You are on page 1of 76

‫الدكتور عبد العزيز بن عثامن التوجيري‬

‫مستقبل اللغة العربية‬

‫مع الرتجمتني اإلنجليزية والفرنسية‬

‫منشورات املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكوـ الطبعة الثانية ‪1436 :‬هـ‪2015/‬م‬
‫التصفيف والتوضيف باإليسيسكو‬
‫رقم اإليداع القانوين ‪2004/1583 :‬‬
‫ردمك ‪9981-26-365-6 :‬‬
‫السحب ‪ :‬مطبعة اإليسيسكو‬
‫الرباط ـ اململكة املغربية‬
‫© جميع الحقوق محفوظة لإليسيسكو‬
‫© صدرت الطبعة األوىل يف ‪1425‬هـ‪2004/‬م‬
‫فهرس‬

‫مقدمة ‪7.........................................................................................................‬‬ ‫‪n‬‬

‫لغة اإلعالم وآثارها يف حتقيق التنمية اللغوية‪11.............................‬‬ ‫‪n‬‬

‫‪ n‬مرشوع اإليسيسكو لكتابة اللغات األفريقية‬


‫‪31‬‬ ‫‪.....................................................................................‬‬ ‫باحلرف العريب‬
‫اللغة العربية ‪ .......‬قضية وجود‪51 ..........................................................‬‬ ‫‪n‬‬

‫اللغة العربية ‪ .......‬إىل أين؟‪61 .................................................................‬‬ ‫‪n‬‬

‫توصيات الندوة الدولية حول اللغة العربية إىل أين ‪69................‬‬ ‫‪n‬‬
‫مقدمة‬
‫يشغل مستقبل اللغة العربية جمهرة علامء اللغة واملفكرين واألدباء‬
‫والكتاب والباحثني الذين يهتمون بتطور الفكر واللغة واألدب والحياة‬
‫الثقافية بشكل عام يف العامل العريب اإلسالمي‪ .‬وتنال هذه القضية قسطاً‬
‫وافرا ً من اهتاممات مجامع اللغة العربية‪ ،‬وأقسام اللغة العربية وآدابها‬
‫يف الجامعات العربية‪ ،‬ويف الجامعات اإلسالمية والعاملية التي بها كليات‬
‫وأقسام للغة العربية‪ ،‬ويف مراكز البحوث والدراسات العربية اإلسالمية‪ ،‬ويف‬
‫تختص بالرتبية والثقافة‪ ،‬ويف املقدمة‬
‫املنظامت والهيئات واملؤسسات التي ّ‬
‫منها‪ ،‬املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬واملنظمة العربية للرتبية‬
‫والثقافة والعلوم‪ ،‬ومكتب تنسيق التعريب التابع لها‪ ،‬ويف الصحافة واإلعالم‬
‫وأقسام الرتجمة يف املعاهد والكليات املتخصصة‪.‬‬
‫فالتفكري يف مستقبل اللغة العربية قضية بالغة األهمية يف الفكر‬
‫العريب اإلسالمي املعارص‪ ،‬لها صلة وثيقة بسيادة األمة العربية اإلسالمية عىل‬
‫ثقافتها وفكرها‪ ،‬وعىل كيانها الحضاري‪ ،‬وعىل حارضها ومستقبلها‪ .‬فهذه‬
‫(قضية سيادة) باملعنى الشامل‪ ،‬وليست مجرد قضية لغوية وأدبية وثقافية‪.‬‬
‫ويشكّل التفكري يف حارض اللغة العربية ويف مستقبلها‪ ،‬أحد أهم‬
‫االنشغاالت التي تستقطب اهتاممي منذ فرتة طويلة‪ ،‬فقد عنيت بهذه‬
‫القضية عناية بالغة‪ ،‬قارئاً‪ ،‬ودارساً‪ ،‬ومسؤوالً يف موقعي باملنظمة اإلسالمية‬
‫انصب اهتاممي عىل بحث القضايا املتعلقة‬
‫للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬حيث َّ‬
‫‪-7-‬‬
‫مبستقبل اللغة العربية‪ ،‬وتحليل حالة لغة الضاد يف هذا العرص‪ ،‬باملقارنة مع‬
‫أخص‪ ،‬يف‬
‫ما كانت عليه يف عصور سابقة‪ ،‬وخاصة يف عرص النهضة‪ ،‬وبصورة ّ‬
‫النصف األول من القرن العرشين‪.‬‬
‫أي كائن من عوارض‪ ،‬ويخضع‬ ‫حي‪ ،‬يعرتيه ما يعرتي ّ‬ ‫إ َّن اللغة كائن ّ‬
‫وللمتغيات التي تحدث‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لتقلبات الزمن نتيج ًة للتطورات التي تقع‪،‬‬
‫وللمستجدات التي تطرأ‪ .‬وحياة اللغة من حياة أبنائها‪ ،‬وهي تقوى أو تضعف‪،‬‬
‫حني يقوون أو يضعفون‪ .‬واللغة عنرص فاعل يف الحضارة‪ ،‬وعامل مؤثر يف‬
‫النهضة‪ ،‬فكلام قامت حضارة ونـمـا فرعها وأينعت شجرتها وأمثرت‪ ،‬ازدهرت‬
‫اللغة واغتنت‪ ،‬وامت َّد إشعاعها وانترشت‪ .‬وتطَّر ُد هذه القاعدة يف كل العصور‪،‬‬
‫وترسي عىل جميع الحضارات املتعاقبة واللغات التي عرفها اإلنسان‪.‬‬
‫وال يطعن أحد من الباحثني املتتبعني ملسار تطور اللغات‪ ،‬يف صحة‬
‫يحق لنا أن نعتمدها يف الحكم عىل حالة اللغة العربية‬ ‫هذه القاعدة التي ّ‬
‫يف هذا العرص‪ ،‬ويف فهم ظاهرة تراجع اللغة العربية والضعف الذي اعرتاها‬
‫واملشكالت التي تعانيها‪ .‬فواقع هذه اللغة هو انعكاس للوضع الذي وصلت‬
‫إليه األمة‪ ،‬وهو صورة للحالة التي توجد عليها‪ .‬ولذلك كان االهتامم مبعالجة‬
‫مشكالت اللغة‪ ،‬وبحث قضاياها للخروج بها من الدائرة التي ترتاجع فيها‬
‫أهميتها لدى فئات واسعة من أبنائها‪ ،‬جزءا ً ال يتجزأ من االهتامم بقضايا‬
‫البناء الحضاري للعامل اإلسالمي‪.‬‬
‫ومن هنا نشأت عندي الرغبة يف أن أدلو بدلوي يف البحوث اللغوية‬
‫التي تهتم بتطوير اللغة العربية وتطويعها‪ ،‬حتى تكون لغة املستقبل‪ ،‬كام‬
‫كانت لغة التألق الحضاري يف تاريخ األمة‪ ،‬مستعيناً بالدراسات األكادميية‬
‫التي أنجزتها يف مرحلة سابقة يف مجال اللسانيات انطالقاً من تخصيص‬
‫‪-8-‬‬
‫األكادميي يف اللغة اإلنجليزية‪ ،‬معتمدا ً املنهج املقارن‪ ،‬ومنفتحاً عىل أحدث‬
‫ما عرفه الحقل اللساين من بحوث مبتكرة انتهت إىل نتائج تفيد الباحث‬
‫العريب يف الوقوف عىل العلل واألسباب التي أدت إىل ضعف اللغة العربية‬
‫وعدم مسايرتها للركب الحضاري‪.‬‬
‫وملا رشفت بالعضوية يف مجمع اللغة العربية بالقاهرة‪ ،‬تضاعفت‬
‫اهتاممايت مبستقبل اللغة العربية‪ ،‬فكان أن شاركت ببحثني إثنني يف الدورتني‬
‫التاسعة والستني والسبعني لهذا املجمع‪ ،‬األول حول موضوع ‪( :‬لغة اإلعالم‬
‫وآثارها اإليجابية يف تحقيق التنمية اللغوية)‪ ،‬والثاين حول موضوع ‪:‬‬
‫(مرشوع اإليسيسكو لكتابة اللغات األفريقية بالحرف العريب ووضع معاجم‬
‫عربية لها)‪ .‬ولقد رأيت أن يف نرش هذين البحثني فائدة للباحثني والدارسني‬
‫وطلبة العلم يف الجامعات وعموم القراء‪ ،‬ألن فيهام جهدا ً واجتهادا ً وتجديدا ً‬
‫وتطويرا ً‪ ،‬وفيهام أيضاً‪ ،‬ما أراه مفيدا ً ونافعاً يف تأمني استمرار تواصل الدور‬
‫الحضاري للغتنا‪ ،‬ومتكينها من االستجابة ملتطلبات التطور اللغوي الذي‬
‫تعرفه اللغات الحية األخرى ذات النفوذ الفاعل واالنتشار الواسع يف العامل‪.‬‬
‫ومن املؤكد أن مرشوع اإليسيسكو الحضاري لكتابة اللغات األفريقية‬
‫بالحرف العريب‪ ،‬هو مرشوع مستقبيل بالدرجة األوىل‪ ،‬ألنه يهدف إىل عودة‬
‫لغات طائفة من الشعوب اإلسالمية األفريقية إىل دائرة الحرف العريب‪ ،‬مام‬
‫ويوسع من مجال استخدام هذه اللغة‪ ،‬ومي ّد إشعاعها‬‫يقربها إىل لغة الضاد‪ّ ،‬‬
‫إىل آفاق رحبة‪ .‬فهذا عمل يدخل يف نطاق جهودنا من أجل ضامن مستقبل‬
‫أفضل للغة العربية‪.‬‬
‫وقد حرصت عىل أن يض ّم هذا الكتاب مقاالً يل نرشته يف جريدة‬
‫(األهرام) القاهرية الواسعة االنتشار يف ‪1999/8/6‬م‪ ،‬بعنوان (اللغة العربية‬
‫‪-9-‬‬
‫‪ ..‬قضية وجود)‪ ،‬وهو املقال الذي أثار ردود فعل إيجابية يف حينه‪ ،‬والذي‬
‫له صلة وثيقة بـمستقبل اللغة العربية‪.‬‬
‫النص الكامل للتوصيات التي‬ ‫كام رأيت أن أنرش يف هذا الكتاب ّ‬
‫صدرت عن الندوة الدولية حول (اللغة العربية ‪ ...‬إىل أين ؟) التي نظمت‬
‫يف الرباط يف شهر نوفمرب ‪2002‬م‪ ،‬بالتعاون بني املنظمة اإلسالمية للرتبية‬
‫والعلوم والثقافة‪ ،‬والبنك اإلسالمي للتنمية‪ ،‬ملا فيها من توجيه‪ ،‬وتقويم‪،‬‬
‫ودعوة إىل التصحيح‪ ،‬لضامن مستقبل أفضل للغة العربية‪ ،‬والرتباطها الوثيق‬
‫بهذا السياق‪ ،‬وألنها مثال للجهود التي وفقني اللَّه إىل بذلها يف خدمة لغة‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫وألن لهذا الكتاب قيمته العلمية وأهميته الثقافية‪ ،‬فقد حرصت‬
‫عىل نرش طبعته الثانية بعد نفاد الطبعة األوىل التي صدرت قبل إحدى‬
‫عرشة سنة‪.‬‬
‫واللَّه املوفق وهو الهادي إىل سواء السبيل‪.‬‬

‫الدكتور عبد العزيز بن عثامن التويجري‬


‫املدير العام للمنظمة اإلسالمية‬
‫للرتبية والعلوم والثقافة‬

‫‪- 10 -‬‬
‫لغة اإلعالم وآثارها يف‬
‫حتقيق التنمية اللغوية‬
‫‪-1-‬‬
‫يجمع علامء اللغة وفقهاؤها عىل حقيقة ال شك فيها قط‪ ،‬وهي‬
‫أن اللغة‪ ،‬من حيث هي لغة‪ ،‬كائن حي‪ ،‬يخضع لقانون النمو ولسنة‬
‫التطور‪.‬‬
‫أصيل يف حياة اللغة بـام هي كائن اجتامعي‪،‬‬ ‫أصل ٌ‬ ‫إ ّن التط ّور ٌ‬
‫وأساس التطور هو الوجود البسيط أوالً‪ ،‬ثم النامء املرتقي ثانياً‪ ،‬وخالل‬
‫هذا االنتقال يتكون الكائن مرتقياً‪ ،‬ويتغري تغريات مندرجة (‪.)1‬‬
‫ولكننا ال نذهب إىل أبعد مدى يف التسليم بهذه املقولة‪ ،‬أو لنقل‬
‫بعبارة أدق‪ ،‬إننا ال نفهم التطور مبعنى القطيعة مع الرتاث‪ ،‬واالقتالع‬
‫من الجذور‪ ،‬وتجاوز األصول والثوابت‪ .‬ولذلك فإ َّن الرأي الذي نعتمده‬
‫يف هذه القضية‪ ،‬هو تطور اللغة يف إطار خصائصها وضوابطها‪ ،‬ومبنهجية‬
‫يضعها اللغويون‪.‬‬
‫وليس يف حرصنا عىل االلتزام بهذه املنهجية حج ٌر عىل الفكر‬
‫رضب من التزمت واالنغالق واالنكفاء عىل الذات‪ ،‬وإمنا‬‫ٌ‬ ‫اللغوي‪ ،‬أو‬
‫هو االنضباط الذي يقتضيه تعاملنا مع هذه القضية‪ ،‬واالحتياط الذي‬
‫يستوجبه قيامنا بواجبنا تجاه لغتنا‪.‬‬

‫(‪ )1‬أمني الخويل‪ ،‬مشكالت حياتنا اللغوية‪ ،‬ص‪ ،46 :‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪1987 ،‬م‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫وإىل ذلك‪ ،‬فإن للتطور اللغوي مستويات نذكر منها مستويني؛‬
‫املستوى األول‪ ،‬تطوير اللغة من الداخل‪ ،‬ونقصد به مسايرة من ّو‬
‫املجتمع ومواكبة تطوره‪ ،‬من خالل االشتقاق والنحت والتجوز والتوليد‬
‫والتعريب‪ ،‬وهذا الرضب من التط ّور بطيء بطبيعته‪ ،‬قد ال يشعر به‬
‫أهل اللغة يف جيل أو عدة أجيال‪ ،‬ألنهم يعيشونه ويندمجون فيه‪ ،‬وإمنا‬
‫تشعر به وتلمسه األجيال الالحقة‪ .‬أما املستوى الثاين‪ ،‬فهو تطوير اللغة‬
‫رصف يف اللغة‬ ‫من الخارج‪ ،‬ونقصد به التأثريات الضاغطة التي تفرض الت ّ‬
‫قلباً وتحويرا ً‪ ،‬وحذفاً وإضافة‪ ،‬وإفسادا ً وتشويهاً‪ ،‬وخروجاً عىل القواعد‬
‫وقهري‪ ،‬ألنه‬
‫ٌّ‬ ‫املتبعة واألصول املعتمدة‪ ،‬وهذا الرضب من التطور ق َْس ٌّي‬
‫مفروض بقوة الواقع‪ ،‬أو تحت تأثري غزو فكري يستصحب غزوا ً لغوياً‪.‬‬
‫كذلك هو النم ّو الذي قد تعرفه لغة من اللغات‪ ،‬فهو ال يكون من ًّوا‬
‫سليامً بصورة مطردة‪ ،‬وإمنا قد يكون من ًّوا عشوائياً يفسد اللغة ويد ّمر‬
‫أركانها‪.‬‬
‫ومل تعرف اللغة العربية عرب تاريخها الطويل ما تعرفه اليوم من‬
‫رسعة يف النم ّو‪ ،‬واندفاع يف التط ّور ومسايرة املتغريات‪ ،‬بحكم عوامل‬
‫لعل أقواها تأثريا ً‪ ،‬النفوذ الواسع الذي‬
‫كثرية ونتيجة ألسباب متعددة‪َّ ،‬‬
‫متتلكه ومتارسه وسائل اإلعالم املقروءة واملسموعة واملرئية‪ ،‬والذي‬
‫يبلغ الدرجة العليا من التأثري عىل املجتمع‪ ،‬يف قيمه ومبادئه‪ ،‬ويف نظمه‬
‫وسلوكياته‪ ،‬ويف ثقافته ولغته‪ ،‬وعىل النحو الذي يفقد بعض املجتمعات‬
‫هويتها الحضارية‪ ،‬وينال من خصوصياتها الثقافية‪ ،‬ويف املقدمة منها‬
‫الخصوصية اللغوية‪.‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫‪-2-‬‬
‫إن العالقة بني اللغة واإلعالم ال تسري دامئاً يف خطوط متوازية؛‬
‫فالطرفان ال يتبادالن التأثري‪ ،‬نظرا ً إىل انعدام التكافؤ بينهام‪ ،‬أل ّن اإلعالم‬
‫هو الطرف األقوى‪ ،‬ولذلك يكون تأثريه يف اللغة بالغاً الدرجة التي‬
‫تضعف الخصائص املميزة للغة‪ ،‬وتُلحق بها أرضارا ً تصل أحياناً إىل‬
‫تش ّوهات تفسد جاملها‪.‬‬
‫وكل فرع من فروع النشاط اإلنساين لغة‬ ‫لكل علم وفن ّ‬
‫وإذا كان ّ‬
‫خاصة به‪ ،‬مبعنى من املعاين‪ ،‬فإن اللغة يف اإلعالم تختلف‪ ،‬من وجوه‬
‫كثرية‪ ،‬عنها يف تلك الحقول من التخصصات جميعاً‪ ،‬فهي يف موقف‬
‫ضعف أمام قوة اإلعالم وجربوته‪ ،‬فقلام تفرض اللغة نفسها عىل اإلعالم‪،‬‬
‫وإمنا اإلعالم هو الذي يهيمن عىل اللغة‪ ،‬ويقتحم حرمها‪ ،‬وينال من‬
‫مك ّوناتها ومقوماتها‪ ،‬فتصبح أمام عنفوانه وطغيانه‪ ،‬ط ّيعة لينة‪ ،‬تسري يف‬
‫ركابه‪ ،‬وتخضع إلرادته‪ ،‬وتخدم أهدافه‪ ،‬وال متلك إزاءه سلطة وال نفوذا ً‪.‬‬
‫وملا كانت قوة اللغة تستمدها من قوة أهلها‪ ،‬ألن اللغة تقوى‬
‫وتزدهر وتنترش‪ ،‬بقدر ما تتق ّوى األمة التي تنتسب إليها وترتقى يف‬
‫مدارج التقدم الثقايف واألديب والعلمي واالزدهار االجتامعي والسيايس‬
‫والحضاري‪ ،‬فإن الوضع الذي تعيشه األمة العربية اإلسالمية يف هذه‬
‫املرحلة من التاريخ‪ ،‬ال يوفر للغة العربية حظوظاً أكرب للربوز وامتالك‬
‫رشوط القوة‪ ،‬مام يرتتب عليه ضعف اللغة وعدم قدرتها عىل فرض‬
‫الوجود والتحكم يف تو ّجهات اإلعالم‪ ،‬والخروج من دائرة سيطرة نفوذه‪،‬‬
‫والفكاك من هيمنة وسائله‪ ،‬بحيث تصري اللغة تابعة لإلعالم‪ ،‬متجاوز ًة‬
‫بذلك الفواصل بني اإلصالح واإلفساد‪.‬‬
‫‪- 15 -‬‬
‫لقد كان الغيورون عىل لغة الضاد عند ظهور الصحافة يف البالد‬
‫العربية يف القرن التاسع عرش‪ ،‬يحذرون من انحدار اللغة إىل مستويات‬
‫متدنية‪ ،‬فتعالت صيحات الكتاب واألدباء يف غري ما قطر عريب‪ ،‬داعية إىل‬
‫الحرص عىل صحة اللغة وسالمتها‪ ،‬وظهرت عدة كتب تعنى مبا اصطلح‬
‫عليه بلغة الجرائد؛ تصحح الخطأ‪ ،‬وتق ّوم املعوج من أساليب الكتابة‪،‬‬
‫وتر ّد االعتبار إىل اللغة العربية‪ .‬وقد أفلحت الجهود التي بذلها أساطني‬
‫اللغة والرواد األُول الحريصون عىل سالمة اللغة السائدة يف الصحافة‪ ،‬أو‬
‫(اللغة الس َّيارة)‪ ،‬قياساً عىل قولنا (الصحف الس َّيارة)‪.‬‬
‫ولكن مع االنتشار الواسع للصحافة الذي تَ َزا َم َن مع االزدياد يف‬
‫عدد املتعلمني من خريجي الجامعات واملعاهد واملدارس‪ ،‬وما استصحب‬
‫ذلك كلّه من هبوط يف املستوى الدرايس بصورة عامة‪ ،‬نتيجة ألسباب‬
‫وعوامل كثرية‪ ،‬اقتصادية وسياسية وثقافية‪ ،‬انتهى األمر إىل ضعف‬
‫اللغة العربية وهيمنة اللهجات العامية املحلية عليها‪ ،‬ورسيان ذلك إىل‬
‫وسائل اإلعالم‪ ،‬عىل نحو يكاد أن يكون مطردا ً‪ ،‬بعد أن مل تعد تجدي‬
‫صيحات التحذير التي يطلقها علامء اللغة والغيورون عليها‪ ،‬ومل تعد‬
‫تنفع القرارات والتوصيات التي تصدر عن املجامع اللغوية‪ ،‬أو تلك التي‬
‫تصدر عن الندوات واملؤمترات املختصة‪.‬‬
‫وقد ترت َّب عىل هذا الوضع الذي وصلت إليه اللغة العربية‪ ،‬أن‬
‫دخلت عرص اإلعالم الواسع االنتشار‪ ،‬وهي تعاين من ضعف املناعة‪ ،‬مام‬
‫أ َّدى إىل هجوم مكتسح وغزو جارف مام يطلق عليه (لغة اإلعالم)‪ ،‬عىل‬
‫اللغة الفصحى‪ ،‬فوقع تداخل بني اللغتني الفصيحة والعامية‪ ،‬تولَّدت عنه‬
‫لغة ثالثة هجينة ما لبثت أن انترشت عىل نطاق واسع داخل األقطار‬
‫‪- 16 -‬‬
‫العربية وخارجها حيث يوجد من يعرف اللغة العربية من الجاليات‬
‫العربية‪ ،‬وممن تعلَّم العربية وهي ليست لغته األم‪.‬‬
‫واللغة الثالثة هذه‪ ،‬والتي صارت لغة اإلعالم املعتمدة‪ ،‬هي منزلة‬
‫بني املنزلتني‪ ،‬كام كان يقول أهل العدل والتوحيد يف تاريخنا الفكري؛ فال‬
‫هي اللغة الفصيحة يف قواعدها ومقاييسها وأبنيتها وأصولها‪ ،‬وال هي‬
‫لغة عامية ال تلتزم قيودا ً وال تخضع لقياس وال ترسي عليها أحكام‪ .‬ولكن‬
‫ميزة هذه اللغة أنها واسعة االنتشار‪ ،‬انتقل بها الحرف العريب إىل آفاق‬
‫بعيدة‪ ،‬ولكن الخطورة هنا‪ ،‬تكمن يف أنها تحل محل الفصحى‪ ،‬وتنترش‬
‫مبا هي عليه من ضعف وفساد باعتبارها اللغة العربية التي ترقى فوق‬
‫الشك والريبة‪ .‬وبذلك تكتسب هذه اللغة الجديدة (مرشوعية االعتامد)‪،‬‬
‫ويخلو لها املجال‪ ،‬فتصري هي لغة الفكر واألدب والفن واإلعالم واإلدارة‬
‫والديبلوماسية‪ ،‬أي لغة الحياة التي ال تزاحمها لغة أخرى من جنسها أو‬
‫من غري جنسها‪.‬‬
‫التوسع يف وسائل اإلعالم وتع ّدد قنواته ومنابره ووسائطه‪،‬‬
‫وبحكم ّ‬
‫ونظرا ً إىل التأثري العميق والبالغ الذي ميارسه اإلعالم يف اللغة‪ ،‬ويف الحياة‬
‫واملجتمع بصورة عامة‪ ،‬فإن العالقة بني اللغة العربية واإلعالم أضحت‬
‫تشكل ظاهرة لغوية جديرة بالتأمل‪ ،‬وهي ذات مظهرين اثنني ‪:‬‬
‫وتوسع نطاق امتدادها‬
‫َّ‬ ‫ـ أولهام أن اللغة العربية انترشت‬
‫وإشعاعها إىل أبعد املدى‪ ،‬بحيث ميكن القول إن العربية مل‬
‫تعرف هذا االنتشار والذيوع يف أي مرحلة من التاريخ‪ .‬وهذا‬
‫مظهر إيجايب‪ ،‬باعتبار أن مكانة اللغة العربية قد تعززت كام‬

‫‪- 17 -‬‬
‫مل يسبق من قبل‪ ،‬وأن اإلقبال عليها زاد بدرجات فائقة‪ ،‬وأنها‬
‫أصبحت لغة عاملية باملعنى الواسع للكلمة‪.‬‬

‫ـ ثانيهام ويتمثَّل يف شيوع الخطأ يف اللغة‪ ،‬وفش ّو اللحن عىل‬


‫ألسنة الناطقني بها‪ ،‬والتداول الواسع لألقيسة والرتاكيب‬
‫متت بصلة إىل الفصحى‪ ،‬والتي‬ ‫والصيغ واألساليب التي ال ّ‬
‫تفرض نفسها عىل الحياة الثقافية واألدبية واإلعالمية‪،‬‬
‫فيقتدى بها ويُنسج عىل منوالها‪ ،‬عىل حساب الفصحى التي‬
‫تتوارى وتنعزل إالَّ يف حاالت استثنائية‪ .‬وبذلك تصبح اللغة‬
‫الهجينة هي القاعدة‪ ،‬واللغة الفصيحة هي االستثناء‪ .‬وهذا‬
‫مظهر سلبي للظاهرة‪.‬‬

‫وإذا قمنا بالتكييف اللغوي ـ عىل غرار التكييف القانوين ـ‬


‫لهذه الظاهرة‪ ،‬ال نعدو الحق إذا قلنا إن اللغة العربية تعاين يف هذه‬
‫املرحلة من (التلوث) الذي يُلحق أفدح األرضار بالبيئة اللغوية‪ ،‬ويفسد‬
‫الفكر‪ ،‬ويشيع رضوباً من االضطراب واإلرباك والقلق يف العقول‪ ،‬عالوة‬
‫عىل ما يسبّبه هذا الوضع اللغوي غري املستقر‪ ،‬من فساد يف الحياة‬
‫العقلية لألمة‪ ،‬تنتقل عدواه إىل فساد يف معظم املجاالت‪ ،‬فتختلط‬
‫املعاين والدالالت واملفاهيم والرموز يف لغة الحوار بني الطبقات املثقفة‪،‬‬
‫وبني قيادات املجتمع‪ ،‬فيؤدي ذلك إىل الغموض وااللتباس والتداخل يف‬
‫مدلوالت الكلامت‪ ،‬مام ينشأ عنه حالة من (الفوىض اللغوية) التي إن‬
‫ع ّمت وانترشت‪ ،‬أفضت إىل فوىض عارمة يف الحياة الفكرية والثقافية‪،‬‬
‫وإىل ما هو أعظم خطرا ً من ذلك كله‪.‬‬
‫‪- 18 -‬‬
‫‪-3-‬‬
‫إن هذا التشخيص للعالقة بني اللغة واإلعالم ميكّننا من أن نقف‬
‫عىل حقيقة الوضع اللغوي للضاد(‪ ،)2‬يف هذه املرحلة الحافلة باملتغريات‬
‫اإلقليمية والدولية الحاسمة‪ .‬وليس من املبالغة يف يشء‪ ،‬يف ضوء ذلك‪،‬‬
‫قولنا إن هذا الوضع خطري باملقاييس جميعاً‪ ،‬وباملعاين كلها‪ ،‬ومن عدة‬
‫وجوه‪ ،‬ولكن هذه الخطورة ال متنع من معالجة الخلل وتطهري البيئة‬
‫اللغوية من التلوث‪ ،‬وإفساح املجال أمام تنمية لغوية يُعاد فيها االعتبار‬
‫إىل الفصحى‪ ،‬وتستقيم فيها حال اللغة‪ ،‬بحيث تقوم العالقة بينها وبني‬
‫اإلعالم عىل أساس سليم‪ ،‬فيتبادالن التأثري يف اعتدال ويف حدود معقولة‪،‬‬
‫فال يطغى طرف عىل آخر‪ ،‬بحيث تبقى اللغة محتفظة بشخصيتها‪،‬‬
‫ويظل اإلعالم يؤدي وظيفته يف التنوير والتثقيف والرتفيه النظيف‪،‬‬
‫فيتكامل الطرفان وينسجامن‪ ،‬فتصبح اللغة يف خدمة اإلعالم‪ ،‬ويصبح‬
‫اإلعالم داعامً ملركز اللغة‪.‬‬
‫ولكننا ال نيأس من إصالح اللغة العربية يف املدى القريب‪ ،‬فلقد‬
‫(التوسع اللغوي)(‪،)3‬‬
‫ّ‬ ‫تحقق اليوم ما يعرب عنه بـ (التضخم اللغوي)‪ ،‬أو‬
‫(‪ )2‬ال نقصد هنا الوضع يف اللغة‪ ،‬وإمنا نقصد إىل الحالة الراهنة للغة‪ ،‬وشتان بني املعنيني‪.‬‬
‫(‪ )3‬يُعطي د‪ .‬حسن ظاظا يف كتابه (كالم العرب‪ ،‬من قضايا اللغة العربية)‪ ،‬ص ‪ ،85 :‬مكتبة‬
‫الدراسات اللغوية‪ ،‬دار القلم دمشق‪ ،‬الدار الشامية بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1990‬م‪ ،‬معنى‬
‫أكادميياً ملصطلح (التضخم اللغوي)‪ ،‬وذلك انطالقاً من أن األصل يف وضع األلفاظ يف اللغات‬
‫املختلفة‪ ،‬أن يكون لكل معنى يجول بالخاطر لفظ يعرب عنه‪ ،‬أي أن يكون للفكرة الواحدة‬
‫لفظة واحدة‪ ،‬وللكلمة الواحدة معنى واحد أيضاً‪ ،‬ويبدأ الخلط واالضطراب مبجرد أن يوجد‬
‫لفظان فأكرث ملعنى واحد‪ ،‬أو معنيان فأكرث للفظ واحد‪ ،‬وإن كانت اللغات جميعاً ال تنجو‬
‫من هذه اإلصابة بقدر ما‪ ،‬قل أو كرث‪ .‬ونحن وإن كنا ال نجادل يف صواب هذا التعريف الفني‬
‫للمصطلح‪ ،‬إالّ أننا منيل إىل املعنى املبارش الذي يتبادر إىل الذهن مبارشة‪ ،‬أي املعنى التلقايئ‬
‫الذي يفيد الوفرة والكرثة‪.‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫وذلك نتيج ًة التساع رقعة اإلعالم وتأثريه يف املجتمعات‪ ،‬والنتشار اللغة‬
‫العربية بوضعها الحايل‪ ،‬عىل نطاق واسع‪ ،‬وهو األمر الذي يخدم أحد‬
‫أغراض التنمية اللغوية‪ ،‬باملعنى الشامل للتنمية املعتمد يف الخطاب‬
‫املعارص‪ .‬وليس يف التضخم اللغوي خطر عىل اللغة‪ ،‬كام هو الشأن‬
‫يف االقتصاد‪ ،‬ألن التضخم هنا توسيع لنطاق استخدام اللغة‪ ،‬وإغناء‬
‫ملضامينها ومعانيها‪ ،‬وتلك غاية سامية من الغايات التي تهدف إليها‬
‫التنمية اللغوية‪.‬‬
‫وكام أن للتنمية من حيث هي‪ ،‬سواء أكانت اقتصادية‪ ،‬أم‬
‫اجتامعية‪ ،‬أم ثقافية‪ ،‬قواعد وضوابط ومعايري وأهداف مرسومة‪ ،‬فكذلك‬
‫هي التنمية اللغوية التي لن يتحقق الغرض منها ما مل تتوافر لها الرشوط‬
‫املوضوعية‪.‬‬
‫ويأيت يف مقدمة هذه الرشوط التي إن انتفى رشط واحد منها‪،‬‬
‫فقدت التنمية اللغوية الهدف املتوخى منها‪ ،‬ثالثة رشوط‪ ،‬هي‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬أن تلتزم اللغة القواعد واألبنية والرتاكيب واملقاييس‬
‫املعتمدة والتي بها تكتسب الصحة والسالمة‪ ،‬يف غري ما‬
‫تزمت‪ ،‬أو تقعر‪ ،‬أو انغالق‪ ،‬مع مراعاة املرونة والتك ّيف‬
‫مع املستجدات التعبريية‪ ،‬فال تسف‪ ،‬ولكنها تحافظ عىل‬
‫طبيعتها وأصالتها ونضارتها‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬أن تفي اللغة بحاجات املجتمع‪ ،‬وأن ترتقي إىل املستويات‬
‫الرفيعة لشتى ألوان التعبري‪ ،‬بحيث تكون لغة متطورة‪،‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫مسايرة لعرصها‪ ،‬مندمجة يف محيطها‪ ،‬معربة عن ثقافة‬
‫املجتمع ونهضته وتطوره‪ ،‬مواكبة ألحواله‪ ،‬مرتجمة‬
‫ألشواقه وآماله‪.‬‬
‫ثالثاً ‪ :‬أن يُحتفظ مبساحات معقولة بني لغة الخطاب اليومي عرب‬
‫وسائل اإلعالم جميعاً‪ ،‬وبني لغة الفكر واألدب واإلبداع‬
‫يف مجاالتهام‪ ،‬بحيث يكون هناك دامئاً املثل األعىل يف‬
‫استعامل اللغة‪ ،‬يتطلع إليه املتحدثون والكتاب عىل‬
‫اختالف طبقاتهم‪ ،‬ويسعون إىل االقتداء به ويجتهدون‬
‫حل محله مثل‬ ‫لالرتفاع إليه‪ ،‬فإذا عدم هذا املثل الراقي‪َّ ،‬‬
‫أدىن قيمة وأحط درجة‪ ،‬ال يريب ملكة وال يصقل موهبة وال‬
‫يحافظ عىل اللغة‪ ،‬إن مل ييسء إليها ويفسدها‪.‬‬
‫والرشط الثالث هو من األهمية مبكان‪ ،‬ألن انتفاء املثل األعىل‬
‫يف اللغة يؤدي إىل هبوط حا ّد يف مستوى التعبري الشفاهي والكتايب‬
‫عىل السواء‪ ،‬ويتس َّبب يف شيوع اللهجات العامية التي تنازع الفصحى‬
‫السياد َة عىل الفكر واللسان‪ ،‬لدرجة أنها تصبح مثالً يحتذى به‪ .‬وتلك‬
‫هي الخطورة التي تته ّدد شخصية اللغة العربية يف الصميم‪ .‬وهذه هي‬
‫النتيجة التي يخىش اللغويون العرب من الوصول إليها‪ ،‬ألنها متثّل خطرا ً‬
‫حقيقياً عىل الفصحى وعىل ما متثله من قيم ثقافية رفيعة‪ ،‬هي من‬
‫الخصوصيات الحضارية لألمة العربية اإلسالمية‪.‬‬
‫وهذه الرشوط الثالثة تتمثل اليوم يف (الفصحى املعارصة) التي‬
‫تجري عىل سنن اللغات‪ ،‬فرتاكيبها وصيغها جميعاً ال تستعيص عىل‬
‫‪- 21 -‬‬
‫التطور‪ ،‬وال هي أشياء ثابتة راسخة كالصخر األصم‪ ،‬بل هي كائنات‬
‫وتغي مستمرين من يوم هبوطهم يف‬ ‫حية مثل أصحابها‪ ،‬فهم يف تطور ّ‬
‫مهودهم إىل يوم استقرارهم يف لحودهم‪ ،‬وكذلك الرتاكيب والصيغ يف‬
‫وتتغي‪ ،‬وهو جانب واسع جدا ً يف‬
‫ّ‬ ‫اللغة‪ ،‬فهي ما تني تتحرك وتتطور‬
‫األسلوب املبسط الجديد لفصحانا املعارصة (‪.)4‬‬
‫والفصحى املعارصة هي خالصة التطور الذي عرفته اللغة‬
‫العربية يف هذا العرص‪ ،‬وهي اللغة (الوسطى) التي هي أعىل مستوى‬
‫وأرفع مقاماً من (اللغة الس َّيارة)‪ ،‬فهي لغة عربية تحافظ عىل خصائصها‬
‫ومميزاتها وتراكيبها وصيغها‪ ،‬ولكنها لغة عربية معارصة‪ ،‬بكل ما يف‬
‫املعارصة من دالالت‪ .‬ولذلك كانت الفصحى املعارصة تعيش مرحلة‬
‫خصبة من جميع الوجوه‪ ،‬إذ وسعت مضام َني شتى من العلوم واآلداب‪،‬‬
‫ونفذت إىل أسلوب ميرس مبسط‪ ،‬من شأنه أن يساعدها عىل انتشارها‬
‫يف جميع األلسنة‪ ،‬وقد ظفرت بفنون كانت خاصة بالعامية‪ .‬ولكنا نعرف‬
‫أن الفصحى املعارصة استولت منذ القرن املايض عىل أكرب ساحة لغوية‬
‫شعبية يف هذا العرص(‪.)5‬‬
‫والفصحى املعارصة من هذا املنظور‪ ،‬هي األمل يف تطور اللغة‬
‫العربية تطورا ً سليامً‪ ،‬يف هذه املرحلة التي ت ُهاجم فيها الهوية الثقافية‬
‫والخصوصية الحضارية لألمم والشعوب‪ ،‬فهي لغة اإلعالم والفكر‬

‫(‪ )4‬د‪ .‬شوقي ضيف‪ ،‬يف الرتاث والشعر واللغة‪ ،‬ص ‪( ،242 :‬سلسلة مكتبة الدراسات األدبية‪:‬‬
‫‪ ،)100‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪1987 ،‬م‪.‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.242 :‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫والثقافة واإلدارة والديبلوماسية‪ ،‬وهي لغة ال تنفصل عن املايض‪ ،‬وال‬
‫تتنكر للرتاث اللغوي‪ ،‬ولكنها ال تجمد عند مرحلة تاريخية من تطور‬
‫اللغة‪ ،‬وإمنا تساير املستجدات يف غري ما اندفاع أو غل ّو أو تطرف‪ ،‬ألن‬
‫التطرف يف اللغة هو االنفالت من القواعد‪ ،‬واالنقالب عىل الرتاكيب‬
‫والصيغ البيانية املقطوع بصحتها وسالمتها‪.‬‬
‫واستنادا ً إىل هذه املرتكزات‪ ،‬فنحن نرى أن الفصحى املعارصة‬
‫املوضوعي عىل األخطار التي‬
‫ُّ‬ ‫هي لغة الحارض واملستقبل‪ ،‬وهي الر ُّد‬
‫الطبيعي للفصحى األصيلة‬
‫ُّ‬ ‫تته ّدد اللغة العربية‪ ،‬وهي إىل ذلك‪ ،‬التطور‬
‫التي ضعف استعاملها يف املجتمع نتيج ًة لألسباب والعوامل التي‬
‫ذكرناها آنفاً‪.‬‬

‫وليس يف هذا الرتكيب ‪( :‬الفصحى املعارصة)‪ ،‬املعنى املجرد‬


‫الواحد فقط الذي يتبادر إىل األذهان للوهلة األوىل‪ ،‬وإمنا فيه معانٍ‬
‫كثرية‪ ،‬منها ربط الفصحى باملعارصة‪ ،‬مبا يستلزمه ذلك من االنخراط يف‬
‫العرص‪ ،‬واالندماج يف تحوالته‪ ،‬واالستغراق يف تياراته‪ ،‬وهو األمر الذي‬
‫يعني يف املقام األول‪ ،‬األخ َذ بالنتائج التي انتهى إليها علم اللغة الحديث‪،‬‬
‫واالستفادة من ابتكارات العلوم املرتبطة بفقه اللغة وعلم األصوات‪.‬‬
‫وبذلك يكون أحد املعاين التي يوحي بها مصطلح (الفصحى املعارصة)‪،‬‬
‫أنها لغة تلتزم قواعد العلم الحديث‪.‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫‪-4-‬‬
‫إن تزايد نفوذ اإلعالم املقروء واملسموع واملرئـي‪ ،‬يشكل عامالً‬
‫مساعدا ً لذيوع اللغة العربية وسعة انتشارها ووصولها إىل آفاق بعيدة‪،‬‬
‫تتخطى رقعة الوطن العريب إىل العامل اإلسالمي‪ ،‬وإىل مناطق شتى من‬
‫العامل‪ ،‬خصوصاً وأن اإلعالم املرئـي يقوم دور بالغ التأثري يف تبليغ الرسالة‬
‫اإلعالمية إىل العامل أجمع‪ .‬وبذلك اتسعت الساحة أمام الضاد عىل نحو ال‬
‫عهد لها به من قبل‪ .‬ويف هذا االمتداد للغة العربية تجدي ٌد لها‪ ،‬عىل نحو‬
‫من األنحاء‪ ،‬وتبدي ٌد للوهم الذي ساد يف فرتات سابقة‪ ،‬بأن الضاد مل يعد‬
‫لها مكان يف هذا العرص‪.‬‬
‫ولنئ كان هذا االتساع املطرد واالنتشار املستمر للغة العربية‬
‫يعبان عن حالة صحية تبعث عىل االرتياح‪ ،‬فإن التأمل املتأين يف‬ ‫ّ‬
‫الوجه الثاين لهذه الظاهرة‪ ،‬ينتهي بنا إىل الوقوف عىل الحجم الحقيقي‬
‫للمشكلة التي تعاين منها اللغة العربية يف هذا العرص‪ ،‬والتي ستتفاقم‬
‫يف املستقبل‪ ،‬ما مل نبادر إىل البحث عن الحلول املناسبة لها‪ .‬وبيان ذلك‬
‫أن ثـمة نوعاً من الخداع يف الظاهرة موضع البحث‪ ،‬ألن لها مستويني؛‬
‫أولهام إيجايب‪ ،‬وثانيهام سلبي‪ ،‬فاإليجايب يتمثـّل يف انتشار اللغة العربية‬
‫عىل أوسع نطاق يف هذا العرص‪ ،‬والسلبي يكمن يف أن الرضا بـمستوى‬
‫اللغة والركون إىل وضعها الحايل‪ ،‬يورثان حالة من االطمئنان والقبول‬
‫والتسليم باألمر الواقع‪ ،‬مام يتس َّبب يف العزوف عن تراث اللغة والزهد‬
‫يف رصيدها عىل النحو الذي قد يؤدي‪ ،‬إذا ما استمرت الحال عىل ما‬
‫هي عليه اليوم‪ ،‬إىل ما يشبه القطيعة مع الثقافة العربية اإلسالمية يف‬
‫مصادرها وأصولها‪.‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫ولتاليف هذه االزدواجية‪ ،‬ولتجاوز هذه السلبية‪ ،‬فإنه ال مناص‬
‫لنا من اعتامد املنهج التكاميل يف تعاملنا مع اللغة‪ ،‬وقوا ُمه أن تواكب‬
‫الجهو ُد التي نبذلها عىل مستوى مجامع اللغة العربية يف الوطن العريب‪،‬‬
‫وعىل مستويات أخرى يف أقسام اللغة العربية بالجامعات العربية‪ ،‬التطو َر‬
‫العمل‬
‫الذي تعرفه اللغة بحكم تأثري وسائل اإلعالم فيها‪ ،‬وأن يساير هذا ُ‬
‫األكادميي والفني‪ ،‬الوض َع الحا َّيل للغة العربية‪ ،‬فال يرتفع عنه‪ ،‬وال يستهني‬
‫ُّ‬
‫به‪ ،‬وإمنا يتفهمه‪ ،‬ويستوعبه‪ ،‬بحيث ال يتم خارج نطاق الواقع‪ ،‬وإمنا يكون‬
‫جزءا ً من هذا الواقع‪ ،‬يتفاعل معه تفاعالً إيجابياً ينتج عنه ازدهار اللغة‬
‫العربية وانتشارها‪ ،‬والحفاظ عليها وحاميتها‪ ،‬وتطويرها وتجديدها‪.‬‬
‫ولهذا املنهج أربع قواعد نُوجزها فيام ييل ‪:‬‬
‫أوالها ‪ :‬التعامل مع اللغة عىل أساس أنها كائن حي قابل للتطور‬
‫وفق ما يقرره أبناء اللغة‪ ،‬أي أن تطوير اللغة يأتـي من‬
‫إرادة الناطقني بها‪ ،‬ويصدر عنهم‪ ،‬فهم أصحاب املصلحة يف‬
‫هذا التطوير‪.‬‬
‫ثانيتها‪ :‬إحكام العالقة بني عملية تطوير اللغة وإصالحها وتحسينها‬
‫وتجديدها‪ ،‬وبني املتغريات التي تعيشها املجتمعات‬
‫العربية‪ ،‬بحيث تكون عملية التطوير استجاب ًة لتطور‬
‫املجتمع ونابعة عن واقعه املعيش‪.‬‬
‫ثالثتها ‪ :‬االنفتاح عىل املستجدات يف العامل‪ ،‬خاصة يف مجاالت‬
‫العلوم والتقانة واملعلوميات وعلم اللغة الحديث بكل‬
‫تفريعاته والحقول البحثية املرتبطة به‪ ،‬والسعي إىل االقتباس‬
‫‪- 25 -‬‬
‫والنقل واالستفادة الواسعة من نتائج هذه العلوم جميعاً‪ ،‬يف‬
‫إغناء اللغة العربية وربطها بحركة الفكر اإلنساين‪.‬‬
‫رابعتها ‪ :‬االهتامم بالجانب القانوين والترشيعي يف عملية التطوير‪،‬‬
‫حرصاً عىل ضبط مساره والتحكم يف نتائجه‪ ،‬من خالل وضع‬
‫قوانني تصادق عليها الجهات املختصة يف الدولة‪ ،‬لفرض هيبة‬
‫اللغة وإلزام أفراد املجتمع والهيئات والجامعات باحرتامها‬
‫طبقاً للقانون‪ ،‬أسوة مبا هو عليه األمر يف بعض الدول الغربية‪.‬‬
‫إن هذا املنهج التكاميل الذي ندعو إليه‪ ،‬يالئم عرص العوملة الذي‬
‫نعيشه‪ ،‬وينسجم مع طبيعة التحديات التي تواجه الضاد‪ ،‬ويتناسب‬
‫والواقع الثقايف يف العامل العريب‪.‬‬
‫إن لغة اإلعالم يف عرص العوملة ال تستقر عىل حال‪ ،‬فهي يف تطور‬
‫مطرد‪ ،‬ال يكون دامئاً يف خدمة اللغة‪ .‬ولكنا ال منلك أن نعزل أنفسنا عن‬
‫تيار العوملة‪ ،‬أو ننأى بلغتنا عن (اإلعالم العوملي)‪.‬‬
‫ومهام يكن حكمنا عىل العوملة‪ ،‬ومهام يكن رأينا فيها‪ ،‬فإنها تتيح‬
‫فرصاً كثرية لكل من يرغب يف تطوير لغته‪ ،‬حيث تقدم الصحون الالقطة‬
‫واألنرتنيت والربيد اإللكرتوين والحاسوب‪ ،‬كل ما يستلزم من عمليات‬
‫اإلحصاء والرتتيب والتخزين واالسرتجاع والتصحيح‪ ،‬واملستقبل مفتوح‬
‫ملا ال يخطر عىل البال(‪.)6‬‬
‫(‪ )6‬يراجع كتابنا (تأمالت يف قضايا معارصة)‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪2002 ،‬م‪ ،‬فقد بحثنا فيه‬
‫قضية العوملة من جوانبها املختلفة وأبعادها املتعددة‪ .‬ولنا كتاب عن (العامل اإلسالمي يف‬
‫عرص العوملة) صدر عن دار الرشوق سنة ‪2004‬م‪.‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫ويستلزم األمر يف هذا املجال القيام بالخطوات التالية ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬تفعيل املنظومة الرتبوية تفعيالً معارصا ً‪ ،‬وذلك بتطوير‬
‫اللغوي‪ ،‬حتى يلبي كل أمناط الخطاب البسيط‬ ‫ّ‬ ‫الخطاب‬
‫العلمي‪ ،‬ويغطي كل أساليب التعبري‪ ،‬ويصا َحب هذا‬
‫بالتجديد يف منت اللغة استجابة ملالحقة العرص‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬بناء الذخرية اللغوية‪ ،‬وبنوك املعطيات‪.‬‬
‫ثالثاً ‪ :‬عالج اللغة عالجاً آلياً‪ ،‬من خالل اعتامد نظم الرتجمة اآللية‬
‫منها وإليها‪.‬‬
‫رابعاً ‪ :‬إدخال الرتاث اللغوي العريب يف أقراص ممغنطة(‪.)C. D.) (7‬‬
‫ونحن نع ُّد العمل الذي قام به األستاذ الدكتور شوقي ضيف‬
‫يف مجال تيسري اللغة مثاالً يحتذى‪ ،‬فمن جملة الكتب التي أصدرها‬
‫والتي تع ّد قدوة وأسوة حسنة‪ ،‬كتابه (تيسريات لغوية) الذي جاء فيه‬
‫بتيسريات يف جوانب من استعامالت اللغة وقواعد العربية‪ ،‬رأى أن‬
‫يعرضها عىل الكتاب والقراء‪ ،‬حتى ينحي عن طريقهم ما قد يظنونه إزاء‬
‫بعض الصيغ انحرافاً عن جادة العربية وقواعدها السديدة(‪.)8‬‬

‫(‪ )7‬د‪ .‬صالح بلعيد‪ ،‬محارضات يف قضايا اللغة العربية‪ ،‬ص ‪ ،301 :‬مطبوعات جامعة منتوري‬
‫قسنطينة‪1999 ،‬م‪.‬‬
‫(‪ )8‬صدرت الطبعة األوىل من (تيسريات لغوية) عن دار املعارف بالقاهرة‪ ،‬يف ‪1990‬م‪ .‬وللمؤلف‬
‫كتاب ثان حول هذا املوضوع صدر له عن دار املعارف بالقاهرة يف ‪1994‬م بعنوان‬
‫(تحريفات العامية للفصحى يف القواعد والبنيات والحروف والحركات)‪ ،‬ويف الكتابني فوائد‬
‫جمة‪ ،‬وقد نحا فيهام املؤلف منحى اجتهادياً يف اللغة جديرا ً بأن يقتدى به‪.‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫إن قسامً كبريا ً من مشاكل اللغة العربية يعود إىل أسباب ذاتية‪،‬‬
‫ضعف همة أبناء الضاد وقصورهم يف القيام بواجبهم تجاه‬ ‫ونقصد بها َ‬
‫لغتهم التي هي لسان دينهم‪ ،‬وعنوان هويتهم الثقافية‪ ،‬ورمز سيادتهم‬
‫الحضارية‪ ،‬وتفريطَهم يف مسؤوليتهم التاريخية يف الحفاظ عىل تراثهم‬
‫وحامية وجودهم املعنوي‪.‬‬
‫إن محنة العربية ال تتمثل يف حشود األلفاظ واملصطلحات الوافدة‬
‫من عامل الحضارة املعارصة‪ ،‬إىل عاملها الذي يبدو متخلفاً‪ ،‬ليس ذلك‬
‫فحسب‪ ،‬بل إن محنتها الحقيقية هي يف انهزام أبنائها نفسياً أمام الزحف‬
‫اللغوي الداهم‪ ،‬واستسالمهم يف مجال العلوم للغات األجنبية‪ ،‬بحيث‬
‫قد تكونت يف العامل العريب جبهة عنيدة تجاهد لإلبقاء عىل العربية‬
‫بـمـعزل عن مجال العلوم والتكنولوجيا‪ ،‬فام دامت صفوة املشتغلني‬
‫بالعلوم تعرف االنجليزية أو الفرنسية مثالً‪ ،‬فال بأس من عزل العربية‪،‬‬
‫بل وقتلها‪ .‬هذا مع أن هناك شبه إجامع عىل ثالثة أمور تشكّل اقتناعاً‬
‫مشرتكاً بني جميع من يُعنى بحارض اللغة العربية ومستقبلها‪ ،‬ويهتم‬
‫مبعالجة مشكالتها‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫ـ األول ‪ :‬أن العربية قادرة عىل استيعاب العلوم‪ ،‬وال ميكن ألي‬
‫مجتمع أن ينهض ويتحرض إال من خالل لغته‪ ،‬ومن ثم‬
‫لن ينهض العرب إالَّ بواسطة العربية‪.‬‬
‫ـ الثاين ‪ :‬أن معرفة أكرث املشتغلني بالعلوم للغة اإلنجليزية‬
‫ال ترقى إىل مستوى معرفة أهلها أنفسهم‪ ،‬فهم‬
‫يستخدمون لغة ال يتقنونها إتقاناً كامالً‪ ،‬ويهملون‬
‫‪- 28 -‬‬
‫لغتهم التي ميكن أن يحققوا بها مستوى أداء أفضل‪،‬‬
‫فيزدادون ضعفاً عىل ضعف‪.‬‬
‫ـ والثالث ‪ :‬أن مستوى الطالب يف الكليات العلمية ملا يتلقونه‬
‫باإلنجليزية أو الفرنسية ضعيف‪ ،‬وهو أضعف‬
‫قطعاً مام لو تلقوا موادهم بالعربية عىل أيدي‬
‫أساتذة يحسنونها(‪.)9‬‬
‫وميكن لنا أن نقول‪ ،‬يف ضوء هذا كله‪ ،‬إن العيب يف أبناء اللغة‬
‫وليس يف اللغة‪ ،‬وإن التنمية اللغوية مرهونة بالجهد الذي نبذله نحن‬
‫يف الواقع وبني الناس‪ ،‬ال يف القراطيس‪ ،‬وإن اآلثار اإليجابية للعالقة بني‬
‫كل‬
‫اللغة واإلعالم‪ ،‬ال يكون لها نفع أو جدوى أو فائدة‪ ،‬ما مل نقم‪ٌّ ،‬‬
‫يف موقعه ومجال تخصصه‪ ،‬مبا يجب أن نقوم به‪ ،‬من العمل املدروس‬
‫واملمنهج للحفاظ عىل صحة اللغة وسالمتها‪ ،‬ولتحقيق املزيد من التنمية‬
‫اللغوية‪ ،‬مستغلني اإلمكانات الفنية والتقانية الهائلة التي تتاح لنا اليوم‪،‬‬
‫لتعزيز مكانة لغتنا بالعلم والعمل وتضافر الجهود‪ ،‬وبوضع الضوابط‬
‫والترشيعات التي تحول دون انفالت اللغة وتراجعها عن أداء دورها يف‬
‫البناء الحضاري والنامء االجتامعي‪.‬‬

‫(‪ )9‬د‪ .‬عبد الصبور شاهني‪ ،‬العربية لغة العلوم والتقنية‪ ،‬ص ‪ ،366 :‬دار االعتصام‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪1986 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫مرشوع اإليسيسكو‬
‫لكتابة اللغات األفريقية‬
‫باحلرف العريب‬
‫‪-1-‬‬

‫يف القرن السابع من هجرة الرسولﷺ‪ ،‬نَ َعى العالمة ابن منظور‬
‫يف مقدمة كتابه العمدة (لسان العرب املحيط) ما صارت إليه حال اللغة‬
‫العربية يف زمانه من ضعف ووهن وهزال‪ .‬وبعد انرصام خمسة قرون‪،‬‬
‫بش العالمة الدكتور شوقي ضيف يف كتاب له‪ ،‬بازدهار اللغة العربية‬ ‫َّ‬
‫وبانتشارها‪.‬‬
‫ويبدو عند النظرة العجىل‪ ،‬أن مثة مفارق ًة من املفارقات التاريخية‪،‬‬
‫تستوقف الفكر وتثري االنتباه‪ .‬بيد أن املتأ ّمل املتم ّعن املتع ّمق‪ ،‬يستطيع‬
‫أن مي ّيز بني الحالتني‪ ،‬ويهتدي إىل النتيجة التي ينرشح لها الصدر وتطمنئ‬
‫إليها النفس‪.‬‬
‫يقول ابن منظور يف مقدمة اللسان بعد استهالل‪ ،‬ما ييل ‪:‬‬
‫«‪ ..‬وذلك ملا رأي ُته قد غلب‪ ،‬يف هذا األوان‪ ،‬من اختالف األلسنة‬
‫واأللوان‪ ،‬حتى لقد أصبح اللَّحن يف الكالم يعدُّ لحناً مردوداً‪ ،‬وصار‬
‫النطق بالعربية من املعايب معدوداً‪ ،‬وتَناف ََس الناس يف تصانيف‬
‫الرتجامنات يف اللغة األعجمية‪ ،‬وتفاصحوا يف غري اللغة العربية‪،‬‬
‫زمن أهلُه بغري لغته يفخرون‪ ،‬وصنعته‬ ‫الكتاب يف ٍ‬
‫َ‬ ‫وجمعت هذا‬
‫كام صنع نوح الفلكَ وقو ُمه منه يسخرون»(‪.)1‬‬
‫(‪ )1‬ابن منظور‪( ،‬لسان العرب املحيط)‪ ،‬املقدمة ص ‪ :‬ذ‪ .‬طبعة يوسف خياط‪ ،‬قدم لها عبد اللَّه‬
‫العالييل‪ ،‬دار الجيل ـ دار لسان العرب‪ ،‬بريوت ‪1988‬م‪.‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫ويقول الدكتور شوقي ضيف يف كتاب له صدر يف عام ‪1987‬م‬
‫بعنوان (يف الرتاث والشعر واللغة)‪ ،‬ما ييل ‪:‬‬
‫«الفصحى تحيا يف عرصنا حياة مزدهرة إىل أبعد حدود االزدهار‪،‬‬
‫وهو ازدهار أتاح لها لغ ًة علمي ًة حديثة‪ ،‬وفنوناً أدبية متن ّوعة‪،‬‬
‫وأسلوباً مبسطاً ميرساً‪ ،‬مع استيالئها عىل ساحة الصحف ومع‬
‫محاوالتها الجا ّدة يف االستيالء عىل ساحة اإلذاعة‪ .‬وإين أومن بأنها‬
‫تحل نهائياً يف‬
‫ستظل تزداد ازدهاراً وانتشاراً من يوم إىل يوم حتى ّ‬
‫األلسنة مكانَ العامية‪ ،‬ال فيام بقي لها من الفنون األدبية الشعبية‬
‫فحسب‪ ،‬بل أيضاً يف لهجات التخاطب اليومية»(‪.)2‬‬
‫إ َّن املقارنة بني قول ابن منظور يف القرن السابع‪ ،‬وقول الدكتور‬
‫شوقي ضيف‪ ،‬يف القرن الخامس عرش‪ ،‬عن حال اللغة العربية‪ ،‬تفتح أمامنا‬
‫أفقاً واسعاً للتأمل‪ .‬ولقد طاب يل أن أستهل حديثي إليكم‪ ،‬بهذه املقارنة‪،‬‬
‫ألن من شأنها أن تحفز إىل تدبُّر املستوى الذي وصلت إليه اللغة العربية‬
‫أخص‪،‬‬
‫يف هذا العرص‪ ،‬وبصورة خاصة‪ ،‬منذ مطالع القرن العرشين‪ ،‬وبصورة ّ‬
‫منذ تأسيس هذا املجمع الذي يحتفل هذه السنة مبرور سبعني عاماً عىل‬
‫إنشائه‪ ،‬كانت كلُّها مواسم للعطاء والنامء واإلغناء‪.‬‬

‫(‪ )2‬د‪ .‬شوقي ضيف‪( ،‬يف الرتاث والشعر واللغة)‪ ،‬فصل عن (الفصحى املعارصة)‪ ،‬ص ‪- 244 :‬‬
‫‪ ،242‬سلسلة مكتبة الدراسات األدبية (‪ ،)100‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪1987 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫‪-2-‬‬

‫إ ّن واقع اللغة العربية‪ ،‬مهام يكن شأ ُن أهلها معها‪ ،‬ومهام تكن‬


‫الصعوبات التي تعرتض سبيلها أو املشكالت التي تعاين منها‪ ،‬واق ٌع يبعث‬
‫عىل االطمئنان‪ ،‬ال ألنها لغة القرآن الكريم املحفوظ باملشيئة اإلالهية‬
‫فحسب‪ ،‬وإمنا لقيام هذه النهضة اللغوية التي توسعت آثارها وترعرعت‬
‫أغصانها طيلة القرن العرشين املنرصم‪ ،‬والتي من أركانها الراسخة تأسيس‬
‫مجامع اللغة العربية يف العديد من العواصم العربية‪ ،‬ويف املقدمة منها‬
‫مجمع اللغة العربية بالقاهرة‪ ،‬الذي هو ـ بحق ـ السلطة الترشيعية العليا‬
‫للغة العربية‪ ،‬وذلك مصداقاً ملا ذهب إليه رئيس هذا املجمع يف كتابه‬
‫اآلنف الذكر‪.‬‬

‫لقد اطّردت الجهود التي تبذل يف خدمة اللغة العربية طيلة العقود‬
‫السبعة األخرية‪ ،‬وقد أتت هذه الجهود أكلها‪ .‬ومع ذلك فإننا نقول إن‬
‫الحفاظ عىل اللغة العربية وحاميتها والعمل عىل انتشارها والتمكني لها‬
‫يف أوساط املجتمعات العربية ولدى الشعوب اإلسالمية غري الناطقة بها‬
‫والجاليات العربية اإلسالمية يف بالد املهجر‪ ،‬ليس عمالً تعليمياً تربوياً‪،‬‬
‫أو نشاطاً ثقافياً أدبياً‪ ،‬أو وظيفة من وظائف وزارات الرتبية والتعليم‬
‫عمل من صميم‬ ‫واملؤسسات والهيئات واملنظامت املختصة فحسب‪ ،‬ولكنه ٌ‬
‫الدفاع عن مق ّومات الشخصية العربية‪ ،‬والذود عن مك ّونات الكيان العريب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وعن خصوصيات املجتمعات العربية اإلسالمية‪ ،‬وعن الركيزة‬

‫‪- 35 -‬‬
‫وعمل يف هذا املستوى‬
‫األوىل للثقافة العربية وللحضارة العربية اإلسالمية‪ٌ .‬‬
‫وبهذا القدر من األهمية‪ ،‬يدخل ضمن خطة بناء املستقبل ورسم معامله‪.‬‬
‫أساس من أركان األمن الثقايف والحضاري والفكري‬‫فاللغة العربية رك ٌن ٌ‬
‫لألمة العربية اإلسالمية يف حارضها ويف مستقبلها‪ ،‬واللغة العربية هي‬
‫القاعدة املتينة للسيادة الوطنية والقومية واإلسالمية‪ ،‬وهي ليست لساناً‬
‫كل دولة من دول‬‫فحسب‪ ،‬ولكنها عنوا ٌن لهذه السيادة التي تحرص عليها ُّ‬
‫املجموعة العربية اإلسالمية(‪.)3‬‬
‫ومن صميم الحفاظ عىل اللغة العربية وتجديد رسالتها يف الحارض‬
‫واملستقبل‪ ،‬العناية بلغات الشعوب اإلسالمية التي كانت تكتب منذ‬
‫وفقهي وأد ٌّيب كان‪ ،‬وال‬
‫ٌّ‬ ‫علمى‬
‫ٌّ‬ ‫وس ّجل بها تراثٌ‬
‫نشأتها‪ ،‬بالحرف العريب‪ُ ،‬‬
‫يزال‪ ،‬من روافد الثقافة العربية اإلسالمية‪ ،‬إىل أن جاء عرص االستعامر‬
‫َّتيني‪ ،‬يف محاول ٍة منه للقضاء‬ ‫َ‬
‫الحرف الال َّ‬ ‫األورويب‪ ،‬فاستبدل بالحرف العريب‬
‫عىل الهوية الثقافية والذاتية الحضارية لهذه الشعوب التي هي جز ٌء ال‬
‫يتجزأ من األمة العربية اإلسالمية‪.‬‬
‫وباعتبار أن اللغة العربية‪ ،‬قضية اسرتاتيجية يف املقام األول‪ ،‬متس‬
‫األمن الثقايف والحضاري لألمة‪ ،‬لالعتبارات السابقة جميعاً‪ ،‬فإن املسألة‪،‬‬
‫يف عمقها وجوهرها‪ ،‬تتطلب يقظة أشمل وأعمق‪ ،‬وحركة أكرب وأنشط‪،‬‬
‫وعمالً أكرث جدي ًة وفعالية‪ ،‬واستنفارا ً للطاقات الح ّية وحشدا ً للجهود‬

‫(‪ )3‬د‪ .‬عبد العزيز بن عثامن التويجري‪ ،‬يف البناء الحضاري للعامل اإلسالمي‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬ص ‪،81 :‬‬
‫منشورات املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬الرباط‪ 2001 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫املخلصة‪ ،‬يف إطا ٍر من التنسيق والتكامل والتعاون‪ ،‬والعمل العريب املشرتك‬
‫عىل مستوى املنظامت واملؤسسات والجامعات والهيئات املختصة‪ .‬وأعتقد‬
‫أن املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬تتحمل مسؤولي ًة مهم ًة‬
‫يف هذا املجال‪ ،‬وهي مهمة يف إطار اختصاصاتها‪ ،‬من أجل توسيع نطاق‬
‫تعليم اللغة العربية لغري الناطقني بها‪ ،‬خاصة يف البالد األفريقية واإلسالمية‬
‫ويف أوساط الجاليات العربية اإلسالمية يف بالد املهجر‪ .‬وتنفذ املنظمة‬
‫اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة يف هذا املجال‪ ،‬برامج وأنشطة متعددة‬
‫تدعم حضور اللغة العربية يف مستويات التعليم العريب اإلسالمي يف العامل‬
‫اإلسالمي‪ ،‬واللغات اإلسالمية األفريقية‪.‬‬

‫إن اللغة العربية هي العروة الوثقى التي تجمع بني الشعوب‬


‫العربية والشعوب اإلسالمية التي شاركت يف ازدهار الثقافة العربية‬
‫اإلسالمية‪ .‬وبهذا االعتبار‪ ،‬فإن الوفاق العريب والتضامن اإلسالمي‪ ،‬البد أن‬
‫يقوما عىل هذا األساس املتني؛ لغة القرآن الكريم‪ ،‬ولغة الثقافة العربية‬
‫اإلسالمية‪ .‬ومن هنا تبدو األهمية الكربى لتدعيم مكانة اللغة العربية‬
‫والعمل عىل نرشها وتعليمها لغري الناطقني بها من الشعوب اإلسالمية‪،‬‬
‫ألن يف ذلك حامي ًة لألمن الثقايف الحضاري لألمة العربية اإلسالمية‪.‬‬

‫من خالل هذه الرؤية‪ ،‬يتأكد لنا أن اللغة العربية قضي ُة وجود‪،‬‬
‫وقاعدة كيان‪ ،‬ودعامة النظام العريب اإلسالمي الذي يستند إىل مرجعية‬
‫العمل العريب اإلسالمي املشرتك املتمثلة يف جامعة الدول العربية‪ ،‬ويف‬
‫منظمة التعاون اإلسالمي‪ .‬فهي إذن‪ ،‬قضي ٌة من القضايا ذات الثقل الكبري‬
‫والتأثري العميق ىف حارض األمة ومستقبلها‪.‬‬
‫‪- 37 -‬‬
‫‪-3-‬‬

‫واللغة العربية هي وعاء الثقافة اإلسالمية‪ ،‬وهي األداة املثىل ملعرفة‬


‫مبادئ الدين الحنيف وفهم أحكامه‪ ،‬وهي اللغة الوحيدة يف العامل التي‬
‫ترتبط بالدين ارتباطاً ال انفصام له‪ .‬فاللغة العربية لغة اإلسالم‪ ،‬ألنها لغة‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ولغ ُة حديث رسول اللَّه محمد‬‮ﷺ‬‮‪ ،‬ولغة صحابته األبرار‬
‫رضوان اللَّه عليهم‪ ،‬الذين صنعوا تاريح اإلسالم‪ ،‬وفتحوا أقطار األرض‬
‫ونرشوا دين الحق بها(‪ .)4‬وهي إىل ذلك لغة الرتاث العريب اإلسالمي الذي‬
‫شارك يف بناء رصحه الشامخ رجال أفذاذ من علامء األمة العربية اإلسالمية‬
‫ومفكريها‪ ،‬ومعظمهم مل تكن اللغة العربية لغة آبائهم وأجدادهم‪ ،‬دون أن‬
‫يـمنعهم ذلك من التأليف بلغة الضاد‪ ،‬ومن التف ّوق والربوز يف التفكري‪ ،‬ويف‬
‫إبداع الحضارة اإلسالمية مبا ص ّنفوه من أمهات الكتب ونفائسها‪.‬‬
‫وبسبب هذا االرتباط العضوي بني اإلسالم وبني اللغة العربية‪،‬‬
‫كان العمل من أجل نرش اللغة العربية‪ ،‬والتمكني لها‪ ،‬وتدعيم مكانتها‪،‬‬
‫وتوسيع نطاق تعليمها وتدريسها يف البلدان اإلسالمية ويف البلدان غري‬

‫(‪ )4‬إن التفضيل الديني ملنشأ اللغة العربية‪ ،‬مام ال ينازع فيه مسلم‪ ،‬وذلك بخالف ما ذهب‬
‫إليه الشيخ أمني الخويل يف محارضاتـه بالجامعـة املرصية التي جمعت بعد وفاته يف كتــاب‬
‫بعنـوان "مشكـالت حياتنـا اللغوية"‪ ،‬ص ‪ ،66 - 65 :‬الصادر ضمن أعامله الكاملة عن الهيئة‬
‫املرصية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ 1987 ،‬م‪ .‬وما استشهد به أمني الخويل من كالم ابن حزم‬
‫من كتابه "اإلحكام يف أصول األحكام"‪ ،‬ال يُبطل املسألة من األساس‪ ،‬وليس حجة تدعم‬
‫الرأي الذي ذهب إليه‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫اإلسالمية التي يوجد بها املسلمون‪ ،‬جزءا ً ال يتج ّزأ من خدمة اإلسالم‬
‫عقيد ًة وثقاف ًة وحضارةً‪ .‬ولذلك اقرتن العمل اإلسالمي الدويل يف قنواته‬
‫الرسمية والشعبية عىل السواء‪ ،‬وخصوصاً يف جوانبه الثقافية والتعليمية‪،‬‬
‫تدعيم‬
‫ٍ‬ ‫بنرش اللغة العربية‪ ،‬وباألخص بني غري الناطقني بها‪ ،‬ملا يف ذلك من‬
‫لحضور الثقافة اإلسالمية‪ ،‬وتعزي ٍز ملكانة اإلسالم‪ ،‬وتقوي ٍة للتضامن اإلسالمي‬
‫وللروابط الثقافية والحضارية التي تش ّد املسلمني بعضهم إىل بعض‪ ،‬نهوضاً‬
‫باملسؤولية الجامعية التي يتح ّملها املسلمون تجاه دينهم ولغة قرآنهم‬
‫وثقافتهم‪ ،‬وإزاء أمتهم ودورها يف الحارض واملستقبل‪.‬‬
‫ولقد كان إنشاء منظمة التعاون اإلسالمي‪ ،‬إعالناً عن قيام الجهاز‬
‫يجسد فكرة التضامن اإلسالمي‪ ،‬ويحقق إحدى‬ ‫اإلسالمي الدويل الذي ّ‬
‫الوسائل العملية الفعالة لخدمة الثقافة العربية اإلسالمية يف إطا ٍر ٍ‬
‫عام‬
‫شامل متعدد املجاالت‪ ،‬متنوع القنوات‪ ،‬هو تدعيم تنمية العامل اإلسالمي‬
‫من النواحي كافة‪ ،‬وفق الصيغة املتطورة التي تستند إىل أحكام القانون‬
‫الدويل‪ ،‬وتتطابق ومقتضياته‪ .‬وما لبثت منظمة التعاون اإلسالمي أن‬
‫طورت من أساليب العمل اإلسالمي الدويل‪ ،‬وذلك بإحداث قنوات جديدة‬
‫تعززت بها مسريتها‪ ،‬متثّلت يف إنشاء منظامت ووكاالت ومراكز وجامعات‬
‫إسالمية‪ ،‬منها املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬التي وضعت يف‬
‫العمل عىل نرش اللغة العربية وتعليمها داخل العامل‬‫َ‬ ‫مقدمة اهتامماتها‪،‬‬
‫اإلسالمي وخارجه‪ ،‬باألساليب التعليمية الحديثة‪ ،‬وذلك اقتناعاً منها بأ ّن‬
‫التنمية الرتبوية والعلمية والثقافية التي اضطلعت بـمسؤولياتها لتطوير‬
‫العامل اإلسالمي‪ ،‬الب ّد أن يكون من أدواتهـا تعليم اللغـة العـربيـة عىل‬
‫أوسع نطـاق وبأحدث الطـرق‪ ،‬وأن يكون نرش الثقافة اإلسالمية‪ ،‬وتعميم‬
‫‪- 39 -‬‬
‫التعليم اإلسالمي‪ ،‬قائـ َمـ ْيـن عىل أساس تقوية اللغة العربية وإيصالها إىل‬
‫القطاعات العريضة من املتعلمني عىل مختلف مستوياتهم(‪.)5‬‬
‫ولقد خططت املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬يف جميع‬
‫خطط عملها منذ تأسيسها يف عام ‪ 1982‬م‪ ،‬وإىل اليوم‪ ،‬لتعليم اللغة العربية‬
‫لغري الناطقني بها‪ .‬وقد قطعت املنظمة يف هذا املجال أشواطاً مهمة‪ ،‬بحيث‬
‫تحققت نتائج مرضية‪ ،‬وهي ال تزال تعمل يف هذا املضامر بالتعاون‬
‫والتنسيق مع الدول األعضاء‪ ،‬ومع املنظامت والهيئات واملؤسسات العربية‬
‫واإلسالمية ذات االهتامم املشرتك‪ ،‬مستفيد ًة من الخربات املرتاكمة التي‬
‫توفّرت ملن سبقها إىل العمل يف هذا املجال الحيوي‪.‬‬
‫وتقوم املنهجية العلمية التي تتبعها املنظمة اإلسالمية للرتبية‬
‫والعلوم والثقافة‪ ،‬يف تعليم اللغة العربية لغري الناطقني بها‪ ،‬وتجديد لغات‬
‫الشعوب اإلسالمية وإحياء رسالتها بإعادة كتابتها بالحرف العريب‪ ،‬عىل‬
‫ثالثة محاور‪ ،‬هي ‪:‬‬
‫ــ املحور األول ‪ :‬تخطيط املناهج الرتبوية وإعـداد الكتب التعليمية‬
‫لتعليم اللغة العربية لغري الناطقني بها‪.‬‬
‫ــ املحور الثاين ‪ :‬تكوين مدريس اللغة العربية والرتبية اإلسالمية‪،‬‬
‫وعقد الدورات التدريبية لهم‪.‬‬

‫(‪ )5‬د‪ .‬عبد العزيز بن عثامن التويجري‪ ،‬يف البناء الحضاري للعامل اإلسالمي‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬ص ‪:‬‬
‫‪ ،45‬الرباط‪ 1997 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫ــ املحور الثالث ‪ :‬كتابة لغات الشعوب اإلسالمية بالحرف العريب(‪.)6‬‬
‫ويهمنا يف هذا السياق أن نبسط القول حول املحور الثالث‪ ،‬ألنه‬
‫أساس هذا البحث‪.‬‬
‫الرئيسة التي تنطلق منها اإليسيسكو يف عملها‬ ‫َ‬ ‫إن أحد املرتكزات‬
‫الهادف إىل نرش تعليم اللغة العربية يف مختلف اآلفاق لتع َّم لغة القرآن الكريم‬
‫أقطار العامل اإلسالمي كافة‪ ،‬هو أ ّن اللغة العربية كانت متداولة ومنترشة يف‬
‫عديد من املناطق اإلفريقية واآلسيوية قبل املرحلة االستعامرية التي عصفت‬
‫بـمعظم املق ّومات الثقافية للعامل اإلسالمي‪ ،‬وذلك لدرجة أ ّن بعض اللغات‬
‫الوطنية اإلفريقية واآلسيوية كانت تكتب بالحروف العربية(‪ ،)7‬وهو األمر‬
‫الذي يؤكد الحضور الذي كان قامئاً للوجود الثقايف العريب اإلسالمي يف تلك‬
‫املناطق‪ ،‬إىل أن جاء االستعامر األورويب‪ ،‬فسعى منذ البداية نحو القضاء عىل‬
‫الهوية الثقافية والحضارية للشعوب اإلسالمية الناطقة بتلك اللغات الوطنية‪،‬‬
‫وذلك من خالل استبدال الحروف الالتينية بالحروف العربية يف كتابة هذه‬
‫اللغات‪ ،‬وكان من نتيجة هذا االكتساح االستعامري الجارف‪ ،‬أن صار الحرف‬
‫العريب غريباً يف تلك املناطق اإلسالمية‪ .‬وهي إحدى املؤامرات االستعامرية‬
‫التي دبّرت بليل‪ ،‬كام ال أحتاج أن أقول‪.‬‬

‫(‪ )6‬نستعمل يف اإليسيسكو عبارة (الحرف القرآين)‪ ،‬تفادياً للحساسيات التي تحدثها عبارة‬
‫تخصها‪ ،‬وللدواعي التي نراعيها‪.‬‬
‫(الحرف العريب) لدى بعض الدول األفريقية‪ ،‬لألسباب التي ّ‬
‫(‪ )7‬يذكر الدكتور إبراهيم أنيس يف كتابه "اللغة والقومية والعاملية"‪ ،‬ص‪ ،169 :‬دار املعارف‪،‬‬
‫القاهرة ‪ 1970‬م‪ ،‬أن اللغة السواحلية التي تحتل مركزا ً مرموقاً بوصفها لغة العلم والتعليم‬
‫يف املدارس يف كل من كينيا والدول املجاورة لها‪ ،‬تكتب بحروف عربية‪ ،‬وقد منت ألفاظها‬
‫وكلامتها من ّوا ً كبريا ً بفضل ما اقتبسته من ألفاظ عربية كثرية‪ .‬وكان ذلك قبل استبدال الحرف‬
‫الالَّتيني بالحرف العريب‪ ،‬يف مطلع السبعينيات من القرن املايض‪.‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫ووعياً بهذه الخلفيات‪ ،‬وضعت اإليسيسكو برنامجاً طموحاً إلعادة‬
‫الهوية العربية إىل العديد من لغات الشعوب األفريقية اإلسالمية التي‬
‫كانت ضحية املستعمر األورويب‪ ،‬وذلك من خالل إعادة كتابة اللغات‬
‫الوطنية لهذه الشعوب بالحرف العريب‪ ،‬يف عملية تقنية وفنية وتعليمية‬
‫طويلة النفس‪ ،‬استطاعت اإليسيسكو أن تنجح نجاحاً كبريا ً يف تحقيق‬
‫الجزء األول منها‪ ،‬ويتمثّل ذلك يف ت َ ْن ِميِط (أي وضع نَ ٍَط عر ّيب للحروف)‬
‫كتابة إحدى وعرشين لغ ًة من اللغات اإلسالمية التي تتحدث بها الشعوب‬
‫اإلفريقية املسلمة‪.‬‬
‫مرهق غاية اإلرهاق‬
‫ٌ‬ ‫إن الحديث عن اللغات األفريقية أم ٌر‬
‫للدارسني‪ ،‬إذ يبلغ عدد اللغات يف أفريقيا نحو خمسامئة لغة‪ ،‬يتكلم بها‬
‫نحو مائتى مليون من املواطنني األفارقة الذين يعيشون جنويب الصحراء يف‬
‫املناطق االستوائية(‪.)8‬‬
‫وتشرتك اللغات األفريقية فيام سجلته من آداب بلغاتها يف أنها‪،‬‬
‫ويف حاالت كثرية‪ ،‬تكتب املقدمة والخامتة والتعليقات باللغة العربية‪،‬‬
‫وتستخدم الكثري من األلفاظ العربية التي شاعت يف اللغات األفريقية‪،‬‬
‫وتحتذي بحور الشعر العربية‪ ،‬وبناء الجملة‪ ،‬وتقع حتى يف بعض الرضورات‬
‫اللغوية العربية(‪.)9‬‬

‫(‪ )8‬د‪ .‬إبراهيم أنيس‪ ،‬اللغة بني القومية والعاملية‪ ،‬ص ‪ ،165 - 164 :‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫(‪ )9‬د‪ .‬الطاهر أحمد ميك‪ ،‬مقدمة يف األدب اإلسالمي املقارن‪ ،‬ص ‪ ،265 :‬الطبعة األوىل‪ ،‬عني‬
‫للدراسات والبحوث اإلنسانية واالجتامعية‪ ،‬القاهرة‪1994 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫واللغات األفريقية التي ت َّم تنميط كتابتها بالحرف العريب‪ ،‬وفقاً‬
‫لنظام صويت يطابق خصائصها‪ ،‬والتي كانت تكتب أصالً بالحرف العريب قبل‬
‫أن يطالها الغزو األورويب‪ ،‬هي ‪:‬‬
‫‪ . 1‬التامشق (‪)tamasheq‬‬
‫‪ . 2‬البوالر ‪ /‬فلفلدي (‪)pular / fulfulde‬‬
‫‪ . 3‬الهوسا (‪)haoussa‬‬
‫‪ . 4‬السوننيك (‪)soninke / sarakolé‬‬
‫‪ . 5‬املاندنكة (‪)mandingue‬‬
‫‪ . 6‬السوسو (‪)sosso‬‬
‫‪ . 7‬الكانوري (‪)kanouri‬‬
‫‪ . 8‬الصنغي ‪ /‬زَرما (‪)songhoy / zarma‬‬
‫‪ . 9‬الولوف (‪)wolof‬‬
‫‪ .10‬اليوروبا (‪)yoruba‬‬
‫‪ .11‬السواحلية (‪)swahili‬‬
‫‪ .12‬الدينكا (‪)dinke‬‬
‫‪ .13‬القمرية (‪)comorien‬‬
‫‪ .14‬األرومو (‪)oromo‬‬
‫‪ .15‬اللوغندة (‪)lounganda‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫‪ .16‬اللكبارة (‪)lougbara‬‬
‫‪ .17‬التجرينية (‪)tajrini‬‬
‫‪ .18‬النوبية (‪)nobia‬‬
‫‪ .19‬الصومالية (‪)somalien‬‬
‫‪ .20‬الزغاوية (‪)zagawiya‬‬
‫‪ .21‬املبا ‪ /‬و ّداي (‪)alamba / woday‬‬
‫ولقد ح ّددت املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة األهداف‬
‫الخمسة التالية لهذا املرشوع الحضاري ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬صقل الحرف العريب وتطويره صوتياً وتقنياً وتطويعه لكتابة‬
‫لغات الشعوب اإلسالمية املتع ّددة بطريقة علمية متقنة‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬املحافظة عىل الرتاث الحضاري للشعوب اإلسالمية وتنمية‬
‫لغاتها وثقافتها حتى تتمكن من مسايرة حضارة الثورة‬
‫العلمية والتكنولوجية وتطور االتصاالت واملواصالت‪.‬‬
‫ثالثاً ‪ :‬ربط لغات الشعوب اإلسالمية‪ ،‬بعضها ببعض‪ ،‬من خالل اتخاذها‬
‫لحرف واحد هو الحرف العريب‪ ،‬وربطها من ثم بلغة القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وتهيئة وسائل املثاقفة والتواصل والتبادل بينها كلّها‪.‬‬
‫رابعاً ‪ :‬تقليص نفوذ اللغات األجنبية الدخيلة عىل الشعوب اإلسالمية‬
‫األفريقية‪ ،‬وتخليصها تدريجياً من الهيمنة السياسية والثقافية‬
‫والفكرية واالقتصادية األجنبية‪.‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫خامساً ‪ :‬محاربة األمية التي ترضب بأطنابها يف الشعوب اإلسالمية‪،‬‬
‫من خالل تطوير لغاتها وكتابتها وفق املنظور الثقايف املتسق‬
‫مع دواعي الهوية والذاتية‪ ،‬ووفق املنهج الرتبوي القائم عىل‬
‫أساس استخدام اللغة الوطنية يف عملية التعلم بحسبانها أنجح‬
‫الوسائل وأقرص السبل للوصول إىل هذا الغرض وأقلها تكلفة‪.‬‬
‫واعتمدت املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة املنهجية التالية‬
‫يف تنفيذ هذا املرشوع ‪:‬‬
‫ــ تحديد تر ّدد الرموز املم ّيزة لألصوات غري العربية لهذه اللغات‬
‫األفريقية املعنية‪ ،‬قصد التوصل إىل تصميم آالت لطباعة هذه‬
‫اللغات غري العربية بالحرف العريب‪.‬‬
‫ــ ضبط الحروف املعتمدة عىل أساس تحليل علمي دقيق للرموز‪،‬‬
‫وتحليل األصوات اللغوية يف صورها األولية‪ ،‬ثم إخضاعها‬
‫للتحليل عىل مستويات مختلفة‪ ،‬من أجل التوصل إىل الوحدات‬
‫الصوتية املم ّيزة يف اللغات املعنية‪.‬‬
‫ــ وضع رموز كتابية‪ ،‬عىل ضوء عوامل عملية وتاريخية وبيداغوجية‬
‫وجاملية مختلفة‪.‬‬
‫ــ تجديد الوحدات الصوتية املم ّيزة‪ ،‬والرموز الكتابية (الحروف)‬
‫لبعض األصوات الخاصة التي تتمثّل يف الصوامت الحنجرية‪.‬‬
‫حضاري بالغ األهمية‪ ،‬شديد التأثري‪ ،‬عظيم الفائدة‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫عمل‬
‫وهذا ٌ‬
‫يخدم يف األساس قضية انتشار اللغة العربية عىل أوسع مدى‪ ،‬ويحقق‬
‫هدفاً اسرتاتيجياً من أهداف التنمية الثقافية والبناء الحضاري يف بلدان‬
‫‪- 45 -‬‬
‫طويل النفس مستمر ومطرد‪ ،‬ولن‬ ‫العامل اإلسالمي‪ .‬وهو إىل ذلك مرشو ٌع ُ‬
‫ينتهي إالّ بعد االنتهاء من إعادة الحروف العربية إىل اللغات اإلسالمية‬
‫التي كانت تكتب بها أصالً‪ ،‬قبل أن تتعرض للتآمر االستعامري الثقايف‪.‬‬
‫عمل يتطلب تضافر الجهود‪ ،‬وال ميكن بحا ٍل أن تنهض به جهة واحدة‪.‬‬‫وهو ٌ‬
‫ولذلك قام تعاون وتنسيق قويان يف إنجاز هذا املرشوع بني اإليسيسكو‬
‫وعدة منظامت ومؤسسات إسالمية وعربية‪ ،‬منها‪ ،‬عىل الخصوص‪ ،‬البنك‬
‫اإلسالمي للتنمية‪ ،‬الذي له هو اآلخر اهتاممات ثقافية وتعليمية‪ ،‬إضافة‬
‫الرئيسة‪.‬‬
‫َ‬ ‫إىل اختصاصاته املالية واالقتصادية‬
‫الحضاري املهم‪ ،‬بـام قامت به اإليسيسكو‬
‫ُّ‬ ‫العمل الثقا ُّيف‬
‫وتع َّزز هذا ُ‬
‫بالتعاون مع معهد األبحاث والدراسات للتعريب بالرباط‪ ،‬من صنع آلة‬
‫ِ‬
‫اللغات اإلسالمي َة‪ ،‬التي ت ّم ت َ ْنميط‬ ‫كاتبة جديدة تطبع بالحروف العربية‬
‫كتابتها‪ .‬وهو ابتكار مهم أضاف جديدا ً إىل الطباعة العربية‪ ،‬إضاف ًة إىل‬
‫االخرتاع الجديد الذي ابتكرته املنظمة اإلسالمية‪ ،‬وهو إنتاج حروف‬
‫مطبعية عربية للطباعة اليدوية لطبع الكتب والصحف واملجالت والوثائق‬
‫بهذه اللغات اإلسالمية األفريقية‪.‬‬
‫ومن شأن هذه الجهود التي تتم يف دأب وصمت‪ ،‬ويجري القيام‬
‫يوسع من دائرة‬‫بها يف إطار برنامج مدروس ومبنهجية علمية سليمة‪ ،‬أن ّ‬
‫انتشار الحرف العريب‪ ،‬الذي هو املدخل إىل تعليم اللغة العربية‪ ،‬واإلقبال‬
‫عليها‪ ،‬لدى األوساط غري الناطقة بها‪.‬‬
‫توسع تنفيذ هذا الربنامج يف مرحلته الثانية يف آسيا الوسطى‪،‬‬
‫وإذا ّ‬
‫أساس من األهداف الثقافية‬
‫هدف ٌ‬ ‫كام هو مخطَّط له‪ ،‬يكون قد تحقق ٌ‬
‫والحضارية التي تعمل اإليسيسكو من أجلها‪.‬‬
‫‪- 46 -‬‬
‫‪-4-‬‬
‫ومبوازاة هذا العمل الذي تنهض به املنظمة اإلسالمية للرتبية‬
‫والعلوم والثقافة‪ ،‬قامت املنظمة بوضع ثالثة معاجم عربية ـ أفريقية‪،‬‬
‫وفق املنهجية التي ح ّددتها لهذا املرشوع‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫‪ . 1‬معجم عريب ـ فوالين‪،‬‬
‫‪ . 2‬معجم عريب ـ هوسا‪،‬‬
‫‪ . 3‬معجم عريب ـ قَمري‪.‬‬
‫ويف مقابل ذلك‪ ،‬أصدرت املنظمة اإلسالمية ثالثة كتب متخصصة يف‬
‫التعريف باللغات األفريقية اإلسالمية التي شملها مرشوع اإليسيسكو‪ ،‬من‬
‫الناحيتني التاريخية والصوتية‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫‪ .1‬كتاب تعريفي عن تاريخ لغة الهوسا‪،‬‬
‫‪ .2‬كتاب تعريفي عن تاريخ اللغة السواحلية‪،‬‬
‫‪ .3‬صوتيات لغات الشعوب اإلسالمية يف أفريقيا (الهوسا‪ ،‬الفوالين‪،‬‬
‫السواحلية)‪.‬‬
‫وتع َّزز هذا املجهود بصدور سلسلة من الكتب لتعليم لغات‬
‫الشعوب اإلسالمية األفريقية ومحو األمية بها‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫‪ .1‬تعليم لغة الفلفلدي بالحرف القرآين‪،‬‬
‫‪ . 2‬منهج ملحو األمية بلغة الهوسا املكتوبة بالحرف القرآين‪،‬‬
‫‪- 47 -‬‬
‫‪ . 3‬منهج ملحو األمية باللغة الفوالنية املكتوبة بالحرف القرآين‪،‬‬
‫‪ . 4‬منهج ملحو األمية باللغة القَمرية املكتوبة بالحرف القرآين‪.‬‬
‫واتساقاً مع هذا التو ّجه‪ ،‬أصدرت املنظمة اإلسالمية كتابني عن‬
‫اللغات اإلسالمية يف منطقة آسيا الوسطى‪ ،‬هام ‪:‬‬
‫‪ . 1‬كتابة اللغات األتراكية بالحرف العريب‪،‬‬
‫‪ . 2‬كتابة اللغات اآلذربيجانية بالحرف العريب‪.‬‬
‫وسبق للمنظمة اإلسالمية أن أصدرت كتابني توثيقيني عن اللغة‬
‫واألدب والثقافة العربية اإلسالمية يف الصومال‪ ،‬هام ‪:‬‬
‫‪ . 1‬اللغة العربية يف الصومال‪،‬‬
‫‪ . 2‬األدب الصومايل املعارص‪.‬‬
‫ويتواصل العمل يف وضع معاجم عربية ــ أفريقية أخرى‪ ،‬ستصدر‬
‫ِ‬
‫اللغات األفريقي َة اإلحدى والعرشين التي‬ ‫تباعاً‪ ،‬إن شاء اللَّه‪ ،‬حتى تغطي‬
‫شملها مرشوع اإليسيسكو‪.‬‬
‫ولقد استندت هذه املعاجم إىل املنهج العلمي املعتمد يف (صناعة‬
‫املعجم لغري الناطقني بالعربية)‪ ،‬مع االستفادة من تجربة املنظمة العربية‬
‫للرتبية والثقافة والعلوم يف مجال التخطيط املنهجي لصناعة املعجم‪ ،‬من‬
‫حيث املضامني املعجمية‪ ،‬واملصادر‪ ،‬واملنت اللغوي‪ ،‬وفئة املتعلمني‪ ،‬وذلك‬
‫من منطلق الحرص عىل تحقيق األهداف التعليمية للمعجم‪.‬‬
‫‪- 48 -‬‬
‫‪-5-‬‬
‫إن من الحقائق الساطعة التي تأكدت وتوث َّقت عرب الزمن‪ ،‬أن‬
‫اإلسالم قد أث َّر يف الشعوب اإلسالمية غري الناطقة بالعربية‪ ،‬تأثريا ً شديدا ً‪،‬‬
‫ففضالً عن اتخاذها الخ َط العر َّيب لكتابة لغاتها به‪ ،‬فإن هذه اللغات قد‬
‫صبغت أيضاً بصبغة عربية‪ .‬فلغات الشعوب اإلسالمية عىل العموم‪ ،‬قد‬
‫تأثرت تأثرا ً محسوساً باللسان العريب فيام استعارته من األلفاظ والكلامت‬
‫العربية الكثرية‪.‬‬
‫لقد كان الخط العريب هو الواسطة الوحيدة للديانة والتجارة‬
‫واملعامالت االجتامعية للمسلمني من أول األقاليم الوسطى األفريقية إىل‬
‫آخرها‪ ،‬كام أنه يف أقىص الجنوب األفريقي يستعمله مهاجرو املاليو‪.‬‬
‫فمن كل ما تقدم نستنتج أن الحرف العريب انترش بانتشار الحضارة‬
‫اإلسالمية(‪.)10‬‬
‫لقد كان الحرف العريب من أقوى العوامل التي صمدت بها الشعوب‬
‫اإلسالمية األفريقية يف وجه املستعمر لعهود طويلة‪ ،‬قبل أن يدب يف‬
‫أوصالها الوهن‪ ،‬وتسقط فريس ًة ل ِالستعامر ابتدا ًء من القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫ولذلك كان من متطلبات استكامل عنارص القوة لهذه الشعوب‪ ،‬السعي إىل‬
‫إعادتها إىل دائرة هويتها الثقافية وأصولها الحضارية‪ ،‬من خالل إعادة كتابة‬
‫لغاتها الوطنية بالحرف العريب‪.‬‬

‫(‪ )10‬عبد الفتاح عبادة‪ ،‬انتشار الخط العريب يف العامل الرشقي والعامل الغريب‪ ،‬ص ‪ ،98 :‬مكتبة‬
‫الكليات األزهرية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار الغد العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫ولقد رأيت أنه من املناسب ج ّدا ً‪ ،‬يف هذا املقام‪ ،‬أن أُورد هنا عبار ًة‬
‫للمسترشق الفرنيس جاك بريك‪ ،‬عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة‪،‬‬
‫والذي عاش لفرتات طويلة يف بلدان املغرب العريب‪ ،‬خاصة يف اململكة‬
‫املغربية‪ .‬يقول جاك بريك ‪« :‬إن اللغة العربية هي أقوى القوى التي قاومت‬
‫االستعامر الفرنيس يف املغرب‪ ،‬بل هي اللغة العربية الكالسيكية الفصحى‬
‫بالذات‪ ،‬فهي التي حالت دون ذوبان املغرب يف فرنسا‪ .‬إن الكالسيكية‬
‫العربية هي التي بلورت األصال َة الجزائرية‪ ،‬وقد كانت هذه الكالسيكية‬
‫العربية عامالً يف بقاء الشعوب العربية»(‪.)11‬‬
‫إن إعادة الحروف العربية إىل اللغات اإلسالمية األفريقية‪ ،‬مسؤولية‬
‫تضطلع بها باسم العامل اإلسالمي‪ ،‬املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم‬
‫والثقافة‪ ،‬وهي إذ ترشف بهذه املهمة الجليلة‪ ،‬مت ّد يدها إىل كل الغيورين‬
‫عىل مستقبل األمة وثقافتها‪ ،‬للتعاون املثمر والتكامل الب ّناء‪.‬‬

‫(‪َ )11‬م ْعلَمة اإلسالم‪ ،‬أنور الجندي‪ ،‬املجلد األول‪ ،‬ص ‪ ،590 :‬املكتب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫بريوت‪ 1980 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫اللغة العربية ‪..‬‬
‫قضية وجود‬
‫والعمل عىل انتشارها والتمك ُني‬
‫ُ‬ ‫الحفاظ عىل اللغة العربية وحاميتُها‬
‫لها يف أوساط املجتمعات العربية ولدى الجاليات العربية اإلسالمية يف بالد‬
‫املهجر‪ ،‬ليس عمالً تعليمياً تربوياً‪ ،‬أو نشاطاً ثقافياً أدبياً‪ ،‬أو وظيفة من‬
‫وظائف وزارات الرتبية والتعليم واملؤسسات والهيئات واملنظامت املختصة‬
‫عمل من صميم الدفاع عن مق ّومات الشخصية العربية‪،‬‬ ‫فحسب‪ ،‬ولكنه ٌ‬
‫والذود عن مك ّونات الكيان العريب اإلسالمي‪ ،‬وعن خصوصيات املجتمعات‬
‫العربية اإلسالمية‪ ،‬وعن الركيزة األوىل للثقافة العربية وللحضارة العربية‬
‫وعمل يف هذا املستوى وبهذا القدر من األهمية‪ ،‬يدخل ضمن‬ ‫ٌ‬ ‫اإلسالمية‪.‬‬
‫أساس من أركان‬‫خطة بناء املستقبل ورسم معامله‪ .‬فاللغة العربية رك ٌن ٌ‬
‫األمن الثقايف والحضاري والفكري لألمة العربية اإلسالمية يف حارضها ويف‬
‫مستقبلها‪ ،‬واللغة العربية هي القاعدة املتينة للسيادة الوطنية والقومية‬
‫واإلسالمية‪ ،‬وهي ليست لساناً فحسب‪ ،‬ولكنها عنوا ٌن لهذه السيادة التي‬
‫كل دولة من دول املجموعة العربية اإلسالمية‪.‬‬ ‫تحرص عليها ُّ‬
‫ولقد تابعت عىل صفحات (األهرام) ما كتبه الصفوة من أبناء‬
‫مرص وأَعالمها‪ ،‬عن واقع اللغة العربية‪ ،‬وعن األخطار التي تتهددها‪ ،‬وعن‬
‫الوسائل املقرتحة للرفع من شأنها‪ ،‬وعن املع ّوقات واملث ّبطات التي تحول‬
‫دون أداء اللغة العربية لرسالتها السامية‪ ،‬ولدورها الرئيس‪ ،‬ولوظيفتها‬
‫األساس يف الحياة العامة‪ .‬وكنت قد كتبت إىل األستاذ الدكتور مفيد شهاب‪،‬‬
‫عب عنه يف مقا ٍل له‬
‫وزير التعليم العايل والدولة للبحث العلمي‪ُ ،‬مشيدا ً مبا َّ‬
‫‪- 53 -‬‬
‫بالغ األهمية نرشه يف األهرام يوم ‪1999/4/3‬م‪ ،‬تحت عنوان (لغتنا العربية‬
‫‪ ..‬وواجبنا نحوها)‪ ،‬من أفكار قيمة وآراء سديدة‪ ،‬ومبا اقرتحه من حلول‬
‫علمية ملعالجة ظاهرة الضعف الذي يرسي يف كيان اللغة العربية عىل‬
‫مستوى الكاتبني والناطقني بها‪ ،‬وعىل مستوى التداول العام لها‪ ،‬وأعربت يف‬
‫الرأي برضورة القيام بتح ّرك مدروس وجهد‬ ‫رسالتي تلك‪ ،‬عن مشاطريت له َ‬
‫مكثف للحفاظ عىل سالمة اللغة العربية‪ .‬وقلت ما ييل ‪ ..( :‬وملا كانت‬
‫وزارتكم املوقرة هي الجهة الوصية ــ قانوناً ــ عىل مجمع اللغة العربية‪،‬‬
‫مام يجعل وزير التعليم العايل يرأس املؤمترات السنوية لهذا املجمع‪ ،‬فإنني‬
‫كفيل بحمل الجهات املسؤولة كافة‪،‬‬ ‫أناشدكم أن تبذلوا من الجهد‪ ،‬ما هو ٌ‬
‫عىل االهتامم بالقرارات والتوصيات اللغوية التي يصدرها مجمع اللغة‬
‫العربية‪ ،‬خاصة وسائل اإلعالم الحكومية‪ ،‬والكليات الجامعية‪ ،‬وذلك باحرتام‬
‫لغة الضاد وتح ّري الصواب وتج ّنب الخطأ كتاب ًة ونطقاً‪ ،‬ألنه بقدرما تُحرتم‬
‫اللغ ُة العربية يف وسائل اإلعالم املرصية‪ ،‬يرسي هذا االحرتا ُم إىل مختلف‬
‫وإعالمي واسع‬
‫ٍّ‬ ‫وسائل اإلعالم العربية‪ ،‬نظراً إىل ما ملرص من إشعاعٍ ثقايفٍّ‬
‫يل‪ ،‬كالعهد به‬ ‫املدى)‪ .‬ولقد تفضل األستاذ الدكتور مفيد شهاب‪ ،‬فر َّد ع َّ‬
‫دامئاً‪ ،‬بخطاب كريم مؤرخ يف ‪1999/4/11‬م‪ ،‬أثلج صدري‪ ،‬حيث كتب يل‬
‫قائالً ‪ ..( :‬وإنني إذ أنتهز هذه املناسبة‪ ،‬ألو ّد أن أبعث إىل سيادتكم مجدداً‬
‫بخالص امتناين عىل مشاعركم النبيلة وكريم اهتاممكم ومتابعتكم املخلصة‬
‫للجهود التي تُبذل من أجل حامية لغتنا األصلية لغة القرآن الكريم‪ ،‬وذلك‬
‫ملا لها من أهمية قصوى يف تشكيل بناء اإلنسان العريب‪ ،‬وباعتبارها دعامة‬
‫للهوية العربية ودليل وجودنا الحضاري‪ ،‬ولدورها يف بناء فكر اإلنسان‬
‫ووجدانه وتشكيل قيم األمم وبنائها وتقوية وحدتها ومتاسكها)‪.‬‬
‫‪- 54 -‬‬
‫ثم جاءت الندوة الكربى حول اللغة العربية التي نظمتها وزارة‬
‫التعليم العايل يف جامعة القاهرة‪ ،‬يف إطار أنشطة املجلس األعىل للجامعات‬
‫الذي يرأسه وزير التعليم العايل والدولة للبحث العلمي‪ ،‬لتأكيد ما ورد يف‬
‫خطاب األستاذ الدكتور مفيد شهاب إ ّيل‪ ،‬عىل أساس أن هذه الندوة هي‬
‫بـمثابة استرشاف للمستقبل‪ ،‬وجس لنبض املشكالت التي تعاين منها اللغة‬
‫علمي أكادميي‬
‫العربية‪ ،‬وحرص لها‪ ،‬ومحاولة لتوصيفها‪ ،‬وهي إىل ذلك‪ ،‬جه ٌد ّ‬
‫لوضع املسألة اللغوية يف إطارها املتكامل‪.‬‬
‫وكان ملقال األستاذ الدكتور مفيد شهاب اآلنف الذكر‪ ،‬تأثري ملموس‬
‫يف الوسط األكادميي واإلعالمي‪ ،‬وقد أتيح يل أن أقرأ يف (األهرام)‪ ،‬طائف ًة‬
‫من املقاالت والردود التي تكاد تجمع عىل رضورة القيام بتحرك مدروس‬
‫لر ّد االعتبار إىل لغة الضاد يف مرص‪ ،‬ويف غريها من البلدان العربية‪ .‬بيد أن‬
‫املقال املمتاز الذي نرشه يف (األهرام) األستاذ الدكتور شوقي ضيف‪ ،‬رئيس‬
‫مجمع اللغة العربية يف مرص‪ ،‬يوم ‪1999/7/10‬م‪ ،‬تحت عنوان (مجمع اللغة‬
‫العربية وتعريب التعليم العايل) كان متميّزا ً‪ ،‬وجامعاً ألطراف املوضوع‪،‬‬
‫ومقنعاً‪ ،‬و ُمجيباً عن كثري من األسئلة‪ ،‬كالعهد باملقاالت الرصينة والعميقة‬
‫التي يكتبها األستاذ الدكتور شوقي ضيف‪ ،‬عىل ندرتها يف الفرتة األخرية‪.‬‬
‫فلقد وفق الكاتب الفاضل يف تشخيص الداء الذي تشكو منه اللغة العربية‪،‬‬
‫ووفق أيضاً‪ ،‬يف بيان املنهج الواقعي ملعالجة املسألة‪ ،‬عىل النحو الذي يُعيد‬
‫للغة الضاد مكانتها واعتبارها وقيمتها يف حياة اإلنسان العريب واملسلم‪.‬‬
‫والحق أن ما جاء يف مقال رئيس مجمع اللغة العربية‪ ،‬عن األسباب‬
‫تدن مستويات األداء اللغوي‪ ،‬جدي ٌر بأن يح ّرك السواكن‬
‫التي تؤدي إىل ّ‬

‫‪- 55 -‬‬
‫ويحفز إىل تدارك األمر قبل أن يبلغ درج ًة من االستفحال يصعب معه‬
‫العالج‪ .‬وكان األستاذ الدكتور شوقي ضيف حكيامً حني ر ّد انحدار اللغة‬
‫العربية يف املؤسسات التعليمية‪ ،‬إىل تدريس املواد العلمية بغري اللغة‬
‫العربية‪ .‬وتلك مشكلة عويصة من املشاكل التي يتخبط فيها التعليم‬
‫وحصيف جدا ً‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ورصيح‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫دقيق‪،‬‬
‫الجامعي والعايل يف البالد العربية‪ .‬وكم هو ٌ‬
‫ما ذهب إليه األستاذ الدكتور شوقي ضيف حينام قال (‪ ..‬وال ريب يف أن‬
‫طالب الكليات العلمية يشعرون بغري قليل من الهوان للغتهم العربية‪ ،‬إذ‬
‫يدرسون علومهم بلغات أجنبية وال يجدون للغتهم العربية مكاناً بينها‪،‬‬
‫مام يجعلهم يشعرون بأنها لغة متخلفة‪ ،‬وال توجد أمة متقدمة يف العامل‬
‫تعلّم العلو َم يف جامعاتها بلغة أجنبية سوى مرص وبعض البالد العربية‪،‬‬
‫ومعروف أن سوريا هي البلد العريب الوحيد الذي يعلّم العلوم الغربية‬
‫يف جامعاته بالعربية منذ سنة ‪1920‬م‪ ،‬ومل يحدث فيه أي خلل أو ضعف‪،‬‬
‫ويشرتك علامؤها يف املؤمترات العاملية‪ .‬وأَ َم ُل تعريب التعليم الجامعي‬
‫من آمال األمة‪ ،‬وقد طال عليها انتظاره)‪.‬‬
‫ومن املؤكد أن مقال األستاذ الدكتور شوقي ضيف‪ ،‬قد كشف عن‬
‫أصلٍ ٍ‬
‫أساس من أصول املشكلة اللغوية يف البالد العربية‪ ،‬ومل يكتف املقال‬
‫بتشخيص العلة‪ ،‬وإمنا أكد عىل رضورة العالج الحاسم والرسيع‪ ،‬حينام‬
‫ح َّمل أجهزة اإلعالم الحكومية ومرسح الدولة يف مرص‪ ،‬مسؤوليتَها يف‬
‫الحفاظ عىل سالمة اللغة العربية‪.‬‬
‫والواقع أن املسألة اللغوية ينبغي أن تتخطى مجال املناشدة‬
‫والدعوة والطلب إىل الجهات املسؤولة للقيام بواجبها تجاه لغة الضاد‪،‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫إىل استصدار قرارات مسؤولة‪ ،‬أو وضع ترشيعات قانونية ملزمة‪ ،‬تقيض‬
‫باعتبار الخطأ يف اللغة‪ ،‬ليس فقط عيباً أو مسبة أو نقصاً‪ ،‬وإمنا اعتبار ذلك‬
‫خروجاً عىل القانون‪ ،‬وهذا هو الشأن املتبع يف بعض الدول األوروبية‪،‬‬
‫خاصة يف فرنسا التي يُلزم القانون املصادق عليه يف الجمعية الوطنية‬
‫(الربملان) باحرتام اللغة الفرنسية والحفاظ عىل سالمتها ونقائها وعدم‬
‫املساس بهيبتها وسمعتها‪.‬‬
‫إن عددا ً كبريا ً من القرارات والتوصيات الخاصة بالحفاظ عىل‬
‫اللغة العربية والحرص عىل استعاملها وتداولها وانتشارها‪ ،‬صدرت خالل‬
‫السنوات األخرية‪ ،‬عن مؤمترات ولجان وندوات متعددة عقدت يف البالد‬
‫العربية‪ .‬ولكن هذه القرارات والتوصيات مل تنفذ‪ ،‬أو نفذ بعضها بطريقة‬
‫محدودة التأثري‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬وباعتبار أن اللغة العربية‪ ،‬قضية اسرتاتيجية يف املقام‬
‫األول‪ ،‬متس األمن الثقايف والحضاري لألمة‪ ،‬فإن املسألة‪ ،‬يف عمقها‬
‫وجوهرها‪ ،‬تتطلب يقظة أشمل وأعمق‪ ،‬وحركة أكرب وأنشط‪ ،‬وعمالً‬
‫أكرث جدي ًة وفعالية‪ ،‬واستنفارا ً للطاقات الحيّة وحشدا ً للجهود املخلصة‪،‬‬
‫يف إطا ٍر من التنسيق والتكامل والتعاون‪ ،‬والعمل العريب املشرتك عىل‬
‫مستوى املنظامت واملؤسسات والجامعات والهيئات املختصة‪ .‬وأعتقد‬
‫أن املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬واملنظمة العربية للرتبية‬
‫والثقافة والعلوم‪ ،‬تتح ّمالن مسؤوليات مهمة يف هذا املجال‪ ،‬وهام تعمالن‬
‫يف إطار اختصاصاتهام‪ ،‬من أجل توسيع نطاق تعليم اللغة العربية لغري‬
‫الناطقني بها‪ ،‬خاصة يف البالد األفريقية واإلسالمية ويف أوساط الجاليات‬

‫‪- 57 -‬‬
‫العربية اإلسالمية يف بالد املهجر‪ .‬وتنفذ املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم‬
‫والثقافة بالخصوص‪ ،‬برامج وأنشطة متعددة تدعم حضور اللغة العربية يف‬
‫مستويات التعليم العريب اإلسالمي يف العامل اإلسالمي‪.‬‬
‫ولنئ كان العمل الذي تنهض به املنظمتان اإلسالمية والعربية‬
‫يف مجال خدمة اللغة العربية‪ ،‬يستجيب لبعض متطلبات الحفاظ عىل‬
‫لغة الضاد وحاميتها وتوسيع رقعة انتشارها‪ ،‬فإ َّن دور الوزارات املعنية‬
‫والجامعات واملنظامت واملؤسسات والهيئات والجمعيات املتخصصة‪،‬‬
‫نسق ويدعم الدعم املادي واألديب‬ ‫ينبغي أن يتكامل يف هذا امليدان‪ ،‬ويُ َّ‬
‫املطلوب إلحداث نهضة لغوية شاملة تسرتجع فيها اللغة العربية وظيفتها‬
‫الحيوية يف الحياة العامة‪ ،‬بحيث تكون اللغة ذات السيادة الكاملة غري‬
‫املنقوصة‪.‬‬
‫واألمر قبل هذا وبعده‪ ،‬يحتاج إىل إرادة سياسية تؤمن بالرسالة‬
‫الحضارية للغة العربية‪ ،‬وتحمي الهوية الثقافية لألمة بحامية لسانها‪ ،‬ففي‬
‫ذلك ترسي ٌخ للكيان العريب اإلسالمي الكبري‪ ،‬وتقوي ٌة لدعامئه‪.‬‬
‫فاللغة العربية هي العروة الوثقى التي تجمع بني الشعوب العربية‬
‫والشعوب اإلسالمية التي شاركت يف ازدهار الثقافة العربية اإلسالمية‪.‬‬
‫وبهذا االعتبار‪ ،‬فإن الوفاق العريب والتضامن اإلسالمي‪ ،‬البد أن يقوما عىل‬
‫هذا األساس املتني‪ ،‬لغة القرآن الكريم‪ ،‬ولغة الثقافة العربية اإلسالمية‪.‬‬
‫ومن هنا تبدو األهمية الكربى لتدعيم مكانة اللغة العربية والعمل عىل‬
‫نرشها وتعليمها لغري الناطقني بها من الشعوب اإلسالمية‪ ،‬ألن يف ذلك‬
‫حامي ًة لألمن الثقايف الحضاري لألمة العربية اإلسالمية‪.‬‬
‫‪- 58 -‬‬
‫من خالل هذه الرؤية‪ ،‬يتأكد لنا أن اللغة العربية قضي ُة وجود‪،‬‬
‫وقاعدة كيان‪ ،‬ودعامة النظام العريب اإلسالمي الذي يستند إىل مرجعية‬
‫العمل املشرتك املتمثلة يف جامعة الدول العربية‪ ،‬ويف منظمة التعاون‬
‫اإلسالمي‪ .‬فهي إذن‪ ،‬قضية من القضايا ذات الثقل الكبري والتأثري العميق‬
‫ىف حارض األمة ومستقبلها‪.‬‬
‫والحق أن دور مرص يف مجال تجديد رسالة اللغة العربية ودعم‬
‫كيانها يف املجتمعات العربية اإلسالمية‪ ،‬هو من األهمية بـمكان‪ ،‬ذلك أن‬
‫من شأن إصالح اللسان العريب يف مرص‪ ،‬عرب مؤسساتها التعليمية الرائدة‬
‫ووسائل إعالمها النافذة الواسعة االنتشار‪ ،‬أن يُسهم اإلسهام القوي املؤثر‬
‫يف تحسني وضع اللغة العربية يف البالد العربية واإلسالمية كلّها‪.‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫اللغة العربية ‪ ...‬إىل أين ؟‬
‫عقدت املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬بالتعاون مع‬
‫البنك اإلسالمي للتنمية‪ ،‬ندوة دولية يف الرباط‪ ،‬يف الفرتة من ‪ 1‬إىل ‪3‬‬
‫نوفمرب ‪ 2002‬م‪ ،‬حول (اللغـة العربيـة ‪ ...‬إىل أين ؟)‪ .‬وقد ترأست افتتاح‬
‫هذه الندوة‪ ،‬وألقيت الكلمة التالية التي رأيت نرشها هنا ملا لها من صلة‬
‫بـمستقبل اللغة العربية ‪:‬‬
‫يرسين أن أرحب بكم جميعاً يف هذه الندوة الدولية التي تعقدها‬
‫املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬بالتعاون مع البنك اإلسالمي‬
‫للتنمية‪ .‬ويسعدين يف مستهل كلمتي‪ ،‬أن أُشيد بالتعاون البناء القائم بني‬
‫املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬والبنك اإلسالمي للتنمية‪.‬‬
‫وبهذه املناسبة أتوجه بالشكر والتقدير إىل أخي معايل الدكتور أحمد‬
‫محمد عيل‪ ،‬رئيس البنك اإلسالمي للتنمية‪ ،‬عىل حسن تعاونه الذي أمثر‬
‫هذه الندو َة التي نرجو من الله تعاىل أن تحقق األهداف املرجوة منها‪.‬‬
‫ال مراء يف أ ّن اللغة العربية تعاين من بعض املشكالت يف عرصنا‬
‫عوامل سابقة‪ ،‬وأخرى‬
‫َ‬ ‫الراهن‪ ،‬وهي مشكالت نُرجعها يف مجملها إىل‬
‫حديثة‪ ،‬غري أنها يف كل الظروف‪ ،‬مشكالت قابل ٌة للحل‪ ،‬غري مستعصية عليه‪،‬‬
‫بفضل ما يلقى عليها من أضواء من لدن الغيورين من أبناء هذه األمة عىل‬
‫لغة قرآنهم الكريم ووعاء ثقافتهم العظيمة‪ ،‬وعلينا دامئاً أن نكون متفائلني‬
‫مبستقبل هذه اللغة‪ ،‬انطالقاً من مقارنتها بحالها يف القرن التاسع عرش وما‬
‫‪- 63 -‬‬
‫قبله‪ ،‬حيث وصلت إىل أدىن مستوياتها يف األساليب واملصطلحات‪ ،‬وكادت أن‬
‫تخلو من اإلبداع يف التوليد أو االشتقاق‪ ،‬وثقلت ببعض امل ّحسنات البالغية‬
‫التي اعتقد أصحابها أنهم بها يُعيدون العربية إىل عرصها الزاهر‪ .‬بيد أنها‬
‫عاف من الضعف واملرض‪،‬‬ ‫منذ مطلع القرن العرشين‪ ،‬استطاعت أن تَتَ َ‬
‫وأن تكون أدا ًة للتواصل‪ ،‬بل أصبحت إحدى اللغات العاملية املعتمدة يف‬
‫الهيئات واملؤمترات الدولية‪ ،‬وت ُد َّرس يف مختلف جامعات العامل‪.‬‬
‫أما عن أسباب املشكالت التي تعاين منها اللغة العربية اليوم‪ ،‬فيعود‬
‫توسع دور اللغات األجنبية عىل حساب لغة الضاد من جهة‪ ،‬وإىل‬ ‫أه ّمها إىل ّ‬
‫التمسك باللهجات املحلية من جهة أخرى‪ ،‬وكالهام خط ٌر عىل لغة الضاد‪،‬‬
‫أي لغة أخرى‪ ،‬أو أي لهجة‬ ‫ألن أي إقصاء للغة العربية الفصحى لصالح ّ‬
‫عامية‪ ،‬يع ُّد إضعافاً لها وتحجيامً ملكانتها‪ ،‬وبالتايل يشكل خطرا ً عىل الثقافة‬
‫العربية اإلسالمية‪ ،‬ويسهم يف إضعاف األمة وفقدان هويتها وضياع تراثها‪.‬‬
‫وإذا كان تعلم اللغات األجنبية رضور ًة ال مناص عنها ملواكبة مستجدات‬
‫أساس لإلبداع يف‬‫عرص التقانة الحديثة‪ ،‬فإن إتقان اللغة العربية رش ٌط ٌ‬
‫رقي أمتنا العربية اإلسالمية واستعادة‬ ‫مختلف املجاالت‪ ،‬واإلسهام يف ّ‬
‫مجدها‪ ،‬واستئناف ريادتها الحضارية‪.‬‬
‫لقد انترشت اللغة العربية بفضل اإلسالم يف آسيا‪ ،‬وأفريقيا‪،‬‬
‫وأوروبا‪ ،‬واقتبست لغات عدة نسب ًة عالي ًة من مفرداتها‪ .‬ومل يقف انتشارها‬
‫عند ذلك الحد‪ ،‬بل إنها تزدهر اليو َم يف معظم بلدان العامل من خالل انتشار‬
‫اإلسالم فيها‪ ،‬وتطلُّع املسلمني إىل تعلم لغة القرآن الكريم‪ ،‬ليعرفوا دينهم‬
‫ويتفقهوا فيه‪.‬‬
‫‪- 64 -‬‬
‫وتأسيساً عىل ما سبق ذك ُره‪ ،‬فإ ّن لغة الضاد تشهد حالياً إقباالً‬
‫عظيامً عىل تعلّمها‪ ،‬سواء من طرف املسلمني غري الناطقني بها باعتبارها‬
‫لغ َة الذكر الحكيم ووعا َء الثقافة اإلسالمية‪ ،‬أو من ِقبَل الدارسني والباحثني‬
‫الذين أدركوا قيمة اللغ َة العربية باعتبارها اللغ َة التي احتضنت حضار ًة‬
‫فضل عىل الحضارات اإلنسانية‬ ‫عظيم ًة بالغة الرثاء‪ ،‬موفور َة العطاء‪ ،‬لها ٌ‬
‫عرب القرون‪ ،‬إذ أم ّدتها بثمرات العلوم واملعارف‪ ،‬وأغنت ذخريتَها‪ ،‬وأثرت‬
‫رصي َدها‪ ،‬فصارت بذلك مفتاحاً لكنوز حضارية مكّنتها من أن تكون موضع‬
‫اهتامم املراكز العلمية عرب العامل كلِّه‪.‬‬
‫ووعياً من املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة بأهمية‬
‫اللغة العربية وبدورها الرائد يف حياة األمة اإلسالمية‪ ،‬فقد ُعنيت منذ‬
‫إنشائها‪ ،‬بنرشها‪ ،‬وبتطوير تعليمها‪ ،‬وبتعميق الوعي بأهميتها‪ ،‬فض َّمنت‬
‫خطط عملها املتعاقبة‪ ،‬منذ تأسيسها يف عام ‪1982‬م‪ ،‬العدي َد من الربامج‬
‫واألنشطة التي تهدف إىل توفري املناهج الدراسية املالمئة‪ ،‬وتدريب معلمي‬
‫اللغة العربية عىل طرائق التدريس من خالل اعتامد األساليب والتقنيات‬
‫الحديثة‪ ،‬وقد نفذت هذه الربامج يف مختلف الدول األعضاء‪ ،‬وحيث توجد‬
‫األقليات والجاليات اإلسالمية يف املهجر‪.‬‬
‫ومل يقترص اهتامم املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة باللغة‬
‫العربية عىل ما سبق‪ ،‬بل إنها أسست يف سنة ‪1998‬م‪ ،‬مركز اإليسيسكو‬
‫الرتبوي يف جمهورية تشاد‪ ،‬كام أنشأت يف سنة ‪1998‬م‪ ،‬قسامً للدراسات‬
‫اإلسالمية واللغة العربية يف جامعة الدولة يف موسكو‪ ،‬حيث يقدم هذا‬
‫القسم خدمات تربوية وثقافية وأكادميية للطلبة الروس وألبناء الدول‬
‫املستقلة حديثاً عن االتحاد السوفيايت السابق‪.‬‬
‫‪- 65 -‬‬
‫ويندرج يف هذا اإلطار‪ ،‬تنفي ُذ برنامج حضاري طموح‪ ،‬يُعنى بإعادة‬
‫كتابة لغات الشعوب اإلسالمية بالحرف القرآين املنمط‪ ،‬وقد ت ّم حتى اآلن‪،‬‬
‫تنميط كتابة سبع عرش َة لغ ًة أفريقية(‪ .)1‬ورعت املنظمة اإلسالمية تصنيع‬
‫آلة طابعة خاصة باللغات األفريقية‪ ،‬وهي اللغات التي كانت تكتب أصالً‬
‫بالحرف العريب قبل املرحلة االستعامرية التي عمد االستعامر األورويب‬
‫حضاري‬
‫ٌّ‬ ‫فيها إىل استبدال الحرف الالَّتيني بالحرف العريب‪ .‬وهذا إنجا ٌز‬
‫بالغ األهمية‪ ،‬حققته املنظمة اإلسالمية التي تتهيأ يف هذه املرحلة للبدء‬
‫يف تنفيذ الجزء الثاين من هذا الربنامج‪ ،‬بتنميط كتابة لغات الشعوب‬
‫اإلسالمية يف آسيا‪ ،‬وذلك يف إطار التعاون مع البنك اإلسالمي للتنمية‪،‬‬
‫وجمعية الدعوة اإلسالمية العاملية‪ ،‬ومعهد الدراسات واألبحاث للتعريب‪.‬‬
‫ولقد أصدرت املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‪ ،‬يف إطار‬
‫اهتاممها بتعليم اللغة العربية لغري الناطقني بها‪ ،‬مجموعة من الكتب والدراسات‬
‫الخاصة بتعليم اللغة العربية لغري الناطقني بها‪ ،‬سواء باللغة العربية‪ ،‬أو ببعض‬
‫لغات الشعوب اإلسالمية‪ ،‬وبعضها ت ُرجم إىل اللغات األوروبية‪.‬‬
‫ِ‬
‫إنجازات املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة يف مجال‬ ‫إ ّن‬
‫نرش اللغة العربية والثقافة اإلسالمية‪ ،‬عديد ٌة ومتنوعة‪ ،‬وال يتسع املقام‬
‫لحرصها‪ ،‬بل إ ّن ما ذكرناه غيض من فيض‪ ،‬ولعل أوضح برهان وأسطعه‬
‫عىل االهتامم الذي توليه املنظمة اإلسالمية للغة العربية ونرشها وإشاعة‬
‫قيم العقيدة اإلسالمية‪،‬يتجىل يف تنظيم هذه الندوة الدولية بالتعاون مع‬

‫(‪ )1‬أصبحت اليوم ( يونيو ‪ 2015‬م) اثنتني وعرشين لغة‪.‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫البنك اإلسالمي للتنمية‪ ،‬لبحث واقع لغة الضاد وآفاقها‪ ،‬بهدف تشخيص‬
‫العلل التي تقف أمام تطورها وانتشارها‪.‬‬
‫وهكذا تتواصل جهود املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‬
‫الهادفة إىل اتخاذ الوسائل الكفيلة باستمرار اللغة العربية حي ًة ومنتج ًة يف‬
‫وجدان األمة‪ ،‬لبناء الذات اإلسالمية‪ ،‬ولتفعيل دور اللغة العربية يف صياغة‬
‫املستقبل اإلسالمي‪ ،‬يف ظل عرص العوملة ورصاع الحضارات الذي نسعى‬
‫جا ّدين‪ ،‬إىل أن يكون حوارا ً للحضارات‪ ،‬وتعايشاً فيام بينها‪.‬‬

‫‪- 67 -‬‬
‫توصيات الندوة الدولية‬
‫حول‬
‫اللغة العربية‪...‬إىل أين ؟‬
‫ملا كانت اللغة هي التي تح ّول األفراد من جامعة برشية إىل‬
‫مجموعة ثقافية مرتابطة‪ ،‬وكانت اللغة العربية تجمع إىل ذلك‪ ،‬صلتها‬
‫الرشيفة بالعقيدة اإلسالمية والرتاث العريب اإلسالمي‪ ،‬وجب أن يكون‬
‫التجانس الثقايف اللغوي هدفاً اسرتاتيجياً للناطقني بالضاد عىل اختالف‬
‫أجناسهم‪ ،‬وحارساً أميناً عىل قوام الشخصية العربية املسلمة‪.‬‬
‫وانطالقاً من ذلك‪ ،‬يويص املشاركون يف ندوة (اللغة العربية إىل أين‬
‫؟) مبا ييل ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬تعزيز الثقة باللغة العربية‪ ،‬واالعتزاز بها حفاظاً عىل كيان‬
‫األمة‪ ،‬وترسيخاً لشخصيتها ووجودها‪ .‬واعتبار التفريط يف‬
‫اللسان العريب القرآين‪ ،‬تفريطاً يف الهوية‪ ،‬ويتصل بذلك تقدير‬
‫الرتاث العريب اإلسالمي والعناية به وإبراز دوره يف الحضارة‬
‫اإلنسانية من خالل أمثلة واقعية‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬التوسع يف نرش اللغة العربيـة مبختلف الوسائل‪ ،‬وتقدير‬
‫ودعم كل الجهود التي تبذل يف هذا السبيل عىل مستوى‬
‫الدول واملنظامت واملجامع واألفراد‪ ،‬وتهيئة الفرص للمزيد‬
‫من العناية بنرشها لغ ًة وثقاف ًة وحضارةً‪ ،‬ومتتني الصلة بني‬
‫الجهات املعنية بهذا الدور وطنياً وإقليمياً وعاملياً‪ ،‬من أجل‬
‫تطوير الكيف والكم يف نرش اللغة العربية والثقافة اإلسالمية‪.‬‬
‫‪- 71 -‬‬
‫ثالثاً ‪ :‬أن تتوىل املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‬
‫(إيسيسكو) بالتعاون مع املنظمة العربية للرتبية والثقافة‬
‫والعلوم (أليكسو)‪ ،‬ومجامع اللغة العربية‪ ،‬وضع اسرتاتيجية‬
‫لنرش تعليم اللغة العربية تض ّم خطة شاملة للعناية بها يف‬
‫املناهج الدراسية والكتب املنفذة لها‪ ،‬والوسائل املعينة عىل‬
‫نرشها يف مختلف املستويا‪f‬ت‪ ،‬عىل أن تسعى هذه الجهات‬
‫إىل الحصول عىل الدعم املادي واملعنوي من الدول العربية‬
‫واإلسالمية وجهات التمويل املعنية بتفعيل برامج هذا املرشوع‪.‬‬
‫رابعاً ‪ :‬التأكيد عىل اشتامل أي خطة لدعم تعليم اللغة العربية‪،‬‬
‫عىل ما ييل ‪:‬‬
‫‪ .1‬مناهج متقنة ووسائل تعليمية متطورة ملراحل التعليم املختلفة‪،‬‬
‫ولغري املتخصصني‪ ،‬وغري الناطقني باللغة العربية‪ ،‬تراعي الظروف‬
‫الفردية‪ ،‬وتستجيب إىل حاجة املتعلم‪ ،‬وتستفيد من إمكانات‬
‫العرص الحديث وتقنياته املتنوعة‪.‬‬
‫‪ .2‬توجيه املنظامت والدول واملجامع اللغوية إىل تشجيع إجراء‬
‫مسابقات وطنية وإقليمية لتأليف كتب منفذة لتلك الربامج‬
‫واملناهج‪ ،‬وتكريم مؤلفي األعامل القيمة‪ ،‬وإجراء تقويم مستمر‬
‫لتطوير حركة التأليف يف هذا املجال‪ ،‬مع األخذ يف االعتبار‬
‫تحسني هذه العملية ومقارنتها باملؤلفات املامثلة لخدمة‬
‫اللغات الحية األخرى‪ ،‬بقصد االستفادة من تجاربها واالستئناس‬
‫بخربات واضعيها‪.‬‬
‫‪- 72 -‬‬
‫‪ .3‬ينبغي أن تراعى يف هذه املؤلفات الجوانب النفسية‪ ،‬والرتبوية‪،‬‬
‫والثقافية واللغوية للمتلقي‪ ،‬بحيث تتناسب مع سنه‪ ،‬وبيئته‪،‬‬
‫وخلفيته الثقافية‪ ،‬وقدراته العقلية‪ ،‬وتعمل عىل تنمية مهاراته‬
‫بالطرق العلمية والرتبوية‪.‬‬
‫‪ .4‬أن يستعان يف إعداد املناهج والكتب املنفذة لها بنتائج الدراسات‬
‫اللغوية الحديثة‪ ،‬وأن يُلتفت إىل املشكالت اللغوية القامئة‬
‫واملتوقعة‪ ،‬مع االستفادة من الدراسات والبحوث السابقة يف‬
‫هذا الشأن‪.‬‬
‫‪ .5‬إنشاء مكتبة خاصة بكتاب تعليم اللغة العربية ومنهجيته‬
‫ووسائله املعينة واسرتاتيجياته عىل جميع األصعدة‪ ،‬وتكليف‬
‫املكتبة الوطنية يف الدول األعضاء بجمعها وتوزيع نسخ منها‬
‫إىل الجهات املعنية‪ ،‬وإيداع كل كتاب يتضمن تجربة مامثلة يف‬
‫هذه املكتبة‪ ،‬مع تجارب األمم األخرى يف خدمة لغاتها‪ ،‬وتيسري‬
‫السبل لجعل هذه املكتبة مركزا ً بحثياً يُط ِّور فيه املختصون‬
‫أبحاثهم ودراساتهم ويرجعون إىل مصادره من أجل مستقبل‬
‫أفضل وتقييم مستمر لخدمة تعليم اللغة العربية‪.‬‬
‫خامساً ‪ :‬إعداد مدرس اللغة العربية إعدادا ً علمياً وخلقياً ومهنياً‬
‫جيدا ً‪ ،‬وتكرميه وتشجيعه مادياً ومعنوياً حتى يعطي وينجز‪،‬‬
‫وتجنى مثار عطائه وإنجازه‪ ،‬وأن مينح الرعاية الوظيفية التي‬
‫تجعله قادرا ً عىل أداء واجبه يف خدمة اللغة العربية وثقافتها‬
‫وقيمها وحضارتها‪.‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫ويشمل اإلعداد كل ما يسهم يف تنمية قدراته ومهاراته ويجعله‬
‫قادرا ً عىل التأثري بفاعلية يف هذا املجال الحيوي‪ ،‬مع متكينه من التكوين‬
‫املهني حسب آخر ما وصلت إليه التقنية الحديثة يف مجاالت التعليم‪،‬‬
‫واالتصال‪ ،‬والرتبية‪ ،‬وعلم النفس‪ ،‬والحرص عىل التكوين األصيل يف علوم‬
‫اللغة العربية والثقافة اإلسالمية وآداب اللغة‪.‬‬
‫سادساً ‪ :‬رضورة االستعانة يف تدريس اللغة العربية بالوسائل‬
‫السمعية والبرصية الحديثة‪ ،‬ملختربات اللغة وأجهزة‬
‫االستامع‪ ،‬واألرشطة املرئية‪ ،‬والرشائح املصورة‪ ،‬وأقراص‬
‫الحاسوب‪ ،‬واالستفادة من التقنيات الفضائية لنرش العربية‬
‫عرب برامج التعليم عن بعد‪ ،‬واالستفادة من تجارب اآلخرين‬
‫يف كل هذه املجاالت ملعرفة اسرتاتيجيات التدريس ومداخله‬
‫وأساليبه وتقنياته‪.‬‬
‫سابعاً ‪ :‬االهتامم بربامج تعليم العربية لغري الناطقني بها‪ ،‬املقروءة‬
‫منها واملسموعة واملرئية‪ ،‬ودراسة اهتاممات غري الناطقني بها‬
‫وأغراضهم من االطالع عىل اللغة والثقافة العربية اإلسالمية‪،‬‬
‫ومراجعة املحتوى الثقايف الذي تقدمه مناهج وكتب تعليم‬
‫اللغة العربية إىل هذه الرشيحة بـام يغني حاجتها ويُحقق‬
‫أغراضها التي ال تتعارض مع قيم الثقافة اإلسالمية وأبعادها‬
‫الروحية والعقدية والرشعية‪.‬‬
‫ثامناً ‪ :‬االهتامم بطرق التدريس التي تركز عىل املتعلم وتجعله محور‬
‫العملية التعليمية‪ ،‬وتراعي الظروف الفردية والفئات الخاصة‪.‬‬
‫‪- 74 -‬‬
‫تاسعاً ‪ّ :‬‬
‫التوسع يف نرش اللغة العربية يف الدول التي كانت العربية‬
‫لغتها الرسمية‪ ،‬مثل الدول االفريقية الواقعة جنوب الصحراء‪،‬‬
‫والجاليات العربية يف الخارج‪ ،‬ودعم هذا العمل بالوسائل‬
‫املادية واملعنوية‪ ،‬مبا يجعله قادرا ً عىل منافسة اللغات‬
‫والثقافات األخرى بأساليب قادرة عىل الصمود والتأثري‪.‬‬
‫عارشاً ‪ :‬إعطاء اختصاصات إضافية وفعالية أكرب ملجامع اللغة العربية‪،‬‬
‫وعىل رأسها اتحاد املجامع العربية‪ ،‬للمساهمة يف رسم الخطط‬
‫واالسرتاتيجيات الرتبوية والعلمية لتعليم اللغة العربية لجميع‬
‫الرشائح‪ ،‬وربط وشائج املجامع ليحدث بينها تكامل ف َّعال يف‬
‫هذا املضامر‪ ،‬وإرشاك املنظامت العربية واإلسالمية ذات‬
‫العالقة يف متويله‪ ،‬وإغنائه بالخربات واألفكار البناءة‪.‬‬
‫حادي عرش ‪ :‬العمل بجدية ونشاط عىل نرش قرارات املجامع اللغوية‬
‫العربية واملؤسسات املختصة األخرى‪ ،‬عىل أوسع نطاق‬
‫ممكن‪ ،‬واالستفادة يف ذلك من مختلف وسائل النرش‬
‫واإلعالم واالتصال‪ ،‬وإغنائها بالبحوث والدراسات‬
‫واملحارضات والندوات‪ ،‬وحلقات النقاش حتى ال تظل‬
‫حبيسة الجدران التي انطلقت منها‪ ،‬وحتى تسهم تلك‬
‫القرارات يف تيسري اللغة‪ ،‬وتطويرها‪ ،‬وجعلها ملبية‬
‫لحاجات العرص‪.‬‬
‫ثاين عرش ‪ :‬رضورة تعيني مراجع لغوي أو مستشار لغوي متخصص يف‬
‫جميع املرافق التي تصدر عنها أدبيات للتداول والنرش‪،‬‬
‫‪- 75 -‬‬
‫ومحاولة تعميم ذلك يف اإلدارات العامة‪ ،‬ويتأكد ذلك يف‬
‫حالة وسائل اإلعالم عىل اختالف أنواعها‪.‬‬
‫ثالث عرش ‪ :‬تشجيع الكتاب العريب بالوسائل كافة‪ ،‬وتشجيع تأسيس‬
‫الجمعيات األهلية لحامية اللغة العربية والدفاع عنها‪،‬‬
‫واإلشادة هنا بجمعية الدفاع عن اللغة العربية يف كل‬
‫من الجزائر واإلمارات العربية املتحدة‪.‬‬

‫‪- 76 -‬‬

You might also like