You are on page 1of 13

‫القديس إيرينيؤس أو صانع السالم ـ كما يعنى اسمه ـ هو أشهر آباء القرن الثانى فى شهادته لإليمان الرسولى ودفاعه

عن العقيدة‬
‫أيضا بـ"أبو التقليد"‪.‬‬
‫المسيحية فى مواجهة البدع الغنوسية‪ .‬ولذلك يستحق أن ُيلقب بمؤسس علم الالهوت المسيحى‪ ،‬وُلقب ً‬

‫نشأته‪:‬‬
‫من الصعب تحديد تاريخ ميالد إيرينيؤس بالضبط‪ ،‬ولكن علماء اآلباء يرجحون أنه ُولد ما بين ‪ 531‬ـ ‪541‬م‪ ،‬إذ يخبرنا‬
‫إيرينيؤس نفسه أنه فى شبابه المبكر عرف القديس بوليكاربوس الذى كان تلمي ًذا ليوحنا الرسول‪ ،‬وأن القديس يوحنا الرسول هو‬
‫أسقفا على كنيسة سميرنا أو أزمير‪ ،2‬إذ سجل لنا يوسابيوس المؤرخ من بين ما سجل من كتابات القديس‬
‫الذى أقام بوليكاربوس ً‬
‫إيرينيؤس الرسالة التى كتبها القديس إيرينيؤس إلى فلورينوس‪:‬‬
‫صبيا رأيتك فى آسيا السفلى مع بوليكاربوس تتحرك فى عظمة الحاشية الملكية‪ ،‬ومحاوالً أن تنال رضاه‪ .‬وإننى‬
‫[ ألننى لما كنت ً‬
‫أتذكر حوادث ذلك الوقت بوضوح أكثر من حوادث السنوات األخيرة‪ .‬ألن ما يتعلمه الصبيان يرسخ فى عقولهم‪ .‬كذلك ففى‬
‫إمكانى وصف نفس المكان الذى كان يجلس فيه المغبوط بوليكاربوس وهو يلقى أحاديثه‪ ،‬ودخوله وخروجه‪ ،‬وطريقة حياته‪ ،‬وهيئة‬
‫جسمه‪ ،‬وأحاديثه للشعب‪ ،‬والوصف الذى قدمه عن ِعشرته ليوحنا‪ ،‬واآلخرين الذين أروا الرب‪ ،‬وألن بوليكاربوس كان متذك ًار‬
‫كلماتهم‪ ،‬وما سمعه منهم عن الرب وعن معجزاته وتعاليمه الستالمها من شهود شهدوا بأعينهم كلمة الحياة‪ ،‬فقد روى كل شئ‬
‫بما يتفق مع األسفار المقدسة‪ .‬وإذ أصغيت إلى هذه األمور برحمة هللا بانتباه كبير مسجالً إياها ليس على ور ٍق بل فى قلبى‬
‫صرت أرددها على الدوام بأمانة بنعمة هللا]‪.3‬‬
‫ُ‬
‫تماما أن إيرينيؤس اتصل بالعصر الرسولى عن طريق القديس بوليكاربوس‪ ،‬وهذا ما أعده لكى يكون‬
‫ومن هذه الكلمات يتضح ً‬
‫أمينا للتقليد الرسولى الذى استلمه بواسطة بوليكاربوس الذى كان تلمي ًذا وصديًقا للقديس يوحنا الرسول وآخرين غيرهم من‬
‫شاهدا ً‬
‫ً‬
‫متجها إلى بالد الغال‬
‫ً‬ ‫الذين أروا الرب‪ .‬وبعد عدة سنوات من استشهاد القديس بوليكاربوس فى سنة ‪511‬م‪ ،‬رحل إلى الغرب‬
‫حاليا)‪ ،‬وربما يكون قد مكث بعض الوقت فى روما وهو فى الطريق إلى فرنسا‪ ،‬وقد يكون تتلمذ لبعض الوقت لمعلمين‬
‫(فرنسا ً‬
‫مثل يوستينوس الذى كان فى روما فى تلك الفترة قبل استشهاده‪ .‬ثم بعد ذلك انتهى به المطاف إلى الغال‪.‬‬
‫قسيسا لكنيسة ليون‪ ،‬للتوسط فى الصراع‬
‫ً‬ ‫وفى سنة ‪511‬م أرسله شهداء كنائس ليون وفيينا‪ ،‬الذين كانوا فى السجن‪ ،‬إذ كان‬
‫الذى نشأ بخصوص بدعة مونتانوس فى آسيا الصغرى‪ .‬وكان يحمل رسالة كنائس فيينا وليون إلى كنائس آسيا وفريجية‪ ،‬والتى‬
‫يرى بعض العلماء أنها من قلم إيرينيؤس نفسه‪ ،‬وقد ُحفظت أجزاء من هذه الرسالة فى تاريخ يوسابيوس الكتاب الخامس‪5 :‬ـ‪.3‬‬
‫كما أن كنائس ليون وفيينا أرسلت رسالة أخرى إلى إليفثريوس أسقف روما (‪511‬ـ‪ )581‬بواسطة إيرينيؤس‪ ،‬وقد شهد هؤالء‬

‫عن كتاب "الك ارزة الرسولية" – مركز دراسات اآلباء‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫أيضا يوسابيوس القيصرى‪ ،‬تاريخ الكنيسة‪.‬‬


‫انظر ‪ ،Against The Heresies (=AH) 3:3:4‬و ً‬
‫‪2‬‬

‫يوسابيوس القيصرى‪ :‬تاريخ الكنيسة‪ ،‬ترجمة القمص مرقس داود‪ ،‬ك‪ 1‬فصل‪1:25‬ـ‪ ،1‬الطبعة الثانية‪ ،‬مكتبة المحبة القاهرة ‪ ،5115‬ص‪212‬ـ‪.213‬‬ ‫‪3‬‬
‫المعترفون من السجن الشهادة التالية عن إيرينيؤس فى هذه الرسالة‪:‬‬
‫[ أيها األب إليفثريوس إننا مرة أخرى نرجو لك السالم من هللا على الدوام‪ .‬ولقد طلبنا من أخينا ورفيقنا إيرينيؤس أن يحمل‬
‫كبير ألنه مملوء غيرًة على وديعة المسيح وعهده‪ .‬فلو كان المركز ُيضفى ب ًار على‬
‫وقار ًا‬
‫هذه الرسالة إليك‪ ،‬ونتوسل إليك أن توقره ًا‬
‫أى واحد لكنا أوصينا‪ ،‬فهو به أول من يستحقون التوصية لكونه قسيس الكنيسة وهذا هو مركزه]‪.4‬‬
‫أسقفا لليون ً‬
‫خلفا له‪.‬‬ ‫شهيدا‪ ،‬وصار إيرينيؤس ً‬
‫ً‬ ‫وبعد أن رجع إيرينيؤس من روما‪ ،‬فإن أسقف ليون ُ‬
‫المسن فوتيوس توفى‬

‫كتابات إيرينيؤس‪:‬‬
‫كبير من وقته لمهمة دحض الهرطقات الغنوسية‬
‫باإلضافة إلى عمل إيرينيؤس الرعائى كأسقف إليبارشية‪ ،‬فإنه كرس جزًء ًا‬
‫بواسطة الكتابات الكثيرة التى كتبها لهذا الغرض‪ .‬وتظهر براعته وموهبته فى دحض التعاليم المنحرفة بنوع خاص فى الكتاب‬
‫وع ِرف باسم "ضد الهرطقات" فى خمس كتب‪ .‬هذا ولقد جمع إيرينيؤس بين معرفة‬
‫المشهور والضخم الذى كتبه القديس إيرينيؤس ُ‬
‫واسعة وشاملة لمصادر اإليمان والتقليد مع روح جادة وحماس دينى كبير‪ .‬فإن معرفته الشاملة بالتقليد الكنسى التى يدين بها‬
‫جدا فى‬
‫لعالقته بالقديس بوليكاربوس وغيره من تالميذ الرسل اآلخرين‪ ،‬هذه المعرفة بالتقليد الكنسى كانت مصدر قوة عظيمة ً‬
‫كفاحه ضد الهراطقة‪.‬‬
‫ومما ُيؤسف له أن كتاباته باللغة اليونانية ُفقدت فى وقت مبكر‪ .‬ولم يتبق من كتاباته وأعماله الكثيرة التى كتبها بلغته اليونانية‬
‫سوى كتابان‪:‬‬
‫‪ 5‬ـ أحد هذين الكتابين هو كتابه الذى يفوق كل الكتب األخرى فى أهميته من جهة اإليمان‪ .‬وهذا الكتاب هو ما اشتهر باسم‬
‫"ضد الهرطقات"‪ ،‬ولكنه لم يصلنا فى لغته اليونانية األصلية التى ُكتب بها بل فى ترجمة التينية وهى ترجمة حرفية‪ .‬وهذا الكتاب‬
‫يتكون من جزءين رئيسيين‪ .‬الجزء األول يكشف أصول وتفاصيل الهرطقة الغنوسية‪ .‬ويذكر فيه أسماء الهراطقة الغنوسيين ويعتبره‬
‫العلماء أفضل مصدر لمعرفة الغنوسية وتاريخها‪ .‬والجزء الثانى يدحض فيه تعاليم الغنوسيين خاصة فالنتينوس وماركيون‪ ،‬كما‬
‫المسلمة من الرسل‪.‬‬‫يوضح عقيدة الكنيسة عن اآلب واالبن‪ ،‬وكل عقائد اإليمان األساسية ُ‬
‫"الكرزة‬
‫ا‬ ‫‪ 2‬ـ والكتاب الثانى الهام الذى كتبه القديس إيرينيؤس هو "شرح الك ارزة الرسولية" ولسهول االستعمال سنذكره بعنوان‬
‫مفقودا طوال القرون الماضية‪ .‬ولم يكن لدينا سوى اسمه فقط‪ ،‬وقد ُحفظ اسمه فى‬
‫ً‬ ‫الرسولية"‪ .‬هذا الكتاب كان أصله اليونانى‬
‫كتاب تاريخ الكنيسة ليوسابيوس (الكتاب الخامس فصل‪ ،)21‬وفى سنة ‪5154‬م أ ارد هللا أن ُيكتشف هذا الكتاب الهام كامالً فى‬
‫ترجمة باللغة األرمينية‪ ،‬والذى اكتشفه هو "تيرمكيرتشيان" (‪ )Ter -Mekerttschian‬الذى قام بنشره للمرة األولى سنة ‪5151‬م‪.‬‬

‫ترجع أهمية القديس إيرينيؤس الالهوتية لسببين‪:‬‬


‫السبب األول‪ :‬أنه رفع القناع الذى كانت البدعة الغنوسية تغطى به تعليمها‪ ،‬مدعية أن تعاليمها هو اإليمان المسيحى الصحيح‪،‬‬

‫يوسابيوس القيصرى‪ ،‬تاريخ الكنيسة‪ ،2:4:1 ،‬ص ‪.241‬‬ ‫‪4‬‬


‫وبرفع هذا القناع استطاعت الكنيسة فى عصره أن تستبعد هذه الهرطقة من الكنيسة‪.‬‬
‫عظيما فى تحديد وتعريف عناصر إيمان الكنيسة الجامعة‪ ،‬الذى كان الغنوسيون ينكرونه أو‬
‫ً‬ ‫نجاحا‬
‫ً‬ ‫والسبب الثانى‪ :‬أنه نجح‬
‫يسيئون تفسيره‪ ،‬مما يجعله ًا‬
‫جدير بأن ُيلقب بـ"مؤسس علم الالهوت المسيحى"‪.‬‬
‫كان إيرينيؤس ال يميل إلى التفكير النظرى المجرد ولم يجتهد لكى ُيبدع اكتشافات الهوتية لم تكن ُمسلمة من الرسل‪ ،‬وبالعكس‬
‫العلم النظرى المجرد‪ .‬ولذلك نجده يقول فى كتاب "ضد الهرطقات"‪[ :‬من‬ ‫قد كان دائما يتشكك بسهولة فى أى نوع من المعرفة أو ِ‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫األفضل لإلنسان أال يحصل على علم أو معرفة عن السبب الذى ألجله ُخلق أى مخلوق من المخلوقات‪ ،‬بل بالحرى ينبغى أن‬
‫تؤمن باهلل وتستمر فى محبته أفضل من أن تنتفخ بمعرفة من هذا النوع وهذا يؤدى بك إلى السقوط من محبة هللا‪ ،‬التى هى حياة‬
‫صلِب من أجلنا‪ ،‬فمن يسعى‬ ‫اإلنسان‪ .‬وال ينبغى لإلنسان أن يسعى وراء أى معرفة أخرى سوى معرفة يسوع المسيح ابن هللا الذى ُ‬
‫ومعقدة فإنه سيسقط فى الكفر وعدم التقوى] (‪.)AH2:26:1‬‬ ‫مستخدما أسئلة خبيثة وتعبيرات ماكرة ُ‬
‫ً‬ ‫وراء معرفة أخرى‬
‫وبالرغم من موقفه الحذر والمتشكك تجاه التعاليم الالهوتية النظرية المجردة‪ ،‬كما يقول عالِم اآلباء المشهور جوهانسن‬
‫كواستن‪ ،1‬فإن إيرينيؤس جدير بمكانة عظيمة وفضل ال يبارى على اإليمان المسيحى‪ ،‬ألنه أول من قام بصياغة المصطلحات‬
‫العقائدية لكل تعاليم اإليمان المسيحى‪.‬‬

‫‪1‬ـ تعليم القديس إيرينيؤس عن الثالوث‪:‬‬


‫يتميز تعليم القديس إيرينيؤس عن الثالوث بالتأكيد على أن اإلله الواحد الحقيقى هو نفسه خالق العالم‪ ،‬وهو نفسه إله العهد‬
‫القديم‪ ،‬وهو نفسه أبو الكلمة‪ .‬ورغم أن إيرينيؤس ال يبحث فى العالقات بين األقانيم الثالثة أحدها باآلخر‪ ،‬إال أنه مقتنع أن وجود‬
‫اآلب واالبن والروح القدس ثابت بوضوح فى تاريخ الجنس البشرى‪ .‬فاآلب واالبن والروح القدس موجودون قبل خلقة العالم ألنه‬
‫كما يقول‪ ،‬فإن الكلمات‪ " :‬نصنع اإلنسان على صورتنا ومثالنا" (تكس‪ )21:5‬هى ُموجهة من اآلب إلى االبن والروح القدس‪،‬‬
‫هذين األقنومين اللذين يدعوهما القديس إيرينيؤس بلقب‪" :‬يدى هللا" (انظر ‪ .)5:5:1 ،5:28:1 ،AH5:19:3‬ويشرح القديس‬
‫إيرينيؤس بتكرار أن الروح القدس مع الكلمة يمأل األنبياء بمسحة الوحى وكيف أن اآلب هو الذى دبر كل هذه األمور‪ .‬ولذلك‬
‫فإن كل تدبير الخالص فى العهد القديم هو عند إيرينيؤس درس ممتاز رائع عن األقانيم الثالثة فى اإلله الواحد‪.‬‬

‫‪2‬ـ تعليم القديس إيرينيؤس عن المسيح‪:‬‬


‫أ ـ بخصوص عالقة االبن باآلب‪:‬‬
‫يقول القديس إيرينيؤس إنه ال يستطيع أحد أن يدرك كيفية والدة االبن من اآلب وال يستطيع أحد أن يفهم طبيعة هذه الوالدة‬
‫اإللهية‪ ،‬وما هو االسم الذى يطلقه عليها ألنها أمر يعلو على كل وصف أو شرح‪ .‬وال يوجد َم ْن يعرف هذه العالقة سوى اآلب‬
‫الذى يلد االبن‪ ،‬واالبن الذى ُوِل َد من اآلب‪ .‬ولذلك يقول القديس إيرينيؤس ‪ " :‬حيث إن هذه الوالدة ال يمكن التعبير عنها بالكالم‬
‫وتفوق اإلدراك‪ ،‬لذلك فإن أولئك الذى يحاولون أن يضعوا ويرتبوا والدات‪ 1‬وتولدات ال يمكن أن يكونوا عقالء ألنهم يحاولون أن‬
‫أمور من المستحيل وصفها" (‪.)AH2:28:6‬‬
‫يصفوا ًا‬

‫‪5‬‬ ‫‪Quasten, Patrology Vol. I, 294.‬‬


‫يقصد الغنوسيين الذين كانوا يؤمنون بوجود عدة والدات للدهور واألزمنة‪.‬‬ ‫‪6‬‬
‫ويقدم لنا القديس إيرينيؤس أول محاولة إلدراك العالقة بين اآلب واالبن فيقول‪ " :‬هللا قد أُعلِن من خالل االبن الذى هو فى‬
‫ردا على الغنوسيين‪.‬‬
‫اآلب والذى له اآلب فى ذاته" (‪ .)AH3:6:2‬كما يؤكد القديس إيرينيؤس أن اآلب هو نفسه خالق العالم وذلك ً‬
‫أيضا يعلم أنه يوجد مسيح واحد حتى إن كنا نعطيه أسماء عديدة‪ .‬لذلك فالمسيح هو ابن هللا‪ ،‬وهو الكلمة‪ ،‬وهو يسوع اإلله‬
‫وهو ً‬
‫المتجسد‪ ،‬وهو مخلصنا وربنا‪.‬‬

‫ب ـ ج ّمع الكل فى المسيح‪:‬‬


‫إن قلب تعليم إيرينيؤس عن المسيح بل ومحور وقلب كل تعليمه الالهوتى هو رؤيته الخاصة بـ " جمع الكل فى المسيح"‪.‬‬
‫واضح أن القديس إيرينيؤس استعار هذا التعبير من بولس الرسول فى رسالته إلى أفسس (‪ " )55:5‬لتدبير ملء األزمنة ليجمع‬
‫كبير حتى صارت فكرة " جمع كل شئ فى المسيح" تحوى كل تعليمه عن‬ ‫امتدادا ًا‬
‫ً‬ ‫كل شئ فى المسيح"‪ .‬ثم امتد بهذه الفكرة‬
‫التجسد والفداء وحلول الروح القدس وتأسيس الكنيسة‪ ،‬وكون المسيح رأس الجسد أى "الكنيسة"‪ .‬فيقول إيرينيؤس إن "جمع كل‬
‫شئ فى المسيح" يشمل أخذ كل األشياء منذ البداية وجعلها فى المسيح‪ .‬فاهلل أعاد الخطة اإللهية األولى الخاصة بخالص الجنس‬
‫البشرى التى انقطعت بسقوط آدم‪ ،‬وهو يجمع كل ما عمله منذ البداية لكى يجدد‪ ،‬ولكى يرد‪ ،‬ولكى يعيد تنسيق كل شئ فى ابنه‬
‫المتجسد‪ ،‬الذى يصير بهذه الطريقة هو آدم ٍ‬
‫ثان ألجلنا‪ .‬وحيث إنه بسقوط اإلنسان ضاع كل الجنس البشرى‪ ،‬فكان يلزم أن‬
‫إنسانا لكى يتمم إعادة خلق جنس البشر‪[ :‬المخلوقات التى هلكت كان لها جسد ودم ألن الرب صنع اإلنسان من‬
‫ً‬ ‫يصير ابن هللا‬
‫معينا بل‬
‫إنسانا آخر ً‬
‫ً‬ ‫جامعا فى نفسه ليس‬
‫ً‬ ‫ودما‬
‫جسدا ً‬
‫ت ارب األرض‪ ،‬وألجله حدثت كل تدبيرات مجيء الرب‪ .‬لذلك أخذ لنفسه ً‬
‫ذلك اإلنسان األول الذى خلقه اآلب‪ ،‬إذ انه كان يطلب ذلك الذى كان قد هلك] (‪.)AH5:14:2‬‬
‫شخصيا فقط بل وكل الجنس البشرى‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫ً‬ ‫وبهذا "الجمع" لإلنسان األصلى فى المسيح قد تم تجديد ورد ليس آدم األول‬
‫ومعطيا لنا الخالص لكى ننال مرًة أخرى فى‬
‫ً‬ ‫جامعا إيانا‬
‫ً‬ ‫إنسانا‪ ،‬جمع فى نفسه كل تاريخ اإلنسان الممتد‬
‫ً‬ ‫[حينما تجسد وصار‬
‫المسيح يسوع ما قد فقدناه فى آدم‪ ،‬أى صورة هللا ومثاله] (‪.)AH3:18:1‬‬
‫وفى نفس الوقت فإن النتائج الشريرة لعصيان آدم األول قد أُبيدت‪ ،‬إذ يقول‪[ :‬هللا جمع فى نفسه صورة اإلنسان القديمة‪ ،‬لكى‬
‫يقتل الخطية ويجرد الموت من سلطانه ويحيى اإلنسان] (‪ .)AH3:18:7‬وبهذه الطريقة فإن آدم الثانى قد َّ‬
‫جدد الصراع القديم‬
‫ضد إبليس وهزمه‪ ،‬إذ يقول القديس إيرينيؤس‪ [ :‬لو أن الرب كان قد أتى من أب آخر غير هللا اآلب لما كان قد جمع فى نفسه‬
‫تلك العداوة األولى ضد الحية‪ ،‬ولكن ألنه هو هو نفسه الذى هو واحد‪ ،‬وهو نفسه الذى صنعنا فى البداية ثم أرسل إلينا ابنه فى‬
‫مولودا من امرأة‪ ،‬إذ أباد عدونا كما أنه أكمل اإلنسان على صورة هللا ومثاله] (‪.)AH5:21:2‬‬
‫ً‬ ‫النهاية‪ ،‬فإن الرب تمم هذا األمر‪،‬‬
‫جدد المسيح كل شئ بجمعه كل شئ فى نفسه‪ .‬فيقول القديس إيرينيؤس‪[ :‬إذن فما الذى أحضره المخلص عند مجيئه‪،‬‬ ‫ولهذا َّ‬
‫جهارا‪ ،‬أن هناك جدة سوف تأتى‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اعلم أنه أتى بكل الجدة‪ ،‬بأن حضر بنفسه‪ ،‬وهو نفسه الذى سبق التنبؤ عنه‪ .‬ألن هذا قد أُعلن ً‬
‫لتجدد اإلنسان وتعطيه الحياة] (‪.)AH4:34:1‬‬

‫‪3‬ـ تعليم القديس إيرينيؤس عن الكنيسة‪:‬‬


‫طا وثيًقا بفكرته عن "جمع الكل فى‬
‫أ ـ تعليم القديس إيرينيؤس عن الكنيسة أو ما يسميه العلماء بـ"اإلكليسولوجى" مرتبط ارتبا ً‬
‫أيضا‪ .‬لذلك فقد جعله اآلب رأس الكنيسة كلها لكى يواصل‬
‫المسيح"‪ .‬فاهلل يجمع فى المسيح ليس الماضى فقط بل والمستقبل ً‬
‫بواسطتها عمل التجد يد إلى نهاية العالم‪ .‬فيقول‪ [ :‬لذلك إذ يوجد إله واحد هو اآلب كما سبق أن أوضحنا‪ ،‬ومسيح واحد هو‬
‫المسيح يسوع ربنا‪ ،‬الذى جاء بتدبير جامع وشامل لكى يجمع كل األشياء فى نفسه ‪ ،‬ومن ضمن كل هذه األشياء (المخلوقة)‬
‫دركا‬
‫المدرك صار ُم ً‬‫منظور وغير ُ‬
‫ًا‬ ‫أيضا فى نفسه‪ .‬فغير المنظور صار‬‫اإلنسان الذى هو خليقة هللا؛ لذلك فهو يجمع اإلنسان ً‬
‫جامعا كل األشياء فى نفسه من جديد‪ .‬وهكذا‪ ،‬فكما أنه هو األول بين الكائنات‬
‫ً‬ ‫إنسانا‬
‫ً‬ ‫متألما؛ والكلمة صار‬
‫ً‬ ‫وغير المتألم صار‬
‫أيضا هو األول بين األشياء المنظورة والجسمانية‪ ،‬فهو يأخذ الرئاسة لنفسه وإذ جعل‬
‫السماوية والروحية غير المنظورة‪ ،‬هكذا ً‬
‫نفسه رأس الكنيسة‪ ،‬فهو سوف يجذب كل األشياء إلى نفسه فى الوقت المحدد] (‪.)AH3:16:6‬‬
‫متيقنا بثبات تام أن تعليم الرسل مستمر بغير تغيير فى الكنيسة‪ .‬هذا التعليم أى التقليد هو مصدر‬
‫ً‬ ‫ب ـ القديس إيرينيؤس كان‬
‫اإليمان وقاعدته‪ ،‬فهو قانون الحق‪ ،‬وقانون الحق هذا عند إيرينيؤس هو قانون إيمان المعمودية‪ ،‬ألنه يقول إننا نستلمه فى‬
‫المعمودية (‪ .)AH1:9:4‬ويعطى القديس إيرينيؤس وصًفا إليمان الكنيسة بحسب قانون إيمان الرسل بالضبط‪ ،‬إذ يقول‪ [ :‬رغم‬
‫أن الكنيسة منتشرة فى كل العالم‪ ،‬منتشرة فى كل المسكونة من أقاصيها إلى أقاصيها‪ ،‬فقد استلمت من الرسل وتالميذهم اإليمان‬
‫بإله واحد‪ ،‬اآلب ضابط الكل‪ ،‬خالق السماء واألرض والبحار وكل ما فيها؛ واإليمان بالمسيح يسوع الواحد‪ ،‬الذى هو ابن هللا‪،‬‬
‫الذى تجسد ألجل خالصنا؛ واإليمان بالروح القدس الذى أعلن التدبير بواسطة األنبياء‪ ،‬أى بمجيء المسيح وميالده العذراوى‬
‫جسديا‪ ،‬وظهوره ثاني ًة من السماء فى مجد‬
‫ً‬ ‫وآالمه وقيامته من بين األموات‪ ،‬وصعود ربنا المحبوب المسيح يسوع إلى السماء‬
‫اآلب لكى يجمع كل األشياء فى نفسه ولكى يقيم أجساد كل البشر إلى الحياة‪ ،‬لكى تجثو للمسيح يسوع ربنا وإلهنا ومخلصنا‬
‫وملكنا كل ركبة‪ ،‬بحسب مشيئة اآلب غير المنظور‪ ،‬ولكى يعترف كل لسان له‪ ،‬ولكى يجرى دينونة عادلة للجميع ولكى يطرد‬
‫أرواح الشر والمالئكة الذين ت عدوا وصاروا مضادين وكذلك األثمة واألشرار ومخالفى الناموس والدنسين‪ ،‬يطرح الجميع فى النار‬
‫األبدية؛ ولكن فى نعمته سوف يهب الحياة ومكافأة عدم الفساد والمجد األبدى ألولئك الذين حفظوا وصاياه وثبتوا فى محبته سواء‬
‫منذ بداية حياتهم أو منذ وقت توبتهم‪ .‬هذه الك ارزة وهذا اإليمان تحفظه الكنيسة باجتهاد رغم أنها ُمشتتة فى كل العالم‪ ،‬تحفظه‬
‫بكل اجتهاد كما لو كانت كلها تسكن فى بيت واحد‪ ،‬وهى تؤمن بهذا وكأن لها عقل واحد وتكرز وتعلم وكأن لها فم واحد‪ ،‬ورغم‬
‫أن هناك لغات كثيرة فى العالم‪ ،‬إال أن معنى التقليد واحد‪ ،‬وهو هو نفسه‪ .‬ألن نفس اإليمان تتمسك به وتسلمه الكنائس المؤسسة‬
‫فى ألمانيا‪ ،‬وأسبانيا‪ ،‬وقبائل قوط‪ ،‬وفى الشرق‪ ،‬وفى ليبيا‪ ،‬وفى مصر‪ ،‬وفى المناطق الوسطى من العالم‪ .‬ولكن كما أن الشمس‬
‫أيضا نور ك ارزة الحق‪ ،‬الذى يضيء على كل الذين‬
‫وهى مخلوقة من هللا‪ ،‬هى واحدة‪ ،‬وهى هى نفسها فى كل المسكونة‪ ،‬هكذا ً‬
‫يرغبون أن يحصلوا على معرفة الحق] (‪.)AH1:10:1-2‬‬
‫المؤسسة من الرسل فقط هى التى يمكن أن ُيعتمد عليها فى معرفة التعليم الصحيح‬
‫ج ـ وعلم القديس إيرينيؤس أن الكنائس ُ‬
‫لإليمان ومعرفة الحق‪ ،‬ألن تسلسل األساقفة غير المنقطع فى هذه الكنائس هو الذى يضمن أن تعليمها هو الحق‪ [ :‬أى شخص‬
‫وظاهر فى كل كنيسة فى العالم كله‪ .‬ويمكننا أن نحصى أولئك‬ ‫ًا‬ ‫يريد أن يميز الحق‪ ،‬فإنه يمكن أن يرى التقليد الرسولى و ً‬
‫اضحا‬
‫أبدا ولم ُيعلموا بتاتًا أى‬
‫الذين أُقيموا كأساقفة من الرسل فى الكنائس وكذلك خلفائهم حتى إلى يومنا الحاضر والذين لم يعرفوا ً‬
‫شئ يشبه التعليم األحمق لهؤالء (أى الغنوسيين)‪ .‬فلو كان الرسل قد عرفوا مثل هذه األسرار الخفية التى يعلمونها على انفراد‬
‫وسر للكاملين لكانوا بالتأكيد قد استودعوا هذا التعليم للرجال الذين أقاموهم كمسئولين عن الكنائس‪ ،‬ألن الرسل كانوا يريدون أن‬
‫ًا‬
‫هؤالء الرجال الذين استلموا منهم السلطان أن يكونوا بال لوم أو عيب] (‪.)AH3:3:1‬‬

‫‪ 4‬ـ تعليم القديس إيرينيؤس عن الخالص‪:‬‬


‫ومؤهل للفداء‪ .‬وهذا نتج عن سقوط‬‫محور تعليم القديس إيرينيؤس عن الفداء هو حقيقة أن كل إنسان محتاج إلى الفداء ُ‬
‫األبوين األولين الذى جعل كل نسلهم تحت الخطية والموت‪ ،‬وقد فقدوا صورة هللا‪ .‬فالفداء الذى صنعه ابن هللا قد حرر البشر من‬
‫عبودية الشيطان وعبودية الخطية‪ ،‬وعبودية الموت‪ .‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬إن هذا الفداء استجمع كل البشرية فى المسيح‪ ،‬وقد أدى‬
‫إلى إعادة االتحاد باهلل‪ ،‬وإلى التبنى هلل‪ ،‬وإلى مشابهة هللا‪ .‬ولكن القديس إيرينيؤس يتحاشى لفظة التأليه فى هذا المجال ولكنه‬
‫يستخدم تعبيرات "االلتصاق باهلل"‪ ،‬و"التعلق باهلل" و"االشتراك فى مجد هللا"‪ ،‬ولكنه يتحاشى إلغاء الحدود الفاصلة بين هللا واإلنسان‬
‫معتادا فى الديانات الوثنية والهرطقات الغنوسية‪.‬‬
‫ً‬ ‫كما كان‬
‫والقديس إيرينيؤس يم يز بين صورة هللا ومثال هللا‪ ،‬فاإلنسان عنده هو فى طبيعته ـ بروحه غير المادية ـ هو صورة هلل‪ .‬أما‬

‫"مثال هللا" فهو مشابهة هلل من نوع فوق الطبيعة الذى كان آدم حاصالً عليه بمبادرة من صالح هللا ونعمته‪ .‬هذه ُ‬
‫المماثلة هلل‬
‫تتحقق بفعل روح هللا‪.‬‬
‫فداء الشخص المفرد يتم بواسطة الكنيسة وأسرارها باسم المسيح‪ ،‬فالسر بالنسبة للطبيعة هو يقابل آدم الجديد بالنسبة للقديم‪.‬‬
‫فالمخلوق ينال الكمال باألسرار‪ .‬فالسر هو ذروة جمع كل الخليقة فى المسيح‪ .‬بالمعمودية ُيولد اإلنسان ثانية من هللا‪ .‬وعندما‬
‫يتحدث عن المعمودية فإن إيرينيؤس يشهد ألول مرة فى الكتابات المسيحية القديمة لمعمودية األطفال‪ [ :‬لقد جاء ابن هللا ليخلص‬

‫الجميع بواسطة نفسه ـ أقول الجميع الذين ُيولدون ثانية بواسطة هللا ـ ُ‬
‫الرضع‪ ،‬واألطفال ـ والصبيان‪ ،‬والشباب‪ ،‬والشيوخ]‬
‫(‪.)AH2:22:4‬‬

‫‪5‬ـ تعليم القديس إيرينيؤس عن اإلفخارستيا‪:‬‬


‫القديس إيرينيؤس كان عنده اقتناع تام بالحضور الحقيقى للمسيح بجسده ودمه فى اإلفخارستيا لدرجة أنه يستنتج حقيقة قيامة‬
‫الجسد اإلنسانى من حقيقة كون هذا الجسد قد اغتذى بجسد المسيح ودمه‪:‬‬
‫[ لذلك‪ ،‬حينما يحصل الكأس الممزوج والخبز المصنوع‪ ،‬على "كلمة هللا"‪ ،‬وتصير اإلفخارستيا جسد المسيح ودمه‪ ،‬هذه التى‬
‫تنمى جسدنا وتسنده‪ ،‬فكيف يمكنهم أن يؤكدوا أن الجسد غير مهيأ لنوال موهبة هللا‪ ،‬التى هى الحياة األبدية؛ جسدنا هذا الذى‬
‫ازديادا من الخبز الذى‬
‫ً‬ ‫يتغذى من جسد الرب ودمه‪ ،‬والذى هو عضو له؛ ذلك الجسد الذى يغتذى بالكأس التى هى دمه‪ ،‬وينال‬
‫هو جسده‪ .‬وكما أن الفرع المأخوذ من الكرمة عندما ُيغرس فى أوانه‪ ،‬أو كما أن حبة الحنطة التى تسقط فى األرض وتموت‬
‫أيضا‪ ،‬إذ‬
‫وتتحلل؛ تقوم بازدياد بأنواع كثيرة بقوة روح هللا‪ ،‬وتصير هى اإلفخارستيا التى هى جسد المسيح ودمه‪ ،‬هكذا أجسادنا ً‬
‫تتغذى منها‪ ،‬فإنها عندما توضع فى األرض‪ ،‬وتتحلل وتموت‪ ،‬فإنها سوف تقوم فى وقتها المعين لها] (‪ .)AH5:2:3‬وفى موضع‬
‫آخر يقول‪:‬‬
‫[ وكيف يقولون إن الجسد يصير إلى فساد وال يشترك فى الحياة‪ ،‬وهو الذى يتغذى على جسد الرب ودمه‪ .‬فإما أن يغيروا‬
‫رأيهم‪ ،‬أو فليكفوا أن يقدموا التقدمات التى ذكرتها‪ .‬أما نحن فإن تعليمنا متفق مع اإلفخارستيا‪ ،‬واإلفخارستيا بدورها تثبت صحة‬
‫تعليمنا‪ .‬ونحن نقدم له التقدمات التى هى له‪ ،‬وبالتالى نكون مظهرين شركتنا واتحادنا‪ ،‬ومعترفين بقيامة الجسد والروح‪ .‬ألنه كما‬
‫عاديا بل إفخارستيا مكونة من عنصرين‪ ،‬واحد أرضى واآلخر‬ ‫خبز ً‬‫أن الخبز الذى من األرض‪ ،‬إذ ينال عطية هللا‪ ،‬ال يبقى بعد ًا‬
‫أيضا أجسادنا‪ ،‬إذ تنال من اإلفخارستيا‪ ،‬ال تعود فيما بعد قابلة للفساد‪ ،‬بل يصير لها رجاء القيامة األبدية]‬
‫سماوى‪ ،‬هكذا ً‬
‫(‪.)AH4:18:5‬‬
‫ومن هذه الكلمات يتضح أن القديس إيرينيؤس يؤمن بأن الخبز والخمر يتقدسان بصالة استدعاء الروح‪ .‬وكذلك يؤمن بأن‬
‫اإلفخارستيا ذبيحة‪ ،‬ألنه يرى فيها الذبيحة الجديدة التى تنبأ عنها مالخى‪:‬‬
‫[وإذ أعطى (الرب) توجيهات لتالميذه أن يقدموا باكورات من كل األشياء المخلوقة التى له ـ ليس كمن هو فى احتياج إليها‪،‬‬
‫بل لكى ال يكونوا هم أنفسهم غير مثمرين‪ ،‬وال غير شاكرين ـ لذلك أخذ ذلك الشئ المخلوق‪ ،‬أى الخبز‪ ،‬وشكر‪ ،‬وقال‪ " :‬هذا هو‬
‫جسدى" وكذلك الكأس بالمثل‪ ،‬التى هى جزء من تلك الخليقة التى ننتمى نحن إليها‪ ،‬هذه الخمر اعترف بأنها دمه‪ ،‬وعلم عن‬
‫القربان الجديد الذى للعهد الجديد‪ ،‬والذى تقدمه الكنيسة هلل فى كل العالم كما استلمته من الرسل‪ ،‬وهى تقدمة لذاك الذى يعطينا‬
‫باكورة عطاياه للعهد الجديد كوسيلة للبقاء والوجود‪ ،‬تلك التقدمة التى تنبأ عنها مالخى أحد األنبياء االثنى عشر قائالً‪ " :‬ليست‬
‫لى مسرة بكم قال رب القوات (الرب القدير)‪ ،‬وال أقبل تقدمة من يدكم‪ .‬ألنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمى عظيم بين‬
‫األمم‪ ،‬وفى كل مكان يُقرب السمى بخور وتقدمة طاهرة ألن اسمى عظيم بين األمم قال رب القوات (الرب القدير)" ً‬
‫مبينا بأوضح‬
‫طريقة بهذه الكلمات‪ ،‬أن الشعب القديم (اليهود) سيكف عن أن يقدم تقدمات هلل‪ ،‬ولكن سوف تُقدم له (هلل) تقدمات فى كل مكان‪،‬‬
‫تقدمات طاهرة‪ ،‬وأن اسمه سوف يتعظم بين األمم] (‪.)AH41:17:5‬‬

‫‪ 6‬ـ تعليمه عن اإلنسان‪:‬‬


‫يتبنى القديس إيرينيؤس فكرة تكوين اإلنسان من جسد ونفس تنال الروح‪ :‬فيقول‪ [ :‬الجميع يعترفون أننا مكونون من جسد‬
‫مأخوذ من األرض‪ ،‬ونفس تلك التى تنال الروح من هللا] (‪.)AH3:22:1‬‬
‫إنسانا كامالً‪ .‬ويبدو أن القديس إيرينيؤس‪ ،‬مثل الرسول‬
‫ً‬ ‫لذلك فالجسد البشرى الذى تحييه نفس طبيعية (أو حيوانية) فقط ليس‬
‫شخصيا‪ .‬فالمسيح وعد بهذا الروح كعطية لرسله‬
‫ً‬ ‫دائما يعتبر "الروح" الذى يكمل ويتوج الطبيعة البشرية‪ ،‬هو روح هللا‬
‫بولس‪ً ،‬‬
‫ومؤمنيه‪ ،‬والرسول بولس يقول للمسيحيين مرة بعد مرة إنهم يحملون هذا الروح فى داخلهم كما فى هيكل‪ .‬ويتضح تعليم إيرينيؤس‬
‫عن اإلنسان من الفقرة التى يصف فيها اإلنسان الكامل المخلوق على صورة هللا‪:‬‬
‫[ أنه بيدى اآلب‪ ،‬أعنى باالبن والروح ُخلِق اإلنسان ـ وليس مجرد جزء من اإلنسان ـ ُخلِق على مثال هللا‪ .‬فالنفس والروح هما‬
‫أيضا ليس هما اإلنسان؛ ألن اإلنسان الكامل يتكون من مزيج واتحاد النفس بنوالها روح اآلب‪،‬‬‫بالتأكيد جزء من اإلنسان وبالتأكيد ً‬
‫أيضا على حسب صورة هللا‪ ..‬ألنه إذا استبعد أحد الجسد من صناعة يدى هللا‪ ،‬واعتبر‬ ‫وخليط تلك الطبيعة اللحمية التى ُجبلت ً‬
‫روحيا بل يكون روح إنسان أو روح هللا‪ .‬ولكن حينما تتحد الروح المندمجة مع النفس‬
‫ً‬ ‫إنسانا‬
‫ً‬ ‫الروح فقط صنعته‪ ،‬فإن هذا ال يكون‬
‫صِنع على صورة هللا ومثاله‪ .‬ولكن‬
‫روحانيا وكامالً بسبب انسكاب الروح عليه‪ ،‬وهذا هو "اإلنسان" الذى ُ‬
‫ً‬ ‫بالجسد‪ ،‬يصير اإلنسان‬
‫ناقصا حتى إن‬ ‫لحميا‪ ،‬فسيكون ً‬
‫كائنا ً‬ ‫ً‬ ‫إن كانت النفس بال روح‪ ،‬فالذى يكون هكذا هو فى الحقيقة من طبيعة حيوانية وإذ يبقى‬
‫كان يملك صورة هللا فى تكوينه‪ ،‬ولكنه غير حاصل على المماثلة بواسطة الروح؛ ولهذا يكون غير كامل‪ .‬ولذلك ً‬
‫أيضا‪ ،‬إذا استبعد‬
‫ٍ‬
‫عندئذ أن يفهم أن هذا الكائن هو إنسان ـ كما قلت سابًقا ـ أو كشئ ما آخر‬ ‫جانبا فإنه ال يستطيع‬
‫أحٌد الصورة ووضع الجسد ً‬
‫إنسانا كامالً بذاته‪ ،‬ولكنه جسد إنسان وجزء من إنسان‪ ،‬وكذلك النفس ذاتها‬
‫ً‬ ‫غير اإلنسان‪ .‬ألن ذلك الجسد الذى قد ُجِبل ليس هو‬
‫أيضا فإن الروح‬
‫إنسانا بل هى نفس اإلنسان وجزء من اإلنسان‪ .‬وكذلك ً‬ ‫ً‬ ‫إذا اعتُبرت بذاتها فقط (أى بدون الجسد)‪ ،‬فهى ليس‬
‫إنسانا كامالً] (‪.)AH5:6:1‬‬
‫ً‬ ‫معا واتحادهم يكون‬
‫إنسانا‪ ،‬ألنها تُدعى الروح‪ ،‬وال تُدعى اإلنسان؛ ولكن امتزاج الثالثة ً‬
‫ً‬ ‫ليست‬
‫وفى موضع آخر من نفس الكتاب يقول‪ [ :‬إذن‪ ،‬يوجد ثالثة عناصر ـ كما سبق أن أوضحت ـ يتكون منها اإلنسان "الكامل"‬
‫ِ‬
‫ويشكل‪ ،‬وهذا هو الروح‪ .‬أما بالنسبة للعنصر اآلخر فهو المتحد‬ ‫وهى‪ :‬الجسد‪ ،‬والنفس‪ ،‬والروح‪ .1‬أحد هذه الثالثة هو الذى ُيحفظ‬
‫الم َشكل فذلك هو الجسد؛ والعنصر الثالث هو بين هذين االثنين ذلك هو النفس التى فى بعض األحيان حينما تسير وراء الروح‬ ‫وُ‬
‫ٍ‬
‫أحيان أخرى إن مالت ناحية الجسد فإنها تسقط فى الشهوات الجسدية‪ .‬إذن فأولئك الناس الذين‬ ‫تسمو بواسطة الروح‪ ،‬ولكن فى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سيدعون هكذا ً‬
‫‪8‬‬
‫ودما"‪.‬‬
‫"لحما ً‬ ‫ودما" ‪ ،‬وبذلك ُ‬
‫"لحما ً‬
‫ليس عندهم ما يخلص ويشكل للحياة األبدية وليس فيهم الوحدة فإنهم يكونوا ً‬
‫ألن هؤالء هم الذين ليس لهم روح هللا فى أنفسهم ومثل هؤالء تكلم عنهم الرب بأنهم أموات حين قال " دع الموتى يدفنون‬
‫موتاهم" (لو‪ ،)15:55‬ألنه ليس عندهم الروح الذى يحيى اإلنسان" (‪.)AH5:9:1‬‬
‫ويفهم من تعليم القديس إيرينيؤس عن اإلنسان أن قبول العنصر الثالث وحفظه ـ أى الروح ـ والذى يتوقف عليه كمال اإلنسان‬
‫ُ‬
‫الجوهرى هو مشروط بإرادة اإلنسان وسلوكه الروحى واألخالقى‪ .‬فحتى الوجود األبدى للنفس يعتمد على سلوكها هنا على‬
‫األرض‪ ،‬ألن النفس ليست خالدة بطبيعتها‪ .‬فإن خلودها أمر متصل بالنمو الروحى واألخالقى‪ .‬فالنفس يمكنها أن تصير خالدة‬
‫إن كانت شاكرة لخالقها؛ وفى هذا يقول القديس إيرينيؤس‪:‬‬
‫[ ألنه كما أن السماء التى هى فوقنا‪ ،‬أى الجلد والشمس والقمر وبقية الكواكب‪ ،‬وكل عظمتها‪ ،‬ورغم أنها ليس لها وجود‬
‫أيضا فكل إنسان يفكر هكذا من‬‫سابق‪ ،‬قد ُدعيت إلى الوجود‪ ،‬وتستمر موجودة لفترة طويلة من الزمن بحسب إرادة هللا‪ ،‬هكذا ً‬
‫جهة النفوس واألرواح وفى الواقع من جهة كل المخلوقات لن يضل فى تفكيره بأى حال‪ .‬إذ أن كل األشياء التى قد ُخلقت لها‬
‫موجودة مادام هللا يريد أن يكون لها وجود واستمرار ‪ ...‬ألن الحياة ال تُنشأ منا وال من طبيعتنا‬
‫ً‬ ‫صنعت وتستمر‬
‫بداية وذلك حينما ُ‬
‫الخاصة‪ ،‬بل تُمنح لنا حسب نعمة هللا‪ .‬ولذلك فاإلنسان الذى يحافظ على الحياة الممنوحة له ويشكر خالقه الذى َو َهبه إياها سوف‬
‫ينال طول أيام إلى األبد وإلى أبد اآلبدين‪ .‬أما ذلك الذى يرفض العطية (الحياة) ويبرهن على أنه غير شاكر لخالقه ـ إذ أن هذا‬
‫اإلنسان مخلوق ـ ولم ُي ِقدر ذلك الذى منحه الحياة ولم يعرفه‪ ،‬فهذا اإلنسان يحرم نفسه من امتياز الدوام إلى األبد وأبد اآلبدين]‬
‫(‪.)AH2:34:3‬‬
‫ومن الجدير بالمالحظة كما يقول ‪ 1Massuet‬إن عبارة القديس إيرينيؤس "لذلك فهذا اإلنسان يحرم نفسه من امتياز الدوام‬
‫إلى األبد"‪ ،‬ينبغى أن تُفهم بما يتفق مع تأكيدات القديس إيرينيؤس المتكررة أن األشرار سيكونون فى تعاسة إلى األبد‪ .‬فهذه العبارة‬
‫إذن ال تشير إلى مالشاة األشرار كلي ًة بل الحرمان من السعادة‪.‬‬

‫يشدد القديس إيرينيوس على أن اإلنسان الكامل يتكون من الجسد والنفس والروح‪ ،‬والروح عنده تناله النفس من هللا‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫ودما ال يرث ملكوت السموات"‪.‬‬


‫لحما ً‬
‫‪5‬كو‪ ،1:51‬وهنا يرد القديس إيرينيوس على الغنوسيين الذين نادوا بأن الجسد ال يخلص ألنه شرير فى ذاته بتفسيرهم الخاطئ لهذه اآلية " فإن ً‬
‫‪8‬‬

‫مالحظة ‪ Massuet‬هذه أوردها ناشـ ـ ـ ـ ــر المجلد رقم ‪ 5‬من مجموعة ‪ A.N.F‬الذى يحوى كتاب "ضـ ـ ـ ـ ــد الهرطقات" للقديس إيرينيوس وجاءت المالحظة فى هام‬ ‫‪9‬‬

‫صفحة ‪ 452‬من المجلد رقم ‪ 5‬تعليًقا على العبارة المقتبسة أعاله من الكتاب الثانى من ضد الهرطقات (‪.)AH2:34:3‬‬
‫فكرة عامة عن الغنوسية وتعاليمها‬

‫‪ I‬مقدمة‬
‫هى فلسفة دينية متعددة الصور‪ .‬واللفظ اليونانى »‪( «γνώσις‬غنوسيس) يعنى معرفة‪ .‬ومبدؤها أن المعرفة الحقيقية ليست‬
‫العلم بواسطة المعانى المجردة واالستدالل المنطقى كالفلسفة‪ ،‬ولكن معرفة الحس التجريبى الناتج عن اتحاد العارف بالمعروف‪.‬‬
‫أما غايتها فهو الوصول إلى معرفة هللا على هذا النحو‪ ،‬بكل ما في النفس من قوة حاسة وعاطفة وخيال‪.‬‬
‫فالغنوسية هى نزعة صوفية تزعم أنها المثل األعلى في المعرفة‪ ،‬وتزعم أن أصلها يرجع إلى وحى أنزله هللا منذ البدء وتناقله‬
‫سرا‪ ،‬كما أنها تَ ِعد مريدوها بكشف األسرار اإللهية لتحقيق النجاة‪ .‬لذلك كان العامة منها يؤخذون بسحر طقوسها‪ ،‬أما‬
‫المريدون ً‬
‫الخاصة فكانوا يتعلقون بتعاليمها النظرية‪ .‬هذه التعاليم مزيج من اآلراء واألساطير التي كانت شائعة حينذاك‪ ،‬فكانت الغنوسية‬
‫تطفى على األديان والمذاهب بالتأويل والتحوير‪ ،‬مدعية تحويلها إلى معنى أعمق‪ .‬وقد فعلت ذلك مع األديان الوثنية‪ ،‬ومع‬
‫اليهودية‪ ،‬ومع المسيحية‪ ،‬ولذلك تفرقت منها فرًقا كثيرة في أنحاء العالم اليونانى الرومانى‪.‬‬
‫بالنسبة آلرائها الرئيسية والمشتركة بين جميع المجموعات الغنوسية هى‪ :‬في قمة الوجود هللا الكائن غير المدرك‪ ،‬السرمدى‪،‬‬
‫وذكر وأنثى‪ ،‬ولكنها‬
‫فزوجا ًا‬ ‫ثم السكون‪ ،‬ثم الهاوية‪ .‬هذه الكائنات هى أرواح يسمونها أيونات وأراكنة‪ ،‬وصدرت هذه األيونات ً‬
‫زوجا ً‬
‫تتضائل في األلوهية كلما ابتعدت عن المصدر‪ .‬أراد أحدها أن يرتفع إلى مقام هللا‪ ،‬فطرد من العالم المعقول‪ .‬عن هذا األيون أو‬
‫األركون الخاطئ صدرت أرواح شريرة مثله وصدر العالم المحسوس الذي لم يكن ليوجد لوال الخطية‪ ،‬ألنه عالم شر وصانعه‬
‫شرير‪ ،‬والمادة المصنوع منها رديئة وذلك ألن األيون هو الذي حبس النفوس البشرية في أجسامها‪ ،‬فكون اإلنسان‪ .‬ولكن النفوس‬
‫تتوق إلى النجاة‪ :‬نجاة من الحياة العاجلة المسيطرة على العالم السفلى بتأثير النجوم ونجاه في الحياة اآلجلة بالرغم من كيد‬
‫الشيطان غير أن الناجون قليلون‪.‬‬
‫فإن الناس طوائف ثالثة متمايزة بالطبيعة ال بالنية أو االرادة فحسب‪ :‬الطائفة الولى وهم الروحيون‪ ،‬وهم من أصل إلهى‬
‫يكفل لهم النجاة‪ ،‬أولئك هم الغنوسيون صفوة البشر‪ ،‬والطائفة الثانية وهم الماديون‪ ،‬وهم مركبون من المادة والتي تعوقهم عن‬
‫الصعود فوق العالم السفلى‪ ،‬أما الطائفة الثالثة هم الحيوانيون‪ ،‬وهم يؤلفون طبقة وسطى قابلة لالرتفاع والسقوط‪ ،‬للنجاة أو‬
‫الهالك‪ .‬ووسيلة النجاة هو قهر الجسم واطراح كل ما يثقل النفس ويمنعها من البلوغ إلى المقر الروحانى النورانى الذي منه‬
‫هبطت‪ .‬وهناك فريق آخر أطلق العنان للشهوة بحجة أن الجسم شئ دنئ عديم القيمة ال حساب له‪.‬‬

‫‪ II‬الغنوسية المسيحية‬
‫كبير‬
‫خطر ًا‬
‫ما كادت المسيحية تظهر حتى تلقفتها الغنوسية‪ ،‬فتزينت بزيها ونافستها منافسة قوية من سوريا إلى روما‪ ،‬فكانت ًا‬
‫عليها طوال القرون األربعة األولى‪.‬‬
‫كان أول ظهورها في السامرة‪ ،‬ثم في االسكندرية‪ ،‬أى األوساط التي كانت الغنوسية الوثنية ناشطة فيها بنوع خاص‪ .‬ففي‬

‫ساحر اسمه سيمون وكان يده الناس وشعب السامرية ويعلم ً‬


‫نوعا من الغنوسية‪ ،‬وكان على جانب‬ ‫ًا‬ ‫السامرة كان هناك رجالً‬
‫أيضا فيلون ويصطنع منهجه في تفسير العهد‬
‫من العلم‪ ،‬يروى أشعار اليونانيين ويعرف فلسفتهم وبخاصة أفالطون‪ ،‬ويعرف ً‬
‫القديم رمزًيا‪ .‬فجاء فيلبس الرسول يبشر بالمسيح في السامرة‪ .‬فلما سمعوا أقواله وعاينوا اآليات التي صنعها‪ ،‬آمنوا واعتمدوا‪،‬‬
‫أيضا لِ َما كان ُيجرى من اآليات العظيمة‪ ،‬فآمن واعتمد ولزم فيلبس‪ .‬ولما أتى بطرس ويوحنا عرض‬ ‫وده سمعان (سيمون) ً‬
‫عليهما أن يبتاع منهما القدرة على منح الروح القدس‪ ،‬فنهره بطرس قائالً له إن قلبه غير مستقيم امام هللا وحثه على التوبة (راجع‬
‫أع‪ .) 1:8‬ولكنه استأنف دعايته وزعم أن اإلله األعلى أظهر نفسه للسامريين كآب في شخصه هو؛ وأظهر نفسه لليهود كابن في‬
‫شخص المسيح‪ ،‬وأظهر نفسه في البالد األخرى كروح قدس‪ .‬وقد انتشرت تعاليمه وكانت حرًبا على التعاليم المسيحية‪ ،‬باالضافة‬
‫إلى أن تعاليم سيمون كانت تعتمد على الخرافة والسحر‪.‬‬

‫‪ III‬التعاليم الغنوسية لكل من‪ :‬باسيليدس‪ ،‬فالنتين‪ ،‬ماركيون‬


‫كبير‪ ،‬فنهضت الجماعات المسيحية والكنائس لتحمى‬
‫نجاحا ًا‬‫ً‬ ‫في القرن الثانى ظهر غنوسيون مسيحيون متفلسفون وحققوا‬
‫المؤمنين من هذه البدع الغنوسية‪ .‬وأشهر هؤالء الغنوسيين‪ :‬باسيليدس‪ ،‬فالنتين‪ ،‬ماركيون‪.‬‬
‫باسيليدس علم بدعته باالسكندرية فيما بين ‪525‬ـ‪545‬م‪ ،‬وفالنتين ولد في شمال مصر وتعلم باالسكندرية ثم قصد إلى روما‬

‫وأقام بها ‪ 35‬سنة (‪531‬ـ‪511‬م) وهناك انشق عن الكنيسة وكون مذهبه‪ .‬أما ماركيون فذهب إلى روما حوالى ‪545‬م ً‬
‫قادما من‬
‫سببا في قطعه من شركة‬
‫أسيا الصغرى‪ ،‬ولما بدأ في التعليم أحدث اضطرًابا بين الرؤساء‪ ،‬فنشر رسالة يبين فيها معتقده وكانت ً‬
‫يعا في المسيحية واستمرت إلى أواخر القرن السادس‪.‬‬
‫الكنيسة وتبعته جماعة وتكاثرت حوله وأنشأ كنيسة انتشرت سر ً‬
‫تبعا لتعاليمهم ويصوغون تعاليمهم بألفاظ وعبارات مسيحية‪ .‬فهم‬
‫الغنوسيون المسيحيون باالجمال يفسرون العقائد المسيحية ً‬
‫جبارا‪ ،‬بينما اإلنجيل‬
‫قاسيا ً‬ ‫ُيقيَّمون الثنائية على ما يزعمون من تعارض بين التوراة واإلنجيل‪ ،‬إذ يقولون إن التوراة تصور ً‬
‫إلها ً‬
‫يكشف لنا عن إله وديع حليم َخيَّر للغاية‪ .‬وذهب باسيليدس للقول بأن إله العهد القديم ما هو إال رئيس المالئكة األشرار‪ ،‬أما‬

‫ماركيون على ضوء المعنى السابق ألف ً‬


‫كتابا أسماه " األضداد " جمع فيه آيات متقابلة ليستنتج منها تغاير اآللهة والشريعتين‪.‬‬
‫إله العهد الجديد هو اإلله األعلى‪ ،‬اإلله الحق‪ ،‬اإلله اآلب‪ ،‬خالق العالم المعقول‪ ،‬ابو المسيح‪ ،‬إله المسيحيين‪ ،‬وإله العهد القديم‬
‫هو صانع العالم المحسوس وإله اليهود الذي عنى بهم وقهر أعدائهم من أجلهم‪ .‬فاألول يعلم العالم المعقول والعالم المحسوس‬
‫شيئا عن اإلله‬
‫تماما واستطاع أن يقول‪ :‬أنا اإلله األول وليس فوقى إله آخر‪ ،‬ولم يعرف أنبياؤه ً‬
‫وصانعه والثانى يجهل األول ً‬
‫األعلى بما فيهم آخرهم يوحنا المعمدان … الشريعة القديمة قائمة على أن العين بالعين والسن بالسن‪ ،‬والشريعة الجديدة هى‬
‫الموعظة على الجبل‪ .‬وال صلة بين المسيح المخلص وبين المسيح الحربى الذي وعد به أنبياء العهد القديم الناطقون عن وحى‬
‫تاما‪ ،‬ويقبلون من بين األناجيل‬
‫إلههم‪ ،‬ولكن المسيح جاء لتحقيق رسالة مساندة للمسيحية‪ .‬لذلك كان الغنوسيون ينبذون التوراة نب ًذا ً‬
‫والرسائل ما يروق لهم‪ ،‬ويحذفون ما ال يقبلونه من الفصول واآليات المناقضة آلرائهم‪.‬‬
‫باسيليدس يضع بعد (اآلب) ثمانى مجردات مشخصة صدر بعضها عن بعض‪ ،‬الواحد تلو اآلخر‪ ،‬منها الحكمة والعدالة‬
‫والسالم‪ ،‬ويقول إن المالئكة األُول الصادرين عن الحكمة صنعوا السماء األولى‪ ،‬والمالئكة الصادرين عنهم صنعوا السماء الثانية‪،‬‬
‫وهكذا صنعت على التوالى ‪ 311‬سماء‪ ،‬وذلك هو السبب في أن السنة ‪ 311‬يوم‪ .‬أما فالنتين فيقول‪ :‬إن الحياة اإللهية انتشرت‬
‫أيضا‪ .‬واأليون‬
‫بصدورات مزدوجة ال مفردة فيضع الشهوة في األيونات أو المالئكة يتزاوجون ويلدون أيونات أخرى فيها شهوة ً‬
‫ناسيا أنه مخلوق‬
‫األخير " صوفيا " = الحكمة‪ ،‬لما رأى أن األيونات ولدت بالتزاوج‪ ،‬وأن اآلب ولد بمفرده‪ ،‬أراد أن يفعل مثله ً‬
‫مشوشا ال صورة له هو الذي قصده موسى بقوله " وكانت األرض كذرة " (حسب قول فالنتين)‬ ‫ً‬ ‫وأن اآلب غير مخلوق‪ ،‬فولد ً‬
‫شيئا‬
‫فانزعج العالم اإللهى لهذا المولود وتضرعت األيونات إلى اآلب أن يتحنن على صوفيا‪.‬‬
‫وأراد اآلب أن يقضى على العمل المشئوم الذي عمله الصانع‪ ،‬وأن يخلص اإلنسانية التعيسة التي لم يخلقها‪ ،‬والتي لم تكن‬
‫تعرفه فنزل المسيح من السماء لم يولد من العذراء مريم‪ ،‬بل ظهر تام التكوين‪ ،‬وأخذ يعلم ويعرف الناس باآلب‪ ،‬ولم يتخذ له‬
‫ماديا‪ ،‬بل ظهر في شبه جسد‪ ،‬ألن المادة رديئة‪ ،‬وألنها ملك الصانع‪ .‬ويختلف الرأى بين الغنوسيين‪ :‬فيقول البعض إن‬
‫جسدا ً‬
‫ً‬
‫المسيح لم يتألم ولم يمت‪ ،‬ولكن سمعان القيروانى هو الذي تألم ومات مكانه وبصورته‪ ،‬ويقول ماركيون‪ :‬إن المسيح مات من‬
‫أجل البشر وحررهم من سلطان الصانع‪ .‬وك ان بعضهم يضع المسيح في مرتبة أدنى من المالئكة‪ ،‬والبعض اآلخر يضعه في‬
‫مرتبة أعلى‪.‬‬
‫كما افترقوا فيما يترتب على رداءة المادة واحتقار الجسم‪ ،‬فذهب فريق إلى منع الزواج‪ ،‬وذهب فريق آخر إلى إباحة جميع‬
‫األفعال‪ ،‬وإعفاء النفس من تبعية ضعف الجسم‪ .‬أما بالنسبة للمشاهير الثالثة من الجماعات الغنوسية (باسيليدس‪ ،‬فالنتين‪،‬‬
‫ماركيون) فكانوا مع الرأى األول‪ .‬فقال باسيليدس‪ :‬إن الشهوة الجنسية ولو أنها طبيعية‪ ،‬إال أنها ليست ضرورية‪ .‬ومنع ماركيون‬
‫جميعا في إنكار قيامة األجساد ويؤوله البعض إلى أن‬
‫ً‬ ‫الزواج بهدف العمل على انقراض البشرية بأسرع ما يمكن‪ .‬ويتفقون‬
‫المقصود بهذا هو المعمودية التي تبعث النفس الخاطئة من الموت الروحى إلى الحياة الروحية‪.‬‬
‫مغاير هلل‪ ،‬وأن للنفس‬
‫ًا‬ ‫صانعا‬
‫ً‬ ‫وكان المسيحيون ينكرون ذلك أشد االنكار‪ ،‬كما كانوا ينكرون التعاليم الغنوسية‪ ،‬في أن للعالم‬
‫حياة سابقة على الحياة األرضية‪ ،‬وأن الخطية األصلية ارتكبت في العالم المعقول‪ ،‬وأن المادة شريرة بالذات‪ ،‬وأن األجسام ال‬
‫تقوم‪ .‬ولما كانت هذه القضايا افالطونية‪ ،‬وكان الغنوسيون يستشهدون بأفالطون في صددها‪ ،‬فقد دعا البعض من المسيحيين‬

‫أفالطون بأنه أب البدع‪ ،‬في الوقت الذي كان فيه غيرهم يعتبره ً‬
‫مهما بالنسبة للفلسفات المسيحية‪.‬‬
‫لقد عاشت الكنيسة في صراع داخلى لمواجهة هذه األخطار الغنوسية وصارعت أكثر من قرنين لتوضح باألقوال الالهوتية‬
‫خطورة التعاليم الغنوسية المسيحية‪ .‬ومن أهم األعمال الالهوتية ضد الغنوسية‪ :‬القديس ايريناؤس في السنوات العشر األخيرة من‬
‫القرن الثانى‪ ،‬هيبوليتوس‪ ،‬كليمندس االسكندرى‪.‬‬

‫‪ IIII‬الماركونية‬
‫آثار " ماركيون " االضطراب في القرن الثانى والثالث الميالدى في الكنيسة واألوساط المسيحية‪ ،‬والسبب في ذلك يكمن في‬
‫اعتباره كمؤسس للكنيسة " الغنوسية "‪ .‬فعندما فتح الغنوسيون المدارس والمعاهد الالهوتية الهرطوقية‪ ،‬أسس ماركيون كنيسة‬
‫بتسلسل كهنوتى كامل مع األسرار وقد اعتبر في ذلك الوقت أنه عبقرى ماهر استطاع أن يقنع كثيرين من المسيحيين بأن كنيسته‬
‫هى الكنيسة الحقيقية‪ ،‬لذلك لم يستطع كثير من المؤمنين أن يميزوا بين أسس تعاليمهم الالهوتية وبين األصول العميقة للتعاليم‬
‫شخصية هذا الرجل‪.‬‬ ‫الغنوسية والتي كان ينادى بها‪ .‬لذلك كان االرتباك الذي أحدثه في الكنيسة عميًقا‪ ،‬حتى أنه إلى اليوم تُناق‬
‫وقد وصفته الكنيسة في القرون األولى للمسيحية بأنه رئيس الهرطقة الغنوسية ومؤسس طائفتها‪.‬‬
‫ماركيون في تعاليمه لم ينفصل عن الغنوسية‪ ،‬بالرغ م من أن بعض النظريات الغنوسية مثل " األيونات " (وهى كائنات‬
‫متوسطة بين هللا واإلنسان) غابت عن تعاليمه وأنظمته‪ .‬ولكن العناصر األساسية للتعاليم الغنوسية هى التي كانت أساس التعليم‬
‫عند ماركيون مثل‪ :‬نظرية وجود رئيسين في العالم‪ ،‬المادة والروح‪ ،‬باالضافة إلى التحامل على العهد القديم‪ ،‬احتقار المادة‪،‬‬
‫التعاليم الخيالية … وظل أثر هذه الطائفة‪ ،‬أى طائفة ماركيون ـ حتى القرن السادس الميالدى‪.‬‬

‫‪ IV‬من أتباع التعاليم الغنوسية‪ :‬المانوية‬


‫المانوية عبارة عن مزيج من الديانات الشرقية والمسيحية‪ ،‬وهى تنتمى في تعاليمها األساسية إلى التعاليم الغنوسية‪.‬‬
‫مؤسس هذه الديانة هو مانى بن فانك‪ ،‬وقد ولد في مملكة بابل عام ‪251‬م‪ ،‬وكانت بابل في ذلك الوقت أحد المراكز العلمية‬
‫الهامة للشعوب والديانات الموالية لمبدأ التحيز‪ ،‬باالضافة إلى أنها مركز لتأليف المذاهب‪.‬‬
‫فارسيا ينتمى إلى شيعة ثنائية‪ ،‬فأنشأ ابنه مانى عليها‪ .‬ق أر مانى الكتب الدينية المختلفة‪ ،‬ومنها كتب الغنوسية‪ .‬ولما‬
‫ً‬ ‫كان أبوه‬
‫بلغ الرابعة والعشرين من عمره ادعى النبوة وشرع يعظ ثم قصد إلى الهند وأعلن هناك ما يسمى بـ " أمل الحياة "‪ .‬ولما ارتقى‬
‫شابور عرش فارس عام ‪ 245‬استدعى مانى وأذن له أن يعظ في أنحاء المملكة‪ ،‬ولكن مذهبه لقى معارضة شديدة لخروجه عن‬
‫الزرادشتيه (وهى الديانة التي كانت سائدة في مملكة فارس وكان الملك شابور ينتمى إليها)‪ ،‬فأمر الشاه بن شابور بإعدامه وكان‬
‫ذلك عام ‪212‬م‪.‬‬
‫جديدا‬
‫ً‬ ‫دينا‬
‫قال مانى مثلما قال ازرادشت بأن العالم له مبدأين أو أصلين‪ ،‬أحدهما نور واآلخر ظلمة‪ .‬ولكنه قصد أن يضع ً‬
‫تتحد فيه سائر األديان‪ .‬فقال‪ " :‬لقد اندمجت الكتب القديمة في كتبى‪ ،‬فتألفت منها حكمة كبرى ال نظير لها في كل ما أعلن‬
‫لألجيال السابقة "‪ .‬هذا الدين الجديد تَغلب عليه التعاليم المسيحية‪ .‬فقال مانى أنه رابع ثالثة تقدموه‪ :‬المسيح‪ ،‬ازرادشت‪ ،‬بوذا‪،‬‬
‫ويمتاز هو عليهم بأنه وعظ وكتَب‪ ،‬بينما هم اقتصروا فقط في تعاليمهم على الوعظ‪ ،‬ولكن مانى يقدم المسيح على االثنين‬
‫اآلخرين حيث يقول عن نفسه أنه " الباراقليط " الذي قال عنه يسوع‪ " :‬حينما أذهب أرسل اليكم المعزى " أى الروح القدس‪ .‬كما‬
‫أنه يدعى أنه جاء بالوحى الذي وعد به يسوع تالميذه‪ ،‬وأنه خاتم المرسلين‪ .‬ولكنه كان يتصرف في األناجيل على ما يروق له‬
‫تعاليما عن األناجيل المنحولة والتي كانت شائعة في أيامه‪ ،‬وكان يقول إن المسيح لم‬
‫ً‬ ‫من حذف أو اثبات‪ ،‬كما أنه كان ينقل‬
‫يولد بل جاء رجالً كامالً‪ ،‬كما أنه لم يمت على ا لصليب بل الذي صلب هو الشيطان‪ ،‬وكان يرفض العهد القديم ويتهكم على‬
‫وي َّحمل على الديانة اليهودية‪ ،‬وكل ذلك مأخوًذا من التعاليم الغنوسية‪.‬‬
‫أنبياء بنى إسرائيل‪ُ ،‬‬
‫الناس عند مانى هم طوائف ثالثة‪:‬‬
‫علما وعمالً‬
‫‪ 5‬ـ طائفة الصديقين أو المختارين‪ ،‬وهم أتباعه األوفياء ً‬
‫‪ 2‬ـ طائفة المستمعين وهم المعتنقون مذهبه وغير عاملين به‬
‫‪ 3‬ـ طائفة الخطاة وهم أهل األديان األخرى‬
‫سالحا وال يحاربون‪ ،‬وال يذبحون الحيوانات وال يأكلونها‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫عاما وال يحملون‬
‫منصبا ً‬
‫ً‬ ‫فالصديقون ال يتزوجون‪ ،‬وال يتولون‬

‫يشربون الخمر‪ ،‬وهؤالء تصعد نفوسهم إلى النعيم بعد الموت ً‬


‫فورا‪.‬‬
‫أما السامعون‪ ،‬فهم يشاركون في جميع الشعائر‪ ،‬ولكنهم ال يقوون على القيام بسائر التكاليف والمهام الدينية‪ ،‬غير أنهم‬
‫تكفير عن تقصيرهم في اللحاق بهم‪ .‬وهؤالء تبقى‬
‫ًا‬ ‫ملزمون أن يتزوجوا‪ ،‬ويقتصرون على امرأة واحدة‪ ،‬وباالحسان إلى الصديقين‬
‫جسما آخر ثم آخر حتى تنتهى إلى جسم صديق‪ ،‬وتلك هى المرحلة األخيرة قبل الصعود‬
‫نفوسهم بعد الموت في هذا العالم فتدخل ً‬
‫إلى النعيم‪ .‬بالنسبة للخطاة فهم هالكون في جهنم‪.‬‬
‫كانت المانوية منظمة في كنيسة على رأسها " القائد " مقره بابل وهذا القائد هو خليفة مانى وكان يسمى "سيسينيوس" عام‬
‫أسقفا‪ ،‬ثم جماعة من الكهنة‪ ،‬وجمهرة من الشمامسة‪.‬‬
‫تشبها باالثنى عشر رسوالً‪ ،‬ويليهم ‪ً 12‬‬
‫‪285‬م‪ ،‬وكان حوله اثنا عشر معل ًما ً‬
‫وكانت تعترف بسرين فقط يمنحان للصديقين‪ :‬المعمودية واإلفخارستيا‪ .‬وكانت لها طقوس انتشرت في الشرق حتى الصين‬
‫اما‪ ،‬حيث ثبتت حتى القرن الثالث عشر الميالدى‬
‫وفي الغرب حول البحر المتوسط‪ .‬وكانت آخر البدع الغنوسية وأقواها وأكثرها دو ً‬
‫وكانت تهدد التعاليم المسيحية في كل من إيطاليا وفرنسا‪ .‬وكانت كتبها معروفة باللغة السريانية منذ القرن الرابع الميالدى‪.‬‬
‫وقد كان آلباء الكنيسة دور بارز في الرد على بدعة وتعاليم مانى ألنها تسببت في صنع ارتباك واختالط بين تعاليمها‬
‫والتعاليم المسيحية وذلك في كثير من الكنائس‪ .‬وأهم َمن قاموا بالرد على هذه البدعة‪ :‬األسقف سيرابيون من تمويه‪ ،‬العالمة‬
‫ديديموس الضرير‪ ،‬تيطس من بصرة‪ ،‬أغسطينوس‪ ،‬مارافرام السريانى‪.‬‬

You might also like