Professional Documents
Culture Documents
2
إذا أعطاك أدهشك!
الحمد هلل والصالة والسالم على رسول هللا وصحبه ومن وااله ..وبعد
فما زالت أسماء هللا الحسنى ترينا شيئا من جماله وجالله وعظمته سبحانه ..لنخشع له ،ونحبه
،ونرجوه ،ونعبده..
ومن أسمائه ذات الجالل والجمال والكبرياء والعظمة "الشكور" ..فهو يشكر عبده على ما قد ّم
من عمل صالح..
وجملة " عمل صالح" ال حدود لها ..تكاد لعظمتها واتساعها تمأل ما بين السماوات واألرض!
فهو سبحانه يأمرك بهذا العمل الصالح الذي فيه صالح دنياك وآخرتك فإذا عملته ..يكون
سبحانه هو المستحق لشكرك لداللتك عليه ..وتيسيره لك ..وإصالح حالك به ..أليس كذلك ؟
..ولكنه بكرمه هو من يشكرك عليه!
كيف يشكرك ؟
فكما أن ذاته سبحانه ال تدركها األبصار ..فإن أسماءه وصفاته ال تدرك حقيقتها العقول..
ومع ذلك فلنا من باب التفكر والتدبر أن نسيح مع هذا االسم العظيم نستجلي ظالله في حياتنا..
3
يستجيب دعواتك ..ويشعرك بقربه ..ويؤنسك به..
ويثبتك على الهداية ..وقد زاغت عنها أفئدة من هم أذكى منك وأعلم منك وأقدم في اإلسالم منك
!
اقرأ وتخيّل:
"مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل هللا كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة " هل
انتهت ؟ ال " ..وهللا يضاعف لمن يشاء " ..سبحانك..
مع كرم هللا تتغيّر المسائل الحسابية !! ألنّه كرم ال يخضع للمعادالت الحسابية ..بل للفضل
اإللهي..
سبحانه ..إذا أعطاك أدهشك ..وإذا أكرمك أذهلك!
هؤالء أنبياؤه عملوا الصالحات وجاهدوا لتبليغ كلماته ،فشكرهم بأن أعلى ذكرهم وجعلهم
قدوات يُقتدى بهم وخلّد قصصهم وعبرهم في أعظم كتبه ،وحمى أعراضهم فلم يبح ألحد أن
يستنقص من قدرهم أو أن يسيء الظن بهم ..وغير ذلك من شكره لهم سبحانه وتعالى..
عبد من العبيد ..خلقه هللا بقدرته ..لم يكن شيئا مذكورا ..ثم يقول عنه:
4
"واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد"
"إنا وجدناه صابرا" ..توقف قليال ..أكمل اآلن ":نعم العبد " الملك العظيم يقول عن عبد من
عبيده :نعم العبد!!
وإذا نظرت في شكره سبحانه لنبيّنا دمحم عليه الصالة والسالم وكيف أنه قسم له رحمته "أهم
يقسمون رحمة ربك" ..واختصه برسالته " هللا أعلم حيث يجعل رسالته " وكان معه في جميع
أدوار حياته " وهللا يعصمك من الناس" وجمله بأجمل األخالق " وإنك لعلى خلق عظيم" ..
بل انظر كيف أنّه قرن اسمه باسمه في األذان وفي الشهادة ..قال حسّان:
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وضم اإلله اسم النبي إلى اسمه
وهؤالء الصحابة الذين بذلوا أرواحهم وأعمارهم وأموالهم نصرة للدين شكرهم بأن جعل الكالم
فيهم من عالمات النفاق ..ورضي عنهم ..وضاعف أجر أعمالهم وعد ّلهم جميعا بال استثناء ..
وجعلهم خير القرون ..وقال فيهم " :لقد رضي هللا عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" ..
وقال " :وكال وعد هللا الحسنى" ..واألحاديث في فضل عمومهم وأعيانهم أشهر وأظهر من أن
تذكر ..وكل هذا شيء من شكر هللا لما قاموا به من تصديق وجهاد وبذل..
فكما يشكر الكريم من عمل معروفا ..فكذلك سبحانه وله المثل األعلى يشكر شكرا يليق بكرمه
ّ
وبعزته وعظمته ..شكرا ال كالشكر..
وهو شكور ألن العمل الواحد منك يشكره المرة تلو األخرى..
وهو الشكور ألنّه يشكر العمل الكبير والعمل الصغير بشرط أن يكون خالصا صوابا ..فهو ال
يشكر األعمال العظيمة فقط بل حتى مثقال الذرة منك يشكره وين ّميه " فمن يعمل مثقال ذرة
خيرا يره" فقد أدخل امرأة الجنّة بشق تمرة ،وبغيّا بأن سقت كلبا ..وثالثا كل حياته ذنوب بأن
5
خاف منه ..ورابعا ليس له إال حسنة واحدة ألنّه تصدق بها على صاحبه ..وهكذا ..وخامسا
قتل مئة نفس ! ألنّه هاجر إليه..
ومن شُكره سبحانه أن يع ّجل بثواب المتصدق ..فيرزقه بركة ويغدق عليه من نعمه..
فلوه ..
يخبرنا عليه الصالة والسالم عن أن هللا يقبل صدقة عبده بيمينه ويربيها كما يربّي أحدكم ّ
وهذا من شكره وفرحه سبحانه بطاعة عبده..
يخبرني أحد سكّان المنطقة الشرقية عندما كنّا واقفين عند متجر شهير وكان هذا الكالم قبل
عشر سنوات تقريبا ..يخبرني عن قصة هذا المتجر..
ظفا عاديا يجمع من رواتبه وتجمع زوجته من رواتبها كي يبنوا بيت يقول :كان صاحبه مو ّ
العمر كما يقال ،ول ّما شارف المبلغ أن يجتمع صلّى الزوج في مسجد وسمع كلمة من أحد
المشايخ حث فيها على بناء المساجد وأنّه " من بنى هلل مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى هللا له بيتا
في الجنّة" وقعت تلك الكلمة من الرجل موقعها ..فانصرف من ليلته إلى زوجته وأخبرها بنيّته
أن يجعل كامل المبلغ في مسجد يبنيه ،فإذا بزوجته تدفع له مالها عن طيب خاطر وتطلبه أن
تشاركه في مشروع المسجد!
طتك التي بذلت ألجلها عرق سنين في ليلة ! ويكون ذلك التغيير هلل لك أن تتخيّل كيف تغيّر خ ّ
ي يريد هللا والدار اآلخرة..
عز وجل ونابعا من قلب ح ّ
يقول صاحبي ..بعد بناء المسجد أخذوا في الجمع من جديد ولع ّل فكرة التجارة قد طرأت على
عقل الزوج فافتتح متجرا صغيرا ..فإذا بالزبائن يأتون من كل مكان وإذا باألموال تمطر عليه
فوسّع الرجل متجره ثم بعد مد ّة فتح له فرعا ثم الثاني والثالث ..يقول صاحبي :واآلن له في
المنطقة الشرقية فقط ثالثة عشر فرعا ..وهذا الكالم قبل عشر سنوات ..سبحان الشكور ..
سبحان من ال يخسر أبدا من يتاجر معه..
لقيت باألمس رجال قال لي إن اسمه فالن بن فالن الرحيلي ..فقلت له ممازحا :هل أنت
صاحب محطّات الرحيلي الشهيرة في جدة ؟
صة الرحيلي هذا ،كان في بداية حياته كثير الصدقة على الفقراء ،وكان ثم قال سأخبرك بق ّ
ّ
يعول األيتام ..ثم فتح هللا عليه فكانت له هذه المحطة وغيرها من األعمال التجاريّة الناجحة..
6
هذا ما يعمله الشكور الحميد سبحانه..
يقول عليه الصالة والسالم " :ما نقص مال من صدقة" ..يجب علينا أن نؤمن بهذا الكالم إيمانا
عميقا..
وهذا ربّنا يقول في الحديث القدسي " :يا عبدي أنفق أنفق عليك" ..
كف فقير فثق أن هللا سيضع لك من فضله ما يوازي بل ويفوق ذلك اللاير
فإذا وضعت رياال في ّ
ص ّحة ورضا وعطاء وفضال..
طالب جامعي فقير سمع وهو يسير لصالة الجمعة رجال يهتف بقرب صندوق التبرعات ويحث
الناس قائال :عبدي أَنفق أُنفق عليك ..فتش جيبه فإذا بثروته كلها خمسة رياالت ..فأخرجها
وأودعها صندوق التبرعات ..كان في قلبه صوت اليقين يقول :لقد أنفقت يا ربي ..فأنفق..
في المساء زار أخاه فأخبره هذا األخ (دون أن يعلم بحاله) أن جمعية مالية قد حلت في حسابه
وهو ال يحتاجها كلها ..وبعد ممانعة استقطع منها ألفين وأعطاها صاحبنا !! لقد أنفق هللا عليه..
قرأت قديما في إحدى المجالت قصة كتبتها صاحبتها :أن سائال طرق بابهم في صباح يوم
فأخرجت من محفظتها آخر مئة لاير ودسّتها في يد ذلك السائل..
دخلت المطبخ وصنعت فطورا لها ولزوجها ..استيقظ الزوج وجلس على المائدة وبينما هو
يتناول طعام اإلفطار إذ به يتذكر ويقول :هناك على تلك الطاولة ظرف لك استلمته البارحة من
البريد..
قامت الزوجة لترى ما في الظرف ..فإذا به شيك بنكي أجرة مقالة كتبتها في إحدى الصحف
ومن العجيب أنّها كانت :ألف لاير عد ّا ونقدا!!!
ومن أوضح صور الشكر الرباني هو ما اقترن ببر الوالدين من تيسير في العيش وتوفيق في
جميع الشؤون ..حتى كأن نجاح التجارة حصر على البررة ..يمكنك أن تستعرض من تعرفهم
من الناجحين ..ستجد بر الوالدين جامعا مشتركا بينهم ..وال بد!
7
عندما تحرص أن تطفئ نور سيارتك عند إشارة المرور حتى ال تزعج من هم في الشارع
المقابل ..قد ال يعلمون بمقصدك ..بل حتى ال ينتبهون لفعلك ..لكن احذر أن تظن أن الشكور
لن يكافئك ..كيف ؟ ال يهم ..من المحتمل أن مرضا كان سيخطف بصرك وقاك هللا منه شكرا
لك على صنيعك النبيل..
ابتسامتك لطفل..
كل هذا من الخير " ..وافعلوا الخير" وسبحان من يشكرك على فعل الخير وإن كان مثقال ذرة
..
ومن أجل وأحسن الخير أن تمسك المصحف لتالوة وردك ،ثم تقع عينك ،بل يقع قلبك على
خير يحثك هللا على فعله فتضمر في نفسك أال ينقضي يومك ذلك إال وقد أتيت منه ما استطعت
..إنك بذلك تفعل أعظم ما يمكنك فعله ..إنك تفعل الشيء الذي لم ينزل هللا القرآن إال لتفعله!
أما إن سألت عن أعظم خير يمكنك فعله ..فهو أن تسلم وجهك هلل ! أن تحيا مسلما ..وتعبد هللا
مسلما ..وتعامل الناس مسلما ..وتنظر وتتكلم وتشعر مسلما ..ثم تموت مسلما..
سئل اإلمام أحمد :من مات على اإلسالم والسنة ..مات على خير ؟ فقال لسائله :اسكت ،بل
مات على الخير كله!
يقول سبحانه " :وما تقد ّموا ألنفسكم من خير تجدوه عند هللا" ..كل خير وأي خير تقد ّمه لنفسك
..ستجد أن الشكور الحفيظ حفظه ون ّماه فتأتي يوم القيامة تجده عنده موفورا قد عظم وبات أكبر
من يوم أن فعلته..
8
وفي األثر الضعيف المتن الحسن المعنى " :صنائع المعروف تقي مصارع السوء " وهذا من
شكره ..فلم يضيّع صنيعك الحسن بل جعله وقاء لك عن أن تموت موتة سيئة!
ومع أن الذرة ال تكاد ترى إال أنّك إن فعلت خيرا بقدرها فإنّك ستراه يوم القيامة ينتظرك ..
ليبهجك به سبحانه ويربط على قلبك في يوم يجعل الولدان شيبا..
لذلك فشعور أنّه سبحانه الشكور وأ ّن الخير كلّه منه يجعل العبد على ثقة بربّه محسنا الظن به
سبحانه..
قيل ألعرابي :إنّك تموت ! فقال :إلى أين يذهب بي ؟ قيل :إلى هللا .فقال :كيف أكره أن أقدم
على الذي لم أر الخير إال منه ؟
كل شيء ..نعم كل شيء يحوطك من الصحة والمال والراحة والتيسير والرضا هو منه " ..
وكان فضل هللا عليك عظيما" ..
تعبده ستين أو سبعين سنة ..أكثرها دون التكليف أو نوم أو في عمل المباحات ..ومع ذلك
يكافئك عنها جنة عرضها السماوات واألرض ..تسكنها األبد كله!
فإن كان سبحانه يعطي ال على شيء ..فكيف إذا كان هناك شيء ؟ كيف إذا فرقت بينك وبين
بقيّة عباده الذين يرزقهم ويتحبب إليهم بالنعم بأن عملت صالحا يرضاه ..عند ذلك ال يجوز لك
أن تعتقد أن لن يكرمك الكريم ويشكرك الشكور ويحمدك الحميد سبحانه..
ثالثة يلجئهم المطر إلى غار فيصبحون وقد أطبقت صخرة عظيمة بابه فال يستطيعون الخروج
..فيبتهلون ويتوسلون إلى هللا بصالح أعمالهم ..فيكون شكره لهم سبحانه بأن يجعل مكافأة
العمل أو جزءا من مكافأة العمل جزءا من تفريج ذلك الكرب وزحزحة تلك الصخرة العظيمة ..
وما إن انتهى ثالثهم حتى انفرجت الصخرة وخرجوا يمشون في الشمس!
يبذل عيسى عليه السالم عمره له سبحانه ..منذ أن نطق كلمته األولى في المهد وهو عبد هلل ..
فيتآمر ضد ّه شرار بني إسرائيل ليقتلوه ..فيكون شكره له سبحانه من أغرب الشكر ..رفعه إليه
! هكذا انتشله من بؤرة الهم والمكائد والقلق ..وجعله في سماواته يعيش مع مالئكته وخيار خلقه
..
9
إنك مع هللا في ربح دائم..
وهللا هو القادر على انتشالك مما أنت فيه ..أعلم جيدا أن لديك من الهموم والكروب ما ال
يتناسب مع النجاة منها إال لفظة انتشال ..اعمل الخير ..لينتشلك هللا به ..كما كان تسبيح يونس
سبب انتشاله من بطن الحوت..
إنّك تتاجر مع ذي الكرم المتناهي وذي الشكر المتناهي وذي الفضل المتناهي..
ليس هناك احتماليّة خسارة في سوق ..هللا من يسيّر أمرها ..فكن معه ثم ارقب أفضاله وشكره
..لن يتركك ..ثق بذلك ..لن تسجد هلل سجده إال ويشكرك عليها شكرا يليق به وبكرمه ..فقط
كن معه..
11
أيها القلب اطمئن!
هو الحفيظ ..وحفيظ فعيل من حافظ فاعل ،ومعنى الحفظ في الحفيظ أبلغ منه في الحافظ لذلك
كان " الحفيظ " اسم من أسمائه الحسنى ،والحفظ صفة من صفاته العُلى :إذن فمنتهى الحفظ
عنده ،وغاية الرعاية لديه ،وأقصى الطمأنينة ستكون وأنت بمعيّته ..
يحفظ عبده ..لذلك نقول دائما :اللهم احفظني من بين يدي ..ومن خلفي ..وعن يميني ..وعن
شمالي ..ومن فوقي ..وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ..
إنّك تستحفظ هللا جهاتك الستّ ،إنّك تطلب منه هالة حفظ تحوطك من جميع الجهات ..وال يقدر
على ذلك إال ملك الملوك سبحانه ..
يحفظ سمعك وبصرك ..لذلك ندعوه في الصباح والمساء أن :الله ّم عافني في سمعي ..اللهم
عافني في بصري ..
ستفقد الجهاز الذي تستطيع به فهم هذا العالم إن فقدت سمعك وبصرك ..
لم أكن أعلم أن اإلنسان يتنفّس بسمعه حتى حدثت لي هذه القصة :
11
قبل عشرين سنة وأنا في بيتنا في جبل فيفاء ..ذلك الجبل الجميل المليء بأصوات العصافير ..
والرياح ..والمطر ..
أيقظتني أ ّمي لصالة العصر فتصنّعت عدم سماعها ! كررت محاوالت إيقاظي ،وكررت تمثيل
ي أن يبتليني هللا في سمعيعدم السماع ..كنت صبيّا صغيرا وكان نومي ثقيال ! فدعت أمي عل ّ
إن كنت (أتصانجها) ! سمعت دعاءها ذلك ،ثم انطفأت األصوات فجأة ..
قمت من ذلك النوم المشؤوم ،توضّأت وصليت وأنا أنظر للدنيا من حولي وكأنّي ّ
أتعرف إليها
للتو ..
ّ
أرى إخوتي يتحد ّثون فال أسمع مما يقولون شيئا ..
طالب الفصل يضحكون من إجاباتي التي تكون بشيء لم يسأل عنه المعلّم !
قصفت الرعود ..فتمنيت أن أسمع الرعد ..ذلك الصوت المخيف ..أنت بحاجة إلى أن تسمعه
لتتأكد من أنّك ما زلت حيّا ..
12
صارت أ ّمي تطيل في صالتها السجود داعية لي ..
علمت أن هللا هو الذي حرمني من هذه النعمة وهو وحده القادر على إعادتها ..وبعد أسبوع من
االختناق ..تنفستُ ..
في ليلة من الليالي وأنا في كربي ورأسي على وسادتي إذ بالدنيا تصرخ في أذني ! ما أجمل
صة صراخ القرى ! ..صوت عواء الذئاب ونباح الكالب وثغاء الخراف صراخ الدنيا وخا ّ
وحفيف األشجار ودبيب الحركة في البيت ..فقمت من على فراشي صارخا :لقد عاد سمعي يا
أمي ..
الحفيظ هو من يحفظ سمعك ..الذي تسمع به الحرام ..ولو شاء ألذهبه في لحظة ..
ويحفظ بصرك الذي تنظر به للحرام ..ولو شاء ألذهبه في لحظة ..
يحفظ دينك ..لذلك تناجيه في السجود أن :يا مقلّب القلوب واألبصار ثبت قلبي على دينك ..
لو لم يثبت قلبك على دينه لتناوشتك الشبهات ،وتخطّفتك األهواء ..علماء أفنوا أعمارهم بين
الكتب والمحابر لم يرد هللا أن يحفظ عقائدهم :فكفروا به سبحانه ،وبعضهم صار مبتدعا في
الدين ..وأنت بعلمك القليل ما زلت تسجد له ؟ لقد حفظ الحفيظ دينك ..
13
عبد هللا القصيمي يؤلّف كتابا يدافع فيه عن دين هللا اسمه " الصراع بين اإلسالم والوثنيّة " يقال
إنّه دفع به مهر الجنّة ..وأثني عليه على منبر الحرم ..ثم بعد ذلك بسنوات يؤلف كتابا يهاجم
فيه دين هللا اسمه " هذي هي األغالل " ..يقول :إن دين هللا آصار وأغالل وقيود ! نعوذ باهلل
من الخذالن ..
إن الحفيظ هو من يحفظ دينك ..ال مجموعة المعلومات التي في رأسك ! ال تغتر بعلمك ،وال
بحفظك لكتاب هللا ،وال باستظهارك لشيء من سنّة النبي صلى هللا عليه وسلم ..وهللا إن لم
يحفظ هللا دينك ستزيغ ..
هذا بلعام بن باعوراء يؤتيه هللا اسمه األعظم ..ليدعوه في أي وقت فيستجيب له ..فال يحول
هذا االسم العظيم بينه وبين الزيغ فيهلك في الهالكين ..
يحفظ حياتك ..لذلك نستودعه سبحانه أحبّتنا عندما نفارقهم ونقول :أستودعك هللا الذي ال تضيع
ودائعه !! يستحيل أن تضيع الودائع التي أسبغ عليها هللا حفظه وأحاطها برعايته ..
ك ّل حادث ينجو منه صاحبه وراءه حفيظ أنجاه منه ..نتذكر فائدة مانع االنزالق ،وفائدة كابح
السرعة ،وفائدة البالون الواقي ،وفائدة حزام األمان ..وننسى حفظ الحفيظ سبحانه ..
بعتوها السفينة ،وبلغت القلوب الحناجر ..من الذي يحفظ السفينة من أن
إذا صفعت األمواج ّ
يبتلعها المحيط ؟
رأيت تسجيال لسفينة تلعب بها األمواج ..كان منظر من في السفينة وهم يتزحلقون بعنف من
أقصاها إلى أقصاها مؤثرا ..ال يملكون شيئا ..حتى التفكير ال يستطيعونه ..الشيء الوحيد
الممكن بالنسبة لهم هو محاولة التشبّث بأي شيء ..
14
ثم لما انتقلت الكاميرات للخارج رأيت السفينة قشة صغيرة في وسط األمواج العاتية ..
تتصوره
ّ نسوا آمالهم وأحالمهم وهمومهم وغمومهم وصار الموت هو كل ما يمكن لعقولهم أن
!!
حولهم
من هو الذي أصلح العطل بقدرته كي تنزل الطائرة بسالم ويخرج منها أولئك الذين ّ
الخوف إلى أشباح ؟
يقول تعالى " :له معقّبات من بين يديه ومن خلقه يحفظونه من أمر هللا"
ألجلك أنت يأمر الحفيظ سبحانه أربعة مالئكة يحيطون بك حتى يحفظوك بأمره من كل ما لم
يقد ّره عليك ..
كيف ال يكون حفيظا وقد أوكل بك هذا العدد من مالئكته الكرام حتى يصد ّوا عنك أي طلقة لم
يشأ سبحانه أن تخترق جسدك وأي صخرة لم يرد سبحانه أن تنهي حياتك بل وأي بعوضة لم
يشأ سبحانه أن تؤذي بشرتك !
15
أتعلم أنّه يحفظك في كل لحظة ؟
كيف ؟
في هذه اللحظة حفظ قلبك من التوقّف ،وشرايينك من االنسداد ،وعقلك من الجنون ،وكليتك
من الفشل ،وأعصابك من التلف ،ورأسك من الصداع ،ومعدتك من القرحة ،وأمعاءك من
القولون ،وأعضاءك من الشلل ،وعينيك من العمى ،وسمعك من الصمم ،ولسانك من البكم ..
كل هذا وأكثر حفظه في هذه اللحظة ..ثم يستمر هذا الحفظ في اللحظة التي تليها ..وهكذا
إذا خرجت من بيتك في وسط الليل وخشيت على أطفالك فقل :أستودعكم هللا الذي ال تضيع
ودائعه ..وهللا ستعود وهم كما تركتهم ..ألنّه الحفيظ !
إذا ألجأتك الظروف أن تترك شيئا ثمينا في مكان عام أو مكان غير آمن فانزح بقلبك إليه وقل :
اللهم احفظها ..وثق أ ّن عين هللا ستكلؤها إلى أن تعود ..
16
أربعة من األصدقاء ذهبوا إلى مكان يبعد عن تبوك ستين كيال اسمه " نعمة ريط" ثم هبطوا
الساعة التاسعة صباحا في ما يُس ّمى بالشق ! والشق هذا شرخ عظيم في قشرة األرض ،الهبوط
إليه مغامرة ،بل مجازفة بالحياة ..
فتوتهم وحبّهم للمغامرة جعلهم ينزلون ..وصلوا إلى القاع في نصف ساعة تقريبا ،ثم مكثوا
ّ
إلى قريب من المغرب في محاولة الصعود إلى السطح ! تعلّقوا بالصخور ..تزحلقت بهم
االنحناءات الملساء ،تهشّمت الطبقات الصخريّة تحت أقدامهم ..عبروا من أماكن ضيّقة ال
تتسع ألصابع رجل واحدة !!
تعبوا ..تشققت أرجلهم ،أنهكوا تماما ،بلغ بهم العطش مبلغا عظيما ،،باختصار :رأوا الموت
..
كانت قلوبهم معلّقة باهلل ..كانوا متيقنين أال حافظ إال هللا ..يقول أحدهم ( وبشهادة البقيّة ) إنّه
دعا هللا بإلحاح وقد بلغ به العطش حد ّ تمنّي الموت ..فإذا به ،وفي مكان ال يمكن أن يكون قد
وطئته قدم إنسان في القريب على األقل يرى علبة ماء ص ّحة ! نظيفة ،فلم يفرح بالماء الذي
تقاسمه مع رفاقه ،بل فرح باهلل الذي كان معه في تلك اللحظة ..علم أن هللا الذي أوجد الماء في
تلك اللحظة سينقذهم من تلك الرحلة المميتة ..
وقبيل المغرب وصلوا للسطح وأوجههم سوداء ،وثيابهم مشققة ،والدماء تثعب من أرجلهم ..
وإيمانهم باهلل بحجم ذلك تلك الجبال التي أحاطت بهم !
صة ..
والسم الحفيظ مع كل المخلوقات ق ّ
17
تتلون ..
فهو يحفظ الحرباء باستطاعتها أن ّ
وبعضها يجعل سالحها الذي يحفظها به صعقة كهربائية تصيب من يلمسها كأنواع متعددة من
كائنات البحر !
هذا بعض حفظه ..وما ال تعلمه البشرية من حفظه سبحانه أعظم وأكثر وأكبر !
ومن صور حفظ هللا أنّه سبحانه يدافع عن المؤمنين " :إن هللا يدافع عن الذين آمنوا" ..
تأ ّمل :إنّه ال يدفع عنهم الشر ..بل يدافعه عنهم ! وفي هذا إلماحة إلى ضراوة ما سيالقونه
وتنوع صوره ..ولكن هللا أعلم بما يوعي أعداؤه ..فيدافعهم ويصد ّهم عن أحبابه
وتعدد أشكاله ّ
..
18
عدو للدعوة
وفي الحديث القدسي " :من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب " ! تخيّل :حربا بين ّ
..وللحق ..وللدين ..وبين هللا !
يتج ّمع مشركو قريش حول غار فيه رجالن :دمحم صلى هللا عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي
هللا عنه ..واإلغراءات المالية تدفعهم لقتلهم ،معها األحقاد الدفينة ،والرغبة في حوزة وسام
الظفر بأهم شخصية في تلك المد ّة ..
فيتسلل الخوف إلى فؤاد أبي بكر ..فينظر إليه صاحبه العظيم ويقول :ما ظنّك باثنين ..هللا
ثالثهما ؟ هنا تتشتت المخاوف ..تزول الرعشة ..يذوب التو ّجس
ها هم فتية الكهف يلتجئون إليه ويسألونه الهداية فيلجئهم إلى كهف بال باب ..مفتوح للبشر
والهوام والسباع ..ولكنّه يريد حفظهم فيلقي عليهم أحد جنوده ..إنّه جندي الرعب !! فال يقترب
من الكهف أحد إال وانتزع الرعب رغبته في التقد ّم فتراه يُهرع خائفا " :لو اطّلعت عليهم لوليت
منهم فرارا ولملئت منهم رعبا" ..
أنا وأنت إذا أردنا أن نلقي شيئا ألقينا قلما ..أو كتابا ..أو سيفا ..أو صخرة ..أما هللا فيلقي
أشياء أهم وأغرب وأكبر..
19
يقول سبحانه ":سألقي في قلوب الذي كفروا الرعب " ..
ألجل عباده وأوليائه يلقي بالرعب في قلوب الذين كفروا فتنتفض أطرافهم فرقا من أولياء هللا ..
ويحفظك بالمالئكة ..فمن قرأ آية الكرسي قبل أن ينام أوكل هللا به ملكا يقوم على رأسه يحفظه
مما لم يقد ّره هللا عليه ..
يجعلك هذا االسم ترغب في أن ترفع صدرك إلى األعلى ثقة بالحي الذي ال يموت ..تمشي في
الظالم ..تجوز وديان السباع ..تخوض مستنقعات التماسيح ..فالحفيظ يحيطك بهالة حفظ
تجعل كل هذه األشياء لعب أطفال تافهة ..
سعيد بن جبير يمسك به جنديان من جند الحجاج ..وبينما هم في الطريق إذ تنزل األمطار
وتلجئهم إلى صومعة راهب ..فيرفض سعيد أن يدخلها رفضا قاطعا ..فيتركانه في األسفل
يحرك سعيدويصعدان ..فإذا بأسد يقترب من سعيد فيصرخون به من األعلى أن اهرب ..فال ّ
ساكنا بل يظل في عالم من الذكر دافئ ..فيقترب األسد أكثر ..ثم يصل إلى سعيد وكأنّه يهمس
يله همسا ثم ينصرف ..والجنود ينظرون بخوف والراهب ينظر بعين أخرى ويقول :هذا ول ّ
من أولياء هللا ..
21
وإن خلتموني وحيدا سليبا فإني أعظمكم ثــــــــــروة
من الذي جعل األسد يتوقف في اللحظة األخيرة ..إنّه الحفيظ ..
فجأة تعلق رجله بين حديد السكّة ..يحاول أن ينزعها فال يستطيع والقطار مقبل بسرعة جبّارة
..وصوته يمأل ذلك المكان برعب الموت ..والرجل يحاول بهلع ..يكاد أن يموت قبل أن
يصله الموت ! ول ّما تكون المسافة بينه وبين القطار أمتارا يأذن هللا لحديد السكّة أن يفسح لرجله
المجال فتخرج وينتقل إلى الجهة األخرى في ومضة كان جزء منها سينهي حياته نهاية مأساوية
..
يريد هللا أن يقول لي ولك ولكل من رأى ذلك المشهد إنّه وحده الحفيظ ..فال تركن ّ
لقوتك وال
لتقديراتك ..
ثق بضعفك ..ثق بهزال رأيك ..ثق بفقرك ..ثم اجعل قلبك معلّقا باهلل ..وردد :
ي هللا لوط عليه السالم يهجم قومه على بيته يريدون أن يخلعوا باب البيت وأن يظفروا
نب ّ
ي أن يظفر فسقة قومك بضيوفك ..فقال بكل ضعفبضيوفه ..وهم مالئكة ..يا له من عار أبد ّ
قوة أو آوي إلى ركن شديد" .. " :لو أن لي بكم ّ
21
قال نبيّنا عليه الصالة والسالم " :يرحم هللا لوطا ..لقد كان يأوي إلى ركن شديد"
فإنّه الركن إن خانتك أركان .. الزم يديك بحبل هللا معتصما
يحفظك كما قلنا بالمالئكة وبالرعب ..ويحفظك أيضا بأعدائك ! كيف يكون ذلك ؟
صا دخل إلى بيت ..وأراد أن يسرق إحدى الغرف وقد كان فيها طفل وأبواه ..فحمل يقال إن ل ّ
اللص الطف َل ونقله إلى غرفة أخرى فصرخ الطفل فاستيقظ الوالدان مبهوتان ..وتساءال مالذي
ّ
أخرج طفلهما فخرجا يبحثان عنه في المنزل ..استغل اللص تلك اللحظة ودخل غرفة األبوين
لسرقتها ..فجأة انهار سقف الغرفة ودفن اللص !
مالذي جاء باللص لينقذ تلك األسرة من الموت تحت األنقاض بحيلة كانت عليه ال له ! إنّه
الحفيظ الذي يحفظ عباده ..يحفظهم حتى بأعدائهم !
ومن أعظم األسباب التي تستجلب بها حفظ الحفيظ سبحانه أن تحفظه !
يقول عليه الصالة والسالم البن عباس " :يا غالم ..احفظ هللا يحفظك ..احفظ هللا تجده تجاهك
تعرف إلى هللا في الرخاء يعرفك في الشد ّة "
ّ ..
22
واحفظه في نواهيه فانته عنها كما نهاك
هذا كل ما في الباب ..وبعد ذلك اشمخ على مصائب الدنيا ..سينجيك هللا منها كما أنجى ذا
النون بن متّى ..
ال ه ّم وال غ ّم وال كرب يقارب هم وغم وكرب ذي النون يونس عليه السالم ..في ظلمات ثالث
:ظلمة البحر ..وظلمة الليل ..وظلمة بطن الحوت ..يا لها من حياة بئيسة تلك التي ستقضيها
إلى أبد اآلبدين في بطن الحوت على تلك الهيئة الكئيبة ..
ثم يواجه ذلك السيل من الكروب بكلمة واحدة " :ال إله إال أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"
..
فتصعد تلك األحرف الضعيفة ..تخترق بطن الحوت والبحر والليل ..تصعد إلى السماء ..
فيسمعها المالئكة فيقولون :يا رب ..صوت معروف من مكان غير معروف ..
فيجيء الفرج ..ويجيء الحفظ ..ويجيء العفو ..فيلقيه الحوت بالساحل ..وينبت عليه الحفيظ
شجرة من يقطين ..
كلّنا في هذه الحياة ذو النون ..والحياة قد التأمت علينا بكروبها ..ولن ينجينا منها إال " :ال إله
إال أنت سبحانك ..إني كنت من الظالمين" ..
23
ّ ّ ُ
قلبك المهشم ..كيف تهشم ؟
من معاني اسم الجبّار :الذي يجبر أجساد وقلوب عباده ..الذي يمد ّهم بمراهم الصحة
وضمادات السعادة ..ومسكّنات األوجاع ..ومضاد ّات الهموم ..
وسنبحر في هذه المقالة سويّا مع هذا المعنى العظيم ..لهذا االسم الجليل ..
ألنّه سبحانه علم أن كسورا ستعتري عباده في أبدانهم وقلوبهم وحياتهم ..كسورا تترك ندوبها
على جباههم ،وآثارها على أرواحهم ..لذلك تولّى جبرها برحمته ..وس ّمى نفسه بالجبّار ..
ليعلم عباده أنّه هو القادر على جبرها فيلتجئون إليه ..
حادث تتكسّر فيه العظام ،إهانة تتحطّم منها النفس ،فقر تنحني معه الروح ،مرض تنهار عنده
تتمرد معه أحاسيسك ،ظروف
ّ القوى ،عقدة تحاصر الطموح ُ ،رهاب يخنق عفويّتك ،كُره
تجعلك تن ّكس رأسك !
وبقدر هذه االنكسارات تتفتّح أبواب السماء بضمادات الرحمة ومجبّرات الود ّ !
سر نفسه نظرة صاحبه المتغطرس ..ولوال الجبّار النشرخت نفسه لألبد ..
كم من يتيم تك ّ
وكم من ضعيف صفعته الحياة بيد أحد األقوياء ..لوال الجبّار لظ ّل منحني الرأس طول الحياة ..
24
وكم من فقير أذلّته كلمة قالها أحد األثرياء ..لوال الجبّار لبقيت تلك الكلمة وصمة يعيّر بها طيلة
عمره ..
يجبر الكسير ..ويساعد الضعيف ..ويرفع من شأن الصغير ..ويقد ّم المتأخر ..تض ّمد رحماته
جراح النفوس ..
التحليليّون من علماء النفس يزعمون أ ّن الكبت يولّد العقدة ،والعقدة تترك آثارا عميقة في النفس
،مما يجعل تلك اآلثار تظهر في تصرفات صاحبها وفي انفعاالته ..ويزعمون أن من عانى
يتحول إلى نسخة شبه مطابقة وكأنّه ينتقم من أبيه في أبنائه ! يزعمون أنّها آثار
ّ قسوة األب فإنّه
خالدة في النفس ..من المستحيل أو شبه المستحيل أن تفارق صاحبها ..
ومع هذا نعرف نحن أشخاصا عانوا من قسوة آبائهم ومع ذلك خرجوا غاية في الرحمة ..
عانوا من األنيميا ..والسل ..وحساسية الصدر ..وكبروا فصاروا أصحاء أقوياء ..
أين تلك العقد ..وأين آثار تلك األمراض ؟ لقد ُجبرت ..لقد أخفتها ضمادات الرحمة ..لقد قد ّر
الجبار أن تختفي ..
شُرع لنا أن نقول بين السجدتين " :اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واجبرني " ..
( واجبرني ) وكأننا نتكسّر في اليوم كثيرا فنجتاح أن يجبرنا هللا كثيرا ..
25
قبل حوالي ثمانية عشر سنة ماتت ابنة أختي الوحيدة بين يديها ،صرخت صرخة اختناق
سمعتها من الغرفة المجاورة ،كانت الصرخة األخيرة ! ،فدخلتُ على أ ّمها قبيل الفجر وفي
قلبها من الحزن واالنكسار ما ن ّمت عيناها وتنهداتها به ..
فدلَلتها على الدعاء الوارد " اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها" فقالت ذلك الدعاء
وصوتها يتهد ّج من وقع المصيبة ..فارتفعت كلماتها المنكسرة إلى من يجبر كسر عباده
برهم وأفضل عليها وعلينا من عطاءاته ..
فعوضها عن ابنتها اليوم ببنين وبنات رزقها هللا ّ
ّ
إذا التهبت نفسك ..إذا احترقت أحالمك ..إذا تصد ّع بنيان روحك فقل :يا هللا ..
في العام الفائت التقيت طالبا لديه عُقدة في لسانه ،ال يكاد ينطق بكلمة دون أن يعيدها عد ّة
مرات ! أمسكته ونصحته أن ال يسجد سجدة هلل إال ويدعو :واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
..
التقيته هذه السنة فإذا به كأفصح ما يكون ..سألته _ وقد نسيت نصيحتي _ عن السبب ..فقال :
دعاء :واحلل عقدة من لساني !
إنّه الجبّار ..ما من أسى إال وهو رافعه ،وما من مرض إال وهو شافيه ،وما من بالء إال وهو
كاشفه ..
تتزاحم اآلالم في قلب العبد حتى ما يظن أ ّن لها كاشفة ،فإذا بالجبّار يجبر ذلك القلب ..وبعد
أشهر ينسى العبد كل آالمه وأوجاعه ألن هللا لم يذهبها فحسب ..بل جبر المكان الذي ح ّ
طمته ..
فعاد كأن لم يتهشّم باألمس ..
26
يجبر القلوب والعظام والنفوس ويداوي الجراح يكفكف الدموع سبحانه ..
إذا رضّتك الهموم ،وغشيتك الكروب ..فال تطل البكاء ..س ّجادة تو ّجهها إلى القبلة ..تقضي
على تلك الهموم والكروب في لحظات ..
جلس بانكسار بعد صالة المغرب يستغفر هللا ،جيبه خاو إال من رياالت ال تصنع أمام احتياجات
الحياة شيئا ..يكاد الناظر إليه من بعيد يدرك مدى الفاقة ،وكميّة الخدوش المتناثرة في نفسه ..
ولكن الجبار كان ينظر إليه من أعلى سماواته ..فما كتب عليه تلك الليلة أن ينام إال وقد سد ّ
فاقته بما لم يكن يتوقّعه أو يتخيّله ..
يحبّك سبحانه مبتسما ،فيصنع من جميل أقداره ما يعين ثغرك على االفترار ..ويجعل
االبتسامة تطرد مالمح الكرب عن وجهك ..
إذا رأيت منكسرا فاجبر كسره ..كن أنت الذي يستخدمك هللا لجبر الكسور ..ال تنم وجارك
جائع ،ال تضحك وأخوك يبكي ،ال تنعم بدفء بيتك وهناك من هدهدت رياح الشتاء أبدانهم
الضعيفة ..
يقول أحدهم :رأيت عجوزا تدفع عربة بقرب الحرم مليئة بالحاجيّات ،كانت السنوات قد شقّقت
جلدها بما فيه الكفاية ..رأى فيها أ ّمه ..فبكى كل شيء فيه ..وكان آخر ما بكى عيناه ..أخرج
كل ما فيه جيبه ودسّه في يدها ونفسه تكاد تسقط من الحزن على تلك المسكينة ..
ي!
لم يمض ذلك الشهر إال وأضخم مبلغ يحصل عليه في حياته مودع في حسابه البنك ّ
27
لن يدعك هللا تجبر كسور الضعفاء ثم ال يشكرك ..فهو الشكور الحميد..
كن النافذة التي يتسلل منها الهواء الشفيف على النفوس التي خنقتها أدخنة الحياة الصعبة ..تخلّق
بخلق الجبر ..كن اليد العليا ..
يموت عبد هللا بن المبارك فيفقد الفقراء تلك األرزاق التي كانت توضع عند أبوابهم قبيل الفجر
..فيعلمون بعد موته أنّها منه!
يموت أعدى أعداء ابن تيمية فيبشّرونه بذلك ،فيغضب ويذهب مباشرة إلى أهل وأبناء الميّت
ويعزيهم ويقول لهم :أنا كوالدكم ..ال تحتاجون شيئا إال وأخبرتموني ..
كانوا منشغلين بالمه ّمة العظيمة ..مه ّمة جبر القلوب المنكسرة ..كان هللا يستخدمهم لذلك
الشرف العظيم ..
28
أخبرني صاحبي وقد كان طالبا في جامعة أم القرى أنّه وفي طريقه إلى الجامعة لقي معتمرا
يسأله عن مركز الشرطة ،أخبره صاحبي أنّه مستعجل فموعد ماد ّة النقد قد شارف على البدء
ليقربه من
والتي كان األسبوع القادم هو موعد االختبار (الصعب ) فيها ..ومع ذلك فقد أركبه ّ
وجواله وجواز سفره
ّ وجهته ..وفي السيارة أخبره أنه وقبل ثالثة أيام فقد في الحرم محفظته
وكل ما يثبت شخصيّته ..أصبح مجهول الهويّة ،ال يستطيع األكل وال المبيت وال التواصل مع
أحد !! ..قال ذلك المعتمر لصاحبي :لقد تعتبت _ وعند هذه الكلمة بالذات أجهش بالبكاء _
ثالثة أيام وأنا أشخذ الناس وأنام في الشوارع ..كان منكسرا بدرجة كبيرة ..
يقول صاحبي إنّه واساه ،وذكّره باهلل ،وقال له :إ ّن هللا لم يُفقدك هذه األشياء في الحرم حتى
تذل لغيره ..فقط اسجد له واطلبه وسوف يحبوك ..ثم أعطاه ثالثة وثمانين رياال ..هي كل ما
وجده في جيبه ..وأنزله وقد رأى مالمح االبتسامة على ثغره ..
بعد أسبوعين ظهرت درجة اختبار "ماد ّة النقد" والذي لم يح ّل فيه أي فقرة لصعوبته ،وقد وطّن
نفسه للرسوب فيها ألنه يستحق فيها الصفر ! فإذا بها ثالث وثمانين درجة من مئة !
نعم ..أشياء كلّما حاولت أن تنكر وجودها ..ظهرت بشكل أوضح وأصرح ..كلما قررت أال
تسمعها صرخت بصوت أكثر إذهاال وإدهاشا ..إنّه هللا يا صاحبي إنه هللا ..
كانت جدران السجن الرماديّة وسوط الجالد وسنين العذاب ترهق كاهل سيّد قطب ..فينام
والكرب واقف عند رأسه ..فيرسل إليه الجبّار رؤيا ..ينفض بها كل تلك الخرافات ..فيستيقظ
وال حقيقة في نفسه إال الجنّة ..فتشغله الجنّة وذكراها عن تأ ّمل أوجاع روحه وجسده ..فيكتب
رسالته ألخته حميدة " أفراح الروح" ...يكتب عن أفراح الروح والسياط تنقش على ظهره
عروق الدماء ..ولكن رؤيا تجعل كل شيء بردا وسالما ..
29
إذا طرقوا أبواب الملوك ..فاطرق أنت باب الملك األعظم
إذا وقفوا بذل فوق ساحة أمير ..فقف أنت بساحة اإلله األكرم
إذا سافروا من مستشفى إلى مستشفى ..فقم بالليل وقل :ياهلل ..
بيده مفاتيح الفرج ..الشفاء له خزينة عظيمة القدر والحجم ..أتعلم أين هي تلك الخزينة ؟ إنها
عند هللا " ..وما من شيء إال عندنا خزائنه"
الرضا ..الراحة ..األمان ..أتترك من بيده ملكوت كل شيء ..وتنصرف إلى عبد ال يملك
ضرا وال موتا وال حياة وال نشورا ؟
لنفسه نفعا وال ّ
كم هو مضحك أن يترك زائر الملك االنشغال بالحديث مع الملك ليدخل إلى حجرة الخادم
ويتحد ّث إليه ..
نحن نفعل ما هو أكثر إضحاكا من هذا حين نترك مناجاة الملك سبحانه وطلبه ما نريد ونذهب
في رحلة عالجيّة إلى واشنطن أو انجلترا ونعود بعد أشهر معنا الخيبة والخسارة وتابوت فيه
ميّت !
31
أمر هذا االسم على جروحك ..اجعله البلسم لعذابات روحك ..أيقظ به
عش أياما مع الجبّار ّ ..
أزاهير الفرح في نفسك ..اصنع بتأمالتك فيه شمس حياة ..تقضي على مكروبات الخواء الذي
كنت تعيشه ..
ينزل رسولنا صلى هللا عليه وسلم من الطائف مح ّمال بقدر عظيم من الحزن والحرقة واالنكسار
..بعد أن أدمى صبيان الطائف عقبيه الشريفتين بالحجارة ..يراه ملك الملوك ..ملك الدنيا
واآلخرة ..يراه حبيبه سبحانه ..يرى قلبه المكتظ باآلهات ..فيرسل جبريل معه ملك الجبال ..
لينهي تلك ال ُح َرق ..يرسله في مه ّمة خاصة ..مه ّمة تتعلق بدكدكة الجبال الراسية ..
ولك ّن دمحما عليه الصالة والسالم يستأني بهم ويعفو عنهم ..
عندما لذعت السخرية بسياطها الحارقة قلب نوح ..نظر إلى السماء ودعا ربّه :إني مغلوب
فانتصر ..ففتح الملك سبحانه أبواب السماء بماء منهمر ..أغرق الكرة األرضية ألجل نوح عليه
السالم ..
السخرية بك ..
31
إظهارك بحجم صغير جد ّا أمام رفاقك ..
زود الجبار حياتنا بمجبّرات ومض ّمدات وأدوية ..نعلم بعضها ،ونجهل أكثرها خلقها
وقد ّ
تتفرغ لعبادته ..
وأودعها في كونه ألجلك ..حتى تبتسم ،وتعيش حياة كريمة ..حتى ّ
تلتئم جروحنا عندما نتعاطى الدواء الناجع لها ..وعندما نأكل الطعام الص ّحي ..وعندما نشرب
الماء النقي ..
تص ّح أرواحنا ل ّما نرى االبتسامة في أوجه اآلخرين ..وحين نشعر بأكفّهم تربت على أكتافنا ..
وعندما نسمع الكلمة الطيبة ..
نتجاوز عقدنا عندما نصادف قلبا ينبض بحبّنا ..ويدا تمتد ّ لمساعدتنا ..وفنجان قهوة نرتشفه
بمعيّة من نقد ّر ..
هناك أشياء تلتئم في داخلنا عندما ننظر للطبيعة الجميلة ..ونسمع خرير الماء ..ونحد ّق في
العصفور وهو يُطعم فراخه ..
32
هوة اليأس في أرواحنا ..وسبحان ربي العظيم تخلق فرحا نجد طعمه في ألسنتنا ..
الصالة تردم ّ
وسبحان ربي األعلى تحلّق بنا حول العرش ..
دعوات الوالدة دفء في شتاء الحياة ..وزيارة الصديق متعة في صخب العيش ..وسؤال الجار
يلون لوحة نفسك الرماديّة ..
عنك ّ
عصير البرتقال يجبرك على االبتسامة ..وقطعة الحلوى التذاذ خاص ..والح ّمام الدافئ شعور
بانحسار األتعاب ..
الحياة مليئة بالمجبّرات ..وربنا يريدنا أن نسعد ..أن نبتسم ..أن نحيا حياة جميلة
فكن في حياتك ساجدا كما كنت في بطن أمك ..يكفيك هللا رزقك ويجعل أضيق األماكن أهنأها
..ويحيطك برحمته ..
33
الذي يراك حين تقوم!
في الوقت الذي يريدك أن تعلم أنّه على العرش استوى ..يريدك أن تتيقّن أنّه أقرب إليك من
حبل الوريد ..
يسمع كلماتك ..ويرى أفعالك ..وال تخفى عليه منك خافية ..
يدخل الرسول صلى هللا عليه وسلم المسجد فإذا بصحابته الكرام رافعي أصواتهم يدعون هللا ..
فيقول " :أربعوا على أنفسكم ..إنّكم ال تدعون أص ّم وال غائبا ..إنّما تدعون سميعا بصيرا
قريبا " .
يتصورها عقلك ..
ّ بمجرد أن ينتهي العبد من الدعاء إذ باإلجابة تلوح ..ألنّه قريب بدرجة ال
ّ
تضيع دابّة أحدهم فيمشي مبهوتا فيراه إبراهيم بن أدهم فيسأله فيقول :ضاعت دابّتي ..فيقف
إبراهيم ويقول :ياهلل ..لن أمشي خطوة حتى تعيد لهذا دابّته ..فإذا بها تظهر من منحنى
الطريق ..
أحدهم يدخل المسجد وما زال أثر ماء الوضوء في أذنيه فيتّجه إلى الصف األول مقابل جهاز
التكييف مما يجعل الهواء البارد يدخل إلى أذنيه على أثر الماء ..بعد ساعة يشعر ببداية ألم في
أذنه ..لم يفتح شفتيه وإنما قال بقلبه :ياهلل ..كان ذلك من أجلك ..ياهلل لم أصل في الصف
األول إال ألنّك تحب ذلك ..فإذا باأللم يرتفع هكذا بدون مقد ّمات وبال ّ
تدرج !
وأقرب ما تكون إليه وأنت ساجد ..تتمتم بـ سبحان ربي األعلى ..فإذا بالسماوات تنصت إليك
..وإذا بالجبار يسمعك ..
ال تتوهم أنّه بعيد ..أو أنّه تخفى عليه منك خافية ..
يخرج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في جوف الليل ..ويذهب ليطرق باب أبي بن كعب ..
فيخرج أُبي ..فإذا برسول هللا يخبره :أمرني هللا أن أقرأ عليك سورة الفاتحة ..يقول أُب ّ
ي
بذهول :وس ّماني ؟ فيقول نعم ..فيبكي أُب ّ
ي ..
قريب من جميع خلقه ..يراهم ويحميهم ..
كيف يكون قيّوما على خلقه لو لم يكن قريبا منهم ؟
كيف يكون ربّا ..إال وهو قريب ..
34
يقول عليه الصالة والسالم عنه سبحانه إنه " أقرب إلى أحدكم من شراك نعله " ..ويقول عن
نفسه " :ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " ..
وهذا دليل على القرب المتناهي ..قرب علم وقرب سمع وقرب بصر وقرب إحاطة ..ال قرب
ذات ..أل ّن ذاته العليّة ّ
منزهة عن مثل هذا القرب ..
ومن قربه أنّه ينزل كما ص ّح عن سيدنا دمحم عليه الصالة والسالم في الثلث األخير من الليل إلى
السماء الدنيا فيقول :هل من سائل فأعطيه ،هل من مستغفر فأغفر له "..
ومن قربه أنّه :يسمع دبيب النملة السوداء على الصفاة الص ّماء في الليلة الظلماء ..
يقول تعالى " :ما تسقط من ورقة إال يعلمها "
تخيّل عدد األشجار ..ثم عدد أوراقها ..تخيّلها وهي تتناثر في فصل الخريف ..كلّها يعلمها :
صها ..
يعلم عددها وأشكالها وأنواعها وكل شيء يخ ّ
يقول الشاعر وهو يصف القرب المتناهي وعلمه سبحانه البالغ الدقة :
في ظلمة الليل البهيم األليــــــل يا من يرى مد ّ البعوض جناحها
والمخ من تلك العظام الن ُ ّحــــــــــــــل ويرى مناط عروقها في نحرها
متنقال من مفصل في مفصــــــــــــــل ويرى خرير الدم في أوداجها
في سيرها وحثيثها المستعجل ويرى مكان الوطء من أقدامها
35
وقربه يدفئك ..يجب أن يدفئك ..
وقربه يجعلك شجاعا شامخا بطال ..
اسمع إليه وهو يهد ّئ من روع موسى عليه السالم عندما أعلن خوفه من الذهاب إلى فرعون
فقال له " :إنّي معكما أسمع وأرى" هذا يكفي ..كوني معكما أكبر حماية لكما ..
ألني معكما يجب أال تخافا من فرعون ..يجب أن تكونا شجاعين بطلين شامخين ..
ومما قُرر في كتب العقيدة أن له معيّتين :معيّة خاصة بأهل واليته ،وهي معيّة محبّة ونصرة
وتوفيق ،...ومعيّة عا ّمة لجميع خلقه ..وهي معيّة علم وسمع وبصر وإحاطة ..
ومن أج ّل اآليات وأكثرها أنسا في هذا الباب قول الحق " :الذي يراك حين تقوم * وتقلبّك في
الساجدين" ..
حين تقوم ..يراك ..في تلك اللحظة السوداء المظلمة التي ال يعلم أحد فيها عنك شيئا ،يبصرك
لحظة بلحظة ..
إذا صفعتك المخاوف فتذكر قربه ..
وإذا التأمت حولك الخطوب فشتتها بفكرة أنّه أقرب إليك من حبل الوريد ..
مما يذكر أن أحدهم كان مسافرا في الصحراء فإذا بقاطع طريق حامال سيفه يريد قتله ..قال له
:خذ مالي ..فقال :ال ..أريد أن أقتلك ثم آخذ مالك ..
فاستأذنه بركعتين فأذن له :قال نسيت كل القرآن ولم أذكر إال " :أ ّمن يجيب المضطر إذا دعاه
ويكشف السوء " رددتها وما أنهيت الصالة إال وفارس ال أدري من أين ظهر يضرب ذلك
الرجل ضربة بسيفه يطير منها رأسه !
حرك شفتيك بذكره ..تتفتّح أبواب السماوات لصوتك ..
إنّه القريب ..فقط ّ
كان يونس عليه السالم في بطن الحوت ينادي " ال إله إال أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"
..فكان الصوت الضعيف المنطلق من الظلمات الثالث يخترق أجواز الفضاء لتسمعه مالئكة
السماوات فيقولون للرب سبحانه " :صوت معروف ..من مكان غير معروف !!" ..
يقول في الحديث القدسي " :من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ..ومن ذكرني في مأل ذكرته
في مأل خير منهم " ألنّه قريب ..فقط قل يا هللا ..يكون الرد بأن يذكر اسمك ..
ما أج ّل أن تتخيّل أن ملك الملوك هذه اللحظة يقول اسمك ! يقول :عبدي فالن بن فالن ذكرني
..
36
الدنيا كلّها تافهة ..ال تساوي مثل هذا التخيّل ..
وقربه هذا يزيد ..فبالتوبة واإلنابة والطاعات تزيد قربا منه يقول في الحديث القدسي " :إذا
تقربت منه ذراعا ..وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا " .. تقرب مني شبرا ّ ّ
فكل محاولة اقتراب منك إليه بالطاعة يعقبها اقتراب منه إليك باألفضال والنعم والعطايا والهبات
..
ومن معاني قربه أنّه يريك في كل شيء من حولك معنى يذ ّكرك به ..
فترى حكمته في دقّة تركيب مخلوقاته ..
وترى قدرته في رفع سماواته بال عمد ..
وترى رحمته في إنزال المطر وإنبات الشجر ..
وترى عظمته في شموخ الجبال ..
وترى عذابه في البراكين والزالزل والكوارث ..
إلهي ..رايتك
إلهي سمعتك
رأيتك في كل شي ..
سمعتك في كل حي ..
تعاليت لم يبد شيء لعيني
تباركت لم ينب صوت بأذني
ولكن طيفا بقلبي يهل
ومن طيفه كل نور يط ّل
***
يقول تعالى " :سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق"
إذا أبصرت شيئا بعينيك فبصرك يذكرك بالبصير سبحانه
وإذا سمعت همسا في دجى الليالي فسمعك يذكرك بالسميع سبحانه
37
وإذا علمت شيئا من خفي العلم فعلمك يذكرك بالعليم سبحانه ..
تد ّل على أنّه الواحد وفي كل شيء له آية
تحس بأنّه يراك ..
ّ قريب ال تحتاج حتى تصل إليه إال ّ أن يخطر ببالك ..أن تشعر بقربه ..أن
ثم تقول :ياهلل ..
" وإذا سألك عبادي عني فإني قريب "
فأول شيء تصف ربّك به هو أنّه قريب منه ! النفوس مفطورة على أي شخص يسألك عن هللا ّ
عدم استعدادها لعبادة رب بعيد ..ال يسمع دعاءها ..وال يرى حاجاتها ..فمن أهم الصفات التي
التعرف على هللا أن تخبره أن ربّه " قريب" ..هكذا علّمك سبحانه أن تخبر
ّ تبتدر بها الذي يريد
عنه !
وهذا القرب عالوة على أنه يجعلك تحبّه ،وتأنس به ،وتخشاه ..إال أنه فوق ذلك يجعلك تدمن
على استغفاره والتوبة إليه ..فالقريب :من جهة يستحق أن يُستغفر ويتاب إليه ألنّه بقربه اطلع
على كل غدراتك وفجراتك ..ومن جهة أخرى فهو قريب قربا يجعل استغفارك وتوبتك ناجعة ،
فلن يغفر لك إال من سمع استغفارك ولن يتوب عليك إال من علم توبتك ..فهو القريب المجيب
..وبعد هذا تأمل قوله سبحانه " :فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب "
ومن نوادك التعابير التي تصيبك بالحياء من القريب سبحانه قول أحدهم " :أال يستحق أن تحبّه
؟ :في اللحظة التي تغلق الباب على نفسك لتعصيه ..يدخل لك األكسجين من تحت الباب
لتتنفس "
تقرب من العبد إليه سبحانه " :أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم
وهذا القرب يقابله محاولة ّ
الوسيلة أيهم أقرب " ..إنّه مضمار المسارعة ،والمسابقة ..والتي ال يكون قصارى رغبة العبد
منه أن يكون قريبا بل أن يكون األقرب !
هللا قريب من ّ
غزة
تمس أفئدة
ّ وفي أجواء المحن التي تعيشها األمة ،ومن بين أدخنة الحروب المهلكة التي
غزة بالألواء ،يحتاج المؤمن هناك إلى ثالث مستويات معرفية متعلّقة
غزة وغير ّالمؤمنين في ّ
باسم القريب :
األولى :معرفة قربه سبحانه إيمانا ويقينا ..ليريح نفسه من عناء الصراخ واالستنجاد بالبشر ..
فرب البشر قريب شهيد مطّلع ..فيجد في القرآن آية تقول له بكل وضوح " :إنه سميع قريب "
..فيلقي عند أعتابها حرقات روحه المكلومة ..وكل ما سبق في المقالة يصب في خانة هذا
المستوى المهم ..
38
الثانية :ومن بين لهيب القهر ،ورؤية تفاصيل الشتات ،وتهد ّم البيوت ،وموت األنفس ،
وهالك الثمرات ..يريد رحمة ..يبحث عن رحمة ..يتمنى رحمة تنهي عذابات خذالن اإلخوة
..وطعنات الغدر المتوالية ..فيقف عند قول الحق سبحانه ":إن رحمة هللا قريب من المحسنين "
..ياهلل ..إذن ليس بين ذلك المجاهد المغوار الذي نذر روحه للجبار إال ستار شفيف تلوح من
خلفه مخايل اإلحسان ..فقط يحتاج أن يجاهد في األرض بطريقة مالئكية يشعر فيها أنّه يرى
هللا ! فإن لم يكن يرى هللا فإن هللا يراه ..فال يطلق رصاصة إال ولديه جواب عن لماذا وكيف
ومتى أطلقها ! وال يزال العبد ينتقل من إحسان إلى إحسان ..وتكون في المقابل رحمة هللا أقرب
إليه من غيره ..حتى تغشاه الرحمة من كل مكان ..تنتزعه من أدخنة الموت إلى سحائب
الرضا ..
الثالثة :وتطول األيام ..وتتوالى الزفرات ..وتشتد البالءات ..ويُحكم الحصار من كل مكان ..
وعند ذلك تط ّل روح المجاهد على آية ثالثة يقول فيها الحق " :أال إن نصر هللا قريب" ..
فكما أنّه قريب سبحانه من عباده ..وكما أن رحمته أيضا قريبة من المحسنين منهم ..يأتي
النصر القريب من جند هللا " ..وإن جندنا لهم الغالبون " ..فيربط هللا بذلك على قلوب أضناها
االنتظار ..وأرهقها االصطبار ..
وبعد هذه السياحة التفكرية في اسم هللا القريب ..أسأل هللا أن يجعلنا ممن يستحضر قربه ..
ويعمل وفق ما يمليه هذا االسم األعظم من معاني الذل واإلخبات والمراقبة والخشية ..وطلب
الرحمة والنصرة منه وحده ..
هذا وصلى هللا وسلم على سيدنا دمحم ..وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين ..
39
ال مرض بعد اليوم!
41
يرى أنّه ليس بسبب ..
ويشفيك بما ُ
ويشفيك بال سبب !
يشفي باألعشاب ..ويشفي باألدوية المركّبة والمفردة ..ويشفي بالغذاء ..ويشفي بالماء ..
ومن أغرب ما قرأت أن طفال مصابا بالسل وأمراض أخرى حكم بأن موته قد شارف ..وأذنوا
لوالده أن ينقله معه إلى الريف ليستمتع في آخر أيّامه بهواء الريف العليل ومناظر الحقول
الطبيعية ..
وبينما هو يمشي وبيده قطعة كعك باردة إذ لقيه رجل طاعن ونظر إلى عينيه الذابلتين وسأله :
فهز رأسه أن نعم ..فقال :كيف تحصل على الحياة وأنت تأكل طعاماهل تريد الحياة يا بُني ؟ ّ
ميّتا ؟
ي ..اللحوم والخضروات وكل ما أنتجته الطبيعة ومازالت حرارة التراب فيه
عليك بالطعام الح ّ
وأثر الحياة عليه ..
يقول الطفل فنزلت نصيحة ذلك العجوز من قلبي منزال فصرت ال آكل إال الطعام الحي ..
وتورد جسمي ..مما حدا بأبي أن يذهب بي إلى المستشفى وبعد كشوفات ّ فتحسّنت ص ّحتي
وتحاليل فغرت أفواه األطباء :المرض لم يعد له وجود !! يحكي هذه القصة نفس الطفل بعد أن
كبر وأصبح أشهر معالج بالغذاء في العالم إنّه " جايلورد هاوزر" في كتابه الرائع " الغذاء
يصنع المعجزات"
نعم حكم عليه األطباء بالموت ..ولكن ملك الملوك لم يحكم عليه بذلك ..
نعم أراد األطباء أن تنتهي حياته في الريف ..ولكن هللا لم يرد ذلك ..
نعم عجز األطباء عن عالجه ..ولك ّن هللا لم يعجز ولن يعجز وال يعجز ..
من الذي أودع أسرار الشفاء في الخضروات واللحوم وغيرها من النباتات واألشياء التي في
متناول أفقر رجال الدنيا؟ إنه هللا الشافي ..
فلعلّك مصاب بمرض ..وأنت ال تدري ..وتأكل الطعام الذي فيه شفاؤك وأنت ال تدري ..
تمرض ويشفيك وأنت لم تعلم أصال بمرضك وال بشفائك !!
وقد يضع سبحانه شفاءه في الماء ..وكلّنا يحفظ " ماء زمزم لما شرب له" وهو " طعام طُعم
وشفاء سُقم " ..وكم من مريض أضناه المرض فأدمن شرب هذا الماء المبارك فبرئ بإذن هللا
..
41
ومن استعرض أحاديث الشفاء وجد ك ّما كبيرا من األدوية النبويّة ،جمعها ابن القيم في كتابه "
الطب النبوي "
فمن األدوية على سبيل المثال ال الحصر :القسط البحري والهندي ،ولبن البقر ،وسمنها ،
والسنا والسنوت ،والحبة السوداء ،والتلبينة ،وقيام الليل ...الخ وفي كل ذلك أحاديث صحيحة
..
وهو سبحانه :يشفي بالصبر ..يشفي بالدعاء ..ويشفي بالصدقة ..ويشفي باالستغفار ..
ويشفي بالتوبة ..ويشفي بالرضا ..ويشفي بال شيء ..
دخل علينا في مكتبنا في مستشفى الملك عبد العزيز بتبوك والهلع ينسج على وجهه ضبابة قاتمة
اللون ..افتقدنا في تلك اللحظة ابتسامته األليفة ..سألناه ..فإذا به يحكي لنا عن أ ّن ابنه ّ
منوم في
الدور العلوي ..لقد وقع عليه حادث وفقد بسببه بصره ..
يا لهول فجيعتنا ..فكيف بفجيعة قلب هذا األب ..
قال وبرجاء :أريد من أحدكم أن يقوم معي ويرقي ابني ..ع ّل هللا أن يشفيه ..
نهض صاحبي على الفور وذهب معه ..
بعد ساعة عاد صاحبي وأخبرني أنّه رقاه ثم أمسك باألب وصبّره وأخبره بحديث " داووا
مرضاكم بالصدقة" _ وقد حسّنه األلباني بمجموع طرقه _ ..قال فأخرج األب من جيبه
خمسمئة لاير وقال له تصد ّق بها بنيّة الشفاء عن ابني ..
بعد يومين دخل األب بوجه آخر وطلب من صاحبي مرافقته ..عاد صاحبي بعد نصف ساعة
تقريبا متهلال وقال :أبشّرك ..صار يرى شيئا من نور الغرفة ..
ثم أخبرني أن األب أعطاه ألف لاير ليتصدق بها ..كان ذلك اليوم نهاية األسبوع ..
يوم السبت ..أخبرني صاحبي أن األب جاءه وأخذه إلى غرفة ابنه ..ولم أصد ّق حين قال لي
إن ذلك الطفل قد صار يرى مثلنا ..
من الذي شفاه ؟ من الذي كتب لعينيه الحياة ..من الذي أعاد ذلك الضياء إلى مقلتيه ؟
"إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" ..
سبحانه قال لبصره عد ..فعاد البصر ..
ال يريد منك سوى العودة إليه ..أن تتل ّمس الطريق المؤدية إليه ..
42
عد إليه بالرضا ..عد إليه بالسجود ..عد إليه بالتوبة ..عد إليه باالستغفار ..عد إليه بالصدقة ..
عد إليه باالعتراف ..
اطرق بابه بأي وسيلة كانت ..المهم أن تعود ..ثم ارتقب الشفاء ..
ليس هناك مستشفى في الدنيا تداويك إذا لم يشأ هللا لها ذلك ..
ليس هناك طبيب في العالم يستطيع أن يش ّخص مرضك ..إال إذا أراد هللا ذلك ..
أحد األثرياء مصاب بالفشل الكلوي يسافر به أبناؤه إلى مصر لزراعة كلية ..
اتفق األبناء مع أهل فتاة صغيرة في السن على مبلغ مئة ألف لاير سعودي ثمنا لكليتها ..
وفي الصباح كان الجميع في المستشفى ..
طلب الرجل قُبيل العملية اللقاء بالفتاة التي قررت بيع كليتها له ..دخلت إليه في خفر وحياء ..
فسألها :ما الذي دعاك إلى أن تبيعي كليتك لشيخ كبير مثلي ؟
فقالت :الحاجة ..أسرتي فقيرة ..وإخوتي في الجامعة ..يجب علي أن أفعل شيئا ألساعدهم !!
هو ثري لم يسمع في حياته بالحاجة هذه ..
كأنّها صفعته ..
أيقظته من سبات ..نسي معه احتقانات الدم الفاسد في جسده ..
تساءل في نفسه :أيُعقل أن يستغني إنسان عن جزء من جسمه ..عن قدر من حياته ألجل أن
يأكل ..أن يعيش ..
طلب للفور أبناءه ..دخلوا عليه فأمرهم أن يعودوا به إلى السعودية فقد ألغى فكرة الزراعة ..
وأخبرهم أن مبلغ المئة ألف صدقة منه للفتاة ..ال يأخذوا منه رياال ..
وبعد مقاومة من أبنائه ..وغضب من بعضهم إذ بهم يرضخون لرغبة أبيهم ..
وبعد عودته إلى السعودية يذهب إلى المستشفى كالعادة للغسيل ،وفي فحص روتيني يكتشف
األطباء وبذهول أن كليته الفاشلة عادت للعمل !
جراح ..إنّه الملك الذي ينظر من علياء ملكه
قدرة ملك الملوك على الشفاء ال تحتاج إلى مبضع ّ
:فيشفي مريضا ،ويواسي مكروبا ،ويعيد مسافرا ،ويبرئ جريحا ..
هللا ..
43
يمرضك لتعود إليه فإذا عدت إليه رفع المرض إذ أنه لم يعد للمرض حاجة
يمرضك لتتواضع فإذا تواضعت وذللت رفع عنك المرض ألنه لم يعد له حاجة
يمرضك لتشعر باآلخرين فإذا شعرت بهم رفع عنك المرض ألنه لم يعد له حاجة
يمرضك ليختبر صبرك ورضاك فإذا صبرت ورضيت رفع المرض ألنه لم يعد له حاجة
الشافي الذي لن تحتاج إذا أردت الدخول عليه إلى موعد مسبق ،وبطاقة تؤهلك للعالج ،وأن
تأتي قبل الموعد بربع ساعة على األقل هو هللا !
فقط قل :يا هللا ..فإذا بأعظم مستشفى إلهي تفتح أبوابها ..إنّها مستشفى الرحمة القدسيّة ..
يقول صديقي إنّه سمع تهشّم عظام ذلك الطفل تحت إطارات سيّارته ..أوقف السيارة ،وحمل
الطفل إلى المستشفى وقلبه يرجف ..جاء أبو الطفل وجد ّه ..كان صديقي فاقد الصواب ..لم
يدر بخلده أنّه سيقتل طفال في حياته ..
كان صوت العظام المتكسّرة يتردد في أذنيه ..
أقبل إليه جد ّ الطفل وهد ّأ من روعه وأخبره أن ما يكتبه هللا سيكون ..وسيرضون به ..
صلى بهم ذلك الجد ّ صالة العشاء في مسجد المستشفى وقرأ " وبشّر الصابرين" ..بكى صديقي
بحرقة ..
بعد الصالة خرج األطباء وأخبروا األب والجد أن األمل في حياة الطفل ضئيل ..فهو يعاني من
تهشّم فظيع في الجمجمة ..
صعق صديقي ..عاد خائر القوى إلى بيته ..
ُ
غاب عن العمل أسبوعا كامال ،فقد كان في صدمة مذهلة ..
لم يكن هناك دواء لذلك الطفل البئيس أعظم من إيمان جد ّه ودعوات أ ّمه ويقين أبيه وتعلّق
الجميع باهلل ..
بعد أق ّل من أسبوع زرت بنفسي ذلك الطفل الجميل ..فإذا به يضحك ويلعب ويقوم ويتحد ّث
معنا ..صدق هللا وكذب األطباء ..صدق جابر العظام المنكسرة " ما يفتح هللا للناس من رحمة
فال ممسك لها "
من الذي يستطيع أن يألم تلك العظام المتنافرة ،ويعيد البسمة إلى ذلك الثغر ،وينفخ الروح من
جديد في جسد انفتحت له أبواب المقبرة ؟
44
هللا وحده يفعل ذلك ..
ذرة شرك قد
هذا هو أبو األنبياء إبراهيم عليه السالم ..الذي جاء ربّه بقلب سليم ..سليم من أي ّ
تعتري قلبا ضعيفا ..يقولها عليه الصالة والسالم لنفهم الدرس وال نلتجئ إال للحي الذي ال
يموت " :وإذا مرضت فهو يشفين" ..
هو وحده ..
ضع نقطة هنا ..لن تحتاج إلى غيره إذا أراد شفاءك ..ولن يفيدك غيره إذا لم يرد ..
ي أيوب عليه السالم ..تتشتت أسرته ..تتبعثر أمالكه ..أفضل الناس تفاؤال يفقد
يرض الجدر ّ
ّ
األمل في شفائه ..وهو صابر محتسب ..تشتعل األسقام في جسده وهو منكّس الرأس لمواله ..
وبعد سنوات البالء ..تند ّ من شفتيه شبه دعوة ..ليست دعوة كاملة ..إنها إيحاء ..إنّها زفرة
حيية يقولها العارف بربّه ..
" إنّي مسّني الضر ..وأنت أرحم الراحمين" ..
فإذا بأبواب السماء تنفتح بالرحمة ..
وإذا باألوامر العليا تنزل من فوق السماء السابعة ألجل ذلك المهموم المكروب ..
تنتهي فجأة سنين اآلهات ..ليأتي عهد الشفاء ..
لماذا تذهب إلى غيره ؟
لماذا تلتجئ إلى سواه ؟
يتحركون حولك وتنسى الحي الذي ال يموت ..
ّ لماذا تثق بكل هؤالء الموتى الذين
من الذي لعب عليك وأقنعك أن الشفاء قد يأتي من طريق آخر ؟
كيف ضحكت عليك الحياة بهذه السرعة ..ونسيت ذلك الذي أخرجك من بطن أ ّمك دون طبيب
..وخلق لك في صدرها رزقا حسنا ..وعلّمك وأنت أجهل ما تكون كيف تزم شفتيك على
صدرها لترضع ..أنسيت الذي خلق الرحمة في قلب تلك اإلنسانة لتض ّمك ..وتعتني بك ..
أبهذه السرعة نسيته ؟
أهكذا ظننت أنه يمكنك االستغناء عنه ؟؟
ها هو بالمرض يذكرك بأيامك األولى ..
45
ي ..فكما خلقتك من عدم فأنا وحدي الذي أرفع عن جسدك السقم
بالمرض يقول لك هللا :عد إل ّ
..
قد يكون الدواء أقرب إليك مما تظن ..
فها هو أيوب عليه السالم يُؤمر أن يضرب برجله األرض " هذا مغتسل بارد وشراب" ..
لقد كان الدواء بالقرب منه ..لم يكن ينقصه إال مشيئة هللا حتى تكتمل أسباب الشفاء ..فلما شاء
هللا ..علم أيوب مكان الدواء فنجع الدواء بإذنه سبحانه ..
أنت ال تحتاج إلى أن تحجز إلى أمريكا أو أوربا أو الصين ..فدواؤك إن شاء هللا قريب ..فقط
قارة الرضا ..
احجز لقلبك رحلة إلى ّ
تبصر
ُ وداؤك منك وما تشعر
ُ دواؤك فيك وما
إذا رضيت عن هللا أرضاك هللا ..
المرض من أقسى اختبارات الرضا ..فإذا كانت إجاباتك في هذا االختبار راضية ..كانت
النتيجة ُمرضية بإذن هللا ..
قل من بين آهاتك " رضيت باهلل ربا وباإلسالم دينا وبدمحم صلى هللا عليه وسلم نبيّا " ..قلها
روض قلبك على الرضوخ لمعناها ..بل اغسله بها غسال .. بقلبك ..بل ّ
اجعله يعيش الرضا ..
اجعله يتلذذ بالرضا ..
تدب في نواحيه ..
ثم تأمل جسدك ..وسترى أمارات الشفاء ّ
اجمع يديك واتل اسمه ثم امسح على جسدك يعيد سبحانه بتلك النفثة أشياء كانت على وشك
المغادرة ..
اجعل المرض بداية عهد جديد ..
تتعرف فيه إلى ربّك من خالل اسم الشافي ..
ّ
ال تنكر :لقد مرضت كثيرا في حياتك أليس كذلك ؟ من شفاك ؟ لماذا تظن أن هذا المرض
بالذات يُعجزه ؟ هذا الظن وهذا اإلحساس يستحق العقوبة منه ..وقد يكون مرضك عقوبة
العتقادك المريض ..انفض المرض عن قلبك أوال ..ثم التجئ بالشافي إلى الشافي يشفيك ..
كل هؤالء المرضى في المستشفيات ينتظرون اإلذن لهم بالشفاء من الشافي سبحانه ..
46
ليس هناك آهة إال ويسمعها ..
وال ألم إال ويعلم موضعه ..
وال زفرة إال ويرى نيرانها في الفؤاد ..
ثم إذا ما ت ّم مراده ..ونزفت عبر آهاتك أنهار الذنوب ..أمر سبحانه العافية أن تعود فإذا بك
تمشي في أرض هللا وقد اغتسلت من الذنوب ..
ألنّه الرحيم يشفيك
ألنه العليم يشفيك
ألنه الحليم يشفيك
ألنّه القدير يشفيك
ألنّه هللا يشفيك
امسح أرقام وأسماء األطباء ..
انس مواقع المستشفيات ..
ألغ مواعيد العيادة ..
وابن في غرفتك مستشفى جديدة اسمها الس ّجادة ..
واعقد موعدا مع السجود ..
وس ّجل في قلبك اسما واحدا :الشافي ..
47
ّ
يف ظالل الصمدية!
الحمد هلل رب العالمين والصالة والسالم على أشرف األنبياء والمرسلين ..وبعد ..
فمن أسمائه سبحانه الصمد ..
ي الحروف ..شامخ المعنى ..قليل الورود ..ذو جاللة
والصمد اسم كما ترى بالغ الهيبة ..قو ّ
صة ..
خا ّ
وها نحن ندلف بخياالتنا إلى عا َل الصمديّة لنستلهم شيئا من معاني الصمد ..
الصمد هو من تصمد إليه الخالئق ..أي تلجأ إليه ..هذا من أج ّل معاني هذا االسم ..لذا فسوف
نطوف بهذا المعنى ..
الصمد هو المقصود في الرغائب ،المستغاث به عند المصائب ،والمفزوع إليه وقت النوائب ..
جاء ذكره في سورة من أعظم سور المصحف ،ومن أقصرها ،وهي سورة اإلخالص التي
تعدل ثلث القرآن الكريم ..
" قل هو هللا أحد * هللا الصمد "
وكأن الصمود له سبحانه أهم تجليّات اإلخالص في العبادة ..فمن أكثر من استحضار معنى
اإلخالص في عباداته ..أكسب قلبه صفة الرضوخ إلى مواله والصمود له وعدم االلتجاء إال ّ
إليه ..
48
في كل لحظات حياتك أنت بحاجة إليه ،لذلك من أسمائه الصمد ألنّك ترجع إليه اختيارا وقهرا
..
المزارع إذا تأخر وقت الحصاد ..وقد تعاظمت حاجته للثمر ..وصار الماء شحيحا ..نظر إلى
السماء وقال يا هللا ..
ركاب السفينة إذا تالطمت بهم األمواج وزعزعت فكرة الموت طمأنينة الحياة في نفوسهم قالوا
يا هللا ..
التحرك ولذلك فسيأخذ جولة على المطار إلى أن
ّ إذا أعلن كابتن الطائرة أن عجالتها رفضت
تُحل المشكلة ..ينسى ركاب الطائرة كل الشخصيات المهمة ..وال يتذكرون إال الذي بيده
ملكوت كل شيء وهو يجير وال يجار عليه ..
المتعرجة ومريضك تخفت أنفاسه ..
ّ وعيناك على رسّام القلب ..تنظر إلى تلك الخطوط
وتتضاءل نبضاته ..وتلك الخطوط تأخذ قليال قليال في الهبوط ..لحظتها تنسى اسم الممرضة ..
ويتب ّخر من رأسك وجه الطبيب وتقول :أرجوك يا هللا كن معه ..
ي اسمه ال ُحصين إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ..فسأله النبي كم تعبد يا
جاء شيخ أعراب ّ
ُحصين ؟ فقال :سبعة ..ستّة في األرض وواحد في السماء ..فسأله النبي صلى هللا عليه وسلم
:من لرهبك ؟ قال الذي في السماء ..قال من لرغبك ؟ قال الذي في السماء ..فقال له النبي
صلى هللا عليه وسلم فاترك الذين في األرض واعبد الذي في السماء ..فأسلم ..
فالذي تصمد إليه عند الرهبة والرغبة هو وحده من يستحق العبادة ..
خلق في نفوس عباده حاجة إلى حبّه سبحانه ..
هناك نوع من الحب المقد ّس في قلوب العباد ال يشبعه إال االنحناء له ..والطواف ببيته ..
والوقوف بين يديه ..والقيام من النوم ألجله ..وبذل المهج في سبيله ..
الحياة بكل تجلياتها أصابع تشير إلى السماء ..وتقول لك :الذي تبحث عنه هناك ..في السماء
..
امرأة يخلو بها فاجر في إحدى الخلوات فيراودها عن نفسها ،ولكنّها تأبى ! فيقول حاثّا لها :ال
يرانا إال الكواكب ..فترد ّ بشموخ :فأين مكوكبها ؟
أين هللا ؟
إنّه قلب صامد إلى هللا ..يراقبه ..متيقن من أنّه عليم خبير سميع بصير محيط ..
49
وصمودك إليه بقلبك تماما كصمود المصلّي إلى شجرة أو عصا ليصلي إليها ..جاعال منها
سترة للصالة !
هكذا يجب أن يكون القلب ّ ..
يوزع رغباته في كل االتجاهات لكن االتجاه األمامي يجب أن
يكون هلل فقط ..
ضع يمين قلبك ما شئت ويساره ما شئت ..ولكن أمامه ال تضع إال مرضاة هللا ..إال مراقبة هللا
..إال حب هللا
إذا بحثت عن شيء فلم تجده فدعه ..وابحث عن هللا ..
ي ضالّتي ..فيعيدها
هو الذي جعل ذلك الشيء يضيع لتصمد إليه وتلتجئ ..لتقول يا هللا أعد إل ّ
..فتنشغل بها ..وتنساه ..
تنقطع األمطار ،وتصبح الدنيا قاحلة على عهد موسى عليه السالم فيخرج هو وقومه وهم آالف
من الرجال والنساء والولدان ..فيرى موسى نملة خرجت رافعة يديها إلى السماء صامدة إلى
رب السحاب ..فعلم موسى أن هذا الصمود ..وهذا الذل لن يعقبه إال هطول السماء بماء منهمر ّ
فقال لقومه :ارجعوا فقد كُفيتم ..
فعادوا على صوت الرعود ..ورذاذ المطر ..
القراء فيهزني " :اللهم أوقفنا مطايانا ببابك ..فال تطردنا عن
في طفولتي كنت أسمع دعاء ألحد ّ
جنابك" ..هذا اإليقاف للمطايا بباب الكريم هو معنى الصمد ..
من لحاجاتك غيره ؟
يجب أن تعلم أنّه لو لم يأذن للدواء أن يؤد ّي مفعوله في جسدك لما ارتفع عنك ذلك المرض ..
المتهورة عنك لكنت اآلن في عداد الموتى ..
ّ يجب أن توقن أنّه لو لم يصرف تلك السيارة
يجب أن تتأكد أنّه لو لم يحطك برعايته عندما ركبت البحر ..لكنت اآلن طعما ألسماك المحيط
..
ولهذا تصمد إليه لترتاح ..ليهدأ لُهاثك ..لتلين مفاصلك ..ألنّك بدونه تركض وتلهث وتتوتّر ..
أنصت إلى أولئك الذين تعبث بهم سفينة ،أو يرون الموت وهو مقبل عليهم ،وتعصف بهم
رياح التقلّبات سوف تسمعهم بجميع أديانهم يلهجون باسمه :يا هللا ..
51
"هو الذي يسيّركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيّبة وفرحوا بها
جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنّوا أنهم أحيط بهم دعوا هللا مخلصين له
الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين"
جعل في داخلك حاجة ألن تقول اسمه ..هناك أمن يع ّم كيانك إن قلت يا هللا ..فإذا لم تقلها
اختيارا ..قلتها اضطرارا ..وإن لم تصرخ بها إيمانا ..صرخت بها قهرا ..
عد ّل بوصلة قلبك باتّجاهه ثم سر في أي طريق ..وستصل " فأينما تولّوا فث ّم وجه هللا"
إذا التجأت لفالن من الناس صباحا قد يغلق بابه دونك في المساء .
إذا نصرك على زيد قد ال ينصرك على عمرو ..
إذا أعطاك اليوم فسوف يمنعك بالغد ..
أما هللا ..فال
" هو الحي ال إله إال هو فادعوه "...
يعطي بالليل والنهار ..ينصرك على الجميع إن كنت مظلوما ..ال يغلق بابه ..يده سحاء الليل
جربت أن تصمد إلى غيره في والنهار ..أكرم األكرمين ..لذلك تصمد إليه الخالئق ..فإذا ّ
حاجة رجعت خائبا ..وال بد
فرغ قلبك من غيره ثم
أعجبتني مقولة ألبي حامد الغزالي يقول فيها عن اسم هللا األعظم ّ " :
ادعه بأي اسم يجبك"..
ي المسحة ..
وهذا فحوى معنى الصمد ..اجعل في قلبك هللا ..ثم قل أي شيء سيكون إله ّ
ي الصبغة ..
وربّان ّ
كل عارض يعرض إنّما هو رسالة تقول لك :لديك رب فالتجئ إليه ..
المرض رسالة لتذ ّل له
والفقر برقيّة لتسجد له
ي ..
القوة من القو ّ
والضعف مكالمة تقول لك استجلب ّ
الحياة كلّها تصرخ في وجهك :لديك رب ..اصمد إليه ..
يقول رسول هللا لطفل في السابعة صار فيما بعد يعرف بعبد هللا بن عباس " :احفظ هللا يحفظك
..احفظ هللا تجده تجاهك" ..
51
أمامك ..احفظه في نفسك وجوارحك وخطراتك ..سيكون أمامك بحفظه ومعيّته ونصرته ..
زواداتها عند عتبة ملكه ..
الصمد ال تهدأ قلوب خلقه حتى تضع ّ
انظر في أي اتجاه شئت ..ولكن اجعل في قلبك عينين ال تنظران إال ّ إليه..
تحد ّث بكل ما تريد ..ولكن اجعل في قلبك لسانا ال ينطق إال بذكره ..
استمع إلى الجميع ..ولكن اصنع في قلبك سمعا ال يدرك إال كالمه ..
امش إلى حيث شئت ..ولكن احفر في قلبك خطوات نهايتها عرش الملك ..
اصمد إليه بقلبك وروحك وتفكيرك وجسدك وإراداتك وأحالمك وأوهامك
إذا أمسكت قلما فتساءل :هل يرضى سبحانه عن توقيعي على هذه الورقة؟
إذا هممت بكلمة تقولها فتساءل :هل سأقول شيئا يرضيه ؟
إذا وقفت موقفا تساءل :هل موقفي هذا محبوب عنده أم ال ؟
اصنع ناقوسا وعلّقه في أعلى قلبك دقاته تقول :
ماذا يريد هللا ؟ ماذا يريد هللا؟ ماذا يريد هللا ..
اصمد إليه في كل حين ..وإذا ما استيقظت في نصف الليل تذكره ..خياالتك سوداء بدون أن
يمر اسمه على خطراتك ..أحالمك مستنقعات فإذا جاء ذكر
تتذكره ..عقلك خراب دون أن ّ
الحي الذي ال يموت عليها صارت أنهارا وأشجارا وعصافير شادية ..
إذا علّمت روحك الصمود إليه ..فإنّها مع الزمن تستحي أن تطلبه الدنيا ألنّها ليست الحيّز الذي
خلقك له ..كل آمالك أخروية ..
قال الخليفة البن عمر وهو يطوف حول الكعبة سلني يا ابن عمر ..فنظر إليك بشموخ الصامد
هلل وقال ..من أمر الدنيا أم اآلخرة ؟ فقال أما اآلخرة فلله ولكن من شؤون الدنيا ..فقال :لم
أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من ال يملكها !!
يحولك إلى عظيم ..مستهتر بملوك التراب ..
الصمود هلل ّ
الدنيا تخصص يجهله الصامدون هلل ..
قال أمير البن تيمية ..سمعنا أنّك تريد ملكنا يا ابن تيمية !
فرفع ابن تيمية رأسه باستهتار وقال :ملكك ؟
52
وهللا إن ملكك وملك آبائك وأجدادك ال يساوي عندي جناح بعوضة !
يعرض وجهه ويعرض مسألته هلل آناء الليل ..كيف يذل لقطعة خزف أطراف النهار ؟
رجل ّ
اللحظة التي تصمد فيها إليه ألجل حاجتك ..هي نفسها اللحظة التي تصبح حاجتك ملك يمينك ..
ال عبور ألي رغبة إال من طريق هللا ..ال وجود ألي حاجة إال في ساحة هللا ..ال إمكانيّة
لحدوث شيء إال باهلل ..
53
ّ
خفي األلطاف!
الحمد هلل والصالة والسالم على رسول هللا وصحبه ومن وااله ..وبعد
فمن أسمائه سبحانه اللطيف ..
وفي اللغة :اللطيف :الذي يوصل إليك أ َ َر َب َك في رفق ..
واللطف أصله خفاء المسلك ودقّة المذهب ..
فاهلل سبحانه " هو المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث ال يعلمون ،ويسبب لهم أسباب
معيشتهم من حيث ال يحتسبون"
فهو ذو لُطف وخفاء ودقّة في إكرامه وإحسانه ..وفي عصمته وهدايته ..وفي تقاديره
وتصاريفه ..
فمع بالغ قدرته ،وعظمة علمه ،وبصره بمخلوقاته ،إال أنّه ذو لطف فيما يحوط به العبد من
هداية وإكرام وإحسان ..ال تفجؤك أفضاله بل يسبقها برياح البشرى ..ويهيّئ قلبك الستقبالها ،
ثم إذا نزلت بك األفضال جعل لها من األسباب التي تسبقها ما تكون بها مم ّهدة الوقوع ..وكأنّها
من محض كسب العبد وهي على الحقيقة إكرام بحت من عظيم الم ّن والعطاء ..
وتأتي بلطفه عظائم المقادير والتي تستبعد أكثر العقول توسّعا وقوعها ..فيجعلها كائنة ..
حاضرة ..كل خيط من ذلك المقد َّر يمسك به قدر من لطفه ..فال تنتبه إال _وبقريب من
وقوتك أقل من أن
المعجزات_ قد بات بساحتك ! ال تعلم كيف أمكنه أن يحدث ،وتعلم أن حولك ّ
تحدثه ..فتنظر إلى السماء وتقول " :هللا لطيف بعباده " ..
إذا أراد اللطيف أن ينصرك أمر ما ال يكون سببا في العادة فكان أعظم األسباب ..
وإذا أراد اللطيف أن يكرمك جعل من ال ترجو الخير منه هو سبب أعظم العطايا التي تنالك ..
وإذا أراد اللطيف أن يصرف عنك السوء جعلك ال ترى السوء ،أو جعل السوء ال يعرف لك
طريقا ،أو جعلكما تلتقيان وتنصرفان عن بعضكما وما مسّك منه شيء ..
وإذا أراد اللطيف أن يعصمك من معصية ..جعلك تبغضها ..أو جعلها صعبة المنال منك ..أو
أوحشك منها ،أو جعلك تقدم عليها فيعرض لك عارض يصرفك به عنها ..
54
وعباد هللا يرقبون تلك األلطاف من اللطيف ،ويبصرونها ببصائرهم وكأ ّن كل قضاء ينالهم به
بصمة لطف يدركونها وحدهم ..
عندما أراد اللطيف أن يُخرج يوسف عليه السالم من السجن ..لم يدكدك جدران السجن ،لم
يأمر َم َلكا أن ينزع الحياة من أجساد الظلمة ،لم يأذن لصاعقة من السماء أن تقتلع القفل الحديدي
..فقط جعل الملك يرى رؤيا في المنام تكون سببا خفيّا لطيفا يستنقذ به يوسف الصد ّيق من
أصفاد الظلم !
ثوار بني
ولما شاء اللطيف أن يعيد موسى عليه السالم إلى أ ّمه لم يجعل حربا تقوم ..يتزعّمها ّ
إسرائيل ضد طغيان فرعون يعود بعدها المظلومون إلى سابق عهدهم ..ال ،بل جعل فم موسى
ي اللطيف يعود موسى إلى أ ّمه بعد أن صار ال يستسيغ حليب المرضعات ..بهذا األمر الخف ّ
فؤادها فارغا ..
ولما شاء اللطيف أن يخرج رسولنا عليه الصالة والسالم ومن معه من عذابات شعب بني عامر
ضة تأكل أطراف وثيقة الظلم وعباراتاألر َ
لم يرسل صيحة تزلزل ظلم قريش ..فقط أرسل َ
التحالف الخبيث ..فيصبحون وقد تفككت عُرى الظلم بحشرة ال تكاد ترى ..
وغيرك ال يفيض ندا لغيرك ما مددت يـــــــدا
فكيف ترد من قصــــــدا وليس يضيق بابــــــــــــك بي
فكيف تذود من وردا وركنك لم يزل صمــــــــــــــدا
إن عادي الزمان عــــــــــدى ي الــــــــــــلطف
ولطفك يا خف ّ
إنّه اللطيف سبحانه ..بأيسر األمور يقد ّر أعظم المقادير ..وتت ّم إرادته على ما شاء ،وعبده
غير مدرك بأن شيئا ما يحدث ..
تحرك نافذتك ..أو طفال من أسرتكفيحب أن تقول تصلي بين يديه ..فيرسل ريحا هادئة ّ ّ تنام
يمر ويحدث ضوضاء بجوار غرفتك ،أو حاجة شديدة في شرب شيء من الماء ..فتستيقظ ّ
وتنظر إلى الساعة ..وبعد دقائق تكون واقفا على الس ّجادة تناجيه وال تعلم أنّه هو من أيقظك ..
تقود سيارتك في مرتفعات الجبال ثم فجأة ترى من الضرورة أن توقف سيّارتك جانبا لتتأكد من
وجود شيء في درج السيارة (هويّتك أو محفظة نقودك) ..وبعد ثوان ترى أمامك صخرة
عظيمة هابطة من أعلى الجبل لو لم تقف لدكدكتك وسيارتك ..فتكمل رحلتك سالما ..وال تعلم
أنّه هو من أنقذك !
55
تخطط لمعصيته ..تخرج ليال ..تفاصيل الخطّة محكمة ،فجأة ّ
تمر سيارة من بعيد ،فتشك أنت
المارة فكرة الذنب لديك ..فتبرد إرادتك وتعود إلى بيتك
ّ أن أحدهم يراقبك ،فتنغّص تلك السيارة
..وال تعلم أنّه هو من صرفك بلطفه عن معصيته !
56
ويصرف األمور ،ويخرجه من السجن ،ويجعله في ّ ولك ّن اللطيف سبحانه يقدر األقدار ،
منصب رفيع ،ثم يقد ّر القحط على البالد ،ثم يأتي بإخوته في ثياب الذل ..وما تزال أقدار
اللطيف تلتف لتحقق تلك الرؤيا القديمة ..فينبهر يوسف لسجود والديه وإخوته ويقول " :يا أبت
هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقّا "..
وإال فلوال إرادة ربّه لما تحققت ..
" وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين
إخوتي"
هذا اختصار للطف الذي سيطر على المشهد ثم يضع التوقيع النهائي فيقول :
" إ ّن ربي لطيف لما يشاء" ..نعم إنّه اللطيف إذا أراد شيئا هيّأ أسبابه بكامل اللطف وتا ّم الخفاء
..حتى إنّه ليقع ما يستحيل في العادة أن يقع ..ألنّه هللا اللطيف الخبير ..
تكوم السحاب فوقها ..ثم تصافعت الرعود ونزل المطر إذا رأيت األرض صفراء بلقعا ..ثم ّ
واخضرت فال تقل إن مثل هذا أمر طبيعي ..وتدبّر " :ألم تر أن هللا أنزل
ّ فاهتزت تلك األرض
من السماء ماء فتصبح األرض مخضرة إن هللا لطيف خبير"
مهما تباعدت أحالمك وصار بينك وبينها مفاوز شاسعة فاللطيف يأتي بها " :يا بني إنها إن تك
مثال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في األرض يأت بها هللا إن هللا لطيف
خبير" ..فال تيأس وربّك لطيف لما يشاء ..
تأ ّمل حبّة الخردل ..إنّك ال تكاد تراها إن لم تكن محد ّقا فيها ..انظر إلى حجمها بالنسبة لكفك
..ثم بالنسبة لحجم غرفة مثال ..ثم بيت ..ثم قارن حجمها بحيّك ..ثم بمدينتك ..ثم بدولتك ..
بقارتك ..ثم باألرض ..ثم بالسماوات الفسيحة ..ثم ثق :إن أرادها هللا فسيأتي بها "
وبعد ذلك ّ
إن هللا لطيف خبير" ..
فمن بلغ بلطفه أن يأتي بحبة الخردل من متاهات هذا الكون العظيم ..أال يمكن للطفه أن يقود
قدرا إليك _ كل المقد ّمات المنظورة ال توصله إليك ..وال تدلّه عليك _ بلى وهللا ..
يصل صاحبي في رحلة شاقة متعبة إلى حدود األردن ..عنده في صباح الغد محاضرات في
جامعة مؤتة يجب عليه حضورها ،وفي الحدود وبعد قطعه لمسافة مئة كيلو متر يتذكر أن
جواز سفره في بيته ،نسي جوازه ! يتكد ّر ويقرر العودة وعدم السفر ذلك األسبوع ..
في الغد يقرأ في الصحف عن أ ّن بعض الطلبة األردنيين قاموا بأعمال شغب ضد إخوانهم
السعوديين في جامعة مؤتة مما أسفر عن جرحى !
57
اللطيف أنساه الجواز ..حتى ال يرى الدم ..أو حتى ال يصبح الصباح وهو في المستشفى !
ارقب ألطاف اللطيف ..هي وال شك تترا ..في كل قدر لطف ما ..وفي كل لحظة ألطاف
تحوطك من قبل اللطيف الخبير ..
انظر لنفسك لحظة أن تدخل الغرفة في اللحظة التي يكاد طفلك أن يسقط فيها من على السرير
وتساءل :لماذا اآلن بالذات دخلت الغرفة ؟
تأ ّمل ذاتك يوم أن تدخل المطبخ لتشرب الماء فإذا بك تسمع أزيز الكهرباء من فيش الغالية أو
الميكرويف ..فتفصله وأدخنة الحريق كانت في بدايتها ..وتساءل :مالذي أدخلك في هذه
اللحظة بالذات ..لماذا لم تتأخر خمس دقائق فقط ؟
وبعد هذا اإلبحار الهادئ مع هذا االسم العظيم ..والذي لم نأت إال على شيء من معناه ..وبقي
من خبايا معناه ما أتركه لفهمك وتأ ّملك ورجوعك لكتب أهل العلم فيه ..
وبعد هذا اإلبحار ..أال يستحق هذا اللطيف أن تحبّه ؟ أن تتأ ّمل عطاياه ..أن تزيد في قلبك من
ذكره ومراقبته وحبّه ورجائه وخوفه ..
ي هداياته
أن تعيش مع هذا االسم أياما ..تدعوه به ..وترقب ألطافه ..وتفيض عيناك لرؤية خف ّ
وهداياه ..
قل في خشوع :
ي األلطاف ن ّجنا مما نخاف ..
يا خف ّ
تقوم به عوج نفوسنا ..
اللهم يا لطيف الطف بنا ..والطف لنا ..وقد ّر لنا من ألطافك الرحيمة ما ّ
وتهدي به ضال قلوبنا ..وتج ّمل به شعث حياتنا ..
هذا وصلى هللا وسلّم على سيّدنا دمحم ..
58