You are on page 1of 15

‫هو الحسن بن هانىء ‪ ،‬ولد في الهــواز سنة ‪ 145‬هـ‬

‫في خلفة أبى جعـفر المنصـور وكانت أمه فارسية أهــوازية‬


‫اسمهــا جلبان ‪ ،‬وكان أبوه فارسي ‪ 0‬وقد انبهم أمر أبيه‬
‫وجنسه على بعض الرواة في حين رأوه ينتسب لل الحكم بن‬
‫الجراح من بنى سعد العشيرة اليمنيين ويتكنى بكنية يمنية‬
‫هي أبي نواس ‪ ،‬وكذلك حين رأوا في أخبار هذا الب أنه كان‬
‫من جند مروان ابن محمد آخر الخلفاء المويين ‪ ،‬مما جعل‬
‫بعض المعاصرين يظن أن أباه من أهل الشام بينما ذهب‬
‫بعض القدمين إلى أنه عربي ‪ ،‬وتمادوا فصنعوا له نسبا له‬
‫في بنى سعد العشيرة ‪ 0‬والصحيح أنه كان مولى فارسي ًا من‬
‫موالى الجراح بن عبد ال الحكمي والى خراسان لعهد عمر‬
‫بن عبد العزيز ‪ ،‬ويظهر أنه انتظم فى جند الخلفة ‪ ،‬وقد نزل‬
‫مع فرق منهم بالهواز لعهد مروان بن محمد وهناك فتعــرف‬
‫عـلــى جارية فارسية تدعى (جلبان) كانت تغـزل الصوف‬
‫وتنسجـــه فأحبها وتزوجها فولدت له أولداً منهم أبو نواس‬
‫وأبو معــاذ ‪،‬واختلف الرواة في السنة التي ولد فيها أبى‬
‫نواس ‪ ،‬والراجح أنها سنة مائة وتسع وثلثين للهجرة ‪،‬‬

‫لقـبه بأبى نواس قد أطــلقه عــليه أحد جيرانه عـندما‬


‫أرسله فى طلب صديق له ‪ ،‬فلما عاد بالـرجل إلى هذا الجـــار‬
‫قــال له أحسنت يا أبى نــواس لتحــرك ذؤابتــه ‪ ،‬وكــان لــه‬
‫ذؤابتان تنوسان عــلى عاتقيـه‪ ,‬فــلزمتة هذة الكنية ‪ .‬وكـــان‬
‫يلقــب ايضاً بالحكمى نسبة الىالجـراح الحكمى مــولى جده ـ‬
‫وهــو من بنى سعـد العــشيرة ـ واحد من أمهر قادة بنى أمية‬
‫‪0‬‬

‫ولم يكد يبلغ السادسة من عمره حتى توفى أبوه ‪ ،‬فنقلته‬


‫أمه إلى البصرة ‪ ،‬وقامت علي تربيته ‪ ،‬وسرعان ما دفعته‬
‫إلى الكُتّاب ‪ ،‬فحفظ القرآن وأطراف ًا من الشعر ‪ ،‬وتفتّحت‬
‫مواهبه فأخذ يلهج ببعض الشعار ‪ ،‬وكان مليحاً صبيحاً ‪،‬‬
‫ويقال أن صبية وضيئة الوجه مرت به فمازحته ساعة ‪ ،‬ثم‬
‫رمت إليه بتفاحة معضّضة ‪ ،‬فقال على البديهة من أبيات ‪:‬‬
‫إنما ذاك سؤالٌ لِلقُ َبلْ‬ ‫ليس ذاك العَضّ من عيبٍ لها‬
‫وشب الغلم فأخذ يختلف إلى حلقات المسجد الجامع يتزود‬
‫من الدراسات اللغوية والدينية ومن الشعر القديم ومعانية‬
‫غير أن أمه رأت أن تلحقه بأحد العطارين ‪ ،‬فكان يذهب في‬
‫العشىّ إلى المسجد يستمع من أى عبيدة أخبار العرب‬
‫وأيامهم ‪ ،‬ويتلقط من أبى زيد غرائب اللغة ومن خلف الحمر‬
‫نوادر الشعر ‪ 0‬وساقه القدر ليتعرف على والبة بن الحُباب‬
‫أحد مجان الكوفة المشهورين ويقال أن المعرفة نشأت في‬
‫البصرة ‪ ،‬ويقال بل أن عامل الهواز طلب صاحبه العطار‪،‬‬
‫فوافقه ‪ ،‬وكان عنده والبة ‪ ،‬فلم تكد تقع عينه على أبى نواس‬
‫حتى استظرفه ‪ ،‬فحثّه على أن يصطحبه معه إلى الكوفة ‪،‬‬
‫ولم يتردد الغلم ‪ ،‬فمضى معه ‪ ،‬ويقال أن الذى أرغبه فيه‬
‫حسن شعره وما سمعه على لسانه من قوله ‪:‬‬
‫حُبّ كأَطراف الرماحِ‬ ‫ولها ول ذنبٌ لها‬
‫ب مجروحُ النواحى‬ ‫فالقل ُ‬ ‫جرَحُ دائماً‬
‫في القلب َي ْ‬
‫وربما كان من دوافع رحلته معه وإغراقه ـفيما بعد ـ فى‬
‫المجون أنه كانت تؤذيه سيرة أمه في البصرة ‪ ،‬فارتحل‬
‫معه ‪ ،‬وأخذ َيعُبّ من الخمر كى ينسى أمه ‪ ،‬وكان كالمستجير‬
‫من الرمضاء بالنار ‪ ،‬فقد وقع فى حبائل شيطان كبير غمسه‬
‫في كل ما كان يقع من خطايا وآثام هو ورفاقه مجّان الكوفة‬
‫عجْرد ‪ ،‬وكأنما كتب القدر‬
‫من أمثال مطيع بن إياس وحماد َ‬
‫عليه أن يصبح ضريبة الفسق والمجون لعصره ‪ 0‬وثاب‬
‫قليل إلى رشده‪ ،‬فخرج إلى بادية بنى أسد ‪ ،‬وظل بينهم حول‬
‫كامل يتزود من ينابيع اللغة ‪ ،‬وعاد ‪ ،‬ولكنه ولّى وجهه نحو‬
‫موطنه ‪ ،‬وأخذ يفد على المربد بألواحه للقاء العراب‬
‫الفصحاء ‪ ،‬كما أخذ ينهل من دروس اللغويين ومحاضراتهم‬
‫وخاصة خلفاً الحمر الذي حثه على حفظ الشعر القديم وحفظ‬
‫المئات من أراجيزه ‪ ،‬وكان خلف من أشعر رواة عصره‬
‫وأعملهم فحمل عنه أدبا واسعاً ‪ ،‬وفيه يقول في بعض مراثيه‬
‫له‪:‬‬

‫عرَفْ‬
‫ف من ل يُعَدّ العل ُم إل ما َ‬ ‫َأوْدَى جِماعُ العلم إِذ َأوْدَى خَلَ ْ‬
‫كنا متى ما نَ ْد ُن منه نَ ْغتَرفْ رواي ًة ل تُ ْج َتنَى من الصّحُفْ‪ 0‬وكان‬
‫يختلف إلى أبى زيد النصاري فتعلم منه أيام النــاس ونظــر‬
‫في نحــو سيبوية حتى أصبح في الطبقــة الولــى من‬
‫المولدين ‪ ،‬وشعـره عشــرة أنواع أجـاد فيها كلها ‪ 0‬وأحسـن‬
‫عــلم اللغة وفروعها حتي قال فيه الجاحظ ‪ " :‬ما رأيت رجلً‬
‫أعــلم باللغــة من أبى نواس ول أفــصح لهجــة ‪ ،‬مع مجانبة‬
‫الستكــراه " وقال معــمـربن المثنى ‪" :‬كـــان أبــى نـــواس‬
‫للمحدثين كأمرىء القيس للمتقدمين " وقد تقدم أن ذلك أولى‬
‫أن يقال لبشار لنه أسبق ‪0‬‬
‫ويروى عن أبى نواس أنه قال ‪ " :‬ما قلت الشعر‬
‫حتى رويت لستين أمرأمن العرب منهن الخنساء وليلى فما‬
‫ظنك بالرجال " وقال ابن السكيت ‪ " :‬اذا رويت من أشعار‬
‫الجاهليين فلمريء القيس ول العشى ‪ ،‬ومن والسلميين‬
‫فلجرير والفرذدق ‪ ،‬ومن المحدثين فلبى نواس ‪ ،‬فحسبك"‬
‫وهو يعد أيضاً من الشعراء المجان ‪0‬‬

‫ولم يكتف بالشعر واللغة فقد طلب الفقه والتفسير والحديث حتى‬
‫قالوا إنه ‪ ":‬كان عالماً عارفاً بالحكام والفُتيْا بصيراً بالختلف‬
‫صاحب حفظ ونظر ومعرفة بطرق الحديث ‪ ،‬يعرف ناسخ القرآن‬
‫ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه "‪0‬وطلب أيض ًا علم الكلم عند‬
‫ن أكّد‬
‫النظام وغيره من المتكلمين ‪ ،‬وبلغ من إتقانه لهذا العلم أ ّ‬
‫بعض الرواة أنه بدأ متكلم ًا ثم انتقل إلى نظم الشعر ‪ 0‬وقد وصل‬
‫هذا العلم بالثقافات التي كان يتصل بها المتكلمون‪ ،‬فقد أخذ من‬
‫الثقافات الهندية ‪ ،‬ول شك أن اتصاله بالثقافتين الفارسية‬
‫واليونانية كان أكثر عمقاً فقد كان فارسى الصل ‪ ،‬وكان وكان‬
‫يحسن الفارسية إحسان ًا بعيداً جعله يلوك كثيرًا من كلماتها في‬
‫أشعاره ‪ ،‬ولبد أنه نظر في الفلسفة اليونانية وما اتصل بها من‬
‫منطق بحكم تفقهه في علم الكلم ‪ ،‬إذ كان المتكلم ليتمكن في هذا‬
‫العلم و ل يجمع أفكاره " حتى يكون الذي يحسن من كلم الدين‬
‫في وزن الذي يحسن من كلم الفلسفة "‪0‬و في خمرياته ما يدل‬
‫دللة واضحة على أنه وقف وقوفاً دقيقاً على طقوس المجوس‬
‫واليهود والنصارى وعقائدهم ‪0‬وتفرّغ للنوادر والملح وحفظ منها‬
‫شيئاً كثيراً‪ ،‬وتصادف أن كان خفيف الروح ظريفاً ‪ ،‬مما أعدّه لتكثر‬
‫مطايبته و مداعبته وليكون سميراً للخلفاء والوزراء ويصف ذلك‬
‫من نفسه ليحي بن خالد البرمكى فيقول ‪:‬‬
‫ويزيد في علمي حكاية من حكى‬ ‫إِني أَنا الرجلُ الحكيم بطبعه‬
‫ت به إليك لسركا‬ ‫لو قد نبذ ُ‬ ‫كم من حديثٍ معجبٍ لي عندكا‬
‫كيما أحدّث من أُحبّ فيضحكا‬ ‫أَتتبّع الظرفا َء أَكتب عنهمُ‬
‫وعلى الرغم من ظرفه لم يكن قريباًمن نفس المرأة الي‬
‫عاصرته ‪ ،‬فقد كانت تَزْرى فيه غلميته وسيرته الشاذة ‪ ،‬وكانت‬
‫أول امرأة شغفته حباً ‪ ،‬وهو ليزال فى البصرة يختلف إلى المبرد‬
‫روحلقات العلماء ‪ ،‬جنان جارية الثقفيين ‪ ،‬وقد عقد أبو الفرج‬
‫فصل في أغانيه لشعاره فيها وأخباره معها ‪ ،‬ونراه يرسل لها‬
‫بغزلياته ‪ ،‬وترسل له بسبّها وشتمها ‪ ،‬وهو يزداد به شغفاً ‪ ،‬حتى‬
‫ليقول ‪:‬‬
‫حسْبي‬‫أَليس جرى بِفيكِ اسمي فَ َ‬ ‫سبّى‬
‫س ّبكِ لي ف ُ‬
‫أتاني عنك َ‬
‫فما ذا كلّه إِل لحُبّى‬ ‫وقُولي ما بدا لكِ أن تقولي‬
‫وغزله فيها غزل عفيف ل فحش فيه ‪ 0‬وجذبته بغداد فيمن‬
‫جذبت من شعراء البصرة ‪ ،‬ففارق موطنه إلى غير رجعة ل‬
‫باكياً عليه ول آسفاً ‪ ،‬إذ كانت حياته فيه سلسلة من الخفاق‬
‫في علقته بجنان وعلقته بالرفاق حتى كان يشعر كأنه‬
‫سليب الحرية وفى ذلك يقول ‪:‬‬
‫ة أُصفى لهم ال ُودّا‬ ‫أيا من كنت بالبَصْر‬
‫عبْدا‬‫ومن كنت لهم َ‬ ‫ى‬
‫زمن كانوا موال ّ‬
‫صدّا‬
‫وإِن ملّ وإن َ‬ ‫ومن قد كنت أَرعاه‬
‫جدّا‬
‫فأنساناكم ِ‬ ‫شربنا ماءَ بغدادٍ‬
‫فما َن ْرعَى لكم عَهدا‬ ‫عهْدا‬‫فل َترْعوا لن َ‬
‫ولم يلبث حين قدم بغداد أن قدّمه هرثمة بن أعين إلى الرشيد‬
‫فمدحه ونال جوائزه ‪ ،‬وأخذ ينفقها فى مباذله ‪ ،‬غير تارك‬
‫حانةً بالكرخ أو في ضواحي بغداد إل ارتادها ‪ ،‬ملمّا من حين‬
‫لخر بدير من الديرة المنبثّة على شواطئ دجلة ‪ ،‬وكأنما‬
‫تحولت حياته إلى حانة كبيرة يقترف منها كل ما لذ وطاب له‬
‫من إثم وفجور ‪ ،‬وارتقى ذلك إلى سمع الرشيد فحبسه مراراً‬
‫لعله يذدجر ‪ ،‬ولكنه كان سرعان ما يعود إلى سيرته السيئة‬
‫حين ُت ُردّ له حريته ‪ 0‬وقد غضب عليه غضباً شديدًا حين رآه‬
‫يهجو عدنان ويفتخر بقحطان ومواليه اليمنيين ‪ ،‬فأطال‬
‫حبسه ‪ ،‬ثم عاد فعفا عنه ‪ ،‬وربما كان للبرامكة أثر في هذا‬
‫العفو المتكرر ‪ ،‬فقد كانوا يقربونه منهم ويغدقون عليه من‬
‫ِبرّهم ونوالهم ال َغمْر‪ ،‬ونراه يحزن عليهم حزناً عميقاً حين‬
‫ينكبهم الرشيد سنة ‪187‬للهجرة ويرثيهم بمثل قوله ‪:‬‬
‫فيهم مصيباتُه دِراكا‬ ‫لم يظلم الدهرُ إذ توالتْ‬
‫منه فعاداهُم لذاكا‬ ‫كانوا يجيرون َمنْ يُعادي‬
‫ويولى وجهه نحو الفسطاط بمصر ‪ ،‬ليمدح والى الخراج بها‬
‫الخصيب بن عبد الحميد ‪ ،‬وكان فارسياً مثله ‪ ،‬وقد استقبله‬
‫استقبالً حافل ‪ ،‬وأضفى عليه من نواه كثيراً ‪ ،‬كما أضفى‬
‫عليه أبو نواس غير مدحه وله يقول ‪:‬‬
‫حرُ‬
‫فتدفّقا فكلكما َب ْ‬ ‫صرُ‬
‫أنت الخصيب وهذه مِ ْ‬
‫ونداك ينعش أَهلَه ال َغ ْمرُ‬ ‫النيلُ يُنْعش ماؤه مصراً‬
‫وسرعان ما أخذ يحن حنيناً شديداً إلى بغداد حيث المجون‬
‫قائما على قدم وساق ‪ ،‬وصوّر هذا الحنين بصور مختلفة من‬
‫مثل قوله ‪:‬‬
‫ولي نحو أَكناف العراق حنينُ‬ ‫حزَن ًا أَني بفسطاط نازحٌ‬
‫كفى َ‬
‫وعاد إلى بغداد ولم يلبث الرشيد أن توفي وخلفه المين وكان‬
‫يميل للهو وأتخذ أبا نواس نديم ًا له يمدحه وينظم له ما شاء‬
‫من غزل وخمر ‪ ،‬واستغل ذلك المأمون حين عزم على حرب‬
‫المين ‪ " ،‬فكان يعمل كتبا بعيوبه ُت ْقرَأ على المنابر‬
‫بخرسان ‪ ،‬وكان مما عاب به أن قال إنه استخلص رجلً‬
‫شاعراً ماجناً كافراً يقال له الحسن بن هانئ ليشرب معه‬
‫الخمر ويرتكب المآثم ويهتك المحارم ‪ ،‬وهو القائل ‪:‬‬
‫ول تسقني سراً إذا أمكن الجه ُر‬ ‫أل فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمرُ‬
‫فل خيرَفى اللذات من دونها سِتْرُ‬ ‫وبُحْ باسم من تهْوى و َدعْني من الكُنَى‬
‫وكان يقوم رجل بين يديه فينشد أشعار أبى نواس في‬
‫المجون " ‪ 0‬فاتصل ذلك بالمين فنهى أبا نواس عن الخمر‬
‫ولم ينته ‪ ،‬حينئذ أغراه الفضل بن الربيع وزيره بحبسه‬
‫فحبسه ‪ ،‬وقد مضى في حبسه يستعطف الفضل بأشعار‬
‫مشيعاً فيها روحه الفكهة بما يُصَوّر من نسكه وعلمات‬
‫السجود في جبهته وحمله للمسابيح أو السبح فى ذراعه‬
‫وللمصحف في لَبّته ‪0‬وعطف عليه الفضل فتلطف له عند‬
‫المين وردّ إليه حريته ‪ 0‬وكانت قد تقدمت به السن وعلته‬
‫كبرة وشيخوخة ‪ ،‬فأخذ يُنيب إلى ربه ‪ ،‬وينظم أبيات ًا مختلفة‬
‫في الزهد ‪ ،‬وفي أخباره ما يدل على أنه تنسك مراراً ‪ ،‬ثم عاد‬
‫إلى غَيّه‪ ،‬وربما رقيت فترات هذا النسك إلى زمن الرشيد ‪،‬‬
‫وحين كان يُ ْلقَى به في السجن ‪0‬‬
‫وفاته‬
‫يقال إنه حجّ سنة ‪ 190‬للهجرة ‪ ،‬وكأنما هي صحوات كان‬
‫يفيق فيها ثم يرجع إلى خطاياه ‪ 0‬وتوفي المين ولم يلبث أن‬
‫توفي من بعده ‪ ،‬وقد اختلف الرواة في تاريخ وفاته ‪ 0‬فمنهم‬
‫من تقدم به إلى سنة ‪195‬ومنهم من تأخر به إلى سنة ‪199‬‬
‫وقيل بل توفي بعد المائتين بقليل وفي ديوانه رثاء للمين‬
‫يشهد بأن وفاته لم تكن قبل سنة ‪ 0 198‬واختلف الرواة‬
‫أيضاً في سبب وفاته ‪ ،‬فقيل إنه توفي وفاة طبيعية وقيل بل‬
‫هجا إسماعيل بن نوبخت هجاء مقذعا ذكر فيه أمه ورماه‬
‫بالبخل والرفض ‪ ،‬فدسّ له شربة من سمّ قتلته بعد أربعة‬
‫س له َمنْ ضربه حتى مات ‪0‬‬ ‫أشهر ‪ ،‬وقيل بل د ّ‬

‫عناصر أثرت في تكوين طبيعة أبى نواس‬

‫عناصر كثيرة أثرت في تكوين طبيعة أبى نواس ‪،‬‬


‫فقد كان فارسياً حاد المزاج وثقف كل الثقافات التي عاصرها‬
‫من عربية وإسلمية ومن هندية وفارسية ويونانية ومن‬
‫مجوسية ويهودية ونصرانية ‪ ،‬وغرق في حضارة عصره‬
‫المادية وفي آثامها وخطاياها ‪ ،‬تدفعه إلى ذلك أزمته النفسية‬
‫العنيفة إزاء سيرة أمه المنحرفة وكأنما اتخذ من المجون‬
‫والفسق أداة ‪ ،‬بل ملجأ‪ ،‬للهروب من أزمته النفسية ومن‬
‫هموم الحياة وأحزانها ‪ ،‬وتردّى في أسوأ صور المجون‬
‫ونقصد غزله بالغلمان ‪ 0‬ونراه أحياناً يعلن تمرداً وإلحاداًفي‬
‫الدين ولكنه إلحاد عابر ‪ ،‬ل إلحاد عقيدة كإلحاد بشار ‪ ،‬فقد‬
‫كان بشار زنديقاً ‪ ،‬وقد كان يظهر زندقته ل يخشى على نفسه‬
‫‪ ،‬ويبطنها حين يأخذه الخوف ‪ ،‬فأما أبى نواس فلم يكن‬
‫يعتنق الزندقة إنما كان يعتنق المجون ‪ ،‬ويتعبد لملذّ‬
‫الحضارة التي عاشها ‪ ،‬فصاح بالدين الحنيف كأنه يرى فيه‬
‫عائق ًا عن خمره ومجونه وإثمه ‪ 0‬وهو من هذه الناحية‬
‫مضطرب أشد الضطراب تارة يعلن دهريته وأنه ل يؤمن‬
‫ببعث ول نشور وتارة يعلن أنه مؤمن عاص ‪ ،‬وانه على‬
‫الرغم من جهره بعصيانه وفسقه يعتمد على عفو اللهو‬
‫مغفرته ‪0‬‬
‫ولبد أن نلحظ مع ذلك كله عنصرا مهما في مزاجه هو‬
‫عنصر التندير والميل إلى الهزل والعبث ‪ ،‬ولعل ذلك هو الذي‬
‫جره إلى صياح كثير في وجه الدين الحنيف ‪ ،‬وكان إذا تلوّمه‬
‫بعض معاصريه قال ‪ " :‬وال ما أدين غير السلم ولكن ربما‬
‫َنزَا به المجون حتى أتناول العظائم " وهو بذلك يعترف أن‬
‫هذا الصياح إنما كان ينظمه في أثناء معاقرته للخمر هزل و‬
‫تعابثا و مجانة ‪ ،‬ومن أجل ذلك نبراته في خمرياته ‪ ،‬حيى إذا‬
‫صحا وعادت إليه يقظته أوقف ثورته على الدين والعرب‬
‫جميع ًا ومضى يقدم لمدائحه بوف الطلل وبكاء الديار و َنعْت‬
‫رحلته في الصحراء على ناقته أو بعيره ‪0‬‬
‫أخذت شخصيته تنمو في اتجاهين ‪:‬اتجاه يحافظ على‬
‫التقاليد الموضوعة دون أن يشتط في الجديد ‪ ،‬واتجاه يجدد‬
‫فيه تجديداً واسعاً ‪ ،‬يجدد في معانيه وألفاظه ‪0‬‬
‫ويمكن أن نسلك في التجاه الول مدائحه وأراجيزه‬
‫ومراثيه ‪ ،‬وبينما نسلك في التجاه الثانى أهاجيه وغزلياته‬
‫وخمرياته وكل ما يتصل بعبثه ولهوه أما المديح ‪:‬‬

‫المدح من بين الغراض التقليدية التى أجاد فيها إجادة‬


‫بالغة ‪ ،‬وبرغم تنكره لتقاليد القصيدة العربية وثورته عليها ‪،‬‬
‫فإنه في شعر المدح سار على النهج التقليدي للقصيدة‬
‫العربية ‪ ،‬محافظاً على التقاليد الموضوعة والمتداولة في ذلك‬
‫‪ ،‬ونراه يمدح هارون الرشيد بقصيدة مطلعها ‪:‬‬

‫ى ومَـعا ُ‬
‫ن‬ ‫وِإذِ الشّـباك لنا خُـو ّ‬ ‫حـىّ الــدِيـارَ ِإذِ الــزّمـان‬
‫ولـربّما جـمعَ ال َهوَى سَـفَوانُ‬ ‫ن من مُتربّع‬ ‫يا حبّذا سفَوا ُ‬

‫وهو فى هذه القصيدة يقف علي ديار المحبوبة ‪ ،‬ثم ينتقل إلي‬
‫ممدوحه على ناقة قوية سريعة ويصف الناقة وصفاً دقيقاً ثم‬
‫يصل إلي ممدوحه أبى المناء حيث يقول ‪:‬‬

‫َيحْيَا بِصَوبِ سمائِه الحيوان‬ ‫وإلى أبي المناء هارون الذى‬


‫ماتَت لها الحقادُ والضْغـان‬ ‫ف مـودّة‬
‫هــارون أَلّفــنَا ائتـل َ‬

‫ومثل رائتيه في الخصيب ‪:‬‬

‫وميسورُ ما ُي ْرجَى لديكِ عسير‬ ‫أجاره بَيْتنا أَبوكِ غَيورْ‬

‫لكن الخليفة الذي كان أبو نواس أقرب ما يكون إليه هو‬
‫المين فقد كان أبو نواس نديماً وصديقاً له ‪0‬‬
‫وهو في مدحه للمين يتخذ من شعره ربابة غناء يمزج في‬
‫ترانيمه عليها حب ًا لممدوحه من جهة وإبداعاً في تقاسيم فنه‬
‫ذي السمات التجديدية في المعاني والخيلة والنسيج من جهة‬
‫أخرى ‪ ،‬وهذه واحدة من أفضل مدائحهفي المين يقول في‬
‫مطلعها ‪:‬‬
‫يا دار ما فـعـلتْ بــكِ اليـــــــام ُ ضـامتْك واليامُ ليس تُضامُ‬
‫ع َرمَ الزّمان على الذين عهدْتُهم بك قاطنين وللزّمان عُــرَامُ‬ ‫َ‬
‫أيــامُ ل أَغـشـى لهِـلـكِ مـَنـــْزل إِلّ مـراقــبـةً ‪ ،‬عـلـىّ ظـلمُ‬
‫دِمــنُ ألـمَ بها فــقــال ســـــــلمُ ك ْم ح َل عُقدة صبـِرة اللمامُ‬
‫ولقد نَهزْتُ مع الغُــواة بِدلْوهـم وأسمْتُ سَرْح اللّهوحيث أسامُوا‬

‫ومن ميميته في المين ‪:‬‬

‫لم تُبْق فيكِ بشاشةً تُسْتامُ‬ ‫يا دارُ ما فعلتْ بك الَيّامُ‬

‫ويلحظ أنه لم يكن يطيل مثل بشار في وصف رحلته‬


‫بالصحراء وأنه كان يتعمق أكثر منه في المبالغة حين لم‬
‫ينعت الممدوحين كقوله في الرشيد‪:‬‬
‫طفُ التي لم ُتخْ َلقِ‬
‫لتخافك ال ّن َ‬ ‫شرْك حتى أنه‬
‫وأخفْتَ أهل ال ّ‬

‫وقوله أيضاً فيه ‪:‬‬

‫خلُ منه مكانُ‬


‫فكأنه لم َي ْ‬ ‫ملكٌ تصوّر في القلوب مثاله‬

‫وقوله فى المين مخاطباً ناقته ‪:‬‬

‫تقبيلُ راحته والرّ ْكنِ سيّانِ‬ ‫سأَمي أو تبلغي ملكا‬‫يا ناقُ ل َت ْ‬


‫ِم ّمنْ بَرَا الُ من إنس ومن جا ِ‬
‫ن‬ ‫محم ٌد خير من يَمْشِي على َقدَم‬

‫ونراه في هذه القصيدة يضفي على المين هالة كبيرة من‬


‫القدسية والجلل حتى ليشبهه بالرسول ــ صلى ال عليه‬
‫وسلم ــ على الغم مما كان يتردّى فيه من لهو ومجون ‪،‬‬
‫واستطرد في تضاعيف ذلك يقرر حق العباسيين في الخلفة‬
‫رادّا ردّا عنيفاًُ على بنى عمهم العلويين ‪ 0‬ومن مبالغته‬
‫الطريفة قوله في بعض ممدوحيه ‪:‬‬

‫فعيني ترى دَهْرى وليس يرانى‬ ‫ظلّ جناحِه‬


‫تغطّيتُ من دهري ب ِ‬
‫وأَين مكاني ما عر ْفنَ مكا‬ ‫ت‬
‫فلو تُسْأَل الَيامُ ما اسمى لما در ْ‬

‫وجانب آخر في بعض مدائحه يمتاز به من بشار فإنه كان يعمد‬


‫كثيراً إلى اللفاظ العذبة الرشيقة التي تموج بالنعومة والخفة‬
‫فيؤلف منها مدائحه شاكلة سينيته فى المين وفيها يقول‪:‬‬

‫للدين نوراً يُ ْق َتبَ ْ‬


‫س‬ ‫أضحى المام محمدٌ‬
‫عبَسْ‬
‫والسيفُ يضحك إِن َ‬ ‫تبكي البدورًُ لِضحْكهِ‬
‫وكان له حس دقيق وذوق مرهف ‪ ،‬يعرف عن طريقهما كيف يختار‬
‫أرق اللفاظ وأرشقها وأخفّها في النطق وأحلها في السمع ‪ ،‬وكان‬
‫يدنو في ذلك حتى يمس شغاف القلوب ‪ ،‬إذ كان يحسن اختيار‬
‫أسهل اللفاظ وأيسرها وأقربها إلى ما يجري على ألسنة الناس في‬
‫حياتهم اليومية ‪ 0‬ومن أجل ذلك كان يتجافى عن ألفاظ القدماء ‪،‬‬
‫حتى في المديح ‪ ،‬أو قل في كثير منه ‪ ،‬فإنه كان ينبغي فيه على‬
‫القل في بعضه أن يأخذ بألباب سامعيه بما يعرض عليهم من لغة‬
‫عذبة تسيل خفة و رشاقة ‪0‬‬
‫والحقيقة أن المعانى في جدتها وبراعة التفاظها تدل على‬
‫خصوبة الطاقة الشعرية التي تقف وراءَها ‪ ،‬فهي طاقة‬
‫مبتكرة ‪ ،‬متمكنة لديها براعة التفات وبراعة توليد ‪ ،‬وبراعة‬
‫تأصيل ‪0‬‬
‫ففي شعر المدح عند أبى نواس أصالة واقتدار وبراعة ابتكار‬
‫وتوليد وبراعة التفات ‪ ،‬ووثاقة نسيج يجمع إلي جانب‬
‫الصالة والفحولة وشى الجدة والطرافة ‪ ،‬ونعومة التوليد‬
‫وحلوة البتكار لكن هذه السمات الجديدة تتم داخل النسيج‬
‫الملتزم بالطارالعام للتقاليد الفنية ‪0‬‬
‫ومن توليداته هذه البيات في مدح الفضل بن يحي البرمكي‪:‬‬

‫بحىّ على مالِ المير وأذّنَا‬ ‫إذا ضنّ ربّ المال أعـلن جُـودَه‬
‫صلْبِ ما ِلهِ نرى المال فيها بالمهَانةِ ُم ْذعِنا‬
‫فَ ِل ْلفَضْل صولتٌ على ُ‬

‫وأبى نواس في أراجيزه ووصفه للصيد وأدواته‬


‫وجوارحه أكثر تمسكاً بالقوالب القديمة ‪ ،‬وقد سبقه‬
‫أما الغزل عند أبى نواس فهو هواه الذي أسرف فيه‬
‫ولكنه اشتهر بنوعين من الغزل ‪ :‬الغزل النثوي الذي يتوجه‬
‫فيه بالقول والنجوى إلي محبوبة ‪ ،‬كما هو معروف في‬
‫الشعر ومقرر في الطبائع والغرائز ‪ ،‬وغزل آخر شاذ هو‬
‫الغزل بالمذكر ‪ ،‬وأبو نواس من أرق الشعراء في الغزل ‪،‬‬
‫ومن أقدرهم عليه ‪ ،‬ومن أكثرهم تفننا فيه ‪ ،‬فإذا أُضيف إلي‬
‫ذلك أنه خليع ماجن بالضرورة ُي ْدخِل فيه من افتنان الخلعة‬
‫واللهو ما يجعله أكثر تأثيراً وإثارة ‪0‬‬
‫وهذه مقطوعة من افتنانه المقتدر وشغفه بالمحبوبة وإقباله‬
‫عليها في خيال مهذب بعيد عن السفاف يقول ‪:‬‬

‫ك اسمي؟ َفحَسْبى‬
‫أليس جَرىَ بفي ِ‬ ‫أتانِى عنْك سـ ّبكِ لي فَسُـ ّ‬
‫ب‬
‫وقولِي ما بدا لكِ أن تـقـولى فـما ذا كــلّـه إِل لحُـبـــــــىّ‬
‫ن من تعذِيبِ قَلْبـى ؟‬ ‫قُصَاراك الرجوعُ إلي وصال فما ت ْرَجِي َ‬
‫تشابهت الظنون عليكِ عندى وعِــلْم الغَـــيْبِ فيها عند ربـى‬

‫ويسرف كثيرًا في وصف الجمال الجسدى ‪ ،‬وهو حين يبعد‬


‫عن الثارة يستطيع أن يبدع صوراً شتى من المحاسن‬
‫الجسدية التي تدل على إسرافه على نفسه في تتبع مجالى‬
‫المرأة والعجاب بها ‪0‬‬
‫والعجيب أنه بارع في الغزل الشاذ الذي يعرف باسم‬
‫"الغزل بالمذكر " نفس البراعة فى الغزل بالمؤنث‪ ،‬ووقد‬
‫كثر في ديوانه الغزل بالمذكر وبالغلميات وهن فتيات‬
‫يتشبهن بالغلمان ‪ ،‬وكان أبو نواس يختلط بهن في قصر‬
‫المين‪ ،‬أوحانات الخمر وأديرة النصارى التي أكثر من ذكرها‬
‫في غزله ‪0‬‬
‫ومن مبالغته في الغزل بالمذكر قوله‪:‬‬

‫وزين صـف القيــــــان‬ ‫يا ظبي يا ابن سيـــــــــــــار‬


‫فــــما لحسنـك ثـــــــان‬ ‫خُلقت في الحــــــسن فــرداً‬
‫وحوى جميع المعانــي‬ ‫كأنمــا أنـــــــــت شــــــيء‬
‫إن كَل ّ عنك لسانـــــي‬ ‫لينعـــــتـــك وهــــمــــــــي‬

‫أبو نواس في نظر مؤرخي الدب " زعيم فن الخمريات "‬


‫لقد جعلها فناً مستقلً وتفنن في تفتيق معانيها ‪ ،‬وجنَ في‬
‫الهيام بها ‪ ،‬وجعلها راية الجديد عندما رفع ال ِمعْول لهدم‬
‫القديم في بناء القصيدة ‪ ،‬وهى مطيته إلى كل لهوه وعبثه‬
‫ومجونه ‪ ،‬وهي ميدان إبداعه المحدث ‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫يُدعى الطّلء ‪،‬صليباً غير خوّار‬ ‫س من شرابهمُ‬
‫لما أتوْني بكأ ٍ‬
‫أظهر ُتنُسْكا وقلتُ الخم ُر أشربُها وال يعلم أن الخمر إضمَارى‬
‫آلى زعيمهم بالنار قد ط ِبخَــتْ يري ُد ِمدْحتها بالشين والعـارِ‬
‫فقلتُ‪َ :‬منْ ذا الذي بالنار عذّبَها ل خفّـفَ ال عنه كُـرْ َبةَ النّار‬

‫نعم كان حب أبى نواس الخمر ‪ ،‬وجنونه بها ‪ ،‬ورفعة لشأنها‬


‫بل وتقديسها أمراً ينفرد به فهو القائل‪:‬‬

‫وسمّــها أحســـن أسمائِهـــا‬ ‫اثن على الخمر بالئِهـــا‬


‫ليسوا إذا عُـدَوا بأكـفـائهــا‬ ‫والخمرُ قد يشربها معشرُ‬
‫لشك أن هوسه‬

You might also like