياه المالحة إلى الخلف ،ويستمر هذا الوضع إلى مّدة
طويلة ،وبسبب التفاوت في كثافتهما يمتنعان عن المتزاج مع بعضهما ،فكل واحد منهما يقول
).للخر) :حجرًا محجورًا
ن سطح البحر يرتفع وينخفض بمقدار كبير بسبب المد والجزر اللذين يحصلن مّرتين الملفت هو أ ّ
في اليوم بتأثير جاذبية القمر وبذلك تغمر المياه العذبة التي شكلت بحرًا اليابسة في مصبات تلك
النهار وأطرافها ،وقد استفاد الناس من هذه الحالة منذ قديم الزمان ،فحفروا جداول كثيرة في
أطراف ملتقى النهار مع البحر ،وزرعوا اراض شاسعة بالشجار ،حيث تتّم سقايتها بنفس ذلك
.الماء العذب الذي ينتشر في مناطق واسعة بواسطة المد والجزر
توجد حتى الن في جنوب العراق وإيران مليين من أشجار النخيل ،وقد شاهدنا عن قرب أ ّ
ن
قسمًا منها يسقى فقط بهذه الوسيلة ،ويقع على بعد كبير من ساحل البحر ،وأحيانًا يتغلب الماء
المالح حيث تقل المياه التي تصبها النهار الكبيرة في البحر في السنين المجدية ،فيقلق
ن ذلك يضّر بزراعتهم ضررًا بالغًا
.المزارعون من أهل هذه المنطقة ،ل ّ
][283
لكن العادة ليست كذلك ،فهذا الماء "العذب الفرات" المستقر إلى جوار الماء "المالح والجاج"
ُ.يعّد ذخيرة عظيمة لهم
معلوم أن وجود العلل الطبيعية في مثل هذه المسائل ل يقلل من قيمتها أبدًا ،وإّل فما هي الطبيعة؟
.ليست هي إّل فعل ال وإرادته ومشيئته ،وهو تعالى الذي منح هذه الخواص لهذه الموجودات
ن النسان حينما يجتاز هذه المناطق بالطائرة ،يرى جيدًا هذان الماءان المختلفان و الملفت للنظر أ ّ
.في اللون ،غير الممتزجين ،فيذّكر هذا المشهد اِلنسان بهذه النكتة القرآنية
ن جعل هذه الية وسط آيات تتعلق بـ "الكفر" و"اليمان" رّبما تكون أيضًا إشارة وتمثيل لهذا إّ
المر ،ففي المجتمع الواحد أحيانًا ،وفي المدينة الواحدة ،بل حتى في البيت الواحد أحيانًا ،يتواجد
أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات ،مع أفراد بل إيمان كالماء المالح الجاج ...مع طرازين من
.الفكر ،ونوعين من العقيدة ،و نمطين من العمل ،طاهر وغير طاهر ،دون أن يمتزجا
في الية التالية ـ بمناسبة البحث في نزول المطر ،وفي البحرين العذب والجاج المتجاورين
).يتحدث القرآن الكريم عن خلق النسان من الماء ،فيقول تعالى) :وهو الذي خلق من الماء بشرًا
حقًا إن النحت في الماء ،وخلق صورة بديعة كهذه على الماء ،دليل على عظمة قدرة الخالق،
وكان الكلم في اليات السابقة حول إحياء النباتات بواسطة المطر ،و الكلم ـ هنا عن مرحلة
.أعلى ،يعني خلق النسان من الماء
سرين أقوال في المراد من الماء هنا :و بين المف ّ
ن خلقهن المقصود من "بشر" هو النسان الول ،يعني آدم)عليه السلم( ،ذلك ل ّ ذهب جماعة أ ّ
كان من "طين" يعني عجينًا من ماء وتراب ،إضافة إلى أن الماء كان أّول موجود خلقه ال تعالى
،طبقًا للّروايات السلمية ،وخلق النسان من ذلك الماء
][284
.وتنكير "بشر" شاهد على هذا المعنى
و ذهب جماعة آخرون أن المقصود من "الماء" هو ماء النطفة ،حيث يتكون جميع الناس منه
بقدرة الخالق ،ومع امتزاج نطفة الرجل "الحيمن" الذي يسبح في الماء مع "البويضة" نطفة
.المرأة ،تتكون أول نواة لحياة النسان ،يعني الخلية النسانية الحية اُلولى
لو تدّبر النسان وتأمل في مراحل انعقاد النطفة من بدايتها إلى نهايتها ،فسيشاهد الكثير من آيات
.عظمة الحق وقدرة الخالق فيها ،حيث تكفي وحدها لمعرفة ذاته المقدسة تبارك وتعالى
).الشاهد على هذا الّتفسير ،جملة وردت في آخر الية ،وسنشرحها )فجعله نسبًا وصهرًا
ن الماء يشكل القسم الكبر من وجود النسان ،بالصورة التي يمكن القول فضل عن هذا ،فل شك أ ّ
ن المادة الساس لوجود أي إنسان هي الماء ،لهذا فإن مقاومة النسان إزاء العطش قليلة جّدا، أّ
.في حين يستطيع النسان أن يقاوم أّياما وأسابيع حيال قّلة المواد الغذائية
ن جميع هذه المعاني تجتمع في مفهوم الية ،أي أن النسان الّول خلق من و يحتمل قويًا أيضًا ،أ ّ
ماء ،وأن تكّون جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضًا ،وأن الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم
النسان أيضًا ...الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم ،كيف صار مبدأ ايجاد مثل هذا
.الخلق الجميل!؟ وهذا دليل بّين على قدرته تبارك وتعالى
).بعد ذكر خلق النسان ،يورد جّل ذكره الكلم عن انتشار النسان ،فيقول) :فجعله نسبًا وصهرًا
المقصود من "النسب" هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد ،مثل ارتباط
الب والبن ،أو الخوة بعضهم مع بعض ،أّما المقصود من
][285
صهر" التي هي في الصل بمعنى "الختن" هو الرتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق"،
مثل ارتباط النسان بأقرباء زوجته ،وهذان الثنان هما ما يعبر عنه الفقهاء في مباحث النكاح بـ
"".النسب" و "السبب
في القرآن المجيد في سورة النساء ،أشير إلى المحارم النسبية النسب في سبعة موارد )الم،
البنت ،الخت ،العمة ،الخالة ،بنت الخ ،بنت الخت( وإلى المحارم السببية في أربعة موارد )بنت
).الزوجة ،أم الزوجة ،زوجة البن ،زوجة الب
سرين في تفسير هذه الجملة ،لكن ماقلناه أوضح من المؤّكد أن هناك وجهات نظر ُأخرى لدى المف ّ
.وأقوى من جميعها
ن جماعة منهم اعتبروا "النسب" بمعنى أولد البن ،و "الصهر" بمعنى أولد فمن جملتها أ ّ
.البنت ،ذلك لن الرتباط النسبي يحسب على أساس الباء ل على أساس اُلمهات
ن هذا اشتباه كبير ،استمّدو كما قلنا بشكل مفصل ـ في ذيل الية ) (61من سورة آل عمران ـ فإ ّ
من سنن أّيام ما قبل السلم ،حيث اعتبروا النسب عن طريق الب فقط ،وليس للم أي أثر ،في
حين أن من المسلمات في الفقه السلمي وبين جميع علماء السلم أن الحرمة النسبية من ناحية
الب ومن ناحية اُلم أيضًا )ولزيادة الطلع ،راجع الّتفسير ذيل الية ) (61من سورة آل
).عمران
و الجدير بالذكر ،أن لدينا حديثًا معروفًا ،نقل في كتب الشيعة والسنة ،وطبقًا لهذا الحديث فإ ّ
ن
ن الّنبي زّوج
الية أعله نزلت في النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وعلي)عليه السلم( ،وذلك أ ّ
ابنته فاطمة من علي)عليهما السلم( ،ولهذا فقد كان علي)عليه السلم( ابن عّم الّنبي)صلى ال
)عليه وآله وسلم( وزوج ابنته أيضًا ،وهذا معنى "نسبًا وصهرًا"1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ مجمع البيان ،وتفسير روح المعاني ،ذيل هذه الية 1
][286
ولكن هذه الّروايات تعتبر بيان للمصاديق الواضحة ،ول تقدح بعمومية مفهوم الية ،فالية تشمل
كل ارتباط يكون عن طريق النسب والمصاهرة ،وأحد مصاديقها الواضحة كان ارتباط علي)عليه
).السلم( من جهتين مع الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم
).في ختام الية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية) :وكان رّبك قديرًا
و يبّين القرآن الكريم في نهاية المطاف في الية الخيرة ـ مورد البحث ـ انحراف المشركين عن
أصل التوحيد ،من خلل المقايسة بين قدرة الصنام وقدرة الخالق ،حيث مّرت نماذج منها في
).اليات السابقة ،يقول) :ويعبدون من دون ال ما ل ينفعهم ول يضرهم
ن وجود المنفعة والضرر ل يكون وحده معيار العبادة ،لكن القرآن يبّين من خلل هذا من المسّلم أ ّ
ن الصنام موجودات عديمة التعبير هذه النكتة ،وهي أّنهم يفتقدون أية حجة في هذه العبادة ،ل ّ
.الخاصية تمامًا ،وفاقدة لية قيمة ،ولي تأثير سلبي أو إيجابي
و يضيف القرآن الكريم في ختام الية أن الكفرة يعين بعضهم بعضًا في مواجهة خالقهم "في
).طريق الكفر" )وكان الكافر على رّبه ظهيرًا
إن هؤلء ليسوا وحدهم في طريق الضلل ،إنهم يقوي بعضهم بعضًا بشكل قاطع ،ويعبئون القوى
سرين يحصر ويقيمون العراقيل ضد دين ال ونبّيه والمؤمنين الحقيقيين .وإذا رأينا أن بعض المف ّ
ن الكافر في"الكافر" الوارد في هذه الية في "أبي جهل" فمن باب ذكر المصداق البارز ،وإّل فإ ّ
.كل مورد له معنى واسع يشمل جميع الكفار
***
][287
مسألتان
ـ وحدة القيادة 1
في الية اُلولى ـ مورد البحث ـ قرأنا قوله تعالى) :ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا( ولكننا لم
نفعل مثل هذا ...ومن المسّلم أن علة ذلك لن النبياء قادة اُلمم ،ونعلم أن التعدد في مسألة
ن الكلم هنا عن خاتم النبياء)صلى ال عليه صة و أ ّ
القيادة يؤدي إلى إضعاف كل ُأّمة وشعب ،خا ّ
وآله وسلم( ،ويجب أن تستمر هذه القيادة حتى نهاية العالم .لذا تّتضح ـ أكثر ـ أهمية التمركز
.والوحدة في القيادة
القائد الواحد يستطيع أن يوحد جميع القوى ،ويمنحها النسجام والوحدة .وفي الحقيقة فإن مسألة
وحدة القيادة انعكاس لحقيقة التوحيد في المجتمع النساني ،ويكون في النقطة المقابلة ظواهر
.الشرك والتفرقة والنفاق
و ما ورد في الية ) (24من سورة فاطر) :وإن من ُأمة إّل خل فيها نذير(فليس ثّمة منافاة مع
.البحث أعله ،لن الكلم فيها عن اُلمة ،ل أهل كل مدينة وكل بلد
ن هذا الصل صحيح أيضًا حتى في أدنى مستويات القيادة، فلو أغمضنا النظر عن مقام النبياء ،فإ ّ
والشعوب التي صارت أسيرة التعدد في القيادة ،إنتهت إلى التجزئة في سائر شؤونها ،فضل عن
.الضعف والعجز
اليات
الّتفسير
َ:أجري هو هدايتكم
كان الكلم في اليات السابقة حول إصرار الوثنيين على عبادتهم الصنام التي ل تضّر ول تنفع،
وفي الية الحالية اُلولى يشير القرآن إلى مهّمة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(قبالة هؤلء
)المتعصبين المعاندين ،فيقول تعالى) :وما أرسلناك إّل مبشراً ونذيرًا(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
ن "مبشر" اسم فاعل فقط ،هذا التفاوت 1 ـ "نذير" في اعتقاد البعض صيغة مبالغة ،في حين أ ّ
التعبيري يمكن أن يكون بسبب أن النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( كان في مواجهة فئة بل إيمان
وكان لها إصرار بالغ على انحرافها ،فل بد أن يبالغ في إنذارها) .روح المعاني ذيل الية مورد
).البحث
][291
إذا لم يتقبل هؤلء دعوتك ،فل جناح عليك ،فقد أديت مهمتك في البشارة واِلنذار ،ودعوت
.القلوب المستعدة إلى ال
هذا الخطاب ،كما يشخص مهّمة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ،كذلك يسّليه ،وفيه نوع من
.التهديد لهذه الفئة الضالة ،وعدم المبالة بهم
ثّم يأمر الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أن يقول لهم أنني ل اريد منكم في مقابل هذا القرآن
وابلغكم رسالة السماء أي أجر وعوض) :قل ما أسألكم عليه من أجر(ثّم يضيف :إن الجر
).الوحيد الذي أطلبه أن يهتدي الناس إلى طريق ال )إّل من شاء أن يتخذ إلى رّبه سبيل
يعني أجري وجزائي هو هدايتكم فقط ،وبكامل الرادة والختيار أيضًا ،فل إكراه ول إجبار فيه،
وكم هو جميل هذا التعبير الكاشف عن غاية لطف ومحبة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(
.لتباعه ،ذلك لّنه عّد) (1أجره وجزاَءه سعادتهم
ن للّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أجرًا معنويًا عظيمًا على هداية المة ،ذلك لن "الدال بديهي أ ّ
".على الخير كفاعله
سرون احتمالت ُأخرى أيضًا في تفسير هذه الية من جملتها :و ذكر المف ّ
ن معنى هذه الية هكذا "أنا ل أريد منكم أي جزاء إّل ما أردتم منسرين أ ّيرى جماعة من المف ّ
)إنفاق الموال على المحتاجين في سبيل ال ،وذلك مرتبط برغبتكم"2).
ن الّتفسير الّ.ل .قرب إلى معنى الية .لك ّ
ن الضمير في "عليه" يرجع إلى القرآن وتبليغ دين اِلسلم ،لن الكلم اّتضح مّما قلناه أعله ،أ ّ
.كان في عدم المطالبة بالجر والجزاء في مقابل هذه الدعوة
هذه الجملة باِلضافة إلى أّنها تقطع حجج المشركين ،فهي توضح أن قبول
ــــــــــــــــــــــــــــ
ن بدا منقطًا لول وهلة 1
.ـ بناء على هذا فالستثناء في الية أعله "استثناء متصل" وإ ْ
".ـ الستثناء في هذه الحالة "استثناء منقطع 2
][292
.هذه الدعوة اِللهية سهل ويسير جّدا لكل أحد ،بل مشّقة ول خسارة
وهذا بنفسه شاهد على صدق دعوة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ،ونقاء فكره ومنهجه ،وذلك
لنّ الدعياء الكاذبين لبّد أن ُيدخلوا في هذا العمل رغبتهم في الجر والجزاء بصورة مباشرة أو
.غير مباشرة
و تبّين الية التي بعدها المعتمد الساس للّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم() :وتوكل على الحي
).الذي ل يموت
فمع هذا المعتمد والملجأ والمولى الذي ما زال ولن يزال حيًا دائمًا ،فل حاجة لك بأجر وجزاء
.هؤلء ،ول خوف عليك من ضررهم ومؤامراتهم
والن حيث المر على هذه الصورة فسبح ال تنزيهًا له من كل نقص ،وأحمده إزاء كل هذه
).الكمالت )وسبح بحمده
ن تعالى هو المنّزه من كل عيب من الممكن اعتبار هذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة ،ل ّ
.ونقص ،وأهٌل لكل كمال وجمال ،وحقيق بالتوكل عليه
ن ال مطلع على ذنوب عباده ثّم يضيف القرآن الكريم :ل تقلق من بهتان ومؤامرات العداء ،ل ّ
).وسيحاسبهم) :وكفى به بذنوب عباده خبيرًا
الية التالية بيان لقدرة الخالق في ساحة عالم الوجود ،ووصف آخر لهذا الملذ المين ،يقول
تعالى) :الذي خلق السماوات والرض وما بينهما في ستة أّيام( .ثّم )استوى على العرش( فأخذ
.بتدبير العالم
ن من له هذه القدرة الواسعة يستطيع أن يحفظ المتوكلين عليه من كل خطر وحادثة ،فكما أ ّ
ن إّ
ن إدارة وقيادة وتدبير ذلك العالم بأمر ذاته المقدسة.خلق العالم كان بواسطة قدرته ،كذلك فإ ّ
ن ال ل يعجل في أي عمل ،فإذا لم يجاز أعداءك ن خلق العالم بشكل تدريجي إشارة إلى أ ّ ضمنًا ،فإ ّ
سريعًا ،فلجل أن يمنحهم الفسحة والفرصة حتى يأخذوا بإصلح أنفسهم ،فضل عن أن من يعجل
هو من يخاف الفوت ،وهذا غير
][293
.متصور بالنسبة إلى ال القادر المتعال
ن "اليوم" في مثل هذه الموارد بمعنى "المرحلة"،
في مسألة خلق عالم الوجود في ستة أّيام ،فإ ّ
أو الفترة الزمنية وهذه الفترة من الممكن أن تستغرق مليين أو مليارات من السنين ،وشواهد
هذا المعنى في الدب العربي وغيره كثيرة ،بحثناه بشكل مفصل في تفسير الية ) (54من سورة
.العراف ،وشرحنا هناك هذه المراحل الست
ن معنى "العرش" وجملة )استوى على العرش( وردت هناك أيضًا .و أيضًا فإ ّ
وفي ختام الية يضيف تعالى) :الرحمن( :من شملت رحمته العاّمة جميع الموجودات ،فالمطيع
.والعاصي والمؤمن والكافر يغترفون من خوان نعمته التي ل انقطاع فيها
والن ،حيث رّبك الرحمن القادر المقتدر ،فإذا أردت شيئًا فاطلب منه فإّنه المطلع على احتياجات
).جميع عباده) :فاسأل به خبيرًا
هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ نتيجة لمجموع البحوث السابقة .يأمر ال الّنبي)صلى ال عليه وآله
ن لهم أّنني ل أريد منكم أجرًا ،وتوكل على ال الجامع لكل الصفات ،القادر ،والرحمن، وسلم( :أعِل ْ
.والخبير ،والمطلع ،وأطلب منه أي شيء تريده
سرين أقوال ُأخرى في تفسير هذه الجملة ،فقد جعلوا السؤال هنا بمعنى الستفهام )ل الطلب(، للمف ّ
وقالوا :إن مفهوم الجملة هو :إذا أردت أن تسأل في موضوع خلق الوجود وقدرة الخالق ،فاسأله
.هو ،فهو العالم بكل شيء
بعض آخر ،بالضافة إلى أّنهم فسروا "السؤال" بـ "الستفهام" قالوا :إن المقصود بـ "الخبير"
.جبرئيل ،أو الّنبي ،يعني :إسألهما عن صفات ال
الّتفسير الخير بعيد جّدا بالتأكيد ،وما قبله أيضًا غير متناسب كثيرًا مع اليات السابقة ،والقرب
هو ما قلناه في معنى الية من أن المقصود من السؤال
][294
)هو الطلب من ال1).
***
مسألتان
ـ أجر الرسالة 1
ن أنبياء ال كانوا يبّينون هذه الحقيقة بصراحة :إّننا ل نسأل أي نقرأ في كثير من آيات القرآن أ ّ
ن أجرنا على ال العظيم فقط .أجر من أي أحد ،بل إ ّ
اليات 109و 127و 145و 164و 180سورة الشعراء ،وكذلك اليات 29و 51سورة هود،
.والية 72سورة يونس و 47سورة سبأ ،تدل على هذا المعنى
ل شك أن عدم المطالبة بالجر هذه ،تدفع كل اتهام عن النبياء ،فضل عن أّنهم يستطيعون أن
يواصلوا عملهم بحرية تامة ،وترتفع الموانع والحواجز التي قد تحدد من حرية ألسنتهم بسبب
.العلقة المادية
حظ ثلثة تعابير مختلفة فيما يخص الّرسول العظم)صلى ال عليه وآله أّما الملفت للنتباه فإّنه تل َ
).وسلم
ل من شاء أن يتخذ إلى رّبه 1 ـ التعبير الذي ورد في اليات أعله )قل ما أسألكم عليه من أجر إ ّ
.سبيل( هذا التعبير الفذ البليغ الرائع
ل المودة في 2 ـ التعبير الوارد في الية ) (23من سورة الشورى )قل ل أسألكم عليه أجرًا إ ّ
).القربى
ل3ـ التعبير الوارد في الية ) (47من سورة سبأ )قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ،إن أجري إ ّ
).على ال
من أنضمام هذه التعابير الثلثة إلى بعضها ،تتحصل النتيجة التالية :فيما يخص
ــــــــــــــــــــــــــــ
لخرى ،فإن "الباء" بمعنى 1
ـ طبقًا لهذا الّتفسير فـ "الباء" في "به" زائدة ،أّما طبقًا للتفاسير ا ُ
"".عن
][295
عّدت المودة في القربى أجر رسالته ،فهذه المودة الّرسول العظم)صلى ال عليه وآله وسلم( ،إذا ُ
ـ من جانب ـ في نفع المؤمنين أنفسهم ل بنفع الّنبي .ومن جانب آخر فإن هذه المودة وسيلة
.حصول الهداية على طريق ال تبارك وتعالى
ن مجموع هذه اليات يشير إلى أن المودة في قربى رسول ال)صلى ال عليه بناء على هذا ،فإ ّ
وآله وسلم( هي استمرار منهج رسالة وقيادة ذلك الّنبي ،وبعبارة أخرى :لمواصلة طريق
الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وهدايته وقيادته يجب الرتباط بذوي قرباه ،والعتماد على
قيادتهم ،هذا هو المر الذي يدافع عنه اتباع أهل البيت في مسألة المامة ،فإّنهم يعتقدون أن
.امتداد القيادة بعد الّنبي سيستمر إلى البد ،ل في شكل النبّوة ،بل في شكل المامة
و من اللزم اللتفات إلى هذه النكتة أيضًا ،وهي أن المحبة عامل مؤثر في التباع ،كما نقرأ في
.الية ) (31من سورة آل عمران) :قل إن كنتم تحّبون ال فاتبعوني (...ذلك لّني المبلغ بأمره
ورابطة الحب من حيث الصل ،تأخذ النسان باتجاه المحبوب وإراداته ،وكلما كانت رابطة الحب
أكثر قّوة ،كانت هذه الجاذبية قوية أكثر .خصوصًا المحّبة التي يكون دافعها كمال "المحبوب"،
ويكون الحساس بهذا الكمال سببًا في أن يسعى النسان ليتقرب إلى مبدأ الكمال وإلى تنفيذ
)إراداته1).
اليات
جُد ِلَما َتْأُمُرَنا َوَزاَدُهْم ُنُفورًا)َ (60تَباَركَ
سُ
ن َأَن ْ
حَمـ ُ
ن َقاُلوْا َوَما الّر ْ
حَمـ ِ
جُدوْا ِللّر ْ
سَُوِإَذا ِقيَل َلُهُم ا ْ
جَعَل اّلْيَل َوالّنَهاَر
سرجًا َوَقَمرًا ّمِنيرًا)َ (61وُهَو اّلِذى َ جَعَل ِفيها ِ سَمآِء ُبُروجًا َو َ جَعَل ِفى ال ّ اّلِذى َ
شُكورًا)62 ن َأَراَد َأن َيّذّكَر َأْو أَراَد ُ
)خِْلَفًة ّلَم ْ
الّتفسير
:البروج السماوية
كان الكلم في اليات الماضية عن عظمة وقدرة ال ،وعن رحمته أيضًا ،ويضيف ال تعالى في
).الية اُلولى هنا) :وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن
نحن ل نعرف "الرحمن" أصل ،وهذه الكلمة ليس لها مفهوم واضح عندنا) ،أنسجد لما تأُمرنا(
نحن ل نخضع لي أحد ،وسوف لن نكون أتباع أمر هذا أو ذاك )وزادهم نفورًا( اي أّنهم يتكلمون
.بهذا الكلم ويزدادون ابتعادًا ونفورًا عن الح ّ
ق
ن أنسب اسم من أسماء ال للدعوة إلى الخضوع والسجود بين يديه كأّ،ل ش ّ
][298
هو ذلك السم الممتلىء جاذبية "الرحمن" مع مفهوم رحمته العاّمة الواسعة ،لكن أولئك بسبب
عمى قلوبهم ولجاجتهم ،لم يظهروا تأثرًا حيال هذه الدعوة ،بل تلقوها بالسخرية والستهزاء،
وقالوا على سبيل التحقير) :وما الرحمن( كما قال فرعون حيال دعوة موسى)عليه السلم() :وما
رب العالمين( (1).فهؤلء لم يكونوا على استعداد حتى ليقولوا" :ومن الرحمن" أو "من ر ّ
ب
".العالمين
سرين يرى أن اسم "الرحمن" لم يكن مأنوسًا بين عرب الجاهلية ،وحينما ورغم أن بعض المف ّ
سمعوا هذا الوصف من الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( طرحوا هذا السؤال على سبيل التعجب
واقعًا ،حتى كان يقول البعض منهم" :ما نعرف الرحمن إّل رجل باليمامة" )يعنون به مسيلمة
").الكذاب الذي ادعى النبّوة كذبًا ،وعرفه وقومه بهذا السم "الرحمن
ن مادة هذا السم وصيغته كلهما عربيان ،وكان الّنبي)صلى ال عليه لكن هذا القول بعيد جّدا ،ل ّ
وآله وسلم( يتلو ـ دائمًا ـ في بداية السور القرآنية ،الية )بسم ال الرحمن الرحيم(وعلى هذا فلم
يكن هدف ُأولئك إّل التحجج والسخرية ،والعبارة التالية شاهد على هذه الحقيقة أيضًا لنهم
).يقولون) :أنسجد لما تأمرنا
ن عمي القلوب من المعاندينوبما أن تعاليم القادة اللهيين تؤثر في القلوب المؤهلة فقط ،فإ ّ
ن آيات القرآن كقطرات المطر الباعثة على مضافًا الى عدم انتفاعهم بها ،فإّنها تزيدهم نفورًا ل ّ
الحياة تنمي الورد والخضرة في البستان ،والشوك في الرض السبخة ،ولذا ل مجال للتعجب حيث
)يقول) :وزادهم نفورًا(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة الشعراء ،الية 1 23
ن فاعل )زاد( هو ذلك المر بالسجود الذي ترك أثرًا معكوسًا في أولئك المرضى 2 ـ على هذا فإ ّ
ن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( سجد بعد هذا الكلم وسجد سرين أ ّ قلوبهم ،وإن نقل بعض المف ّ
المؤمنون أيضًا ،فسّبب هذا ابتعاد ُأولئك أكثر ،بناء على هذا ففاعل )زاد( السجدة ،لكن المعنى
حة.الّول أكثر ص ّ
][299
الية التالية إجابة على سؤالهم حيث كانوا يقولون" :وما الرحمن" ،وإن كانوا يقولون هذا على
سبيل السخرية ،لكن القرآن يجيبهم إجابة جادة ،يقول تعالى) :تبارك الذي جعل في السماء
).بروجاً
البروج" جمع "برج" في الصل بمعنى "الظهور" ولذا يسمون ذلك القسم العلى والظهر من"
جدار أطراف المدينة أو محل تجمع الفرقة العسكرية "برج" ،ولهذا أيضًا يقال حينما تظهر المرأة
.زينتها "تبرجت المرأة" ،وهذه الكلمة تطلق أيضًا على القصور العالية
صة حيث تستقر الشمس والقمر على أية حال ،فالبروج السماوية ،إشارة إلى الصور الفلكية الخا ّ
في كل فصل وكل موضع من السنة إزاء واحد منها ،يقولون مثل :استقرت الشمس في برج
"الحمل" يعني أّنها تكون بمحاذاة "الصورة الفلكية"" ،الحمل" ،أو القمر في "العقرب" يعني
وقفت كرة القمر أمام الصورة الفلكية "العقرب" )تطلق الصورة الفلكية على مجموعة من النجوم
).لها شكل خاص في نظر المشاهد
بهذا الترتيب ،أشارت الية إلى منازل الشمس والقمر السماوية ،وتضيف على أثر ذلك) :وجعل
).فيها سراجًا وقمرًا منيرًا()1
تبّين هذه الية النظم الدقيق لسير الشمس والقمر في السماء )و بديهي أن هذه التغييرات في
الحقيقة ترتبط بدوران الرض حول الشمس دائمًا( .والنظام الفذ الدقيق الذي يحكمهما مليين
السنين بل زيادة أو نقصان ،بالشكل الذي يستطيع الفلكيون ـ أحيانًا ـ أن يتنبؤا .قبل مئات السنين
بوضع حركة الشمس والقمر في يوم معين وساعة معينة بالنسبة إلى مئات السنين التية ،هذا
النظام الحاكم على هذه الفلك السماوية العظيمة شاهد ناطق على وجود الخالق المدبر
ــــــــــــــــــــــــــــ
ن1 ن ضمير "فيها" يرجع إلى البروج ،وينبغي أن يكون هكذا ،ذلك ل ّ ـ طبقًا للتفسير أعله ،فإ ّ
الموضوع المهم هو دوران الشمس والقمر ضمن نظام خاص في البروج :وليس وجود البروج
.في السماء فقط
][300
.والمدير لعالم الوجود الكبير
مع هذه الدلئل الواضحة ،ومع هذه المنازل البديعة والدقيقة للشمس والقمر ،فهل مازلتم تجهلونه
وتقولون" :وما الرحمن"!؟
ن القمر بصفة "منير"؟ فمن الممكن أن يكون دليله أن أّما لماذا سميت الشمس" ،سراجًا" ،وُقِر َ
"السراج" بمعنى المنبع الضوئي الذي نوره مستمٌد من ذاته وهذا ينطبق على حال الشمس ،حيث
أنّ من المسلمات العلمية طبقًا للتحقيقات أن نورها من نفسها .بخلف القمر الذي نوره من ضياء
الشمس ،ولذا وصفه بـ "المنير" الذي يستمد نوره من غيره دائمًا) ،في الّتفسير المثل ،أوردنا
).القول مفصل في هذا الصدد ،ذيل الية 5و 6سورة يونس
في الية الخيرة ،يواصل القرآن الكريم التعريف بالخالق سبحانه ،ويتحدث مّرة ُأخرى في قسم
آخر من نظام الوجود ،فيقول تعالى) :و هو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكر أو
).أراد شكورًا
هذا النظام البديع الحاكم على الليل والنهار ،حيث يعقب أحدهما الخر متناوبين متواصلين على
هذا النظم مليين السنين ...النظم الذي لوله لنعدمت حياة النسان نتيجًة لشدة النور والحرارة أو
الظلمة والعتمة ،وهذا دليل رائع للذين يريدون أن يعرفوا ال عّزوجّل
ومن المعلوم أن نشوء نظام "الليل" و "النهار" نتيجة لدوران الرض حول الشمس ،وأن
تغيراتهما التدريجية والمنظمة ،حيث ينقص من أحدهما ويزاد في الخر دائمًا بسبب ميل محور
.الرض عن مدارها مّما يؤدي لوجود الفصول الربعة
فإذا دارت كرتنا الرضية في حركتها الدورانية أسرع أو أبطأ من دورانها الفعلي ففي احدى
ن الشمس تحرق الصور تطول الليالي الى درجة أّنها تجمد كل شيء ،ويطول النهار الى درجة أ ّ
ن الفاصلة
كل شيء ...وفي صورة اخرى فإ ّ
][301
ن القّوة المركزية الطاردة
القصيرة بين الليل والنهار كانت ستبطل تأثيرهما وفائدتهما .فضل عن أ ّ
.كانت سترتفع بحيث ستقذف جميع الموجودات الرضية بعيدًا عن الكرة الرضية
ن التأمل في هذا النظام يوقظ فطرة معرفة ال في النسان من جهة )ولعل التعبير والخلصة أ ّ
بالتذكر والتذكير إشارة إلى هذه الحقيقة( ،ومن جهة ُأخرى ُيحي روح الشكر فيه ،وقد ُأشير إلى
).ذلك بقوله تعالى) :أو أراد شكورًا
الجدير بالذكر أّننا نقرأ في بعض الّروايات التي نقلت عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أو
الئّمة المعصومين في تفسير الية ،أن تعاقب الليل والنهار من أجل أن النسان إذا أهمل اداء
واجب من واجباته تجاه ال سبحانه وتعالى فإّنه بإمكانه جبرانه أو قضاءه في الوقت الخر
منهما .هذا المعنى من الممكن أن يكون تفسيرًا ثانيًا للية ،ومّما سبق من كون اليات القرآنية
.ذات بطون ،فل منافاة بين هذا المعنى والمعنى الّول أيضًا
وفي ذلك ورد في حديث عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قال" :كّل ما فاتك بالليل فاقضه
بالنهار ،قال ال تبارك وتعالى) :وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد
)شكورًا( يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار ،وما فاته بالنهار بالليل"1).
).نفس هذا المعنى نقله "الفخر الرازي" عن الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ من ل يحضره الفقيه ،طبقًا لنقل نور الثقلين ،ج 4ذيل الية 1
][302
اليات
سَلـمًا)َ (63واّلِذي َ
ن ن َقاُلوْا َ جـِهُلو َطَبُهُم اْل َ
خا َض َهْونًا َوِإَذا َ عَلى اَْلْر ِ ن َ
شو َن َيْم ُ
ن اّلِذي َ
حَمـ ِ
َوعَِباُد الّر ْ
ن
عَذاَبَها َكا َ
ن َ جَهّنَم ِإ ّب َعَذا َف عَّنا َ صِر ْ ن َرّبَنا ا ْ ن َيقُوُلو َ
جدًا َوِقيمًا)َ (64واّلِذي َ سّ ن ِلَرّبِهْم ُ
َيِبيُتو َ
ن َبْي َ
ن سِرُفوْا َوَلْم َيْقُتُروْا َوَكا َ
ن ِإَذآ َأنَفُقوْا َلْم ُي ْ
سَتَقّرا َوُمَقامًا)َ (66واّلِذي َ ت ُم ْ
سآَء ْغَرامًا)ِ (65إّنَها َ َ
ك َقَوامًا)67 )ذِل َ
الّتفسير
صة لعباد الرحمن
:الصفات الخا ّ
صة لعباد الرحمن ،إكمال لليات
هذه اليات ـ فما بعد ـ تستعرض بحثًا جامعًا فذًا حول الصفات الخا ّ
الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم ال "الرحمن" يقولون وملء رؤوسهم
استهزاء وغرور "وما الرحمن"؟ ورأينا أن القرآن يعّرف لهم "الرحمن" ضمن آيتين ،وجاء
".الدور الن ليعّرف "عباد الرحمن
صة ،حيث يرتبط بعضها بالجوانب العتقادية، تبّين هذه اليات اثنتي عشرة صفة من صفاتهم الخا ّ
وبعض منها أخلقي ،ومنها ما هو إجتماعي ،بعض منها
][303
.يتعلق بالفرد ،وبعض آخر بالجماعة ،وهي أّول وآخرًا مجموعة من أعلى القيم النسانية
)يقول تعالى) :وعباد الرحمن الذين يمشون على الرض هونًا(1).
إن أول صفة لـ" :عباد الرحمن" هو نفي الكبر والغرور والتعالي ،الذي يبدو في جميع أعمال
ن الملكات الخلقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال النسان حتى في طريقة المشي ،ل ّ
.وحركات النسان بحيث أن من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلقه ـ بدّقة ـ من أسلوب مشيته
.نعم ،إّنهم متواضعون ،والتواضع مفتاح اليمان ،في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر
لقد رأينا بُأم أعيننا في الحياة اليومية ،وقرأنا مرارًا في آيات القرآن أيضًا ،أن المتكبرين
المغرورين لم يكونوا مستعدين حتى ليصغوا إلى كلم القادة اللهيين ،كانوا يتلقون الحقائق
بالسخرية ،ولم تكن رؤيتهم أبعد من أطراف ُأنوفهمُ ،ترى أيمكن أن يجتمع اليمان في هذه الحال
!مع الكبر؟
نعم ،هؤلء المؤمنون ،عباد ربهم الرحمن ،والعلمة اُلولى لعبوديتهم هو التواضع ...التواضع
.الذي نفذ في جميع ذرات وجودهم ،فهو ظاهر حتى في مشيتهم
ن إحدى أهم القواعد التي يأمر ال بها نبّيه هي )ول تمش في الرض مرحًا ،إّنك لن فإذا رأينا أ ّ
.تخرق الرض ولن تبلغ الجبال طول() (2فلنفس هذا السبب أيضًا ،وهو أن التواضع روح اليمان
حّقا إذا كان للنسان أدنى معرفة بنفسه وبعالم الوجود ،فسيعلم كم هو ضئيل
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "هون" مصدر ،وهو بمعنى الناعم والهادي المتواضع ،واستعمال المصدر في معنى اسم 1
.الفاعل هنا للتوكيد ،يعني أّنهم في ما هم عليه كأّنهم عين الهدوء والتواضع
.ـ سورة السراء ،الية 2 37
][304
حيال هذا العالم الكبير ،حتى وإن كانت رقبته كالجبال ،فإن أعلى جبال الرض أمام عظمة الرض
أقل من تعرجات قشر )النارنج( بالنسبة إليها ،تلكم الرض التي هي نفسها ل شيء بالنسبة الى
.الفلك العظيمة
ترى أليست هذه الحالة من الكبر والغرور ،دليل على الجهل المطلق!؟
نقرأ في حديث رائع عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ،أّنه كان يعبر أحد الزقة يومًا ما ،فرأى
جماعة من الناس مجتمعين ،فسألهم عن سبب ذلك فقالوا :مجنون شغل الناس بأعمال جنونية
مضحكة ،فقال :رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( :أتريدون أن أخبركم من هو المجنون حقًا،
فسكتوا وأنصتوا بكل وجودهم فقال)صلى ال عليه وآله وسلم(" :المتبختر في مشيه ،الناظر في
عطفيه ،المحرك جنبيه بمنكبيه ،الذي ل يرجى خيره ول يؤمن شّره ،فذلك المجنون ،وهذا
!".مبتلى
الصفة الّثانية لـ "عباد الرحمن" الحلم والصبر ،كما يقول القرآن في مواصلته هذه الية )وإذا
).خاطبهم الجاهلون قالوا سلمًا
.السلم الذي هو علمة اللمبالة المقترنة بالعظمة ،وليس الناشيء عن الضعف
السلم دليل عدم المقابلة بالمثل حيال الجهلة الحمقى ،سلم الوداع لقوالهم غير المتروية ،ليس
.سلم التحية الذي هو علمة المحبة ورابطة الصداقة
.والخلصة ،أنه السلم الذي هو علمة الحلم والصبر والعظمة
نعم ،المظهر الخر من مظاهر عظمتهم الروحية ،هو التحمل وسعة الصدر اللذين بدونهما سوف
ل يطوي أي إنسان طريق "العبودية ل" الصعب الممتلىء بالعقبات ،خصوصًا في المجتمعات
.التي يكثر فيها الفاسدون و"مفسدون" وجهلة
وتتناول الية الّثانية ،خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة ل ،فيقول تعالى) :والذين يبيتون
).لرّبهم سجدًا وقيامًا
،في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة ،وحيث ل مجال للتظاهر والرياء
][305
حّرموا على أنفسهم لذة النوم ،ونهضوا إلى ما هو ألّذ من ذلك ،حيث ذكُر ال والقيام والسجود
بين يدي عظمته عّزوجّل ،فيقضون شطرًا من الليل في مناجاة المحبوب ،فينورون قلوبهم
.وأرواحهم بذكره وباسمه
ورغم أن جملة "يبيتون" دليل على أّنهم يقضون الليل بالسجود والقيام إلى الصباح ،لكن المعلوم
ن ذلك يكون في بعض أنّ المقصود هو شطر كبير من الليل ،وإن كان المقصود هو كل الليل فإ ّ
.الموارد
كما أن تقديم "السجود" على "القيام" بسبب أهميته ،وإن كان القيام مقّدم على السجود عمليًا في
)حال الصلة1).
الصفة الّرابعة لهم هي الخوف من العذاب اللهي )والذين يقولون رّبنا اصرف عّنا عذاب جهنم إ ّ
ن
).عذابها كان غرامًا( .أي شديدًا ومستديمًا) .إّنها ساءت مستقرًا ومقامًا
ن
و مع أّنهم مشتغلون بذكر ال وعبادته في الليالي ،ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم ،فإ ّ
قلوبهم أيضًا مملوءة بالخوف من المسؤوليات ،ذلك الخوف الباعث على القّوة في الحركة أكثر
وأفضل باتجاه أداء التكاليف ،ذلك الخوف الذي يوجه النسان من داخله كشرطي قوي ،فينجز
تكاليفه على النحو الحسن دون أن يكون له آمر ورقيب ،في ذات الوقت الذي يرى نفسه مقصرًا
.أمام ال
كلمة "غرام" في الصل بمعنى المصيبة ،واللم الشديد الذي ل يفارق النسان .ويطلق "الغريم")
(2.على الشخص الدائن ،لّنه يلزم النسان دائمًا من أجل أخذ حّقه
ويطلق "الغرام" أيضًا على العشق والعلقة المتوقدة التي تدفع النسان بإصرار باتجاه عمل أو
ن عذابها
شيء آخر ،وتطلق هذه الكلمة على "جهنم" ل ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ن "سجدًا" جمع "ساجد"" ،وقيامًا" جمع "قائم 1 ".ـ ينبغي النتباه إلى أ ّ
).ـ تطلق "الغريم" على "الدائن" و"المدين" أيضًا) .لسان العرب مادة غرم 2
][306
.شديد ودائم ل يزول
ولعل الفرق بين "مستقرًا" و"مقامًا" أن جهنم مكان دائم للكافرين فهي لهم "مقام" ،ومكان
.مؤقت للمؤمنين ،أي "مستقر" ،وبهذا الترتيب يكون قد ُأشير إلى كل الفريقين الذين يردان جهنم
ومن الواضح أن جهنم محل إقامة ومستقر سيء ،وشتان بين الراحة والنعيم وبين النيران
.الحارقة
ى واحد ،وتأكيد على دوام عقوبات ومن المحتمل أيضًا أن تكون "مستقرًا" و"مقامًا" كلهما لمعن ً
جهنم ،وهو صحيح في مقابل الجّنة ،حيث نقرأ عنها في آخر هذه اليات نفسها )خالدين فيها
)حسنت مستقرًا ومقامًا(1).
في الية الخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة لـ "عباد الرحمن" التي هي
العتدال والبتعاد عن أي نوع من الفراط والتفريط في الفعال ،خصوصًا في مسألة اِلنفاق،
).فيقول تعالى) :والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا
الملفت للنتباه أنه يعتبر أصل النفاق أمرًا مسلمًا ل يحتاج إلى ذكر ،ذلك لن النفاق أحد العمال
الضرورية لكل إنسان ،لذا يورد الكلم في كيفية إنفاقهم فيقول :إن إنفاقهم إنفاق عادل )معتدل(
بعيد عن أي إسراف وبخل ،فل يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولدهم جياعًا ،ول يقترون بحيث ل
.يستفيد الخرون من مواهبهم وعطاياهم
سرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى في تفسير "السراف" و "القتار" كنقطتين متقابلتين ،للمف ّ
ن "السراف" هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد ،وفي غير حق ،وبل داع، أمر واحد ،وهو أ ّ
.و"اِلقتار" هو أن ينفق أقل من الواجب
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة الفرقان ،الية 1 76
][307
لسراف واِلقتار وحد اِلعتدال ،تقول الّرواية:في إحدى الروايات اِلسلمية ،ورد تشبيه رائع ل ِ
تل أبو عبد ال)عليه السلم( هذه الية) :والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك
قوامًا( .قال :فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ،فقال :هذا اِلقتار الذي ذكره ال عّزوجّل في
كتابه ،ثّم قبض قبضة ُأخرى فأرخى كّفه كّلها ،ثّم قال :هذا اِلسراف ،ثّم أخذ قبضة أخرى فأرخى
)بعضها وأمسك بعضها وقال :هذا القوام"1).
كلمة "قوام" )على وزن عوام( لغة بمعنى العدل واِلستقامة والحد والوسط بين شيئين ،و"ُقوام"
).على وزن كتاب( :الشيء الذي يكون أساس القيام والستقرار
***
مسألتان
ـ طريقة مشي المؤمنين 1
ن التواضع أحد علئم "عباد الرحمن" ،التواضع الذي يهيمن على قرأنا في اليات أعله أ ّ
أرواحهم بحيث يظهر حتى في مشيتهم ،التواضع الذي يدفعهم إلى التسليم أمام الحق .لكن من
الممكن أحيانًا أن يتوهم البعض في التواضع ضعفًا وعجزًا وخورًا وكسل ،وهذا النمط من التفكير
.خطير جّدا
التواضع في المشي ليس هو الضعف والخطوة الخائرة ،بل إنّ الخطوات المحكمة التي تحكي عن
.الجدية والقدرة هي من صميم التواضع
نقرأ في سيرة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أن أحد أصحابه يقول" :مارأيت أحدًا أسرع في
ل)صلى ال عليه وآله وسلم( ،كأّنما الرض تطوى له ،وإّنا لنجهد أنفسنا وإّنه
مشيته من رسول ا ّ
لغير
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ الكافي :طبقًا لنقل تفسير نور الثقلين ،ج ،4ص 1 29
][308
)مكترث"1).
ونقرأ في حديث آخر عن اِلمام الصادق)عليه السلم( في تفسير الية )الذين يمشون على
جبل عليها ل يتكلف ول يتبختر"2). )الرض( أّنه قال" :والرجل يمشي بسجيته التي ُ
وورد في حديث آخر ،في حالت الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(" :قد كان يتكفأ في مشيه كإّنما
)يمشي في صبب"3).
يعني حينما كان الّرسول الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( يمشي فإّنه يخطو خطوات سريعة
.دونما استعجال ،كأّنما يمشي في منحدر
ن طريقة المشي ليست مقصودة بذاتها ،بل هي نافذة إلى معرفة الحالة الروحية على أية حال فإ ّ
للنسان ،والية في الحقيقة تشير إلى نفوذ روح التواضع والخشوع في أرواح وقلوب "عباد
".الرحمن
ـ البخل والسراف 2
ن "اِلسراف" واحد من العمال الذميمة بنظر القرآن واِلسلم ،وورد ذم كثير له في ل شك أ ّ
ن فرعون لعال في الرض وأّنه لمن اليات والّروايات ،فالسراف كان نهجًا فرعونيًا) :وإ ّ
)المسرفين(4).
)والمسرفون هم أصحاب جهنم والجحيم )وإن المسرفين هم أصحاب النار(5).
ومع اللتفات إلى أّنه أصبح ثابتًا اليوم أن منابع الثروات الرضية ليست
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ في ظلل القرآن ،ذيل الية مورد البحث ،وفي تفسير القرطبي ينقل رواية ُأخرى في هذا 1
.الصدد أيضًا لها شبه كبير بما قلناه أعله
.ـ مجمع البيان ،ذيل الية مورد البحث 2
.ـ تفسير روح المعاني ،ذيل الية مورد البحث 3
.ـ سورة يونس ،الية 4 83
.ـ سورة غافر ،الية 5 43
][309
كثيرة جدًا نسبة إلى زيادة الكثافة السكانية للبشرية حتى يمكن للنسان أن يسرف ،وكل إسراف
سيكون سببًا في حرمان ُأناس ل ذنب لهم ،فضل عن أن السراف عادة قرين التكبر والغرور
.والبعد عن خلق ال
ن التقتير والبخل أيضًا ،ذميم وقبيح وغير مقبول بنفس الدرجة ،فالصل على
في تفس الوقت فإ ّ
أساس النظرة التوحيدية ،أن ال تبارك وتعالى هو المالك الصلي ،ونحن جميعًا مستخلفون من
قبله ،وكّل نوع من التصرف دون إجازته ورضاه فهو قبيح وغير مقبول ،ونحن نعلم أن ال لم
.يأذن باِلسراف ولم يأذن بالبخل
***
][310
اليات
الّتفسير
:بحث آخر في صفات عباد الرحمن
ميزة "عباد الرحمن" السادسة التي وردت في هذه اليات هي التوحيد الخالص الذي بيعدهم عن
كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة ،فيقول تعالى) :والذين ل يدعون مع ال إلهًا
).آخر
فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية والجتماعية ،وانقشعت عن سماء أفكارهم
.وأرواحهم ظلمات الشرك
][311
)الصفة السابعة طهارتهم من التلوث بدم البرياء )ول يقتلون النفس التي حرم ال إّل بالحق(1).
ويستفاد جيدًا من الية أعله أن جميع النفس النسانية محترمة في الصل ،ومحرم إراقة دمائها
.إّل إذا تحققت أسباب ترفع هذا اِلحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم
).صفتهم الّثامنة هي أن عفافهم ل يتلوث أبدًا) :ول يزنون
إّنهم على مفترق طريقين :الكفر واليمان ،فينتخبون اليمان ،وعلى مفترق طريقين المان
واللأمان في الرواح ،فهم يتخيرون المان ،وعلى مفترق طريقين :الطهر والتلوث :فهم
يتخيرون النقاء والطهر .إّنهم يهيئون المحيط الخالي من كل انواع الشرك والتعدي والفساد
.والتلوث ،بجدهم واجتهادهم
).وفي ختام هذه الية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر) :ومن يفعل ذلك يلق أثامًا
الثم" و "آثام" في الصل بمعنى العمال التي تمنع من وصول النسان إلى المثوبة ،ثّم أطلقت"
.على كل ذنب ،لكّنها هنا بمعنى جزاء الذنب
قال بعضهم أيضًا :إن "إثم" بمعنى الذنب و "آثام" بمعنى عقوبة الذنب) (2فإذا رأينا أن بعض
سرين ذكروها بمعنى صحراء أو جبل أو بئر في جهنم فهو في الواقع من قبيل بيان المصداق .المف ّ
.و حول فلسفة تحريم الزنا ،قدمنا بحثًا مفصل في ذيل الية ) (33سورة السراء
ومن الملفت للنظر في الية أعله ،أنها بحثت أول في مسألة الشرك ،ثّم قتل
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ الستثناء في الجملة أعله "استثناء مفرغ" اصطلحًا ،وكان في التقدير هكذا "ل يقتلون 1
".النفس التي حرم ال بسبب من السباب إّل بالحق
.ـ تفسير الفخر الرازي 2
][312
النفس ،ثّم الزنا ،ويستفاد من بعض الّروايات أن هذه الذنوب الثلثة تكون من حيث الهمية
.بحسب الترتيب الذي أوردته الية
ينقل ابن مسعود عن الّنبي الكرم)صلى ال عليه وآله وسلم( ،قال :سألت رسول ال)صلى ال
ي؟ قال:عليه وآله وسلم( :أي الذنب أعظم؟ قال" :أن تجعل ل ندًا وهو خلقك" قال :قلت :ثّم َأ ّ
ي؟ قال" :أن تزاني حليلة جارك" فأنزل ال "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال :قلت :ثّم أ ّ
)تصديقها1).
وبالرغم من أن الكلم في هذا الحديث ،ورد عن نوع خاص من القتل والزنا ،لكن مع النتباه إلى
ن هذا الحكم يشمل جميع أنواع القتل والزنا ،وما في الّرواية مصداق إطلق مفهوم الية يتجلى أ ّ
ح لهما .أوض ٌ
تتكيء الية التالية أيضًا على ما سبق ،من أن لهذه الذنوب الّثلثة أهمية قصوى ،فيقول تعالى:
)).يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا
:و يتجسد هنا سؤالن
الّول :لماذا يتضاعف عذاب هذا النوع من الشخاص؟ ولماذا ل يجازون على قدر ذنوبهم؟ وهل
ينسجم هذا مع أصول العدالة!؟
ن الخلود هنا مرتبط بالكفار فقط .والذنب ن الكلم هنا عن الخلود في العذاب ،في حين أ ّ الّثاني :إ ّ
الّول من هذه الذنوب الثلثة التي ذكرت في الية يكون كفرًا ،فقط ،وأّما قتل النفس والزنا فليسا
.سببًا للخلود في العذاب
سرون كثيرًا في الجابة على السؤال الول ،وأصح ما أوردوه هو أن المقصود من بحث المف ّ
مضاعفة العذاب أن كل ذنب من هذه الذنوب الثلثة المذكورة في هذه الية سيكون له عقاب
.منفصل ،فتكون العقوبات بمجموعها عذابًا مضاعفًا
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ صحيح "البخاري" و "مسلم" طبقًا لنقل مجمع البيان ذيل الية مورد البحث 1
][313
ن ذنبًا ما يكون أحيانًا مصدر الذنوب اُلخرى ،مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات فضل عن أ ّ
.وارتكاب المحرمات ،وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب اللهي
سرين هذه الية دليل على هذا الصل المعروف أن" :الكفار مكلفون بالفروع لهذا اّتخذ بعض المف ّ
".كما أّنهم مكلفون بالصول
وأّما في الجابة على السؤال الّثاني :فيمكن القول أن بعض الذنوب عظيم إلى درجة يكون عندها
سببًا في الخروج من هذه الدنيا بل إيمان ،كما قلنا في مسألة قتل النفس في ذيل الية )(93
)سورة النساء1).
صة إذا كان الزنا بمحصنة
.ومن الممكن أن يكون المر كذلك في مورد الزنا أيضًا ،خا ّ
ومن المحتمل أيضًا أن "الخلود" في الية أعله يقصد به من يرتكب هذه الذنوب الثلثة معًا،
الشرك وقتل النفس والزنا ،والشاهد على هذا المعنى :الية التالية حيث تقول) :إّل من تاب وآمن
).وعمل عمل صالحًا
سرين ـ أيضًا ـ أن "الخلود" هنا بمعنى المدة الطويلة ل الخالدة ،لكن الّتفسير واعتبر بعض المف ّ
.الّول والّثاني أصح
ومن الملفت للنظر هنا ـ فضل عن مسألة العقوبات العادية ـ عقوبة ُأخرى ذكرت أيضًا هي التحقير
والمهانة ،أي البعد النفسي من العذاب ،وقد تكون بذاتها تفسيرًا لمسألة مضاعفة العذاب ،ذلك
.لّنهم يعذبون عذابًا جسديًا وعذابًا روحيًا
لكن القرآن المجيد كما مّر سابقًا ،لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الوقات،
بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها ،ففي ،الية التالية يقول تعالى هكذا) :إّل من تاب
وآمن وعمل عمل صالحًا فُأولئك يبدل ال
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ الّتفسير المثل ،الجزء الّثالث 1
][314
).سيئاتهم حسنات ،وكان ال غفورًا رحيمًا
كما مّر بنا في الية الماضية ،ففي الوقت الذي ذكرت ثلثة ذنوب هي من أعظم الذنوب ،تركت
الية باب التوبة مفتوحًا أمام هؤلء الشخاص ،وهذا دليل على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة
إلى ال ،بشرط أن تكون توبته حقيقية ،وعلمتها ذلك العمل الصالح )الُمَعّوض( الذي ورد في
الية ،وإّل فإن مجّرد الستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب ل يكون دليل على التوبة
.أبدًا
المسألة المهّمة فيما يتعلق بالية أعله هي :كيف يبدل ال "سيئات" أولئك "حسنات"؟
***
***
][317
اليات
ت َرّبِهمْ َلْمن ِإَذا ُذّكُروْا ِبَأَيـ ِن الّزوَر َوِإَذا َمّروْا ِباالّلْغِو َمّروْا ِكَرامًا )َ(72واّلِذي َ شَهُدو َ
ن َل َي ْ َو اّلِذي َ
عُينجَنا َوُذّرّيـِتَنا ُقّرَة َأ ْ
ن َأْزَو ِب َلَنا ِم ْن َرّبَنا َه ْ
ن َيُقوُلو َ
عْمَيانًا)َ (73واّلِذي َ صّما َو ُ
عَلْيَها ُ َيخِّروْا َ
سَلـمًا)(75 حّيًة َو َ ن ِفيَها َت ِصَبرُوْا َوُيَلّقْو َ
ن اْلُغْرَفَة ِبَما َ
جَزْو َ
ك ُي ْن ِإَمامًا)ُ (74أْوَلِئ َ َواجَْعْلَنا ِلْلُمّتِقي َ
سَتَقّرا َوُمَقامًا)76 ت ُم ْ
سَن ْحُن ِفيها َ خـِلِدي َ)َ
الّتفسير
":جزاء "عباد الرحمن
في متابعة لليات الماضية التي كررت القول في خصائص "عباد الرحمن" ،تشرح هذه اليات
:بقية هذه الصفات
ن هؤلء ل يشهدون بالباطل
الصفة الرفيعة التاسعة لهم ،هي احترام وحفظ حقوق الخرين :إ ّ
).مطلقًا) :والذين ل يشهدون الزور
سروا هذه الية على نحوين
سرون الكبار ف ّ:المف ّ
][318
ن "الزور" لغة بمعنى التمايل اعتبر بعضهم "الزور" بمعنى "الشهادة بالباطل" كما قلنا أعله ،ل ّ
.والنحراف ،وحيث أن الكذب والباطل والظلم من النحرافات ،فإن "الزور" يطلق عليها
هذه العبارة )شهادة الزور( في كتاب الشهادات في فقهنا ،موجودة بنفس هذا العنوان ،وقد ُنهي
.عنها في روايات متعددة ،وإن لم نرفي تلك الّروايات استدلل بالية أعله
ن المقصود من "الشهود" هو "الحضور" يعني أن عباد الرحمن ل الّتفسير الخر :هو أ ّ
.يتواجدون في مجالس الباطل
سرت بـ "الغناء" أي وفي بعض الّروايات التي وردت عن طرق أئّمة أهل البيت)عليهم السلم( ،ف ّ
.تلك المجالس التي يتّم فيها إنشاد اللهو مصحوبًا بأنغام اللت الموسيقية أو بدونها
ن مراد هذا النوع من الّروايات ليس هو تحديد مفهوم "الزور" الواسع بـ "الغناء"، ل شك أ ّ
فالغناء واحد من مصاديقه البارزة إنه يشمل سائر مجالس اللهو واللعب وشرب الخمر والكذب
.والغيبة وأمثال ذلك
ول يستبعد أيضًا أن يجتمع كل الّتفسيرين في معنى الية ،وعلى هذا فعباد الرحمن ل يؤدون
ن الحضور في هذه الشهادة الكاذبة ،ول يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة ،ذلك ل ّ
.المجالس ـ فضل عن ارتكاب الذنب ـ فإنه مقدمة لتلوث القلب والروح
ثّم يشير تعالى في آخر الية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة ،وهي امتلك الهدف اليجابي في الحياة،
).فيقول) :وإذا مروا باللغو مروا كرامًا
إّنهم ل يحضرون مجالس الباطل ،ول يتلوثون باللغو والبطلن .ومع اللتفات إلى أن "اللغو"
يشمل كل عمل ل ينطوي على هدف عقلئي ،فإن ذلك يدل على أن "عباد الرحمن" يتحرون دائمًا
الهدف المعقول والمفيد والبناء ،وينفرون من
][319
اللهدفية والعمال الباطلة ،فإذا اعترضهم هذا النوع من العمال في مسير حياتهم ،مروا
بمحاذاتها مرور اللمبالي ،ول مبالتهم نفسها دليل على عدم رضاهم الداخلي عن هذه العمال،
.فهم عظماء بحيث ل تؤثر عليهم الجواء الفاسدة ول تغيرهم
ن عدم اعتنائهم بهذه اُلمور من جهة أّنهم ل طريق لهم إلى مواجهة الفساد والنهي عن ول شك أ ّ
ك أّنهم سوف يقفون ويؤدون تكاليفهم حتى المرحلة الخيرة .المنكر ،وإّل فل ش ّ
الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتلك العين الباصرة والذن السامعة حين مواجهتهم ليات
).الخالق ،فيقول تعالى) :والذين إذا ذكروا بآيات رّبهم لم يخروا عليها صمًا وعميانًا
ن المقصود ليس الشارة إلى عمل الكفار ،ذلك لّنهم ل اعتناء لهم بآيات ال أصل، من المسّلم أ ّ
بل إن المقصود :فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر ،الذين يقعون على آيات ال بأعين وآذان
موصدة ،دون أن يتدبروا حقائقها ويسبروا غورها ،فيعرفوا ما يريده ال ويتفكروا فيه،
.ويستهدوه في أعمالهم
ول يمكن طي طريق ال بعين وأذن موصدتين ،فالذن السامعة والعين الباصرة لزمتان لطي هذا
.الطريق ،العين الناظرة في الباطن ،المتعمقة في الشياء ،والذن المرهفة العارفة بلطائف الحكمة
ولو تأملنا جيدًا لدركنا أن ضرر هذه الفئة ذات العين والذان الموصدة وفي ظنها أّنها تتبع
اليات اللهية ،ليس أقّل من ضرر العداء الذين يطعنون بأصل شريعة الحق عن وعي وسبق
.اصرار ،بل أن ضررهم أكثر بمراتب أحيانًا
ن من اليسير خداع التلقي الواعي عن الدين هو المعين الساس للمقاومة والثبات والصمود ،ل ْ
من يقتصر على ظواهر الدين ،وبتحريفه يتم النحراف عن الخط الصيل ،فيهوي بهم ذلك إلى
.وادي الكفر والضللة وعدم اليمان
][320
هذا النوع من الفراد أداة بيد العداء ،ولقمة سائغة للشياطين ،المؤمنون وحدهم هم المتدبرون
.المبصرون السامعون كمثل الجبل الراسخ ،فل يكونون لعبة بيد هذا أو ذاك
نقرأ في حديث عن أبي بصير ،قال :سألت أبا عبد ال)عليه السلم( عن قول ال عّزوجّل) :والذين
)إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًا وعميانًا( ،قال" :مستبصرين ليسوا بشكاك"1).
صة لهؤلء المؤمنين الحقيقيين ،هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم الصفة الّثانية عشر الخا ّ
وعوائلهم ،وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤلء )والذين يقولون رّبنا هب لنا من أزواجنا
).وذرياتنا قرة أعين
بديهي أن معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء ،بل إن الدعاء دليل شوقهم
.وعشقهم الداخلي لهذا المر ،ورمز جدهم واجتهادهم
ن أفرادًا كهؤلء ل يقصرون في بذل مالديهم من طاقة وقدرة في تربية أبنائهم من المسّلم أ ّ
وأزواجهم ،وتعريفهم بأصول وفروع السلم ،وسبل الحق والعدالة وفي ما ل تصل إليه قدرتهم
.وطاقتهم ،فإّنهم يدعون ال ،يسألونه التوفيق بلطفه
فالدعاء الصحيح من حيث الصل ،ينبغي أن يكون هكذا :السعي بمقدار الستطاعة ،والدعاء
.خارج حّد الستطاعة
ر به ،هذا التعبير ُأخذ في الصل من كلمة "قر" التي بمعنى البرد"، قّرة العين" كناية عّمن ُيس ّ
سرين( أن دمعة الشوق والسرور باردة ،ودموع وكما هو معروف )وقد صرح به كثير من المف ّ
الحزن والغم حارة حارقة ،لذا فـ "قّرة عين" بمعنى الشيء الذي يسبب برودة عين النسان ،يعني
)أن دمعة الشوق تنسكب من عينيه ،وهذه كناية جميلة عن السرور والفرح2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ نور الثقلين ،ج ،4ص 1 43
.ـ الشاهد على هذا القول ،الشعر الذي نقله القرطبي في تفسيره عن أحد الشعراء العرب 2
ت عيون دمعها اليوم ساكب ن قريرة وقر ْس عي ٌفكم سخنت بالم ِ
][321
مسألة تربية البناء وإرشاد الزوجات ،ومسؤولية الباء والمهات إزاء أطفالهم من أهم المسائل
.التي أكد عليها القرآن ،وسنفصل القول فيها إن شاء ال في ذيل الية ) (6من سورة التحريم
وأخيرًا فالصفة الرفيعة الّثالثة عشر لعباد الرحمن التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر
معينة :هي أّنهم ل يقنعون أبدًا أّنهم على طريق الحق ،بل أن همتهم عالية بحيث يريدون أن
.يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين ،ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضًا
إّنهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا ،وليس هّمهم انقاذ أنفسهم من الغرق ،بل إن سعيهم هو
.أن ينقذوا الغرقى
).لذا يقول في آخر الية ،إّنهم الذين يقولون) :واجعلنا للمتقين إمامًا
ينبغي اللتفات إلى هذه النكتة أيضًا ،إّنهم ل يدعون ليكونوا في موقع العظماء جزافًا ،بل إّنهم
يهيئون أسباب العظمة والمامة بحيث تجتمع فيهم الصفات اللئقة بالقدوة الحقيقية ،وهذا عمل
.عسير جدًا ،وله شرائط صعبة وثقيلة
ن القرآن ل يذكر في هذه اليات صفات جميع المؤمنين ،بل أوصاف نخبة ممتازة من ول ننس أ ّ
المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان "عباد الرحمن" .نعم ،إّنهم عباد الرحمن ،وكما أن رحمة ال
ن رحمة ال بهؤلء العباد عاّمة أيضًا من أكثر من جهة ،فعلمهم وفكرهم العاّمة تشمل الجميع فإ ّ
.وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بل انقطاع في طريق هداية خلق ال
ُ.أولئك نماذج وُأسوات المجتمع النساني
ُ.أولئك قدوات المتقين
إّنهم أنوار الهداية في البحار والصحاري .ينادون التائهين إليهم لينقذوهم من الغرق في الدوامة،
.ومن السقوط في المزالق
][322
ن هذه الية نزلت في علي)عليه السلم( وائّمة أهل البيت)عليهم السلم
).نقرأ في روايات متعددة أ ّ
)ونقرأ في رواية أخرى عن المام الصادق)عليه السلم(" :إيانا عنى"1).
ول شك أن أئمة أهل البيت)عليهم السلم( من أوضح مصاديق هذه الية ،لكن هذا ل يمنع من
اتساع مفهوم الية ،فالمؤمنون الخرون أيضًا يكون كل منهم إمامًا وقدوة للخرين بمستويات
.متفاوتة
سرين من هذه الية أن طلب الرئاسة المعنوية والروحانية ليس غير مذموم واستنتج بعض المف ّ
)فقط ،بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضًا2).
وينبغي اللتفات ضمنًا إلى أن كلمة "إمام" وإن كانت للمفرد ،إّل أّنها تأتي بمعنى الجمع ،وهكذا
.هي في الية
بعد إكمال هذه الصفات الثلثة عشرة ،يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلء مع جميع هذه
الخصائص ،وفي صورة الكوكبة الصغيرة ،فيبّين جزاءهم اللهي )ُأولئك يجزون الغرفة بما
).صبروا
غرفة" من مادة "غرف" )على وزن حرف( :بمعنى رفع الشيء وتناوله ،ويقال لما يغترف"
ويتناول "غرفة" )كاغتراف النسان الماء من العين بيده للشرب( ثّم ُأطلقت على القسام العليا
.من البناء ،ومنازل الطبقات العليا ،وهي هنا كناية عن أعلى منازل الجّنة
ن "عباد الرحمن" بامتلكهم هذه الصفات ،يكونون في الصف الّول من المؤمنين ،وينبغي لذلك فإ ّ
.أن تكون درجتهم في الجّنة أعلى درجة أيضًا
المهم أّنه يقول :إن هذا المقام العالي قد ُأعطي لهم بسبب ما قدموا من ضريبة الصبر والستقامة
في طريق ال ،ومن الممكن أن يتصور أن هذا وصف آخر من
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ أورد هذه الروايات في تفسير آخر هذه الية "علي بن إبراهيم" ،ومؤلف كتاب نور الثقلين 1
.في تفسيريهما
".ـ يراجع تفسير "القرطبي" وتفسير "الفخر الرازي 2
][323
أوصافهم ،لكن هذا في الحقيقة ليس وصفًا جديدًا ،بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة،
وإّل فهل يمكن أن نتصور عبادة الخالق ،ومواجهة الطغيان والشهوات ،وترك شهادة الزور،
.والتواضع والخشوع وغيرها من الصفات بدون صبر واستقامة
هذا البيان ُيذّكر النسان بالحديث المعروف عن أمير المؤمنين علي)عليه السلم(حيث يقول:
"والصبر من اليمان كالرأس من الجسد" فبقاء الجسد من بقاء الرأس ،ذلك لن قيادة جميع
.أعضاء البدن تستقر في دماغ النسان
وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع ،فالتحمل والصمود أمام مشكلت طريق الحق ،والجهاد
والمواجهة ضد العصاة ،والوقوف أمام دواعي الذنوب ،تجتمع كلها في ذلك المفهوم ،وإذا فسر
في بعض الّروايات بالصبر على الفقر والحرمان المالي ،فمن المسلم أن ذلك من قبيل بيان
.المصداق
).ثّم يضيف تعالى) :ويلّقون فيها تحية وسلمًا
أهل الجّنة يحي بعضهم بعضًا ،وتسلم الملئكة عليهم ،وأعلى من كل ذلك أن ال يحييهم وُيسلم
عليهم ،كما نقرأ في الية ) (58من سورة يس )سلم من ربّ رحيم( ،ونقرأ في الية ) 23و(24
...).من سورة يونس )والملئكة يدخلون عليهم من كل باب سلم عليكم
سرين ،لكن مع ُترى هل لـ "التحية" و"السلم" هنا معنيان ،أم معنى واحد!؟ ثّمة أقوال بين المف ّ
اللتفات إلى أن "التحية" في الصل بمعنى الدعاء لحياة الغير ،و"سلم" من مادة السلمة،
.وبمعنى الدعاء للغير
على هذا نستنتج :أن الكلمة اُلولى بعنوان طلب الحياة ،للمخاطب والكلمة الّثانية طلب اقتران هذه
.الحياة مع السلمة ،ولو أن هاتين الكلمتين تأتيان بمعنى واحد أحيانًا
][324
التحية" في العرف لها معنى أوسع ،فهي كل ما يقولونه في بيان اللقاء مع الخرين ،فيكون"
.سببًا في سرورهم واحترامهم وإظهار المحّبة لهم
).ثّم يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر) :خالدين فيها حسنت مستقرًا ومقامًا
***
][325
الية
ن ِلَزاَما)77
ف َيُكو ُ
سْو َ
عآُؤُكْم َفَقْد َكّذْبُتْم َف َ
)ُقلْ َما َيْعَبُؤْاِبُكْم َرّبى َلْوَل ُد َ
الّتفسير
:لول دعاؤكم ،لما كانت لكم قيمة
هذه الية التي هي الية الخيرة في سورة الفرقان ،جاءت في الحقيقة نتيجة لكل السورة،
وللبحاث التي بصدد صفات "عباد الرحمن" في اليات السابقة ،فيقول تبارك وتعالى مخاطبًا
).الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم() :قل ما يعبؤبكم رّبي لو ل دعاؤكم
يعبؤ" من مادة "عبء" بمعنى "الثقل" ،وعلى هذا فجملة ل يعبأ يعني ليزن ،وبعبارة ُأخرى ل"
.يعتني
ولو أن احتمالت كثيرة ذكرت هنا في مسألة معنى الدعاء ،لكن أساس جميعها يعود إلى أصل
.واحد
.فذهب البعض :إن الدعاء هو نفس ذلك المعنى المعروف للدعاء
سره بمعنى اليمان .بعض آخر ف ّ
.وبعض بمعنى العبادة والتوحيد
.وآخر ،بمعنى الشكر
][326
.وبعض :بمعنى التضرع إلى ال في المحن والشدائد
ن أساس جميعها هو اليمان والتوجه إلى ال
.لك ّ
وبناء على هذا ،يكون مفهوم الية هكذا :إن ما يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند ال هو اِليمان
.بال والتوجه إليه ،والعبودية له
).ثّم يضيف تعالى) :فقد كذبتم فسوف يكون لزامًا
من الممكن التصور أن تضادًا بين بداية الية ونهايتها ،أو أّنه ل يبدو على القل الرتباط
ن المقصود أساسًا هو :أّنكم قد كذبتم فيما
والنسجام اللزم بينهما ،ولكن إذا دققنا قليل يّتضح أ ّ
مضى بآيات ال وبأنبيائه ،فإذا لم تتوجهوا إلى ال ،ولم نسلكوا طريق اليمان به والعبودية له،
)فلن تكون لكم أية قيمة أو مقام عنده ،وستحيط بكم عقوبات تكذيبكم1).
ومن جملة الشواهد الواضحة التي تؤيد هذا الّتفسير ،الحديث المنقول عن المام الباقر)عليه
سِئَل" :كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء"؟ فقال)عليه السلم(" :كثرة الدعاء السلم( ،أّنه ُ
)أفضل وقرأ هذه الية"2).
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
سرين ،وما قلناه في تفسيرها 1 ـ الية أعله من اليات التي هي مورد مناقشات كثيرة بين المف ّ
سرين المعروفين ذكروا لها تفسير آخر خلصته هكذا .هو أوضح تفسير ،لكن جماعة من المف ّ
ل اعتناء ل بكم ،ذلك لّنكم كذبتم بآياته ،إّل أن ال يدعوكم إلى اليمان )طبقًا لهذها الّتفسير:
"".دعاؤكم" من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول ،وفاعله ضمير يعود إلى "رّبي
لكن طبقًا للتفسير الذي اخترناه فإن "دعاؤكم" من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل ،وظاهر إضافة
).المصدر إلى الضمير هي أن تكون الضافة إلى الفاعل ،إّل أن تظهر قرينة على خلفه
ن الهدف بيان :إّنكم أّيها البشر ،غالبًا ما سلكتم طريق التكذيب، ثّمة تفسير ثالث لهذه الية وهو أ ّ
فل وزن ول قدر لكم عند ال ،إّل لجل تلك القلية مثل "عباد الرحمن" الذين يتوجهون إلى ال
ويدعونه بإخلص )هذا الّتفسير وإن كان صحيحًا من ناحية المعنى والمضمون ،لكّنه ل يوافق
ن الضمير في "دعاؤكم" و"كذبتم" يعود ظاهرًا إلى فئة واحدة ل فئتين ظاهر الية كثيرًا ،ذلك ل ّ
)!).فتأمل
رواية أيضًا تفاسير ُأخرى يتفاوت يسير ،نقلت 2 ـ تفسير الصافي ،ذيل هذه الية ـ نقلوا لهذه ال ّ
أيضًا روايات ُأخرى شاهدة على الّتفسير أعله ،بعضها عن أمالي الشيخ الطوسي ،وبعضها عن
.تفسير علي بن إبراهيم ذيل هذه الية
][327
بحث
:الدعاء طريق إصلح النفس ومعرفة ال
معلوم أن مسألة الدعاء أعطيت أهمية كبيرة في آيات القرآن والّروايات السلمية ،حيث كانت
الية أعله أنموذجًا منها ،غير أن قد يكون القبول بهذا المر ابتداًء صعبًا على البعض ،كأّنه يقال:
الدعاء عمل سهل جّدا ،ويمكن أن يؤديه الجميع أو يتوسعون أكثر فيقولون :الدعاء عمل
.المغلوبين على أمرهم ،المر الذي ل أهمية له
لكن الشتباه هنا ينشأ من أّنهم ينظرون إلى الدعاء الخالي من شرائطه ،في حين إذا أخذت
صة للدعاء بنظر العتبار ،فإن هذه الحقيقة تثبت بوضوح .وهي أن الدعاء وسيلة الشرائط الخا ّ
.مؤثرة في إصلح النفس ،والرتباط القريب بين ال والنسان
.أّول شرائط الدعاء ،معرفة المدعو
الشرط الثاني :تخلية القلب وإعداد الروح لدعائه تبارك وتعالى ،ذلك لن النسان حينما يذهب
.باتجاه أحد ،ينبغي أن يملك الستعداد للقائه
الشرط الّثالث للدعاء :هو جلب رضاه من يدعوه النسان ،ذلك لّنه ل يحتمل التأثير بدون ذلك
.النادرًا
وأخيرًا فالشرط الّرابع لستجابة الدعاء :هو أن يستخدم النسان كّل قدرته ،وقوته واستطاعته في
عمله ،ويؤديه بأعلى درجة من الجّد والجتهاد ،ثّم يرفع يديه ويوجه قلبه إلى بارئه بالدعاء في
.ماوراء ذلك
***
نهاية سورة الفرقان
][330
][331
شَعَراء
سوَرُة ال ّ
ُ
][333
"سورة الشعراء"
***
][336
اليات
شْأ ُنَنّزلْ
ن)ِ (3إن ّن َ ك َأّل َيُكوُنوْا ُمْؤِمِني َسَ خٌع ّنْف َك َبـ ِ
ن)َ (2لَعّل َ ب الُمِبي ِت اْلِكَتـ ِك َءايـ ُطـسـم)ِ (1تْل َ
حَدث ِإّل
ن ُم ْ حَمـ ِن الّر ْ
ن)َ (4وَما يَْأِتيِهم ّمن ِذْكر ّم َ ضِعي َ
خـ ِ عَنـُقُهْم َلَها َ ت َأ ْ
ظّل ْسَمآِء َءاَيًة َف َ
ن ال ّ علَْيِهم ّم َ
َ
ن)6 سَتْهِزُءو َ سيْأِتيِهْم َأنَبـُؤْا َما َكانُوْا ِبِه َي ْ
ن)َ (5فَقْد َكّذبُوْا َف َ ضي َ
عْنُه ُمْعِر ِ)َكاُنوْا َ
الّتفسير
!إنهم ُيعرضون عن كل جديد
سَم
ط َ
).مّرة ُأخرى نواجه في بداية هذه السورة مثل آخر من الحروف المقطعة وهوَ ) :
وكان لنا في تفسير هذه الحروف المقطعة بحوث ُمسَهبة ومستقّلة في مستهل سورة البقرة
!وسورة آل عمران وسورة العراف! فل نرى حاجًة إلى التكرار والعادة
ن ما ينبغي أن نضيفه هنا هو ما ورد من روايات متعددة عن الّنبي)صلى ال عليه وآلهإّل أ ّ
وسلم( أو
][337
ن هذه الحروف علمات "مختصرة" عن بعض أصحابه في تفسير "طسم" ويدّل جميُعها على أ ّ
!...أسماء ال تعالى ،أو أسماء القرآن ،أو المكنة المقدسة ،أو بعض أشجار الجّنة
وهذه الّروايات تؤيد الّتفسير الذي نقلناه في مستهّل سورة العراف في هذا الصدد ،كما أّنها في
الوقت ذاته ل تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من أن المراد من هذه الحروف بيان أعجاز
!القرآن وعظمته ،حيث أن هذا الكلم العظيم مؤلف من حروف بسيطة وصغيرة
).والية التالية تبّين عظمة القرآن بهذا النحو) :تلك آيات الكتاب المبين
ن "تلك" في لغة العرب اسم إشارة للبعيد ،ويشار بها للمؤنث "المفرد" و"الجمع"; وبالطبع فإ ّ
)كما قد يشار بها لجمع التكسير1).
وكما بّينا آنفًا فقد يعّبر في لغة العرب عن عظمة الشيء ـ وإن كان قريبًا ـ باسم الشارة )للبعيد(
!فكان الموضوع لهمّيته وارتفاع "وعلّو" مرتبته بعيد عّنا ،ومكانه في السماوات الُعلى
صها وردت في بداية سورة يوسف وسورة ن هذه الية بن ّومّما ينبغي اللتفات إليه وملحظته أ ّ
القصص ـ أيضًا ـ دون زيادة أو نقصان .كما أّنها وردت بعد الحروف المقطعة في مستهّل السور
.آنفة الذكر ،وهي تدل على ارتباط هذه الحروف بعظمة القرآن
ف القرآن بـ "المبين" المشتق من "البيان" ،هو إشارة إلى كونه جلّيا بّينا عظيمًا معجزًا ـ ووص ُ
ن القرآن
فكّلما أمعن النسان النظر في محتواه تعّرف على إعجازه أكثر فأكثر ...ثّم بعد هذا فإ ّ
ضح سبيل السعادة والنصر والنجاة من الضلل !يبّين الحق ويميزه عن الباطل ،ويو ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
).ـ كقوله تعالى )وتلك الّيام نداولها بين الناس 1
][338
سك أن ل يكونوا مؤمنين
).والية التالية ُتسّري عن قلب الّنبي وتثبته فتقول) :لعلك باخٌع نف َ
خع( )على وزن الّدمع(! ومعناه إهلك النفس من شدة الغّم ...وهذا كلمة "باخع" مشتّقة من )الَب ْ
التعبير يدّل على مدى تحّرق قلب الّنبي وشفقته ُلمته ،وأداء رسالته ،وما كان عليه من إصرار
خطته ،وتجّلد في مواجهة شدته ومحنته ،لّنه يرى القلوب المتعطشة الظامئة في جوار النبع في ِ
!القرآني الزلل ،ولكّنها ل تزال على ظمئها ول ترتوي من معينه العذب ،فكان يتحرق لذلك
ب يسير في الطريق المظالم، كان قلقًا ـ وباخعًا نفسه ـ أن يرى النسان الذي منحه ال العقل والل ّ
!بالرغم من كل هذا الضياء ،ويهوي في الوادي السحيق ليكون من الهالكين
أجل ،كان جميع النبياء على هذه الشاكلة من الشفاق على ُأممهم ول سيما الّرسول العظم)صلى
...ال عليه وآله وسلم( الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مّرة
سرين :إن سبب نزول الية النفة الذكر هو أن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( قال بعض المف ّ
كان يدعو أهل مّكة إلى توحيد ال باستمرار ،إّل أّنهم لم يؤمنوا .فأسف الّنبي وتأثر تأثرًا بالغًا
حتى بدت أماراته في وجهه ،فنزلت الية آنفة الذكر لتسّري عن قلب الّنبي)صلى ال عليه وآله
)وسلم(1).
ن ال على كل شيء قدير حتى أّنه يستطيع أن يسوقهم إلى اليمان به سوقًا ويضطّرهم ولبيان أ ّ
ن الية التالية تقول) :إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها إلى ذلك ،فإ ّ
).خاضعين
وهي إشارة إلى أن ال قادر على إنزال معجزة مذهلة ـ من السماء ـ أو أن يرسل عليهم عذابًا
شديدًا فيذعنوا له ،يطأطئوا برؤوسهم خضوعًا له ،يستسلموا
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير أبو الفتوح الرازي ،ج 8ذيل الية محل البحث 1
][339
المره وحكمه ،إّل أن اليمان بإكراه ل قيمة له .فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي
.وإدراك وتفكر
ن المراد بخضوع العناق خضوع أصحابها ...فاللغة العربية تذكر الرقبة أو العنق ومن الواضح أ ّ
كناية عن النسان لّنها جزء مهّم منه ،ويقال مثل كناية عن البغاة القساة :غلظ الرقاب ،وعن
!المضطهدين والضعفاء :الرقاب الذليلة
ن العناق تعني الرؤساء ،كما أن وبالطبع فهناك احتمالت ُأخَر لتفسير "أعناقهم" من جملتها أ ّ
.من التفاسير أن العناق تعني طوائف من الناس .وجميع هذه الحتمالت ضعيفة
ثّم يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول) :وما يأتيهم من ذكر من
).الرحمن محدث إّل كانوا عنه معرضين
والتعبير بـ "ذكر" هو إشارة إلى أن القرآن موقظ ومنّبه ،وهذا المر متحّقق في جميع آياته
!...وسوره! إّل أن هذه الجماعة معرضة عن ذكره وتنبيهه ،فهي تفّر عن كل ذلك
والتعبير بـ "الرحمن" إشارة إلى أن نزول هذه اليات من قبل ال إّنما هو من رحمته العاّمة ،إذ
!تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال
كما أن هذا التعبير ـ أيضًا ـ رّبما كان لتحريك الحساس بالشكر ل ،فهذا الذكر من ال الذي عّمت
نعمه وجودكم من القرن إلى القدم ،فكيف يمكن العراض عن ولي النعمة؟! وإذا كان سبحانه ل
...يتعجل بإنزال العذاب عليكم ،فذلك من رحمته أيضًا
والتعبير بـ "محدث" ـ أي جديد ـ إشارة إلى أن آيات القرآن تنزل واحدًة تلو اُلخرى ،وكّل منها
ذو محتوى جديد ،ولكن ما جدوى ذلك ،فهم مع كل هذه الحقائق الجديدة ـ معرضون ...فكأّنهم
اّتفقوا على خرافات السلف وتعّلقوا بها ـ فهم ل يرضون أن يوّدعوا ضللهم وجهلهم وخرافاتهم!!
فأساسًا مهما كان
][340
ن الجهلة والمتعصبين يخالفون الحق ول يذعنون له
...الجديد موجبًا للهداية ،فإ ّ
ت
ونقرأ في سورة "المؤمنون" الية 68منه إذ تقول) :أفلم يدّبروا القول أم جاءهم مالم يأ ِ
!آباءهم الولين( فبذريعة مالم يأت آباءهم تجدهم متعصبين مخالفين
ن هؤلء ل يقفون عند حدود العراض ،بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب ،بل ثّم يضيف القرآن :أ ّ
إلى أشّد منه ليصلوا إلى الستهزاء به ،فيقول) :فقد كّذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به
).يستهزئون
النباء" :جمع "انبأ" ،أي الخبر المهّم ،والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد"
سرين كالشيخ الطوسي في "التبيان" ،قال بأن هذا العقاب ن بعض المف ّالدنيوي والخروي .على أ ّ
سرين يعتقدون بشموله لعقاب الدارين ،وهو ـ في الواقع منحصر العقاب الخرة .إّل أن أغلب المف ّ
طَلَقٌة
ن الية ُم ْ.ـ كذلك! ...ل ّ
ن للكفر واِلنكار انعكاسات واسعة وشاملة في جميع حياة النسان... وبغض النظر عن كل ذلك فإ ّ
!فكيف يمكن السكوت عنها
والتحقيق في هذه الية والية السابقة يكشف أن النسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإّنه
.يفصل نفسه عن الحق ـ بشكل مستمر ـ
ففي المرحلة اُلولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه ...ثّم بالتدريج يبلغ مرحلة النكار
والتكذيب ..ثّم يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والستهزاء ...ونتيجًة لذلك ينال عقاب ال
".وجزاءه "وقد ورد نظير هذا التعبير في اليتين 4و 5من سورة النعام
***
ملحظتان
خطب أمير المؤمنين "في نهج البلغة" المعروفة بالخطبة 1
ـ ورد في بعض ُ
][341
القاصعة إشارة إلى هذه الحقيقة ،وهي أن ال أرسل النبياء على شاكلة يستطيع معها أن يؤمن
الناس بدعوتهم إلى ال دون إكراه ،بحيث لو لم يكونوا كذلك لكان اليمان إجباريًا ،إذ يقول" :ولْو
أراد ال سبحانه لنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان
وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الرضين لفعل ...ولو فعل لسقط البلُء وبطل
).الجزاء1)"...
وورد في كتاب الكافي ذيل الية محل البحث "لو أنزل ال من السماء آية فظّلت أعناقهم لها
)خاضعين .ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين"2).
ومّما يسترعي النظر أنه ورد في بعض الكتب المعروفة كالرشاد للشيخ المفيد ،وروضة الكافي،
وكمال الدين للشيخ الصدوق ،وتفسير القمي ،أن المام الصادق)عليه السلم( قال في تفسير
الية) :إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية (...قال" :تخضع رقابهم ـ يعني بني أمية ـ وهي
)الصيحة في السماء باسم صاحب المر ـ صلوات ال عليه ـ"3).
ن المراد من هذه الّروايات هو بيان مصداق من هذا المفهوم الواسع للية ،إذ ستخضع وواضح أ ّ
أخيرًا جميع الحكومات الباغية والمتجبرة والظالمة التي تواصل السير على منهج حكومة بني
أمية ،وذلك عندما يظهر المصلح المهدي)عليه السلم( إماُم الحكومة العالمية ،فتستسلم إذعانًا
.لقدرته وحماية ال له وتنحني له إجلل
ول ـ للسلم 2 ـ أحد البحوث التي كثر الكلم فيها والتعليق عليها في القرون اُلولى ـ أو الصدر ال ّ
هو البحث أو الكلم عن كون كلم ال قديمًا أو حادثًا؟! وقد انجّر هذا الكلم إلى كتب الّتفسير
سرين بالتعبير الوارد في الية آنفًا "محدث" على كون القرآن أيضًا ،وقد استدل جماعة من المف ّ
.حادثًا
ــــــــــــــــــــــــــــ
".ـ راجع نهج البلغة ،الخطبة القاصعة ،رقم " 192تواضع النبياء 1
.ـ الكافي حسب نقل تفسير نور الثقلين ذيل الية محل البحث 2
.ـ تفسير الميزان ،ونور الثقلين ذيل اليات محل البحث 3
][342
ي وجه،ن أساس هذا البحث ل يمكن أن يكون منطقّيا بأ ّ إّل أّنه ـ كما أشرنا من قبل أيضًا ـ فإ ّ
ن ذوي السلطة أو أولي المر في ذلك الزمان من بني أمية وبني العباس ،كان لهم الثر ويبدو أ ّ
الكبير في هذه البحوث المضلة ليحرفوا أفكار المسلمين عن المسائل المهّمة والجدّية ،وليشغلوا
.علماء المسلمين بهذه المسائل حفاظًا على حكومتهم وسلطتهم
لّنه إذا كان المراد من كلم ال هو محتوى القرآن ،فهو من الزل في علم ال وال خبير بكل ما
.فيه ،وإذا كان المراد منه نزول الوحي وكلمات القرآن وحروفه ،فذلك حادث قطعًا ول خلف فيه
فبناء على ذلك فالقرآن تارة هو قديم بذلك النحو ،وُأخرى هو حادث قطعًا بهذه الصورة ،فعلى
المجتمع السلمي أن يكون فطنًا ول سيما العلماء ،فل ُيبتلوا بالبحوث المضلة النحرافية
.المبتدعة من ِقَبِل الجبابرة وأعداء السلم
***
][343
اليات
ن َأْكَثُرُهم
ك َلَيًة َوَما َكا َ
ض َكْم َأنَبْتَنا ِفيَها ِمن ُكّل َزْوج َكِريم)ِ (7إنّ ِفى َذِل ََأَولَْم َيَرْوْا ِإَلى اَْلْر ِ
حيُم)9ك َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ ن َرّب َ
ن)َ (8وِإ ّ )ّمْؤِمني َ
الّتفسير
:الزوجية في النباتات
كان الكلم في اليات المتقدمة عن إعراض الكفار عن اليات التشريعية )أي القرآن المجيد( ،أّما
في اليات محل البحث فالكلم عن اليات التكوينية ودلئل ال في خلِقه وما أوجده سبحانه،
فالكفار لم َيصّموا آذانهم ويوصدوا أبواب قلوبهم بوجه أحاديث الّنبي وكلماته فحسب ،بل كانوا
.يحرمون أعينهم رؤية دلئل الحق المنتشرة حولهم
)فتقول الية اُلولى من هذه اليات) :أولم يروا إلى الرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ يتعدي الفعل "يرى" عادة إلى المفعول بدون حرف الجر )إلى( وقد تتعدى إلى المفعولين1 ،
ن المراد منها النظر العميق الدقيق ل الرؤية السطحية
...وإّنما تعدت هنا بحرف الجر )إلى( ل ّ
][344
سرين قالوا بأن ن أغلب المف ّوالتعبير بـ "زوج" في شأن النباتات يستحق الدّقة ...فبالرغم من أ ّ
الزوج يعني النوع أو الصنف ،وأن الزواج معناها الصناف والنواع ،إّل أّنه ما يمنع أن نفسر
!معنى الزوج بما يتبادر إلى الذهن من المعنى المعروف وهو الشارة إلى الزوجّية في النباتات؟
كان الناس فيما مضى يدركون أن بعض النباتات لها جنسان )ذكر وُأنثى( وكانوا يستعينون بتلقيح
...النباتات لتثمر ...وكانت هذه المسألة معروفة وواضحة تمامًا في النخيل
ن العالم السويدي والخبير بعلم النبات "لينه" ُوّفق لول مّرة في أواسط القرن الثامن عشر إّل أ ّ
الميلدي لكتشاف هذه الحقيقة ،وهي أن الزوجية في عالم النباتات قانون عام تقريبًا ،والنباتات
...كسائر الحيوانات تحمل عن طريق تلقيح الذكر لنثاه ثّم تقذف بالثمار
ن القرآن المجيد أشاَر إلى هذه الظاهرة "الزوجية في النبات" في آيات مختلفة مرارًا قبل غير أ ّ
هذا العالم السويدي بقرون ،كما هي الحال في اليات محل البحث .وفي الية الّرابعة من سورة
الرعد ،والية العاشرة من سورة لقمان ،والية السابعة من سورة ق .وهذه الشارة بنفسها
!إحدى معاجز القرآن العلمية
وكلمة "كريم" في الصل تعني كل شيء قّيم وثمين ،فقد تستعمل في النسان ،وقد تستعمل في
النبات ،وقد تستعمل في الكتاب ]أي الرسالة المعهودة بين المتراسلين[ أيضًا ...كما هي الحال في
ي كتاب كريم(1). )شأن حديث ملكة سبأ عن كتاب سليمان إليها إذا قالت) :إّني ُألقي إل ّ
والمراد من )كم أنبتنا فيها من كّل زوج كريم( هو النباتات المهّمة ذوات الفائدة ،وطبعًا ما من
نبات إّل وله فائدة أو فوائد جّمة ،ومع تقدم العلم تتجلى هذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ النمل1 29 ،
][345
.الحقيقة يومًا بعد يوم
ن في ذلك لية
).وتأتي الية التالية لتقول مؤّكدة بصراحة) :إ ّ
أجل إن اللتفات إلى هذه الحقيقة ،وهي أن هذا التراب الذي ل قيمة له ظاهرًا ،بما فيه من تركيب
معين هو مبدأ ظهور أنواع الزهار الجميلة ،والشجار المثمرة الظليلة ،والفواكه ذات اللوان
الزاهية ،وما فيها من خواص مختلفة .وهو ـ أي التراب ـ يبّين منتهى قدرة ال ،إّل أن ُأولئك
طبع على قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات ال بأعينهم ،ومع ذلك الذين ُ
!يجحدونها ويكفرون بها ،ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل
ن الية هذه تعّقب قائلة) :وما كان أكثرهم مؤمنين
).لذلك فإ ّ
ن عدم اليمان لدى ُأولئك أمسى كالصفة الراسخة فيهم ،فل عجب أن ل ينتفعوا من هذه أي إ ّ
ن قابلّية المحل من شرائط التأثير الصيلة أيضًا كما نقرأ قوله تعالىُ) :هدى للمتقين().
اليات ،ل ّ
)1
وفي آخر آية من اليات محل البحث يرد الخطاب في تعبير يدّل على التهديد والترهيب والتشويق
)...والترغيب ،فيقول سبحانه) :وإن رّبك لهو العزيز الرحيم
العزيز" معناه المقتدر الذي ل يغلب ول ُيقهر ،فهو قادر على إظهار اليات العظمى ،كما أنه قادر"
على إهلك المكذبين وتدميرهم ..إّل أّنه مع كل ذلك رحيم ،ورحمته وسعت كل شيء ،ويكفي
الرجوع بإخلص إليه في لحظة قصيرة! لتشمل رحمته من أناب إليه وتاب ،فيعفو عنه بلطفه
!ورحمته
ولعل تقديم كلمة "العزيز" على "الرحيم" لّنه لو تقدمت كلمة الرحيم على العزيز لشعرت
الحساس بالضعف ،إّل أّنه قدم سبحانه الوصف بالعزيز لُيعلم أّنه وهو في منتهى قدرته ذو رحمة
!واسعة
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ البقرة ،الية 1 2
][346
اليات
خافَ
ب ِإّنى َأ َ
ن)َ (11قاَل َر ّ عْونَ َأَل َيّتُقو َ
ن)َ (10قوَم ِفْر َ ظـِلِمي َ
ت اْلَقْوَم ال ّ ن اْئ ِسى َأ ِك ُمو َ
َوإذْ َناَدى َرّب َ
ب َفَأخا ُ
ف ى َذن ٌعَل ّ
ن )َ(13وَلُهْم َ
سْل ِإَلى َهـرُو َ ساِنى َفَأْر ِ
ق ِل َ
طِل ُ
صْدِرى َوَل َين َ ق َ ضي ُن )َ(12وَي ِ َأن ُيَكّذُبو ِ
ن)15 سَتِمُعو َل َفاْذَهَبا ِبَأَيِتَنآ ِإّنا َمَعُكم ّم ْ
ن)َ (14قاَل َك ّ )َأن َيْقُتُلو ِ
الّتفسير
:بداية رسالة موسى
ن في هذه السورة بيانًا لقصص سبعة من النبياء الكرام العظام ،ليكون درس اعتبار لعاّمة
قلنا إ ّ
) ...المسلمين ،ول سيما المسلمين الوائل في عصر الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم
صة تتناولها هذه السورة هي قصة موسى)عليه السلم( ،وتشرح جوانب مختلفة من حياته فأّول ق ّ
!ومواجهته لفرعون واتباعه حتى هلكهم بالغرق في النيل
وقد جاء الكلم عن بني إسرائيل وموسى وفرعون وقومه حتى الن في سور شتى "كالبقرة
والمائدة والعراف ويونس والسراء وطه" كما ورد الكلم في هذا الشأن أيضًا في بعض السور
!...التالية
][347
وهذه البحوث وإن تكررت ـ بحسب الظاهر ـ إّل أن المعان أو التدقيق فيها يكشف عن أن كلّ
صة ذات المحتوى الغزير ،ويعّول على هدف معين صا من هذه الق ّ
!...بحث منها يتناول جانبًا خا ّ
مثل ..حين نزلت اليات ـ محل البحث ـ كان المسلمون قّلة ضعافًا وكان أعداؤهم كثرًة أولي قّوة
وبأس شديد ،بحيث ل يمكن الموازنة بين الفرقتين ،فكان ينبغي أن يبّين ال قصص اُلمم السابقة
المشابهة لحال هؤلء ،ليعلم المسلمون أن هذه القّوة التي يمتلكها العداء وهذا الضعف الظاهري
ي منهما بنفسه إلى اندحار المسلمين ،ولتزداد معنوياتالذي يكتنف المسلمين لن يؤدي أ ّ
...المسلمين وتّثبت استقامتهم ومقاومتهم
ت النظر تكرار عبارة) :و ما كان أكثرهم مؤمنين وإن رّبك لهو العزيز الرحيم( بعد تمام ومّما يلف ُ
الحديث عن كل نبي ...وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن الّنبي محّمد)صلى
ي على أن ذكر هذه الجوانب من قصص ال عليه وآله وسلم( ..وهذا التساق في التعبير شاهد ح ّ
النبياء إّنما هو للظروف المتشابهة التي أكتنفت المسلمين من حيث الحالة النفسية والجتماعية
...كما كان عليها النبياء السابقون
فتقول اليتان اُلوليان من اليات محل البحث )وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين قوم
.فرعون أل يتقون( .ويتركون ظلمهم وفسادهم وعنادهم للحق
ن الصفة الوحيدة المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم ،ومن الواضح أن وينبغي اللتفات إلى أ ّ
الظلم له معنى جامٌع واسع ومن مصاديقه الشرك كما تقول الية ) (13من سورة لقمان )إ ّ
ن
)...الشرك لظلم عظيم
ن استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق اُلخرى كما أ ّ
أيضًا ،ثّم بعد هذا كله فإن قوم فرعون ظلموا أنفسهم بأعمالهم المخالفة ،وهكذا يمكن تلخيص
أهداف دعوة النبياء جميعهم بمبارزة الظلم
][348
!...بجميع أبعاده
ب العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لر ّ
ن( وأخشى أن ُأطرد قبل أن أكمل ب إّني أخاف أن يكذبو ِ
العظمى ،فيقول في الية التالية) :قال ر ّ
...أداء رسالتي بما ُألقيه من صخب وتكذيب فل يتحقق الهدف المنشود
ن فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر، وكان لموسى الحق في كلمه هذا تمامًا ،ل ّ
سوا بأدنى نغمة مخالفة لي شخص بادروا إلى بحيث لم يكن لحد أن يخالفهم ولو برأيه ،وإذا أح ّ
..الجهاز عليه فورًا
).وإضافة إلى ذلك فان صدري ل يّتسع لستيعاب هذه الرسالة اللهية) :ويضيق صدري
)...ثّم بعد هذا كله فلساني قد يعجز عن بيانها) :ول ينطلق لساني
)فلذلك فإني أطلب أن تشّد أزري بأخي )فأرسل إلى هارون(1).
.لنؤدي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين
ي ذنب( كما يعتقدون لّني قتلتن قوم فرعون يطاردونني )ولهم عل ّ وبغض النظر عن كّل ذلك فإ ّ
واحدًا منهم ـ حين كان يتنازع مع إسرائيلي مظلوم ـ بضربة حاسمة! وأنا قلق من ذلك )فأخاف أن
).يقتلو ِ
ن
ن موسى)عليه السلم( كان يرى أربع مشاكل كبرى في طريقه ،فكان يطلب من ال وفي الحقيقة إ ّ
...حّلها لداء رسالته وهذه المشاكل هي
.مشكلة التكذيب
.مشكلة ضيق الصدر
ــــــــــــــــــــــــــــ
ف وتقديره :فأرسل جبرئيل إلى هارون 1 .ـ في هذه الجملة حذ ٌ
][349
.مشكلة عدم الفصاحة الكافية
!و مشكلة القصاص
ن موسى لم يكن خائفًا على نفسه ،بل كان خوفه أن ل يصل إلى الهدف والمقصد ويّتضح ضمنًا أ ّ
!...للسباب آنفة الذكر ،لذلك فقد كان يطلب من ال سبحانه مزيد القّوة لهذه المواجهة
طلبات موسى)عليه السلم( من ال في هذا الصدد خير شاهد على هذه الحقيقة ،إذ طلب أن يشرح
صدره وحّل عقدة لسانه وأن يرسل إلى هارون للمعاضدة في التبليغ كما جاء ذلك في سورة طه
سرلي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا ب اشرح لي صدري وي ّ بصورة أكثر تفصيل إذ قال) :ر ّ
قولي واجعل لي وزيرًا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري واشركه في أمري كي نسبحك كثيرًا
).ونذكرك كثيرًا
ل لن يضيقل( فلن يستطيعوا قتلك ،أو ك ّ فاستجاب ال طلب موسى ودعوة الصادقة و)قال ك ّ
صدرك وينعقد لسانك ،وقد أجبنا دعوتك أيضًا في شأن أخيك ،فهو مأمور معك في هذه المهّمة:
).فاذهبا بآياتنا( لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد ال
ن ال بعيد عنكم أو ل يسمع ما تقولن )إّنا معكم مستمعون )...ول تظّنا بأ ّ
فإنا معكما ولن اتتركما أبدًا ،وسأنصركما في الحوادث الصعبة ،فاذهبا مطمئني الخاطر ،وامضيا
!...في هذا السبيل بأقدام ثابتة وعزيمة راسخة
ن ال سبحانه أعطى لموسى الطمئنان الكافي في جمل ثلث وحّقق له طلبه ...إذ طمأنه وهكذا فإ ّ
ن قوم فرعون لن يقتلوه ولن يستطيعوا ذلك ...ولن تحدث له مشكلة بسبب بقوله) :كل( على أ ّ
ضيق صدره أو التلكؤ في لسانِه وبقوله) :فاذهبا بآياتنا( أرسل أخاه ليعينه على أمره .وبقوله:
)!...إنا معكم مستمعون( وعدهما أّنهما سيكونان أبدًا تحت ظل خيمته وحمايته
][350
ومّما ينبغي اللتفات إليه ورود الضمير في آخر الجملة بصيغة الجمع في قوله) :إنا معكم( ولعل
ذلك إشارة إلى أن ال حاضر مع موسى وهارون ومن يواجهانهما من الطغاة والفراعنة في جميع
!...المحاورات ،ويسمع ما يدور بينهم جميعًا ،فينصر موسى وأخاه هارون على أولئك الطغاة
سرين من أن كلمة "مع" دالة على النصرة والحماية فل تشمل قوم وما ذهب إليه بعض المف ّ
حضور الخالق الدائم في جميع الميادين والمحاورات حتى فرعون ،غير سديد ،بل إن "مع" تعني ُ
مع المذنبين ،حتى مع المذنبين ،وحتى مع الموجودات التي ل روح فيها ،فهو في كل مكان ول
.يخلو منه مكان
.والتعبير بـ "مستمعون" ،أي الصغاء المقرون بالتوجه هو تأكيد على هذه الحقيقة أيضًا
***
][351
اليات
ك ِفيَنا
سرِءيَل)َ (17قاَل َأَلْم ُنَرّب َ سْل َمَعَنا َبِنى ِإ ْ
ن َأْر ِن)َ (16أ ْ ب اْلَعـَلِمي َ
سوُل َر ّن َفُقوَل ِإّنا َر ُ عْو ََفْأِتَيا ِفْر َ
ن)َ (19قاَل ن الكـِفِري َت ِم َت َوَأن َ
ك اّلِتى َفَعْل َت َفْعَلَت َ
ن)َ (18وَفَعْل َ سِني َ
ك ِعُمِر َ
ن ُ ت ِفيَنا ِم ْ َوِليدًا َوَلِبْث َ
جَعَلِنى ِم َ
ن حْكمًا َو َ
ب ِلى َرّبى ُ خْفُتُكْم َفَوَه َ
ت ِمنُكْم َلّما ِ ن)َ (20فَفَرْر ُ ضآّلي َ
ن ال ّ َفَعْلُتَهآ ِإذًا َوَأَنْا ِم َ
ت َبِنى ِإسرِءيَل)22
عّبد ّ
ن َ
ى َأ ْ
عَل ّ
ك ِنْعَمٌة َتُمّنَها َ
ن )َ(21وِتْل َ
سِلي َ
)اْلُمْر َ
الّتفسير
:مواجهة فرعون مواجهًة منطقية وقاطعة
انتهت في اليات المتقدمة المرحلة اُلولى لمأمورية "موسى)عليه السلم(" وهي موضوع الوحي
"!...والرسالة" وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير
وتعقيبًا على المرحلة النفة تأتي اليات ـ محل البحث ـ لتمثل المرحلة الّثانية ،أي مواجهة موسى
!وهارون لفرعون ،والكلم المصيري الذي جرى بينهم
تقول الية اُلولى من هذه اليات مقدمًة لهذه المرحلة) :فأتيا فرعون فقول
][352
ب العالمين
).إّنا رسول ر ّ
ي ثمنوجملة )فأتيا فرعون( تكشف عن أّنهما ينبغي أن يواجها فرعون نفسه بأّية قيمة أو أ ّ
...كان
والتعبير بـ "رسول" بصيغة الفراد مع أّنهما "موسى وهارون" نبّيان مرسلن ،يشير إلى وحدة
طة واحدة وهدف واحد1). خّ)دعوتهما ،فكأّنهما روحان في بدن واحد لهما ِ
ب العالمين اطلبا منه أن ُيرسل بني إسرائيل ويرفع يدهوضمن دعوتكما لفرعون بأّنكما رسول ر ّ
).عنهم) :أن أرسل معنا بني إسرائيل
وبديهي أن المراد من الية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل نيْر العبودّية والقهر والستعباد،
.ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون ،وليس المراد هو إرسال بني إسرائيل معهما فحسب
وهنا يلتفت فرعون فيتكلم بكلمات مدروسة وممزوجة بالخبث والشيطنة لينفي الرسالة ويقول
...).لموسى) :ألم نرّبك فينا وليدًا
إْذ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فإنقذناك من الهلك ،وهّيأنا لك مرضعة ،وعفونا عن الحكم
الصادر في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشمول به ،فترّبيت في محيط هادىء آمن منّعما...
).وبعد أن تربيت في بيتنا عشت زمانًا )ولبثت فينا من عمرك سنين
).ثّم توجه إلى موسى وذكّره بموضوع قتل القبطي فقال) :وفعلت فعلتك التي فعلت
ــــــــــــــــــــــــــــ
رسول" من الكلمات التي تطلق على المفرد والجمع ،وإن 1 ـ يقول الراغب في "المفردات"" :ال ّ
سل" فمنهم من يرى أنها مصدر أيضاً ومعناها الرسالة ،ونعرف أنه ل جمعت أحيانًا على "الر ُ
تثنية ول جمع في المصدر .وقد ورد في لسان العرب أن الّرسول بمعنى الرسالة ،إّل أن هذه
الكلمة تحمل المعنى الوصفي حتمًا ،وكثيرًا ما تجمع أو تثنى وقد ورد في سورة طه عن هذه
"!...القصة وقصة موسى وهارون" :إّنا رسول ربك
][353
!إشارًة إلى أنه كيف يمكنك أن تكون نبّيا ولديك مثل هذه السابقة؟
ثّم بعد هذا كله) :وأنت من الكافرين(! )أي بنعمة فرعون( فلطالما جلست على مائدتنا وتناولت
!من زادنا فكيف تكون نبّيا وأنت كافر بنعمتي؟
وفي الحقيقة; كان فرعون يريد أن يجعل موسى محكومًا بهذه التهم المواجهة إليه ،وبهذا المنطق
.الستدراجي
صة القتل المذكورة هنا هو ما جاء في سورة القصص "الية 15منها" حيث جاء والمراد من ق ّ
فيها أن موسى وجد رجلين يقتتلن هذا من شيعته وهذا من عدّوه ،فاستغاثة الذي هو من شيعته
!...على الذي من عدّوه فوكزه موسى فقضى عليه انتصارًا لشيعته
وعندما سمع موسى كلمات فرعون الممزوجة بالخبث والشيطنة أجاب على إشكالت فرعون
الثلثة ،إّل أنه قّدم الجابة على الشكال الّثاني نظرًا لهميته) .أو أنه أساسًا لم يجد الشكال الّول
يستحق الجابة ،لن تربية الشخص ل تكون دليل على عدم جواز هداية مرّبية إن كان المربي
)ضال ،ليسلك سبيل الرشاد
).وعلى كل حال أجابه موسى)عليه السلم() :قال فعلتها إذًا وأنا من الضالين
سرين على المراد من كلمة "الضالين" الواردة في تعبير موسى)عليه وهنا كلم طويل بن المف ّ
ي سابقُة سوء حتى قبل مرحلة النبّوة ..لّنها تزلزل السلم( ...لّنه كما نعلم ل مجال لن تكون للنب ّ
ن العصمة في موقعه في أفكار عاّمة الناس ،ويبقى الهدف من بعثته ناقصًا غيِر تام ،ولذلك فإ ّ
...النبياء لزمة حتى قبل زمان نبوتهم! ...هذا من جهة
ومن جهة ُأخرى ينبغي أن يكون هذا الكلم جوابًا مسكتًا ومضحمًا لفرعون! لذلك فإن كثيرًا من
سرين يعتقدون أن المراد من "الضال" هنا هو كوُنه أخطأ في الموضوع ،أي أن موسى كانت المف ّ
ضربته للرجل القبطي ل بقصد القتل ،بل لكي
][354
يحمي المظلوم ويدافع عنه ،ولم يدر أّنه ستؤول ضربته إلى الجهاز عليه وقتله ،فبناًء على ذلك
ن الضاّل هنا معناه "الغافل" والمراد منه الغافل عن العاقبة التي أّدى عمله إليها .فإ ّ
ي خطأ في قتل القبطي الظالم لّنه كان ن المراد من ذلك أّنه لم يكن أ ّ
سرين :إ ّ
وقال بعض المف ّ
ن موسى)عليه السلم( يريد أن يقول :إّنه لم يدر أن عاقبة عمله ستكون على هذا مستحقًا ،بل إ ّ
الوجه ،وأنه ل يستطيع البقاء في مصر وعليه أن يخرج بعيدًا عن وطنه ،وأن يتأخر منهجه "في
".أداء رسالته
ن هذا ل يعّد جوابًا لفرعون ،بل هو موضوع كان لموسى أن يبّينه لتباعه ومن ولكن الظاهر أ ّ
!...حوله من محّبيه! ل أنه رّد على إشكال فرعون
والّتفسير الّثالث الذي من المحتمل أن يكون مناسبًا أكثر لمقام موسى)عليه السلم(ـ من جهات
متعددة ـ ويتلءم وعظمة كيانه ،أن موسى)عليه السلم( استخدم التورية في تعبيره جوابًا على
ن ال عّرفه إياهكلم فرعون ،فقال كلمًا ظاهره أّنه لم يعرف طريق الحق في ذلك الزمان ...لك ّ
بعدئذ ،ووهب له حكمًا ـ فجعله من المرسلين ،إّل أنه كان يقصد في الباطن أنه لم يدر أن عمله
ن أصل عمله كان حقًا حينئذ سيؤدي إلى هذه النتيجة! من الجهد والعناء واضطراب البال ـ مع َأ ّ
ومطابقًا لقانون العدالة "أو أنه يوم كانت هذه الحادثة قد وقعت كان موسى)عليه السلم( قد ضّل
"...طريقه فصادف أمامه هذه القضّية
ونحن نعرف أن "التورية" هي أن يقول النسان كلمًا باطنه حق ،إّل أن الطرف الخر يفهُم من
صة ُيبتلى النسان فيها بالحرج أو الضيق ،ول ظاهره شيئًا آخر ،وهذا المر يقع في موارد خا ّ
)يريد أن يكذب ،وهو في الوقت ذاته على ظاهر كلمه1)...
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ هذا الكلم يوافق مضمون الحديث الوارد عن المام الرضا)عليه السلم( في تفسير الية1 ،
".راجع كتاب عيون اخبار الرضا ،ج ،4ص 48نقل عن "نور الثقلين
][355
!)ثّم يضيف موسى قائل) :ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًا وجعلني من المرسلين
سرين في المراد من "الحكم" في هذه الية ،أهو مقام النبوة ،أم
وهناك اختلف بين كلمات المف ّ
مقام العلم ،أم سواهما؟! لكن مع ملحظة ذيل الية نفسها المذكور فيها مقام الرسالة بإزاء الحكم
!يّتضح أّنه غير الرسالة والنبّوة
والشاهد الخر على هذا الموضوع الية ) (79من سورة آل عمران إذ قال) :ما كان لبشر أن
...).يؤتيه ال الكتاب والحكم والنبّوة ثّم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون ال
إن كلمة "الحكم" تعني في اللغة :المنع من أجل الصلح ،هذا هو الصل في ما وضعت له ،ولذا
صَدَقة( ثّم أطلقت هذه الكلمة على ما يطابق الحكمة، حَكمًة" على وزن ) َسّموا لجام الحيوان " َ
ومن هنا سمي العقل والعلم حكمًا أيضًا لهذا التناسب ،وقد يقال :إّنه يستفاد من الية ) (14من
سورة القصص أن موسى)عليه السلم( كان قد بلغ مقام الحكم والعلم قبل هذه القضية إذ تقول:
)).ولما بلغ أشّده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا
فنجيب على ذلك أن للعلم والحكمة مراحل مختلفة ،فكان موسى)عليه السلم( قد بلغ مرحلة منهما
!...من قبل ،وحين بلغ مقام النبّوة أدرك المرحلة الكمل
ن به عليه في أّنه رّباه وتعهده منذ طفولته ثّم يرّد موسى)عليه السلم( على كلم فرعون الذي يم ّ
ي أن عّبدت بني إسرائيل).وصباُه ،معترضًا عليه بلحن قاطع فيقول) :وتلك نعمة تمّنها عل ّ
ن يد الحوادث ساقتني ـ وأنا طفل رضيع ـ إلى قصرك ،لترّبى في كنفك ،وكان في ذلك صحيح أ ّ
ي وفي بيتهما؟
ت في أحضان والد ّ !بيان لقدرة ال ،لكن ترى كيف جئت إليك؟ ولم ل تربي ُ
ألم يكن ذلك لّنك عّبدت بني إسرائيل وصّفدت أيديهم بنير السر! حتى
][356
!أمرت أن ُيقتل الطفال الذكور وتستحيا النساء للخدمة؟
ي ،وتلقيني في
فهذا الظالم المفرط من قبلك ،كان سببًا لن تضعني ُامي في الصندوق حفاظًا عل ّ
أمواج النيل ،وكانت مشيئة ال أن تسوق المواج "زورقي" الصغير حتى توصله إلى قصرك...
أجل إن ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين مّنتك وحرمني من بيت أبي الكريم ،وصيرني في
!...قصرك الملّوث
.وبهذا الّتفسير يّتضح ارتباط جواب موسى بسؤال فرعون تمامًا
ن مراد موسى)عليه السلم( هو اِلعتراض على فرعون بأّنه لو كما يحتمل في تفسير هذه الية أ ّ
كانت تربيتي عندك نعمًة من قبلك ،فهي إزاء ظلمك لبني إسرائيل بمثابه القطرة في مقابل البحر،
ي مع ما عندك من الظلم والجور على الناس؟ !فأية نعمَة لك عل ّ
والّتفسير الّثالث لجواب موسى لفرعون ،هو أّنه :لو تربيت في قصرك وتمتعت بنعمك المختلفة،
فل تنس ُبناة قصرك الوائل فهم أرّقاء من قومي ،والموجدون لجميع تلك النعم هم أسراؤك من
ي بجهود قومي وأتعابهم؟ ن عل ّ
!بني إسرائيل ،فكيف تم ّ
!وهذه التفاسير الثلثة ل تتنافى جميعًا ،وإن كان الّتفسير الّول من بعض الجهات أكثر وضوحًا
ويستفاد من عبارة" :من المرسلين" ضمنًا بأّنني لست الوحيد المرسل من قبل ال .فمن قبلي
سل عّدة ،وأنا واحٌد منهم ،إّل أن فرعون نسَيهم أو تناساهم!!جاء ُر ُ
***
][357
اليات
ن)(24 ض َوَما َبْيَنُهَما ِإن ُكنُتم ّموِقِني َ ت َواَْلْر ِ سَمـَو ِب ال ّن)َ (23قاَل َر ّ ب الَعـَلِمي َ
ن َوَما ِر ّ عْو َُقاَل ِفْر َ
سَل
سوَلُكُم اّلِذى ُأْر ِ
ن َر ُن)َ (26قاَل ِإ ّ ب َءاَباِئُكُم اَْلّوِلي َ
ن)َ (25قاَل َرّبُكْم َوَر ّ سَتِمُعو َحْوَلُه َأَل َت ْ
ن َ َقاَل ِلَم ْ
ن)َ (28قاَل َلِئن اّتخَْذ َ
ت ب َوَما َبْيَنُهمآ ِإن ُكنُتْم َتْعِقُلو َ ق َواْلَمْغِر ِشِر ِب اْلَم ْ
ن)َ (27قاَل َر ّ جُنو ٌ
ِإَلْيُكْم َلم ْ
ن)29 جوِني َسُ ن اْلَم ْ
ك ِم َجَعَلّن َ
غْيِرى َل ْ )ِإَلهًا َ
الّتفسير
:التهام بالجنون والتهديد بالسجنِ
حين واجه موسى)عليه السلم( فرعون بلهجة شديدة :وأجابه بضرس قاطع ،وأفحم فرعون في
ب العالمين ،و )قال
رّده ،غّير فرعون مجرى كلمه ،وسأل موسى عن معنى كلمه أّنه رسول ر ّ
ب العالمين
)..فرعون وما ر ّ
ومن المستبعد جّدا أن يكون فرعون قد سأل موسى)عليه السلم( هذا السؤال لفهم الحقيقة
.ومعرفة الموضوع ،بل يبدو أّنه سأله متجاهل ومستهزئًا
][358
ن موسى ـ على كل حال ـ لم يجد ُبدًا كسائر الباحثين الواعين اليقظين ،أن يجيب على فرعون إّل أ ّ
بجّد ...وحيث أن ذات ال سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس ،فإّنه أخذ يحدثه عن آيات ال في
ب السماوات والرض وما بينهما إن كنُتْم موقنين ).الفاق وآثاره الحّية إْذ )قال ر ّ
فالسماوات بما فيهن من عظمة ،والرض على سعتها ...والموجودات المتعددة بألوانها بحيث ل
تساوي أنت وقصرك بإزائها إّل ذّرة في مقابل المجّرة! كّلها من خلق رّبي ،فمثل هذا الخالق
!...المدّبر لهذا العالم جدير بالعبادة ،ل الموجود الضعيف التافه مثلك
ن لكّل موجود في هذا العالم رّبا ،وكانوا وينبغي اللتفات إلى أن عبدة الوثان كانوا يعتقدون أ ّ
ظم متفرقة ،إّل أن كلم موسى)عليه السلم( يشير إلى أن هذا النظام يعّدون العالم تركيبًا من ُن ُ
...الواحد المتحكم على هذه المجموعة في عالم الوجود دليل على أن له رّبا واحدًا
ن موسى)عليه السلم( يريد أن يفهم فرعون ومن وجملة )إن كنتم موقنين( لعلها إشارًة إلى أ ّ
حوله ـ ولو تلويحًا ـ أنه يعرف أن الهدف من هذا السؤال ليس إدراك الحقيقة ...لّنه لو أراد
إدراك الحقيقة والبحث عنها لكان استدلله كافيًا ..فكأّنه يقول لهم :افتحوا أعينكم قليل وتفكروا
ساعة في السماوات والرض بما فيهما من الثار وعجائب المخلوقات ...لتطلعوا على معالمها
!وتصححوا نظرتكم نحو الكون
إّل أن فرعون لم يتيقظ من نومة الغافلين بهذا البيان المتين المحكم لهذا المعلم الكبير الّرباني
السماوي ...فعاد لمواصلة الستهزاء والسخرية ،واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور ،و )قال
).لمن حوله أل تستمعون
ومعلوم من هم الذين حول فرعون؟ فهم أشخاص من نسيجه وجماعة من أصحاب القّوة والظلم
.والقهر والمال
][359
)يقول ابن عباس :كان الذين حول فرعون هناك خمسمائة نفر ،وهم يعّدون من خواص قومه1).
وكان الهدف من كلم فرعون أن ل يترك كلم موسى المنطقي يؤثر في القلوب المظلمة ُلولئك
.الرهط ...فعّده كلمًا بل محتوى وغير مفهوم
إّل أن موسى)عليه السلم( عاد مّرة ُأخرى إلى كلمه المنطقي دون أي خوف ول وهن ول إيهام،
ب آبائكم الولين
).فواصل كلمه و )قال رّبكم ور ّ
إن موسى)عليه السلم( بدأ في المرحلة اُلولى بـ "اليات الفاقية" ،وفي المرحلة الّثانية أشار
إلى "اليات النفسية" ،وأشار إلى أسرار الخلق في وجود الناس أنفسهم وآثار ربوبية ال في
أرواح البشر وأجسامهم ،ليفكر هؤلء المغرورون على القّل في أنفسهم ويحاولوا التعّرف عليها
.وبالتالي معرفة من خلقها
إّل أن فرعون تمادى في حماقته ،وتجاوز مرحلة الستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون ،فـ )قال إ ّ
ن
)...رسولكم الذي ُأرسل إليكم لمجنون
وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين
!...الّربانيين
ن رسولنا الذي ن يقول" :إ ّ
ومّما يستجلب النظر أن هذا الضاّل المغرور لم يكن مستعّدا حتى ل ّ
ن رسولكم الذي أرسل إليكم" ،لن التعبير برسولكم ـ أيضًا ـ له طابع أرسل إلينا" ،بل قال" :إ ّ
الستهزاء المقترن بالنظرة الستعلئية ...يعني :إنني أكبر من أن يدعوني رسول ...وكان الهدف
ي المتين لئل يترك أثرًا في أفكار
من اتهامه موسى بالجنون هو إحباط وإفشال منطقه القو ّ
.الحاضرين
إّل أن هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى)عليه السلم( ومعنوياته العالية ،وواصل بيان آثار ال
في عالم اليجاد في الفاق والنفس ،مبينًا خط التوحيد الصيل فـ )قال
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ راجع تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل الية محل البحث 1
][360
ب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ).ر ّ
ن حكومة رّبي فإذا كنت ـ يا فرعون ـ تحكم حكما ظاهرّيا في أرض محدودة تدعى مصر ،فإ ّ
الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعًا ،وآثاره تشرق في وجوه الموجودات!...
ن هذه الشمس في شروقها وغروبها وما يتحكم فيها من نظام ،كل ذلك بنفسه آية له وأساسًا فإ ّ
ن العيب كامن فيكم ،لّنكم ل تعقلون ،ولم تعتادوا التفكير )وينبغي ودليل على عظمته ...إّل أ ّ
اللتفات إلى أن جملة )إن كنتم تعقلون( هي إشارة إلى أنه لو كنتم تتفكرون وتستعملون العقل في
).ماضي حياتكم وحاضرها لتوصلتم إلى إدراك هذه المسألة
وفي الواقع إن موسى)عليه السلم( أجاب على اتهامهم إياه بالجنون بأسلوب بليغ بأّنه ليس
مجنونًا ،وأن المجنون هو من ل يرى كل هذه الثار ودلئل وجود الخالق ،والعجيب أنه مع وجود
!".الثار على باب الدار والجدار ،فانه يوجد من ل يفكر في هذه الثار
ن موسى)عليه السلم( أشار بادىء المر إلى تدبير أمر السماوات والرض ،إّل أنه وصحيح أ ّ
حيث أن السماء عالية جدًا ،وأن الرض ذات أسرار غربية ،فقد وضع موسى)عليه السلم( أخيرًا
إصبعه على نقطة ل يمكن لحد إنكارها; ويواجهها اِلنسان كّل يوم ،وهي نظام طلوع الشمس
ن بيده نظامها أبدًا...وغروبها وما فيها من منهج دقيق ...وليس لحد من البشر أن يدعي أ ّ
والتعبير بـ "ما بينهما" إشارة إلى الوحدة والرتباط في ما بين المشرق والمغرب ،وهكذا كان
ب السماوات والرض وما بينهما ).التعبير في شأن السماوات والرض) .قال ر ّ
...ويبّين التعبير )رُبكم ورب آبائكم الولين( أيضًا ارتباط النسل والوحدة فيه
غير أن هذا المنطق المتين الذي ل يتزعزع غاظ فرعون بشدة ،فالتجأ إلى
][361
استعمال "حربة" يفزع إليها المستكبرون عند الندحار ،فجابه موسى و )قال لئن اتخذت إلهًا
).غيري لجعلنك من المسجونين
فأنا ل أعرف كلماتك ،إّنما أعرف وجود اله ومعبود كبير وهو أنا ...ومن قال بغيره فهو محكوم
!...بالعدام أو السجن
سرين أن اللف واللم في "من المسجونين" هما للعهد ،وهي إشارة إلى سجن ويعتقد بعض المف ّ
)خاص من ألقي فيه يبقى سجينًا حتى تخرج جنازته1).
وفي الواقع كان فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الرهابي ،لن مواصلة موسى)عليه
السلم( بمثل هذه الكلمات ستكون سببًا في إيقاظ الناس ،وليس أخطر على الجبابرة من شيء
!...كإيقاظ الناس
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ راجع تفسير الميزان ،والفخر الرازي ،وروح المعاني ذيل الية محل البحث 1
][362
اليات
الّتفسير
:بلدكم في خطر
رأينا في اليات المتقدمة كيف حافظ موسى)عليه السلم( على تفّوقه ـ من حيث المنطق ـ على
فرعون ،وبّين للحاضرين إلى أّية درجة يعّول مبدؤه على منطقه وعقله ،وأن ادعاء فرعون واه
وضعيف ،فتارة يسخر من موسى ،وتارًة يرميه بالجنون ،وأخيرًا يلجأ إلى التهديد بالسجن
!...والعدام
وهنا يقلب موسى)عليه السلم( صفحة جديدة ،فعليه أن يسلك طريقًة أخرى يخذل
][363
فيها فرعون ويعجزه .عليه أن يلجأ إلى القّوة أيضًا ،القّوة اللهية التي تنبع من العجاز ،فالتفت
)...إلى فرعون متحّديا و )قال أو لوجئتك بشىء مبين
طةوهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود ...لن موسى)عليه السلم( أشاَر إلى خ ّ
جديدة! ولفت انظار الحاضرين نحوه ،إذ لو أراد فرعون أن ل يعتّد بكلمه ،لعترض عليه الجميع
ولقالوا :دعه ليرينا عمله المهم ،فلو كان قادرًا على ذلك فلنرى ،ونعلم حينئذ أّنه ل يمكن الوقوف
...امامه ،وإّل فستنكشف مهزلته!! وعلى كل حال ليس من اليسير تجاوز كلم موسى ببساطة
فاضطر فرعون إلى الستجابة ل قتراح موسى)عليه السلم( و )قال فأت به إن كنت من
).الصادقين
".فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين( "بأمر ال(
ثّم أظهر إعجازًا آخر حيث أدخل يده في جيبه )اعلى الثوب( وأخرجها فاذا هي بيضاء منيرة:
)).ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين
في الحقيقة إن هاتين المعجزتين الكبيرتين ،إحداهما كانت مظهر الخوف ،واُلخرى مظهر المل،
فاُلولى تناسب مقام النذار ،والّثانية للبشارة! واُلولى تبّين عذاب ال ،واُلخرى نوٌر وآية رحمة!
ن المعجزة ينبغي أن تكون منسجمًة مع دعوة الّنبي)عليه السلم ).ل ّ
الثعبان" معناه الحية العظيمة ،ويحتمل الراغب في مفرداته أن "الثعبان" من مادة )ثعب("
ن حركة هذا الحيوان تشبه النهار المتحركة !المأخوذ معناه من جريان الماء ،ل ّ
صا موسى)عليه السلم(تبدلت إلى نع ّوالتعبير بـ "المبين" لعله إشارة إلى هذه الحقيقة! وهي أ ّ
.ثعبان عظيم فعل ،ولم يكن في المر من إيهام أو سحر
ن الية محل البحث عبرت ]عن تبدل العصا[ بـ ول بأس بذكر هذه اللطيفة الدقيقة هنا ،وهي أ ّ
"ثعبان" .أّما الية العاشرة من سورة النمل ،والية الحادية
][364
والثلثون من سورة القصص ،فقد عبرت عنها بـ "جان" "ما تجّنه)(1الرض وما يمشي عليها
من الفاعي الصغار بسرعة وقفز" .أّما الية العشرون من سورة طه فقد عّبرت عنها بأّنها
"".حية" "المشتّقة من الحياة
ن الختلف أو التفاوت وهذا التفاوت أو الختلف في التعابير مثير للسؤال في بدو النظر ،إّل أ ّ
:إّنما هو لبيان واحد من أمرين
ن أو حية 1 ـ لعله إشارة إلى حالت ذلك الثعبان المتباينة ،ففي البداية تبدلت العصا إلى جا ّ
!...صغيرة ،ثّم بدأت تكبر حتى صارت ثعبانًا مبينًا
ل منها يرمز إلى بعض الخصائص 2 ن هذه اللفاظ الثلثة "الثعبان ،والجان ،والحية" ك ّ ـ أو أ ّ
الموجودة في تلك العصا المتبدلة إلى حالة جديدة! فالثعبان إشارة إلى عظمتها ،والجان إشارة إلى
!سرعتها ،والحية إشارة إلى حياتها
غير أن فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته
الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى)عليه السلم( ،وكذلك من أجل أن يرفع من
معنويات أصحابه والمل من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها ،فقد )قال للمل
).حوله إن هذا لساحر عليم
ذلك النسان الذي كان يدعوه مجنونًا إلى لحظات آنفة ،وإذا هو الن يعبر عنه بالعليم ،وهكذا هي
طريقة الجبابرة وأسلوبهم ،حيث تتبدل كلماتهم في مجلس واحد عّدة مّرات ،ويحاولون التشبث
.بأي شيء للوصول إلى هدفهم
ن ذلك العصر وكان فرعون يعتقد أن اتهام موسى بالسحر ألصق به وأكثر قبول عند السامعين ،ل ّ
.كان عصر السحر ،فإذا أظهر موسى)عليه السلم( معاجزه فمن اليسير توجيهها بالسحر
ومن أجل أن يعّبىء المل وُيثيَر حفيظتهم ضد موسى)عليه السلم( ،قال لهم) :يريد أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
ن يجن "من الضداد في اللغة" والضّد في اللفاظ ما يحمل معنيين متضادين ،مثل الجون 1 ـجّ
ن بمعنى ستره وأظهره .يطلق على السود والبيض ،وج ّ
][365
).يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟
والغريب في المر أن فرعون الذي قال هذا الكلم هو الذي كان يقول من قبل) :أليس لي مل ُ
ك
!مصر(؟
ك الناس ،فيقول والن حيث يرى عرشه متزعزعًا ينسى مالكيته المطلقة لهذه الرض ،ويعّدها مل َ
!...لهم :أرضكم في خطر ،إن موسى يريد أن يخرجكم من أرضكم ،ففكروا في حيلة
فرعون هذا لم يكن قبل ساعة مستعدًا لن يصغي لحد ،كان المر بل منازع ،أّما الن فهو في
حرج شديد يقول لمن حوله" :ماذا تأمرون"؟! إّنها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف
!...فحسب
ن أتباع فرعون ومن حوله ائتمروا فيما بينهمويستفاد من الية ) (110من سورة العراف أ ّ
وتشاوروا في المر ،وكانوا في حالة من اِلضطراب النفسي بحيث كان كّل منهم يسأل الخر
!قائل :وأنت ما تقول؟ وماذا تأمرون؟
سّنة الجبابرة في كل عصر وزمان ...فحين يسيطرون على الوضاع يزعمون أن كل أجل هذه ُ
شيء لهم ،ويعدون الجميع عبيدهم ،ول يفهمون شيئًا سوى منطق الستبداد .إّل أّنهم حين تهتّز
عروشهم الظالمة ويرون حكوماتهم في خطر ،ينزلون مؤقتًا عن استبدادهم ويلجأون إلى الناس
ويتحدثون باسم الناس ،فالرض أرض الشعب ،والحكومة تمثل الشعب ويحترمون آراء الشعب،
ولكن حين يستقر الطوفان ويهدأ التيار ،فاذا هم أصحاب المس و"عادت حليمة إلى عادتها
".القديمة
ورأينا في عصرنا بقايا السلطين القدامى كيف يحسبون أن الدولة ملكهم المطلق حين ُتقبل الدنيا
عليهم ،ويأمرون من يرفض إتباعهم بالخروج عن تلك البلد قائلين له :اذهب في أرض ال
العريضة الواسعة ،ففي هذا البلد لبّد من تنفيذ ما نقول ل غير .ورأينا هذه الحالة عندما بدأت
هّبت رياح الثورة السلمية كيف
][366
أن الطواغيت أخذوا باحترام الشعب وتعظيمه ،وحتى أّنهم أقروا بذنوبهم وطلبوا العفو ،ولكن
.الناس الذين عرفوا سجّيتهم طوال سنين مديدة لم ينخدعوا بذلك
وبعد المشاورة فيما بينهم التفت المل من قوم فرعون إليه و )قالوا أرجه وأخاه وابعث في
.المدائن حاشرين( (1).أي أمهلهما وابعث رسلك الى جميع المناطق والمصار
حار عليم(
).يأتوك بكل س ّ
وفي الواقع أن رهط فرعون إّما أّنهم غفلوا ،وإّما أّنهم قبلوا اتهامه لموسى واعين للمر .فهيأوا
!...خطًة على أّنه ساحر ،ولبّد من مواجهته بسحرة أعظم منه وأكثر مهارة
ن في بلدنا العريضة سحرًة كثيرين ،فلبّد من جمع السحرة لحباط سحر ظإّوقالوا :لحسن الح ّ
).موسى)عليه السلم
وكلمة )حاشرين( مأخوذه من مادة )الحشر( ومعناه التعبئة والسوق لميدان الحرب وأمثال ذلك،
ي ثمن كان!...وهكذا فينبغي على المأمورين أن يعبئوا السحرة لمواجهة موسى)عليه السلم( بأ ّ
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
لستعجال في القضاء ،والضمير في 1ـ )أرجه( مشتّقة من "اِلرجاء" ،ومعناها التأخير وعدم ا ِ
!)أرجه( يعود على موسى ،وأصل الكلمة كان )أرجئه( وحذفت الهمزة للتخفيف
][367
اليات
سحََرَة ِإن
ن)َ (39لَعّلَنا َنّتِبُع ال ّ جَتِمُعو َ
س ُهْل َأنُتم ّم ْت َيْوم ّمْعُلوم)َ (38وِقيَل ِللّنا ِ حَرُة ِلِميَقـ ِ سَ جِمَع ال ّ َف ُ
ن)(41 ن الَغـِلِبي َ
حُ جرًا ِإن ُكّنا َن ْ
ن َلَنا َل ْ
ن َأِئ ّ
عْو َ
حَرُة َقاُلوْا ِلِفْر َ
سَ
ن )َ(40فَلّما جآَء ال ّ َكاُنوْا ُهُم الغـِلِبي َ
ن)42 ن الُمَقّرِبي َ
)َقاَل َنَعْم َوِإّنُكْم ِإذًا ّلِم َ
الّتفسير
:اجتماع السحرة من كّل مكان
صة المثيرة ،إذ تحرك المأمورون بحسب اقتراح
في هذه اليات ُيعرض مشهدًا آخر من هذه الق ّ
أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم ،وكان الوعد المحدد )فجمع السحرة
).لميقات يوم معلوم
وبتعبير آخر :إّنهم هيأوهم من قبل لمثل هذا اليوم ،كي تجتمعوا في الوعد المقرر في "ميدان
"...العرض
والمراد من "اليوم المعلوم" كما يستفاد من بعض اليات في سورة العراف ،أّنه بعض أعياد أهل
مصر ،وقد اختاره موسى)عليه السلم( للمواجهة ومنازلة السحرة ...وكان هدفه أن يجد الناس
،فرصة أوسع للجتماع ،لّنه كان مطمئنًا بأّنه سينتصر
][368
وكان يريد أن يظهر آيات ال وضعف فرعون والمل من حوله للجميع ،وليشرق نور اليمان في
!...قلوب جماعة كثيرين
طلب من الناس الحضور في هذا المشهد) :وقيل للناس هل أنتم مجتمعون(وهذا التعبير يدّل على وُ
ن المأمورين من ِقَبِل فرعون بذلوا قصارى جهودهم في هذا الصدد ...وكانوا يعلمون أّنهم لو أّ
ن النسان يكره الجبار ويعرض عنه أجبروا الناس على الحضور لكان رّد الفعل سلبّيا ،ل ّ
بالفطرة! لذلك قالوا :هل ترغبون في الحضور؟ وهل أنتم مجتمعون؟ ومن البديهي أن هذا
.السلوب جّر الكثير إلى حضور ذلك المشهد
ن السحرة اذا انتصروا فمعنى ذلك ن الهدف من هذا الحضور والجتماع هو أ ّ وقيل للناس :إ ّ
انتصار اللهة وينبغي علينا اتباعهم) :لعلنا نّتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين( فلبّد من تهييج
.الساحة للمساعدة في هزيمة عدو اللهة إلى البد
ن وجود المتفرجين كّلما كان أكثر شّد من أزر الطرف المبارز ،وكان مدعاًة لن يبذل وواضح أ ّ
أقصى جهده ،كما أنه يزيد من معنوياته وعندما ينتصر الطرف المبارز يستطيع أن يثير الصخب
والضجيج إلى درجًة يتوارى بها خصمه ،كما أن وجود المتفرجين الموالين بإمكانه أن يضعف من
!روحّية الطرف المواجه "الخصم" فل يدعه ينتصر
ن موسى)عليه السلم( أجل إن اتباع فرعون بهذه المال كانوا يرغبون أن يحضر الناس ،كما أ ّ
ن وجه.كان يطلب ـ من ال ـ أن يحضر مثل هذا الجمع الحاشد الهائل! ليبّين هدفه بأحس ِ
كل هذا من جهة ،ومن جهة ُأخرى كان السحرة يحلمون بالجائزة من قبل فرعون )فلما جاء
ن لنا لجرًا إن كّنا نحن الغالبين
)...السحرة قالوا لفرعون َءإ ّ
وكان فرعون قلقًا مضطرب البال ،لّنه في طريق مسدود ،وكان مستعّدا لن
][369
يمنح السحرة أقصى المتيازات ،لذلك فقد أجابهم بالرضا و )قال نعم وإّنكم إذًا لمن المقّربين( .اي
!...إن فرعون قال لهم :ما الذي تريدون وتبتغون؟! المال أم الجاه ،فكلهما تحت يد ّ
ي
وهذا التعبير يدّل على أن التقرب من فرعون في ذلك المحيط كان مهّما إلى درجة قصوى! بحيث
يذكره فرعون للسحرة ويعّده أجرًا عظيمًا ،وفي الحقيقة ل أجر أعظم من أن يصل النسان إلى
!...مقربة من القدرة المطلوبة
ن عباد ال ل يرون أجرًا أعظيم من فإذا كان الضاّلون يعّدون التقرب من فرعون أعظم أجر ،فإ ّ
التقرب الى ال تعالى حتى الجّنة بما فيها من النعيم المقيم ل تقاس بنظرة من وجهه الكريم
!...لهم
ن الشهداء في سبيل ال الذين ينبغي أن ينالوا أعظم الجر ليثارهم الكبير ،ينالون ولذلك فإ ّ
!...التقرب من ال بشهادة القرآن! والتعبير القرآني )عند رّبهم( شاهد بليغ على هذه الحقيقة
ن المؤمن السليم القلب حين يؤدي العبادة ال ،يؤديها بهدف "قربة الى ال "...وكذلك فإ ّ
***
][370
اليات
حُ
ن ن ِإّنا َلَن ْعْو َصّيُهْم َوَقاُلوْا َبَعّزِة ِفْر َ ع ِ حَباَلُهْم َو ِن)َ (43فَأْلَقوْا ِ سى َأْلُقوْا َمآ َأنُتم ّمْلُقو َ َقاَل َلُهم ّمو َ
ن) جِدي َ سـ ِ
حَرُة َ سَ ى ال ّ ن)َ (45فُأْلِق َ ف َما َيْأِفُكو َى َتْلَق ُصاُه فِإَذا ِه َ
ع َ سى َ ن)َ (44فَأْلَقى ُمو َ اْلَغـِلُبو َ
ن َلُكْم ِإّنُه
ن َءاَذ َ ن)َ (48قاَل َءاَمنُتْم َلُه َقْبَل َأ ْ سى َوَهـرو َ ب ُمو َ ن)َ (47ر ّ ب اْلَعـَلِمي َ
َ(46قاُلوْا ءاَمّنا ِبَر ّ
ن)
جَمِعي َ صّلَبّنُكْم َأ ْ
خَلـف َوَُل َ ن َ جَلُكم ّم ْ ن َأْيِدَيُكم َوَأْر ُ
طَع ّ
ن َُلَق ّ
ف َتْعَلُمو َ
سْو َ حَر َفَل َسْ عّلَمُكُم ال َّلَكِبيُرُكُم اّلِذى َ
طـَينآ َأن ُكّنآ َأّوَل خَ طَمُع َأن َيْغِفرَ َلَنا رّبَنا َ ن )ِ(50إّنا َن ْ ضْيَر ِإّنآ ِإَلى َرّبَنا ُمنَقِلُبو ََ (49قالُوْا َل َ
ن)51 )الْمُْؤِمِني َ
الّتفسير
حَرَة
سَ
:نور اليمان في قلوب ال َ
حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالجر والقرب منه ،وشّد من عزمهم ،فإّنهم بدأوا بتهيئة
المقدمات ووفروا خلل ماسخت لهم الفرصة عصّيهم وحبالهم ،ويظهر أّنهم صّيروها جوفاء
وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق ـ مثل ـ بحيث تتحرك
][371
!وتلمع عند شروق الشمس عليها
وأخيرًا كان اليوم الموعود والميقات المعلوم ،وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة
التاريخّية ،ففرعون وقومه من جانب ،والسحرة من جانب آخر ،وموسى وأخوه هارون من جانب
!ثالث ،كلهم حضروا هناك
وكعادة القرآن في حذف المقدمات المفهومة من خلل اليات المذكورة ،والشروع بذكر أصل
الموضوع ،فيتحّدث عن مواجهة موسى للسحرة حيث التفت إليهم و) :قال لهم موسى ألقوا ما
).أنتم ملقون
ن موسى)عليه السلم( قال ذلك عندما سأله ويستفاد من الية ) (115من سورة العراف ،أ ّ
السحرة :هل تلقي أنت أّول أم نلقي نحن أّول؟
وهذا القتراح من قبل موسى)عليه السلم( يدّل أّنه كان مطمئنًا لنتصاره ،ودليل على هدوئه
وسكينته أمام ذلك الحشد الهائل من العداء وأتباع فرعون ...كان هذا القتراح ُيعّد أّول "ضربة"
يدمغ بها السحرة ،ويبّين فيها أنه يتمتع بالهدوء النفسي الخاص ،وأّنه مرتبط بمكان آخر ومتصل
.به
وأّما السحرة الغارقون بغرورهم ،والذين بذلوا أقصى جهودهم لنتصارهم في هذا "الميدان" ،فقد
كانوا مستعدين ومؤّملين لن يغلبوا موسى)عليه السلم( )فألقوا حبالهم وعصّيهم وقالوا بعزة
)فرعون إنا لنحن الغالبون(1).
!أجل ،لقد استندوا إلى عّزة فرعون كسائر المتملقين ،وبدأوا باسمه وقدرته الواهية
ي كأّنها الفاعي والثعابين و
وهنا ـ كما يبّين القرآن في مكان آخر من سورة وآياته ـ تحركت العص ّ
))يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى(2).
وقد انتخب السحرة العصي كوسائل لسحرهم ،لتتغّلب حسب تصّورهم على
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ "الحبال" جمع "حبل" على وزن )طبل( ومعناها واضح ،والعصي جمع العصا 1
.ـ سورة طه ،الية 2 66
][372
...عصى موسى ،وأضافوا عليها الحبال ليثبتوا علّوهم وفضلهم عليه
فتهللت أسارير وجوه الناس ووجه فرعون فرحًا ،وأشرق المل في عيني فرعون وأتباعه،
سّروا سرورًا لم يكن ليخفى على أحد ،وسرت فيهم نشوة الّلذة من هذا المشهد
!و ُ
ن موسى)عليه السلم( لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير، إّل أ ّ
فتقدم )فألقى موسى عصاه( فتحولت الى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وادوات السحرة
ف ما يأفكون(1).
)بسرعة بالغة )فإذا هي تلق ُ
شاهم الوجوم وفغرت الفواه من الدهشة وهنا طاف صمت مهيب على وجوه الحاضرين وغ ّ
والعجب ،وجمدت العيون ،ولكن سرعان ما انفجر المشهد بصراخ المتفرجين المذعورين ففر
...جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد ،وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة
و تبّدل كل شيء ،وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا ـ إلى تلك اللحظة ـ مع فرعون غارقين
في الشيطنة ،ولّنهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه ،فإّنهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن
).سحرًا ،بل هي معجزة إلهية كبرى )فُألقي السحرة ساجدين
ن القرآن يعبر عن خضوع السحرة بـ "ُألقي" وهذا التعبير إشارة إلى منتهى التأثير الطريف أ ّ
...وجاذبية معجزة موسى لهم ،حتى كأّنهم سقطوا على الرض وسجدوا دون اختيارهم
ب العالمين
).واقترن هذا العمل العبادي ـ وهو السجود ـ بالقول بلسانهم فـ )قالوا آمنا بر ّ
ولئل يبقى مجاُل للبهام والغموض والتردد ،ولئل يفسر فرعون ذلك تفسيرًا
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ )تلقف( مشتق من )اللقف( على زنه )السقف( ومعناه إمساك الشيء بسرعة ،سواء كان ذلك 1
باليد أم الفم ،ومعلوم أن المراد هنا اِلمساك بالفم والبتلع ،و )يأفكون( مشتق من )الفك(
.ومعناه الكذب ،وهي إشارة إلى وسائلهم الباطلة
][373
ب موسى وهارون
).آخر فإّنهم قالوا) :ر ّ
ل لمر المبارزة وإلقاء العصا وهذا التعبير يّدل على أّنه وإن كان موسى)عليه السلم( متكف ً
ن أخاه هارون كان يعاضده في المر ،وكان مستعدًا لتقديم أي عون ومحاججة السحرة ،إّل أ ّ
.لخيه
وهذا التبدل والتغّير المفاجيء العجيب في نفوس السحرة بحيث خطوا في لحظة واحدة من الظلمة
المطلقة إلى النور المبين .ولم يكتفوا بذلك حتى أقحموا انفسهم في خطر القتل ،وأعرضوا عن
مغريات فرعون ومصالحهم المادية ...كّل ذلك لما كان عندهم من "علم" استطاعوا من خلله أن
!يتركوا الباطل ويتمسكوا بالح ّ
ق
ق ،وقد سكروا من عطر ش ِ
إّنهم لم يجوبوا باقي الطريق بخطى العقل فحسب ،بل ركبوا خيول الِع ْ
أزهاره ،حتى كأّنهم لم يفيقوا من سكرتهم ،وسنرى أّنهم ِلهذا السبب استقاموا بشجاعة أمام
...تهديدات فرعون الرهيبة
نقرُأ حديثًا عن الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( أنه قال" :ما من قلب إّل بين إصبعين من
أصابع الرحمان ،إن شاء أقامه ،وإن شاء أزاغه")) (1وبديهي أن مشيئة ال في هاتين
المرحلتين تتعلق باستعداد النسان ،وهذا التوفيق أو سلب التوفيق إّنما هو لجل قابلية القلوب
).المختلفة ،وليس اعتباطًا
أّما فرعون ،فحيث وجد نفسه مهزومًا معنويًا ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر،
ي تأثير عميق ليمان السحرة في قلوب سائر الناس ،ومن الممكن أن صة أنه كان يعرف أ ّ وخا ّ
يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة ،فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر ،فالتفت إلى
)السحرة و)قال آمنتم به قبل أن آذن لكم(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير في ظلل القرآن ،ج ،6ص 1 208
ـ جاء التعبير في هذه الية والية ) (71من سورة طه بـ )آمنتم له( وجاء التعبير في الية ) 2
(123من سورة العراف )آمنتم به( وكما يقول أصحاب اللغة :إن اليمان إذا تعدى باللم فإنه
!يعني الخضوع ،وإذا تعدى بالباء فإنه يعني التصديق
][374
لقد تربع على عرش الستبداد سنين طوال ،ولم يكن يترقب من الناس أن ل يسجدوا أو يقوموا
بعمل دون إذنه فحسب ،بل كان ترّقبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونًة به وبأمره ،فليس
!.لهم أن يفّكروا دون اذنه!! وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبرين
هذا المغرور الطائش لم يكن مستعّدا لن يذكر اسم ال ول اسم موسى ،بل اكتفى بالقول )آمنتم
!!له(! والمراد من هذا التعبير هو التحقير
إّل أن فرعون لم يقنع بهذا المقدار ،بل أضاف جملتين ُأخريين لُيّثبت موقعه كما يتصّور أّول،
.وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلًة نيامًا
فإتهم السحرة أّول بأّنهم تواطؤوا مع موسى)عليه السلم( وتآمروا على أهل مصر جميعًا ،فقال:
)).إّنه لكبيركم الذي علمكم السحر
وقد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه الساحة ،فتضلوا أهل مصر وتجّروهم إلى الخضوع
تحت سيطرة حكومتكم; وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وُتحّلوا
...العبيد محلهم
إّل أنني ل أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة ،وسأخنق المؤامرة في مهدها )فلسوف تعلمون
ن أيديكم وأرجلكم من خلف وُلصلبنكم أجمعين ُ).لقطع ّ
ل بالتعذيب والزجر بين المل العام ،وعلى جذوع أي :ل أكتفي بإعدامكم فحسب ،بل أقتلكم قت ً
النخل) ،لن قطع اليدي والرجل من خلف يؤدي إلى الموت البطيء ،فيذوق معه النسان
).التعذيب أكثر
وهذه هي طريقة الجبابرة والحّكام الظلمة في كل عصر وزمان ،ففي البدء يتهمون الرجال
المصلحين بالتآمر ضد الناس ،وبعد الستفادة من حربة التهمة يعملون السيف في رقاب ليضعف
.موقع المطالبين بالحق ول يجدوا معاضدًا لهم ،فيزيحوهم من طريقهم
إّل أن فرعون لم يحقق هدفه هنا ،لن السحرة قبل لحظة ـ والمؤمنين في هذه
][375
اللحظة ـ قد غمر قلوبهم اليمان ،وأضرمهم عشق ال; بحيث لم يهّزهم تهديد فرعون ،فأجابوه
).بضرس قاطع واحبطوا خطته و )قالوا ل ضير إنا إلى رّبنا منقلبون
فأنت بهذا العمل ل تنقص مّنا شيئًا ،بل توصلنا إلى معشوقنا الحقيقي والمعبود الواقعي ،فيوم
كانت هذا التهديدات تؤثر فينا لم نعرف أنفسنا ولم نعرف رّبنا ،وكّنا ،ضالين مضلين ،إّل أّننا
!)عثرنا اليوم على ضالتنا )فاقض ما أنت قاض
ثّم أضافوا بأّنهم واجهوا الّنبي موسى)عليه السلم( من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيرًا ،ولكن مع ذلك
)...فـ )إنا نطمع أن يغفر لنا رّبنا خطايانا أن كنا أّول المؤمنين
إّننا ل نستوحش اليوم من أي شيء ،ل من تهديداتك ،ول من تقطيع اليدي والرجل من خلف
.ول من الصلب على جذوع النخل
وإذا كّنا نخاف من شيء ،فإّنما نخاف من ذنوبنا الماضية ،ونرجوا أن تمحى في ظل اليمان
طفِه
!وبفضل ال وُل ْ
أية طاقة وقّوة هذه التي إن ُوجدت في النسان صغرت عندها أعظم القوى ،وهانت عنده أشد
!اُلمور ،وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية واليثار؟
.إّنها قّوة اليمان
إّنها شعلة العشق النيرة ،التي تجعل الشهادة في سبيل ال أحلى من الشهد والعسل ،وتصّير
!الوصال إلى المحبوب أسمى الهداف
هذه هي القّوة التي استعان بها الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ورّبى المسلمين الوائل عليها،
وأوصل أمة جهلَء متأخرة إلى أوج الفخر بسرعة مذهلة ،فكانت اُلمة المسلمة التي اذهلت
!الدنيا
إّل أن هذا المشهد ـ على كل حال ـ كان غاليًا وصعبًا على فرعون وقومه ،بالرغم من أّنه طّبق
تهديداته ـ طبقًا لبعض الروايات ـ فاستشهد على يديه السحرة المؤمنون ـ إّل أن ذلك لم يطفىء
عواطف الناس تجاه موسى فحسب ،بل أثارها
][376
!...أكثر فأكثر
ففي كل مكان كانت اصداء الّنبي الجديد ...وفي كل حدب وصوب حديث عن أوائل الشهداء
المؤمنين ،وهكذا آمن جماعة بهذا النحو ،حتى أن جماعة من قوم فرعون وأصحابه المقربين
.حتى زوجته ،آمنوا بموسى ايضًا
وهنا ينقدح هذا السؤال ،وهو :كيف عبر السحرة التائبون المؤمنون عن أنفسهم بأّنهم أّول
...المؤمنين
!هل كان مرادهم أّنهم أّول المؤمنين في ذلك المشهد؟
!أو كان مرادهم أّنهم أّول المؤمنين من حماة فرعون؟
".أو أّنهم أّول المؤمنين الذين وردوا "الشهادة
.كل هذه اُلمور محتملة ،ول تتنافى في مابينها
ن جماعة من بني إسرائيل أو من غيرهم آمنوا ح في صورة ما لو قلنا بأ ّ وهذه التفاسير إّنما تص ّ
بموسى قبل ذلك ،أما لو قلنا بأّنهم أمروا بعد البعثة أن يتصلوا بفرعون مباشرًة وأن يوردوا
.الضربة اُلولى عليه ،فل يبعد أن يكونوا أول المؤمنين ،ول حاجة عندئذ إلى تفسير آخر
***
][377
اليات
الّتفسير
:مصير الفراعنة
ن موسى خرج منتصرًا من تلك المواجهة .رغم عدم إيمان في اليات المتقدمة ...رأينا كيف أ ّ
:فرعون وقومه إّل أن هذه القضية كان لها عدة آثار مهّمة ،يعّد كٌل منها انتصارًا مهّما
حدة ...لّنهم بعد 1
ـ آمن بنو إسرائيل بنبّيهم "موسى)عليه السلم(" والتّفوا حوله بقلوب مو ّ
سنوات طوال من القهر والتعسف والجور يرون نبّيا سماويًا في أوساطهم يضمن هدايتهم وعلى
ن يقود ثورتهم نحو الحرية وتحقيق النصر على فرعون ..استعداد ل ّ
][378
ق موسى)عليه السلم( طريقة وسط أهل مصر من القباط وغيرهم ...ومال إليه جمع 2
ـ لقد ش ّ
!منهم ،أو على القل خافوا من مخالفته ،وطافت أصداء دعوة موسى في أرجاء مصر جمعاء
ن فرعون لم ير في نفسه القدرة ـ ل من جهة أفكار عاّمة الناس ،ول من 3 ـ وأهّم من كل ذلك أ ّ
صا كهذه العصا ،ولسان مؤثر كلسان موسى ع َ
.جهة الخوف على مقامة ـ على مواجهة رجل له َ
هذه اُلمور هيأت أرضية ملئمة لن ينشر موسى)عليه السلم( دعوته بين الناس ،ويتّم الحجة
!عليهم
ومّرت سنون طوال على هذا المنوال ،وموسى)عليه السلم( يظهر المعاجز تلو المعاجز ـ كما
أشارت إليها سورة العراف وبيّناها في ذيل اليات 130ـ 135منها ـ إلى جانب منطقه المتين،
حتى ابتلى ال أهل مصر بالقحط والجذب لسنوات لعلهم يّتقون "لمزيد اليضاح ل بأس بمراجعة
"...تفسير اليات آنفة الذكر
ولّما أتّم موسى على أهل مصر الحجة البالغة ،وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين،
ي على موسى أن يخرج بقومه من مصر ،واليات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أّول: نزل الوح ُ
)).وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أّنكم متبعون
ن على فرعون وهذه خطة إلهية على موسى)عليه السلم( أن يمتثلها ويسري بقومه ليل ،وإ ّ
.وقومه أن يعلموا ذلك فيتبعوهم ليحدث ما يحدث بأمر ال
والتعبير بـ "عبادي" بضمير الفراد ،مع أن الفعل )أوحينا( في الجملة ذاتها مسند إلى ضمير
...الجمع ،إّنما هو لبيان منتهى محبة ال لعباده المؤمنين
وفعل امتثل موسى)عليه السلم( هذا المر ،وعبأ بني إسرائيل بعيدًا عن أعين أعدائهم ،وأمرهم
صة لتنفيذ أمر ال لتكون خطته نافذة.بالتحرك ،واختار الليل خا ّ
إّل أن من البديهي أن حركة جماعة بهذا الشكل ليس هينًا يسيرًا يمكن
][379
إخفاؤه لزمان طويل ،فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه ،وكما يحدثنا القرآن
عن ذلك أن فرعون أرسل رسله وأعوانه الى المدن لجمع القوات) :فأرسل فرعون في المدائن
).حاشرين
ن في تلك الظروف ،وصول إبلغ فرعون إلى المدائن ،وجميع مناطق مصر ،يحتاج إلى بالطبع فإ ّ
زمان معتنى به لكن من الطبيعي أن يصل هذا البلغ المدن القريبة بسرعة وتتحرك القوى المعّدة
...فورًا ،وتؤدي مقدمة الجيش مهّمتها ،وتتبعها بقية الفواج بالتدريج
ولتعبئة الناس ـ ضمنًا ـ وتهيئة الرضية لثارتهم ضد موسى وقومه ،أمر فرعون أن ُيعَلن )إ ّ
ن
).هؤلء لشرذمة قليلون
.فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه الفئة القليلة حتمًا
و "الشرذمة" في الصل تعني القلة من الجماعة ،كما تعني ما تبقى من الشيء ،ويطلق على
ن هؤلء "أي موسى وقومه" اللبوس الممزق الخلق "شراذم" ،فبناًء على هذا يكون المعنى أ ّ
بالضافة إلى أّنهم قليلون فهم متفرقون ،فكأن فرعون ،بهذا التعبير أراد أن يجسم عدم انسجام
...بني إسرائيل من حيث أعداد الجيش فيهم
ثّم تضيف الية اُلخرى حاكية عن لسان فرعون )وإّنهم لنا لغائظون( فمن يسقي مزارعنا غدًا،
!ومن يبنى لنا القصور؟ ومن يخدم في البيوت والقصور غيرهم؟
ثّم إّنا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا) :وإنا لجميع حاذرون(
.ومستعدون جميعًا لمواجهتهم
سر
سر بعضهم "حاذرون" على أنها من الحَذر ،بمعنى الخوف والخشية من التآمر ،وف ّ وقد ف ّ
بعضهم )حاذرون( على أنها من الحِذر ،بمعنى الفطنة والتهيؤ من حيث السلح والقّوة .إّل أن
هذين الّتفسيرين ل منافاة بينهما ،فرّبما كان فرعون
][380
.وقومه قلقين من موسى ومستعدين لمواجهته أيضًا
ثّم يذكر القرآن النتيجة الجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته ،وقيام حكومة بني
).إسرائيل ،فيقول) :فأخرجناهم من جنات وعيون ...وكنوز ومقام كريم
).أجل )كذلك وأورثناها بني إسرائيل
سرين في المراد من كلمة )مقام كريم( ،فقال بعضهم بأّنها القصور وهناك اختلف بين المف ّ
...المجللة والمساكن المظللة
.وقال بعضهم بأّنها المجالس المنعقدة بالحبور والسرور والنشاط
وقال بعضهم :المراد مقام الحكام والمراء ،الذين يجلسون على كراسيهم ومن حولهم أتباعهم
...وجنودهم يمتثلون أوامرهم
وقال بعضهم :بل يعني المنابر التي كان يصعدها الخطباء "المنابر التي كانت لصالح فرعون
".وحكومته وجهازه فهي بمثابة أبواق إعلم له
وبالطبع فإن المعنى الّول أنسب من الجميع كما يبدو ،رغم أن هذه المعاني غير متباينة ومن
الممكن أن تجتمع هذه المعاني جميعًا في مفهوم الية ...فالمستكبرون )فرعون وقومه( أخرجوا
من قصورهم وحكومتهم وموقعهم وقدرتهم ،كما أخرجوا من مجالسهم المنعقدة بالحبور
.والسرور
***
ملحظتان
ر؟ 1!ـ َهْل حكَم بُنو إسرائيَل في مص َ
سرين
ن جمعًا من المف ّ
على أساس تعبير اليات المتقدمة )كذلك وأورثناها بني اسرائيل( ...فإ ّ
يعتقدون أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر وسيطروا على
][381
)الحكم ،ومكثوا في مصر حاكمين مّدة1).
.وظاهر اليات المتقدمة يناسب هذا الّتفسير
سرين يعتقد أن بني إسرائيل تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلك فرعون في حين أن بعض المف ّ
)وأتباعه ،إّل أّنهم بعد مّدة مديدة رجعوا إلى مصر وشكلوا فيها حكومتهم2).
.وتتطابق فصول التوراة الحالية المتعلقة بهذا القسم مع هذا الّتفسير
سرين أن بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين ،فجماعة منهم بقيت ويعتقد بعض آخر من المف ّ
.في مصر وحكمت فيها ،وتحركت جماعة منهم مع موسى نحو بيت المقدس
وذكر احتمال آخر ،وهو أن بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى)عليه السلم( وفي زمان الّنبي
!سليمان بن داود ،والية )كذلك وأورثناها بني إسرائيل( ناظرة إلى هذا المعنى
إّل أّنه مع ملحظة أن موسى)عليه السلم( نبي ثائر كبير ،فمن البعيد جّدا أن يترك هذه الرض
التي تهاوت أركان حكومتها وقد اصبحت مقاليد ُامورها بيده فيذرها كليًا دون أن يخطط لها خطة
ويتجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصحاري الشاسعة ،ول سيما أن بني إسرائيل قد سكنوا
مصر لسنين طوال ،وتعودوا على محيطها ،فبناًء على هذا ل يخرج المر من أحد حالين ...أّما أن
نقول :إن بني إسرائيل عادوا جميعًا إلى مصر وحكموا فيها ،أو أن نقول :إن قسمًا منهم بقوا في
مصر بأمر موسى)عليه السلم( واستولوا على العرش وحكموا في مصر! ...وفي غير هاتين
...الحالين ل يتجّلى مفهوم لخراج الفراعنة منها ووراثة بني اسرائيل لها
ــــــــــــــــــــــــــــ
سر هذا الموضوع 1
ـ راجع مجمع البيان والقرطبي :ذيل اليات محل البحث ،كما أن اللوسي ف ّ
!.في روح المعاني تفسيرًا يستحق النظر
.ـ روح المعاني ذيل اليات محل البحث 2
][382
ـ ترتيب اليات 2
يشرح القرآن فيما يأتي من اليات كيفية غرق فرعون واتباعه ،وهذا المر يدعو إلى التساوءل:
كيف يذكر القرآن إخراج فرعون وقومه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم وإيراثه "ذلك" بني
...إسرائيل! ثّم يذكر كيفية غرق فرعون وقومه؟ مع أن الترتيب الطبيعي لليات ليس كذلك
هذا المر رّبما يكون من قبيل بيان الجمال ثّم التفصيل ،أي أن القرآن ذكر الموضوع أّول بصورة
خر!مجملة ،ثّم وضحه في اليات اُل َ
".كما يمكن أن يكون من قبيل ذكر النتيجة ،ثّم شرح المقدمات "فتدبر
***
][383
اليات
ن َمِع َ
ى ل ِإ ّ
ن)َ (61قاَل َك ّ سى ِإّنا َلُمْدَرُكو َ ب ُمو َ حـ ُ
صَن َقاَل َأ ْجْمَعا ِ
ن)َ(60فَلّما َتَرءا ال َ شِرِقي َ َفَأْتَبُعوُهم ّم ْ
ن ُكّل ِفْرق َكاّلطْوِد ق َفَكا َك اْلَبحَْر َفانَفَل َ
صا َ ضِرب ّبَع َ نا ْ سى َأ ِحْيَنآ ِإَلى ُمو َ ن)َ (62فَأْو َ سَيْهِدي ِ
َرّبى َ
ن)
غَرْقَنا اَْلخَِري َن)ُ (65ثّم َأ ْ جَمِعي َسى َوَمن ّمَعُه َأ ْ ن)َ (64وَأنجْيَنا ُمو َ خِري َظيِم)َ (63وَأْزَلْفَنا َثّم اَْل َ العَ ِ
حيُم)68 ن َرّبكَ َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ ن)َ (67وِإ ّ ن َأْكَثُرُهم ّمْؤِمِني َ
ك َلَيًة َوَما َكا َ ن ِفى َذِل َ )ِ (66إ ّ
الّتفسير
عاقبة فرعون وأتباعه الوخيمة
صة موسى وفرعون ،وهو كيفية هلك فرعون وقومه، في هذه اليات يبرز المشهد الخير من ق ّ
!ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم
ن فرعون أرسل المدائن حاشرين ،وهيَأ مقدارًا كافيًا من "القّوة"
وكما قرأنا في اليات المتقدمة فإ ّ
سرين :كان ما أرسله فرعون على أّنه مقدمة الجيش ستمائة ألف مقاتل، والجيش ،قال بعض المف ّ
وتبعهم نفسه بألف ألف مقاتل "أي
][384
)مليون"1).
تحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة ،فبلغوهم صباحًا كما تقول الية اُلولى من اليات محل
).البحث) :فاتبعوهم مشرقين) (2فلّما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إّنا لمدركون
فأمامنا بحر خضم متلطم بالمواج ،ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها
الكاملة ...هؤلء الغاضبون علينا وهم الذين قتلوا أطفالنا البرياء سنين طوال ...وفرعون نفسه
رجل دموي جبار ...فعلى هذا سيحاصروننا بسرعة ،ويقتلوننا جميعًا بحّد السيوف ،أو سيأسروننا
.ويعذبوننا ،والقرائن جميعها تدل على ذلك
وهنا مّرت لحظات عسيرة على بني إسرائيل ...لحظات ُمّرة ليمكن وصف مرارتها ...ولعل
.جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم
ن موسى)عليه السلم( كان مطمئنًا هادىء البال ،وكان يعرف أن وعد ال في هلك فرعون إّل أ ّ
!...وقومه ونجاة بني إسرائيل ليتخلف أبدًا ولن يخلف ال وعده رسله
ي سيهدين ل إن معي رّب ْ
).لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال الطمئنان والثقة و )قال ك ّ
ولعّل هذا التعبير يشير إلى وعد ال لموسى وأخيه هارون حين أمرهما بإنذار قومهما ،إذ قال
)لهما) :إّني معكما أسمع وأرى(3).
صة تعويله في كلمه على كلمة )رّبي( أي ال إذ كان موسى يعلم أن ال معه في كل مكان ،وخا ّ
ن موسى)عليه السلم( كان يدري أّنه المالك والمرّبي هذا يدل على أ ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ كلمة مليون وأخواتها )مليار ،بليون الخ( من مصطلحات العصر وهي غير عربية ،وكان 1
.العرب يقولون ألف ألف
سرين :المراد من "مشرقين" ،أن بني اسرائيل ساروا نحو الشرق ،واّتباع 2 ـ قال بعض المف ّ
ن بيت المقدس يقع شرق مصر !فرعون وقومه بالتجاه نفسه ،ل ّ
.ـ سورة طه ،الية 3 46
][385
...ل يطوي هذا الطريق بخطاه ،بل بلطف ال القادر الرحيم
وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كلمه دون أن يصدقوه ،وكانوا ينتظرون آخر لحظات
...).حياتهم ،صدر أمر ال كما يقول القرآن) :فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر
!تلك العصا التي هي في يوم آية إنذار ،وفي يوم آخر آية رحمة ونجاة
فامتثل موسى)عليه السلم( أمر ربه فضرب البحر ،فإذا أمامه مشهد رائع عجيب ،تهللت له
ق البحر )فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم!)أسارير وجوه بني إسرائيل ،إذا انش ّ
ق" من مادة "فْرق" على زنة "حلق" و "انفلق" مأخوذ من "الَفَلق" ومعناه النشقاق و "َفَر َ
!ومعناه النفصال
وبتعبير آخر ،كما يقول الراغب في مفرداته :أن الفرق بين )فلق( و )فرق( هو أن الّول يشير إلى
النشقاق )أو النشطار( والّثاني يشير إلى النفصال ،ولذا تطلق الفرقة والِفَرق على القطعة أو
!...الجماعة التي انفصلت عن البقّية
.الطود" معناه الجبل العظيم ،ووصف الطود بالعظمة في الية تأكيد آخر على معناه"
ن ال الذي ينفذ أمره في كل شيء ،وبأمره تموج البحار وتتصرف الرياح وعلى كل حال ،فإ ّ
وتتحرك العواصف وكل شيء في عالم الوجود من رشحات فضله وقدرته أصدر أمره الى البحر،
ت كل
طُرق سالكة ،فمّر ْوأمواجه ،فالتحمت المواج وتراكمت بعضها إلى بعض ،وظهرت ما بينها ُ
!فرقة من بني إسرائيل في إحدى الطرق
ن فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق ،ولم إّل أ ّ
ب غرورهم ،فاتبعوا موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم ،كما يقول القرآن في ينزلوا عن َمرك ِ
)...هذا الشأن) :وأزلفنا ثّم الخرين
][386
وهكذا ورد فرعون وقومه البحر أيضًا ،واتبعوا عبيدهم القدماء الذين استرّقوهم بطغيانهم ،وهم
!غافلون عن أن لحظات عمرهم تقترب من النهاية ،وأن عذاب ال سينزل فيهم
).وتقول الية التالية) :وأنجينا موسى ومن معه أجمعين
وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر ،ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر،
صدر أمر ال فعادت المواج إلى حالتها اُلولى فانهالت عليهم فجأًة ،فهلك فرعون وقومه في
شة في وسط المواج المتلطمة .البحر ،وصار كل منهم كالق ّ
)...ويبّين القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول) :ثّم أغرقنا الخرين
وهكذا انتهى كل شيء في لحظة واحدة ...فالرقاء أصبحوا أحرارًا ،وهلك الجبابرة ،وانطوت
صفحة من صفحات التأريخ ،وانتهت تلك الحضارة المشيدة على دماء المستضعفين ،وورث
ك المستضعفون بعدهم .الحكومة والُمل َ
ى ،وفي آذانهم وقرًا ،وعلى ن في أعينهم عم ً ن في ذلك لية وما كان أكثرهم مؤمنين( فكأ ّ أجل )إ ّ
.قلوب أقفال
ب إذًا أّل يؤمن بك
ث ل يؤمن فرعون وقومه مع ما رأوا من المشاهد العجيبة ،فل تعج ُ فحي ُ
المشركون ـ يا محمد ـ ول تحزن عليهم لعدم إيمانهم ،فالتاريخ ـ يحمل بين طياته وثناياه كثيرًا من
!هذه المشاهد
والتعبير بـ "أكثرهم" إشارة إلى أن جماعة من قوم فرعون آمنوا بموسى والتحقوا بأصحابه ،ل
آسيُة امرأة فرعون فحسب ،ول رفيق موسى المخلص المذكور في القرآن على أنه مؤمن من آل
.فرعون ،بل آخرون أيضًا كالسحرة التائبين مثل
أّما آخر آية من هذه اليات فتشير في عبارة موجزة وذات معنى غزير إلى قدرة ال ورحمته
).المطلقة واللمتناهية ،فتقول) :وإن رّبك لهو العزيز الرحيم
][387
فمن عزته أنه متى شاء أن يهلك المم المسرفة الباغية أصدر أمره فأهلكها ،ول يحتاج أن يرسل
جنودًا من ملئكة السماء لهلك ُأمة جّبارة ...فيكفي أن يهلكها بما هو سبب حياتها ،كما أهلك
!!فرعون وقومه بالنيل الذي كان أساس حياتهم وثروتهم وقدرتهم ،فإذا هو يقبرهم فيه
ومن رحمته أّنه ل يعجل في المر أبدًا ،بل يمهل سنين طوال .ويرسل معاجزه إتمامًا للحجة ،ومن
.رحمته أن يخلص هؤلء المستعبدين من قبضة الجبابرة الظالمين
***
:مسائل مهمة
!ـ معبر بني إسرائيل 1
ورد التعبير في القرآن مرارًا عن موسى أنه عبر بقومه "البحر") (1كما جاء في بعض اليات
)لفظ "اليّم" بدل من البحر2).
والن ينبغي أن نعرف ما المراد من "البحر" و "اليم" هنا ،أهو إشارة إلى النهر الكبير الواسع
في مصر ،النيل الذي يروي جميع أراضيها؟ أم هو إشارة إلى البحر الحمر "المعروف ببحر
القلزم في بعض المصطلحات"؟
سرين ـ أنه إشارة إلى البحر الحمر ...إّل يستفاد من التوراة الحالية ـ وكذلك من كلمات بعض المف ّ
ن المراد منه هو نهر النيل ،لن "البحر" كما يقول أن القرائن الموجودة والمتوفرة تدل على أ ّ
الراغب في مفرداته يعني في اللغة الماء الكثير الواسع ،واليم بهذا المعنى أيضًا .فل مانع إذًا من
.إطلق الكلمتين على نهر النيل
:وأّما القرائن المؤيدة لهذا الرأي فهي
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ اقرأ في سورة "يونس :الية 90ـ وطه الية 77ـ والشعراء الية ،63والية محل البحث 1
.أيضًا
.ـ اقرأ سورة طه الية 78ـ والقصص الية 40ـ والذاريات الية 2 40
][388
ـ أنّ منطقة سكن الفراعنة التي كانت مركزًا لمدن مصر العامرة كانت نقطة قريبًة من النيل 1
ن بني إسرائيلحتمًا ...وإذا أخذنا بنظر العتبار معيار محلهم الفعلي "الهرام" أوما حولها ،فإ ّ
لبّد لهم أن يعبروا نهر النيل ليصلوا إلى الرض المقدسة ،لن هذه المنطقة تقع غرب النيل ولبّد
!"لهم من أن يتجهوا نحو الشرق للوصول إلى الرض المقدسة! "فلحظوا بدقة
ـ أنّ الفاصلة بين المناطق العامرة) (1من مصر والتي هي قريبة من النيل بالطبع ،بعيدة عن 2
...البحر الحمر بحيث ل يمكن أن ُتطوى المسافة بينها وبين البحر بليلة أو نصف ليلة
ويستفاد من اليات المتقدمة بوضوح أن بني إسرائيل غادروا أرض الفراعنة ليل ،وطبيعي أن
".تكون المغادرة في الليل .أّما فرعون وجيشه فقد اتبعوهم حتى بلغوهم مشرقين "عند الصباح
ـ لم تكن حاجة ليعبر بنو إسرائيل البحر الحمر حتى يصلوا الرض المقدسة ،إذ كانت هناك 3
منطقة يابسة ضيقة قبل حفر ترعة السويس "أو ما يصطلح عليها بقناة السويس" ...إّل أن
نفترض أن البحر الحمر كان متصل بالبحر البيض المتوسط في الزمن السابق ،ولم تكن هناك
ي وجه
!...منطقة يابسة ،وهذا الفرض غير ثابت بأ ّ
ل ُأمه" الية 39من سورة طه ،كما 4 ـ ُيعّبر القرآن عن قصة موسى بإلقائه في "اليم" "من ِقَب ِ
يعبر عن غرق فرعون وأتباعه بقوله) :فغشيهم من اليم ما غشيهم(الية 78من السورة ذاتها.
وكلتا القضيتين في قصة واحدة وسورة واحدة أيضًا )طه( وكون اللفظين مطلقين ـ )اليم( في
الية السابقة و)اليم( في الية اللحقة ـ ُيشعر بأّنهما واحد ...ومع ملحظة أن أّم موسى لم تلق
موسى في
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ العامرة هنا اسم فاعل بمعنى المفعول أي المعمورة 1
][389
البحر الحمر قطعًا ،بل ألقته في النيل طبقًا لما تذكره التواريخ ،فيعلم أن غرق فرعون وقومه كان
".في النيل "فلحظوا بدّقة
اليات
ظّل َلَها
صَنامًا َفَن َ
ن )َ(70قاُلوْا َنْعُبُد َأ ْ عَلْيِهْم َنَبَأ ِإْبَرِهيَم) (69إْذ َقاَل َِلِبيِه َوَقْوِمِه َما َتْعُبُدو َ َواْتُل َ
جْدَنآن)َ (73قالُوْا َبْل َو َ ضّرو َ ن)َ (72أْو َينَفُعوَنُكْم َأْو َي ُ عو َسَمُعوَنُكْم ِإْذ َتْد ُ
ن)َ (71قاَل َهْل َي ْ عـُكِفي ََ
ن)َ (76فِإّنُهْم ن)َ (75أنُتْم َوَءابآُؤُكُم اَْلْقَدُمو َ ن)َ (74قاَل َأَفَرَءْيُتم ّما ُكنُتْم َتْعُبُدو َ ك َيْفَعلُو ََءاَبآَءَنا َكَذِل َ
ن )َ(79وِإَذا سِقي ِطِعُمِنى َوَي ْن) (78واّلِذى ُهَو ُي ْ خَلَقِنى َفُهَو َيْهِدي ِ
ن )(77اّلِذى َ ب اْلَعـَلِمي َ
عُدّو ّلى ِإّل َر ّ َ
طيَئِتى َيْوَم خَ طَمُع َأن َيْغِفَرِلى َ ن )َ(81واّلِذى َأ ْ حِيي ِ
ن) (80واّلِذى ُيِميُتِنى ُثّم ُي ْ شِفي َت َفُهَو َي ْ ض ُ َمِر ْ
ن)82 )الّدي ِ
الّتفسير
:أعبُد رّبًا ...هذه صفاته
ن ال يبّين حال سبعة من النبياء العظام ،ومواجهاتهم
كما ذكرنا في بداية هذه السورة ،فِإ ّ
أقوامهم لهدايتهم ،لتكون "مدعاة" تسلية للّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( والمؤمنين القّلة معه
...في عصره ،وفي الوقت ذاته إنذار لجميع العداء والمستكبرين أيضًا
][392
صة موسى وفرعون المليئة بالدروس لتبّين قصة إبراهيم لذلك تعّقب هذه اليات على ق ّ
:ومواجهاته المشركين ،وتبدأ هذه اليات بمحاورة إبراهيم لعمه آزر) (1فتقول
ل عليهم نبأ إبراهيم().وات ُ
سِم) :إْذقاَل
ي العظيم يرّكز القرآن الكريم على هذا الِق ْ
ومن بين جميع الخبار المتعلقة بهذا النب ّ
لبيِه وقومه ما تعبدون(؟
ي شيء يعبدون ،لكن كان هدفه أن يستدرجهم ليعترفوا بما ن إبراهيم كان يعلم أ ّ
ومن المسّلم به أ ّ
!يعبدون ،والتعبير بـ "ما" مبّين ضمنًا نوعًا من التحقير
سوا بالخجلفأجابوه مباشرًة )قالوا نعبُد أصنامًا فنظّل لها عاكفين(! وهذا التعبير يدّل على أّنهم يح ّ
من عملهم هذا ،بل يفتخرون به ،إذا كان كافيًا أن يجيبوه :نعبد أصنامًا ،إّل أّنهم أضافوا هذه
!)العبارة) :فنظل لها عاكفين
التعبير بـ "نظّل" ُيطلق عادة على العمال التي تؤدى خلل اليوم ،وذكره بصيغة الفعل المضارع
.إشارة إلى الستمرار والدوام
كلمة "عاكفين" مأخوذة من "العكوف" ،ومعناه التوجه نحو الشيء وملزمته باحترام ،وهي
.تأكيد لما سبق من التعبير
الصنام" جمع الصنم ،وهو الهيكل أو التمثال المصنوع من الذهب أو الخشب أو ما شاكلهما"
...للعبادة ،وكانوا يتصورون أنها مظهر للتقديس
ن إبراهيم لما سمع كلَمهم رشقهم بنبال الشكال والعتراض بشّدة ،وقمعهم وعلى كل حال ،فإ ّ
بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق ،فـ )قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو
!يضرون(؟
ن يسمَع نداء عابده ،وأن ينصره في إن أقّل ما ينبغي توفره في المعبود هو أ ْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ن لفظ "الب" يطلق في لغة العرب والقرآن على الوالد كما يطلق على العم ،وهنا 1 ـ بّينا مرارًا أ ّ
.استعمل هذا اللفظ بمعناه الثاني
][393
!...البلء ،أو يضره عند مخالفة أمره
إّل أن هذه الصنام ليس فيها ما يدّل على أن َلها أقّل إحساس أو شعور أو أدنى تأثير في عواقب
الناس ،فهي أحجار أو فلزات "أو معادن أو خشب ل قيمة لها! وإّنما أعطتها الخرافات هذه الهالة
!...وهذه القيمة الكاذبة
إّل أن عبدة الصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائمًا،
).فـ )قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون
وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم العمى لسلفهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي
ن فيه ،وليس أي استطاعوا أن يرّدوا به على إبراهيم)عليه السلم( ،وهو جواب دليُل بطلنه كام ٌ
ض عينيه ،ول سيما أن تجارب الخلف أكثر عاقل يجيز لنفسه أن يقَفو أثَر غيره ويصم ُأذنيه ويغم ُ
!...من السلف عادة ،ول يوجد دليل على تقليدهم العمى
والتعبير بـ )كذلك يفعلون( تأكيد أكثر على تقليدهم ،أي نفعل كما كانوا يفعلون ،سواًء عبدوا
.الصنام أم سواها
فالتفت إبراهيم ُموّبخا لهم ومبينًا موقفة منهم و )قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم
ب العالمين
)...القدمون فإّنهم عدّولي إّل ر ّ
...أجْل ...إّنهم جميعًا أعدائي وأنا معاديهم ،ول أسالمهم أبدًا
ومّما ينبغي اللتفات إليه أن إبراهيم الخليل)عليه السلم( يقول" :فإّنهم عدّو لي" وإن كان لزم
هذا التعبير أّنه عدّو لهم أيضًا ،إّل أن هذا التعبير لعله ناشىء من أن عبادة الصنام أساس الشقاء
والضلل وعذاب الدنيا والخرة "للنسان" ،وهذه اُلمور في حكم عداوتها للنسان .أضف إلى
ذلك أنه يستفاد من آيات متعددة من القرآن أن الصنام تبرأ من عبدتها يوم القيامة وتعاديهم،
وتحاججهم بأمر ال وتنفر
][394
)منهم1).
ب العالمين مع أّنه لم يكن من معبوداتهم ،وكما يصطلح عليه استثناء منقطع ،إّنما هو واستثناء ر ّ
.للتأكيد على التوحيد الخالص
كما َيِرُد هذا الحتمال وهو أن من بين عبدة الصنام من كان يعبُد ال إضافة إلى عبادة الصنام،
ب العالمين" من الصنام ،رعايًة لهذا الموضوع...فاستثنى إبراهيم "ر ّ
وذكر الضمير "هم" الذي يستعمل عادًة للجمع "في العاقلين" وقد ورد في شأن الصنام ،لما
...ذكرناه من بيان آنفًا
ب العالمين ويذكر نعمه المعنوية والمادّية ،ويقايسها بالصنام التي ل
ثّم يصف إبراهيم الخليل ر ّ
...تسمع الدعاء ول تنفع ول تضّر ،ليّتضح المر جلّيا
فيبدأ بذكر نعمة الخلق والهداية فيقول) :الذي خلقني فهو يهدين( فقد هداني في عالم التكوين،
ي وأرسل إل ّ
ي ووفر لي وسائل الحياة المادية والمعنوية ،كما هداني في عالم التشريع فأوحى إل ّ
...الكتاب السماوي
وذكر "الفاء" بعد نعمة الخلق ،هو إشارة إلى أن الهداية ل تنفصل عن الخلق أبدًا ،وجملة
)يهدين( الواردة بصيغة الفعل المضارع ،دليل واضح على استمرار هدايته ،وحاجة النسان إليه
!في جميع مراحل عمره
فكأن أبراهيم في كلمه هذا يريد أن يبّين هذه الحقيقة ،وهي إّنني كنت مع ال منذ أن خلقني،
ومعه في جميع الحوال ،وأشعر بحضوره في حياتي ،فهو وليي حيث ما كنت ويقلبني حيثما
!...شاء
وبعد بيان أولى مراحل الربوبية ،وهي الهداية بعد الخلق ،يذكر إبراهيم الخليل)عليه السلم( النعم
).المادية فيقول) :والذي يطعمني ويسقين
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ لمزيد اليضاح في هذا الصدد يراجع تفسير الية ) (82من سورة مريم 1
][395
!...أجْل ،إّنني أرى النعم جميعًا من لطفه ،فلحمي وجلدي وطعامي وشرابي ،كل ذلك من بركاته
).ولست مشمول بنعمة في حال الصحِة فقط ،بل في كل حال )وإذا مرضت فهو يشفين
ن المرض أيضًا قد يكون من ال ،إّل أن إبراهيم نسبه إلى نفسه رعاية للدب في الكلم
...ومع أ ّ
ثّم يتجاوز مرحلة الحياة الدنيا إلى مرحلة أوسع منها ...إلى الحياة الدائمة في الدار الخرة،
ليكشف أنه على مائدة ال حيثما كان ،ل في الدنيا فحسب ،بل في الخرة أيضًا .فيقول) :والذي
).يميتني ثّم يحيين
ن موتي بيده وعودتي إلى الحياة مّرة ُأخرى منه أيضًا ..أجل ،إ ّ
ق حبل رجائي على كرمه) :والذي أطمع أن يغفرلي خطيئتي وحين أِرُد عرصات يوم القيامة اعل ّ
).يوم الدين
ومّما ل شك فيه أن النبياء معصومون من الذنب ،وليس عليهم وزر كي ُيغفر لهم ...إّل أّنه ـ كما
قلنا سابقًا ـ قد تعّد حسنات البرار سيئات المقّربين أحيانًا ،وقد يستغفرون أحيانًا من عمل صالح
ك اَلولى
.لّنهم تركوا خيرًا منه ...فيقال عندئذ في حق أحدهمَ :تر َ
فإبراهيم)عليه السلم( ل يعّول على أعماله الصالحة ،فهي ل شيء بإزاء كرم ال ،ول ُتقاس بنعم
ال المتواترة ،بل يعّول على لطف ال فحسب ،وهذه هي آخر مرحلة من مراحل النقطاع إلى
!...ال
جل أن يبّين المعبود الحقيقي يمضي نحو خالقّية ال خص الكلم أن إبراهيم)عليه السلم( من أ ّ ومل ّ
:أول ،ثّم يبّين بجلء مقام ربوبيته في جميع المراحل
.فالمرحلة اُلولى مرحلة الهداية
ثّم مرحلة النعم المادّية ،وهي أعّم من إيجاد المقتضي والظروف الملئمة أو
][396
...دفع الموانع
والمرحلة الخيرة هي مرحلة الحياة الدائمة في الدار اُلخرى ،فهناك يتجّلى وجه الرب بالهبات
!...والصفح عن الذنوب ومغفرتها
وهكذا يبطل إبراهيم الخرافات التي كانت في قومه ،من تعدد اللهة والرباب وينحني خضوعًا
.للخالق العظيم
***
][397
اليات
جَعْلِنى ِمن
ن)َ (84وا ْ خِري َى اَْل ِ
صّدق ف ِ ن ِ
سا َ
جَعل ّلى ِل َ
ن)َ (83وا ْ حي َ
صـِل ِحْقِنى بال ّ
حْكمًا َوَأْل ِ
ب ِلى ُ
ب َه َْر ّ
ن)87 خِزِنى َيْوَم ُيْبَعُثو َن)َ (86وَلُت ْ
ضآّلي َ
ن ال ّن ِم َغِفْر َِلِبى ِإّنُهَ ،كا َ
جّنِة الّنِعيِم )َ(85وا ْ
)وََرَثِة َ
الّتفسير
ُ):دعاُء إبراهيم)عليه السلم
من هنا تبدأ أدعية إبراهيم الخليل وسؤالته من ال ،فكأّنه بعد أن دعا قومه الضالين نحو ال،
وبّين آثار الربوبية المتجلّية في عالم الوجود ...يتجه بوجهه نحو ال ويعرض عنهم ،فكل ما
يحتاجه فانه يطلبه من ال ،ليكشف للناس ولعبدة الصنام أنه مهما أرادوه من شؤون الدنيا
ي ـ على ربوبيته المطلقة.والخرة ،فعليهم أن يسألوه من ال ،وهو تأكيد آخر ـ ضمن ٌ
ب هب لي حكمًا والحقني بالصالحين ).فأّول ما يطلبه إبراهيم من ساحته المقدسة هو )ر ّ
فالمقام الّول هنا الذي يريده إبراهيم لنفسه من ال هو الحكم ،ثّم اللحاق
][398
...بالصالحين
و "الحكم" و "الحكمة" كلهما من جذر واحد ...و "الحكمة" كما يقول عنها الراغب في
مفرداته :هي الوصول إلى الحق عن طريق العلم ومعرفة الموجودات والفعال الصالحة ،وبتعبير
آخر :هي معرفة القيم والمعايير التي يستطيع النسان بها أن يعرف الحق حيثما كان ،ويميز
".الباطل في أي ثوب كان ،وهو ما ُيعّبر عنه عند الفلسفة بـ "كمال القّوة النظرية
عّبر عنها بالخير الكثيروهي الحقيقة التي تلّقاها لقمان من رّبه )ولقد آتينا لقمان الحكمة( (1).و ُ
).في الية ) (269من سورة البقرة )ومن يؤت الحكمة فقد ُأوتي خيرًا كثيرًا
ن للحكم مفهومًا أسمى من الحكمة ...أي إّنه العلم المقترن باِلستعداد للتنفيذ والعمل، ويبدو أ ّ
!وبتعبير آخر :إن الحكم هو القدرة على القضاء الصحيح الخالي من الهوى والخطأ
ن إبراهيم)عليه السلم( يطلب من ال قبل كل شيء المعرفة العميقة الصحيحة المقرونة أجْل ،إ ّ
!بالحاكمّية ،لن أي منهج ل يتحقق دون هذا الساس
وبعد هذا الطلب يسأل من ال إلحاقه بالصالحين ،وهو إشارة إلى الجوانب العملية ،أو كما يصطلح
"!...عليها بـ "الحكمة العملية" في مقابل الطلب السابق وهو "الحكمة النظرية
ول شك أن إبراهيم)عليه السلم( كان يتمتع بمقام "الحكم" وكان في زمرة الصالحين أيضًا ...فلم
!سأل ال ذلك؟
الجواب على هذا السؤال هو أّنه ليس للحكمة حد معين ،ول لصلح اِلنسان حّد ،فهو يطلب ذلك
ليبلغ المراتب العليا من العلم والعمل يومًا بعد يوم ،حتى وهو
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة لقمان ،الية 1 12
][399
...في موقع النبوة ،وأنه من أولي العزم ..ل يكتفي بهذه العناوين
ن إبراهيم)عليه السلم( يعلم أن كل ذلك من ال سبحانه ،ومن الممكن في ثّم ـ إضافة إلى ذلك ـ فإ ّ
أي لحظة أن تسلب هذه المواهب أو تزل به القدم ،لذا فهو يطلب دوامها من ال إضافة إلى
التكامل ،كما أننا نخطو ونسير إن شاء ال في الصراط المستقيم ،ومع ذلك فكّل يوم نسأل رّبنا في
!الصلة أن يهدينا الصراط المستقيم ،ونطلب منه التكامل ومواصلة هذا الطريق
ب موضوعًا مهمًا آخر بهذه العبارة) :واجعل لي لسان صدق في ن ...يطل ُ طَلبي ِ
وبعد هذين ال َ
).الخرين
ي اجعلني بحال تذكرني الجيال التية بخير ،واجعل منهجي مستمرًا بينهم فيتخذوني ُأسوًة أ ْ
...وقدوة لهم فيتحركون ويسيرون في منهاجك المستقيم وسبيلك القويم
فاستجاب ال دعاء إبراهيم كما يقول سبحانه في القرآن الكريم) :وجعلنا لهم لسان صدق علّيا().
)1
ول يبعد أن يكون هذا الطلب شامل لما سأله إبراهيُم الخليل ربه بعد بناء الكعبة ،فقال) :ربنا
)وابعث فيهم رسول منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم(2).
ي اِلسلم .وُذكر إبراهيم الخليل بالخير في هذه اُلمة عن ونعرف أن هذا الدعاء تحقق بظهور نب ّ
...هذا الطريق ،وبقي هذا الذكر الجميل مستمرًا
ثّم ينظر إبراهيم إلى أفق أبعد من أفق الدنيا ،ويتوجه إلى الدار الخرة ،فيدعو بدعاء رابع فيقول:
)).واجعلني من ورثة جنة النعيم
جنة النعيم" التي تتماوج فيها النعم المعنوية والمادية ،النعم التي ل زوال لها"
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة مريم ،الية 1 50
.ـ البقرة ،الية 2 129
][400
ن ـ سجناَء الدنيا ـ فهي ما ل عين رأت ول ول اضمحلل ...النعم التي ل يمكن أن نتصورها نح ُ
!...أذن سمعت
ن معنى الرث الحصول على الشيء دون وقلنا سابقًا :إن التعبير بالرث في شأن الجّنة إّما ل ّ
مشّقة وعناء ،ومن المسّلم أن تلك النعم التي في الجّنة تقاس بطاعاتنا ،فطاعاتنا بالنسبة ل تمثل
ن ذلك ـ طبقًا لما ورد في بعض الّروايات ـ لن كل إنسان له بيت في الجنة شيئًا إليها! ...أو أ ّ
...وآخر في النار ،فإذا دخل الّنار ورث الخرون بيته في الجّنة
وفي خامس أدعيته يتوجه نظره إلى عّمه الضاّل ،وكما وعده أّنه سيستغفر له ،فإّنه يقول في هذا
).الدعاء) :واغفر لبي إّنه كان من الضالين
وهذا الوعد هو ما صرحت به الية ) (114من سورة التوبة إذ تحكي عنه )وما كان استغفار
إبراهيم لبيه إّل عن موعدة وعدها إياه(! وعده من قبل ،وكان هدفه أن ينفذ إلى قلبه عن هذا
الطريق ،وأن يجّره إلى طريق اليمان ،لذلك قال له مثل هذا القول وعمل به أيضًا ...وطبقًا لرواية
عن ابن عباس أن إبراهيم)عليه السلم(استغفر لعّمه آزر مرارًا ،إّل أنه حين غادر آزر الدنيا كافرًا
وثبت عداؤه للدين الحق ،قطع إبراهيم استغفار عن عمه ،كما نرى في ذيل الية النص التالي:
))فلما تبّين أنه عدو ل تبرأ منه(1).
ن دعاءه السادس من رّبه في شأن يوم التغابن ،يوم القيامة ،بهذه الصورة )ول تخزني وأخيرًا فإ ّ
).يوم يبعثون
ول تخزني( ،مأخوذ من مادة )خزي( على زنة )حزب( وكما يقول الراغب في مفرداته ،معناه(
الذل والنكسار الروحي الذي يظهر على وجه النسان من
ــــــــــــــــــــــــــــ
ليضاح يراجع تفسير الية 114سورة التوبة 1 .ـ لمزيد ا ِ
][401
!الحياء المفرط ،أو من جهة الخرين حين يحرجونه ويخجلونه
وهذا التعبير من إبراهيم ،بالضافة إلى أنه درس للخرين ،هو دليل على منتهى الحساس
.بالمسؤولية والعتماد على لطف ال العظيم
***
][402
اليات
الّتفسير
:الخصام بين المشركين ومعبوداتهم
أشير في آخر آية من البحث السابق إلى يوم القيامة ومسألة المعاد ...أّما في هذه اليات فنلحظ
تصوير يوم القيامة ببيان جامع ،كما نلحظ فيها أهم المتاع
][403
ل ظاهر اليات"
سوق" ،وعاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين والضالين وجنود إبليس ،ويد ّ
في تلك ال ُ
أن هذا الوصف وهذا التصوير هو من كلم إبراهيم الخليل ،وأنه ختام دعائه رّبه ،وهكذا يعتقد ـ
ن يحتمل أنه هو من كلم ال ،وأن اليات محل البحث سرين ...وإن كان هناك َم ْ
أيضًا ـ أغلب المف ّ
هي منه سبحانه جاءت مكملًة لكلم إبراهيم)عليه السلم( وموضحة له ،إّل أن هذا الحتمال يبدو
!...ضعيفًا
).وعلى كل حال ،فأّول ما تبدأ به هذه اليات هو )يوم ل ينفع ماٌل ول بنون
ن هاتين الدعامتين المهمتين في الحياة الدنيا "المال والبنون" ليس فيهما أدنى نفع وفي الحقيقة إ ّ
لصاحبهما يوم القيامة ،وكل ما كان دون هاتين الدعامتين رتبًة من اُلمور الدنيوية ـ من باب
!أولى ـ ل نفع فيه ،ول فائدة من ورائه
ن المراد من المال والبنين هنا ليس هو ما يكون ـ من المال والبنين ـ في مرضاة ال ،بل وبديهي أ ّ
المراد منه الستناد إلى اُلمور المادّية ،فالمراد إذًا هو أن هذه الدعامات المادية ل تحّل معضل في
ى من البنين والمال في مرضاة ال فلن يكون ذلك ماّديا ..إذ يصطبغ ذلك اليوم ...أّما لو كان أ ّ
"!...بصيغة ال وُيعّد من "الباقيات الصالحات
ل بقلب سليم) .ثّم يضيف القرآن في ختام الية ،على سبيل اِلستثناء )إّل من أتى ا ّ
ن أفضل ما ينجى يوم القيامة هو القلب السليم ،وياله من تعبير رائع جامع ،تعبير وهكذا يّتضح أ ّ
يتجسد فيه اِليمان والنية الخالصة ،كما يحتوي على كل ما يكون من عمل صالح! ولم ل يكون
!لمثل هذا القلب من ثمر سوى العمل الصالح؟
وبتعبير آخر :كما أن قلب النسان وروحه يؤثران في أعماله ،فإن أعماله لها أثر واسع في القلب
!...أيضًا ،سواًء كانت أعمال رحمانية أم شيطانية
][404
ثّم يبّين القرآن الجّنة والنار بالنحو التالي فيقول) :وُأزلفت الجّنة للمتقين)(1وُبرزت الجحيم
للغاوين( .أي الضالين
وهذا المر ـ في الحقيقة ـ قبل ورود كّل من أهل الجّنة والنار إليهما! فكّل طائفة ترى مكانها من
!قريب ..فُيسّر المؤمنون ويستولي الرعب على الغاوين ،وهذا أّول جزائهما هناك
ن القرآن ل يقول :اقترب المتقون أو أزلف المتقون إلى الجنة ،بل يقول) :وُأزلفت الطريف هنا أ ّ
ظِم شأِنهم
عَ
!...الجنة للمتقين( وهذا يدل على مقامهم الكريم و ِ
كما ينبغي الشارة إلى هذه اللطيفة ،وهي أن التعبير بالغاوين هو التعبير ذاته الوارد في قصة
الشيطان ،إذ طرده ال عن ساحته المقدسة فقال له) :إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلّ من
)اّتبعك من الغاوين(2).
ثّم يتحدث القرآن عن ملمِة هؤلء الضالين ،وما ُيقاُل لهم من كلمات التوبيخ أو العتاب ،فيقول:
)وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون ال( فهل يستطيعون معونتكم في هذه الشدة التي أنتم
)...فيها ،أو أن يطلبوا منكم أو من غيركم النصر والمعونة )هل ينصرونكم أو ينتصرون()3
إّل أّنهم ل يملكون جوابًا لهذا السؤال! كما ل يتوقع أحد منهم ذلك!) ...فُكبُكبوا فيها هم
).والغاوون
ل منهم سُيلقى على الخر يوم القيامة! )وجنود إبليس أجمعون سرين :إن ك ّ).كما يقول بعض المف ّ
وفي الحقيقة أن هذه الفرق الثلث ،الصنام والعابدين لها وجنود إبليس
ــــــــــــــــــــــــــــ
ت :فعل مشتق من )الزلفى( على وزن )كبرى( ومعنى الفعل "قربت 1 ".ـ ُأزلف ْ
.ـ سورة الحجر ،الية 2 42
ـ قد يكون المراد من "ينتصرون" هو أن يطلبوا العون والنصر لنفسهم أو لغيرهم ...أو 3
.مجموعهما ،لننا سنلحظ في اليات المقبلة أن الَعبَدَة ومعبوديهم يساقون إلى النار
][405
الدالين على هذا النحراف ،يساقون جميعًا إلى النار ...ولكن بهذه الكيفية ...وهي أن تلقى الفرق
ب( معناه إلقاءب( ،و )الك ّ
فرقًة بعد أخرى في النار .لن "ُكبِكبوا" في الصل مأخوذة من )ك ّ
الشيء بوجهه في الحفرة وما أشبهها ،وتكراره "كبكب" يؤدي هذا المعنى من السقوط ،وهذا يدّل
أّنهم حين ُيلقون في النار مثلهم كمثل الصخرة إذ تهوى من أعلى الجبل أو تلقى من قمة الجبل،
!.فهي تصل أول نقطًة ما في الوادي ثّم تتدحرج إلى نقاط ُأخر حتى تستقّر في القعر
إّل أن الكلم ل يقف عند هذا الحّد ،بل يقع النزاع والجدال بين هذه الفرق أو الطوائف الثلث،
).فيجسم القرآن مخاصمتهم هنا ،فيقول) :قالوا وهم فيها يختصمون
أجل ...إن العبَدَة الضالين الغاوين يقسمون بال فيقولون) :تال إن كّنا لفي ضلل مبين) (1إذ
)...نسويكم برب العالمين) (2وما أضّلنا إّل المجرمون
المجرمون الذين كانوا سادة مجتمعاتنا ورؤساءنا وكبراءنا ،فأضلونا حفظًا لمنافعهم ،وجّرونا إلى
طريق الشقوة والغواية ...كما يحتمل أن يكون المراد من المجرمين هم الشياطين أو السلف
.الضالين الذين جّروهم إلى هذه العاقبة الوخيمة
)...فيما لنا من شافعين ول صديق حميم(
والخلصة أن الصنام ل تشفع لنا كما كنا نتصور ذلك في الدنيا ،ول يتأتى لي صديق أن يعيننا
...هنالك
ن كلمة )شافعين( جاءت في الية السابقة بصيغة الجمع كما ترى ،إّل ومّما ينبغي اللتفات إليه ،أ ّ
أن كلمة )صديق( جاءت بصيغة الفراد ،ولعّل منشأ هذا التفاوت والختلف ،هو أن هؤلء
الضالين يرون بأُم أعينهم المؤمنين الجانحين
ــــــــــــــــــــــــــــ
)...ـ )إن كنا( مخففة من )إّنا كنا 1
...ـ ُيحتمل أن تكون )إذ( هنا للظرفية ،كما يحتمل أن تكون تعليلية 2
][406
يشفع لهم النبياء والوصياء أو الملئكة وبعض الصدقاء الصالحين ،فُأولئك الضالون يتمنون
!...الشافعين أيضًا ،وأن يكون عندهم صديق هنالك
سرين ،تطلقان على المفرد إضافًة إلى ذلك فإن كلمتي )الصديق( و )العدو( كما يقول بعض المف ّ
...والجمع أيضًا
إّل أّنهم ما أسرع أن يلتفتوا إلى واقعهم المّر ،إْذ ل جدوى هناك للحسرة ول مجال للعمل في تلك
ن لنا كّرة
الدار لجبران ما فات في دنياهم ،فيتمنون العودة إلى دار الدنيا ...ويقولون) :فلو أ ْ
)...فنكون من المؤمنين
وصحيح أّنهم في ذلك اليوم وفي عرصات القيامة يؤمنون برّبهم ،إّل أن هذا اليمان نوع من
اليمان الضطراري غير المؤثر ،وليس كاليمان الختياري ،وفي هذه الدنيا حيث يكون أساسًا
.للهداية والعمل الصالح
ولكن ل يحقق هذا التمني شيئًا ،ول يحّل ُمْعضل ،ولن تسمح سنًة ال بذلك ،وهم يدركون تلك
)...الحقيقة ،لّنهم يتفّوهون بكلمة "لو")1
وأخيرًا بعد النتهاء من هذا الِقسِم من قصة إبراهيم ،وكلماته مع قومه الضالين ،ودعائه رّبه،
ووصفه ليوم القيامة ،يكرر ال آيتين مثيرتين بمثابة النتيجة لعبادة جميعًا ،وهاتان اليتان وردتا
في ختام قصة موسى وفرعون ،كما وردتا في قصص النبياء الخرين من السورة ذاتها فيقول:
ن في ذلك ليًة وما كان أكثرهم مؤمنين وإن رّبك لهو العزيز الرحيم ))...إ ّ
وتكرار هاتين اليتين ،هو للتسرية عن قلب الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( وتسليته ومن معه
من الصحابة القلة وكذلك المؤمنين في كل عصر ومصر لئل يستوحشوا في الطريق من قلة أهله
وكثرة العداء ...وليطمئنوا إلى رحمة ال وعزته ،كما أن هذا التكرار بنفسه تهديد للغاوين
الضالين .وإشارة إلى أنه لو وجدوا الفرصة في حياتهم وأمهلهم ال إمهال فليس ذلك عن ضعف
!منه سبحانه ،بل هو من رحمته وكرمه
ــــــــــــــــــــــــــــ
...ـ تعّد )لو( من حروف الشرط ـ وعادًة ـ تستعمل حينما يكون الشرط محال 1
][407
ملحظات
ـ القلب السليم ـ وحده ـ وسيلة النجاة 1
في اثناء كلم إبراهيم الخليل)عليه السلم( قرأنا ضمن ما ساقته اليات المتقدمة من تعابير في
).وصف القيامة ،أّنه ل ينفع في ذلك اليوم شيء )إّل من أتى ال بقلب سليم
ي انحراف أخلقي( السليم( مأخوذ من السلمة ،وله مفهوم واضح ،وهو السالم والبعيد من أ ّ
ي مرض آخر !...وعقائدي ،أو أ ّ
)ُترى ...ألْم يقل ال القرآن في شأن المنافقين )في قلوبهم مرض فزادهم ال مرضًا(1).
.ونلحظ تعاريف للقلب السليم في عدد من الحاديث الغزيرة المعنى
ي حديث عن المام الصادق)عليه السلم( ـ ذيل الية محل البحث) (2ـ يقول فيه" :وكل قلب 1 ـ فف ّ
".فيه شرك أو شك فهو ساقط
ر النسان إلى كل 2 ـ ونعلم من جهة ُأخرى أن العلئق المادية الشديدة وحب الدنيا ...كل ذلك يج ّ
ب الدنيا رأس كل خطيئة")3 ).انحراف وخطيئة ،لن "ح ّ
ب الدنيا ،كما ورد هذا المضمون في حديث للمام ولذلك فالقلب السليم هو القلب الخالي من ح ّ
ب الدنيا"4).
)الصادق)عليه السلم( ـ ذيل محل البحث ـ إذ يقول" :هو القلب الذي سلم من ح ّ
ن خير الزاد التقوى( ...ومع اللتفات إلى الية ) (197من سورة البقرة إذ تقول) :وتزّودوا فإ ّ
.يّتضح أن القلب السليم هو القلب الذي يكون محل لتقوى ال
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة البقرة ،الية 1 10
.ـ راجع مجمع البيان ذيل اليات محل البحث 2
.ـ بحار النوار ،ج ،70ص 3 239
.ـ تفسير الصافي في ذيل الية محل البحث 4
][408
لمام 3
ن القلب السليم هو القلب الذي ليس فيه سوى ال ،كما يجيب ا ِ
ـ وآخر ما نقوله ـ هنا ـ أ ّ
الصادق)عليه السلم( على سؤال في هذا الشأن فيقول" :القلب السليم الذي يلقى رّبه وليس فيه
)أحد سواه"1).
سه
.ول يخفى أن المراد من القلب في مثل هذه الموارد هو روح النسان ونف ُ
وهناك مسائل كثيرة وردت في الروايات السلمية تتحدث حول سلمة القلب والفات التي تصيبه،
وطريق مبارزتها ومكافحتها ،ويستفاد من مجموع هذا المفهوم السلمي المتين أن السلم يهتم
قبل كّل شيء بالساس الفكري والعقائدي والخلقي ،لن جميع المناهج التطبيقية والعملية
!...للنسان هي إنعكاسات لذلك الساس وآثاره
ن سلمة القلب الظاهرية سبب لسلمة الجسم ،وأن مرضه سبب لمرض أعضائه جميعًا، فكما أ ّ
لنّ تغذية الخليا في البدن تتّم بواسطة الدم الذي يتوزع وُيرسل إلى جميع العضاء بإعانِة القلب
على هذه المهّمة ...فكذلك هي الحال بالنسبة لسلمة مناهج حياة النسان وفسادها ،كل ذلك
...انعكاس عن سلمة العقيدة والخلق أو فسادهما
ن القلوب أربعة :قلب فيه ونختتم هذا البحث بحديث عن المام الصادق)عليه السلم( إذ قال" :إ ّ
نفاق وإيمان ،وقلب منكوس ،وقلب مطبوع ،وقلب أزهُر أجرد; "أجرد من غير ال" إلى أن
قال)عليه السلم( :وأّما الزهر فقلب المؤمن ،إن أعطاه شكر وإن ابتله صبر .وأّما المنكوس
فقلب المشرك )أفمن يمشي مكبًا على وجهه أهدى أم من يمشي سّويا على صراط مستقيم( فإن
القلب الذي فيه إيمان ونفاق ،فهم قوم كانوا بالطائف ،فإن أدرك أحُدهم أجله على نفاقه هلك ،وإن
)أدركه على إيمانه نجا"2).
ـ وجاء في الروايات متعددة عن المامين الصادقين )أبي جعفر وأبي 2
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ الكافي ...طبقًا لما جاء في تفسير الصافي ـ ذيل الية محل البحث 1
رابعة ،باب في ظلمة قلب المنافق 2
.ـ أصول الكافي ج 2ص 422طـ ال ّ
][409
عبد ال)عليهما السلم(( في تفسير )فكبكبوا فيها هم والغاوون( قولهما" :هم قوم وصفوا عدل
)بألسنتهم ثّم خالفوه إلى غيره"1).
ن القول بل عمل قبيح ومذموم جّدا ،إذ يلقي أصحابه في النار ،فأولئك وهذا الحديث يدل على أ ّ
قوم ضالون مضّلون ،وكلمهم يهدي ،الناس إلى الحق ،بينما عملهم يجّرهم إلى الباطل ،بل إن
!عملهم كاشف عن عدم إيمانهم بأقوالهم
ي" ل تعني الضلل مطلقًا ،بل وينبغي اللتفات ـ ضمنًا ـ إلى أن كلمة "غاوون" المأخوذة من "الغ ّ
.كما يقول الراغب في المفردات :هو نوع من الجهل والضلل الناشيء عن فساد العقيدة
ـ وردت في ذيل الية )فما لنا من شافعين ول صديق حميم( روايات متعددة ،وبعضها صريحة 3
)في أن" :الشافعون الئّمة والصديق من المؤمنين"2).
وجاء في حديث آخر عن جابر بن عبد ال النصاري أنه سمع رسول ال)صلى ال عليه وآله
وسلم( يقول" :إن الرجل يقول في الجّنة :ما فعل صديقي فلن؟ وصديقه في الجحيم ،فيقول ال:
)أخرجوا له صديقه إلى الجّنة ،فيقول من بقي في النار :فما لنا من شافعين ول صديق حميم"3).
وبديهي أّنه ل الشفاعة بدون معيار وملك ،ول السؤال في شأن الصديق دون حساب ،فل بد من
وجود ارتباط أو علقة بين الشفيع والمشفوع له ليتحقق هذا الهدف" ...بيّنا تفصيل هذا
".الموضوع في بحث الشفاعة ،في تفسير الية 48من سورة البقرة ـ فلُيراجع في محله
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ نقل هذه الرواية مؤلف تفسير نور الثقلين عن أصول الكافي ،وتفسير علي بن إبراهيم1 ،
.والمحاسن للبرقي
.ـ المحاسن للبرقي .ذيل الية محل البحث 2
.ـ مجمع البيان ذيل الية 3
][410
اليات
ن)
سوٌل َأِمي ٌ ن)ِ (106إّنى َلُكْم َر ُ ح َأَل َتّتُقو َن)ِ (105إْذ َقاَل َلُهْم َأخُوُهْم ُنو ٌ سِلي َ
ت َقْوُم ُنوح اْلُمْر َ َكّذَب ْ
ن) ب اْلَعـَلِمي َعَلى َر ّ ى ِإّل َجِر َ ن َأ ْجر ِإ ْ ن َأ ْ
عَلْيِه ِم ْسَئُلُكْم َ
ن )َ(108وَمآ َأ ْ طيُعو ِ ل َوَأ َِ (107فاّتُقوْا ا َّ
عْلِمى ِبَما َكاُنوْا ن)َ (111قاَل َوَما ِ ك اَْلْرَذُلو َ ك َواّتَبَع َ
ن َل َ
ن)َ (110قاُلوْا َأُنْؤِم ُ طيُعو ِل َوَأ ِ َ(109فاّتُقوْا ا َّ
ن َأَنْا
ن)ِ (114إ ْ طاِرِد اْلُمْؤِمِني َ
ن)َ (113وَمآ َأَنْا ِب َ شُعُرو َعَلى َرّبى َلو َت ْ ساُبُهْم ِإّل َ
ح َ
ن ِ ن)ِ (112إ ْ َيْعَمُلو َ
ن)115 )ِإّل َنِذيٌر ّمِبي ٌ
الّتفسير
ف بك الرذلون؟ حِ ،لَم يح ّ
!يا نو ُ
ضالين ،عن قوم نوح)عليه السلم(
يتحّدث القرآن الكريم بعد النتهاء مّما جرى لبراهيم وقومه ال ّ
حديثًا للعبرة والتعاظ ...فيذكر عنادهم وشّدتهم في موقفهم من نوح)عليه السلم( وعدم حيائهم
وعاقبتهم الليمة ضمن عّدة آيات ...فيقول أّول) :كّذبت
][411
)قوم نوح المرسلين(1).
ن لّما كانت دعوة المرسلين واحدة من حيث وواضح أن قوم نوح إّنما كذبوا نوحًا فحسب ...ولك ْ
الصول ،فقد عّد تكذيب نوح تكذيبًا للمرسلين جميعًا ...ولذا قال القرآن )كذبت قوم نوح
).المرسلين
ن قوم نوح أساسًا كانوا منكرين لجميع الديان والمذاهب ،سواًء قبل ظهور نوح أو كما ويحتمل أ ّ
...بعده
ثّم يشير القرآن الكريم إلى هذا الجانب من حياة نوح)عليه السلم( ،الذي سبق أن أشار إليه في
)...كلمه حول إبراهيم وموسى)عليهما السلم( ،فيقول) :إذ قال لهم أخوهم نوح أل تتقون
والتعبير بكلمة "أخ" تعبير يبّين منتهى المحّبة والعلقة الحميمة على أساس المساواة ...أي أن
.نوحًا دون أن يطلب التفوق والستعلء عليهم ،كان يدعوهم إلى تقوى ال في منتهى الصفاء
والتعبير باُلخوة لم َيرْد في شأن نوح في القرآن فحسب ،بل جاء في شأن كثير من النبياء ،كهود
وصالح ولوط ،وهو يلهم جميع القادة والدلء على طريق الحق أن يراعوا في دعواتهم منتهى
المحبة المقرونة بالجتناب عن طلب التفوق لجذب النفوس نحو مذهب الحق ،ول يستثقله
!...الناس
وبعد دعوة نوح قومه إلى التقوى التي هي أساس كل أنواع الهداية والنجاة ،يضيف القرآن فيقول
على لسان نوح وهو يخاطب قومه) :إني لكم رسول أمين فاتقوا ال وأطيعون( فإن إطاعتي من
...إطاعة ال سبحانه
،وهذا التعبير يدّل على أن نوحًا)عليه السلم( كانت له صفة ممتدة من المانة بين قومه
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ تأنيث لفظ )كذبت( لن )قوم( في معنى الجماعة ،والجماعة فيها تأنيث لفظي ...وقال بعضهم1 :
إن كلمة )قوم( بذاتها مؤنثة ،لّنهم قالوا في تصغيرها "قويمة" نقل الوجه الّول الطبرسي في
مجمع البيان ،ونقل الوجه الّثاني الفخر الرازي في تفسيره ...إّل أن "اللوسى" قال في روح
...المعاني :إن لفظ "قوم" يستعمل في المذكر والمؤنث على السواء
][412
وكانوا يعرفونه بهذه الصفة السامية ،فهو يقول لهم) :إّني لكم رسول أمين( ولهذا فإّني أمين
...أيضًا في أداء الرسالة اللهية ،ولن تجدوا خيانًة مّني أبدًا
وتقديم التقوى على اِلطاعة ،لنه مالم يكن هناك إيمان واعتقاد بال وخشية منه ،فلن تتحقق
...الطاعة لنبّيه
ومّرة ُأخرى يتمسك نوح)عليه السلم( بحقانية دعوته ،ويأتي بدليل آخر يقطع به لسان
ب العالمين).المتذرعين بالحجج الواهية ،فيقول) :وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إّل على ر ّ
ومعلوم أن الدوافع اللهية ـ عادًة ـ دليل على صدق مدعي النبّوة ،في حين أن الدوافع الماّدية تدل
بوضوح على أن الهدف من ورائها هو طلب المنفعة ،ول سيما أن العرب في ذلك العصر كانوا
...يعرفون هذه المسألة في شأن الكهنة وأضرابهم
ثّم يذكر القرآن ذلك التعبير نفسه الذي جاء على لسان نوح ،بعد التأكيد على رسالته وأمانته ،إذ
)...يقول) :فاتقوا ال وأطيعون
سُبَل ما تذّرعوا به من الحجج الواهية موصدة ،تمسكوا بهذه ن المشركين الحمقى ،حين رأوا ُ إّل أ ّ
).المسألة ،فـ )قالوا أنؤمن لك وأتبعك الرذلون
إن قيمة الزعيم ينبغي أن تعرف ممن حوله من التباع ،وبعبارة أخرى "إن الولي يعرف من
زّواره ـ كما يقال" فحين نلحظ قومك يا نوح ،نجدهم حفنًة من الراذل والفقراء والحفاة والكسبة
الضعاف ،قد داروا حولك ،فكيف تتوقع أن يتبعك الثرياء الغنياء الشرفاء والوجهاء ويخضعوا
!لك؟
ن الزعيم ُيعرف عن طريق أتباعه ،إّل أن خطأهم وصحيح أّنهم كانوا صادقين ومصيبين في أ ّ
الكبير هو عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها ...إذ كانوا يرون معيار الِقَيم في المال
والثروة واللبسة والبيوت والمراكب الغالية والجميلة ،وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء
والتقوى والطهارة وطلب الحق ،والصفات العليا
][413
.للنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقّلة من الشراف
إن روح الطبقية كانت حاكمة على أفكارهم في أسوأ أشكالها ،ولذلك كانوا يسّمون الفقراء الحفاة
.بالراذل
و "الراذل" جمع )أرذل( كما أّنه جمع )للرذل( ومعناه الحقير ...ولو كانوا يتحررون من قيود
المجتمع الطبقي ،لدركوا جيدًا أن إيمان هذه الطائفة نفسها دليل على حقانية دعوة الّنبي
!وأصالتها
ن نوحًا)عليه السلم( جابههم ورّدهم بتعبير متين ،وجّردهم من سلحهم و )قال وما علمي بما إّل أ ّ
).كانوا يعملون
فما مضى منهم مضى ،والمهم هو أّنهم اليوم استجابوا لدعوة الّنبي ،وقالوا له :لّبيك ،وتوجهوا
ق من أن ينفذ إلى قلوبهم!...لبناء شخصياتهم ،ومكنوا الح ّ
وإذا كانوا في ما مضى من الزمن قد عملوا صالحًا أو طالحًا ،فلست ُمحاسبًا ول مسؤول عنهم
).آنئذ )إن حسابهم إّل على ربي لو تشعرون
ويستفاد من هذا الكلم ـ ضمنًا ـ أّنهم كانوا يريدون أن يتهموا هؤلء الطائفة من المؤمنين،
بالضافة إلى خلّو أيديهم ،بسوء سابقتهم الخلقية والعملية ،مع أن الفساد والنحراف الخلقي
عادًة في المجتمعات المرفهة أكثر من سواها بدرجات ...فهم الذين تتوفر لديهم كل وسائل الفساد،
.وهم سكارى المقام والمال ،وقّل أن يكونوا من الصالحين
إّل أن نوحًا)عليه السلم( ـ دون أن يصطدم بهم في مثل هذه اُلمور ـ يقول :ما علمي بهم وبما
!كانوا يعملون ،فإذا كان المر كما تزعمون فإّنما حسابهم على ربي لو تشعرون
لب الحق )وما أنا بطارد المؤمنيني أن أبسط جناحي لجميع ط ّ ).وإّنما عل ّ
وهذه العبارة في الحقيقة جواب ضمني لطلب هؤلء المثرين الغنياء المغرورين ،الذين كانوا
يطلبون من نوح أن يطرد طائفة الفقراء من حوله ،ليتقربوا
][414
...منه ويكونوا من أتباعه بعد طرد ُأولئك الفقراء
).ولكن المسؤولية الملقاة على عاتقي هي أن أنذر الناس فحسب )إن أنا إّل نذير مبين
فمن سمع إنذاري وعاد إلى الصراط المستقيم بعد ضلله ،فهو من أتباعي كائنًا من كان ،وفي أي
!مستوى طبقي ومقام اجتماعي أو مادي
ح الّنبي الذي هو أول الرسل من أولي ض له نو ٌ
ومّما ينبغي اِللتفات إليه أن هذا اِليراد لم يتعّر ْ
العزم فحسب ،بل وُوجَه الى الّنبي محمد)صلى ال عليه وآله وسلم( وسائر النبياء به ،فالغنياء
كانوا ينظرون بنظاراتهم الفكرية السوداء شخصيات هؤلء الفقراء البيضاء ،فيرونها سوداء،
ب ول نبي يتبعه مثل هؤلء العباد الفقراء!...فيطلبون طردهم دائمًا .ولم يقبلوا بر ّ
إّل أنه ما أعذب وأحلى تعبير القرآن عنهم في سورة الكهف ،إذ يقول) :واصبر نفسك مع الذين
ن ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ول تعُد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ول تطع يدعو َ
).من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً
وهذا اليراد أو الشكال يوردونه حتى على قادِة الحق والدّلء على الهدى في كل عصر وزمان،
.وهو أن معظم أتباعكم المستضعفون! أو الحفاة الجائعون
إّنهم يريدون أن يعيبوا بكلمهم هذا الرسالة والمذهب ،مع أّنهم من حيث ل يشعرون ،يمدحون
.ويطرون ذلك المذهب ويوّقعون على أصالته
***
][415
اليات
ح َبْيِنى ن) (117فاْفَت ْ ن َقْوِمى َكّذُبو ِ ن)َ (116قاَل َربّ ِإ ّ جوِمي َ ن الَمْر ُن ِم َح َلَتُكوَن ّ
َقالُوْا َلِئن ّلْم َتنَتِه َيـُنو ُ
غَرْقَنان)ُ (119ثّم َأ ْ حو ِ شُك الَم ْجْيَنـُه َوَمن ّمَعهُ ِفى اْلُفْل ِ
ن)َ (118فَأن َ جِنى َوَمن اْلمْؤِمِني َ َوَبْيَنُهْم َفْتحًا َوَن ّ
حيُم)ك َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ
ن َرّب َ
ن)َ (121وِإ ّ ن َأْكَثُرُهم ّمْؤِمِني َ
ك َلَيًة َوَما َكا َن ِفى َذِل َن)ِ (120إ ّ َبْعدُ اْلَباِقي َ
)122
الّتفسير
ق المشركين:نجاُة نوح وغر ُ
كان رّد فعل هؤلء القوم الضالين في مواجهة نبّيهم نوح)عليه السلم( ،هو منهج المستكبرين
على امتداد التاريخ وهو العتماد على القّوة والتهديد بالموت والفناء) :قالوا لئن لم تنته يا نوح
).لتكونن من المرجومين
ن الرجَم بالحجارة بينهم كان جاريًا في شأن المخالفين... والتعبير بـ "من المرجومين" يدُل على أ ّ
وفي الحقيقة إّنهم يقولون لنوح :إذا قررت أن تواصل دعوتك للتوحيد ...والستمرار على عقيدتك
ودينك ،فستنال ما يناله المخالفون
][416
)ـ عاّمة ـ وهو الرجم بالحجارة ،الذي يعد واحدًا من أسوأ أنواع القتل1).
ولما رأى نوح أن دعوته المستمرة الطويلة بما فيها من منطق بّين ...وبما يقترن بها من
إصطبار ،لم تؤثر إّل في جماعة قلة آمنوا به ...شكا إلى رّبه أخيرًا ،وضمن بيان حاله ،سأل ربه
ب إن قومي كذبون ).أن ينجّيه من قبضة الظالمين ،وأن ُيبعده عنهم ...إذ )قال ر ّ
طلع على كل شيء ،إّل أنه لبيان الشكوى وتمهيدًا للسؤال التالي ،يذكر نوح مثل وصحيح أن ال م ّ
.هذا الكلم
ك من المصائب التي ُأبتلي بها ،بل اشتكى من تكذيب قومه إّياه ن نوحًا لم يشت ِومّما يلفت النظر أ ّ
...فحسب ،إذ لم يصدقوه ولم يقبلوا رسالته اللهية لهدايتهم
ثّم يلتفت إلى رّبه فيقول :والن حيث لم يبق طريق لهداية هؤلء القوم فاقض بيننا وافصل بيني
).وبينهم) :فافتح بيني وبينهم فتحًا
الفتح" معناه واضح ،وهو ما يقابل الغلق ويضاده ،وله استعمالن ...فتارة يستعمل في القضايا"
المادية كفتح الباب مثل ،وتارة يستعمل في القضايا المعنوية كفتح الهّم ورفع الغم ،وكفتح
!المستغلق من العلوم ،وفتح القضية ،اي بيان الحكم حسم النزاع
جني ومن معي من المؤمنين ).ثّم يضيف فيقول) :ون ّ
وهنا يعبر القرآن عن إدراك رحمة ال نوحًا ،وإهلك المكذبين بعاقبة وخيمة مفجعة ،إذ يقول:
)فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون( اي المليء بالناس وانواع الحيوانات )ثّم أغرقنا بعُد
)...الباقين
ء ،وقد"
المشحون" مأخوذ من مادة )شحن( على وزن )صحن( ومعناه المل ُ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "الرجم" مأخوذ من )رجام( على وزن )كتاب( وهو جمع )رجمة( على وزن )لقمة( ومعناها 1
القطعة من الحجر التي توضع على القبر ،أو ما يطوف حوله عبدة الوثان ،كما يعني الرجم
ي شكل كان ،لن القتل كان بالحجر القذف بالحجارة حتى القتل ،كما يأتي أحيانًا بمعنى القتل بأ ّ
.سابقًا
][417
يستعمل بمعنى التجهيز ...و"الشحناء" تطلق على العداوة التي تستوعب جميع جوانب اِلنسان،
ن ذلك الفلك ]أي السفينة[ كان مملوءًا من البشر وجميع والمراد من "المشحون" هنا هو أ ّ
الوسائل ...ولم يكن فيه أي نقص ...إي أن ال بعدما جهز السفينة وأعّدها للحركة ،أرسل
الطوفان لئل ُيبتلى نوح وجميع من في الفلك بأي نوع من أنواع الذى ...وهذا بنفسه إحدى نعم
!ال عليهم
وفي ختام هذه القصة القصيرة ،يقول القرآن ما قاله في ختام قصة موسى وإبراهيم)عليهما
السلم( ،فيكرر قوله) :إن في ذلك لية( أي في ما جرى لنوح)عليه السلم( ودعوته المستمرة
).وصبره ونجاته وغرق مخالفيه )وما كان أكثرهم مؤمنين
ن عاقبتك
ولهذا فل تحزن يا رسول ال من إعراض المشركين وعنادهم ،واستقم كما ُأمرت ...فإ ّ
.وعاقبة أصحابك عاقبة نوح وأصحابه ،وعاقبة الضالين من قومك كعاقبة الضالين من قوم نوح
).و( اعلم )إن رّبك لهو العزيز الرحيم(
فرحمته تقتضي أن يمهلهم ويتّم عليهم الحجة بإعطاء الفرصة الكافية ،وعزته تستلزم أن ينصرك
سَرًا
خ ْ!...عليهم ،وتكون عاقبة أمرهم ُ
***
][418
اليات
ن)(125 سوٌل َأِمي ٌ ن )ِ(124إّنى َلُكْم َر ُ خوُهْم ُهوٌد َأَل َتّتُقو َ ن) (123إْذ َقاَل َلُهْم َأ ُ سِلي َعاٌد اْلُمْر َت َ َكّذَب ْ
ن)(127 ب اْلَعـَلِمي َ
عَلى َر ّى ِإّل َ جِر َن َأ ْجر ِإ ْ ن َأ ْعَلْيِه ِم ْ
سَئُلُكْم َن)َ (126وَمآ َأ ْ طيُعو ِ ل َوَأ َِفاّتُقوْا ا َّ
شُتم
ط ْشُتم َب َ ط ْ ن )َ(129وِإَذا َب َ خـُلُدو َصاِنَع َلَعّلُكم َت ْ
ن َم َ خُذو َ ن)َ (128وَتّت ُ ن ِبُكّل ِريع َءاَيًة َتْعَبُثو َ َأَتْبُنو َ
ن)َ (132أَمّدُكم ِبَأْنَعـم ن )َ(131واّتُقوْا اّلِذى َأَمّدُكم بَما َتْعَلُمو َ طيُعو ِ ل َوَأ ِن)َ (130فاّتُقوْا ا َّ جّباِري ََ
ظيم)135 عِ عَذابَ َيْوم َ عَلْيُكْم َف َ خا ُ عُيون)ِ (134إّنى َأ َ جّنـت َو ُ ن )َ(133و َ )وََبِني َ
الّتفسير
:جنايات عاد واعمالهم العدوانية
والن يأتي الكلم عن "عاد" قوم "هود" إذ يعرض القرآن جانبًا من حياتهم وعاقبتهم ،وما فيها
!...من دروس العبر ،ضمن ثماني عشرة آيًة من آياته
عاُد" ـ كما قلنا من قبل ـ جماعة كانوا يقطنون في "الحقاف" ،وهي منطقة في حضرموت تابعة"
...لليمن ،تقع جنوب الجزيرة العربية
][419
)فيقول القرآن) :كّذبت عاٌد المرسلين(1).
بالرغم من أّنهم كذبوا هودًا فحسب ،إّل أّنه لّما كانت دعوة هود هي دعوة النبياء جميعًا ،فكأّنهم
...كذبوا النبياء جميعًا
وبعد ذكر هذا الجمال يقع التفصيل ،فيتحّدث القرآن عنهم فيقول) :إذ قال لهم أخوهم هود أل
).تتقون
لقد دعاهم إلى التوحيد والتقوى في منتهى الشفقة والعطف والحرص عليهم ،لذلك عّبر عنه
"...القرآن بكلمة "أخوهم
ثّم أضاف قائل) :إّني لكم رسول أمين( وما سبق من حياتي بين ظهرانيكم يدل على هذه الحقيقة،
!...فإّني لم أخنكم أبدًا ...ولم تجدوا مّني غير الصدق والحق
ن إطاعتكم إّياي إطاعة ل ثّم يضيف مؤّكدا :لما كنتم تعرفونني جيدًا )فاتقوا ال وأطيعون( ...ل ّ
سبحانه ...ول تتصوروا بأّني أدعوكم لنتفع من وراء دعوتي إّياكم في حياتي الدنيا وأنال المال
ب العالمين( ...فجميع الِنَعم
والجاه ،فلست كذلك )وما أسألكم عليه من أجر أن أجري إّل على ر ّ
ب العالمين جميعًا
ت شيئًا طلبته منه ،فهو ر ّ
...والبركات من ِقَبلِه سبحانه ،وإذا أرد ُ
...والقرآن الكريم يستند في هذا القسم من سيرة "هود" في قومه إلى أربعة ُأمور على الترتيب
فالمر الّول :هو محتوى دعوة "هود" الذي يدور حول توحيد ال وتقواه ،وقرأنا ذلك بجلء في
...ما مضى من الي
أّما اُلمور الثلثة الخر فيذكرها القرآن حاكيًا عن لسان هود في ثوب الستفهام النكاري ،فيقول:
)).أتبنون بكل ريع آية تعبثون
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ لما كانت "عاد" قبيلًة ،وتتألف من جماعة من الناس ُأنث الفعل كما ُيرى ،فجاء )كذبت عاد( 1
ن لفظي القبيلة والجماعة مؤنثان ...ل ّ
][420
ق على المكان المرتفع ،أّما كلمة )تعبثون( فمأخوذ من "العبث" ،ومعناه"
الريع" في الصل ُيطل ُ
العمل بل هدف صحيح ،ومع ملحظة كلمة )آية( التي تدل على العلمة يّتضح معنى العبارة
ن هؤلء القوم المثرين ،كانوا يبنون على قمم الجبال والمرتفعات اُلخر مبان َ
ي بجلء ...وهو أ ّ
عالية للظهور والتفاخر على الخرين ،وهذه المباني ]كالبراج وما شاكلها[ لم يكن من روائها أي
!! هدف سوى لفت أنظار الخرين ،وإظهار قدرتهم وقّوتهم ـ من خللها ـ
ن المراد من هذا التعبير هو المباني والمنازل التي كانت ُتبنى علىسرين من أ ّ
وما قاله بعض المف ّ
المرتفعات ،وكانت مركزًا للهو واللعب ،كما هو جار في عصرنا بين الطغاة ...فيبدو بعيدًا ،لن هذا
).التعبير ل ينسجم مع كلمتي )الية( و)العبث
ن عادًا كانت تبني هذه البنايات للشراف سرين ،وهو أ ّن هناك احتمال ثالث ذكره بعض المف ّ كما أ ّ
...على الشوارع العاّمة ،ليستهزئوا منها بالمارة ،إّل أن الّتفسير الّول يبدو أكثر صحة من سواه
وأّما المر الّثالث الذي ذكره القرآن حاكيًا على لسان هود منتقدًا به قومه ،فهو قوله) :وتتخذون
).مصانع لعلكم تخلدون
المصانع" جمع "مصنع" ومعناه المكان أو البناء المجّلل المحكم ،والّنبي هود ل يعترض عليهم"
لنّ لديهم هذه البنايات المريحة الملِئمة ،بل يريد أن يقول لهم :إّنكم غارقون في أمواج الدنيا،
ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في القصور حتى نسيتم الدار الخرة! ...فلم تتخذوا
...الدنيا على أنها دار ممر ،بل اتخذتموها دار مقر دائم لكم
ن مثل هذه المباني التي ُتذهل أهلها ،وتجعلهم غافلين عن اليوم الخر ،هي ل شك مذمومة !أجل ،إ ّ
ن رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( خرج فرأى قبة و في بعض الّروايات عن أنس بن مالك أ ّ
][421
فقال :ما هذه؟ فقالوا له أصحابه :هذا الرجل من النصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في
الناس أعرض عنه وصنع ذلك مرارًا حتى عرف الرجل الغضب به وبالعراض عنه ،فشكى ذلك
ي وما
ي لنكر رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم(ما أدرى ما حدث ف ّ إلى أصحابه وقال :وال إل ّ
صنعت؟
قالوا :خرج رسول ال فرأى قّبتك فقال :لمن هذه؟ فأخبرناه ،فرجع الى قّبته فسواها بالرض،
فخرج رسول ال)صلى ال عليه وآله وسلم( ذات يوم فلم ير القبة فقال :ما فعلت القبة التي كانت
ها هنا قالوا :شكى إلينا صاحبها انحراصل عنه فاخبرناه فهدمها فقال)صلى ال عليه وآله وسلم(:
)"إن كّل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة ،إّل ما لُبّد منه"1).
ويعرف من هذه الّرواية وما شابهها من الّروايات نظر السلم بجلء ،فكل بناء "طاغوتي" مشيد
بالسراف والبذخ ومستوجب للغفلة ...يمقته السلم ،ويكره للمسلمين أن يبنوا مثل هذه البنية
التي يبنيها المستكبرون المغرورون الغافلون عن ال ،ول سيما في محيط يسكن فيه المحرومون
...والمستضعفون
ن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( لم يستعمل القوة للوصول إلى هذا إّل أن ما ينبغي التنويه به ،أ ّ
الهدف اِلنساني أبدًا ،ولم يأمر بتخريب البناء ،بل استطاع أن يحقق هدفه برد فعل لطيف
!...كاِلعراض وعدم اِلهتمام بالبناء مثل
ثّم ينتقد الّنبي "هود" قومه على قسوتهم وبطشهم عند النزاع والجدال فيقول) :وإذا بطشتم
).بطشتم جبارين
فمن الممكن أن يعمل النسان عمل يستوجب العقوبة ،إّل أّنه ل يصح تجاوز الحد واِلنحراف عن
جادة الحق والعدل عند محاسبته ومعاقبته ،وأن يعامل ذو الجرم الصغير معاملة ذي الجرم
الكبير ...وأن تسفك الدماء عند الغضب ويقع التماصع بالسيف) ،(2فذلك ما كان يلجأ إليه
...الجبابرة والظلمة والطغاة آنئذ
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ مجمع البيان :ذيل الية محل البحث ،نور الثقلين ،ج ،4ص 1 63
)ـ التماصع ،التطاحن والقتال) .المصحح 2
][422
سوةويرى الراغب في المفردات أن "البطش" على زنة )نقش( هو أخذ الشيء بقّوة وق ّ
...واستعلء
:وفي الحقيقة أن هودًا يوبخ عبدة الدنيا عن طرق ثلثة
ب الستعلء وحب الذات ،والتي كانت تبنى على المرتفعات الّول :علماتهم التي كانت مظهرًا لح ّ
.العالية ليفخروا بها على سواهم
ثّم يوبخهم على مصانعهم وقصورهم المحكمة ،التي تجرهم إلى الغفلة عن ال ،وإن الدنيا دار
.ممر ل مقر
...وأخيرًا فإّنه ينتقدهم في تجاوزهم الحّد والبطش عند النتقام
ب البقاء .ويدّل هذا المر على
والقدر الجامع بين هذه اُلمور الثلثة هو اِلحساس باِلستعلء وح ّ
أن عشق الدنيا كان قد هيمن عليهم ،وأغفلهم عن ذكر ال حتى ادعوا اللوهية ...فهم باعمالهم
)هذه يؤّكدون هذه الحقيقة ،وهي أن "حب الدنيا رأس كل خطيئة"1).
والقسم الّثالث من حديث هود مّما بّينه لقومه ،هو ذكر نعم ال على عباده ليحرك فيهم ـ عن هذا
...الطريق ـ اِلحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو ال
وفي هذا الصدد يتبع الّنبي هود أسلوبي الجمال والتفصيل ،وهما مؤثران في كثير من البحاث،
)فيلتفت نحوهم أول فيقول) :واتقوا الذي أمّدكم بما تعلمون(2).
)...وبعد هذا التعبير الُمجل يذكر تفصيل نعم ال عليهم ،فيقول) :أمدكم بأنعام وبنين
صة في ذلكفمن جهة وّفر لكم اُلمور المادية ،وكان القسم المهم منها ـ خا ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير الفخر الرازي ذيل الية محل البحث 1
ـ )أمّد( مأخوذ من "المداد" ،ويطلق في الصل على أمور توضع بعضها بعد بعض بشكل 2
...منظم ،وحيث أن ال يرسل نعمه بشكل منظم إلى عباده استعملت هذه الكلمة هنا أيضًا
][423
العصر ـ النعام والمطايا من النياق وغيرها .ومن جهة أخرى وفّر لكم القّوة الكافية وهي
"...البناء" للحفاظ على النعام وتدجينها
وهذا التعبير تكرر في آيات مختلفة ،فعند عّد النعم المادية تذكر الموال أول ثّم البناء ثانيًا ،وهم
الحفظة للموال ومنّموها ،ويبدو أن هذا ترتيب طبيعي ،ل أن الموال أهم من البناء ...إذ نقرأ في
)...الية ) (6من سورة اِلسراء) ...وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا
).ثّم يضيف بعد ذلك) :وجنات وعيون
وهكذا فقد وفر ال لكم سبل الحياة جميعًا ،من حيث البناء أو القّوة اِلنسانية ،والزراعة والتدجين
!.ووسائل الحمل والنقل ،بشكل ل يحس اِلنسان معه بأي نقص أو قلق في حياته
لكن ما الذي حدث حتى نسيتم واهب هذه النعم جميعًا ،وأنتم تجلسون على مائدته ليل نهار ،ول
!تعرفون قدره؟
ن هودًا في آخر مقطع من حديثه مع قومه ينذرهم ويهددهم بسوء الحساب وعقاب ال وأخيرًا ،فإ ّ
)...لهم ،فيقول) :إّني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم
ذلك اليوم الذي ترون فيه نتائج أعمالكم وظلمكم وغروركم واستكباركم ،وحب الذات وترك عبادة
.ال ...ترون كل ذلك بأم أعينكم
وعادة ـ يستعمل لفظ )اليوم العظيم( في القرآن ،ويراد منه يوم القيامة العظيم من كل وجه ...إّل
...أّنه قد يستعمل في القرآن في اليوم الصعب الموحش المؤلم على اُلمم
كما نقرأ في هذه السورة في قصة "شعيب" ،أن قومه بعد أن جحدوه ولم يؤمنوا به وعاندوه
سمي ذلك اليوم واستهزؤوا به ،أرسل ال عليهم صاعقة "وكانت قطعة من الغيم" فعاقبهم بها ،ف ّ
).باليوم العظيم ،كما تقول الية) :فأخذهم عذاب يوم الظلة إّنه كان عذاب يوم عظيم
][424
فبناًء على هذا قد يكون التعبير بـ "يوم عظيم" في الية محل البحث ،إشارة إلى اليوم الذي ابتلي
به المعاندون من قوم هود )عاد( بالعذاب الليم وهو العصار المدمر ،وسيتجلى الشاهد على هذا
...المعنى في اليات المقبلة
كما يمكن أن يكون إشارة إلى يوم القيامة وعذابه ...أو إلى العذابين معًا ،فيوم العصار يوم
...عظيم،ويوم القيامة يوم عظيم أيضًا
***
][425
اليات
ن)َ (137وَما ق ا َْلّوِلي َخُل ُ
ن)ِ (136إنْ َهَذآ ِإّل ُ ظي َعِ ن الَوا َت َأْم َلْم َتُكن ّم َ ظ َ عْ عَلْيَنآ َأَو َ
سَوآٌء َ َقاُلوْا َ
ن َرّب َ
ك ن)َ (139وِإ ّ ن َأْكَثُرُهم ّمْؤِمِني َ
ك َلَيًة َوَما َكا َن ِفى َذِل َن)َ (138فَكّذُبوُه َفَأْهَلْكَنـُهْم ِإ ّ ن ِبُمَعّذِبي َ
َنحْ ُ
حيُم)140 )َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ
الّتفسير
:ل تتعب نفسك في نصحنا
رأينا في اليات المتقدمة أحاديث الّنبي هود المحترق القلب شفقًة لقومه المعاندين "عاد" وما
حملته هذه الحاديث من معان غريزة سامية ...والن ينبغي أن نعرف جواب قومه الجارح وغير
المنطقي ول المعقول ،يقول القرآن في هذا الصدد )قالوا سواء علينا أَوعظت أْم لم تكن من
.الواعظين( فلن يؤثر ذلك فينا ،فل تتعب نفسك
خلق الّولين
).أّما اعتراضك علينا بهذه اُلمور فل محل له من العراب )إن هذا إّل ُ
وليس المر كما تقول ،فإّنه ل شيء بعد الموت )وما نحن بمعّذبين( ل في هذا
][426
.العالم ،ول في العالم الخر
ق" ـ بضم الخاء واللم ـ معناه العادة والسلوك والخلق لن هذه الكلمة جاءت بصيغة خل ُو "ال ُ
جية والعادة الخلقية ...وهى هنا إشارة إلى العمال التي كانت تصدر الفراد بمعنى الطبع والس ّ
منهم كعبادة الصنام ،وبناء القصور العالية الجميلة ،وحب الذات ،والتفاخر عن طريق تشييد
البراج على النقاط المرتفعة ،وكذلك البطش عند اِلنتقام أو الجزاء ...أي إن ما نقوم به من
!...أعمال هو ما كان يقوم به السلف فل مجال للعتراض والنتقاد
ن ما تقوله في شأن ال والقيامة كلم باطل قيل من قبل )إّل ق" بعضهم بالكذب ،أي إ ّ سر "الخل ُ وف ّ
ق الولين .فيكون الخلق فيه على وزن خْل ُ
أن هذا الّتفسير إّنما ُيقبل إذا قرىء النص :إن هذا إّل َ
)!).الحلق( إّل أن القراءة المشهورة ليست كذلك
).ويبّين القرآن عاقبة قوم هود الوبيلة فيقول) :فكذبوه فأهلكناهم
وفي ختام هذه الحداث يذكر القرآن تلكما الجملتين المعبّرتين ،اللتين تكررتا في نهاية قصص
نوح وإبراهيم وموسى عليهما السلم ...فيقول) :إن في ذلك لية( على قدرة ال ،واستقامة
النبياء وعاقبة المستكبرين السيئة ،ولكن مع ذلك )وما كان أكثرهم مؤمنين وإن رّبك لهو العزيز
).الرحيم
ن ليهتدوا ...إّل أنه عندفيمهُل إمهال كافيًا ،ويمنح الفرصة ،ويبّين الدلئل الواضحة للمضلي َ
...المجازاة والعقاب ،وبعد إتمام الحجة يأخذ أخذًا عسيرًا ل مفّر لحد منه أبدًا
***
][427
اليات
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "الطلع" مأخوذ من مادة "الطلوع" ويستعمل في ما يكون منه الرطب بعدئذ ،وهو معروف 1
ق أول الربيع .ثّم ُيلقح بيد النسان أو
ق عنه الِعذ ُ
وشكله جميل منضوم نضيد ،له غلف ينش ّ
بالرياح ليكون الثمر ...وقد يستعمل الطلع في الثمرة اُلولى للنخل! و "الهضيم" من مادة
"هضم" ،وله معان مختلفة ،فتارة يراد منه الثمرة الناضجة ،وتارة يطلق على الثمر اللين القابل
للهضم ،وتارة يطلق على المهضوم ،وقد يستعمل بمعنى المنضوم المنضد ،فإذا كان الطلع في
الية محل البحث بمعنى العذق أّول طلوعه ،فالهضيم معناه المنضود ،وإذا كان الطلع أول الثمر
...فالهضيم معناه الناضج اللين اللطيف
][430
:ملحظة
ف والفساد في الرض
!العلقة بين السرا ِ
نأ ّ
ي نعرف أن "السراف" هو التجاوز عن حّد قانون التكوين وقانون التشريع ...وواضح أيضًا أ ّ
تجاوز عن الحد موجب للفساد والختلل وبتعبير آخر :إن مصدر الفساد هو السراف ،ونتيجة
.السراف هي الفساد أيضًا
ن السراف له معنى واسع ،فقد يطلق على المسائل المادية كالكل والشرب، وينبغي اللتفات إلى أ ّ
).كما في الية ) (31من سورة العراف )كلوا واشربوا ول تسرفوا
وقد َيِرُد في النتقام والقصاص ـ عند تجاوز الحد ـ كما في الية ) (33من سورة السراء)...فل
ف في القتل إنه كان منصورًا ).يسر ْ
وقد يستعمل في اِلنفاق والبذل عند التبذير وعدم التدبير ،كما في الية ) (67من سورة الفرقان:
)).والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا
وقد يأتي في الحكم أو القضاء الذي يجّر إلى الكذب ،كما في الية ) (28من سورة غافر) :إن ال
!)ل يهدي من هو مسرف كّذاب
وقد يستعمل في العتقاد المنتهى إلى الشك والتردد والرتياب كما في الية ) (34من سورة غافر
).إذ تقول) :كذلك يضل ال من هو مسرف مرتاب
وقد يأتي بمعنى الستعلء والستكبار والستثمار كما جاء في الية ) (31من سورة الدخان في
).شأن فرعون )إّنه كان عاليًا من المسرفين
وأخيرًا فقد يأتي بمعنى مطلق الذنوب كما هو في الية ) (53من سورة الزمر )قل يا عبادي الذين
ل يغفر الذنوب جميعًا ).أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من رحمة ال إن ا ّ
...وبملحظة كل ما بّيناه آنفًا ،تّتضح العلقة بين السراف والفساد بجلء
لمة الطباطبائي في الميزان" :إن الكون على ما بين أجزائه من يقول الع ّ
][431
التضاد والتزاحم ،مؤلف تأليفًا خاصًا يتلئم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج والثار...
فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة ،وهو بما بين أجزائه من الرتباط
صة ،من غير أن يميل عن حاق صا يسير فيها بأعمال خا ّ التام يخط لكل من أجزائه سبيل خا ّ
ن في الميل واِلنحراف إفسادًا للنظام
وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط ،فإ ّ
المرسوم ويتبعه إفساد غايته وغاية الكل ...ومن الضروري أن خروج بعض الجزاء عن خطه
المخطوط له ،وإفساد النظم المفروض له ولغيره ،يستعقب منازعة بقية الجزاء له ،فإن
استطاعت أن تقيمه وترده إلى وسط اِلعتدال فهو وإّل أفنته وعفت آثاره ،حفظًا لصلح الكون
واستبقاًء لقوامه واِلنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية ،فإن جرى على
ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له ،وإن تعّدى حدود فطرته وأفسد في الرض ،أخذه
ال سبحانه بالسنين والمثلت وأنواع النكال والنقمة ،لعله يرجع إلى الصلح والسداد ،قال ال
تعالى) :ظهر الفساد في البّر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم
)يرجعون(1).
وإن أقاموا مع ذلك على الفساد ـ لرسوخه في نفوسهم ـ أخذهم ال بعذاب اِلستئصال وطّهر
ن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من
الرض من قذارة فسادهم قال ال تعالى) :ولو أ ّ
)السماء والرض ولكن كّذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون()3)(2
ومن هنا يّتضح بجلءِ ،لَم ذكر ال سبحانه في اليات المتقدمة السراف والفساد في الرض
.وعدم الصلح ،في سياق واحد ومنسجم
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ الروم ،الية 1 41
.ـ العراف ،الية 2 96
.ـ راجع تفسير الميزان ،الجزء ،15الصفحة 333ـ 3 334
][432
اليات
ن)(154 صـِدِقي َ
ن ال ّت ِم َ شٌر ّمْثُلَنا َفأتِ ِبآَية ِإن ُكن َ ت ِإّل َب َ
ن)َ (153مآ َأن َ حِري َ سّ ن اْلُم َ
ت ِم َ
َقالوْا ِإّنَمآ َأن َ
ب َيْومعَذا ُخَذُكْم َ
سوء َفَيْأ ُ سوَها ِب ُ ب َيْوم ّمْعُلوم)َ (155وَل َتَم ّ شْر ُ ب َوَلُكْم ِ شْر ٌَقاَل َهِذِه َناَقٌة ّلَها ِ
ن أْكَثُرُهم
ك َلَيًة َوَما َكا َ ن ِفى َذِل َخَذُهُم اْلَعَذابُ ِإ ّ
ن)َ (157فَأ َ حوْا َنـِدِمي َ
صَب ُ
ظيم)َ (156فَعَقُروَها فَأ ْ عَِ
حيُم)159 ك َلُهَو الَعِزيُز الّر ِن َرّب َن)َ (158وِإ ّ )ّمْؤِمِني َ
الّتفسير
:عناد قوم صالح ولجاجتهم
لقد استمعتم إلى منطق صالح المتين والمحب للخير ،مع قومه المضلين ـ في اليات المتقدمة ـ
.والن لنستمع إلى جواب قومه في هذه اليات
حرين( فلذلك فقدت عقلك وتتكلم بكلمات غيرإنهم واجهوه بكلم خشن و )قالوا إّنما أنت من المس ّ
.موزونة ول معقولة
ثمّ بعد هذا كله )ما أنت إّل بشر مثلنا( وكل عاقل ل يبيح لنفسه أن يطيع
][433
.انسانًا مثله )فأت بآية إن كنت من الصادقين( لكي نؤمن بك ونتبعك
حر( مشتّقة من )السحر( ومعناها المسحور ،أي المصاب بالسحر ،إذ كانوا يعتقدون كلمة )المس ّ
ي صالحًاأن السحرة كانوا عن طريق السحر يعطلون عمل العقل ،وهذا القول لم يّتهم به النب ّ
فحسب ،بل اتهم به كثير من النبياء ،حتى أن المشركين اّتهموا نبّينا محّمدا)صلى ال عليه وآله
جْل ،إّنهم كانوا يرون معيار العقل أن يكون وسلم( به فقالوا) :إن تتبعون إّل رجل مسحورًا() .(1أ َ
النسان متوفقًا مع البيئة والمحيط ،فيأكل الخبز ـ مثل ـ بسعر يومه ،ويطّبق نفسه على جميع
المفاسد ...فلو أن رجل مصلحًا إلهّيا دعا الناس للقيام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة
حراعّدوُه ـ بحسب منطقهم ـ مجنونًا "مس ّ
".وإصلحهاَ ،
حرين" ،صرفنا النظر عنها لعدم مناسبتها ...وهناك احتمالت ُأخر في معنى "المس ّ
ن هؤلء المعاندين من قوم صالح ،طلبوا منه معجزًة ل من أجل معرفة الحق ،بل وعلى كل حال فإ ّ
حجة الواهية ،وعلى نبّيهم أن ُيتم الحجة عليهم ،فاستجاب لهم ـ وبأمر ال ـ قال) :هذه تذرعًا بال ُ
).ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم
و "الناقة" معروفة عند العرب ،وهي أنثى الجَمِل ،والقرآن لم يذكر خصائص هذه الناقة التي كان
لها حالة إعجازية ،إّل أنه ذكرها بنحو الجمال ...لكننا نعرف أّنها لم تكن ناقة كسائر النياق
سرين :كانت هذه الناقة بحالة من العجاز بحيث خرجت من الطبيعية ،فكما يقول جماعة من المف ّ
ي في يوم ،واليوم الخر لهل الحي "أو قلب الجبل .ومن خصائصها أّنها كانت تشرب ماء الح ّ
القرية" وهكذا دواليك ...كما أشارت الية آنفة الذكر إلى هذا المعنى ،ووردت الشارة إلى هذا
.المعنى في الية ) (28من سورة القمر أيضًا
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة الفرقان ،الية 1 8
][434
سرون لها خصائص ُأخر)1
).وقد ذكر المف ّ
وعلى كل حال ،كان على صالح)عليه السلم( أن ُيعلَمُهم أن هذه الناقة ناقة عجيبة وخارقة للعادة،
سوها بسوء وهي آية من آيات عظمة ال المطلقة فعليهم أن َيَدعوها على حالها ،وقال) :ول تم ّ
)...فيأخذكم عذاب يوم عظيم
وبديهي أن المترفين قوم صالح المعاندين كانوا يعلمون أن يقظة الناس ستؤدي إلى الضرار
بمنافعهم الشخصية فتآمروا على نحر الناقة) :فعقروها فأصبحوا نادمين() (2لّنهم رأوا انفسهم
.قاب قوسين من العذاب اللهي
ولما تجاوز طغيانهم الحّد ،وأثبتوا بأعمالهم أّنهم غير مستعدين لقبول الحق ،اقتضت إرادة ال
).ومشيئته أن يطهر الرض من وجودهم الملّوث )فأخذهم العذاب
وكما نقرأ في الية ) (78من سورة العراف ،والية ) (67من سورة هود ،ما جاء عن عذاب
ال لهم إجمال ...أن الرض ُزلزلت من تحتهم ليل ،فانتبهوا من نومهم وجثوا على الركب فما
أمهلهم العذاب وأخذتهم الرجفة والصيحة ،فاهتزت حيطانهم وهوت عليهم فأماتتهم جاثمين على
!...حالهم ففارقوا الدنيا بحال موحشة رهيبة
ويقول القرآن في ختام هذه الحادثة ما قاله في ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم
إبراهيم)عليه السلم( ،فيعّبر تعبيرًا بليغًا موجزًا يحمل بين ثناياه عاقبة أولئك الظالمين :إن في
قصة قوم صالح ،وفي صبره وتحمله واستقامته ومنطقه القويم من جهة ،وعناد قومه وغرورهم
وانكارهم للمعجزة البّينة ،والمصير
ــــــــــــــــــــــــــــ
...ـ لمزيد اليضاح في هذا الصدد يراجع تفسير الية ) (61من سورة هود 1
عقر( على زنة )ُقفل( ومعناها في الصل أساس الشيء 2 ـ كلمة )عقروها( مأخوذة من مادة ) ُ
.وجذره ،وقد تأتي بمعنى حز الرأس ،وتأتي بمعنى قطع الرجل من الحيوان ،وما إلى ذلك
][435
ن في ذلك لية وماكان أكثرهم مؤمنين
).السود الذي آلو إليه دروس وعبر) :إ ّ
أجْل ،ليس لحد أن يغلب رّبه; فما فوق قوته من قّوة!! وهذه القّوة وهذه القدرة العظيمة ل تمنع
)أن يرحم أولياءه ،بل أعداءه أيضًا) :وإن رّبك لهو العزيز الرحيم()1
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ل أن القرآن يعبر عن هذا الفعل 1
ـ تقول الروايات إن الذي قتل ناقة صالح كان واحدًا ل غير ...إ ّ
بصيغة الجمع )فعقروها( .وهذا التعبير لن الخرين كانوا راضين بعمله ويضمون أصواتهم إلى
ن العلئق الفكرية
صوته ،ويعتقدون بمعتقده ...وتنفتح نافذة من هنا على أصل اسلمي ،وهو أ ّ
والمذهبّية تجعل المنتمين إليها في صف واحد ،وتكون عاقبتهم واحدة .لمزيد اليضاح يراجع
...الية ) (65من سورة هود
][436
اليات
ن)
سوٌل َأِمي ٌ ن)ِ (161إّنى َلُكم َر ُ ط َأَل َتتُّقو َ خوُهْم ُلو ٌن)ِ (160إْذ َقاَل َلُهْم َأ ُ سِلي َ
ت َقْوُم ُلوط اْلُمْر َ َكّذَب ْ
ن) ب اْلَعـَلِمي َ
عَلى َر ّ ى ِإّل َجِر َ
ن َأ ْجر ِإ ْ ن َأ ْ
عَلْيِه ِم ْ
سَئُلُكْم َ
ن )َ(163وَمآ َأ ْ طيُعو ِ ل َوَأ ِ
َ (162فاّتُقوْا ا َّ
جُكم َبْل َأنُتْم َقْوٌم
ن َأْزَوا ِ
ق َلُكْم َرّبُكم ّم ْخَل َ
ن َما َ ن)َ (165وَتَذُرو َ ن اْلَعـَلِمي َ
ن ِم َ ن الّذْكَرا َ
َ(164أَتْأُتو َ
ن)166 عاُدو َ)َ
الّتفسير
:السفلة المعتدون
ب من حياته وحياة قومه المنحرفين في هذه السورة ـ هو "لوط")عليه ي ـ ورد جان ٌ
سادس نب ّ
صة إبراهيم)عليه
السلم( ،ومع أّنه كان يعيش في عصر إبراهيم الخليل ،إّل أنّ قصته لم تأت بعد ق ّ
السلم( ،لن القرآن لم يكن كتابًا تاريخيًا ليبّين الحوادث بترتيب وقوعها ...بل يلفت النظر إلى
صة لوط وما جرى لقومه تنسجم في حياة جوانبه التربوية البناءة ،والتي تقتضي تناسبًا آخر ...وق ّ
...النبياء الخرين الذين ورد ذكرهم في ما بعد
).يقول القرآن أّول في هذا الصدد) :كذبت قوم لوط المرسلين
][437
ن دعوة النبياء)عليهم السلم( واحدة ،فتكذيب الواحد ورود "المرسلين" بصيغة الجمع ،إّما ل ّ
ي نبي قبل لوط واقعًا وحقيقة
...منهم تكذيب للجميع ،أو أن قوم لوط لم يؤمنوا بأ ّ
ثّم يشير القرآن الكريم إلى دعوة لوط التي تنسجم مع دعوة النبياء الخرين الماضين ،فيقول) :إذ
).قال لهم أخوهم لوط أل تتقون
.ولحن كلماته وقلبه المتحرق لهم ،العميق في توّده إليهم ،يدل على أّنه بمثابة "الخ" لهم
ثّم أضاف لوط قائل) :إّني لكم رسول أمين( فلم تعرفوا عّني خيانة حتى الن ...وسأرعى المانة
.في إيصال رسالة ال إليكم أبدًا) ...فاتقوا ال وأطيعون(فأنا زعيمكم إلى السعادة والنجاة
ل) :ومان وراءها هدفًا ماّديا ،ك ّ
ن هذه الدعوة وسيلة اتخذها للحياة والعيش ،وأ ّ ول تتصوروا أ ّ
).أسألكم عليه من أجر إن أجري إّل على رب العالمين
ن أهم نقطة في ثّم يتناول بالنقد أعمالهم القبيحة ،وقسمًا من انحرافاتهم الخلقية ...وحيث أ ّ
انحرافاتهم ...هي مسألة اِلنحراف الجنسي ،لذلك فإّنه رّكز عليها وقال) :أتأتون الذكران من
!!العالمين( .فتختارون الذكور من بين الناس لشباع شهواتكم
أي ،إّنكم على الرغم مّما خلق ال لكم من الجنس المخالف "النساء" حيث تستطيعون أن تعيشوا
معهن بالزواج المشروع عيشًا طاهرًا هادئًا ،إّل أّنكم تركتم نعمة ال هذه وراءكم ،ولّوثتم أنفسكم
...بمثل هذا العمل القبيح المخزي
كما ويحتمل في تفسير هذه الية أن "من العالمين" جاء قيداً لقوم لوط أنفسهم ،أي إّنكم من دون
العالمين وحدكم المنحرفون بهذا النحراف والمبتلون به ...كما أن هذا الحتمال ينسجم مع بعض
التواريخ إذ يقال أن أّول أّمة ارتكبت
][438
اِلنحراف الجنسي "اللواط" بشكل واسع هي قوم لوط (1)،إّل أن الّتفسير الّول مع الية التالية ـ
.أكثر إنسجامًا
).ثّم أضاف قائل) :وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون
فالحاجة والغريزة الطبيعية ،سواًء كانت روحية أم جسمية لم تجّركم إلى هذا العمل النحرافي
...الشنيع ابدًا ،وإّنما جّركم الطغيان والتجاوز ،فتلوثتم وخزيتم به
إن ما تقومون به يشبه من يترك الثمر الطيب والنافع والسالم ،ويمضي نحو الغذاء المسموم
!الملّوث المميت ...فهذا الفعل ليس حاجة طبيعية ...بل هو التجاوز والطغيان
***
بحثان
ـ النحراف الجنسي انحراف مخجل 1
حجر والنبياء والنمل والعنكبوت ،إلى ما أشار القرآن في سور متعددة منه ـ كالعراف وهود وال ِ
كان عليه قوم لوط من الوزر الشنيع ...إّل أن تعابيره ـ في السور المذكورة آنفًا ـ يختلف بعضها
:عن بعض ...وفي الحقيقة إن كل تعبير من هذه التعابير يشير إلى ُبعد من أبعاد عملهم الشنيع
)ففي "العراف" نقرأ مخاطبة لوط إّياهم )بل أنتم قوم مسرفون(2).
وفي الية ) (74سورة النبياء يتحدث القرآن عن لوط فيقول) :ونجيناه من القرية التي كانت
).تعمل الخبائث انهم كانوا قوم سوء فاسقين
أّما في الية ـ محل البحث ـ فقد قرأنا مخاطبة لوط إياهم بقوله) :بل أنتم
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ في شأن انحراف هؤلء القوم ،يذكر التأريخ قصة يمكن مراجعتها في تفسير الية ) (81من 1
...سورة هود
.ـ سورة العراف ،الية 2 81
][439
).قوم عادون
".وجاء في الية ) (55من سورة النمل قوله لهم) :بل أنتم قوم تجهلون( "الية 55
كما جاء في الية ) (29من سورة العنكبوت على لسان لوط مخاطبًا إّياهم )إّنكم لتأتون الرجال
)وتقطعون السبيل(1).
وهكذا فقد ُذكر هذا العمل القبيح بعناوين "إسراف"" ،خبيث"" ،فسق"" ،تجاوز"" ،جهل"،
".و"قطع السبيل
ي" ذكر" السراف" من جهة أّنهم نسوا نظام الخلق في هذا المر ،وتجاوزوا عن الحد ،و"التعد ّ
.أيضًا لهذا السبب
ي عمل أقبح من هذا العمل الذي ُينَفرُ منه؟!و"الخبيث" هو ما ينفر منه طبع النسان السليم ،وأ ّ
الفسق" معناه الخروج عن الطاعة ـ طاعة ال ـ والتعري عن الشخصّية النسانية ،وهو من"
.لوازم هذا العمل حتمًا
!...و"الجهل" لعدم معرفتهم بعواقب هذا الفعل الوخيمة على الفرد والمجتمع
وأخيرًا فإن "قطع السبيل" هو النتيجة السيئة لهذا الفعل ،لّنه سيؤدي إلى انقطاع النسل عند
ن العلقة نحو الجنس المشابه ستحل محل العلقة نحو الجنس المخالف اتساع هذا الفعل ،ل ّ
).بالتدريج )كما هي الحال بالنسبة للواط والسحاق
.ـ العواقب الوخيمة للنحراف الجنسي 2
صل في أضرار هذا العمل بالرغم من بحثنا لهذا الموضوع في ذيل اليات 81ـ 83بحثًا مف ّ
القبيح ،إّل أنه ـ نظرًا لهميته ـ نرى هنا من اللزم أن نذكر
ــــــــــــــــــــــــــــ
سره آخرون 1ـ قيل أن المراد من )تقطعون السبيل( أي تقطعون سبيل الفطرة وتداوم النسل ،وف ّ
طاع طرق وسّراقان المراد هو أن قوم لوط كانوا ق ّ !...بأ ّ
][440
خر مضافًا إلى ما سبق
!مطالب ُأ َ
ي )محّمد()صلى ال عليه وآله وسلم( أنه قال" :ل يجد ريح الجّنة زنوق وهو في الحديث عن النب ّ
)المخنث"1).
)وفي حديث آخر عن المام علي)عليه السلم( أنه قال" :اللواط هو الكفر"2).
وفي حديث عن المام علي بن موسى الرضا في فلسفة تحريم اللواط والسحاق أنه قال" :علة
لناث ،لما ُركب في اِلناث وماطبع عليه الذكران ،ولما في إتيانتحريم الذكران للذكران ،واِلناث ل ِ
لناث من انقطاع النسل ،وفساد التدبير ،وخراب الدنيا"3). )الذكران الذكران ،واِلناث ل ِ
وهذه المسألة قبيحة جّدا في نظر اِلسلم بحيث جعل ـ في أبواب الحدود ـ حّدة القتل دون شك...
...حتى الذين يقومون بعمل أدنى من اللواط والسحاق جعل لهم عقابًا صارمًا
ففي حديث عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( أنه قال" :من قبل غلمًا من شهوة ،ألجمه ال
)يوم القيامة بلجام من نار"4).
...وعقوبة من يفعل مثل هذا الفعل تتراوح من ثلثين سوطًا إلى تسعة وتسعين سوطًا
وعلى كل حال ،فل شك أن النحراف الجنسي من أخطر النحرافات الجتماعية ...لّنه يلقي بظله
.المشؤوم على جميع المسائل الخلقية ،ويجر النسان إلى النحراف العاطفي
".وكان لنا بحث مفصل في هذا الصدد في ذيل الية 81من سورة هود"
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ بحار النوار ،الطبعة الجديدة ،ج ،79ص 1 67
.ـ المصدر السابق 2
.ـ المصدر السابق ،ص 3 64
.ـ بحار النوار ،ج ،79ص 4 72
][441
اليات
جّنى ب َن ِ
ن)َ (168ر ّ ن اْلَقاِلي َ
ن)َ (167قاَل ِإّنى َلَعَمِلُكم ّم َ جي َخَر ِن اُْلم ْن ِم َ ط َلَتُكوَن َّقاُلوْا َلِئن ّلْم َتنَتِه َيـُلو ُ
ن)ُ (171ثمّ َدّمْرَنا جوزًا ِفى الَغـِبِري َ ن)ِ (170إّل عَ ُ جَمِعي َجْيَنـُه َوَأْهَلُه َأ ْ
ن )َ(169فَن ّ َوَأْهِلى ِمّما َيْعَمُلو َ
ن َأْكَثُرُهم
ك َلَيًة َوَما َكا َن ِفى َذل َ ن)ِ (173إ ّ طُر اْلُمنَذِري َ
سآَء َم َ طرًا َف َ عَلْيُهم ّم َ طْرَنا َ ن)َ (172وَأْم َ اَْلخَِري َ
حيُم)175 ك َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِ ن َرّب َن )َ(174و ِإ ّ )ّمْؤِمِني َ
الّتفسير
:عاقبة قوم لوط
إن قوم لوط الغارقين بالغرور والمتمادية بهم رياح الشهوة ،بدل من أن يذعنوا لنصائح هذا القائد
اللهي ،فتدخل مواعظه في قلوبهم ويخلصوا من تلك المواج الرهيبة ،فإنهم نهضوا لمواجهتِه و
))...قالوا لئن لم تنتِه يا لوط لتكونن من المخرجين
إن كلمك ُيبلبل أفكارنا ،ويسلب اطمئناننا وهدوءنا ،فنحن غير مستعدين
][442
ن أقل ما تجزى به هو حتى للصغاء إلى كلمك ...وإذا واصلت هذا اُلسلوب ولم تنته منه ،فإ ّ
...البعاد والخراج من هذه الرض
ونقرأ في مكان آخر من القرآن أن قوم لوط سعوا لتنفيذ تهديدهم ،وأمروا بإخراج لوط وأهله،
).فقالوا) :أخرجوهم من قريتكم إّنهم ُاناس يتطّهرون
إن فعل هؤلء الضاّلين ـ بلغ بهم أن يعدوا التقوى والتطهر بينهم أكبر عيب ،وأن يفخروا بالرجس
!وعدم الطهارة ،وهذه هي العاقبة المشؤومة للمجتمع المسرع نحو الفساد
ن هذه الجماعة الفاسدة كانوا قد أخرجوا ُاناسًاويستفاد من عبارة )لتكونن من المخرجين( أ ّ
طاهرين من حّيهم فهّددوا لوطًا بهذا المر أيضًا ،وهو أنه إذا لم تنته فستنال ما ناله سواك من
...البعاد والخراج
صّرح في بعض التفاسير أّنهم كانوا ُيخرجون المتطهرين من القرية بأسوأ الحال)1 )...وقد ُ
ن لوطًا لم يكترث بتهديدهم ،وواصل نصحه لهم و )قال إّني لعملكم من القالين ).إّل أ ّ
إّنه يريد أن يقول :سأواصل انتقادي إّياكم ...فافعلوا ما شئتم ...فأنا ل أترك مواجهة هذه العمال
!...القبيحة بالعتراض والنقد
والتعبير بـ "من القالين" يدّل أيضًا على أن جماعة كانوا مثل الّنبي لوط يرفضون هذه العمال
.ويعترضون عليها ...رغم أن المنحرفين أخرجوهم من قريتهم آخر المر
ك" ومعناها العداوةشِر َ
قو َحَل َ
ي َ
ي( "على وزن ْ
كلمة "القاِلين" جمع "قال" من مادة )َقَلى( أو )َقِل َ
الشديدة التي تترك أثرها في قلب النسان ،وهذا التعبير
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير روح المعاني ،والّتفسير الكبير للفخر الرازي ،ذيل اليات محل البحث 1
][443
...يكشف عن شّدة تنّفر لوط من أعمالهم
والذي يسترعي النظر أن لوطًا يقول :إّني لعملكم من القالين .أي إّنني ل أعاديكم بأشخاصكم ،بل
ب لكم وغير قال لكم.أعادي أعمالكم المخزية ،فلو ابتعدتم عن هذا العمل الشنيع فأنا مح ّ
وأخيرًا لم تؤثر مواعظ لوط ونصائحه في قومه ،فبّدل الفساد مجتمعهم كّله إلى مستنقع عفن...
وتّمت الحجة عليهم بمقدار كاف ،وبلغت رسالة لوط مرحلتها النهائية ...فعليه أن يغادر هذه
جي من معه ممن استجاب دعوته ،لينزل عذاب ال على القوم الفاسقين المنطقة العفنة ،وأن ين ّ
).فيهلكهم ،فسأل لوط رّبه أن يخّلصه من قومه ،فقال) :رب نجني وأهلي مّما كانوا يعملون
ن بعضهم احتمل أن يكون المراد من الهل من الية جميع من آمن به ...إّل أن الية وبالرغم من أ ّ
(36)).من سورة الذاريات تقول) :فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين
ولكن كما أشرنا من قبل ـ فإن بعض التعابير الواردة في اليات محل البحث ،تشير إلى أن جماعة
...من المؤمنين به كانوا قد ُأبعدوا وُأخرجوا من القرية
ويستفاد مّما قيل ـ ضمنًا ـ أن دعاء لوط لهله لم يكن بسبب العلقة العاطفية والرتباط النسبي
...القرابتي ،بل ليمانهم به
جيناه وأهله أجمعين إّل عجوزًا في الغابرين(1).
)فاستجاب ال دعاؤه كما تقول الية التالية) :فن ّ
وهذه العجوز لم تكن سوى زوج الّنبي لوط التي كانت منسجمة مع أفكار قومه الضالين
.وعقيدتهم ،ولم تؤمن بلوط أبدًا ،ولذلك ابتليت بما ُأبتلي به قومه من العذاب والهلك
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "الغابر" من مادة )الغبور( ومعناه الباقي ،ومتى ما تحركتْ جماعة وبقي شخص في المكان 1
فإّنه يدعى )غابرًا( ولهذا السبب سمي التراب الباقي غبارًا ...والغبرة :الباقي من اللبن في ثدي
.الحيوان
][444
".وقد بّينا تفصيل هذا الموضوع في ذيل اليات " 81ـ 83من سورة هود
جى ال لوطًا والمؤمنين القّلة معه ،فأمر أن يخرج بهم ليل من تلك المدينة ـ أو القرية ـ جْل ،لقد ن ّ
أَ
فترك قومه الغارقين بالفسق والفجور على حالهم ،فنزل عذاب ال في الغداة ،فتزلزلت بهم
الرض وانهارت عليهم البنية والقصور الجميلة حتى اصبح عاليها سافلها وهلكوا جميعًا في
ديارهم ،وقد عّبر القرآن عن كان ذلك بعبارة موجزة بليغة ،فقال) :ثّم دمرنا الخرين( ولم يكف
ي مطر! إّنه وابل من احجار نزل على تلك الخرائب ليمحو أثرها ذلك بل )وأمطرنا عليهم مطرًا( وأ ّ
)!...من النظار) .فساء مطر المنذرين
...والمطار عادة تمنح الحياة ،إّل أن هذا المطر كان موحشًا مهلكًا مخّربا
ويستفاد من الية ) (82من سورة هود أن قرى قوم لوط ومدنهم ُقلب عاليها سافلها أّول ،ثّم
أمطرت بالحجر النضيد المتراكم ،ولعله كان إمطارهم بالحجارة لمحوا آثارهم ،فلم يبق منها غير
...تل كبير من الحجار والتراب بدل تلك المدن العامرة
ُترى هل كانت هذه الحجار قد حملت من الصحارى على أثر اعصار عظيم وسقطت على
!رؤوسهم؟ أو هي أحجار نزلت من السماء بأمر من ال عليهم؟
سرين كان هناك بركان أو جبل نار قد خمد لفترة ،ثّم انفجر بأمر ال أو كما يقول بعض المف ّ
ن هذه الحجار ـ أو فأمطرهم بالحجارة ،ليس ذلك معلومًا على نحو الدّقة! إّل أن من المسّلم به أ ّ
!هذا المطر المهلك ـ لم يترك للحياة في تلك الرض من أثر
وتفصيل هذا الموضوع ذكرناه في ذيل اليات 81ـ 83من سورة هود ،كما ذكرناه في الجزء"
"...الثامن مع "لطائف" مختلفة فل بأس بمراجعتها
صة الجملتين اللتين تكررتا في القصص المشابهة لها في ومّرة ُأخرى نواجه في نهاية هذه الق ّ
:هذه السورة ،في شأن خمسة أنبياء كرام آخرين ،إذ يقول القرآن
][445
ن في ذلك ليًة وما كان أكثرهم مؤمنين(
).إ ّ
وأّية آية أجلى من هذه الية التي تعرفكم على هذه المسائل المهّمة والبناءة ،دون أن تحتاجوا إلى
ن التجربة ينبغي تجربة شخصية! أجل إن تاريخ الماضين عبرة وآية للتين ،وليس تجربة ،ل ّ
على اِلنسان أن يتحمل فيها خسائر ليحصل على نتائجها ...إّل أنّنا هنا نحصل على النتائج من
!.خسائر الخرين
).وإن رّبك لهو العزيز الرحيم(
وأية رحمة أعظم من أّنه ل يعاقب أقوامًا فاسقين كقوم لوط فورًا ،بل يمهلهم إمهال كافيًا لعلهم
!...يهتدون ،ويجددوا نظرهم في أعمالهم
ف)ُ (1أسرة غير ف أل ِ
وأية رحمة أعظم من أن ل يخلط عقابه "الخضر باليابس" بل لو كان في أل ِ
!صالحة أسرة واحدة صالحة ،فإنه ينجيها منها وينزل العذاب على ُاولئك
وأية عّزة أعظم من أن ترى بطرفة عين واحدة ديار الفاسقين قد ُدمرت تدميرًا ولم يبق منها أي
!أثر
فالرض التي كانت مهادًا لمنهم أمرت بإقبارهم ،والمطر الذي تحيا به الرض والناس يكون
!مميتًا لهم
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ ذكرنا آنفًا أن مصطلح ألف ألف هو التعبير العربي الصحيح وأن كلمة مليون ليست عربّية بل 1
.هى غربية فتأمل
][446
اليات
الّتفسير
ب اليكة
:شعيب وأصحا ُ
صة السابعة ،والحلقة الخيرة من قصص النبياء الواردة في هذه السورة ...وهي
هذه هى الق ّ
.قصة "شعيب")عليه السلم( وقومه المعاندين
".كان هذا الّنبي يقطن في "مدين"" ،وهي مدينة تقع جنوب الشامات
".و "أيكة" على وزن )ليلة( "قرية أو أرض معمورة على مقربة من مدين
][447
.والية ) (79من سورة الحجر تدل على أن "أيكة" كانت تقع في طريق أهل الحجاز إلى الشام
).تقول الية اُلولى من اليات محل البحث) :كذب أصحاب اليكة المرسلين
ن دعوتهم واحدة ...أو لّنهم لم إّنهم لم يكذبوا نبّيهم شعيبًا فحسب ،بل كذبوا جميع النبياء ،ل ّ
ي رسالة سماوية أبدًا
...يصدقوا ويقبلوا بأ ّ
واليكة معناها في الصل محل مكتظ بالشجار ،وهي هنا إشارة إلى منطقة تقع على مقربة من
"مدين" ،سّميت بذلك لن فيها أشجارًا كثيرة وماًء وظلل! ...والقرائن تشير إلى أّنهم كانوا
!...منّعمين مترفين ذوي حياة مرفهة وثروة كثيرة ،ورّبما كانوا لهذه اُلمور غرقى الغرور والغفلة
).ثّم يتحدث القرآن إجمال عن شعيب)عليه السلم( وعنهم فيقول) :إذ قال لهم شعيب أل تتقون
وفي الحقيقة فإن دعوة شعيب)عليه السلم( انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر النبياء ،وهي
التقوى ومخافة ال التي تعّد أساس المناهج الصلحية والتغييرات الخلقية واِلجتماعية
...جمعاء
والجدير بالذكر أن التعبير "أخوهم" الوارد في قصص صالح وهود ونوح ولوط)عليهم السلم(،
لم ُيلحظ هنا .ولعل منشأ ذلك يعود إلى أن "شعيبًا" كان من أهل مدين أصل ـ وتربطه باهلها
روابط نسبية ،وليس كذلك مع اصحاب اليكة ...ولذلك نرى في سورة هود حين يشير القرآن إلى
إرسال "شعيب" إلى قومه من أهل مدين يقول) :وإلى مدين أخاهم شعيبًا( إّل أن الية محل البحث
لما كانت تتحدث عن أصحاب اليكة ،وشعيب)عليه السلم( ل تربطه رابطة نسبية بهم لم تذكر
"...التعبير "أخاهم
ثّم أضاف شعيب قائل) :إّني لكم رسول أمين فاتقوا ال وأطيعون(فطاعتكم
][448
.لي طاعة ل
).واعلموا أّني أبتغي ثوابه ووجهه )وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إّل على رب العالمين
وهذه التعابير هي التعابير ذاتها التي دعا بها سائر النبياء ُأَممهم ،فهي متحدة المآل ومدروسة،
إذ تدعو إلى التقوى ،وتؤّكد على سابقة أمانة الّنبي بين قومه ،كما أّنها تؤّكد على أن الهدف من
ي من النبياء بما في يدالدعوة إلى ال معنوي فحسب ،وليس ورائها هدف مادي ،ول يطمع أ ّ
!الخرين ،ليكون مثارًا للشكوك وذريعًة للمتذرعين
و "شعيب" كسائر النبياء الذين ورد جانب من تأريخ حياتهم في هذه السورة ،فهو يدعو قومه
بعد الدعوة العاّمة للتقوى وطاعة ال ،إلى إصلح انحرافاتهم الخلقية والجتماعية وينتقدهم
على هذه النحرافات ،وحيث أن أهم انحراف عند قومه كان الضطراب القتصادي ،والستثمار
والظلم الفاحش في الثمان والسلع ،والتطفيف في الكيل ،لذلك فقد اهتم بهذه المسائل أكثر من
غيرها ،وقال لهم) :أوفوا الكيل ول تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس)(1المستقيم ول
).تبخسوا الناس أشياءهم ول تعثوا في الرض مفسدين
وفي هذه اليات الخيرة الثلث يأمر شعيب هؤلء القوم الضالين بخمسة أوامر في عبارات
سرين أن هذه العبارات بعضها يؤّكد بعضًا ،إّل أن التدقيق فيها يدّل موجزة ،ويتصور بعض المف ّ
على أن هذه الوامر الخمسة في الواقع تشير إلى خمسة مطالب أساسية ومختلفة ،أو بتعبير آخر:
!...هي أربعة أوامر ونتيجة كلّية
ولكي يّتضح هذه الختلف أو التفاوت ،فإنه يلزم اللتفات إلى هذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "القسطاس"" ،على وزن ِنسناس" معناه "ميزان" ...قال بعضهم :أصل هذه الكلمة رومّية1 ،
وقال بعضهم .بل هي عربية ،ويعتقد بعضهم أن القسطاس ميزان كبير ،أما الميزان نفسه
المستعمل في لغة العرب فهو الصغير ،وقالوا :إن للقسطاس مؤشرًا ولسانًا فهو لذلك دقيق
!...الوزن
][449
الحقيقة ...وهي أن قوم شعيب )أهل مدين وأصحاب اليكة( كانوا مستقرين في منطقة حساسة
تجارية ،وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام ،أو العائدة من الشام إلى الحجاز،
خر
.ومن مناطق ُأ َ
ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في اثناء الطريق إلى ُأمور كثيرة ...وطالما يسيُء أهل
المنطقة الستفادة من هذه الحالة ،فهم يستغلونها فيشترون بضائعهم بأبخس ثمن ...ويبيعون
عليهم المستلزمات بأعلى ثمن "وينبغي اللتفات إلى أن أكثر المعاملت في ذلك الحين كانت قائمة
"...على أساس المعاوضة سلعة بسلعة
وربما تذرعوا عند شراء البضاعة بأن فيها عدة عيوب ،وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عّرفوها
بأحسن التعاريف ،وعندما يزنون لنفسهم يستوفون الوزن ،وإذا كالوا الخرين أو وزنوا لهم ل
يهتمون بالميزان الصحيح والستيفاء السليم ،وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه اُلمور
!...على كل حال ومضطر إليها ،فل بد له من أن يقبلها ويسكت عليها
ن أهل المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل وبغض النظر عن القوافل التي تمّر عليهم ،فإ ّ
.ببضائعهم مع هؤلء المطففين ،وليسوا بأحس حظًا من أصحاب القوافل أيضاً
فقيمة المتاع سواًء كان الجنس يراد بيعُه أو شراؤة تتعين بحسب رغبة الكسبة هؤلء .والوزن
والمكيال على كل حال بأيديهم ،فهذا المسكين المستضعف عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد
!غاسله
ومع ملحظة ما ذكرناه آنفًا ،نعود الن إلى تعابير اليات المختلفة ...فتارة يقول شعيب لقومه:
أوفوا الكيل ،وفي مكان آخر يقول :زنوا بالقسطاس المستقيم ،ونعرف أن تقويم الجناس
والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن ،فهو يشير الى كل واحد منهما ويهتم به اهتمامًا
خاصًا ...لمزيد التأكيد على أن ل يبخسوا الناس
][450
...أشياءهم
ن التطفيف أن بخس الناس له طرق شتى ،فتارًة يكون الميزان صحيحًا إّل صاحبه ل يؤدي ثّم إ ّ
حقه ،وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان ...فهو يغش صاحبه بما فيه من عيب ،وقد جاءت
.الشارات في اليات النفة إلى جميع هذه اُلمور
وبعد اتضاح هذين التعبيرين )وأوفوا الكيل ...وزنوا القسطاس( نأتي الى معنى )ل تبخسوا(
المأخوذة من "البخس" ،وهو في الصل النقص ظلمًا من حقوق الناس ...وقد يأتي أحيانًا بمعنى
الغش أو التلعب المنتهي إلى تضييع حقوق الخرين ...فبناًء على ما تقدم ،فإن الجملة النفة
)ول تبخسوا الناس أشياءهم( لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل،
!والتلعب في المعاملت ،وغمط حقوق الخرين
وأّما جملة )ول تكونوا من المخسرين( فمع ملحظة أن "المخسر" هو من يوقع الخر أو الشيء
في الخسران ...فمعناه واسع أيضًا ،إذ يشمل بالضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن
!يكون سببًا للخسارة وإيذاء الطرف الخر في المعاملة
ن جميع ما ُذكر من الستغلل وسوء اِلستفادة والظلم ،والمخالفة في المعاملة والغش وهكذا فإ ّ
...والخسار ،سواءًا كان ذلك في الكمية أو الكيفية ،كله داخل في التعليمات آنفة الذكر
ن شعيبًاوحيث أن الضطراب القتصادي ،أو الزمة القتصادية ،أساس ل ضطراب المجتمع ،فإ ّ
يختتم هذه التعليمات بعنوان جامع فيقول) :ول تعثوا في الرض مفسدين( .فتجّروا المجتمع الى
هاوية الفساد والنحطاط ،فعليكم أن تضعوا حّدا لي نوع من الستثمار والعدوان وتضييع حقوق
.الخرين
،وهذه التعليمات ليست بناءة للمجتمع الثري الظالم في عصر شعيب فحسب
][451
!...بل هي بناءة ونافعة لكل عصر وزمان ،وداعية إلى العدالة القتصادية
ثّم إن "شعيبًا" في آخر تعليماته ـ في هذا القسم ـ يدعوهم مرد ُاخرى إلى تقوى ال فيقول:
)).واتقوا الذي خلقكم والجبلة الولين
خلقوا على هذه الرض ،فآباؤكم والمم اُلخرى جاءوا وذهبوا ،فل فلستم أول قوم أو جماعة ُ
...تنسوا ماضيهم وما تقبلون عليه
الجبلة" مأخوذة من )الجبل( وهو معروف "ما ارتفع من الرض كثيرًا" ويسمى الطود أحيانًا(...
...فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في العظمة
!قال بعضهم :الجبلة مقدار عددها عشرة آلف
...كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة النسانية ،لّنها ل تتغير ،كما أن الجبل ل يتغّير عادًة
والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أن شعيبًا يقول :إّنما أدعوكم إلى ترك الظلم والفساد ،وأداء حقوق
ن ذلك موجود في داخل الفطرة النسانية منذ الخلق الّول ،وأنا جئتكم الناس ورعاية العدل ،ل ّ
...لحياء هذه الفطرة
إّل أّنه ـ وللسف ـ لم تؤثر كلمات هذا الّنبي المشفق ،فأجابوه بمنطق "ُمّر وفظ" سنقرؤه في
...اليات المقبلة
***
][452
اليات
سِق ْ
ط ن)َ (186فَأ ْ ن اْلَكـِذِبي َ
ك َلِم َ
ظّن َ
شٌر ّمْثُلَنا َوِإن ّن ُ
ت ِإّل َب َن)َ (185وَمآ َأن َ حِري َ سّ ن اْلُم َ ت ِم َ
َقاُلوْا ِإّنَمآ َأن َ
ن )َ(188فَكّذُبوُه عَلُم ِبَما َتْعَمُلو َ
ن)َ (187قاَل َرّبى َأ ْ صـِدِقي َ
ن ال ّت ِم َسَمآِء ِإن ُكن َ ن ال ّ سفًا ّم َ
عَلْيَنا ِك َ
َ
ن َأْكَثُرُهم
ك َلَيًة َوَما َكا َ ن ِفى َذِل َظيم)ِ (189إ ّ عِ ب َيْوم َ عَذا َ
ن َ ظّلِة ِإّنُه َكا َ
ب َيْوِم ال ّعَذا ُخَذُهْم َ َفَأ َ
حيُم)191 ك َلُهَو اْلَعِزيُز الّر ِن َرّب َن)َ (190وِإ ّ )ّمؤِْمِني َ
الّتفسير
:عاقبة الحمقى
لما رأى قوم شعيب الظالمون ـ أّنهم ل يملكون دليل ليواجهوا به منطقه المتين ...ومن أجل أن
.يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم ،رشقوه بسيل من الُتهم والكاذيب
فالتهمة اُلولى هي ما يلصقها الجبابرة دائمًا والمجرمون بالنبياء ،وهي
][453
حرين() (1ولُيرى في كلمك ما هو منطقي!! السحر فاّتهموه بها و )قالوا إّنما أنت من المس ّ
!!وتظن أّنك بهذا الكلم تستطيع تقييد حريتنا في التصرف في أموالنا كما نشاء
ثّم ما الفارق بينك وبيننا لنّتبعك؟! ول مزّية لك علينا )وما أنت إّل بشر مثلنا وإن نظّنك لمن
).الكاذبين
وبعد إلقاء هذا الكلم المتناقض ،إذ تارًة يدعونه )من الكاذبين( ورجل انتهازيًا ،وتارًة يدعونه
حرين ،وكان كلمهم الخير هو :إن كنت نبّيا )فاسقط علينا كسفًا من السماء مجنونًا أو من المس ّ
.إن كنت من الصادقين( حيث كنت تهددنا دائمًا بهذا اللون من العذاب
سَفة( على وزن )قطعة( ومعناها قطعة أيضًا والمراد من هذه سف" على وزن )ِفَرق( جمع )ِك ْ و "ِك َ
"...القطع من السماء" هي قطع الحجار التي تهوي من السماء
وهكذا يبلغ بهم صلفهم ووقاحتهم وعدم حيائهم إلى هذه الدرجة ،وأظهروا كفرهم وتكذيبهم في
.أسوأ الصور
إّل أن شعيبًا)عليه السلم( ،وهو يواجه هذه التعبيرات غير الموزونة والكلمات القبيحة وطلبهم
)...عذاب ال ،كان جوابه الوحيد لهم أن )قال رّبي أعلم بما تعملون
ن المر خارج عن يدي ،وأن إنزال العذاب وإسقاط الكسف من السماء غيُر مخول و يشير إلى أ ّ
بها ليطلب كل ذلك مّني ...فال يعرف أعمالكم ويعلم بها ،وما أنتم أهل له ،فمتى لم تنفع المواعظ
ن عذابه ل مرد له وسيقطع دابركم ل محالة جة اللزمة ،فإ ّ !...وتّمت الح ّ
وهذا التعبير وأمثاله مّما يرُد على لسان النبياء ،وما نلحظُه في آيات
ــــــــــــــــــــــــــــ
حر" كما أشرنا من قبل إليه ،هو المسحور ...أو الذي يقع عليه السحر من قبل 1 ـ "المس ّ
عقِله ويبطلوا عملهحرة ،لينفذوا في َ سَ !!ال َ
][454
القرآن يدل على أّنهم كانوا يوكلون جميع اُلمور إلى ال ،وإّنها بإذنه وأمره ،ولم يّدعوا أّنهم
!.قادرون على كل شيء ،أو أّنهم يفعلون ما يشاءون
وعلى كل حال فإن عذاب ال أزف موعده ـ وكما يعبر القرآن عنه في الية التالية قائل) :فكذبوه
).فأخذهم عذاب يوم الظّلة إنه كان عذاب يوم عظيم
...الظلة" في الصل معناها القطعة من السحاب المظّلل :أي ذي الظل"
سرين في ذيل هذه الية :إن حّرا شديدًا محرقًا حّل في أرضهم سبعة أّيام ،ولم يقول أغلب المف ّ
يهب نسيم بارد مطلقًا ،فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء ـ بعد السبعة أّيام ـ وتحرك نسيم
.عليل فخرجوا من بيوتهم ،واستظّلوا تحت السحاب من شّدة الحّر
وفجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل ،واحرقتهم بنارها وزلزلت الرض
.وهلكوا جميعًا
ونعرف أن الصاعقة تنتج عن تلقح القوى أو "الطاقة" الموجبة والسالبة ،أو ما يعبر عنها
بالشحنات الكهربائية وحين تتلقح هذه الشحنات بين السحاب والرض ينتج عنها صوت مرعب
وشعلة موحشة ،وقد تهتز الرض عند وقوعها فيتزلزل محل سقوطها ...وهكذا يّتضح أن اختلف
التعابير في آيات القرآن الواردة عن عذاب قوم شعيب ،يعود إلى حقيقة واحدة! ففي سورة
العراف جاء التعبير بالرجفة )الية ) (91وفي سورة هود جاء التعبير بالصيحة )الية (94أّما
)...في اليات محل البحث فقد جاء التعبير بـ )عذاب يوم الظلة
سرين "كالقرطبي والفخر الرازي وغيرهم" يحتمل أن أصحاب اليكة ن بعض المف ّ وبالرغم من أ ّ
وأهل مدين كانوا جماعتين أو طائفتين ،وكل طائفة نزل عليهم عذاب خاص ،إّل أنه مع ملحظة
!...هذه اليات المتعلقة بهذا القسم ـ بدقة ـ يتجّلى أن هذا اِلحتمال غير وارد
ختمت القصص الست السابقة عن أنبياء ال الكرام ،إذ صة هذه بما ُ وُتختتم الق ّ
][455
يقول القرآن :إن في حكاية أصحاب اليكة ودعوة نبّيهم شعيب وعنادهم وتكذيبهم ،وبالتالي نزول
).العذاب على هؤلء المتكبرين درس وعبرة لمن اعتبر )إن في ذلك ليًة وما كان أكثرهم مؤمنين
ومع ذلك كله فإن ال رحيم ودود يمهلهم لعلهم يرجعون ويصلحون أنفسهم ،فإذا تماُدْوا في الغي
.واستوجبوا عذاب ال ،أخذهم أخذ عزيز مقتدر
).أجل )وإن رّبك لهو العزيز الرحيم
***
بحوث
عوات النبياء 1
ـ النسجام التام في َد َ
في ختام قصص هؤلء النبياء السبعة نجة أن هذه القصص تشّكل حلقة كاملة من حيث الدروس
التربوية ...وينبغي أن نلتفت إلى هذه "اللطيفة") (1وهي أن قصص هؤلء النبياء جميعًا جاءت
خر من القرآن أيضًا .إّل أنها لم ُتعَرض بهذا العرض بحيث نجد أن بداية دعوتهم في سور ُأ َ
ن نهاياتها منسجمة أيضًا.منسجمة ،كما أ ّ
ولوحظ في خمسة أقسام من هذه الِقصص أن محتوى الدعوة هو تقوى ال ،ثّم الشارة إلى أمانة
الّنبي ،وعدم مطالبته قومه بالجر على تبليغه إّياهم ...وبعد هذه المسائل تعالج المسائل
...الجتماعية ،والنحرافات الخلقية ،من قبل النبياء بلغة تنّم عن الشفاق والمحبة
ثّم يبّين القرآن رّد فعل اُلمم المنحرفة تجاه أنبيائهم ،وأخيرًا عاقبتهم الوخيمة ،ويذكر عذاب كل
...منهم وكيفيته
ــــــــــــــــــــــــــــ
ق وهي الشيء الخفي الذي يحتاج إلى دقة لدراكه) .المصحح 1
)ـ اللطيفة ،مّما لطف ود ّ
][456
...وفي نهاية كل من هذه القصص السبع يشير القرآن إلى أن في ذلك آية وأن أكثرهم ل يؤمنون
صة منها على قدرة ال )وعزته( ورحمته .ثّم يؤّكد القرآن أيضًا في نهاية كل ق ّ
وهذا النسجام ـ قبل كل شيء ـ يدّل على تجلي مفهوم وحدة دعوات النبياء ،بحيث كانوا ذوي
منهج واحد وبداية واحدة ونهاية واحدة ...وجميعهم كانوا معلمي مدارس النسانية ...وبالرغم
ن اُلصول ن محتوى هذه المدارس كان ينبغي أن يتغّير بتقدم الزمن والمجتمع النساني ،إّل أ ّ من أ ّ
.والنتائج تبقى على حالها
ثّم بعد هذا كله ،فإن هذه القصص كانت تسّري عن قلب الّنبي والمؤمنين القّلة في ذلك العصر
)والمؤمنون في كل عصر( وتسّلي خاطرهم ،لئل يحزنوا وييأسوا من كثرة المشركين والعداء
...الضالين ،وأن يثقوا ويتوقعوا العاقبة لهم ...وأن يكون أملهم بذلك كبيرًا
ن عذابكما أن ذلك إنذار للجبابرة والمستكبرين والظالين ـ في كل عصر وزمان ـ لئل يتصوروا بأ ّ
ال بعيد عنهم ...العذاب بأنواعه كالزلزلة والصاعقة ،والطوفان والبركان ...وانشقاق الرض
والخسف ،والمطار الغزيرة التي تعقبها السيول المدّمرة ،والنسان المعاصر ضعيف أمامها
كضعف النسان الغابر ...لن النسان المعاصر ـ بالرغم من جميع قواه وتقدمه الصناعي عاجز
!...أمام الطوفان والصاعقة والزلزلة ...ويبقى ضعيفًا ل حول له ول طول
كل ذلك من أجل أن الهدف من قصص القرآن هو تكامل الناس وبلوغهم الرشد ،والهدف تنوير
ن الهدف هو مواجهة الظلم والنحراف ...القلوب ومعالجة الهوى بالتعّقل ...وأخيرًا فإ ّ
][457
:ـ التقوى ،بداية دعوة النبياء جميعًا 2
مّما يلفت النظر أن قسمًا مهمًا من قصص هؤلء النبياء ـ الوارد ذكرهم في سورة الشعراء ـ ذكر
في سورة هود والعراف ،إّل أن في بداية ذكرهم وبيان سيرتهم في اقوامهم الدعوة إلى وحدانية
!)ال ـ عادًة ـ وُيبتدأ في تلك السور عند ذكرهم .بجملة )يا قوم اعبدوا ال مالكم من إله غيره
إّل أّنه في هذه السورة )الشعراء( ـ كما لحظنا ـ كانت بداية دعوتهم قومهم )أل تتقون( ...والحق
أّنهما تعودان إلى نتيجة واحدة ...لّنه إذا لم ُتوجد في النسان أدنى مراتب التقوى ،وهي طلب
الحق ،فإنه ل يؤثر فيه شيء ،ل الدعوة إلى التوحيد ول غيرها ...لذا فإّننا نقرأ في بداية سورة
).البقرة قوله تعالى) :ذلك الكتاب ل ريب فيه هدى للمتقين
ن التقوى لها مراحل ـ أو مراتب ـ وكل مرتبة هي درجة للرقي إلى المرحلة التالية أو وبالطبع فإ ّ
...المرتبة اُلخرى
كما نلحظ اختلفًا آخر بين هذه السورة وسورتي العراف وهود ،ففي سورتي العراف وهود
خر فكانت تحت الشعاع ،إّل أنه في كانت دعوة النبياء تتركز على نبذ الصنام ،أّما المسائل اُل َ
سورة الشعراء هذه تتركز الدعوة على مكافحة النحرافات الخلقية والجتماعية ،كالمفاخرة
وطلب الستعلء ،والسراف ،والنحراف الجنسي ،والستثمار والتطفيف .إلخ ...وهذا المر
!يكشف بأن تكرار هذه القصص في القرآن له حساب خاص ،ولكّل هدف معين يعرف من السياق
***
][459
اليات
ن)
ن اْلُمنِذِري َن ِم َ ك ِلَتُكو َ
عَلى َقْلِب َ
ن )َ (193
ح اَْلِمي ُن)َ (192نَزَل ِبِه اّلرو ُ ب اْلَعـَلِمي َ
َوِإّنُه َلَتنِزيُل َر ّ
ن)َ (196أَوَلْم َيُكن ّلُهْم َءاَيًة َأن َيْعَلَمهُ
ى ّمِبين )َ(195وِإّنُه َلِفى ُزُبِر اَْلّوِلي َعَرِب ّسان َ ِ (194بِل َ
سرِءيَل)197 عَلَمـُؤْا َبِنى ِإ ْ
)ُ
الّتفسير
ب "السابقين"1). )عظمة القرآن في ُكُت ِ
بعد بيان سبع قصص عن النبياء السابقين ،والعبر الكامنة في تأريخ حياتهم ،يعود القرآن مرة
أخرى إلى البحث الذي شرعت به السورة ،بحث عظمة القرآن وحقانية هذا الكلم اللهي المبين،
ب العالمين
).إذ يقول) :وإّنه لتنزيل ر ّ
وأساسًا فإن بيان جوانب مختلفة عن سير النبياء السابقين بهذه الدقة والظرافة ،والخو من أي
نوع من الخرافات والساطير الكاذبة ،وفي محيط مليء بالساطير والخرافات ،ومن ِقَبِل إنسان ل
يعرف القراءة والكتابة ،أو لم يسبق له
ــــــــــــــــــــــــــــ
).ـ كلمة "السابقين" نعت ومنعوته محذوف وتقديره النبياء )المصحح 1
][460
ب العالمين ،وهذا نفسه دليل
أن تعلمهما ...كل ذلك بنفسه دليل على أن هذا الكتاب تنزيل من ر ّ
!!على إعجاز القرآن
).لذلك تضيف الية التالية قائلًة) :نزل به الروح المين
ولو كان القرآن لم ُينزله ملك الوحي "الروح المين من ِقَبِل ال" لم يكن بهذا الشراق والصفاء
...والخلو من الخرافات والساطير والباطيل
ومّما يلفت النظر أن ملك الوحي وصف بوصفين في الية :الّول أّنه الروح ،والوصف الّثاني أّنه
...المين
!...فالروح هي أساس الحياة ،والمانة ،هي شرط أصيل في الهداية والقيادة
)أجل ،إن هذا الروح المين نزل بالقرآن )على قلبك لتكون من المنذرين(1).
فالهدف هو أن تنذر الناس ،وأن تحذرهم من مغبة النحراف عن التوحيد ،ليحذروا من سوء
العاقبة ...إن الهدف من بيان تأريخ السالفين لم يكن مجّرد شرفًا فكريًا ولملء الفراغ ،بل إيجاد
!...الحساس بالمسؤولية واليقظة ،والهدف هو التربية وبناء شخصية النسان
ي مبين ن القرآن ُأنزل )بلسان عرب ّ جة لحد ول عذر ،فإ ّ)...ولئل تبقى ح ّ
فهذا القرآن نازل بلسان عربي فصيح ،خال من البهام ،للنذار واليقاظ ،ول سيما أنه نزل في
...محيط يتذرع أهله بالحجج الواهية ،نزل بليغًا واضحًا
...هذا اللسان العربي هو أكمل اللسنة واللغات وأغناها أدبًا ومقامًا
والجدير بالذكر أن أحد معاني "عربي" هو ذو الفصاحة والبلغة ـ بقطع النظر عن كيفية اللسان،
...وكما يقول الراغب في المفردات :العربي :الفصيح البّين من الكلم
وفي هذه الصورة فإنه ليس المعّول على لسان العرب ،بل الساس صراحة
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ واضح ـ هنا ـ أن المراد من القلب هو روح الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ،ل القلب الذي 1
خة للدم ...وانتخاب هذا التعبير إشارة إلى أّنك يا رسول ال استوعبت القرآن بروحك يعّد مض ّ
.وقلبك ،وهذه المعجزة السماوية مقّرها قلبك
][461
القرآن ووضوح مفاهيمه ،واليات التالية تؤية هذا المعنى ،كما جاء في الية ) (44من سورة
).فصلت )ولو جعلناه قرءانًا أعجمّيا لقالوا لول فصلت آياته
!...فالمراد من العجمي هنا هو االكلم غير الفصيح
)والية التالية تشير إلى دليل آخر من دلئل حقانية القرآن فتقول) :وإنه لفي ُزبِر الولين(1).
صة أن أوصاف هذا الّنبي العظيم وأوصاف هذا الكتاب السماوي الخالد ،جاءت في توراة وخا ّ
موسى)عليه السلم( بحيث أن علماء بني إسرائيل كانوا يعرفون كل ذلك ،حتى قيل أن إيمان
قبيلتي الوس والخزرج بالّنبي محمد)صلى ال عليه وآله وسلم( كان على أثر ما كان يتوقعة
..علماء اليهود عن ظهور هذا الّنبي العظيم ،ونزول هذا الكتاب السماوي الكريم
ن القرآن يضيف هنا قائل) :أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ).لذا فإ ّ
وواضح أنه مع وجود ُاولئك العلماء من بني إسرائيل في ذلك المحيط المليء بالمشركين ،لم يكن
..من الممكن أن يتحدث القرآن عن نفسه "جزافًا" واعتباطًا
لّنه كان سيرّد عليه من كل حدب وصوب بالنكار ،وهذا بنفسه دليل على أن هذا الموضوع كان
جلّيا في ذلك المحيط ،بحيث لم يبق مجال للنكار حين نزول اليات ـ محل البحث ـ
ونقرأ في الية ) (89من سورة البقرة أيضًا) :وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما
).جاءهم ما عرفوا كفروا به
ي على صدق آيات القرآن وحقانية دعوته !...وكل هذا شاهد جل ّ
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "الزبر" جمع :زبور ومعناه الكتاب ،وهو في الصل من مادة )زبر( على وزن )أسر( اي 1
...كتابة
][462
اليات
الّتفسير
...لو ُنّزل القرآن على العاجم
في هذه اليات يتكلم القرآن على واحدة من الذرائع الحتمالية من قبل الكفار وموقفه منها،
ويستكمل البحث السابق في نزول القرآن بلسان عربي مبين ،فيقول) :ولو نزلناه على بعض
).العجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين
قلنا سابقًا أن كلمة "عربي" قد يراد منها من ينتمي إلى العرب ،وقد تطلق على الكلم الفصيح
أيضًا .و"عجمي" في مقابل العربي كذلك له معنيان ،فقد ُيراد منه من ينتمي إلى غير العرب ،وقد
يراد منه الكلم غير الفصيح ،وكل المعنيين في الية النفة محتمل ،إّل أن الحتمال الكثر هو أن
.المقصود غير العرب ،كما يبدو
بعض العرب ممن يتمسك بالعرقية ويعبد القومية كانوا متعصبين الى درجة
][463
ن القرآن نزل على عربي شريف من بحيث لو نزل القرآن على غير العرب لما آمن به ورغم أ ّ
أسرة كريمة ،في بيان رائع رائق بليغ وقد بشرت به الكتب السماوية السابقة ...وشهد بذلك
علماء بني إسرائيل ،ومع ذلك كّله لم يؤمن به الكثير من العرب ،فكيف إذا كان نبّيهم ليس فيه أية
!...صفة من الصفات المذكورة
).ثّم تضيف الية لمزيد التأكيد) :كذلك سلكناه في قلوب المجرمين
في بيان بليغ وبلسان رجل من بينهم ،وهم يعرفونه ويعرفون سيرته وأخلقة ...وبمحتوى بشرت
به الكتب السماوية السابقة ...والخلصة ...إننا نسلكه بجميع هذه الوصاف في قلوب المجرمين
ليكون مقبول سهل مطبوعًا إّل أن هذه القلوب المرضى تمتنع عن قبوله ...فمثله كمثل الطعام
.الطيب النافع الذي تلفظه المعدة السقيمة
التعبير "سلكناه" من مادة )سلوك( ومعناه العبور من الطريق ،فيرد فيه من طرف ويخرج من(
)آخر
ولذلك تقول الية) :ل يؤمنون به حتى يروا العذاب الليم( أي إن هؤلء المجرمين المعاندين،
...يظلون على حالهم حتى نزول العذاب
سرين في تفسير الية أن المراد من )كذلك سلكناه في قلوب المجرمين( هو أننا واحتمل بعض المف ّ
.أدخلنا العناد واللجاجة والعصبية وعدم التأثير في قلوب المجرمين ،بسبب ذنوبهم وجرمهم
).وطبقًا لهذا المعنى فالية محل البحث تشبه الية )ختم ال على قلوبهم()1
سرين.إّل أن الّتفسير الّول أكثر انسجامًا مع اليات السابقة واللحقة ،لذلك فقد اختاره أغلب المف ّ
))2
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة البقرة ،الية 1 7
ـ في عدد من اليات المتقدمة وردت خمسة ضمائر مفردة في الجمل التالية" :نزلناه"" ،قرأه"2 ،
"ما كانوا به"" ،سلكناه"" ،ل يؤمنون به" ،وهي تعود على القرآن طبقًا للتفسير الّول ،وطبقًا
للتفسير الّثاني فإن بعضها يعود على القرآن ،وبعضها على العناد من قبل المشركين ،وهذا المر
!مع عدم وجود القرينة مشكل
][464
)أجل ،إّنهم ل يؤمنون حتى يروا العذاب )فيأتيهم بغتًة وهم ل يشعرون(1).
ل شك أن المراد من هذا العذاب الذي يأخذهم بغتًة ،هو عذاب الدنيا والبلء المهلك وعقاب
!...الستئصال
ن القرآن يحكي عن حالهم فيقول :إّنهم في هذه الحال يرجعون إلى أنفسهم ،ويندمون على لذا فإ ّ
أفعالهم ،ويتملكهم الخوف من المصير المرعب ،ويودون بأن يعطوا فرصة لجبران ما فات
)...واليمان بالرسالة اللهية) :فيقولوا هل نحن منظرون
***
بحوث
!...ـ العصبية القومية والقبلية الشديدة 1
ل شك أن كل إنسان يرتبط بأرض أو قبيلة أو قومية فإّنه يعشقها ،وهذه العلقة بالرض أو
القبيلة ،ليست غير معيبة فحسب ،بل هي عامل بّناء لبناء المجتمع ،إّل أن لهذا المر حدودًا ،فلو
.تجاوز الحدود فإنه سينقلب إلى عامل مخرب ،ورّبما إلى عامل مفجع
والمراد من التعصب أو العصبية القومية أو القبلية المذمومة والسلبية ،هو الفراط في التعصب
...أو العصبية
التعصب" و "العصبية" في الصل من مادة )عصب( ومعناه واضح ،وهو الغضروف الذي يربط"
المفاصل ،ثّم أطلق التعصب والعصبية على كل ارتباط ...إّل أن هذا اللفظ أو هذين اللفظين
.يستعملن عادة في المفهوم الفراطي المذموم
إن الدفاع المفرط عن القوم أو القبيلة أو الرض والوطن ،كان مصدرًا لكثير
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ ينبغي اللتفات إلى أن جملة "فيأتيهم" منصوبة ومعطوفة على "حتى يروا" ،وينبغي بيان 1
.معناها بهذه العلقة
][465
من الحروب على طول التاريخ ،وعامل على انتقال الخرافات والتقاليد السيئة على أنها آداب
خر
!وسنن في قبيلة ما أو ُاّمة ما! إلى ُامم ُأ َ
هذا الدفاع أو النتماء المتطرف ،قد يبلغ حدًا بحيث يرى أسوأ أفراد قبيلته في نظره جميل،
وأحسن أفراد القبيلة اُلخرى في نظره سيئًا ...وكذلك الحال بالنسبة إلى السنن والداب السيئة
ن التعصب القومي يلقي ستارًا من الجهل والنانية على أفكار النسان والحسنة ...وبتعبير آخر :إ ّ
!وعقله ،ويلغي التقييم الصحيح
هذه الحالة من العصبية كانت لها صورة أكثر حدة بين بعض اُلمم ،ومنهم العرب المعروفون
.بالتعصب
.وقد قرأنا في اليات النفة أّنه لو أنزل ال القرآن على غير العرب لما كانوا به مؤمنين
خلق مذموم ،حتى أّننا نقرأ حديثاًوقد ورد في الّروايات السلمية التحذير من التعصب ،على أّنه ُ
عن رسول)صلى ال عليه وآله وسلم( يقول فيه" :من كان في قلبه حّبة من خردل من عصبية،
)بعثه ال يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"1).
ونقرأ حديثًا آخر عن المام الصادق)عليه السلم( يقول فيه" :من تعصب أو ُتعصب له فقد خلع
)ربقة اليمان من عنقه"2).
...ويستفاد من الّروايات السلمية أيضًا ،أن إبليس أّول من تعصب
يقول المام علي)عليه السلم( في بعض خطبه ـ المعروفة بالقاصعة ـ في مجال التعصب كلمًا
:بليغًا مؤثرًا ،ننقل جانبًا منه هنا
أّما إبليس فتعصب على آدم لصله ،وطعن عليه في خلقته ،فقال :أنا ناري"
ــــــــــــــــــــــــــــ
).ـ ُاصول الكافي ،الجزء الّثاني )باب العصبية ص 1 32
.ـ المصدر السابق 2
][466
)وأنت طيني(1).
ثّم يضيف المام علي في خطبته هذه قائل" :فإن كان ل بّد من العصبية ،فليكن تعصبكم لمكارم
)الخصال ،ومحامد الفعال ،ومحاسن اُلمور"2).
ويّتضح من هذا الحديث ـ بجلء أن التعصب والدفاع المستميت عن بعض الحقائق واليجابيات
ليس غير مذمومًا فحسب ،بل بامكانه أن يسّد فراغًا روحيًا قد ينشأ من ترك بعض العادات
.الجاهلية المقيتة
لذلك نقرأ عن المام زين العابدين علي بن الحسين)عليه السلم( حين سئل عن التعصب قوله:
"العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرًا من خيار قوم آخرين ،وليس
)من العصبية أن يحب الرجل قومه ،ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"3).
).والتعبير الخر عن العصبية الوارد في بعض الروايات أو اليات هو الحمية )حمية الجاهلية
:وبالرغم من أن الحاديث في هذا المجال كثيرة ،إّل أننا نختم بحثنا بحديثين منها
ن ال يعذب ستًة بست ـ العرب بالعصبية ،والدهاقنة يقول أمير المؤمنين علي)عليه السلم( "إ ّ
)بالكبر ،والمراء بالجور ،والفقهاء بالحسد ،والتجار بالخيانة ،وأهل الرستاق بالجهل(4).
ك والشرك والحمّية والغضب والبغي وكان رسول ال يتعوذ في كل يوم من ست "من الش ّ
)والحسد"5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ نهج البلغه ،الخطبة القاصعة ،رقمها 1 192
.ـ المصدر السابق 2
.ـ ُاصول الكافى ،ج ،2باب العصبية ،ص 3 233
.ـ البحار ،ج ،73ص 4 289
.ـ المصدر نفسه 5
][467
...ـ طلب الرجوع إلى الدنيا 2
من لحظة الموت تبدأ حسرات المجرمين وآهاتهم ،وتشتعل في قلوبهم رغبة الرجوع إلى الدنيا،
...ويصرخون ويدعون ولت حين مناص
وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة في هذا الصدد ،أكثرها بساطة هذه الية محل البحث )هل نحن
ُ).منظرون
).أّما في الية ) (27من سورة النعام فنقرأ) :يا ليتنا ُنرّد ول نكذب بآيات رّبنا
).أّما في الية ) (66سورة الحزاب فتقول منها) :يا ليتنا أطعنا ال وأطعنا الرسول
ونقرأ في اليتين 99ـ 100من سورة المؤمنون) :حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون
).لعلي أعمل صالحًا فيما تركت
وهذه الحالة تستمر حتى في صوره وقوف المجرمين على حافة النار ،كما في الية 27من
سورة النعام ،إذ تقول) :ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا ُنرّد ول نكّذب بآيات ربنا
)...ونكون من المؤمنين
إّل أن هذه العودة لن تتحقق ،لّنها سنة ال سبحانه ،ولن تجد لسنة ال تبديل ،ولن تجد لسنة ال
تحويل ،فلو قطعت ثمرة غير ناضجة من الشجرة ثّم عادت ،ولو سقط الجنين من بطن ُاّمه قبل
...اكتماله ،ثّم عاد الى الرحم ...ل مكن أن يعود هؤلء
فبناًء على ذلك فإن الطريق الوحيد المعقول ،هو التوّقي من حسرة ما بعد الموت بالتوبة من
!...الذنب ،والعمال الصالحة ،ما دامت الفرصة سانحة وإّل فل ينفع الندم بعد فوات الوان
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
رابع من تفسير نور الثقلين ،ص 1 165 .ـ الجزء ال ّ
][469
اليات
ن)(206 عُدو َ جآَءُهم ّما َكاُنوْا ُيو َ ن)ُ (205ثّم َ سِني َت ِإن ّمّتْعَنـُهْم ِ
ن)َ (204أَفَرَءْي ُ جُلو َ
سَتْع ِ
َأَفِبَعَذاِبَنا َي ْ
ن)ِ (208ذْكَرى َوَما ُكّنا ن)َ (207وَمآ َأْهَلْكَنا ِمن َقْرَية ِإّل َلَها ُمنِذُرو َ عْنُهم ّما َكاُنوْا ُيَمّتُعو َغَنى َ َمآ َأ ْ
عِ
ن ن)ِ (211إّنُهْم َ طيُعو َ سَت ِ
ن)َ (210وَما َينَبِغى َلُهْم َوَما َي ْ طي ُ
شيـ ِ
ت ِبِه ال ّن)َ (209وَما َتَنّزَل ْ ظـلِِمي َ َ
ن)212 سْمِع َلَمْعُزوُلو َ )ال ّ
الّتفسير
:تهمة ُاخرى للقرآن
حيث أن اليات المتقدمة ختمت بجملة )هل نحن منظرون( التي يقوُلها المجرمون عندما يأتيهم
العذاب بغتة وهم عل أبواب الهلك ،طالبين اِلمهال والرجوع للتعويض عما فاتهم من العمال.
:فاليات محل البحث ترّد عليهم عن طريقين
).الّول قوله تعالى) :أفبعذابنا يستعجلون
إشارة إلى أّنه طالما استهزأتم أّيها المجرمون ،وسخرتم من أنبيائكم ،وطلبتم منهم نزول العذاب
بسرعة ...لكن حين أصبحتم في قبضة العذاب تطلبون المهال
][470
لتعوضوا عّما فات من العمال ،وكنتم ترون المر لهوًا ولعباً في يوم ،لكن في اليوم الخر
وجدتموه جدّيا ـ
جة البالغة ...لكن اذا تّمت الحجة، ن سنة ال أن ل يعذب قومًا حتى ُيتّم عليهم الح ّوعلى كل حال فإ ّ
وفسح لهم المجال ،ولم يثوبوا الى رشدهم أنزل عذابه فل ينفع البتهال ،والرجوع نحو ساحة
.ذي الجلل
).والخر أّنه )أفرأيت إن مّتعناهم سنين ثّم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كان يمّتعون
فعلى فرض أّنهم ُأمهلوا ثانية )ولن ُيمهلوا بعد إتمام الحجة عليهم( وعلى فرض أن ُيعّمروا سنين
طوال في هذه الدنيا ويغرقوا في بحر الغفلة والغرور ،ال يكون عملهم التمتع والتلذذ بالمواهب
ل أبدًا ..فمن المسّلم أّنهم ل يعوضون عّما فاتهم. المادّية فحسب .وهل يعوضون عما فاتهم؟! ك ّ
وهل تغني المواهب المادية عنهم شيئًا عند نزول العذاب؟ وهل تحّل مشكلتهم أو تحدث تغييرًا في
!عاقبتهم؟
كما َيِرُد هذا الحتمال في تفسير اليات النفة ،وهو أّنهم ل يطلبون المهال للرجوع نحو الحق
والتعويض عما فات ،بل يطلبون المهال لمزيد التمتع من النعم الزائلة في هذه الدنيا ،إّل أن هذا
التمتع ل يغني عنهم شيئًا ،ول بد أن يرحلوا ـ إن عاجل وإن آجل ـ من هذه الدار الفانية إلى تلك
...الدار الباقية ،وأن يواجهوا أعمالهم هناك
وهنا يثار سؤاٌل ـ وهو أّنه مع اللتفات إلى أن ال بمستقبل كل قوم وجماعة ،فما الحاجة إلى
المهال؟
ثّم أن اُلمم السالفة كذبت أنبياءها واحدًا بعد الخر ،وبمقتضى قوله تعالى) :وما كان أكثرهم
مؤمنين( الوارد في نهاية تلك القصص إن أكثرهم لم يؤمنوا ،فعلم يأتي النبياء منذرين
!ومبشرين؟
فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأن ذلك سنة ال )وما أهلكنا من قرية إّل
][471
جة وتقديم النصح والموعظة ليتذكروا ويستيقظوا من لها منذرون( فنرسل النبياء لهم لتمام الح ّ
)غفلتهم )ذكرى(1).
ولو كنا نأخذهم بدون إتمام الحجة ،وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين ـ من ِقَبِل ال ـ لكان ظلمًا
).مّنا )وما كّنا ظالمين
جة عليهم ...فمن الظلم أن ُنهلك غير الظالمين ،أو نهلك الظالمين دون إتمام الح ّ
وما ورد في هذه اليات هو في الحقيقة بيان للقاعدة العقلية المعروفة بـ "قاعدة قبح العقاب بل
بيان" وشبيه لهذه الية ما جاء في الية ) (15من سورة السراء) :وما كنا معّذبين حتى نبعث
).رسول
ن العقاب بدون البيان الكافي قبيح ،كما أنه ظلم ،وال العادل الحكيم محال أن يفعل ذلك أجل ..إ ّ
أبدًا ،وهذا ما يعبر عنه في علم الصول بـ )أصل البراءة( ومعناه أن كل حكم لم يقم عليه الدليل،
"..فإّنه ُينفى بواسطة هذا الصل "لمزيد التوضيح يراجع تفسير الية 57من سورة السراء
ثّم يرد القرآن على إحدى الذرائع أو الُتهم الباطلة من ِقَبِل اعداء القرآن وهي أن الّنبي مرتبط
ببعض الجن ،وهو يعلمه هذه اليات ،والحال أن القرآن يؤّكد أن هذه اليات هي من "تنزيل ر ّ
ب
".العالمين
).فيضيف هنا قائل) :وما تنزلت به الشياطين
).ثّم يبّين جواب هذه التهمة الواهية التي اختلقها العداء فيقول) :وما ينبغي لهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
ول :أنه مفعول لجله والعامل 1ـ للمفسرين في محل )ذكرى( من العراب أربعة إحتمالت ...ال ّ
".منذرون" والّتفسير المذكور آنفًا في المتن هو على هذا الساس
ن معناهما واحد أو هما متقاربان في المعنى.الّثاني :أّنه مفعول مطلق لكلمة "منذرون" ل ّ
.الّثالث :أّنه حال من الضمير في منذرون
).الّرابع :أّنها خبر لمبتداء محذوف تقديره )هذه ذكرى
][472
أي أن محتوى هذا الكتاب العظيم الذي يدعو الى الحق والطهارة والعدل والتقوى ،ونفي كل أنواع
الشرك ،يدّل دللة واضحة على أّنه ل شباهة له بأفكار الشياطين وما يلقونه .فالشياطين ل يصدر
.منهم إّل الشر والفساد ،وهذا كتاب خير وصلح ،فالدّقة في محتواه تكشف عن أصالته
).ثّم إن الشياطين ليست لهم القدرة على ذلك )وما يستطيعون
فإذا كانت لهم القدرة فينبغي على سائر من كان في محيط نزول القرآن كالكهنة المرتبطين
بالشياطين )أو على القل كان المشركون ُيّدعون بأّنهم مرتبطون بالشياطين( أن يأتوا بمثل هذا
القرآن ،مع أّنهم عجزوا عن التيان بمثله ،وهذا العجز أثبت أن القرآن فوق قدرتهم ومستوى
!...بلغتهم وأفكارهم
ومضافًا إلى كل ذلك ،فإن الكهنة أنفسهم كانوا يعترفون أّنهم بعد ولدة الّنبي)صلى ال عليه وآله
وسلم( انقطعت علقتهم بالشياطين الذين كانوا يأتونهم بأخبار السماء و )إنهم عن السمع
).لمعزُولون
ويستفاد من سائر آيات القرآن أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع من
ي السلم)صلى الملئكة ،فينقلون ما يدور بين الملئكة من مطالب إلى أوليائهم ،إّل أّنه بظهور نب ّ
ال عليه وآله وسلم( وولدته انقطع استراق السمع تمامًا ،وزال الرتباط الخبري بين الشياطين
...وأوليائهم
وهذا المر كان يعلم به المشركون أنفسهم ،وعلى فرض أن المشركين كانوا ل يعلمون ،فإن
)القرآن أخبرهم بذلك1).
...ولذا فقد جعله القرآن دليل في اليات النفة لدحض ما يتقوله العداء
:وهكذا فقد أجاب القرآن على هذا اِلتهام من ثلثة طرق
ــــــــــــــــــــــــــــ
ول من سيرة ابن هشام1 ، ـ لمزيد اليضاح في منع الشياطين عن استراق السمع يراجع الجزء ال ّ
.ص 217فما بعد
][473
.ـ عدم التناسب بين محتوى القرآن وإلقاء الشياطين 1
.ـ عدم قدرة الشياطين على ذلك 2
.ـ منع الشياطين من إستراق السمع 3
***
][474
اليات
الّتفسير
...وأنذر عشيرتك القربين
تعقيبًا على البحاث الواردة في اليات السابقة في شأن مواقف المشركين من السلم والقرآن...
طته في خمسة أوامر ،في مواجهة فإن ال سبحانه يبّين لنبّيه ـ في اليات محل البحث ـ منهجه وخ ّ
...المشركين
وقبل كل شيء فإن ال يدعو الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( إلى العتقاد التام بالتوحيد;
التوحيد الذي هو أساس دعوات النبياء جميعًا ...يقول سبحانه) :فل تدع مع ال إلهًا آخر فتكون
)...من المعذبين
ي)صلى ال عليه وآله وسلم( كان من المقطوع به أّنه ينادي إلى التوحيد ول يمكن أن ن النب ّ
ومع أ ّ
][475
ن أهمية هذه المسألة كانت بحيث أن يكون شخص ُيتصور انحرافه عن هذا الصل ...إّل أ ّ
الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ـ قبل كل شيء ـ مخاطبًا بها .ليعرف الخرون موقفهم ...ثّم إن
...بناء الخرين يبدأ من بناء شخصية النسان نفسِه
ثّم يأمره ال في مرحلة ُاخرى أن ينطلق إلى مدى أرحب في دعوته قائل) :وأنذر عشيرتك
)القربين(1).
ك أّنه للوصول إلى منهج تغييري ثوري واسع ،لبّد من البتداء من الحلقات الدنى ول ش ّ
والصغر ،فما أحسن أن يبدأ الّنبي دعوته من أقربائه وأرحامه ،لّنهم يعرفون سوابقه النزيهة
أكثر من سواهم كما أن علئق القربى والموّدة تستدعي الصغاء إلى كلمه أكثر من غيرهم ،وأن
ث الحسُد والحقُد والمخاصمة !يكونوا أبعد من سواهم من حي ُ
ن هذا المر يدّل على أن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ليس لديه أية مداهنة إضافة إلى ذلك فإ ّ
!...ول مساومة مع أحد ،ليستثني أقرباءه المشركين عن دعوته إلى التوحيد والحق والعدل
وعندما نزلت هذه الية ،قام الّنبي بما ينبغي عليه من أجل تنفيذ هذا المر اللهي ،وسيأتي تفصيل
...ذلك كله في حقل البحوث بإذن ال
ن ال يوصي الّنبي في دائرة أوسع فيقول :عليك أن تعامل اتباعك باللطف أّما المرحلة الّثالثة ،فإ ّ
).والمحبة) :واخفض جناحك لمن اّتبعك من المؤمنين
وهذا التعبير الجميل الرائع كناية عن التواضع المشفوع بالمحبة واللطف ،كما أن الطيور تخفض
أجنحتها لفراخها محّبة منها لها ،وتجعلها تحت أجنحتها لتكون مصانًة من الحوادث المحتملة،
ولتحفظها من التشتت والتفّرق! فكذلك المر بالنسبة للّنبي إذ ُأمَر أن يخفض جناحه للمؤمنين
.الصادقين
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ العشيرة مشتّقة من "العشرة" العدد المعروف ] [10وحيث أن العشرة تعتبر في نفسها عددًا 1
كامل ،فقد سمي أقرباء الرجل الذين يكمل بهم عشيرة ،ولعل المعاشرة مأخوذة من هذا المعنى،
.لّنها تجعل الناس بصورة مجموعة كاملة
][476
وهذا التعبير الرائع ذو المعنى الغزير يبّين دقائق مختلفة في شأن محبة المؤمنين ،ويمكن إدراكها
!...بأدنى التفاتة
وذكر هذه الجملة ـ ضمنًا ـ بعد مسألة النذار يكشف عن هذه الحقيقة ،وهي إذا كان التعويل على
الخشونة في بعض الموارد بمقتضى الضرورات التربوية ،فإّنه وبل فاصلة يأتي التعويل على
...المحّبة والعاطفة ليتوفر منهما نمط مناسب
ثّم تأتي المرحلة الّرابعة وهي أن العداء لم يقبلو دعوتك وعصوا أوامرك .فل تبتئس ول تحزن:
!)فإن عصوك فقل إّني بريء مّما تعملون( ...ليعرفوا موقفك منهم
ن الضمير في عصوك ـ يعود على عشيرة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( القربين... والظاهر أ ّ
ي إذا لم يذعنوا بعد دعوتك إياهم للحق ،وواصلوا شركهم وعنادهم ،فعليك أن تبّين موقفك منهم، أ ْ
وهذا التوقع الذي احتمله القرآن حدث فعل ،كما سنذكر ذلك في البحوث القادمة ،إذ امتنع الجميع
عن قبول دعوة الّنبي ما عدا عليًا)عليه السلم( ...فبعضهم لذ بالصمت ،وبعضهم أبدى مخالفته
...عن طريق الستهزاء والسخرية
).وأخيرًا فالمر اللهي الخامس للّنبي لكمال مناهجه السابقة ،هو) :وتوّكل على العزيز الرحيم
فل تدع لعنادهم مجال للتأثير على عزيمتك ...ول لقّلة العوان والنصار طريقًا لتوهين ارادتك،
...فلست وحدك ...وسندك وملذك هو ال القادر العزيز الذي ل يقهر ،والرحيم الذي لحّد لرحمته
!...ال الذي سمعت وصفه في ختام قصص النبياء بالعزيز الرحيم
ال الذي بقدرته أحبط ظلم فرعون وغرور نمرود ،وتمّرد قوم نوح ،وأنانية قوم هود ،واتباع
.الشهوات لقوم لوط .وكذلك انقذ أنبياءه ورسله الذين كانوا قّلة ،وشملهم برحمته الواسعة
).ذلك ال )الذي يراك حين تقوم وتقّلبك في الساجدين
][477
)...أجل )إنه هو السميع العليم
وهكذا تذكر اليات ثلث صفات ل بعد وصفه بالعزيز الرحيم وكّل منها يمنح المل ويشّد من عزم
الّنبي على مواصلة طريقِة ،إذ أن ال يرى جهوده وأتعابه وحركاته وسكناتِه ،وقيامه وسجوده
!...وركعاته
.ذلك ال الذي يسمع صوته
...ال الذي يعلم حاجاته وطلباته حاجته
.أجل ،فعلى هذا الله توكل ،وأركن إليه أبدًا
***
بحثان
).ـ تفسير )وتقلبك في الساجدين 1
سرين أقوال مختلفة في معنى قوله تعالى) :الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ).بين المف ّ
.وظاهر الية هو ما ذكرناه آنفًا ،أن ال يرى قيامك وانتقالك وحركتك بين الساجدين
وهذا القيام يمكن أن يكون قيامًا للصلة ،أو القيام للعبادة من النوم ،أو القيام للصلة فرادى ،وفي
.مقام تقلبك في الساجدين ...الذي يشير إلى صلة الجماعة
التقلب" معناه الحركة والنتقال من حال إلى حال ،وهذا التعبير لعله إشارة إلى سجود النبيّ بين"
الساجدين في أثناء الصلة ،أو إلى حركة الّنبي وتنقله بين أصحابه وهم مشغولون بالعبادة ،وكان
...يتابع أحوالهم ويسأل عنهم
ن هذا التعبير إشارة إلى أن ال سبحانه ل يخفى عليه شيٌء من حالتك وسعيك، وفي المجموع فإ ّ
سواًء كانت شخصّية فردية ،أم كانت مع المؤمنين في صورة جماعية ،لتدبير ُامور العباد ولنشر
مبدأ الحق مع اللتفات الى َان الفعال الواردة
][478
".في الية مضارعة وفيها معنى الحال والستقبال
وهنا تفسيران آخران ذكرا في معنى الية ،إّل أّنهما ل ينسجمان مع ظاهرها ،ولعلهما من بطون
:الية
ن المراد من الية رؤية الّنبي ونظره إلى المصلين والساجدين خلفه ،لّنه كما يرى من الّول :أ ّ
أمامه يرى من خلفه كما ورد في الحديث" :ل ترفعوا قبلي ول تضعوا قبلي ،فإّني أراكم من خلفي
.كما أراكم من أمامي") (1ثّم تل الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( الية آنفة الذكر
ن انتقال في أصلب النبّيين من لدن آدم حتى أبيه عبد ال ،كّله تحت نظر ن المراد منه أ ّ الّثاني :أ ّ
ي موحد ساجد إلى ساجد آخر فإن ال عليم ال سبحانه ،أي حين تنتقل نطفتك المباركة من نب ّ
...بذلك
وقد جاء في تفسير علي بن ابراهيم عن المام الباقر)عليه السلم( في تفسير )وتقلبك في
الساجدين( ما يشير إلى هذا المعنى ،قال)عليه السلم(" :في أصلب النبيين صلوات ال عليهم").
)2
وفي تفسير مجمع البيان في توضيح هذه الجملة جاء عن اِلمامين الباقر والصادق)عليهما
ي ،حتى أخرجه من صلب أبيه ،عن نكاح غير ي بعد نب ّ
السلم( ما يلي" :في أصلب النبيين نب ّ
)سفاح من لدن آدم"3).
وبالطبع فإّنه بقطع النظر عن اليات آنفة الذكر وتفسيراتها ،فإن الدلئل المتوفرة تدّل على أن
والد الّنبي وأجداده لم يكونوا مشركين أبدًا ،وولدوا في محيط منّزه عن الشرك والدنس "لمزيد
...اليضاح يراجع تفسير الية 74 ،من سورة النعام" إّل أن التفاسير النفة هي من بطون الية
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ مجمع البيان ذيل الية محل البحث 1
.ـ تفسير نور الثقلين ،ج ،4ص 2 69
.ـ مجمع البيان ذيل اليات محل البحث 3
][479
"ـ إنذار القربين "حديث يوم الدار 2
وفقًا لما ورد في التواريخ السلميةُ ،أمر الّنبي في السنة الّثالثة بدعوته القربين من عشيرته،
ن دعوته حتى ذلك الحين كانت مخفية "سرّية" ،وكان الذين دخلوا في اِلسلم عددًا قليل ،لذلك لّ
حين نزلت الية) :وأنذر عشيرتك القربين( والية )فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين()
(1).أمر الّنبي أن يجعل دعوته علنية ،وبدأ ذلك بدعوة أهله وأقربائه)2
ي "عشيرته" إلى بيت عّمه أبي طالب، وأّما كيفية إبلغه وإنذاره إّياهم ،فهو بإجمال أّنه دعا النب ّ
وكانوا في ذلك اليوم حوالي أربعين رجل ،وكان ممن حضر هذه الدعوة بعض أعمام الّنبي)صلى
ال عليه وآله وسلم( كأبي طالب والحمزة وأبو لهب والعباس ،وبعد أن تناولوا الطعام ،وأراد
الّنبي أن يؤدي ما عليه ،تكلم أبولهب كلمات أحبط بها خطة الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ،لذا
.فقد دعاهم الّنبي في اليوم التالي أيضًا
وبعد أن تناولوا الطعام ،قال)صلى ال عليه وآله وسلم(" :يا بني عبد المطلب ،إّني وال ما أعلم
شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مّما جئتكم بخير الدنيا والخرة ...وقد أمرني ال أن أدعوكم إليه
فأيكم يؤازرني على أمري هذا ،على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟" فأحجم القوم عنها
ي ال ،أنا أكون وزيرك عليه" ،فأخذ رسول ال غير علي ،وكان أصغرهم )سنًا( ،فقال" :يا نب ّ
ي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا" فقام القوم يضحكون، ن هذا وصي ّبرقبته ،وقال" :إ ّ
)ويقولون لبي طالب :قد أمرك أن تسمع لبنك وتطيع3).
وقد نقل هذا الحديث كثير من أهل السنة كابن جرير الطبري ،وابن أبي حاتم ،وابن مردويه ،وأبو
نعيم ،والبيهقي ،والثعلبي ،كما نقله "ابن الثير" في
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ سورة الحج ،الية 1 94
.ـ راجع سيرة ابن هشام ،ج ،1ص 2 280
.ـ المراجعات ،ص 3 130
][480
)الجزء الّثاني من كتابه "الكامل" ،وأبو الفداء في الجزء الّول من تأريخه ،وجماعة آخرون1).
وهذا الحديث يوضع لنا كيف كان الّنبي وحيدًا حينذاك ،وكيف رّدوا عليه دعوته بالسخرية
...والستهزاء ،وكيف وقف علي)عليه السلم( إلى جانب الّنبي في وحدته ناصرًا ومعينًا
وفي حديث آخر أن الّنبي دعا قريشًا واحدًا واحدًا وحذرهم من النار فقال" :يا بني كعب أنقذوا
".أنفسكم من النار
وكان يدعو أحيانًا بهذا الخطاب بني عبد شمس ،وبني عبد مناف ،وبني عبد المطلب ،وبني هاشم
.فيقول" :انقذوا أنفسكم من النار" (2).فلست قادرًا على الدفاع عنكم في حال كفركم
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ لمزيد اليضاح يراجع كتاب المراجعات ،ص 130فما بعد وكتاب إحقاق الحق ،ج ،4ص 1
62.
.ـ تفسير القرطبي ،ج ،7ص 4859ذيل اليات محل البحث مع شيء من الختصار 2
][481
اليات
سْمَع َوَأْكَثُرُهْم
ن ال ّعَلى ُكّل َأّفاك َأِثيم)ُ (222يْلُقو َ ن)َ (221تَنّزُل َ طي ُشَيـ ِ
عَلى َمن َتَنّزُل ال َ َهْل ُأَنّبُئُكْم َ
ن)َ (225وَأّنُهْم ن)َ (224أَلْم َتَر َأّنُهْم ِفى ُكّل َواد َيِهيُمو َ شَعَرآُء َيّتِبُعُهُم اْلَغاُو َن)َ (223وال ّ َكـِذبُو َ
صُروْا ِمن ل َكِثيرًا َوانَت َ
حـتِ َو َذَكُروْا ا َّ
صـِل َ
عِمُلوْا ال ّ ن َءاَمُنوْا َو َن)ِ (226إّل اّلِذي َ ن َما َلَيْفَعُلو ََيُقوُلو َ
ن)227 ى ُمنَقَلب َينَقِلُبو َ ظَلُموْا َأ ّ
ن َ سَيْعَلُم اّلِذي َ
ظِلُموْا َو َ )َبْعِد َما ُ
الّتفسير
:الّنبي ليس شاعرًا
هذه اليات ـ محل البحث ـ هي آخر اليات من سورة الشعراء ،تعود ثانية لترّد على التهام
السابق ـ من قبل العداء ـ بأن القرآن من إلقاء الشياطين ،تردهم ببيان أخاذ بليغ مفحم ،فتقول:
)هل أنبئكم على من تنّزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم( أي الكاذب المذنب ،حيث يلقون اليهم
مايسمعونه مع اضافة
][482
)أكاذيب كثيرة عليه )يلقون السمع وأكثرهم كاذبون(1).
وملخص الكلم أن ما تلقيه الشياطين له علئم واضحة ،ويمكن معرفته بعلئمه أيضًا .فالشيطان
موجود مؤذ ومخرب ،وما يلقيه يجري في مسير الفساد والتخريب ،وأتباعه هم الكذابون
المجرمون ،وليس شيء من هذه اُلمور ينطبق على القرآن ،ول على مبّلغه ،وليس فيها أي شبه
.بهما
والناس في ذلك العصر ـ وذلك المحيط ـ كانوا يعرفون الّنبي محّمدا)صلى ال عليه وآله
وسلم(وُاسلوبه وطريقته ،في صدقه وأمانته وصلحه في جميع المجالت ...ومحتوى القرآن ليس
!فيه سوى العدل والحق والصلح ،فكيف يمكن أن تتهموه بأّنه من إلقاء الشياطين؟
والمراد من )الفاك الثيم( هو الكاهن المرتبط بالشياطين فتارًة يقوم الشياطين باستراق السمع
لحاديث الملئكة ،ثّم بعد مزجه بأباطيل كثيرة ينقلونه الى الكهنة .وهم بدورهم يضيفون عليه
...عشرات الكاذيب وينقلونها إلى الناس
صة ،ومنع الشياطين من الصعود إلى السماء واستراق السمع .كان ما يلقيه وبعد نزول الوحي خا ّ
...الشياطين إلى الكهنة خفَنًة من الكاذيب والراجيف
فمع هذه الحال كيف يمكن أن يقاس محتوى القرآن بما تلقيه الشياطين ...وأن يقاس الّنبي
!...الصادق المين بحفنة من الكهنة الفاكين الكاذبين
):وهناك تفاسير مختلفة لجملة )يلقون السمع
فمنها :أن الضمير في )يلقون( عائد على الشياطين و "السمع" المراد منه المسموعات ،أي أن
الشياطين يلقون مسموعاتهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون "ويضيفون على ما يلقيه الشياطين
!"...أكاذيب كثيرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "أّفاك" من" :الفك" .والفك هو الكذب الكبير .فمعنى الفلك من يكذب كثيرًا أكاذيب كبيرة1 ...
و "أثيم" من مادة "إثم" على وزن )إسم( ومعناه في الصل :العمل الذي يؤخر صاحبه عن
...الثواب ،ويطلق عادة على الذنب ،فالثيم هو المذنب
][483
ومنها :إن الضمير في الفعل يعود على الفاكين ،إذ أّنهم كانوا يلقون ـ ما يسمعون من الشياطين ـ
!)إلى عاّمة الناس ،إّل أن الّتفسير الّول أصح ظاهرًا)1
وفي الية الّرابعة ـ من اليات محل البحث ـ يرّد القرآن على اتهام آخر كان الكفار يرمون به
الّنبي فيدعونه شاعرًا ،كما في الية ) (5من سورة النبياء )بل هو شاعر( وربما دعوه بالشاعر
المجنون ،كما جاء في الية ) (36من سورة الصافات )ويقولون أإنا لتاركوا ألهتنا لشاعر
).مجنون
فالقرآن يردهم هنا ببيان بليغ منطقي ،بأن منهج الّنبي يختلف عن منهج الشعراء .فالشعراء
يتحركون في عالم من الخيال ،وهو يتحرك على أرض الواقع والواقعيات ،لتنظيم العالم
...النساني
والشعراء يبحثون عن العيش واللذة والغزل )كما هي الحال بالنسبة لشعراء ذلك العصر في
صة حيث يظهر ذلك من أشعارهم بوضوح ).الحجاز خا ّ
).ولذا فإن أتباعهم هم الضالون) :والشعراء يتبعهم الغاوون
)ثمّ يضيف القرآن على الجملة آنفة الذكر معّقبا )ألم تر أّنهم في كل واد يهيمون(2).
فهم غارقون في أخيلتهم وتشبيهاتهم الشعرية ،حتى أن القوافي تجرهم إلى هذا التجاه أو ذاك،
...ويهيمون معها في كل واد
وهم غالبًا ليسوا أصحاب منطق واستدلل ،وأشعارهم تنبع مّما تهيج به عواطفهم وقرائحهم...
!...وهذه العواطف تسوقهم في كل آن من واد لخر
فحين يرضون عن أحد يمدحونه ويرفعونه إلى أوج السماء ،وإن كان حقه أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ لن )يلقون( في مثل هذه الموارد معناها نقل الخبار والمطالب ،كما جاء في الية ) (53من 1
سورة الحج )ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض( وجملة )أكثرهم كاذبون(
).تتناسب مع الشياطين ،لن الّفاكين كلهم كاذبون ل أكثرهم )فلحظوا بدقة
...ـ "يهيمون" فعل مضارع من "الهيام" ،ومعناه المشي بل هدف 2
][484
...يكون في اسفل السافلين ،وُيلبسونه ثوب الملك الجميل وإن كان شيطانًا لعينًا
ومتى سخطوا على أحد هجوه هجوًا مرًا وأنزلوه في شعرهم الى أسفل السافلين ،وإن كان
.موجودًا سماّويا
صة شعراء ذلك ُترى هل ُيشبه محتوى القرآن الدقيق المنطلقات الشعرية أو الفكرية للشعراء وخا ّ
العصر ،الذين لم تكن منطلقاتهم إّل وصف الخمر والجمال والعشق والمدح لقبائلهم وهجو
...أعدائهم
ثّم إن الشعراء عادًة هم رجال خطابة وجماهير ل أبطال قتال ،وكذلك أصحاب أقوال ل أعمال ،لذلك
ن الية التالية تضيف فتقول عنهم) :وأّنهم يقولون ما ل يفعلون).فإ ّ
غير أن الّنبي الكريم)صلى ال عليه وآله وسلم( رجل عمل من قرنه إلى قدمه ،وقد اعترف بعزمه
!الراسخ واستقامته العجيبة حتى أعداؤه ،فأين الشاعر من الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم(؟
ومّما تقدم من الوصاف التي ذكرها القرآن عن الشعراء ،يمكن أن يقال بأن القرآن وصفهم بثلث
:علمات
.اُلولى :أّنهم يتبعهم الغاوون الضالون ،ويفّرون من الواقع ،ويلجاؤون إلى الخيال
!والّثانية :أّنهم رجال ل هدف لهم ،ومتقّلبون فكرّيا ،وواقعون تحت تأثير العواطف
...والّثالثة :أّنهم يقولون مال يفعلون ...وحتى في المجال الواقعي ل يطبقون كلمهم على أنفسهم
!إّل أنه ل شيء من هذه الوصاف يصدق على الّنبي ،فهو في الطرف المقابل لها تمامًا
و لّما كان بين الشعراء أناس مخلصون هادفون وأهل أعمال ل أقوال ،ودعاة نحو الحق والصدق
"وإن كان مثل هؤلء الشعراء قليل يومئذ" .فالقرآن من أجل
][485
أّل يضيع حق هؤلء الشعراء المؤمنين المخلصين الصادقين ،استثناهم عن بقية الشعراء ،فقال
).عنهم) :إّل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
هؤلء المستثنون من الشعراء لم يكن هدفهم الشعر فحسب ،بل يهدفون في شعرهم أهدافًا الهية
).وانسانية ،ول يغرقون في الشعار فيغفلون عن ذكر ال ،بل كما يقول القرآن) :وذكروا ال كثيرًا
ظلموا كان شعرهم انتصارًا للحق )وانتصروا من وأشعارهم تذكر الناس بال أيضًا ...وإذا ما ُ
).بعدما ظلموا
...فإذا هجوا جماعة هجوهم من أجل الحق ودفاعًا عن الحق الذي يهجوه ُاولئك فيذبون عنه
وهكذا فقد بّين القرآن أربع صفات للشعراء الهادفين ،وهي اليمان ،والعمل الصالح ،وذكر ال
...كثيرًا ،والنتصار للحق من بعدما ظلموا ،مستعينين بشعرهم في الذب عنه
وحيث أن معظم آيات هذه السورة هو للتسلية عن قلب الّنبي ،والتسرية عنه ،وعن المؤمنين
القّلة في ذلك اليوم في قبال كثرة العداء ،وحيث أن كثيرًا من آيات هذه السورة في مقام الدفاع
عن الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( ضد التهم الموجهة إليه من قبل أعدائه ،وغير اللئقة به ـ
فإن السورة ُتختتم بجملة ذات معنى غزير ،وفيها تهديد لولئك العداء اللّداء ،إذ تقول) :وسيعلم
ي منقلب ينقلبون
).الذين ظلموا أ ّ
سرين أرادوا أن يحصروا هذا النقلب والعاقبة المرة للظالمين بنار وبالرغم من أن بعض المف ّ
جهنّم ...إّل أنه ل دليل على تقييد ذلك وتحديده بها ...بل لعله إشارة إلى هزائمهم المتتابعة
والمتلحقة في المعارك السلمية ،كمعركة بدر وغيرها ،وما أصابهم من ضعف وذلة في دنياهم،
.فمفهوم هذه الية عام ،بالضافة إلى ذلك عذابهم وانقلبهم إلى النار في آخر المطاف
***
][486
بحوث
ـ ِلمَ كانوا يتهمون الّنبي بالشعر 1
إن واحدًة من التهم التي كانت توجه للّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( هي الشعر ،وأّنه شاعر،
...فاليات ـ آنفة الذكر ـ كانت ردًا على هذا التهام أيضًا
شَبه بالشعر ،ل من حيث الشكل والظاهر ول من لقد كانوا يعرفون جيدًا أن القرآن ليس له أقل َ
حيث المحتوى ،فالشعر فيه وزن وقافية وأبيات مشطرة ،وليس كذلك القرآن .والشعر فيه تخّيل
.وتشبيهات كثيرة وغزل مّما ليس في القرآن أيضًا
إّل أّنهم حيث كانوا يرون أثر القرآن الكبير في جذب أفكار الناس وإيقاعه الخاص في قلوبهم،
فللقاء الستار على هذا النور اللهي ،سموه "سحرًا" تارًة ،لّنه كان ذا نفوذ وتأثير "خفي" في
!الفكار .ودعوة "شعرًا" تارة ُأخرى لّنه كان يهّز القلوب ويأخذها معه
لقد أرادوا أن يذموا القرآن فمدحوه بهذا الكلم ،وكان كلمهم سندًا ودليل حيًا على نفوذ القرآن
.الخارق للعادة في أفكار الناس وفي قلوبهم
يقول القران في تنزيه الّنبي عن الشعر) :وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إّل ذكر وقرآن
).مبين لينذر من كان حّيا وبحق القول على الكافرين()1
لسلم 2
ـ الشعر والشاعرية في ا ِ
ل شك أن الذوق الشعري والفن الشاعري كسائر رؤوس الموال ،له قيمته في صورة ما لو
استعمل استعمال صحيحًا وله أثر إيجابي ...إّل أّنه اذا صار وسيلة تخريب وهدم للبناء العقائدي
والخلقي في المجتمع ،فل قيمة له ،بل يعتبر وسيلة
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ يس ،الية 1 69
][487
...ضارة عندئذ
فالشعر ينبغي أن يؤدي دورة في وجود النسان ليكون ذا قيمة كبرى ،وأن ل يسوق الناس نحو
.الخيال أو الضياع أو الشغال دون جدوى ،لّنه سيكون وسيلة للضرر واِلضرار
:ويّتضح بهذا الجواب على السؤال التالي
ماذا يفهم من اليات المتقدمة ،هل الشاعرّية أمٌر حسن أو غير حسن ،وهل يوافق السلم الشعر
!أو يخالفه؟
فالجواب على ذلك أن تقويم) (1السلم في هذا المجال قائم على الهداف والوجوه والنتائج...
وكما قال المام علي)عليه السلم( حين كان بعض أصحابه يتكلمون على مائدة الفطار في إحدى
ليالي شهر رمضان ،وجرى كلمهم في الشعر والشعراء ،فخاطبهم أمير المؤمنين علي)عليه
السلم( قائل" :اعلموا أن ملك أمركم الدين ،وعصمتكم التقوى ،وزينتكم الدب وحصون
)أعراضكم الحلم"2).
فكلم المام علي)عليه السلم( إشارة إلى أن الشعر وسيلة ...ومعيار تقويمه الهدف الذي قيل من
!...أجله
إّل أّنه ـ وللسف ـ استغّل الشعر على امتداد تاريخ آداب اُلمم والملل لغراض سيئة ،وتلّوث هذا
الذوق اللهي اللطيف ،فسقط في الوحل بسبب البيئة الفاسدة ،وبلغ الشعر أحيانًا درجة من
النحطاط بحيث صار من أهم عوامل الفساد والتخريب ،ول سيما في العصر الجاهلي الذي كان
عصر انحطاط الفكر العربي وأخلِقه! .فكان الشعر والشراب والغارات بعضها إلى جنب بعض مّما
!مميزات ذلك العصر
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "التقويم" له معان متعددة منها تقويم الود أي إقامة العوجاج ،وتقويم الشيء إعطاء قيمته 1
أو معرفتها ،وهو هنا بهذا المعنى .وما يجري على السنة الكتاب وأقلمهم بلفظ )تقييم( خطأ
).مشهور وغير صحيح )المصحح
.ـ شرح نهج البلغة ،لبن أبي الحديد ج ،20ص 2 461
][488
ولكن من يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة ،وهي أن الشعار البّناءة والهادفة على امتداد التاريخ،
خلقت طاقات كثيرة وحماسة قصوى ،ورّبما عبأت ُامة مغلوبة بوجه أعدائها ،فشدتها على العدّو
".فهزمته وانتصرت "بهذه الشعار
وفي فترة نضوج الثورة السلمية رأينا بأم أعيننا كيف أثرت الشعار الحماسية في نفوس
الناس ،فحركتهم وأثارتهم حتى جرت دماء الثورة في مفاصلهم ،وجعلتهم صفًا واحدًا وزلزلت
...قصور العداء وهزمتهم
كما نسأل :من يستطيع أن ينكر أن شعرًا أخلقيًا ينفذ في أعماق النسان ويغّير محتواه لدرجًة ل
...يبلغها كتاب علمي غزيز المحتوى
ن من أجل ،إن الشعر كما قال عنه الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( "إن من الشعر لحكمة وإ ّ
)البيان لسحرًا"1).
...وللكلمات الموزونة وإيقاعها ـ أحيانًا ـ مضاء السيف ونفوذ السهم في قلب العدو
ففي بعض أحاديث الّرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( ـ في مثل هذه الشعار ـ أنه قال..." :
)والذي نفس محمد بيده فكأّنما تنضحونهم بالنبل"2).
أجل ...قال الّنبي ذلك حين كان العدو يهجو المسلمين ليضعف معنوياتهم وروحّياتهم ،فأمر الّنبي
.شعراء المسلمين أن يرّدوا عليهم بالهجاء المقذع ،لذمهم وتقوية روحّية المسلمين
ن جبرئيل جُهْم فإ ّ
وقال)صلى ال عليه وآله وسلم( في شأن أحد الشعراء المدافعين عن السلم "أه ُ
ك"3). )َمَع َ
ن" الذي كان ينشد قصائدصة حين سأل كعب بن مالك "الشاعر المؤم ُ وخا ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
رسول هذا جماعة كثيرة من علماء الشيعة والسنة في كتبهم "يراجع كتاب 1 ـ نقل حديث ال ّ
".الغدير ،ج ،2ص 9
.ـ مسند أحمد ،ج ،2ص 2 260
.ـ مسند أحمد ،ج :،4ص 3 299
][489
في تقوية اِلسلم ـ وكانت اليات قد نزلت في ذم الشعراء ـ فقال يا رسول ال :ما أصنع؟!
ن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه"1). )فقال)صلى ال عليه وآله وسلم( "إ ّ
وقد ورد عن أئمة أهل البيت)عليهم السلم( وصف كثير في الشعر والشعراء الهادفين والدعاء
".لهم وإيصال الجوائز إليهم ،بحيث يطول الكلم في ذلك "إن أردنا نقل الروايات عنهم
إّل أّنه من المؤسف أنه على طول التاريخ أسقط جماعة هذه المنحة اللهية والذوق اللطيف ،الذي
جه إلى الحضيض ،وكذبوا فيه كثيرًا حتى قيل في
هو من أجمل مظاهر الخلق ،فأنزلوه من أْو ُ
".المثل المعروف" :أعذبه أكذبه
خروه في خدمة الجبابرة والظالمين وتمّلقوا لهم ،رجاء صلة محتقرة رخيصة ...ورّبما س ّ
!أو أّنهم أفرطوا في وصف الشراب والفجور والفسق أحيانًا ،إلى درجة يخجل القلم عن ذكرها
ورّبما أشعلوا الحروب بنيران أشعارهم ،وجروا الناس إلى القتل والغارات ،ولطخوا الرض بدماء
.البرياء
خروا
إّل أن في الطرف الخر ـ وفي قبالهم ـ الشعراء الذين آمنوا بمبدئهم ،واشتدت همتهم ،فس ّ
هذه القريحة الملكوتية في سبيل حرية الناس والتقوى ،ومواجهة اللصوص والمستكبرين
!والجبابرة ،فبلغوا أوج الفخر
)ورّبما دافعوا عن الحق فاشتروا بكل بيت من أبيات شعرهم بيتًا في الجّنة2).
ربما وقفوا في وجوه حكام الظلم والجور كبني أمية وبني العباس الذين كانوا يحبسون النفاس
في الصدور ،فُتجلى القلوب بقصيدة كقصيدة دعبل "مدارس
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير القرطبي ،ج ،7ص 1 869
ت شعر بنى ال له بيتًا في الجنة"" ،الغدير2 ،ـ جاء عن المام الصادق أّنه قال" :من قال فينا بْي َ
".ج ،2ص 3
][490
ق لثام الباطل ،فكأّنما كان يجري على لسانهم روح القدس. آيات خلت من تلوة" وأماطوا عن الح ّ
))1
سون في أنفسهم الحتقار والزدراء ورّبما أنشدوا الشعار لنهاض المضطهدين الذين كانوا يح ّ
...من قبل الظلمة ...فهاجوهم وأثاروهم بتلك الشعار
والقرآن يقول في شأن هؤلء) :إّل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا ال وانتصروا من بعدما
ظلموا ُ ).
مّما يلفت النظر أن هؤلء الشعراء قد يتركون شعرًا خالدًا مؤثرًا بليغًا ...حتى أن أئّمة السلم
الكرام ـ كما تقول بعض الّروايات ـ أوصوا شيعتهم وأصحابهم بحفظ أشعارهم كما ورد ذلك في
شأن "أشعار العبدي" .إذ ورد عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قال" :يا معشر الشيعة ،علموا
)أولدكم شعر العبدي ،فإّنه على دين ال"2).
ونختتم هذا البحث بقصيدة للعبدي ،وهي من قصائده المعروفة ،في شأن خلفة المام علي)عليه
ي الّنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( إذ قال :السلم( وص ّ
وقالوا رسول ال ما اختار بعده إمامًا ولكّنا لنفسنا اخترنا
أقمنا إمامًا إن أقام على الهدى أطعنا وإن ضل الهداية قّومنا
فقلنا :إذًا أنتم إمام إمامكم بحمد من الرحمن تهتم ول تهنا
ولكننا اخترنا الذي اختار رّبنا لنا يوم خم ما اعتدينا ول حلنا
ب زدنا منك نورًا وثبتنا)3)ونحن على نور من ال واضح فيا ر ّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ في حديث آخر عن المام الصادق)عليه السلم( أنه قال" :ما قال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيد 1
"...بروح القدس" "عيون أخبار الرضا
.ـ نور الثقلين ،ج ،4ص 2 71
.ـ الكنى واللقاب ،ج ،2ص 3 455
][491
ر ال 3
:ـ ِذْك ُ
...قرأنا في اليات ـ آنفة الذكر ـ أن من خصائص الشعراء الهادفين هو أّنهم يذكرون ال كثيراً
ونقرأ في بعض الحاديث المروّية عن المام الصادق)عليه السلم( أنه يقول :قول ال عزوجل:
)وذكروا ال كثيرًا( ما هذا الذكر الكثير؟ قال" :من سبح تسبيح فاطمة الزهراء)عليها السلم( فقد
)ذكر ال الذكر الكثير"1).
كما جاء عنه)عليه السلم( أنه قال :من أشّد ماقرض ال على خلقه ذكر ال كثيرًا ...ثّم قال)عليه
السلم(" :ل أعني سبحان ال والحمد ل ول إله إّل ال وال أكبر ،وإن كان منه ،ولكن ذكر ال
)عِْنَدما أحّل وحّرم! فإن كان طاعًة عمل بها ،وإن كان معصيةً تركها!"2).
...رّبنا ،أمل قلوبنا بذكرك ،لنختار ما يرضيك ،ونترك ما يسخطك
رّبنا ،اجعل ألسنتنا بليغة ،وأقلمنا سّيالة ،وقلوبنا مليئة بالخلص ،لنستعمل ذلك في سبيلك
ب العالمين
.وابتغاء رضوانك ،آمين ر ّ
***
إنتهاء سورة الشعراء
ونهاية المجلد الحادي عشر
ــــــــــــــــــــــــــــ
.ـ تفسير نور الثقلين ،ج ،4ص 1 73
.ـ تفسير نور الثقلين ،ج ،4ص ،73نقل عن اصول الكافي 2
][492