Professional Documents
Culture Documents
2018
فكري آل هري
تنىيه هاو نهغايت:
نهتىاصم يع انباحث:
E-Mail: fekri101@hotmail.com
**
https://www.facebook.com/Fekri
101
**
https://twitter.com/fekriAM
I
II
إهداء
III
كهًت البد ينها
أشكر إلينا الرحمن ،الذي أحاطني برعايتو منذ المحظة األولى التي شرعت فييا بإعداد
ىذه الدراسة ،إذ لم ولن أنسى أن كل سطر كتبتو فييا ،كتبتو وكمي يقين بتوفيق اهلل سبحانو
وتأييده ودعمو لي ،السيما وقد عممت بأني غير معصوم من الزالت واألخطاء ،فأخمصت النية
في أن تكون غايتي ىي خدمة الحقيقة واشعال جذوة نارىا من حيث أراد البعض اطفائيا ،وبيذا
استكان ضميري وطابت سريرة نفسي ،فكان ىذا اجتيادي...
ثم إنو كان لي شرف الحظوة بتشجيع قمة من األساتذة واألخوة واألصدقاء ،كانت كمماتيم
تمنحني التأييد والتحفيز ،ولوال أن ذكر البعض منيم ىو عين الجحود بحق البعض اآلخر
لذكرتيم باالسم ،لكني سأكتفي بأن أتوجو إلييم بالشكر وجزيل االمتنان واحداً واحداً دون ذكر
أسماء..
IV
احملتىياث
107 عممي
ّ منيج
ٌ تزوير أم
ٌ [.]3
V
157 انقسى انياني :نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهىاث اخلرائط
158 م خل
206 تخيمة
[ .]1أوىام وقعقعات ُم ّ
222 [ .]2زنبيل أوىام الربيعي
288 تخيمة
الم ّ
[ .]3فوضى الربيعي ُ
295 الفصل الرابع :أقواس الربيـ().....ــعي الفارغة
VI
يقديت
قبل سنوات طويمة ،أعارني أحد األصدقاء كتاب "التوراة جاءت من جزيرة العرب" لكمال
الصميبي ،ومن ثم سنحت لي فرص أخرى لقراءة "خفايا التوراة" و"حروب داود" أيضاً ،ثم
حصمت الحقاً عمى كتاب "العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود" ألحمد داود،
وأيضاً كتاب "الحضور اليماني في تاريخ الشرق القديم" لـ فضل الجثام ،كان ذلك في الفترة ما
بين .2002 -2003
مثل معظم القراء ،كنت منبي اًر جداً بالفكرة الرئيسية التي جمعت بين ىذه األعمال،
ومدفوعاً بشكل جارف إلييا ،من حيث نال مني اإلعجاب بيا مبمغاً كبي اًر لم يسبق ألي فكرة
أخرى أن أوصمتني إليو .فقد رأيت آنذاك أن ىذه االتجاه يمكن أن يكون فتحاً معرفياً حقيقياً
إلعادة قراءة تاريخ المنطقة العربية القديم بعيداً عن القوالب االستشراقية الغربية ،تماماً كما
عبرت عن ذلك مقدمات ىذه األعمال ومضموناتيا ،ناىيك وأن ىذا الفتح وفق ما تكون لدي في
ذلك الوقت يمكن أن يساىم في إعادة االعتبار لتاريخ اليمن القديم.
فكنت من أشد المتحمسين ليذه النظرية والمدافعين عنيا لسنوات أخرى طويمة ،ولم يكن
يخطر ببالي أبداً أني سأكون ذات يوم في مواجية مباشرة مع ىذه النظرية وروادىا.
لسنوات عدة بعد ذلك ،ظممت أتابع كل جديد بيذا الشأن ،وأراقب عن كثب بين الحين
واآلخر كل ما يقال عن ىذه النظرية مجدداً ،تزامن ذلك مع قراءتي ألعمال أخرى تصب في
فمك النظرية نفسيا ،لــ :أحمد عيد ،وفرج اهلل صالح ديب ،وزياد منى ،وفاضل الربيعي،
اصدارت جمعية التجديد البحرينية ،كما قرأت ردود كل من فراس السواح وجورجي كنعان
ا و
أيضاً ،فضالً عن كم ىائل من المقاالت ذات الصمة.
VII
إال إن تمك القراءات المتتابعة والمتجددة سرعان ما ساىمت في تكوين رؤية مشوشة لدي،
إزاء النظرية التي صاغيا الصميبي ،وازاء النماذج المنتحمة منيا مما قام بو اآلخرون كذلك.
ثم إنو وبعد عشر سنوات من الحماس الشديد والدفاع األشد عن نظرية الصميبي ورفاقو،
تكون لدي موقف مغاير تماماً ،كان ذلك بعد أن قضيت الصيف كمو من العام 2013في قراءة
َّ
تمك األعمال مرة أخرى رغم قراءاتي المتعددة ليا من قبل ،وأذكر جيداً أني في تمك الفترة توقفت
كثي اًر أمام أعمال فاضل الربيعي ،وبدأت أسعى بقوة الى قراءة ما لم أقرأه بعد من أعمال فرج اهلل
ديب ،وأعمال أحمد الدبش ،إال إن قراءة أعمال ىذان األخيران لم تتحقق لي إال بعد ذلك بعدة
سنوات ،ومع ذلك فقد كان ما توفر لدي حتى ذلك الوقت كافياً لمتحول الى الطرف اآلخر
ال ارفض والمناىض لمنظرية برمتيا.
كان تحوالً ناتجاً ومتكوناً عن قراءات عميقة فاحصة وناقدة ،أسفرت عن العديد من
التساؤالت والمشكالت والمالحظات ،التي تأكد لي منيا أنني أقف أمام نظرية ىشة ومتناقضة
من الناحية المنيجية والمعرفية ،فضالً عن األخطاء والتحريفات التي بدأت تتضح لي أكثر
وأكثر كل يوم.
في ىذا االتجاه ،بدأت أركز عمى المناقشات والحوارات التي تدور حول النظرية وأعمال
روادىا المتعددة والمتباينة في تفسيراتيا لمنص التوراتي حيثما أمكن لي رصدىا وتتبعيا ،وذلك
بغية التعرف عن كثب عمى الطرق التي يستخدميا رواد ىذه النظرية وأنصارىا في تقديم
اطروحاتيم واستدالالتيم لمجميور بشكل مباشر ،والتعرف أيضاً عمى طبيعة المواقف واالنتقادات
واآلراء المعارضة ليا والمتحفظة بشأنيا ،األمر الذي ساعدني كثي اًر عمى ضبط صياغة دقيقة
لتمك التساؤالت التي كانت قد تكونت لدي.
الحقاً ،بدأت تتخمق لدي أسباب ودوافع عديدة لمتفكير في تطوير منيج وأدوات نقدية
لمتعامل مع ىذه النظرية ،إال إن األمر من ىذه الناحية كان بحد ذاتو منحص اًر عمى األغراض
الذاتية والشخصية -أي تمكين نفسي من نقد النظرية -خاصة أنو لم تكن لدي حتى ذلك الوقت
أي نية عمى اإلطالق في القيام بعمل بحثي ونقدي مماثل ليذا الذي نقدم لو.
VIII
أتاحت لي مواقع التواصل االجتماعي عبر شبكة االنترنت ،أن أتعرف وأن تربطني معرفة
واتصاالت مباشرة ببعض رواد نظرية جغرافية التوراة ،عمى نحو لم أحرص عميو إال بدافع
اىتمامي الشديد لطرح تساؤالتي عمييم ،وىذا ما حصل بالفعل ،لكن األمر أدى الى نتائج عجيبة
وغير متوقعة ،أقصد بذلك أن من عرفتيم منيم سمكوا مسمكاً واحداً وموحداً في التعامل مع ما
أفضل جواب حصمت عميو من أح ىم في ىذا الشأن ،ىو :اق أر كتابي الفالني وكتابي
العالني ..كل األجوبة عمى أسئمتك تج ىا في كتابي ..وعبارات من ىذا الابيل.
ولطالما كنت أؤكد ليم عمى أن تساؤالتي تمك ليست أولية يدفعيا الفضول ،بل ىي نتاج
قراءات عميقة في أعماليم وأنيم ىم الوحيدون من ينبغي أن تكون األجوبة صادرة منيم ،وأتذكر
جيداً أني صرحت ألحدىم في حوار خاص جرى بيني وبينو ،بأني قادر عمى أن أرد عمى
نظريتو ،غير أن ىذا لم يكن ىدفي ،وأن ما أىدف إليو فعالً ليس إال معرفة آرائو بشأن تساؤالتي
ال أكثر ،لكنو وبشكل عمني أظير الرفض واالمتناع عن أي نقاش ،وأكد لي بصيغة أو بأخرى
أن ىذا الموقف قطعي تماماً ،ثم سرعان ما تطور األمر الى إعالن القطيعة معي من قبميم،
واغالق كل أبواب التواصل والحوار ،ولشد ما أثارني أن ىذا الموقف كان قاسماً مشتركاً بينيم،
من حيث بدا لي غريباً ومثي اًر لمريبة والشك.
وفي يوم غير بعيد عن مجرى ىذا كمو ،كنت في حوار مع صديق من العراق الحبيبية،
كنا نخوض فيو بشأن ىذه النظرية ،حينيا قال لي" :إن ما نحتاج إليو ىو ر عممي عمييا إن
لم يفن ىا وي حضيا ،فعمى األقل يشكك بيا ويزعزع مص اقيتيا" ،فصدر الوعد مني لو ولكل
الميتمين بأني سأقوم بذلك ،في محاولة لبناء جسور الحوار العممي والعقالني مع رواد النظرية
ومن نحا نحوىم ،وكان البد من تصديق الوعد.
IX
القراء األعزاء..
إنو ليسعدني ويشرفني أن أقدم لكم ما أراه بحق :أول راسة نا ية عمى أساس عممي
ومنيجي وتطبياي لنظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب كما جرى التأسيس ليا في أعمال
ثمانية من الباحثين العرب .من حيث لم يسبقيا أي دراسة مماثمة تعرضت ألعمال ىذه النظرية
بذلك الشمول والتخصيص الذي تنفرد بو ىذه الدراسة ،بقدر ما تضمنتو دراستنا ىذه من نقد
عممي فريد ومميز ،وما قدمتو من نتائج وكشفت عنو من حقائق ،لم يسبق ألحد من الباحثين أن
قدميا أو كشف عنيا ،عالوة عمى المنيج العممي الجديد والمبتكر الذي اتبعناه فييا ،والذي
ابتكرناه وطورناه عمى مدى عامين كاممين ألغراض ىذه الدراسة.
لقد تكامل ذلك كمو من كل النواحي ليكون لي تصديق الذي قطعتو عمى نفسي والتزمت
ووفاء بوعد..
ً بو ،فميس ىذا العمل إال تصديقاً
فكري آل ىير
23يوليو 3122
X
انقسى األول
انفصم األول
ال بأس ..فقد بدأ األمر بكتاب صدر في العاـ 5763بعنكاف "التكراة جاءت مف
جزيرة العرب" لمبناني (كماؿ الصميبي) -المؤسس العربي األكؿ لنظرية جغرافية التكراة في
جزيرة العرب -كالذم كضح في مقدمتو بأف كضح أف أساس كتابو ىك:
"المقابمة المغكية بيف أسماء األماكف المضبكطة بالحرؼ العبرم ،كأسماء أماكف
تاريخية أك حالية في جنكب الحجاز كفي بالد عسير مأخكذة إما عف قدامى
الجغرافييف العرب كمنيـ (الحسف اليمداني) صاحب كتاب "صفة جزيرة العرب"،
ك(ياقكت الحمكم) صاحب "معجـ البمداف"[.]1
كقد كتب الصميبي في مقدمة كتابو ما الذم حدث معو كدفعو الى تأليؼ كتابو ذاؾ،
فقاؿ:
"لقد كاف األمر عبارة عف اكتشاؼ تـ بالصدفة ،كنت أبحث عف أسماء األمكنة
ذات األصكؿ غير العربية في غرب شبو الجزيرة العربية ،عندما فكجئت بكجكد أرض
التكراة كميا ىناؾ ،كذلؾ في منطقة بطكؿ يصؿ الى حكالي 466كمـ كبعرض يبمغ
حكالي 066كمـ ،كبالتحديد في "عسير كجنكب الحجاز" .ككاف أكؿ ما تنبيت إليو أف
في ىذه المنطقة أسماء أمكنة كثيرة تشبو أسماء األمكنة في التكراة ،كسرعاف ما تبيف
لي أف جميع أسماء األمكنة التكراتية [العالقة في ذىني] ،أك جميا ،مازاؿ مكجكدان
فييا"[.]2
[ .]5كماؿ الصميبي :التكراة جاءت مف جزيرة العرب ،ترجمة :عفيؼ الرزاز ،الطبعة السادسة ،مؤسسة
األبحاث العربية ،بيركت .5775 ،ص .51
[ .]0المرجع السابؽ ،ص .05
1
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
إثر الضجة التي أثارىا كتاب الصميبي ،بدأ باحثكف آخركف بتسمؽ الشجرة التي بدت
مثمرة كسائبة ،ففي العاـ 5775صدر كتاب "العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ
كالييكد" لمسكرم (أحمد داككد) ،كالذم قاـ عمى حد قكلو بدراسة التكراة دراسة تاريخية
كجغرافية كلغكية كسكانية كمنطقية ،حتى تكصؿ الى أف جغرافية التكراة ليست في فمسطيف،
بؿ في غامد مف منطقة عسير غرب الجزيرة العربية ،كذلؾ بناء عمى حزمة مف الكسائؿ
االستداللية أىميا طبعان دراسة الجذكر المغكية لؤلسماء الكاردة في التكراة[ .]1كبالطبع فإف
أحمد داكد أنكر تمامان أم صمة لما تكصؿ إليو في كتابو بطركحات كماؿ الصميبي.
جاء الباحث المبناني (فرج اهلل صالح ديب) بكتابو الذم صدر سنة 5772بعنكاف
"التكراة العربية كاكرشميـ اليمنية"[ ،]2منطمقان مف نفس األساس الذم أقامو الصميبي، ،
كباالستناد الى أف العمماء لـ يجدكا أم آثار في فمسطيف تدؿ عمى االحداث التاريخية في
التكراة ،كىذا بدكره دفع الى التساؤؿ :ىؿ نبحث في المكاف الخطأ؟ -نعـ ،إف دراسة األسماء
الجغرافية في التكراة كمطابقتيا مع أسماء المناطؽ اليمنية ،يكشؼ عمى نحك كثيؽ بأف مسرح
التكراة كاف في اليمف ،كليس في عسير كما قاؿ الصميبي كال في غامد كما قاؿ أحمد داككد.
الحقان سكؼ ينطمؽ فرج اهلل صالح ديب ،مف افتراض أف البحث في الجذكر المغكية
ألسماء القرل كالبمداف كالمناطؽ كالجباؿ كاألنيار المبنانية ،فضالن عف مفردات الميجات
المبنانية البد كأف تعكس المراحؿ التاريخية التي سادت في لبناف كمحيطو ،كبعد فحص تمؾ
األسماء كمقارنتيا باألسماء كمفردات الميجات اليمنية ،تكصؿ الى أف اليمف ىي األصؿ[.]3
في نفس العاـ الذم صدر فيو كتاب فرج اهلل صالح ديب -أم عاـ -5772صدر
كتاب آخر لمباحث المبناني (زياد منى) بعنكاف "جغرافية التكراة مصر كبنك اسرائيؿ في
عسير" .كالحقيقة أف زياد منى لـ يتجاكز حدكد ما جاء بو الصميبي مف قبؿ ،إال بشيء يسير
[ .]5أحمد داككد :العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد ،الطبعة األكلى .5775 ،ص .50
[ .]0فرج اهلل صالح ديب :التكراة العربية كاكرشميـ اليمنية ،دار نكفؿ ،بيركت.5772 ،
[ .]1فرج اهلل صالح ديب :اليمف ىي األصؿ -الجذكر العربية لؤلسماء ،الطبعة األكلى ،دار الكتاب
الحديث ،بيركت .5766 ،ص .4
2
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
ال يجعؿ كتابو مختمفان .كذلؾ كفؽ ما قالو ىك بأف كتابو يرتكز عمى كتاب الصميبي كأف
اسيامو يندرج فحسب في إطار التيذيب العممي لما جاء فيو[ .]1كما أشار زياد منى الى
اعتماده المنيج المغكم الذم يعتمد عمى البحث في الجذكر المشتركة لؤللفاظ العربية كالعبرية
مف خالؿ مالحظة ظكاىر قمب الحركؼ كاستبداليا ،لمتعرؼ عمى أصؿ األسماء التكراتية
كردىا الى منطقتيا الجغرافية الصحيحة.
في عاـ 5774أصدر الباحث المصرم األستاذ (أحمد عيد) كتابو بعنكاف "جغرافية
التكراة في جزيرة الفراعنة"[ ،]2كالذم انطمؽ في اتجاه الرد عمى كؿ المحاكالت الصييكنية
الرامية الى إثبات أف خركج بني اسرائيؿ كاف مف مصر الى فمسطيف (المحتمة) ،كىي
المحاكالت التي ىدفت باألساس الى إثبات شرعية االحتالؿ الصييكني لفمسطيف ،كذلؾ مف
خالؿ إثبات أف جزيرة العرب كانت جزء ال يتج أز مف مصر الفرعكنية القديمة ،كأف األحداث
التكراتية حدثت في جنكب الجزيرة العربية -كبالتحديد في اليمف.
في عاـ ،5777أصدر الباحث اليمني فضؿ الجثاـ (اليافعي) كتابو المكسكـ ب ػ
"الحضكر اليماني في تاريخ الشرؽ األدنى :سبر في التاريخ القديـ" -كقد أكد الباحث مف
أكؿ سطر في كتابو بأنو معني بالكشؼ عف حقيقة التزييؼ التي مكرست بحؽ جغرافية
التكراة ،كجعميا في البالد الكاقعة ما بيف نير النيؿ كالفرات ،كاثبات أف شبو جزيرة العرب
كبالذات إقميميا الكبير اليمف ،ىك مكطف كمسرح أحداث التكراة .كما أكد الجثاـ بأف معالجتو
تأتي في إطار ما طرحو كماؿ الصميبي كزياد منى كفرج اهلل صالج ديب كسيد القمني
كغيرىـ[.]3
[ .]5زياد منى :جغرافية التكراة مصر كبنك اسرائيؿ في عسير ،الطبعة األكلى ،رياض الريس لمكتب كالنشر،
بيركت .5772 ،ص .54
[ .]0أحمد عيد :جغرافية التكراة في جزيرة الفراعنة ،الطبعة األكلى ،مركز المحركسة لمبحكث كالنشر
كالتدريب ،القاىرة.5774 ،
[ .]1فضؿ الجثاـ اليافعي :الحضكر اليماني في تاريخ الشرؽ األدنى -سبر في التاريخ القديـ ،الطبعة
األكلى ،منشكرات دار عالء الديف ،دمشؽ .5777 ،ص .7
3
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
في عاـ 0664أصدرت جمعية التجديد الثقافية االجتماعية البحرينية كتابان بعنكاف
"نداء السراة :اختطاؼ جغرافيا األنبياء"[ ،]1كالتي تفند األقاكيؿ التي يرددىا عمماء التكراة
بشأف جغرافية المكطف التكراتي – جغرافية األنبياء -بأنيا في مصر كفمسطيف كسكريا
كالعراؽ ،كتثبت أف تمؾ الجغرافية ليست إال في منطقة السراة غرب الجزيرة العربية ،كىك
نفس الطرح الذم صاغو كماؿ صميبي كأحمد داكد كزياد منى ،كلكف بصبغة دينية أكثر منيا
تاريخية كعممية.
منذ العاـ 0662بدأ الباحث الفمسطيني -المقيـ في القاىرة -األستاذ (أحمد الدبش)
اصدار سمسمة كتب بمغ عددىا حتى عاـ 0651ثمانية ُكتب ،تدكر جميعيا في فمؾ مف
سبقكه ،كترتكز حكؿ نقطة جكىرية ىي إثبات أف جغرافية التكراة ليست في فمسطيف ،بؿ في
اليمف ،كذلؾ باالعتماد عمى نفس المنيج المغكم الذم يطابؽ بيف أسماء المناطؽ في التكارة
كأسماء المناطؽ اليمنية ،كالتي تكشؼ عف تطابؽ متيف ،يؤكد ذلؾ االستنتاج بأف اليمف ىي
مسرح أحداث التكراة ،في اتجاه مناىض التجاه مف ظؿ يصفيـ عمى طكؿ خط طرحو ب ػ
"حراس الفكر اآلسف ممف يرددكف ما تمقنكه في صالكف المتحؼ كيشتركف الزيؼ عمى حساب
الحقيقة بثمف بخس"[.]2
في عاـ 0666صدر ألكؿ مرة ،كتاب الباحث العراقي المفكر العربي (فاضؿ
الربيعي) بعنكاف "فمسطيف المتخيمة :أرض التكراة في اليمف القديـ" ،كالذم تكالت بعده سمسمة
كتب أخرل لمربيعي نفسو تصب في نفس المكضكع .ففي سفره الثقيؿ "فمسطيف المتخيمة-
[ .]5جمعية التجديد الثقافية االجتماعية :نداء السراة :اختطاؼ جغرافيا األنبياء ،سمسمة عندما نطؽ السراة،
الطبعة الثانية ،جمعية التجديد الثقافية االجتماعية ،المنامة -البحريف.0664 ،
[ .]0أحمد الدبش :اختطاؼ أكرشميـ ،محاكاة لمدراسات كالنشر ،دمشؽ .0651 ،ص .05باإلضافة الى
أعماؿ الدبش األخرل ،كأىميا:
أحمد الدبش :مكسى كفرعكف في جزيرة العرب ،الطبعة الثانية ،دار خطكات لمنشر ،دمشؽ.0662 ،
أحمد الدبش :كنعاف كممكؾ بني إسرائيؿ في جزيرة العرب ،الطبعة األكلى ،دار خطكات لمنشر،
.0663
أحمد الدبش :عكرة نكح كلعنة الفراعنة كتمفيؽ األصكؿ ،الطبعة األكلى ،دار خطكات لمنشر ،دمشؽ،
.0664
4
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
أرض التكراة في اليمف القديـ" ،ينطمؽ المفكر العربي فاضؿ الربيعي مف عنكاف عريض
كضعو لمقدمة كتابو "اليمداني يصؼ أرض التكراة في السراة اليمنية" ،كمف أكؿ سطر يجزـ
مفكرنا جزمان قاطعان بأف السبي البابمي لمييكد لـ يحدث في فمسطيف ،كأف كؿ أحداث التكراة لـ
تحدث في فمسطيف ..الى أف يعكد لذكر اليمداني قائالن:
"كفي ضكء اكتشاؼ اليمداني الذم أعرضو ىنا -فإف الحقيقة التي ال مناص
مف التمعف فييا اليكـ ىي أف القبائؿ الييكدية العائدة مف األسر البابمي ،ىي التي
أعادت بناء الييكؿ في "السراة" اليمنية كليس في فمسطيف ،بدليؿ أف اليمنييف يسمكف-
حتى اليكـ -كؿ آثار األبنية القديمة (ىياكؿ)" -عمى حد تعبيره[.]1
تكصؿ الربيعي الى اكتشاؼ أف اليمداني كصؼ في كتابو "صفة جزيرة العرب"
األرض نفسيا التي كصفتيا التكراة .فكصؼ األمر قائالن:
"بدأت حكاية االكتشاؼ المثير ىذا ،عندما كنت أعيد قراءة كتابي اليمداني
(صفة جزيرة العرب ،اإلكميؿ) بعد كصكلي بقميؿ الى ىكلندا ،كأشد ما أثار دىشتي،
أنني كجدت اليمداني يسرد أمامي أسماء الجباؿ كالكدياف كاليضاب كعيكف الماء في
ال يمف ،كما لك أنو يسرد األسماء نفسيا الكاردة في التكراة ،كالتي أكاد [أحفظيا عف
ظير قمب] ،كىي ذاتيا كتمامان كما في نصكص التكراة دكف أدنى تالعب ،كمع ذلؾ
بدت لي نصكص اليمداني كما لك أنني قرأتيا مف قبؿ ،أك كأنيا تكرر األسماء نفسيا
في التكراة"[.]2
عجبان ،ألـ نق أر ىذه القصة قبؿ قميؿ؟! -إنيا نفس القصة التي ركاىا لنا الصميبي.
بالنسبة لي ،ال أعتقد أف ثالثة كعشريف عامان مف صدكر كتاب الصميبي فترة كافية
لتبرير انتحاؿ الربيعي لقصة اكتشافو ليذه النظرية مف كتاب الصميبي حرفيان كنسبتيا لنفسو،
[ .]5فاضؿ الربيعي :فمسطيف المتخيمة :أرض التكراة في اليمف القديـ ،المجمد األكؿ ،الطبعة األكلى ،دار
الفكر لمنشر ،دمشؽ .0666 ،ص .51
[ .]0المرجع السابؽ ،ص .52
5
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
بحياة الصميبي كحضكره كبحياة كؿ ركاد النظرية اآلخريف الذيف جاء الربيعي مف بعدىـ
كميـ ،إذ ال يمكف تسمية ىذا االنتحاؿ بأنو تناص أك تكارد خكاطر أك تخاطر با ار -
سيككلكجي ،فجميعنا يعمـ أف الربيعي ىك آخر العنقكد في سمسمة مف تسمقكا شجرة نظرية
الصميبي ،بفارؽ عنيـ جميعان أف الربيعي قرر أف (يككش) عمى النظرية كميا ككأنو خالقيا
األكؿ.
عمى كؿ حاؿ ،تمتقي جميع الطركحات المشار إلييا آنفان عند دراسة النص التكراتي،
إلثبات أف جغرافية أحداث التكارة كانت في جزيرة العرب ،كاختمفكا فقط في تحديد المنطقة:
بيف مف قاؿ في أنيا كانت في عسير كغامد كالسراة ،كمف قاؿ بأنيا كانت في اليمف.
كبالطبع فإف مغزل ىذه النظرية كدافعيا األكؿ يتمثؿ بشكؿ كاضح كصريح في دحض ما
تصفو جميعيا ب ػ "افتراءات عمماء التكراة كادعاءاتيـ بالحؽ التاريخي لمييكد في فمسطيف"،
كذلؾ مف خالؿ إثبات أف مسرح أحداث التكارة كنطاقيا الجغرافي كاف في جزيرة العرب
كاليمف.
كالجميع يستندكف بشكؿ جكىرم الى ما يصفكنو ب ػ "التحميؿ المغكم لمجذكر المشتركة
بيف المغات القديمة" ،كمالحظة ظكاىر قمب الحركؼ كاستبداليا لمتعرؼ عمى األسماء
التكراتية في صيغتيا العربية كتحديد جغرافيتيا الحقيقية ،كالبعض منيـ تحاشى تمؾ الظكاىر
كاكتفى باالعتماد عمى التشابو المفظي السميـ دكف الدخكؿ في متاىات قكاعد القمب
كاالستبداؿ المغكية ،كاف كاف البعض منيـ قد لجأ الى استخداـ نفس اآللية المنيجية في
التعامؿ مع األسماء كاأللفاظ الكاردة في النقكش األثرية ،كذلؾ إلكساب طركحاتيـ بعض
المالمح العممية.
واآلن ،ىل نقف أمام نظرية واحدة أم عدة نظريات؟ وما ىي المنطمقات العامة
والمقوالت والفروض المشتركة والمؤسسة ليذه النظرية؟
6
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
)(1
تبدك نظرية جغرافية التكراة في اليمف كجزيرة العرب الى حدما نظرية كاحدة ،كلكف
التمعف في أعماؿ كمساىمات ركادىا مف الباحثيف العرب ،سرعاف ما يكشؼ عف عدة
نظريات تتفؽ في الفركض الرئيسية كبعض المقكالت المؤسسة ليا ،كما تتفؽ مف الناحية
المنيجية في االعتماد عمى األدكات المغكية ،لكنيا جميعان تختمؼ في تحديد المسرح الجغرافي
الذم يفترض حسب تكجو ىذه النظرية أف كقائع تاريخ التك ارة قد حدثت فيو.
يحدد كماؿ الصميبي المسرح الجغرافي الذم كقعت فيو جميع أحداث التكراة بحسب
رؤيتو كنتائج بحثو" ،في منطقة بطكؿ يصؿ الى حكالي 466كمـ كبعرض يبمغ حكالي 066
كمـ ،كبالتحديد في "عسير كجنكب الحجاز "[ .]1كمع نفس ىذا التحديد تتفؽ أطركحة زياد
منى الذم ال تخرج جغرافية التكراة فييا عف نطاؽ منطقة عسير.
أما أحمد داككد ،فقد أكد عمى أف حقيقة أحداث التكراة بأشخاصيا كمكاقعيا ،تتحدث
عف عشائر بدكية آرامية ،تتحرؾ بيف مراعييا بأغناميا في بقعة ضيقة مف برية شبو جزيرة
العرب[ .]2كبالتحديد في غامد مف منطقة عسير غرب الجزيرة العربية[.]3
مع الصميبي ،اتفؽ زياد منى كداككد عمى كضع جغرافية التكراة ،في نطاؽ ضيؽ مف
غرب جزيرة العرب ،مع تباينات دقيقة في تحديداتيـ المكانية لؤلماكف الكاردة أسمائيا في
التكراة ،تبعان لتبايف كتعدد كاختالؼ طرائؽ استخداـ كتطبيؽ أدكاتيـ المغكية ،القائمة عمى
مقابمة األسماء التكراتية بما يشابيا أك يماثميا بطريقة أك بأخرل في ىذه المناطؽ التي
خضعت لدراساتيـ.
بيد أننا نجد تحديدان آخر مختمفان عف التحديد السابؽ ،يبدك أنو ظير بشكؿ جمي عند
فرج اهلل صالح ديب ،الذم نقؿ مسرح أحداث التكراة مف فمسطيف كحكالييا الى اليمف -أجزاء
مف اليمف ،كىك التحديد الذم تبناه كدعمو كؿ مف الباحث المصرم أحمد عيد كالباحث
اليمني فضؿ الجثاـ ،مع األخذ بعيف االعتبار أف كؿ مف ىؤالء لو رؤيتو المغايرة تمامان عف
رؤية غيره.
أقاـ فرج اهلل صالح ديب نظريتو عمى عدة أسس أىميا أف اليمف شيدت في إحدل
مراحؿ تاريخيا القديـ قياـ دكلة تعتنؽ الديانة الييكدية بشكؿ رسمي ،يقصد بذلؾ الدكلة
الحميرية في عيد (ذك نكاس) كالصراع مع األحباش في القرف السادس الميالدم ،كقبميا
قصة المقاء الشيير بيف ممكة سبأ كالنبي سميماف التي كردت في التكراة كالقرآف ،كما يحيمنا
ديب الى أدلة قديمة أك مكغمة في القدـ أبرزىا تسمية النبي (ىكد) ،باعتبارىا الجذر األقدـ
لمديانة الييكدية ،كطبعان فإف ىذا االستدالؿ األخير قائـ فقط عمى المقابمة المغكية (التشابو)
بيف (ىكد ،ييكد)[.]1
يأتي اسياـ الباحث اليمني فضؿ الجثاـ في نطاؽ الضجة التي أثارتيا ىذه النظرية
كاقترابيا الشديد مف خالؿ جيكد الصميبي كمنى كداككد مف جغرافية اليمف كتاريخو ،ربما
مدفكعان باإلحساس العميؽ بالتيميش الذم تعرض لو تاريخ اليمف في مقابؿ تاريخ العراؽ
كمصر كسكريا ،حيث كجد في ىذه النظرية ضالتو ،ليكشؼ عف أبعاد دفينة بشأف تأثير
الحضارة اليمنية في ثقافات كمعتقدات شعكب كحضارات الشرؽ األدنى (مصر ،سكريا،
العراؽ) كصكالن الى اليكناف ،بطريقة دفعتو الى كضع بعض األحداث كالشخصيات التكراتية
الكبرل كعمى رأسيا النبي إبراىيـ كبالتالي جغرافية حركة ارتحالو – قصة العبكر التكراتية-
[ .]5دكنان عف جميع ركاد النظرية المذككريف في ىذه الدراسة كالذيف اطمعت عمى أعماليـ ،أنكه الى أني لـ
أطمع عمى جيكد األستاذ فرج اهلل صالح ديب كلـ يتسنى لي بعد الحصكؿ عمى كتبو المتعمقة بيذا
كنشر عف نظريتو ،كيأتي
المكضكع ،كما أكرده في ىذا العمؿ ناتج عف قراءاتي كمتابعاتي لبعض ما ُكتب ُ
تعرضي لو ىنا دكف االستناد الى كتبو لمضركرة األخالقية ،إذ لـ يكف مف الجائز تجاىؿ مساىمتو في ىذه
النظرية ،كىك مف أىـ ركادىا بالفعؿ ،كمف ثـ فإني احتمؿ مسؤكلية ما أكرده كأنسبو إليو إذا لـ يكف صحيحان،
كال مسؤكلية عمى األستاذ فرج اهلل صالح ديب في كؿ األحكاؿ( .الباحث)
8
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
في نطاؽ الجغرافية اليمنية ،جاعالن مف منطقة يافع – المنطقة التي ينتمي إلييا الجثاـ-
بمثابة مركز لكؿ األحداث كاألساطير التي ضمنيا عممو ،كىذا بدكره ال يضعنا أماـ عمؿ
مختص بجغرافية التكراة ،بؿ أماـ محاكلة لتقديـ تاريخ المنطقة بما فيو تاريخ التكراة مف
الناحية التي يككف فييا تاريخ اليمف في المركز الذم تدكر حكلو كفي فمكو تكاريخ الحضارات
األخرل القديمة ،إذ يبدك أف الجثاـ كاف حيف قاـ بدراستو ىذه كاقعان تحت تأثير مزدكج لنظرية
الصميبي بالنسبة لنقؿ جغرافية التكراة الى جزيرة العرب مف جية ،كتأثير نظرية أحمد داككد
بشأف سكريا الكبرل – سكريا المركز ،كالتي انطمؽ منيا ىذا األخير نحك تعريب كؿ شيء
عمى حد كصؼ البعض ،كذلؾ مف جية أخرل.
كالحقيقة ،أننا نجد في عمؿ الجثاـ بخالؼ الجكانب المتعمقة بجغرافية التكراة ،الكثير
مف المالحظات كاالستنتاجات المثيرة لالنتباه ،لك أنيا فقط تحررت مف تمؾ المؤثرات التي
سيطرت عمييا.
حينما نقؼ أماـ عمؿ الباحث المصرم أحمد عيد ،فإننا نجد نظرية أخرل تتجاذب
بعض جكانبيا نظرية جغرافية التكراة لمصميبي ،خاصة فيما يتعمؽ بذلؾ الجانب الذم تتحدث
فيو عف مصر أخرل في جزيرة العرب ،كعالقة مصر النيؿ ببالد بكنت ،كغيرىا مف المسائؿ
التاريخية التي ككنت لدل أحمد عيد انطباعات عديدة ،جعمتو يتعامؿ مع جزيرة العرب
باعتبارىا امتدادان لمجغرافية المصرية الفرعكنية ،فالقط ارف المذاف كحدىما مؤسس الدكلة القديمة
(مينا) ىما (مصر النيؿ كمصر جزيرة العرب) ،في الكقت نفسو الذم اعتبر الباحث أف
قداسة جزيرة العرب كبشكؿ خاص اليمف بالنسبة لممصرييف القدماء ثابتة ،باعتبارىا المكطف
كبناء عميو فإف كقكع أحداث التكراة في جزيرة
ن األـ لحضارة مصر النيؿ أك ما شابو ذلؾ.
العرب ال يخرجيا مف الدائرة المصرية ،كقصة التكاجد االسرائيمي /الييكدم في مصر لعدة
قركف كخركجيـ منيا مع مكسى تظؿ جزنء مف تاريخ مصر الكبرل بقطرييا[ .]1كبال أدنى
[ .]5أنظر مثالن كيؼ عالج أحمد عيد مسألة (مصر األعمى عند أكرسيكس) :أحمد عيد :جغرافية التكراة في
جزيرة الفراعنة ،مرجع سابؽ ،ص .04
9
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
شؾ ،فإف مثؿ ىذا الطرح البد كأف يدعـ مصداقية القصة التكراتية كلك كاف ذلؾ بإعطائيا
تفسي انر جديدان.
يبدك كاضحان تأثير فكرة المركز التي عبر عنيا داككد كالجثاـ عمى نظرية أحمد عيد،
كثير مف األسماء التي كردت في اآلثار
ان التي تحؿ فييا مصر محؿ سكريا كاليمف ،لذا فإف
المصرية سكؼ تحاؿ في كتابو لمبحث عنيا في نطاؽ جغرافية اليمف كالجزيرة العربية ،كلكف
عمى أساس مركزية مصر النيؿ.
في أعماؿ الباحث الفمسطيني أحمد الدبش ،تصبح اليمف كاممة بمثابة مسرح أحداث
التكراة عمى نحك كامؿ مف التخصيص كدكف أم استثناء ،فحيثما أمكف إيجاد أسماء مناطؽ
تقع في اليمف كمشابية ألسماء المناطؽ التي كردت في التكراة ،اعتبر الدبش أف ىذا كافيان
لتقرير كاثبات أف اليمف ىي مسرح أحداث التكراة.
ىناؾ أمر مثير لمتعجب في أعماؿ الدبش ،يتمثؿ في أنو يتعامؿ مع التكراة مف
الناحية التي تككف فييا فمسطيف ىي مسرح أحداثيا ،باعتبارىا ككمة مف األباطيؿ كالتمفيقات
التي ال سند ليا كال دليؿ عمييا ،لكنو في الكقت نفسو يجد أف تمؾ الككمة مف األباطيؿ
كالتمفيقات يصح ليا مف كجية نظره -أك باألحرل كفؽ قناعتو -أف تنطبؽ كأحداث تاريخية
عمى الجغرافية اليمنية..؟!! -كىك أيضان حينما يصر عمى أف فمسطيف لـ تكف مسرحان
ألحداث التكراة ،يصفيا بقكلو (بالدنا فمسطيف) كيصؼ مممكة اسرائيؿ التكراتية ب ػ "اسرائيؿ
المزعكمة" ،ثـ سرعاف ما يحيؿ القارئ الى قناعتو بأف اليمف كمحيطيا ىي المنطقة التي
احتضنت تجربة بني اسرائيؿ ،كأف فمشتيـ (الفمسطينييف الذيف كرد ذكرىـ في التكراة) ليسكا ىـ
الفمسطينييف الذيف استكطنكا فمسطيف كسميت باسميـ ،كالذيف تصفيـ كتابات المستشرقيف
التكراتييف كمعيـ أصحاب الفكر اآلسف مف الباحثيف العرب -عمى حد تعبيره -بأنيـ مف
(شعكب البحر) الذيف جاءكا غزاة كاستكطنكا فمسطيف ،بؿ أف فمشتيـ التكراة البد كأف تككف
قرية أك قبيمة ما ىنا أك ىناؾ في جغرافية اليمف ربما ذكرىا اليمداني أك اليعقكبي أك الحمكم
أك لـ يذكرىا أحد اطالقان ،لكنيا مكجكدة بال شؾ في اليمف كفؽ قناعات الدبش .كحينما يقع
10
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
الدبش في مأزؽ تحديد ىكية أكلئؾ الفمسطينييف القدماء الذيف سكنكا فمسطيف ،فإنو يعكد
مجددان كيبحث ليـ عف أصكؿ يمنية (معينية ،فينيقية)[.]1
عمى كؿ حاؿ ،فإف نظرية الدبش عف جغرافية التكراة في اليمف ،تختمؼ عمى ما يبدك
عف نظرية فرج اهلل صالح ديب كغيره ،في تحديد مكاقع المناطؽ التكراتية ،نظ انر لتكرار الكثير
مف األسماء الجغرافية في اليمف مف خالؿ كجكد أكثر مف مكاف يحمؿ نفس االسـ في أغمب
الحاالت إف لـ يكف جميعيا.
نأتي الى نظرية المفكر العربي فاضؿ الربيعي ،كنقكؿ بأنيا مف الناحية العامة ىي
نفسيا نظرية فرج اهلل ديب كنظرية أحمد الدبش ،بفارؽ التباينات في تحديد المناطؽ كمسارات
األحداث التكراتية ،كفي النياية فإف الربيعي يأخذ خريطة اليمف المعاصرة لمرحمة التشطير أك
خريطة ما قبؿ اعادة تكحيد اليمف عاـ ،5776كالتي يظير اليمف فييا منقسمان الى شطريف
جنكبي كشمالي ،فيضع مممكة اسرائيؿ في الشطر الشمالي مف اليمف ،كيضع مممكة ييكذا
في الشطر الجنكبي ،ىكذا بكؿ بساطة ،لكنو مع ذلؾ نسي أف يسمي (بحر العرب) ب ػ "بحر
الييكد" أك ما شابو[ -أنظر خريطة الربيعي في الصورة رقم ( )1أدناه].
بيد أف حرص الربيعي عمى تقديـ نظرية متكاممة ،جعمو يبذؿ المزيد مف الجيكد ،فقرر
تطبيؽ نفس األسمكب المتعمؽ بالتشابيات المفظية كالذم طبقو عمى األسماء التكراتية ،عمى
األسماء التي ترد في النقكش اآلشكرية ،كبذلؾ أكسب نظريتو – حسبما يعتقد -طابعان عمميان
مف حيث أنيا استعانت بالنقكش األثرية ،فضالن عف تأثير النزعة المركزية عمى نظرية
الربيعي ،كالذم يتضح مف خالؿ تقديـ تاريخ آخر لميمف ليس عمى أنيا ىي جغرافية التكراة
فحسب ،بؿ كعمى أنيا كانت دائمان تحت مطرقة التأديب العسكرم اآلشكرم[ ،]2ضاربان بآالؼ
النقكش األثرية اليمنية عرض الحائط ،ككأنيا ال تعني لو شيئان ،كمتجاىالن كؿ التشابكات
[ .]5أنظر مثالن :أحمد الدبش :كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص ص ،01
.42 ،35
[ .]0لمتحقؽ مف ىذه المسألة ،راجع :فاضؿ الربيعي :حقيقة السبي البابمي -الحمالت األشكرية عمى الجزيرة
العربية كاليمف ،الطبعة الثانية ،جداكؿ لمنشر كالترجمة ،الككيت.0651 ،
11
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
[]1
صورة رقم ( :)1جغرافية التوراة كما تحددىا نظرية فاضل الربيعي .
خالصة األمر في ىذا الشأف ،أننا نقؼ أماـ نظريات متعددة كمختمفة بؿ كمتصادمة،
بشأف جغرافية التكارة في اليمف كالجزيرة العربية ،كليس أماـ نظرية كاحدة ،كبالتالي فإذا أخذنا
بكؿ االحتماالت التي تضعيا ىذه النظريات بغض النظر عف النظرية األصمية التي تقدميا
التكراة ،فإننا سنجد أف ىناؾ أربعة أك خمسة مسارح جغرافية مختمفة ،ككؿ مف ىؤالء يرل أف
أحداث التكراة قد جرت فييا ،كال نعرؼ بأم نظرية منيا نأخذ..؟!
[ .]5الخريطة مف :فاضؿ الربيعي :فمسطيف المتخيمة ،المجمد ( ،)5مرجع سابؽ ،ص 326بترقيـ الممؼ
االلكتركني لمكتاب.
12
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
)(2
بعد أف تعرفنا عمى مسار نظرية جغرافية التكراة كما قدميا ركادىا العرب ،كعمى
مساىمات أكلئؾ الركاد كأعماليـ ،كعف أىـ الفركؽ العامة بيف طركحاتيـ أيضان ،يبقى أف
نقترب أكثر مف منطمقات ىذه النظرية كالمقكالت (الفركض) الرئيسية المؤسسة ليا كالمتفؽ
عمييا مف جميع ركاد النظرية ،تمييدان إلخضاعيا لالختبار المكضكعي ،كالتحقؽ مف مدل
قدرتيا عمى منح النظرية ما تحتاج إليو مف التماسؾ كالقدرة عمى الصمكد في كجو أعماؿ
المراجعة كالنقد كالتحقيؽ.
ثـ يخبرنا الصميبي عف الغرض مف كتابو ،بأنو يسعى الى ما كصفو بػػ:
[ .]5كماؿ الصميبي :التكراة جاءت مف جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .55
13
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
كانت أرض بني اسرائيؿ في فمسطيف أك في غيرىا .كىذا قصد عممي بحت ،كال يمت
الى كاقع العصر الراىف بصمة ،إال بقدر ما في المقكلة بطبيعة حاليا مف دحض
لممفيكـ الصييكني المغمكط لمتكراة ،كىك مفيكـ تتبناه فئة كبيرة مف الييكد ،كيتبعيـ في
ذلؾ الكثيركف مف جيمة المسيحييف في الغرب"[.]1
كعمى أساس ما نيضت إليو جيكد الصميبي ،يصؼ لنا الباحث المبناني زياد منى،
اليدؼ مف كتابو "جغرافية التكراة -مصر كبنك اسرائيؿ في عسير" ،قائالن:
"اسيامي ىذا يندرج في إطار التيذيب العممي لجغرافية التكراة ،مرتك ازن في المقاـ
األكؿ عمى مكضكعة األستاذ الصميبي ،فيذا البحث يعتبر إذكاء لمنقاش حكؿ ىذا
المكضكع كاضافة ألعماؿ الصميبي .لكني عممت قدر اإلمكاف عمى حصر بحثي
ضمف إطار الجغرافيا ،باحثان مف خالليا عمى بعض الجكانب المجيكلة مف تاريخ
جزيرة العرب ،أك التي غرقت في السياف ،كليس أكثر مف ىذا"[.]2
أما "أحمد داككد" ،فنفيـ مف مقدمة كتابو "العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ
كالييكد" ،أف جيده في ىذا الكتاب يأتي مكمالن لجيكده السابقة ،كالتي تكشفت لو فييا:
أك "المغة العبرية" أك "الدكلة العبرية" في تاريخنا العربي القديـ ،كصار لزامان عمينا أف
نبدأ بتصحيح تاريخنا مستخدميف كؿ امكاناتنا الفكرية كالمؤسساتية"[.]1
عمى نفس الطريؽ ،قرر الباحث المصرم "أحمد عيد" أف يجعؿ مقدمة كتابو تحية
مكجية ألستاذ عمـ اآلثار (تكماس .ؿ .طكمسكف) ،عمى ما قدمو ىذا األخير مف جيكد في
كشؼ حقائؽ التزكير التكراتي لمتاريخ ،قائالن:
[]2
في إنكارىا صحة المبررات "تتضح خطكرة الميمة التي تصدل ليا طكمسكف
األساسية إليجاد دكلة اسرائيؿ القائمة عمى االدعاء بعكدة الييكد الى األرض المكعكدة
التي نزحكا منيا قبؿ أكثر مف ألفيف سنة.
لقد كشفت دراسات طكمسكف عمى أف جميع قصص التكراة تقريبان مف صنع
الخياؿ كأنيا كتبت في القرف الخامس قبؿ الميالد ،بعد مركر ( )5366سنة مف كقكع
األحداث التي تركييا ،كلـ يتـ العثكر عمى أم أثر لقياـ مممكة اسرائيؿ في القرف
العاشر قبؿ الميالد أك عمى كجكد مستكطنات سكنية في القدس كالضفة الغربية التي
يصر اإلسرائيميكف عمى تسميتيا ييكذا كالسامرة[."]3
تأث انر بيذا االتجاه ،عمد الباحث اليمني "فضؿ الجثاـ" الى تقديـ مساىمتو ىك أيضان
بكصفيا:
[ .]5أحمد داككد :العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد ،مرجع سابؽ ،ص .52
[ .]0سيككف لنا كقفة خاصة عمى جيكد طكمسكف ،نظ انر الحتفاء ركاد نظرية جغرافية التكراة في اليمف
كالجزيرة العربية بو ،كاشادتيـ المتكررة بجيكده كمكاقفو العممية.
[ .]1أحمد عيد :جغرافية التكراة في جزيرة الفراعنة ،مرجع سابؽ ،ص .50 -55
15
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
منى ،فرج اهلل صالح ديب ،سيد محمكد القمني" كغيرىـ ممف عنكا بدراسة جغرافية
التكراة -تاريخيا ،ميثكلكجيتيا كلغتيا ..الخ"[.]1
أما الباحث الفمسطيني أحمد الدبش ،فيصؼ كتابو "مكسى كفرعكف في جزيرة العرب"،
قائالن:
" ..ىذا الكتاب رده عمى أباطيؿ كثيرة [يقصد األباطيؿ الصييكنية طبعان] تبناىا،
لؤلسؼ الشديد ،كثير مف األكاديمييف كالباحثيف العرب ،الذيف دافعكا بعناد عف جغرافية
التكراة ،كاعتبركا أف مصر كدام النيؿ ىي مسرح خركج مكسى كقكمو[ ..في حيف]
ظمت اآلثار المصرية عمى صمتيا تجاه ىذا األمر.
كأتساءؿ ىنا ،لماذا ال نكجو األنظار الى شبو الجزيرة العربية؟ السيما كقد تعذر
حتى اآلف إيجاد الدليؿ المادم في كادم النيؿ ،كفمسطيف كالعراؽ ،عمى األحداث
التكراتية؟ قد يفيـ البعض أف ىذا القكؿ معناه اعطاء الشرعية لمييكد لمسيطرة عمى
شبو الجزيرة العربية ،كلكف ىذا فيـ خاطئ لمتاريخ ،كاقحاـ لمسياسة في المكضكع"[.]2
كفي كتابو "اختطاؼ أكرشميـ" يكضح الدبش األسباب التي أدت الى انتشار كشيكع
االدعاءات الصييكنية بشأف فمسطيف ،قائالن:
"أعتقد بأف أحد األسباب الرئيسية ىك أف االدعاء الصييكني ،يجرم تدعيمو مف
خالؿ أساطير الكتاب المقدس ،ككتابات بعض مؤرخينا مف أصحاب كحراس الفكر
اآلسف العربي""[.]3
[ .]5فضؿ الجثاـ اليافعي :الحضكر اليماني في تاريخ الشرؽ األدنى -سبر في التاريخ القديـ ،مرجع سابؽ،
ص .7
[ .]0أحمد الدبش :مكسى كفرعكف في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .55
[ .]1أحمد الدبش :اختطاؼ أكرشميـ ،مرجع سابؽ ،ص .7
16
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
"لقد سعى المخياؿ االستشراقي األكركبي في قراءتو لمتكراة ،نحك بناء سردية
جديدة خيالية تكضع في خدمتيا مكتشفات عمـ اآلثار ،كتتكافؽ مع عصر الفتكحات
االستعمارية ،كىي سردية كجد فييا الغرب امكانية مدىشة لمعثكر عمى حاضنة أكلى
كقديمة لمحضارة األكركبية مدفكنة في رماؿ الشرؽ ،فعثر في الركاية عف بني اسرائيؿ
طفكلتو البعيدة تمؾ في الشرؽ الغامض كالممتبس ،يكـ كاف لداكد مممكة مترامية
األطراؼ .كلسكؼ يميد ىذا االنتساب المفاجئ الطريؽ أماـ أكركبا لكي تعيد إدراج
التراث الييكدم -المسيحي كالحضارة الغربية في سياؽ استم اررية تاريخية كانت
مفتقدة ،فمـ تعد أكركبا كريثة ألثينا كحسب ،بؿ ىي استطراد لمممكة اسرائيؿ .كىا ىك
تاريخ بني اسرائيؿ الممفؽ يكتشؼ عمى نحك قابؿ ألف يرل الغرب فيو تاريخان خاصان
بو ،ضائعان كتائيان في شرؽ منسي ،كقد أمكف استرداده بفضؿ إعادة الركاية [التكراتية]
كتركيجياػ عمى أكسع نطاؽ كبالتالزـ مع االستيالء عمى األرض"[.]1
بشكؿ مبسط يمكف تحديد المقكالت أك الفركض العامة المشتركة بيف جميع ركاد ىذه
النظرية ،عمى نحك ما ىك آتي:
تـ تحريؼ كتزكير التاريخ التكراتي لتدعيـ االدعاءات كالمبررات الصييكنية بشأف
المكطف األصمي لمييكد ،كأرض الميعاد ..بيدؼ تبرير احتالؿ فمسطيف.
أثبتت البحكث كالتنقيبات األثرية عمى مدل أكثر مف قرف مف الزماف تـ فييا تمشيط
المنطقة الكاقعة بيف نير النيؿ كالفرات في سبيؿ إيجاد أدلة أثرية مادية تؤيد الركاية
التكراتية كاالدعاءات الصييكنية ،أف" :ال شيء عمى األرض".
[ .]5فاضؿ الربيعي :فمسطيف المتخيمة :أرض التكراة في اليمف القديـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.05
17
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
ىناؾ تطابؽ كبير كمدىش بيف أسماء األماكف كالمكاقع الجغرافية التي ترد في التكراة
كبيف أسماء المناطؽ كالمكاقع الجغرافية في جزيرة العرب( :عسير ،غامد كالسراة،
اليمف).
السؤاؿ الذم يمح عمي في ىذه المحظة ،ىك الى أم مدل يمكف اختبار ىذه المقكالت
بصيغتيا العامة ىذه ،كالى أم مدل يمكف ليذه الفركض كالمقكالت أف تصمد أماـ االختبار
بناء عمى
النقدم؟! -فنحف بحاجة فعالن الى اختبار كقياس مدل تماسؾ ىذه النظرية ،ن
مقكالتيا كفركضيا الرئيسية.
بيد أني سأركز في المرحمة الحالية عمى التحقيؽ في مدل صدؽ كثبات منطمقات
النظرية التي يرددىا عمى الدكاـ ركادىا ،كبالتحديد بشأف ما إذا كانت ىذه النظرية تمثؿ
اتجاىان تحرريان كثكريان مناىضان لييمنة التيار االستشراقي -الييكدم عمى التاريخ كالمعرفة
التاريخية ،أـ أنيا جزهء مف ذلؾ التيار؟!
18
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
)(3
األكيد حسب ما صرح بو ركاد ىذه النظرية ،ىك أف جيكدىـ تصب في اتجاه تصحيح
التاريخ العربي كتنظيفو مف الشكائب التي دسيا فيو عمماء التاريخ كاآلثار التكراتييف ،كتحريره
مف زيؼ التاريخ االستشراقي الغربي الذم يخدـ الييكد كالغرب .فالمنطمؽ الرئيسي الذم أكد
عميو جميع ركاد نظرية جغرافية التكراة في اليمف كالجزيرة العربية ،ىك أنو جرل تحريؼ
كتزكير التاريخ بناء عمى القصة التكراتية ،كالتي استخدمت لتدعيـ االدعاءات الصييكنية
بشأف المكطف األصمي لمييكد ،كأرض الميعاد ..األمر الذم انتيى دائمان الى تبرير احتالؿ
فمسطيف.
تستكقفني ىنا عبارة لؤلستاذ أحمد الدبش ،حينما قاؿ " :قد يفيـ البعض أف ىذا القكؿ
معناه اعطاء الشرعية لمييكد لمسيطرة عمى شبو الجزيرة العربية ،كلكف ىذا فيـ خاطئ
لمتاريخ ،كاقحاـ لمسياسة في المكضكع"[ .]1فبعد كؿ تمؾ التصريحات التي صرح بيا جميع
ركاد النظرية -بما فييـ الدبش نفسو -كالتي تثبت أف محرؾ النظرية كدافعيا األكؿ ىك
السياسة كليس التاريخ ،نراه يتحدث عما كصفو بأنو "اقحاـ لمسياسة في التاريخ"..؟!! -كنحف
نتساءؿ ترل ما الذم يدفع دارسان متخصصان في القانكف الى ترؾ القانكف كالتفرغ لمكتابة
كالتأليؼ في التاريخ ما لـ يكف ذلؾ دفاعان عف أرضو المحتمة مف قبؿ الصياينة كييكد
العصر ،الذيف ال صمة ليـ بأبناء عمكمتنا مف الييكد القدماء كما صرح بذلؾ الصميبي كمنى
كديب كداككد كالربيعي؟!
لكي يككف األمر كاضحان منذ البداية ،ينبغي أف نمقي أكالن نظرة سريعة عمى ما الذم
يمكف أف يعنيو بالضبط تعبير (االدعاءات الصييكنية) ،كليكف ذلؾ مف خالؿ ما كتبو أحد
الباحثيف الفمسطينييف:
[ .]5أحمد الدبش :مكسى كفرعكف في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .55
19
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
"لقد دأب قادة الكياف الصييكني السياسيكف كالدينيكف عمى القكؿ بأف أرض
فمسطيف ىي أرض إسرائيؿ التاريخية ،أرض آبائيـ كأجدادىـ ،كأف ىذه األرض أرض
بال شعب لشعب بال أرض كىي ليست لشعب مف الشعكب سكاىـ ،فيـ أصحابيا
الشرعيكف ،كما عداىـ غرباء ال حؽ ليـ فييا .كيستند ىذا االدعاء عمى مجمكعة مف
الركايات التكراتية ،بدءن بما جاء في سفر التككيف (" :)56 :53في ذلؾ اليكـ قطع
الرب مع ابراـ ميثاقا قائال .لنسمؾ اعطي ىذه االرض مف نير مصر الى النير الكبير
نير الفرات" .كأيضان" :ظير الرب -أم إلبراىيـ -كقاؿ لو :إف نسمؾ سيككف غريبان
في أرض ليست ليـ" .كبناءن عمى مثؿ ىذه النصكص التكراتية قاـ قادة الصييكنية
يجمعكف ييكد العالـ في ىذه األرض بناءن عمى تمؾ األساطير ،كأخذكا يزيفكف التاريخ
كيزعمكف أف ليـ حقان تاريخيان في أرض فمسطيف[.]1
ندرؾ مف خالؿ ىذه الصيغة ،أف أم ادعاء يمكف لمصييكنية أف تتبناه ،البد كأف
يككف لو أساسان في التكراة ،وعميو فإن المواجية التي يفترض أننا نخوض غمارىا ىي
مواجية مع التوراة نفسيا ،ذلؾ أف أم تزكير يمكف أف يقكـ بو المستشرقكف لخدمة المشركع
الصييكني البد كأف يتجو صكب تدعيـ النص التكراتي كليس الى نقضو .فالتكراة كما جاء
فييا ىك األساس الكحيد الذم يعتمد عميو ىؤالء الصياينة في تبرير احتالليـ لؤلرض
العربية ،عمماً بأن احتالليم لألرض جرى بمنطق القوة السياسية والعسكرية التي كانت
تممكيا أوروبا في مقابل الضعف والتخمف واالنقسام العربي في مواجية ىذا المشروع،
وىذا ما أدى الى أن يصبح مشروع احتالل فمسطين واقعاً فعمياً منذ عام .1441
ثم ،ىل يحتاج المحتل ألرض الغير بالقوة لمسوغات ومبررات تاريخية وأثرية لتبرير
احتاللو؟!
[ .]5أنظر :عدناف عياش :دحض ادعاءات الييكد بأحقيتيـ في أرض فمسطيف ،المؤتمر الدكلي الثالث
عشر لمركز جيؿ البحث العممي "فمسطيف قضية كحؽ" ،طرابمس -لبناف 1 -0ديسمبر .0654
20
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
أقكؿ ،لك أف ركاد ىذه النظرية بينكا لنا كيؼ جرل ىذا التزكير كمتى ،كالى أم مدل
أفضى اكتشافيـ لحقيقة ىذا التزكير الى قكليـ بأف أحداث التكراة لـ تجرم في فمسطيف
كحكالييا ،كبالتالي الى افتراض أنيا ربما جرت في مسرح جغرافي آخر ،ىـ بأنفسيـ مف قامكا
بالبحث عنو حتى كجدكه مف خالؿ رصد كتتبع التشابيات المفظية ألسماء المناطؽ التي ترد
في التكراة .لك أنيـ فعمكا ذلؾ لكاف أجزل في إكساب النظرية طابعان منيجيان آخر .لكنيـ لـ
يككنكا ليقكمكا بذلؾ أصالن لسبب كجيو ،كىك أف نظريتيـ كما بيف الصميبي كأيضان الربيعي
كلدت بالصدفة المزعكمة عمى ىامش اىتمامات أخرل ال عالقة ليا بالمكضكع ،بمعنى أنيا
لـ تكلد في سياؽ جيكد سابقة عنت بدراسة تاريخ التكراة ناىيؾ عف جغرافيتيا ،كمف ثـ فإف
بناء عمى الركاية التاريخية
حقيقة تزكير التاريخ مف قبؿ المستشرقيف كالمؤرخيف التكراتييف ن
لمتكراة ،لـ تكف طرفان أصيالن في المكضكع ،كانما تـ تكظيفيا الحقان لتدعيـ النظرية أك
باألصح لتسكيغيا ،السيما كأف مالحظة التشابيات المفظية لؤلسماء كالتي أقامكا عمييا
نظريتيـ ال تعدك أف تككف في معرض البحث العممي الجاد أكثر مف مجرد قرينة ال ترقى
الى مستكل الدليؿ األثرم المادم إطالقان.
[ .]5سنناقش ىذه المسألة في الفصكؿ القادمة مف ىذه الدراسة ،كنبيف طبيعة التزكير الذم تمارسو المدارس
االستشراقية -الييكدية عمى التاريخ.
[ .]0أحمد الدبش :كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .05 -5
[ .]1أحمد الدبش :مرجع سابؽ ،ص .05 -51
21
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
لكف ،إذا ما أخذنا بحقيقة التزكير االستشراقي -الصييكني ،كأساس نقيـ عميو افتراضان
بأف عممية التزكير ىذه قد امتدت لتشمؿ تزكير جغرافيا التكراة ،مف خالؿ عممية كاسعة أك
ضيقة أك ما شابو قاـ فييا المستشرقكف كالصياينة بتغيير أسماء المناطؽ كالقرل كالمدف
كالجباؿ كالتالؿ كالقفار الفمسطينية لتصبح مطابقة لما يرد في التكراة ،فإننا سنجد ىذا
االفتراض ممتنعان عف النيكض ألسباب عديدة ،أكليا أننا سنتساءؿ بشأف ىذا التزكير عالما
كقع بالضبط ،عمى األرض أـ عمى النص التكراتي؟!
األسيؿ كالمعقكؿ ىك القكؿ أف التزكير قد جرل عمى النص التكراتي ،بمعنى أنو تـ
اقحاـ أسماء المناطؽ الفمسطينية في النص التكراتي ،بينما كانت ترد في النص األصمي
لمتكراة أسماء مناطؽ أخرل تقع في مكاف ما غير فمسطيف عمى كجو ىذا الكككب ،كلكف ىذا
االحتماؿ ال ينيض ألف التكراة مكتكبة منذ القرف الخامس قبؿ الميالد ،أك عمى األقؿ معركفة
بصيغتيا الحالية – أك صيغيا المتعددة الحالية -منذ أكثر مف ألؼ سنة عمى أقؿ تقدير،
كىي تنطؽ بأسماء تمؾ المناطؽ نفسيا.
ىناؾ افتراض ثالث ،كىك أف يككف التزكير قد جرل عمى النص كاألرض معان ،كلكف
ىذا االفتراض أيضان كاالحتماالت التي يمكف يحمميا معو ،بأنو قد جرل بطريقة ما اسقاط
أحداث التاريخ التكراتي عمى جغرافية فمسطيف زك انر ،أك تغيير أسماء المناطؽ الفمسطينية
عمى األرض كفي الخريطة كفي عقكؿ الناس لتتفؽ مع ما تـ تزكيره في التكراة ،جميعيا ال
تنيض كال تقكـ اطالقان لعدـ معقكليتيا أكالن ،كلعدـ كجكد ما يدؿ عمييا أك يثبتيا ثانيان.
منطؽ الحكمة كالعقؿ يقكؿ ،إذا كنا نتحدث عف تزكير مس أسماء المناطؽ التي ترد
في جغرافية التكراة أك جغرافية فمسطيف الكاقعية ،فالبد أف نعرؼ متى حدث ىذا التزكير
ككيؼ حدث ،كمف الذم قاـ بو ككيؼ قاـ بو ،ككيؼ جرل تثبيتو ككيؼ يمكننا اثبات كقكعو،
بناء عمى ذلؾ كمو[.]1
كاثبات آثاره كاستعادة الحقيقة ن
[ .]5كجيت ىذا السؤاؿ بشكؿ شخصي مباشر لبعض ركاد النظرية :متى حدث تزكير أسماء المناطؽ
الجغرافية في فمسطيف أك في التكراة ،ىؿ بعد احتالؿ الييكد لفمسطيف أـ قبؿ ذلؾ؟ -فكاف جكاب أحدىـ أف
22
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
لقد جرل استخداـ كتكظيؼ فكرة التزكير االستشراقي لجغرافية التكراة كاالدعاءات
الصييكنية في سياؽ الكاقع الذم تخضع فيو اليكـ فمسطيف العربية لالحتالؿ الصييكني،
لتسكيغ النظرية التي تبناىا ىؤالء الركاد ،كىي النظرية التي كلدت أساسان نتيجة لمصدفة-
عمى حد تعبير الصميبي كالربيعي -التي أدت الى مالحظة كجكد تشابيات لفظية -كال أقكؿ
لغكية -بيف أسماء مناطؽ التكراة كأسماء المناطؽ التي تقع في نطاقات جغرافية قائمة
بالفعؿ.
كبدالن مف أف تقكد تمؾ الصدفة المزعكمة الى خمؽ اتجاه منيجي لمبحث عف تفسيرات
عممية كمكضكعية لداللة ىذه التشابيات ،كالبحث عما يمكف أف تساعدنا بو في سبيؿ معرفة
أكثر بتاريخ كتراث المنطقة العربية ،جرل تأسيس نظرية تنقؿ أحداث التكراة المركية منذ
ألفيف سنة عمى األقؿ مف جغرافيتيا المنصكص عمييا الى جغرافية أخرل يدعييا ركاد ىذه
النظرية ،بؿ كالبعض منيـ يجزمكف بيا جزمان مطمقان كال يترككف أم مجاؿ إلمكانية أف يككنكا
مخطئيف بشكؿ أك بآخر[ ،]1كعند أم اعتراض مف أم نكع ُيعرض عمييـ ،يككف جكابيـ بأنو
اعتراض ييدؼ الى تسييس المكضكع أك اقحاـ لمسياسة في التاريخ ،أك بأنو دفاع عف
المشركع االستشراقي -الصييكني.
لـ يكف ىناؾ خيار أماـ ركاد نظرية جغرافية التكراة في اليمف كجزيرة العرب ،سكل
االلتصاؽ بفكرة التزكير الذم يقكـ بو المستشرقيف كمؤرخي التكراة الغرب كالييكد ،لتسكيغ
نظريتيـ كجعميا في مكضع القبكؿ ،كلكي تككف كذلؾ فالبد أف تككف ىذه النظرية مف كجية
عممية التزكير ىذه بدأت منذ الفيف سنة -!!!..لـ أنبس ببنت شفة ،أخذت جكابو كمضيت في حاؿ سبيمي،
محاكالن إعادة حاجبام الى مكانيما الصحيح بعد أف رفعتيما الدىشة ثالثة أمتار فكؽ مستكل سطح رأسي.
(الباحث)
[ .]5الثابت ىك أف عمـ التاريخ يظؿ معرض أقكاؿ كآراء كنظريات كليس معرض حقائؽ ميما تكفرت األدلة
المادية ،إذ أف عمماء التاريخ كعمماء اآلثار يتعاممكف مع نصكص كمكاد أثرية صنعتيا ككتبتيا أيادم بشرية
تحت امالءات كظركؼ خاصة بحيث ال يمكف تبرأة مضمكناتيا مف االنحياز لمذات كالتطرؼ ليا ،كما أف
المؤرخ كالباحث األثرم نفسو يطمؽ آرائو كقناعاتو دكف الجزـ بيا احترامان لحقيقة تعدد اآلراء كتنكعيا في
المسألة الكاحدة ،كإلفساح المجاؿ لآلخريف ليدلكا بدلكىـ ،كلككف الدراسات التاريخية عمكمان كاقعة دائمان تحت
تأثير تنازعات كتناقضات الذاتية كالمكضكعية التي يقع فييا المؤرخ( .الباحث).
23
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
نظرىـ بمثابة تكجو حقيقي لكشؼ الزيؼ كتحرير عقكلنا كتاريخنا مف االدعاءات الصييكنية
القائمة عمى الركاية التكراتية ،كىذا ما قالكه بالفعؿ ،كما سبؽ كأف عرضت ذلؾ آنفان عند
الحديث عف منطمقات النظرية.
أصل الى جوىر الموضوع ،وأتساءل الى أي مدى يمكن اعتبار ىذه النظرية نتاجاً
ح ارً ومستقالً عن أي جيد استشراقي -غربي -ييودي -توراتي؟
البد أف نبحث عف الجذكر التاريخية كالمعرفية ليذه النظرية ،إذ ال يعقؿ أف تككف
الصدفة ىي السبب فيما نحف مشغكلكف بو اآلف عمى ىذا النحك ،فال شيء يحدث بالصدفة
كال شيء يمكف اعتبار أف حدكثو قد جرل عبثان.
أحد ركاد نظريتنا ىذه كفر عمي القياـ ببحث جانبي في ىذا الشأف ،كقدـ لنا الحقيقة
عمى طبؽ مف فضة ،إذ ينبغي ليذه المعمكمة بالذات أف تحظى بمصداقيتيا لدل قُرائي عمى
أساس" :وشيد شاىد من أىميا".
قاـ بذلؾ ،الباحث الفمسطيني أحمد الدبش ،كبيف الجذكر االستشراقية -الييكدية لنظرية
جغرافية التكراة في اليمف كالجزيرة العربية ،قائالن:
"كمف الجدير باالنتباه أف أطركحات الباحثيف التي تعد عسير ،أك اليمف ،أك
الجزيرة العربية عمكمان ،ىي مكاف قصة مكسى مع إليو ييكه ،كمكضع خركج الييكد
مف مصر العربية ،ليست بجديدة ،فقد سبؽ إلييا العديد مف الباحثيف المستشرقيف
الثقات .ففي عاـ ،5765بدأت أكاديمية فيينا ،بإصدار مؤلؼ المستشرؽ النمساكم
( )Alois Musilبعنكاف " "Arabia Petraeaفي أربعة أجزاء ،كقد كتبو أثناء زيارتو
لمكاقع التاريخ التكراتي ،أمالن في أف يفيـ التكراة مف خالؿ الطبيعة التي ُكلدت فييا،
كأدرؾ ( )Alois Musilفي حينو ،كقبؿ غيره ،أف سيناء التكراتية ليست ىي سيناء
الحالية ،كأف اآلراء الشائعة حكؿ مكسى ،كحكؿ الديانة الييكدية ليست صحيحة"[.]1
[ .]5أحمد الدبش :مكسى كفرعكف في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .50
24
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
يتابع أحمد الدبش ،تكضيح الجذكر االستشراقية -الييكدية ليذه النظرية ،ما أنقمو عمى
طكلو مف كتابو نقالن حرفيان ،قائالن:
"كعمى ىذا المنكاؿ ،ذىب المستشرؽ "مرجميكث" الى أف الكطف األصمي لبني
اسرائيؿ لـ يكف في شبو جزيرة سيناء ،بؿ كاف ببالد اليمف التي خرجت منيا أمـ كثيرة
منذ أقدـ األزمنة التاريخية ،كيستدؿ عمى رأيو ىذا ببضعة أدلة منيا أف عادات بني
اسرائيؿ كأخالقيـ االجتماعية في عصكرىـ األكلى ،كانت قريبة مف أخالؽ العرب في
الجاىمية ،فيناؾ شبيان عظيمان بيف بعض العادات االجتماعية كاألخالؽ الدينية عند
أىؿ سبأ كبني اسرائيؿ .كمنيا أيضان كجكد ألفاظ مشتركة بيف المغتيف السبئية كالعبرية،
كزيادة عمى المادة المغكية العبرية التي تشبو العربية شبيان ،نجد كثي ارن مف أسماء
األعالـ العبرية القديمة شائعة االستعماؿ عند العرب في الجاىمية .ككانت بطكف كمب
الييكدية ،مف أعظـ البطكف الييكدية التي تسكف في جنكب فمسطيف ،ككذلؾ نجد بيف
القبائؿ العربية مف يمقب بيذا المقب ،مثؿ القبائؿ الكمبية العربية في شماؿ جزيرة
العرب ،كالتي نسبت الى العصبية اليمنية .ثـ انظر الى أسماء األعالـ األخرل التي
تدؿ عمى قكة الشبو بيف المغتيف ،كعظـ التقارب في الميكؿ كالعقمية بيف الشعبيف ،فمف
ىذه األعالـ ما يأتي :حفني ،عمي ،عبد اهلل ،حمكاؿ ،الغادم ،السعد ،عفراء ،كيكجد
كثير مف ىذه األعالـ في النقكش السبئية كالثمكدية.
25
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
كيذكر القصاص العالمي "ق .ج .كيمز" تعميقان عمى قصة خركج مكسى كقكمو
مف مصر ،أنو ..." :في اإلمكاف أال تككف مصر ىي أرض األسر – كاسميا في
العبرانية مصرايـ ،كانما مسريـ في شماؿ بالد العرب ،عمى الجانب المقابؿ مف البحر
األحمر"[.]1
إذف ،فنظرية جغرافية التكراة في اليمف كجزيرة العرب-بإقرار أحد ركادىا العرب -ليا
جذكرىا العريقة في التراث االستشراقي كمف المستشرقيف الييكد أنفسيـ ،كليس أنيا نظرية
ثكرية خارجة عف نطاؽ ما قدمو االستشراؽ ،كىذا بحد ذاتو ما يتناقض مع المنطمؽ كاليدؼ
الرئيسي مف ىذه النظرية ،مف حيث قاؿ لنا ركادىا جميعان بأنيا تتجو الى تحرير التاريخ
العربي مف سيطرة الفكر االستشراقي.
ما يدلنا عمى ىذا التناقض ىك أف "الدبش" عندما نكه الى أف ىذه النظرية ليست
جديدة ،كأف ىناؾ مف المستشرقيف مف تبناىا مف قبؿ ،كصؼ ىؤالء المستشرقكف ب ػ
"الثقات" -!!..كىك تكصيؼ ُيحذرنا مف الخمط بيف نكعيف مف المستشرقيف :ثقات كغير
ثقات.
لنتكقؼ عند ىذه الرؤية التصنيفية لممستشرقيف ،كالتي تدفعنا بجد الى التعرؼ عمى
حقيقة المستشرقيف الذيف استشيد "الدبش" بأقكاليـ ككصفيـ بأنيـ ثقات ،لعمنا نكتشؼ معياره
في التمييز بيف الثقات كغير الثقات مف المستشرقيف ،مع أني أؤكد مسبقان عمى أنو ال يكجد
مستشرؽ عمى اإلطالؽ يمكف اعتباره ثقة تحت أم معيار ،طالما كالجميع يخضعكف لمعايير
النقد العممية عمى حد سكاء.
االستشياد األكؿ كاف برأم منسكب لممستشرؽ التشيكي -النمساكم "الكيس مكسيؿ"
(.]2[)5722 -5646( )Alois Musil
كبحسب الترجمة التي اعتمدت عمييا في التعريؼ بػ "ألكيس مكسيؿ" ،فقد سجؿ ىذا
المستشرؽ مكاقفان جريئة ضد السياسات األكركبية في المنطقة بعد الحرب العالمية األكلى،
كلكف ىذا ال يمغي حقيقة أف جيكده كميا كانت مكرسة لخدمة التيار التكراتي بتكجياتو
الرئيسية الثالثة :الالىكتي ،التاريخي -الجغرافي ،االمبريالي.
[ .]5سعيد السعيد :ألكيس مكسيؿ ،حياة بيف العمـ كالسياسة ،كرقة عمؿ مقدمة لمندكة العممية عف الرحالة
التشيكي "ألكيس مكسيؿ" ،جامعة تشارلز ،براغ ،يكنيك .0666
27
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
االستشياد الثاني الذم قدمو لنا أحمد الدبش ،كاف بما ذىب إليو المستشرؽ
"مرجميكث""[ ،]1باعتباره مف المستشرقيف الثقات عمى حد كصفو.
بيد أف الثابت ىنا ،ىك أصكؿ "مرجميكث" الييكدية ،بفارؽ أف أسرتو تحكلت الى
المسيحية األنغميكانية ،كىك نفسو عمؿ قسان في كنيستيا .ككمستشرؽ ،اشتير "مرجميكث"
بمنيجو التشكيكي الذم طبقو في معظـ دراساتو كأبحاثو التي خصصيا في التاريخ العربي.
فعمى سبيؿ المثاؿ ،فيك مف أكائؿ مف أثار مسألة الشؾ في الشعر الجاىمي في العصر
الحديث ،مف خالؿ البحث الذم نشره في مجمة (الجامعة اآلسيكية الممكية) اإلنجميزية
بعنكاف ،)The Original Arabic Poetry( :كالمترجـ في كتاب "أصكؿ الشعر الجاىمي"،
كفيو يعتقد أف ما كصؿ إليو في بحثو "كاؼ لكضع كؿ ما ُيقاؿ إنو شعر جاىمي كبما فيو
أيضا كؿ الشعر السابؽ عمى العيد األمكم مكضع الشؾ"[.]2
الجدير بالذكر ،أف األستاذ الدبش قد اقتبس رأم "مرجميكث" مف كتاب "تاريخ المغات
السامية" لممستشرق الييودي الشيير "اسرائيل ولفنسون" ،الذم تعرض في كتابو لرأم
مرجميكث بشأف أف بني اسرائيؿ نزحكا مف اليمف ،كاعتبره مما ال يستند الى أم دليؿ ،إذ يقكؿ
"كلفنسكف":
"كليس في األدلة التي ذكرىا مرجميكث لتأييد رأيو دليؿ تاريخي كاحد يمكف أف
يعكؿ عميو ،بؿ ىي أدلة تخيمية تصيدىا تصيدان ،كىي مع ذؾ ال تجديو نفعان ألنيا ال
تنطبؽ عمى بني اسرائيؿ كالسبئييف كحدىـ ،بؿ تشمؿ جميع األمـ السامية ..فيناؾ
تشابو بيف لغة بني اسرائيؿ كعاداتيـ كأخالقيـ كبيف لغة بابؿ كعاداتيا كأخالقيا ،فيؿ
نقكؿ بأف بني اسرائيؿ مف أصؿ بابمي؟! -ىذا ينقض نظرية مرجميكث بالنظرية
نفسيا .كبالتالي فإف ترجيح أف بني اسرائيؿ نزحكا مف اليمف أمر ال يمكف االطمئناف
إليو ،ألف الشعكب العبرية لـ تكجد في كؿ العصكر التاريخية إال في شماؿ الجزيرة
العربية عمى أطراؼ فمسطيف"[.]1
يبدو واضحاً أن معارضة "ولفنسون" لرأي "مرجميوث" ،ىو المعيار الذي اعتمده
أحمد الدبش في اعتبار ىذا األخير من المستشرقين الثقات.
"لقد لعب االستشراؽ األلماني دك ارن ميمان كبار ازن في التركيز عمى فمسطيف،
كاكتشاؼ آثارىا كمقارنة تمؾ اآلثار بما كرد في التكراة ،كمف أشير المستشرقيف
األلماف في ىذا المجاؿ المدعك "كارستف نيبكر" ك"أكلريش زيتسف" ك"لكدفيغ
مكركيارت" .كلعميا مف أخطر حركات االستشراؽ الغربية عمكمان ألف الجامعات
األلمانية ال تدرس إال عمـ اآلثار التكراتي ،الذم يتطمب دراسة المغة العبرية لمدة عشر
سنكات"[.]2
[ .]5اسرائيؿ كلفنسكف :تاريخ المغات السامية ،الطبعة األكلى ،لجنة التأليؼ كالترجمة كالنشر ،مطبعة
االعتماد ،القاىرة.5707 ،
[ .]0أحمد الدبش :كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .52 -51
29
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
االستشياد الرابع ،اقتبسو الدبش مف كتاب "معالم تاريخ االنسانية" لــ "ه .ج .ويمز"،
كيكفي أف نق أر في نفس الصفحة التي كقع منيا اقتباس الدبش ،ما يمي:
"كميما تكف التفاصيؿ الدقيقة لغزك العبرانييف أرض كنعاف ،فمما ال ريب فيو أف
ذلؾ القطر – يقصد فمسطيف -الذم فتحكه تغير تغي ارن عظيمان منذ أياـ أسطكرة
"الميعاد" الذم كعد بو ابراىيـ قبؿ ذلؾ بقركف"[.]1
رأم "كيمز" ىذا يشير بكضكح الى أنو ينتمي الى تيار المؤرخيف التكراتييف الذيف تبنكا
نظرية "الغزك" كأساس لكصكؿ بني اسرائيؿ الى فمسطيف ،كىي ركاية العيد القديـ (التكراة)
بالطبع ،كقد تزعـ ىذا التيار -كما أكضح الدبش -المستشرؽ الييكدم "كليـ اكلبرايت""[.]2
كالمعركؼ عف ىذا األخير أنو مف أكثر المستشرقيف تعصبان لمتكراة ،فضالن عف ككنو مؤسس
الفرع االسرائيمي لقسـ دراسات التاريخ التكراتي في المنطقة.
وىكذا ،فإن المستشرقين الذين استشيد بيم الدبش ،يظمون عمى كل حال من رموز
االستشراق التوراتي ،ومعظم أعماليم تقوم عمى اثبات الرواية التوراتية ،ويؤمنون بأن
مممكة اسرائيل قامت في فمسطين ،ومن ثم فتوصيف الدبش ليم بأنيم من "المستشرقين
الثقات" ال أساس لو وال معيار ،سوى أنو وجد في اقتصاص آرائيم من سياقاتيا ما يدعم
بو نظريتو ،ودفاعو عنيم ليس إال دفاعاً عن نظريتيم التي يتبناىا ىو والصميبي وداوود
ومنى وديب وعيد وغيرىم.
كىكذا ،فإف نظرية جغرافية التكراة في اليمف كالجزيرة العربية في األصؿ كاألساس،
كلدت كنشأت في حضف االستشراؽ التكراتي -الييكدم ،كىذا بحد ذاتو يجعمنا نعيد النظر
في امكانية تصديؽ ما ركاه لنا كؿ مف الصميبي كالربيعي بشأف الصدفة التي كانت السبب
[ .]5ق .ج .كيمز :معالـ تاريخ االنسانية ،المجمد الثاني -في تاريخ اإلغريؽ كالركماف كمف عاصركىما،
ترجمة :عبد العزيز تكفيؽ جاكيد ،الطبعة الثالثة ،الييئة المصرية العامة لمكتاب ،القاىرة .5741 ،ص .51
[ .]0أحمد الدبش :كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .01
30
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
الرئيسي في اكتشاؼ كمالحظة التشابيات المفظية بيف أسماء المناطؽ التكراتية كمناطؽ
اليمف كالجزيرة العربية التي حددكىا لنا.
لك حاكلنا تصديؽ كقكع األمر بالصدفة ،سنجد أمامنا عقبة تحكؿ دكف ذلؾ ،أقصد
بذلؾ أف حفظ أسماء المناطؽ الجغرافية الكاردة في التكراة عف ظير قمب كما صرح بذلؾ
الصميبي كالربيعي لف يككف ىك اآلخر نتاجان لمصدفة ،ألف ىذه النظرية بحد ذاتيا كانت قد
كلدت كنمت كتغذت كشبت في عقكؿ كأعماؿ كجيكد المستشرقيف التكراتييف -كما تبيف آنفان.
بيد أف األمر كما تكشؼ لي لـ يقتصر عمى مجرد كالدة ىذه النظرية كفكرة في حضف
مدرسة االستشراؽ التكراتية فحسب ،بؿ اتضح بشكؿ أكيد أف المنيج نفسو كاألدكات نفسيا
المتعمقة بدراسة األلفاظ كاألسماء الجغرافية كتشابياتيا كتحكالتيا المغكية ،قد استخدمت بالفعؿ
مف قبؿ المستشرقيف التكراتييف عندما بدأكا بالبحث عف المناطؽ الكاردة أسمائيا في التكراة
عمى األرض الفمسطينية بشكؿ عممي ،في نطاؽ العممية التي قامكا فييا بتزكير الجغرافية
التكراتية كالصاقيا زك انر كبيتانان عمى أرض فمسطيف -كما يدعي أصحابنا ركاد ىذه النظرية
مف الباحثيف العرب.
لنتكقؼ قميالن عند المحاكلة التي قاـ بيا الباحث الفمسطيني أحمد الدبش ،لتكضيح
كيؼ جرت عممية تزكير أسماء المناطؽ الفمسطينية لتصبح مطابقة لما ىي في التكراة .فقد
بدأت ىذه العممية قبؿ ( )5666سنة ،يقكؿ الدبش:
"في كقت مبكر يعكد إلى القرف الثاني الميالدم بدأ الحجاج المسيحيكف األكائؿ
القادمكف مف مختمؼ أجزاء اإلمبراطكرية الركمانية يصمكف فمسطيف ليعاكدكا تعقب
خطكات يسكع كحكارييو .كفي أثناء طكافيـ في أرجاء البالد بمجمكعات صغيرة كاف
ىؤالء يتكقفكف لمصالة كالتأمؿ في األماكف التي كاف سكانيا المحميكف يرشدكنيـ إلييا
عمى أنيا مكاقع نشاط يسكع كآالمو .كلكف الحج المسيحي بدأ ،مع حمكؿ القرف الثاني،
يأخذ بالضركرة طابع التنقيب األثرم ألف المشيد كاف قد بات شديد االختالؼ عما
كرد في العيد القديـ كالجديد.
31
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
كانت النتيجة نكعان جديدان مف الحج معاديان ألىؿ البالد كمسكغان الستعمارىا
كتحكيميا إلى أرض التكراة" ..كانت فمسطيف تتعرض لعممية نقؿ كتحكيؿ زمانية
تفضي إلى جعؿ الماضي التكراتي حقيقة ،إال أف التكجو المنظـ كاليادؼ كالمرتبط
بالدكائر االستعمارية كالتكجيات الييكدية راح يتشكؿ في القركف السابقة األخيرة
كخاصة بعد انتياء الحركب الصميبية كالتقمبات التي حدثت في أكركبا"[.]1
يفترض الدبش أف التزكير الذم كقع عمى أرض فمسطيف قد بدأ مع بداية انتشار
العقيدة المسيحية في القرف الثاني لمميالد ،كىذا أمر في الحقيقة لـ أستطع تفسيره ،أك أف أجد
لو تفسي انر.
الثابت لدينا ،ىك أف المسيحية أصالن نشأت ىنا في منطقتنا العربية كبالتحديد في
فمسطيف كبالد الشاـ كمصر ،كجميع معتنقييا في ذلؾ الكقت مف شعكب المنطقة ،ككانت
األغمبية المسيحية في العالـ القديـ آنذاؾ ىي شعكب المنطقة ،كالمسيحية بحد ذاتيا تستند
مف الناحية المرجعية الى العيد القديـ (التكراة) باإلضافة الى العيد الجديد (االنجيؿ) ،فكيؼ
ننسب الى الحجاج القادميف مف أطراؼ االمبراطكرية الركمانية -أك لنقؿ مف أكركبا -أنيـ
قامكا بعممية التزكير تمؾ ،أم تغيير أسماء مناطؽ فمسطيف عمى غير ما ىي كاردة عميو في
العيد القديـ ،أك عمى نحك ما ىي كاردة عميو أصالن .فإذا كاف أىؿ المنطقة كشعكبيا قد أركا
في تمؾ األسماء الكاردة في التكراة خالفان لما ىك ثابت عندىـ عمى األرض لبحثكا عف مكطف
التكراة أك لعممكا بو أساسان كأخبركنا ،ألف عقيدتيـ قائمة باألساس عمى شرط االيماف بما جاء
في التكراة التي كانت قد ُكتبت قبؿ ذلؾ العيد بحكالي سبعة قركف ،كااليماف المسيحي قائـ
باألساس عمى اعتبار فمسطيف بمثابة األرض المقدسة كما أخبرىـ بذلؾ العيد الجديد
(االنجيؿ) .فبغض النظر عف مدل ايمانيـ أك اطالعيـ عمى التكراة ،فما ىك منصكص عميو
في العيد الجديد كافي بالنسبة ليـ لتحؿ فمسطيف في نفكسيـ ىذا المحؿ ،كأرض مقدسة.
في الحقيقة أن ىذه النظرية -نظرية الصميبي ورفاقو -تطمب منا أن نتبنى واحداً
من أسخف االفتراضات ،وىو أن الماليين من الييود والمسيحيين عمى مدى ألفين عام
وحتى اليوم ،عاشوا وآمنوا وىم يجيمون بحقيقة أين تقع أرضيم المقدسة؟!
يبدك أف عممية التزكير الذم أراد أف يبينيا لنا أحمد الدبش ،لـ تحظ باتصاؿ زمني
يكسبيا طابع االستم اررية ،إذ سرعاف ما ينقمنا الدبش مف القرف الثاني الميالدم الى القرف
التاس ع عشر الميالدم ،ليعرض لنا الحمقة األىـ كاألكبر مف حمقات تزكير جغرافية التكراة
كتمفيقيا عمى أرض فمسطيف زك انر كبيتانان ،مف حيث لـ يجد أم مجاؿ لمعرفة كيؼ جرت تمؾ
العممية ككيؼ استمرت كالى أيف آلت خالؿ سبعة عشر قرنان مف التاريخ ،كىي الفترة التي لـ
يكف فييا ألم اسرائيؿ أك أم صييكنية كجكد يذكر عمى اإلطالؽ.
"شيد القرف التاسع عشر أكبر الحمالت االستشراقية اآلثارية ..فقد أخذت
تقنيات ىذه الجغرافيا الكتابية الحديثة شكميا مع األعماؿ االستكشافية التي قاـ بيا في
عاـ 5616كؿ مف "ادكارد ركبنسكف كايمي سميث" ،فخالؿ رحمة مف السكيس إلى
بيركت دامت ثالثة أشير ،اىتدى "روبنسون وسميث" إلى العشرات من المواقع
الكتابية التي كانت مغمفة ومتناثرة في أرجاء المسرح القديم لمبالد ،وقد وصفا
التحوالت المغوية التي أفضت ،باعتقادىما ،إلى قمب أسماء األماكن العبرية القديمة
إلى أسماء عربية حديثة"[.]1
ىذا الكالم خطير لمغاية ،كخصكصان الجزء األخير منو ،كالذم تعمدت تضميمو ليبدك
كاضحان ،إذ نفيـ مف ىذا النص المميز كالصريح ،أمريف اثنيف:
األمر األول :أف المستشرقيف بحثكا بطرؽ عممية ،أم نزلكا الى األرض كتجكلكا فييا
كبحثكا كنقبكا بشكؿ فعمي بحثان عف المكاقع الجغرافية التي ترد في التكراة ،كبالتحديد في
المنطقة الممتدة مف السكيس في مصر الى بيركت في لبناف ،بمعنى أف المنطقة المدركسة
شممت كامؿ أرض فمسطيف ،كاىتدكا إلى العشرات مف المكاقع الكتابية -التكراتية -التي كانت
مغمفة كمتناثرة في أرجاء المسرح القديـ لمتكراة.
األمر الثاني :يتعمؽ بالكيفية التي اىتدل بيا ىؤالء المستشرقيف الى تمؾ المكاقع
التكراتية التي اكتشفكىا ،كىي ما كصفكه ب ػ [التحوالت المغوية] ،التي أدت الى [قمب أسماء
األماكن العبرية القديمة إلى أسماء عربية حديثة]!!..
يجب أف نراجع ما قالو الصميبي كجميع ركاد نظرية جغرافية التكراة في اليمف كجزيرة
العرب ،بشأف منيجيـ المغكم ،أك الكيفية التي طبقكىا لتعييف جغرافية التكراة عمى أساس
التشابيات المفظية ،ألني عمى ثقة كاممة ،بأنيـ تبنكا نفس ىذه الفكرة ،فكرة التحكالت المغكية
كقمب األسماء كالحركؼ كما الى ذلؾ.
أكد كماؿ الصميبي عمى أف أساس كتابو ىك "المقابمة المغوية بين أسماء األماكن
[]1
تنتمي المضبوطة في التوراة بالحرف العبري ،وأسماء أماكن أخرى تاريخية أو حالية"
الى دائرة المغة العربية بالطبع ألنيا مأخكذة مف المعاجـ العربية.
كما عبر الصميبي عف فكرة [التحوالت المغوية] االستشراقية تمؾ ،بكضكح جمي ككأنو
كاف يشرح لنا األساس الذم عمؿ عميو المستشرقاف "ادكارد ركبنسكف كايمي سميث" في
االىتداء الى المناطؽ التكراتية في فمسطيف ،أثناء رحمتيما البحثية التي جرت سنة ،5616
كذلؾ "عندما تبين لمصميبي بما ال يقبل الشك وجود معظم األسماء التوراتية بشكميا
معرب ،في بالد السراة وما يمييا من جبال تيامة ووىادىا غرباً..
األصمي ،أو بشكل ّ
الخ"[.]2
كىذا مفاده ،أف الصميبي يفترض حدكث التحكالت المغكية التي أشار إلييا ىذاف
المستشرقاف ،فاألسماء كانت عبرية كبسبب عكامؿ التاريخ كخالفو تعرضت لمتعريب ،أم تـ
[ .]5كماؿ الصميبي :التكراة جاءت مف جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .51
[ .]0المرجع السابؽ ،ص .56
34
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
تحكيميا الى صياغات لفظية عربية ،مع االحتفاظ بشيء مف أصميا العبرم ،كىذا ألف
العبرية كالعربية مف مجمكعة لغكية كاحدة.
"ىناؾ جذكر كثيرة مشتركة بيف العبرية التكراتية كالعربية ،كذلؾ دكف تغير في
األحرؼ في بعض األحياف ،كمع (تحول) في األحرؼ في أحياف أخرل .ك[التحوالت]
في األحرؼ التي يقرىا عمماء المغات السامية بيف المغتيف ىي اآلتية.]1["...:
ُيبيف لنا تمميذ الصميبي كمكاطنو "زياد منى" طبيعة تمؾ [التحوالت المغوية] ،في سياؽ
تأكيده عمى "إن إدراك مدى ورود ظاىرة القمب واالستبدال بين المغتين العربية والعبرية
يعتبر أحد األسس التي ارتكزت عمييا دراستو في موضوع جغرافية التوراة التي نطق بيا
الصميبي"[.]2
أما فرج اهلل صالح ديب ،فتتمثؿ منيجيتو ب ػ "المقابمة المغوية وتطويع أحرف التصويت
في األسماء لموصول إلى جذر أو صيغة لفظية يمكن إقرانيا بأحد المواقع الجغرافية في
اليمن"[.]3
كبالمثؿ ،يبيف لنا األستاذ "أحمد داككد" أنو يمكف االستفادة مف ىذه المنيجية –
منيجية التحكالت المغكية -التي جرت عمى أسماء المناطؽ الجغرافية التكراتية ،كلكف فيما
بيف المغة الكمدانية كالمغة العربية ،أم بعيدان عف العبرية ،قائالن:
"أما من الناحية المغوية العربية القديمة فقد اعتمدنا فييا القاموس الكمداني
لممطران يعقوب أوجيو منا ،ألن الكمدانية – وىي نفسيا السريانية -ىي العربية
القديمة ،التي تكمم بيا ابراىيم الخميل وبنوه والسيد المسيح في المنطقة التي وجدوا
وعاشوا فييا قرب بابمون الكمدان عمى وادي الفرات شرق جبال غامد من شبو جزيرة
العرب ...فأسماء مثل "وادي طوى" و"طور سيناء" و"موسى" و"ييوه" و"جبل حريب"
و"رفيديم" و"أورشميم" ..ال يمكن فيم مدلوالتيا من خالل تتبع افتراضات المستشرقين
األجانب ،بل بالعودة الى المغة العربية القديمة التي كشفت لنا حقيقة األشياء
ومسمياتيا كما ىي بعيداً عن أي تخمين أو تزوير فرض عمى لغتنا من الخارج"[.]1
عمى نفس المنكاؿ ،كبطريقتو الخاصة يعبر "أحمد الدبش" عف منيجو المغكم لفؾ
طالسـ األسماء التكراتية ،قائالن:
"وقد عمدت الى إجراء مقارنة وتقاطعات بين النصوص التوراتية والقرآنية،
حول المقصود بــ "مصر"" ،مدين"" ،دور سينين"" ،الوادي المقدس /طوى" ..وغيرىا
من المفاىيم ،حيث ال يمكن فيم مدلوالتيا إال بالعودة الى المغة العربية والمعاجم
العربية"[.]2
في نفس الشأف ،كحكؿ منيجو في فؾ طالسـ ذلؾ التشابو بيف األسماء التكراتية
كاألسماء الكاقعة في الجغرافية اليمنية ،يقكؿ فاضؿ الربيعي:
"لقد عكفت عمى دراسة وتعمم المغة العبرية ليتسنى لي قراءة النصوص
األصمية – ال االستشراقية .ثم كرست سنواتاً من عمري لمبحث عن جذورىا
[ .]5أحمد داككد :العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد ،مرجع سابؽ ،ص .51
[ .]0أحمد الدبش :مكسى كفرعكف في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .54
36
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
الحقيقية ،ولمتعرف عمى ذلك التماثل المثير حتى في أشكال رسم األسماء في
الميجات اليمنية القديمة والعبرية"[.]1
بالعكدة الى محاكلة "أحمد الدبش" لتكضيح عممية التزكير التي قاـ بيا المستشرقكف
عمى أسماء المناطؽ في فمسطيف بيدؼ جعميا مطابقة لما في التكراة ،يمكف أف نتعرؼ عمى
نكعية النتائج التي يمكف التكصؿ إلييا مف خالؿ تطبيؽ ىذه األدكات المفظية أك المغكية،
كلكف في السياؽ الذم تتضح فيو بعض النتائج التي تكصؿ إلييا المستشرقاف "ادكارد
ركبنسكف كايمي سميث" ،كالتي يصفيا الدبش بأنيا كانت ضمف عممية تزكير ،إذ يقكؿ:
"زكر "ركبنسكف" عشرات المكاقع القديمة بمساعدة "سميث" الذم كضع أثناء
عممو مبش ارن قائمة باألسماء العربية لقرم فمسطيف .فقرية (عناتا) ،لم تكن فيما يبدو،
إال (عنتوت) الكتابية (التوراتية) ،مسقط رأس النبي إرميا ،و(جباع) كانت ىي
(جبعة) إحدى مدن بنيامين ،و(مخماس) بدت مناسبة تماماً لساحة معركة شاؤول
في (مخماس)؛ و(بيتن) كانت (بيت إيل) محطة توقف إبراىيم وموقع حمم يعقوب
الشيير؛ ومما ال شك فيو أن (الجب) كانت ىي (جبعون) الكتابية حيث قام يوشع
بتجميد الشمس في مكانيا.
كبحسب كالـ ركبنسكف فيما بعد ،فقد قادتيـ ىذه المنيجية عبر مشاىد مرتبطة
بالعديد مف األسماء كاألحداث كاألفعاؿ التاريخية مثؿ إبراىيـ كيعقكب ،كسميماف
كشاؤكؿ ،كيكناف ،كداكد ،كصمكئيؿ كمكنتيـ مف تحديد األماكف التي عاشكا كنشطكا
فييا ،كاستطاعكا أف يتعقبكا ما يمكف اعتباره خطكاتيـ ذاتيا"[.]2
باإلضافة الى ككننا عرفنا اآلف مف أيف جاءت ىذه النظرية كما ىك أصميا كفصميا،
فإننا يجب أف نتساءؿ:
[ .]5فاضؿ الربيعي :فمسطيف المتخيمة :أرض التكراة في اليمف القديـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.57 -56
[ .]0أحمد الدبش :كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .7 -6
37
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
أليست النتائج التي توصل إلييا روبنسون وسميث من حيث األساس والمنيج
واألدوات ،تشبو النتائج نفسيا التي توصل إلييا الصميبي وديب ومنى وعيد وداوود
والدبش والربيعي؟ -إذا كان األمر كذلك ،فكيف توصف نتائج روبنسون وسميث عمى أنيا
تزوير فيما يصف كل ىؤالء نتائجيم المماثمة بأنيا حقائق وتصحيح لمتاريخ؟!
مف أجؿ أف نتبيف األمر ،يجب أف ننظر الى الفارؽ بيف ما قاـ بو ركبنسكف كسميث
عاـ ،5616كبيف ما قاـ بو الصميبي كمف جاء بعده في العصر الراىف .فقد قاـ ركبنسكف
كسميث بدراسة أساسيا أف التكراة تحدد بالضبط جغرافيتيا كىي فمسطيف ،كأف التكراة ذكرت
الكثير مف أسماء القرل كالتالؿ كالجباؿ كالمعالـ الجغرافية كلربما حددت مكاقعيا بشكؿ أك
بآخر ،سكاء بالنسبة لبعضيا البعض أك بالنسبة لؤلحداث التي جرت فييا ،كقاما بالنزكؿ الى
األرض كالتجكؿ فييا كالتحقؽ مف أسماء المناطؽ كمدل تطابقيا في زمف إجراء الدراسة مع
األسماء التي ترد في التكراة.
بناء عمى ذلؾ ،فقد كجد "ركبنسكف كسميث" أف قرية اسميا "عناتا" تقع في نفس
ن
المكضع الذم يرد في التكراة قرية اسميا "عنتكت" ،ككذلؾ كجدكا قرية "جباع" في مكضع
تسميو التكراة "جبعة" ،ككجدكا في فمسطيف قرية اسميا "مخماس في مكضع يحمؿ نفس االسـ
في التكراة "مخماس" ،ثـ كجدكا بيساف" التي ىي "باشاف" ،كغزة التي ىي غزة ،كأريحا التي
ىي أريحا كعسقالف التي ىي عشقمكف كنير األردف الذم ىك نير األردف ..الخ ،كفي
المحيط الجغرافي نفسو كجدكا صكر كصيدا كلبناف كدمشؽ كعماف كحماة ..الخ ،مف المدف
كالمناطؽ التي تذكرىا التكراة.
بيد أف ما قاـ بو الصميبي كركاد نظريتو ،ىك أنيـ أخذكا الفكرة مف المستشرقيف
كالمنيج مف المستشرقيف ،كطبقكىا في مكاتبيـ التي تطؿ نكافذىا عمى بيركت كدمشؽ
وكوبنياجن وامستردام كالقاىرة ،كىـ يبحمقكف في المعاجـ كالقكاميس ،دكف أف يعرفكا شيئان
38
انفصم األول تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت
عف األماكف التي يتحدثكف عنيا ،كلـ يقكمكا بأم جيد منيجي عممي كتطبيقي ،كأكاد أجزـ
أف ما مف أحد منيـ قادر عمى رسـ خريطة ألم مكاف عمى كرقة بيضاء فكؽ مكتبو..
39
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
انفصم انثاني
كنت قد حددت في الفصؿ السابؽ المقوالت أو الفروض الرئيسية المشتركة التي أكد
عمييا وانطمؽ منيا جميع رواد ىذه النظرية ،بثالث مقوالت ،ىي:
المقولة األولى :أنو تـ تحريؼ وتزوير التاريخ التوراتي لتدعيـ االدعاءات والمبررات
الصييونية بشأف الموطف األصمي لمييود ،وأرض الميعاد ..بيدؼ تبرير احتالؿ فمسطيف.
المقولة الثانية :أف البحوث والتنقيبات األثرية عمى مدى أكثر مف قرف مف الزماف تـ فييا
تمشيط المنطقة الواقعة بيف نيري النيؿ والفرات في سبيؿ إيجاد أدلة أثرية مادية تؤيد الرواية
التوراتية واالدعاءات الصييونية ،أثبتت أف ال شيء عمى األرض.
عبر رواد
سبؽ وأف ناقشنا األمر بخصوص المقولة األولى في الفصؿ األوؿ ،ورأينا كيؼ ّ
النظرية عنيا ،بحيث اتضحت لنا الجذور االستشراقية -الييودية لنظرية الصميبي ورفاقو ،واآلف
نحف بحاجة الى التعرؼ عمى أبعاد المقولة الثانية في سياؽ اختبار البناء المنطقي لمنظرية
ومدى تماسكيا وقدرتيا عمى مواجية التساؤالت التي بوسعنا طرحيا إزاء ما تعنيو وما تدؿ عميو،
وما ىو باألصؿ ىدفيا الذي تؤدي إليو .فإذا كاف سؤالنا في الفصؿ السابؽ عف جذور نظرية
جغرافية التوراة التي تبناىا بعض الباحثيف العرب ،فإف سؤالنا في ىذا الفصؿ سوؼ يتجو الى
البحث عف اليدؼ الحقيقي مف ىذه النظرية.
40
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
)(1
تشير المقولة الثانية مف مقوالت نظرية جغرافية التوراة لمباحثيف العرب الى االستدالؿ
الرئيسي مف نتائج عمـ اآلثار ،والذي عبر عنو مؤسس النظرية األستاذ "كماؿ الصميبي" ،بقولو:
عمى نفس االتجاه ،يتبنى الباحث المبناني "زياد منى" ،مقولة أستاذه ،ويمعف في تبييف
حيثياتيا والنطاؽ الذي يمكف أف يرد فيو مثؿ ىذا االستدالؿ ،السيما مف الناحية التي يمكف
النظر منيا الى جيود عمماء التوراة في نقد النص التوراتي ،قائالً:
"لقد تناوؿ الكثير مف العمماء وفي مقدمتيـ رجاؿ ديف مسيحيوف ورعوف ،محتويات
كتبيـ المقدسة بالنقد ،وضمف إطار تيذيب "نقد العيد القديـ" .ومف ذلؾ جغرافيتيا
وتاريخيتيا ،كما أنيـ طرحوا العديد مف اآلراء المثيرة بشأف األصوؿ األولية لديانة بني
اسرائيؿ ..لكف المسألة المركزية لكتاباتيـ ىي االنطالؽ مف بدييية صحة النظرة الجغرافية
التقميدية .ىذه المنيجية جعمت الكثير مف العمماء في حيرة مف أمرىـ ،ألنو بعد أكثر مف
قرف مف التنقيب األثري المبرمج الذي قمب أرض فمسطيف رأساً عمى عقب ،لـ يعثر
عمى أي لقى أثرية ثابتة تدعـ آرائيـ"[.]2
[ .]1كماؿ الصميبي :التوراة جاءت مف جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .51 – 55
[ .]2زياد منى :جغرافية التوراة :مصر وبنو اسرائيؿ في عسير ،مرجع سابؽ ،ص .16
41
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
نفس التصريح ،نجده لدى الباحث السوري األستاذ "أحمد داوود" ،عندما قاؿ:
كذلؾ ،الباحث اليمني "فضؿ الجثاـ" الذي يأتي تصريحو مؤيداً بقوؿ لمصميبي:
" ىكذا ،فنتائج الكشوؼ اآلثارية أتت بثمرات مرة ال تؤيد الجغرافيا التاريخية لمتوراة.
ورغـ الجيود المكثفة والمضنية مف قبؿ عمماء اآلثار في مصر وبالد الشاـ والعراؽ ،فإنو
كما يقوؿ الصميبي :لـ يعثر إطالقاً عمى آثار ألصوؿ العبراف في العراؽ وال ىجرتيـ
المفترضة الى فمسطيف عبر شماؿ الشاـ ػو مسألة األسر في مصر والخروج منيا"[.]2
وأيضاً في التصريح اليتيـ الذي أدلى بو الباحث المصري األستاذ "أحمد عيد":
"لقد كشفت دراسات طومسوف عمى أف جميع قصص التوراة تقريباً مف صنع الخياؿ
وأنيا كتبت في القرف الخامس قبؿ الميالد ،بعد مرور ( )1555سنة مف وقوع األحداث
التي تروييا ،ولـ يتـ العثور عمى أي أثر لقياـ مممكة اسرائيؿ في القرف العاشر قبؿ
الميالد أو عمى وجود مستوطنات سكنية في القدس والضفة الغربية التي يصر
اإلسرائيميوف عمى تسميتيا ييوذا والسامرة"[."]3
نفس الفكرة والمقولة نجدىا لدى الباحث الفمسطيني األستاذ "أحمد الدبش":
"إف األبحاث األثرية التي مسحت وادي النيؿ ،منذ عشرات السنيف ،وحتى اآلف لـ
تعثر عمى أقؿ دليؿ يؤكد األحداث التوراتية"[.]4
[ .]1أحمد داوود :العرب والساميوف والعبرانيوف وبنو إسرائيؿ والييود ،مرجع سابؽ ،ص .12
[ .]2فضؿ الجثاـ اليافعي :الحضور اليماني في تاريخ الشرؽ األدنى -سبر في التاريخ القديـ ،مرجع سابؽ،
ص .46 -45
[ .]3أحمد عيد :جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة ،مرجع سابؽ ،ص .12 -11
[ .]4أحمد الدبش :موسى وفرعوف في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .13
42
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
"وانطالقاً مف حقيقة غياب أي لقى آثارية واضحة تحسـ بأف فمسطيف احتضنت
تجربة بني اسرائيؿ ،فقد رأينا أف حركة التاريخ التوراتي ال تنسجـ مع جغرافية المنطقة مف
العراؽ الى الشاـ والى مصر ،وأف الخطاب الكتابي لفؽ جغرافية التوراة ،وبالتالي فإف
موجز أطروحتي في موضوع جغرافية التوراة ىو أف مسرحيا كاف في اليمف ومحيطو"[.]1
لقد كاف ىذا االستدالؿ ،أساساً لكؿ االفتراضات التي تبناىا رواد النظرية ،وتعامموا مع ما
تؤدي إليو مف استنتاجات عمى نحو جازـ باعتبارىا ىي الحقيقة التي خضعت دوماً لعمميات
التغييب والتزييؼ ،وعمى الرغـ مف أف عمـ التاريخ برمتو يظؿ بعيداً عف دائرة اعتباره مجاؿ
حقائؽ ،بقدر ما ىو في جوىره وأساسو حقؿ نظريات ومقوالت وآراء متعددة ومتباينة .فميما يكف
مف قوة االستدالالت التي نمتمكيا إزاء مسألة ما ،فيناؾ أيضاً آراء أخرى مغايرة تجاه نفس
المسألة وليا مف األدلة والحجج ما تستند إليو ،وبالتالي فال مجاؿ لمجزـ بأي نتائج أو آراء في
مجاؿ الدراسات التاريخية ،وال مجاؿ اطالقاً العتبار نتائج معينة بأنيا حقائؽ ،وىذا في
المحصمة النيائية ي ّعد واحداً مف أىـ المبادئ المنيجية في عمـ التاريخ.
ومع ذلؾ ،نجد أف أكثر ما يمفت انتباه القارئ في معظـ كتب ومؤلفات رواد نظرية
جغرافية التوراة في الجزيرة العربية واليمف ،ىي تمؾ العبارات الجازمة والقاطعة ،التي تقابمنا.
فعمى سبيؿ المثاؿ ال الحصر ،فإننا نجد ىذه العبارات الجازمة في أوؿ سطر مف كؿ كتاب
لممفكر العربي "فاضؿ الربيعي" ،ىكذا:
"لـ يحدث السبي البابمي لمييود في فمسطيف ،كما أف المصرييف واألشورييف لـ
يشتبكوا فوؽ أرضيا قط ،وسفف سميماف لـ تمخر عباب المتوسط ،ولـ ترس في أي وقت
مف األوقات في موانئ صور المبنانية"[.]2
[ .]1أحمد الدبش :كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .25
[ .]2فاضؿ الربيعي :فمسطيف المتخيمة ،المجمد ( ،)1مرجع سابؽ ،ص .13
43
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
"لـ يحدث السبي البابمي في فمسطيف قط ،ولـ تعرؼ أرضيا وال تاريخيا مثؿ ىذا
الحدث (الضخـ) .وكؿ ما كتب عف ىذا الحدث في المؤلفات التاريخية األجنبية والعربية،
بوصفو واقعة جرت فوؽ أرض فمسطيف ،وضمف تاريخيا القديـ ،ىو مف تمفيؽ القراءة
االستشراقية لمتوراة ،ويتكشؼ عف كونو تزييفاً وتالعباً متعمديف بالتاريخ الحقيقي
لفمسطيف"[ ،]1إذ ال يوجد أي دليؿ ميما كاف بسيطاً -أو يممح مجرد تمميح -الى أنو وقع
ىناؾ ،أو أف الييود وحدىـ كانوا ضحاياه ،وىذا ما يثيره الكتاب ويجادؿ فيو"[.]2
أرى أنو مف المناسب أف أعيد سرد النظرية بالطريقة التي بنيت بيا مف قبؿ روادىا،
وعبرت عنيا مقوالتيـ الرئيسية الثالث ،كاآلتي:
بدأ األمر حينما قاـ كتبة التوراة أو مفسروىا أو أشخاصاً ما في زمف ما غير
معموـ بالضبط ،وعمى نحو مفاجئ وألسباب غامضة أو ربما معمومة ،بعممية تزوير
وتحريؼ لحقيقة جغرافية التوراة ،مف خالؿ التالعب بأسماء األماكف التي وقعت فييا
أحداثيا واسقاطيا مف بعد عمى جغرافية فمسطيف ،أو ربما أنو وعمى مدى قروف طويمة
جرى تغيير أسماء المناطؽ في فمسطيف لتكوف مطابقة لما ىو في التوراة .ثـ جاء عمـ
اآلثار وأثبت زيؼ االدعاءات التوراتية ،وبأف ال آثار تدؿ عمى أف فمسطيف ىي مسرح
تمؾ األحداث التوراتية .ومف بعد جاءت الصدفة العجيبة فكشفت عف ذلؾ التشابو
المدىش بيف أسماء المواقع الجغرافية في التوراة وأسماء المواقع في بعض المناطؽ
في عسير وغامد غرب الجزيرة العربية ،وفي اليمف.
وبناءً عمى ذلؾ كمو ،فإف الخمؿ أو التزوير الذي وقع ،قد وقع عمى النص
التوراتي مف خالؿ تحريؼ حقيقة مسرحو الجغرافي ،وعمى الخريطة الفمسطينية مف
خالؿ تغيير أسماء مناطقيا ،وىذا ىو سبب كؿ تمؾ التناقضات التي حيرت المؤرخيف
[ .]1لـ يعنى فاضؿ الربيعي أو أي مف رواد نظريتو بأي تاريخ حقيقي لفمسطيف ،وال نجد في كؿ أعماليـ أي
شيء عف ىذا التاريخ الحقيقي الذي يدافعوف عنو ويسعوف الى تحريره ،فكؿ ما تقدمو كتبيـ ليس إال تفريغاً
لفمسطيف مف التاريخ ..سنناقش ىذه المسألة الحقاً.
[ .]2فاضؿ الربيعي :حقيقة السبي البابمي ،مرجع سابؽ ،ص .7
44
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
والمستشرقيف وعمماء اآلثار ،ألنيـ كانوا يبحثوف عف تاريخ أحداث وقعت بالفعؿ ،ولكف
في المكاف الخطأ.
وىذا ما تعنيو بالضبط أقواليـ بأف النظرية تقوـ عمى التسميـ بصحة الرواية التوراتية
كتاريخ ونقضيا كجغرافيا ،والتي سنناقشيا في نياية الفصؿ.
في الحقيقة أف بناء النظرية بيذا الشكؿ تعتريو العديد مف التناقضات ،وبياف تناقضاتيا
كفيؿ بأف يظير لنا مدى اختالؿ أسسيا المنطقية .وبدوف إسياب في ىذا الشأف يمكنني إبراز
ثالثة مف ىذه التناقضات ،والتي مف المؤكد أف إدراكيا يساعد عمى إعادة النظر في امكانية
بناء موقؼ آخر لدى المتحمسيف لمنظرية والمدافعيف عنيا ،سواء كانوا مف روادىا المساىميف
فييا أو مف القراء والميتميف بيا.
لنتعرؼ بشكؿ سريع وموجز عمى ىذه التناقضات الثالثة ،ولننطمؽ مف بعد في استكشاؼ
األىداؼ الخفية مف وراء اقامة ىذه النظرية والحشد ليا.
انتناقض األول:
لو أمعنا النظر في المقولتيف األولى والثانية ،والمتاف تعبراف عف وجية نظر رواد النظرية،
فسنجد أنيما متناقضتاف ومتصادمتاف بشكؿ كمي ،فالمقولة الثانية بشأف نتائج الكشوفات األثرية
التي صرح بيا عمماء اآلثار ،تتناقض وتتصادـ مع المقولة األولى بشأف التزوير الذي جرى
لجعؿ نتائج االكتشافات األثرية في فمسطيف متطابقة مع الرواية التوراتية لمتاريخ ،ألنو لو حدث
ىذا التزوير فعالً وأمكف تمريره دوف أف يكتشؼ أمره ،لما اضطر عمماء اآلثار الى اإلقرار بأف
نتائج البحوث والمسوح األثرية تقوؿ بأف ال شيء عمى األرض يدؿ عمى حدوث ما تسرده
التوراة ،بؿ لكاف ليـ تصريحاً آخر يعمنوف فيو عف العثور عمى أدلة أثرية ،تؤكد بدورىا عمى أف
أحداث التاريخ التوراتي قد وقعت بالفعؿ كما ىي في النصوص التناخية والمقرائية -أي نصوص
التوراة واألسفار األخرى التي تدور في فمؾ المعتقد الييودي.
45
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
ىذا التناقض بيف المقولتيف يفضي الى القوؿ بأف إحداىما ال أساس ليا مف الصحة أو
ربما كالىما ،ألف قياميما معاً غير ممكف إطالقاً ،فكؿ منيما تنقض األخرى وتنسفيا تماماً.
فكيؼ نتيـ عمماء اآلثار بالتزوير في حيف أنيـ يعترفوف لنا بوضوح أف ال شيء توصموا إليو
أساساً ليزوروه؟! -مع التنويو لمقارئ العزيز بضرورة االنتباه الى إننا ىنا إنما نختبر مقوالت
وافتراضات نظرية جغرافية التوراة كما صاغيا روادىا مف الباحثيف العرب.
السؤاؿ األصعب مف ذلؾ ،ىو كيؼ لـ يتنبو ىؤالء الباحثيف ليذا التناقض بيف أىـ
المقوالت الرئيسية التي أقاموا عمييا نظريتيـ؟!
أحد أف تؤدي جيودىـ الى تثبيت قواعد ىذه النظرية بإثبات صحة ىذيف
ثـ كيؼ يتوقع ٌ
الفرضيف معاً ،طالما وأف ىذا مف الناحية المنطقية يكاد يكوف أم اًر مستحيالً.
انتناقض انثاني:
ثمة تناقض آخر وقع فيو رواد ىذه النظرية ،عندما أكدوا عمى أف جيودىـ مف خالؿ ىذه
النظرية تصب في اتجاه تصحيح التاريخ العربي ،وتحريره مف زيؼ التاريخ االستشراقي الغربي
الذي يخدـ الييود والغرب ،مف خالؿ إثبات زيؼ وتمفيقات االدعاءات الصييونية القائمة عمى
الرواية التوراتية .فمو وضعنا ىذا اليدؼ في مقابؿ مقولتيـ بأف البحوث والتنقيبات األثرية عمى
مدى أكثر مف قرف مف الزماف تـ فييا تمشيط المنطقة الواقعة بيف نيري النيؿ والفرات في سبيؿ
إيجاد أدلة أثرية مادية تؤيد الرواية التوراتية واالدعاءات الصييونية ،أثبتت أف ال شيء عمى
األرض ،فسوؼ نجد أف ىذا اليدؼ متحقؽ أصالً بما أثبتو عمـ اآلثار ،ومف ثـ فإف ىذه الفكرة
برمتيا وعمى ىذا النحو الذي بنيت عميو يعترضيا سؤاؿ استنكاري ،غايتو التمحيص فيما إذا
كانت ىذه النظرية وكؿ الجيود التي بذلت مف قبؿ روادىا تقؼ عند حدود تحقيؽ اليدؼ المعمف
عنو ،والمتحقؽ سمفاً ،أـ أنيا تتجاوزه صوب ىدؼ آخر.
لكي تتضح فكرة ىذا التناقض ،البد مف صياغة ذلؾ السؤاؿ االستنكاري عمى النحو
اآلتي:
46
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
إذا كانت نتائج الكشوفات والمسوح األثرية في فمسطيف وحوالييا ،قد أفحمت التاريخ
التوراتي وأثبتت أنو لـ يتـ العثور عمى أدنى دليؿ يثبت أف شيئاً مف أحداثو قد حدث فعالً،
فما الداعي الى اثبات صحة الرواية التوراتية بإسقاطيا عمى منطقة أخرى -أياً كانت ىذه
المنطقة األخرى؟!
إنو سؤاؿ عف اليدؼ مف المضي قدماً واالستماتة في الدفاع عف ىذه النظرية وتدعيميا
بشكؿ مكثؼ ومستمر ،بالرغـ مف أف عمـ اآلثار قد تكفؿ بالميمة وأثبت بمغة العمـ زيؼ
االدعاءات الصييونية القائمة عمى مرويات التوراة ،وبالتالي فإف تحقيؽ ىذا اليدؼ ال يحتاج
الى جيود إضافية ألنو ىدؼ متحقؽ فعالً .لذا نحف مضطروف لمبحث عف جواب ليذا التساؤؿ
البالغ األىمية ،ومف يدري ،لعؿ اإلجابة عنو تكشؼ عف أبعاد أخرى لـ يشأ أياً مف رواد النظرية
أف يخبرنا عنيا ،أو ربما أنيـ تعمدوا اخفائيا عنا.
سبؽ وأف طرحت ىذا السؤاؿ عمى بعض رواد النظرية بشكؿ مباشر ،والحظت مف خالؿ
اء إزاء ما يعنيو
ردة فعؿ مف طرحتو عمييـ أنو لـ يكف في حسبانيـ أبداً سؤاؿ مف ىذا النوع سو ً
بالضبط أو ما يقود إليو .فقد امتنع البعض منيـ عف اإلجابة ،بؿ ورفض بشكؿ نيائي مناقشة
قدـ البعض اآلخر تفسيرات أقؿ ما يمكف وصفيا بو ىو أنيا "سطحية"!..
األمر ،فيما ّ
لموصوؿ الى إجابة عمى ىذا السؤاؿ ،البد مف الوقوؼ عند المقولة الرئيسية الثانية نفسيا،
بحيث تتجو وقفتنا المطموبة نحو تقصي حقيقة أمريف اثنيف:
األمر األوؿ :الداللة الكمية لممقولة وكشؼ المضمر والمسكوت عنو فييا.
األمر الثاني :التحقؽ مف مدى صحة ودقة المقولة في التعبير عف الواقع الفعمي.
انتناقض انثانث:
باإلضافة الى ما تقدـ ،فإننا نممح تناقضاً ثالثاً في التكويف األساسي ليذه النظرية ،يتعمؽ
بانعداـ الدليؿ األثري المادي في فمسطيف عمى وقوع األحداث التوراتية فييا ،والذي جرى التعامؿ
معو باعتباره مسوغاً جوىرياً لمقوؿ بأف أحداث التوراة جرت في مسرح جغرافي آخر.
47
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
في الحقيقة ،أف ىذا الفرض مما كاف يمكف القبوؿ بو لو أنو طرح بدوف تحديد مكاف بعينو
باعتباره المسرح الحقيقي لمقصص التوراتية عمى األقؿ في ظؿ غياب الدليؿ األثري ،لكف
المشكمة تكمف في أف رواد النظرية قاموا بتعييف األماكف التي يعتقدوف أنيا ىي مسرح أحداث
التوراة وجغرافيتيا -اليمف وجزيرة العرب بدوف أف يكوف لدييـ أي أدلة أثرية.
بصيغة أوضح ،فالتناقض الذي أشير إليو ىنا ناتج عف أف مسوغ تعييف المناطؽ الجديدة
لجغرافية التوراة ىو تشابو األسماء ،وىذا يدعوا الى التساؤؿ ،بشأف الى أي مدى يمكف أف تحؿ
التشابيات المفظية بيف األسماء محؿ الدليؿ األثري المادي ،وعما إذا كاف غياب األدلة األثرية
عمى وقوع أحداث التوراة في فمسطيف ،يمزـ بأف يكوف نقؿ أحداث التوراة الى اليمف وجزيرة
العرب قائماً عمى وجود أدلة أثرية مادية أـ ال؟! -ألف تشابو األسماء ال يعد وال يمكف التعامؿ
معو عمى أنو دليؿ بحد ذاتو ،وال يمكف اعتباره أيضاً مف القرائف األثرية أو مما يقع في نطاؽ
عمـ اآلثار .فيو عمى كؿ حاؿ مجرد قرينة قائمة عمى التماثؿ والتشابو بيف ألفاظ ومسميات،
أثبت جميع رواد النظرية أنو يمكف أف يقع عمى أكثر مف نحو ،وأف نمتمسو في أكثر مف نطاؽ
عينيا كؿ منيـ كمسرح لتمؾ األحداث التوراتية.
جغرافي ،بدليؿ تعدد األماكف التي ّ
كيؼ تنقموف جغرافية التوراة مف فمسطيف بسبب انعداـ الدليؿ األثري ،وفي الوقت نفسو
تسقطوف أحداثيا عمى مكاف آخر دوف أف يكوف لديكـ ذلؾ الدليؿ األثري؟!
كاف الباحث السوري "فراس السواح" – وىو مف أوائؿ مف قدموا جيوداً مميزة ومثمرة في
نقد ىذه النظرية ،والكشؼ عف سوءاتيا -قد أكد عمى ىذه المشكمة ،قائالً:
" والتسميـ بتاريخية التوراة عند الصميبي ،ىو نتيجة منطقية لنقمو جغرافيتيا ومسرح
أحداثيا الى غرب العربية ،حيث نفتقد الى أي محؾ موضوعي يمكف اختبار روايات
48
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
التوراة إزاءه ،فالمنطقة لـ تستكشؼ آثارياً حتى اآلف ،ولـ يأتنا عنيا بنبأ واضح أي شعب
مف شعوب الشرؽ القديـ"[.]1
خالصة األمر ،نحف بحاجة الى التعرؼ عمى األسباب والدوافع الحقيقية الكامنة وراء ىذا
التعمؽ الشديد -الى درجة اليوس -بتحويؿ مالحظة ناتجة عف الصدفة ،الى نظرية مف شأنيا
أف تقمب كؿ مفاىيمنا ومعارفنا التاريخية والجغرافية رأساً عمى عقب -كما أخبرنا بذلؾ رائد
النظرية األوؿ كماؿ الصميبي.
ترى ،ما الذي حدث واستجد ودعا الى البحث بشكؿ مباشر في جغرافية التوراة ،ومف ثـ
الخروج بنظرية جديدة تقوؿ لنا بأف جغرافية أحداث التوراة الحقيقية لـ تكف يوماً في فمسطيف
وحوالييا بؿ كانت في جزيرة العرب؟!
إنو سؤاؿ عف الموقؼ الذي كاف قائماً بيف عمماء اآلثار التوراتييف ونتائج الكشوفات
األثرية في منتصؼ ثمانينيات القرف الماضي ،وىو يدفعنا الى دراسة وتحميؿ السياؽ الذي ولدت
فيو ىذه النظرية ،والتعرؼ عمى مالمح الخمفية التي كانت قائمة عندما قاـ الدكتور كماؿ
الصميبي في منتصؼ ثمانينيات القرف العشريف بتكوينيا ،وىو الوقت الذي يفترض أف عمماء
اآلثار كانوا قد وصموا فيو الى حقائؽ بشأف وقوع أحداث التوراة في فمسطيف أو غيرىا.
إف ىدفي مف دراسة موقؼ التوراة في تمؾ الفترة ،ىو التحقؽ مف كوف نظرية الصميبي قد
ولدت في السياؽ الذي توفرت فيو األسباب الوجيية الستخداـ ىذه النظرية في فضح االدعاءات
الصييونية التوراتية بشأف فمسطيف ،أـ أف والدتيا كانت في سياؽ مختمؼ استدعى أف تتجو
النظرية نحو تحقيؽ ىدؼ آخر ،وما عساه يكوف ذلؾ اليدؼ بالضبط؟!
[ .]1فراس السواح :الحدث التوراتي والشرؽ األدنى القديـ :ىؿ جاءت التوراة مف جزيرة العرب -نظرية كماؿ
الصميبي في ميزاف النقد والحقائؽ العممية ،الطبعة الثالثة ،دار عالء الديف ،دمشؽ .1997 ،ص .194 -193
49
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
)(2
ىيمف التاريخ التوراتي عمى العقمية العممية في أوروبا منذ قروف عديدة ،فكاف ىو األساس
المرجعي األوؿ الذي يؤسس ألي فيـ لمسار تاريخ المنطقة لدى المؤرخيف والمستشرقيف في
الغرب ،وىو الفيـ الذي جعؿ مف فكرة اسرائيؿ التاريخية – وفؽ القصة التي تسردىا التوراة-
مرك اًز لمدائرة كميا ،وكؿ أحداث ووقائع التاريخ البد وأف تدور حوؿ ىذا المركز ،وكاف أساس ىذه
الييمنة ناتجاً عف اليالة التي أحيطت بيا التوراة بمنحيا صفة المصداقية المطمقة ،ليس
باعتبارىا نصاً دينياً يعتقد مف يؤمنوف بو بأنيا جاءت وحياً مف عند اهلل فحسب ،بؿ وباعتبارىا
مف أىـ الوثائؽ التاريخية وأقدميا ط اًر عمى كؿ حاؿ.
لقد جرى التعامؿ مع النص التوراتي مف الناحية التاريخية ،عمى نحو يصدؽ معو كثي اًر
قوؿ كماؿ الصميبي:
"يبدو أف بني اسرائيؿ كانوا وحدىـ المالكيف إلحساس مرىؼ بالتاريخ .أو ىـ عمى
األقؿ الوحيدوف الذي فيموا أنفسيـ تاريخياً وعبروا عف ذلؾ بطريقة واضحة منسجمة
مكتممة .وتقدـ كتبيـ المقدسة رسماً ذاتياً حياً ومفصالً ،وىو رسـ فريد مف نوعو بالنسبة
الى عصره"[.]1
ثـ قامت الحركة الصييونية ،وسعت مباشرة الى تأسيس ذلؾ الفيـ االستشراقي الذي تكوف
في العصر االمبريالي ،وترسخ في القناعات الغربية إزاء ما يمكف أف يكوف عميو التاريخ بالنسبة
الى ما ورد في التوراة.
[ .]1كماؿ الصميبي :التوراة جاءت مف جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .53
50
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
"فعندما قامت الحركة الصييونية في نياية القرف التاسع عشر ،طرح مشروع العودة
الى أرض الميعاد (فمسطيف) إلقامة دولة ييودية عمييا عمى أساس المرويات التوراتية
نفسيا ،األمر الذي وافؽ االتجاه السائد آنذاؾ والذي فرض حتى عمى الباحثيف العرب،
حيث كاف يعرض تاريخ فمسطيف القديـ في إطار مف االلتزاـ بما ىو وارد في أسفار العيد
القديـ وفقاً لمترتيب التاريخي الذي دوف في ىذه األسفار ،باعتبار أف االلتزاـ بيذا ىو جزء
مف االيماف بكامؿ ما ورد في الكتاب المقدس الذي ال يجوز إعماؿ التمحيص أو التأمؿ
أو المراجعة ،لما ورد فيو"[.]1
في نفس الوقت ،شيد مطمع القرف التاسع عشر ظيور تيار يتبنى اتجاىاً نقدياً إزاء
النصوص الكتابية -نصوص الكتاب المقدس -يرمي الى نزع صبغة الصحة والمصداقية
المطمقة عنيا ،واخضاعيا لمنقد المنيجي العممي ،ومف ثـ الحكـ عمييا حكماً يقوـ أساساً عمى
العمـ ال عمى الظف فحسب ،وقد ساىمت المناىج النقدية مع بعض العموـ االنسانية األخرى في
إعطاء أحكاـ ىذا التيار عمى التوراة طابعاً كبي اًر مف الصحة العممية ،وأبرزىا عمـ التاريخ وفقو
المغة المقارف (الفيمولوجيا) وعمـ اآلثار (األركيولوجيا) ،وأيضاً عمـ المغات القديمة[ -]2وىو التيار
أو االتجاه الذي عرؼ بتيار "النقد التوراتي أو تيار "نقد التوراة".
في تمؾ األثناء ولعدة عقود أخرى الحقة ،كاف عمـ اآلثار في قبضة اتجاه أحادي مف
المستشرقيف وعمماء التاريخ واآلثار ،الذيف سعوا بشكؿ مباشر الى إخضاع نتائج البحوث
والمسوح األثرية في المنطقة العربية وتكييفيا لتكوف بمثابة أدلة عممية عمى مصداقية التوراة،
وىو ما دفعيـ الى التعسؼ كثي اًر لصالح الراوية التوراتية ،وتزييؼ نتائج البحوث العممية
واألثرية ،إال أف تمؾ المساعي والجيود التي بذلت فييا سرعاف ما أثارت مشكالت جمة فيما
[ .]1ابراىاـ مالمات ،حييـ تدمور :العبرانيوف وبنو إسرائيؿ في العصور القديمة بيف الرواية التوراتية
واالكتشافات األثرية ،ترجمة وتقديـ :رشاد عبد اهلل الشامي ،سمسمة الييود واسرائيؿ -الجزء ( ،)2الطبعة األولى،
المكتب المصري لتوزيع المطبوعات ،القاىرة .2551 ،مقدمة المترجـ ص .23
[ .]2يوسؼ الكالـ :تاريخ وعقائد الكتاب المقدس بيف اشكالية التقنيف والتقديس -دراسة في التاريخ النقدي
لمكتاب المقدس في الغرب المسيحي ،الطبعة األولى ،صفحات لمدراسات والنشر ،دمشؽ .2559 ،ص .29
51
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
بعد ،والتي برزت نتيجة لمتناقضات الشديدة التي بدت مكشوفة ومف الصعب القبوؿ بيا .فظير
اتجاه آخر مف عمماء اآلثار التوراتييف سعى الى التوفيؽ بيف الرواية التوراتية مف جية
والكشوفات األثرية مف جية أخرى ،وىو االتجاه الذي خفؼ قميالً مف حدة الممارسات التعسفية
التي قاـ بيا التيار السابؽ.
إال أنو ولمرة أخرى بعد عدة عقود ،وبالتحديد منذ مطمع النصؼ الثاني مف القرف العشريف
بدأت تظير تناقضات أخرى ال يمكف معالجتيا ،بؿ ويستحيؿ معيا أي توفيؽ بيف الرواية
التوراتية مف جية ،والحقائؽ األثرية مف جية أخرى .وىو ما أدى الى ظيور ما يسمى ب ػ
"المشكمة التوراتية" ،أي استعصاء ىذا التوفيؽ كمما تقدمت التقنيات األثرية وتزايدت اليوة
الواسعة بيف تاريخ فمسطيف المستمد مف آثارىا والتاريخ التوراتي"[.]2
برزت المشكمة التوراتية وتطورت ،نتيجة لمجيود الكبيرة التي بذليا تيار نقد التوراة.
فقد "ألقت تمؾ الدراسات النقدية ظالالً مف الشؾ العميؽ في إمكانية كتابة تاريخ لػ
"إسرائيؿ" استناداً إلى روايات التوراة ،ووصؿ بعض المؤرخيف إلى حد التشكيؾ مف حيث
المبدأ ،بإمكانية كتابة تاريخ مف ىذا النوع .فالبحث عف تاريخ "إسرائيؿ" مازاؿ غامضاً كما
كاف دوماً .وأي محاولة لمتوفيؽ بيف البينات التوراتية وغير التوراتية إثباتاً لتاريخانية
[ .]1يوسؼ كفروني :التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي :نقض تاريخانية التوراة ،مف مقدمة كتاب :توماس ؿ.
طومسوف :التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي ،ترجمة :صالح عمى سوداح ،الطبعة األولى ،بيساف لمنشر والتوزيع،
بيروت .1995 ،ص (ب).
[ .]2محمد األسعد :مستشرقوف في عمـ اآلثار :كيؼ ق أروا األلواح وكتبوا التاريخ ،الطبعة األولى ،دار مسعى،
الدار العربية لمعموـ -ناشروف ،بيروت .2515 ،ص .33
52
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
إسرائيؿ ،سرعاف ما دخمت مرحمة االنييار ،وىي األزمة التي ما زالت قائمة ومستمرة حتى
اليوـ""[.]1
ومع التقدـ في البحوث األثرية في فمسطيف وحوالييا طواؿ ستينيات وسبعينيات القرف
العشريف ،تضاعفت النقمة الشديدة لدى نقاد التو ارة عمى الرواية التوراتية ،وفي الوقت نفسو انقسـ
ىذا التيار الى اتجاىيف:
اال تجاه األوؿ :ذىب أصحابو مف عمماء اآلثار االسرائيمييف والغربييف الى أف عمـ اآلثار
أدى الى تصحيح الكثير مف المغالطات والمبالغات التوراتية ،مف حيث أثبتت األدلة األثرية
أحداثاً أو شخصيات ذكرت بالفعؿ في التوراة ،ولكف ليس كما تصفو التوراة بؿ وفؽ سيناريوىات
مغايرة تماماً ليا ،وبالتالي فقد احتفظ ىذا االتجاه بالتوراة كمصدر ضمف منيجية بحث ثالثية
المصادر تتصدرىا نتائج الكشوفات األثرية ،ثـ السجالت التاريخية ،ثـ النص التوراتي.
االتجاه الثاني :تبنى أصحابو موقفاً بمغ مبمغاً شديداً مف التطرؼ إزاء أي قبوؿ بالنص
التوراتي كتاريخ ،فرفضوا رفضاً قاطعاً أي ربط بيف التوراة ونتائج عمـ اآلثار ،واعتبروا أف أي
شيء مف قبيؿ ىذا لف يكوف إال تحريفاً وتزوي اًر لمحقائؽ العممية ،وأف ما جادت بو الكشوفات
األثرية ال ينبغي أف يفسر عمى أنو متصؿ مف قريب أو بعيد بما جاء في التوراة ،حتى لو ظير
أف ىناؾ في التو ارة شيئاً مما أظيرتو تمؾ الكشوفات ،إال أف ىذا االتجاه تـ تعطيمو.
الجدير بالذكر ،أف االتجاه األخير ىو الذي سحر ألباب الباحثيف العرب ،فانحازوا إليو
انحيا اًز تاماً ،ورفضوا معو النظر الى بقية اآلراء النقدية التي تبناىا االتجاه األوؿ.
"عمى كؿ حاؿ ،فإنو ويوماً بعد يوـ ،صارت األبحاث والتقنيات األثرية الحديثة
تقوض الرواية الشعبية الشائعة عف "استعباد االسرائيمييف" في مصر ،وخروجيـ الى
سيناء ،ثـ التفافيـ حوؿ "فمسطيف" وغزوىا مف الشرؽ ،وتحطيـ أسوار أريحا ،وانشاء
مممكة مزدىرة ،ثـ انقساـ ىذه المممكة واضمحالؿ شظاياىا بفعؿ الغزوات ،آشورية وبابمية
[ .]1أحمد الدبش :كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .15
53
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
وفرعونية .والسبب ىو أنو بعد أف مسحت أرض فمسطيف وبقية أراضي الدوؿ المجاورة
طواؿ أكثر مف قرف وأبرزت الحضارات القديمة في ىذه المنطقة آثارىا ونصوصيا
تكوف لدى عمماء اآلثار "سيناريو" قائـ عمى أدلة ممموسة ال يتخممو حدث مف
وسجالتياّ ،
أحداث الروايات التوراتية ،بؿ أف بعضيـ مضى الى القوؿ أف مممكة اسرائيؿ ليست إال
مممكة عمى الورؽ"[.]1
بغض النظر عف موقؼ الباحثيف العرب ،فإف جميع اتجاىات وآراء تيار نقد التوراة مف
المستشرقيف وعمماء اآلثار الغربييف -وأغمبيـ مف الييود ،كانت ومازالت عمى إجماع عمى أف
نتائج عمـ اآلثار أثبتت مدى ما يتخمؿ الرواية التوراتية مف المبالغات والتيويؿ والتحريؼ
واألخطاء ،التي يصعب معيا القبوؿ بالتوراة كمصدر لمتاريخ ،بما يعني أف التوراة قد فقدت
مصداقيتيا المطمقة تمؾ ،وأصبحت محط شكوؾ وارتياب الكثيريف بؿ وفي محؿ رفض البعض
منيـ تماماً ،وبيذا اكتممت الطبيعة العامة ألزمة مصداقية التوراة أماـ الحقائؽ التي كشفيا عمـ
اآلثار.
"فبعد أف كانت الجيود في البداية متجية نحو فؾ خطوط تمؾ النصوص والتغمغؿ
داخميا ،لعميا تجد خيطاً يعطي لرواية العيد القديـ (التوراة) المصداقية ،جاءت نتائج ىذه
األبحاث فزادت مف أزمة الثقة وفقداف تمؾ المصداقية ،مما حدا بكثير مف العمماء الى
اعتبار روايات العيد القديـ مجرد وثائؽ مقتبسة مف األدب التاريخي والتشريعي لحضارة
مصر وبابؿ وما خمفتو الشعوب السابقة ،بؿ وجدنا مف النقاد مف نعتيا بالتوراة الكنعانية..
وىكذا أجيز عمـ اآلثار عمى تاريخ الحدث التوراتي ،وفؾ ارتباطو باألرض المزعومة
داخؿ الروايات التوراتية"[.]2
[ .]1محمد األسعد :مستشرقوف في عمـ اآلثار :كيؼ ق أروا األلواح وكتبوا التاريخ ،مرجع سابؽ ،ص .33
[ .]2مصطفى زرىار :مقاربات في دراسة النص التوراتي -سفر راعوت أنموذجاَ ،صفحات لمدراسات والنشر
والتوزيع ،دمشؽ .2512 ،ص ..366
54
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
أترؾ المجاؿ لمباحث الفمسطيني "أحمد الدبش" ليروي لنا جزًء ميماً مف القصة ،إذ يقوؿ:
"منذ أواخر سبعينيات القرف العشريف ومطمع ثمانينياتو ،بدأ جيؿ جديد مف عمماء
اآلثار باستخداـ وتطوير أسموب مستحدث في التنقيب ىو أسموب المسح الميداني الكامؿ
لمناطؽ جغرافية معينة ( ،)Regional Surveyبدالً مف الحفر في مواقع متباعدة
ومنعزلة عف بعضيا .وقد قامت "جامعة تؿ أبيب" بتجييز فرؽ تنقيب متنوعة مزودة
بعمماء مف شتي االختصاصات لمساعدة عمـ اآلثار ،قاـ أفرادىا سي ارً عمى األقداـ بمسح
كؿ متر مف مناطؽ اليضاب الفمسطينية ،وعممت خالؿ العشريف سنة الماضية عمى
جمع معمومات غزيرة أحدثت ثورة في عمـ آثار فمسطيف .وكمما كانت المعمومات
األركيولوجية تتراكـ ويتـ الربط بينيا وتحميميا تبيف لممؤرخيف واآلثارييف صعوبة مالءمة
ىذه المعمومات مع الرواية التوراتية عف أصوؿ "إسرائيؿ" في كنعاف/فمسطيف ،وعف نشوء
ما يدعى بالمممكة الموحدة ومممكتي "السامرة وييوذا" .وىذا ما دفع واحداً مف ألمع عمماء
اآلثار في "إسرائيؿ" وىو "إ .فنكمشتايف" ( )Israel Finkelstienإلى الدعوة لتحرير عمـ
اآلثار "اإلسرائيمي" مف سطوة النص التوراتي .ففي ندوة عقدتيا جامعة بف غوريوف عاـ
1998ـ وموضوعيا أصوؿ "إسرائيؿ" قاؿ "فنكمشتايف" بأف المصدر التوراتي الذي تحكّـ
بماضي البحث في أصوؿ "إسرائيؿ" قد تراجعت أىميتو في الوقت الحاضر ،ولـ يعد مف
المصادر الرئيسية المباشرة .فأسفار التوراة التي دونت بعد وقت طويؿ مف األحداث التي
تتصدى لروايتيا ،تحمؿ طابعاً الىوتياً يجعميا منحازة ،األمر الذي يجعؿ مف البحث عف
بذور تاريخية في المرويات التوراتية عممية بالغة الصعوبة ،ىذا إذا كانت ممكنة مف حيث
األصؿ .مف ىنا يرى "فنكمشتايف" ضرورة استقراء الوقائع األركيولوجية استقراء موضوعياً
وح ارً ،بمعزؿ عف الرواية التوراتية"[.]1
البد مف التأكيد ىنا ،عمى أف الموقؼ الرافض لالستمرار في إقحاـ النص التوراتي في
شؤوف عمـ اآلثار ،لـ يكف ناتجاً عف عدـ الوصوؿ الى أدلة آثارية تتصؿ بتاريخ التوراة
[ .]1أحمد الدبش :كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .16 -15
55
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
وتاريخ المنطقة بشكؿ أو بآخر ،بؿ عمى العكس مف ذلؾ ،كاف ناتجاً عف اكتشاؼ آثار كشفت
عف عدـ تطابؽ بينيا وبيف ما تسرده الرواية التوراتية .فمـ تقدـ الكشوفات األثرية أي دليؿ
أثري عمى األحداث والشخصيات الكبرى التي في التوراة ،كالعبور االبراىيمي ،والخروج مف
مصر ،وال عف المممكة االسرائيمية الكبرى الموحدة بذلؾ التيويؿ الذي يرد عنيا في التوراة ،وال
عف شخصيات يعقوب ويوسؼ وموسى وغيرىـ مف اآلباء الكبار ،فيذه األحداث وىذه
الشخصيات ال دليؿ عمييا حتى اآلف .في حيف تـ التوصؿ الى بعض األدلة األثرية التي كشفت
عف جوانب ميمة في تاريخ المنطقة ،لـ يرد ليا أو عنيا أي ذكر في التوراة ،والتوصؿ أيضاً
الى أدلة أخرى صححت بعض التناقضات المحيرة مما اكتظت بو مساحة النص التوراتي[.]1
في كؿ األحواؿ ،فإف عمـ اآلثار قدـ أدلة عمى الوجود الضئيؿ والمحدود لمغاية لذلؾ
الكياف الذي يمكف أف يطمؽ عميو اسـ "إسرائيؿ" في تاريخ فمسطيف الواسع والكبير والثري ،فقد
أثبتت األدلة األثرية أف فمسطيف لـ تكف موطف قومية بعينيا أو ثقافة بعينيا ،بؿ كانت منطقة
اختالط تداولت عمييا أقواـ وحضارات وأعراؽ وثقافات كثيرة ،انصيرت بعضيا في بوتقة ثقافة
مشتركة أو ما شابو ،واستطاعت أف تخمؽ ليا وجوداً ممي اًز عمى سبيؿ العموـ ،وأفنت الفوارؽ
بيف كياناتيا عمى نحو يصعب الحديث معو عف أي أعراؽ كنعانية أو فمسطينية أو اسرائيمية أو
آرامية أو آمورية في تاريخيا القديـ ،فكانت فمسطيف طواؿ معظـ عصورىا مساحة لكؿ ذلؾ
التنوع الفريد ومسرحاً إلذابة كتؿ الفروؽ والتمايزات بيف سكانيا ،وأي وجود إلسرائيؿ ليس إال
وجود لحظي قصير وضئيؿ القامة واألثر.
ىكذا ،فمنذ ثمانينيات القرف العشريف وحتى بداية القرف الجاري ،كانت مصداقية التوراة قد
صرح بو عدد غير قميؿ مف عمماء
أصبحت عمى محؾ أقوى وأعنؼ أزمة في تاريخيا ،وىذا ما ّ
[ .]1سنتعرض ونناقش مسألة األدلة األثرية عمى وجود اسرائيؿ في تاريخ فمسطيف القديـ ،في فصؿ الحؽ،
فميس ىذا مقاـ الحديث والتفصيؿ بشأنيا ،نظ اًر لحاجة الباحث الى التركيز عمى ىدؼ بعينو في كؿ فصؿ مف
فصوؿ ىذه الدراسة.
56
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
[]1
( ،)Zeew Herzogالذي اآلثار االسرائيمييف ،وعمى رأسيـ عالـ اآلثار "زئيؼ ىيرتسوغ"
قاؿ:
"رويداً ،رويداً بدأت تتبمور الثقوب في الصورة وبشكؿ متناقض نشأ وضع بدأت فيو
المكتشفات الكثيرة تزعزع المصداقية التاريخية لموصؼ التوراتي بدالً مف تعزيزىا.
وبدأت مرحمة األزمة وىي مرحمة ال تنجح فييا النظريات في حؿ عدد كبير ومتزايد
مف األمور المجيولة وتأخذ في إيراد تأويالت غير مالئمة تماماً ،وبذلؾ يمؼ الغموض
لوحة البازلت التي تبنييا المكتشفات األثرية ليتضح أنيا غير قابمة لالستكماؿ"[.]2
ال مجاؿ لمتفصيؿ في ىذه المسألة ،لكني أحيؿ القارئ لمتحقؽ مف األمر مف كافة أبعاده
ومف مختمؼ وجيات النظر العممية لعمماء اآلثار الييود المعاصريف ،الى ثالثة أعماؿ ميمة،
كاف ليا األثر القوي في تحطيـ اسطورة الصدؽ المطمؽ لمنص التوراتي ،وبالتالي تحطيـ ونقض
مصداقيتيا:
[ .]1زئيؼ ىيرتسوغ ،عالـ آثار اسرائيمي معاصر ،أحد أبرز عمماء اآلثار اإلسرائيمييف ،وأستاذ محاضر في
جامعة تؿ أبيب ،نشر مقالتو الشييرة "عمـ اآلثار يقوؿ ال شيء عمى األرض" في صحيفة ىاآرتس االسرائيمية
في نياية اكتوبر مف العاـ ،1999أصبحت مقالتو ىذه مرجعاً حيوياً ،وشيادة اسرائيمية معاصرة ودامغة بعدـ
صحة الرواية التاريخية ،واعتراؼ أكاديمي بالظمـ الذي وقع عمى الفمسطينييف جراء االدعاءات الصييونية التي
بررت احتالؿ أرضيـ مف قبؿ الكياف االسرائيمي .مجموعة مف المؤلفيف :دراسات في التراث الثقافي لمدينة
القدس ،مركز الزيتونة لمدراسات واالستشارات ،بيروت .2515 ،ص .442
[ .]2ابراىاـ مالمات ،حييـ تدمور :العبرانيوف وبنو إسرائيؿ في العصور القديمة بيف الرواية التوراتية
واالكتشافات األثرية ،مرجع سابؽ ،ص .9 -8
57
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
[]1
إلى "نقض تاريخية التوراة" أي عدـ االعتماد عمى التوراة كتاباً لتاريخ اإلسرائيمي"
المنطقة والحضارات ،والى اعتماد الحفريات األركيولوجية (األثرية) وثروة اآلثار الكتابية
القديمة كمصادر إلعادة كتابة تاريخ المنطؽ"[.]2
"العالّمة "كيث وايتالـ" ،أستاذ العموـ الكتابية في قسـ الدراسات الالىوتية بجامعة
سترلنغ بالمممكة المتحدة ،بمراجعة المؤلفات التي تعاممت مع تاريخ فمسطيف القديـ ،وأدرؾ
في حينو مدى توغؿ الخطاب االستشراقي في الكتابات عف تاريخ فمسطيف .وأشار إلى أف
ىناؾ عممية طمس متعمد ومبرمج مف قبؿ الحركة الصييونية لكثير مف الدالالت
التاريخية لممكتشفات األثرية في فمسطيف ومحاولة تفسيرىا بطريقة مغموطة في أغمب
[]3
إلى األحياف .فتوصؿ في كتابو "تمفيؽ إسرائيؿ" التوراتية طمس التاريخ الفمسطيني"
"أف صورة ماضي "إسرائيؿ" ،كما وردت في معظـ فصوؿ الكتاب العبري ،ليست إال قصة
خيالية ،أي تمفيؽ لمتاريخ"[.]4
[]1
( Neil Asher ،)Finkelsteinوزميمو المؤلؼ والمؤرخ األمريكي "نيؿ اشر سيمبرماف"
[ .]1توماس ؿ .طومسوف :التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي ،ترجمة :صالح عمى سوداح ،الطبعة األولى،
بيساف لمنشر والتوزيع ،بيروت.1995 ،
[ .]2أحمد الدبش :كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .16
[ .]3كيت وايتالـ :اختالؽ إسرائيؿ القديمة -اسكات التاريخ الفمسطيني ،ترجمة سحر الينيدي ،مراجعة :فؤاد
زكريا ،سمسمة عالـ المعرفة ،العدد ( ،)249المجمس الوطني لمثقافة والفنوف واآلداب ،الكويت ،سبتمبر .1999
[ .]4أحمد الدبش :كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .16
[ .]5اسرائيؿ فنكمشتايف ،رئيس قسـ اآلثار في جامعة تؿ أبيب في فمسطيف المحتمة (اسرائيؿ) ،وبروفسور في
القسـ نفسو ،مف أصؿ ألماني ،حصؿ عمى الماجستير عاـ ،1978ثـ الدكتوراه في عاـ ،1983في عمـ اآلثار
مف جامعة تؿ أبيب ،شغؿ منصب مدير أو مدير مشارؾ لمعديد مف أعماؿ التنقيب اآلثارية في مناطؽ مختمفة
مف فمسطيف منذ ،1971ألؼ العديد مف الكتب في نتائج عمـ اآلثار ،فضالً عف العديد مف المقاالت المنشورة
في دوريات مختمفة أىميا مجمو المعاىد األمريكية لمدراسات الشرقية ،ومجمة عمـ اآلثار األمريكية .أنظر:
58
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
،)Silbermanفي كتابيما الشيير" :التوراة الييودية مكشوفة عمى حقيقتيا -رؤية جديدة
إلسرائيؿ القديمة وأصوؿ نصوصيا المقدسة عمى ضوء اكتشافات عمـ اآلثار".
ىذه األعماؿ الثالثة لعمماء آثار وباحثيف ييود ،ينتموف الى مدرسة عمـ اآلثار التوراتي،
كشفوا فييا عف حقيقة الوضع الذي كاف سائداً فيما يتعمؽ بنتائج الكشوفات األثرية في مقابؿ
التاريخ التوراتي ،وكشفوا عف الكثير مف األخطاء والعمميات التعسفية التي ارتكبيا الكثير مف
المؤرخيف وعمماء اآلثار التوراتييف طواؿ الفترة التي سبقت ذلؾ ،منذ بداية أعماؿ التنقيب األثري
في فمسطيف وحوالييا.
بيد أف ىذا التيار نفسو لـ يتحرر قطعياً مف تأثير النزعة التوراتية ،إذ يعترؼ "كيت
وايتالـ" منتقداً نفسو وتيار نقد التوراة الذي انتمى إليو ،قائالً:
"عمى الرغـ مف أف ىذا التيار اعتقد أنو تحرر مف قيود الدراسات التوراتية في
بحثيا عف إسرائيؿ القديمة ونجح في تفكيكو لمنظريات السائدة ،وبخاصة في تركيزه عمى
إظيار أف الفريؽ األوؿ لـ يعمؿ حسابا لممعمومات األثرية المتزايدة مف المنطقة ،واستمر
في اعتبار التوراة كتابا تاريخيا ال يقبؿ الجداؿ ،فإنو لـ يتمكف مف اإلفالت مف قبضة
الدراسات التوراتية التقميدية فظؿ سجينا ليا ،إذ ساىـ في إسكات التاريخ الفمسطيني
وطمسو بدال مف إيجاد فضاء لو لكي يعبر عف نفسو كموضوع قائـ بذاتو"[.]2
اسرائيؿ فنكمشتايف ،نيؿ إشر سيمبرماف :التوراة الييودية مكشوفة عمى حقيقتيا -رؤية جديدة إلسرائيؿ القديمة
وأصوؿ نصوصيا المقدسة عمى ضوء اكتشافات عمـ اآلثار ،ترجمة وتعميؽ :سعد رستـ ،صفحات لمدراسات
والنشر ،دمشؽ -سوريا( ،ب .ت) .ص .437
[ .]1نيؿ أشر سيمبرماف ،مؤلؼ ومؤرخ أمريكي ييودي األصؿ ،ذو اىتماـ خاص بالتاريخ ،وعمـ اآلثار
والتفسيرات العامة ،زميؿ سابؽ ل ػ غوغنيايـ ،وخريج جامعة ويزيمياف في الواليات المتحدة ،مؤلؼ تسعة كتب في
مواضيع آثارية ،ومحرر مساىـ في مجمة عمـ اآلثار األمريكية ،وفي عدة دوريات عمـ آثارية أخرى ،ولديو خبرة
في توصيؿ االكتشافات اآلثارية لعامة الناس .المرجع السابؽ ،ص .438
[ .]2المقصود بالفريؽ األوؿ مف العمماء التوراتييف ،أولئؾ الذيف اعطوا األولوية لمرواية التوراتية وأخضعوا نتائج
عمـ اآلثار ليا ،مف حيث يعتبروف التوراة كتاباً تاريخياً صادقاً عمى نحو مف اإلطالؽ ال يمكف التشكيؾ بو.
وأبرزىـ أولبرايت وبرايت ( )Lbright and Brightوآلت ونوث ( ،)Alt and Nothومندنيوؿ وغوتفالد
59
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
يتأكد لنا اعتراؼ "وايتالـ" ىذا مف خالؿ ما خمصت إليو أبحاثو األثرية ،وىو:
"أف فمسطيف القديمة تعاقبت عمييا عدة حضارات ،لـ تكف اسرائيؿ -بحسب
األدلة األثرية المتوصؿ إلييا -تمثؿ إال خيطاً رفيعاً في نسيج التاريخ الفمسطيني
الغني"[.]1
ونفس الفكرة خمص إلييا وأعمنيا عالـ اآلثار االسرائيمي المعاصر "ىيرتسوغ" ،بقولو:
"الحقيقة التي تتضح رويداً رويداً بأف مممكة داود وسميماف الموحدة التي
وصفتيا التوراة عمى أنيا دولة عظمى إقميمية ،كانت في أقصى األحواؿ مممكة قبمية
صغيرة"[.]2
كما يتأكد لنا األمر مف المنيج الذي أقره "توماس ؿ .طومسوف" لمبحث في تاريخ اسرائيؿ
المستقؿ وكتابتو ،فقد أكد عمى المنيج الثالثي لدراسة تاريخ اسرائيؿ التوراتية:
"لكتابة تاريخ مستقؿ إلسرائيؿ القديمة ،البد مف األخذ بثالثة أشكاؿ مختمفة مف
البينات المباشرة المستخمصة مف المصادر األولية ،وىي )1( :الحفريات األركيولوجية
وتحميميا ،وتصنيؼ وتفسير الحقائؽ المستخمصة مف األركيولوجيا ونماذج االستيطاف
القديمة في فمسطيف المعروفة جغرافيا واقميمياً )2( .ثروة اآلثار الكتابية القديمة المرتبطة
مباشرة أو مداورة بفمسطيف القديمة ،الشعب ،جيرانو ،اقتصاده ،البنى الدينية والسياسية،
نمط الحياة والحوادث المعروفة )3( .المرويات التوراتية التي تعكس صراحة أو ضمناً
المجاؿ الذي تشكمت فيو والذي يرسـ تصور اسرائيؿ التي نبحث عف أصميا"[.]3
( ،)Mendenhall and Gottwaldوغيرىـ .أنظر :كيت وايتالـ :اختالؽ إسرائيؿ القديمة -اسكات التاريخ
الفمسطيني ،مرجع سابؽ ،ص .8
[ .]1المرجع السابؽ ،ص .8
[ .]2ابراىاـ مالمات ،حييـ تدمور :العبرانيوف وبنو إسرائيؿ في العصور القديمة بيف الرواية التوراتية
واالكتشافات األثرية ،مرجع سابؽ ،ص .12
[ .]3توماس ؿ .طومسوف :التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي ،مرجع سابؽ ،ص .91
60
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
"أف ال تاريخ يقدمو عمـ اآلثار إلسرائيؿ في فمسطيف القديمة قبؿ القرف الثالث عشر
قبؿ الميالد ،وعمى أف بني اسرائيؿ لـ يكونوا إال جزءً مف السكاف األصمييف لفمسطيف
(الكنعانييف) ،فقد كشؼ عمـ اآلثار وعمى نحو مدىش أف الناس الذيف كانوا يعيشوف في
تمؾ القرى الفمسطينية إنما كانوا مف السكاف األصمييف لكنعاف ،والذيف طوروا ألنفسيـ
بشكؿ تدريجي فحسب ىوية عرقية ،أصبح باإلمكاف إطالؽ اصطالح "االسرائيمييف"
عمييا"[.]1
ىؤالء جميعاً مف عمماء اآلثار نقاد التوراة ،ال ينكروف بأي حاؿ مف األحواؿ أف اسرائيؿ
وجدت بالفعؿ في فمسطيف القديمة ،بؿ ولدييـ أدلة أثرية عمى ذلؾ.
بيد أف موقفيـ مف التوراة ناتج عف أف ما تقولو المكتشفات اآلثارية ليس مطابقاً لما تقولو
مرويات التوراة ،وأنيا – أي اآلثار -قدمت تاريخاً آخ اًر إلسرائيؿ القديمة ،مختمفاً تماماً عما
ترويو أسفار التوراة ،وبالتالي فالتوراة ليست إال كتاب أدب شعبي ال يمكف التعويؿ عميو في
أساطيرً وقصصاً منتحمة مف بعض ثقافات
ا مجاؿ التاريخ ،أو أنيا مجرد مرويات ممفقة تحكي
المنطقة القديمة ،وال يصح أبداً اعتبارىا مرجعاً لمتاريخ ،أل ف كؿ الحقائؽ العممية التي قدميا
عمـ اآلثار تنقض مصداقيتيا وتنسفيا تماماً.
نخمص مما سبؽ ،الى أف عمماء اآلثار الغربييف والييود منيـ بالذات أصبحوا عمى قناعة
تامة بأنو يمكنيـ االعتماد بثقة كاممة عمى الكشوفات األثرية في إثبات أف إلسرائيؿ وجوداً
تاريخياً في فمسطيف القديمة ،وأف ال حاجة ليـ الى التوراة التي فقدت أماـ عمـ اآلثار كؿ
مصداقيتيا ،وأف الوجود الضئيؿ والمحدود جداً إلسرائيؿ القديمة يكفي ليدـ ونسؼ كافة
االدعاءات الصييونية المتعمقة بأرض اآلباء واألجداد والعبور والخروج واالمبراطورية الضخمة
[ .]1اسرائيؿ فنكمشتايف ،نيؿ إشر سيمبرماف :التوراة الييودية مكشوفة عمى حقيقتيا -رؤية جديدة إلسرائيؿ
القديمة وأصوؿ نصوصيا المقدسة عمى ضوء اكتشافات عمـ اآلثار ،مرجع سابؽ ،ص .138
61
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
وما الى ذلؾ مف القصص الممفقة ،والتي ثبت أنيا ال أساس ليا مف الصحة ،وانو ال مناص مف
إعادة قراءة تاريخ اسرائيؿ كجزء صغير مف التاريخ الفمسطيني.
وعمى الرغـ مف قوة الحجج التي قدميا تيار نقد التوراة ،إال أف طروحاتيـ قوبمت برفض
شديد مف التيار التقميدي المتمسؾ بتاريخيانية التوراة ومصداقيتيا المطمقة .فيؤالء يؤمنوف بأف
كؿ ما ورد في التوراة صحيح وال يمكف نقضو بيذه السيولة ،واذا لـ ينطبؽ ىذا التاريخ التوراتي
عمى فمسطيف فيذا ال يعني أنو لـ يحدث ،بؿ يعني أنو حدث في فضاء جغرافي أوسع ،وبالتالي
فالبد مف توسيع نطاؽ البحث الجغرافي عف بقية مواطف التوارة.
ىكذا إذف ،فقد جاءت نظرية الصميبي في توقيتيا المناسب بالضبط ،ال إلثبات شيء
كما يوىمنا روادىا ،بؿ إلعطاء التوراة فرصة جديدة ،ولإلبقاء عمى قبس كبير مف األمؿ
بمصداقيتيا المطمقة .فأزمة التوراة منذ منتصؼ ثمانينيات القرف الماضي وحتى اليوـ ،ىي
أزمة مصداقية ،ويجب إيجاد مخرج لمتوراة مف أكبر وأعنؼ أزمة واجيتيا في التاريخ.
62
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
)(3
قمت مف قبؿ ،أف االستدالؿ الثاني الذي أقامو رواد نظرية جغرافية التوراة مف الباحثيف
العرب ،يفيد بأف عمـ اآلثار لـ يقدـ أي دليؿ حتى اآلف عمى األحداث التوراتية بأنيا وقعت
بالفعؿ في فمسطيف ،وىذا االستدالؿ أدى الى خمؽ الفرض الرئيسي األوؿ ليذه النظرية ،وىو أف
أحداث التوراة صحيحة ولكنيا لـ تحدث في فمسطيف ،بؿ في مسرح جغرافي آخر ،والذي بات
يدعمو ذلؾ التشابو المدىش بيف أسماء المناطؽ المذكورة في التوراة ،والتي لوحظ عف طريؽ
الصدفة أنيا موجودة في نسؽ طبوغرافي وجغرافي واحداثي عجيب في بعض المناطؽ مف جزيرة
العرب.
جاء ىذا الفرض متسقاً مع ما كانت عميو األوضاع في ثمانينيات وتسعينيات القرف
العشريف ،حيث كانت التوراة والباحثيف التوراتييف ،يواجيوف أعنؼ نقد عممي في تاريخ البحوث
األثرية المستندة الى الرواية التاريخية لمتوراة .عندما وضعت األدلة األثرية المكتشفة في فمسطيف
ومصر وسوريا والعراؽ مصداقية النص التوراتي عمى المحؾ ،وأجيزت عمييا تماماً .فبعد أف
كاف يفترض أف أي آثار يمكف اكتشافيا في تمؾ المناطؽ البد وأف تأتي لتدعـ صحة ومصداقية
التوراة ،حدث العكس مف ذلؾ تماماً ،ومف ثـ فقد وقعت التوراة وبحوث المؤرخيف التوراتييف تحت
مطرقة النقد الشديد ،بؿ وتخمؽ تيار كامؿ يدعو الى التخمي عف دراسة تاريخ المنطقة عمى
أساس التاريخ التوراتي ،الذي ثبت أنو يفتقد الى المصداقية ويعتريو الكثير مف التناقض والزيؼ.
في ىذا التوقيت ظيرت نظرية "كماؿ الصميبي ،ومع تفاقـ واتساع نطاؽ أزمة مصداقية
التوراة في تسعينيات القرف العشريف ،برز رواد النظرية اآلخروف مف الباحثيف العرب ،والذي
يبدو أف جيودىـ قد اتجيت بشكؿ مباشر نحو انقاذ التوراة ،وفتح باب آخر لإلبقاء عمى افتراض
63
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
مصداقيتيا المطمقة ،أكثر ما أنيا اتجيت بالفعؿ نحو تفنيد ادعاءاتيا وىدميا ،وىذا ما يؤكدونو
ىـ بأنفسيـ وبصيغ صريحة ال لبس فييا وال غموض.
األساس الجوىري الذي تستند إليو ىذه النظرية والقاعدة الصمبة التي تقوـ عمييا ،ىو
القوؿ بأف :الرواية التاريخية التي تسردىا التوراة صحيحة وأف ما وقع عميو التزوير في
التوراة ىو في تحديد جغرافيتيا .فيذا ما صرح بو الصميبي حرفياً ،بقولو:
"في الدراسة الراىنة ،ستقمب األمور رأساً عمى عقب .وبدالً مف أخذ جغرافية التوراة
العبرية كمسممة ومناقشة صحتيا كتاريخ ،سآخذ تاريخيتيا كمسممة وأناقش جغرافيتيا"[.]1
"رغـ كافة القناعات والقناعات المتجددة ،بقي ىاجس غياب الدليؿ األثري الحاسـ
يالحؽ كتابات وتحميالت أصحاب المنيجية التقميدية وفيميـ الجغرافي ،لكف في الوقت
نفسو ،كاف الرأي التقميدي ال يطرح كموضوعة قابمة لمتصويب أو القمب ،وانما كحقيقة
مطمقة غير قابمة النقاش عممياً[...لذا فإني وحتى يتحقؽ الشرط العممي -العثور عمى
دليؿ أثري في فمسطيف] ،سأبحث في جغرافية التوراة ضمف إطار جزيرة العرب ،وأقدـ
لمقراء ما أصؿ إليو مف نتائج"[.]2
يتناقض "زياد منى" مع نفسو ىنا ،فيو يسوغ لنفسو البحث عف جغرافية التوراة في إطار
جزيرة العرب بسبب عدـ تحقؽ الشرط العممي وىو العثور عمى دليؿ أثري في فمسطيف ،مع أنو
ال يممؾ أي دليؿ أثري واحد في جزيرة العرب يبرر لو البحث فييا باعتبارىا جغرافية التوراة،
فمماذا ال يضع ىذا الشرط لنفسو أماـ جزيرة العرب؟! -ىذا ىو التناقض الثالث الذي أشرت إليو
مف قبؿ ،والذي وقع فيو جميع رواد النظرية.
[ .]1كماؿ الصميبي :التوراة جاءت مف جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .53
[ .]2زياد منى :جغرافية التوراة :مصر وبنو اسرائيؿ في عسير ،مرجع سابؽ ،ص .18 -17
64
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
باالنتقاؿ الى المفكر العربي "فاضؿ الربيعي" ،نجده يتبنى نفس الموقؼ ويصرح بأنو ال
يعترض عمى الرواية التاريخية لمتوراة ،وانما يقع مناط التأكيد في اعتراضو عمى انكار صمة ىذه
الرواية وأحداثيا بفمسطيف ،وذلؾ في سياؽ حديثو عف الموقع الحقيقي الذي حدث فيو السبي
البابمي ،إذ يقوؿ:
"لكف ،أيف وقع السبي البابمي ،وما حقيقتو؟ وبالطبع فنحف ال ننكر وقوع الحدث،
بؿ ننكر صمتو بفمسطيف ،وما يمكف الجزـ بو في ضوء الكثير مف األدلة األثرية
والتاريخية التي أقدميا-الربيعي يقدميا -أف التوراة التي استند إلييا كتاب التاريخ مف
التيار التوراتي لتأكيد وقوع السبي ،ال تشير البتة الى المكاف الذي وقعت فيو"[.]1
نفيـ مما تقدـ ،أف رواد ىذه النظرية بنوا نظريتيـ عمى النحو الذي تترتب فيو ثالثة أمور،
يتبيف لنا مف خالليا عالقة نظريتيـ بمدرسة االستشراؽ التوراتية وعمـ اآلثار التوراتي المتعصب
والمتطرؼ ،كاآلتي:
األمر األوؿ :أف القصة التوراتية كتاريخ ،رواية صحيحة جرت أحداثيا ووقائعيا فعالً ،وال
مجاؿ إلنكار ذلؾ[ -ىذه ىي قناعة عمماء اآلثار التوراتييف والمؤرخيف المتطرفيف لمتوراة في
الغرب ،وفي اسرائيؿ ،فضالً عف كونيا معتقد العامة مف الييود والمسيحييف].
األمر الثاني :أف أحداث التاريخ التوراتي ال عالقة ليا بفمسطيف ،وال تنطبؽ عمى جغرافيا
فمسطيف ،كما أف ال دليؿ أثري تـ العثور عميو في فمسطيف يتعمؽ بأحداث التوراة[ -ىذه الفكرة
ولدت في قمب مدرسة االستشراؽ التوراتي ،كما أثبتنا ذلؾ في الفصؿ األوؿ].
األمر الثالث :ىناؾ تشابو كبير بيف األسماء الجغرافية التوراتية واألسماء الجغرافية في
جزيرة العرب واليمف ،وىو ما يمزـ بإعادة تاريخ التوراة الى مسرحو الحقيقي -أي الى جزيرة
العرب واليمف[ -ىذه الفكرة ولدت بالصدفة كما قاؿ الصميبي والربيعي -والحقيقة أنيا إحدى
بنات أفكار المستشرقيف كما تبيف لنا مف قبؿ].
[ .]1فاضؿ الربيعي :حقيقة السبي البابمي ،مرجع سابؽ ،ص .7
65
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
ىكذا ،أعيد بناء الموقؼ االستشراقي المتعصب لمتوراة والمدافع عف مصداقيتيا المطعونة
بإحكاـ ،ولكف ىذه المرة ليس بأيدي المستشرقيف أو عمماء اآلثار التوراتييف ،بؿ بأيدي أصحابنا
رواد النظرية مف الباحثيف العرب .فاالفتراض الجوىري الذي تقوـ عميو ىذه النظرية ليس إال
مصداقية التاريخ التوراتي المطمقة ،في مقابؿ حصر الخطأ في الجغرافيا ،وىو الخطأ الذي يمكف
تصحيحو بإعادة وضع أحداث التوراة في جغرافيتيا الحقيقية كما يقوؿ بذلؾ جميع رواد النظرية.
"وفي الحقيقة ،فإنو منذ ظيور النقد المنيجي لمتوراة اعتبا ارً مف مطمع القرف الثامف
عشر الميالدي ،لـ تقـ مدرسة واحدة عمى القبوؿ المطمؽ لمرواية التاريخية باعتبارىا
تاريخاً حقيقياً غير خاضع لممناقشة أو النقد ،باستثناء االتجاه الالىوتي الذي يؤمف بأف
الكتاب في صيغتو الحالية -أي التوراة -ىو كممة اإللو الموحاة الى األنبياء .ثـ جاء
عصر االكتشافات األركيولوجية الكبرى في آشور وبابؿ عند منقمب القرف التاسع عشر،
وفي سورية مع مطمع القرف العشريف ،ليضع بيف أيدي الباحثيف التوراتييف معمومات
تاريخية ونصية وأركيولوجية ،لـ يسقطيا مف حسابو أحد قبؿ كماؿ الصميبي ،قط"[.]1
"السواح" ،موضحاً الى أي مدى بمغ الصميبي مف خالؿ نظريتو في إعطاء التوراة ّ يتابع
مصداقيتيا المطمقة عمى حساب كؿ األدلة والمرجعيات التاريخية واألثرية األخرى ،قائالً:
[ .]1فراس السواح :الحدث التوراتي والشرؽ األدنى القديـ :ىؿ جاءت التوراة مف جزيرة العرب -نظرية كماؿ
الصميبي في ميزاف النقد والحقائؽ العممية ،مرجع سابؽ ،ص .193
66
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
"وىو بعد أف شككنا – أي الصميبي -بكثير مف معموماتنا حوؿ تاريخ بالد الرافديف
والشاـ ومصر ،ورفض السجالت التاريخية كوثيقة يمكف االعتماد عمييا -إال إذا قرأت
عمى طريقتو ،فإنو لـ يترؾ أمامنا مف معيار آثاري ونصي وتاريخي يمكف االعتماد عميو
في نقد التوراة ،لتبقى وحدىا الوثيقة المعتمدة ،شاىدة عمى نفسيا وشاىدة عمى أحداث
عصرىا .وىذه نتيجة لـ يضعيا قطعاً في حسبانو عندما شعر بأف مف الواجب أف ال يبقي
سرً"[.]1
ما توصمت إليو معرفتو بشأف التوراة ا
لقد أرسى كماؿ الصميبي األسس األولى لنظريتو التي تقؼ وجياً لوجو ضد الحقائؽ
العممية التي قدميا عمـ اآلثار مف ناحية ،وضد كؿ قواعد المنطؽ والمعايير العقالنية مف جية
أخرى .فبحسب نظرية الصميبي واضافات الرواد اآلخريف الذيف جاءوا مف بعده ،أصبحت كؿ
كممة وكؿ حرؼ يرد في أسفار التوراة حقيقة مطمقة تنطبؽ انطباقاً مدىشاً وعجيباً عمى
جغرافية عسير وغامد واليمف ،وفي محصمة جميع النظريات التي انشقت عف نظريتو وتآلفت
معيا ،نجد كؿ مف ىذه المناطؽ وىي تشكؿ لوحدىا مسرحاً ألحداث التوراة ،بؿ ومف ىذه
المناطؽ أيضاً ما ابتكر فييا ىؤالء الرواد مسرحيف أو أكثر لمقصة التوراتية.
مف جانب آخر وفي مقابؿ ذلؾ كمو ،يبدو أف عدوى التناقضات التوراتية انتقمت الى رواد
ىذه النظرية ،فيـ إذ يتقبموف نتائج عمـ اآلثار عف عمماء اآلثار الغربييف والييود برحابة صدر،
ويتبنوف مواقفيـ النقدية لمتوراة التي تستند الى الحقائؽ األثرية ،فإنيـ في الوقت نفسو يتبنوف
موقفاً مناقضاً لذلؾ تماماً ،يؤكدوف فيو عمى أف ما تسرده التوراة مف الناحية الجغرافية ينطبؽ
عمى جزيرة العرب ،فعمى سبيؿ المثاؿ نجد الباحث العربي المبناني "فرج اهلل صالح ديب" ،وىو
يستشيد بموقؼ أحد عمماء اآلثار الغربييف والييود ،قائالً:
"أما (شانكس) فيعمف في مجمة اآلثار التوراتية :إننا ال نستطيع التطمع أدبياً الى
نصوص التوراة ،كما أنيا ليست نصوصاً مخترعة ،واذا كاف معظـ عمماء اآلثار يتفقوف
معو مف حيث المبدأ ،إال أف ثمة نقاط عديدة مفتوحة لمخالؼ ،خاصة األجزاء أو األسفار
األولى مف التوراة ،مثاؿ العبودية في مصر ،ووجود موسى فييا ،ومعارؾ يشوع بف نوف
في األراضي المقدسة ،حيث ليس مف أدلة عمى وقوعيا ،وليس مف إشارات في األثريات
والمخطوطات لمسألة موسى وخروجو ومسألة يشوع أي ذكر"[.]1
يأتي استشياد "ديب ىذا في السياؽ الذي يعتقد فيو أف نظريتو بشأف جغرافية التوراة في
اليمف تدخؿ في نطاؽ "نقد التوراة" ،وىو اعتقاد زائؼ ال أساس لو مف الصحة ،بؿ أف الصحيح
ىو العكس مف ذلؾ تماماً .فنظريتو تدخؿ في نطاؽ تسوير التوراة وحجبيا عف دائرة النقد
العممي الذي أفحميا وزعزع مصداقيتيا ،األمر الذي ينطبؽ حتماً عمى جميع رواد ىذه النظرية
عمى حد سواء ،ألنيـ يقفوف في حقيقة األمر الى جانب أكثر المستشرقيف وعمماء اآلثار تطرفاً
لمتوراة ،ويأخذوف ويستمدوف منيـ أسس نظريتيـ ومقوالتيا.
يبيف لنا أحد رواد ىذه النظرية أىـ المقوالت التي تبناىا "ديب" ،في نفس الوقت الذي يبيف
فيو مصدر تمؾ المقولة ،عمى سبيؿ اآلتي:
"توصؿ الباحث العربي الجاد "فرج اهلل صالح ديب" الى أف كممة "ييود" كممة عربية
قاموسية .مف جذر "ىود" ،وىي نسبة لمنبي "ىود" ،الذي يرد ذكره في القرآف الكريـ ،وقبره
وقريتو مازاال في حضرموت باليمف ..فبعد أف استعرض تعريؼ كممة "الييود" في مختار
الصحاح ،يتوصؿ الى نتيجة مفادىا أف الييود ىـ قوـ النبي "ىود" ،وىو نبي مرسؿ الى
قوـ "عاد"!!..
والجدير بالذكر أف أطروحة ديب ىذه التي تعد الييود ىـ قوـ النبي ىود ،ليست
بجديدة ،فقد سبؽ إلييا العديد مف المستشرقيف (الثقات) ،فقد الحظ المستشرقوف وجود
شبو بيف اسـ النبي "ىود" و"ىود" الواردة في القرآف أيضاً بمعنى "ييود" ،وأشاروا الى أف
"ىوداً" تعني "التيود" ،أي الدخوؿ في الييودية" كما الحظ المستشرقوف [الثقات] أف بعض
النسابيف قالوا أف ىوداً ىو "عابر بف شالح بف ارفكشاد" جد الييود ،فذىبوا الى أف "ىوداً"
[ .]1فرج اهلل صالح ديب :كذبة السامية وحقيقة الفينيقية ،الطبعة األولى ،دار نوفؿ ،بيروت .1998 ،ص .35
نقالً عف :أحمد الدبش :موسى وفرعوف في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص ..28
68
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
لـ يكف اسـ رجؿ ،وانما اسـ جماعة مف الييود ىاجرت الى بالد العرب ،وأقامت في
األحقاؼ وحاولت تيويد الوثنييف ،وعرفوا بييوذا ،ومنيا جاءت كممة ىود ،واستعممت ذاتيا
مف باب التجوز عمماً لمشخص"[.]1
إزاء ىذا النص ،ال داعي لمخوض مرة أخرى في مسألة تصنيؼ المستشرقيف الى ثقات
وغير ثقات ،وىذا أوالً .أما ثانياً ،فيذا النص مميء بالتناقضات التي ال أخجؿ مف تسميتيا ب ػ
"المغالطات" ألنيا حرفياً كذلؾ ،فحكاية النبي ىود ال ترد في التوراة إطالقاً ،وىي مما جاء في
القرآف وتفرد بو دوف غيره مف كتب الديانات السماوية الثالث ،وىود أرسؿ الى قوـ (عاد) ،وىذا
منصوص عميو صراحة في القرآف وال غبار عميو ،وكؿ اآليات التي يرد فييا ذكر ىود وقومو ال
يرد فييا أي ذكر لعالقة تربط بينيـ وبيف الييود ،وجميع كتب اإلخباريات تعد قوـ عاد مف
العرب البائدة ،إذ يأتي ذكر قوـ عاد باعتبارىـ مف أقدـ األقواـ التي عاشت بعد طوفاف نوح ،أي
في عصور سحيقة جداً قبؿ عصر النبي ابراىيـ الذي تقرر التوراة أف الييود أو باألصح بني
اسرائيؿ ينحدروف مف ساللتو ،باإلضافة الى بني عمومتيـ الياجرييف /االسماعيمييف.
واذف ،فما ىو وجو العالقة بيف قوـ عاد وبني اسرائيؿ؟ وما وجو العالقة بيف الساللة
االسرائيمية ونبوة ىود والديانة الييودية؟ السيما إذا عممنا باالعتبارات التي لطالما أكد عمييا
رواد ىذه النظرية أنفسيـ ،بضرورة التمييز والتفريؽ بيف بني اسرائيؿ كعرقية اثنية ،وبيف
الييود معتنقي الييودية.
إنيا وحسب تناقضات ،انتقمت عدواىا مف النص التوراتي بشكؿ أو بآخر وجرى اسقاطيا
حتى عمى النص القرآني ،عمماً بأف ىذا الرأي يتناقض جممة وتفصيالً مع ما ورد في القرآف
الكريـ ،وال سند لو في التوراة ،فضالً عف ذلؾ فإف الييود والمسيحييف– منذ القدـ وحتى اليوـ-
ال يؤمنوف بأي نبي مف خارج ما ىو منصوص عميو في العيد القديـ.
كما أسمفت مف قبؿ ،فإف عمـ اآلثار -بإقرار جميع عمماء اآلثار الغربييف والييود وغير
الغربييف وغير الييود -لـ يتوصؿ حتى اآلف الى أي أدلة أثرية عمى األحداث والشخصيات
[ .]1أحمد الدبش :كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .255
69
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
الكبرى التي تتحدث عنيا أسفار التوراة ،كالعبور االبراىيمي لنير الفرات وارتحالو الى حاراف في
الشاـ ،وشخصيات اآلباء الكبار يعقوب ويوسؼ وموسى وأحداث االنتقاؿ الى مصر والخروج
منيا ،وشخصيات الممؾ داود وسميماف وأحداث تأسيس مممكة اسرائيؿ الموحدة بذلؾ التيويؿ
الذي يرد عنيا في التوراة ،فكؿ ىذه األمور ال دليؿ عمييا مف الناحية األثرية ،ويمتنع جميع
عمماء اآلثار عف الحديث عنيا ،بؿ أف منيـ مف اعتبرىا حكايات اسطورية ،ومنيـ مف اعتبرىا
مجرد قصص ممفقة.
بيد أننا نجد رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب ،جميعيـ عمى حد سواء،
يصروف عمى بحث ىذه المسائؿ التي لـ يبت فييا عمـ اآلثار إطالقاً ،ويبنوف نظريتيـ مف خالؿ
التركيز عمييا عمى طريقتيـ في تأويؿ التشابيات المفظية.
إنيـ وبالفعؿ يقوموف ولمرة أخرى بعممية التعسؼ نفسيا التي قاـ بيا عمماء اآلثار
التوراتييف .فنظرة واحدة عمى عناويف كتبيـ وأعماليـ أو فيارسيا وقوائـ محتوياتيا تكشؼ بشكؿ
واضح عف مدى تركيزىـ عمى ىذه القصص ،واطباقيـ ليا اطباقاً حرفياً عمى جغرافية الجزيرة
العربية ،مف حيث ال أدلة أثرية تسندىـ وال سجالت تاريخية تدعميـ ،فميس لدييـ إال قرائف
التشابيات المفظية بيف أسماء المناطؽ ،وآراء المستشرقيف التوراتييف المتعصبيف لمتوراة.
وانيـ يفعموف ذلؾ عمى نحو عجيب أحياناً ،ومثير لمسخرية والسخؼ أحياناً أخرى ،ومثاؿ
عمى ذلؾ ،ما يمي:
"وبعد ايجاز اآلراء حوؿ غياب األثريات بالعالقة مع التوراة ،وفحواه أف ال أثر
مادياً ،وتاريخياً يؤكد أف مسرح سفر يشوع في فمسطيف .ولكف أيف كاف المسرح الجغرافي
لمسيد يشوع؟! -إف األثريات المفقودة في فمسطيف ،عف معارؾ يشوع بف نوف ،سرعاف
ما نجدىا في اليمف ،وضمف منطؽ جغرافي يتناسب مع السرد التوراتي لسفر يشوع،
فالممؾ ليس سوى زعيـ عشيرة"[.]1
أيف ىي األثريات التي فقدىا األستاذ أحمد الدبش في فمسطيف وسرعاف ما وجدىا في
اليمف؟! -إنيا ضمف منطؽ جغرافي يتناسب مع السرد التوراتي ..ياهلل!!..
النص السابؽ ،يجسد واحدة مف االنتقاالت الكثيرة التي يحشدىا رواد ىذه النظرية في
كتبيـ عمى ىذه الطريقة أو مثميا دائماً .ولو تذكرنا التناقض الثالث الذي تحدثت عنو في بداية
الفصؿ ،وكيؼ أف غياب الدليؿ األثري في فمسطيف ىو المسوغ الرئيسي لقوليـ بأف جغرافية
التوراة في جزيرة العرب أو في اليمف ،فيتعامموف مع ىذه المناطؽ األخيرة وكأنيـ وجدوا فييا
الدليؿ األثري الذي لـ يجدوه في فمسطيف ،وبالطبع ال دليؿ أثري عمى ىذه القصص ال في
فمسطيف وال في جزيرة العرب ،وبدالً مف أف ينطبؽ الموقؼ عمى المنطقتيف ،فيقاؿ إف ما ال دليؿ
أثري عميو ىنا أو ىناؾ يظؿ بعيداً عف دائرة االعتبار العممي والتاريخي حتى يثبت بشأنو شيء،
وأنو مف حيث ال ينبغي اسقاط أحداث التوراة عمى فمسطيف لغياب األدلة األثرية ،فإنو ال يجوز
اسقاطيا أيضاً عمى جزيرة العرب لنفس السبب ،نجدىـ وىـ يتناقضوف مع أنفسيـ بشكؿ سافر،
ويسقطوف نظريتيـ عمى اليمف وجزيرة العرب.
كيؼ نفسر ىذا التناقض؟! -في الحقيقة ،ال تفسير لموقفيـ ىذا إال أنو ناتج عف
حرصيـ الشديد عمى تأكيد مصداقية التوراة واعطائيا تمؾ المصداقية بأي شكؿ مف األشكاؿ،
وأف ىذه ىي غايتيـ التي تبرر ليـ كافة الوسائؿ.
ما ىو أكثر مف مثؿ ىذه التناقضات ،ىي تمؾ الشطحات التي نجدىا لدى المفكر العربي
"فاضؿ الربيعي" ،فيو في مؤلفو الضخـ والثقيؿ "فمسطيف المتخيمة" ،ال يكشؼ لنا عف تناقضات
مف ىذا النوع فحسب ،بؿ ويقدـ لنا شطحات ت ّجذر عممو في بؤرة األىداؼ والغايات التي يسعى
إلى تحقيقيا التيار التوراتي المتطرؼ ،بما يكفي ليتضح ىدفو غير المعمف" :الدفاع عف
مصداقية التوراة المطمقة".
ترى ،ما الذي يعنيو لنا عنواف "فمسطيف المتخيمة"؟! -بدالً مف أف يكوف موضوع
الربيعي ىو نفي وتفنيد أي وجود إلسرائيؿ التوراتية في فمسطيف باعتبارىا "اسرائيؿ متخيمة"
وضعيا خياؿ كتبة التوراة ،نجده وىو يحيؿ ىذا التوصيؼ الى "فمسطيف" وعمييا ،بمعنى أف أي
71
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
فمسطيف نتحدث عنيا ليست أكثر مف وىـ متخيؿ ناتج عف تحريؼ الحقيقة عمى أيدي
المستشرقيف الغربييف والييود الذيف فرضوا عمينا قراءتيـ الغربية لمتوراة ،يقوؿ الربيعي:
"منذ عاـ 1917جرى تخييؿ لفمسطيف التاريخية ما كاف ليا تنجو منو ،يرتكز
أساساً الى فيـ مخادع ومضمؿ لمنصوص لمتوراتية عمى الصعيديف التاريخي والجغرافي.
وبموازاة ىذا التخييؿ انطمقت سمسمة ال نياية ليا مف األعماؿ والسياسات والمكائد
والمناورات الرامية الى محو فمسطيف مف الوجود واحالؿ فمسطيف أخرى ،قابمة تجريدياً ألف
ينظر إلييا عمى أنيا أرض الميعاد االسرائيمي"[.]1
وفي كتابو "حقيقة السبي البابمي" يصر الربيعي عمى التمسؾ بيذه الشطحة ،قائالً:
"وفضالً عف ذلؾ فالتوراة في نصيا العبري ،تجيؿ اسـ فمسطيف والفمسطينييف كمياً،
وكؿ ما يقاؿ عف أنيا أشارت الى فمسطيف والقدس العربية ،ىو محض خياؿ استشراقي
سقيـ"[.]2
الجدير بالذكر ،أف الربيعي عادة ما يكتب بمغة مراوغة لمغاية ،يصعب عمى القارئ
العادي فيـ ما يرمي إليو صاحبيا بوضوح ،وىذا أمر يمكف مالحظتو بسيولة في كتبو ومؤلفاتو،
وىو ما ينطبؽ عمى ما ورد مف أقوالو آنفاً .فظاىر األمر أف الربيعي يدافع حقاً عف فمسطيف
التاريخية ،وىي غير فمسطيف الجغرافية ،مع أني ال أعرؼ بالضبط ما الذي يعنيو مفكرنا بمثؿ
ىذا التمييز ،لكنو في واقع األمر يدافع عف التوراة التي تعرضت لتزييؼ قراءتيا وتفسير
مضمونيا لتصبح معانييا خادمة لممصالح االمبريالية الغربية ،جغرافياً وتاريخياً ،والبد مف
تحريرىا مف ىذه القراءة ،لكي يعود لمنص التوراتي مصداقيتو األصمية.
تتكشؼ ىذه الحقيقة ،عندما نق أر مقالة الربيعي التي نشرىا في يناير مف العاـ 2517في
موقع الجزيرة نت االلكتروني ،وكانت بعنواف" :التوراة لـ تذكر اسـ الفمسطينييف وال تعرؼ
[ .]1فاضؿ الربيعي :فمسطيف المتخيمة ،المجمد ( ،)1مرجع سابؽ ،ص .24
[ .]2فاضؿ الربيعي :حقيقة السبي البابمي ،مرجع سابؽ ،ص .7
72
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
فمسطيف" -!!..ىذا العنواف واضح ويعكس بشكؿ أكيد الداللة السابقة لعنواف كتابو "فمسطيف
المتخيمة" .فالربيعي ال يقيـ معيا اًر ألي مرجعية إال معيار النص التوراتي ،وبالتالي فإف فمسطيف
في نظره ال تعدو أكثر مف مجرد وىـ تاريخي ،ال ذكر لو في التوراة.
يقوؿ الربيعي في مستيؿ مقالتو تمؾ ووسطيا ،بصيغتو الجازمة التي يبدأ بيا مقدمات
كتبو ومقاالتو:
"ال وجود قط السـ فمسطيف أو فمسطينييف في التوراة .وكؿ ما يقاؿ ويزعـ في
الدراسات والبحوث التاريخية "المعاصرة" عف وجود االسـ منذ عاـ 555قبؿ الميالد ،ىو
تسويؽ مجاني لفكرة زائفة ال أساس وال سند ليا ،ال في التاريخ وال في النصوص الدينية.
لقد تـّ الترويج لخدعة وجود اسـ فمسطيف في التوراة ،بعد مؤتمر بازؿ الذي عقدتو
الحركة الصييونية (المؤتمر الصييوني األوؿ بزعامة تيودور ىرتزؿ في مدينة بازؿ بػ
سويس ار يوـ 29أغسطس/آب .)1897في ىذا الوقت كاف ىرتزؿ يشعر أف األثرياء
الييود البريطانيوف بشكؿ خاص ،لـ يكونوا متحمسيف كفاية لتمويؿ مشروع (الوطف
القومي) في فمسطيف ،ربما إلدراكيـ بالتعقيدات السياسية"[.]1
ىذه ىي النتيجة المتوقعة لمركض الميووس وراء مصداقية التوراة ،عمى حساب العمـ
والحقيقة المثبتة تاريخياً وأثرياً وجغرافياً.
[ .]1فاضؿ الربيعي :التوراة لـ تذكر اسـ الفمسطينييف وال تعرؼ فمسطيف 12 ،يناير ،2517متاح عمى الرابط
االلكتروني:
http://www.aljazeera.net/news/alquds/2017/1/12/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9
%88%D8%B1%D8%A7%D8%A9-%D9%84%D9%85-
%D8%AA%D8%B0%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D8%B3%D9%85-
%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8
A%D9%8A%D9%86-%D9%88%D9%84%D8%A7-
%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81-
%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86- 10 Nov 2017.
73
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
في ىذا الشأف ،اضطر الباحث الفمسطيني "أحمد الدبش" لنشر مقالة أخرى لمرد عمى
الربيعي ،جاء في خاتمتيا:
"مف المناسب أف نختـ ىذا المقاؿ ،بما يقوؿ المفكر الفرنسي بير روسي ،في كتابو
"مدينة إيزيس -التاريخ الحقيقي لمعرب" :إف إعادة اسـ فمسطيف الوحيد إلى ىذه األرض
يصبح إذاً ليس فقط مطابقاً لمقاعدة التاريخية األدؽ واألصح ،ولكف لرفض تدخؿ أو
وساطة أحكاـ عممية تعسفية ومسبقة .إنو ليس ىذا العرؽ أو ذاؾ ،ىذا الديف أو ذاؾ
الذي استفاد مف انتخاب الطبيعة ،ولكنيا ،فمسطيف ،القطر ذاتو ،الذي أخمى الشكؿ
الخارجي في البحر المتوسط لمركز ثقافي مختار .فإلى غالبية سكانو إنما يعود دور
ناشري الفنوف والعموـ"[.]1
لو كاف لكالـ الربيعي معنى آخر غير الذي فيمناه ووضحناه ،لما لزـ عمى الدبش أف يرد
عميو ،عمماً بأنيما يتفقاف في نظريتييما عف جغرافية التوراة عمى أنيا في اليمف ،وينشراف
مقاالتيما بشكؿ دوري في موقع الجزيرة نت .وبالرغـ مف أف رد الدبش كاف سطحياً لمغاية ،إال
أف دافعو الى كتابتو ونشره في نفس الموقع واضح لمغاية ،وىو رفض وتفنيد فكرة الربيعي القائمة
بأف فمسطيف مجرد وىـ تاريخي ال أساس لو في التوراة والكتب الدينية ،ومغزى ذلؾ كما فيمو
الدبش وفيمناه نحف ،أف الربيعي يعطي إلسرائيؿ التوراتية وجوداً حقيقياً ،جغرافياً ،وتاريخياً،
ولو كاف ذلؾ الوجود خارج نطاؽ جغرافية فمسطيف التي نعرفيا ،ولكنو في المقابؿ يفرغ
فمسطيف ىذه مف ذاتيا ،ويمغي باستدالالتو المفظية وتفسيراتو الغرائبية أي وجود ليا ،وذلؾ
كمو في سياؽ نصي غائـ يصوغو الربيعي بمغتو المراوغة ،بحيث يوحي ظاىر كالمو بأنو يدافع
[ .]1جرت عادة الباحث الفمسطيني أحمد الدبش أف يقتبس عناويف كتب المستشرقيف والباحثيف الغربييف ويجعؿ
منيا عناويناً لفصوؿ كتبو ومقاالتو ،فقد اقتبس عنواف كتاب "أالف غريش" "عالـ يطمؽ اسـ فمسطيف" وجعمو
عالـ يطمَؽ اسـ فمسطيف؟ 4اكتوبر
َ عنواناً لمقالتو ىذه التي رد بيا عمى فاضؿ الربيعي .أنظر :أحمد الدبش:
،2517متاح عمى الرابط االلكتروني:
http://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/10/4/%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85-
%D9%8A%D8%B7%D9%84%D9%82-%D8%A7%D8%B3%D9%85-
%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86- 10 Nov 2017.
74
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
عف ىوية فمسطيف العربية ،بينما ىو في حقيقة األمر يطمب منا أف ننسؼ أي وجود ليذه ال ػ
"فمسطيف" مف رؤوسنا ،ألف ال حقيقة إال ما تنطؽ بو التوراة.
بالعودة الى كتاب "فمسطيف المتخيمة" لمربيعي ،وبدوف أف نتعمؽ كثي اًر فيو أو أف نتجاوز
الصفحة رقـ ( ،)24نجده في أوؿ مثاؿ يقدمو لنا إلثبات نظريتو ،يكشؼ عما ىو أسوأ مف
تناقضاتو وشطحاتو تمؾ ،بمغتو المراوغة نفسيا التي يخفي ورائيا موقفو المستميت دفاعاً عف
مصداقية التوراة ،وأقصد بذلؾ جيمو الفظ أو تجاىمو المكشوؼ لمحقائؽ الجغرافية الثابتة .فمنق أر
لو النص التالي:
"إف سائر ىذه المواضع[-يقصد "بيت ءوف"" ،لوز"" ،بيت ءيؿ" ،أريحا ،حوروف
السفمى ..الخ ،وىي أسماء أماكف توراتية] -ىي جزء مف سمسمة جبمية ال وجود ليا في
فمسطيف ،ومف المستحيؿ تخيؿ امكانية زواليا ،فحتى لو افترضنا أف ىذه األسماء تالشت
أو ضاعت ،فإف السمسمة الجبمية ستظؿ ىناؾ"[..]1؟!
عالمتي االستفياـ والتعجب في آخر النص مف عندي ،فيذا القوؿ مثير لمدىشة والغرابة
ّ
بؿ ومثير لمفجيعة ،حتى أني قمت في نفسي حيف قرأتو" :يالميوؿ"؟!
إف طفالً في الصؼ السادس مف التعميـ األساسي يعمـ جيداً أف جغرافية فمسطيف حافمة
بالجباؿ وبالسالسؿ الجبمية ،بؿ أف إقميـ المرتفعات جزء ميـ مف تضاريس فمسطيف .فيناؾ
سمسمة جباؿ الخميؿ وراـ اهلل وسمسمة جباؿ الكرمؿ وىي مناطؽ مشيورة لمقاصي والداني،
فضالً عف أف جغرافية فمسطيف عامرة باليضاب والتالؿ واآلكاـ واآلطاـ والجبع والجبعات
المتفاوتة في المساحة واالرتفاع ،عمى نحو يفرض أف تكوف كؿ طرؽ فمسطيف صعوداً
وىبوطاً ألي كاف بش ارً أو بعي ارً.
[ .]1فاضؿ الربيعي :فمسطيف المتخيمة ،المجمد ( ،)1مرجع سابؽ ،ص .24
75
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
منذ المحظة التي يقع فييا نظره عمى غالؼ كتاب "فمسطيف ىذا ما يجده القارئ
المتخيمة" ،ثـ في أوؿ دليؿ يقدمو الربيعي إلثبات نظريتو في الصفحة رقـ ( ،)24فماذا يتوقع
القارئ بعد ذلؾ أف يجده في ( )1255صفحة لمجمديف ثقيميف ،ال أثقؿ منيما إال كتب ومجمدات
تفاسير التوراة.
في رأيي ،أف عمالً مثؿ ىذا ال يخرج عف نطاؽ كتب التفسير والتأويؿ لمنصوص الدينية
التي يكتبيا ويؤلفيا الحاخامات وسدنة التوراة ،والتي ال عالقة ليا بأي شيء مما يسمى اليوـ ب ػ
"العمـ".
ىكذا ىو الحاؿ ،نجد أف شعارات رواد ىذه النظرية تقتمنا دفاعاً عف فمسطيف وتاريخ
فمسطيف وجغرافية فمسطيف ،ولكف ىذا ال يتجاوز الصفحات القميمة األولى مف أعماليـ ،أما بعد
ذلؾ فكؿ تطبيقاتيـ البحثية مسخرة لخدمة القصص التوراتية :البحث عف نوح ،اقتفاء أثر رحمة
ابراىيـ ،تتبع مسار دخوؿ بني اسرائيؿ الى مصر وخروجيـ منيا ،البحث عف يوسؼ وموسى
في قوائـ األسماء المصرية والبابمية والصينية والطحينية ،شرح النص التوراتي بشأف غزوات
يشوع بف نوف ،ومممكة داوود وسميماف ،الخ الخ الخ ..كؿ ما سكتت عنو المكتشفات األثرية
يتكمموف ىـ عنو ويحتفوف بو ،ويخبرونا بأنيا حقائؽ حدثت في عسير ونجراف واليمف وجزيرة
كوريا موريا في البحر األحمر..
والسؤاؿ الذي أطرحو وسبؽ أف طرحو آخروف مف قبمي :إذا كاف التاريخ التوراتي ليس
ىو تاريخ فمسطيف ،فأيف ىو تاريخ فمسطيف الحقيقي؟!
لماذا ال يكشفوف عف تاريخ فمسطيف الحقيقي بدالً مف اليوس بأحداث التوراة ،وكمماتيا
ومسمياتيا؟! -ىذا ال ييـ رواد نظريتنا الفطاحؿ ،الميـ عندىـ ىو تاريخ التوراة وأحداث التوراة.
أال يبدو ألحد ىنا ،أننا نقؼ أماـ نظرية ال تؤدي إال الى تشويش الوعي التاريخي
والجغرافي لمجيؿ الحالي واألجياؿ القادمة ،وأف ثمة عالقة مريبة بيف ىذه النظرية الجغرافية وبيف
76
انفصم انثاني تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت
مفاىيـ السياسة الدولية المعاصرة عف خارطة الشرؽ األوسط الجديد ،واألحداث التي تشيدىا
المنطقة ،حيث يجري تمزيؽ األوطاف وشرذمة الشعوب العربية عمى أسس عرقية وطائفية ممفقة
ومزيفة ،في اتجاه يقود نحو سايكس بيكو جديدة أو ما شابو ،بينما تنعـ اس ارئيؿ فوؽ األرض
العربية المحتمة بأماف اهلل وأماف ييوه وكؿ اآللية؟! -أترؾ الحكـ لكـ اعزائي القراء.
77
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
انفصم انثانث
كالبداية ىذه المرة مف عند اكتشاؼ تكصمت إليو بالصدفة العجيبة كغير البريئة ،إذ
اكتشفت أف قمب كممة [منيج] يؤدم الى كممة [جينم] .إنو اكتشاؼ ينطكم عمى كاحد مف
أعمؽ المعاني كأصدقيا عمى اإلطالؽ ،فقمب الحقائؽ كتزييفيا في كؿ معتقدات البشر
كأخالقياتيـ ال يؤدم إال الى جينـ.
لكـ شعرت ببالغة ىذا التحكيؿ المفظي الرائع كالمدىش ،في مناسبة مثؿ ىذه التي
أعيشيا مع سطكر كصفحات ىذه الدراسة .كلكـ أليمني ىذا المعنى البميغ كضاعؼ مف عزمي
عمى انجاز ميمتي ،كبمكغ غايتيا في منتياىا.
مف ىنا جاءت تسمية ىذا الفصؿ ب ػ "المنيج الجينمي وحقيقة التزوير".
كاف مثاالن بسيطان لمغاية ،لكنو كبكؿ جدية يحاكي المنيجية التي استخدميا ركاد نظرية
جغرافية التكراة في جمع كاستعراض أدلتيـ القائمة عمى التشابيات المفظية كظكاىر القمب
كالتحكيؿ كالتحريؾ كاالستبداؿ لمحركؼ كاألصكات كالمكاحؽ كالزكائد المفظية كتأثيراتيا الصرفية
كالنحكية عمى جذكر الكممات كمشتقاتيا ،كالتي قامكا بتطبيقيا عمى أسماء المناطؽ في عسير
كغامد غرب الجزيرة العربية ،كفي اليمف أيضان ،كسردكىا لنا بكثافة كغ ازرة شديدة في بحكثيـ
كمؤلفاتيـ ،باعتبارىا منيجيـ الذم تكصمكا بو الى إثبات أف جغرافية التكراة في جزيرة العرب،
كبالتالي كشؼ حقيقة التزكير الذم جرل عمى جغرافية التكراة.
كاف مف المفترض أف أنتقؿ في ىذا الفصؿ لمناقشة المقكلة الثالثة مف مقكالت ىذه
النظرية ،كىي المقكلة التي تفيد بأف ىناؾ تطابقان كبي انر كمدىشان بيف أسماء األماكف كالمكاقع
78
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
الجغرافية التي ترد في التكراة كبيف أسماء المناطؽ كالمكاقع الجغرافية في جزيرة العرب( :عسير،
غامد كالسراة ،اليمف) ،غير أف ثمة تحكؿ جرل في ذىني انعكس عمى خطة الدراسة ،فقد
شعرت بضركرة لفت االنتباه الى العالقة بيف المقكلة األكلى عف التزكير الذم طاؿ األسماء
كالمسميات الجغرافية ،كالمقكلة الثالثة بشأف تشابو أسماء المكاقع الجغرافية بيف التكراة كمناطؽ
أخرل خارج نطاؽ الخريطة الفمسطينية.
أقصد أف ىناؾ ضركرة ممحة لضبط العالقة بيف مسألة [تزوير أسماء األماكن] مف
جية ،كمسألة [تشابو تمك األسماء] مف جية أخرل .فمكؿ منيما طبيعة خاصة كحساسية
متفاكتة المقدار كاألثر إزاء مسألة [المنيج] الذم اتبعو ىؤالء الركاد في معالجة النظرية برمتيا،
كازاء [النتائج التي توصل إلييا عمم اآلثار] ،السيما كقد جرل إحالؿ تمؾ التشابيات المفظية
محؿ الدليؿ األثرم مف قبميـ .فرأيت أف الفصؿ بيف المسألتيف سيككف أفضؿ لك أني راعيت
التشبيؾ الذم رسمت معالمو تمؾ المقكالت الثالث ،كالذم حددت بو نقاط التماس بيف ىذه
المسائؿ األربع ،إذ يمكف لخطكة رباعية كيذه تتـ عمى مرحمتيف– في ىذا الفصؿ كالفصؿ
القادـ -أف تتيح فرصة لمتعرؼ بشكؿ مستقؿ عمى منيج ركاد ىذه النظرية مف الناحية التي
تتكشؼ فييا حقيقة التزكير الذم يقكلكف بو ،كىذا مف جية ،كمف جية أخرل فإنيا تدفع باتجاه
التعرؼ عمى نتائج عمـ اآلثار في االتجاه الذم يمكف مف خاللو الكشؼ عف حقيقة التشابو بيف
األسماء ،كبيذا يتسنى لنا إدراؾ المسافة الفاصمة كضبط العالقة بينيا جميعان.
ىذا الفصؿ مكرس لمعالجة كبحث حقيقة التزكير -أم تزكير أسماء المكاقع الجغرافية
فيما بيف التكراة كخريطة فمسطيف -مف خالؿ التعرؼ عمى طبيعة المنيج المغكم الذم اتبعو
ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب.
[زور] كىك
بشكؿ مباشر ،تفيدنا معاجـ المغة كقكاميس معاني المفردات بأف التزكير مف َّ
مف فعؿ الزكر ،أم الميؿ عف الحؽ كقكؿ الكذب ،أك باألحرل ىك تزييف الكذب كطمس الحقيقة
بقصد التضميؿ ،أك ىك تمكيو الباطؿ بما يكىـ أنو حؽ ،كيشمؿ التزكير كؿ فعؿ يغاير الحقيقة
بمحاكاتيا .كىذا مفاده أف أساس التزكير ىك مضاىاة الحقيقة كمحاكاتيا كتقميدىا مف خالؿ
79
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
تحسيف الشيء أك تقكيمو بشكؿ ينتيي بو الى صكرة أخرل غير حقيقتو األصمية ،كيمكف أف
يككف التزكير جزئيان أك كميان ،كيمكف أف يككف ماديان أك معنكيان.
كلكف عمينا أف نأخذ في االعتبار دائمان أف التزكير -أم تزكير -ال يتـ بطريقة اعتباطية
أك عشكائية ،بؿ أنو يرقى الى أف يككف مجاالن لو فنكنو كمياراتو المتقنة كالبالغة التمكف
كاالحتراؼ ،كمف الناحية العممية ال يمكف إجراء تزكير بدكف منيجية متبعة إلجرائو.
بالعكدة الى حيث قمت في الفصؿ األكؿ مف ىذه الدراسة ،أف منطؽ الحكمة كالعقؿ يقكؿ،
إذا كنا نتحدث عف تزكير مس أسماء المناطؽ الجغرافية التي ترد في التكراة أك في جغرافية
فمسطيف الكاقعية ،فالبد أف نعرؼ متى حدث ىذا التزكير ككيؼ حدث ،كمف الذم قاـ بو ككيؼ
بناء عمى
قاـ بو ،ككيؼ جرل تثبيتو ككيؼ يمكننا اثبات كقكعو ،كاثبات آثاره كاستعادة الحقيقة ن
ذلؾ كمو .فإف خطتي ليذا الفصؿ تقتضي أف نتعرؼ أكالن كبصكرة تطبيقية عمى [المنيج
المغوي] الذم اتبعو ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب في الكشؼ عف حقيقة
التزكير الذم يقكلكف بحصكلو عمى أسماء المكاقع الجغرافية في التكراة ،كالذم مكف كؿ كاحد
منيـ مف إعادة األمكر الى نصابيا بطريقتو ،كىذا بدكره سكؼ يساعدنا في إدراؾ كجية نظرىـ
إزاء ىذه المسألة..
80
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
)(1
ٌ
[]1
ينهح ػهًي أو شؼىذج نغىيح
عالج األستاذ كماؿ الصميبي مسألة المنيج في كتابو "التكراة جاءت مف جزيرة العرب"،
انطالقان مف التأكيد عمى مكضكعو الرئيسي كىك "التكراة باعتبارىا في األساس نصان عبريان-
مكتكبان بالمغة العبرية" ،كباعتبارىا في األصؿ مجمكعة نصكص تاريخية كأدبية كدينية بالغة
القدـ كتبت بأحرؼ أبجدية خالية مف الحركات كالضكابط ،كألف ىذه المغة ابتعدت عف إطار
االس تعماؿ العاـ منذ قركف طكيمة ،فإف ال أحد يعرؼ بالضبط كيؼ كانت تنطؽ كمماتيا أك
باألصح كيؼ كانت "تمفظ كتصكت" في العصكر القديمة ،فضالن عف المسائؿ المتعمقة بالتيجئة
كالصرؼ كالنحك كاالصطالح ،كمفردات المغة العبرية محددة الى حد ما بالكممات الكاردة في
النصكص التكراتية[.]2
ثـ أكد الصميبي عمى أنو كلقراءة التكراة العبرية كفيميا ينبغي أف يتبع الباحث تقميد
العبرية المتأخرة ،أك أف يمتمس اإلرشاد مف المغات السامية التي مازالت حية مثؿ العربية
كالسريانية ،السيما كأف ىذه األخيرة مازالت قيد الكجكد مف اآلرامية القديمة.
[ .]1عبارة "شعكذة لغكية" ىنا ،مستكحاة مما كصؼ بو المؤرخ كالباحث الفرنسي "بيير ركسي" منيجيات
المستشرقيف التكراتييف المغكية كمعالجاتيـ االشتقاقية التي كظفكىا مف خالؿ ىذا المنيج إلثبات صحة الركاية
التكراتية بشأف تاريخ اسرائيؿ ،حيث أشار الى "وىم معقد ومستمر لشعوذة اشتقاقية لغوية استطاع أن يجر
الناس ليروا في العبرانيين وفي ثقافتيم وكأنيم األجداد الساميين لتاريخ الشرق" .أنظر :بيير ركسي :مدينة
ايزيس -التاريخ الحقيقي لمعرب ،ترجمة :فريد جحا ،الطبعة الثالثة ،دار البشائر لمطباعة كالنشر كالتكزيع،
دمشؽ .2004 ،ص .25
[ .]2كماؿ الصميبي :التكراة جاءت مف جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .57
81
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
يستمر الصميبي في بياف األسس التي أقاـ عمييا منيجو المغكم ،قائالن:
"ما مف ديف إال كيعتني األتقياء كالمؤمنكف مف أتباعو أشد العناية بحفظ نصكصو
المقدسة في صيغتيا األصمية ،فتستمر ىذه النصكص في الكجكد دكف أم تغيير يطاليا
عبر األجياؿ .األمر نفسو الذم ينطبؽ عمى أسماء األماكف عمكمان ،إذ تنتقؿ ىذه األسماء
مف جيؿ الى جيؿ بالتكارث التقميدم ،كال تشيد تغيي ارن ،عمى األقؿ في بنيتيا األساسية،
ميما مر عمييا مف زمف .كحتى عندما يتـ تغيير في ىذه األسماء في بعض األحياف عف
قصد ،فإف األسماء القديمة تبقى -في معظـ الحاالت -في الذاكرة الشعبية ،كغالبان ما
تككف ىي الثابتة في النياية .فمدينة "بعمبؾ" مثالن ،أطمؽ عمييا اإلغريؽ كالركماف اسـ
"ىيميكبكليس" لمدة طكيمة ،لكف اسميا األصمي "بعمبؾ" بقي بعد ذلؾ كثبت عمييا ،ككذلؾ
[ .]1المسكرييف أك الماسكرييف ،تسمية مشتقة مف كممة (الماسكرا) كىذه األخيرة مشتقة بدكرىا مف الجذر [م س
ر] ،كالذم يعني نقؿ ككصؿ ،كتشير تسمية الماسكرييف الى مف قامكا بعممية النقؿ /الترجمة التي جرت لمنص
التكراتي ،كىك النص الذم أصبح بمثابة أحد التقاليد الرئيسية التي تستند إلييا الديانة الييكدية ،كالماسكرييف ىـ
الكتبة الذيف قامكا بإعداد نسخة مكحدة لمتكراة ،بيدؼ حسـ الخالفات التي كانت قائمة بشأف تعدد نصكصيا
كتباي نيا ،مع األخذ بعيف االعتبار أنو ال تكجد مخطكطة كاممة لمنص الماسكرم ،الذم بدأت عممية نقمو في
القرف السابع الميالدم كانتيت في القرف العاشر الميالدم ،مع التخمص مف كافة النصكص القديمة بإقرار كؿ
الطكائؼ الييكدية .فقد كانت ىناؾ نصكصان تكراتية معتمدة قبؿ كجكد النص الماسكرم ،كالذم مازاؿ محؿ
خالؼ بشأنو حتى اليكـ ،فضالن عف االشكاليات التي أثارىا اكتشاؼ مخطكطات قمراف أك ما يعرؼ
بمخطكطات البحر الميت في النصؼ الثاني مف القرف العشريف ،كالتي ظمت محؿ حجب مف قبؿ المؤسسات
الييكدية لعدة عقكد كلـ يفرج عنيا إال في عاـ ،1982حيث يرل بعض نقاد التكراة الى أف ىذه المخطكطات
كشفت عف كجكد أخطاء كتحريفات كبيرة في النص الماسكرم ،بينما رأل التيار المدافع عف مصداقية التكراة أف
مخطكطات قمراف أثبتت مدل دقة الترجمة الماسكرية ،كفي كؿ األحكاؿ فإف الجدؿ بيذا الشأف مازاؿ قائمان كلـ
يحسـ بعد( .الباحث)
[ .]2كماؿ الصميبي :التكراة جاءت مف جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .58
82
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
"بيركت" ك"الالذقية" كغيرىا مف المدف التي جرل في ظركؼ معينة تغيير أسمائيا لكنيا
استعادت اسمائيا األصمية بعد زكاؿ تمؾ الظركؼ ،كاألمثمة عمى ذلؾ كثيرة"[.]1
كالصميبي يعتبر أف دراسة أسماء األماكف تخدـ بطريقتيا الغرض نفسو الذم يخدمو
عمـ اآلثار الميداني ،بفارؽ أف االكتشافات األثرية ىي اكتشافات خرساء ،ما لـ تتضمف
كتابات منقكشة ،في حيف أف أسماء األماكف ناطقة ،تخبرنا بما ىي كبكيفية نطقيا
الفعمي ،كبالمغة التي انبثقت عنيا ،كفي غياب النقكش األثرية تبقى االكتشافات األثرية
صعبة التفسير ..في حيف أف أسماء األماكف ال تقدـ معمكمات بحجـ ما تقدمو المكتشفات
األثرية ،إال أنيا تمتمؾ عمى األقؿ فضيمة اليقيف المطمؽ أك النسبي .كعمى سبيؿ المثاؿ،
فإذا كجد الباحث مجمكعة مف أسماء األماكف في غرب الجزيرة العربية ،تتحدر مف لغة
مطابقة بأحرفيا الساكنة لمعبرية التكراتية أك لآلرامية التكراتية ،فإنو -أم الباحث -يمكف
أف يستنتج أف بال تردد أف لغات مطابقة أك مماثمة لمعبرية كاآلرامية التكراتيتيف كانت
تستخدـ في القدـ لمكالـ في غرب الجزيرة العربية ،كذلؾ قبؿ ألفي سنة -أم قبؿ أف
تصبح المغة العربية ىي لغة الكالـ السائدة ىناؾ .كاذا أمكف البرىاف بأف لعدد كبير مف
أسماء األماكف التكراتية ميما كانت أصكليا المغكية ،مثائميا الحية في غرب الجزيرة
العربية ،في حيف أف القميؿ منيا ليا مثائؿ في فمسطيف ،فإف مف المعقكؿ طرح السؤاؿ
التالي :ىؿ التكراة العبرية سجؿ ألحداث تاريخية جرت في غرب الجزيرة العربية كليس
في فمسطيف؟[.]2
يفترض الصميبي دكف أف يككف الفتراضو أم أساس لغكم أك تاريخي -بأف أصكؿ أسماء
األماكف في غرب الجزيرة تعكد الى المغة العبرية ،كىذا افتراض ال أساس لو في مقابؿ ما ىك
متكفر مف األدلة المغكية التاريخية كاألثرية التي تؤكد عركبة جزيرة العرب بحيث أطمؽ عمييا
ىذا االسـ ،كاني ألتساءؿ عالما اعتمد الصميبي في بناء افتراضو ىذا بكجكد أصؿ عبرم
ألسماء المناطؽ العربية في جزيرة العرب ،أك خضكعيا لتحكالت لغكية فيما بيف العربية
83
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
كالعبرية ،إال أف يككف افتراضو قائمان عمى التصكر الييكدم التكراتي الذم يقكؿ بأسبقية المغة
العبرية عمى غيرىا ،فيذا شأف آخر.
يعرؼ الصميبي منيجو بأنو" :مقارنة لؤلسماء السامية القديمة لؤلماكف التي تكردىا
التكراة بالتيجئة العبرية ،مع أسماء أماكف مازالت مكجكدة في عسير كجنكب الحجاز،
كىي أسماء تكردىا المعاجـ بالتيجئة العربية .كىناؾ ما يقارب ( )3000سنة تفصؿ
الصيغ التكراتية ليذه األسماء عف مثائميا الراىنة .كفي إطار [التغيرات المغوية التاريخية]
تبدك ىذه الفترة الزمنية طكيمة جدان ،كالبد أنيا استكعبت أكثر مف تغير لغكم كاحد جرل
في بالد الشرؽ األدنى ،ناىيؾ عف [التحوالت] الطارئة عمى الميجات المحكية في كؿ
مرحمة .كال عجب أف [األسماء التوراتية شيدت بعض التحريف] خالؿ ذلؾ ،إال أف
المدىش فعالن ىك أف ىذه األسماء بقيت في أكثرىا قابمة لمتمييز الفكرم في زييا العربي
الراىف[.]1
يبيف لنا الصميبي في سياؽ شرحو لمنيجو ،أنو مف الطبيعي أف تككف أسماء األماكف
التكراتية في غرب الجزيرة العربية قد شيدت بعض التغير في إطارم عمـ األصكات الكالمية
كعمـ التشكؿ الكالمي بعد مركر ثالثة آالؼ سنة ،كمثاؿ عمى ذلؾ يمكف لؤلحرؼ الساكنة في
العبرية أف تصبح مختمفة في العربية كالعكس بالعكس مف خالؿ خاصية [االستبدال] -أم تبدؿ
أماكف الحركؼ الساكنة داخؿ الكممات بيف لغتيف [ساميتين][ ،]2بؿ كبيف الميجات المختمفة لمغة
الكاحدة .كما أف بعض الكممات أك األسماء يمكف أف تتعرض لمتحريؼ الناجـ عف التقديـ
الكتابي ،فاألبجدية السامية في األصؿ تألفت مف ( )22حرفان ساكنان بما فييا اليمزة ،كالكاك
كالياء ،لكف نتيجة اختالؼ النطؽ بيف المغات ىذه ،فقد كانت تعتمد حركفان كثيرة فييا أكثر مف
84
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
الحركؼ التي تحددىا األبجدية ،ككاف الناس يعكف العالقة بيف أحرؼ النطؽ كأحرؼ الكتابة
ىذه عف طريؽ الحدس .ثـ في مراحؿ أخرل تمت عممية زيادة حركؼ األبجدية في بعض ىذه
المغات مف خالؿ عممية التنقيط أك ما شابو ،كصار االعتماد عمى األبجدية أكبر في نطؽ
الكممات المكتكبة ،كنتيجة لذلؾ كمو ،فقد يحؿ حرؼ في المغة العبرية محؿ حرؼ آخر في المغة
العربية[.]1
جدول ( :)1الحروف التي تخضع لقواعد االستبدال بين المغتين العبرية والعربية
كما وضحيا كمال الصميبي
احلروف انؼرتيح احلروف انؼربيح
خ ح
ت ط
ف (في الحقة جمع المذكر خاصة) ـ (في الحقة جمع المذكر خاصة)
ـ ف
غ ع
ث ؼ
[ .]1كماؿ الصميبي :التكراة جاءت مف جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .22 -21
85
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
ش س
كبحسب الصميبي ،تبقى أربعة حركؼ عبرية (ب ،ق ،ؿ ،ر) ال تتحكؿ الى
حركؼ أخرل عربية ،بؿ تبقى ىي نفسيا في الجذكر المشتركة بيف المغتيف ،ككذلؾ
حرؼ (س السامؾ) بالعبرية يبقى سينان بالعربية ،كقد يتحكؿ الى (ص) في المفظ،
كربما الى (ز) ،كال كجكد لمتاء المربكطة (ة) كاأللؼ المقصكرة (ل) في العبرية
كيستعاض عنيما كالحقتي التأنيث بالياء (ق) ،كىاء التأنيث العبرية تنقمب (ت)
عادية.
المصدر :كمال الصميبي :التوراة جاءت من جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص
.22 -21
كمف الظكاىر التي تجرم عمى الكممات كاألسماء بيف المغات السامية ،تمؾ المتعمقة
بأدكات التعريؼ ،فكثي انر ما ينقمب حرؼ (ؿ) في أسماء األماكف التكراتية ميما كاف مكضعو في
الكممة ،الى (أؿ) التعريؼ في االسـ المعرب ،عمى نحك[:]1
كأيضان أداة التعريؼ العبرية (ق) تتحكؿ الى (اؿ) التعريؼ في العربية.
كىناؾ أسماء األماكف التكراتية عمى كزف (يفعؿ /تفعؿ) تتحكؿ الى العربية عمى كزف
(فعؿ /فعمو) ،عمى نحك[:]2
86
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
كيمكف أف تككف المقابمة بيف األلفاظ دكف النظر في لكاحقيا كأحرؼ العمة ،عمى نحك[:]1
اعتمادان عمى ىذا المنيج في مقابمة األسماء "عثر الصميبي عمى كامل األرض التوراتية
في غرب الجزيرة العربية ،ويمكن اعطاء أمثمة عمى نتائجو في مجموعتين ،المجموعة األولى
مقابالت يمكن النظر فييا ،أما المجموعة الثانية فجاءت نتائجيا نتيجة عمميات معقدة من
القمب واالستبدال"[.]2
عمكمان ،يمكف التعرؼ عمى طبيعة النتائج التي تكصؿ إلييا الصميبي مف خالؿ تطبيؽ
منيج مقارناتو المغكية بيف األسماء التكراتية كأسماء المناطؽ التي كجدىا بالصدفة في منطقة
عسير غرب الجزيرة العربية ،في ضكء ما يبينو الجدكؿ التالي.
اجملًىػح األوىل
الق اررة جرار /جرر
87
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
اجملًىػح انثانيح
طناطف نتينيـ /نتيف
الجرعاف عقركف
88
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
كعندما لـ يجد الصميبي مقابالن لبعض األسماء التكراتية ،عمد الى الجمع بيف اسميف
لمكقعيف متجاكريف في غرب الجزيرة كاعتبرىما معان مقابالن لالسـ التكراتي ،عمى نحك[:]1
كفي إحدل الطرؽ التي اتبعيا كماؿ الصميبي كفؽ منيجو المغكم ىذا ،ما استخدميا عند
تفسيره السـ [ممكي صدق] الذم يرد في التكراة متعمقان بشخصية النبي ابراىيـ ،فالمعنى السائد
ليذا االسـ أنو اسـ عمـ لشخصية تاريخية ،لكف الصميبي يستنبط لو معنى جديدان تمامان مخالفان
لكؿ التفسيرات المكسكية (الييكدية) كالمسيحية ،حيث أصبح معنى االسـ بحسب منيجو المغكم
[ألوك صدق] أي "ما يؤكل من الطعام"[ -!!..]2كقد اعتبر الصميبي تفسيره ىذا بأنو كشؼ
عظيـ.
جدير بالذكر أف الصميبي طالب بتطبيؽ ىذا المنيج ليس عمى التكراة فحسب ،بؿ كعمى
السجالت القديمة المصرية كالعراقية التي تشير الى األسماء التكراتية ،فأكد عمى ضركرة إعادة
قراءاتيا بعيدان عف التأكيالت الجغرافية كالطكبكغرافية القائمة ،كبعيدان أيضان عف أعماؿ عمماء
التاريخ كالجغرافيا الكالسيكييف التي قد تككف مساعدة[.]3
يبدك حتى اآلف ،أف الصميبي ال يرل حدكث أم تزكير في أسماء األماكف التكراتية ،كأف
األمر برمتو ناتج عف التحكالت المغكية التي طرأت عمى تمؾ األسماء في مناطقيا األصمية،
كعكامؿ أخرل تاريخية مثؿ [فقدان الذاكرة الجمعية لشعب اسرائيل] ،كالذم أدل الى نسيانيـ
حقيقة أرضيـ األكلى ،ثـ حدث أف ىذا الشعب انقرض كباد ،في حيف بقيت الديانة الييكدية الى
ما بعد مرحمة السبي البابمي ،كعندما عاد الييكد [معتنقي الديانة الييودية] الى أرض اسرائيؿ
األكلى في غرب الجزيرة العربية لـ يجدكا فييا أسبابان لمعيش ،فساحكا كتشتتكا في األرجاء
89
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
كارتحمكا الى فمسطيف كاستقركا بيا ،كىناؾ قامكا بإحياء ما عمؽ بذاكرتيـ مف تمؾ األسماء
لمناطقيـ األصمية كأطمقكىا عمى مناطقيـ الجديدة ،كمف ثـ تمكنكا في مرحمة ما مف تاريخ
كجكدىـ في فمسطيف مف إقامة دكلة ليـ فييا ابتداء مف سنة ( 140ؽ .ـ) ،كمف بعد ذلؾ كمو
ساد االعتقاد بأف جغرافية التكراة ىي فمسطيف[.]1
أدعك القارئ العزيز ىنا ،الى االحتفاظ بالفكرة السابقة التي رسـ بيا الصميبي مسار تاريخ
بني اسرائيؿ كمرحمة مف مراحؿ تاريخ الديانة الييكدية ،ثـ انقراضيـ كبقاء الديانة محمكلة عمى
كاىؿ معتنقييا مف غير بني اسرائيؿ ،بحيث لـ يعد ىناؾ أم سبب لمحديث عف أم اثنية
مرتبطة بيا في مراحميا التاريخية الالحقة ،ألف ىذه الفكرة ستقكدنا الحقان الى استنتاجات صادمة
لمغاية.
بيد أف الصميبي كقد أشاد باألمانة العممية لمماسكرييف ،لـ يمانع في القكؿ باحتماؿ أف
ىناؾ تالعبان أك شيئان مف ىذا القبيؿ قد كجد في متف النص التكراتي ،فقد أشار في سياؽ
محاكلتو فؾ طالسـ إحدل األحجيات التي صادفيا باستخداـ منيجو المغكم ،الى تالعب كامف
في بنية النص التكراتي نفسو ،كليس أنو كاقع عميو .فالطريقة التي كتبت بيا بعض األسفار
انطكت عمى تالعب كالمي أك ما شابو ،مف شأنو أف يضمؿ عف حقيقة األماكف المقصكدة
بالفعؿ:
"كلعؿ ىناؾ تالعبان بالكممات قد جرل في بعض النصكص التكراتية ،كالتي كثي ارن ما
تحاكؿ أف تكحي معاني ألسماء األعالـ كاألماكف عف طريؽ ىذا التالعب الكالمي،
خصكصان في األسفار التي تعالج فترات ما قبؿ التاريخ ،كالتي تعنى باألساطير أكثر مف
كاقع األحداث"[.]2
مكجز لمنيج الصميبي ،كمف ثـ فقد سار الباحث المبناني "زياد منى"
ان كاف ىذا تكضيحان
عمى كقع خطكات الصميبي كمنيجو ،مقر انر أف:
[ .]1فراس السكاح :الحدث التكراتي كالشرؽ األدنى القديـ :ىؿ جاءت التكراة مف جزيرة العرب -نظرية كماؿ
الصميبي في ميزاف النقد كالحقائؽ العممية ،مرجع سابؽ ،ص .19 -18
[ .]2كماؿ الصميبي :التكراة جاءت مف جزيرة العرب ،مرجع سابؽ ،ص .128
90
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
كبعد أف أكرد "زياد منى" عددان مف األمثمة التي كضح مف خالليا كيؼ طبقت ظاىرتي
[القمب واالستبدال] مف قبؿ [عمماء االختصاص] ،كخشية منو عمى أال يصاب القارئ بالممؿ
مف سرد المزيد مف األمثمة ،فقد أكد عمى أف:
"جميع ما ساقو مف أمثمة يعد كافيان لتكضيح أف [عمماء التوراة] يكظفكف ىذه
الظاىرة المغكية بشكؿ ركتيني ،أم أف ىذا ىك جزء مف منيجية عممية ال يمكف االستغناء
عنيا في مثؿ ىذه األبحاث المعقدة ،كأف ما يحؽ ألىؿ االختصاص تكظيفو مف منيجية،
يجكز لغيرىـ مف العامميف في المجاؿ نفسو ،كبال حرج"[.]2
لـ يتعرض "منى" لمسألة التزكير أك التالعب ،بؿ لـ يكرس أم اىتماـ ليذه المسألة،
معتمدان في ذلؾ عمى ما أسسو الصميبي ،كىذا ما يدفعني الى القكؿ بأف "الصميبي كمنى" ال
يقكالف بحدكث تزكير متعمد في األسماء الجغرافية التكراتية ،بؿ يؤكداف بشكؿ أك بآخر عمى أف
األمر ناتج في األساس عف أسباب لغكية كتاريخية ،ثـ عف قراءة خاطئة لمنصكص التكراتية،
ساىمت في تعميقيا القراءات االستشراقية.
عمى خالؼ الصميبي الذم بنى منيجو دكف أف يكضح لنا المصدر الذم اقتبسو منو،
يبيف لنا "منى" أف ىذا المنيج ىك باألساس ما طبقو عمماء االختصاص أم عمماء التكراة ،كلعؿ
ىذا األخير تبنى كجية نظر استاذه الصميبي بشأف التالعب الكالمي الكامف في بنية النص
التكراتي ،كالذم صار باإلمكاف اكتشافو بفضؿ ىذه المنيجية.
انتقاالن الى البحث عف طبيعة المنيج الذم اتبعو الباحث السكرم "أحمد داككد" ،البد مف
تكضيح أم انر ميمان بشأف مساىمة أحمد داككد في ىذه النظرية مف الناحية العامة .إذ يمكف القكؿ
[ .]1زياد منى :جغرافية التكراة :مصر كبنك اسرائيؿ في عسير ،مرجع سابؽ ،ص .33
[ .]2المرجع السابؽ ،ص .38
91
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
بأف داككد قد شؽ لو طريقان مختمفان تمامان عف سائر ركاد النظرية ،إف لـ يصدؽ عميو القكؿ بأنو
ككف لنفسو نظرية تكاد تككف مستقمة بالفعؿ ،لكال تمؾ الحمقة التي ربطت نظريتو بنظرية
الصميبي كاآلخريف ،كالمتمثمة في اتجاىو الى إعادة قراءة التكراة كالسجالت األثرية كفؽ قكاعد
منيجية مغايرة لمقكاعد التي أرساىا المستشرقكف كعمماء اآلثار الغربيكف المنحازكف دكمان
لمصييكنية -مف كجية نظره .عدا ذلؾ نجد لدل داككد جيدان مختمفان تمامان ،انطكل عمى
مضمكنات كثيرة تستحؽ بالفعؿ الكقكؼ عمييا.
لـ يخرج داككد في الشكؿ العاـ عف الفكرة الرئيسية لمنيج المقابالت المغكية ،لكنو تفرد
في طرائقو التي اختصيا لنفسو ،كمرجعياتو المغكية كالتاريخية كاألثرية التي اعتمدىا في دراساتو،
ناىيؾ عف التكجو العاـ لنظريتو كالذم يتسـ بطابع مميز تمامان عما ماؿ إليو الركاد اآلخركف.
بيد أننا إذا ما ركزنا عمى الجانب الذم يتفؽ فيو داككد مع أكلئؾ اآلخريف ،فسنجد أنو قد
عبر عف كاحدة مف أىـ الحقائؽ الثابتة التي قررىا ىك ،كحدد طبيعة التزكير الذم جرل عمى
جغرافية التكراة ،كاآلتي:
نفيـ مف كالـ داككد – حتى اآلف عمى األقؿ -أف التزكير لـ يقع عمى النص التكراتي بؿ
عمى قراءتيا كتفسيرىا مف قبؿ المستشرقيف الذيف عممكا عمى الدكاـ في خدمة المشركعات
االستعمارية كالصييكنية ،كبدالن مف أف تحاؿ األحداث التاريخية في التكراة أثناء عممية قراءتيا
[ .]1أحمد داككد :العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد ،مرجع سابؽ ،ص .92
92
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
كتفسيرىا الى مكطنيا الحقيقي كىي منطقة "غامد" في غرب جزيرة العرب ،تـ إحالتيا الى
جغرافية أخرل كىي جغرافية فمسطيف.
كمع ذلؾ ،فإف "داككد" يضيؼ الى ىذا الفيـ أمك انر أخرل تفيد بأف النص التكراتي بالفعؿ
قد تعرض لعمميات تزكير عديدة:
"التكراة التي بيف أيدينا ليست ىي تكراة مكسى األصمية ..ككما ىك ثابت لدينا فقد
كضعت ىذه التكراة كجمعت ألكؿ مرة في القرف الثالث قبؿ الميالد -بعد زمف مكسى
بألؼ عاـ ،ثـ خضعت لمترجمة الى لغات متعددة منيا السريانية كبقية المغات األخرل في
العالـ .كما أضيفت لمتكراة أسفا ارن أخرل في مراحؿ تاريخية متعددة ،كما تزاؿ حتى اليكـ
تخضع مف طبعة الى أخرل لعمميات تزكير في جغرافية ينبغي أف أال يغفؿ عنيا أم
دارس متمعف حصيؼ .ف ػ "بحر" عربت ،الذم كاف اسمان لنير الفرات حيف مركره في برية
شبو جزيرة العرب صار البحر الميت ،كبحيرة "كناركت" في المكضع نفسو صارت بحرية
طبريا ،كبيت صكر -الذم ىك اسـ شخص -صار مدينة صكر.]1["..
يتضح مما تقدـ كمف األمثمة التي قدميا داككد في النص السابؽ ،أف منيجو ال يخرج عف
نطاؽ المنيج المغكم الذم رسـ معالمو الصميبي ،غير أنو يجعؿ مقارناتو المغكية بيف التكراة
بنصيا اآلرامي -كليس بنصيا العبرم -كبيف القامكس الكمداني ،فيعالج عمى سبيؿ المثاؿ معنى
كممة "فمسطيف" ،عمى النحك اآلتي:
"إف الكممة ىي في األصؿ "فمستيـ" أك "فمشتيـ" كىي جمع "فمستك" كتعني في
العربية القديمة :المحارب ،المقاتؿ ،الثقاب ..الخ .كىي فمشتك" في القامكس الكمداني"[.]2
كفي سياؽ متصؿ ،يرسـ داككد مسا انر تاريخيان طكيالن لعممية التزكير التي حصمت كتكرر
حصكليا في جغرافية التكراة ،كأف األمر برمتو يدخؿ في نطاؽ ما قاـ بو عمى الدكاـ مف كصفيـ
ب ػ [مزوي التاريخ] دكف أف يحدد لنا بالضبط منيـ:
93
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
كلكي يتضح األمر أكثر بشأف رؤية داككد لحقيقة التزكير الذم حصؿ ،كالذم كشفتو أكالن
بناء عمييا أقاـ ىك نظريتو المختمفة لحقيقة التاريخ كالجغرافيا التي تحددىا
المكتشفات اآلثارية ،ك ن
التكراة ،البد مف التنكيو الى أنو يرل أف عممية التزكير ىذه بدأت منذ نشأة الييكدية كديف عندما
حاكلت آنذاؾ ىذه الديانة أف تربط نشأتيا بإبراىيـ كاسحؽ كيعقكب (اسرائيؿ) كبنيو -الذيف ىـ
مف األركمة العربية بال شؾ عند داككد ،ثـ جاءت الحركة الصييكنية حديثان كجعمت كؿ مف
ينتمي لمييكديػ ػة مف شتى األعراؽ كاألجناس ينتسبكف الى بني يعقكب -أم الى بني اسرائيؿ[.]2
بناء عمى ىذه القناعات كغيرىا يعيد الباحث السكرم "أحمد داككد" تحديد مسرح أحداث
ن
التكراة في [غامد غرب الجزيرة العربية] ،فيجد كفؽ منيج مقارناتو المغكية بدائؿ ل ػ أريحا ولبنان
وسعير وأدوم ونير األردن ..وغيرىا مف األماكف التكراتية في مسرحو التكراتي الجديد.
تدعك الحاجة الى التأمؿ في منيجية المفكر العربي "فاضؿ الربيعي" .فيي باألساس
منيجية لغكية منبثقة عف نفس المنيج المغكم الذم قاؿ بو الصميبي كالمستمد أصالن مف مناىج
المستشرقيف التكراتييف ،كما رأينا مؤخ انر في تصريح لػ "زياد منى" ،ككما سبؽ أف تبيف لنا في
الفصؿ األكؿ .أما كيؼ أقاـ الربيعي منيجو .فقد حكى أنو ذات مرة "التفت الى كتاب "صفة
جزيرة العرب" ،حيث الحظ أف اليمداني كاف يصؼ في كتابو ىذا جغرافية التكراة التي يحفظ
94
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
الرب يعي أسماءىا عف ظير قمب ،كالتي كجدىا لدل اليمداني كما ىي في التكراة دكف تالعب.
كلما عاد -أم الربيعي -الى التكراة بترجمتيا العربية تأكد مف األمر ،لكنو لـ يقتنع كبدأ بسمسمة
قراءات في ىذا الصدد حتى تككنت لديو قناعة تامة بأف اليمف ىي مسرح أحداث التكراة"[.]1
ان تيى الربيعي بعد ذلؾ الى ضركرة العكدة الى النص التكراتي العبرم ،فعكؼ عمى دراسة
المغة العبرية لسنكات مف عمره بحث فييا عن الجذور الحقيقية ليذه المغة ،وتعرف عمى ذلك
التماثل المثير الذي لم يقتصر فقط عمى األلفاظ من حيث طريقة نطقيا فحسب ،بل وحتى في
أشكال رسم األسماء في الميجات اليمنية القديمة والعبرية"[.]2
يصؼ الربيعي منيجو بأنو" :عرض النص التكراتي بمغتو األصمية مع ترجمتو ىك
– أم ترجمة الربيعي لمتكراة -كىي عمى حد تعبيره ترجمة أمينة الى أقصى حد ممكف،
كخصكصان لمقصائد كالمراثي التي كتبيا أنبياء التكراة كشعراء الييكدية ،مميدان السبيؿ أماـ
كصؼ اليمداني لممكاضع ذاتيا كباألسماء ذاتيا ،ثـ استخدـ الربيعي تكصيؼ شعراء
الجاىمية لؤلماكف نفسيا ،مف حيث سجمكا في أشعارىـ معظـ أسماء المكاضع الكاردة في
التكراة ،كبيذه المنيجية سكؼ نرل األساطير التي نسجيا المستشرقكف األكربيكف ،منذ
مطم ع القرف الماضي عف فمسطيف التكراتية ،كالتي أدت الى بزكغ فمسطيف أخرل ال كجكد
ليا إال في المخياؿ االستشراقي ،كأف فمسطيف الحقيقية أك أرض التكراة ليست إال
اليمف"[.]3
أما رؤية الربيعي لمتزكير الذم حصؿ ،فمف الصعب تكصيفيا نظ انر لعدـ تركيزه في
معالجة ىذه المسألة بشكؿ متسؽ ،فمو في كؿ مقاـ في كتبو كمؤلفاتو تكصيفان مختمفان كمتناقضان
[ .]1فاضؿ الربيعي :فمسطيف المتخيمة :أرض التكراة في اليمف القديـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .14
[ .]2لـ يكضح الربيعي حتى اآلف -عمى األقؿ فيما اطمعت عميو مف مؤلفاتو -ذلؾ التشابو الذم رآه في أشكاؿ
رسـ األسماء في الميجات اليمنية القديمة كالعبرية ،كىك بال شؾ يقصد أف ىناؾ تشابيان بيف أشكاؿ رسـ
الحركؼ األبجدية بيف خط المسند السبئي -الحميرم كالكتابة العبرية -!!...المرجع السابؽ ،ص .19 -18
[ .]3المرجع السابؽ ،ص .19
95
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
مع التكصيفات األخرل ،كقد كجدت لو نصان بالغ األىمية يكشؼ عف ركح تمؾ التناقضات ،يقكؿ
فيو:
"إف التكراة التي بيف أيدينا اليكـ ىي نتاج تالعب باألسماء الحقيقية أسفرت عنو
نشاطات االستشراؽ الكالسيكي ،كأف جيكد أجياؿ مف المؤرخيف كعمماء اآلثار التكراتييف
كالدراسيف كالكتاب انتيت – كميا -الى تزكير الكثير مف مركيات التكراة كتأكيميا تأكيالن
مغمكطان ،كأف كؿ ما كرد مف أسماء ألماكف كمكاضع كشخصيات كأسماء كقبائؿ ال كجكد
ليا البتة في التاريخ الفمسطيني ،كاليمداني أثبت ذلؾ في عصره"[.]1
يرل الربيعي أف التزكير ذك طابع مزدكج مف حيث طاؿ النص التكراتي كطاؿ قراءتو
كتفسيره أيضان ،كبالتالي فإف ىذا كافيان العتبار كؿ الجيكد التي بذلت مف قبؿ كؿ الباحثيف
كالدارسيف مطعكنة في شرفيا كصدقيا ،ألنيا قائمة عمى ىذا التزكير نفسو ،كبنا نء عميو يرفض
الربيعي القبكؿ بأم شيء مف تمؾ الجيكد السابقة ،كأنو ال يمكف االعتداد بيا ،كمثالن:
"فإف مف الصعب إيجاد رابطة لغكية أك جغرافية أك تاريخية ،بيف االسـ التكراتي
(ىػا -يردف) كنير األردف .كلئف كجدت ،كبالضد مف إرادة البحث التاريخي النزيو ،مثؿ
ىذه الرابطة الكاىية كالشكمية كغير المبرىف عمييا ،فإنيا لف تككف سكل صكرة زائفة مف
صكر المطابقات المخيالية التي ربطت بيف قصص التكراة كفمسطيف"[.]2
لـ يعرؼ تاريخ العمـ الحديث كالمعاصر أحدان تحدث بمغة العمـ كباسـ الحقيقة كأخالقيات
المعرفة كالبحث العممي ،بيذه المغة المتطرفة التي تحدث بيا الربيعي ،حتى المستشرقيف كعمماء
96
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
اآلثار التكراتييف الييكد كىـ األكثر تعصبان كتطرفان لـ يتبنكا مكقفان كيذا .فميس ثمة طرح نزيو
كأميف إال طرح الربيعي كما عداه ليس إال زيؼ كمخياؿ استشراقي.
بالنسبة لي ،ال أعرؼ أم منطؽ يقؼ كراء آراء الربيعي ىذه ،كال أستطيع أف اتصكر أف
ثمة منطقان يسمح بقبكؿ ذلؾ .فما يتميز بو منيج الربيعي ليس إال نزعتو األحادية المتطرفة،
فالتكراة ترجميا ىك كال ترجمة نزيية في نظره سكاىا ،كاليمداني كالشعر الجاىمي فسر
مضمكناتيا ىك ،كما أف لو قراءاتو كتفسيراتو لمنقكش كالسجالت األثرية ،التي ال يقبؿ بغيرىا أك
بغير ما يتفؽ معيا .كبعد ذلؾ كمو يخبرنا مفكرنا بأنو اعتمد عمى التشابو السميـ بيف األسماء،
انطالقان مف مكقفو الرافض لتطبيؽ طرائؽ القمب كاالستبداؿ التي طبقيا مف سبقكه في ىذا
المجاؿ.
بالنسبة لبقية ركاد النظرية اآلخريف ،فالبعض منيـ اعتمد تطبيؽ المنيج األصمي
لمصميبي ،فيما اكتفى البعض اآلخر باالعتماد عمى التشابو السميـ بيف األسماء ،كالمجكء أحيانان
الى نقؿ معاني األسماء مف لغة الى أخرل ،كال داعي لمتفصيؿ فيما ذىب إليو كؿ منيـ ،نظ انر
الستيعاب جميع أبعاد المسألة فيما تقدـ.
خالصة األمر حتى ىذه النقطة ،ىك أف جميع ركاد النظرية قد اعتمدكا بشكؿ مباشر
عمى [منيج دراسة التحوالت والجذور المغوية] كاف كانت أغمب تطبيقاتيـ ال ترقى الى التطبيؽ
الفعمي ليذا المنيج ،بقدر ما كانت مجرد مقارنات كمقابالت لفظية ال أكثر ،تعتمد عمى التشابو
الظاىر أك عمى امكانية تطبيؽ بعض قكاعد القمب كاالستبداؿ التي طبقيا المستشرقكف ،كىدفكا
جميعان مف ذلؾ الى ما كصفكه بالكصكؿ الى جذكر األسماء التكراتية في المغة العبرية كالمغة
اآلرامية كالسريانية ،فضالن عف العربية ،كىـ بذلؾ يعتبركف أف تطبيقاتيـ المختمفة لتمؾ المقارنات
بأنيا منيج لغكم يرقى في نتائجو الى مستكل نتائج عمـ اآلثار -كما صرح بذلؾ رائد النظرية
األكؿ كماؿ الصميبي -كلو قكاعده العممية كأسسو كمرتكزاتو الكثيقة ،كمف ثـ فإف النتائج التي
تكصمكا إلييا كفؽ ىذا المنيج جديرة بالنظر.
97
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
أما فيما يتعمؽ برؤيتيـ لحقيقة التزكير الذم جرل في جغرافية التكراة ،فقد تباينت آرائيـ
كتفسيراتيـ ليذه المسألة ،بيف ما قاؿ بأف التزكير طاؿ النص التكراتي في العصكر القديمة
كتكرر كقكعو دكمان في مراحؿ تاريخية الحقة ،كمف قاؿ بأنو ناتج فقط عف القراءة الخاطئة
لمتكراة كالتي أدت الى تككيف كتعميـ كاشاعة فيـ محرؼ كمزيؼ لمنص التكراتي ،نجـ عنو
تحريؼ حقيقة جغرافية أحداثو بإسقاطيا عمى فمسطيف ،كجميع التفسيرات التي طرحكىا تظؿ
عاجزة تمامان عف إيضاح ىذه المسألة ،فضالن عف تناقضات آرائيـ فييا كالتي ال نخرج منيا الى
نتيجة حاسمة بأم شكؿ مف األشكاؿ.
98
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
)(2
[]1
يشروع تهىيد اجلغرافيح انفهسطينيح
"منىذج تطثيقي"
تأكد لنا فيما سبؽ كبما ال يدعك الى الشؾ أك ينزع بنا مرة أخرل الى االرتياب ،أف منيج
دراسة التحكالت المغكية التي تجرم عمى األلفاظ كالمسميات فيما بيف لغتيف أك أكثر في مراحؿ
تاريخية ،كالذم طبقو الصميبي كسائر ركاد جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب في معالجة ىذه
النظرية ،ىك في األساس -كبإقرار ىؤالء الركاد أنفسيـ -منيج ابتكره المستشرقكف التكراتيكف في
نطاؽ تأسيسيـ كتطكيرىـ لحقؿ الدراسات المغكية التاريخية المقارنة ،كما أف ىذا المنيج قد طبؽ
بالفعؿ مف قبؿ مستشرقيف كباحثيف أكركبييف كييكد لمبحث عف مكاقع األماكف التي كرد ذكرىا
في التكراة ،كذلؾ في نطاؽ جغرافية الشرؽ األدنى كميا -أم جغرافية العراؽ كسكريا كفمسطيف
كمصر -كليس في فمسطيف كحدىا.
تفيدنا مراجعة التاريخ ،بأف فمسطيف منذ القركف األكلى بعد الميالد كانت تحت سيطرة
الركماف غالبان حتى القرف السابع الميالدم ،كمف ثـ دخمت تحت عباءة دكلة الخالفة االسالمية
لقركف طكيمة ،قبؿ أف تعكد مجددان كتقع تحت سيطرة الصميبييف األكركبييف لقرف مف الزماف أك
أقؿ مف ذلؾ قميالن ،ثـ استعادتيا مف قبؿ المسمميف في عصر الدكلة األيكبية ،كمف ثـ دخكليا
انتياء بخضكعيا لحكـ الدكلة العثمانية حتى الحرب العالمية األكلى في
في حكـ المماليؾ ك ن
[ .]1اعتمدت في ىذا الفصؿ بالذات عمى مصادر مكثكقة كمعترؼ بيا مف قبؿ الدكائر الرسمية لمسمطة
الفمسطينية ،فضالن عف أف أغمبيا لباحثيف فمسطينييف متخصصيف في مسألة األسماء كاألعالـ الجغرافية
الفمسطينية ،كليـ جيكدىـ المشككرة في تكثيؽ عمميات تيكيد تمؾ األسماء مف قبؿ الكياف االسرائيمي .فقد
حرصت منذ بداية ىذه الدراسة عمى أف تككف اقتباساتي كثيقة كحرفية قدر المزكـ كاإلمكاف ،كأال يخدشيا أم
تصرؼ أقكـ بو أك يفقدىا جكىرىا المكضكعي الذم تنطؽ بو في مكاقعيا األصمية ،كما حرصت عمى أف تككف
االقتباسات سميمة مف البتر المقصكد كغير منزكعة مف سياقاتيا ،فجعمت كؿ منيا في سياؽ مقارب لمسياؽ
الذم أخذتو منو ،كفصمتيا جميعان عف تعميقاتي .كال يسمـ عمؿ المرء مع ذلؾ مف الزلؿ كالقصكر( .الباحث)
99
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
مطمع القرف العشريف ،إذ كقعت بعدىا تحت سمطة االنتداب البريطاني كالذم سمح لمييكد
باالستيطاف في أجزاء منيا أكالن تنفيذان لكعد بمفكر الشيير عاـ ،1917ثـ السماح ليـ بالتكسع
االستيطاني حتى إعالف قياـ دكلتيـ عاـ ،1948كبقية القصة نعرفيا.
خالؿ ىذه الفترة الزمنية الطكيمة جدان ،كبالتحديد الى نياية القرف الثامف عشر الميالدم،
كانت الفاعمية الييكدية عمى أرض فمسطيف غائبة تمامان ،كال يمكف الحديث عف أم تحريؼ أك
تزييؼ يمكف أف يككف قد طاؿ جغرافية فمسطيف بالنسبة لمتكصيؼ الجغرافي الذم يرد في
التكراة ،الميـ إف شاء البعض منا أف يفترض احتماالن –ال قطعان -أف يككف التزكير قد كقع عمى
النص التكراتي ،فيذا أمر آخر ألف التكراة خضعت بالفعؿ كمازالت تخضع لعمميات التدخؿ في
نصيا بطرؽ كأشكاؿ مختمفة منذ قركف طكيمة ،كلكف يجب أف يأخذ باالعتبار كؿ مف يتبنى ىذا
االحتماؿ أف التكراة كفيما يتعمؽ بجغرافية فمسطيف بالذات ليست مصدرنا الكحيد.
ما نعرفو حؽ اليقيف مف التاريخ الحديث كالمعاصر ،أف تفكير الييكد بشكؿ جدم في
اقامة دكلة ليـ في فمسطيف بدأ في منتصؼ القرف التاسع عشر ،األمر الذم تزامف مع ظيكر
الحركة الصييكنية العالمية كالتي لعبت أكؿ أدكارىا في ىذا الشأف سنة ،1878عندما دعمت
تأسيس أكؿ مستكطنة ييكدية شرؽ مدينة يافا الفمسطينية أطمؽ عمييا اسـ "بيتح تيكفا" [פֶּתַ ח
תִּ ְקוָה] -كتعني فتحة األمؿ ،تبع ذلؾ عمميات تأسيس أخرل لبمدات كمستكطنات ييكدية تقكـ
عمى النشاط الزراعي في مناطؽ السيؿ الساحمي غرب فمسطيف.
"فقبؿ ظيكر الحركة الصييكنية المنظمة في أكاخر القرف التاسع عشر كاف اإليماف
بػالعيد القديـ (التكراة) ال يعدك أكثر مف ككنو ديننا كعقيدة ،أما بعد ظيكر الصييكنية
أصبحت التكراة عقيدة كسياسة ،ثـ سرعاف ما صار [منيجاً لمبحث في اآلثار والتاريخ]،
لكؿ مف يؤرخ ألرض فمسطيف أك بالد الشاـ ،كانحصر اىتماـ العمماء الصياينة -كالذيف
يدكركف في فمكيـ -بتقديـ كثائؽ مف التنقيبات األثرية إلثبات أف فمسطيف ىي أرض
100
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
الميعاد التي كعد اهلل بيا الشعب الييكدم ،كاثبات كجكد كياف ييكدم قديـ يحؽ لمحاضر
أف يكصمو"[.]1
بدأت عمميات تأسيس كبناء المستكطنات الييكدية األكلى في فمسطيف في سياؽ الجيكد
الصييكنية التي بذلت تحت شعار [العودة الى أرض اسرائيل -أرض الميعاد] ،كالذم أصبح
شعا انر لمشركع قكمي لكؿ ييكد العالـ ،ساندتو الدكؿ األكركبية كسخرت ألجمو الكثير مف
اإلمكانيات التي كانت تحظى بيا المؤسسات االستشراقية ،التي حممت عمى عاتقيا ميمة كضع
بناء عمى
األسس المعرفية كالتاريخية كالجغرافية األكلى التي تستند إلييا االدعاءات الصييكنية ،ن
النص التكراتي.
كما جرل تصميـ منيجية خاصة لرسـ الخرائط التي تعيف مكاقع األسماء التي كرد
ذكرىا في" العيد القديـ" ،كحدكد مناطؽ األسباط اإلثني عشر ،كالخرائط التي أعدت مف
[ .]1محمد حسف شراب :مكسكعة بيت المقدس كالمسجد األقصى ،التاريخ ،اآلثار ،األعالـ كاألمكنة كالرجاؿ-
الجزء األكؿ ،األىمية لمنشر كالتكزيع ،عماف .2003 ،ص ص .76 ،48
[ .]2خيرية قاسمية :نشاطات صندكؽ استكشاؼ فمسطيف ( )1915 - 1868مجمة شؤكف فمسطينية ،مركز
األبحاث الفمسطيني ،بيركت ،العدد ( ،)112يكليك ،1980ص .83
101
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
كجية نظر مصممييا لػ "اقتفاء آثار الجيكش الغازية كاليجرة القديمة" ،باإلضافة إلى قراءة
النقكش الباقية كفؾ رمكزىا"[.]1
بالرغـ مف أف صندكؽ استكشاؼ فمسطيف قد انطمؽ مف فكرة دينية تيدؼ إلى دراسة كؿ
ما يتعمؽ باألرض المقدسة ،إال أف حقكؿ نشاطاتو تعدت المسألة الدينية العممية كدخمت بشكؿ
مباشر في المسائؿ السياسية كاالستعمارية .فكانت اجتماعاتو غالبان ما تشير إلى فكرة "عكدة
الييكد" ،كما أف أعمالو قد شجعت بطريقة غير مباشرة عممية االستيطاف الييكدم بتقديـ صكرة
مفصمة عف فمسطيف[.]3
منذ ذلؾ الكقت بدأت العممية التي كصفت دائمان ب ػ "استعادة صكرة األرض الفمسطينية في
ضكء النص التكراتي" بشكؿ كاسع ،بحيث جرل التركيز بدرجة كبيرة عمى أسماء المناطؽ
كالمكاقع كالقرل كالكدياف كالخرب كالتالؿ كالجباؿ ..الخ ،مما يرد في النص التكراتي كالبحث عنو
في إطار المسكحات األثرية كالجغرافية التي استمرت بدكف انقطاع منذ بدايات القرف التاسع
عشر ،كليس فقط مف عند جيكد صندكؽ استكشاؼ فمسطيف ،ككاف مف أىـ أىداؼ ىذه
العمميات إعادة تسمية األماكف بأسمائيا التكراتية -أك باألصح بأسمائيا العبرية التي ترد في
التكراة ،كىي العمميات التي استمرت الحقان في مرحمة ما بعد قياـ الدكلة العبرية في فمسطيف.
[ .]1أسعد رزكؽ :إسرائيؿ الكبرل دراسة في الفكر التكسعي الصييكني ،دار الحمراء لمطباعة كالنشر ،بيركت،
.2002ص .42
[ .]2إلياس شكفاني :المكجز في تاريخ فمسطيف السياسي :منذ فجر التاريخ حتى سنة ،1949مؤسسة الدراسات
الفمسطينية ،بيركت .1998 ،ص .282
[ .]3خيرية قاسمية :قضية الحدكد بيف مصر كفمسطيف قبؿ الحرب العالمية األكلى ،مجمة شؤكف فمسطينية،
مركز األبحاث الفمسطينية ،بيركت ،العدد ( ،)5تشريف الثاني .1971 ،ص .164
102
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
الجدير بالذكر ،أف كؿ الجيكد التي بذلت في ىذا السياؽ ،كانت تتجو أيضان الى إعادة
خمؽ اسرائيؿ الجديدة بنفس الخطكات التي حددتيا النصكص التكراتية كالتي جرت بيا نشأة
كظيكر اسرائيؿ القديمة ،ترافؽ مع ذلؾ كضع بعض المعالجات التاريخية المفترضة التي تجعؿ
مف امكانية مطابقة النشأة التاريخية إلسرائيؿ القديمة أم انر ممكنان في العصر الحاضر ،بما في
ذلؾ المعالجات المتعمقة بالعالقات الدكلية كاالقميمية ،ككيفية خمؽ المناخات الدكلية كاالقميمية
المناسبة لتمكيف اسرائيؿ مف البقاء بشكؿ أبدم ،كذلؾ مف خالؿ التأكيد عمى المعالجات
التاريخية كالجغرافية ،التي تتيح خمؽ فرص متعددة لمقبكؿ بمثؿ ىذا الكجكد لمدكلة االسرائيمية في
المنطقة العربية[.]1
منذ العاـ 1948بدأت بالفعؿ عممية تنفيذ "مشركع تيكيد األرض الفمسطينية" ،مف
خالؿ إطالؽ األسماء التكراتية كالييكدية عمى القرل كالمدف كسائر المكاقع الفمسطينية .إذ
يشير الصحفي االسرائيمي "تكـ سيغؼ" الى أف أكؿ ما أثير بيذا الشأف ،كاف بعد إعالف
قياـ دكلة اسرائيؿ عاـ ،1948عندما تصدرت مسألة تسمية مدينة يافا -التي سميت
الحقان "تؿ أبيب" ،مجاؿ النقاش كالخالؼ بيف الصياينة المحتميف .فاقترح البعض أف يعاد
تسميتيا بالصيغة العبرية [يافو] عمى أساس أف ىذا االسـ كرد ىكذا في التكراة ،في حيف
أصر البعض عمى تسميتيا ب ػ "تؿ أبيب" ليككف االسـ مكافقان لمتكجو الصييكني ،كمف ثـ
تـ االستقرار عمى االحتفاظ باالسميف [تل أبيب -يافا][.]2
في نفس السنة ،جرل تشكيؿ "المجنة الحككمية لؤلسماء" ،كالتي ضمت دائمان كحتى
اليكـ العديد مف المتخصصيف في التاريخ الييكدم كالجغرافيا كبعض المستشرقيف أيضان
كميمتيا دراسة أسماء األماكف كالمعالـ كالمكاقع الجغرافية ،ككضع بدائؿ عبرية لؤلسماء
العربية ،كبالفعؿ بدأت ىذه المجنة أعماليا ،فكانت تصدر سجالت كقكائـ ألسماء المناطؽ
[ .]1سيكون ليذه الفكرة شأن ميم وبالغ األىمية في الفصول القادمة ،من حيث تقودنا مسارات ىذه الدراسة
صوب مناقشتيا عمى نحو من التفصيل .ولسوف يساعدنا إدراك خفايا األىداف الكامنة وراء نظرية جغرافية
التوراة في جزيرة العرب ،في الوصول الى حقائق ما كانت تخطر عمى بال( .الباحث)
[ .]2تكـ سيغؼ :االسرائيميكف األكائؿ ،1949ترجمة :خالد عايد كآخركف ،الطبعة األكلى ،مؤسسة الدراسات
الفمسطينية ،بيركت .1986 ،ص .307
103
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
كالمكاقع العربية كما حؿ محميا مف األسماء العبرية كما قررتيا المجنة ،كتنشرىا في
الصحؼ كالنشرات الرسمية االسرائيمية بالمغتيف العبرية كالعربية ،فضالن عف إرساليا الى
الجيات المعنية ،كعمى رأسيا مجالس السمطة المحمية في القرل كالمستكطنات كالمكاقع
التاريخية كالخرب ،كالمناطؽ الطبيعية ،كفي المعالـ الجغرافية الخاصة كاألنيار كالعيكف
كاآلبار كالسيكؿ كالجباؿ كالتالؿ كالمغارات كالطرؽ كالجسكر ..الخ[.]1
كما سارعت الحككمة االسرائيمية الى تصميـ خارطة معدلة لمخارطة التي كضعتيا
حككمة االنتداب البريطاني عاـ 1944بمقياس ( ،)100,000 :1كبمغ عدد أجزائيا
( )16جزءن لكنيا لـ تشمؿ منطقة النقب .فمجأت إدارة المساحة اإلسرائيمية إلى زيادة ()8
أجزاء عمى ىذه الخارطة لتالفي النقص في خارطة االنتداب ،ثـ أجرت تعديالت عمى
أطكاؿ األجزاء ،فصدرت الخارطة الكمية بمجمكعة مف ( )26جزءن كبمقياس الرسـ ذاتو،
شاممة جميع المناطؽ مف أقصى الشماؿ حتى إيالت عمى البحر األحمر .ككانت
الطبعات اإلسرائيمية المتعاقبة ليذه الخارطة تحمؿ األسماء العبرية التي تـ إطالقيا عمى
األماكف الفمسطينية .كفي العاـ 1996صدر في إسرائيؿ" أطمس الطرؽ بمقياس رسـ
( )100,000:1عمى شكؿ كراس مككف مف نحك ( )100صفحة متضمنان بالمثؿ األسماء
العبرية لمطرؽ كالمعالـ المذككرة في ىذا األطمس[.]2
عمى صعيد أكسع ،اتجيت الحككمة االسرائيمية نحك تعميـ خرائطيا عمى المجتمع
الدكلي ،فتقدمت إلى المؤتمر الدكلي لتكحيد المصطمحات الجغرافية الذم انعقد في جنيؼ
في سبتمبر مف العاـ 1967بمذكرة طالبت فييا بإحالؿ األسماء العبرية محؿ األسماء
العربية األصمية لممكاقع العربية في فمسطيف ،كتعاكنت إسرائيؿ مع الييئات الدكلية كدكر
نشر األطالس كالكتب الجغرافية في العديد مف المؤسسات المنتشرة في دكؿ العالـ ()22
لتكريس ذلؾ اإلحالؿ .كما جرل إعداد أطالس كمكسكعات إسرائيمية تضمنت تسميات
[ .]1إبراىيـ عبد الكريـ :تيكيد األرض كأسماء المعالـ الفمسطينية -دراسة كدليؿ ،منشكرات اتحاد الكتاب
العرب ،دمشؽ .2001 ،ص .77
[ .]2المرجع السابؽ ،ص .78
104
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
عبرية لغالبية معالـ البالد ،منيا مثالن :أطمس إسرائيؿ المكسكعة الييكدية ،مكسكعة
الصييكنية ،كاسرائيؿ كؿ البالد ،المعجـ الجغرافي إلسرائيؿ ،الدليؿ السياحي بمختمؼ
المغات ،كغير ذلؾ مف الكتب كالمؤلفات كاألعماؿ الدعائية التي نشرت في فمسطيف
المحتمة كخارجيا[.]1
السؤال الذي يجب أن يُطرح ىنا ،ىو :عمى أي أساس ووفق أي منيج بالضبط جرت
عممية تغيير أسماء المناطق الفمسطينية العربية وتحويميا الى أسماء عبرية ،إذا كان األمر
متصالً باألصل باألسماء الواردة في التوراة العبرية؟!
الجكاب -بكؿ بساطة ،ىك :مف خالؿ تطبيؽ [منيج دراسة التحوالت المغوية لألسماء
في ضوء الدراسات المغوية التاريخية المقارنة].
لقد استخدـ ىذا المنيج مف قبؿ المستشرقيف كعمماء التاريخ كاآلثار التكراتييف في ىذه
العممية ،مف حيث جرل التأكيد عمى أف معظـ األسماء العربية في فمسطيف -إف لـ يكف كميا-
ما ىي إال أسماء تحكرت عبر مسارات متعددة ،تعرضت فييا لمتحكالت المغكية التاريخية مف
أصكليا العبرية الى المغة العربية ،كلكف دكف أف تتخمى ىذه األسماء عف جذكرىا العبرية،
كبالتالي فإف منيج المقارنات المغكية لؤلسماء بيف المغات يمكف أف يساعد في استعادة ىذه
الجذكر كالصكر العبرية األصمية لتمؾ األسماء.
يطالبنا ىذا التكصيؼ بأال ننظر الى عممية تيكيد األسماء التي قاـ بيا الييكد
كالمستشرقيف كمف لؼ لفيـ باعتبارىا تحريفان أك تزكي انر ،كما ال يجب أف يفيـ بأنيا كانت كذلؾ،
ألف ىذه العممية– حسب ما يقكؿ الييكد طبعان -جرت كفؽ منيج لغكم عممي رصيف كمعترؼ
بو في كؿ الدكائر األكاديمية كالعممية في العالـ بأسره ،كقد جرل تنفيذىا كتطبيقيا عمى ىذا
األساس بيدؼ إعادة األسماء األصمية فقط ال أكثر[!!..]2
105
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
ىذا التكضيح بالذات ،تبناه المستشرقكف كالمؤرخكف كعمماء اآلثار التكراتيكف .فقد
كرس لو الباحث االسرائيمي "ميركف بنفنستي" فصالن كامالن مف فصكؿ كتابو "المقذكؼ
كالعصا" .كالذم أكد فيو عمى أف رسـ خارطة كتحديد أسماء يعنياف عمالن المتالؾ شيء،
كككؿ مجتمع مككف مف المياجريف ،حاولنا أن نمسح من خارطة البالد األسماء الغريبة
ونعيد األسماء األصمية التي حممناىا في قموبنا طوال مئات السنين التي كان الييود
فييا ميجرين بعيداً عن أرض أجدادىم .وقد صنع سكان البالد العرب معروفاً معنا
وحافظوا عمى األسماء القديمة ،واال فكيف كنا سنعرف أين ىي "عنتوت" لوال "عناتا"،
وكيف كنا سنجد "شيموح" لوال خربة "سموان"[.]1
لنتكقؼ ىنا ،كلنحكـ عقكلنا كنتكمـ بمنطؽ الحؽ كالحقيقة بدكف مراء أك خكؼ ،كلنكف
منصفيف بحؽ اهلل .أليس ىذا ىك منيج الصميبي كرفاقو؟ أليست ىذه ىي حججيـ كتفسيراتيـ لما
قامكا بو؟ ألـ يقكلكا لنا أنيـ اتبعكا مناىجان لغكية تستند عمى أسس عممية رصينة ،ساعدتيـ في
رصد كتتبع مسارات التحكالت المغكية ألسماء المناطؽ الجغرافية في عسير كغامد كاليمف مف
الجزيرة العربية ،كأف تمؾ األسماء كانت في األصؿ عبرية ،كأنيا مع الزمف كبسبب عكامؿ
التاريخ حدث أنيا تحكلت الى أسماء بصياغات عربية ،كلكنيا مع ذلؾ حافظت عمى جذكرىا
العبرية ،كأنو لكال أف تمؾ األسماء حافظت عمى جذكرىا لما أمكف اكتشاؼ جغرافية التكراة
الحقيقية؟! أليس ىذا كالميـ الذم اثبتناه قبؿ صفحات قميمة مف ىنا؟!
نعم إنو ىو بال أدنى شك ،وال داعي لممزايدة .فيذه ىي الحقيقة وال مجال إلنكارىا.
يبقى أف نتعرؼ عمى النمكذج التطبيقي الذم اتبعو مشركع تيكيد األرض الفمسطينية ،مف
ناحية الطرؽ كاآلليات المغكية التي اتبعيا القائمكف بو في تحكيؿ األسماء الجغرافية العربية الى
أسماء عبرية؟
106
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
)(3
ّ ٌ ٌ
تزوير أو ينهح ػهًي؟!
تكرط ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب بصكرة صريحة كضمنية في اإلقرار
بمصداقية النص التكراتي ،ما دفعيـ الى إطالؽ العديد مف األحكاـ الجزافية ،كساىمكا بدرجة
كبيرة في تكسيع كتعميؽ اليكة التي تفصؿ بيف جيكدىـ مف ناحية ،كبيف المنطؽ العقالني
كالقكاعد المنيجية كالمكضكعية التي يتطمبيا المكقؼ العممي الباحث كالناقد مف جية أخرل،
فجاءت نظريتيـ بعيدة كمنفصمة تمامان عف النقمة التي أحدثيا عمـ اآلثار في العقكد األخيرة إزاء
المسألة التكراتية .كما تكرطكا عمى نحك ممؿ في الحشد لنظريتيـ كاإلغراؽ في تقديـ
االستدالالت المفظية كالمغكية دكف التكقؼ لمحظة لمراجعة آرائيـ كممارسة النقد الذاتي عمييا،
حتى بدت جيكدىـ كىي تصب في اتجاه استثمار نظريتيـ بصكرة دعائية صاحبيا التكرار
المثير لمسأـ ،أكثر ما أنيا تصب في سياؽ تحقيؽ اإلضافة العممية المطمكبة.
إنو لمما يبعث عمى الحزف أف فريقان مف الباحثيف العرب ممف لدييـ الطاقات كاالمكانات
المميزة كالمذىمة في مجاؿ البحث كاالنتاج العممي ،استطاع بكؿ سيكلة أف يشكؿ جبية مضادة
لعمـ اآلثار كجيكده النقدية البالغة الجرأة كالشجاعة ،مف حيث سخر ىذا الفريؽ جيكد جميع
أفراده بانحياز كاضح الى جانب النص التكراتي كفي صفو ،ضاربان عرض الحائط بجيكد قرف
كامؿ مف الزمف ىدفت الى تحرير عمـ التاريخ كعمـ اآلثار مف سطكة الركاية التكراتية ،كدكف أف
ي متفت لمنتقديو أك يتقبؿ النقد ،أك يفتح أبكاب النقاش العاـ فيما طرحو ،فحتى اآلف لـ تطرح ىذه
النظرية لمنقاش الجاد كالمفتكح بيف ركادىا كبيف سائر الميتميف كالمتابعيف كالنقاد كالقراء.
الميـ ،كامعانان في إثبات النتيجة التي لـ نبتعد عنيا أكثر مف عدة سطكر كىنييات قصيرة
مف الزمف ،البد مف التحقؽ مف الطرؽ كاألساليب التي اتبعيا الييكد في استعادة أسماء مناطؽ
فمسطيف عمى ما كانت عميو -حسب ما يعتقدكف -في التكراة كفي العصكر القديمة ،كالتحقؽ
107
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
أيضان مف ككنيا مطابقة لمطرؽ التي اتبعيا ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب ،أـ
ال.
االستناد الرئيسي الذم لجأ إليو المستشرقكف كالمؤرخكف االسرائيميكف في تغيير أسماء
المناطؽ الفمسطينية ،ىك افتراض أف الكثير مف تمؾ األسماء التي كردت في التكراة ،البد كأف
تككف مكجكدة كحافظت عمى نفسيا كعمى جذكرىا العبرية حتى بعد أف جرت عممية تعريبيا عمى
مدل قركف طكيمة ،مثالن:
باستبداؿ (أؿ) التعريؼ العربية بأداة التعريؼ العبرية (ىا) ،كقمب األلؼ ياء كىذا قمب
معركؼ كثابت لغكيان ،كما أكد عمى ذلؾ الصميبي كالدبش كالجثاـ كداككد ..الخ.
بقمب األلؼ كاك ،كىذا قمب معركؼ كثابت لغكيان كما أثبت ذلؾ الصميبي كرفاقو.
بمطابقة جذر الكممة (ف ص ر) ،كقمب حرؼ الصاد سيف ،كتحكيؿ التاء المربكطة (تاء
التأنيث العربية) الى (تاء) التأنيث العبرية ،كىذه قاعدة طبقيا الصميبي كرفاقو أيضان.
عمى ىذا النحك بالضبط جرل تحكيؿ األسماء العربية لممناطؽ الفمسطينية الى أسماء
عبرية مطابقة لما جاء في التكراة ،كاألمر لـ يتـ جزافان بؿ تـ كفؽ منيج لغكم رصيف يعترؼ بو
كؿ الباحثيف في ىذا االختصاص ،كعمى رأسيـ كفي مقدمتيـ دكمان ركاد نظرية جغرافية التكراة
مف الباحثيف العرب.
الجدير بالتنكيو ىنا ،ىك أف قكائـ أسماء األماكف الفمسطينية التي سكؼ ترد في السياؽ
أدناه ،تتضمف عددان ليس بالقميؿ مف أسماء األماكف التكراتية ،كما أف منيا ما لـ يرد فييا.
108
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
إف اليدؼ مف عرض سمسمة طكيمة نسبيان مف أسماء المناطؽ الفمسطينية كمقابالتيا
العبرية التي حكلت إلييا ،ىك إبراز الطرؽ كاآلليات التي جرت بيا عممية تيكيد الجغرافية
الفمسطينية في العصر الراىف كالنتائج التي أسفرت عنيا ،كىي العممية التي يمكف القكؿ بأنيا
حدثت ألكؿ مرة عمى أرض الكاقع بالطريقة التي جرت بيا .فكؿ االدعاءات التي ركج ليا ركاد
نظرية جغرافية التكراة في جزيرة العرب بشأف عمميات مشابية حدثت قبؿ القرف التاسع عشر،
ليست صحيحة عمى اإلطالؽ ،كاال لكاف األكلى بيـ أف يبينكىا لنا.
جرل اختيار جميع األمثمة مف قبؿ الباحث بما يتالءـ كىدؼ الدراسة ،كلـ يكف مناسبان
الخركج عف جادة ىذا اليدؼ .فيناؾ بالفعؿ الكثير مف األمثمة كالنماذج التي تظير حجـ
التعسؼ الذم مارسو الكياف االسرائيمي في طمس المعالـ اإلسمية لممكاقع كالمناطؽ الجغرافية
الفمسطينية العربية ،خاصة تمؾ التي لـ ترد في التكراة كالتي عمد الى طمس غالبيتيا كاطالؽ
تسميات عبرية ال عالقة ليا باألسماء األصمية ،كال تحيؿ إلييا ال بالمفظ كال بالمعنى في العبرية،
كلمف أراد التكسع فعميو بالعكدة الى الدراسة كالدليؿ الذم أعدىما الباحث الفمسطيني "إبراىيـ عبد
الكريـ" [تيويد األرض وأسماء المعالم الفمسطينية -دراسة ودليل] -كىك المصدر الذم اعتمدنا
عميو في ىذا الجانب.
109
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
جدول ( :)3نماذج تحويل أسماء بعض المناطق الفمسطينية العربية الى أسماء عبرية
تاستخداو طريقتي انقهة واالستثدال
املىعغ انتقريثي نهًكاٌ االسى انؼربي االسى انؼرتي
كسط الجميؿ األعمى الشرقي تسفات صفد
110
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
جنكب شرؽ يافا بنحك 10كـ بيت داجكف داجاف /بيت دجف
النقب الشمالي ،جنكب شرؽ غزة بنحك 13
بيت ىجدم خربة الجندم
كـ
سيؿ عكا ،قرب الحدكد مع لبناف. بتسيت البصة
111
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
112
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
سيؿ عكا ،شرؽ مدينة حيفا بنحك 11كـ كفر أتا كفريتا
خربة زكريا شرؽ الرممة بنحك 12 -10كـ مافك مكديعيـ المدية
113
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
15كـ
الجميؿ األعمى ،شماؿ صفد بنحك 4كـ عيف زيتيـ عيف الزيتكف
114
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
115
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
جدول ( :)4نماذج تحويل أسماء المناطق الفمسطينية العربية الى أسماء عبرية
تاستخداو طريقح نقم االسى تاملؼىن
املىعغ انتقريثي نهًكاٌ االسى انؼربي االسى انؼرتي
ىار جكفام (جكفام= جرادة) جبؿ جرادة
ىار تسياد (تسياد /تصياد=
جبؿ رجـ القناصية
قناص)
ىار ريخؼ
جبؿ الراكب
منطقة النقب (ريخؼ /ريكب /ركب= مركبة)
ىار شحكركت (شحكركت=
جبؿ السكيدم
أسكد)
ىار تسافكاع (تسافكاع= ضبعة) جبؿ رجـ الضبعة
منطقة سيؿ الكرمؿ عيف إيااله (إيااله= أيمو= غزالة) عيف غزاؿ
المصدر :إبراىيم عبد الكريم :تيويد األرض وأسماء المعالم الفمسطينيــــة -دراسة ودليــــل ،مرجع سابق ،ص
.56
قبؿ الخمكص الى نتيجة أخيرة ،يجدر التأكيد عمى أف الكثير مف الباحثيف الفمسطينييف
كالعرب قد تنبيكا منذ بداية االحتالؿ االسرائيمي لؤلرض الفمسطينية كبداية مشركعات التيكيد
كالجرؼ التاريخي كالجغرافي لممعالـ العربية فييا ،لمخاطر كأىداؼ ىذه المشركعات .فبذلكا
جيكدان جبارة لمتصدم ليا كمكاجيتيا ،فضالن عف الجيكد الرسمية التي بذلت مف قبؿ الجامعة
العربية ،فقامكا بتكثيؽ األسماء كالمعالـ الجغرافية كالتاريخية كاألثرية العربية بطرؽ شتى ،كجرل
إعداد المعاجـ كاألدلة كالدراسات المعجمية كالمغكية لتكثيؽ صكرة األرض الفمسطينية كما كانت
116
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
قبؿ تحريفيا كتيكيدىا مف قبؿ الكياف االسرائيمي ،كما ال ننسى كتب البمدانيات كالمعاجـ التراثية
التي خصت فمسطيف كالشاـ بالكثير مف االىتماـ ،فسجمت ككثقت أسماء المناطؽ في عصكر
تاريخية مختمفة ،كأيضان ىنالؾ الكثير مف الكثائؽ اإلدارية لممجالس البمدية في عصر الدكلة
العثمانية ،كالتي يمكف الرجكع إلييا لممقارنة كالبحث كتقصي الحقائؽ بشأف أسماء المناطؽ
الفمسطينية كعالقتيا بما كرد منيا في التكراة.
ىكذا ،فسكاء جرل األمر عمى النص التكراتي أك عمى األرض ،فمف يخرج األمر كميان عف
نطاؽ الفكرة التي تككنت لدينا عف [منيج دراسة التحويالت المغوية] -وىذا فقط وفقط فقط إذا
قبمنا بيذا المنيج كأساس لالستدالل التاريخي والجغرافي.
إننا في مكقؼ يفرض عمينا أف نحكـ العقؿ كالمنطؽ ،كأال نبحث عف أعذار أك أف نتيرب
مف مكاجية الحقيقة بتفسيرات كاحتجاجات جانبية كاىية .البد مف اصدار حكـ بشأف ما إذا كاف
األمر الذم قاـ بو ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب مف جية ،كما قاـ بو الييكد
أصحاب نظرية جغرافية التكراة في فمسطيف مف جية أخرل ،يعد عمالن منيجيان عمميان جائ انز
كمشركعان أـ أنو تزكير كتحريؼ لمحقائؽ كتضميؿ ليا كعنيا.
لقد ثبت لنا فيما تقدـ نظريان كعمميان ،أف العمؿ كاحد كالمنيج كاحد كالرؤية كالمنطمقات
كاحدة ،اتفؽ عمييا ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب كالييكد أصحاب مشركع
تيكيد األرض الفمسطينية ،بما يعني أف اصدار أم حكـ بشأنيـ جميعان يمزـ بأف يككف حكمان
كاحدان عمى الطرفيف .فإذا قبمنا بفكرة المنيج العممي لدل الركاد العرب ،فيذا يعني أننا نعترؼ
بأف ما قاـ بو الييكد ىك أيضان عمؿ منيجي كعممي ،كاذا حكمنا عمى ما قاـ بو الييكد بأنو
تزكير كتحريؼ لمحقيقة ،فيذا يعني أننا نصدر نفس الحكـ عمى ما قاـ بو الباحثيف العرب.
عمى كؿ حاؿ ،سكاء حكمنا بأف األمر ىك تطبيؽ لمنيج عممي ،أك بأنو محض شعكذات
اشتقاقية لغكية كما قضى بذلؾ الباحث الفرنسي "بيير ركسي" ،فإف النتيجة في كال الحالتيف
كاحدة ،كىي [سقوط نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب] .فبغض النظر عف حاالت
التعسؼ التي قاـ بيا باحثكنا العرب كقاـ بيا كذلؾ منفذك مشركع تيكيد الجغرافية الفمسطينية مف
117
انفصم انثانث تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح
الييكد ،فإف قبكلنا بفكرة المنيج المغكم ىك قبكؿ بأف ما قاـ بو الييكد ىك عمؿ منيجي ،يمكف
عكسو إلعادة أسماء المناطؽ الفمسطينية الميكدة الى أصكليا العربية السابقة ،كفي ىذا اقرار
أيضان بكجكد الكثير مف األسماء التكراتية عمى خريطة األرض الفمسطينية بالفعؿ ،بما يسقط
كيفند نظرية الباحثيف العرب.
أما إذا اعتبرنا أف ما قاـ بو الييكد يعد مف قبيؿ التزكير فالبد أف يككف ىذا الحكـ كاقعان
عمى ما قاـ الباحثكف العرب أيضان ،كبو تسقط نظريتيـ ،ألنو ينطكم عمى إثبات حقيقة كـ أنو
مف الصعب جدان الرككف كاالعتماد عمى القرائف المغكية ،كعدـ صالحيتيا ألف تحؿ محؿ الدليؿ
األثرم ،كحينيا لف يبقى أمامنا سكل االحتكاـ الى نتائج عمـ اآلثار لحسـ المسألة برمتيا.
وحتى يتفضل أحد رواد نظرية جغرافية التوراة من الباحثين العرب ،ويبين لنا الفرق بين
المنيج والتزوير ،فإني أترك الحكم لكم اعزائي القراء..
118
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
انفصم انرابع
اتجيت ىذه الدراسة في الفصول السابقة الى تقديم خمفية متكاممة وموجزة لنظرية جغرافية
التوراة في جزيرة العرب ،بالتوازي مع تفكيك بنائيا المنطقي والمنيجي والكشف عن اختبلالتيا
وتناقضاتيا ،ليغدو ممكناً بعد ذلك النفاذ الى عمق النظرية والبحث في إمكانية نقض استدالالتيا
وىدميا من الداخل .وبالطبع فإن الدراسة موجية بشكل رئيسي الى عموم القراء والميتمين
باألمر ،أكثر ما أنيا متجية صوب رواد النظرية .ذلك أنو سبق بالفعل وأن قام باحثون
متخصصون بنقدىا ،والقيام بمحاوالت جادة لفتح قنوات حوار مع روادىا في سبيل بحث امكانية
خمق أجواء مناسبة لمنقاش بشأنيا ،إال أن ردود فعميم جاءت غالباً في اتجاه عكسي ،عبر عنو
تجاىميم ألي نقد أو دعوة لمنقاش ،بل أن التيرب من النقاش َّ
شكل سمة جوىرية من سمات
مواقفيم ،فكمما دعوا الى نقاش تيربوا منو وتجاىموه.
ىناك الكثير من الميتمين بيذه النظرية والباحثين بشأنيا ،ممن تطمعوا دائماً الى إدراك
طبيعتيا من وجية نظر مغايرة ،وىذا ميم لمغاية إذ ال يمكن االنقياد لرؤية أحادية واعتبار أنيا
ىي الحقيقة دون غيرىا ،فعمينا دائماً أن ننظر الى الطرف اآلخر وأن ننصت ألصحاب الرؤى
المغايرة والناقدة ،وأن نتبين ما لدييم.
من أجل ذلك ،حرصت منذ البداية عمى أن تكون مضامين الدراسة سيمة وسمسة ليتمكن
القارئ العادي من تمقييا وىضميا ،متحاشياً قدر اإلمكان االغراق في المسائل التخصصية
العميقة ،ومميداً في نفس الوقت لنقمة ضرورية في ىذا االتجاه ،إذ ال مفر من الولوج الى
أعماق النظرية ،من مختمف النواحي الموضوعية العممية والمعرفية .لذا كان من الضروري اتباع
خطة تدريجية تمكن القارئ من امتبلك ناصية الموقف النقدي الذي تتبناه ىذه الدراسة ومن
السير بمحاذاتو حتى نيايتيا ،بحيث ال يصل الى مرحمة ما تعوقو فييا المادة المتخصصة التي
البد من ادراجيا ومناقشتيا.
119
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
لدي إصرار شديد عمى مناقشة مسألة المنيج الذي اتبعو رواد النظرية من كافة الجوانب،
ألن ىذه المسألة ىي مفتاح كل المسائل التي سنناقشيا الحقاً ،وكل األدلة التي يمكن التوصل
إلييا لنقضيا ،واثبات كيف أنيا تقع خارج نطاق المنطق والمعقول ،فضبلً عن مخالفتيا التامة
لكل ما ىو حقيقي وواقعي .السيما وأن الفصول السابقة تضمنت العديد من التساؤالت
واالشكاليات التي تحتاج بالفعل الى اجوبة دقيقة ،تساعدنا عمى الخروج بحكم واضح ومحدد إزاء
ىذه النظرية ،وازاء األدلة التي استخدمت في إثباتيا ،وعمى رأسيا االستدالل الذي عبرت عنو
المقولة الثالثة من مقوالتيا ،بشأن المبلحظة العجيبة التي كشفت عن ذلك التشابو المدىش بين
أسماء األماكن الجغرافية الواردة في التوراة ،وأسماء المناطق الجغرافية في جزيرة العرب.
لقد بنيت نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب عمى أساس جسدتو المقوالت الثبلث التي
أصبحنا عمى دراية كافية بيا ،واعتمد روادىا عمى [منيجية دراسة التحوالت المغوية ألسماء
األماكف الجغرافية الواردة في النص التوراتي ،وقابموىا بنفس اآللية عمى تمؾ التي وجدوىا في
بعض المناطؽ مف جزيرة العرب ،عمى أساس التشابو المفظي والتراكـ الكمي لتمؾ األسماء في
حيز جغرافي واحد -كما يقولوف] .إذ أشاروا دائماً الى أنو من الصعب أن نجد ذلك التراكم
ألسماء مناطق عمى األرض مشابية لتمك التي ترد في النص التوراتي ،واستنتجوا في ظل غياب
األدلة األثرية عمى األحداث التوراتية في فمسطين أن تمك األحداث ربما وقعت في مكان آخر
يدل عميو ذلك التشابو العجيب بين األسماء.
عمى ىذا األساس قام رواد النظرية بتوظيف مقولتيم عن التزييف والتحريف الذي مارسو
عمماء التوراة منذ القدم ومن ثم المستشرقين في قراءاتيم وتفسيراتيم لمنص التوراتي ،إلييامنا بأن
فمسطين ىي مسرح أحداث القصة التوراتية ،وعميو جرى تفسير مواقع األسماء الجغرافية الواردة
في النقوش األثرية عمى أنيا في فمسطين أيضاً ،واألمر نفسو ينطبق عمى كافة السجبلت
التاريخية واألدلة األثرية التي ترد فييا تمك األسماء ،فحيثما جرى االعتقاد بأن جغرافية التوراة
ىي فمسطين والشرق األدنى برمتو ،فيذا يعني أن القراءة والتفسير قائمان عمى أساس من الزيف
والتمفيق.
120
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
بناء عميو ،قرر رواد النظرية إعادة قراءة التوراة والسجبلت التاريخية والنقوش األثرية عمى
ً
أساس أن جغرافية التوراة ليست في فمسطين ،بل في المناطق التي عينوىا.
ىكذا تم اغبلق المسألة بدون أن يتركوا أي معيار مشترك بينيم وبين أولئك الذين
يخالفونيم الرأي ،من خبلل تسوير نظريتيم بتمك المقوالت ،لمنع قيام الحجج التي كان يمكن
االحتجاج بيا ضد نظريتيم ،والتي يمكن تحديدىا عمى النحو اآلتي:
الحجة األولى :أن أسماء المناطق التوراتية موجودة في فمسطين -وىذا صحيح بالفعل.
الحجة الثانية :أن التوراة ليست مصدرنا الوحيد ،فيناك سجبلت تاريخية وجغرافية
تتضمن توثيقاً ألسماء مناطق الشرق األدنى وجزيرة العرب.
الحجة الثالثة :ىناك أدلة أثرية مصرية وبابمية وآشورية وسبئية أيضاً ،رصدت أسماء
ومواقع مدن كثيرة ورد ذكرىا في النص التوراتي.
لمنع قيام ىذه الحجج الثبلث ،ظل رواد النظرية يرددون مقولة التزوير والتزييف بصيغ
مطاطة وغير دقيقة ،ساعدتيم في التشكيك بكل الحقائق التي تنطوي عمييا تمك الحجج،
فجغرافية التوراة تم تحريفيا ،وأيضاً جغرافية فمسطين تعرضت لمتحريف ،وبالتالي ال تقوم الحجة
األولى ،مع أنيم لم يحددوا متى وكيف وقع ىذا التحريف والتزوير سواء عمى النص التوراتي أو
عمى األرض الفمسطينية .وحين واجييم بعض النقاد بحجج عممية مصدرىا السجبلت التاريخية
األدلة األثرية ،استخدموا أيضاً نفس العمة وقالوا بأنو جرت عمى الدوام قراءة وتفسير تمك
السجبلت التاريخية واألدلة األثرية وفق االفتراضات الزائفة والمحرفة التي قدميا التفسير التقميدي
لمتوراة ،وكمما طرحت ىذه األدلة عمييم شككوا بيا واتيموىا بأنيا واقعة في شباك الق ارءة
االستشراقية المحرفة والزائفة ،وىكذا دارت كل الجيود النقدية في حمقة مفرغة لم تساعدىا في
تحقيق أىدافيا.
في نفس االتجاه ،مارس رواد النظرية ما يعرف ب ـ [الخداع أو المغالطات المنطقية
الصورية] في تقديم استدالالتيم المفظية والمغوية والتاريخية والجغرافية ،في السياق الذي جرى
فيو دائماً اسقاط الواقع الراىن الذي تعيش فيو فمسطين العربية تحت وطأة االحتبلل الصييوني،
121
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
فرفعوا شعار فضح وكشف زيف االدعاءات الصييونية التاريخية -التي مصدرىا التوراة أصبلً،
والمقوالت الرائجة عن التزوير واألغراض االمبريالية التي مارسيا وخدميا االستشراق الغربي
المعاصر لصالح الصييونية.
استخدم ذلك كمو كغطاء عاطفي شوش دائماً عمى العقل العربي ،وحال دون تمكينو من
ادراك حقيقة أن تمك المقوالت بقدر ما تبدو حقيقية وواقعية ،إال أنيا بالقدر نفسو زائفة وممفقة.
لقد سعت الدراسة الحالية في الفصول الثبلثة السابقة الى توضيح ىذه النقطة بالذات ،من
خبلل إثبات الجذور االستشراقية -الييودية ليذه النظرية فكرة ومنيجاً ،وكيف أنيا ال تيدف إال
الى حماية مصداقية القصص التوراتية ،التي أثبت عمم اآلثار حتى اآلن أنو ال وجود ألي دليل
يثبت وقوع أحداثيا الكبرى ،بقدر ما تفيد األدلة المتوصل إلييا بأنيا ربما لم تحدث عمى
اإلطبلق.
نحن نقف أمام نظرية حبكت عمى مدى أكثر من ربع قرن من الزمان ،تظافرت فييا ومن
أجميا جيود العديد من الباحثين الذي وجدوا فييا طابعاً راديكالياً [ثورياً] يدعم التفات الناس ليا
وانضماميم الى صفيا ،وربما دفعت البعض الى الخروج عمى كل الحقائق القائمة والتصديق
المطمق بيا.
إن نظرية كيذه ال يمكن اسقاطيا بسيولة ،خاصة في ظل اليوة الواسعة التي نتجت عن
غ ازرة االنتاج الكتابي والنظري لروادىا في مقابل قمة الدراسات النقدية التي وجيت إلييا ،فضبلً
عن أن معظم الجيود النقدية التي قدمت لم تأخذ بعين االعتبار وبشكل كافي الطريقة التي بنيت
بيا ىذه النظرية ،وأيضاً الطريقة التي جرت بيا عممية تسويرىا وتحصينيا من أي نقود أو ردود
مماثمة لتمك التي طرحت بالفعل.
جاءت الدراسة الحالية كاستجابة بالضرورة لذلك كمو ،في اتجاه بناء مدخل نقدي مختمف
بناء عمى قراءات فاحصة متأنية ومتراكمة استغرقت
تماماً .إذ جرى تكوين وجية نظرىا وخطتيا ً
أوقاتاً طويمة وبذلت فييا جيوداً عزيزة لرصد كافة ما يتعمق بيذه النظرية وبنقدىا ،وبالتالي فإن
ما آمل أن تحققو ىذه الدراسة ،ىو تقديم رؤية نقدية جديدة تساىم بشكل فعمي في إبراز
122
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
االشكاليات التي تثيرىا نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب ،واالشكاليات الناتجة عنيا قدر
اإلمكان ،وأن تفتح األبواب مجدداً لمقيام بدراسات مماثمة تعزز من فرص تحقيق ىذا اليدف.
استطيع القول -انطبلقاً من ىذه المرحمة -أن كافة األسئمة واالشكاليات المتعمقة بنظرية
جغرافية التوراة في جزيرة العرب لمباحثين العرب قد طرحت ،كما جرى توضيح نقاط اختبلليا
والكشف عن تناقضاتيا من الناحية النظرية والتطبيقية العامة ،ولم يبق أمامنا سوى النقد
التطبيقي المتعمق صوب استدالالتيا المغوية والمفظية القائمة عمى فكرة تشابو أسماء المواقع
الجغرافية .ف إن كان ثمة سؤال البد من طرحو في ىذا االتجاه ،فبلبد أن يكون سؤاالً عن األدلة
الذي يمكن تقديميا لمكشف عن مدى ىشاشة االستدالالت االسمية والتشابيات المفظية التي
كانت ومازالت تدعم بقاء ىذه النظرية وتعطييا القوة البلزمة لمبقاء ،والكشف أيضاً عن طبيعة
الخداع المنطقي والموضوعي الذي انطوت عميو تمك االستدالالت.
من أجل ذلك كمو ،كان البد من البحث عن الثغرات التي تركيا رواد ىذه النظرية ،أو
ربما تعمدوا التعمية عنيا بشكل أو بآخر ،وتعتري نظريتيم ومنيجيم وأدلتيم ،وبقدر ما أن ىذه
تعد ميمة بالغة الصعوبة ،خاصة أمام الحبكة شبو المتقنة التي طرحت بيا النظرية ،وأغمقت
بيا األبواب أمام كل الحجج المتوفرة ،بالقدر نفسو الذي آمنت دائماً بأنو ال يوجد جيد بشري
عمى اإلطبلق يمكن أن يوصف بالكمال ،وأنو ال توجد نظرية متماسكة ومتكاممة أو يمكن أن
تسمم من الثغرات التي يمكن أن تستخدم ضدىا.
ىنا البد من التنبيو مجدداً عمى أن االشكالية التي تضعنا أماميا نظرية جغرافية التوراة
في جزيرة العرب ال تكمن في ادعاءاتيا وفروضيا التي تتبناىا ،وال في النتائج التي رامت دائماً
الى اثباتيا ،بقدر ما تتمثل في أن ىذه النظرية برمتيا قائمة عمى نحو غريب ومثير لمريبة
والشك ،خاصة إذا ما نظرنا إلييا من تمك الزوايا المتباينة التي عبرت عنيا كل التساؤالت التي
طرحت من قبل ،وفي مقدمتيا ذلك السؤال عن الدواعي والدوافع واألىداف الكامنة وراء التوجو
بكل ىذه القوة واالندفاع نحو اسقاط جغرافية التوراة عمى مكان آخر ،في الوقت الذي تكفل فيو
عمم اآلثار وأثبت بمغة العمم أن الرواية التاريخية لمتو ارة تفتقد الحد األدنى من المصداقية ،وأنيا
مما ال يمكن الركون إليو كمصدر لمعرفتنا التاريخية أو مساعد لنا في البحث التاريخي.
123
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
واذن ،فإن ميمتنا في ىذا الفصل تتحدد بشكل رئيسي في التأسيس والتمييد الفعمي لتقديم
األدلة الجغرافية والتاريخية والمغوية التطبيقية التي تدحض مقوالت وادعاءات رواد نظرية جغرافية
التوراة في جزيرة العرب ،وذلك من خبلل تحطيم مقولة تشابو أسماء المواقع الجغرافية أوالً،
والكشف عن الثغرات والثقوب المنيجية التي تعاني منيا نظريتيم ومنيجيم ،في االتجاه الموازي
الذي نقوم فيو بتوضيح وتوصيف منيجنا في بناء وتكوين األدلة المضادة ،تمييداً لعرضيا في
الفصول التالية.
124
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
)(1
أبسط جواب عمى ىذا السؤال ،يمكن التماسو عند الدكتور "أسامة محمد أبو نحل"-
األستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر ورئيس قسم التاريخ في كمية اآلداب والعموم
اإلنسانية بجامعة األزىر في مدينة غزة الفمسطينية ،في مقالة لو نشرىا عمى شبكة االنترنت في
أغسطس من العام ،0202تحت عنوان[ :نظرية الدكتور كماؿ الصميبي وتاريخ فمسطيف
القديـ] ،إذ قال فييا:
"اعتمد الصميبي في إثبات صحة نظريتو عمى تشابو أسماء عدد من المدن
الموجودة في التوراة بأسماء مدن أخرى موجودة في غرب الجزيرة العربية ،وىذا وحده ال
يكفي إلثبات صحة ما وصؿ إليو ،فمف المعموـ أف اسـ مدينة واحدة ربما يتكرر في
عدة بالد وتحمؿ المسمى نفسو ،فعمى سبيل المثاؿ يوجد عمى سطح ىذه األرض ثالث
مدف تحمؿ اسـ مدينة غزة ،األولى في جزيرة العرب في بالد بني سعد بف زيد بف مناة
بف تميـ ،وقد نسب األخطؿ الشاعر المشيور الوحش إلى غزة الموجودة في جزيرة
العرب .والثانية ببالد المغرب ،بينيا وبيف القيرواف نحو ثالثة أياـ ،والثالثة في
فمسطيف"[.]1
[ .]0أسامة محمد أبو نحل :نظرية الدكتور كمال الصميبي وتاريخ فمسطين القديم 8 ،أغسطس ،0202متاح
عمى الرابط االلكتروني:
https://groups.google.com/forum/#!topic/fayad61/BvVL9VVBwtM- 18 Nov 2017.
125
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
قد يرى البعض أن االستشياد بقول أستاذ جامعي متخصص ويرأس قسماً اكاديمياً في
عمم التاريخ بأنو مما ال يمكن اعتباره حجة كافية ،ولعمي اتفق مع ىذا الرأي ،لكن ال بأس من
استعراض آراء الباحثين األكثر تخصصاً ،وأحدىم ىنا متخصص تماماً في [دراسة األسماء
الجغرافية القديمة واشكالياتيا المغوية والتاريخية] ،وىو الدكتور "عامر الج َميمي" -األستاذ
المساعد في قسم اآلثار بجامعة الموصل في العراق ،الحاصل عمى درجة الدكتوراه عام ،0222
عن أطروحتو الموسومة [ :المعارؼ الجغرافية عند العراقييف القدماء].
يخبرنا الجميمي بأن فوضى الخمط وااللتباس بين أسماء األماكن الجغرافية القديمة ،دفعتو
الى بذل العديد من الجيود البحثية المتخصصة في أصول األسماء الجغرافية وتشابياتيا ،إذ
يقول:
"لدى قراءة العديد من البحوث والمصادر التاريخية ذات العبلقة بتاريخ الشرق
األدنى القديم بشكل عام -أي العراق وسوريا وفمسطين ومصر -ومن بينيا رسائل
ماجستير وأطاريح الدكتوراه ،تبيف أف بعض الباحثيف قد وقعوا في وىـ وخمط في تعييف
وتحديد بعض المواضع والمدف مف غير عمـ أو تمحيص ،فراحوا يطمقوف العناف
ألنفسيـ بالمعمومات الجغرافية جزافاً ومف دوف أف يجيدوا أنفسيـ عناء التحديد السميـ
لمواقع المدف موضوعة البحث .وفاتيـ أف المدف شأنيا في ذلؾ شأف أسماء الناس ليا
(سَِمي) ،إذ يطمؽ االسـ الواحد عمى غير مسمى [أي عمى أكثر مف مسمى واحد]،
وعمى الباحث ىنا تقع مسؤولية استنتاج وتحديد موقع المدينة المعنية والمقصودة بالبحث
والدراسة"[.]1
[ .]0عامر عبد اهلل الجميمي :أسماء المدن والمواقع الجغرافية المتشابية لفظاً والمختمفة موقعاً في النصوص
المسمارية 00 ،مايو ،0200متاح عمى الرابط االلكتروني:
http://dramerart.blogspot.com/search/label/%D8%A7%D8%B3%D9%85%D8%A7%
D8%A1%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86- 10 Nov 2017.
126
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
كان ىذا تأكيداً -من عالم متخصص في ىذا المجال -عمى إن الخمط وااللتباس بشأن
بناء عمى أسمائيا ،يعَّد من أىم وأصعب المشاكل التي يواجييا الباحثين
تحديد المواقع الجغرافية ً
المتخصصين ،فما بالنا بغير المتخصصين؟!
أىم المشكبلت التي تواجو الباحثين في ىذا المجال ،ىي ظاىرة تشابو أسماء األماكن
اء في نطاق جغرافية البمد الواحد ،أو في النطاقات الجغرافية لبمدين أو أكثر ،واألمثمة
والمدن سو ً
عمى ذلك كثيرة وال مجال لحصرىا -كما سيتبين ذلك الحقاً ،-ولكن يمكن تقديم بعض األمثمة
المتعمقة بأسماء مدن قديمة اشتركت فييا عدة مواضع في بمدان متعددة من الشرق األدنى
القديم ،مما ورد ذكرىا في السجبلت التاريخية والنقوش األثرية البابمية واآلشورية:
"اسـ [(أبقو) ( ])apquوىو اسـ مدينة تشترؾ فيو ثالثة مواضع :الموضع
األوؿ ويرد في نصوص من العصرين البابمي واالشوري القديمين وىي مدينة (أبقو-م-
)-apqu-mوالذي يميز بالبلحقة (شا إيشكور )ša iškurأي :مدينة (أبقو) العائدة إلى
االلو (إيشكور) الو العواصف والمناخ عند السومريين والذي يضاىي االلو (أدد) عند
حدَد) أو (ىَدَد) عند الفينيقيين واآلراميين .ويبدو أن ىذه المدينة كانت أحد
االكديين و( َ
مراكز عبادة ىذا اإللو .وىذه الصيغة وردت في نصوص العصر البابمي القديم أما في
نصوص العصرين البابمي واآلشوري الوسيطين فترد فقط بصيغة أبقو ( .)apquوترد في
نصوص العصر اآلشوري الحديث بصيغة (أبكو .)apkuويتطابق ىذا الموضع مع (تؿ
ابو ماريا) شرقي قضاء تمعفر إلى الغرب من الموصل شمال غربي العراق .أما الموضع
الثاني فيو (أبقو-م -شا باليخا )apqu-m- ša balihaأي :مدينة (أبقو) الكائنة عمى
رافد البميخ أحد روافد نير الفرات شمالي سوريا والتي اظيرت الدالئل والقرائن أنيا
تتطابق حالياً مع (تؿ ابيض) عمى رافد البميخ في محافظة الرقة في سوريا عمى الحدود
مع تركيا .والموضع الثالث ىو أبقو ( )apquوىو اسم مدينة ترد في نصوص العصر
127
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
اآلشوري الحديث وتتطابق إلى حد ما حاليا مع (تؿ افيؽ) شمال شرقي يافا في
فمسطيف"[.]1
"اسـ [تَمنا ( -])tamnaأو تمنة ،اسم مدينة يتطابق إلى حد ما مع (تؿ بطش)
غربي القدس في فمسطيف ،و(تمنونو/أ) ( )tamnunu/aالتي يرشح الباحثون (تؿ
جيكاف) الذي يقع حاليا تحت غمر مياه سد الموصؿ شماؿ غربي الموصؿ في العراؽ
موقعا ليا وكبلىما موقعان من العصر االشوري الحديث"[.]2
الجدير بالذكر ،أن اسم [تمنة] [[ ]Timnahתל בטש] يعَّد من األسماء التي ورد ذكرىا
في التوراة بأنيا [مدينة في جباؿ ييوذا إلى جنوبي حبروف (يشوع ،])57 :15 :وقام رواد
نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب بالبحث عن أسماء مشابية ليذا االسم في عسير وغامد
واليمن ،ضمن استدالالتيم القائمة عمى التشابو المفظي إلثبات أن جغرافية التوراة ومسرح
أحداثيا كان في جزيرة العرب.
أيضاً ،اسـ [مصر ( ])muşurالتي يقصد بيا (بالد مصر) ،و(مصر )muşru
التي طابقيا اغمب الباحثين مع (جبل مقموب) قرب بعشيقة شمال شرقي نينوى شمالي
العراق ،ويعتقد "أولمستد" ( )Olmsteadأن التسمية الحالية ل ـ (سيؿ مزوري) في منطقة
(اتروش) شمالي (بارزان) ىي تسمية محورة لمنطقة "جباؿ مصري" ( )musriالتي ترد
في نصوص الحوليات اآلشورية ،ككتابات سنحاريب وغيره ،وىي نفس المنطقة التي ينبع
صر" ( )misruالذي يرد في نصوص من العصر اآلشوري ِ
منيا نير الكرومل .و"م ْ
الحديث ويشار لو عمى أنو جبل في موضع ما من حوض الفرات األعمى شمالي سوريا
عمى الحدود مع تركيا""[.]3
[ .]0عامر عبد اهلل الجميمي :أسماء المدن والمواقع الجغرافية المتشابية لفظاً والمختمفة موقعاً في النصوص
المسمارية ،مرجع سابق( ،موقع الكتروني).
[ .]0المرجع السابق( ،موقع الكتروني).
[ .]3المرجع السابق( ،موقع الكتروني).
128
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
وىناؾ أيضاً [نَ َخؿ مصر ( ])nahal musurويعني بالمغة األكدية (وادي
مصر) ويشترك فيو موضعين يردان في نصوص من العصر اآلشوري الحديث ،األول
يتطابق إلى حد ما مع (وادي العريش) عمى البحر المتوسط شماؿ شرقي جزيرة سيناء
في مصر .والموضع الثاني "نَ َخؿ مصر" ( )nahal musurوالذي توحي المعطيات
والدالئل أنو يقصد بو تحديدا [وادي غزة] عمى البحر المتوسط في فمسطيف"[.]1
عسير ،في حين قرر الباحث الفمسطيني "أحمد الدبش" أن مصر المقصودة في التوراة والقرآن
الذي أطمق عميو البد وأن تقع في جغرافية اليمن ،واستقر أغمبيم عمى أنيا منطقة [السحوؿ]
[]3
من قبل بعض البمدانيين صفة [مصر اليمف] ،عبلوة عمى ذلك فقد قرر الربيعي أن أحد تمك
العربية، األسماء المتشابية ل ـ [مصر] والمذكورة في النقوش اآلشورية يشير الى [قبيمة مضر]
[]4
من حيث أن حرف الضاد [ض] غير موجود في المغة اآلشورية والعبرية وغيرىا من لغات
المنطقة القديمة وغالباً ما ينطق فييا عمى أنو حرف الصاد [ص][ ،]5وغيرىا من التخريجات
القائمة فقط عمى [التشابيات المفظية وآليات القمب واالستبداؿ].
األمر ال يتوقف عمى مشكمة تشابو األسماء ،بل أن ىناك العديد من المعضبلت
بناء عمى
والمشكبلت األخرى التي تجعل من الصعوبة بمكان تحديد المواقع الجغرافية القديمة ً
129
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
أسمائيا وما ورد عنيا في السجبلت التاريخية واألدلة األثرية بدقة ،وخاصة أسماء المناطق
والمواقع القديمة في العراق وسوريا وفمسطين ومصر [بمداف الشرؽ األدنى القديـ].
"من أىم المشكبلت التي تواجو الباحثين في ىذا الشأن -وبشكل خاص في
فمسطين -أن بعض األسماء اعتراىا -عبر آالف السنين تغير كامل -لذلك يصعب تتبع
[أصوؿ جذورىا] .إضافة إلى أنو ال توجد فواصل زمنية دقيقة ،بين ِ
الحقب التاريخية
المتعاقبة [الكنعانية ،واآلرامية ،والفارسية ،واليمنستية ،والرومانية ،والبيزنطية]"[.]1
كما "إف عدـ معرفتنا بشكؿ مفصؿ بالظروؼ التي أحاطت بالتسميات الجغرافية،
إذ يمؼ الغموض منشأ بعض ىذه األسماء ،وخاصة في المصادر العربية بحيث يتعذر
التعرؼ عمى أصوليا"[ ،]2يعد من أىم الصعوبات التي تواجو الباحث في ىذا الشأن.
"ومما يزيد األمر صعوبة أن بعض األسماء قد يداخميا بعض التحريف ،فيصعب
تحديد أصل االسم :أعربي ىو أم غير عربي؟ فقد يكون االسم ترجمة لبلسم السابق ،وقد
يكون كنعانياً أو آراميا ،فيعتريو بعض التغيير ،كدخول "أل التعريف" في العربية ،أو ىاء
التأنيث ،فيصبح االسم عندئذ ممزوجاً ،األمر الذي يزيد مسألة التأصيؿ غموضاً .وليذا
يمجأ الدارسون إلى وسائل عديدة ،لتسييل ىذا األمر ،ومن أىم ىذه الوسائل دراسة األبنية
الصرفية ،وضبط المواصق الصرفية ،من سوابق ولواحق ،في أسماء القرى ،فمن طريقيا
قد نقطع بأن ىذا االسم كنعاني أو آرامي أو عربي"[.]3
ال تقتصر اشكالية تشابو أسماء المواقع الجغرافية عمى أسماء المدن فحسب ،بل يكاد
ينطبق عمى كل المعالم الجغرافية ،من جبال وتبلل وآبار وعيون ..الخ.
[ .]0ناصر الدين أبو خضير :أسماء قرى القدس -دراسة لغوية داللية ،مجمة اتحاد الجامعات العربية لآلداب،
جمعية كميات اآلداب في الجامعات أعضاء اتحاد الجامعات العربية ،المجمد ( ،)03العدد ( .0202 ،)0ص
ص .380 -355ص .352
[ .]0عبد اهلل الحمو :تحقيقات تاريخية لغوية في األسماء الجغرافية السورية استناداً لمجغرافيين العرب ،الطبعة
األولى ،بيسان لمطباعة والنشر ،بيروت .0999 ،ص .35
[ .]3ناصر الدين أبو خضير :أسماء قرى القدس -دراسة لغوية داللية ،مرجع سابق ،ص .352
130
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
"فما يقال عن أسماء المدن القديمة ،يصدق عمى أسماء التبلل والمواقع الحديثة
والمحمية ألسماء تمك المدن ،والمتصفح لكتاب [المواقع االثرية في العراؽ] لمدكتور عامر
الجميمي ،وكذلك كتاب [المواقع االثرية السورية] لمدكتور قتيبة الشيابي يجد عشرات
األسماء المتشابية ،وكمثال عمى ذلك ،المواقع االثرية التي تعرف بـ [تؿ الذىب] والتي
تطمق عمى العشرات إن لم نقل المئات في كل من العراق وسوريا وغيرىا من الببلد
العربية .وكذا الحال بالنسبة إلى [تؿ الفخار] و[تؿ اسود] و[تؿ احمر] و[مشرفو
ومشيرفو] [تؿ الصواف] .و[تؿ العمارنة] من القرن الرابع عشر ق .م في مصر و[تؿ
العمارنة] من األلف الثالث والثاني ق .م والذي يقع جنوب [جرابمس] في محافظة حمب
شمالي سوريا ..وغيرىا الكثير من المواضع [التي تشترؾ في أسمائيا بما يثير الخمط
وااللتباس لدى الباحثيف] .وألولئؾ الباحثيف [الذيف يقعوف في الخطأ ويتوىموف صحة
تعييناتيـ لممواقع الجغرافية] عذرىـ في ىذا الوىـ لعدـ معرفتيـ أنيا مف متشابو
األسماء اوالً ،ولقمة معرفتيـ بالجغرافية التاريخية ثانياً[.]1
وىكذا ،فإن تشابو أسماء المواقع الجغرافية غالباً ما يكون عامبلً من عوامل التوىم والخمط
عند تعيينيا داخل البمد الواحد ،أو في فيما بين البمدان المتجاورة أو غير المتجاورة ،وأن البحث
في ىذا المجال يتطمب قد اًر بالغاً من اإللمام بالكثير من الجوانب العممية والتاريخية والجغرافية،
إذ أن قصور معرفة الباحث وقمة خبرتو في الجغرافية التاريخية والجغرافية المغوية وغيرىا من
الحقول العممية المساعدة ،تضاعف حتماً من احتماالت الوقوع في دائرة الوىم والخطأ.
جدير بالذكر ،أن ظاىرة تشابو أسماء المناطق الجغرافية ليست بجديدة ،بل ىي ظاىرة
معروفة وتعرضت لمدراسة والتمحيص منذ قرون طويمة ،بل وكادت أن تؤسس لمجال عممي
مستقل السيما في جيود المعجميين والجغرافيين والمؤرخين والرحالة العرب في العصور
الوسطى ،والتي يطمق عمييا بالعادة [كتب البمدانيات] .فمكتبة التراث العربي -االسبلمي عامرة
بيذا النوع من الكتب والمؤلفات التي تيتم بكافة الجوانب التاريخية والمغوية والجغرافية
[ .]0عامر عبد اهلل الجميمي :أسماء المدن والمواقع الجغرافية المتشابية لفظاً والمختمفة موقعاً في النصوص
المسمارية ،مرجع سابق( ،موقع الكتروني).
131
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
والطبوغرافية لممدن والقرى ومختمف األماكن والمعالم في مختمف البمدان واألمصار التي وصل
إلييا مؤلفوىا.
تشكل كتب ومعاجم البمدانيات العربية في الغالب مصنفات اتخذت المنيج الوصفي أساساً
أحيانا كتب الرحبلت الجغرافية التي يغمب عمى تناوليا المنيج
ليا ،وكذلك المعاجم الجغرافية و ً
الوصفي ،وقد اتبع الجغرافيون المسممون في تناوليم لجغرافية البمدان أسموب المشاىدة والزيارات
الميدانية ،فقد زار معظميم األقاليم والبمدان التي تحدثوا عنيا ،السيما الرعيل األول منيم من
[]4
وغيرىم ،وقد تناولوا في أمثال اليعقوبي[ ،]1وابن حوقل[ ،]2والمسعودي[ ،]3واإلدريسي
مصنفاتيم الجغرافية ىذه أوصافًا لؤلقاليم والمدن والشعوب وأديانيا وعاداتيا ودراسة لممسالك
وطرق المواصبلت التي تربط بين المدن المختمفة واألبعاد بينيا وما يفصل بينيا من أنيار
وبحار وبحيرات وجبال ،ومن نماذج ىذه المصنفات كتب المسالك والممالك البن خرداذبو[،]5
[ .]0أحمد بن أبى يعقوب بن وىب بن واضح اليعقوبي (توفي022 :ىـ 879 -م) ،الكاتب العباسي ،صاحب
كتاب "البمدان".
[ .]0أبو القاسم محمد النصيبي ،وىو ثالث المسالكيين العرب المسممين الكبار بعد البمخى واالصطخرى ،وىو
رحالة جغرافي اعتمد في كتابو جغرافيتو ورسم خرائطيا عمى رحبلتو ومشاىداتو وكتابات ابن خردا ذبة
واالصطخري ،ويقال إنو ولد في بغداد أو الموصل ،وليذا يمقب بالموصمي ،بدأ رحبلتو الطويمة في رمضان سنة
330ىـ /مايو 993م بادئاً بالمغرب ،لو كتاب "صورة األرض" مزود بالخرائط .وتقدم خريطة ابن حوقل مثاالً
واضحاً وانما جيداً ألعمال الجغرافيين المسممين الكارتوجرافية ،فبالرغم من أنيا خريطة توضيحية لمعالم
المعروف آنذاك إال أنيا تقدم فكرة جيدة عن توزيع القارات كما عرفيا العرب المسممون.
[ .]3المسعودي (توفي955 :م) ،وىو من مشاىير القرن العاشر الميبلدي ،ولد في بغداد أواخر القرن التاسع،
وكان من الرحالة المشيورين ،تنقل في سوريا وفمسطين وقضى مدة في أنطاكية ،واقام بقية حياتو في مصر،
أىم كتبو "مروج الذىب ومعادن الجوىر" .عبد اهلل الحمو :تحقيقات تاريخية لغوية في األسماء الجغرافية السورية
استناداً لمجغرافيين العرب ،مرجع سابق ،ص .05
اء كبيرة من أوروبا وآسيا الصغرى ،ورسم الخرائط لمعالم كما شاىده
[ .]9جغرافي أندلسي ،شممت رحبلتو أجز ً
وتصوره ،من أشير كتبو "نزىة المشتاق في اختراق اآلفاق" ،أشتير بوصفو الدقيق لفمسطين ،وان لم يتأكد
لمبعض أنو زارىا .المرجع السابق ،ص .02
[ .]5جغرافي فارسي المولد عاش في بغداد ولمع فييا أيام الخميفة العباسي المعتمد ،في القرن التاسع الميبلدي،
صاحب كتاب "المسالك والممالك" وىو من أقدم المؤلفات الجغرافية العربية .عبد اهلل الحمو :تحقيقات تاريخية
لغوية في األسماء الجغرافية السورية استناداً لمجغرافيين العرب ،مرجع سابق ،ص .03
132
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
وكتاب البمدان لميعقوبي ،وكتاب "أحسن التقاسيم في معرفة األقاليم لممقدسي" ،وكتاب "األقاليم"
لئلصطخري[ ،]1وأيضاً كتاب "صورة األرض" البن حوقل ،وغيرىم[.]2
[]4 []3
الذي اعتد بو صاحب كتاب "صفة جزيرة العرب" باإلضافة الى أبو الحسن اليمداني
كثي اًر رواد نظرية جغرافية التوراة – وخاصة الربيعي -في جمع استدالالتيم.
[]5
عمى رأس أىم الجيود التي بذليا الجغرافيين والرحالة تعتبر جيود "ياقوت الحموي"
العرب المسممين في ىذا الشأن ،خاصة وأن لو عمبلً فريداً تميز بو عن سائر من كتبوا أسمائيم
في ىذا المجال من العرب المسممين ،وىو كتابو المعجمي -الجغرافي الموسوم [المشترؾ وضعا
والمفترؽ صقعاً][ ،]6والذي استعرض فيو أسماء المواقع الجغرافية التي تشترك باسم واحد ،والتي
والتي جمعيا باألساس من معجمو الجغرافي الشيير [معجـ البمداف] ،وىذا المعجم األخير قام
[ .]0أبو القاسم محمد بن إبراىيم الكرخي ،وىو من أىل القرن الرابع اليجري العاشر الميبلدي ،طاف بببلد
اإلسبلم وجمع معمومات جغرافية دقيقة وافية ،رأس مدرسة البمدانيين المسممين ،وقد ألف كتابو "المسالك
والممالك" فيما بين سنتي (300 – 308ىـ933 – 932 -م) وىو أول من رسم خريطة لمعالم اإلسبلمي عمى
مذىب أىل الرحمة والمشاىدة الشخصية ،ونقل عنو الكثيرون ومنيم اإلدريسي .حسين مؤنس (مشرفاً) :أطمس
تاريخ اإلسبلم ،دار الزىراء لئلعبلم العربي ،القاىرة .0982 ،ص .02
[ .]0دي السي أوليري :مسالك الثقافة اإلغريقية إلى العرب ،ترجمة :تمام حسان ،المكتبة الثقافية ،القاىرة،
.0957ص .39
[ .]3أبو محمد الحسن بن أحمد اليمداني (995 -893م) ،من أعظم جغرافيي جزيرة العرب في عصره ،ألم
بعموم الفمك والحكمة والفمسفة والكيمياء ،أشير كتبو اإلكميل ،وصفة جزيرة العرب.
[ .]9أبو الحسن اليمداني الشيير ب ـ لسان اليمن :صفة جزيرة العرب ،تحقيق :محمد بن عمي األكوع الحوالي،
الطبعة األولى ،مكتبة االرشاد ،صنعاء0902 ،ه.0992 -
[ .]5ياقوت الحموي (202 -575ىـ0009 -0079 /م) ،جغرافي شممت رحبلتو العراق والشام وسواحل جزيرة
جزيرة العرب.
[ .]2ياقوت الحموي :المشترك وضعا والمفترق صقعاً ،الطبعة الثانية ،عالم الكتب ،بيروت0922 ،ه.0982 -
.0982
133
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
بنشره المستشرق األلماني "فرديناند فستنفمد ( )0899 -0828في نياية القرن التاسع عشر
باعتباره أضخم عمل جغرافي في التراث العربي االسبلمي كمو[.]1
تشير المعطيات الحديثة والمعاصرة الى أن المستشرقين قد أولوا اىتماماً كبي اًر بظاىرة
تشابو أسماء المناطق الجغرافية منذ بدايات القرن التاسع عشر وخاصة [المستشرقيف مف
المدرسة األلمانية] ،معتمدين في ذلك عمى التراث اليام الذي خمفو العرب في ىذا المجال .كما
أن جزًء كبي اًر من ىذا االىتمام االستشراقي كرس بالفعل في خدمة البحوث والرحبلت
االستشراقية المعنية بجغرافية التوراة.
أما عربياً وفي العصر الحديث ،فمم تتوقف الجيود المعجمية والتوثيقية ألسماء المدن
والقرى والمعالم الجغرافية في البمدان العربية منذ بداية القرن العشرين ،إال أن اىتمام الباحثين
العرب بيذا الجانب نشط أكثر في النصف الثاني منو .وفي العقود الثبلثة األخيرة وعمى الصدى
الذي أحدثتو نظرية كمال الصميبي برز نوع من االىتمام األكاديمي بمثل ىذه القضايا ،فأطمق
البعض منيم عمى ىذا المجال اسم "حقل دراسة المشترك المفظي" ،وأيضاَ "حقل دراسة األسماء
الطبوغرافية" .إذ تنامى في ىذه الفترة وحتى اليوم عدد البحوث والرسائل العممية التي تعنى
بقضايا واشكاليات تشابو األسماء الجغرافية من مختمف النواحي المغوية والتاريخية والطبوغرافية
والجغرافية[.]2
نبع االىتمام المتنامي مؤخ اًر بيذه المسألة من قبل الباحثين العرب من دوافع عممية
وموضوعية متعددة ،األمر الذي عبر عنو "الجميمي" عندما أشار الى كثرة خمط وتوىم بعض
الباحثين في تعيين مواقع المدن القديمة التي ورد ذكرىا في النقوش األثرية ،نتيجة العديد من
المشكبلت التي واجيتيم ،وأىميا ظاىرة تشابو األسماء واشتراك بعض المواقع باسم واحد.
[ .]0ياقوت الحموي :معجم البمدان ،تحقيق :فرديناند فستنفمد ،ليبزك .0827 ،كما قامت مطبعة الخانجي في
مصر -القاىرة بنشر الكتاب سنة (0309ىـ0922 -م) ،وفي سنة 0993نشرت دار صادر المبنانية طبعة
أخرى جديدة لمكتاب.
[ .]0أحدث ما اطمع عميو الباحث من الدراسات األكاديمية في ىذا المجال :عبادة جمال أبو محسن :تكممة
صقعت" -دراسة في المشترك من األعبلم الجغرافية
ً صنيع ياقوت الحموي في كتابو "المشترك وضعاً والمفترق
في ببلد الشام ،رسالة ماجستير ،جامعة النجاح الوطنية -نابمس.0202 ،
134
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
"لقد ظيرت منذ القرن الماضي بعض األبحاث الضيقة المحدودة في ىذا المجال،
سواء بشكل فصول في حوليات أوروبية تناولت بالذكر األسماء في مناطق متفرقة استناداً
لنصوص توراتية ولرحبلت قام بيا بعض المستشرقين ،أو بشكل كتيبات مستقمة تناولت
منطقة محدودة ،مثل الدراسة التي وضعيا األستاذ أنيس فريحة ألسماء األماكن المبنانية،
والدراسة المشابية التي وضعيا من بعده المستشرق األلماني "شتيفان فيمد" .وقد بقت ىذه
األبحاث عموماً مفتقرة الى العمق التاريخي والجغرافي والى التحقيق المغوي الشامل"[.]1
كما أشار الحمو الى الضجة التي أثارىا كتاب الصميبي "التوراة جاءت من جزيرة
العرب" ،مؤكداً عمى أن دراستو لم تأت استجابة ليا ،وانما لمعالجة األسماء الطبوغرافية لغوياً،
بغض النظر عن إن كان منيا ما ورد في التوراة أو لم يذكر[.]2
ىكذا إذن ،فإن تشابو أسماء المواقع الجغرافية ال يمكن أن يعَّد دليبلً نظ اًر لصعوبة تحديد
الموقع الصحيح من بينيا ،فضبلً عن أن قصور امكانيات وخبرات ومعارف الباحثين قد
تضاعف من احتماالت التوىم والخمط في تعيين المواقع الجغرافية .ومن ثم فإن ظاىرة األسماء
المتشابية لممواقع الجغرافية تعد اشكالية أكثر ما يمكن أن تعامل عمى إنيا دليل تاريخي أو
جغرافي ،إذ يمكن أن يفضي البحث عن موقع ما الى عدة احتماالت لمواضع تحمل أو حممت
في مرحمة ما نفس اسم ىذه الموقع ،األمر الذي يصعب معو القطع بأي منيا عساه يكون
الموقع الصحيح الذي نبحث عنو ،وىذا ما نمتمسو بوضوح جمي في مشكمة تعدد المسارح
الجغرافية التي عينيا رواد النظرية ،عمى أنيا ىي مسرح أحداث التوراة.
إن التعيينات الجغرافية التي قدميا رواد النظرية لمسرح أحداث في جزيرة العرب ،تقدم لنا
اإلثبات العممي عمى صدق وجية النظر العممية والواقعية القائمة بأن تشابو األسماء الجغرافية ال
يمكن أن يكون دليبلً .فتعدد واختبلف المناطق التي عينيا كل منيم جاء نتيجة لمعمميات
[ .]0عبد اهلل الحمو :تحقيقات تاريخية لغوية في األسماء الجغرافية السورية استناداً لمجغرافيين العرب ،مرجع
سابق ،ص .7
[ .]0المرجع السابق ،ص .8
135
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
والتأويبلت التعسفية التي قام بيا كل منيم في سبيل البحث عن األسماء المتشابية ،والتي تتعدد
بدورىا ىي األخرى كما نستدل عمى ذلك من تعدد الخيارات التي طرحوىا في كثير من
الحاالت ،األمر الذي غمب عميو طابع التخرص والظن والتوىم ،أكثر من الطابع العممي
والمنيجي.
نخمص بشكل أولي الى نتيجة مفادىا :أن الركون الى مسألة تشابو األسماء ال يفضي بنا
قطعاً الى نتائج حاسمة ،ولكن إذا ما اعتبرنا أن نظرية جغرافية التوراة برمتيا معدة لغرض ما
يتجاوز حدود ما ىو ظاىر في نسق الجدل المثار دوماً حول صحة ومطابقة التعيينات االسمية
التي وضعيا كل منيم ليذه المنطقة التوراتية أو تمك ىنا أو ىناك في عسير أو في اليمن ،فيذا
يعني أننا نقف بالفعل أمام ما ال يمكن اعتبارىا استدالالت جغرافية ولغوية جادة ومقنعة في
تعيين موطن ممتبس وغامض لمقصة التوراتية ،ومع ذلك ال يمكن انكار أن تشابو أسماء
المناطق الجغرافية يمكن أن يكون قرينة ،ولكنو ال يصعد أبداً الى درجة الدليل القطعي ،أو الى
مرتبة الدليل األثري المادي.
136
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
)(2
يبقى جانب ميم ىنا ،وىو أن التشابو المحدود بين اسمين أو ثبلثة أسماء يظل أم اًر واردًا
وشائعاً ،وىذا قد ال يثير مشكمة لدى البعض تحول دون إقرارىم بأن مثل ىذه الحاالت ال يمكن
أن يكون التشابو فييا دليبلً حقيقياً.
من المؤكد أن االعتراض واالحتجاج الذي سوف يطرح ،يتمثل في كون رواد نظرية
جغرافية التوراة في جزيرة العرب لم يقدموا اسمين أو ثبلثة أو أربعة أو عشرة ،بل يقولون أنيم
وجدوا تشابياً بين كثير من األسماء التوراتية وأسماء المناطق في عسير واليمن -إن لم يقولوا
بأن التشابو كمي تماماً .ومن ثم فإن مثل ىذا التشابو التراكمي ال يمكن أن يكون صدفة أو عبثاً،
كما أن تك ارره يكاد يكون مستحيبلً ،والبد أن ي َّعد دليبلً بالفعل.
إن قول رواد النظرية بأن ىناك تشابياً وجدوه بين كؿ أو معظـ األسماء الجغرافية التوراتية
وبين أسماء تمك المناطق التي عينوىا في جزيرة العرب ،ليس قوالً دقيقاً وربما ليس صادقاً في
أغمب األحواؿ ،إذ يمكن ألي كان أن ينظر في قوائم األسماء التوراتية التي بحثوىا في مقابل
أسماء المناطق التي قابموىا بيا ،وأن يتأكد بما ال يدع مجاالً لمشك بأن التشابو الذي يدعون
وجوده غير قائم بصورة كمية إطبلقاً ،واال لما لجئوا أساساً الى شعوذات االشتقاق والقمب
واالبدال والترجمة بالمعنى وغيرىا ،وىذه حجتيم تنقمب عمييم أوالً[.]1
[ .]0يمكن لمقارئ مراجعة قائمة مقاببلت الصميبي عمى سبيل المثال ،والتي عرضناىا في الفصل الثالث من
ىذه الدراسة ،أو العودة الى مؤلفات رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب ،ليتحقق من أن قوائميم
لؤلسماء التوراتية ومقاببلتيا التي حددوىا ليا ،ال تنطوي أبداً عمى ذلك التشابو الذي يمكن تصوره حسب ما
يقولونو ويرددونو دائماً( .الباحث).
137
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
أما قوليم باستحالة أن يتكرر مثل ىذا التراكم بين األسماء المتشابية ،فنقول أنو وفضبلً
عن حجتنا السابقة والتي تمغي أساساً وجود ىذا التشابو فيما قدموه ،فإن اختبلفيم في تعيين
مسرح جغرافية التوراة في جزيرة العرب ،قد أفضى الى تعيين سبعة أو ثمانية مسارح تقع في
نطاق جغرافي واحد عمى أساس التشابيات المفظية لؤلسماء ،وكل منيا يتضمن تعيينات دقيقة
مختمفة ومتباينة غالباً لكل اسم من األسماء التوراتية التي قابموىا ،ىذا مع األخذ باالعتبار أن
حاالت كثيرة من تعييناتيم وقفت عمى احتمالين أو ثبلثة أمام االسم الواحد من التوراة ،وىذا
أيضاً يرد الحجة عمييم ،ويسقط دعوى التراكم.
بيد أن البعض قد ال يجد في الحجج السابقة ما يقنعو ،وىذا أمر وارد ولن نتجاىمو.
فحسناً ،ماذا لو أننا اكتشفنا عف طريؽ البحث الجاد والمقصود -وليس عف طريؽ الصدفة-
أف عدداً كبي ارً مف أسماء األماكف في كردستاف -مثالً -تتشابو لفظياً وطبوغرافياً وعمى نحو
رىيب مع أسماء أماكف أخرى في اليمف؟! ما الذي يمكف أف يعنيو مثؿ ىذا االكتشاؼ؟!
وكيؼ سنفسره طالما وأنو حدث خارج دائرة القصة التوراتية؟!
ألم يتوسل إلينا الصميبي بصيغة ما في مقدمة كتابو بأن نتقبل ما كشفتو لو الصدفة من
تشابو عجيب ومتراكم بين أسماء األماكن التوراتية وأسماء األماكن في عسير غرب جزيرة
بناء عميو؟![ ..]1بمى -لقد فعل.
العرب ،وىو التشابو الذي أقام نظريتو ً
لكننا ىنا ال نتوسل القارئ أن يقبل نتائج تمخضت عنيا عمميات معقدة من التقميب
والتبديل والتفسير والتأويل والتعسف المضني الذي أجري عمى أسماء المناطق في عسير واليمن
إلرغاميا عمى أن تكون مشابية ألسماء األماكن التوراتية ،بل نطمب منو وبكل ثقة واقتدار أن
ينظر ويقرر ما شاء بشأن النتائج التي توصمت إلييا دراسة فاحصة ومقارنة قام بيا منذ أكثر
من عشر سنوات باحث عربي من دولة الكويت ،كشف فييا عن تشابو تراكمي رىيب بالفعل،
[ .]0كمال الصميبي :التوراة جاءت من جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .08
138
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
بين أسماء المناطق اليمنية والمناطق الكردستانية ،وىو البحث الذي نشرت بعض أجزاء منو
"صحيفة القبس الكويتية في نوفمبر من العام .]1[0222
ما ىو مميز بالفعل وجدير بأن يثير دىشتنا في دراسة "صالح السعيدي" البحثية
والبسيطة ،أن األمر فييا ال يقتصر عمى مجرد التشابو المفظي بين األسماء ،كما نجده عند رواد
نظرية جغرافية التوراة ،بل أنو قائم بشكل مدىش لمغاية عمى التطابق [الطبوغرافي][.]2
"فاسـ الجبؿ في اليمف يقابمو اسـ جبؿ في كردستاف مشابو لو تماماً ،واسـ
الوادي في اليمف ىو ذاتو يتكرر في كردستاف ،كما ينطبؽ ذلؾ عمى اليضاب والسيوؿ
والمواقع"[.]3
ىذه الدراسة البسيطة تقدم لنا قائمة طويمة من األسماء واألسماء المشابية ليا تماماً
لمواقع جغرافية في كل من اليمن وكردستان ،بدون أن يضطر الباحث فييا الى اجراء عمميات
قمب لمواقع الحروف أو تبديل ليا أو التبلعب بتركيب األسماء وجذورىا .كما أنيا قائمة تكشف
عن تشابيات طبوغرافية مثالية ،تتقابل فييا المدينة بالمدينة والقرية بالبمدة ويتقابل الوادي بالوادي
أو النير ،واليضبة باليضبة والجبل بالجبل ،فضبلً عن أن التكرار نفسو لبعض األسماء قد يقع
مرتين فنجده يتكرر في إقميم كردستان العراق مرة ،ومرة أخرى في إقميم كردستان تركيا أو إيران.
لنمعن النظر ولنندىش قدر ما نشاء من ذلك التشابو بين األسماء ومعالم سطح بعض
األماكن الجغرافية في اليمن وكردستان ،كما في الجدول أدناه:
[ .]0صالح السعيدي :ىل األكراد يمنيون قدماء؟ ،صحيفة القبس الكويتية العدد ( 7 ،)00228نوفمبر ،0222
متاح عمى الرابط االلكتروني:
https://alqabas.com/288765/- 20 Nov 2017.
[ .]0الطبوغرافيا ،مصطمح جغرافي يشير الى وصف سطح األرض من كافة النواحي الطبيعية ،والبشرية أيضاً،
فيصف التضاريس ومبلمح المكان الجغرافي الطبيعي من حيث سطحو ومكوناتو وموقعو وعبلقتو باألماكن
المحيطة بو( .الباحث)
[ .]3صالح السعيدي :ىل األكراد يمنيون قدماء؟ ،المرجع السابق( ،موقع الكتروني).
139
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
كردستان انيمه
اسـ
اسـ المكاف وبيانو الطبوغرافي البياف الطبوغرافي لممكاف
المكاف
ً
أوال :أمساء املدن وانقري وانبهداث واألقانيم
مدينة كبيرة تقع جنوب اليمن بالقرب من
ابيف :مدينة تقع شرق كردستان التركية أبيف
عدن
مدو ار ( :)mdoraبمدة تقع شرق كردستان التركية موقع في أبين جنوب اليمن مدورة
أرضيف :والنطق الكردي أردين نير يمر في مدينة أرضين :واد تقع عميو قرى في حضر
أرضيف
ماردين بكردستان التركية. موت
بمدة تطل عمى وادي دوعن في
شزف :بمدة في كردستان التركية. شزف
حضرموت
سدبة :قرية في كردستان التركية. قرية في حضرموت سدبو
تريـ :مدينة في االجزاء الشرقية لكردستان التركية. من كبريات مدن حضرموت تريـ
تريس :بمدة تقع عمى الحدود العراقية التركية. مدينة في حضرموت تريس
140
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
مدس :مدينة في كردستان التركية قرية في ببلد السوارية جنوب اليمن. مدس
بينوف :موقع موضع في كردستان التركية موقع يقع شمال شرق مدينة ذمار. بينوف
عكواف :موضع في كردستان واسم عشيرة تركية موضع بمد شمال شرق صعده عكواف
141
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
142
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
ذيبيف :منطقة اودية بكردستان العراق واد في ببلد ىمدان (محافظة الجوف) ذي بيف
خيواف :نير بكردستان العراق واد بببلد ىمدان (الجوف) خيواف
ىرات :واد ومدينة بكردستان العراق. مضيق بببلد ىمدان (الجوف) ىرات
صوالف (سوالف) :منطقة اودية بكردستان العراق. واد في ببلد ىمدان (الجوف) صوالف
سرار :واد بكردستان العراق واد بصنعاء القديمة سرار
واد في نجران عمى الحدود السعودية
ينسـ :واد وفرع من فروع الفرات بكردستان العراق يسنـ
اليمنية
جيجاف :اسم نير كبير في كردستان عمى الحدود
واد في يافع جنوب اليمن جيجاف
العراقي التركية
شوكاف :من روافد دجمة في كردستان التركية ويطمق
عمى جزء من الجبل المطل عميو وتوجد مدينة بيذا واد كبير في سرو حمير (ابين) شوكاف
االسم
نخالف :واد في شرق كردستان التركية وقرية في
واد في محافظة البيضاء وسط اليمن نخالف
كردستان العراق.
بخاؿ :واد من الفروع الصغيرة الممحقة بنير دجمة
واد في منطقة شعيب باين جنوب اليمن بخاؿ
ومنبعو بكردستان التركية.
دوعف :دوأف ( :)Dawanواد يقع بكردستان التركية الوادي الرئيسي في حضرموت وعميو
دوعف
وأحد تفرعات دجمة يمر باألراضي السورية تقع الكثير من القرى والبمدات.
مذاب :واد بكردستان التركية واد في صعدة شمال اليمن. مذاب
شراد :واد بكردستان التركية واد وقرية غرب ذمار شراد
واد يقع في شرق مدينة المكبل باقميم
حمـ (اوماـ) :واد يقع شرق كردستان التركية حمـ
حضرموت
سردد :واد بكردستان التركية واد يقع في تيامة سردد
واد مشيور بالعسل الطيب يقع في
جرداف :واد بكردستان االيرانية يشتير بالعسل الطيب، حضرموت لو شيرة يتناقميا العامة وقد
جرداف
وىناك ماركة عسل ايرانية شييرة باسم "عسل جردان" ورد ذكره بالمساند األوسانية 'يمينية
قديمة'.
يوحج :واد بكردستان االيرانية واد في ذمار يوحج
143
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
144
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
جدير بالذكر أن الباحث الكويتي "صالح السعيدي" قدم في بحثو أيضاً قائمة طويمة نسبياً
ضمت العديد من أسماء القبائل والسبلالت القبمية اليمنية التي وجد ليا مماثبلت لفظية -وربما
فعمية -في كردستان ،لم نشأ التعرض ليا نظ اًر لتحقق الكفاية فيما أوردناه.
إن ىذا [التشابو في األسماء والسمات الطبوغرافية] بين [ ]11منطقة في اليمن ومثميا
في كردستان ،ال نجده البتة بيذا الشكل الدقيق والمطابق في قوائم المقاببلت المفظية التي سردىا
لنا رواد نظرية جغرافية التوراة ،فجل ما قدموه لنا ال يعدو أكثر من مقاببلت تعسفية في أغمب
األحوال ،أخضعت فييا أسماء األماكن الجغرافية بشكل قسري لعمميات القمب واإلبدال وغيرىا
لكي تكون مطابقة لؤلسماء التوراتية ،وعمى الرغم من أنيم فعموا ذلك فإنيم لم يأخذوا بعين
االعتبار في كثير من األحوال مطابقة الخصائص الطبوغرافية لؤلماكن ،حتى وأن فعموا ذلك في
بعض األحوال فإن تعسفيم جعل نتائجيم طمسمية وتفتقر الى أبسط درجات التناغم واالنسجام،
خاصة إذا ما درسناىا عمى الخرائط.
في حين أن األسماء التي وجدناىا في دراسة "السعيدي" حممت تشابياً لفظياً سميماً ال
يحتاج الى تعسف وال ابدال أو قمب أو شعوذة لغوية ،واتمنى فعبلً أن يتأمل القارئ العزيز الفرق
الكبير بينيا وبين الشعوذات المغوية التي قدميا لنا أصحاب النيافة الحاخامات العرب.
عمى كل حال ،فقد قدمنا دليبلً تطبيقياً عمى أن تشابو أسماء المناطق يمكن أن يتخذ
طابعاً تراكمياً بين بمدين أو اقميمين جغرافيين غير متجاورين إطبلقاً ،وأن األمر ليس مستحيبلً.
فيذا النموذج التطبيقي الحي يسقط بالفعؿ مقولة أف تشابو األسماء الجغرافية يمكف أف يكوف
دليالً لتصديؽ نظرية جاءت لتقمب كؿ أفكارنا ومعارفنا التاريخية رأساً عمى عقب.
واآلف ،ىؿ يمكف أف نفسر تشابو أسماء المواقع الجغرافية بيف اليمف وكردستاف ،عمى
أنو دليؿ قاطع عمى أف أحداث التوراة الكوردية لـ تجري في كردستاف بؿ جرت في اليمف؟!
لؤلسف ،كردستان وشعب كردستان ال عبلقة ليما بأحداث التوراة واال لكان لؤلمر طابعاً
سينمائياً ودرامياً في أعمال رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب.
145
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
لكن ،لماذا نذىب بعيداً الى كردستان ولدينا نموذج آخر في لبنان؟! -فقد قدم الباحث
المبناني "فرج اهلل صالح ديب" -وىو أحد رواد ىذه النظرية بالفعل -نموذجاً معجمياً كامبلً أكد
فيو عمى أن أسماء الكثير من المواقع والمناطق والقرى والمعالم الجغرافية في بمده [لبناف] تتشابو
مع مثيبلت ليا في اليمن .أما ما لم يقع فيو التشابو بشكل واضح ،فقد أثبت "ديب" أن جذوره
المغوية يمنية ،وىذا ما دفعو الى جعل عنوان عممو ىذا[ :اليمف ىي األصؿ][.]1
تتطابق رؤية "فرج اهلل صالح ديب" ىذه مع الرؤية التي تبناىا الباحث الكويتي "صالح
السعيدي" ،والذي انطمق في دراستو باحثاً عما إذا كان األكراد من أصول يمنية أم ال؟! فجعل
عنوان بحثو[ :ىؿ األكراد يمنيوف قدماء؟] ،متبنياً ىذه الفرضية ومضيفاً إياىا الى جانب
الفرضيات األخرى المطروحة بشأن أصول األكراد ،انطبلقاً من بعض االشارات التي أوردىا
بعض المؤرخين والجغرافيين العرب والمسممين في العصور الوسطى ،كالمسعودي صاحب
"مروج الذىب" الذي أشار الى أن ىناك من نسب األكراد الى قبيمة األزد اليمنية ،وغيرىا من
االشارات التي تجاىميا الباحثون وأىمميا المؤرخون لعدم اقتناعيم بجديتيا وصحتيا[.]2
كما تبنى رائد آخر لنظرية جغرافية التوراة في اليمن ،وىو الباحث الفمسطيني "أحمد
الدبش" نفس ىذه الرؤية ،التي تًعيد أصول ومنبع الشعوب واألمم القديمة التي عاشت في
المنطقة ما بين الخميج العربي والمحيط األطمسي الى اليمن ،وذلك في كتاب كامل خصصو
لذلك[.]3
عمى سبيل االستخبلص ،يمكن القول بأن اكتشاف تشابو األسماء الجغرافية التي أقام
عمييا الصميبي نظريتو لم يكن مصادفة عمى اإلطبلق ،األمر نفسو الذي ينسحب عمى مصادفة
الربيعي ،ألن الموضوع برمتو شائع في الدراسات العربية القديمة ،وىذا ما يؤكده أيضاً اعتماد
رواد النظرية عمى العديد من األعمال المعجمية العربية – التراثية ،كاليمداني والحموي ،وأيضاً
146
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
بعض المصنفات المماثمة الحديثة والمعاصرة كالمعجم الذي أعده السعودي "حمد الجاسر"،
ومعجم القبائل والبمدان اليمنية لممقحفي وغيرىا .فاألمر ناتج عن استقصاء مقصود منذ البداية،
وبالتالي فإن التعميل بأن االكتشاف أو المبلحظة حدثت بالصدفة يبدو مثي اًر لمشفقة من حيث ال
يمكن تصديقو باألساس.
فمماذا اليوـ إذف ،يصر رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب دوناً عف سائر
خمؽ اهلل عمى أف بني اسرائيؿ أو أسالفيـ كانوا مف العرب البائدة؟!
إن ىذا اإلصرار عمى رد أصول بني اسرائيل الى العرب البائدة ،وعمى أن جغرافية التوراة
البد وأن تكون ىي اليمن أو أجزاء من جغرافيتيا الطبيعية-عسير وغامد -يجعل من ىذه
النظرية وكأنيا جاءت لتقدم حموالً ومعالجات لما يوصف من وجية نظر عمماء التاريخ التوراتي
بأنيا إخفاقات في التوصؿ الى أدلة أثرية بشأف حقيقة أصوؿ بني اسرائيؿ مف جية ،وأصوؿ
الديانة الييودية مف جية أخرى ،أو أنيا جاءت بالفعل لتسد بشكل أو بآخر ثغرات معينة أو ما
147
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
شابو في ىذا الشأن ،خاصة إذا عرفنا وعمى نحو وثيق بأن قضية أصول بني اسرائيل والييود
والديانة الييودية تعد من أصعب المشكبلت والعوائق التي مازالت بمعزل عن أي معالجة نظرية،
وبعيدة كمياً عن أي استدالل أثري مادي ،وىذا ما يؤرق الكثير من عمماء التاريخ واآلثار
التوراتيين ،بل أن مشكمة األصول ىذه تحل في صدارة المشكبلت التي تعنى بيا كل البحوث
التاريخية واألثرية الييودية واالسرائيمية المعاصرة.
اعتقد أننا لو نظرنا الى المسألة من ىذه الناحية ،فسوف نتمكن من تبيان العديد من
األمور التي ربما ماتزال غائبة عن اإلدراك بسبب انفصاليا عن أولويات ما نفكر بو بشأن ىذه
النظرية ،وان صدق مثل ىذا الطرح فسيكون من المتوقع ببل شك أن يتكشف لنا اليدف الذي
رمت الى تحقيقو نظرية الصميبي ،من خبلل اعتماده عمى ظاىرة تشابو األسماء الجغرافية
واالنطبلق منيا في بناء استدالالت تدعم صحة ما ذىب إليو ،عمى نحو ما يتناقض مع ما
يشير إليو الواقع ،من أنو ال يمكن بأي حال من األحوال اعتبار ىذه الظاىرة دليبلً تاريخياً أو
جغرافياً يمكن الركون إليو -.وىذا ما سيكون لنا معو وقفة مفصمة في مكان الحق من الدراسة.
148
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
)(3
من الميم جداً أن نتفق عمى ما الذي نعنيو بالضبط بقولنا [جغرافية التوراة] ،وكيف
تشكمت ىذه الجغرافية عمى متن النص التوراتي ،ألن ىذا سيخدم بشكل مباشر كل ما سيأتي
منذ ىذه المحظة ،مع التأكيد عمى أني سأتعامل مع ىذه المسألة إجرائياً بما يتناسب وأغراض
ىذه الدراسة.
تضع التوراة أحداثيا في نطاق جغرافي يشمل كافة مناطق الشرق األدنى القديم :العراق،
سوريا ،فمسطين ،مصر ،لذا يجب أن نضع في االعتبار دائماً أن جغرافية التوراة بحسب
نصوص أسفارىا ال تقتصر عمى فمسطين وحسب ،ألن فمسطين ما ىي إال الحمقة األخيرة من
بناء عمى مجموعة من القصص عن
حمقات التاريخ التوراتي .إذ تشكمت الجغرافية التوراتية ً
أصول بني اسرائيل ومنشأىم األول ،وكيف تكونوا وتطوروا ،والى أين انتقموا ورحموا ،وأين
استقروا وأقاموا ،حتى انتيوا الى "فمسطين" أو ما يطمقون عميو اسم "أرض الميعاد" -أو أرض
اسرائيل ،وتتمثل ىذه القصص بشكل رئيسي بما يمي:
القصة األولى :قصة العبور اإلبراىيمي – عبور النبي والجد األول لمعبرانيين [ابراىيـ]
لنير الفرات ،وانتقالو من مدينة [أور الكمدانية] في ببلد الرافدين الى مدينة [حاراف] السورية،
كما تشمل ىذه القصة القصص المتعمقة بزوجاتو وأبنائو وانتقالو الى مصر ،وما الى ذلك،
باإلضافة الى استقرار يعقوب بن ابراىيم في فمسطين ،وتحول اسمو الى [اسرائيؿ] ليصبح
المؤسس األول لقبيمة بني اسرائيل أو ما يعرف ب ـ [األسباط اإلثني عشرة الييودية] وىذا القصة
ترتبط ب ـ [الوعد اإلليي إلبراىيـ بأف تكوف لو ولنسمو مف بعده األرض مف الفرات الى النيؿ].
القصة الثانية :قصة [يوسؼ بف يعقوب] الذي ساقتو األقدار الى مصر عمى أيدي
اليكسوس أو ما شابو ،ليحظى بتربية الفرعون وعنايتو بو كابن لو ،ومن ثم ارتقاءه الى سدة
الحكم في أرض النيل ،ودعوتو ألبيو وأشقائو واستقرارىم فييا لعدة قرون ،حتى يأتي [موسى]
149
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
ويدخل في صراع مع فرعون آخر يقرر فيو ىذا األخير ابادة بني اسرائيل عن بكرة أبييم ،أو
طردىم من مصر[ .ىذه الفترة -فترة الوجود االسرائيمي في مصر ال تغطييا التوراة أبداً وال
تقوؿ عنيا شيئاً] ،إال أنيا ترتبط بقصة الخروج من مصر وما يعرف ب ـ [الوعد اإلليي لموسى
بأف تكوف فمسطيف ىي أرض الميعاد لو ولقومو].
القصة الثالثة :قصة [الخروج االسرائيمي مف مصر] بقيادة موسى ،والتيو لعدة عقود في
الصحراء ،قبل أن يصموا الى تخوم نير األردن من جيتو الشرقية ،بقيادة خميفة موسى [يشوع
بف نوف] ،والذي يقود بني اسرائيل في معارك عديدة يتمكن فييا من اسقاط المدن الكنعانية
والفمسطينية الواحدة تمو األخرى ،وتكوين مممكة اسرائيل في طورىا األول.
القصة الرابعة :قصة [الممؾ داوود وابنو سميماف وانقساـ المممكة] ،حيث تسرد التوراة
قصة وصول ممك اسرائيل الى داوود ،وتأسيس امبراطورية ضخمة ميولة ،ثم مجيئ سميمان بن
داوود خمفاً ألبيو وبناء الييكل وقدس األقداس وما الى ذلك ،وبعد سميمان تنقسم مممكة اسرائيل
الى شطرين مممكة اسرائيل في الشمال ومممكة ييوذا في الجنوب من فمسطين.
القصة الخامسة[ :الصراع بيف المممكتيف] ،وصوالً الى الصراع مع اآلشوريين والبابميين
والذي انتيي بالسبي البابمي لبني اسرائيل ودخوليم [مرحمة المنفى] .وانتقاالً مع أحداث الصراع
بين الفرس وآشور والذي انتيى بانتصار الفرس ،الذين ساعدوا بني اسرائيل في العودة الى
فمسطين ،وتمكنيم من اقامة دولة ليم ىناك ،استمرت حتى جاء الرومان ودمروا عاصمتيم
اورشميم وطرودا بني اسرائيل والييود منيا فيما عرف ب ـ [مرحمة الشتات][.]1
في متون النص التوراتي الذي تسرد جميع ىذه القصص ،يرد ذكر المئات إن لم يكن
اآلالف من أسماء المدن والقرى والجبال والتبلل والقبلع والمعالم الجغرافية ،السيما منذ بداية
قصة الخروج من مصر وحروب يشوع بن نون في فمسطين ،بحيث يمكن تصنيف ىذه المواقع
الى مجموعتين ،كما يأتي:
[ .]0استمرت مرحمة الشتات الييودي منذ ذلك الوقت وحتى اعبلن قيام دولة اسرائيل في العصر الراىن عام
،0998والفرق بين مرحمتي المنفى والشتات ،أن األولى اجبر عمييا الييود أما الثانية فكانت باختيارىم.
(الباحث).
150
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
المجموعة األولى :المدف والمواقع الرئيسية :وىي المدن والمواقع المشيورة في التاريخ
والثابتة مواقعيا الجغرافية في السجبلت التاريخية واألدلة األثرية ،مثل :غزة ،نير األردن ،أريحا،
يافا ،حيفا ،شكيم ،اورشميم ،عسقبلن ،اشدود ،بيت لحم ،صيدا ،صور ،دمشق ،حماة ،حمب،
عمان (عمون) ،لبنان ،فضبلً عن أسماء الدول القديمة الكبرى ومدنيا مثل مصر وآشور وبابل
وكوش وسبأ وغيرىا.
المجموعة الثانية :المواقع والقرى والمعالـ الثانوية :والتي يفترض أنيا تنتمي الى حيز
جغرافي واحد في فمسطين بالتحديد ،مثل :عاي ،جبل عيبال ،جبعون ،حبرون ،عقرون ،بيتيل،
بيت شان ،تمنة ،تعنك ،جبعة ،مخماس ،حاصور ،دان ،جمعد ،لخيش ،يزرعيل ،النقب ،جت،
جبع ،رامة ،ربة ،عربة ...والمئات األخرى من أسماء التبلل والجبع والخرب واآلبار والعيون
والوديان والجبال والقفار والقرى والبمدات مما ال يمكن حصره .وىذه الفئة ىي التي تثير المشكمة
من حيث صعب ألسباب متعددة ايجاد مواقع البعض منيا في فمسطين ،وغالباً ما جرى تعيين
مواقعيا االفتراضية عمى نحو غير قاطع.
تتضح اشكالية المجموعة الثانية ،من خبلل مضمون واتجاه المعالجات التي قدميا رواد
نظرية جغرافية التوراة لتحديد مواقع المدن والمناطق التوراتية خارج أرض فمسطين .مع التأكيد
عمى أن أغمب تمك المواقع الثانوية ىي ما جرى االنشغال بو بشكل رئيسي ،حيث انحصرت
أغمب معالجات رواد النظرية بدرجة أساسية في المرحمة التي تبدأ من حادثة الخروج االسرائيمي
من مصر ،وانطبلقة حروب يشوع ،وحتى عصر السبي البابمي ،بل أن عناوين موضوعاتيم
الرئيسية جاءت عمى نحو :جغرافية معارؾ يشوع ،جغرافية سفر صموئيؿ ،جغرافية السبي
البابمي ،جغرافية مممكة داود وسميماف ..وىكذا.
لقد أخضع رواد النظرية المدن والمواقع الرئيسية الثابتة تاريخياً وجغرافياً لحكم المجموعة
الثانية وكأنيا مجيولة أو في غير مكانيا الصحيح بالنسبة لمتحديد التوراتي .ثم قاموا بتوظيف
مسألة تشابو األسماء التوراتية مع مناطق عسير وغامد ،وىي المسألة التي فتحت األبواب عمى
مصاريعيا لكل من ىب ودب أن يبحث عن مسرح أحداث التوراة في جزيرة العرب.
151
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
أكد رواد النظرية عمى اتباعيم [منيج دراسة التحوالت المغوية لألسماء] ،إال أنيم في
الحقيقة لم يطبقوا من ىذا المنيج إال قشرتو السطحية من حيث اعتمدوا عمى التشابو بين
األسماء دون أي اعتبار آخر غيره ،باإلضافة الى بعض التقنيات المغوية البسيطة من إبدال
وقمب واشتقاق وما الى ذلك.
بطريقة ما ومن خبلل مقوالتيم الثبلث الرئيسية ،وأيضاً من خبلل صنعيم لسبلسل طويمة
جداً من المغالطات المنطقية ،تمكنوا من تشويش الكثير من األفكار عمى نحو بدت معو
استدالالتيم باألسماء المتشابية مقنعة بالفعل ،معتمدين في ذلك بشكل رئيسي عمى جيل
الغالبية من الناس بحقائق الجغرافيا العامة وعمم الخرائط وعمم الطبوغرافيا وعمم الجغرافية
التاريخية باألساس وفقو المغات وغيرىا من العموم التخصصية الدقيقة ،فضبلً عن قصور معرفة
الناس بالكثير من الحقائق التاريخية واألسس والقواعد المنيجية ،وعمى رأسيا قواعد عمـ أصوؿ
األسماء [االيتمولوجي ( ])Etymologicأو ما يعرف ب ـ [عمـ اإلثالة ،أو عمـ التأثيؿ ،وأحياناً
يعرؼ بػػ عمـ التأصيؿ] ،وىو العمم الذي بالكاد يعرف عنو القمة القميمة من الباحثين
المتخصصين ،أو ممن حظوا بدرجة ما من المعرفة الموسوعية.
لقد تيرب رواد ىذه النظرية بالفعل من تطبيق القواعد المنيجية األساسية لعمم اإلثالة،
وصرح بو حرفياً عندما:
َّ وىذا ما اعترف بو رائدىم األول الدكتور كمال الصميبي،
"لفت نظر القارئ الى أف دراستو "التوراة جاءت مف جزيرة العرب" ال تتطرؽ الى
أصوؿ أسماء األماكف المشار إلييا في دراستو ،كما لف تتطرؽ الى معاني ىذه
األسماء إال في حاالت قميمة .وأف مف ىذه األسماء ما ىو كنعاني أو آرامي في
صيغتو ،ومنيا ما ىو عربي ،ومنيا ما ىو [سامي] قديـ يعود الى ما قبؿ الكنعانية
واآلرامية والعربية[.]1
بيد أن اعتراف الصميبي ىذا لم يخمو من المغالطة أيضاً ،ذلك أن ما تجاىمو وىرب منو
ال يقتصر فحسب عمى [أصوؿ أسماء األماكف ومعانييا] ،بل شمل الجوانب الرئيسية التي
[ .]0كمال الصميبي :التوراة جاءت من جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .02
152
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
يفترض أن يأخذ بيا [الباحث االيتمولوجي -الجغرافي] في بحثو عن حقائق األسماء التاريخية
لممواقع الجغرافية المختمفة في أي مكان ،والتي تتمثل بما يمي:
أثر التغيرات الصوتية التاريخية الناتجة عف ظواىر القمب واإلبداؿ عمى الداللة
األصمية لالسـ ،وعالقة الدالالت الناتجة بالمعنى األصمي.
السياؽ الثقافي والحضاري الذي ينتمي إليو االسـ مف حيث معالمو المغوية
والصوتية والداللية متصمة بالجغرافيا والطبوغرافيا ،والذي ال تخمو التعبيرات
السائدة في مجتمع ما مف اإلشارة إليو مف خالؿ عبارات وصؼ الحركة واالنتقاؿ
في النطاؽ المكاني ،وأسماء الطرؽ والجسور والمعابر والممرات ودالالت الصعود
واليبوط وغير ذلؾ.
الداللة الطبوغرافية التي يحمميا االسـ أو التوصيؼ الطبوغرافي الذي يأتي مرتبطاً
بو ،فاألسماء الجغرافية غالباً ما تصاحبيا مفردات ذات داللة طبوغرافية ،عمى
نحو :جبؿ ،تؿ ،سيؿ ،قرية ،وادي ،نير ،خربة ،عيف ،نبع ..الخ.
اإلسقاطات اإلحداثية الطبوغرافية والجغرافية لممكاف الذي يشير إليو االسـ ،مف
حيث طبيعة سطحو وتناغميا مع سطوح األماكف المسماة بجواره ،باإلضافة الى
موقع المكاف بالنسبة لغيره في الجيات األربع أو الجيات الثماف.
تاريخ المكاف واألحداث المرتبطة بو ،ومدى تناغميا مع االسـ ودالالتو الجغرافية
والطبوغرافية ،مقارنة باألماكف األخرى التي ترتبط بنفس االسـ أو بأسماء مشابية
لو.
153
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
ىذه ىي القواعد التي ال يمكن ألي باحث [ايتمولوجي -جغرافي وتاريخي] أن يتجاىميا،
ألن تجاىميا وعدم االلتزام بيا يفضي الى نتائج فوضوية ال أساس ليا من الناحية العممية،
فضبلً عن التوىم الذي يقود إليو ذلك .وىذا بالضبط ما قام بو جميع رواد نظرية جغرافية التوراة
في جزيرة العرب ،فمم يمتزموا بأي من ىذه القواعد ،بما فييم األستاذ "فرج اهلل صالح ديب" وىو
المغوي والجغرافي المعجمي الخبير والضميع في ىذا المجال .فقد رموا بكل ثقميم البحثي
والمعرفي عمى مسألة تشابو األسماء وبنوا عمييا استدالالتيم التعسفية ،والتي فرشت بالوىم
جغرافية جزيرة العرب لمتاريخ التوراتي وجعمتو منطبقاً عمييا كرىاً وحتم أنفيا ،فقط لتبدو نظريتيم
مقنعة ومقبولة.
الثابت عممياً ،أن "دراسة ىذه المدف والمواقع نفسيا تحظى باألىمية القصوى في
أوساط الباحثيف المعنييف بالجغرافية التاريخية ،وىي األىمية التي تتأتى أصالً مف
أىمية دورىا في تحديد المسرح الجغرافي لمعديد مف الوقائع والحوادث التاريخية ،فضال
عف رسـ وتحديد المسار الصحيح والمنطقي لمحطات القوافؿ والحمالت والرحالت عبر
العصور التاريخية[.]1
وىذا مفاده ،أنو يجب قبل أن نحيل مسألة تاريخية -جغرافية ما الى اسمائيا المرتبطة
بيا أو اثبات عدم ارتباطيا بيا ،أن نقوم بدراسة المكان نفسو وأال نقفز عميو ونبحث في األسماء
المعنية بو في مكان آخر ،قبل أن يثبت لدينا بما ال ينزع بنا الى الشك مرة أخرى بأن ىذا
المكان مرتبط بالفعل باألحداث واألسماء المعنية ،فإذا لم يثبت ىذا االرتباط يمكن بعد ذلك
الحديث عن امكانية البحث في نطاق جغرافي آخر .وبالمثل فإنو يجب قبل أن نحيل البحث
عن الخصائص المغوية والمفظية لؤلسماء الجغرافية الى منطقة أخرى ،أن نتحقق من مدى
مطابقة أو عدم مطابقة تمك األسماء بخصائصيا القائمة مع المنطقة المفترض أساساً أنيا
مرتبطة بيا.
[ .]0عامر عبد اهلل الجميمي :أسماء المدن والمواقع الجغرافية المتشابية لفظاً والمختمفة موقعاً في النصوص
المسمارية ،مرجع سابق( ،موقع الكتروني).
154
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
بصيغة أخرى أكثر وضوحاً ،فقد كان من المفترض أن يقوم رواد نظرية جغرافية التوراة
العرب بالخطوة المنيجية األولى ،وىي التحقق من مطابقة أو عدم مطابقة األسماء التوراتية مع
الجغرافية الفمسطينية ،وأن يبنوا عمى نتائج ىذه الخطوة مسار خطوتيم التالية إذا ثبت لدييم عدم
التطابق فعبلً ،لكن ىذا أيضاً لم يقوموا بو ،حتى أنيم لم يقدموا لنا أي استدالالت بالسمب عن
الجغرافية الفمسطينية.
فقط ،أقاموا مقوالتيـ الرئيسية الثالث ونقموا بموجبيا جغرافية الحدث التوراتي مف
فمسطيف ومناطؽ الشرؽ األدنى األخرى الى جزيرة العرب ،عمى نحو أفرغ فمسطيف مف
تاريخيا كمياً ،فمـ يعد فييا ال كنعانييف (فينيقييف) وال فمسطينييف ،وال آمورييف وال آرامييف وال
مصرييف وال آشورييف ،كميا جميعاً تبخرت وتالشت واصبحت في اليمف ،وىذا كمو مف أجؿ
سواد عيوف كتبة التوراة والييود وبني اسرائيؿ ،الذيف جاءوا الى فمسطيف أصالً بعد آالؼ
السنيف مف الوجود الحضاري اآلموري والفينيقي والفمسطيني ،لكف ىذا كمو سيختفي بممح
العيف ولف يعود لو أي أثر في فمسطيف ،بمجرد أف سعى ىؤالء الحاخامات العرب الى اثبات
مصداقية التاريخ التوراتي عمى حساب تاريخ وجغرافية المنطقة العربية كميا ،وليس عمى
حساب تاريخ وجغرافية فمسطيف وحدىا.
من الثابت أيضاً ،أن التوراة كتبت ما بين القرن الثالث والقرن الثاني قبل الميبلد ،وىي
الفترة التي كانت فييا حضارة كاممة ومستقمة في جنوب جزيرة العرب ،ليا لغتيا وقوميتيا
وثقافتيا ،وكتابتيا ،ونقوشيا ،وأعرافيا ،وأسمائيا ،وجنيا وانسيا ،وأساطيرىا ،التي مازالت حية
وتنبض بالحياة حتى اليوم ،لكن ىذا كمو اختفى أيضاً وذاب ذوبان الجميد في ابريل المكسيكي،
فبل حقيقة إال ما تقولو التوراة ،وال جغرافية لمحدث التوراتي إال ما يحددىا لو أصحاب النيافة
حكماء التوراة العرب :الصميبي ومنى وديب وداوود والدبش وعيد والجثام والربيعي..؟!
وحينما صرخنا وقمنا :ليس كؿ التاريخ توراتياً يا سادة ،وليست كؿ الجغرافيا معنية بيذه
االسرائيؿ البضعة التي نسيناىا قبؿ ألفيف سنة مف اليوـ ،فماذا تفعموف؟! -جاءنا الجواب
سريعاً :نحف نصحح التاريخ ونحرره مف الزيؼ االستشراقي ..ياهلل!!..
155
انفصم انرابع تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت
ختاماً ،نكون بيذا قد وصمنا الى نياية تأسيسنا النظري والمنيجي ليذه الدراسة ،ودخمنا
فعمياً في مرحمة النقد التطبيقي ،فإذا كنا نتكمم عن حقائق األسماء الجغرافية فعمينا أن ننصت
لمجغرافيا نفسيا ،والى الحقائق المغوية والتاريخية والثقافية والحضارية التي ال يمكن فصميا
اطبلقاً عن بيئتيا الجغرافية ،ميما حاول الخراصون أو اجتيد المشعوذون.
سنحتكم الى الجغرافيا والى الخرائط ،والى الحقائق الطبوغرافية والمغوية والتاريخية التي
تنطق بيا أسماء المناطق في فمسطين -وليس أسماء المناطق في التوراة -فإذا قالت خرائط
فمسطين التفصيمية الموثوقة والمعتمدة من قبل الفمسطينيين أنفسيم لما قبل عام ،0998أن
األسماء التي ترد في التوراة تنتمي إلييا ،فقد حكمت والبد أن نرضخ لحكميا ،وان أنكرت ذلك
فقد صدقت والبد أن نصدقيا أيضاً.
في المقابل ،سنرسم الخرائط اليمنية وفق الوصف الذي حدده رواد النظرية ونقابميا بالنص
التوراتي نفسو ،وبالحقائق الجغرافية والتاريخية واألثرية اليمنية في الزمان والمكان نفسو ،واألمر
نفسو بالنسبة لمصر وآشور وغيرىا.
بيذه الطريقة وبيذا المنيج ،سنكتشف الحقيقة ،ونعرف عمى وجو اليقين من ىو الذي يقوم
بتزييف التاريخ والجغرافيا ومن ىو الذي يقوم فعبلً بتحريرىما..؟!!
واآلف ،الى نشيد أنشاد الجغرافيا وصموات الخرائط ..والقسـ الثاني مف ىذه الدراسة..
156
القسم الثاني
مدخل:
تضج أعمال ومؤلفات رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب بمحتوى تأليفي ال
يتوقف عند تقديم الحجج واألدلة التي توصموا إلييا فحسب ،بل ويتضمن سرد التاريخ التوراتي
من خالل اسقاطو عمى جغرافية اليمن الطبيعي.
أؤكد ىنا عمى عبارة (تأليف) كوصف دقيق لمطريقة التي أعدت بيا تمك األعمال ،من
حيث أنيا باألساس ال تقدم تاريخاً أو عمماً أو حقائق ،بل إنيا ال تعدو أكثر من مجرد مؤلفات
ينطبق عمييا حرفياً وصفيا بأنيا "معارف خاصة" -معارف خاصة بمؤلفييا ،تماماً كما وصفيا
بذلك رائد النظرية األول كمال الصميبي .في حين أن التاريخ ليس مجاالً لمتأليف يسمك فيو
المؤلف كما يشاء ،بل ىو عمم لو أسسو وقواعده ومناىجو وأدواتو العممية وأساليبو الموضوعية
التي ال ينبغي أن يحيد عنيا الباحث في التاريخ ،وىذا أمر ال يخفى عمى أحد.
عند النظر المباشر في أعمال ىؤالء الرواد ،نجد أنيم قدموا لنا القصة التاريخية التوراتية
التقميدية نفسيا بفارق جوىري ىو أنيم أسقطوىا في نطاقات جغرافية أخرى ،وبالتالي فما
يصفونو بأنو تحرير لمتاريخ من ىيمنة لمقصة التوراتية عميو ،ال يعدو أكثر من مغالطة
صورية واضحة ومكشوفة ،إذ أن نقل أحداث التوراة حرفيا واسباغ صفة المصداقية الكاممة
عمييا الى مسرح جغرافي آخر ليس إال تثبيت وتكريس لتمك الييمنة التوراتية التي صنعيا
المستشرقون وعمماء التوراة من قبل.
ومع ذلك ،فإن البعض من المثقفين والدارسين ممن وقفوا عمى ىذه النظرية وانبيروا بيا
وتفاعموا بإعجاب شديد معيا ،يرفضون دائماً النظر الى ىذه الحقيقة الواضحة ،ويدعون أن ىذه
النظرية فتحت آفاقاً رحبة في مجال نقد التوراة!!..
منذ البداية ،سعت ىذه الدراسة الى بحث وتفكيك الجوانب اإلجرائية في أعمال رواد
نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب ،وبقدر ما أن ىذا السعي ال ولن يسعف الكثير من القراء
ممن ينتظرون -أو يتوقعون عمى األقل -أن تقدم ىذه الدراسة ردوداً عمى ما تضج بو كتبيم
158
مدخل نشيد أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
ومؤلفاتيم من استدالالت وشواىد ،بحيث نكون مضطرين ىنا لموقوف أمام كل مسألة من
المسائل التي أثاروىا ،والوقوف عمى كل اسم من أسماء المناطق الجغرافية التي نزعوىا من
جغرافيتيا األصمية -أقصد جغرافية فمسطين وحوالييا وليس جغرافية التوراة كما يدعون ،فميس
لمتوراة جغرافية يمكن الحديث عنيا -وىي األسماء نفسيا التي اجتيدوا بشكل متعسف لمغاية في
اسقاطيا عمى كامل المساحة الجغرافية لما ىو ثابت ويعرف ب ـ "اليمن الطبيعي" .فيذا الخيار لن
يؤدي إال الى إثارة الجدل العقيم الذي يخدم النظرية أكثر ما أنو يخدم أىداف نقدىا واثبات
أخطائيا وانحرافاتيا.
لذا ،فإننا ال نريد أن يأمل القارئ العزيز أن تتجو ىذه الدراسة نحو تقديم نقد سطحي
مساير الستدالالت ىذه النظرية .كما ال نريد أن يشعر القارئ بخيبة أمل من حيث يعتقد أو
يتصور بأن ىذه الدراسة جاءت وخالفت كل توقعاتو ،بل نرغب فعالً أن يدرك القارئ أىمية وقوة
ىذا االتجاه الذي نسمكو في دراستنا ىذه ،من حيث أنو مسمك منيجي مبتكر ومطور بشكل
خاص ،وييدف الى وضع نظرية جغرافية التوراة وروادىا في مخنق شديد الوطأة ،بحيث لن
يكون بوسعيم أو بوسع نظريتيم النجاة منو بسيولة ،وىذا بالضبط ما سعينا إليو أوالً من خالل
خمخمة بنيان ىذه النظرية ،واثبات مدى ىشاشتيا وارتخاء مفاصميا وعجزىا عن الصمود أمام
كل نتيجة من النتائج التي توصمنا إلييا من قبل ،والتأكيد عمى أنيا لن تصمد أبداً أمام األدلة
واالثباتات القاطعة التي نسعى لعرضيا في المرحمة الحالية من الدراسة.
عندما نقول أننا ىنا نعنى بدراسة وتفكيك اإلجراءات التي قام بيا رواد نظرية جغرافية
التوراة من الباحثين العرب ،فإننا نقصد بذلك أن نتحقق بالفعل مما قاموا بو في بناء وتقديم
نظريتيم .وكما ىو ثابت فإن القاعدة العامة في كل ما يمكن أن يقوم بو اإلنسان ،ىي أن
اإلجراء إذا كان صحيحاً فالبد من أن تكون النتائج صحيحة أو عمى األقل أكثر قرباً من الواقع
وأكثر قدرة عمى التعبير عنو بأقصى درجة ممكنة ،والعكس صحيح أيضاً إذا كانت تمك
اإلجراءات خاطئة أو غير صحيحة ،فالنتائج ستكون خاطئة وغير صحيحة.
كان القسم األول من ىذه الدراسة قد اتجو نحو تفكيك البناء المنطقي والمنيجي لمنظرية،
وىو ما ساعد في صياغة وتكوين العديد من التساؤالت والمالحظات والنتائج القيمة التي وان لم
159
مدخل نشيد أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
تحطم ىذه النظرية وتجيز عمييا تماماً ،إال أنيا بال شك وضعتيا في دائرة الشكوك ،وىزت
بشكل أو بآخر الكثير من القناعات حوليا.
أما اآلن ،وبعد أن تبين لنا من خالل اختبار مقوالت النظرية وفروضيا ومنطمقاتيا ،مدى
ىشاشة تمك المقوالت وتناقضات تمك الفروض والمنطمقات ،فإننا في القسم الثاني من ىذه
الدراسة ،نسعى الى التوغل أكثر في عمق البناء اإلجرائي لمنظرية ،من خالل التعرف عمى
الطرق واآلليات التي اتبعيا روادىا في التعامل مع المصادر التي اعتمدوىا في إسناد نظريتيم،
وبناء منظوماتيم االستداللية المتباينة شكالً ،والمتشابية منطقاً ومنطمقاً ومسمكاً وغاية وىدفاً،
والتعرف عمى األساليب اإلجرائية التي اتبعوىا في تكوين وتقديم أدلتيم ،وتقييم مدى رسوخيا
المنيجي وصدقيا الموضوعي وثباتيا اإلجرائي ،ناىيك عن نقض النظرية واثبات عدم صحتيا
والكشف عن التضميل والتمفيق والتزوير المتعمد الذي مارسو روادىا من الباحثين العرب بدرجات
متفاوتة وبأشكال مقصودة وأخرى غير مقصودة.
السؤال الرئيسي الذي ننطمق منو في ىذا القسم ،ىو سؤال عن المصادر التي اعتمد
عمييا رواد نظرية جغرافية التوراة من الباحثين العرب ،والكيفيات التي تعامموا بيا معيا ،بحيث
يمكن صياغة ىذا السؤال عمى نحو ما تعبر عنو الصيغة اآلتية:
ما ىي المصادر التي اعتمد عمييا رواد نظرية جغرافية التوراة في اليمن وعسير؟-
وكيف تعامموا مع ىذه المصادر في بناء وتكوين أدلتيم؟
إن الغاية من طرح ىذا السؤال ىي الكشف عن تمك اآلليات التي طبقيا رواد النظرية في
جمع وتقديم المادة المعرفية التي ضمنوىا صفحات كتبيم ومؤلفاتيم ،من مختمف النواحي
التاريخية والمغوية والجغرافية ،وىذا بدوره سوف يميد لنا الطريق لمقيام بنقالت ضرورية تيدف
الى دراسة وتحميل نماذج األدلة التي قدموىا لنا إلثبات صحة نظريتيم.
بصيغة عامة يمكن تصنيف المصادر التي اعتمد عمييا رواد نظرية جغرافية التوراة في
جزيرة العرب ،الى ثالث مجموعات أو ثالث فئات رئيسية ،تتمثل بما يمي:
160
مدخل نشيد أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
الفئة األولى ،المصادر الكتابية ،وفي مقدمتيا طبعاً العيد القديم من الكتاب المقدس
(التوراة) والتي تتمثل باألسفار الخمسة الرئيسية ،باإلضافة الى األسفار والنصوص المدراشية
والتناخية األخرى ،وكذلك التممود .وحول ىذه الفئة يمكن استحضار العديد من المسائل
واالشكاليات المتعمقة بتاريخ النص التوراتي ،ولغتو وترجماتو الى المغات األخرى ،وعالقتو
بالنصوص المماثمة ،ومدى توافقو أو تعارضو معيا ،وغير ذلك.
الفئة الثانية ،يدخل ضمنيا السجالت التاريخية والمغوية والجغرافية ،ويراد بيا الكتب
والمؤلفات التاريخية والجغرافية القديمة ،بما فييا المؤلفات التاريخية والجغرافية الكالسيكية التي
قام بيا اليونانيين ،باإلضافة الى كتب األخبار العربية ومروياتيم ،باإلضافة الى المصنفات
التاريخية والمغوية والجغرافية العربية .وحول ىذه المصادر يمكن إثارة وبحث العديد من
االشكاليات ،وما إذا كانت ىذه المصادر قد عنت بشكل أو بآخر بما أطمق عميو ىؤالء الباحثين
"جغرافية التوراة" أم ال.
الفئة الثالثة ،النقوش واألدلة األثرية ،حيث تعامل بعض رواد النظرية مع النقوش
المصرية والعراقية واليمنية القديمة ،وكيفوىا لتدعم نظريتيم.
ولما كانت نظرية جغرافية التوراة التي قدميا روادىا العرب ليست نظرية واحدة -كما
يعتقد البعض -بل ىي عدة نظريات تدور حول محور واحد وىو النص التوراتي ،ومن حيث أن
لكل من روادىا رؤيتو وطريقتو وأدواتو وتعييناتو الجغرافية ،فإن ميمتنا الحالية ىي التعرف عمى
الطرق واآلليات التي اتبعوىا في التعامل مع ىذه المصادر والمرجعيات التي استندوا إلييا،
وطرقيم في بناء وتكوين األدلة التي قدموىا في أعماليم ،وذلك من خالل دراسة وتحميل واحد
من أىم النماذج التي قدميا ىؤالء الرواد ،وىو نموذج المفكر العربي فاضل الربيعي ،مع
اإلشارة المقارنة الى مضامين أعمال الرواد اآلخرين كمما سنحت الفرصة وناسب المقام.
واختيارنا لمنموذج الذي قدمو المفكر العربي فاضل الربيعي لنظرية جغرافية التوراة لم يكن
عشوائياً ،بل ىو اختيار قائم عمى مجموعة متكاممة ومتناغمة من األسباب والدوافع التي يمكن
إبراز أىميا ،في أن الربيعي يمثل آخر العنقود في سمسمة رواد نظرية جغرافية التوراة ،وأكثرىم
161
مدخل نشيد أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
نشاطاً من حيث أنو مازال مستم اًر في رفد نظريتو بالعديد من األعمال والمؤلفات ،في الوقت
الذي تراجع فيو الرواد اآلخرون قميالً مكتفين بما قدموه من قبل ،وتاركين المسألة لمباحثين
اآلخرين ليكمموا الرحمة بجيود وآراء وتوجيات جديدة .ىذا باإلضافة الى أن الربيعي جعل من
كامل األرض اليمنية مسرحاً ألحداث التوراة ،وىو بذلك يمتقي مع بعض الرواد في ىذا االتجاه،
في حين أن طرحو يستوعب النطاق الجغرافي الضيق الذي اختاره البعض اآلخر ممن حصروا
أرض التوراة بمنطقتي عسير والسراة ،وىذه المناطق تعد جزًء ال يتج أز من جغرافية اليمن
الطبيعي ،وبالتالي فإن نموذج الربيعي يستوعب جميع التحديدات الجغرافية التي اختارىا بقية
رواد النظرية ،فضالً عن أنو الوحيد الذي ادعى بالتطابق الكامل بين أسماء األماكن التوراتية
واألسماء المقابمة ليا في جغرافية اليمن ،وىو الوحيد أيضاً الذي ادعى أنو قام بإعادة ترجمة
النص التوراتي وأثبت ذلك التطابق الموىوم.
عمى كل حال ،فإن استراتيجيتنا في ىذا القسم تعتمد عمى البحث الجغرافي واألدوات
والوسائل الجغرافية التي من شأنيا أن تكشف عن الحقائق الثابتة التي يقدميا عمم الجغرافيا،
تؤازرنا في ذلك األدوات المغوية والتاريخية واألثرية ،في السياق الذي نحرص فيو عمى اتباع
منيج عممي رصين من مناىج النقد التاريخي الحديثة والمعاصرة ،وىو منيج قمب الدليل -أو
منيج عكس الدليل -والذي قمنا باختباره وتطويره عمى مدى عامين كاممين ألغراض ىذه
الدراسة.
162
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
انفصم األول
تقوم أطروحة المفكر العربي فاضل الربيعي عمى إدعاء صريح مفاده أن الحسن بن أحمد
اليمداني في كتابو صفة جزيرة العرب َّ
قدم وصفاً مطابقاً لألماكن الجغرافية التي ذكرتيا التوراة
والتي دارت فييا مجمل أحداثيا ،وأكد م ار اًر وتك ار اًر عمى أن ىذا التطابق ىو األساس الذي يستند
ضمنيا كتابو "فمسطين المتخيمة" ،والتي أثبت بيا – عمى حد
إليو في تقديم كل استدالالتو التي َّ
قولو -بأن جغرافية التوراة لم تكن يوماً في فمسطين ،وانما كانت في اليمن.
كما أكد الربيعي بصورة ضمنية عمى أن وصف اليمداني لجغرافية التوراة قد ساعده كثي اًر
في اكتشاف التحريف والتزييف الذي صنعتو القراءات والتفسيرات االستشراقية المضممة لمنص
بناء عمى الصورة
التوراتي ،وبالتالي فقد أوحى إليو ذلك بإعادة ترجمة النص التوراتي العبري ً
الصحيحة التي اكتشفيا ىو في كتاب اليمداني .وبعد سنوات طويمة اعتكف فييا لتعمم المغة
العبرية واإللمام بكافة أبعادىا ،قام بإعادة ترجمة التوراة العبرية ومطابقة ترجمتو تمك مع ما جاء
في كتاب اليمداني ،فكانت النتائج مذىمة ورىيبة لمغاية ،إذ وجد ذلك التطابق المدىش بين
أسماء األماكن التي ذكرىا اليمداني وتمك التي وردت في التوراة ،ومن ثم فقد تحصل عمى
إثباتات قاطعة – حسب وصفو -عمى أن جغرافية الحدث التوراتي كانت في اليمن ،وىذا ىو
العنوان العريض ألطروحتو.
في ىذا االتجاه ،ألقى فاضل الربيعي بكل حموالت نظريتو في كتابو "فمسطين المتخيمة"،
وىو كتاب كبير الحجم يتألف من ثالثة أجزاء تقع في مجمدين يزيد عدد صفحاتيما عن
( )0011صفحة ،وأكثر من ( )011ألف كممة ،قدم فيو استدالالتو المغوية ومقارباتو المفظية
ومطابقاتو اإلسمية بين التوراة وكتاب اليمداني ،وكل ما جاء بو في كتبو التالية ليس إال تك ار اًر
أو تخصيصاً بشروح موسعة لنقاط فرعية تناوليا في كتابو األول اآلنف الذكر .ومن أجل ذلك،
163
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
فإن كتاب "فمسطين المتخيمة" كتاب ال ينفع معو التمخيص أو اإليجاز نظ اًر لتشعباتو وتداخالتو
وانتقاالتو العشوائية غير المنتظمة ،والتي لم يحكميا منيج أو تضبطيا خطة مسبقة ،كونو
باألساس عمل تأليفي وانطباعي بحت وال يستند الى منيجية عممية رصينة.
بفضل الطابع التأليفي واالنطباعي الذي اتخذه الربيعي لنظريتو ،تمكن مفكرنا الف ّذ من
اختالق مساحة واسعة لمقيام بمقارباتو ومقارناتو المفظية بين أسماء األماكن التوراتية وأسماء
األماكن التي ذكرىا اليمداني ،من خالل حصر تمك المقاربات في النطاق الذي كرسو اليمداني
عمى نحو خاص لوصف جغرافية اليمن الخضراء باعتبارىا جزًء من جزيرة العرب ،بحيث ضمن
مفكرنا العربي بذلك أال يحدث أي تقاطع أو تصادم بين تحميالتو فيما لو أنو قارن األسماء
التوراتية باألسماء التي تدخل في النطاق العام لكامل جزيرة العرب كما وصفيا اليمداني ،وتعذر
بناء عمى معايناتو
بحجة واىية في تبرير قيامو بذلك ،مفادىا أن اليمداني وصف جغرافية اليمن ً
ومشاىداتو الميدانية ،أما وصفو لبقية أجزاء جزيرة العرب فقد استمدىا اليمداني من غيره،
وباألخص من الجغرافي اإلغريقي "بطميموس".
بيد أن الربيعي واجو مشكمة عويصة في كتاب اليمداني ،كما أنو وقع في مأزق خطير لم
يتمكن من الخروج منو ،نتيجة محاوالتو البائسة إليجاد حل أو مخرج من تمك المشكمة ،تماماً
كما نقول في المثل الشعبي" :جاء يكحميا عماىا"!!..
تتعمق المشكمة ىذه بفقرة أوردىا اليمداني في كتابو .فقرة ال تزيد عن بضعة سطور ،إال
أنيا فقرة جوىرية بالنسبة لموضوعة الربيعي وغاياتو ،ونظ اًر ألني كثي اًر ما سوف أشير الى ىذه
الفقرة في ىذا القسم ،فسوف نتفق اجرائياً عمى أن نسمييا "فقرة اليمداني" ،ومفادىا كما وردت
حرفياً في كتاب صفة جزيرة العرب ،وكما أوردىا مؤلف كتاب "فمسطين المتخيمة" أيضاً ،ما
يمي:
"وأما سائر أجزاء ىذا الربع الذي يمي وسط جميع األرض المسكونة وما يقع في
جزيرة العرب منيا مثل (إيدوما) (وأرض سورية) (وأرض فمسطين) (وبالد الييود
العتيقة من إيميا وتسمى بالعبرانيّة يرشمم ،وتعربيا العرب فتقول أوراشمم) .......فمن
164
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
كان منيم في بالد سورية وىي أرض بني إسرائيل وبالد إيدوما وبالد الييود العتيقة
فيم يشاكمون الحمل والمريخ خاصة.]1["...
عاش أبو محمد الحسن اليمداني في الفترة (000 -081ىـ949 -890 /م) ،أي في
القرن العاشر الميالدي-أي قبل عشرة قرون من عصرنا الراىن ،-وعمى طول ىذه المدة كان
كتابو ىذا موضع اىتمام وبحث واطالع من آالف القراء الذين ينتمون الى أماكن وعصور زمنية
متباينة ،جميعيم ق أروا ىذه الفقرة اليمدانية ،ولم ينتابيم أدنى شك أو يخالطيم ارتياب في أن
اليمداني كان يشير فييا الى سوريا وفمسطين وايدوما واورشميم التي ىي إيميا ،باعتبار أن ىذه
األسماء تقع في األجزاء الشمالية من جزيرة العرب ،والتي تعرف ب ـ "بالد الشام".
فقط الربيعي..؟! -وفقط فقط مفكرنا العربي فاضل الربيعي ىو الذي جاء بعد ألف سنة
تفسير آخر يتناقض جممة وتفصيالً مع ما
اً من زمن اليمداني ،واكتشف أن ليذه الفقرة اليمدانية
أدركو وألفو وعرفو وتثبَّت منو اآلالف من الجغرافيين والرحالة والبمدانيين والمؤرخين والمعجميين
والقراء والباحثين!!..
ومن أجل ذلك ،أقول بأن الربيعي قد وقع وأوقع نفسو ىنا في مشكمة عويصة ال حل ليا
أبداً .فاألصل أن ىذه الفقرة في سياقيا الذي وردت فيو ،وبمضمونيا الذي عبرت عنو تنقض
نظرية جغرافية التوراة في اليمن وتنسفيا من أساسيا .وألنيا كذلك ..وألنيا أيضاً مما لم يكن
بإمكانو أن يتجاىمو أو يتغافل عنو ،فقد حاول أن يقدم ليا تفسي اًر آخر يتفق مع نظريتو ،ولكنو
فشل فشالً ذريعاً في ذلك ،فتعمد إخفاء فشمو وحجب انتباه القارئ عن مدلول تمك الفقرة.
كيف تعامل الربيعي مع تمك الفقرة اليمدانية؟! وىل نجح في تقديم تفسير ليا يتسق
ويتفق مع ما تقولو وتدعيو نظريتو؟!
[ .]0الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،تحقيق :محمد بن عمي األكوع الحوالي ،الطبعة األولى،
مكتبة اإلرشاد ،صنعاء .0991 ،ص .30
165
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
ىذا ما سنجيب عميو في ىذا الفصل ،باإلضافة الى أجوبة مماثمة سنقدميا عمى تساؤالت
أخرى ،وسيكون ليا جميعاً دو اًر بالغ األىمية في الكشف عن حقيقة ما ىي عميو نظرية جغرافية
التوراة في عسير أو في اليمن كما قدميا إلينا روادىا من الباحثين العرب عمى سبيل العموم،
وعمى نحو ما قدميا لنا فاضل الربيعي عمى وجو الخصوص.
166
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
)(1
فقد تطرق المفكر العربي فاضل الربيعي بشكل مباشر الى فقرة اليمداني المشار إلييا آنفاً
في ثالثة مواضع متفرقة من كتابو "فمسطين المتخيمة" .موضعان منيا يقعان في المجمد األول،
والموضع الثالث يرد في المجمد الثاني من نفس الكتاب :الموضع األول يقع في نياية مقدمة
الكتاب من المجمد األول في الصفحة ( ،)44ثم عمى القارئ أن يقطع مسافة قدرىا ()004
صفحة حتى يصل الى الموضع الثاني الذي تطرق فيو لفقرة اليمداني تمك في الصفحة ()418
من المجمد األول أيضاً ،ثم عمى القارئ مرة أخرى أن يتجاوز قرابة ( )300صفحة متجاو اًز
المجمد األول حتى يصل الى الموضع الثالث الذي تطرق فيو لمفقرة اليمدانية في الصفحة رقم
( )901من المجمد الثاني!!...
إزاء ذلك التقطيع والتفريق المتعمد ،يخطر عمى البال سؤال عجيب وغريب ،وىو:
لماذا كل ىذه الرحمة الشاقة إزاء فكرة جوىرية كان من األفضل ومن المنطقي ومن
المفروض أن يعالجيا الربيعي في نسق واحد؟!
167
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
[]1
الموضع األول :صفحة رقم ( )44من كتاب "فمسطين المتخيمة" -المجمد األول:
"إن شيادة اليمداني (334 -082ه) الثمينة ،ووصفو الميداني لمنازل القبائل والتي سجميا
في كتابو الشيير "صفة جزيرة العرب" ،ستعرض عمى متمقييا من القراء العرب ،كما عمى القراء في
الغرب ،صورة موازية ومتناظرة لألماكن والمواضع التي وردت في العيد القديم .وقد تصيب – ىذه
الشيادة – الكثيرين بالذىول والحيرة واالرتباك وربما الصدمة وعدم التصديق .ينقل اليمداني تصور
بطميموس لجغرافية جزيرة العرب القديمة في الصفحة ( )73من كتابو ،ممي ازً بين فمسطين التاريخية
وبالد الييودية القديمة ،وراسماً حدوداً فاصمة بينيما:
"وأما سائر أجزاء ىذا الربع الذي يمي وسط جميع األرض المسكونة وما يقع في جزيرة العرب
انية
منيا مثل (إيدوما) (وأرض سورية) (وأرض فمسطين) (وبالد الييود العتيقة من إيميا وتسمى بالعبر ّ
يرشمم ،وتعربيا العرب فتقول أوراشمم)".
فمماذا ميز اليمداني -بدعم من بطميموس -أرض فمسطين عن بالد الييود العتيقة من
إيمياء؟! وأية إيمياء ىذه التي عناىا بطميموس؟ وما صمتيا بحاضرة البحر الييودية التي أشار إلييا
القرآن الكريم بوصفو قرية عربية؟ -ىذه األسئمة وسواىا كثير ،ستكون ىي اإلطار العمومي في
البحث عن الجغرافية الحقيقة لمتوراة .إن إيمياء (إيمو) كما سوف نبرىن ىي في االمتداد الطبيعي
ألرض نجران القديمة ،التي تشمل إيمة الجبل والقرية (حاضرة البحر) ،التي اندثرت وكفت عن الوجود،
حيث انتقل اسميا مع ىجرات القبائل الى العقبة األردنية.
إن شيادة اليمداني التي نعيد اكتشافيا وتقديميا لمقراء تتطمب تأمالً عممياً عميقاً ..ال مجرد
حماسات مفرطة في الرفض االعتباطي أو القبول المجرد من الفيم الصحيح."..
168
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
[]0
الموضع الثاني :صفحة رقم ( )428من كتاب "فمسطين المتخيمة" -المجمد األول:
"إن ما يدعى في التوراة بجبال الييودية – أو مممكة ييوذا في التراث الكتابي -ال يقصد بو
شمال فمسطين ،وال يوجد دليل لغوي أو جغرافي عمى ذلك ،بل يقصد بو سرو حمير (ونجران ىي في
آخر ى ذا السرو الممتد من صنعاء) .ليذا السبب ميز اليمداني كما ميز الجغرافيون اليونان القدماء
بين فمسطين والييودية .يقول اليمداني في كتابو (صفة ،)73 :في سياق نص يعمق فيو عمى أقوال
بطميموس( :يورد الربيعي الفقرة اليمدانية مرة أخرى ىنا)
إذا كان المقصود ببالد الييودية القديمة ،التي تعرف باسم إيميا عند بطميموس واليمداني ،ىو
فمسطين عمى وجو التحديد وليس أي مكان آخر ،فمماذا تم تمييزىا عن أرض فمسطين وأرض
سورية؟ -ال ريب أن التقسيم الفمكي الذي يعرضو اليمداني استناداً الى معارف اليونانيين ،ييدف الى
رسم خريطة تتضمن أفضل ما يمكن من التوصيف لمطباع البشرية ،طبقاً لتصورات القدماء عن تأثير
وفي ىذا التقسيم يمكن لممرء أن يالحظ صرامة التحديد لمبمدان القديمة المناخ في تكوينيا.
المتجاورة .ودون الحط من قيمتو ،فإنو يمثل أكثر التصورات الجغرافية الفمكية رواجاً في عصر
بطميموس .ما يقولو ىذا االقتباس من اليمداني وبطميموس ببساطة ىو:
أن بالد الييودية العتيقة ىي جزء من الجزيرة العربية ،وأنيا مكان بعينو في فضاء جغرافي
محدد ال صمة لو بفمسطين ،ولذلك ،فإن من الخطأ الشائع الذي روج لو االستشراقيون ،والقائل :إن
فمسطين عرفت باسم ايميا -إيمياء ىو خطأ قابل بسيولة ألن يندرج في سياق التضميل .وسوف
يتضح المقصود من ىذا التحديد عمى نحو ال يحتمل أدنى لبس ،عندما نقوم بتحميل سفري المكابيين
األول والثاني ،حيث دارت حروب اليونانيين ثم الرومان ىناك .ىا ىنا فمسطين وىا ىنا بالد عتيقة
عرفيا العرب واليونانيين ببالد الييودية .وبالطبع لم يقصدوا من ىذه التسمية البالد التي نعرفيا باسم
فمسطين".
169
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
[]3
الموضع الثالث :صفحة رقم ( )562من كتاب "فمسطين المتخيمة" -المجمد الثاني:
قبل أن أورد ما قالو الربيعي في ىذا الموضع ،أود أن أنوه بأني وعمى أساس ما وعدنا بو
ىو في نياية قولو في الموضع السابق ،بأنو سيوضح لنا األمر من خالل تحميمو لسفري
المكابيين األول والثاني ،قمت بعمل رحمة غوص عميق في ( )00صفحة من السرد المشوش
واالنتقاالت المتقطعة والقعقعات المغوية التي يطرحيا ،ألتفاجأ بعد ذلك بو وىو يقدم لنا نتيجة
التحميل في الصفحات ( ،)900 -901فماذا كانت النتيجة؟ -تعالوا لنرى!!..
يقول الربيعي:
"إن إعادة بناء الرواية التوراتية عمى أساس جديد يقطع مع التخييل االستشراقي ،سيكون
ممكناً ومطموباً في اآلن ذاتو ،وعندما تق أر األحداث في سياق طموح االمبراطورية الرومانية لبسط
نفوذىا عمى سواحل البحر األحمر ،فإن ىذا وحده يفسر المعنى الذي ينطوي عميو تمييز اليمداني
نقالً عن بطميموس القموذي الجغرافي اليوناني ،بين فمسطين وبالد الييودية .لقد كانا يعرفان الفرق
الشاسع بين المكانين ،ويدركان أن فمسطين في العصر الروماني المبكر شيء وبالد الييودية شيء
آخر.
إن الحدود المفيومية التي يقيميا اليمداني وبطميموس عمى حد سواء ،بين أرض سورية:
بالد الشام وأرض فمسطين من جية ،وبين بالد الييودية العتيقة من إيمياء ،والتي كانت تعرف قديماً
بــ (يروشمم) ،يجب أن يكون متضمناً لمعنى ما ،واال فما ىو مبرر التمييز بين ىذه البمدان؟! -ىذا
المعنى – من وجنة نظرنا -يتمثل ىنا :أن بالد الييودية العتيقة التي دارت فييا أحداث سفر
المكابيين ليست أرض فمسطين ،كما أنيا ليست أرض سورية -بالد الشام (أو جنوب الشام) بل ىي
مكان آخر.
وبكل تأكيد ،فإن ىذا المكان اآلخر الذي تم تمييزه بأنو بالد الييودية العتيقة (أي البالد التي
ورثت مممكة ييوذا وتواصمت مع ديانتيا حتى ظيور الممك الحميري ذي نواس الذي أعاد بعث
الييودية في سائر أرجاء اليمن في العام 504م) ،كان يعرف عند الجغرافيين اليونانيين باسم
يروشميم ،ولو كانت يروشميم ىذه ىي ذاتيا مدينة القدس العربية في عصر بطميموس اليوناني ،فمن
غير المنطقي أن يفصميا عن فمسطين؟ بل ال مبرر لتمييزىا أصالً ،ولتوجب عمى بطميموس اليوناني
170
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
وىو الجغرافي الحاذق أن يقول :يروشميم في فمسطين؟ بيد أن ىذا سيبدو أم ارً مخالفاً لمنطق
الجغرافية في عصر بطميموس ،فيو يعرف أن يروشميم ىذه لم تكن في فمسطين ولم يكن اسميا
القدس أيضاً؟
ابتداءً من ( 022ق .م) ونتيجة تدفق القبائل العربية العاربة ومنيا بقايا قبيمة بني اسرائيل
من ييود اليمن وسواحل البحر األحمر وتيامة ونجد اليمن ..نحو جنوب الشام (فمسطين) ،نتيجة
الحمالت العسكرية المدمرة التي طالتيا في مواطنيا األصمية ..واستقرت ىذه القبائل بعد أن تممقت
الرومان ربما وتواطأت معيم ىناك في جنوب بالد الشام وىناك تركت ذكرياتيا في صورة أسماء قديمة
لممواضع واألوطان األم بالتالزم مع ظيور أولى التجمعات السكنية لمقبائل الييودية اليمنية ،بعد أن
تصالحت مع عدوىا المدود وىو الرومان".
ىكذا تعامل الربيعي مع الفقرة اليمدانية ،وىكذا حاول أن يضمل القارئ عن المأزق الذي
وقع فيو ،واالستمرار في االدعاء بأن فقرة اليمداني تمك بالفعل تدعم نظريتو.
اآلن ..تأتي ميمتنا نحن ،وىي إعادة قراءة وتحميل ما طرحو مفكرنا العربي بشأن ىذه
الفقرة ،باألدوات التي نممكيا جميعاً وىي المنطق والعقل وحقائق الجغرافيا ،ومن بعد ذلك سنعتمد
عمى حقائق عمم المغة والتاريخ وعمم اآلثار ،وىذا كمو بالتوازي مع قراءة الربيعي لميمداني
وقراءتنا المستقمة ليذا األخير .إذ يمكن ألي باحث أن يقوم بمراجعة ما قالو وكتبو الربيعي في
المواضع الثالثة أعاله ،وأن يكتشف الى أي مدى يعج كالمو بالمغالطات واالنزالقات المفظية
والتعبيرية المقصودة والمتعمدة لتضميل القارئ واالستخفاف بو ،فضالً عن االسقاطات
واالدماجات والتك اررات اإليحائية المضممة والخادعة ،وتعبيرات السمب والمصادرة والتشويش
واإلرباك المتعمد ،ومعاممة االفتراضات وكأنيا نتائج متوصل إلييا وتقريرىا والجزم بيا دون تقديم
أي دليل فعمي إلثباتيا.
171
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
بو ىذا المفكر العبقري قام بو لغرض واحد وىو إخفاء حقيقة ىروبو الواضح من مواجية ما قالو
اليمداني عن موقع بالد الييود وأرض بني اسرائيل ،واخفاء فشمو الذريع وعجزه المطمق عن
إيجاد مخرج لو ولنظريتو من ذلك المأزق الشديد الذي وضعتو فيو تمك الفقرة.
بشكل مبدئي يمكن لمقارئ أن يتحقق من صدقو الحقاً في ىذا الفصل والفصول التي
تميو ،يمكن القول بأن مفكرنا العربي قد تعمد أن ينسل ىارباً من مواجية فقرة اليمداني بشأن
بالد الييود وأرض بني اسرائيل في المواضع الثالثة من كتابو والتي سردنا ما قالو فييا سمفاً،
وذلك بإخفائيا في ذيل مقدمتو أوالً ،من حيث يعمم ىو– ونعمم نحن أيضاً بأن ( )%99من
القراء ال يقرؤون مقدمات الكتب ،ومن يقرأىا منيم ال يقرأىا كاممة وال يقرأىا بعناية أو ييتم كثي ًار
بمضمونيا تاركاً إياىا ومنصرفاً عنيا الى فصول الكتاب أو مضامينو المباشرة.
وأخذاً باالعتبار بأن ىناك من يمكن أن يق أر المقدمة باىتمام وعناية ،لم يجد الربيعي بداً
سوى أن يعطي وعداً لقرائو فييا بأنو سيقوم بمعالجة وتفسير كالم اليمداني عن بالد الييود
بشكل موسع في بحثو ،مؤكداً عمى أنيا تعتبر شيادة ثمينة لمغاية ،وىذا في وقت كان يعمم فيو
جيداً أنو لن يستطيع أن يفي بوعده ،إذ أن ىروبو واضح لكل ذي عقل وبصيرة ،من حيث عمد
الى إغراق القارئ عمى مدى ( )411صفحة بعد الموضع األول في مقاربات لغوية واسمية
وقصصية وسردية مشوشة لمغاية ،وبعيدة كل البعد عما جاء في فقرة اليمداني تمك.
بيد أن مفكرنا العربي يعود مضط اًر ومضطرباً وقمقاً الى فقرة اليمداني في الموضع
الثاني ،من حيث يفترض أن يقدم شيئاً جديداً يدل عمى أنو أوفى بوعده ،لكنو لم يفعل ولم يأت
بأي إثبات أو تحميل ليا كما أوىم ووعد بذلك ،بل وجدناه ييرب من مواجيتيا لممرة الثانية
بإحالة القارئ كما قال الى حيث سيقوم بمعالجتيا وتفسيرىا في سياق تحميمو لسفري المكابيين
األول والثاني .غير أنو يعود ويغرق القارئ مرة ثانية في فضاء سردي مشوش بكثافة عالية الى
درجة أن أحداً ال يستطيع أن يمم بمحتوى صفحة واحدة مما أدوشنا بو بشكل واضح ،وىذه المرة
قام بم َّد المسافة الفاصمة لتصبح زىاء ( )311صفحة أخرى ،وعمى قدر اتساع ىذه المساحة
يتبين كم كان صاحبنا ميموماً مغموماً بما ينبغي أن يتوفر لو لكي يمارس تضميمو السردي
172
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
ويستمر في تقديم طرحو المشوش ،والقيام بقفزاتو الغريبة والغير مبررة ،فقط من أجل أن يتمكن
من إلياء القارئ وتضميمو عن متابعة ىذه المسألة.
الحقاً ،بعد ىذا الموضع ،يقدم الربيعي تفسي اًر وتحديداً جغرافياً ل ـ "إيميا" التي ىي بالد
الييود العتيقة والتي تسمى اورشميم كما ذكر اليمداني ،من خالل بحثو عن مواقع أسماء أماكن
جغرافية وردت في التوراة وىي "عصيون جابر ،زرد" ،ثم في مكان نائي آخر يعالج بشكل
فج ومشوش اسم (إيمة) من ناحية مشكالت رسمو كتابياً ،وفي كمتا الحالتين تصادفنا
سطحي ّ
أكثر المعالجات الربيعية فوضوية وتشويشاً ،فضالً عن القدر البالغ الذي تنطوي عميو من الخمط
المقصود والتضميل والتحريف المتعمد.
في المجمد الثاني من كتابو "فمسطين المتخيمة" ،يصل الربيعي الى منطقة تحميمو لسفري
المكابيين األول والثاني ،فيبدأ في سرد وقائع وأحداث المعارك الرومانية التي يتوىم ويوىم القراء
بأنيا وقعت في اليمن .فقد جعل مفكرنا العربي من اليمن متنزىاً لمجيوش المصرية واآلشورية
والرومانية واإلغريقية التي تذىب إلييا بين الحين واآلخر لتقوم بمعركة أو معركتين وتعود مرة
أخرى الى ثكناتيا في أطراف العالم القديم ،مدعياً أن ذلك كمو تثبتو النصوص التوراتية في
السفرين ويؤيده اليمداني ،ولكنو -أي الربيعي -لن يتطرق أبداً طوال صفحات تحميمو المكابي
لفقرة اليمداني تمك ولو بحرف واحد أو يستند الى أي نص آخر غيرىا يدعم ما ذىب إليو.
يستمر األمر كذلك ،الى أن يفاجئنا الربيعي في الموضع الثالث الذي ذكر فيو تمك الفقرة،
وىو نياية المطاف بالنسبة لمتحميل والتفسير الذي وعد بو ،حيث تبين أنو عجز بالفعل عن
الوفاء بذلك الوعد وحاول مجدداً إخفاء فشمو وعجزه عمى مدى ما يقارب ( )0011صفحة من
كتابو.
ىا ىو المفكر العربي الدكتور والبروفسور فاضل الربيعي يوىم القارئ في مناطق نائية
من كتابو بأنو قد أثبت من خالل سرده -الذي ال عالقة لو اطالقاً بفقرة اليمداني -بأن ايميا
تقع في اليمن وأن اسميا باألصل ىو (ايمة) حاضرة البحر التي ذكرىا القرآن الكريم ،ويخبرنا
بأنو يميز بين حاضرتين كالىما تحمل االسم نفسو (ايمة) ،وكالىما كانتا موجودتان عمى ساحل
173
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
البحر األحمر ولكنيما اندثرتا واختفتا من الوجود تماماً ،وأن المياجرين من القبائل العربية ومنيم
قبيمة بني اسرائيل نقموا اسم (ايمة) ىذه مع جممة ما نقموه من األسماء والمسميات األخرى
وأطمقوىا عمى المناطق التي سكنوىا في فمسطين الحقاً ،إذ اطمقوا اسم (ايمة) ىذه عمى ايمة التي
في خميج العقبة -!!..وىي كما أشرت سمفاً واحدة من أكثر المعالجات الربيعية تشويشاً وارتباكاً،
وأكثرىا تمفيقاً وتضميالً.
وىكذا ،فإن صاحبنا وضع افتراضاً واعتبره نتيجة حاسمة ،دون أن يناقشو أو يقوم بتحميمو
واالستدالل عمى صحتو تاريخياً أو لغوياً أو جغرافياً ،بل قعقع الفرضية وأعاد تقديميا باعتبارىا
نتيجة في سياق معالجة مشوشة ومزرية لمغاية ،قام بيا عمى نحو متصنع ومتكمف ،وىو يعمم
جيداً بأنو يقوم بعممية تمفيق واضحة لممسألة بقصد تضميل القارئ واييامو.
إن القارئ المطمع بدرجة أساسية وكافية حينما يق أر كتاب "فمسطين المتخيمة" ،ويتوقف عند
ىذه الفقرة التي أوردىا اليمداني في كتابو "صفة جزيرة العرب" ،ويتأمل كيف تعامل معيا
الربيعي ،البد وأن يشعر بأن ىناك بالفعل مشكمة إزاء الطريقة التي تعامل بيا معيا ،بالرغم من
أن كالم اليمداني فييا كان واضحاً وصريحاً .كما ويشعر القارئ أيضاً بأن ىناك بالفعل خطأً
واضحاً وتعسفاً مقصوداً في تفسيرىا.
تزداد شدة ىذا الشعور لدى القارئ وتزداد شكوكو أكثر وأكثر ،عندما يحاول أن يمتمس
سبباً وجيياً ومنطقياً يبرر لمربيعي أن يتعرض لتمك الفقرة اليمدانية في مواضع متباعدة عن
بعضيا البعض ،دون أن يصاحب ذلك أي معالجة أو تفسير متماسك ليا ،وذلك بالرغم من
أىمية تمك الفقرة وخطورتيا عمى نظريتو.
ىذه ىي استراتيجيتو المفكر العربي الفاضل دائماً في التضميل والتمفيق والمراوغة والخداع
والتي يمكن التماسيا في كل كتبو .إذ يتعمد دائماً أن يجعل القارئ يشك بنفسو إزاء أي شعور
يراوده بأن ىناك خطأً ما في كتابو وتفسيره ،أو حين يكتشف القارئ بأن تفسير مفكرنا قد تناقض
بشكل واضح في ىذه المسألة أو تمك .فغالباً ما يقوم القارئ بتفسير تمك المشكمة بأنيا ناتجة عن
عدم استيعابو لمطرح ،بدالً من أن يوجو أصابع الشك والريبة صوب مؤلف الكتاب ،خاصة وأن
174
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
ذلك يتم في ذىن القارئ بشكل عفوي وتمقائي ،بحيث يندفع فيو نحو تكوين انطباع ضمني
مضمر وغير معمن بأنو ىو من لم يستوعب الطرح ،وكأنو يقول لنفسو وفي نفسو:
"أوووه ..لقد طرح الربيعي طرحاً مفصالً وقدم تفسي ارً مقنعاً ،ولكني أنا من لم
استوعبو جيداً ..حسناً ،يا لو من تفسير مقنع"!!..
أما القارئ اليقظ ،والقارئ الكيس الفطن ،فالبد أن يكون لو موقف آخر.
بكل بساطة ،فإن كل من يعود الى كتاب اليمداني ويقابل بينو وبين ما أورده الربيعي،
سيجد أن ىذا األخير قد وقع فعالً في مأزق صعب ،إذ يكفي أن تكون لدى القارئ خمفية لغوية
وتاريخية وجغرافية مناسبة ،ليتأكد فعالً من أن فقرة اليمداني تمك جاءت دقيقة بما يكفي لتكشف
عن مدلوليا الصريح ،ومن ثم عن ذلك المأزق الفاضح الذي وقع فيو صاحبنا ولم يتمكن أبداً
من الخروج منو ،وسرعان ما يبدأ القارئ الحصيف في اكتشاف الدجل والتحريف الذي قام بو
صاحب فمسطين المتخيمة عن سبق اصرار وترصد.
من أجل أن نشترك معاً في الكشف عن حقيقة التمفيق والتحريف والتضميل المتعمد
والمقصود من قبل مفكرنا العبقري العظيم فاضل الربيعي ،سنغض الطرف مؤقتاً في السياق
التالي عن كثير من التعبيرات الخادعة والعبارات المضممة التي استخدميا في المواضع اآلنفة
الذكر من كتابو ،ونجعل تركيزنا منصباً عمى موقفو من صريح تمك الفقرة التي أوردىا اليمداني،
والتي أكد لنا الربيعي في نياية مقدمة كتابو بأنيا فقرة محورية وجوىرية وأنيا شيادة من
اليمداني تؤكد ما ذىب إليو ،وىذا كمو في السياق الذي نتحقق فيو من مدى صدق وواقعية
وموضوعية التفسير الذي قدمو لنا ،ناىيك وأن لفقرة اليمداني ىذه أىمية بالغة في اختبار مدى
صدقية وموضوعية وعممية نظرية جغرافية التوراة برمتيا.
ومن أجل ذلك أيضاً ،البد من أن نتخذ لألمر تدرجاً مناسباً يمكننا جميعاً من ادراك
المشكمة التي واجييا الربيعي مع ما أثبتو اليمداني في تمك الفقرة المحورية من كتابو ،والمأزق
175
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
الذي أوقع نفسو فيو ،وكيف فشل وعجز تماماً عن معالجة تمك المشكمة والخروج من مأزق
محاولة التعسف في تفسيرىا.
وبال شك ،فإن من شأن ىذا المسار الذي اتخذناه تمكين القراء األعزاء من إدراك مدى
موضوعية وقوة وصالبة وثبات األدلة التي سنعرضيا في ىذا االتجاه ،ومدى تكامميا وتناغميا
جميعاً في كشف حقيقة الخداع والتضميل الذي مارسو الربيعي بصورة واضحة ال لبس فييا وال
غموض.
176
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
)(2
يمكن توضيح المأزق الذي وقع فيو الربيعي نتيجة تعاممو التعسفي وغير المنطقي مع فقرة
اليمداني من عدة جوانب متصمة ،من السيل جداً اكتشافيا والتحقق منيا في كتاب اليمداني
نفسو ،وفي غيره من كتب البمدانيات والجغرافيا والمعاجم الجغرافية التي صنفيا العمماء العرب
طوال ( )311سنة من عصور النيضة العربية ،عندما كانت أوروبا ترقد في أوحال جيميا
ومستنقعات تخمفيا ،وىي العصور التي سادت فييا الثقافة والعموم العربية عمى العالم بأسره،
وخمَّف فييا العمماء العرب والمسممون المئات من المصنفات واألعمال الجغرافية التي مازال
عمماء الشرق والغرب الى اليوم يشيدون بيا ،وبدورىا في صعود الغرب ونيضتو .فما اليمداني
إال اسم واحد من سمسمة طويمة من قائمة أسماء الجغرافيين العرب الذين قاموا بتحقيق طفرة
عممية مجيدة في حقل الدراسات الجغرافية في تمك الفترة الممتدة من القرن التاسع الى القرن
الرابع عشر الميالدي ،والتي كان ليا الدور األكبر في التأسيس لمكشوفات الجغرافية التي نقمت
أوروبا من العصر الوسيط الى عصر النيضة ومنيا الى عصر التنوير ثم الى العصر الحديث.
تجسد فقرة اليمداني تمك واحدة من أىم وأشير الحقائق الجغرافية الثابتة منذ عصر
بطميموس القموذي وحتى عصر اليمداني نفسو ،والى ما بعد عصر اليمداني بقرون طويمة بل
وحتى اليوم الذي يحاول فيو البعض تشويش الحقائق وتزييفيا .فالربيعي لم يقفز عمى مجرد فقرة
صغيرة أوردىا اليمداني في سطر أو سطرين من كتابو ،بل قفز عمى حقائق جغرافية ثابتة
وراسخة وال يمكن ألحد طمرىا أبداً ،كما عمد أيضاً الى تحريف تمك الحقائق وتزييفيا ،وليذا
نقول أن الرجل وضع نفسو في مأزق حرج لمغاية ومأزق ليس لو حل أبداً ،من حيث أنو استخف
وألغى وقمل من شأن نتائج ومخرجات ما يزيد عن ( )311سنة من المعرفة الجغرافية التي
أنتجيا العرب المسممون وقاموا بتطويرىا في نسق عالمي شمولي ،ومن حيث تعمد أيضاً
177
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
االستخفاف بعقول القراء وتشويش وعييم التاريخي والجغرافي ،لصالح أن يقال عنو أنو جاء
بنظرية راديكالية /ثورية تفند ادعاءات المستشرقين.
وىكذا ،فإن عمى المفكر والبروفسور فاضل الربيعي أن يواجو اليمداني أوالً ،إزاء ما
عبرت عنو فقرتو تمك ،وأن يواجو من بعد ذلك كل ما يوازييا ويعبر عن مضمونيا في كتب
الجغرافيين والبمدانيين والرحالة والمؤرخين واإلخباريين العرب والمسممين ،الذين عاشوا في عصر
السيادة العربية الكاممة عمى الثقافة العالمية والعموم البشرية كميا.
واآلن ،البد من اعطاء فكرة واضحة عن خطة كتاب صفة جزيرة العرب وىيكمو
الموضوعي ،نظ اًر ألىمية ذلك في توضيح األمر الذي نحن بصدده اآلن .إذ يتألف كتاب صفة
جزيرة العرب لميمداني بصورة عامة من قسمين ،قسم عام وقسم خاص ،كاآلتي:
القسم األول العام ،بعنوان "صفة جزيرة العرب" ،واستعرض اليمداني فيو وصفو لمجزيرة
العربية عمى سبيل العموم ،من خالل بيان موقعيا الجغرافي بالنسبة لألقاليم الجغرافية والمناخية
التي قسميا الجغرافيون اإلغريق لألرض ،والمعروفة باسم "األقاليم السبعة" ،وىو التقسيم الذي
يعتمد عمى خطوط العرض لكل أجزاء األرض المعروفة في العصور القديمة والوسيطة ،بمعنى
أن ىذا التقسيم يفترض أنو يشمل األرض المأىولة كميا بحسب المعارف الجغرافية التي كانت
متوفرة آنذاك ،باإلضافة الى وصف حدود جزيرة العرب ،والقياسات المتعمقة بمساحتيا وطوليا
وعرضيا ،والمسافات الفاصمة بين أجزائيا وأشير المدن الواقعة داخل حدودىا ،والتأثيرات
المناخية عمى طباع سكان كل جزء من أجزائيا.
يبدأ القسم العام من عند الباب الذي عنوانو "معرفة أفضل البالد المعمورة" ،وينتيي بالباب
الذي عنوانو "معرفة تفصيل الجزيرة عند أىل اليمن".
القسم الثاني الخاص ،وعنوانو "صفة اليمن الخضراء" ،وفيو يقدم اليمداني وصفاً جغرافياً
لميمن الطبيعي باعتباره من أىم أجزاء جزيرة العرب ،شمل ىذا الوصف تحديد الحدود الشمالية
لميمن والتي تفصميا عن نجد والحجاز .كما وصف الجزر والمدن واألماكن والوديان ..وغير
ذلك مما يقع في نطاق الجغرافية اليمنية بتفصيل عميق ونادر لم يتكرر.
178
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
وعميو ،يمكن أن نستيل بيان المأزق العويص الذي وقع فيو الربيعي ،بطرح سؤال مفاده:
ىل قال اليمداني بأن الشام وسوريا وفمسطين ولبنان تدخل ضمن جزيرة العرب؟
الجواب المختصر ىو :نعم ،لقد قال وأكد وبيَّن لنا ذلك في عدة مواضع من كتابو .وىذا
ما يقع عميو مناط التأكيد في بيان المأزق الذي وقع فيو مفكرنا العبقري.
"وانما سميت بالد العرب الجزيرة إلحاطة البحار واألنيار بيا من أقطارىا وأطرارىا ،وصاروا
منيا في مثل الجزيرة من جزائر البحر ،وذلك أن الفرات القافل الراجع من بالد الروم يظير بناحية
َّ
انحط عمى الجزيرة وسواد العراق حتى دفع في البحر من ناحية البصرة واألبمة وامتد إلى َّقنسرين ثم
مغربا ببالد العرب منعطفاً عمييا فأتى منيا عمى سفوان وكاظمة
عبَّادان وأخذ البحر من ذلك الموضع ِّ
ونفذ إلى القطيف وىجر وأسياف البحرين وقطر وعُمان و ِّ
الشحر ومال منو عنق إلى حضرموت وناحية
أبين وعدن ودىمك ،واستطال ذلك العنق فطعن في تيائم اليمن بالد فرسان وحكم واألشعريين ٍّ
وعك
ومضى إلى جدة ساحل مكة والجار ساحل المدينة وساحل الطور وخميج أيمة وساحل راية -كورة من
كور مصر البحرية -حتى بمغ قمزم مصر وخالط بالدىا وأقبل النيل من غربي ىذا العنق من أعمى
بالد السودان مستطيالً معارضاً لمبحر معو حتى دفع في بحر مصر والشام -ثم اقبل ذلك البحر من
األردن وعمى بيروت
ّ مصر حتى بمغ بالد فمسطين فمر بعسقالن وسواحميا وأتى عمى صور ساحل
وذواتيا من سواحل دمشق ،ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل َّقنسرين ،حتى خالط الناحية التي أقبل
[]1
منيا الفرات منحطاً عمى أطراف َّقنسرين والجزيرة إلى سواد العراق" .
كان ىذا وصفاً جغرافياً لحدود جزيرة العرب من نقطة بدأ بيا اليمداني من (نير الفرات
القافل الراجع من بالد الروم يظير بناحية َّ
قنسرين) ،متخذاً دورة كاممة حتى عاد الى نفس
النقطة (التي أقبل منيا الفرات منحطاً عمى أطراف َّ
قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق).
[ .]0الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،المرجع السابق ،ص .84
179
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
في ىذا الشأن ،ال أنسى التوجو بالشكر الجزيل الى كل من (سفير جاسم حسين وىدى
عيدان الربيعي) الباحثان في الجغرافيا الطبيعية من العراق الحبيبة ،والمذان وف ار عمينا عناء
تصميم خريطة توضيحية دقيقة لحدود جزيرة العرب كما حددىا اليمداني.
[]1
خريطة رقم ( :)1حدود جزيرة العرب كما وصفيا اليمداني .
وفق خريطة حدود جزيرة العرب لميمداني ،فإن جزيرة العرب جزيرة وليست كما ييرف
الكثيرون اليوم بأنيا شبو جزيرة ال تدخل في نطاقيا ال بالد الشام وال بالد العراق.
إن جزيرة العرب كما يصفيا لنا اليمداني يحدىا من الشمال الشط األعمى لنير الفرات
كحد فاصل بينيا وبين بالد الترك ،ومعروف أن تمك المناطق كانت تعرف ومازالت بأنيا ديار
[ .]0سفير جاسم حسين وىدى عيدان جبار الربيعي :المالمح الجغرافية الطبيعية في كتاب صفة جزيرة العرب
لميمداني ،مجمة اوروك لمعموم االنسانية ،جامعة المثنى ،العراق ،المجمد ( ،)9العدد ( .0100 ،)4ص ص
.013 -91ص .90
180
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
ومنازل القبائل العربية الشمالية التي تنسب نفسيا الى الفرع الياجري -االسماعيمي من الساللة
االبراىيمية -نسبة الى إسماعيل عميو السالم وأمو ىاجر ،ومنيا قبائل بكر وتغمب وربيعة واياد
والتي ثبت عنيا قديماً وحديثاً أنيا سكنت وتسكن في مناطق الفرات والجزيرة الفراتية وبادية
الشام ،وجميعيا ىذه القبائل التي ذكرناىا وغيرىا أيضاً تمثل بنو عمومة الفرع الساري -نسبة
الى سارة -من الساللة االبراىيمية ،وىو الفرع المشيور عبر التاريخ وفي التوراة بـاسم "بني
اسرائيل".
بين اليمداني
خريطة رقم ( :)0منازل القبائل العربية في القرن السابع الميالدي عمى كامل جزيرة العرب كما ّ
حدودىا الجغرافية.
181
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
في ضوء ذلك ،عمينا أن نتوقع وجود تفسير جغرافي وتاريخي مقنع بالفعل كان لدى
اليمداني ولدى سائر الجغرافيين والمؤرخين في عصره ،تفسير يعمل ويفسر لنا لماذا وصفت
سوريا بأنيا أرض بني اسرائيل ،مع التنويو الى أن استخدام اليمداني لتسمية (سوريا) يكشف
عن دقة موضوعية وجغرافية بالغة ،من حيث أنو لم يستخدم باألساس تسمية (بالد الشام) التي
استخدميا في ( )00موضع من كتابو ،لكنو في ىذه الفقرة بالذات استخدم اسم (سوريا) ،ومن
ثم ،فإن اشارة اليمداني الفريدة الى أن سوريا ىي أرض بني اسرائيل تستحق االىتمام والبحث
والتحري العميق.
نستنتج مما سبق ،أن أي رابطة وضعيا اليمداني تشير الى ارتباط بالد الييود من إيميا
التي ىي أورشميم بجزيرة العرب ،ىي باألساس رابطة أصيمة وقائمة بأصالتيا جغرافياً من حيث
أن أرض سوريا وايدوما وأرض فمسطين وبالد الييود تقع باألساس جميعاً داخل حدود جزيرة
العرب ،وليس كما ىو االعتقاد السائد بأن حدود جزيرة العرب ىي حدود بالد الشام وسوريا
وفمسطين والعراق .وبالتالي فإن ىذه الرابطة تسقط أي اعتبار ألي تفسير يضع إيميا التي تسمى
أورشميم في نطاق جغرافية اليمن كما يدعي ويتوىم مفكرنا الفاضل.
لقد تعمد فاضل الربيعي التضميل والتمفيق في تفسيره ومعالجتو لما جاء في تمك الفقرة من
كتاب اليمداني ،معتمداً عمى الفكرة الرائجة التي تقول بأن بالد العراق والشام ال تدخالن ضمن
جزيرة العرب ،األمر الذي يتبين معو تجاىمو الصارخ لحدود جزيرة العرب كما حددىا اليمداني،
وتعسفو في تفسير تمك الفقرة بقولو أن اليمداني ومن قبمو بطميموس إنما قصدا أن بالد الييود
كانت في اليمن.
نعود الى اليمداني وكتابو ،ونستكمل عرض البينات الجغرافية التي تدحض وتثبت زيف
ما يدعيو الربيعي ،وذلك في ضوء ما تضمنو القسم الثاني من كتاب صفة جزيرة العرب ،والذي
خصصو صاحبو لوصف جغرافية اليمن الطبيعية .فمن المنطقي أن يحدد لنا اليمداني حدود
اليمن من الجية الشمالية بالنسبة لبقية أجزاء جزيرة العرب ،إذ يقول:
182
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
"وصار ما احتجز بو في شرقيو من الجبال وانحدر إلى ناحية فيد وجبمي طيّ إلى المدينة
وراجعاً إلى أرض مذحج من تثميث وما دونيا إلى ناحية فيد ،حجاز ،فالعرب تسميو نجداً وجمساً
وحجا ازً والحجاز يجمع ذلك كمو .وصارت بالد اليمامة والبحرين وما واالىا العروض وفييا نجد وغور
لقربيا من البحار وانخفاض مواضع منيا ،ومسايل أودية فييا والعروض يجمع ذلك كمو .وصار ما
خمف تثميث وما قاربيا إلى صنعاء وما واالىا إلى حضرموت و ِّ
الشحر وعُمان وما يمييا اليمن ،وفييا
[]1
التيائم والنجد واليمن تجمع ذلك كمو" .
إزاء حدود جغرافية اليمن الشمالية ،تكفل الباحث الجغرافي األستاذ عبد اهلل محمد ظافر"
من اليمن ،بتزويدنا بخريطة توضيحية دقيقة لحدود اليمن كما وصفيا اليمداني:
[]0
خريطة رقم ( :)3الحدود الشمالية لميمن الطبيعي حسب وصف اليمداني .
[ .]0الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .89
[ .]0عبد اهلل محمد ظافر :نزىة المشتاق لميمن -حدود وخرائط وشؤون اليمن في البمدانيات من القرن التاسع
وحتى القرن الرابع عشر الميالدي ،الطبعة األولى ،مكتبة خالد بن الوليد -دار الكتب اليمنية ،صنعاء.0103 ،
ص .00
183
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
إن المغزى من عرض ىذه الخرائط ،يتعمق في كونيا تبين بشكل واضح جغرافياً الى أي
مدى بمغت دقة اليمداني وموضوعيتو ومعرفتو الجغرافية العميقة بتفاصيل وأبعاد ومكونات
وطبيعة جزيرة العرب عموماً واليمن عمى وجو الخصوص .فعندما وصف اليمداني جغرافية
اليمن ،نجده وقد قام بسرد أسماء مدنيا وقراىا ،وأوديتيا ،وجباليا ،وىضابيا ،وصحارييا،
وجزرىا البحرية ،وأمطارىا ،وطقسيا ..وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة التي حرص عمى أالَّ
يفوتو شيئاً مما كان قد شاىده وعاينو عمى أرض الواقع منيا أو تثبت منو بطريق آخر غير
المشاىدة المباشرة ،فأبدع في ذلك عمى نحو لم يسبقو إليو أحد من قبمو ،ولم يقم بو أحد من
بعده.
وفي الوقت الذي يصمم فيو الربيعي عمى أن اليمداني ومن قبمو بطميموس قد أشا ار من
خالل ذلك الفصل والتمييز الذي اظيراه بين بالد الييود وفمسطين ،بأنيما إنما قصدا أن بالد
الييود ال تجاور فمسطين بل تقع في فضاء جغرافي آخر ضمن جغرافية اليمن ،نجد أن
اليمداني في وصفو الدقيق لجغرافية اليمن الطبيعي لم يذكر أو يشر بحرف واحد الى أرض أو
بمد أو قرية أو جبل أو صخرة أو حصاة صغيرة اسميا "بالد الييودية التي من إيميا والتي اسميا
اورشمم ،وتعربيا العرب أورشميم" بأنيا موجودة في نطاق جغرافية اليمن.
فأين ضاعت ايميا ىذه التي كانت بالد الييود عمى اليمداني بحيث لم يراىا ولم يذكرىا
ولم يمتفت إلييا؟ وأين اختفت اورشميم؟ وكيف يعقل أن يفوت عمى اليمداني ذكر مكان في اليمن
اسمو ىكذا ..أو صفتو كتمك التي تدعييا التوراة ويدعييا صاحبنا الربيعي؟!
إن ىذا بحد ذاتو يدحض مثل ىذا اإلدعاء ويؤكد بما ال يدع مجاالً لمشك بأن تفسيره
184
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
)(3
عمى نفس المسار ،يتبين المأزق الذي وقع فيو الربيعي مع اليمداني من جانب آخر ال
يتعمق فحسب بحدود جزيرة العرب وجغرافية اليمن الطبيعية وحدودىا كما بينيا لنا اليمداني ،بل
وباألساس الجغرافي الذي استند إليو بطميموس ونقمو عنو اليمداني وسائر الجغرافيين العرب،
في تقسيم األرض المأىولة أو المعمورة في تمك العصور الى أقاليم جغرافية محددة.
ما حصل ىو أن مفكرنا الفاضل تجاىل تماماً البنية الموضوعية والييكمية لكتاب
اليمداني ،واألساس االبستمولوجي (المعرفي) لمجغرافية البطممية التي استند إلييا ،فمضى في
تقديم تفسيره لفقرة اليمداني المشار إلييا سمفاً دون أن يأخذ باالعتبار السياق الذي وردت فيو،
أو األساس الذي قامت عميو .فاعتبر وأكد -بل وقطع وأجزم -بأن اليمداني إنما أراد أن يقول
لنا بأن ب الد الييود "إيميا" والتي منيا أورشميم تقع في اليمن وليس في فمسطين ،وأن ىذا ىو ما
ميز بشكل صريح -وبدعم من بطميموس -بينيا وبين فمسطين.
قصده اليمداني عندما ّ
يرى الربيعي أن فمسطين المقصودة عند اليمداني ىي تمك التي تقع بجنوب الشام ،أما
بالد الييود إيميا التي منيا اورشميم ،فتقع في جبال السراة اليمنية تارة ،وتارة أخرى يقول بأنيا تقع
عمى سواحل البحر األحمر.
عمى كل حال ،سنناقش التحديدات الجغرافية التي قدميا في ىذا الشأن بتفصيل كافي في
فصول قادمة.
بالعودة الى كتاب اليمداني ،نجد أن فقرتو تمك جاءت في القسم العام من كتابو ،والذي
كان يصف فيو جزيرة العرب عمى سبيل العموم ،وبالتحديد في السياق الذي كان فيو يتحدث عن
موقع جزيرة العرب وموقع كل جزء منيا بالنسبة لألقاليم المناخية السبعة ،وتأثير اختالف المناخ
عمى طبائع سكان كل جزء من أجزاء جزيرة العرب.
185
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
لكي يتضح األمر ،أرى ضرورة في إعطاء فكرة واضحة وموجزة عن جغرافية بطميموس
وتقسيمو األرض المعمورة الى سبعة أقاليم عمى أساس نظرية المناخ التي كانت سائدة في
عصره ،والتي أخذ بيا الجغرافيين العرب والمسممين ومنيم أبو الحسن اليمداني.
كان بطميموس (030 -39( )Ptolemaeusم) قد قسم العالم المعروف في عيده إلى
سبعة أقاليم عمى أساس طبيعي بصفة عامة ،ومناخي بصفة خاصة ىو درجة الح اررة ،ويعرف
الواحد منيا باسم (اقميم) ( .]1[)Klimataومن ثم ،فقد رسمت األقاليم السبعة لبطميموس عمى
ىيئة أحزمة عريضة تمتد من أقصى الشرق الى أقصى الغرب فوق خط االستواء ،ويختمف كل
إقميم عن اآلخر بعد ساعات النيار فيو[.]0
خريطة رقم ( :)4خريطة العالم لبطميموس موضح فييا تقسيمو لألقاليم السبعة
[ .]0أحمد محمد عبد العال :دراسات في الفكر الجغرافي ،بدون بيانات الطبعة والناشر ومكان النشر.0110 ،
ص .9
[ .]0شاكر خصباك :التراث الجغرافي عند العرب ،المؤسسة العربية لمدراسات والنشر ،بيروت ،بدون تاريخ
النشر .ص .94
186
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
تنويه:
جرت عادة الجغرافيين القدماء أن يرسموا الخرائط مقموبة ،بحيث تظير مناطق الجيات
الجنوبية في األعمى والجيات الشمالية في األسفل ،مع االحتفاظ بكون الجنوب جنوباً والشمال
شماالً ،وىذا ما يجب مراعاتو عند التعامل مع معظم الخرائط القديمة.
ظمت خريطة العالم ( )Imago Mundiلبطميموس أكمل خريطة الى أن جاء الجغرافيون
العرب المسممون وصححوا الكثير من أخطاءىا[ .]1وليذا أخذ الجغرافيون العرب والمسممون عن
بطميموس تقسيمو لما عرف باألرض المعمورة أو المأىولة الى سبعة أقاليم في مؤلَّفاتيم ،فقد
وضع أبو زيد أحمد بن سيل البمخي (ت000 :ه) كتاب "صور األقاليم" ذكر فيو أقاليم األرض
البطممية ،كما وضع أبو إسحق إبراىيم بن محمد االصطخري (ت040 :ه) مؤلفين ميمين ىما
"كتاب األقاليم" و"المسالك والممالك" قسم فييما العالم اإلسالمي إلى عشرين إقميماً تمثّل مناطق
جغرافيةً واسعةً ،ويعد محمد بن أحمد المقدسي (ت 081 :ه) صاحب كتاب "أحسن التقاسيم
في معرفة األقاليم" رائداً في ىذا المجال[.]0
[ .]0محمد محمود محمدين :الجغرافيا والجغرافيون بين الزمان والمكان ،الطبعة الثانية ،دار الخريجي ،الرياض،
.0990ص .000
[ .]0عمي محمد دياب :مفيوما اإلقميم وعمم األقاليم من منظور جغرافي بشري ،مجمة جامعة دمشق ،المجمد
( ،)08العدد ( .0100 ،)0ص ص .918 -493ص .401
187
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
[]0
خريطة رقم ( :)5توزيع األقاليم الجغرافية السبعة كما رسميا ابن خمدون
استمر الجغرافيون العرب المسممين في األخذ بنظرية األقاليم السبعة وتطويرىا في القرون
التالية لمقرن العاشر الميالدي .فقد قسم محمد بن محمد اإلدريسي (ت901 :ه) العالم إلى
سبعة أقاليم يضم كل منيا عشرة أقسام متساوية من الشرق إلى الغرب في كتابو الشيير "نزىة
المشتاق في اختراق اآلفاق" ،ويعده كثيرون أفضل مؤلف تمتقي فيو الجغرافية القديمة الحديثة،
[ .]0ابن الفقيو أبو بكر احمد بن إبراىيم اليمذاني :مختصر كتاب البمدان ،مطبعة لندن .0889 ،ص .8
[ .]0عبد الرحمن بن خمدون :مقدمة ابن خمدون ،دار الطباعة ،بوالق -مصر( ،ب .ت) .ص .90
188
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
كذلك ورد عند زكريا بن محمد القزويني (ت080 :ه) ،وتحدث عنو عبد الرحمن بن خمدون
(ت818 :ه) في مقدمتو الشييرة التي قسم فييا العالم إلى سبعة أقاليم[.]1
ىذا ىو األساس االبستمولوجي الذي استند إليو اليمداني في توصيفو الجغرافي ،وبالنظر
الى أن مجمل أجزاء جزيرة العرب ال تقع جميعاً في اقميم مناخي واحد ،بل تتوزع بين أربعة
أقاليم ،نجد أن الفقرة التي نشير إلييا ىنا دائماً قد أوردىا اليمداني في السياق الذي كان
يصف فيو طباع سكان المناطق التي تقع في اإلقميم المناخي الثالث من األقاليم السبعة.
[]0
خريطة رقم ( :)6توزيع األقاليم الجغرافية السبعة كما رسميا اليمداني
بشأن موقع جزيرة العرب ،يقول اليمداني -معمقاً عمى ما قالو باألصل بطميموس:
"أفضل البالد المعمورة من شق األرض الشمالي إلى الجزيرة الكبرى ،وىي الجزيرة التي
يسمييا بطميموس (ما روي) تقطع عمى أربعة أقاليم ،من عم ارن الشمال إلى الخامس ،فجنوبييا:
اليمن ،وشمالييا :الشأم ،وغربييا :شرم أيمة وما طردتو من السواحل إلى الُقمزم وفسطاط مصر،
[ .]0عمي محمد دياب :مفيوما اإلقميم وعمم األقاليم من منظور جغرافي بشري ،مرجع سابق ،ص .401
[ .]0الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،المرجع السابق ،ص .40
189
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
وشرقييا :عُمان والبحرين وكاظمة والبصرة ،وموسطيا :الحجاز وأرض نجد والعروض ،وتسمى جزيرة
[]1
العرب ،ألن المسان العربي في كميا شائع وأن تفاضل" .
إذن ،فجزيرة العرب تقع عمى أربعة أقاليم ،وذلك ألنو وباإلضافة الى أن أغمب أراضي
الشام ونجد والعروض والحجاز تقع في اإلقميم المناخي الثالث ،فإن جزء محدود وىو أقصى
شمال الشام وسوريا يدخل في نطاق اإلقميم المناخي الرابع ،تماماً كما أن اليمن يقع أغمبيا في
اإلقميم الثاني وجزء يسير في أقصى الجنوب منيا يقع في اإلقميم األول.
في سياق آخر ال يبتعد كثي اًر عن جادة ما نحن فيو اآلن ،يذكر اليمداني أسماء المناطق
التي تدخل في نطاق الربع الثالث أو ما سماه ب ـ "قسم ما بين المشرق والجنوب" من اإلقميم
المناخي الرئيسي الثالث من األقاليم السبعة ،والذي يمتد -بحسب وصفو ونقالً عن بطميموس-
من بالد آسيا العظمى -أي من أقصى الصين شرقاً -ويحوي من البالد :أرمينية العميا
والسفمى والسغد ومدينتيا سمرقند ،وطبرستان وجرجان وموقان وأذربيجان ،والخزر وجيالن
والالن وياجوج وماجوج ،وخراسان ،وتُبت ،وأرض الترك وأرض التغزغز وسوروماطقا ..الخ[.]0
وبحسب وصف اليمداني أيضاً ونقالً عن بطميموس ،فإن "ىذا التدبير -أي القسم -يفترق
عمى ثالثة أوجو تأتي عمى عدد من البروج المثمثة وأربابيا ،كاآلتي[:]3
البرج األول :ينفرد فيو الثور والزىرة بـ (ىمذان وفارس والماىين والصين من
المشرق).
البرج الثاني :وينفرد فيو عطارد ب ـ (بابل وما حوليا من العراق وممتقى النيرين
الجزيرة والشام وبالد أثور).
البرج الثالث :وينفرد بسائر أجزاء ىذا الربع الذي يمي وسط جميع األرض
المسكونة وما يقع في جزيرة العرب منيا مثل إيدوما وأرض سورية وأرض فمسطين وبالد
الييود العتيقة من إيميا وتسمى بالعبرانيّة يرشمم ،وتعربيا العرب فتقول أوراشمم ،وبالد
األعراب الخصيبة يريد فالة العرب من نجد والحجاز والعروض وبالد فونيقا يريد اليمن
وما والى ىذه البمدان.
يكرر اليمداني ذكر ىذه البمدان بنفس الترتيب في سياق آخر ،قائالً:
" ..والذي يشاكمو من البمدان التي تمي الوسط بالد سوريا العتيقة وفمسطين
وايدوما وبالد الييود.]1["..
وبال شك ،فإن ىذا التكرار يؤكد بأن ىذه البمدان تقع في جوار بعضيا البعض بيذا
الترتيب من الشرق الى الغرب ،تبعاً لتقسيم بطميموس لألقاليم السبعة ،كخطوط عرضية تمتد من
أقصى الشرق الى أقصى الغرب.
يتأكد لنا ذلك ،من حيث نالحظ أن اليمداني قد ذكر (اليمن) بشكل صريح في ذيل
حديثو عما يدخل من البالد في نطاق البرج الثالث من اإلقميم الثالث .فيا ترى ،ما ىي عالقة
اليمن بالتسمسل الجغرافي المحدد ىنا في سياق كان يتحدث فيو اليمداني عن طباع سكان
األجزاء من جزيرة العرب التي تقع في اإلقميم المناخي الثالث ،والذي يسير فيو اليمداني
خطي عرض يفترض
ّ ابتداء من أقصى الشرق في بالد الصين وباتجاه الغرب بين ً وبطميموس
أن تقع بينيما أرض سورية وايدوم وبالد الييود العتيقة؟!
البد أوالً من التأكيد بشكل جمي وواضح بأن اليمن ال يمكن أن تكون أو أن تقع ضمن
مناطق اإلقميم المناخي الثالث الذي توجد فيو سوريا وايدوما وبالد الييود من ايميا التي ىي
أورشميم ،وذلك ألن أساس تقسيم بطميموس لألقاليم المناخية كما تبين قائم عمى رسم خطوط
عرض تمتد من الشرق الى الغرب أفقياً ،بحيث يقع بين كل خطين منيا اقميم واحد من األقاليم
السبعة ،وبالتالي فإن من الطبيعي أالَّ تكون اليمن واقعة عمى نفس خط العرض الذي يمر
بفمسطين وسوريا والعراق وفارس وأرمينيا والتبت .وىذا أمر ال يحتاج أساساً الى إثبات ،طالما
وأن قاعدة تقسيم األقاليم السبعة ىي خطوط العرض صعوداً من جية الجنوب الى الشمال.
قد ال يستوعب البعض قوة المنطق الجغرافي ،لكن وبما إننا نتعامل ىنا مع حقائق
الجغرافيا ،فالبد من أن نستخدم ليس فقط لغتيا بل كل أدواتيا ،ولنتأمل ممياً خريطة العالم
لإلدريسي أدناه -مع مراعاة أنيا مقموبة كما سبق التنويو الى سبب كون الخرائط القديمة قد
رسمت مقموبة.
في الخريطة أدناه يتبين جغرافياً أن الخطوط الحمراء ىي خطوط العرض وأن كل خطان
منيا يحصران فيما بينيما إقميماً مناخياً من األقاليم السبعة .فاإلقميم المناخي األول يكون من
اء قميمة
جية الجنوب ويقع ما بين خط العرض األول وخط العرض الثاني ،وواضح جداً أن أجز ً
ومحدودة من جنوب اليمن واقعة فيو ،أما أغمب أجزاء اليمن األخرى فتقع ضمن اإلقميم الثاني
بين خطي العرض الثاني الثالث ،في حين أن اإلقميم المناخي الثالث الذي وصفو اليمداني بأنو
يمتد من أقصى الصين الى ما يمي وسط األرض المسكونة والذي يشمل بالد العرب الخصيبة
وسوريا وفمسطين وبالد الييود (إيميا) التي تسمى أورشميم ،فيقع بين خطي العرض الثالث
والرابع.
ىذا ىو المقصود بالضبط من قول اليمداني بأن جزيرة العرب تقع في موقع يقطع أربعة
أقاليم من األقاليم المناخية السبعة التي رسميا بطميموس تبعاً لنظريتو في تأثير درجة الح اررة
والمواقع الفمكية عمى طباع البشر ،وىو التأثير الذي يتفاوت بدرجات نسبية تبعاً الختالف
درجات الح اررة والمناخ بين المناطق الواقعة بين كل خطين من خطوط العرض التي رسميا ،مع
التنويو الى أننا نستخدم ىنا تعبير خطوط العرض لبيان الفكرة ،وليس ألن ىذا المصطمح كان
قائماً أو مستخدماً عند بطميموس أو اليمداني ،بل ألن تقسيم بطميموس لألقاليم يستند الى توزيع
يشبو كثي اًر ما نعرفو اليوم في الجغرافيا الحديثة والمعاصرة بخطوط العرض.
192
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
خريطة رقم ( :)7خارطة العالم لإلدريسي موضحاً فييا موقع جزيرة العرب بالنسبة لألقاليم السبعة من األرض
[]1
المعمورة
واآلن ،نأتي الى بحث مغزى ذكر اليمداني لميمن في سياق تمك الفقرة التي أوردىا بقولو:
"بالد األعراب الخصيبة والتي يعني بيا فالة العرب من نجد والحجاز والعروض وبالد فونيقا
يريد اليمن وما والى ىذه البمدان"[.]0
[ .]0رائد راكان قاسم الجواري :العناصر األساسية لمخارطة عند الشريف اإلدريسي (901 -490ه-0011 /
0000م) ،مجمة التربية والعمم ،جامعة الموصل ،المجمد ( ،)09العدد ( .0100 ،)9ص ص .009 -094
ص .093
[ .]0الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،المرجع السابق ،ص .30
193
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
يوضح اليمداني لنا المقصود ب ـ "بالد األعراب الخصيبة" ،بأن بطميموس إنما قصد بيذا
التعبير أرض نجد والحجاز وتيائميا" .ففي ىذا يقول:
" ..وأما الذين في أرض نجد والحجاز وتيائميا فيشكمون القوس والمشتري ،فأىميا لذلك
حسنة أخالقيم ،جميمة ىيئتيم سيل عيشيم يريد أنيم يجتزون بالدّر من أنعاميم وليم نفاذ في
التجارة واألخذ واألعطاء ومالءمة لممذاىب الجميمة والمعالي والرياسات وبمدىم خصب كثير األفاويو.
وانما سماىا بطميموس أرض األعراب ألجل أن أكثر العرب بادية ،وسماىا خصبة ألنيا أكثر البالد كال
دون المزارع ،ولذلك اعتمد أىميا عمى المال السارح وحموه بالخيل ،إذ ال يحصون ليم ،ويريد أنيا
كثيرة األفاويو بزىور الرمال مثل األقحوان والخزامى وغير ذلك ،واليمن يجمع الورد وكثيراً من
[]1
األفاويو. "..
ىذا يعني أن اليمداني قد ذكر اليمن في ىذا السياق باعتبارىا جية وباعتبارىا جزء آخر
م ن جزيرة العرب تقع خمف الحدود الجنوبية لتمك األراضي من جزيرة العرب التي تقع في اإلقميم
المناخي الثالث ،فكل ما خرج عن حدود أرض الشام ونجد والحجاز جنوباً فيو يمن ،وىذا ما
تعنيو بالضبط عبارة اليمداني (يريد اليمن وما والى ىذه من البمدان) والتي تعني باتجاه الحدود
مع اليمن وما واالىا من البمدان ،ومن ثم ،فإن حدود ما يقع من جزيرة العرب في اإلقميم الثالث
يمتد من الشمال من حدود األرض الخصيبة ويمتد غرباً الى بالد فونيقا (لبنان) ،وجنوباً الى
حدود نجد والحجاز والعروض وما الى ذلك من جية اليمن ،وىذا التحديد الجغرافي واضح
ودقيق لمغاية بحيث ال يمكن انكاره أو تجاوزه.
فكيف بحق اهلل تكون اليمن حداً ألرض ىي باألساس واقعة فييا؟!
وألن اليمداني كان يتحدث عن سائر أجزاء ذلك الربع وحدوده ،فإنو سيعود ويستدرك في
وصف طباع سكانو ،قائالً:
" ..فمن كان منيم في بالد سورية وىي أرض بني إسرائيل وبالد إيدوما وبالد
الييود العتيقة فيم يشاكون الحمل والمريخ خاصة.]1["..
وىذا يعني أن سكان ىذه المناطق يشتركون في بعض الطباع التي حددىا اليمداني،
وذلك نتيجة وقوع مناطقيم في إقميم مناخي واحد ىو اإلقميم الثالث الذي يقع تحت تأثير
مجاالت فمكية معينة مرتبطة بو عمى وجو الخصوص .بل أن اليمداني يضرب المثل ببني
اسرائيل في ىذا السياق ،مستشيداً بما عرف عن طباعيم واتفاق ذلك مع التقسيم الجغرافي
لألقاليم الذي يربطيم بمواطنيم في سوريا وبالد الييود ايميا التي تسمى أورشميم ،فيقول ناسباً
القول الى نفسو:
"قال أبو محمد :مصداق ذلك مسألة بني إسرائيل موسى عميو السالم أن يرييم
اهلل جيرة ،وأن يجعل ليم إالىاً يعبدونو لما أروا أصحاب األوثان في كثير من ىذا قال
بطميموس :وىم غاشون ذو خفة وطيش.]0[ ..
حسناً يا قوم ،ال مشكمة ..طالما وأننا نتفق أوالً عمى أن األقاليم السبعة ىي تقسيم
افي عربي آخر أخذ ىو أيضاً بناء عمى خطوط العرض .فمنذىب من بعد الى جغر ّ بطميموس ً
بيذا التقسيم عن بطميموس ،وليكن الجغرافي العربي الشيير شياب الدين النويري[.]1
قد يتساءل البعض ،لماذا شياب الدين النويري؟! -والجواب :ألن النويري ىذا نقل عن
بطميموس حرفياً ،وجاء بعد اليمداني بثالثة قرون أي بعد أن تقّدم عمم الجغرافيا العربي وتطّور
وبمغ قمة نضوجو في القرن الثامن اليجري= الرابع عشر الميالدي ،وصار مؤىالً ألن يساىم
في صنع أكبر نيضة عممية في تاريخ البشر ،وىي النيضة التي انتشمت أوروبا من المستنقعات
الضحمة ورفعتيا الى مصاف األمم المتقدمة لتبقى كذلك حتى اليوم ،وبحسب من ترجموا
لمنويري فإن وفاتو كانت في سنة (300ىـ) ،فضالً عن أن النويري قدم مصنفاً جغرافياً ومعجمياً
ولغوياً ضخماً وشامالً ،جمع فيو عموم عصره كميا ،حتى أعتبر مصنفو ىذا بمثابة دائرة معارف
شاممة لكل عموم العصر الذي عاش فيو النويري.
سوف نكتفي باقتباس ما قالو النويري عن اإلقميمين المناخيين الثاني والثالث ،ووصفو
ليما كما جاء في كتابو "نياية األرب في فنون األدب" حرفياً ،وىو ما يمي:
"أما اإلقميم الثاني .فيبتدئ من بالد الصين ،ويمر عمى بعض بالد اليند الساحمية مثل تانة،
وصيمور ،وسندان؛ ومن بالد السند عمى المنصورة وديبل ،ثم يبمغ عمان .ويكون فيو من أرض
العرب :نجران ،وىجر ،وجنابة ،وميرة ،وسبأ ،وتبالة ،والطائف ،وجدة ،ومكة ،والمدينة ،ومممكة
الحبشة ،وأرض البجة ،وأسوان ،وقوص ،والصعيد األعمى ،وجنوب بالد المغرب حتى ينتيي إلى البحر
المحيط؛ وعرضو من غاية اإلقميم األول إلى سبعة وعشرين درجة واثنتي عشرة دقيقة .وزعم
(بطميموس) أن فيو أربعمائة وخمسين مدينة .وأىمو بين السمرة والسواد ،وىو كثير الذىب.
أما اإلقميم الثالث .فمبدؤه من شرق أرض الصين ،وفيو مدينة مممكتيا ،حمدان؛ وفيو من بالد
اليند تانش والقندىار ،ومن بالد السند المولتان وقزدار .ثم يمر ببالد سجستان ،وكرمان ،وفارس،
وأصبيان ،واألىواز ،والبصرة ،والكوفة ،وأرض بابل ،وبالد الجزيرة ،والشام ،وفمسطين ،وبيت المقدس،
والقمزم ،والتيو ،وأرض مصر ،واإلسكندرية ،وبالد برقة ،وافريقية ،وتاىرت ،وبالد طنجة ،والسومن،
[ .]0أحمد بن عبد الوىاب بن محمد بن عبد الدائم القرشي التيمي البكري ،شياب الدين النويري (300 -033
ىـ = 0000 - 0038م) ،عالم وبحاثة غزير االطالع ،ينتسب إلى نويرة (من قرى بني سويف بمصر) ومولده
ومنشأه بقوص .اتصل بالسمطان الممك الناصر ووكمو السمطان في بعض أموره ،وتقمب في الخدم الديوانية،
وباشر نظر الجيش في طرابمس ،وتولى نظر الديوان بالدقيمية والمرتاحية .اشتير النويري بمصنفو الجغرافي
والمغوي والمعجمي المشيور (نياية األرب في فنون األدب) ،وىو مصنف كبير جدا وأشبو بدائرة معارف جمع
فيو كل ما وصل إليو العمم عند العرب في عصره ،وقد توفي النويري في القاىرة.
196
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
وينتيي إلى البحر المحيط .وعرضو من غاية اإلقميم الثاني في العرض إلى تمام ثالث وثالثين درجة
[]1
وتسع وأربعين دقيقة .وزعم بطميموس أن فيو تسعا وخمسين مدينة .وأىمو سمر" .
من المؤكد أن التطابق بين ما قالو اليمداني وما قالو النويري واضح تماماً .فقد أشار
النويري -بصيغة صريحة ال يمكن إساءة فيميا -الى أن اليمن (نجران ،ميرة ،سبأ) تقع في
اإلقميم الثاني ،وأن العراق والشام وفمسطين تقع في اإلقميم الثالث.
ليس ذلك فحسب ،بل أن النويري يقول ..[ :والشام ،وفمسطين ،وبيت المقدس ،والقمزم،
والتيو .]..بمطابقة ترتيب النويري ىذا مع ما كان من ترتيب اليمداني وىو ..[ :إيدوما وأرض
سورية وأرض فمسطين وبالد الييود العتيقة من إيميا وتسمى بالعبرانيّة يرشمم] ،يتضح جمياً
وجمياً جداً أن النويري أيضاً فصل وميَّز بين فمسطين وبيت المقدس ،كما فصل اليمداني بين
فمسطين وايميا التي ىي اورشميم .وبأبسط قواعد المنطق ،فإن إيميا التي ىي اورشميم عند
اليمداني ،ىي نفسيا بيت المقدس عند النويري ،وىذا ما سنثبتو باألدلة الجغرافية والتاريخية
والمغوية القاطعة في سياق الحق.
إن كالم اليمداني ومن بعده النويري واضح لمغاية ،دون أن يكون فيما بيَّناه لنا أي شبية
لغوية أو تعبيرية أو سياقية تبرر أن يذىب المرء في تفسيره ذلك المذىب السخيف الذي ذىب
إليو مفكرنا العبقري الفذ فاضل الربيعي .فأين ىو ىذا المفكر العربي العظيم ،ليكشف لنا عن
سر ومعنى ومبرر التمييز الذي أشار إليو النويري بين فمسطين وبيت المقدس؟! -وىل سيكون
بوسع مفكرنا لو أنو كان يتعامل مع النويري وليس مع اليمداني أن ينقل بيت المقدس أيضاً الى
نجران؟! -أو أن يقول بأن النويري كان يتحدث عن فمسطين أخرى غير فمسطين التي تقع
بجوار بيت المقدس؟!
[ .]0أحمد بن عبد الوىاب بن محمد بن عبد الدائم القرشي التيمي البكري ،شياب الدين النويري (ت300 :ىـ):
نياية األرب في فنون األدب ،الطبعة األولى ،دار الكتب والوثائق القومية ،القاىرة0400 ،ه .0114 -ص
.098
197
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
وىكذا ،فإن نموذج بطميموس المناخي قائم عمى تقسيم األقاليم السبعة بوضعيا بين
خطوط عرض أفقية تمتد من الشرق الى الغرب بدرجات وقياسات عينيا بطميموس بأقصى دقة
أمكن التوصل إلييا بأدوات وامكانيات عصره ،ووفق ىذا التقسيم تحدث اليمداني عن أرض
سوريا وايدوما وأرض فمسطين وبالد الييود من ايميا التي تسمى أورشميم باعتبارىا مناطق
متجاورة ومتالصقة تقع في نطاق اإلقميم المناخي الثالث ،ووفق ىذا التقسيم البطممي أيضاً تقع
أغمب أجزاء اليمن في نطاق اإلقميم المناخي الثاني ،وال يقع أي جزء منيا في اإلقميم الثالث ،بل
أن حدود اإلقميم الثالث تقترب كثي ارً من تحديد اليمداني لحدود اليمن الطبيعية من الجية
الشمالية ،كما تفصل بين اليمن وأرض سوريا وايدوما وأرض فمسطين وبالد الييود أجزاءً أخرى
من جزيرة العرب تقع في وسطيا وىي الحجاز ونجد والعروض.
وبناءً عمى ذلك ،فإن اليمداني كان يشير بوضوح وبقصد ثابت وراسخ الى أن ايميا التي
ىي أورشميم ىي أرض مجاورة ألرض سوريا التي ىي أرض بني اسرائيل ،ومجاورة أيضاً
أليدوما (شرق نير األردن حالياً -موآب في التوراة) ،ومجاورة ألرض فمسطين ،ومن خالل
مطابقة ما جاء عمى لسان اليمداني وما أثبتو النويري وغيره من الجغرافيين العرب واالغريق،
فإن إيميا ىذه اسميا أيضاً أورشميم ،وبحسب النويري فإنيا صارت في عصر السيادة العربية
واالسالمية تسمى "القدس" وتسمى أيضاً "بيت المقدس".
إذا لم يبدو ما تقدم مقنعاً لمبعض وماحقاً بالفعل الدعاءات الربيعي وغيره ،فإنو ما يزال
لدينا الكثير مما ينبغي التدرج في عرضو وتقديمو من األدلة الجغرافية والتاريخية والمغوية التي
تدحض ىذه النظرية وتصيبيا في مقتل محتم ،ولسوف نستمر في عرضيا حتى نصل الى ما
يتعمق منيا بتفسير ذلك التمييز الذي قال بو كل من بطميموس أوالً ،ثم قال بو اليمداني ومن
بعده النويري بين إيمياء التي ىي أورشميم من جية ،وبين فمسطين من جية أخرى ،فضالً عن
تفسير التمييز اآلخر الذي قال بو اليمداني بين أرض بني اسرائيل التي ىي سوريا وبالد
الييود ،وىذا التمييز األخير ىو نفسو الذي تجاىمو الربيعي تماماً وتحاشى ذكره كمياً.
198
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
خالصة األمر حتى ىذه النقطة نقوليا وبكل ثقة ويقين ،ىي أن تفسير الربيعي لفقرة
اليمداني ومن ثم تفسيره لكل ما جاء في كتاب اليمداني ،ليس إال تفسي ارً مختمقاً ومضمالً وال
أساس لو ،بل وال يستند الى أدنى درجات المنطق ،وىذا فضالً عن كونو يتعارض تعارضاً
صارخاً وفاضحاً ومروعاً مع الحقائق الجغرافية ،وسأكون صريحاً ومغالياً في الصراحة وأقول
بأن ذلك التفسير ليس إال نوعاً من االستخفاف بعقول القراء ،ونموذجاً رديئاً من التمفيق والتزييف
وقمب الحقائق وتشويشيا بنيّة مسبقة وارادة قاصدة ومتعمدة ،واال فكيف تجاىل صاحبو كل ىذه
الحقائق التي عرضناىا حتى اآلن؟!
إني بحق لغير آسف عمى ما سوف يؤول إليو حال مفكرنا الربيعي عندما يعمم تماماً بأن
ىذه الحقائق الثابتة والراسخة والتي تقف بكل قوة في وجو نظريتو العجفاء ستكون في معرض
انتباه وتفكير جميع القراء منذ اآلن ،خاصة وأن ال أحد من النقاد قد تطرق إلييا من قبمنا ،ومن
حيث أنو لن يكون بوسعو أو أحداً سواه أبداً -وأبداً أبداً -أن يجد لو مخرجاً من ىذه الورطة
العنيفة والمستحيمة الحل.
السؤال األىم ،كيف يكون ذلك كمو الذي وصفو اليمداني شيادة تاريخية بأن اليمن ىي
أرض التوراة؟!
لن نترك بعد اليوم سؤاالً نطرحو بدون اجابة ،فالجواب ىنا ىو أن ال شيادة في كتاب
اليمداني كما يتوىم الربيعي ويوىم بذلك قراءه ،وال ىم يحزنون .فأوىام الربيعي بمغت مبمغاً
صعباً بحيث ال يصدقيا إال المغفمون ،واال فكتاب اليمداني في متناول أيدي الجميع ،وليتيم
وحسب يقرأون!!..
إ ن كل كالم الربيعي عن ايميا أو اورشميم أو بالد الييود بأنيا تقع في اليمن وأن ذلك ىو
ما قالو اليمداني ومن قبمو بطميموس ،ىو محض افتراء مقصود ،ومحاولة فاشمة وسيئة لتحريف
الحقائق .فكما تبين آنفاً بالدليل الجغرافي الثابت والواضح ،فقد جاء ذكر اليمداني لفمسطين
وايميا بعد ذكره لسوريا وايدوما وكل ذلك في ترتيب جغرافي دقيق قائم عمى التجاور الحتمي
والقطعي ،فسوريا تقع في جوار ايدوما ،كما أن سوريا أيضاً تقع في جوار فمسطين وايميا ،وىن
199
انفصم األول نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط
جميعاً عمى ذلك متجاورات وكل منيا تحد األخرى جغرافياً وفق تقسيم األقاليم السبعة لبطميموس
التي تمتد عمى شاكمة خطوط العرض المعروفة في الجغرافيا الحديثة ،وىو التقسيم الجغ ارفي
الذي أخذ بو الجغرافيون العرب وطبقوه في مصنفاتيم الجغرافية عمى مدى أكثر من ()311
سنة ،فضالً عن أن ىذا ىو نفسو ما أكد عميو كل اإلخباريون والمغويون المعجميون والمؤرخون
والبمدانيون والرحالة العرب والمسممون في كتبيم التي تعد بالمئات.
ترى ،كيف سيواجو الربيعي كل تمك المصنفات المغوية واإلخبارية والمعجمية والتاريخية
والجغرافية التي تركيا العرب القدماء وتشكل رصيداً معرفياً ىاماً لكل البشرية؟! -وىل ستنفع
معيا حيمتو الدفاعية المسبقة عن ىجرة القبائل وانتقاليا ونقميا ألسماء أماكنيا األصمية واطالقيا
عمى المناطق التي ىاجروا إلييا؟!
200
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
الفصل الثاني
جينا اىجدوا!!..
قبل كل شيء ،ينبغي أن نتوقف عند المصطمح الرئيسي الذي صاغو الربيعي إزاء ما
جاء في كتاب صفة جزيرة العرب ،وىو مصطمح (شيادة اليمداني) ،وكيف يمكن أن نفيم
داللتو ومغزاه من حيث ما عبر عنو مفكرنا من جية ،ومن حيث ما ىو عميو باألصل مضمون
كتاب اليمداني من جية أخرى.
من أجل اإلجابة عمى ىذا التساؤل ،البد من إعادة تجميع وتقديم خالصة آراء الربيعي
ومقوالتو في المواضع الثالثة التي أوردناىا – بصيغ حرفية -في الفصل السابق ،إزاء ما عبرت
عنو فقرة اليمداني ود ّل عميو مجمل ما تضمنو كتابو ،وذلك بإيجاز ووضوح عمى النحو اآلتي:
"لقد قدّم اليمداني شيادة تتطمب تأملً عممياً عميقاً ،من حيث تفيد ىذه الشيادة بأن ما يدعى
في التوراة بجبال الييودية– أو مممكة ييوذا في التراث الكتابي -ال يقصد بو شمال فمسطين ،إذ ال
يوجد دليل لغوي أو جغرافي عمى ذلك ،بل أن بلد الييودية ىي سرو حمير (ونجران ىي في آخر ىذا
السرو الممتد من صنعاء) .فقد ميز اليمداني بدعم من بطميموس بين فمسطين وبلد الييودية ،ألن
كل منيما تقع في حيز جغرافي مغاير ،إذ تقع فمسطين في الشام ،وبلد الييودية في نجران في
اليمن ،وأن المستشرقين ىم من روجوا بأن فمسطين عُرفت باسم إيميا بيدف التضميل ،وبناءً عمى ذلك
فإن أحداث سفري المكابين-كما شرحيا الربيعي في كتابو -قد وقعت في اليمن في سياق طموح
االمبراطورية الرومانية لبسط نفوذىا عمى سواحل البحر األحمر ،وىذا يعني في المقابل بأن تمك
الغزوات والحروب لم تحدث في فمسطين (الشام) ،وىذا بالضبط ىو المعنى العميق والمتضمن في
تمييز اليمداني بين فمسطين وبلد الييودية .فاليمداني وبطميموس كانا يعرفان الفرق الشاسع
ويدركان أن فمسطين في العصر الروماني المبكر شيء وبلد الييودية شيء آخر ،ويعرفان أيضاً أن
201
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
بلد الييودية العتيقة التي دارت فييا أحداث سفر المكابين ليست أرض فمسطين ،كما أنيا ليست
أرض سورية -بلد الشام (أو جنوب الشام) بل ىي مكان آخر ،ومن ثم ،فإن إيمياء -التي أشارت
إلييا فقرة اليمداني -لم تكن في فمسطين ولم يكن اسميا القدس أيضاً ،وأن وجود اسم ايمة -التي
ىي ايميا كما يدعي الربيعي -في فمسطين ،ناتج عن ىجرة القبائل العربية بما فييا قبيمة بني اسرائيل
إلى الشام ،حيث طبعت ىذه القبيمة عمى مواطنيا الجديدة ذكرياتيا القديمة في صورة أسماء قديمة
[ٔ]
عمى غرار ما كانت عميو أسماء المواضع واألوطان األم .
االحتمال األول ،أن تكون شيادة اليمداني بخصوص ما يدعيو مفكرنا العربي صريحة
وواضحة ،ويمكن إدراكيا بدون لبس أو غموض .وىذا غير صحيح ،من حيث أثبتنا في الفصل
السابق أن ىذا االحتمال غير متحقق البتة ،وال وجود لو عمى اإلطالق حتى في حرف واحد مما
كتبو اليمداني في كتابو صفة جزيرة العرب ،أو في كتبو األخرى التي وصمت إلينا.
االحتمال الثاني ،أن يكون قصد الربيعي أن اليمداني قد أدلى بشيادتو تمك من حيث لم
يكن يعمم بأنو يصف في حقيقة األمر جغرافية بالد التوراة .وبصيغة أخرى أن عبقري الجغرافيا
والتاريخ والفمسفة والفكر العربي في القرن العاشر الميالدي ولسان اليمن اليمداني عندما وصف
جغرافية اليمن لم يكن يعمم بالفعل أنيا ىي نفسيا جغرافية أحداث التوراة ،ولم يكن لديو أدنى
عمم بأن وصفو جاء مطابقاً لما ورد في التوراة ..فيل ىذا ما يجب أن نصدقو؟!
في واقع الحال ،فإن االحتمال األخير يجعمنا نقف أمام تأويل صاغو مفكرنا الربيعي لكالم
صرح بو ىذا األخير ،بل ويمكن القول أن األمر قد تجاوز مجرد
اليمداني ،وليس أنو بالفعل ما َّ
التأويل وتعداه الى ما يمكن وصفو ب ـ "حديث إفك" اختمقو مفكرنا وال أساس لو.
نعم ،إنو حديث إفك ربيعي ال أكثر ،خاصة وقد كشفنا في الفصل السابق عن واحد من
أىم وأكبر األخطاء الفادحة التي ارتكبيا مفكرنا قاصداً ومتعمداً ،وأثبتنا بما ال يدع مجاالً لمشك
[ٔ] .ىذه الفقرة تمخيص حرفي لممقوالت التي صاغيا الربيعي في المواضع الثالثة التي أوردناىا حرفياً في
الفصل السابق من :فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،مرجع سابق.)٘ٙٓ /ٕ ،ٗٓٛ /ٔ ،ٗٗ/ٔ( ،
202
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
وبمغة الجغرافيا وأدواتيا العممية والمنيجية بأنو قد وقع في مشكمة عويصة ،وأوقع نفسو في مأزق
مستحيل الحل بسبب ىذا التفسير الذي قدمو .فإيميا التي ىي أورشميم بحسب األساس
االبستمولوجي الذي وضعو بطميموس في تقسيمو الجغرافي لألقاليم المناخية السبعة-الذي نقمو
عنو الجغرافيون العرب والمسممون ومنيم اليمداني -البد وأن تقع بالفعل في االقميم المناخي
الثالث بجوار سوريا وا يدوما ،ويستحيل عمى اإلطالق وفق ىذا األساس وىذا التقسيم أن تقع في
اليمن ،ألن اليمن تقع في االقميم المناخي الثاني.
كما أثبتنا أيضاً ،أن وصف اليمداني الدقيق لجغرافية اليمن الطبيعية لم يتضمن أو ُيشر
أبداً إلى أي وجود ألي إيميا تسمى أورشميم فييا ،وىذا كمو يعد بمثابة دليل جغرافي وتاريخي
قاطع عمى عدم صحة تفسير صاحبنا الربيعي ،ودليل كاف إلثبات أن كل مقارباتو بين أسماء
األماكن الواردة في النص التوراتي وأسماء األماكن التي ذكرىا اليمداني ال أساس ليا من
الصحة أبداً من كافة النواحي المغوية والجغرافية والتاريخية ،وبالتالي فإن تمك المقاربات
والمقارنات جميعاً البد وأن تسقط وتتياوى وتنيار بشكل كمي في ضوء تمك األدلة ،والتي
عززناىا بشيادة أحد أقطاب الجغرافية العربية في العصر الوسيط وىو شياب الدين النويري.
203
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
ىذا ما ينطبق عمى ما قمنا بو إزاء فقرة اليمداني التي اعتبرناىا مرك اًز مشتركاً بيننا وبين
الربيعي ،من حيث أنيا في سياقيا العام الذي وردت فيو ومنطوقيا الصريح الواضح الذي ال
يحتاج إلى تأويل وال ينطوي عمى أي لبس أو خمط أو اشتباه ،ال يمكن أن تثبت أن بالد الييود
من إيميا التي تسمى أورشميم تقع في اليمن في الوقت نفسو الذي تثبت فيو أنيا تقع بجوار سوريا
وايدوما .فيذان االستنتاجان يسيران في اتجاىين متصادمين ،ومن ثم ،إذا كان ىناك ما تثبتو
تمك الفقرة فيو إما أن تكون بالد الييود واقعة في نطاق جغرافية اليمن كما ادعى ذلك الربيعي،
وبالتالي فيي تنفي أن تكون بالد الييود تمك واقعة بجوار سوريا وايدوما ،أو أن تثبت العكس من
ذلك وىو أن بالد الييود تقع بالفعل بجوار سوريا وايدوما ،من جية ،وتنفي أن تكون واقعة في
نطاق جغرافية اليمن من جية أخرى ،وعمى غرار ذلك تكون سائر النتائج التي نتوصل إلييا
باتباع ىذا المنيج.
إن دافع التركيز عمى فقرة اليمداني واالنطالق منيا بالنسبة لتقييم مدى موضوعية
عبرت عنو وجاء فييا في
ومصداقية التفسير الذي قدمو فاضل الربيعي ،ينبع من أىمية ما ّ
الوقت الذي اعتبرىا الربيعي شيادة جغرافية وتاريخية تدعم وتؤكد نظريتو بشأن موقع بالد الييود
العتيقة من إيميا التي تسمى أورشميم ،غير أننا أثبتنا وبكل ثقة ورسوخ أن األمر في حقيقتو عمى
العكس من ذلك تماماً ،وىو أن فقرة اليمداني وسائر ما جاء في كتابو تؤكد عمى أنو وبطميموس
كانا يقصدان بشكل راسخ أن بالد الييود تقع بالجوار من سوريا وايدوما ،وىو ما أثبت بدوره أن
تحميل الربيعي وتفسيره غير صحيح عمى اإلطالق ،وأنو ليس إال محض تمفيق وتحريف متعمد
لمحقائق.
أما الدافع إلى االستمرار في تقديم األدلة من جيتنا ،فيأتي من كون المفكر الفاضل َّ
ظل
ستمر وطوال الوقت عمى ما يصفو دائماً ب ـ "شيادة اليمداني" ،التي كشفت عن حقيقة أن
يؤكد م اً
موطن أحداث التوراة وشخصياتيا والجماعات التاريخية التي ورد ذكرىا فييا حسب زعمو.
فبحسب تصريحات لو من ىذا النوع ،فإننا "مع اليمداني ال نحتاج إال لقميل من التبصر ورؤية
التوصيفات الجغرافية الدقيقة لمجماعات نفسيا ،ولمنازليا التاريخية وبالصيغ والتراكيب المغوية
204
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
ذاتيا من دون أدنى تلعب"[ٔ]" .وأورشميم التي سقطت في يد الممك داوود في التوراة ليست
القدس العربية ،وليست في فمسطين التاريخية ،بل ىي أورشميم (أورسمم) السراة اليمنية كما
وصفيا اليمداني .]ٕ["..ومن ثم ،فإن "تصورات اليمداني المتطابقة كمياً وحرفاً بحرف مع ما
جاء في سفر صموئيل -وغيره من أسفار التوراة -تكشف عن حقيقة أن الرواية االستشراقية
ألحداث التوراة ليست إال اختلقاً"[ٖ].
في الحقيقة ،أن مثل ىذه التصريحات واالدعاءات االنشائية الجازمة تُضاعف من حدة
المأزق الذي وقع فيو مفكرنا ،السيما وأنو من السيل جداً عمى أي ٍ
أحد أن يعود إلى كتاب
اليمداني ويتحقق مما جاء فيو ،ومن صدق وموضوعية ىذه التصريحات والمقوالت العبقرية التي
صاغيا مفكرنا الف ّذ ،ولكن ىذا ال يمنع من إعادة النظر واألخذ باحتمال أن يكون ىذا المفكر قد
وضعنا بالفعل أمام قراءة جديدة وصحيحة تقدم لنا حقائقاً ربما كانت محجوبة عن أبصارنا
وادراكنا لسبب أو آلخر ،يتبين معيا أن كتاب اليمداني قد تضمن شيادة مفادىا أن أحداث
التوراة قد جرت في اليمن وليس في فمسطين.
تدفعنا تمك التصريحات إلى االستمرار في دراسة وتحميل طرح الربيعي إزاء فكرة محورية
واحدة نقف عمييا من أول كتابو إلى نيايتو ،إذ أن تعاممو مع فكرة من ىذا النوع عمى مدى
كتابو كامالً البد وأن يكشف عن كافة اإلجراءات واألساليب التي استخدميا في بناء استدالالتو
عرف
وتقديميا ،وىذا بدوره يغني عن الوقوف عمى محتوى كتابو كمو ،وذلك في إطار ما ُي َ
منيجياً ب ـ "التحميل الموضوعي".
وفق ىذه المنيجية سنرى من بعد إلى أين يمكن أن نصل مع تمك المعالجات
والتفسيرات التي قدميا مفكرنا العبقري.
)(1
الستئناف بحثنا ،البد من العودة إلى فقرة اليمداني نفسيا ،ولننطمق ىذه المرة من حيث
أشارت إلى أن بالد الييود العتيقة قد ُعرفت واُشتُيرت باسمين ،االسم األول :إيميا أو إيمياء ،أما
االسم الثاني فيو (يرشمم) وتعربو العرب وتقول (أوراشمم) ،أو كما جاءت في عبارة أخرى
صريحة يوردىا اليمداني ،قائالً .." :وايميا ىي أوري شمم"[ٔ] -مكتوبة ىكذا في ىذه الفقرة من
كتابو.
الجدير بالذكر والتنويو إليو ،بل والجدير بالتأكيد عميو ىنا ىو أن عبارة "بلد الييود
العتيقة" تُ ّع ُّد في حقيقة األمر تسمية اصطالحية كانت سائدة في عصر بطميموس وليست كما
قد يتصور البعض بأنيا تعبير وصفي استخدمو اليمداني ،وىو المصطمح نفسو الذي يرد في
بعض األسفار التوراتية مرتبطاً بمرحمة معينة من مراحل التاريخ المروي فييا عمى غرار" :بلد
الييود ،بلد الييودية ،جبال الييودية ،الييودية".
من المؤكد أن اليمداني قد أدرك في عصره حقيقة ما قام بنقميا كما ىي عن بطميموس،
وتثبَّت منيا بما يكفي ُليصرح بيا ،نقصد بذلك حقيقة أن لبالد الييود العتيقة اثنين من األسماء
قد أطمقا عمييا أو عمى حاضرتيا أو مدينتيا أو قصبتيا ،وىما( :إيميا أورشميم) .وكما ىو
معموم ،فإن تعدد أسماء المكان الواحد أمر شائع في مجال األعالم واألسماء الجغرافية .فكثي ًار
ما يحدث أن ُيطمق عمى المكان أو الموضع الواحد أكثر من اسم ،ويحدث أيضاً أن يسود أحد
تمك األسماء عمى البقية األخرى في عصر ما أو عمى مدى عصور طويمة ،في الوقت الذي
تبقى فيو بقية األسماء محفوظة في الذاكرة الجمعية لسكان المكان نفسو والمنتمين إليو ،ولربما
يأخذىا عنيم وينقميا الغير من خارج نطاقيم الجغرافي أيضاً.
[ٔ] .الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص ٖٖٗ.
206
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
وعالوة عمى إن تعدد أسماء األماكن الجغرافية يعتبر حقيقة ثابتة ال مجال إلنكارىا أو
تجاىميا ،فإن ىذه الظاىرة نفسيا غالباً ما تحتمل أبعاداً ودالالت لغوية وحقائق ومعارف تاريخية
متعددة ومتنوعة .فعمى سبيل المثال احتفظت صنعاء اليمن باسميا الشيير ىذا ،في الوقت الذي
تذكر فيو المصادر القديمة أن من أسمائيا أيضاً :مدينة سام ،أزال /أوزال[ٔ] .وكذلك ،فإن من
أسماء دمشق :جيرون ،الشام ،بالد آرام[ٕ] .وبالمثل أيضاً ،نجد أن بغداد قد أطمق عمييا اسم
(دار السالم) -وىي تسمية رأى البعض أنيا قديمة وتم احيائيا من قبل الخميفة العباسي الذي
اختارىا عاصمة لدولتو ،السيما أنيا تحتمل نفس المعنى الذي يشير إليو اسم أورشميم[ٖ].
لذا ،ال ينبغي أن تكون مفاجئة لنا إشارة اليمداني إلى ظاىرة تعدد أسماء األماكن
الجغرافية بشكل قصدي مباشر في فقرتو تمك ،ناىيك وأن استحضارىا من قبمو جاء مرتبطاً بأىم
وأبرز األماكن والمواضع التي تحتفي بيا نصوص التوراة وسائر أسفارىا األخرى وأدبياتيا.
لقد خمعت النصوص الكتابية لمتوراة عمى (اورشميم) العديد من األسماء .إذ أطمقت عمييا
اسم (مدينة شاليم) في (سفر التكوين" :)ٔٛ :ٔٗ ،وممِْكي ص ِادقُ ،مِم ُ ِ
ك شَاليمَ"ُ .
وسميت أيضاً َ َ ََ
(ساليم) و(صييون) في (المزمور" :)ٕ -ٔ :ٚٙ ،اسمو عظيم في إسرائيل .كانت في ساليم
مظمتو ،ومسكنو في صييون" ،ويرد ذكرىا باسم (حصن صييون) في (سفر صموئيل الثاني،
داودَ" .وقبل أن تكون أورشميم قد حممت
وىو مدين ُة ُ صن ِص َ
ييون َ داودَ اَحتَ َل ِح َ
٘" :)ٛ :لكن ُ
اسميا ىذا يرد في التوراة أنيا كانت تسمى (يبوس أو مدينة اليبوسيين) كما في (سفر القضاة،
[يَبُوس]ِ ،ىي [أُور َِ ب َو َجاءَ إلى مُقَاِب ِل
شميمُ] ...قَا َل الْغُلَمُ َ ُ َ .." :)ٔٔ -ٔٓ :ٜٔبَ ْل قَامَ َو َذىَ َ
ِفييَا" ،وأطمق عمييا كذلك اسم (اريئيل) ىذ ِه َونَِب ُ
يت ين] ِ ِلسيِِّد ِه :تَعا َل نَ ِمي ُل إلى [مِدينَ ِة الْيَبُ ِ
وسيِّ َ َ َ َ
[ٔ] .الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص ٕ .ٛوكذلك :أبو العباس أحمد بن عبد
اهلل بن محمد الرازي الصنعاني (تٗٙٓ :ه) :تاريخ مدينة صنعاء ،تحقيق :حسين بن عبد اهلل العمرى ،الطبعة
الثالثة ،دار الفكر المعاصر ،بيروت ،دار الفكر ،دمشق .ٜٜٔٛ ،ص ٓ.ٚ
[ٕ] .حول أسماء دمشق وتاريخيا ،راجع :أحمد األييش وقتيبة الشيابي :معالم دمشق التاريخية ،مكتبة المتنبي
لمطباعة والنشر والتوزيع ،دمشق.ٜٜٔٛ ،
[ٖ] .سييل زكار :التوراة ترجمة عربية عمرىا أكثر من ألف عام ،الطبعة األولى ،دار قتيبة لمطباعة والنشر
والتوزيع ،دمشق -بيروت .ٕٓٓٚ ،ص ٕ٘.
207
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
بيد أننا ال نجد في النصوص التوراتية أن (أورشميم) قد أطمق عمييا اسم (إيميا) ،بل يرد
نبي من أنبياء بني اسرائيل يدعى (إيميا التشبي)
ىذا االسم األخير في التوراة باعتباره اسم عمم ل ّ
وشيرتو في الغالب (إيميا النبي) ،كان قد أُرسل إلى الييود بعد أن تحولوا إلى الوثنية أو خرجوا
عن جادة العقيدة الموسوية األصمية ،أو شيء من ىذا القبيل ،في عصر انقسام المممكة كون
إيميا ىذا ُيعد من أنبياء المممكة الشمالية ،وذلك عمى نحو ما ورد ذكره لعدة مرات في (سفر
المموك األول" :)ٔ :ٔٚ ،قال [إيميا التشبي] من سكان جمعاد آلخاب."..
نخمص من ذلك ،إلى أن التوراة لم تُشر صراحة أو ضمناً إلى أن اسم (إيميا) قد أُطمق
عمى بالد الييود العتيقة التي عرفت كذلك باالسم التوراتي الصريح (أورشميم) ،وعمى الرغم من
أن االسم (إيميا) ليس غريباً عن النص التوراتي وعن بيئتو الجغرافية والتاريخية ،إال إن ىذا ال
يمغي واقع أننا من خالل الشواىد التوراتية من جية ،وما تضمنتو أيضاً فقرة اليمداني من جية
أخرى ،نقف أمام تسميتان أطمقتا عمى مكان واحد -مكان واحد بالضبط وبالتحديد -اصطمح
عمى وصفو ب ـ "بالد الييود العتيقة" ،وأنو أينما استخدمتا ووردتا أياً من ىاتين التسميتين بمفردىا
أو كالىما معاً ،فإنيما تشيران إلى نفس ذلك المكان.
يدعونا ىذا االستخلص إلى طرح سؤال عما إذا كان اسم (إيميا) قد أطمق عمى بلد
الييود العتيقة نسبة إلى ذلك النبي المذكور في التوراة في عصور الحقة عمى االنتياء من
كتابة وتدوين أسفار التوراة بحيث يكون ىذا سبباً في عدم وروده في العيد القديم كاسم لتمك
البلد التي كانت تسمى أيضاً يرشمم وتعربو العرب وتقول أوراشمم أو أوري شمم؟! -أم أن
ىناك أسباباً وعوامل أخرى كانت وراء اطلق ىذه التسمية (إيميا) عمييا؟!
ىذا سؤال ذو مغزى بالغ األىمية ،من حيث ينبغي التأكيد عمى أن ظاىرة تعدد أسماء
بالد الييود العتيقة وحاضرتيا اورشميم ،وكذا اطالق اسم آخر عمييا لم يرد في النص التوراتي-
أي أنو اسم غير توراتي -البد وأن يفيدنا كثي اًر في تقصي الحقائق التاريخية والجغرافية لموقع
208
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
ىذه البالد ،خاصة وأن ذلك يضعنا أمام اشتراطات جوىرية ينبغي توفرىا وانطباقيا عمى أي
مكان أو موضع ُيحتمل أو ُيتوقع أنو ىو الموقع الجغرافي لبالد الييود العتيقة من إيميا والتي
كانت تسمى أيضاً أورشميم.
عمى ىذا األساس ،يكتسب اسم (إيميا) أىمية شديدة في سياق ىذا البحث وأىدافو ،خاصة
وأنو يساعدنا في تبيان حقيقة ما أشار إليو اليمداني و َّ
عبر عنو بدقة متناىية في تمك الفقرة وفي
اسم غريب وغير موجود البتة في نطاق الجغرافية
عموم ما جاء في كتابو ،عالوة عمى أنو ٌ
اليمنية سواء في ضوء الوصف الدقيق والمفصل الذي قدمو اليمداني ،أو في ضوء ما تقدمو لنا
سائر المصادر الجغرافية والتاريخية العربية القديمة األخرى ،وىذا ليس افتراضاً بل حقيقة َّ
قدميا
لنا مفكرنا الفاضل عمى طبق من ذىب وبشكل غير مباشر ،ومن حيث لم يكن ذلك في مراميو
أو في نطاق ادراكو البتة.
ىذا بالضبط ،ما سيتبين لنا بقدر كبير من الوضوح من خالل دراسة وتحميل المعالجة
التي تضمنيا كتاب "فمسطين المتُ َخيَّمة" حول (إيميا) ،من حيث حاول مؤلف الكتاب متعسفاً
إثبات أن بالد الييود العتيقة تقع في نطاق جغرافية اليمن ،ومدعياً بصيغ صريحة وواضحة أن
ذلك ىو ما شيد بو الحسن بن أحمد اليمداني ،لوال أن محاولتو التعسفية وغير الموضوعية تمك
قد باءت بالفشل الذريع ،وىو الفشل الذي لم يردعو أو يثنيو عن االستمرار في تزييف وتشويو
حقائق التاريخ والجغرافيا ،وتمفيق االدعاءات الباطمة ،والتضميل عن الحقائق بإرادة عالمة وقصد
عمدي.
ّ
[ٔ] .الحسن بن أحمد اليمداني :اإلكميل -الجزء الثامن ،حرره وعمق عميو :نبيو أمين فارس ،دار الكممة،
صنعاء ،دار العودة ،بيروت( ،ب .ت) .ص .ٔٚٓ -ٜٔٙ
209
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
"وروى ابن لييعة قال :لما أصاب داود عميو السلم الخطيئة أعمل االختلف الى غيران العباد
العباد ،فأوحي إليو أن يدخل غار بالقرب منو فيبط إليو داود فإذا فيو
حتى وقع عمى حراء ،جبل ّ
[ميت مسجي] ،واذا عند رأسو صفيحة من نحاس مكتوب فييا" :أنا ذو شمم الممك ممكت ألف سنة
ّ
ونكحت ألف عاتق ثم صرت الى األرض فراشي التراب ووسادي الحجر وجيراني الدود فمن رآني فل
يغتر بالدنيا بعدي".
وىذا الممك لم يشتير خبره عند العمماء .ويروى أنو يريد في خبره ُبعد داود عميو السلم.
قال اليمداني :إني ال أرى في ىذه األشياء المستنكرة في الزبر القبورية إنما يكون من الذين
يكتبونيا فيزيدون في الشيء ما ليس فيو ليعظم ذلك عند من بعدىم فيزىدوا في الدنيا ويعممون أنيم
من دون من فرطيم.
سمِم
وقد طفت لممال آفاقو *** عمان فحمص فأوري َ
شمِم".
يور َ
وقال العبرانيون وىي َ
نالحظ أن اليمداني يستنكر وجود ممك اسمو (ذو شمم) ،ويعتبر ما جاء عنو في
الصحيفة المكتوبة التي تتحدث عنيا الرواية بأنيا من الزيادات والتحريفات التي يضيفيا ُكتَّاب
الزبوريات لتعظيم األمور والمبالغة في شأنيا لمعظة والعبرة ،بل ويستنكر اليمداني أيضاً أن
شممُ ىي إيمياء وقد
يكون شيئاً من ذلك قد وجد في حراء -بالقرب من مكة ،-مؤكداً عمى أن َ
(عمان
َّ تعربيا العرب فتقول (سَِمم) ،مستشيداً ببيت شيير لألعشى وضع أورشميم بجوار
وحمص) ،واال فما قيمة استدراكو بذكر موقع شمم والتأكيد عمى أن المقصود بيا ىو (إيمياء)،
وما قيمة استشياده بشعر األعشى..؟!!
وفي موضع سابق من نفس الكتاب– اإلكميل الجزء الثامن -يقول اليمداني[ٔ]:
"فاجتمعت جرىم وعدنان وطسم وجديس والعمالقة وجميع العرب والتقوا ببني اسرائيل لقتاليم
فيزموىم الى (بيت المقدس) وأخذوا التابوت عمى بني اسرائيل."..
ىذه شيادة واضحة من اليمداني تسير في اتجاه معاكس وعمى النقيض تماماً لما
يدعيو الربيعي ،خصوصاً إذا ما أخذنا باالعتبار أن ىذا بالضبط ىو ما تنطق بو فقرة
اليمداني في كتابو صفة جزيرة العرب التي جاءت في سياق تحديد جغرافي دقيق وفق تقسيم
بطميموس لألقاليم السبعة ،وأن إيميا ىي أورشميم وىي أيضاً بيت المقدس ،وأن حرباً جرت
بين العرب شموالً وبني اسرائيل ،ىُزم فييا ىؤالء االسرائيميين ودُحروا الى مواطنيم في بيت
المقدس.
لقد حاول رائد النظرية األول كمال الصميبي أن يستخدم رواية اليمداني التي أوردناىا آنفاً
عن قبر بحراء بطريقة ما لتدعم نظريتو بأن جغرافية أحداث التوراة تقع في عسير وغرب جزيرة
العرب ،إذ قال[ٔ]:
" ..وقد أرشدني مؤ ّخ ًار صديقي الباحث فرج اهلل صالح ذيب إلى ما يقولو ...اليمداني ،صاحب
نقل عن قدامى رواة األخبار من أىل اليمن .ومن ذلك خبر ىروب "كتاب اإلكميل" ...بيذا الشأنً ،
داود في وقت من األوقات ،ودخولو إلى الغار في جبل حراء ،خارج م ّكة".
كانت ىذه واحدة من االستشيادات االنتقائية التي فشل الصميبي في استخداميا إلييام
القراء وتضميميم ،بأن ثمة مرويات عن قدماء أىل اليمن تشي بأن بالد الييودية كانت في
اليمن ،وكما تبين لنا من سياق الرواية كما أوردىا اليمداني ،فإن مثل ىذا اإلييام ال يعدو أكثر
من حديث إفك ال أكثر ،وىذا ما ينطبق حرفياً عمى أوىام الربيعي وادعاءاتو.
بالعودة إلى كتاب الربيعي "فمسطين المتُ َخيَّمة" ،والبحث عن مواقع المعالجات التي قدميا
بشأن ما ورد في فقرة اليمداني ،وباألخص ما يتعمق منيا بتفسيره السم (إيميا) ،نجد أنو وعدا
عن المواضع الثالثة التي ِّ
بيناىا في الفصل السابق ،قدم ثالث معالجات في ثالث مناطق نائية
[ٔ] .كمال الصميبي :حرب داود :األجزاء الممحميَّة من ِسفر صموئيل الثاني مترجمة عن األصل العبري ،دار
الشروق ،عمان -األردن .ٜٜٔٔ ،ص .ٜٔ
211
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
وجرداء ومنفصمة عن بعضيا البعض :موضع واحد في المجمد األول ،وموضعان اثنان في
المجمد الثاني.
نبدأ بالموضع األول ،حيث نمضي مع الربيعي في سياق رحمة جغرافية بحثاً عن إيميا
التي ذكرىا اليمداني .ففي منطقة نائية من المجمد األول من كتابو توقف فييا عند النص
التوراتي من (سفر التثنية" :)ٖٔ :ٔ :ٕ ،فعبرنا بعيداً عن اخوتنا بني عيسو المقيمين في
سعير من طريق العربة من أيمة ومن عصيون جابر وتحولنا وعبرنا طريق برية موآب".
"ظن الكثيرون خطأ أن (إيمو) في ىذا النص ىي ذاتيا (مدينة وميناء العقبة األردنية) ،فيما
ىي (أيمو) المدينة الساحمية القديمة المندثرة ،التي عرفتيا القبائل العربية باسم (إيميا -إيمياء).
إن أيمو -إيميا ىذه ىي المدينة القديمة التي وصفيا القرآن بــ (حاضرة البحر) ،وأشار إلى
كونيا مدينة ييودية بآية صريحة .ونحن نميز بينيا وبين (إيمو الجبل) ،وىما معاً من المواضع
الساحمية عمى البحر األحمر .وسوف نلحظ في ضوء المرويات واألشعار أن المتأخرين من المغويين
والجغرافيين العرب والمسممين ،لم يعرفوا (إيمياء) ىذه ،ولم يميزوا أو يحددوا مكانيا .ولذلك اختمطت
صورتيا باسم الجبل أو بــ (خميج أيمو) ،حتى ظن الكثيرون أن (إيمياء) في المرويات العتيقة ليست
سوى (عقبة األردن) البمد العربي .بينما نرى أن أيمو القديمة التوراتية ىي التي تحولت مع الوقت إلى
(إيمياء) وأعطت اسميا ،مع ىجرات القبائل نحو بلد الشام إلى خميج أيمو -خميج العقبة.
ولذلك ،فالمقصود من ىذا الموضع التوراتي إنما ىو (إيمون) المدينة المندثرة ،التي ذكرتيا
التوراة والقرآن بوصفيا (عاصمة البحر األحمر) .وبكلم آخر إن النص التوراتي يشير إلى المدينة
القديمة عمى البحر األحمر قرب (عصيون جابر) وليس إلى العقبة األردنية .وبطبيعة الحال ال يوجد
قرب خميج (إيمو) األردني موضع يدعى عصيون جابر ،كما ال توجد (عربو) عمى طريق (سعير).
وىذا يؤكد صحة وضرورة التمييز بين االسمين المتشابيين.
ما يقولو النص اآلنف من التوراة ،ىو أن بني اسرائيل عبروا من مكان ما عمى الساحل،
مبتعدين عن جبل سعير الذي يقطن فيو بنو عيصو ،ومتجيين صوب وادي عربو من أيمو عمى مقربة
[ٔ] .فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،ص ٖٔ٘.٘ٔٗ -
212
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
من عصيون جابر .ىذه األسماء ال وجود ليا في جغرافية خميج العقبة األردني المعروف بخميج أيمو.
يعني ىذا أن ىناك أيمو أخرى ساحمية قديمة عبرت منيا القبيمة في طريقيا إلى برية موآب -مآب".
يتابع الربيعي[ٔ]:
"وبقطع النظر عن تاريخية الحدث التوراتي المروي ..فإن التوصيف المقبول يتطمب ويستمزم
رفض المطابقات العشوائية ،كما يتطمب وضع إيمو في جغرافيتيا الصحيحة عند ساحل مكة إنيا (إيمة
القديمة الزائمة التي وصفيا القرآن بأنيا حاضرة البحر) .واليكم وصف اليمداني لــ عصيون جابر"!!..
من يق أر ىذا التفسير الذي قدمو الربيعي -أعاله -من المؤكد أنو لن يفيم منو شيئاً ولن
يخرج منو بنتيجة حاسمة .فيو بحق -وعمى نحو ظاىر لمغاية -تفسير مشوش جداً ،ومرتبك
ومضطرب بشدة ،يعكس بطبيعة الحال الوضع الذىني والنفسي الذي كان مفكرنا العبقري يعيش
فيو تحت تأثير الشعور الشديد بوطأة المشكمة التي وقع فييا أمام فقرة اليمداني الواضحة
والدقيقة ،فضالً عن أنو يكشف عن نمط المحاوالت البائسة التي قام بيا في سبيل الخروج من
تمك المشكمة التي تتمثل أساساً في أن فقرة اليمداني -كما وضحنا في الفصل السابق -تُصرح
وتثبت حقيقة أخرى ىي عمى العكس تماماً مما أراد مفكرنا أن يوىمنا بو.
في ىذا الوضع النفسي والذىني المأزوم الذي عاشو ىذا المفكر لم يكن أمامو إال طريقان
اثنا ن ،إما أن يعترف بالحقيقة كما أوردىا اليمداني ويعود أدراجو ويتخمى عن نظريتو العجفاء
لعدم وجود ما يسندىا فعالً -وىذا ما يكون عميو بالعادة موقف الباحث الجاد الذي يحترم
أخالقيات العمم ومبادئ البحث العممي وموضوعيتو ،-أو أن يمجأ إلى الطريق الثانية وىي
طريق التمفيق والتزييف ،وىذه لألسف ىي الطريق التي اختارىا الربيعي لنفسو .وليذا نقول أنو
وبسبب محاوالتو تمك قد أوقع نفسو في مأزق أشد وأنكى ومستحي ٌل حمَّو ،كما ويستحيل بأي حال
من األحوال تبريره أو التماس العذر لصاحبو ،وىو مأزق تنم عنو تمك التصريحات الكثيرة
والوفيرة التي ما برح الربيعي يكررىا ويرددىا ويتغنى بيا في كل شاردة وواردة بأن اليمداني قدم
شيادة تاريخية وجغرافية مدعومة من بطميموس عمى أن موطن التوراة وجغرافية أحداثيا ىي
اليمن وليست فمسطين.
ينطوي ما قالو مفكرنا وما كتبو في تفسيره لذلك النص التوراتي عمى قدر بالغ من الخمط
تعمد
(الم َّ
تي ُواإلييام والتضميل والتزييف والتحريف المتعمد والمقصود ،مع التأكيد ىنا عمى عبار ّ
والمقصود) ،ألن األمر كذلك بالفعل وليس أننا نقول ذلك عمى سبيل المبالغة أو من باب
التجني.
ّ
لكي تتضح الرؤية لمقراء األعزاء كما قدمنا ليا آنفاً .فالنص التوراتي الذي تعامل معو
الربيعي أعاله يذكر موقعاً جغرافياً اسمو (أيمة) مقترناً بذكر مواقع جغرافية أخرى قريبة منو أو
حواليو ،منيا موقع يدعى (سعير) كان يقيم فيو بني عيسو أنسباء بني اس ارئيل ،وبحسب النص
فإن ىؤالء ال ـ بنو اسرائيل كانوا قد انصرفوا من موضع (سعير) واتجيوا عبر طريق يمر من
مكان يسمى (العربو -عربو) ،وىذا الطريق كان من جية أو قريب من موقع (أيمة) القريب
جداً ىو اآلخر عمى ما يبدو من موقع تسميو التوراة (عصيون جابر) ،وكان ذلك كمو في اتجاه
يفضي ببني اسرائيل إلى سموك طريق صوب مكان يسمى ب ـ (برية موآب -مآب).
لسنا ىنا بصدد دراسة جغرافية حركة بني اسرائيل كما عبر عنيا ىذا النص التوراتي-
وان كنا سنتعرض لذلك بعض الشيء الحقاً من ىذا الفصل -بل نحن بصدد تحميل تفسير
الربيعي وتحديداتو الجغرافية لموقع المكان الذي يسمى (أيمة) ،وكيف أقام رابطة بينو وبين اسم
(إيميا)؟ وما ىو أساس الرابطة التي أقاميا؟ -وما مدى موضوعية تفسيره بالنسبة لما جاء في
كتاب اليمداني بيذا الشأن؟! -ىذا ىو مجال بحثنا في السياق التالي.
أ ّك َّد مفكرنا الربيعي عمى أن المقصود ب ـ (أيمة) في النص التوراتي المذكور أعاله ليس
(أيمة) المشيورة والقريبة من مدينة العقبة األردنية والتي تقع عمى ساحل القرن الشرقي لمبحر
األحمر ،بل المقصود بيا ىو( :أيمو) المدينة الساحمية القديمة المندثرة ،التي عرفتيا القبائل
العربية باسم (إيميا -إيمياء) ..والتي ذكرىا القرآن بأنيا حاضرة البحر ،والتي تقع في مكان ما
عمى ساحل البحر األحمر ،ونتيجة ىجرات القبائل العربية في مرحمة ما ومنيا بني اسرائيل
214
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
انتقل ىذا االسم إلى (أيمة) في خميج العقبة ،فتوىم الناس أنيا ىي المقصودة ،خاصة وأن
(أيمة) الحقيقية كانت قد اندثرت.
كما يشير مفكرنا إلى أنو يُ ِّميز بين (أيمة) التي كانت (حاضرة البحر) و(أيمة) أخرى
كانت تعرف بأنيا (حاضرة الجبل) ،وىو مع ذلك يصفيما بأنيما مكانين معاً يقعان عمى
ساحل البحر األحمر ..وال زلنا ال نعرف -عمى األقل حتى ىذه المحظة -أين بالضبط من
ساحل البحر األحمر؟!
في الفقرة التالية من تفسيره ،يعطي مفكرنا ل ـ (أيمة) -التي يعتبرىا أيضاً (إيمياء) -يعطييا
تسمية ثالثة معتمداً في ذلك عمى التشابو النسبي بين األسماء ،مؤكداً عمى أن المقصود ب ـ
(أيمة) في ذلك النص التوراتي ،إنما ىو (إيمون) المدينة المندثرة ،التي ذكرتيا التوراة والقرآن
بوصفيا (عاصمة البحر األحمر).
بحسب ما تقدم ،فإن (ايمة ،ايمون) ىما اسمان لذلك المكان المقصود في النص التوراتي،
يقع عمى ساحل البحر األحمر وىو المعني في القرآن بأنو مدينة الييود (حاضرة البحر) ،وقد
انتقل اسميا مع ىجرة القبائل إلى خميج العقبة ،وىناك حيث انتقمت تمك القبائل أطمقت عمييا
اسم (إيمياء) أيضاً.
ىل أيمة ىذه التي ىي إيمون التي ىي تقع في مكان ما عمى ساحل البحر األحمر والتي
وصفيا القرآن بأنيا حاضرة البحر والتي اندثرت وكفت عن الوجود كما يزعم مفكرنا ..ىل ىي
ما قصده اليمداني وأشار إلييا بأنيا إيمياء بلد الييود العتيقة التي تسمى أيضاً أورشميم؟!
لكي يتبين لنا أمر(إيمياء) التي ىي أورشميم والتي ىي أيضاً بالد الييود العتيقة ،نود أن
نمفت عناية القراء األعزاء الى شيادات رواد نظرية جغرافية التوراة ،أو باألصح الى معالجاتيم
215
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
ليذه المسألة ،وباألخص رائد النظرية األول "كمال الصميبي" ..إذ يقول تحت عنوان فرعي
"الييودية في فمسطين"[ٔ]:
"والمذىب الييودي بدأ يبرز بشكمو المميز في بلد بابل من العراق ،ثم انتشر ىذا المذىب منذ
وقت مبكر الى غرب الجزيرة العربية ،وكذلك الى بلد الشام ،ومنيا فمسطين .وسرعان ما صار لمييود
في فمسطين وجود كثيف ،بحيث صار الرومان ومن بعدىم يطمقون اسم (الييودية) -باليونانية
( -)Ioudaiaعمى جزء منيا .وفي ىذا الجزء من أرض فمسطين أطمق الييود وغيرىم من الطوائف
الموسوية اسم (يروشمم) عمى بمدة كانت تدعى في األصل (إيميا)".
جاء ذلك في السياق الذي أورد فيو كمال الصميبي قصتو المتُ َخيَّمة عن تاريخ بني اسرائيل
في غرب جزيرة العرب ،عمى نحو متسمسل لمحطات تطور فييا وجودىم ىناك كما ادعى ،ثم
سرعان ما وقع ىو اآلخر في مأزق أجبره عمى أن يعترف كرىاً ومضط اًر بأنو كان لمييود وجود
واستيطان وتاريخ ديموغرافي وسياسي في فمسطين ،فاتحاً المجال لالعتراف بوطنين لبني
اسرائيل والييود معاً ،األول في عسير والثاني في فمسطين ،وذلك ما أشار إليو الدكتور وعالم
اآلثار العربي السوري "عفيف بينسي" ،عندما انتقد نظرية الصميبي ،قائالً[ٕ]:
"يبدو كتاب الصميبي مغامرة خطرة في أمرين :األمر األول جغرافي فقد قسم التاريخ الييودي
إلى قسمين ،قسم إسرائيمي وأرضو عسير ،وقسم ييودي وأرضو فمسطين .وبيذا يحاول توسيع رقعة
التاريخ التوراتي ،معتمداً عمى فرضيات ألْسنية تقوم عمى تعديل في التسميات الكنعانية القديمة.
وتعديل في التسميات الجغرافية القائمة اليوم في عسير ،وىي فرضيات ضعيفة ال تدعميا المعاني
المشتركة التي لم يستطع توضيح أكثرىا ،بل يذكر المؤلف أن ىذه الدراسة ال تتطرق إلى أصول
أسماء األماكن المشار إلييا ومعاني ىذه األسماء.
واألمر الثاني تاريخي .فمقد قمّص األمم المذكورة في التوراة إلى مجرد قرى ومضارب بدو
كالعموريين والكنعانيين والحثيين بل والمصريين وسكان بين النيرين ،وبالتالي فقد ألغى تاريخ الشرق
[ٔ] .كمال الصميبي :حرب داود :األجزاء الممحميَّة ،مرجع سابق ،ص .ٖٛ
[ٕ] .عف يف بينسي :تاريخ فمسطين القديم من خالل عمم اآلثار ،منشورات الييئة العامة السورية لمكتاب ،و ازرة
الثقافة ،دمشق -سوريا .ٕٜٓٓ ،ص .ٕٓ ،ٔٛ
216
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
األوسط ،أو عمى األقل ألغى التسميات الحضارية في ىذا التاريخ .ولكنو لم يستطع أن يقدم دليلً
ألسماء الشعوب التي شكمت حضارات ضخمة أكدتيا الكشوف األثرية".
عمى كل حال ،فإن شيادة الصميبي ىذه ميمة جداً بغض النظر عن التحريف والتمفيق
الذي ضجت بو نظريتو ،فيي تشير الى أمرين تثبت معيما داللة فقرة اليمداني بوضوح جمي:
األمر األول ،أن المكان الذي أطمق عميو اسم "بالد الييودية" يقع في جزء محدود من
أرض فمسطين ،وأن إطالق ذلك االسم كان من قبل الرومان الذين صاروا ومن جاء من بعدىم
يطمقون اسم بالد الييود أو بالد الييودية عمى ذلك الجزء المحدود من فمسطين.
األمر الثاني ،أن الييود قد أطمقوا عمى ذلك الجزء من أرض فمسطين اسم (يروشمم)،
وىي بمدة كانت تدعى من قبل (إيميا)".
واألصح أن الييود في مرحمة ما تمكنوا من إعادة التسمية القديمة إليمياء وىي (أورشميم)،
عمماً بأن اسم اورشميم قد أطمق عمى القدس قبل أي وجود لمييود والييودية بألف سنة عمى
األقل ،فظمت ىاتان التسميتان مرتبطتان ببالد الييود العتيقة في جزء من فمسطين الى عصر
المسممين.
وىذا أيضاً ما يعترف بو رائد نظرية جغرافية التوراة في السراة وبالد زىران من عسير
أحمد داود ،حيث وجدنا لو إشارة مشوشة ال بأس من ذكرىا ىنا لتتضح بعض جوانب الصورة،
إذ يقول[ٔ]:
"إن أول تزوير في جغرافية األرض المقدسة حدث في زمن قسطنطين البيزنطي -حوالي القرن
الرابع الميلدي -ألسباب وأغراض سياسية واحتللية بحتة ،وبعيد مبعث النبي محمد بفترة وجيزة كان
التزوير -جرياً عمى زمن قسطنطين -يعتبر أن بيت المقدس ىو في (إيمياء) -القدس الحالية."..
كان ىذا اعتراف صريح آخر من قبل رائد آخر من رواد النظرية نفسيا التي تبناىا
الربيعي بل وىم من نقميا عنيم ،يفيد بأن اسم (إيمياء) أطمق عمى القدس أو بيت المقدس من
[ٔ] .أحمد داود :العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود ،مرجع سابق ،ص ٕٔ٘.
217
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
أرض فمسطين -كما في قولو القدس الحالية -منذ القرن الرابع الميالدي ،بالرغم من أن ىذا
االعتراف قد أورده صاحبو في سياق محاولتو كشف التزوير الذي طال جغرافية األرض المقدسة
كما يتوىم ويدعي ،والصحيح أن القدس حممت اسم إيميا من قبل القرن الرابع الميالدي بزمن
طويل نسبياً.
كما تجاىل الربيعي متعمداً– بيدف اإلييام والتضميل -حقيقة أن اسم (إيميا) قد ارتبط
بشكل مباشر في كل مؤلفات العرب القديمة اإلخبارية والتاريخية والمغوية والجغرافية ببيت
المقدس أو القدس ،والتي عرفت قبل أن تغمب عمييا ىذه التسمية في العصور االسالمية باسم
(أورشميم)[ٔ].
وألنو يعرف ويدرك حقيقة ذلك ،نجد مفكرنا وىو يكشف لنا عن أحد اضطراباتو النفسية
والذىنية -وىو اإلسقاط ،-فيقول" :لقد ظن الكثيرون خطأ أن (إيمو) في ىذا النص ىي ذاتيا
مدينة وميناء العقبة األردنية"[ٕ].
[ٔ] .يمكن لمباحث أن يجد كماً كبي اًر من الشواىد التي ترد في المصنفات االخبارية والمغوية والتاريخية
والجغرافية العربية القديمة بيذا الشأن ،والتي تثبت زيف ادعاءات الربيعي.
[ٕ] .فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،ص ٖٔ٘.
218
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
يأتي جواب مفكرنا بعد ذلك بقميل ،بأنيم من يصفيم ب ـ" :المتأخرين من المغويين
والجغرافيين العرب والمسممين ،الذين لم يعرفوا (إيمياء) ىذه ،ولم يميزوا أو يحددوا مكانيا.
ولذلك اختمطت صورتيا باسم الجبل أو بــ (خميج أيمو) ،حتى ظن الكثيرون أن (إيمياء) في
المرويات العتيقة ليست سوى (عقبة األردن) البمد العربي"[ٔ]!!..
ولكن ،متى خمط المغويين والجغرافيين العرب والمسممين بين إيمياء وأيمة؟! -ىذا افتراء
سافر وافك مفضوح ،وكذب مكشوف لمغاية.
ىكذا ،صار لدينا فئة جديدة يجب أن ُنقصي جيودىا بعيداً وأالَّ نتعامل معيا باإلضافة
الى فئة المستشرقين .فئة أخرى يجب أن نضرب عرض الحائط بما سجمتو في كتبيا ووثقتو في
مصنفاتيا طوال عدة قرون من عصور النيضة العربية من العصر الوسيط ،فكل من يأتي بغير
ما يدعم كالم مفكرنا يجب أالّ يؤخذ باالعتبار أبداً ،ىذا ما يريد منا المفكر الفاضل أن نفيمو
ونمتزم بو.
وعمى أساس أن اليمداني ىو مصدر الربيعي وشاىده الرئيسي ،فالبد أن يكون قصده ب ـ
(المتأخرين) كافة المغويين والجغرافيين العرب والمسممين الذين جاءوا بعد عصر اليمداني،
وعميو ينبغي أن نعتبر اليمداني آخر من كان يعمم بحقيقة أين تقع إيمياء المتُ َخيَّمة لدى مفكرنا
والتي يتوىم ويوىمنا بوجودىا!!..
وبما أن مفكرنا العبقري لم يخبرنا صراحة إن كان قد عثر فعالً عمى (أيمة) المندثرة التي
تقع عمى ساحل البحر األحمر أم ال ،وبما أن كتاب اليمداني ىو المصدر األساسي الذي اعتمد
عميو ،فإنو سيكون من المنطقي أن نتوقع أن تكون ىذه ال ـ (أيمة) مما قد ذكره اليمداني باعتبارىا
قرية أو مدينة ،ومنو استدل عمييا.
ال بأس ،ينبغي أن نتعب قميالً ،ونبحث في كتاب اليمداني عن (أيمة) ىذه التي أشار
وصرح بكل ثقة بأنيا تقع في عمى ساحل البحر األحمر .فبعد تفتيش دقيق في
َّ إلييا الربيعي
كتاب اليمداني ،اتضح أن لسان اليمن وفيمسوف العرب الثاني الذي ال ثالث بعده إلى اليوم،
وأول عالم آثار تجريبي في تاريخ البشرية ،وأفضل من قدم وصفاً جغرافياً لجزيرة العرب واليمن
حتى عصرنا الراىن ،قد ذكر اسم (أيمة) في أربعة مواضع من كتابو الشيير ،والتي نبينيا كما
يمي:
الموضع األول ،ذكر اليمداني فيو اسم (أيمة) في سياق بيانو التمييدي لمحدود الغربية
لجزيرة العرب بعد انقضاء الحد البحري الذي يمثمو البحر األحمر ،قائالً ..." :وغربييا -أي
غرب الجزيرة العربية :-شرم [أيمة] وما طردتو من السواحل إلى الُقمزم وفسطاط مصر"[ٔ].
الموضع الثاني ،ذكر اليمداني اسم (أيمة) أيضاً في سياق وصفو التفصيمي لمحدود
الغربية لمجزيرة العربية صاعداً في ذكر المناطق التي تقع في غربيا من الجنوب إلى الشمال،
قائالً ..." :ومضى إلى جدة ساحل مكة والجار ساحل المدينة وساحل الطور وخميج [أيمة]
وساحل راية -كورة من كور مصر البحرية -حتى بمغ قمزم مصر"[ٕ].
الموضع الثالث ،ويذكر فيو اليمداني (أيمة) في سياق بيانو لمنازل القبائل العربية عمى
امتداد منطقة تيامة التي تمثل طبعاً الجزء الغربي من جزيرة العرب المجاور لسواحل البحر
األحمر صاعداً نحو الموقع نفسو المحدد في الموضعين السابقين ،حيث يقول اليمداني...." :
ثم ليا ميامن البر إلى حد تبوك ثم إلى جبال الشراة ثم إلى معان راجعاً إلى [أيمة] إلى أن
تقول المغار :ىا أناذه ،والمغار منزل لمخم ثم وقعت في ديار لخم من حد المغار ثم الداروم
ثم الجفار ،والجفار رمال إلى حد الفرما وما خمف الفرما إلى مصر لمقبط"[ٖ].
أما الموضع الرابع الذي ذكر فيو اليمداني (أيمة) ،فسنؤجل بيانو والتطرق إليو إلى
المبحث الثالث من ىذا الفصل ،نظ اًر لخصوصيتو وأىميتو لدى الربيعي ولدينا نحن أيضاً.
[ٔ] .الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .ٖٜ
[ٕ] .المرجع السابق ،ص ٗ.ٛ
[ٖ] .المرجع السابق ،ص ٕٗٗ.
220
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
واضح من كالم اليمداني في المواضع الثالثة أعاله بأنو يقصد بالضبط وبالتحديد (أيمة)
التي تقع في خميج العقبة ،والتي تُعرف حالياً ب ـ (إيالت) وكانت تسمى عند العرب قديماً ب ـ
(أ يمة) ،كما أطمق عمييا في عصور الحقة حتى العصر الحديث باسم آخر ىو (أم الرشراش-
المرشش) ،وىي اليوم ميناء بحري واقع تحت وطأة االحتالل الصييوني -االسرائيمي.
علوة عمى ذلك كمو ،ال نجد في كتاب اليمداني أي إشارة إلى أي علقة بين (أيمة)
و(إيميا) التي ىي بلد الييودية العتيقة والتي تسمى أورشميم ،إذ يرد ذكر (إيميا -إيمياء) في
كتاب اليمداني في ثالثة مواضع مختمفة تماماً ،ال بأس من ذكرىا لقطع دابر الشك لدى القراء
األعزاء ،كما يمي:
الموضع األول ،في باب معرفة أفضل البالد المعمورة ،وفي سياق ذكره لممواضع والمآثر
العظيمة التي استأثرت بيا جزيرة العرب عمى سائر األرض ،وبعد أن ذكر أن فييا مكة
والمدينة ،حيث قال .." :وبيا الوادي المقدس طوى ،وطور سينا ،ومسجد إيمياء ،وآثار
األنبياء ،ومنابت األتقياء ،ومحافد األصفياء ،وعرصة المحشر وجبال الرحمة[ٔ].
الموضع الثاني ،حيث وردت فيو فقرة اليمداني موضوع الدراسة ،وال داعي إلعادة
ايرادىا.
الموضع الثالث ،في "باب فيو أبيات من الشعر" ،حيث جاء فيو قول اليمداني" :أوري
شمم ىو إيمياء"[ٕ].
نالحظ في الموضع األول أن اليمداني ذكر مسجد إيمياء في سياق أسماء أخرى توحي
داللتيا بشيء من القطع أن المقصود بو مسجد (بيت المقدس) ،فميس من ثمة أرض وصفت
بأن فييا آثار األنبياء ،ومنابت األتقياء ،ومحافد األصفياء ،وعرصة المحشر وجبال الرحمة في
كل المصنفات العربية االسالمية القديمة والحديثة إال بيت المقدس وأرض فمسطين ،فضالً عن
أن كالمو ىذا جاء في سياق ترتيب جغرافي منتظم يشير إلى تجاور المواضع المذكورة بالنسبة
لبعضيا البعض ،وىو تجاور ال يأتي عمى أي جزء من اليمن بذكر.
أما الموضع الثاني فقد سبق ووضحنا داللتو بالنسبة لتقسيم األرض المعمورة وفق نموذج
بطميموس الجغرافي الذي نقمو عنو الجغرافيون العرب ،وفي الموضع الثالث تأكيد صريح بأن
أورشميم ىي نفسيا إيميا ،وىي عمى ذلك بالد الييود العتيقة ،وبالتالي فال عالقة ليا البتة بـ (أيمة
أو إيمة /إيمو) كما ادعى مفكرنا العبقري ،بل أن (إيميا) التي ىي أورشميم مكان بعينو ىو نفسو
ما يوصف بـ بالد الييود العتيقة ،في حين أن (أيمة) مكان آخر تماماً واقع في نفس اإلقميم
الجغرافي الذي تنتمي إليو سوريا وأيدوما وبالد الييود وأرض فمسطين ،وىذا يعني أن لممكانين
مشترك جغرافي وتاريخي يربط بينيما ،إال إن ذلك المشترك بينيما ال يفضي أبداً إلى وضع
كالوضع الذي اختمقو الربيعي وتوىمو.
ىذا كمو واضح لمغاية في كتاب اليمداني وعمى أنحاء صريحة ال لبس فييا وال غموض
أبداً ،فأين ىي شيادة اليمداني التي يتحدث عنيا الربيعي؟! -الجواب ،إنيا موجودة بالفعل،
نعم موجودة في أوىامو وجغرافيتو المتُ َخيمة.
لم ينتيي األمر ،فمازال في زنبيل الربيعي الكثير من األوىام؟! -فمنرى ماذا تبقى في
زنبيمو في ىذا الشأن.
222
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
)(2
بعد ذلك الموضع الذي تعرضنا لو آنفاً ،سوف يتخمى الربيعي عن ذكر (إيميا) ويكتفي
بمعالجة األسماء المشابية لو (إيمة /أيمة /إيمون /أيمون) والتي تعمد الخمط بينيا من قبل لتضميل
القارئ واييامو بأنو قد استثمر شيادة اليمداني وعالجيا عمى نحو يتضح معو كيف أنيا تدعم
ونائي من المجمد الثاني لكتاب "فمسطين المتُ َخيَّمة" ،يقف مفكرنا
ٍ أوىامو .ففي موضع قصي
العمالق عمى نص توراتي من (سفر يشوع ،)ٖٜ -ٖٕ :ٜٔ ،نقتبسو من الترجمة العربية لمعيد
ف ِم َن ٱلْبَُّموطَة."...
ان تُ ْخمُيُمْ ِم ْن َحالَ َ
ب عَشَ ِائ ِرِىمَْ .وكَ َ
القديم"ِ :لبَِني نَفْتَ ِالي َحسَ َ
ترجم الربيعي ىذا النص من النسخة العبرية إلى العربية -بطريقتو كما قال -عمى ىذا
النحو" :لبني نفتمي وعشائرىم ما أقبل من –وادي -حمف ،ومن إيمون.]ٔ["...
الفرق بين الترجمتين التقميدية والربيعية ليذا النص ،ىو أن الربيعي أجرى بعض
التعديالت الشكمية في رسم بعض األسماء (نفتالي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ حولو إلى ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ نفتمي) (حالف ـ ـ ـ ـ ـ ـ حوليا
إلى ـ ـ ـ ـ حمف) ،وأضاف من عنده صفة طبوغرافية لممكان الذي اسمو (حالف) ليصبح (وادي
حمف) وىذه الصفة الطبوغرافية ليست موجودة عمى اإلطالق في األصل العبري الذي ترجمو،
وانما استمدىا من اليمداني حيث وجد في كتابو وادياً اسمو (وادي حمف) ،وألن صاحبنا
امتين البحث عن المتشابيات ،فقد أعطى لنفسو الحق في إضافة عبارات إلى النص التوراتي
نيابة عن ييوه كيفما شاء..؟!!
أما (البموطة) المذكورة في الترجمة التقميدية فقد حوليا الربيعي إلى (ايمون) ،وذلك عمى
أساس ما ىو متداول في تفاسير التوراة وترجماتيا من أن معنى اسم (ايمون) ىو (بموطة) ،وعمى
[ٔ] .فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .ٖٕٛ
223
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
ىذا يبدو إجراءه ىنا سميماً وال تشوبو شائبة ،غير أن الحقيقة عمى العكس من ذلك قطعاً وقطعاً
وقطعاً.
إن ىذا االجراء الذي قام بو مفكرنا ليس صحيحاً أبداً ،ألن اسم (البموطة) في ىذا النص
بالذات ال يشير أبداً إلى ذلك الموضع الذي يرد في التوراة باسم (ايمون) والذي يعني (بموطة).
فيذا الموضع األخير ُيشار إليو دائماً في التوراة باالسم نفسو (ايمون) وليس بمعناه ،ولو كان ىو
المقصود في ىذا النص لذكر باسمو كما جرت العادة بذلك دائماً وليس بإيراد معناه.
يرد اسم (ايمون) متكر اًر -مرة بيمزة فوق ومرة أخرى بيمزة تحت بما يشير الى موقعين
اثنين حمال معاً التسميتان المتشابيتان -في مواضع متفرقة من أسفار التوراة .كما في النص
من (سفر يشوع -)ٕٗ : ٜٔ ،والذي سوف يستخدمو الربيعي في الموضع الثالث من كتابو كما
سيأتي بيانو .وفي نص آخر من (سفر يشوع ،)ٕٗ :ٕٔ ،يرد ذكرىا كأرض أعطيت لبني
قيات" :ومن سبط دان التقى ومسرحيا وجبثون ومسرحيا .وايمون ومسرحيا وجت رمون
ومسرحيا اربع مدن ...كل المدن عشر مع مسارحيا لعشائر بني قيات الباقين".
كما يصفيا (سفر القضاة )ٖ٘ : ٔ ،بأنيا أرض لألموريين .." :فعزم األموريون عمى
السكن في جبل حارس في ايمون وفي شعمبيم وقويت يد بيت يوسف فكانوا تحت الجزية".
ونجدىا أيضاً في سياق حروب يني اسرائيل مع الفمسطينيين في (سفر صموئيل األول:ٔٗ ،
ب ِجدًّا" .وفي
َعيَا الشعْ ُ اس ِإلَى أَيمُ َ
ونَ .وأ ْ ضربُوا ِفي ِذل َك الْيَوِم الِْفِمس ِط ِينيِّ َ ِ ِ
ين م ْن م ْخمَ َ ْ ْ ٖٔ)" :فَ َ َ
ُّون مدُ َن السو ِ
اح ِل َو َجنُوِبي يَيُو َذا، ِِ ِ ِ
َ (سفر أخبار األيام الثاني" :)ٔٛ : ٕٛ ،واقْتَ َحمَ الْفمسْطيني َ ُ
وت َوسُوكُو َوقُ َراىَاَ ،وِتمْنَ َة َوقُ َراىَاَ ،و ِحمْ ُزو َوقُ َراىَاَ ،وسَكَنُوا
ير َ س وأَيمُ َ ِ
ون َو َجد ُ ت شَمْ ٍ َ
َوأَ َخ ُذوا بَيْ َ
ىُنَا َك" .وأيضاً مرة أخرى في (سفر أخبار األيام الثاني )ٔٓ :ٔٔ ،يرد ذكرىاَ .." :وصَ ْرعَ َة
ين ،مدُنًا َح ِ
صينَ ًة". ِ ون وحَبْر َ ِ ِ
ون التي في يَيُو َذا َوبَنْيَام َ ُ َوأَيمُ َ َ ُ
وىذا مفاده أن (البموطة) المذكورة في النص الذي عناه الربيعي أعاله ،ال يمكن أن يكون
ىو المقصود بأيمون أو إيمون ،ألن ىذين الموضعين وفق النصوص التوراتية موضعان ال عالقة
ليما بأيمة أو إيميا عمى نحو ما يصفو مفكرنا ويدعيو ،وىذا بدوره يشير الى أن الربيعي لم
224
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
يمتزم حتى بما جاء في التوراة نفسيا ،فعمد الى تقديم تفسير مناقض ليا تماماً ،وال نعرف
ماذا تبقى من صدقية التوراة أو من صدقية مفكرنا بعد ىذا كمو.
كما أن اسم البموطة في النص التوراتي أعاله يرد ُم َّعرفاً ،فمو كان المقصود بو (ايمون)
فعالً لجاء ذكره بإيراد معناه ىكذا (بموطة) -أي غير ُمعَّرف بأداة التعريف سواء في األصل
العبري أو في الترجمة العربية ،وىذا كمو يؤكد عمى أن المقصود ب ـ (البموطة) مكان آخر غير
(ايمون).
كان ىذا من ناحية اجراء الترجمة الذي ادعى الربيعي أنو قام بو .أما اإلجراء التفسيري
الذي قام بو لتحديد المقصود بيذا المكان الذي يدعى (البموطة) والذي اعتبره ىو المقصود دائماً
ب ـ (ايمون) ،فمسوف تثير اعجابنا ودىشتنا العبقرية الفذة التي كشف عنيا صاحبنا في تفسيره
ليذه المسألة!!..
من األفضل أن نق أر حرفياً ما كتبو المفكر الفاضل بيذا الشأن ،إذ يقول[ٔ]:
(بُمْطة) ..االسم في العبرية ىو( :ءيمون) ،وقد تمت مكافأة ءيمون العبرية بالكممة العربية
(بموطة) لتصبح الجممة عمى النحو التالي" :ما أقبل من حمف من بُموطة" .والترجمة الصحيحة ىي
النحو التالي" :وما أقبل من وادي حمف ومن أيمون" ،ويبدو من بعض المرويات واألشعار القديمة ،أن
القبائل العربية تعرف ىذا المكافئ لمكممة العبرية ،وىي استخدمتو دون االضطرار إلى استعمال كممة
(ءيمون) المندثرة .قال امرؤ القيس:
نزلت عمى عمرو بن درماء بمطة *** فيا خير ما جار ويا حسن ما محل
يقول ياقوت نقلً عن البكري :بمطة موضع في جبال طي .وقال األصمعي :ىضبة بعينيا ،وقال
السكري" بمطة عين ماء ونخل وواد من أرض قبيمة طمح بن درماء .وقال الشاعر الطائي سلم بن
درماء:
إذا ما غضبت أو تقمدت منصمي *** فألياً لكم في بطن بمطة مشرب
[ٔ] .فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .ٖٖٛ
225
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
ىذا ىو وادي بمطة الخصب الذي تغني بو الشعراء ،وفيو منازل عامرة ونخيل في بلد طي
قرب نجران ،ولنلحظ وصف يشوع لمنازل سبط نفتمي ،فيي تمتد من حمف فالبموطة ثم تتجو نحو
وادي ءزنت (أذنة) ،ومنيا إلى أرض زبالة -زبولون .ىا ىنا مقاربة بين نصي يشوع واليمداني!!...
نلحظ أوالً ،أن الربيعي بحث عن البموطة في كتاب اليمداني فمم يجدىا أبداً ولم يجد ليا
شبياً حتى ..فماذا فعل؟! -استنجد ب ـ "معجم البمدان" ل ـ (ياقوت الحموي) ليجد ضالتو لديو ،وىي
(بْمطة) ،ىكذا أي واهلل!!..
فالبمُوطة أصبحت بقدرة قادر ُ
(بْمطة)ُ ..
ُ
األمر الثاني ،أن الربيعي أورد (بموطة) في تفسيره كذا مرة غير ُم َّعرفة ،وىذا يدعم ما
أشرنا إليو قبل ذلك عن الخطأ المتعمد الذي قام بو في اجراء ترجمتو المزعومة .ومن حيث قد
يظن القارئ العزيز أن مثل ىذا الخطأ يسير وليس ذو أىمية ،نقول لو كان كذلك لما لجأ إليو
مفكرنا أوالً ثم تعامل مع ما ىو مفترض أن يتعامل معو منذ البداية ..ىذه أمور بالغة األىمية
في الترجمة وال يمكن التغافل عنيا أو التقميل من شأنيا إطالقاً ،بل أن مفكرنا يؤكد لنا عمى مثل
ىذه القواعد اليامة في سياقات متعددة من كتابو المخيالي.
عالوة عمى ذلك ،ينبغي أن نمفت عناية القراء األعزاء إلى ذلك الفرق الشاسع بين اسم
(بْمطة) ،إذ ال يوجد أي اعتبار منطقي أو أساس لغوي يمكن أن يجعل
(البموطة -بموطة) واسم ُ
اء من حيث التركيب أو من حيث المعنى والداللة -متكافئان ،وىذا بحد
من ىذين االسمين -سو ً
ذاتو يجعمنا نتساءل عن وجو العالقة بين البموطة التي ورد ذكرىا في النص التوراتي وبين
(بْمطة) التي لم يجدىا الربيعي عند اليمداني ووجدىا عند الحموي؟!
ُ
طبعاً ،ال شيء سوى التشابو المفظي ومنيجية االنتقاء واالقتصاص التي مارسيا
الربيعي عمى مصادره طوال صفحات كتابو!!..
226
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
من أجل ذلك ،البد من التأكيد عمى بعض الحقائق الثابتة فيما يتعمق باألسماء الجغرافية.
إذ تنشأ األسماء الجغرافية عادة في إطار البيئة التي تجمع بين االنسان والطبيعة من حولو.
فاالسم الجغرافي ليس لفظة طفيمية تنبت دون جذور ،بل ىو تعبير عن انتماء المكان إلى ثقافة
معينة ،واحتواء لرقعة جغرافية محددة أيضا .وىو – باإلضافة إلى ذلك– تعبير لو عالقة بمسألة
الوجود وحب البقاء وما تشكمو من خطورة في حمبة الصراع األبدي بين اإلنسان واإلنسان وبين
اإلنسان والطبيعة[ٔ] .وعميو ،فإن أسماء األماكن الجغرافية تجسد الثقافة السائدة في محيطيا
وتعكس الظروف الطبيعية والبيئية واالجتماعية والتاريخية التي تساىم في تشكيل تمك الثقافة
حدث ما أو تاريخ معيَّن أو معمم طبيعي محدد من نباتات
ٌ وتحويرىا ،بحيث يعبر االسم عن
وأشجار وحيوانات وتضاريس ،وبيذا كمو تكتمل بصورة تاريخ الموقع وجغرافيتو وحضارتو وبيئتو
في نفوس وذاكرة وضمائر الجميع.
بال شك ،فإن ىذه الحقائق تنطبق تماماً وكمياً عمى ما نحن بصدده ىنا ،ومما ىو معموم
وشائع أيضاً من الناحية المغوية والجغرافية والتاريخية .فالبموطة مفرد وجمعيا البموط وىو نوع
مر التاريخ وحتى عصرنا الراىن ،اشتيرت
من األشجار التي تعرف أيضاً ب ـ (السنديان) .وعمى َّ
فمسطين بغابات وأحراش أشجار البموط في جباليا ،وىي أشجار تتمتع بقدرتيا العالية عمى
مقاومة الظروف الطبيعية ،وبقدرتيا عمى النمو حتى في المناطق التي ال تنزل فييا األمطار
بغ ازرة ،وغالباً ما ترتفع أشجار البموط كثي اًر عن سطح األرض بحيث يصل ارتفاعيا أحياناً إلى
عشرين مت اًر في بعض المناطق ،وتنمو ىذه الشجرة في جميع أنواع األتربة ولكنيا تفضل التربة
الحمراء العميقة وتنتشر في المناطق الجبمية والساحمية من فمسطين ،بل أن ثمة نوع من ىذه
األشجار اشتير عمى مر التاريخ ب ـ "البموط الفمسطيني" .وىذا يعني أن أشجار البموط تعد مممحاً
بيئياً وطبيعياً من المالمح المميزة لمجغرافية الفمسطينية عمى مر العصور.
[ٔ] .رشيد حميم :عمم اإلسمائية عالقتو العممية واجراءاتو -دراسة طبونيمية لموقعين ،مجمة المغة العربية،
المجمس األعمى لمغة العربية ،الجزائر ،العدد ( ،)ٖٚالثالثي الثالث .ٕٓٔٚ ،ص ص ٖٕٔ .ٖٔٛ -ص
.ٕٔٚ
227
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
وفي فمسطين أيضاً ،ىناك نوعان شييران من البموط الفمسطيني ،نوع يعرف بالبموط أو
السنديان العادي ،ونوع آخر يعرف بالممول .إذ تنتشر شجرة البموط العادي أو السنديان في جبال
مترا،
الخميل والقدس ونابمس وبيت لحم ،وىي شجرة دائمة الخضرة ،يصل ارتفاعيا إلى (٘ٔ) ً
تزىر في شيري آذار ونيسان ،تنمو في التربة الجبمية الحمراء ،تحتاج إلى أمطار أقل من
سنويا .أما شجرة البموط "الممول" ،فتنتشر في جبال شمال فمسطين،
ً ٓٓٗ ممم من مياه األمطار
وال تختمف خصائصيا كثي اًر عن النوع األول ،ولكن يميز بينيما أىل الخبرة من سكان المكان.
صورة رقم (ٔ) :لوحة تصور بموطة سيدنا إبراىيم في الخميل الفمسطينية في بدايات القرن العشرين
لقد اشتيرت مواضع جغرافية بعينيا في فمسطين بتسميتيا بموطة كذا ،عمى غرار (بموطة
سيدنا إبراىيم) نسبة إلى النبي إبراىيم عميو السالم ،الموجودة عمى مرتفع مطل عمى مدينة
228
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
الخميل ،يقع في محيط مبنى كنيسة المسكوبية الروسية القائمة لميوم ،والتي يقال بأن عمرىا
ويشار إلى ىذا المكان بأنو المكان الذي نزلت فيو العائمة اإلبراىيمية
ينوف عن (ٓٓٓ٘) سنةُ ،
لدى وصوليا مدينة الخميل.
صورة رقم (ٕ) :بموطة سيدنا إبراىيم سنة ٓ٘ ،ٔ5يظير إلى جوارىا الحاج أحمد عبد الرازق زبمح البسطامي
من أىالي مدينة الخميل ومعو أطفالو شريف ووحيد وفيصل ،والذين مازالوا أحياء لميوم بعد وفاة والدىم رحمو
اهلل.
يخبرنا بعض أبناء فمسطين ،إن تسمية األماكن في فمسطين نسبة إلى أشجار البموط عادة
قديمة جداً ،تعزى إلى كون البموط من األشجار المعمرة نسبياً ،فمنيا ما تتجاوز أعمارىا ألف
عام وربما أكثر ،كما ترتبط بعض أشجار البموط بمعتقدات قديمة ،ومثال ذلك :بموطة شييرة
ينسب إلييا الييود أفعاالً خارقة توجد في منطقة قريبة من حيفا ،حيث يذىبن إلييا عادة الفتيات
الراغبات بالزواج ،ويقمن بربط مناديمين قرب الشجرة وعمى فروعيا ،كي تتحقق أمانيين ،حتى
تحولت الشجرة إلى مزار.
229
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
ومن عادات الفمسطينيين القديمة والموغمة بالقدم والمستمرة لميوم ،زراعة أشجار البموط في
مناطق معينة لرسم وتعميم الحدود الفاصمة بين الممكيات الخاصة ،إذ أن وجود شجرة بموط في
أرض ما يمثل دائماً لمالك األرض نقطة احداثيات ىامة وعمى ضوئيا يتم ترسيم الحدود بين
الممكيات المتجاورة ،تماماً كما يشير إلى ذلك النص التوراتي.
صورة رقم (ٖ) :صورة حديثة لكنيسة المسكوبية في الخميل حوليا أشجار البموط الفمسطينية حيث توجد
بالقرب منيا بموطة سيدنا ابراىيم العتيقة.
كما نجد أن شجر البموط حاضر بقوة في أدب وتراث الشعب الفمسطيني منذ القدم ،بما
في ذلك األمثال الشعبية عمى غرار" :أجا من يعرفك يا بموط" ..وىو مثل ُيقال لمشخص الذي
يدعي ما ليس فيو ،فيما يشبو التشفي عندما يأتي شخص آخر يعرف حقيقتو.
ىذه معمومات عامة ال يجيميا أي مطمع عمى جغرافية فمسطين ،وبمستطاع أياً كان أن
يتحقق منيا كيفما شاء ..وال تحتاج منا إلى إثبات نسب أو بيان مصدر ألن مصدرىا ىو
الواقع الفعمي.
230
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
في المقابل ،فإن األجزاء الصحراوية من جزيرة العرب واألجزاء الجبمية في الغرب
والجنوب منيا وبالتحديد نجد والعروض والحجاز واليمن ال تعرف ىذا النوع من األشجار ،نظ اًر
لعدم توفر المناخات المالئمة لنموىا في ىذه المناطق ،فيي من األشجار التي تنبت في
المناطق التي يسود فييا مناخ البحر المتوسط ،ومناخات األجزاء الشمالية من الكرة األرضية،
وان وجد ىذا النوع من األشجار في بعض تمك األجزاء من جزيرة العرب فإن ذلك يكون من
أسماء أخرى غير البموط والسنديان.
ً النوادر ،وغالباً ما ُيطمق عمييا
(بْمطة) -بضم ثم سكون -بحسب ما جاء في لسان العرب .فبمطة واآلن ،نأتي إلى اسم ُ
ط فيو ُمْبمَطٌ ق باألَرض وأُْبمِ َ
ط لَ ِز َ الم ْف ُروشةُ في َّ
الد ِار ..وأَْبمَ َ مشتقة من بالط وأبمط وتعني الحجارة َ
عمى ما لم ُي َس ّم فاعمو افتقر وذىب مالُو وأَْبمَطَ فيو ُمْبمِطٌ ِإذا ق ّل مالو قال أَبو الييثم أَْبمَطَ ِإذا
ت عمى عَمْرو بن دَ ْرماءَ بُمْط ًة *** فيا كُ ْرمَ ما ٍ
جار امرؤ القيس :نَ َزلْ ُ
بالبالط .قال ُ
فمزق َأَ ْفمَس ِ
ح ْل .أَراد فيا كرم جار عمى التعجب .قال واختمف الناس في ُبْمطة فقال بعضيم ويا كُ ْرم ما مَ َ
ودى اًر وقال آخرون بمطة أَراد داره أَنيا ُمَبمَّطةٌ
ماء ُبمطة أَي ُب ْرىة َ
يريد بو حممت عمى عمرو بن َد ْر َ
مفروشة بالحجارة ويقال ليا البالط"[ٔ] -انتيى كلم ابن منظور.
نخمص من ذلك ،إلى أن ىناك فرقٌ شاسعٌ بين اسميّ بموطة وبمطة ،وىو فرق يؤكد
عمى أنو إذا كان اسم بموطة التوراتي ينتمي إلى مجال أو فضاء جغرافي ما ،فيو فضاء
الجغرافية الفمسطينية ،وليس جغرافية اليمن أو نجد أو الحجاز أو العروض .ونخمص أيضاً
الى أن البموطة التي ىي شجرة ال يمكن أن تتحول بأي حال من األحوال إلى بلط من
األحجار مفروش في دار عمرو بن درماء ،أو أن تصبح -بين عشية وضحاىا بسبب تمفيق
لغوي -نخمة في واحة من واحات صحراء النفوذ والدىناء أو الربع الخالي ،كما لن يفمح رسم
الضمة والسكون في التقريب بين االسمين أبداً.
[ٔ] .أبو الفضل ابن منظور :لسان العرب ،دار صادر ،بيروت( ،ب .ت) .باب (بمط) .ٕٙٗ /ٚ ،ترقيم (م.
ش).
231
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
األدىى من ذلك كمو ،أن ُبْمطة التي حددىا الربيعي وأحميا محل البموطة التوراتية من
الناحية الجغرافية ،تعد بالفعل من المناطق التي تقع أصالً خارج حدود جغرافية اليمن الخضراء
كما حددىا اليمداني ،وليس فقط بمطة بل اتضح لنا من خالل البحث في كتاب "فمسطين
كثير من تحديدات مؤلفو واقعة بالفعل خارج نطاق جغرافية اليمن الطبيعي ،وىذا
اً المتُ َخيَّمة" أن
أمر يثبت حقيقة الفوضى التي يضج بيا الكتاب ،ومن قبمو الفوضى التي في عقل مؤلفو.
لننظر الى تحديد الربيعي لموقع (أيمون) التي حدد بأنيا (بمطة) النجدية ،إذ يقول" :ىذا
ىو وادي بمطة الخصب الذي تغني بو الشعراء ،وفيو منازل عامرة ونخيل في بلد طي قرب
نجران ،ولنلحظ وصف يشوع لمنازل سبط نفتمي ،فيي تمتد من حمف فالبموطة ثم تتجو نحو
وادي ءزنت (أذنة) ،ومنيا إلى أرض زبالة -زبولون[ٔ].
تقع (عين بمطة) التي قصدىا امرؤ القيس وغيره من الشعراء والتي اشتيرت بأنيا أرض
عمرو بن درماء في الجاىمية بالقرب من جبال (أجا) من أرض قبيمة طي الشييرة في منطقة
حائل النجدية ،في االحداثيات (ٖٕٓٚ,ٕٛ,عرض) ( ٗٔ,ٕٜ,ٜٔطول) ،وبالقرب من سد
حديث يعرف ب ـ "سد السمف" ،أما وادي أذنة ،فيو الوادي الشيير الذي يقع فيو سد مأرب القديم.
نالحظ من الخريطة أدناه ،أن (بمطة) التي حدد الربيعي بأنيا ىي المقصودة بالبموطة في
النص التوراتي ،والتي ىي أيضاً (أيمون) -ال ندري إن كانت حاضرة البحر عنده أم حاضرة
الجبل -تقع خارج نطاق جغرافية اليمن الطبيعي كما حددىا اليمداني .ثم نالحظ أن المسافة
بينيا وبين نجران تبمغ حوالي ( )ٜٔٙٓكم ،والمسافة بينيا وبين وادي أذنة البد وأن تكون أكثر
م ن ذلك ،فيل يعقل أن تكون كل ىذه المساحة الشاسعة قد أعطيت لسبط نفتمي؟ ثم ،ماذا عن
بقية المواقع األخرى التي ذكرىا النص التوراتي ضمن منازل ىذا السبط؟! ثم ،ماذا تبقى
لألسباط اآلخرين من األرض حتى توزع بينيا؟! -وياترى بعقل من من البشر يمكن أن يصدق
عمى ىذه المسافات الشاسعة تعبير الربيعي بأنيا بال ـ قرب من نجران" بينما تخبرنا التوراة عن
أرض وزعت بين األسباط كانت تقاس مساحاتيا ب ـ (الذراع)؟!
[ٔ] .فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .ٖٖٛ
232
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
خريطة رقم (ٔ) :موقع (بمطة) بالنسبة لنجران ووادي أذنة في مأرب
وعندما ننظر الى الخريطة التي قدميا لنا الربيعي والتي توضح نطاق أراضي سبط نفتمي
كما رسميا ىو ،فإننا نتساءل :أين ىي بمطة التي أخبرنا عنيا بأنيا تقع ضمن منازل سبط
نفتمي ،فالخريطة التي قدميا لنا تظير لنا أن منازل ىذا السبط بالكاد اقتربت من نجران ،ولم
تشمل وادي أذنة في مأرب ،فمماذا لم يدرج الربيعي بمطة ضمن مساحة أرض ىذا السبط في
خريطتو؟!
الجواب واضح وبسيط ،وىو ألنيا تقع بعيداً عن حدود اليمن الطبيعية ،وألن الربيعي
يعتمد عمى جيل القراء بالجغرافيا ،وعمى انقيادىم األعمى وراء ادعاءاتو وأوىامو الممفقة.
233
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
[ٔ]
خريطة رقم (ٕ) :حدود أرض سبط نفتمي كما حددىا ورسميا فاضل الربيعي
األمر نفسو نجده في التحديدات الجغرافية األخرى لمربيعي ،مثل تحديده لموضع (نير
زارد) التوراتي بأنو (وادي زرود) الذي يقع ىو اآلخر في منطقة حائل خارج جغرافية اليمن
الطبيعي -بالقرب فعالً من موقع بمطة الذي حدده ،-والذي يصفو بأنو ب ـ (القرب من جبل الرما
من بلد القبيطة -محافظة لحج ،جنوب غرب اليمن) ،فيما الموقعان تفصل بينيما مسافة
شاسعة تبمغ أكثر من (ٓٓ )ٔٙكم!!..
[ٔ] .فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،في ممحق الخرائط ،ص ٓ.٘ٙ
234
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
خريطة رقم (ٖ) :موقع وادي زرود في حائل بالنسبة لجبل الرما في بلد القبيطة
بل شك ،فإننا وفق ىذه التحديدات سنتصور الجزء األخير فقط من رحمة الخروج التي
قام بيا بني اسرائيل بقيادة النبي موسى من موقع عصيون جابر قرب أيمة الى موآب ،عمى
نحو تبدو فيو بحق رحمة فوضوية ومستحيمة الحدوث!!..
وىكذا ،فإن ىذه الممارسات اإلجرائية االنتقائية واالعتباطية التي ال تستند إلى منيج وال
إلى قاعدة عممية أو أساس موضوعي ،أمر شائع جداً في كتاب الربيعي من حيث أقام جميع
مقارباتو عمى التشابو المفظي أساساً ،ثم عمى الشعوذات التأويمية والقعقعات الفوضوية التي ال
تُحيل إال إلى أوىام تكونت في مخيمتو وسعى عمى نحو مفرط إلى إييام القراء بأنيا أدلة تدعم
نظريتو ،وال عالقة ليا بعمم الجغرافيا وحقائقو ال من قريب وال من بعيد.
235
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
)(3
َ َّ
فىضى اجلغرافيت املتخيلت
فضالً عما سبق ،يمكن التماس المزيد من تمك الممارسات اإلجرائية المضممة والخادعة
بوضوح أكثر من خالل التحول إلى الموضع الثالث واألخير من المواضع الثالثة النائية والقاحمة
التي يفترض أن مفكرنا قد عالج وفسر لنا فييا ما حممتو لنا فقرة اليمداني بشأن موقع بالد
الييود من إيميا والتي تسمى أورشميم.
لقد رأينا أن نسير عمى ىدي إيقاع الربيعي وأن نتبعو في ذلك من البداية إلى النياية،
لنكون قادرين عمى معرفة إلى أي مدى قدم معالجة مقنعة تستند إلى أسس منطقية ومنيجية،
وتتضمن قراءة عممية وموضوعية ،وسوف نتعرف في السياق التالي عمى تحديداتو المغوية
والجغرافية لمنازل سبط دان كما جاء سفر يشوع بن نون من جية ،وفي ضوء المقابالت
اإلسمية التي وجدىا في كتاب اليمداني من جية أخرى.
ففي إطار البحث عن منازل سبط دان ،يطالعنا الربيعي بتفسيره لالسمين المتشابيين
ِ الواردين في النص التوراتي من (سفر يشوع"ِ :)ٗٛ -ٗٔ :ٜٔ ،ل ِسبْ ِط بَِني دَ َ
ب عَشَائ ِرِىمْان َحسَ َ
سَ ،وشَعَمَبيْ ِن َوأَيمُ َ
ون ير شَمْ ٍ ان تُ ْخمُ نَ ِصيِب ِيمْ صَ ْرعَ َة َوأَ ْ
شتَأُو َل َو ِع َ َخ َر َج ِت ٱلْقُ ْرعَ ُة ٱلساِبعَ ُةَ .وكَ َ
ون ،"..تحت عنوان فرعي( :إيْموَ وأيْمو) ،ويقدم آخر معالجاتو بشأن ون َوِتمْنَ َة َوعَقْ ُر َ
َوِيتْمَ َةَ ،واِيمُ َ
ما يفترض أنو تفسير متصل بشكل أو بآخر بما جاء في فقرة اليمداني.
يترجم مفكرنا ىذا النص ليشوع ،ىكذا" :ولسبط دان وعشائرىم يخرج سيميم السابع،
مرتفاعاتيم وأغوارىم :ضرعة وءشتءل ،وقرى شمس ،وثعمبين و(إيمو) ويثمث و(أيمة) ،وتمنة
وعقرون.]ٔ[ "..
[ٔ] .فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .ٖٜٙ
236
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
وبعد أن استعرض وحدد مواقع األسماء السابقة في النص عمى اسمي (إيمون ،أيمون)،
نجده يقول[ٔ]:
"كل ما تبقى من منازل ىذا السبط – سبط دان -ىو (ءيمون) و(ءيالون) وىما اسمان يُحيلن
قارئ النص التوراتي إلى اسم ورد في منازل سبط نفتمي ويكافئو المترجمون بكممة (البموطة) .إن
تكرار مثل ىذه األسماء في قوائم يشوع ،ىو الذي أثار الحيرة والفوضى في أشكال رسميا ،فيل نحن
أمام موضع واحد أم ثلثة مواضع يحمل كل منيما االسم نفسو؟ أم أننا حيال موضعين حقيقيين
يحملن اسم (ءيمون وءيالون) بالمد؟
لقد آثرنا ترك ىذين االسمين لمعالجتيما في ىذا الحيز من الفصل ألسباب تقنية ،تتصل
بالرغبة في عرض مقاربة جديدة بين نصوص يشوع واليمداني ،ومن أجل إزالة االلتباس الناجم عن
القراءة االستشراقية .وىي قراءة فاقمت من غرائبية أسماء المواضع في فمسطين المتُ َخيمة .إن
فمسطين الحقيقية ال تعرف قط ،موضعاً يحمل مثل ىذا االسم ،وليس ثمة أثر لغوي أو جغرافي أو
ثقافي دال عميو .وعمى الضد من ذلك نستطيع الوصول إلى ىذين الموضعين إذا ما تتبعنا وصف
يشوع واليمداني لتيامة اليمن ،أي في المكان نفسو الذي وجدت فيو سائر المنازل السابقة .إليكم
الملحظات التالية:
طبقاً لمقاعدة المغوية المستنبطة من فيم القدماء لوظائف الحروف اللحقة واللصقة في
األسماء اليمنية (مثل الياء المثناة من تحت في أول االسم :يعرم ،يعرب ،يكرب ،وىي :عرم ،عرب،
كرب ،ومثل ييوذه -ىوذه) بوصفيا طريقة نطق تدخل في نطاق العادات الصوتية القديمة ،وكذلك
النون التي يسمييا اليمنيون (النون الكلعية في صعدة وسواىا من المخاليف) والتي تمحق بأواخر
األسماء ،فإن اسم الموضع األول -أي ءيمون -ىو (إيمو) -بيمزة من تحت -أما اسم الموضع
الثاني فيو (أيمو) -بيمزة من فوق -والفرق واضح بينيما.
ىذا التمييز بين االسمين ينسجم كل االنسجام مع الرسم العبري ليما .وألجل توضيح ذلك ىنا
بيت من قصيدة لحسان بين ثابت:
رأيت وأصحابي بأيمة موىناً *** وقد غار نجم الفرقد المتصوب
فمماذا اختمف شعراء االسلم المبكر ثم األموي وقبميما الجاىمي في رسم اليمزة؟ تماماً كما
اختمف الرسم العبري في رسم االسم بالقصر والمد (ءيمون ،ءيالون)؟ ىل نعد ىذا التفاوت الطفيف
جوىرياً من حيث داللتو؟ وىل يتضمن إشارة قوية عمى معرفة مبكرة ومباشرة بمكانين حقيقيين؟ لقد
عرف الشعراء العرب في واقع األمر جبلً بعينو من جبال تيامة يدعى (أيمة) ىو شعبة من جبل
رضوى ،في سمسمة جبال ينبع عمى البحر األحمر ،وفيو عيون ماء عذبة كما يقول اليمداني:
الرسيسان ضاس جبل إلى جنب رضوى ،و(أيمة) أيضاً جبل".
"ومجالخ من أودية تيامة الحجازِّ ،
ىذا ىو الجبل (أيمو -ءيمون) الذي عناه كثير في قصيدتو ،ضمن سمسمة جبال ينبع.
أما (إيمو -ءيالون) في قصيدة حسان فيو اسم المدينة القديمة والمندثرة التي ارتبطت
بأسطورة (إيمو بنت مدين -مدين في التوراة عاصمة ساحل البحر األحمر عمى مقربة من حمي ،وقد
ذكرىا القرآن لشيرتيا في سورة األعراف كمدينة ييودية .وىذه بالضبط ىي التي عناىا حسان بن
ثابت في قصيدتو.
وايمو المدينة ىذه ال علقة ليا باسم خميج العقبة (أيمو) كما يتوىم االستشراقيون ،بل ىي
المدينة الدارسة التي ظيرت ذات يوم في سواحل البحر األحمر ،ثم نقمت القبائل اسميا إبان اليجرة
الكبرى إلى بلد الشام وظمت مرتبطة بأساطيرىم عن مدين القديمة وقوم مدين ونبييم شعيب.
إننا ال نعرف من التاريخ الغابر اسم مدينة ييودية ،كانت عاصمة (حاضرة البحر) في
فمسطين .لكننا نعمم من تمييزات الشعراء والمرويات القبمية والقرآن أن حاضرة من حواضر البحر
األحمر ظيرت بالفعل ذات يوم عمى الساحل ،ارتباطاً بمروية اسطورية عن إيمة بنت مدين (في ساحل
تيامة غير بعيد من جبل أيمو).
واذا كانت (ءيمون) تعني في العبرية بموطة ،وىو ما فيمو المترجمون من جممة (من حمف
من ءيمون -في سبط نفتمي -فإن المقصود بيذا الموضع في قائمة نفتمي وليس في قائمة سبط
ييوذا ،وانما ىو جبل أيمو حيث وادي حمف .وبالطبع ليس ثمة وادي حمف قرب العقبة في األردن،
كما ال يوجد جبل يدعى أيمو ىناك.
الفارق بين االسمين أن أحدىما يشير إلى مدينة زائمة وآخر إلى جبل".
238
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
ىكذا أوصمنا الربيعي في معالجتو ىذه الى الموضع الرابع من كتاب اليمداني الذي ذكر
أجمنا التعرض ليا من قبل حتى
فيو (أيمة) أخرى غير (أيمة) التي في العقبة األردنية ،والتي ّ
الرسيسان
نصل الى ىذا المكان ،حيث أشار اليمداني الى أن" :من أودية تيامة الحجازِّ ،
ضاس جبل إلى جنب رضوى ،و(أيمة) أيضاً جبل"[ٔ] .ولكن دون أن يذكر شيئاً عن حاضرة
البحر أو حاضرة الجبل.
أوالً ،ال عالقة ليذا كمو ب ـ ببالد الييود العتيقة (إيمياء) التي ىي أورشميم المقصودة في
فقرة اليمداني .أما حديث الربيعي عن الزوائد والمواصق من الحروف فال يمت الى حقيقة ما
أشار إليو بصمة الى اإلطالق .فالنون الكالعية تسمية مبسترة يستخدميا الربيعي وال أصل ليا
في ثقافة اليمنيين القدماء ألن وجود ىذه النون لدييم أقدم بكثير جداً من تاريخ القيالة الكالعية،
بل ىي نون سبئية عرفتيا كل كتابات وليجات سبأ القديمة ،وىي ترد نوناً مفردة ال يسبقيا واو
أبداً ،بل أن الزائدة (ون) معروف عنيا أنيا شائعة في أسماء األعالم والمناطق الواقعة في
جغرافية بالد الشام القديمة وفي مقدمتيا أرض فمسطين.
أما ياء التأليف التي تنوب عن األلف في بدايات األسماء ،فقد جرت عادة اليمنيين
القدماء أن يستخدموىا في أسماء األعالم البشرية تنزيياً لأللف المقدسة عن أن تكون أداة
تعريف ألسماء البشر فيما ىي باألساس اسم وأداة تعريف إليية حسب معتقداتيم آنذاك ،وذلك
عمى غرار (أحمد= يحمد ،عمي= يعمي ،اخضب= يخضب ..الخ) ،ومن ثم فيذه القاعدة لم
تطبق أبداً عمى أسماء األماكن الجغرافية ما لم تُسمى بأسماء رجال أو أعالم قبمية ،ويمكن لمن
شاء أن يتحقق من ذلك بمراجعة جميع التسميات اليمنية القديمة.
[ٔ] .الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .ٕٜٛ
239
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
ثانياً ،أيمة الوحيدة التي وجدىا مفكرنا في كتاب اليمداني ،ليست إال جبالً مقف اًر من جبال
ينبع بين المدينة ومكة لم تكن أبداً مدينة أو قرية ..ولنق أر بإمعان ما قالو ياقوت الحموي
بشأنو[ٔ]:
"أيمة ،موضع برضوى وىو جبل ،قال ابن حبيب :أيمة من رضوى وىو جبل ينبع
بين مكة والمدينة( ،وىو غير المدينة المذكورة) -ىذا لفظو ،وأنشد غيره يقول :من
وحش أيمة موشي أكارعو( ..والوحش ال ينسب إلى المدن)".
كان ياقوت واضحاً لمغاية من حيث قال (وىو غير المدينة المذكورة) .فمن يراجع معجم
البمدان سيجد أن عبارة ياقوت ىذه قد جاءت عمى سبيل االستدراك الذي قصد منو أن جبل أيمة
من رضوى في ينبع ليس ىو المدينة المذكورة في القرآن بحاضرة البحر ،ولو كان ىناك كما
يقول الربيعي بجواره أو بالقرب منو مكان يسمى (أيمة) عمى الساحل ،لكان األولى بياقوت أن
يشير إليو وأن يشير إلى أنيا ليست المقصودة في اآلية القرآنية أو أنيا ىي ،ولكنو يعرف حق
المعرفة أنو ما من شيء سوى جبل أيمة القافر والذي أشتير بأنو من البقاع المسكونة بالوحش،
وألن مكاناً ىذه صفتو ،فإنو ال يمكن أن يكون حاضرة أو عاصمة أو مكاناً مأىوالً بالبشر ،وىذا
معنى قول ياقوت ( ..والوحش ال ينسب إلى المدن) ،إذ جاء قولو ىذا تأكيداً عمى أن (أيمة) في
العقبة األردنية ىي المقصودة بالقرآن الكريم بأنيا حاضرة البحر وليس ىذا الجبل في ينبع.
ثم أن الربيعي يؤكد لنا أن (أيمة /ءيمون ،إيمو /ءيالون) مكانان حقيقيان وليس ثالثة
أماكن ،وقد اىتدينا من خاللو الى جبل أيمة وايمو حاضرة البحر المندثرة والمذان يقعان معاً عمى
سواحل البحر األحمر ،فماذا عن بُمْطة النجدية التي ىي (أيمون) كما قال؟!
ثالثاً ،إن اسماء (أيمة وايميا وايمون) ال تنتمي إلى جغرافية اليمن إطالقاً ،والدليل عمى ذلك
أن الربيعي لم يجد أياً منيا أو ما يشابييا في نطاق جغرافية اليمن أبداً ،ولو أنو وجد شيئاً من
[ٔ] .ياقوت بن عبد اهلل الحموي :معجم البمدان ،دار الفكر ،بيروت( ،ب .ت) .ٕٜٖ /ٔ .ترقيم (م .ش).
240
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
ذلك لما تردد لمحظة في توظيفو وقعقعة تفسير إييامي لو بحيث يجعمو يبدو متطابقاً مع جغرافية
أوىامو المتُ َخيَّمة.
كما أن موقع جبل أيمة ىذا والحاضرة المندثرة التي يزعميا الربيعي وتقع بالقرب من ذاك
الجبل ،ىما ما يقع خارج نطاق جغرافية اليمن الطبيعي ،األمر الذي يسقط معو جممة وتفصيالً
العنوان العريض الذي صاغو مفكرنا لنظريتو بأن جغرافية أحداث التوراة جرت في اليمن ،وأن
اليمداني قدم شيادة قوية تؤكد ذلك.
ويقول الربيعي أيضاً ،أن أيمة الجبل يقع بالقرب من وادي حمف الذي حدد موقعو
اليمداني بأنو يقع بين نجران والجوف ،في حين أن المسافة بين الموقعين تنوف عمى أكثر من
(ٕٓٓٔ) كم ،فيل يصدق بحق اهلل عمى ىذه المسافة عبارة (بالقرب)؟!
خريطة رقم (ٗ) :موقع جبل أيمة -بالنسبة لــ وادي حمف بين نجران والجوف
241
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
وبالتالي ،فإنو سواء كانت (أيمة) ىذه أو (أيمون) تقع في سبط نفتمي أو سبط دان بالنسبة
لمنص التوراتي ،فيذا يعني في كل األحوال أن امتداد أرض الميعاد كما ورد تقسيميا بين
األسباط في سفر يشوع ال يتوقف عند حدود اليمن الطبيعي كما حددىا اليمداني ،بل يتجاوزىا
إلى أراضي نجد والحجاز -!!...باهلل عميكم ،ىل ىذا منطقي؟!
رابعاً ،أين ىي أيمة حاضرة البحر المذكورة في القرآن ،والتي تقع بالقرب من جبل أيمة
عمى ساحل األحمر ،والتي ىي نفسيا إيميا التي ذكرىا اليمداني كما يدعي الربيعي ،طالما وىو
يعرف يقيناً أنو ما من مكان ىناك في عمى الساحل الغربي لمبحر األحمر المحاذي لمحجاز-
ناىيك عن اليمن الطبيعي كمو -اسمو (أيمة) كان مدينة أو حاضرة ال في الماضي العتيق وال
في الماضي القريب وال اليوم يوجد ىذا المكان؟!
إزاء ىذا السؤال ،يدىشنا الربيعي كالعادة ويفاجئنا بالجواب السحري الرىيب الذي يقطع
كل الشكوك ،ويمقي بكل صنوف الريبة التي تختال في نفوسناً كب اًر وتحامالً عميو في مالقي
اليالك .فقد أطل الربيعي عمينا من نافذة جغرافيتو الموىومة المعشعشة في رأسو وحده من دون
خمق اهلل ،وأخبرنا بأن (أيمة) ىذه" :اندثرت وكفت عن الوجود ،حيث انتقل اسميا مع ىجرات
القبائل إلى العقبة األردنية"[ٔ]!!..
يا اهلل!!..
يا اهلل!!!..
بالطبع ،لن نسأل البروفسور ،عن متى وبأي زمن وجدت أيمة ىذه التي اخترعيا كما
اخترع الصياينة أوىام حقيم المقدس في اغتصاب أرض فمسطين؟ ولن نسألو إلى متى بقيت؟
وكيف زالت وكفت عن الوجود واندثرت؟ وال كيف اىتدى ىو إلييا؟!
[ٔ] .فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،ص ٗٗ.
242
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
لن نسألو عن ذلك كمو ،ليس ألنو لم ولن يجيب أبداً عمى تساؤالتنا الماكرة والخبيثة ،بل
ألنو يكفي أن يعمم ىو ،وأن يصدقو اإلمعات ويتبعونو في ذلك.
خامساً ،تأتي الطامة الكبرى والفجيعة األدىى ،من حيث حدد مفكرنا جغرافياً موقع
أورشميم التوراتية بأنيا (بيت بوس) -بالقرب من العاصمة اليمنية (صنعاء) ،ما يعني أنو قد
تجاىل قاصداً ومتعمداً الرابطة الوثيقة التي عبَّرت عنيا فقرة اليمداني وعبارتو األخرى الصريحة
بأن (إيميا ىي أورشميم) ،فأسقط ذلك االرتباط الوثيق بينيما في تعيين مكان واحد ارتبطا بو
وىو بالد الييود العتيقة.
في الحقيقة ،أنو فعل ذلك من حيث لم يكن أمامو أي خيار تمفيقي آخر.
خريطة رقم (٘) :موقع بيت بوس في صنعاء بالنسبة لموقعي جبل أيمة في ينبع وعين بمطة في حائل
243
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
واذن ،كيف بحق اهلل تكون أورشميم في بيت بوس بالقرب من صنعاء ،بينما تكون
(إيميا) في مكان ما عمى ساحل البحر األحمر تفصل بينيما مسافة تزيد عن (ٓٓٗٔ) كم،
واذا كانت بمطة النجدية ىي إيمون التي ىي إيمو -ايمياء كما يتوىم الربيعي ،فإنيا بذلك لن
تكون أبداً حاضرة البحر القرآنية ،كما وأن المسافة التي تفصل بينيا وبين بيت بوس تزيد
عن (ٓٓ )ٔٙكم..؟!
كيف لنا -بحق اهلل-أن نتصور أن ىذه الفوضى التي اختمقيا مفكرنا وتوىميا يمكن
أن تفسر لنا المقصود في فقرة اليمداني وكل ما جاء في كتابو بشأن إيميا بلد الييود التي
تسمى أورشميم ،في الوقت نفسو الذي نعمم فيو تماماً أن اليمداني قد ربط االسمين بمكان
واحد عناه بأنو بلد الييود العتيقة ،فضلً عن أن ىذه العلقة قد أكدىا كبار األساتذة الذين
انتحل الربيعي نظريتيم كالصميبي وأحمد داود ،وأكدىا من قبميم العشرات من المؤرخين
والمغويين والجغرافيين العرب والمسممين ممن جاءوا قبل اليمداني وممن جاءوا من بعده؟!
ثم ،ما علقة ذلك كمو بــ نج ارن التي ظل الربيعي يستحضرىا وكأنيا أيقونتو المقدسة؟!
"ىذه ىي منازل سبط دان القبيمة اليمنية البائدة التي أقامت في مخلف مممكة الييودية .لقد
عادت ىذه المممكة الى الظيور مع العصر الروماني المتأخر مع صعود سللة جديدة في منطقة
اليمامة ،وكان آخر مموكيا عشية االسلم يدعى ىوذة بن عمي الحنفي السحيمي".
[ٔ] .فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني مرجع سابق ،ص ٓٓٗ.
244
الفصل الثاني نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط
وىكذا ،فإن ىوذة السحيمي زعيم قبمي عربي صريح العروبة ينتمي الى إحدى القبائل
العدنانية العربية وىي قبيمة بكر بن وائل ،ولم يكن ييودياً أبداً بل نصرانياً – أي من العرب
المتنصرة -ولم يكن لو أي عالقة بالرومان ال من قريب وال من بعيد .فمتى كانت قبيمة بكر
سللة جديدة لبني اسرائيل أو لمييود ومتى أقام بنو حنيفة مممكة ييودية في اليمامة ،ومتى
كان ىوذة ىذا ممكاً من مموك الييودية؟!
عمى كل حال ،ياليا من خاتمة تمفيقية غبية ورعناء ،ال يصدقيا إال المغفمون من
القراء ..وما أكثرىم في ىذا الزمن .ومن يدري ،لعمنا نقف أمام مشروع ربيعي جديد إلضافة
نجد والحجاز واليمامة والعراق وتركيا والصين الى جغرافية التوراة؟!
ختاماً ،كانت تمك نماذج محدودة من السقطات واألوىام والتمفيقات الكثيرة التي تركيا لنا
مفكرنا الربيعي في ركام سرديتو المشوشة والمضطربة والرخوة وغير المتماسكة .فعن ىذه
أمر
السقطات الربيعية الكارثية ،حدثوا منذ اليوم وال حرج ..ألننا مقبمون عمى اكتشاف ما ىو ُّ
وأدىى ،ومقبمون عمى الكشف عما لم يسبقنا إليو أي ناقد ليذه النظرية العجفاء السخيفة التي
جاء يبشرنا بيا مفكرنا العبقري.
وانو لمن المؤسف والمخجل أكثر أن نجد من المثقفين واألكاديميين العرب ،من ُيطّبل
ويشيد بجرأتو ومغامرتو المعرفية والتاريخية والجغرافية ،ويصفيا بكل سذاجة بأنيا فتحت
لمربيعي ُ
آفاقاً واسعة في معرض نقد التوراة -!!..فيما ىي في الحقيقة فتحت آفاقاً رحبة لمتزوير
والتدليس.
246
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
الفصل الثالث
لطالما كان صنع التاريخ من قبل الشعوب منذ أقدم األزمان وأقدم الحضارات رىيناً
اء باختيارىا أو رغماً عنيا تحت قير
بالموقع والرقعة الجغرافية التي تستوطنيا وتسكنيا ،سو ً
الطبيعة أو قير الحروب البشرية ،لتصبح الجغرافيا (األرض) عمى رأس الحقائق الثابتة التي
يكاد يكون مستحيلً أن يطاليا التغيير ،نظ اًر الرتباطيا الوثيق والعميق بالجذور المغوية والثقافية
لسكانيا ،والتي ال تمحى أبداً من الذاكرة ألنيا تمثل جزًء جوىرياً من كينونة وجودىا االنساني
ومن تاريخيا وأعلميا[.]1
إن العلقة بين االنسان والجغرافيا ،ىي نفسيا العلقة بين التاريخ والجغرافيا ،والتي
يوجزىا ويعبر عنيا ذلك الحدث الذي يصنعو الفرد المبدع والجماعة المتطمعة الى النيوض
والتقدم ،والذي يؤرخ لو بالزمان وفي المكان الذي انتموا دوماً إليو ،واذا كانت معركة الشعوب
الرئيسية انطلقاً من كونيا صانعة تاريخيا وحضاراتيا تتمثل في حفظ وحماية نتاج ذلك التاريخ
مرتبطاً باألرض وبالجغرافيا ،فإن أعداء الحقيقة وصناع الزيف أبدعوا الكثير من الطرق لتزييف
التاريخ وتشويو معالمو والتضميل عن حقائقو ،ليبقى السؤال في مضمار ىذا الصراع:
تتناقض األسفار التوراتية في تقديم معطياتيا وتحديداتيا الجغرافية إزاء ما تعبر عنو
العديد من االصطلحات المقرائية ،عمى غرار :الوعد المقدس ،أرض الميعاد ،أرض اسرائيل،
وغيرىا من االصطلحات التي تراتبت دالالتيا الجغرافية بين ادعاءات الحق اإلليي وشعارات
[ .]1أحمد زرير :عمم األعلم الجغرافية الطبونيميا في رصد بعض الحقائق التاريخية في منطقة أيت سدرات ن
إغيل 11 ،مايو ،7116متاح عمى الرابط االلكتروني:
http://www.dades-infos.com/?p=42925- 30 May 2018.
247
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
الحق التاريخي ،في الوقت الذي كشفت فيو نتائج عمم اآلثار وغيره من العموم المساعدة عن
استحالة القبول بمثل ىذه االدعاءات لعدم وجود ما يسندىا عمى أية حال ،وىذا ما دفع البعض
من الباحثين العرب – تأث ارً ببعض المقوالت واالفتراضات التي طُرحت مف قبؿ مفسري التوراة
والمستشرقيف كما تبيف لنا مف قبؿ -الى افتراض أن ثمة خطأ وقع في تحديد جغرافية النص
التوراتي ،والذي أفضى بدوره الى اختلق نظرية جغرافية التوراة في اليمن وجزيرة العرب.
تنطمق ىذه الدراسة من رؤية نتبناىا والبد من توضيحيا ،وىي رؤية تتمثل في رفضنا
التام لمصطمح "جغرافية التوراة" بكل مدلوالتو وحموالتو وتفسيراتو ،إذ أننا نراه مصطمحاً خادعاً
ومضملً من حيث يعطي مشروعية أو مصداقية زائفة لفكرة أن النص التوراتي بحد ذاتو لو ىوية
جغرافية تستتبعيا ىوية تاريخية .والحقيقة أنو ال يمكن أن تكون ىناك جغرافية أو أرض موىوبة
لنص أو معطاة بموجب نص أو مستدل عمييا بموجب نص .فاألرض والجغرافية لسكانيا
ولشعوبيا تتسمى بأسمائيم وتعبر عن ىوياتيم ،فنقول جغرافية اليمن وسكانيا اليمنيين ،وجغرافية
فمسطين وسكانيا الفمسطينيين ،إذ أن ىوية األرض باألساس نتاج طبعي وطبيعي ليوية سكانيا
كما سموىا ورسموىا وصنعوىا ودافعوا عنيا ،وأي اصطناع قائم عمى غير ذلك ما ىو إال خداع
وتحريف.
ولكي تتضح رؤيتنا أكثر لمقراء األعزاء ،نقول أن وقع مصطمح جغرافية التوراة عمى نفوس
الناس يختمف تماماً عن وقع مصطمحات أخرى لو أنيا استخدمت ،مثل" :جغرافية العبرانيين أو
جغرافية الييود ،أو جغرافية بني اسرائيل" ،وىذا بالضبط ما تفاداه أصحاب ىذه النظرية ،من
حيث أدركوا الدور الوظيفي الذي يمكن أن يمعبو مصطمح جغرافية التوراة في خداع الناس
وتضميميم عن كونو في الحقيقة بديلً لتمك المصطمحات التي تعبر عن الحقيقة الكامنة وراء ما
تسعى نظريتيم الى تمفيقو ،وبالتالي فإن مصطمح (جغرافية الييود) ىو ما يجب أن يوضع في
االعتبار عندما نتعاطى مع مصطمح جغرافية التوراة ،ألن من الصعب اليوم الحديث عن
(جغرافية أرض بني اسرائيل) من حيث لم يعد يوجد باألساس شعب أو جماعة أو قومية يمكن
أن نقول بأنيا بني اسرائيل ،وليذا يحرص رواد ىذه النظرية عمى اإلمعان في الخداع والتضميل
من خلل تأكيداتيم المستمرة عمى ضرورة الفصل والتمييز بين الييود وبني اسرائيل.
248
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
ونظ اًر الستحالة القبول اليوم بالمدلول الصريح لمصطمح جغرافية أرض الييود أو جغرافية
أرض بني اسرائيل ،جرى استخدام وتوظيف مصطمح جغرافية التوراة إلييامنا بأن األمر ال يعدو
أكثر من طروحات تفسيرية تاريخية وجغرافية ذات طابع معرفي بحت لمنص التوراتي ،وأن األمر
ليس لو أي ارتباطات سياسية أو وظائف أيديولوجية تخدم فئة ما أو نظرية ما أو مشروع ما.
فيما األمر واضح جداً ،والخداع واضح جداً ،والتضميل واضح جداً ،واال لماذا ال يسمي أصحاب
ىذه النظرية األشياء بمسمياتيا ،عمى األقل كما وردت في النصوص التوراتية طالما وىي
مرجعيم الجوىري؟!
لماذا ال يقولوف جغرافية أرض الميعاد ،أو جغرافية أرض اسرائيؿ تماماً كما تنطؽ بذلؾ
التوراة..؟! -عمى القراء َّ
أال تفوتيـ مثؿ ىذه المالحظات البالغة األىمية.
يبرز ىذا االتجاه الخادع والمضمل في رسم أطر وحدود ىذه النظرية بكامل ملمحو
وسماتو في النموذج الذي قدمو المفكر العربي فاضل الربيعي ،الذي نيض عمى افتراضات
غرائبية تمحل صاحبيا بجيد بالغ في وضع الكثير من الحقائق الجغرافية -فضلً عن الحقائق
المغوية والتاريخية -عمى محك الشك واالرتياب ،إذ تعامل عمى الدوام مع افتراضاتو وكأنيا
حقائق راسخة ،األمر الذي أثار الكثير من الدوافع لوضع نموذجو تحت مجير الفحص العممي
والنقد المنيجي والموضوعي.
وىكذا ،ماداـ األمر يتعمؽ بالجغرافيا ،فالبد مف أف تكوف األسس والمفاىيـ واألدوات
التي يحددىا عمـ الجغرافيا ىي المعيار الذي ينبغي االحتكاـ إليو ،ومف ثـ يتـ تدعيـ ىذا
المعيار بالمعايير المغوية والتاريخية األخرى المؤازرة لو.
249
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
)(1
ً
هل ترجن الربيعي التوراة حقا؟!
ادعى مفكرنا الربيعي وكرر ادعاءاتو دائماً في مواقع مختمفة من كتابو "فمسطيف
المتخيمة" ،بأن وصف اليمداني لجغرافية جزيرة العرب واليمن عمى وجو الخصوص ،قد جاء
متطابقاً مع ما ورد في النص التوراتي ،وأن ىذا التطابق يتضح من خلل المقابلت االسمية
لألماكن الجغرافية بين الوصفين اليمداني والتوراتي ،األمر الذي تركز بشكؿ أكثر في تحميالتو
عمى ما جاء في سفر يشوع بشأف أرض الميعاد -أرض كنعاف -وتقسيميا بيف األسباط.
وبحسب ادعاءاتو أيضاً ،فإن اليمداني قد حدد الفضاء الجغرافي لألماكن والمنازل التي ورد
ذكرىا في سفر يشوع وغيره من أسفار التوراة[.]1
بيد أن النص التوراتي يعطينا الكثير من المقومات التي تدعم مسار التحقق من صحة
وموضوعية تفسير كيذا ،من حيث أعطانا ىذا النص توصيفات جغرافية ىامة لحدود األرض
الموعودة وحدود أرض كنعان مثلً .كما أمدنا ببيانات وصفية عن المساحة والتضاريس والمعالم
والسكان والطبيعة والطقس والمناخ وغير ذلك من البيانات التي تدخل بل أدنى شك في لحمة
وسدى البحث الجغرافي ،رغـ ما يشوبيا مف التناقضات والتضاد والتشوش ،إال أنيا تبقى
متاحة لمبحث والتحميؿ النقدي.
[ .]1فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،ص .74
250
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
العبقري مسالكو المختمفة في وضع اجتياداتو وطرح معالجاتو ،نقول أنو ليذا السبب ولغيره من
األسباب تجاىل ىذا المفكر عمداً وقصداً تمك التفاصيل والمعطيات التوراتية المتعمقة بجغرافية
األرض المعنية في أسفارىا واصحاحاتيا.
من أجل ذلك ،سوف نتعامل بالقدر الكافي مع بعض تمك التفاصيل والمعطيات الكتابية
التي وردت في النص التوراتي ،نظ اًر لما تنطوي عميو من أبعاد ودالالت ىامة تتقاطع وتتناقض
مع نظرية مفكرنا الموىومة وتفسيره المختمق والممفق لجغرافية أحداث التوراة.
ولكي يتبين بالضبط ما نقصده ،فإن تمك التفاصيل والمعطيات الجغرافية التي وردت في
األسفار التوراتية والتي نشير إلييا ىنا ،تتمثل بما يمي:
أوالً :التفاصيؿ المتعمقة بػػ "حدود أرض الميعاد" ،والتي يمكن أن تعطينا فكرة ال بأس بيا
عن حدود األرض المعنية دائماً في النص التوراتي ،وربما تساعدنا بدرجة أو بأخرى في تحديد
موقعيا الجغرافي.
ثانياً :التفاصيؿ المتعمقة ب ػ "مساحة أرض الميعاد" ،وىي تفاصيل بالغة األىمية من
حيث طبيعتيا الكمية والقياسية كيفما وردت في النص التوراتي ،ومن شأنيا أن تعطينا فكرة
واضحة عن مساحة األرض المعنية في التوراة.
ثالثاً :التفاصيؿ المتعمقة ب ػ "تقسيـ األرض بيف األسباط" ،وىذا ىو الجزء الذي تعامل
معو الربيعي متسرعاً ،وجعل مرتك اًز أساسياً في تكوين نظريتو واستدالالتو.
رابعاً :المعطيات المتعمقة بجوانب جغرافية أخرى ،وىي معطيات متفاوتة الكم والمضمون
إزاء جوانب جغرافية ال يمكن التغافل عنيا ،كالطقس والمناخ ومواسم األمطار واألشجار
والنباتات والمنتجات الزراعية والحيوانات ..الخ.
ال شك في أن توفر مثل ىذه المعطيات والتفاصيل في النص التوراتي وبشكل واضح
وصريح في أغمب األحوال ،ينبغي أن يكون مدخلً جوىرياً لبناء أي أطروحة عممية ومنيجية
251
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
بشأن ما يصفو الربيعي وغيره ب ـ "جغرافية التوراة" أو "مسرح أحداث التوراة" .لكن ىذا لم يحدث
ولم يقم بو مفكرنا أو يعيره أي انتباه ،في مقابل أن ىناك من رواد ىذه النظرية من حاول
االقتراب من تمك التفاصيل بحذر شديد ،ومنيم من تعامل معيا بشكل مجتزئ ومنقوص لخدمة
أىدافو الضيقة ،األمر الذي يدفعنا الى تحري األسباب والدوافع الكامنة وراء تجاىل وتغييب تمك
المعطيات رغم أىميتيا الشديدة في الكشف بدقة عن حقيقة مسرح أحداث النص التوراتي.
عمى ىذا األساس ،سوف نتعامل في ىذا الفصل مع معطيات النص التوراتي المتعمقة
بحدود أرض الميعاد ،وذلك في ضوء النصوص التوراتية المتعددة التي تستند إلييا عقيدة (أرض
الميعاد أو أرض الموعد أو األرض الموعودة) الكتابية لما يعرف ب ـ (الوعد اإلليي) .فقد صدر
ىذا الوعد أوالً لمنبي إبراىيم في (سفر التكوين ،)71 -17 :14 ،كما صدر وعداً آخر ليعقوب
نجده أيضاً في (سفر التكوين ،)14 -11 :77 ،ثم صدر وعداً مماثلً لمنبي موسى في (سفر
الخروج ،)21 :72 ،وىو الوعد الذي جرى تفصيمو جغرافياً في (سفر العدد،)12 -1 :23 ،
ومن بعد ذلك نجد نصان رابعاً وخامساً يحملن في جديمتييما الوعد نفسو وكلىما في سفر
التثنية ،الرابع منيما في مطمع (سفر التثنية ،)7 -6 :1 ،والخامس في نياية السفر نفسو (:23
،)3 -1ثم يرد ذلك الوعد اإلليي مجدداً بصيغ مغايرة في عدة مواضع من سفر يشوع:1( :
.)5 -1 :12( ،)73 -1 :17( ،)77 -1 :11( ،)37 -31 :11( ،)14 -17 :1( ،)3
غير أن كل تمك الوعود اإلليية بمنح بني اسرائيل /الييود أرضيم الموعودة والتي اقترنت
بالدعوة الى إجلء سكانيا وقتميم بل وابادتيم عن بكرة أبييم ،لم تدخل حيز التنفيذ إال في سفر
يشوع الذي انطوى عمى وصف اإلجراءات التي قام بيا "يشوع بن نون" في غزو بلد كنعان-
والتي سيجري تسميتيا الحقاً ب ـ "أرض اسرائيؿ" ثم "بالد الييود" ،-ومن ثم تقسيميا بين األسباط
االثني عشرة من بني اسرائيل ،وفق أسس ومعايير لم يغفل النص التوراتي عن تبيانيا لنا.
المثير للىتمام ىنا ،ىو أن النصوص التوراتية المشار إلييا آنفاً ،لم تكتف بإطلق ذلك
الوعد اإلليي وتسمية األرض الموعودة فحسب ،بل اقترنت بنصوص متصمة بيا بينت حدود
تمك األرض الموعودة ،وبالتالي فإننا نجد أمامنا كماً كبي اًر من النصوص التي تصف لنا حدود
252
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
أرض الميعاد ،ونظ اًر لتعدد صيغ ذلك الوعد واألشخاص الذين وعدوا بيا ،والمراحل الزمنية
المتباينة التي عاش فييا كل منيم ،فإننا ال نجد تمك الحدود وىي معينة عمى نحو واحد ،بل إنيا
تختمف فيما بينيا من نص أو وعد الى آخر ،فضلً عن أنيا جميعاً تختمف عن حدود ما تمكن
"يشوع بن نون" بعد ذلك من تحصيمو بالفعل" .كما أف حدود األرض التي سكنيا بنو إسرائيؿ
ومف بعدىـ الييود في إطارىا تختمؼ مف مممكة إلى مممكة"[ .]1فالحدود التاريخية الفعمية
ألرض الميعاد أو أرض إسرائيل في التوراة كانت دائماً حدوداً غير ثابتة ،متنقمة ،تغيرت،
وتنقمت ،وتوسعت ،وتقمصت في فترات مختمفة .ومع ذلك ،يرى جانب كبير من مفسري وشارحي
ونقاد النص التوراتي والباحثين في شؤونو" ،أن التحديد الدقيق ألرض إسرائيل كان في زمن
القضاة ،وعمى وجو التحديد فترة يشوع واألسباط"[.]2
ومن أجل البقاء في مسار بحثنا ،سوف نبتعد عن الكثير من القضايا التي تدخل في
لحمة وسدى ىذا األصل االعتقادي الذي حممتو التوراة ،والذي أثار الكثير من المشكلت
التاريخية والدينية والجغرافية والفكرية ،بحيث نتمكن من الولوج الى صميم موضوع ىذا البحث
ومجالو ،والذي يتمثل في التعرف عمى بعض ملمح جغرافية أرض اسرائيل وبلد الييود كما
وردت في التوراة ،مما تجاىمو مفكرنا الربيعي وغيره من الرواد العرب لنظرية جغرافية التوراة.
يمضي اتجاىنا في السياق التالي نحو استقراء ودراسة بعض تمك الملمح الجغرافية التي
قدمتيا لنا التوراة عن األرض المقصودة فييا ،دوف التدخؿ في أو االعتماد عمى التفسير
التقميدي الذي يضع ىذه األرض دائماً في نطاؽ جغرافية بالد الشاـ -الجزء الجنوبي الغربي
مف بالد الشاـ :فمسطيف .فاليدف الجوىري من بحثنا ىنا ىو التحقق من مدى انطباق الوصف
التوراتي ألرض اسرائيل عمى جغرافية اليمن كما وصفيا اليمداني ،عمى نحو يبدو فيو األمر
وكأننا نقوم بالخطوة التي كان يفترض بمفكرنا الربيعي أن يقوم بيا ،والتحقق من مدى قدرتيا
عمى تدعيم نظريتو وادعاءاتو.
[ .]1عمر أمين مصالحة :حدود ارض إسرائيل في المك ار (التوراة) -دراسة توثيقية ،مجمة قضايا اسرائيمية،
المركز الفمسطيني لمدراسات اإلسرائيمية "مدار" ،العدد ( ،)35يوليو .7117ص ص .87 -78
[ .]7المرجع السابق ،ص .78
253
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
وىذا يعني أننا سنتبنى افتراضو بأن موطن وجغرافية أحداث التوراة ىو اليمن ،ثم نتحقق
من مدى صحة ىذا االفتراض من خلل مطابقة التحديدات الجغرافية التي أقاميا في كتابو
"فمسطين المتخيمة" لممناطق والمواقع التوراتية والمتعمقة بحدود أرض الميعاد أو أرض اسرائيل،
كما أسقطيا عمى الجغرافية اليمنية.
وبيذا تتكامل معنا حمقة البحث بين النص التوراتي واليمداني والمعالجة التي قدميا
مفكرنا الفاضل.
بيد أن ثمة أمران ليما أىمية بالغة في الكشف والتعرف عمى األسس التي انطمق منيا
الربيعي في بناء معالجتو الجغرافية واستدالالتو التي قدميا في كتابو "فمسطين المتخيمة" ،نرى أن
نتطرق ليما ىنا من حيث لم يتسنى لنا ذلك من قبل ،وىما:
األمر األوؿ ،ما أكد عميو الربيعي من أنو قام بإعادة ترجمة النص التوراتي من أصمو
العبري ،كإجراء قام فيو بإعادة ضبط األسماء الجغرافية ،وألنو لم يبين لنا أسس ترجمتو أو
يعرضيا لنا ،فنحن مضطرون لتحري حقيقة ىذه الترجمة ،والبحث قدر المستطاع عن الفروق
التي أحدثتيا ودورىا في تصحيح الرؤية الجغرافية لمسرح أحداث التوراة.
األمر الثاني ،وىو ما يتعمق بالطريقة التي تعامل بيا الربيعي مع نصوص اليمداني
الوصفية والجغرافية واألسماء الواردة فييا ،والى أي مدى كان تعاممو عممياً وموضوعياً .فمن
المؤكد أن التعرف عمى ملمح ترجمتو لمنص التوراتي شرط ضروري لمتحقق من موضوعية ذلك
التطابق بين األسماء الجغرافية التي أكد عميو بين التوراة واليمداني.
من أجل ذلك ،رأينا أن نعقد مقارنة سريعة بشأن األساس الذي أقام عميو الربيعي نظريتو،
بين نموذجو من جية ونموذج أستاذه ميندس النظرية األول الدكتور كمال الصميبي من جية
أخرى .فاألساس الذي اعتمده الصميبي في بناء نظريتو ىو ملحظة وجود تشابو بين أسماء
األماكن التي ترد في النص التوراتي ،وأسماء األماكن القائمة اليوم في منطقة عسير غرب
الجزيرة العربية ،ولكي يثبت الصميبي ىذه الظاىرة بنى منيجو عمى مقابمة األسماء التوراتية في
النص الماسوري منيا مع أسماء األماكن في عسير ،ومن ثم قام بتطبيق قواعد التحوالت المغوية
254
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
من تقميب وابدال وغيرىا عمى أسماء القرى والتلل والوديان في عسير لتصبح مشابية فعلً
لألسماء التوراتية التي حرص عمى االحتفاظ بيا سميمة دون خدش ،وىذا ما جعل الصميبي يقع
في مأزق تفسيري ،جعمو يتعسف في المطابقة بين األسماء الجغرافية ،إذ عمد الى اجبار أسماء
المناطق في عسير عمى أن تصبح مشابية ألسماء أماكن التوراة ،وىذا ما أفقد استدالالتو الكثير
من المنطق وأخرجيا من دائرة المنيجية العممية.
كان الربيعي قد انتقد اجراءات الصميبي تمك في أكثر من مناسبة ،ففي حوار معو طرح
عميو سؤال عن مواطن االتفاق واالختلف بينو وبين الصميبي ،أجاب مفكرنا قائلً[:]1
"الدكتور كماؿ صميبي عالـ جميؿ قاـ بفتح عظيـ في الثقافة العربية وكتابو
(التوراة جاءت مف الجزيرة العربية) ىاـ لمغاية ،ومف حيث الجوىر ال خالؼ بيني وبينو
في فيـ النص التوراتي ،ونحف نتفؽ في القواعد العامة لمبحث وفي المنطمقات
األساسية في قراءة ىذا التاريخ ونختمؼ في األدوات ،ىو لجأ الى الػػ (فونيطيقا) أي
لعبة المقاربات المغوية التفكيؾ والتركيب (البنى الصوتية) لألسماء ،معتقدا مف خاللو
أف المتغيرات التي حدثت في أسماء األماكف والمواضع في منطقة عسير يمكف أف
تكوف مفتاحا إلعادة فيـ وتركيب النص التوراتي ،وانا عمى العكس مف ذلؾ لـ أسقط
في فخ المعبة المغوية".
نفس ىذه الفكرة ،عبر عنيا الربيعي في عدة مواضع من كتابو "فمسطين المتخيمة"[،]2
حيث كشف عن عيوب منيج الصميبي ،واصفاً إياه ب ـ (لعبة المقاربات المغوية) ،ومؤكداً بصيغ
مباشرة عمى أنو استفاد من خطأ الصميبي (ولم يسقط في الفخ الذي وقع فيو) ،وىذا بدوره يدفعنا
الى التعرف عمى طبيعة المنيج واألدوات التي استخدميا الربيعي إلثبات تشابو أسماء األماكن
[ .]1الباحث العراقي فاضل الربيعي :فمسطين لم تكن يوما أرض الميعاد الييودي وال علقة ليا بالييودية ،حوار
مع فاضل الربيعي ،صحيفة الوطن ،متاح عمى الرابط االلكتروني:
http://www.alwatan.com/graphics/2011/01Jan/18.1/dailyhtml/ashreea.html- 26
May 2018.
[ .]7فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،ص .16
255
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
تجنب حقاً
في التوراة مع أسماء األماكن التي مازالت قائمة في اليمن ،وأن نعرف بالضبط كيف ّ
الوقوع في مأزق الصميبي؟!
في نفس الحوار المشار إليو آنفاً -وأيضاً في مقدمة كتابو "فمسطين المتخيمة" -يصف
الربيعي منيجو وأدواتو التي نأى بنفسو من خلليا عن الوقوع في ذلك الفخ ،قائلً[:]1
"ذىبت مباشرة الى المحاور الثالثة اآلتية :إعادة ترجمة النص العبري ومقارنتو
مع نص اليمداني والتطابؽ المذىؿ في أسماء المواقع واألماكف وفي نفس الفضاء
الجغرافي ،ثـ الشعر الجاىمي".
نفيم من ىذا ،أنو استند في بناء نظريتو عمى منيج ثلثي -أي قائم عمى ثلث
خطوات -كاآلتي:
الخطوة األولى ،قام فييا بدراسة المغة العبرية لعدة سنوات -كما صرح لنا -حتى تمكن
منيا ومن فك أسرارىا وكل طلسميا ،وبالتالي فقد أصبح قاد اًر عمى قراءة التوراة في نصيا
العبري األصمي.
الخطوة الثانية ،قام فييا بتعيين النص التوراتي العبري األصمي واعادة ضبط أسماء
األماكن الجغرافية الواردة فيو.
الخطوة الثالثة ،قام بمطابقة ومقارنة أسماء األماكن التوراتية وأسماء المناطق الواردة في
كتاب اليمداني وقصائد الشعر الجاىمي.
كما يؤكد مفكرنا عمى أنو ومن خلل ىذه اإلجراءات ،توصل الى نتائج مدىشة لمغاية،
حيث أن اكتشف أن األمر ليس مجرد تشابو بين األسماء بل ىو تطابق تام ،بحيث ال يحتاج
معو الى تطبيق التلعبات المغوية كما فعل الصميبي.
لكننا وحتى ىذه المحظة ،وبرغم مرور ما يزيد عن عشر سنوات منذ صدور كتابو
فمسطين المتخيمة ال نعمم إن كان مفكرنا قد قام بالفعل بترجمة النص العبري أم ال ،وال نعرف ما
ىي األسس المنيجية والعممية والمغوية التي اعتمدىا في ترجمتو ،وال نممك أيضاً نسخة من تمك
الترجمة التي قام بيا ،وال ىو أخبرنا عنيا أو شرحيا لنا كما يفعل المترجمون عادة في مقدمات
أعماليم .فكل ما عرضو الربيعي في كتبو ومؤلفاتو ليس إال نتائجو التي دبمجيا ولقمقيا وقعقعيا
لتبدو بمثابة أدلة مقنعة عمى تطابق أسماء التوراة مع أسماء األماكن في الجغرافية اليمنية.
وبعد دراسة وتحميل إلجراءات مفكرنا المشار إلييا سمفاً ،تبين أن ما قالو ووصفو بشأن
منيجو الثلثي المزعوم ،ال يعدو أكثر من ادعاء ،إذ ال يوجد دليل واحد قدمو صاحبو يثبت أنو
قام بالفعل بترجمة النص العبري لمتوراة ،بل أننا ومن خلل فحص دقيق أجريناه عمى عينة
عشوائية من األسماء التوراتية التي أعاد تعيينيا جغرافياً عمى الخارطة اليمنية في كتابو ،ومن
حيث يفترض أن نجد تغاي اًر بينيا وبين صيغيا أو مقابلتيا التي تظير في الترجمة التقميدية
لمتوراة ،تبي ن لنا أنو لم يقم بأي ترجمة عمى اإلطلق ،بل قام بتلعب ال يختمف كثي اًر عن الذي
قام بو الصميبي.
وعميو ،يمكن إعادة توصيف حقيقة المنيج الثلثي المزعوم من قبل مفكرنا الفاضل ،عمى
النحو التالي:
الخطوة األولى ،قام فييا بتفتيش النص التوراتي العربي واعداد قائمة باألسماء الجغرافية
الواردة فيو والتي ادعى أنو يحفظيا عن ظير قمب.
الخطوة الثانية ،قام بتفتيش كتاب اليمداني وجمع المتشابيات المفظية من األسماء
الجغرافية التي وردت فيو مع قائمة األسماء التوراتية التي أعدىا في الخطوة األولى.
الخطوة الثالثة ،قام فييا مفكرنا بانتقاء األسماء األكثر تشابياً والتي يمكن إييام القراء
بأنيا متحصمة نتيجة اجراءات طبقت فييا قواعد لغوية ،كقمب الصاد ضاد ،فضلً عن جمع
بعض المفاىيم المغوية عن الزوائد والمواصق وغيرىا ،ثم بدأ عممية القعقعة سارداً لنا بعبقريتو
الفذة جغرافية التوراة وتاريخيا اليمني العريق المتخيل في أوىامو.
257
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
ما حصل ىو أنو وبينما قام الصميبي باإلبقاء عمى أسماء األماكن التوراتية سميمة كما
ىي ،وأجرى تلعباتو المغوية فقط عمى أسماء المناطق التي عينيا في المقابل في منطقة عسير
اليمنية ،قام الربيعي بالعكس من ذلك ،إذ تلعب باألسماء التوراتية وقام بإعادة ضبطيا بطريقة
ما معتمداً في ذلك عمى التسميات المشابية ليا في كتاب اليمداني ،فكل األسماء التوراتية التي
ادعي ترجمتيا ليست إال األسماء الواردة أصلً في كتاب صفة جزيرة العرب لميمداني ،في
الوقت الذي أوىم مفكرنا نفسو وأوىم قرائو بأنو تحصل عمى تمك األسماء المضبوطة من خلل
إعادة ترجمة نص التوراة العبري ،بل أنو تعمد اقتباس ألفاظ ومصطمحات سياقية وتعبيرية من
كتاب اليمداني واستخداميا في معالجاتو التمفيقية لمنصوص التوراتية ،عمى غرار تعبيرات مثل:
أقبؿ ،مقبالً ،مغرباً ،يصالي ،يشاكؿ ...الخ ،وأعطى نفسو الحق في إضافة عبارات وأسماء
وتوصيفات طبوغرافية لألماكن الى النص التوراتي نيابة عن ييوه ،وىو إذا قام بذلك كمو ظل
معتقداً أنو أخفاه خمف حجاب معتم لن يتمكن أحد من النفاذ منو واكتشاف سر تلعباتو المفظية
والتحريفية ،وما ذلك الحجاب إال حجاب ادعاءه بترجمة التوراة ترجمة سميمة وصحيحة.
بكل بساطة ،ىذه ىي العممية الممفقة والمضممة التي قام بيا مفكرنا عمى الدوام ،والتي
جعمت األسماء التوراتية التي عرضيا في كتابو تبدو مطابقة ألسماء المناطق اليمنية ،التي أبقى
عمييا سميمة دون تغيير ،وبيذا أوىم نفسو أنو ترجم التوراة .ولسوؼ نثبت في كثير مف
السياقات التالية مف ىذه الدراسة ،مدى صحة تحميمنا السابؽ ،بؿ ومدى دقتو في توصيؼ
حقيقة ما قاـ بو مفكرنا العبقري ،بأدلة واضحة لمغاية مستمدة مف النماذج الفعمية التي يضج
بيا كتابو فمسطيف المتخيمة.
ومف أجؿ كشؼ ىذا التالعب واثباتو ،سنأخذ في االعتبار مف اآلف وصاعداً أربعة
مكونات جوىرية ،نظؿ نعمؿ عمى المطابقة والمقارنة بينيا ،وذلؾ لمتحقؽ عف كثب وعمى نحو
أكثر دقة ورسوخاً مف حقيقة الترجمة التي يدعي مفكرنا الربيعي أنو قاـ بيا لمنص العبري مف
التوراة.
يمكن تمثيل تمك المكونات األربعة المشار إلييا آنفاً ،كما يمي:
258
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
عمى أية حال ،يمكن القول بأن االنتقائية التي استخدميا مفكرنا الفاضل في ابتداع
نظريتو الموىومة والمنتحمة أصلً من نظريات غيره من الباحثين العرب -فشموا من قبمو في أن
يؤسسوا لنظرية جديرة بالنظر إلييا من زوايا العمم والمنيج العممي وأخلقياتو الموضوعية
والمعرفية -ىي بيت الداء وىي اإلفك األكبر الذي أقيمت عميو ىذه النظرية الخارجة عمى كل
الحقائق والثوابت المعرفية والعممية التي تكونت لدى البشرية عبر آالف السنين ،من حيث
تعمدوا مصادرتيا وتعطيميا وتحييدىا لصالح القبول بادعاءاتيم وأوىاميم المختمقة .وىذا يدفعنا
الى تعرية انتقائيتيم والكشف عن خبثيا وكذبيا وتمفيقيا ..وانيا لميمة جديرة بأن نقوم بيا
وتستحق منا أن نبذل ليا من عزيز أوقاتنا وجميل جيودنا في سبيل كشف حقيقة ىذه االنتقائية
المستمدة أصلً من أساليب المستشرقين ،والتي ستفضح سوءات نظريتيم وتيتك ستر الزيف
والتضميل الذي نتج عنيا.
وعميو ،فإن ما سنقوم بو وما سنقدمو في السياق التالي ،ليس إال اختبا اًر تجريبياً عممياً
وتطبيقياً جديداً يضاف الى قائمة االختبارات التطبيقية التي أجريناىا في الفصمين السابقين،
والتي قامت جميعيا عمى أسس عممية وموضوعية دقيقة ،يمكن ألي باحث أن يطبقيا في إجراء
اختبارات مماثمة كثيرة ومتعددة من مختمف الجيات والزوايا ،الكتشاف حجم الخداع والتضميل
والتزييف والتحريف ،الذي ارتكبو مفكرنا العبقري وأمثالو من خلل تبنييم ىذه النظرية العجفاء
والسقيمة ،واننا لنثق كل الثقة بكل خطوة قمنا بيا ،ونثق كل الثقة بقوة وثبات ومنعة النتائج التي
سنتوصل إلييا في ىذا الفصل وما سيأتي من بعده ،كأدلة راسخة ال يمكن االلتواء عمييا أو
انكارىا أو تجاىميا.
259
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
)(2
تعرض الربيعي لمسألة حدود أرض اسرائيل بصيغة انشائية وحيدة ويتيمة ،فضفاضة
ومطاطة ،ال تسمن وال تغني من جوع ،من حيث لم تضف شيئاً الى أطروحتو ،باستثناء المزيد
من االدعاءات الواىية والممفقة التي أطمقيا .فقد أشار مفكرنا العتيد الى أن "التوراة لـ تتضمف
أي وعد إليي بأرض مف النيؿ (المصري) الى الفرات (العراقي) ،بؿ أف ىذا تفسير مخيالي
استشراقي جرى الترويج لو حديثاً[ -]2وىذا قول ال نختمف فيو معو ،ولو أن صاحبو اكتفى بو
لكان أسمم لو ،ولكنو لم يفعل.
إن ما يقع عميو مناط التأكيد ىنا ىو استخدام مفكرنا لتوصيفات قطرية واضحة( :النيؿ
المصري والفرات العراقي) ،فمماذا يا ترى توجب عميو استخدام مثل التوصيفات اليوياتية
المخاتمة والم اروغة؟!
عندما نق أر ما كتبو بعد ذلك ستتضح الفكرة ويتكشف السر والسبب .فعمى أساس أن
الترجمة التقميدية لمنص العبري لمتوراة مطعون بيا وغير موثوقة ،ومن حيث لم يبقى أمامنا إال
ترجمة الربيعي المدعاة ،يقول مفكرنا[:]3
[ .]1آرتس وحوتس آلرتس ،كممتان عبريتان ،تشير األولى (آرتس) الى أرض اسرائيل فيما تشير الثانية
(حوتس آلرتس) الى كل األراضي التي تسكنيا الشعوب األجنبية -أي البمدان األجنبية ،والعنوان بيذه الصيفة
ينطوي عمى تساؤل :ىؿ أورشميـ مف أرض اسرائيؿ أـ أنيا مف األراضي األجنبية؟ -يفترض أن يكون الجواب
ىو أن أورشميم ىي عاصمة أرض اسرائيل ،أي أنيا قمب ال ـ (آرتس) ،ولكن السير خمف نظرية الربيعي سوف
يوصمنا الى نتيجة عكسية ،كما سنرى في ىذا المبحث ،األمر الذي يكشف عن مدى فساد نظريتو وبطلنيا
وعدم انطباقيا ولو بنسبة %1عمى جغرافية اليمن!!..
[ .]7فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،ص .156
[ .]2المرجع السابق ،ص .157 -156
260
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
"العودة الى النص العبري كفيمة بالكشؼ عف ذلؾ التزوير .إف النص وعمى الضد
مف ىاتيف الفكرتيف الزائفتيف -فكرتي الوعد اإلليي وحدود األرض الموعودة مف النيؿ
الى الفرات -يشير الى جماعات وقبائؿ ،ال وجود ليا أصالً فوؽ ىذه المساحة مف
األرض -أي العراؽ ومصر -بؿ ىي موجوداً [حص ارً] في جغرافية اليمف القديـ".
ليتأمل الق ارء األعزاء ممياً ىذه القفزة الربيعية المذىمة والمعجزة .فالرجل كان يتحدث تحت
عنوان صريح صاغو ىو واستوحاه من أدبيات التوراة (من النيل الى الفرات) ،عن الوعد اإلليي
واألرض الموعودة وحدود ىذه األرض ،ثم أنكر تماماً ورفض قطعاً أن يكون مقصود التوراة ىو
نير النيل المصري ونير الفرات العراقي ،ثم قفز عمى ذلك كمو ،وأكد وأجزم قطعاً وحص اًر بأن
األرض المقصودة موجودة في جغرافية اليمن القديم.
عجيبة ىذه القفزة حقاً ،من حيث بينت لنا أن األمر عند مفكرنا ال يتعمق أساساً بأرض
وحدود جغرافية بل بجماعات وقبائل ،مشي اًر بذلك الى األقوام والجماعات التي ورد ذكرىا في
سياق النص من سفر التكوين حيث جاء الوعد اإلليي إلبراىيم باألرض ،ليقدم بعد ذلك معالجة
قصيرة مبسترة وغير ناضجة حول أين كانت منازل ومواطن تمك األقوام كما يتوىم ويتخيل.
لكف ،ماذا عف حدود تمؾ األرض الموعودة التي ورد الوعد اإلليي بيا وماذا عف
تفاصيؿ حدودىا التي جاء ذكرىا في عشرات النصوص مف أسفار التوراة -كما وضحنا
سمفاً؟!
في الحقيقة ،لم نجد في فمسطين المتخيمة شيئاً عن ذلك ،فمماذا يا ترى يقتحم مفكرنا
موضوعاً جوىرياً مثل ىذا بيذه الطريقة ،ثم يتركو ويتخمى عنو تماماً؟! -وكيف يمكن لنصوص
التوراة التي تصف حدود أرض أحداثيا أالّ تكون ميمة وضرورية في الكشف عن حقيقة موقعيا
الجغرافي؟!
لكي نصل الى التفسير المنطقي والعممي ليذا اليروب الواضح من مسألة حدود أرض
التوراة ،عمينا أن نقوم بالخطوة التي ىرب منيا مفكرنا بأنفسنا ،وأن نحظى بمعرفة كافية عن
261
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
حدود أرض اسرائيل (أرض الميعاد) عمى األقل في واحدة من أىم المحطات التاريخية والنصية
التي ورد فييا ذلك الوعد اإلليي.
تتضمن أسفار التوراة – وخاصة األسفار الثلثة (التثنية ،العدد ،يشوع) ،نصوصاً تصف
حدود أرض الميعاد من الجيات األصمية األربعة ،ولعل أكثرىا دقة ووضوحاً ومما يتيسر لنا
التعامل معو ويمكن ايصالو الى عموم القراء عمى اختلف وتباين مستويات اطلعيم ،التحديد
الجغرافي الذي ورد في سفر العدد ،والذي سنتعامل معو تجريبياً وتطبيقياً في السياق التالي،
نظ اًر ألىميتو بالنسبة لما سيأتي متصلً بيذا الشأن مما سنخصص لو مساحة ميمة من ىذه
الدراسة ،وأقصد بذلك ما جاء في سفر يشوع بن نون.
يسرد سفر العدد حدود أرض الميعاد من الجيات األربع ،كما يمي:
.2الحدود الغربية" :وأما تُخـ الغرب فيكوف البحر الكبير لكـ تُخماً ،ىذا يكوف لكـ تُخـ
الغرب"(سفر العدد.)5 :23 ،
.3الحدود الشمالية" :وىذا يكوف لكـ تُخـ الشماؿ :مف البحر الكبير ترسموف لكـ إلى
جبؿ ىور .ومف جبؿ ىور ترسموف إلى مدخؿ حماة وتكوف مخارج التخـ إلى صَدَد .ثـ يخرج
التخـ إلى زفروف وتكوف مخارجو عند حصر عيناف .ىذا يكوف لكـ تُخـ الشماؿ"(سفر العدد،
.)8-6 :23
262
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
.4الحدود الشرقية" :وترسموف لكـ تُخماً إلى الشرؽ مف َحصَر عيناف إلى شفاـ.
وينحدر التخـ مف شفاـ إلى ربمة شرقي عيف .ثـ ينحدر التخـ ويمس جانب بحر َّ
كنارة إلى
الشرؽ .ثـ ينحدر التخـ إلى األردف وتكوف مخارجو عند بحر الممح .ىذه تكوف لكـ األرض
بتخوميا حوالييا"(سفر العدد.)17-11 :23 ،
ىذه إذن ىي حدود أرض بني اسرائيل التي وعد بيا اهلل نبيو موسى ،محددة من الجنوب
ثم الغرب ،ثم الشمال ومن بعد ذلك من الشرق .وبحسب ادعاءات الربيعي بشأن ترجمتو لمتوراة
ومطابقتو لوصف اليمداني ،فإن من المفترض أن تنطبق ىذه الحدود بشكل أو بآخر عمى
خريطة اليمن .لذا ،سنتعامؿ مع ىذا االدعاء بحسف النية ،ونفترض إمكانية أف يكوف صحيحاً
بالفعؿ.
وعمى طريقتو أيضاً ،نقوؿ :ىا ىنا وصؼ توراتي لحدود أرض الميعاد ،وىا ىنا جغرافية
اليمف الطبيعي كما وصفيا اليمداني ،يبقى أف نتحقؽ مف تطابقيما وفؽ تفسيرات مفكرنا
العبقري.
في البدء ،سوف نحاول أن نطابق بين حدود اليمن الطبيعية وحدود أرض الميعاد كما
وردت في النصوص أعله بصورة مجردة من حيث أن الحدود ىي معالم جغرافية طبيعية
كالجبال والوديان واألنيار والبحور وغيرىا ،أو حدود من صنع البشر كالمدن والقرى وغيره ،ومن
حيث أنيا قد تكون حدوداً برية أو بحرية .فكما ىو ظاىر في الخريطة أعله فإن اليمن تقع في
الجزء الجنوبي من جزيرة العرب ،محاطة بحدود بحرية من ثلث جيات (الغرب ،الجنوب،
الشرق) ،وبحدود برية من جية الشمال ،تمتد عمى خط أفقي مف نقطة ما عمى ساحؿ الخميج
العربي شرقاً الى نقطة مقابمة ليا عمى ساحؿ البحر األحمر غرباً.
في المقابل من حدود اليمن الجغرافية ،يشير وصف التو ارة لحدود األرض الموعودة الى
اء من الحدود الشرقية تقع عمى بحر أيضاً ،لكن
حد بحري كامل من جية الغرب ،والى أن أجز ً
ليس كل الحدود الشرقية طبعاً ،ألن ثمة أجزاء منيا يبدو بحسب النص أنيا ال تقع عمى ذلك
البحر الشرقي بل عمى البر المتصل بو ،أما الحدود الشمالية فكميا برية ،وكذا الحدود الجنوبية
263
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
التي ىي خط بري يمتد من نقطة قريبة من البحر المشار إليو بأنو واقع في الجية الشرقية الى
نقطة ما عمى ساحل البحر في الغرب.
[]1
خريطة رقـ ( :)1جغرافية اليمف الطبيعية مبينة فييا الحدود الشمالية كما حددىا اليمداني .
التطابق الوحيد الذي يمكن القول باحتمال وجوده حتى اآلن بين الوصف التوراتي
والجغرافية اليمنية يتمثل في الحدود الغربية .فحدود أرض الميعاد من جية الغرب بحرية ،وىو
كذلك بالنسبة الى الحد الغربي لميمن ،ولو أخذنا بعين االعتبار أن نصوص التوراة تشير الى أن
جزًء من الحدود الشرقية ألرض الميعاد ىو حد بحري ،فيما الجزء اآلخر يبدو برياً ،وىذا ما
يمكن ايجاد تفسير لو عمى خريطة اليمن ،باحتمال أن تبدأ حدود أرض الميعاد من جية الشرق
من نقطة برية بعيدة عن ساحل الخميج العربي ،ثم تستمر ىبوطاً نحو الجنوب الى أن تصل الى
[ .]1عبد اهلل محمد ظافر :نزىة المشتاق لميمن -حدود وخرائط وشؤون اليمن في البمدانيات من القرن التاسع
وحتى القرن الرابع عشر الميلدي ،مرجع سابق ،ص .51
264
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
نقطة ما عمى ساحل الخميج بحيث تصبح الحدود من عندىا بحرية الى أن تصل الى نقطة ما
في الطرف الجنوبي لمخميج ينعطف من عندىا خط الحدود نحو الداخل لتظير مجدداً حدوداً
برية تستمر حتى تصل الى النقطة التي تبدأ من عندىا الحدود الجنوبية ألرض الميعاد من
نقطتيا الشرقية.
وال مانع ىنا ،مف إلقاء نظرة عمى حدود أرض الميعاد وفؽ التفسير التقميدي لتكتمؿ
الصورة ،وتتسيؿ لمقارئ بعض متطمبات المقارنة -أنظر الخريطة أدناه.
خريطة رقـ ( :)2حدود أرض الميعاد وفؽ التفسير التقميدي لمنص التوراتي والذي يضعيا في نطاؽ جغرافية
فمسطيف وبالد الشاـ
265
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
وألن حدود أرض الميعاد الجنوبية ىي حدود برية ،وىذا ما يبدو واضحاً من كل نصوص
التوراة التي تصف دخول بني اسرائيل أو اقترابيم من تمك األرض قادمين من مصر بأنو كان
من جية الجنوب ب اًر ،وىذا ما حدا بالنص أن يبدأ بوصف الحدود الجنوبية ،وىو أيضاً ما نفيمو
من عبارة (إنكـ داخموف الى أرض كنعاف) ،فإن ىذا الوصف يسقط من اعتبارنا أن يكون لبحر
العرب في جنوب اليمن أي علقة باألمر ،بما يقضي أن نبحث عن الحدود الجنوبية ألرض
الميعاد في جغرافية اليمن بين نقطتين بعيدتين عنو وترسمان حداً برياً بينيما ،وبالمثل بالنسبة
لمحدود الشمالية كونيا برية أيضاً ،غير أن ىذا يوجب عمينا أن نستعين بعلمات وأمارات
تساعدنا عمى االىتداء تحديد خطي الحدود الجنوبية والشمالية ألرض الميعاد عمى الجغرافية
اليمنية بدقة ،ولن نجد أفضل من االستعانة بأسماء المناطق ومواقعيا عمى امتداد الحدين كما
يصف النص التوراتي.
تبقى لدينا مشكمة البحر المشار إليو في النص التوراتي من الحد الشرقي ،إذ لسنا عمى
يقين بأي حال من األحوال أن ما افترضناه قبل قميل قد يكون ممكناً ،وبالتالي فإن أي تطابق
جغرافي مجرد وبحت بين حدود أرض الميعاد وجغرافية اليمن يبدو من الناحية الجغرافية المجردة
ىشاً وضعيفاً لمغاية من الجيات الجنوبية والشمالية والشرقية ،في الوقت الذي يظل فيو التطابق
في الجية الغربية في موضع اختبار وتحقق حتى يثبت بثبوت الحدود عمى الجيات الثلث
األخرى.
واآلن ،سنبحث عن التعيينات التي اختارىا مفكرنا الربيعي عمى مساحة الجغرافية اليمنية
مما يقع فعلً عمى الخطوط الحدودية المذكورة في النص التوراتي ،وىذا ما سيساعدنا كثي اًر في
التحقق من التطابق الذي لطالما أكد عميو في كتابو ،وىو نفسو ما سيضعنا في سياق مباشر
الستقصاء حقيقة منيجو الذي اعتمد عميو في ترجمة ورسم أسماء تمك المواقع.
وفؽ ىذه الرؤية ،سنقوـ باختبار تجريبي وتطبيقي لمتحقؽ مف مدى تطابؽ الحدود
الجنوبية بيف النص التوراتي والتفسير الربيعي محموالً ىذا األخير بوصؼ اليمداني ،واختيارنا
لمحد الجنوبي ليس قصدياً بالدرجة األولى ،بؿ ألنو يرد في السفر األخير مف األسفار الخمسة
266
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
لمتوراة الموسوية ،وألف وصؼ الحد الجنوبي ىو أوؿ ما ورد في النص التوراتي مف ىذا
السفر ،وألف الحد الجنوبي نفسو ىو المدخؿ األساسي الذي نيض بو مفيوـ أرض اسرائيؿ
عمى أرض الواقع – كما يخبرنا النص -بعد مرحمة الخروج مف مصر ،إذ إف عممية احتالؿ
األرض الموعودة مف قبؿ الييود قد جرت أساساً بناء عمى تحديد ذلؾ الحد الجنوبي ليا ،فيما
ظؿ البحر الغربي حداً حتمياً ،ومف ثـ فإف توسيع نطاؽ االحتالؿ وتحشيد أرض الييود قد ظؿ
يجري في االتجاىيف الشمالي والشرقي ،وليذا كمو سيكوف مف المناسب جداً أف نجري اختبارنا
عمى الحد الجنوبي.
لكي ينجح األمر بالنسبة للختبار الذي نزمع عمى القيام بو ،نحتاج في البداية وعمى
األقل لثلثة مواقع لمتحقق من مدى مطابقة جغرافية الربيعي المتخيمة مع النص التوراتي من
جية ،ومطابقة تفسير الربيعي مع اليمداني من جية أخرى ،إذ يشير النص التوراتي الى أن
مركز حدود أرض الميعاد من الجنوب ىي (برية صيف -التي ىي الى جانب أدوم) -أي أن
(برية صيف) ىذه تقع في الوسط من الحد الجنوبي ،أما بداية ىذا الحد فتكون من طرف (بحر
الممح) الذي يقع في الشرق ،ثم يدور ىذا الحد أفقياً عمى عدة مواقع برية باتجاه البحر في
الغرب ،وىذه المواقع ىي( :عقبة عقربيـ ،صيف ،الجنوب من قادش برنيع ،حصر أدار،
عصموف ،وادي مصر) ،ومن بعد ذلك ينتيي الحد الجنوبي عند مخارجو في البحر الى الغرب.
بعد بحث أرىقتنا فيو التحقيقات التي كان البد من إجرائيا لمتثبت من دقة اختيارنا
لألسماء التي عالجيا مفكرنا في كتابو ،والتأكد من أنيا ىي المقصودة والمتطابقة تماماً مع ما
جاء ذكره منيا في النص التوراتي مما يتعمق بالحد الجنوبي ألرض الميعاد ،وجدنا أن الربيعي
قد حدد فعلً ثلثة مواقع مما يدخل في تشكيل ىذا الحد كاملً من طرفو الشرقي الى وسطو،
ومن ثم الى نيايتو في الغرب ،وىي المواقع الثلثة( :برية صيف ،بحر الممح ،وادي مصر).
كما أشرنا سابقاً ،فيذه المواقع الثلثة كافية جداً لمتحقق من مدى مطابقة ذلك عمى
جغرافية اليمن الطبيعية ،في رسم الحدود الجنوبية ل ـ (بلد الييود).
267
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
لنبدأ من عند الموقع الذي اسمو في التوراة (برية صيف) ،إذ ترجم الربيعي ىذا االسم الى
(جبؿ ضيف -بالضاد بدالً مف الصاد)[ ،]1وبالطبع فقد توقعنا مسبقاً أن يكون مفكرنا قد وجد
(ضين) ىذه عند اليمداني ،وليس أن تعيينو ليذا االسم ناتج عن إجراء ترجمة قام بيا أو ما
شابو ،إذ ال يوجد أي أساس لغوي أو منطقي أو حتى خرافي تدعو الى ترجمة اسم (صين) الى
(ضين) .وبالفعل ،كان توقعنا صحيحاً جداً ،من حيث وجدنا (ضين) في موضع واحد من كتاب
اليمداني ،كان يتحدث فيو عن (الجباؿ المشيورة في اليمف وسائر أجزاء جزيرة العرب) ،حيث
أشار الى من تمك الجبال .." :ضيف مدع شظب ىيالف جبؿ ممح.]2["..
ال يتوقؼ األمر عند ىذا الحد ،بؿ اتضح لنا أيضاً لماذا اختار الربيعي (ضيف).
اء
وكما أشرنا آنفاً ،فإن تحويل اسم (برية صين) الى (ضين) من قبل الربيعي كان اجر ً
انتقائياً ال علقة لو بأي ترجمة ممكنة أو محتممة لمنص التوراتي ،وىذه اإلجراء االنتقائي ىو
النموذج العام لكل اإلجراءات التي قام بيا لتعيين األسماء التوراتية كما يتوىم في الجغرافية
اليمنية مدعياً أن اليمداني قد شيد بذلك.
إن كل ما أوىمنا بو مفكرنا عن ترجمتو لمتوراة ليس إال محض افتراء .فالترجمة المزعومة
لم تحدث اطلقاً -واطلقاً لم تحدث .فكل ما قام بو الربيعي ليس إال إنو بحث عن المتشابيات
من األسماء الجغرافية التي ذكرىا اليمداني في كتابو مع ما ورد من األسماء الجغرافية في
التوراة ،ثم قام بانتقاء األسماء الملئمة ألغراضو من كتاب اليمداني ،واعتبار أنيا ىي التي
يجب أن تكون في النص التوراتي الذي صار ينطق بيا فقط في كتابو.
ىذا كؿ شيء!!..
حتى يتبين لنا ىذا التلعب ،نقول أن السياق الذي ذكر فيو اليمداني جبل (ضين) جاء
فيو ذكر جبل آخر اسمو (ممح) -وىو جبل لـقبيمة (يام) -األمر الذي يتشابو ظاىرياً مع السياق
التوراتي الذي ترد فيو (برية صين) في سياق يربطيا برباط حقيقي ووثيق بموقع آخر يدعى
[ .]1فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .742
[ .]7الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .727
268
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
(بحر الممح) .فتوىم صاحبنا وسعى الى إييامنا -كما ىي عادتو -بأن ىذا متطابق مع النص
ال توراتي الذي يربط بين بحر الممح وبرية صين باعتبارىما مما يقع عميو خط الحد الجنوبي
ألرض اسرائيل ،عمماً بأن الربيعي لم يتطرق أبداً لمسألة حدود أرض الميعاد اطلقاً ،بل عين
ىذه المواقع بصورة عشوائية وانتقائية بعيداً عن ىذه المسألة تماماً ،وىذا ما ستبين لنا أكثر عند
السمي (بحر الممح ،وادي مصر).
ّ التطرق الى معالجتو
عمى نفس اآللية ،حول الربيعي (بحر الممح) الى (ياـ الممح)[ -!!..]1وعندما نحاول
اكتشاف األساس المغوي والمعجمي الذي أقام عميو مفكرنا ترجمتو ليذا االسم ،لن نفمح في إيجاد
أي أساس منطقي ،لكننا نستطيع بسيولة اكتشاف األساس التمفيقي الذي استند إليو ،وىو أنو
طابق بين كممة (يم) العبرية التي تعني (بحر) من جية ،وبين اسم (يام) وىو اسم منطقة يمنية
تنسب الى قبيمة (يام) اليمدانية الساكنة في نجران منذ القدم ،ونظ اًر لوجود اسم (جبل ممح في
منطقة يام) ،فقد حول مفكرنا (بحر الممح /يم ممح) الى (يام الممح)!!..
ترى ،ىؿ ىذه ترجمة أـ تالعب أـ شعوذة أـ استخفاؼ بعقولنا؟! -في الحقيقة ،ىذه
ىي كؿ ما سبؽ ،باإلضافة الى كونيا قعقعة ال تنطوي عمى أكثر مف المغو واليراء!!..
ىذا ىو األساس التمفيقي الذي اعتمده الربيعي في مقاربتو ،األمر الذي يؤكد عمى أن
ترجمتو لمنص التوراتي العبري ليست إال محض افتراء صار من السيل جداً اثباتو مع سائر
األسماء التي عالجيا في كتابو.
عدا عن ذلك ،فإننا ال نرى من مفكرنا شيء سوى القعقعات التي لطالما رددىا عن تحول
حرف (الصاد) العبري الى حرف (الضاد) العربي ،وغيرىا من القعقعات التي أطنب فييا حديثاً
وثرثرة عن الزوائد اللصقة والبوادئ المنقرضة من الحروف ،األمر الذي يتناقض أساساً مع
ادعائو بأنو تعامل مع األسماء بدون إجراء أي تلعبات لغوية ،فإذا كان تحويل الصاد الى
ضاد واضافة حروف بادئة وافتراض وجود زوائد الصقة منقرضة ،ال يعد تلعباً لغوياً ..فما
الذي عساه يكون تلعباً؟!
[ .]1فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .742
269
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
في الحقيقة ،ىذه واحدة مف أسوأ سقطات مفكرنا العبقري التي لـ يستطع أف يخفييا
عمى اإلطالؽ.
لنتوقف قميلً إزاء التحويل التمفيقي لمصاد العبري الى الضاد العربي .فحتى وان كانت
ىناك بالفعل قاعدة لغوية تفيد بإمكانية إجراء مثل ىذا التحويل ،إال أن من الضروري أن يكون
ليا أساس ونطاق معين تجري عميو ،إذ أن مثل ىذه القواعد ىي في الغالب ذات طابع خاص،
بحيث يجري تطبيقيا في نطاقات محدودة تتفاوت ضيقاً واتساعاً من قاعدة الى أخرى ،وبالتالي،
فإن قاعدة مثل ىذه يستحيل أن تكون عامة وشاممة لتسري عمى كل األلفاظ التي يرد فييا حرف
الصاد العبري ،بحيث نحولو دائماً الى حرف (الضاد) عندما نقوم بتعريبيا.
علوة عمى ذلك ،نقول إذا كان حرف الضاد باألصل غير موجود في العبرية وال ينطقو
المتكممون بيا ،فكيف يتحول (صاد) العبريين الى (الضاد) العربي ،في الوقت الذي يوجد فيو
في العربية -أصلً وفصلً -شيء اسمو حرف الصاد؟!
ولو قمنا أن األصل في الكممة ىو (ضين) اليمنية – العربية -وأنيا ىي التي تحولت الى
(صين) في العبرية ،فاألقرب الى الرجل العبري أن ينطق الضاد (دال) من حيث أن الضاد
والدال يخرجان من مخرج صوتي واحد أو متقارب عمى األقل ،والدال موجود -مخرجاً وصوتاً
وحرفاً ورسماً -في العبرية .فيقال حينئذ (دين) وليس (صين) ،واذا كان حرفي السين والصاد
متقالبان سواء في العبرية أو العربية ،فمماذا ال تصبح (صين) العبرية (سين) بالعربية ،خاصة
وأن الصيغة (سين) ومشتقاتيا شائعة جداً في األسماء التوراتية ،ناىيك عن المعجم العبري؟!-
كما أنيا كذلك في المعجم العربي.
بيد أن المسألة عند الربيعي ال تتصل بمخارج الحروف وتحوالتيا الفونيمية (الصوتية)
فحسب ،بل إنو دائماً ما يؤكد عمى كونيا أيضاً مسألة متصمة بالرسم الكتابي لمحروف ،وال
نعرف من أين استمد مفكرنا العبقري ىذا االمتداد فيما يعمم أكثرنا أن ىناك فرقاً شاسعاً بين
(المغة) و(الكتابة)؟!
وىذه أيضاً ،سقطة أخرى ال وصؼ ليا إال إنيا مريعة ،ومريعة جداً.
270
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
عموماً ،مثل ىذه االعتراضات التي قدمناىا -رغم وجاىتيا وقوة منطقيا وحجتيا -قد
تفتح لمعارضينا باباً واسعاً لجدل عقيم ال ينقصنا اآلن أن نخوض فيو .فما نحتاج إليو بالفعؿ
ىو أدلة وبينات ثابتة وقاطعة ال يمكف االلتواء أو االحتياؿ عمييا ،وىذا ما سنحرص عمى
توفيره لتدعيـ نقدنا وقطع الطريؽ عمى أي مكابر أو معاند أف يخوض معنا في جدؿ سقيـ.
نعود الى موضوعنا ،من حيث يفترض بحسب النص التوراتي أن يكون الموقع المسمى ب ـ
(وادي مصر) في طرف الحد الجنوبي من جية الغرب ألرض الميعاد وذلك عمى البر وقبل أن
ينتيي ذلك الحد عند مخارجو عمى ساحل البحر الكبير ،فأيف حدد الربيعي موقع وادي مصر
ىذا؟!
يرد اسـ (وادي مصر) في النص التوراتي العبري بــصيغة (نحؿ مصريـ /نخؿ مصريـ)،
بمعنى وادي مصر .وفي ىذا يقول الربيعي" :بكؿ يقيف أراد سارد النص مكاناً يدعى (وادي
مضر -وادي المضرييف) ،أي مف ساحؿ مضر.]1["..
ومن حيث يبدو أن (صاد) العبرية لم يجد لو شبيياً إال (ضاد) العربية التي تنفرد بو
العربية عن سائر لغات األرض ،نالحظ أف مفكرنا لـ يزد عمى ما أشرنا إليو بشأف ترجمة
االسـ العبري ،ولكنو مُصر عمى تحويؿ الصاد العبري الى الضاد العربي ألنو عمى يقيف مف
أف ىذا ىو قصد سارد النص التوراتي ،وال نعرؼ -واهلل -مف أيف جاءه ذلؾ اليقيف؟!
في الحقيقة ،أنو وحيثما ورد ذكر (مُضر) في صفة جزيرة العرب ،فإننا ال نجد ليذا االسـ
أي عالقة تاريخية أو جغرافية أو سكانية بجغرافية اليمف .فيو اسم شيير لقبيمة عربية شمالية
عدنانية اسماعيمية ىاجرية من بني عمومة بني اسرائيل من السللة االبراىيمية ،ومواطنيا
معروفة وثابتة في شمال جزيرة العرب عمى شط الفرات وفي الجزيرة الفراتية وبوادي الشام ،وعمى
ىذا النحو يذكرىا اليمداني في كثير من المواضع ،إذ يقول في أحدىا" :وأما باقي أجزاء ىذا
[ .]1فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .745
271
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
الربع الذي يمي وسط األرض المسكونة وما يقع في جزيرة العرب منو أو يجاورىا فآذربيجاف
وتخوـ ديار ربيعة وديار مضر إلى ما يمي الجنوب"[.]1
عموماً ،ال يوجد عاقل يمكن أن يتصور أن أذربيجان تقع بجوار اليمن لكي يقال بأن
مضر يمكن أن تقع فييا.
وىكذا ،فإنو ال يوجد عمى اإلطالؽ وادياً أو جبالً أو صخرة أو حتى بغمة في ذيؿ قافمة
مرت عمى أرض اليمف واسميا (مُضر) حتى
ألبي سفياف قبؿ ألؼ وخمسمائة سنة مف اليوـَّ ،
يذكرىا اليمداني.
وألن الربيعي أدرك ذلك عمى ما يبدو واصطدم بو ،نجده وقد سارع الى االحتيال عمى ىذه
الحقيقة واييامنا بشيء آخر يخفي بو ىروبو منيا ،قائلً .." :والذي سوؼ يُدعى تالياً ساحؿ
كنانة أكبر بطوف مُضر -]2["..قصده أن وادي مضر أطمق عميو الحقاً اسم وادي أو ساحل
كنانة.
عمى خلف (وادي مضر) الذي لم يذكره اليمداني إطلقاً ،نجد أنو قد ذكر ساحل كنانة
فعلً ،بقولو .." :ساحؿ كنانة ىو وحمضة والمّيث ومركوب وادياف فييما عيوف.]3["..
وبحسب اليمداني أيضاً .فإن ساحل كنانة يقع في أرض الحجاز بعيداً عن حدود اليمن
الطبيعي .إذ أن منطقة (الميث) الواقعة أساساً عمى ساحل البحر األحمر تعتبر من أراضي
الحجاز الواقعة بعد انتياء حدود اليمن الشمالية من الجية الغربية بمسافة كبيرة نسبياً.
واذا ما أخذنا باالعتبار ما ذكره الربيعي عن (وادي مضر بأنو ىو وادي كنانة) ،سنجد أن
ىذه المنطقة تقع فعلً في أرض تيامة الحجازية ،وىذا ما يؤكده اليمداني ،بقولو" :وأـ جحدـ
قرية بيف كنانة واألزد وىي حد اليمف"[ -]4فأم جحدم ىذه ىي منتيى حدود اليمن ،وبعدىا يأتي
[ .]1الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .64
[ .]7فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .745
[ .]2الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .727
[ .]3المرجع السابق ،ص .81
272
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
امتداد ساحل كنانة صعوداً نحو الشمال ومنو وادي حمضة والميث ومركوب ،وىذه جميعاً أماكن
تقع خارج حدود اليمن الطبيعية كما حددىا اليمداني -أنظر الخريطة أدناه.
خريطة رقـ ( :)3موقع ساحؿ كنانة في الحجاز خارج حدود اليمف الطبيعي كما وضحيا اليمداني
إذف ،فال وادي مُضر في اليمف ،وال ساحؿ كنانة أيضاً يقع فييا وال ىـ يحزنوف-!!..
كميا ىذه مناطق تقع خارج نطاق حدود اليمن الخضراء والطبيعية.
وألن الربيعي عمى ما يبدو قد أدرك ىذا أيضاً ،فقد قرر أن يحتال مرة أخرى عمى القارئ
ويحيمو الى اسم مشابو لو واقع في نطاق جغرافية اليمن وىو (وادي مسور) ،إذ يقول .." :وعمى
273
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
مقربة مف ىذا الوادي -أي وادي مضر أو وادي كنانة -يوجد واد آخر في مخالؼ خوالف
يدعى – حسب رسمو العربي( -وادي مسور)[.]1
بالفعل ،ىذا الوادي مما ذكره اليمداني ،بقولو .." :ووادي مسور ،فمف أدناه ثرباف
وعصفاف ومف أقصاه زبار والحجمة والحسؼ ووادي مالحاً ومالحاً أيضاً بالجوؼ.]2["...
غير إننا ال نعرف بالضبط ،كيف يفيم مفكرنا عبارات من نوع (بالقرب)؟! -فالمسافة بين
وادي مسور ووادي كنانة أو ساحل مضر تنوف عمى ( )1711كيمو متر أو أقل من ذلك بشيء
يسير.
خريطة رقـ ( :)4موقع وادي مسور جنوبي صنعاء بالنسبة الى ساحؿ كنانة في الشماؿ الغربي مف مكة في
منطقة الحجاز (فيما الربيعي يصفيما بأنيما بالقرب مف بعضيما)!!..
[ .]1فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .745
[ .]7الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .714
274
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
عالوة عمى ذلؾ ،ما ىي عالقة وادي مسور بوادي مضر ووادي كنانة؟! -وما عالقة
ىذه األسماء بوادي مصر التوراتي؟! -ال شيء سوى التشابو المفظي والتمفيق الفاشل الذي
يقدمو لنا مفكرنا العبقري عمى الدوام.
ثـ ،أياً مف ىذه المواضع ىو (وادي مصر) يا مفكرنا الجيبذ؟! -ال ندري ،ربما عمينا أن
نخمن أو أن نستعين بصديق أو ما شابو -!!..ال بأس ،يمكن أن نضع احتمالين.
عمى كؿ حاؿ ،فقد صار لدينا ثلثة تحديدات لمربيعي مما يمكن أن يتعين بيا الحد
الجنوبي ألرض الميعاد كما جاء في النص التوراتي ،وىي:
أوالً ،الطرؼ الشرقي مف الحد الجنوبي ألرض الميعاد= (بحر الممح) ،حدده الربيعي بأنو
(ياـ الممح -جبؿ في بمد قبيمة ياـ اليمدانية اليمنية بوادي نجراف) ،وىو الذي يفترض أن يبدأ
من عنده الحد الجنوبي كما جاء في نص التوراة.
ثانياً ،مركز أو وسط الحد الجنوبي ألرض الميعاد= برية (صيف) ،حدد الربيعي موقعيا
بأنيا في (جبؿ ضيف) ،وىو الذي يفترض أن يكون في مركز الحد الجنوبي كما في النص
التوراتي.
ثالثاً ،الطرؼ الغربي مف الحد الجنوبي قبؿ مخارجو الى البحر= (وادي مصر) :وقد
حدد مفكرنا لو موضعين :األول( ،وادي مضر أو ساحؿ مضر -أو وادي وساحؿ كنانة)،
والموضع الثاني ىو (وادي مسور) ،وىذا الموضع يفترض أن يكون آخر نقطة لمحد الجنوبي
قبل أن ينتيي الى الساحل الغربي.
لكي يتضح األمر لمقارئ العزيز ،فإن ما قمنا بو بعد ذلك ليس إال إننا قمنا بتعيين ىذه
المناطق بشكل فعمي عمى خريطة اليمن ،ورسمنا خطاً بينيا ،وىو الخط الذي يفترض أن يكون
ىو الحد الجنوبي ألرض الميعاد كما في الوصف التوراتي ،وألن لدينا احتماالن إزاء الموقع
الثالث ،فقد تكونت لدينا خريطتان توضح كل منيما احتمال منيما.
275
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
واآلف ،الى أي مدى تتطابؽ ىذه التحديدات بيف ما جاء في النص التوراتي عف الحد
الجنوبي ألرض اسرائيؿ الموعودة وما جاء في كتاب اليمداني وما ىو عميو الواقع في
جغرافية اليمف الفعمية؟!
لإلجابة عمى تساؤلنا األخير ،سوؼ نستعرض النتائج التي توصمنا إلييا كما يمي:
أوالً ،أن اليمداني قد ذكر جبل (ضيف) في سياق كان فيو يعدد الجبال المشيورة ،وبالتالي
ال يجب أن نفيم من ذلك أن ىذه الجبال تقع في نسق مكاني واحد بالنسبة لبعضيا البعض ،بل
ىي جبال مشيورة في جزيرة العرب عددىا اليمداني وفق نسق جيوي بدأ فيو من جنوب اليمن
صعوداً نحو الشمال ،فجبال .." :دثينة وجرش ومف ثـ صبر وتعكر وبعداف وريماف" التي
ذكرىا في بداية فقرتو ىذه تتدرج مواقعيا من الجنوب الى وسط اليمن ..لكنو في نياية الفقرة
يصل الى .." :جبؿ الحضف بأرض نجد ،عارض اليمامة ،وجبال طيء أجأ وسممى،]1["..
وىي مما يقع في نجد خارج حدود اليمن الطبيعية ،وىذا بدوره يسقط الفكرة التي يدعييا الربيعي
من أن جبل (ضيف) وجبؿ (ممح) جبلن يقعان في نسق مكاني واحد عمى نحو ما تصفو التوراة
بالنسبة ل ـ (برية صيف) و(بحر الممح) ،باعتبارىما موقعان جغرافيان يدخلن في نطاق أرض
الميعاد ،فضلً عن كونيما يشكلن معاً جزًء من خط رسم الحد الجنوبي لتمك األرض.
(برية) ،وليس
ثانياً ،أن اسم (صيف) التوراتي قد ورد مرتبطاً بصفتو الطبوغرافية بأنو َّ
منطقة جبمية أو أنو بحد ذاتو (جبؿ) ،كما أن اسم (الممح) ىو اآلخر يرد في التوراة بصفة
طبوغرافية محددة وىو أنو (بحر) ،وفي المقابل يشير اليمداني الى أن (ضيف وممح) جبلن
وليسا برية وبحر .فكيؼ لمكاف تصفو التوراة بأنو (برية) ومكاناً آخر تصفو بأنو (بحر) أف
يصبح كؿ منيما جبالً؟! -وما عساه المسوغ الجغرافي أو الطبوغرافي أو التاريخي أو المغوي
أو الخنفشاري الذي يجعمنا نقبؿ بػ ىكذا أمر؟!
الحقيقة ،إنو لمن الصعب جداً ،بل ومن غير الموضوعي والعممي أن نتجاىل في سياق
بحث جغرافي عبارات الوصف الطبوغرافية التي تسبق أو تمحق أسماء المواقع الجغرافية ،مثل:
[ .]1الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .727
276
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
جبؿ ،بحر ،واد ،نير ،تؿ ،قرية ،مدينة ،برية ...الخ ،ألن ىذه العبارات الوصفية ىي األساس
الذي نعتمد عميو في تعيين المناطق ومواقعيا بدقة ،أما األسماء التالية فميا أسس أخرى سواء
من حيث سبب اطلقيا أو من حيث مدلوليا .فقد تتسمى األماكن بأسماء رجال أو نساء أو
قبائل أو بأسماء ذات مدلول ثقافي أو بيئي متجانس مع ثقافة المنطقة التي تنتمي إلييا ،فكثير
ما نجد جبلً ووادياً وقرية تسمى معاً في الوقت نفسو باالسم (ضين) وىذا أمر شائع وليس غريباً
أو مجيوالً ،بل أن التوراة تتحفنا بذكر موقع بذاتو في نطاق برية (صين) اسمو (صين) ،بما
يعني أن البرية قد نسبت الى ىذا الموقع أو العكس.
ىذا إف دؿ عمى شيء ،فإنما يدؿ عمى أف مفكرنا العظيـ ال يفقو شيئاً في الجغرافيا أو
في عمـ األسماء الجغرافيا (طوبنيما) ،وال يعمـ قطعاً أف ىذه المسألة ال يمكف أف تعالج عمى
أساس (اتيمولوجي) أبداً ،ألنيا مما يدخؿ في مبادئ وثوابت عمـ األسماء الجغرافية ،كأحد
أىـ فروع عمـ الجغرافيا المعاصر.
ثالثاً ،من المثير لمدىشة ولمعجب ،بل ومن المسبب حقاً لمبمّو المنغولي ومتلزمة اوكشنج
وكل الطفرات الجينية المؤدية الى الغباء الجغرافي ،أن الربيعي قد حدد جغرافياً موقع (جبل
ضين) ،ىكذا[:]1
"يقع جبؿ ضيف في تيامة عمى مقربة مف الشريط الساحمي المعروؼ بساحؿ
عثر ،وبالطبع فالسائر مف تيامة والساحؿ عبر السراة سوؼ يجتاز المواضع المذكورة
في نصي يشوع واليمداني."..
عجباً!!..
[ .]1فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .751
277
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
خريطة رقـ ( :)5موقع جبؿ ضيف القريب مف صنعاء بالنسبة لػػ عثر عمى ساحؿ تيامة
من الخريطة أعله ،واضح جداً أن جبل ضين الشيير يقع في الشمال القريب من مدينة
صنعاء ،بل وىو أحد الجبال التي أعتمد عمييا في تحديد جية القبمة لجامع صنعاء األول من
عيد اإلسلم صوب مكة ،كما في بعض الروايات المنسوبة الى النبي محمد (ص) ،أما عثر
فتقع بالقرب من ساحل البحر األحمر بعيداً عن ىذا الجبل بمئات الكيمومترات ،وان كانت عثر
تقع فعلً ضمن مناطق تيامة ،فإن جبل ضين ليس كذلك أبداً ،ألنو يقع في نطاق اليضبة
اليمنية الداخمية بعيداً بما ال تقل عن ( )211كيمو متر عن السواحل التيامية.
ال نظف أنو يوجد مخموؽ عمى وجو ىذا الكوكب يعتقد أو يتوىـ أف صنعاء تقع في
تيامة ،فما بالنا وجبؿ ضيف يقع في نطاؽ صنعاء نفسيا!!..
278
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
رابعاً ،بالنظر الى الخرائط الدقيقة والواضحة والقابمة لمتحقق والتأكد من دقتيا من قبل كل
جغرافيي الكوكب ،نتساءل :أيف ىي أدوـ؟!
نقصد (أدوـ) التي ىي بحسب النص التوراتي بالقرب من (برية صيف) التوراتية ،والتي
يفترض أنيا بالقرب أيضاً من (جبؿ ضيف) بحسب التفسير الربيعي ،فضلً عن كون أدوم ىذه
مما يفترض أن تكون واقعة خارج نطاق حدود أرض الميعاد ،أي أنيا أرض أخرى (حوتس
آلرتس)؟!
في واقع الحاؿ ،لقد أجيدنا البحث في متخيمة الربيعي عف (أدوـ) ىذه ،ولكننا لـ نفمح
في ايجادىا.
خامساً ،متى أطمق عمى البحر األحمر اسم البحر الكبير؟! -وما ىو البحر الذي أطمق
عميو فعلً البحر الكبير في المصادر التاريخية القديمة؟
ىذه نقطة بالغة األىمية ،فالبحر األحمر لم يعرف يوماً أو يطمق عميو أو يشار إليو بأنو
ىو (البحر الكبير) ،بل عمى العكس من ذلك تماماً ،فإن ىذه التسمية قد أطمقت عمى البحر
األبيض المتوسط ،وىذا باتفاق جميع المصادر وعمى رأسيا النقوش المسمارية اآلشورية .إذ يرد
ىذا االسم مشي اًر بوضوح الى البحر المتوسط في إحدى حوليات الممك اآلشوري (آشور ناصر
باؿ الثاني) ،التي يخبرنا فييا عن الحدود الجغرافية لمممكتو بفضل غزواتو التي شممت مناطق
واسعة من الشرق االدنى القديم -والتي لم تشمل اليمن إطلقاً كما يتوىم الربيعي ،-قائلً ،بأنو:
"الممؾ الذي اخضع (األ راضي الممتدة) مف الضفة المقابمة لدجمة حتى جبؿ لبناف
والبحر الكبير.]1["..
يمي :المعارف الجغرافية عند العراقيين القدماء ،أطروحة دكتوراه ،جامعة الموصل،
[ .]1عامر عبد اهلل نجم الج َم ّ
العراق . 7115 ،ص .62
279
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
"جعؿ الناس تشاىد باكت ( )pagutuالقردة الضخمة والتمساح وثور البحر (؟)
(الجاموس) ومخموقات البحر الكبير التي كاف ممؾ بالد (مصر) قد ارسميا"[.]1
قبل أن نعمق عمى ما جاء في النقشين أعلىـ ،البد من التأكيد عمى أن مفكرنا الفاضل
لطالما أدوشنا بأن (مصر) التي ترد في التوراة ىي (مصر) أخرى ال يقصد بيا مصر النيل
قطعاً -حد تعبيره ،-ولطالما أشار الى أن المقصود ب ـ (مصر /مصرايم) التوراتية ىو منطقة
يمنية تسمت بيذا االسم.
حسناً ،إذا كانت (مصر) المقصودة في ىذا النقش المسماري األوؿ تقع في اليمف ،فيؿ
يوجد في اليمف (جبؿ لبناف) بجوار (البحر الكبير) ،أـ أف النقش يشير الى جبؿ لبناف الذي
نعرفو ويقع عمى سواحؿ البحر المتوسط؟! -واذا كانت (مصر) التي ترد في النقش الثاني تقع
في اليمف ،فمتى عرفت اليمف (الجواميس والتماسيح)؟! -فالتماسيح بالذات ال يمكف أف
تعيش في اليمف ،لسبب بسيط يعرفو كؿ المتخصصيف في الجغرافيا البيولوجية والبيئية ،وىو
أنو ال توجد (موائؿ) مناسبة لعيش التماسيح في اليمف .لكف في مصر النيؿ توفرت عمى مدى
عصور طويمة وحتى اليوـ ربما الكثير مف الموائؿ المائية المناسبة لعيش التماسيح.
أشتير نير النيل نفسو عمى مر التاريخ بأنو موأل لثاني أضخم نوع من أنواع الزواحف
الموجودة في العالم ،والذي يعرف ب ـ (تمساح النيؿ) ( ،)Crocodylus Niloticusوتعتبر
محافظة أسوان من أشير المناطق بوجود التماسيح فييا ،فضلً عن بحيرة ناصر وغيرىا من
األماكن في مصر ،وتقوم الدولة المصرية حالياً بجيود كبيرة مدعومة من المنظمة الدولية
المعنية بالتنوع البيئي وحماية األنواع من االنقراض ،في سبيل المحافظة عمى التمساح النيمي
من مخاطر االصطياد العشوائي ،نظ اًر لشدة الطمب عمى جموده وارتفاع سعرىا عالمياً ،حيث
يواجو ىذا النوع خطر االنقراض ليذا السبب.
ىذه معمومات عامة ،مستمدة أساساً مف أصدؽ مصدر تاريخي وجغرافي ،وىو الواقع
الفعمي.
281
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
فضالً عف ذلؾ ،فإف البيئة الرعوية المصرية مازالت تحتفظ لميوـ بفصيمة الجواميس
مف األبقار الكبيرة والضخمة وأشيرىا اليوـ ثالثة أنواع (البحيري والصعيدي والمنوفي) ،بؿ أف
الجاموس الذي يعيش في مصر يسمى الى اليوـ بػػ (الجاموس المصري) ،أي أف موطنو ىو
مصر ،ويتميز ىذا النوع بمونو الرمادي أو الرصاصي الفاتح والغامؽ الذي يميؿ الى األسود،
وىو مف الجواميس الضخمة ذات القروف الكبيرة والمختمفة األشكاؿ التي اُشتيرت بيا مصر
عمى مر التاريخ.
ومنذ بداية األلؼ الرابع قبؿ الميالد عرفت مصر األبقار الضخمة (الجواميس) ،فظيرت
في المناظر والنقوش المصرية القديـ بحفاوة بالغة ،بؿ وحظيت بمكانة عالية ولربما وصمت
الى مرتبة إليية أحياناً ،حيث ظيرت الثيراف مرسومة أو مصنوعة مف الصمصاؿ ،كما رسمت
عمى جدراف المقابر وفي أشكاؿ ترمز إلى القوة الحربية المقاتمة كما في لوحة الثور الممثمة
لمممؾ المنتصر نعرمر[.]1
[ .]1لممزيد ،راجع :فرانسوا دينالد ،روجيو ليشتنبرج :الحيوانات والبشر تناغم مصري قديم ،ترجمة :فاطمة عبد
اهلل محمود ،مراجعة وتقديم :محمود ماىر طو ،الطبعة األولى ،المركز القومي لمترجمة ،القاىرة.7117 ،
282
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
أما اليمف ،فمـ تعرؼ الجواميس في تاريخيا الطويؿ أبداً ،وانما عرفت فييا فصيمة
األبقار العادية الصغيرة الحجـ عمى مر العصور وحتى اليوـ.
القصد مما سبق ،أن مصر المقصودة في النقوش اآلشورية والبابمية ىي مصر النيل التي
تقع عمى البحر األبيض المتوسط ،وأن البحر الكبير في التوراة والنقوش األثرية القديمة لمختمف
حضارات المنطقة ،ىي تسمية ثابتة لمبحر األبيض المتوسط ،وىذا أمر ال يحتاج الى جدال،
من حيث يمكن تقديم عشرات األدلة األثرية والتاريخية التي تثبت ىذه الحقيقة ،ولكننا نكتفي بما
نراه مناسباً.
سادساً ،أن المواقع الثلثة التي تعرضنا ليا (جبؿ ممح ،جبؿ ضيف ،وادي مضر أو وادي
مسور) ،باإلضافة الى المواقع األخرى الداخمة معيا في رسم الحد الجنوبي ألرض الميعاد،
وىي( :عقربيـ ،صيف ،قادش برنيع ،حصر أدار ،عصموف) -وفق النص التوراتي والذي يجب
283
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
أن يتوافق معو تفسير الربيعي -يفترض أن تكون جميعيا واقعة عمى مسار الحد الجنوبي في
خط أفقي ،تقع الى شمالو جميع أراضي ومدن أرض الميعاد.
لكف النتائج التي توصمنا إلييا تعطينا شكالً عجيباً وغريباً لمحد الجنوبي ألرض الميعاد
بافتراض أنيا كانت في اليمف.
خريطة رقـ ( :)6االحتماؿ األوؿ لخط الحد الجنوبي ألرض الميعاد في التوراة (بحر الممح ،برية صيف ،وادي
مصر) وفؽ التحديدات التي أسقطيا الربيعي عمى جغرافية اليمف والحجاز.
إن النتائج التطبيقية التي توصمنا إلييا من اختبار تحديدات الربيعي الجغرافية لمناطق
أرض التوراة ،وعمى أساس االحتمال األول الذي تكون فيو (وادي مصر) ىو (وادي مضر)
بحسب مفكرنا ،نجد أن الحد الجنوبي يرسم خطاً رأسياً آخذاً مسارين عكسيين إذ يبدأ من جبل
ممح في يام النجرانية منحد اًر جنوباً الى (جبؿ ضيف) في اليضبة اليمنية الداخمية ،ثم يتخذ
284
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
مساره الثاني صاعداً بميل زاوية حادة نحو الشمال الغربي البعيد حتى ينتيي في (سواحؿ كنانة)
في الشمال الغربي أرفع قميلً من مكة الحجازية -أنظر الخريطة رقـ (.)6
أما إذا أخذنا باالحتمال الربيعي الثاني ،الذي تكون فيو (وادي مصر) ىي (وادي
مسور) ،فإننا سنحصل عمى خط حدود رأسي تماماً ينحدر من نقطة في الشمال ىي (جبؿ
ممح) -الذي يفترض أن يكون بحسب النص التوراتي في الشرق من برية صين -متجياً نحو
الجنوب حتى يصل الى (جبؿ ضيف) ،ثم ينكسر ىذا الخط بزاوية حادة الى جية الجنوب
الشرقي حتى يستقر عند (وادي مسور) -الذي يفترض أن يكون بالقرب من مخارج البحر
الكبير في الغرب ،ولكنيا وفق تحديد الربيعي ىذا أصبحت في الشرق بعيداً وبعيداً جداً عن أي
بحر غربي -!!..أنظر الخريطة رقـ (.)7
خريطة رقـ ( :)7االحتماؿ الثاني لخط الحد الجنوبي ألرض الميعاد في التوراة (بحر الممح ،برية صيف ،وادي
مصر) وفؽ التحديدات التي أسقطيا الربيعي عمى جغرافية اليمف.
285
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
واآلن ،إذا كانت ىذه ىي الحدود الجنوبية ،فأين سنجد الحدود الشمالية لموطن أحداث
التوراة ومنازل جماعاتيا وقبائميا؟! -الجواب :طالما وأن الجيات تتحدد بالنسبة لبعضيا البعض
تناظرياً ،وبما إن الحد الجنوبي ألرض الميعاد صار حداً رأسياً وليس أفقياً ،فلبد أن يكون الحد
الشمالي واقعاً عمى خط رأسي آخر يقابمو ،قد نجده في وسط البحر األحمر أو ربما في شواطئ
مصر النيل تبعاً لما ىي عميو مساحة أرض الميعاد في تصور الربيعي!!..
يا ليا من نتائج رىيبة ،من حيث ال ندري أين ذىبت كل تمك التطابقات التي شحنيا
مفكرنا في كتابو بين التوراة واليمداني ،والتي أكد عمى أنيا يستحيل أن تكون مصادفات..؟!-
فيما نقوؿ نحف ،أف ىذا طبيعي جداً ،ألف التمفيؽ والتحريؼ والتخريؼ ال يصنعاف حقائقاً ،وال
يقوداف الى حقائؽ.
بيد أف الكارثة األعنؼ واألدىى التي أحدثيا مفكرنا العمالؽ في حؽ التوراة والتممود
والتاريخ والجغرافيا والحقيقة واألوىاـ ،تتمثل في أن التحديدات التي اختارىا ىو لممواقع التوراتية
الثلثة -من حيث يفترض أساساً أن تكون بقية المواقع األخرى التي نصت عمييا التوراة بأنيا
تقع عمى امتداد خط الحدود الجنوبية ألرض الميعاد وبلد الييود بين النقطتين (بحر الممح في
الشرق) و(وادي مصر في الغرب) ،تجعؿ مف بيت بوس التي ىي أورشميـ عند الربيعي واقعة
الى الجنوب خمؼ ىذه الحدود في حيف يُفترض أف تكوف أورشميـ باألساس واقعة في قمب
أرض الميعاد.
لقد أسفر االختبار التجريبي والتطبيقي لمحد الجنوبي ألرض الميعاد في ضوء تعيينات
الربيعي لثلثة مواقع تحدد وسط ىذا الحد وطرفيو كما وصف ذلك في النص التوراتي ،ومن
خلل اسقاطيا عمى الخارطة اليمنية ،أسفر ىذا االختبار الى نتيجة عجيبة لم تكن عمى
اإلطلق متوقعة ،وىي:
أف (بيت بوس -بالقرب مف صنعاء) التي حدد الربيعي أنيا ىي (أورشميـ) التوراتية،
أصبحت تقع خارج حدود أرض الميعاد تماماً ،في حيف يفترض أف يثبت التفسير الجغرافي
286
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
الذي قدمو مفكرنا العمالؽ بأف بيت بوس تقع داخؿ حدود أرض الميعاد شماؿ الحد الجنوبي،
ألنيا ىي عاصمة أرض اسرائيؿ ،وحاضرة بالد كنعاف ،وقصبة بالد الييود وكورتيا العتيدة..
فكيؼ أصبحت أورشميـ خارج أرض اسرائيؿ يا مفكرنا العبقري؟!
بحؽ اهلل ،كيؼ ألرض الميعاد التي ىي األرض التي يُفترض أف اهلل قد وعد بيا
وأعطاىا لبني اسرائيؿ ،والتي أُطمؽ عمييا في مرحمة ما اسـ (بالد الييودية) ،أف تكوف ىي
موطف أحداث التوراة في الوقت الذي ال نجد فيو أف عاصمتيا ال تقع فييا؟! -ىذا ما فاجأتنا
بو نظرية الربيعي وأدىشتنا وصعقتنا بو ،لمجرد أننا فكرنا برسم الخرائط التي يفترض أنو ىو من
كان يجب عميو أن يرسميا ويتحقق من خلليا من صدق تفسيراتو ومعالجاتو؟
واآلف ،ىؿ بوسع ىذا المفكر العظيـ ،أف يخبرنا متى لُعنت أورشميـ وطُردت وأزيحت
بعيداً عف أرضيا وجغرافيتيا..؟؟!!
وىؿ مازلنا نحتاج الى أدلة تثبت بطالف ىذه النظرية الخرقاء أقوى مف ىذه األدلة التي
قدمتيا لنا الخرائط الدقيقة والثابتة؟!
أعتقد أف ما قدمناه حتى اآلف سيكوف كافياً لقمة قميمة مف أولئؾ المؤمنيف بنظرية
الربيعي وأوىامو ،لكي يُمقوا بنظريتو وكؿ كتبو وحواراتو ومقاالتو ..وكؿ شيء قالو ..وكؿ
شيء يتعمؽ بو الى سمة الميمالت فو ارً وبدوف أدنى تردد..
287
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
)(3
ُ ّ
فوضى الربيعي املتخيلة
كما رأينا ،فقد تضمن وصف الحد الجنوبي ألرض الميعاد في النص التوراتي ،ذكر عدة
مواقع يمر عمييا ىذا الحد ،قمنا نحن بتعيين ثلثة مواقع منيا فقط ،الموقعان المذان يشكلن
طرفي الحد من جيتي الشرق والغرب ،والموقع الوسطي الذي يقع في منتصفو ،عمى أساس أن
ثلثة مواقع تكفي لرسم خط الحدود الجنوبية ألرض اسرائيل أو بلد الييود.
بالرغم من كفاية االختبار السابق في تحقيق اليدف الذي أردنا تحقيقو ،وفي تقديم الحقيقة
التي تعمدنا أن يراىا القراء األعزاء رأي العين ،فإن البعض من المكابرين والمعاندين قد يقولون
بأننا ربما قمنا باالنتقاء أو تصوير األمر كما نحب أن نراه ،وىذا ليس صحيحاً أبداً من حيث
أن بمقدور أي شخص أن يقوم بما قمنا بو ،ونحن عمى ثقة بأنو سيصل الى نتائج كارثية تثبت
مدى الفوضى التي تعبر عنيا نظرية الربيعي وادعاءاتو الخرقاء والسخيفة أكثر مما توصمنا
إليو ،ولكن حرصاً منا عمى أن نوصل الحقيقة بأقصى وضوح ممكن لجميع القراء ،سوف نستمر
في اختبار تحديدات الربيعي الجغرافية لممواقع التوراتية عمى جغرافية اليمن ،مما يفترض أن
يكون واقعاً عمى امتداد الحد الجنوبي لبلد الييود الموعودة.
ذكر النص التوراتي من (سفر العدد )4 -1 :23 ،أن الحد الجنوبي يمر ب ـ (عقربيـ،
صيف ،قادش برنيع ،حصر أدار ،عصموف).
ادعى الربيعي أن األصل العبري السم (عقربيـ) الذي يرد في الترجمة التقميدية ىو
(عقبة العقارب) ،وترجميا بأنيا ىي (معالة العقارب -عقربيـ في العبرية والعربية).
[ .]1تظير معالجات ىذه األسماء في الجدول الذي يظير في :فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد
الثاني ،مرجع سابق ،ص .743 -742
288
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
أما (قادش برنيع) فقد اعتبر أنيا موضعين وليست موضعاً واحداً -!!..الموضع األول
ىو (قادش) وقد حوليا الى (قَدَس) .والموضع الثاني ىو (برنع) ،وحولو الى (برع).
وأيضاً اعتبر الربيعي أن (حصر أدار) موضعين وليس موضع واحد :الموضع األول
(حصر) وقد اعتبر أن األصل العبري منو ىو (حصروف) وأن المكافئ العربي لو ىو (حضر)،
أما الموضع الثاني (أدار) فاعتبر أن األصل العبري منو (ءدر) وأن المكافئ العربي لو ىو
(أدراف).
إزاء ىذا التحميل والمعالجة العجيبة إلسمي (قادش برنيع ،حصر أدار) ،البد من
استحضار ادعاء الربيعي حرفياً ،إذ يقول[:]1
"ومف غير شؾ أيضاً فإف وجود كؿ ىذا العدد مف األماكف التوراتية ،التي تمت
مقاربتيا بموضوعية مينية ،ومف دوف أي تالعب مع الشعر العربي ووصؼ جغرافية
اليمف ،ال يمكف أف يكوف نتاج مصادفة لغوية أو جغرافية .وقد بينا -دوف أدنى
تالعب لغوي عمى أصؿ األسماء -قوة ىذا التماثؿ ،ومف ثـ فإف المسرح الحقيقي
لقصص التوراة وبيئتيا الحقيقة إنما ىو بالد اليمف القديمة".
لن نعيد ما سبق لنا قولو من قبل بشأن خزعبلت الترجمة المزعومة التي يدعي الربيعي
أنو قام بيا لمنص التوراتي ،طالما وقد صار بوسعنا أن نتأكد وعمى نحو وثيق لمغاية أن جميع
المكافئات العربية المزعوم أنو توصل إلييا نتيجة تمك الترجمة الموىومة ،ليست إال تسميات
استمدىا الربيعي حرفياً وبشكل انتقائي من كتاب اليمداني .ولكن مفكرنا يؤكد لنا وبكل ثقة بأنو
قام بمقارباتو دون أدنى تلعب لغوي عمى أصل األسماء ،في حين أننا نلحظ ىنا أنو قد حول
موضعين في التوراة الى أربعة مواضع ،وال نعرؼ ما ىو األساس الذي استند إليو في ذلؾ ،وال
ما إذا كاف ىذا يمثؿ تالعباً لغوياً أـ ال؟.
[ .]1فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد الثاني ،مرجع سابق ،ص .218
289
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
إن تفسير ىذا اإلجراء ال يحتاج لجيد خارق ،ألننا سبق وأن أشرنا إليو في القسم األول
من ىذه الدراسة ،وبمراجعة ما كتبناه من قبل تبين أن األمر الذي قام بو الربيعي ىنا ىو محض
إجراء تلعبي وتمفيقي ال أساس منطقي أو لغوي يقوم عميو أبداً.
األدىى من ذلك أن الربيعي الذي كان قد انتقد الصميبي واتيمو بأنو وقع في فخ
المقارنات والتلعبات المغوية ،نجده ىنا وىو يقوم بيذا اإلجراء الغريب مستمداً إياه من الصميبي
نفسو ،فمما قام بو ىذا األخير ،تحويلتو التالية[:]1
ىذا ىو النموذج الذي قام بو الصميبي ،واليكم أييا القراء األعزاء اإلجراء الذي قام بو
الربيعي ،والنموذج الذي قدمو لنا:
واآلف ،ما الفرؽ بيف النموذجيف؟! -وكيؼ يعتبر اجراء الصميبي تالعباً لغوياً وال يعتبر
إجراء الربيعي كذلؾ؟! -ىاىو مفكرنا إذن يقوم بواحد من أسوأ اإلجراءات التي قام بيا الصميبي
من قبل .فعمى أي أساس ييرؼ مفكرنا العبقري بأنو لـ يقع في فخ التالعبات المغوية الذي
وقع فيو الصميبي؟! -وأليس ىذا تناقضاً فاضحاً ومعيباً يكشؼ عف المدى الذي بمغ إليو ىذا
المفكر في االستخفاؼ بعقوؿ القراء؟!
عموماً ،التحقيق الجغرافي ىو الحكم الحاسم والفيصل الفاصل ،وليس المجادالت المغوية
والخنفشارية التي يفضميا ىؤالء العباقرة من الحاخامات العرب ،والسؤال ىنا:
[ .]1إزاء اإلجراءات والتلعبات المغوية التي قام بيا الصميبي في بناء نموذجو لنظرية جغرافية التوراة في جزيرة
العرب ،راجع الفصل الثالث :المنيج الجينمي وحقيقة التزوير ،القسم األول من ىذه الدراسة ،ص .77
290
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
أيف نجد المواقع التي حددىا الربيعي لتمؾ األسماء التوراتية عمى الخريطة اليمنية؟!-
وكيؼ سيكوف خط الحد الجنوبي ألرض الميعاد لو حددنا مواقعيا؟!
قبل أن نذىب الى جغرافية اليمن عمى الخريطة ،البد من التنويو الى بعض الملحظات
الميمة ،بشأن مواقع ورود األسماء التي قررىا الربيعي كمكافئات لألسماء التوراتية في كتاب
اليمداني:
أوالً ،يرد ذكر (قدس) لمرة واحدة في كتاب اليمداني ،في الفقرة التي عدد فييا الجبال
المشيورة في جزيرة العرب ،إذ قال ..." :اقرع تعار لبف أباح شماـ ،مف جبؿ طيّ ،عسيب
عرواف يمممـ ،قدس ،رضوى أعفر ،أفرع ،يسوـ ،آرة ،األشعر"[ .]1وكما واضح ،فيذا االسم
يشير في كتاب اليمداني الى جبل يقع خارج نطاق جغرافية اليمن الطبيعي .لكن الربيعي يقصد
ب ـ (قدس) منطقة يمنية تقع في نطاق محافظة تعز اليمنية ،وما أردنا أن نمفت عناية القارئ إليو
أن اليمداني لم يذكر (قدس) التي يشير إلييا الربيعي ،وىذا أمر نستغربو نحن من حيث كنا
نعتقد أن المنطقة اليمنية التي عرفت بيذا االسم قديمة ومعروفة بذلك في عصر اليمداني،
األمر الذي يثير الشك في إمكانية أن تكون منطقة قدس اليمنية قد عرفت اسميا ىذا في
عصور متأخرة ،وبالتالي فاالسم الذي تعرف بو اليوم لم يكن اسميا في عصر اليمداني ،ما لم
نتحصل عمى تفسير آخر.
ثانياً ،أن (برع) جبل شيير من جبال اليمن يقع في نطاق محافظة الحديدة الساحمية،
وىو اليوم من المحميات الطبيعية المصنفة في قوائم المحميات الطبيعية العالمية .وقد ورد ذكر
ىذا االسم في كتاب اليمداني ست مرات ،يشير في معظميا الى ىذا الجبل.
ثالثاً( ،حضر) اسم وادي يقع في بلد الحواشب من محافظة الضالع اليمنية ،يبعد عن
مدينة قعطبة حوالي ( )21كيمو[ ،]2ويرد ذكر ىذا االسم عند اليمداني أربع مرات.
[ .]1الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .727
[ .]7المرجع السابق ،ص ،162ىامش المحقق رقم (.)2
291
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
رابعاً( ،أدراف) يرد ذكر ىذا االسم ( )2مرات في كتاب اليمداني ،إذ يصفو في الموضع
األول ،بأنو .." :ونمل وشرس وأرض أدران وحجة وعيان ."..ويعرفنا بو محقق الكتاب بأنو
يسمى اليوم (دو ارف) بينو وبين مدينة حجة اليمنية من الجية الشمالية الشرقية ميل ونصف[.]1
السراة
خامساً( ،عصماف) ،ذكره اليمداني في موضعان ،األول منيما .." :يتصؿ بيذا َّ
سراة عذر وىنوـ وظاىر بمد الجواشة مف الفائش فائش بكيؿ فبمد الشاكرييف مف أىؿ الدرب
ونودة فالحفر مف أعمى عصماف فمقتؿ سفراف فبمد حرب بف عبد ودّ بف وادعة وىـ بنو
صريـ ."..وبحسب محقق الكتاب ،ف ـ عصمان وادي من السودة ينسب إليو البن والقشر
العصماني الشيير[ .]2إال إننا لم نجده عمى الخريطة فاعتمدنا أقرب منطقة إليو مما ذكره محقق
كتاب اليمداني ،وىو موقع (السودة) ،ويبدو أن ىذا الموقع قريب من وادي أدران (دوران) الذي
لم نتمكن من ايجاد موقعو عمى الخريطة ،لذا سنكتفي بإمرار خط الوصل عمى موقع السودة،
باإلضافة الى أننا لم نجد (معالة العقارب) التي ذكرىا الربيعي ال عند اليمداني وال في الخريطة
اليمنية.
بحسب ما تبين لنا أعله فإن األسماء التي اختارىا الربيعي ،تتوزع عمى مناطق مختمفة
من اليمن ،فمنيا ما يقع في جنوب اليمن ومنيا ما يقع في وسطيا ،ومنيا ما يقع في شماليا
ومنيا أيضاً ما يقع في شماليا الغربي ،األمر الذي يجعل من المستحيل أن يكون الخط الذي
يمر منيا جميعاً مطابقاً لموصف الذي ورد في التوراة والذي يصفيا بأنيا تقع عمى امتداد الحد
الجنوبي ألرض الميعاد من الشرق الى الغرب.
لتأكيد ىذه النتيجة ،نستعيد ترتيب النص التوراتي لتسمسل المواقع عمى امتداد الحد
الجنوبي ألرض الميعاد ،وىو كما يمي:
مف الشرؽ= [بحر الممح ػػػػػػ صيف ػػػػػػػ قادش برنيع ػػػػػػػ حصر أدار ػػػػػ عصموف ػػػػػ وادي
مصر]= الى الغرب
مف الشرؽ= [جبؿ ممح (ياـ) ػػػػػ جبؿ ضيف ػػػػػ قدس ػػػػػ برع ػػػػػػ حضر ػػػػػػ عصماف ػػػػػػػ
وادي مسور]= الى الغرب
خريطة رقـ ( :)8شكؿ الحد الجنوبي ألرض الميعاد بحسب تحديد الربيعي لممواقع التي يمر بيا عمى الخريطة
اليمنية
كانت تمؾ ىي النتيجة كما ىي واضحة بدقة جغرافية متناىية ،كما في الخريطة
أعاله -!!..فيؿ توجد فوضى أكثر مف ىذه الفوضى التي عثرنا عمييا في جغرافية الربيعي
المتخيمة؟!
293
الفصل الثالث نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
ال ،لن نجد مثل ىذه الفوضى حتى في عقول األطفال ..فما بالكم بمن يحب أن يناديو
الناس ب ـ المفكر العربي وأحياناً البروفسور!!..
وىكذا ،فإف ادعاءات مفكرنا الجيبذ وتمفيقاتو وأوىامو وتخيالتو لـ تعد مسألة مختمطة
أو غير واضحة أو أنيا نظرية تفتح آفاقاً واسعة لنقد التوراة ،أو أف فييا وجية نظر يمكف
األخذ بيا .لقد صار كؿ شيء واضحاً مف الناحية التي كاف يُطمب منا فييا دائماً الدليؿ
والحجة عمى بطالف ىذه النظرية السخيفة ،أما بعد ىذا فالمسألة مسػألة مبدأ أخالقي
وضمير ..فال يكابر الحقيقة أو يعاندىا إال مف تخمى عف ضميره وعف أخالؽ العمـ والعمماء.
294
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
الفصل الرابع
تكشف مقاربات الربيعي الممفقة والمضممة من إحدى النواحي ،عن قصور وضعف شديد
في المعرفة والوعي بأبسط مبادئ عمم الجغرافيا مما يتعممو الصغار في صفوف المدرسة
االبتدائية ،األمر الذي يمكن اعتباره واحداً من أىم األسباب الكامنة وراء تقديمو نظرية ىشة
وسخيفة الى ذلك الحد الذي اثبتناه في الفصول الثالثة السابقة ،والذي نسعى الى تجاوزه
والوصول الى حد أبعد بكثير مما تقدم لدعم النتائج التي توصمنا إلييا .فعندما رصدنا وتتبعنا
اإلجراءات التي قام بيا في تعاممو مع كتاب اليمداني ،الحظنا ظاىرة ال نظنيا اختفت أو توارت
عن أنظار أولئك الذين ق أروا كتابو "فمسطين المتخيمة" ،وىي ظاىرة االقتصاص المتعمد
والمقصود لمتون كتاب صفة جزيرة العرب ،وبتر االستشيادات التي استخدميا لدعم رؤيتو
الموىومة من سياقيا عمى نحو سافر ،ولسوف نثبت كيف أن مثل ىذه اإلجراءات تكشف بعمق
شديد الى أي مدى بمغت ضحالة الوعي والحس الجغرافي عند ىذا المفكر بعنصر المساحة
الجغرافية وغيرىا من العناصر األساسية ،وكيف أنو اختزل مساحات شاسعة من الجغرافية
اليمنية واستقطع مساحات أخرى وألغى مسافات ومسافات في سبيل ترقيع نظريتو ،وتقديم أدلة
وىمية مصطنعة وممفقة تخدع القارئ وتضممو ،فضالً عن كونيا في األساس تستخف بو تماماً.
بذلك الضيق الشديد في الرؤية واألفق المعرفي بأسس الجغرافيا ،اقتحم مفكرنا العبقري
أسفار التوراة متعجالً ومسارعاً في وصف وتحديد أرض التوراة ومنازل األسباط– أسباط بني
اسرائيل -ومواقع المعارك والغزوات التي قام بيا المصريين واآلشوريين واإلغريق والرومان
والفرس في نطاق الجغرافية اليمنية ،مستعيناً دائماً باليمداني وجاعالً منو شاىده الرئيسي،
باإلضافة الى األبيات المجتزأة والمقتصة من قصائد الشعراء القدماء.
295
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
بدأ مفكرنا في الفصل الثاني من الجزء األول في المجمد األول من كتابو "فمسطين
المتخيمة" بتحديد منازل خمسة من األسباط االسرائيمية عمى مدى ( )422صفحة ،ومن بعدىا
انشغل بإعداد بقية فصول الجزء األول وفصول الجزء الثاني وفصول الجزء الثالث ،لنجده يعود
مرة أخرى الى تعيين منازل سبطين آخرين ،خصص لكل منيما فصل من الجزء الرابع الذي يقع
بدوره في المجمد الثاني من الكتاب نفسو.
لماذا ال يتعامل مع الموضوع الواحد في نسق واحد متكامل ُيمم فيو بجميع أبعاده
وتفاصيمو بدالً من التقطيع والتجزئة والفصل بمسافات شاسعة بين أجزاءه؟!
لماذا يبدأ بسفر يشوع وقبل أن ينتيي منو ينتقل الى سفر القضاة ،ثم ودون أن يكون
ىناك سبب وجيو نجده يقفز الى سفر صموئيل ،ثم الى أشعيا ،ثم نجده فجأة في سفر أخبار
األيام ،وبشكل مفاجئ مرة أخرى ينقمنا الى سفري المكابيين ،ومن بعدىا جميعاً يقفز بنا الى
أشعار وقصائد أحزان الييود ومرثياتيم؟!
وعمى أساس أن ِع ّدة أسباط بني اسرائيل إثنا عشر سبطاً ،فإننا نتساءل أيضاً لماذا تعامل
الربيعي فقط مع سبعة من األسباط؟! -ولماذا لم يحدد منازل األسباط الخمسة األخرى أو عمى
األقل لماذا لم يسير في تعيين جميع منازل األسباط كما وردت في سفر يشوع؟! -عالوة عمى
الكثير من التساؤالت التي يمكن طرحيا ىنا.
لجميع ىذه األسئمة ولغيرىا أيضاً ،يأتي ىذا الفصل مكمالً لما قبمو .فإذا كنا قد تطرقنا
الى مسألة حدود األرض وأىمية ىذا العنصر الجغرافي في أي معالجة ممكنة ومحتممة لمنص
التوراتي ،فإننا في ىذا الفصل سنتعرض لنظرية الربيعي من منظور عنصر المساحة الذي ال
يقل أىمية عن سابقو ،إذ أن الكشف عن الطريقة واإلجراءات التي تعامل بيا مع ىذا العنصر
في تقديم األدلة التي استند إلييا ،سوف يساعدنا كثي اًر في تكميل الصورة التي تكونت لدينا حتى
اآلن ،عن حجم التضميل والتزييف والتحريف الذي مارسو.
296
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
)(1
الطفرة املخيالية
ُيقدم أحمد داود – رائد نظرية جغرافية التوراة في غامد وبالد زىران -معالجة بالغة
األىمية لبعض النصوص الواردة في أحد األسفار التاريخية الممحقة باألسفار الخمسة لمتوراة،
مما يتعمق بمساحة أرض الميعاد ،وذلك ضمن نموذجو الخاص لمسرح أحداث التوراة غير
مبتعد عن موضع المسرح الذي حدده من قبل الصميبي وزياد منى ألحداث المقراء.
تأتي أىمية معالجة أحمد داود ىذه من عدة جوانب ،أىميا أنيا تدلنا عمى نصوص ميمة
من سفر حزقيال -الذي يعود زمن كتابتو الى ما بعد مرحمة السبي البابمي وعودة الييود الى
[ٔ]
ألرض الميعاد في ذلك العصر ،وكيف ينبغي أورشميم ،والذي يتضمن توصيفاً جغرافياً رؤيوياً
بناء عمى معطيات كمية وقياسية لمساحة ىذه األرض.
تقسيميا بين فئات المجتمع الييوديً ،
فقد قام أحمد داود بمعالجة ىذا النص قياسياً وكمياً عمى نحو أعطانا فكرة تبدو واضحة عن
مساحة وأبعاد األرض ،فضالً عن أن النص التوراتي بحد ذاتو ومن دون ىذه المعالجة ُيعطينا
بيانات ىامة عن وحدات قياس الطول والمسافة واألبعاد ،األمر الذي يمكن االستفادة منو في
معرض نقدنا لنظرية الربيعي -أو باألصح لمنموذج الذي قدمو في إطار ىذه النظرية.
[ .]4نقصد بعبارة (توصيف رؤيوي) ،ما يدل عميو باألساس أن سفر حزقيال يتضمن ما كتبو صاحبو عن رؤى
توصل إلييا ونسبيا الى مصدر إليي .فمسألة الرؤى والنبوءات في ثقافة األدب والتاريخ التوراتي مسألة شييرة
نظ اًر لكثرة األنبياء الذين ادعوا أنيم عاشوا تجارب من ىذا النوع ،حتى أن ىذه الظاىرة الكتابية قد انتقمت بعد
ذلك الى المسيحية عمى غرار أنجيل يوحنا الذي يتضمن رؤيا من ىذا النوع .وبال شك فإنو يجب األخذ
باالعتبار طبيعة الوصف الذي يقدمو سفر حزقيال لمساحة وأبعاد أرض الميعاد بأنو ليس ناتجاً عن معايرة
واقعية قام بيا كاتب السفر ،بل ىو ناتج عن رؤيا أو معرفة باراسيكولوجية -حممية أو ما شابو ،وىذا األمر
تجاىمو أحمد داود تماماً ،من حيث تعامل مع النص وكأنو توصيف معياري واقعي ومادي ،ولكن ىذا ال يقمل
من شأن معالجتو التي تستند حقيقة الى أساس سميم وصحيح.
.
297
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
في الحمقة ال ـ ( )41من كتابو "العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود"،
وتحت عنوان" :أرض الميعاد وأبعادىا التوراتية بالذراع" ،يقدم لنا أحمد داود معالجتو لما ورد
في سفر حزقيال بشأن مساحة أرض الميعاد ومقاييسيا ،والتي ننقميا عمى نحو حرفي كما
يمي[ٔ]:
"تقول التوراة :في السنة الخامسة والعشرين من جالئنا في رأس السنة في العاشر من
الشير .في ذلك اليوم نفسو كانت عميّ يد الرب وأتى بي إلى ىناك أتى بي إلى أرض إسرائيل
ووضعني عمى جبل شامخ جداً عميو كبناء مدينة من جية الجنوب فأتى بي إلى ىناك فإذا برجل
كمرأى النحاس وبيده خيط كتان وقصبة قياس وىو واقف بالباب فإذا بحائط خارج البيت عمى محيطو
وبيد الرجل قصبة القياس وىي ستة أذرع وذراعيا ذراع وقبضة فقاس عرض البنيان قصبة وسمكو
قصبة وأتى إلى الباب المتجو نحو طريق الشرق وبعد أن قاس غرف البيت والمذبح أتى بي إلى
الييكل وقاس األطر ستة أذرع عرضاً من ىنا وستة أذرع عرضاً من ىناك وىو عرض الخباء وقال لي
يا ابن البشر ىذا موضع عرشي وموضع أخامص قدمي الذي أسكن فيو في وسط بني إسرائيل إلى
األبد ىذه شريعة البيت الذي عمى رأس جبل إن جميع تخومو عمى محيطو ىي قدس أقداس ىذه ىي
شريعة البيت..
..واذا قسمتم األرض ميراثاً تقدمون من األرض تقدمة مقدسة لمرب طوليا خمسة وعشرون
ألفاً وعرضيا عشرة آالف وىذه تكون مقدسة في جميع تخوميا من حوليا ومن ذلك القياس تقيس
طول خمسة وعشرين ألفاً وعرض عشرة آالف وىناك يكون المقدس قدس األقداس وىذا يكون المحل
المقدس من األرض ويكون لمكينة خدام المقدس المقربين ليخدموا الرب وتجعمون لمرئيس ما عمى
جانبي التقدمة المقدسة وما يمي ممك المدينة من جية الغرب إلى الغرب ومن جية الشرق إلى
الشرق ويكون الطول قبالة كل واحد من النصيبين من تخم الغرب إلى تخم الشرق فذلك يكون أرضو
وممكو في إسرائيل فال يظمم رؤسائي شعبي من بعد وانما يعطون األرض آلل إسرائيل ألسباطيم ىكذا
قال السيد الرب :حسبكم يا رؤساء اسرائيل كفوا عن الجور واالغتصاب وأجروا الحكم والعدل وارفعوا
عن شعبي إعسافكم ىكذا قال السيد الرب ىذه ىي التخوم التي فييا ترثون األرض عمى حسب أسباط
إسرائيل االثني عشر وليوسف سيمان ترثون كل واحد مثل سيم أخيو من ىذه األرض التي رفعت
يدي عمى أن أعطييا آلبائكم فتقع لكم ميراثاً وىذا تخم األرض من جية الشمال يكون التخم من البحر
حصر عينون تخم دمشق وصافون نحو الشمال وتخم حماه وجية الجنوب يميناً من تامار إلى ماء
[ .]4أحمد داوود :العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود ،مرجع سابق ،ص ص .077 -072
298
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
الخصومة في قادش ومن النير إلى البحر الكبير ىذه جية اليمين جنوباً وجية الغرب البحر الكبير
من التخم إلى ما قدام و أنت ٍ
آت إلى حماه ىذه جية الغرب فتقسمون ىذه األرض لكم عمى حسب
أسباط إسرائيل."..
لنبدأ بدراسة ىذه النصوص أوالً من الناحية الوصفية الجغرافية ،حيث إن بيت المقدس في
أورشميم ىو عمى جبل شامخ جداً .وىذا القول ال ينطبق عمى مدينة القدس في فمسطين .ومدخل
البيت متجو نحو الشرق تخرج من تحت عتبتو مياه نحو الشرق تزداد غزارتيا كل ألف ذراع (أي كل
نصف كيمو متر تقريباً) (حسب التوراة) بفضل تجمع الينابيع والروافد حتى تتحول إلى نير ال يعبر
وىذا أيضاً ال ينطبق عمى مدينة القدس التي ال ينبع منيا أي نير صغي ارً كان أم كبي ارً.
كما إن ىذه (األرض الموعودة) أرض عشائر الكنعانيين تمتد مستطيمة عمى سفوح جبل غامد
ونالحظ عند توزيع الحصص عمى األسباط أن التوزيع كان يحرص دائماً عمى القول( :من الشرق
إلى الغرب) ولما كان النص قد حدد لنا عرض األرض من الشرق إلى الغرب الذي ىو عرض كل
حصة من الحصص االثنتي عشرة بعشرة آالف ذراع وان الذراع كما سوف نرى يعادل ٘ ٓ.ٜٗمتر
فإن عرض األرض من النير إلى البحر الكبير الذي ىو تخم الجنوب ىو ٓٓٓٓٔ ذراع × ٘ٓ.ٜٗ
متر يساوي ٓ٘ ٜٗمتر .أي أقل من خمسة كيمو مترات ،أي ما يعادل المسافة بين ساحة األمويين
ونياية حي المزة في دمشق.
وىذا الكالم ال يمكن أن ينطبق عمى أي فرات في سوريا ،بل وال عمى نير األردن إذا ما
افترضنا مع المفترضين جيالً بأنو ربما يكون األردن ىو النير المقصود والبحر األبيض المتوسط ىو
البحر الغربي إذا ما طبق ذلك عمى فمسطين .إن الكالم يدور حول نير الفرات و وادي عردة في جبل
غامد.
أما دمشق و حماة المقصودتان فيما قريتا (دوماسك) اآلرامية شمال غامد ،و(حمــت) الذي
ىو أحد أبناء كنعان غرب دوماسك اآلرامية في شمال غامد .وكنا قد فصمنا في ذلك في حمقات
سابقة.
ثانياً ،معالجة النص من حيث األبعاد والمساحة .فقد أصر كتبة األسفار عمى أن يقدموا لنا
وصفاً قياسياً دقيقاً بالذراع ألبعاد تمك (األرض الموعودة) األرض المرعى ،فخمصونا بذلك من كثير من
األوىام واالفتراضات وأسقطوا كل التزوير الصييوني بضربة واحدة ولنتأمل في ىذه األبعاد التي
حفظتيا لنا أسفار التوراة ..فمن حيث القياس واألبعاد فإن النص يخبرنا بصراحة أن وسيمة القياس
299
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
ىي القصبة وطوليا ستة أذرع وأن حساب األبعاد يتم بالذراع ،ونحن إذا ما عدنا إلى القاموس
الكمداني لوجدنا أن (دراعو) = ذراع؛ قياس قدره ٕٗ إصبعاً.
وفي كتاب (ميسوفوطاميا) (مابين النيرين) لمؤلفو ل .ديالبورت جدول بالمقاييس العربية
البابمية التي كانت مستخدمة في ذلك الزمن ،وقد وردت فييا القصبة والذراع عمى النحو التالي:
واذا ما عممنا أن (أرض إسرائيل) قسمت إلى اثنتي عشرة حصة متساوية عرض كل منيا من
الشرق إلى الغرب ىو عرض األرض البالغ عشرة آالف ذراع ،وأن طول كل منيا امتداداً من الشمال
إلى الجنوب ىو خمسة وعشرون ألف ذراع صار في إمكاننا أن نحسب عرض ىذه األرض الذي ىو
عرض الحصص جميعاً وطوليا الذي ىو مجموع أطوال ىذه الحصص باألمتار إن العرض باألمتار
ىو:
ٓٓٓٓٔ ذراع × ٘ ٓ.ٜٗمت ارً =ٓ٘ ٜٗمت ارً أي ٘ ٗ.ٜكيمو متر .
ٕٓٓٓ٘ ذراع × ٘ ٕٖٔٚ٘ = ٓ.ٜٗمت ارً أي أنو يساوي ٘ ٕٔ4ٗٚكيمو متر .
ونحن إذا ما عرفنا أن ىذه األرض تتموى بين جبال شامخة شديدة االنحدار كما ىي حال
جبال غامد تأكدنا من أن مسافة المئة كيمو متر قياساً تتقمص إلى خمسيا في خط النظر ،وىذا ما
يفسر لنا إمكانية رؤيتيا كميا من فوق الجبل المرتفع .فتأمموا معنا ىذه (األرض المرعى) التي كان
يمكن إلبراىيم أن يراىا كميا بعينيو وىو واقف أمام باب خيمتو تحت البموطة في الجبل وعرضيا أقل
من خمسة كيمومترات و تمتد بطول أقل من (ٓ٘ٔ) كيمومت ارً ،وقد صارت فجأةً في التزوير الصييوني
تشمل كل األرض التي تمتد ما بين الفرات في أقصى شمال سوريا و وادي النيل في مصر.
واذا ما حسبنا مساحة تمك األرض المرعى لمعشيرة باألمتار المربعة وجدنا أن مساحتيا ىي:
300
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
عشرة أضعاف تمك المساحة تكشف لنا مدى فداحة التزوير الصييوني واالستشراقي االستعماري في
تفسير أحداث التوراة و جغرافيتيا" -.انتيى كالم أحمد داود ىنا.
حسناً ،بغض النظر عن اإلشكاليات الموضوعية والمآخذ التي يمكن أخذىا عمى معالجة
كيذه ،سواء من حيث ق ارءة وتفسير النص التوراتي أو من حيث االسقاطات الجغرافية التي
وضعيا صاحبيا وأراد أن يخدميا في االطار الذي اعتبر فيو أن بالد زىران من عسير ىي
أرض التوراة -بغض النظر عن ذلك ،فإن ىذا النص وتمك المعالجة يكشفان لنا عن حقائق ال
يمكن تجاىميا ،بشأن ما يفترض أن تكون عميو مساحة أرض التوراة ،والمقاييس التي استخدمت
لقياسيا ،وىذان بال شك أمران بالغا األىمية.
واضح ىنا ،أن إدراك أحمد داود ألىمية مراعاة مثل ىذه النصوص المتعمقة بمساحة
وامتداد وحجم أرض الميعاد في النص التوراتي ،قد لعب دو اًر بالغ األىمية في اختياراتو
الجغرافية ،وفي تحديد مساحة النطاق الجغرافي الذي يمكن اسقاط نصوص التوراة عمييا .فقد
أكد عمى أن حقيقة أحداث التوراة بأشخاصيا ومواقعيا ،تتحدث عن عشائر بدوية آرامية ،تتحرك
بين مراعييا بأغناميا في بقعة ضيقة من برية شبو جزيرة العرب[ٔ] .وبالتحديد في غامد من
منطقة عسير غرب الجزيرة العربية[ٕ].
كان كمال الصميبي قد أشار الى ما يشي بإدراك مماثل لديو ليذه المسألة في مقدمة كتابو
"التوراة جاءت من جزيرة العرب" .فحصر األمر "في منطقة بطول يصل الى حوالي 422كمم
وبعرض يبمغ حوالي 022كمم ،وبالتحديد في "عسير وجنوب الحجاز"[ٖ] .ومع نفس ىذا التحديد
اتفقت أطروحة زياد منى.
لقد حرص ىؤالء عمى جعل مسرح أحداث التوراة في مساحة ضيقة تتناسب مع مساحة
األرض التي تصفيا النصوص ،وحرصوا أيضاً عمى أن تكون األرض المختارة لإلسقاط
[ .]4أحمد داوود :العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود ،مرجع سابق ،ص .42
[ .]0المرجع السابق ،ص .40
[ .]1كمال الصميبي :التوراة جاءت من جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .05
301
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
الجغرافي الجديد عمى ساحل بحر يحدىا من الغرب ،فجعموىا في نطاق ضيق من غرب جزيرة
العرب ،مع تباينات دقيقة في تحديداتيم المكانية لألماكن الواردة أسمائيا في التوراة ،تبعاً لتباين
مصادرىم ،وتعدد واختالف طرائق استخدام وتطبيق أدواتيم االستداللية.
خريطة رقم (ٔ) :مسرح أحداث التوراة كما تخيمو أحمد داود
إذا ما أخذنا بيذا من ناحية أخرى .فإن بوسعنا القول أن ىؤالء الثالثة :الصميبي ،منى،
داود ،قد حرصوا تماماً عمى اختيار منطقة مطابقة تماماً من حيث التوصيف الجغرافي :حدوداً
ومساحة وطبوغرافيا ..الخ ،مع ما ىي عميو خريطة فمسطين ،خاصة وانو يمكننا بالفعل
مالحظة ذلك التشابو الكبير فعالً .وىذا بالطبع ،يدفع الى طرح سؤال ،لماذا أخذ ىؤالء
302
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
باعتبارىم أن تكون اسقاطاتيم الجغرافية واقعة عمى مناطق مشابية فعالً لفمسطين عمى األقل
من الناحية الشكمية أو من حيث يمكن تمثيل األراضي المعينة الجديدة عمى الخريطة؟!
ىذا سؤال ميم لمغاية في حقيقة األمر ،واإلجابة عميو تتمثل في كونيم اعتقدوا دائماً
أن بإمكانيم اجراء مطابقات مماثمة لجغرافية فمسطين -أكثر ما ىي مطابقات لمنص
التوراتي -في مناطق أخرى تشبو في مالمحيا الجغرافية جغرافية فمسطين بالفعل ،وىذا يفسر
لماذا وقعت اختياراتيم الرئيسية األولى عمى عسير.
خريطة رقم (ٕ) :تقسيم أرض الميعاد بين األسباط وفق نموذج أحمد داود وتبدو فيو منازل األسباط مقسمة
عمى شكل كيتوىات منتظمة الشكل!!..
303
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
إن نظرة واحدة الى نموذج أحمد داود -مثالً -كما عرضو ىو من خالل خرائطو
الموضحة أعاله ،يكشف بالضبط عما نشير إليو ىنا ،فعسير تقع عمى الضفة الشرقية لمبحر
األحمر ،عمى نفس خط الطول الذي تقع عميو فمسطين تماماً ،وعسير أيضاً من حيث يحدىا
من الغرب بحر ،تماماً كما يحد فمسطين من الغرب بحر ،وتنفتح جغرافياً عمى فضاء قاري
واسع ،يتشابو نسبياً مع ما ىو قائم بالنسبة لفمسطين ،واذا ما جارينا األمر بحثاً عن غير ذلك
من التطابقات فسوف نجد الكثير ،مما يثبت أن نظريتيم ىذه قامت من الناحية اإلجرائية وعمى
نحو سابق ألي بحوث فعمية في مدلوالت النص التوراتي ومعطياتو الجغرافية ،عمى التشابو
بين جغرافية فمسطين وجغرافية عسير ،ثم جاءت ذريعة تشابو األسماء التي اخترعيا من
قبميم -بقرون عديدة -مفسرو التوراة من الييود والمسيحيين لتضفي شرعية لتمك
المطابقات المقصودة والمتعمدة ،ومن بعدىا جرى تعميد ذلك بتفسير النص التوراتي ،ليتسع
األمر مجدداً بتوظيف مصادر معجمية وأدوات لغوية وما الى ذلك.
واذا ما أخذنا بالمعايير الجغرافية -المساحة ،الحدود ،التضاريس .. ،الخ -في تقييم تمك
الطروحات التي قدميا أولئك الرواد العرب ليذه النظرية ،فسوف نجد أن النموذج الذي قدمو
أحمد داود ىو النموذج األكثر نضوجاً من الناحية المعيارية التي تبدو فييا محاولتو جادة بالفعل
في إقامة الحد المعقول من التوازن الموضوعي والمنيجي بين ما ىي عميو في األساس والواقع
حقائق الجغرافيا في األرض المختارة إلسقاط معطيات النص التوراتي الجغرافية عمييا من جية،
وبين ما يفترض أن تسعى النظرية الى اثباتو من جية أخرى.
وىذا مفاده ،أننا إذا ما أردنا تقييم نموذج أحمد داود من ىذه الناحية فسوف نقول بأنو
األفضل من بين سائر النماذج األخرى.
نقول ىذا ،بالرغم من اختالفنا التام مع نظرية أحمد داود ،بل ومع إق اررنا األكيد بأن
منيجنا وأدلتنا قادرة عمى دحض نظريتو واثبات عدم صحتيا عمى اإلطالق ،إذ أن الغاية من
ىكذا تقييم ليس الموضوع بحد ذاتو ،بل اإلجراء الذي يقع عميو مناط التأكيد دائماً في توجينا
النقدي .ف تقييمنا ىنا يذىب الى مدى التزام الباحث أو المفكر باحترام عقمية القراء ،وحرصو عمى
304
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
تقديم طرح قابل ألن يوضع موضع البحث الجاد مع احترام الجيد المبذول فيو ،ميما كانت
أخطائو وانحرافاتو ،وميما كانت مواقفنا معو أو ضده.
وفيما يتعمق بجغرافية أرض الميعاد كما تصفيا التوراة أيضاً ،نجد أن تمك االعتبارات
اليامة لعناصر الحدود والمساحة وغيرىا من المالمح الطبوغرافية التي تشكل األسس
المعيارية ألي بحث جغرافي ،كانت في موضع اىتمام جدي عمى مدى أزمان طويمة من قبل
مفسري التوراة التقميديين -أخص بذلك التفسيرات المسيحية ،-وبناءً عمييا رسموا جغرافية
أحداث التوراة في فمسطين ،وحاولوا الى أقصى درجة ممكنة أن يروا ذلك التطابق المفترض
بين النص والواقع عمى األرض ،ساعدىم في ذلك أن الكثير من مضمونات النص التوراتي
ذات اليوية الجغرافية المجردة منقولة بشكل أكيد من واقع الجغرافية الفمسطينية ،بمعنى أن
النص التوراتي قد تعرض منذ بداية كتابتو ودائماً لعممية تكييف ىدفت الى جعل وصوفو
متطابقة مع ما ىو عميو الواقع عمى أرض فمسطين.
أبسط مثال عمى مثل ىذا ،أن يكتب روائي انجميزي نص رواية أبطاليا من انكمت ار
واسكتمندا يصنعون أحداثيا في قرى وأقاليم الصين ،ثم بعد عدة قرون من الزمان يأتي من يقرأىا
دون أن ينظر في أي شيء آخر غير نص الرواية نفسيا ،فإن من المتوقع أن يعتقد ىذا القارئ
أن ما تصفو الرواية من الناحية الجغرافية ىو بالفعل ما كانت عميو قرى وأقاليم الصين قبل
بناء عمى مضمون
ثالثة قرون من عصره ،ولكن ىذا ال يعني أبداً أنو سوف يعتقد أو يتصور ً
الرواية أن انكمت ار كانت واقعة في زمن أحداث القصة في نطاق جغرافية الصين أو عمى
حدودىا ،وأن عممية ىجرة قد حدثت بعد زمن الرواية قام بيا أولئك االنجميز الى أوروبا حيث
استقروا وصار ليم موطناً جديداً فييا ،نقموا إليو أسماء قراىم وأقاليميم التي كانت في الصين،
وكل ىذا فقط ألن كاتب الرواية انجميزي وأبطاليا كذلك ،والرواية مكتوبة بالمغة االنجميزية!!..
ال يوجد أحد عمى وجو األرض يمكن أن يكون بيذه السذاجة ،فكيف نتصور إذن أن
ىذا قد يكون ممكناً مع النص التوراتي أو أي نص آخر؟!
305
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
ىذا بالضبط ما نؤكد عميو دائماً ،وىو أن األرض والجغرافيا حقائق ثابتة ،وليس النص،
واذا كان ىناك من يمكن أن يرتدي حقيقة اآلخر فيو النص وليس األ رض ،فكتبة التوراة ىم
من اقتبسوا جغرافية فمسطين وجعموىا في نصوصيم ،وليس أنيم أخطأوا أو أن من جاءوا من
بعدىم فسروا تمك النصوص وأخطأوا في تفسيرىا ،ىذا إذا غضينا النظر عن كون التوراة
باألساس كتاب إليي ،أما إذا لم نفعل وتوخينا أعمى درجات الحيطة والحذر من أي تحريف أو
تزييف يمكن أن يكون قد وقع عمى نصيا ،فإنو لن يكون بوسعنا انكار أنيا تنطق بقدر من
الحقيقة ،إذ أن المسألة برمتيا فيما يتعمق بالتوراة وفمسطين ىي مسألة إيمانية ،وال يمكن
تناوليا أو بحثيا بعيداً عن جذرىا اإليماني ،وذلك عمى نحو ما ذىب إليو أحد المؤرخين
الفمسطينيين[ٔ].
حسناً ،إذا كان الصميبي وأحمد داود وزياد منى ،قد حاولوا بشكل أو بآخر األخذ بتمك
االعتبارات الجوىرية لعناصر الحدود والمساحة ،فإن ىذه العناصر سوف تسقط تماماً منذ
المحظة التي ّتبنى فييا رواد آخرون لنظرية جغرافية التوراة نموذج أوسع ،أسقط معطيات التوراة
الجغرافية بتعيينات متباينة عمى جغرافية اليمن ،أي أنيم وسعوا نطاق طروحاتيم لتشمل كامل
المساحة الطبيعية ألرض اليمن بما في ذلك عسير ونجران وجازان وغيرىا من األراضي الداخمة
حالياً ضمن حدود المممكة العربية السعودية ،كان ذلك التحول قد بدأ عند فرج اهلل صالح ديب،
وانتقل الى أحمد الدبش واستقر في النياية لدى فاضل الربيعي.
بال شك ،فإن ىذا التحول الى نموذج الجغرافية اليمنية الشامل لم يكن جزافياً بل كانت لو
دوافعو وأسبابو ،إذا ما نظرنا إليو باعتباره أحد المالمح المميزة لتحوالت ىذه النظرية وطبيعة
أطوارىا ،فإن من المؤكد أنيا أسباب ودوافع بعيدة تماماً عن األسباب المعرفية والعممية ،ألن
تغافل تمك الطروحات عن معايير واعتبارات من ىذا النوع الذي نشير إليو دائماً ،يفتح باباً
واسعاً لمتفكير مميون مرة فيما عساىا تكون دوافع وأسباب تحول من ىذا النوع عمى مسار نظرية
واحدة.
[ .]4عبد اهلل التل :خطر الييودية العالمية عمى االسالم والمسيحية ،دار القمم ،القاىرة .4742 ،ص .7 -6
306
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
لكي نقترب كثي اًر مما نتحدث عنو ،نقول أننا لو أخذنا بشكل مبدئي ومقارن الفرق بين
مساحة فمسطين ومساحة اليمن ،فسنجد فرقاً ميوالً لمغاية .إذ أن مساحة فمسطين بحدودىا
الراىنة تبمغ ( )05227كم ،0وبالطبع فإن ىذه المساحة قد أُجريت وأسقطت عمييا كافة األحداث
التوراتية المتعمقة بأرض الميعاد منذ بداية كتابة نصوصيا ،فإذا كان من المستحيل – كما يدعي
رواد نظريتنا األشاوس -أن ينطبق ذلك الوصف التوراتي عمى أرض فمسطين الصغيرة في
مقابل ما أن مساحة أرض الميعاد الموصوفة توراتياً أصغر من المساحة الفمسطينية بكثير ،فإنو
سيكون منطقياً وعقالنياً القول بأن من سابع -بل ومن تاسع -المستحيالت انطباق الوصف
التوراتي عمى كامل جغرافية اليمن الطبيعي التي تربوا مساحتيا عمى أكثر من ( )4.1مميون
كم -0وفق حدود اليمداني ،-فيما مساحة اليمن بحدودىا السياسية الراىنة تبمغ ( )333ألف
كم ،0ومساحة ما كان يعرف بالشطر الشمالي من اليمن قبل عام 4772تبمغ أكثر من ()406
ألف كم ،0فيما كانت مساحة ما كان ُيعرف بالشطر الجنوبي أكثر من ( )153ألف كم ،0وىذه
جميعاً مساحات شاسعة وميولة أمام مساحة فمسطين من جية ،وأمام ما تصفو التوراة بأنو كان
ُيقاس باإلصبع والذراع من جية إولى!!..
من ىنا نقول ،أن الرواد المتأخرين لنظرية الصميبي لم يمتمكوا باألساس حساً ووعياً
جغرافياً ،ولم يكونوا يدركون حقيقة ما يقومون بو من تمطيخ وتشويو فج وساذج لمجغرافيا ،حتى
سبحوا وحمقوا وطاروا بعيداً وبعيداً جداً ليس عن المنطق والواقع الجغرافي فحسب ،بل وبعيداً
حتى عن المعطيات الجغرافية التي تقدميا التوراة ،إذ ال يمكن تفسير مثل ىذا التوجو الدوغمائي
إال باعتباره أحد أمرين :إما إنو ناتج بالفعل عن جيل شديد في مبادئ الجغرافيا والعموم
المساعدة ليا -وىو ما نسميو ىنا بالقصور في الحس والوعي الجغرافي ،أو أنيا بالفعل
307
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
كانت منذ البداية توجيات تسعى نحو التضميل المتعمد والتحريف المقصود لمحقائق ،وال نظن
أنو قد يوجد حكم ثالث بين ىذين الحكمين.
وعندما نتكمم عما ىو قائم في معرض دراستنا ونقدنا ،فال ينبغي أن ينظر أحد الى مثل
ىكذا قول بأنو نوع من كيل االتيامات ..فميست ىذه غايتنا ،ولم ولن ننصب من أنفسنا قضاة
عمى أحد .ومع ذلك ،ولكي ال تكون أقوالنا ىنا في نظر البعض مجرد اتيامات أو ما شابو،
فإننا سنبين بالدليل المادي القاطع والبات أن ما نقولو حقيقة فعمية ،وليس أنيا أقوال مبنية عمى
ظنون أو ادعاءات في حمبة استعراض لممبادئ.
نجد ىذا االنعدام الواضح لمحس والوعي الجغرافي لدى مفكرنا الربيعي وىو يتجمى بكامل
حذافيره .فقد أثبت ىذا المفكر العبقري أنو لم يكن يوماً من أولئك الذي يفقيون شيئاً عن المنيج
والمنيجية ،السيما وقد تسبب ىذا االنعدام لمحس والوعي الجغرافي لديو في الكثير من السقطات
المخجمة التي وقع فييا ،بل واعطاه في كثير من األحيان الحق في أن يتعاطى مع الجغرافيا
بشكل أخرق وساذج لمغاية.
إزاء ذلك ،سبق وأن كشفنا عن مظيرين حقيقيين من مظاىر انعدام الحس والوعي
الجغرافي لديو -أقصد مفكرنا العبقري -في عدة نماذج من األدلة التي قدمناىا في الفصمين
السابقين ،وال بأس أن نذكر القراء األعزاء بيما مرة أخرى عمى نحو من التخصيص ،تمييداً
لعرض مظاىر أخرى مماثمة تؤكد ما نقولو وتثبتو قطعاً ،كما سيرد في السياقات التالية من ىذا
الفصل.
المظير األول ،خروج التعيينات التي حددىا مفكرنا لكثير من األسماء التوراتية عن نطاق
حدود الجغرافية اليمنية كما وصفيا اليمداني ،إذ وجدنا لو تعيينات في نجد وفي الحجاز يفترض
بحسب عنوان أطروحتو العريض جداً أن تكون داخل حدود اليمن وفق ما ينطق بو كتاب
اليمداني ،فضالً عن أنو أعطى تعيينات جغرافية خاطئة جداً ،مثل تعيينو لموقع جبل (ضين)
308
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
بأنو يقع في تيامة ،عمماً بأن ما عرضناه ال يعدو أكثر من مجرد أمثمة ،واال فبوسع الباحث
المتمعن أن يجد الكثير من ىذه األخطاء الفادحة ،فما عساه يعني لنا ذلك؟!
المظير الثاني ،توصيفات الربيعي المتناقضة مع حقائق المواقع التي تحدث عنيا وعينيا
عمى الخريطة ،فقد وصف لنا مواقعاً عدة بأنيا تقع (بالقرب) من مواقع أخرى ،وعندما نظرنا في
الخريطة وجدنا أن تمك المواقع متباعدة عن بعضيا عمى نحو يستحيل معو أن نقول بأنيا
بالقرب من بعضيا البعض .كانت مواقعاً تفصل بينيا آالف الكيمومترات وبالحد األدنى مئات
الكيمومترات ،فما الذي يدلنا عميو ذلك؟!
وبال شك ،فإن وضوح ىذه المسألة قد ازداد اآلن ،بعد أن تأكد لنا ومن خالل شيادة
النص التوراتي ،وشيادة أحد رواد ىذه النظرية ،بأن مساحة األرض الموصوفة في التوراة في
أوسع ما يمكن أن تكون عميو ،لم تكن تُقاس إال باإلصبع والذراع وليس حتى بالدونم أو
اليكتار.
مساحة مثل ىذه ،ترى كم سيكون بوسعيا أن تحتمل من البشر بعد حذف جميع
الكائنات األخرى التي يمكن أن تكون فييا وتقمل من فرص البشر لمعيش فييا؟!
إزاء ىذا السؤال ،يقدم لنا أحمد داود أيضاً معالجة بالغة األىمية لما جادت بو التوراة
بشأن مستوى الكثافة السكانية التي يفترض أن بني اسرائيل والييود كانوا عميو ذات يوم من أيام
التاريخ الذي تسرده لنا أسفار كتابيم المقدس ..تعالوا لنق أر معالجتو األخرى لمسألة السكان،
وكيف أثبت أن عدد بني اسرائيل في الزمن الذي خرج بيم موسى لم يكن يتجاوز (ٓٓ)ٚ
شخص[ٔ]:
تقول التوراة" :ىذه أسماء بني اسرائيل الذين دخموا مصر مع يعقوب ،كل واحد مع بيتو دخموا:
راوبين وشمعون والوي وييوذا ويساكر وزبولون وبنيامين ودان ونفتالي وجاد واشير ،وكانت جممة
النفوس الخارجة من صمب يعقوب سبعين نفساً ،وأما يوسف فكان في مصر .ومات يوسف وجميع
إخوتو وسائر ذلك الجيل ،ونما بنو إسرائيل وتوالدوا وكثروا وعظموا جداً ..وقام ممك جديد عمى مصر
[ .]4أحمد داوود :العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود ،مرجع سابق ،ص ص .431 -434
309
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
لم يكن يعرف يوسف فقال لشعبو :إن شعب بني إسرائيل أكثر وأعظم منا ،تعالوا نحتال عمييم كي ال
يكثروا ،فأقاموا عمييم وكالء تسخير لكي يعنتوىم بأثقاليم ..فاستخدم المصريون بني إسرائيل بقسوة
ونغصوا حياتيم بخدمة شاقة بالطين والمبن وسائر أعمال األرض .وكمم ممك المصريين قابمتي بني
إسرائيل المتين اسم إحداىما شفرة واألخرى فوعة وقال :إذا استولدتما النساء فانظ ار عند الكراسي فإن
كان ذك ارً فاقتاله وان كانت أنثى فاستبقياىا ،فخافت القابمتان الرب .ولم تصنعا كما قال ليما ممك
مصر فاستبقيا الذكران ...فأمر فرعون جميع شعبو قائالً :كل ذكر يولد ليم فاطرحوه في النير وكل
أنثى فاستبقوىا ."..
في ىذا الظرف بالذات وجد موسى الطفل وكان من بين من (ألقوا في النير) .لندرس ىذا
النص دراسة سكانية ،ابتداءَ من أن عدد بني إسرائيل (يعقوب) في مصر زمن يوسف بن يعقوب الذي
ىو أحد األسباط االثني عشر ،كان سبعين نفساً فقط .ثم إن الفترة الزمنية لتكاثر تمك األسرة
المقصودة في النص ىي الفترة المحصورة ما بين الجيل األول (جيل أبناء يعقوب االثني عشر)
ومرحمة البدء بقتل األطفال من الذكور والقائيم في النير ،أي زمن موسى .واذا ما عممنا أن موسى
ىو فرع من الوي الذي ىو أحد األسباط االثني عشر كما تؤكد التوراة ،وأن الوي ىو الجد الرابع
لموسى حسب ما تؤكده التوراة وكل المصادر التاريخية العربية .فإن ىذا يعني أن الفاصل الزمني بين
الوي وموسى لن يتعدى المئة عام .إذ أننا إذا ما اعتبرنا السن الوسطي لمزواج ىو ٕ٘ سنة فيكون
الرجل الذي يبمغ سنة المائة لديو ابن في الخامسة والسبعين وحفيد في الخمسين والحفيد الثالث في
الخامسة والعشرين الذي إذا ما تزوج في ىذا السنن أيضاً يكون ابنو في عامو األول.
وىذا ىو الجيل الرابع .إن موسى عند كل المؤرخين العرب و في التوراة ىو موسى بن عمران
بن يصير بن قاىث بن الوي بن يعقوب .واذا ما أجرينا تقاطعاً في أنساب فراعنة المصريين كما
أوردىا كل المؤرخين العرب نحصل عمى النتيجة نفسيا ،وبكممة أخرى إذا ما حسبنا الفترة من األجيال
ما بين فرعون يوسف وفرعون موسى لرأينا أن فرعون موسى ينتمي إلى الجيل الرابع أيضاً بعد
فرعون يوسف.
يقول الطبري( :وكان الممك عمى مصر يومئذ الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران
بن عمرو بن عمالق بن الوذ بن سام بن نوح)( ..وكان الفرعون في أيام موسى قابوس بن مصعب
بن معاوية ..وكانت امرأتو آسية بنت مزاحم بن عبيد ابن الريان بن الوليد فرعون يوسف األول).
وبالتالي ،فإن آسية بنت مزاحم امرأة فرعون موسى كما ىو واضح تنتمي إلى الجيل الرابع من جدىا
الريان بن الوليد فرعون يوسف األول.
310
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
إن نسبة الزيادة السنوية لمسكان في أقصى حدودىا ال تتجاوز العشرة في المئة ،وىي بالتالي،
لن تجعل أية جماعة سكانية تزيد خالل مئة عام أكثر من عشرة أضعاف ،وبيذا فإن عدد سكان بني
يعقوب(إسرائيل) في مصر لن يتجاوز الـٓٓ ٚنفس من زمن يوسف إلى زمن موسى .ونحن سوف
نفترض تجاو ازً أن الفارق الزمني ىو مائتا سنة وأن عدد النفوس تضاعف عشرين مرة وىذا
مستحيل ،فسيكون عدد بني يعقوب (إسرائيل) في مصر ٓٓٗٔ نفس.
عالوة عمى ذلك ،نجد إن ممك المصريين قال لشعبو (إن شعب بني إسرائيل أكثر وأعظم منا
ىممّ نحتال عمييم) فيل ىذه ىي حقاً مصر وادي النيل التي كان جيشيا يعد عشرات اآلالف ،وكان
الكينة والخدم والحراس في قصر ممكيا وحدىم بضعة آالف!! -إن أعمى نسبة من الرجال القادرين
عمى الحرب والقتال وسط ذلك العدد من عشيرة بني إسرائيل لن يتجاوز نسبة العشرة في المائة،
وبالتالي فمن يتجاوزوا السبعين شخصاً كحد أدنى ،والمئة وأربعين شخصاً كحد أعمى .وىؤالء ىم
الذين خرج بيم موسى إلى أرض الكنعانيين ،أضف إلى ذلك أنيم جميعاً من الرعاة الذين ال يممكون
في معظميم من السالح غير العصي والمقاليع حتى زمن داود كما تؤكد التوراة .وأن خروجيم كان
خروجاً رعوياً بأغناميم وأبقارىم وحميرىم ،بنسائيم وأطفاليم ،ال خروج حممة قتالية تقتصر عمى
المحاربين.
فماذا فعل التزوير االستشراقي الصييوني؟! -لقد نقل عشيرة المصريين من مضارب خياميا
في برية شبو جزيرة العرب إلى وادي النيل .كما نقل عشيرة بني إسرائيل من مضارب خياميم في
نفس منطقة عشيرة المصريين إلى سوريا الجنوبية .ومن ثم ،فقد نفخوا جماعة موسى التي لم تكن
تتجاوز الــ ٓٓ ٚشخص واعتبروىا شعباُ ييودياً يضطيده (فراعنة) مصر ويسخرىم في نباء األىرام
وتحت ىذا االضطياد يقوم موسى باليجرة من مصر وادي النيل إلى فمسطين في جنوب سوريا..
إن تصحيح المواقع الجغرافية التوراتية يدحض مرة واحدة والى األبد مقولة دولة بني صييون
المزعومة".
بشأن ما تقدم ،ال يسعنا القول بأن المعالجة التي قدميا أحمد داود صحيحة قياساً ،ولكن
يمكن القول أن مبدأىا صحيح وسميم ،وىو أن بنو اسرائيل كما تصفيم التوراة لم يكونوا أكثر من
عشيرة صغيرة الحجم ،وال يمكن أن ترقى بأي حال من األحوال الى مستوى شعب أو أمة،
وبالتالي ،كيف يمكن أن نتصور أن جماعة كيذه يمكن أن تحتل مساحة جغرافية ميولة مثل
مساحة اليمن الطبيعي؟! -وحتى بعد عشرة أجيال من زمن خروجيم مع موسى أو حتى بعد
311
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
عشرين جيالً ،يظل من غير الممكن أن يبمغ حجميا الديموغرافي ذلك الحجم الذي يمكن أن
نتصور معو أن تحظى بأرض مساحتيا أكثر من ( )52كم ،0واذا نمت ىذه الجماعة وترعرعت
فإن حجم رقعتيا الجغ ارفية لن تزيد عن بضع مئات من الكيمومترات.
ما نؤكد عميو ونريد توصيمو لمقراء األعزاء ،ىو أن النص التوراتي قدم لنا عمى الدوام
معطيات جغرافية وصفية بالغة األىمية ،تشير الى أن األرض الموعودة صغيرة جداً من حيث
مساحتيا ،وأن بنو اسرائيل كانوا جماعة صغيرة لمغاية ،وتعطينا أيضاً تفاصيل أخرى حول
المناخ والتضاريس والحدود وغير ذلك ،وبالتالي فإن أي تجاىل ليذه المعطيات في سياق أي
بحث جغرافي حول مدلول النص التوراتي ،سوف يؤدي الى تكوين نتائج غير صحيحة بالمرة.
ىذا بالضبط ما حصل ،وىو ما قام بو معظم رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة
العرب ،وخصوصاً أولئك الذين تبنوا النموذج اليمني ،تميي اًز ليم عمن تبنى منيم نموذج عسير
وبالد زىران.
وبال شك ،فإن ىذه المسألة تجعمنا نتساءل :إن كان ىؤالء قد ق أروا التوراة فعالً ،فمماذا
تجاىموا تمك المعطيات كميا؟!
ىناك أيضاً أسئمة أخرى أىم .ولكن قبل طرحيا في ىذا السياق ،لننظر ولنتأمل بعمق
بوذي وكونفوشي خريطة الربيعي التي توضح لنا مساحة وحدود مممكة بني اسرائيل المنقسمة
بعد عصر سميمان -أنظر الخريطة رقم (ٖ) أدناه.
312
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
خريطة رقم (ٖ) :أرض الميعاد كما حددىا الربيعي في عصر انقسام المممكة الييودية
يمكنني التعميق عمى خريطة الربيعي الفادحة ىذه عمى مدى ثالثين أو أربعين صفحة،
مُقل في ذلك غير مكثر -!!..لكنني لن أفعل ،بل سأترك ىذه الميمة لمفكرنا نفسو ،من حيث
أن تناقضاتو كفيمة بأن تفسر نفسيا بنفسيا ،وتكشف عن الفوضى الالنيائية التي اختمقيا
وتوىميا واعتقد عمى الدوام بأنيا انجاز فكري ضخم في اتجاه تحرير التاريخ والجغرافيا من
سيطرة المخيال االستشراقي.
بغض النظر عن كون ىذه الخريطة ال تتطابق ولو بنقطة مخيالية واحدة مع ما جاء في
التوراة ،وبغض النظر أيضاً عن كون مفكرنا قد نسي حتماً أن يُسّمي بحر العرب بحر الييود،
وأن يُطمق عمى البحر األحمر اسم البحر االسرائيمي ،فإنو وبال أدنى شك كان أكثر كرماً وأكثر
جوداً وسخاءً من اإللو العنصري البركاني (ييوه) الذي بالكاد اعطى شعبو المختار أرضاً تقاس
بالذراع!!..
313
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
فعن أي مخيال استشراقي يتحدث ىذا المفكر الفطحل ،وىو واهلل ما أبقى لممستشرقين
منو شيئاً..؟!
واذا كان المستشرقون -بحسب تعبير أحمد داود -قد نفخوا أولئك الـ بني اسرائيل الى
ذلك الحد الذي أصبح من الممكن معو تصور استيطانيم ألرض فمسطين -أو باألصح لجزء
منيا كما تنطق بذلك التوراة ،-فبما عسانا نصف ىذه النفخة الجبارة التي قام بيا مفكرنا
تفوق بيا عمى
الجيبذ فاضل الربيعي؟! -أليست ىذه ىي الطفرة الربيعية المخيالية التي ّ
أعتى عتاه االستشراق أم ترانا نكيل لو االتيامات..؟!!
تعالوا قرائنا األعزاء مرة أخرى نتابع كيف تحققت ىذه الطفرة بإعجاز مذىل ..عمى يد
مفكرنا المتخيل َ
الخال ق ،مدعوماً كما يقول ويقول دائماً بشيادة اليمداني!!..
314
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
)(2
األقواس الفــــارغة
عمى طريقة يشوع بن نون التوراتية ،ومن حيث لم يغب عنو تأييد ييوه أيضاً ،اقتحم
الربيعي أسفار المقراء باحثاً عن أرض األسباط ..اقتحم واقتحم وظل يقتحم حتى وجدىا في
اليمن ،بمساعدة ما تغنى بو وثرثر عنو ووصفو عمى الدوام ب ـ (شيادة اليمداني).
وبالرغم من إننا قد فضحنا حقيقة االفتراء واإلفك الذي أشاعو مفكرنا عن اليمداني ،وأثبتنا
بطرق شتى أن ما يتحدث عنو بخصوص تمك الشيادة ليس إال افتراء ،ومحض تخيالت وأوىام
اختمقيا وصدقيا ،إال إننا نرى ضرورة في الكشف عن مظاىر أخرى من مظاىر تعاممو
الخنفشاري مع كتاب اليمداني والشعر الجاىمي ،نظ اًر التصاليا الوثيق بما وصفناه بأنو (قصور
في الوعي والحس الجغرافي لديو) ،وألنيا أيضاً تكشف بشكل واضح عن طرق أخرى ليذا
المفكر تعمد التضميل والتزييف والتحريف من خالل ممارستو ليا ،ولسوف نتعرف عمى عينة من
أبشع وأفظع أساليب التمفيق والدجل والتضميل التي مارسيا من أول سطر في كتاب أوىامو
وتخيالتو الى آخر سطر ،وعمى تمك االنتقائية التحريفية والتمفيقية التي سبق وأن تطرقنا إلييا
من قبل.
ما سوف نقوم بو في ىذا المبحث ،ىو أننا سنتعرض بالدراسة والتحميل والنقد لجوانب
رئيسية من ا لنموذج الذي عالج فيو الربيعي تحديد منازل سبط بنيامين في الفصل الثاني من
الجزء األول من كتابو في المجمد األول ،واختيارنا ليذا النموذج يعود لعدة أسباب ،أوليا أنو
النموذج التطبيقي األول الذي يقدمو مفكرنا في مشروع تأسيسو لنظريتو واثباتيا -انطالقاً من
كونو السبط األول الذي يرد تحديد منازلو في سفر يشوع ،وثانياً ألن النماذج األولى ألي باحث
غالباً ما تكون األقوى وأكثر رصانة مما يأتي بعدىا ،وثالثاً الرتباط ىذا النموذج بموقع أورشميم
التي ىي إيميا كما جاء في فقرة اليمداني ،والتي كانت ومازالت ىي مدخمنا الرئيسي في ىذه
الدراسة ،أما رابع أسباب ىذا االختيار فيو أنو يدفع عنا تيمة االنتقاء التي ننتقدىا ىنا دائماً.
315
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
من السطور األولى في معالجتو ،يجد الربيعي متطابقاتو الموىومة بين األسماء التوراتية
والجغرافية اليمنية ،ىكذا كما يقول:
"إن اسم ىذا السبط االسرائيمي وحسب الرسم العبري ىو (بن -يامن) ،واالسم
كما ىو واضح لو صمة بمكان بعينو حممتو الجماعة .إننا نعمم من التاريخ القديم
لمختمف القبائل أنيا تحمل أسماء األماكن التي تقيم فييا ،وبالطبع ليس ثمة مكان
يحمل االسم نفسو سوى جبل يامن ،ىذا الجبل الذي وصفو اليمداني كما وصفو الشعر
الجاىمي ،ىو الموطن التاريخي لمجماعة اليمنية األولى ويقع في سرو حمير قرب جبل
صبر"[ٕ].
لنتوقف أوالً عند ما قالو الربيعي مما أوردناه آنفاً ،ولنتساءل من حيث يفترض أن نجد
لتساؤالتنا إجابات في سياق معالجتو الجغرافية لمنازل سبط بنيامين :ما وجو العالقة المغوية
والكتابية (الرسم) بين (بنيامين) و(بني يامن)؟! -وما ىي أيضاً العالقة التاريخية بين االسمين
عدا عما قالو لنا؟ وما الذي يقصده الربيعي ب ـ (الجماعة اليمنية األولى)؟ وىل وصف اليمداني
جبل يامن؟ وماذا قال عنو؟!
بحثنا في كتاب اليمداني عن أي وصف لجبل (يامن) فمم نجد شيئاً .فاليمداني بالكاد
ذكر اسم ىذا الجبل في موضع واحد فقط من كتابو ،وىو الموضع نفسو الذي اقتبسو الربيعي:
[ .]4فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،ص .24
[ .]0المرجع السابق ،ص .25
316
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
"من ناحية ىذا الحيز جبل صبر ومن جبالن جبل يامن-بفتح الميم -وىو عمى
شط رم ٍع الشمالي مع عتمة"[ٔ].
ىذا كل شيء قالو اليمداني عن جبل (يامن) ،أي أنو ذكر اسم الجبل فقط وفقط فقط،
ولم يصفو عمى اإلطالق بأي وصف .بينما يخبرنا مفكرنا العبقري بأن ىناك وصفاً ليذا الجبل
عند اليمداني .غير أننا نجد ىذا الوصف المزعوم الزماً في قصد الربيعي في الشعر الجاىمي،
فمنرى ما أورده مفكرنا من الشعر في ىذا الشأن.
أورد الربيعي بيت من الشعر ألمرؤ القيس -الذي يصفو دائماً بالحميري -مع أن امرؤ
القيس ُيمقب في كل مصادر التاريخ ب ـ الكندي ،وال خالف بأن كندة يمانية وأنيا شقيقة حمير
وحميفيا األقوى واألعز ،ولكن مفكرنا اختمق ىذا المقب ألغراض اإلييام والتمفيق ،إذ يقول امرؤ
القيس:
أو المكرعات من نخيل ابن يامن *** دوين الصفا الالئي يمين المشقّ ار
كما ىو واضح من نص البيتين ،فإن الداعي إليرادىما يكمن في أنيما يشيران الى
شخص ما كان يعرف ب ـ (ابن يامن) ،والذي يخمط الربيعي بينو وبين الجبل الذي ذكر اليمداني
اسمو ،قائالً:
"يقع جبل (يامن) الذي تنتسب إليو الجماعة التي ستُعرف بيذا االسم ،في السراة
التي تتجو نحو تيامة والمنتيية في البحر األحمر ،وىي سراة عظيمة فييا الكثير من
[ .]4الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .432
317
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
المواضع منيا جبل صبر ومخالف جُبالن ،حيث يشكل جبل يامن عزلة في ىذا
المخالف"[ٔ].
إذا أخذنا األمر عمى عالتو ،فسوف ُنصدق الربيعي بأن تمك االستشيادات الشعرية تدعم
صحة ما ذىب إليو ،ولكن إذا تفحصنا األمر جيداً سنجد أن ما قالو محض ىراء ال أكثر ،وأن
ما استشيد بو الشعر ال عالقة لو إطالقاً بما يريد اييامنا بو.
بصيغة أوضح ،إذا تمعنا فيما جاء عند اليمداني بشأن المقصود بجبل يامن من جية،
وبين المقصود بو بالضبط ب ـ (ابن يامن) في األبيات الشعرية من جية أخرى ،فسنجد أنو فيما
عدا التشابو بين األسماء ،ال يوجد أي عالقة بين ما قالو اليمداني وما ذكره امرؤ القيس وطرفة
بن العبد ،فجبل يامن الذي يذكره اليمداني ىو الذي يقع في السراة كما أشار الربيعي بالفعل،
لكن (ابن يامن) الذي األبيات الشعرية سواء كان شخصاً أو قبيالً أو مكاناً فيو مما يتصل
جغرافياً بمنطقة (ىجر) من (األحساء) النجدية التي تقع أصالً خارج حدود اليمن الطبيعي.
وبعد تفتيش دقيق في مصادر الربيعي وترتيب أفكاره التي عرضيا في ىذا الشأن ،تبين
لنا بكل ثقة أن ما أورده لم يكن نتاج بحث واستقصاء فعمي قام بو في دواوين الشعر ،بل ىو
تمفيق عمدي لمادة جاىزة من معجم ياقوت الحموي ،من حيث كان ىذا األخير قد ذكر ضمن
معالجتو لمادة معجمية وبمدانية ىذه األبيات التي اختطفيا الربيعي من سياقيا لديو.
نعم ،لقد انتحل الربيعي اقتباساً بأكممو من الحموي ،وقام بتمفيق مضمونو وتحريف مدلولو
ونتيجتو ،ولقد فعل ذلك من حيث لم يجد شيئاً يدعمو عند اليمداني .فقد كان الحموي يتحدث
عن مكان ُيسمى (المشقر) أو – حصن المشقر النجدي الشيير -الذي ذكره امرؤ القيس في
البيت الشعري المشار إليو سمفاً ،وىو واحد من أشير الحصون العربية الواقعة في األحساء
شمال شرق جزيرة العرب ،وىي منطقة شييرة بزراعة النخيل عمى مر العصور[ٕ].
[ .]4فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،ص .26
[ .]0ياقوت الحموي :معجم البمدان ،مرجع سابق .413 -412 /3 ،ترقيم (م .ش).
318
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
ارتبط ذكر المشقر بواحد من أىم أسواق العرب في عصر ما قبل االسالم وفي العصر
االسالمي أيضاً ،ويبدو أن ابن يامن الذي تذكره األشعار الجاىمية كان شخصية مشيورة في
عصره وعمى قدر عال من الثراء والعز والمكانة ،بحيث كانت تفد إليو خواص العرب وأعيانيم
ووجوىيم وشعرائيم بما فييم امرؤ القيس ،فضالً عن أن امرؤ القيس يذكر موقعاً آخر اسمو
(الصفا) وىي منطقة قريبة جداً من المشقر ىذا وتنتمي إليو ،بل وتُسمى حتى اليوم (صفا
المشقر)[ٔ] ،عدا ىذا االستنتاج لم نجد عن ىذه الشخصية أي ذكر واضح في كل مصادر
التاريخ القديمة.
[ٕ]
خريطة رقم (ٗ) :موقع حصن المشقر الذي ذكره امرؤ القيس وطرفة بن العبد في أشعارىما
[ .]4لممزيد بشأن حصن المشقر والصفا وذكرىما عند شعراء الجاىمية ،راجع :عبدالرحمن آل مال :تاريخ ىجر،
مطابع الجواد ،األحساء .440 /4 .4774 ،خالد الغريب :منطقة األحساء عبر أطوار التاريخ ،الخبر.4766 ،
ص .300عبداهلل النجم :البحرين في صدر اإلسالم ،دار الحرية لمطباعة ،بغداد .4751 ،ص .42حمد
الجاسر :المعجم الجغرافي لمبالد العربية السعودية ،دار اليمامة ،الرياض.440 /2 .4757 ،
[ .]0الخريطة من :سعيد األفغاني :أسواق العرب في الجاىمية واالسالم ،الطبعة الرابعة ،دار الفكر ،بيروت،
.4771
319
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
وبحسب ياقوت الحموي أيضاً ،فإن البيت الشعري المنسوب ألمرئ القيس يتكرر تماماً
بنفس األلفاظ منسوباً لشاعر بني أسد عرفطة بن عبداهلل المالكي األسدي ،إذ يقول:
المشقر
ُا يحف
الصفا الألئيّ .. عات من نخيل ابن ٍ
يامن *** ُدوين ّ المكر ُ
أو ُ
الفارق بين البيتين ىي كممة (يمين) التي صارت عند عرفطة (يحف) ،وامعاناً منا في
إيضاح الصورة ،فالمكرعات ىنا يراد بيا النخيل التي تحيط بواحة الماء ،وألن المكان كما ىي
حقيقتو واحة في الصحراء بالقرب من حصن المشقر وصفاه ،فمن الطبيعي أن يصف طرفة بن
العبد صاحب ىذا المكان واسمو (ابن يامن) ،بـأنو صاحب سفين أي سفينة ،وليس ذلك إال أن
طرفة يصف ناقة الرجل الكريم ،مشبياً إياىا بالسفينة التي يجور بيا المالح طو اًر وييتدي بيا
طو اًر آخ اًر.
ىذه الصورة المتكاممة لمنطقة صحراوية فييا واحة ونخيل ،يستحيل أن تكون موجودة في
جبل يامن التيامي الذي ذكره اليمداني ،وىذا ما صرح بو الربيعي .فال يمكن أن نجد الصحراء
والواحة في سمسمة جبمية ،كما أن جبل يامن التيامي في اليمن ال ولم يعرف زراعة النخيل
إطالقاً.
لنستعيد ما قالو الربيعي مرة أخرى -ولنخجل نيابة عنو مما قالو:
" ...وبالطبع ليس ثمة مكان يحمل االسم نفسو سوى جبل يامن ،ىذا الجبل
الذي وصفو اليمداني كما وصفو الشعر الجاىمي ،ىو الموطن التاريخي لمجماعة
اليمنية األولى ويقع في سرو حمير قرب جبل صبر"[ٔ].
فأي جبل يامن ىذا الذي وصفو اليمداني يا مفكرنا؟! وأي جبل يامن ىذا الذي وصفو
الشعراء بأنو الموطن التاريخي لمجماعة اليمنية األولى المتخيمة في خاليا دماغكم الكريم؟!
[ .]4فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،ص .25
320
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
بكنيتو أو لقبو (ابن يامن) كان يسكن في المشقر من ىجر باألحساء بعيداً جداً جداً عن اليمن
وعن سراتيا.
فما ىي عالقة الجبل بالرجل؟ وما عالقة الجبل والرجل بسبط بنيامين؟! -الجواب
كالعادة ،ال شيء سوى تشابو األسماء!!..
كما بحثنا ودققنا فيما عساه يكون قصد الربيعي مما اخترعو وسماه (الجماعة اليمنية
األولى) .وتأكد لنا بما ال مجال لمشك بو ،بأن ىذا المصطمح ال وجود لو إطالقاً إال في عقل
مفكرنا ..فالجماعة اليمنية األولى في أقدم وجود ليا يمكن أن نسمييا (عاد) أو (سبأ) ،حتى في
كتب األنساب اليمنية القديمة ،التي يرد فييا أن (يمن) كان اسماً ل ـ (يعرب) بن قحطان ،فإن
الجماعة اليمنية األولى قد أطمق عمييا أسماء من قبيل (اليعاربة) أو (القحطانية) ،أما جغرافياً
فاسم اليمن حديث نسبياً ،وىذا أمر ثابت وال يحتاج الى تفصيل بشأنو ،ىذا إن لم يكن باألساس
من البديييات.
عالوة عمى ما تقدم ،سيكون من المناسب أن نبين لمقراء األعزاء ىنا من أين استمد
الربيعي فكرتو ىذه عن بنيامين السبط في التوراة وابن يامن الذي يرد ذكره في الشعر العربي
القديم ،وأن ُن ّعرف القراء بالمصدر الذي تعمد الربيعي أال يمفت انتباىنا إليو .فيذه الفكرة انتحميا
مفكرنا العبقري من محاضرة ألقاىا الشاعر واألديب السوداني "عبد اهلل الطيب" في مقر مجمع
المغة العربية عام ،4774وقد كان الطيب من الميتمين بتاريخ التوراة واسقاطاتيا الجغرافية،
حتى أنو توىم ىو اآلخر بأن جغرافية التوراة تقع في السودان!!..
في تمك المحاضرة ،ذىب الطيب في تفسير قول طرفة بن العبد (عدولية أو من سفين
ابن يامن) ،الى أن المقصود بــ (عدولية) منطقة أو مدينة أو فرضة قديمة تسمى (أدوليس)-
كانت عمى البحر في ناحية ما بين مصوع وحاليب قبل أن تندثر أو ما شابو ،وأنيا كانت
تذكر في الخرائط القديمة أحياناً بالقرب من (مصوع) ،وأحياناً بالقرب من (سواكن) عمى البحر
األحمر ،وأشار الطيب في سياق شرحو الى أن ابن يامن ىو (بنيامين) التوراة وىو تاجر
ييودي ذكره امرؤ القيس بقولو" :حمتو بنو الربداء من آل يامن بأسيافيا حتى أقر وأوق ار"-
321
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
ومن ثم خمص الطيب الى أن (بنو يامن) الذين ذكرىم طرفة وامرؤ القيس إنما يراد بيم (ييود
الفالشا األحباش)[ٔ].!!..
بالطبع ،فإن الربيعي ومن سار عمى نيجو من المشعوذين لن يجدوا أفضل من ىذا
النموذج لمتفكير والتفسير ،ليقدموه لمقراء مساىمة منيم في االنحدار بوعييم الفكري وتفكيرىم
المنيجي .فمثل ىذه التفسيرات القائمة عمى تأويل األسماء المتشابية واسقاطيا جغرافيا ،قد
تحيمنا الى البحث عن يامن وبنيامين في إقميم (يمونا) في اليند ،لما ال ويامن وبنيامين مشتقان
من يمن ويمونا؟!
انتقاالً الى معالجة الربيعي ألول موقع جغرافي توراتي تعامل معو مما يدخل في نطاق
منازل سبط بنيامين ،وىو الموقع الذي يرد في التوراة بـاسم (عمق قصيص) -أي وادي
قصيص ،حيث سنجد الربيعي وىو يكرر نفس اآللية السابقة في معالجتو ليذا االسم -تماماً كما
عالج اسم (بنيامين) .فقد بحث عن (عمق قصيص) عند اليمداني فمم يجده بيذه الصورة ،نظ اًر
الستحالة ذلك أصالً ،فماذا فعل؟! -ال شيء ،سوى أنو قام باالقتداء بمعممو الصميبي وحول اسم
عمق قصيص الى اسمين( :عمق ،وقصيص) ،فيكذا تجري األمور سيمة في ترجمة التوراة
الربيعية ،ومن ثم وقف أمام قصيص ،وأيضاً لم يجدىا عن اليمداني إال في عبارة واحدة ،وردت
في سياق كان اليمداني يسرد فيو أسماء الوديان التي تقع في المناطق الوسطى اليمنية المعروفة
ب ـ (سرو مذحج) .ففي تمك العبارة ،قال اليمداني ..." :قصص لرىا -"]ٕ["..أي أن وادياً كان
يسمى قصص يقع في منازل قبيمة (رىا) اليمنية ،وقد نسب ىذا الوادي الى تمك القبيمة فقيل عنو
(قصص رىا).
بيد أن مفكرنا وقع إزاء ىذا االسم في مأزق وكان عميو أن يجد منو مخرجا ،فمو بدأ بما
قالو اليمداني ،فمن تسعفو العبارة اليتيمة التي وجدىا لديو في اختالق ثرثرة تقديمية وتفسيرية
مناسبة ُيشغل بيا عقل القارئ عما ينبغي أن يركز عميو باألصل .فعدا عن تمك العبارة لم يجد
[ .]4لممزيد بيذا الشأن ،راجع :عبد اهلل الطيب :محاضرة البروفسور عبد اهلل الطيب في مقر مجمع المغة
العربية ،مجمة مجمع المغة العربية ،العدد ( ،)57نوفمبر .4774
[ .]0الحسن بن أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،مرجع سابق ،ص .465
322
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
الربيعي شيئاً لدى اليمداني ،وكما رأيناه كيف فعل مع بنيامين ويامن قبل قميل ،فالبد أن يفعل
ذلك مجدداً ..أي أن يمجأ الى الشعر الجاىمي ،وأن يمارس انتحاالً وتحريفاً جديداً لمعاني
وتفسيرات أشعار األولين!!..
ُنصيفيا حتى إذا لم ُيسغ ليا *** حمي بأعمى حائل وقصيص
يصف امرؤ القيس -وىو ىنا الحميري اليمني وليس أي امرئ قيس آخر -وادي
قصيص في الفضاء الجغرافي لسمسمة من الوديان والمواضع ،عمى امتداد ساحل البحر
األحمر حيث حمي وحائل .وىذا الوصف ينسجم كل االنسجام مع تحديدات سفر يشوع
لممكان ،بما ىو من األودية وليس جبالً أو بئر ماء .إن وجود وادي قصيص حسب
وصف الشاعر في الطريق الى حمي ،يتناغم تماماً مع وصف سفر يشوع لوادي
حمي...
..وىا نحن نفعل الشيء ذاتو ،نبحث عن وادي قصيص في الشريط الساحمي
نفسو الذي وصفو يشوع ثم عاد الى اليمداني وصفو .في وصفو لسرو مذحج يحدد
اليمداني بدقة موضع قصيص الوادي ويضبط اسمو في الصورة ذاتيا قصص:
"الحجمة ،وميار ،وذو زوم ،وذو جيشان ( )........قصص لرىا ولبني زائدة من
أود".
لنالحظ ىنا أن اليمداني عمى غرار ما يفعل يشوع ،يضع قصص قرب وادي
حجمة ،وىذا توافق مثير فالواديان في سرو مذحج وىو اليوم أنقاض وخرائب ،يعرف
باسم المدينة الحديثة التي قامت في المكان نفسو -مدينة البيضاء[ٔ].
[ .]4فاضل الربيعي :فمسطين المتخيمة ،المجمد األول ،مرجع سابق ،ص ص .32 -34
323
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
نحتاج ىنا الى أن نرتب أفكارنا إ ازء ىذا التحميل العرنفجي البديع ..فكما أسمفنا سابقاً
بشأن تمقيب الربيعي ألمرئ القيس بالحميري ،ىا ىو في عبارة مستقطعة في أول كالمو أعاله
يؤكد لنا مرة أخرى كيف أراد أن يستخدم ىذه الفكرة المغموطة التي بتسرىا ىو لتحسين مقدمات
منتجو التمفيقي ،وال بأس من تنويو القارئ الى بديييات مما يتعمق بأمرئ القيس ،فيو سميل
مموك كندة اليمنية التي كانت تقوم مممكتيم عمى كافة األراضي النجدية ،باعتبارىا امتداداً
فيدرالياً لالتحاد السبئي في طوره الخامس واألخير السابق عمى عيد االسالم ،وكانت عاصمتيا
(قرية -الفاو) وىي منطقة أثرية في نجد مميئة بآثار ونقوش المسند والمآثر التي صنعتيا
وخمفتيا مممكة كندة السبئية ،التي بمغ امتداد ممكيا تخوم البصرة في العراق وبادية الشام ،ومن
الطبيعي أن يصول ويجول امرؤ القيس في أرض مممكتو ومممكة أبيو وأجداده ،إذ كانت نجد
وتخوم الشام ىي فضاءه الجغرافي ،وىذا ما تنطق بو معظم أشعاره.
بيد أن الربيعي يريد أن يوصل لمقارئ ويوىمو بأن امرؤ القيس باعتباره حميرياً فإنما
يحمل ىذا عمى أن يكون كل ما ذكره في أشعاره من المناطق في اليمن ،وىذا تمفيق واضح إذا
ما أخذنا بحقائق تاريخ امرؤ القيس ،وحقائق ما ذكره في أشعاره ،فيو وان ذكر مناطق يمنية
ثابتة وال يوجد أي إشكال في تحديدىا مثل :نجران وحضرموت ودمون وغيرىا ،إال أن أغمب ما
ذكره أمرؤ القيس في شعره كان من المناطق التي تقع في أرض مممكتو وتخوميا الشامية بل
وفي الشام ذاتيا ،وبوسع أي باحث أن يتحقق من ذلك بدراسة جغرافية شعر أمرؤ القيس
وشروحاتيا عند قدماء العرب والمتأخرين منيم ،ونحن عمى ثقة كاممة بأنو لن يجد خالف ما
ذكرناه أعاله ،وبالتالي ،فعمى القارئ أال تنطمي عميو مثل ىذه اإلييامات الربيعية الفاشمة.
عوداً الى صمب الموضوع ،نقول أن ما نحتاج الى القيام بو لنخرج معاً برؤية واضحة
لمتمفيق الذي مارسو المفكر الفاضل في ىذه القصيصة من كتابو الصحراوي ،ليس أكثر من
خطوتين ،نحددىما ونقوم بيما عمى نحو ما يرد في السياق اآلتي.
الخطوة األولى ،وفييا نقابل بين المقصود ب ـ "قصيص" التي ذكرىا امرؤ القيس من جية،
وبين قصص التي ذكرىا اليمداني من جية أخرى ،والتحقق من أنيما يشيران الى مكان واحد
324
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
بعينو أم ال .فكما أقر الربيعي ،فإن موقع (قصص) الذي يعنيو اليمداني يقع في سرو مذحج
داخل الجغرافية اليمنية حيث تنيض اليوم مدينة البيضاء وال خالف عندنا عمى ذلك ،لكن
(قصيص) و(أعمى حائل) التي استشيد بيما الربيعي مما جاء في شعر امرئ القيس ال عالقة
ليما بـ (قصص) السرو المذحجي إطالقاً ،ألن الشاعر كان يتحدث عن مواقع معروفة ومشيورة
في كل كتب البمدانيات العربية ،ولم يشر إلييما أحد بأنيما مما يقع في اليمن ،بل أجمعت كل
تمك المصادر عمى أن (أعمى /أعال حائل) و(قصيص) تقعان -كما ينطق البيت الشعري
صراحة -في بالد طي وبالتحديد في منطقة حائل النجدية.
خريطة رقم (٘) :موقع قرية القصيصة نسبة الى منيل (قصيص) الذي ذكره امرؤ القيس في شعره في
جنوب غرب حائل.
بدقة جغرافية مستمدة من الواقع ،بعد أن تواصمنا مع بعض من أعيان ووجياء مديرية
الغزالة في حائل ،وسألناىم عن أعمى حائل وقصيص التي ذكرىما أمرؤ القيس في شعره ،فأكدوا
لنا بدقة متناىية ،بأن ىذان الموقعان ىما اليوم بالقرب من قرية القصيصة عمى بعد ( )72كم
325
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
جنوب غربي منطقة حائل النجدية ،وىي قرية تقع عمى مورد ماء قديم مازال يسمى (قصيص)،
ذكرتو كتب البمدانيين العرب بأنو منيل لمماء يقع بالقرب من قريتي سقف وغضور ،وقصيص
ىذا والقصيصة يتبعان إدارياً مركز الغيثة من الدغيرات من عبدة في مديرية الغزالة من منطقة
حائل النجدية -أنظر الخريطة رقم (٘) أعاله.
ليس ىذا فحسب ،بل أكدوا لنا أىل المنطقة ،بأن الوصول الى منيل قصيص قدوماً من
جية الجنوب الغربي ،ال يكون إال بالمرور من مكان يسمى (أعمى /أعال) وىو اليوم في وادي
األديرع الى الجنوب من جبال أجا من بالد طي النجدية ،والمسافة بين (أعمى /أعال حائل)
وبين منيل (قصيص) ال تزيد عن ( )42كيمومترات.
وىكذا ،فإن أعمى وقصيص ىما مكانان موجودان في منطقة واحدة منسوبان إلييا بشكل
صريح في قول امرئ القيس" :أعمى حائل ،قصيص" ،وىي منطقة (حائل) النجدية.
ٍ
كاف لسقوط ىراء الربيعي ،وافكو السافر ،وأرجو أن يركز القراء وبال شك ،فإن ىذا
األعزاء ممياً فيما سيأتي بعد ىذا مباشرة.
األصل من (حمّي) التي ترد في شعر امرؤ القيس ىو ح ّل من الح ّل والحمول -أي اإلقامة
والبقاء -والياء في آخرىا ضمير متكمم يعود الى امرؤ القيس الذي يخبرنا بأنو:
326
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
بيد أن الربيعي بطبيعتو وعادتو ،تعمد أن يوىم القارئ بأن كممة (حمّي) تشير الى ذلك
(حمَي) والذي يقع عمى ساحل تيامة الحجازية بين المدينة ومكة بالقرب من
الموقع الذي يسمى َ
ينبع ،وبالطبع فإنو ال توجد أي عالقة لغوية أو سياقية حقيقية أو مجازية بين حل امرؤ القيس
واقامتو بأعمى حائل وقصيص ،وقرية (حمي) التيامية الساحمية.
وفوق ىذا كمو ،فالمناطق المذكورة ىنا ال عالقة ليا بجغرافية اليمن الطبيعي ،كونيا
باألساس واقعة خارج حدودىا.
وكما نبينا دائماً ،فإن مثل ىذه اإلييامات والتيويمات التي يختمقيا الربيعي تعتمد
باألساس عمى تشابو األلفاظ والمسميات ،وعمى اقتصاصو ليا وبترىا من سياقاتيا وتحويرىا
وتمفيق واختالق معاني ودالالت موىومة ال أصل ليا وال تمت الى أي حقيقة بصمة ،وان ىذا
المثال الذي قدمناه آنفاً -عالوة عمى ما سبق وأن نبينا إليو من قبل -ليو بحق من أسوأ
وأسخف التفسيرات التمفيقية التي قدميا مفكرنا العمالق عنوة استخفافاً بعقول الناس ،وتيويناً من
شأن قدرتيم عمى اكتشاف تحريفاتو وتخريفاتو ،وكأنو عنما كان يكتب أوىامو تمك ،كان يقول في
ق اررة نفسو:
"ومن ييتم ،فأنا أعرف عقمية من يقرأون لي ..إنيم حثالة من الجيمة ممن
يمكن تمرير أي شيء وكل شيء سخيف الى عقوليم".
في ختام ىذه الخطوة ،ثمة أمر طريف الحظناه أيضاً ،وىو أننا كمما عمدنا الى كشف
تضميل الربيعي من الناحية الجغرافية ،نجد (حائل) تمك أمامنا .فقد توصمنا حتى اآلن الى أكثر
من ستة أو سبعة مواقع جغرافية ادعى الربيعي أنيا في اليمن ،ثم اتضح لنا من خالل التدقيق
والتحقيق أنيا تقع في حائل ،ومن يدري ،لعمنا فتحنا بيذه المالحظة باباً لمربيعي ليعيد النظر في
جغرافية التوراة مجدداً ،لعمو يجدىا فعالً في حائل التي يبدو أن ليا عالقة وثيقة بمخيالو
الالشعوري الدفين..؟!!
الخطوة الثانية ،وفييا سنتحقق من موضوعية ودقة المقاربة الجغرافية التي أقاميا الربيعي
لموقع وادي قصيص بين ما ورد في التوراة من جية ،وما أورده اليمداني من جية أخرى ،بغية
327
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
التحقق من صحة ذلك التناغم واالنسجام العجيب الذي ظل مفكرنا العتيد يتغنى بو بين
اليمداني ويشوع.
ىنا ،البد من التنويو الى الطريقة التي استخدميا الربيعي كثي اًر وكثي اًر جداً في االقتباس
من اليمداني .فقد الحظنا ظاىرة الــ ( –).....أي ظاىرة األقواس الفارغة -في كثير من
النصوص التي اقتبسيا من كتاب اليمداني ،األمر الذي كشف لنا عن واحدة من أسوأ وأرعن
الممارسات االنتقائية وأكثرىا فجاجة وتحريفاً ،ىذا طبعاً ،إذا ما نظرنا الى ذلك من الناحية
اإلجرائية.
لننظر الى نماذج من أقواس مفكرنا الفارغة ،اقتبسناىا بالصورة إمعاناً في التأكيد
والتثبيت:
أما من الناحية العممية والجغرافية ،فإن أقواس الربيعي الفارغة تكشف لنا عن مدى
ضحالة وعيو ،والى أي مدى بمغ انعدام حسو الجغرافي بعنصر المساحة الذي تطرقنا إليو من
قبل ،فما بين تمك األقواس ىو في الغالب كم واسع من القرى والوديان والجبال والتالل التي
328
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
تحتل مساحات واسعة من األرض اليمنية والتي تجاىميا الربيعي دائماً ،واعتبر أن حجب كل
ذلك والتعبير عنو بقوسين يحصران بينيما أربع نقاط ليس إال اختصا اًر أو إيجا اًز سردياً ،وىو
يعمم أصالً أن مثل ىذا االختصار واإليجاز ليس إال تحريفاً وتزييفاً مقصوداً لممساحة الجغرافية
ومكوناتيا الطبوغرافية التي تفصل بين كل مكانين قارب بينيما.
األدىى مما سبق ،ىو الخطأ الجغرافي الكارثي الذي وقع فيو الربيعي في تحديده لموقع
قصيص وغيرىا .فقد ثبت لدينا أن مفكرنا قد عرف أوالً بأن وادي قصص الذي تحل محمو اليوم
مدينة البيضاء يقع في وسط اليمن تماماً ،لكننا نجده في الوقت نفسو يخبرنا استناداً الى وصف
يشوع بأن ىذا الوادي يقع عمى امتداد الساحل الغربي لميمن ،أي عمى سواحل البحر األحمر-
راجع كالم الربيعي الذي اقتبسناه حرفياً قبل قميل ،فيو واضح لمغاية.
إن ىذا التحديد الفظيع يؤكد حقيقة واضحة جداً ،وىو أن الربيعي لم يكمف نفسو عناء
التحقق من موقع مدينة البيضاء اليمنية بالنسبة لساحل البحر األحمر ،وبالتالي فيو يجيل تماماً
من الناحية الجغرافية أين تقع بالضبط ىذه المدينة عمى خريطة اليمن ،باعتبار أنيا أقيمت عمى
وادي قصص الذي ذكره اليمداني.
تقع مدينة البيضاء عمى بعد ( )062كم تقريباً إلى الجنوب الشرقي من العاصمة صنعاء،
وىي مدينة قارية ال تقع عمى أي ساحل ،والمسافة بين البيضاء /قصص وبين ما يقابميا أفقياً
عمى ساحل البحر األحمر وىي مدينة (المخا) مثالً تبمغ ( )052كم ،وأقرب نقطة ساحمية من
البيضاء ىي مدينة (شقرة) وىي عمى ساحل بحر العرب -أي الساحل الجنوبي لميمن وليس
الساحل الغربي -وتتبع شقرة إدارياً محافظة أبين ،وبالتالي ،فال عالقة لمدينة البيضاء من
الناحية الجغرافية بأي ساحل ،ال أحمر وال أبيض وال ىم يخمطون -أنظر الخريطة رقم ()ٙ
أدناه.
329
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
وىكذا ،فالتناغم الذي يتحدث عنو الربيعي بين اليمداني ويشوع ال يعدو أكثر من إفك
وافتراء ال أساس لو ،وال وجود لو إال في أوىامو وتخييالتو التي بمغت مبمغاً ينبغي الحديث معو
عن مدى حاجة الرجل الى تشخيص سكسومتري وتدخل اكمينيكي ،لمحد من تفاقم حالتو
السيكوباثية اليدامة والمدمرة لكل الحقائق والثوابت.
330
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
)(3
ىناك كم ىائل من الكوارث الفاجعة التي قدميا لنا الربيعي في معرض تأسيسو لنظريتو
أحد
الخرقاء ،من حيث اعتقد أن بوسعو تمريرىا عمى عقول البشرية جمعاء دون أن يكتشف ٌ
حقيقة ما قام بو من تحريف وتزييف وتضميل متعمد ومقصود.
بيد أنو لن يسعنا الوقت لعرضيا جميعاً ،كما إننا نعول عمى ىذه الدراسة أن تميم باحثين
آخرين الستكمال ما بدأناه فييا ،وليذا رأينا اختصا اًر لموقت والجيد أن بوسعنا أن ننظر الى
الحصيمة النيائية من تمك الكوارث المخيالية عمى نحو ما تظيره وتكشف عنو خرائط الربيعي
العمياء ،تمك الخرائط التي أراد أن يقنع بيا ذوي العقول الصغيرة من الكائنات البشرية المدجنة،
فقررنا أن ننيي جيودنا في تحميل معالجتو الجغرافية لمنازل األسباط باستعراض خرائطو تمك،
وتقديميا لمقراء األعزاء عمى النحو الذي يميق بيا وبمفكرنا الجيبذ.
قبل النظر في خرائط الربيعي البد من إعطاء فكرة عن تقسيم منازل األسباط في فترة
يشوع بن نون والتي وثقيا السفر الممحق بالتوراة والموسوم باسمو ،وكيف جرى تفسير ومعالجة
ذلك التقسيم عمى الخريطة الفمسطينية من قبل مفسري العيد القديم ،وذلك كي تتضح الصورة
بعد ذلك كاممة ،من حيث نريد أن يتعرف قرائنا األعزاء عمى الفروق العامة -وليس التفصيمية-
بين النموذج التقميدي الذي قدمو مفسرو العيد القديم لجغرافية أرض األسباط والخرائط التي
رسموىا لو من جية ،والنموذج الخنفشاري الذي قدمو لنا مفكرنا في كتاب وخرائط مخيمتو
وأوىامو من جية أخرى.
"فأمر موسى بني إسرائيل قائالً :ىذه ىي األرض التي تقتسمونيا بالقُ ْرعة ،التي أمر الرب أن
تُعطَى لمتسعة األسباط ونصف السبط ،ألنو قد أخذ سبط بني رأوبين حسب بيوت آبائيم وسبط بني
331
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
يتحدث ىذا النص عن تقسيم أرض كنعان بين تسعة أسباط ونصف سبط ،من أصل
( )40سبطاً ،ألن السبطان والنصف الباقيان كانوا قد أخذوا نصيبيم في عبر األردن شرقاً -أي
في مناطق تقع الى الشرق من نير األردن ،ومن ثم فقد جرى تقسيم األرض التي تقع غرب نير
األردن بين تسعة أسباط ونصف حددىم النص التوراتي باالسم في (سفر العدد-44 :12 ،
،) 07وحدد ليم اآللية التي يجرون بيا القرعة ،واألساس الذي ينبغي أن يقوم عميو التقسيم،
فكان التقسيم عمى ثالثة أسس :األساس األول :حسب عدد أسماء الذكور من كل سبط ،فالكثير
ُيكثر لو ،والقميل ُيقمل لو ،األساس الثاني :يكون التقسيم بالقرعة ،ليخرج لكل سبط المكان من
األرض الذي يأخذ نصيبو فيو ،األساس الثالث :لم يكن لسبط الوي نصيب في األرض ،بل
يعطييم كل ٍ
سبط مدناً من نصيبو.
وبحسب التفسير التقميدي لمعيد القديم الذي يسقط النص عمى جغرافية فمسطين ،فقد كانت
نتيجة التقسيم عمى النحو اآلتي:
.4سبط ييوذا :امتدت تخومو إلى بنيامين ودان وىو إقميم التالل الوسطى ،وقد أحاط بو
الموآبيون واألدوميون والعمالقة والفمسطينيين.
.0سبط أفرايم :امتمك السيول الوسطى لنير األردن بما فييا أرض شيمو /سموان ،وىي
أرض خصبة ومنتجة وجميمة.
.1سبط منسى :امتمك نصفو في شرق األردن بيد موسى ،أما النصف اآلخر فقد امتمك
في غرب األردن بيد يشوع ،فامتمك األرض التي تتاخم يساكر وزبولون وأشير بما فييا
أرض شكيم ،وىي أرض خصبة ومنتجة وجميمة ،واتساع أمالك يوسف بأرض أفرايم
ومنسى.
332
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
.2سبط بنيامين :امتمك األرض بين ييوذا وأفرايم بما فييا أورشميم ،وأرضو جبمية وال
تصمح لمزراعة.
.3سبط شمعون :امتمك األرض جنوب ييوذا ،وأحاطت بو شعوب كنعان ،وكانت أرضو
منبسطة ومعظميا صحراء.
.4سبط زبولون :امتمك سيل مجدو في حدود برية يساكر ،وكانت أرضو عبارة عن سيل
خصب منتج ،ويمثل الطريق إلى البحر.
.5سبط يساكر :امتمك األرض شرق زبولون وجنوب بحر الجميل بما فييا وادي ع اززيل،
وأرضو خصبة ومنتجة وجميمة.
.6سبط أشير :امتمك األرض التي تطل عمى البحر من جبل الكرمل إلى صيدون ،فكان
ُيعتبر نقطة دفاعية في وجو األعداء القادمين من الغرب ،وأرضو عبارة عن سيل ساحل
خصب مشيور بالزيتون.
.7سبط نفتالي :امتمك األرض شرق أشير وغرب بحر الجميل وبحيرة ميروم ،واخترقت
الجبال أرضو من الشمال إلى الجنوب ،بينما كانت ىناك أودية خصبة ومنتجة.
.42سبط دان :سكن غرب بنيامين في وسط الفمسطينيين ،وكان الجزء الخصب المنتج ال
يقع في أيدي الدانيين ،إنما كان يقع في أيدي الفمسطينيين.
يأتي تفصيل ىذا التقسيم في سفر يشوع ،من حيث حدد حدود أرض كل سبط بالنسبة
ألرض من يحاده من األسباط اآلخرين ،ومن حيث حدد أيضاً المدن والقرى التي تدخل ضمن
أرض كل واحد من األسباط ،ويفترض أن الخريطة رقم ( )ٚأدناه تعبر بأدق ما يمكن أن يكون
عميو عن النص التوراتي من خالل تنزيمو الى الواقع بالنسبة ألرض فمسطين ،وبالتالي فإنيا في
تموضعاتيا الجغرافية الجيوية النسبية تتطابق مع النص التوراتي ،فعمى سبيل المثال ،فإن أرض
سبط بنيامين تقع غرب نير األردن ،يحدىا من الشمال منازل سبط افرايم ،ومن الجنوب منازل
سبط ييوذا ..وىكذا.
333
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
[ٔ]
خريطة رقم ( :)ٚتقسيم أرض األسباط بحسب التفسير التقميدي لمعيد القديم .
كما أن النص التوراتي يخبرنا بأن توزيع األرض بين األسباط قد جعل من نير األردن،
حداً فاصالً بين األرض التي تقع الى الشرق منو والتي أعطيت لسبطين ونصف ،وبين األرض
[ .]4الخريطة من :عبد اهلل ناصر القحطاني :سفر يشوع -دراسة عقدية نقدية ،رسالة ماجستير ،جامعة أم
القرى ،مكة المكرمة4213 ،ه.0242 -
334
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
التي تقع الى غربو وأعطيت لتسعة أسباط ونصف ،لذا تتركز معظم األسباط في األرض التي
تقع الى الجية الغربية من نير األردن ،كما وصف النص التوراتي ذلك.
وعميو ،فإن أي مقاربة جغرافية لتعيين منازل أرض األسباط عمى أي جغرافية كانت ،البد
وأن تأخذ بعين االعتبار وجود نير فاصل جرى توزيع األرض عمى ضفتيو الشرقية والغربية
بمقدار ( )0.3سبط في الضفة الشرقية الى ( )7.3سبط في الضفة الغربية ،ثم يتم تعيين موقع
كل سبط بالنسبة الى النير والى حدود أرض بقية األسباط كما وصف ذلك سفر يشوع ،وىكذا..
ىذا ما يفترض أن يكون مفكرنا العمالق قد قام بو ،والسؤال الذي نسعى الى طرحو
واإلجابة عميو ،ىو :كيف قسم الربيعي أرض األسباط عمى الجغرافية اليمنية؟! -الجواب ىو
انظر الخرائط الربيعية أدناه:
خريطة رقم ( :)ٛأراضي األسباط (افرايم ،افرايم ،زوبولون) كما حددىا الربيعي عمى الجغرافية اليمنية
335
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
خريطة رقم ( :)ٜأراضي األسباط (جاد ،أشير ،كمب) كما حددىا الربيعي عمى جغرافية اليمن
خريطة رقم (ٓٔ) :أراضي األسباط (ييودا ،دان ،منسي) كما حددىا الربيعي عمى جغرافية اليمن
336
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
خريطة رقم (ٔٔ) :أراضي األسباط (بنيامين ،يساكر ،نفتالي) كما حددىا الربيعي عمى جغرافية اليمن
حسناً ،كانت تمك خرائط المفكر العمالق فاضل الربيعي التي توضح لنا مواقع منازل
األسباط اإلثني عشر عمى الجغرافية اليمنية ،فماذا نالحظ في تمك الخرائط؟!
لن نمضي كثي اًر في تفصيل ىذه المسألة ،ألنيا واضحة لكل ذي عقل وبصيرة ليرى
الفوضى المخيالية التي صنعيا مفكرنا رأي العين ،في أوضح ما يمكن أن يحتاج المرء منا الى
الوضوح ،بل سنكتفي بالتنويو الى ما يمي:
أوالً ،أن الربيعي وزع منازل األسباط حسب تفسيره الجغرافي عمى أرض اليمن في أربع
خرائط ،كل خريطة منيا تتضمن تعيين منازل ثالثة أسباط ،وواضح فييا جميعاً أنو فشل فشالً
مطمقاً ولم يتمكن وفق تفسيره من أن يجمع منازل األسباط كميا في خريطة واحدة ،فمنازل
األسباط إذا ما جمعناىا عمى خريطة واحدة ،ستكون متداخمة ومتشابكة وكل منيا واقعة في
337
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
أراضي األسباط اآلخرين .فأرض سبط بنيامين في الخريطة األخيرة تقع في قمب أرض سبط
ييودا كما تظير في الخريطة التي قبميا ،وىكذا كل أراضي األسباط متداخمة مع بعضيا،
وجميعيا تقع في منطقة واحدة ،حيث نرى أن المساحة الجغرافية التي تقع فييا كل ثالثة أسباط
في خريطة من تمك الخرائط األربع ،ىي نفسيا المساحة التي رسم عمييا بقية أ ارضي األسباط
التسعة في بقية الخرائط -!!..وىذا يعني باختصار أن الربيعي بنفسو ،قد توصل الى حقيقة
استحالة تطابق تفسيره الجغرافي لمتوراة مع الجغرافية اليمنية.
ثانياً ،يفترض أن يكون ىناك نير األردن فاصالً بين أراضي األسباط في شرقيو وأراضي
بقية األسباط في غربيو ،وبالرغم من أن الربيعي أعطى في معالجتو الكثير من االىتمام بنير
األردن ،وأعاد تعيين موقعو عمى الجغرافية اليمنية ،إال أنو فشل فشالً ذريعاً في أن يجعل تعيينو
ذاك مطابقاً ولو بنسبة ( )%3لما يرد بشأن نير األردن من الناحية الجغرافية في التوراة ،فأين
ىو نير األردن أو (ىا -يردن) كما يسميو ،وأين منازل األسباط التي تقع الى الشرق منو ،وأين
ىي منازل األسباط التي تقع الى الغرب منو.
يمكن لمقارئ العزيز أن يعود الى خريطة التفسير التقميدي أعاله وأن يطابق بينيا وبين
ما ذكره النص التوراتي من جية ،وأن يقارن بينو وبين ما جاء بو الربيعي ليتحقق من الفرق
بين النموذجين ،كما يمكن من خالل مطابقة تعيين وتحديد الربيعي لنير األردن عمى الخريطة
اليمنية ،أن نرى المزيد من مظاىر ىذه الفوضى الربيعية عمى نحو أسوأ وأفظع.
ثالثاً ،أن خرائط مفكرنا العمالق كما رأيناىا ىي خرائط مصمتة وغير ناطقة ،أي ال
تحتوي عمى أية بيانات جغرافية ،أو تسميات أو تعيينات ،فقط مجرد خرائط جافة مقفرة ال
صوت ليا إال صوت أوىام صاحبيا ومختمقيا وتخييالتو ،والسبب في ذلك يعود الى أن الربيعي
توصل الى حقيقة أنو لو وضع تعييناتو الجغرافية لممواقع والمناطق بحسب مطابقاتو االسمية
بين التوراة واليمداني ،لفضح نفسو ،ولقدم أكبر دليل عمى فشل نظريتو وزيفيا .فقرر أن يقدم
الخرائط مصمتة غير ناطقة ،معتمداً في ذلك عمى أمرين:
338
الفصل الرابع نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط
واألمر الثاني :اسموبو المشوش الذي قدم بو تفسيراتو والذي ُيمزم القارئ المتمعن بالقيام
بجيد بالغ في مالحقة كل فكرة قدميا ىو ،وىذا ما لن يقوم بو أغمب القراء.
فوق ذلك كمو ،قام الربيعي بوضع خرائطو في ذيل كتابو كممحق ،دون أن يقدم عمييا أية
شروحات مما قمل من أىمية الرجوع إلييا في نظر أغمب القراء ،من حيث يبدو أنيم سيكتفون
بقراءة السرد الذي قدمو ،وبالتالي ،فإن من القراء من تدجن وصدق األوىام الربيعية ،ومنيم من
تشكك في الحقائق التي كانت ثابتة لديو دون أن يندفع في تأييد نظرية الربيعي ،ومنيم من لم
يصدق النظرية ولكنو لم يكمف نفسو عناء تأسيس موقفو منيا بشكل عممي ،ومنيم من سار
يبحث عن الحقيقة متخبطاً بين الشك والحيرة ،ومنيم من رفضيا وسعى الى تفنيدىا.
ىكذا ،استطاع الربيعي -وغيره من رواد ىذه النظرية الموىومة والمختمقة -أن يصنع حالة
خطيرة ومروعة من التشويش عمى الوعي التاريخي والجغرافي والمعرفي لجيل بأكممو وربما عدة
أجيال خالل العقود األربعة الماضية وحتى اليوم ،من خالل تمك الصورة الفوضوية والخرافية
والخنفشارية التي قدميا لنا الربيعي من خالل نظريتو العجفاء ،والتي كان من الصعب الكشف
عنيا بغير الطريق الذي سمكناه والمنيج الذي طورناه ألجل ذلك.
إنيا كارثة بحق أمة بأسرىا أال تنبري المؤسسات األكاديمية العربية لتنير ىذا السخف
وتتصدى لو ،والكارثة األدىى أن من األكاديميين واألساتذة في الجامعات من خرجوا ليطبموا
وييمموا ليذا الزيف الربيعي المبين .وانيا لجاىمية ما بعدىا جاىمية ،تكشف عن حقيقة البعض
ممن يقومون بتعميم أجيالنا ،ممن يمكن وصفيم بأنيم سرطان الجيل والفشل الذي يترقى ويتدرج
في االرتقاء عبر ساللم األلقاب والكراسي األكاديمية في كل جامعاتنا العربية من أقصى المحيط
الى أدنى الخميج ،إذ يكفي أن يظير في عصرنا ربيعي واحد لكي يفضح بأثر رجعي ما ىي
عميو بعض النخب األكاديمية في عصرنا وفي منطقتنا العربية الى األبد ،إال القمة القميمة التي
يمكن أن نستثنييا من ىذه الفئة ،ممن جاىدوا وكافحوا قدر ما أمكنيم ضد طغيان ىذه النظرية
المخجمة.
339
اخلامتة
لف تككف ىذه ىي النياية ،بؿ البد مف استمرار جيكد الباحثيف في الكشؼ عف حقيقة ىذه
النظرية المستمدة أصبلن مف خزائف المستشرقيف ،كمف قبميـ المفسريف الييكد لمتكراة ،خاصة كقد
تبيف لنا أف أكثر ما يمكف أف يككف ىدفان كاضحان ليذه النظرية ،ىك أنيا جاءت إلنقاذ التكراة مف
أزمة مصداقيتيا التي زعزعيا عمـ اآلثار ،كما تبيف لنا أف المنيج المغكم المستخدـ في
اطركحات ركاد النظرية ىك نفسو المنيج الذم استخدمو الصياينة في تيكيد أسماء المكاقع
الجغرافية الفمسطينية ،في الكقت نفسو الذم تأكد لنا فيو أف تشابو األسماء الجغرافية ال يمكف
بأم حاؿ مف األحكاؿ أف يككف دليبلن عمميان كجغرافيان لتحديد مكاقع األماكف التاريخية.
لقد كاف ىدؼ الدراسة في القسـ األكؿ ىك اسقاط المقكالت التي استندت إلييا ىذه
النظرية ،كعمى رأسيا مقكلة تشابو األسماء.
أما في القسـ الثاني ،فقد قدمنا دراسة تطبيقية عممية كمنيجية لنمكذج فاضؿ الربيعي،
ككشفنا عف الكثير مف الحقائؽ ،كأىميا أف ما ركج لو الربيعي كاآلخركف عف تشابو األسماء
كعف جغرافية التكراة الحقيقية كما يزعمكف في اليمف أك في عسير ،ىي محض تخيبلت كأكىاـ
ال أساس ليا في الكاقع ،كىذا ما تبيف بجبلء سافر مف حيث كاجينا الربيعي باليمداني مف
جية ،كبالتكراة مف جية أخرل ،كما كاجيناه بالحقائؽ كالثكابت الجغرافية مف جية ثالثة،
ككاجيناه فكؽ ذلؾ كمو بأساتذتو الذيف نقؿ عنيـ النظرية -أك باألصح الذيف انتحميا منيـ -مف
جية رابعة.
كؿ تمؾ المكاجيات المنطقية كالمنيجية لـ تعطي لرؤية الربيعي أم قدر مف المكضكعية
كالمنطقية ،ناىيؾ عف المصداقية ،السيما كأف األدلة التي رصدناىا في معرض نقد نمكذجو
كانت ثابتة كقاطعة كال يمكف لمباحث الرصيف أف ينكر ثباتيا كقكة حجتيا كمنعتيا ،كألنيا أدلة
غير قابمة لمنقض اطبلقان ،فقد أثبتت بما ال يدع مجاالن لمشؾ بأف نظرية جغرافية التكراة عمى
سبيؿ العمكـ ،كنمكذج الربيعي منيا عمى كجو الخصكص لـ تثبت عمى جغرافية اليمف كلك
340
بنسبة ( ،)%1كىذا ما يدؿ عمى حجـ التضميؿ كالخداع كالتزييؼ المتعمد كالمقصكد الذم
مارسو الربيعي كرفاقو مف ركاد ىذه النظرية.
باإلضافة الى ما تقدـ ،قمنا بإجراء تطبيقات كاف يفترض أف يقكـ بيا الربيعي لتدعيـ
نظريتو ،كتبيف لنا بعد القياـ بيا كالتحقؽ مف نتائجيا أنو لـ يفعؿ ذلؾ لككنو قد أدرؾ أف مثؿ
تمؾ التطبيقات المنيجية كالعممية لف تدعمو كلف تككف أدلة لدعـ نظريتو بؿ أنيا ستساىـ في
نقضيا كدحضيا ،فعمؿ عمى االلتفاؼ عمييا كتجاىؿ ضركراتيا العممية كالمنيجية ،ناىيؾ عف
التبلعبات المغكية كالسياقية كالمفظية التي مارسيا بشكؿ متعمد كمقصكد ،في الكقت الذم ادعى
فيو أنو لـ يقع في فخ تمؾ التبلعبات.
كغير ذلؾ مف األدلة التي انتيينا مف خبلؿ محصمتيا الكمية الى حقيقة راسخة كىي
بطبلف النظرية ،كتيافت ركادىا كنزكليـ الى مستكل التحريؼ كالتزييؼ ،كالتضميؿ عف الحقائؽ
ال أكثر.
ختامان ،يمكف القكؿ بأف الغاية األساسية مف ىذه الدراسة قد تحققت حتى اآلف ،مف حيث
أنيا قدمت لمقراء كالباحثيف رؤية كاضحة لبعض األدكات المنيجية كالكسائؿ كاآلليات النقدية
التي يمكف االستفادة منيا مف استكشاؼ عمؿ أطركحة جغرافية التكراة في جزيرة العرب ،كرصد
كتتبع مكاضع الخطأ فييا ،كمكاطف التحريؼ كالتضميؿ الذم مارسو ركادىا ،عمى أمؿ أف يستمر
الباحثيف في تقديـ المزيد مف الجيكد النقدية الكاشفة ،لمقضاء عمى ىذا الكرـ التمفيقي الذم
أحدثتو نظرية الصميبي كرفاقو في الكعي العربي المعاصر.
عمى أمؿ أف تككف لنا جيكد مكممة في المستقبؿ ،خاصة فيما يتعمؽ بالجكانب التاريخية
كاألثرية ،كغيرىا مف الجكانب التي مازلنا ننظر إلييا بعيف االىتماـ ،كندرؾ مدل ضركرة تبيانيا
لجميع القراء كالباحثيف.
341
املراجع واملصادر
.1إبراىيـ عبد الكريـ :تيكيد األرض كأسماء المعالـ الفمسطينية -دراسة كدليؿ،
منشكرات اتحاد ال ّكتاب العرب ،دمشؽ.2001 ،
.2ابراىاـ مالمات ،حييـ تدمكر :العبرانيكف كبنك إسرائيؿ في العصكر القديمة بيف
الركاية التكراتية كاالكتشافات األثرية ،ترجمة كتقديـ :رشاد عبد اهلل الشامي ،سمسمة
الييكد كاسرائيؿ -الجزء ( ،)2الطبعة األكلى ،المكتب المصرم لتكزيع المطبكعات،
القاىرة.2001 ،
.3إلياس شكفاني :المكجز في تاريخ فمسطيف السياسي :منذ فجر التاريخ حتى سنة
،1949مؤسسة الدراسات الفمسطينية ،بيركت.1998 ،
.4أبك العباس أحمد بف عبد اهلل بف محمد الرازم الصنعاني (ت460 :ق) :تاريخ مدينة
صنعاء ،تحقيؽ :حسيف بف عبد اهلل العمرل ،الطبعة الثالثة ،دار الفكر المعاصر،
بيركت ،دار الفكر ،دمشؽ.1989 ،
.5أبك الفضؿ ابف منظكر :لساف العرب ،دار صادر ،بيركت( ،ب .ت).
.6أحمد األييش كقتيبة الشيابي :معالـ دمشؽ التاريخية ،مكتبة المتنبي لمطباعة كالنشر
كالتكزيع ،دمشؽ.1998 ،
.8أحمد الدبش :اليمف الحضارة كاالنساف -بحثان عف الجذكر ،محاكاة لمدراسات كالنشر
كالتكزيع ،دمشؽ.2013 ،
342
.9أحمد الدبش :عكرة نكح كلعنة الفراعنة كتمفيؽ األصكؿ ،الطبعة األكلى ،دار خطكات
لمنشر ،دمشؽ.2006 ،
.10أحمد الدبش :كنعاف كممكؾ بني إسرائيؿ في جزيرة العرب ،الطبعة األكلى ،دار
خطكات لمنشر.2005 ،
.11أحمد الدبش :مكسى كفرعكف في جزيرة العرب ،الطبعة الثانية ،دار خطكات لمنشر،
دمشؽ.2004 ،
.12أحمد بف عبد الكىاب بف محمد بف عبد الدائـ القرشي التيمي البكرم ،شياب الديف
النكيرم (ت733 :ىػ) :نياية األرب في فنكف األدب ،الطبعة األكلى ،دار الكتب
كالكثائؽ القكمية ،القاىرة1423 ،ق.2004 -
.13أحمد داككد :العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد ،الطبعة األكلى،
.1991
.14أحمد عيد :جغرافية التكراة في جزيرة الفراعنة ،الطبعة األكلى ،مركز المحركسة
لمبحكث كالنشر كالتدريب ،القاىرة.1996 ،
.15أحمد محمد عبد العاؿ :دراسات في الفكر الجغرافي ،بدكف بيانات الطبعة كالناشر
كمكاف النشر.2006 ،
.16أسعد رزكؽ :إسرائيؿ الكبرل دراسة في الفكر التكسعي الصييكني ،دار الحمراء
لمطباعة كالنشر ،بيركت.2002 ،
.17اسرائيؿ فنكمشتايف ،نيؿ إشر سيمبرماف :التكراة الييكدية مكشكفة عمى حقيقتيا -رؤية
جديدة إلسرائيؿ القديمة كأصكؿ نصكصيا المقدسة عمى ضكء اكتشافات عمـ اآلثار،
ترجمة كتعميؽ :سعد رستـ ،صفحات لمدراسات كالنشر ،دمشؽ -سكريا( ،ب .ت).
343
.18اسرائيؿ كلفنسكف :تاريخ المغات السامية ،الطبعة األكلى ،لجنة التأليؼ كالترجمة
كالنشر ،مطبعة االعتماد ،القاىرة.1929 ،
.19بيير ركسي :مدينة ايزيس -التاريخ الحقيقي لمعرب ،ترجمة :فريد جحا ،الطبعة
الثالثة ،دار البشائر لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،دمشؽ.2004 ،
.21تكماس ؿ .طكمسكف :التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي ،ترجمة :صالح عمى سكداح،
الطبعة األكلى ،بيساف لمنشر كالتكزيع ،بيركت.1995 ،
.22جمعية التجديد الثقافية االجتماعية :نداء السراة :اختطاؼ جغرافيا األنبياء ،سمسمة
عندما نطؽ السراة ،الطبعة الثانية ،جمعية التجديد الثقافية االجتماعية ،المنامة -
البحريف.2006 ،
.23حسيف مؤنس (مشرفان) :أطمس تاريخ اإلسبلـ ،دار الزىراء لئلعبلـ العربي ،القاىرة،
.1986
.24حمد الجاسر :المعجـ الجغرافي لمببلد العربية السعكدية ،دار اليمامة ،الرياض،
.162 /4 .1979
.25الحسف بف أحمد اليمداني :اإلكميؿ -الجزء الثامف ،حرره كعمؽ عميو :نبيو أميف
فارس ،دار الكممة ،صنعاء ،دار العكدة ،بيركت( ،ب .ت).
.26الحسف بف أحمد اليمداني :صفة جزيرة العرب ،تحقيؽ :محمد بف عمي األككع
الحكالي ،الطبعة األكلى ،مكتبة اإلرشاد ،صنعاء.1990 ،
.27حمد بف ناصر الدخيؿ :يحيى بف طالب الحنفي (180 -120ق796 -738 /ـ)
شعره كحياتو ،الطبعة األكلى ،جامعة اإلماـ محمد بف سعكد ،الرياض.2000 ،
344
.28خالد الغريب :منطقة األحساء عبر أطكار التاريخ ،الخبر.1988 ،
.29خيرية قاسمية :قضية الحدكد بيف مصر كفمسطيف قبؿ الحرب العالمية األكلى ،مجمة
شؤكف فمسطينية ،مركز األبحاث الفمسطينية ،بيركت ،العدد ( ،)5تشريف الثاني،
.1971
.31دم السي أكليرم :مسالؾ الثقافة اإلغريقية إلى العرب ،ترجمة :تماـ حساف ،المكتبة
الثقافية ،القاىرة.1957 ،
.32ديفيد صمكيؿ مرجميكث :أصكؿ الشعر العربي ،ترجمة كتعميؽ كدراسة :إبراىيـ
عكض ،دار الفردكس ،أسيكط -مصر.2006 ،
.33رائد راكاف قاسـ الجكارم :العناصر األساسية لمخارطة عند الشريؼ اإلدريسي
(560 -493ق1166 -1100 /ـ) ،مجمة التربية كالعمـ ،جامعة المكصؿ ،المجمد
( ،)19العدد ( .2012 ،)5ص ص .369 -354
.34رشيد حميـ :عمـ اإلسمائية عبلقتو العممية كاجراءاتو -دراسة طبكنيمية لمكقعيف،
مجمة المغة العربية ،المجمس األعمى لمغة العربية ،الجزائر ،العدد ( ،)37الثبلثي
الثالث .2017 ،ص ص .138 -123
.35زياد منى :جغرافية التكراة مصر كبنك اسرائيؿ في عسير ،الطبعة األكلى ،رياض
الريس لمكتب كالنشر ،بيركت.1994 ،
.36سعيد األفغاني :أسكاؽ العرب في الجاىمية كاالسبلـ ،الطبعة الرابعة ،دار الفكر،
بيركت.1993 ،
345
.37سعيد السعيد :ألكيس مكسيؿ ،حياة بيف العمـ كالسياسة ،كرقة عمؿ مقدمة لمندكة
العممية عف الرحالة التشيكي "ألكيس مكسيؿ" ،جامعة تشارلز ،براغ ،يكنيك .2008
.38سفير جاسـ حسيف كىدل عيداف جبار الربيعي :المبلمح الجغرافية الطبيعية في
كتاب صفة جزيرة العرب لميمداني ،مجمة اكركؾ لمعمكـ االنسانية ،جامعة المثنى،
العراؽ ،المجمد ( ،)9العدد ( .2016 ،)4ص ص .107 -90
.39سييؿ زكار :التكراة ترجمة عربية عمرىا أكثر مف ألؼ عاـ ،الطبعة األكلى ،دار
قتيبة لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،دمشؽ -بيركت.2007 ،
.40شاكر خصباؾ :التراث الجغرافي عند العرب ،المؤسسة العربية لمدراسات كالنشر،
بيركت ،بدكف تاريخ النشر.
.41صقر أبك فخر :التكراة العربية كأكرشميـ اليمنية ،مجمة الدراسات الفمسطينية ،المجمد
( ،)7العدد ( ،)27صيؼ .1996
.43عبادة جماؿ أبك محسف :تكممة صنيع ياقكت الحمكم في كتابو "المشترؾ كضعان
صقعت" -دراسة في المشترؾ مف األعبلـ الجغرافية في ببلد الشاـ ،رسالة
ن كالمفترؽ
ماجستير ،جامعة النجاح الكطنية -نابمس.2016 ،
.44عبد الرحمف بدكم :مكسكعة المستشرقيف ،الطبعة الثالثة "منقحة كمزيدة" ،دار العمـ
لممبلييف ،بيركت -لبناف.1993 ،
.45عبد الرحمف بف خمدكف :مقدمة ابف خمدكف ،دار الطباعة ،بكالؽ -مصر( ،ب .ت).
.46عبد اهلل التؿ :خطر الييكدية العالمية عمى االسبلـ كالمسيحية ،دار القمـ ،القاىرة،
..1964
346
.47عبد اهلل الحمك :تحقيقات تاريخية لغكية في األسماء الجغرافية السكرية استنادان
لمجغرافييف العرب ،الطبعة األكلى ،بيساف لمطباعة كالنشر ،بيركت.1999 ،
.48عبد اهلل الطيب :محاضرة البركفسكر عبد اهلل الطيب في مقر مجمع المغة العربية،
مجمة مجمع المغة العربية ،العدد ( ،)79نكفمبر .1996
.49عبد اهلل محمد ظافر :نزىة المشتاؽ لميمف -حدكد كخرائط كشؤكف اليمف في
البمدانيات مف القرف التاسع كحتى القرف الرابع عشر الميبلدم ،الطبعة األكلى ،مكتبة
خالد بف الكليد -دار الكتب اليمنية ،صنعاء.2017 ،
.50عبد اهلل ناصر القحطاني :سفر يشكع -دراسة عقدية نقدية ،رسالة ماجستير ،جامعة
أـ القرل ،مكة المكرمة1435 ،ق.2014 -
.52عبداهلل النجـ :البحريف في صدر اإلسبلـ ،دار الحرية لمطباعة ،بغداد.1973 ،
.53عدناف عياش :دحض ادعاءات الييكد بأحقيتيـ في أرض فمسطيف ،المؤتمر الدكلي
الثالث عشر لمركز جيؿ البحث العممي "فمسطيف قضية كحؽ" ،طرابمس -لبناف -2
3ديسمبر .2016
.54عفيؼ بينسي :تاريخ فمسطيف القديـ مف خبلؿ عمـ اآلثار ،منشكرات الييئة العامة
السكرية لمكتاب ،ك ازرة الثقافة ،دمشؽ -سكريا.2009 ،
.55عمي محمد دياب :مفيكما اإلقميـ كعمـ األقاليـ مف منظكر جغرافي بشرم ،مجمة
جامعة دمشؽ ،المجمد ( ،)28العدد ( .2012 ،)2ص ص .508 -457
.56عمر أميف مصالحة :حدكد ارض إسرائيؿ في المك ار (التكراة) -دراسة تكثيقية ،مجمة
قضايا اسرائيمية ،المركز الفمسطيني لمدراسات اإلسرائيمية "مدار" ،العدد ( ،)46يكليك
.2012ص ص .98 -89
347
.57فاضؿ الربيعي :حقيقة السبي البابمي -الحمبلت األشكرية عمى الجزيرة العربية
كاليمف ،الطبعة الثانية ،جداكؿ لمنشر كالترجمة ،الككيت.2013 ،
.58فاضؿ الربيعي :فمسطيف المتخيمة :أرض التكراة في اليمف القديـ ،المجمد األكؿ،
الطبعة األكلى ،دار الفكر لمنشر ،دمشؽ..2008 ،
.59فراس السكاح :الحدث التكراتي كالشرؽ األدنى القديـ :ىؿ جاءت التكراة مف جزيرة
العرب -نظرية كماؿ الصميبي في ميزاف النقد كالحقائؽ العممية ،الطبعة الثالثة ،دار
عبلء الديف ،دمشؽ.1997 ،
.60فرانسكا دينالد ،ركجيو ليشتنبرج :الحيكانات كالبشر تناغـ مصرم قديـ ،ترجمة :فاطمة
عبد اهلل محمكد ،مراجعة كتقديـ :محمكد ماىر طو ،الطبعة األكلى ،المركز القكمي
لمترجمة ،القاىرة.2012 ،
.61فرج اهلل صالح ديب :التكراة العربية كاكرشميـ اليمنية ،دار نكفؿ ،بيركت.1994 ،
.62فرج اهلل صالح ديب :اليمف ىي األصؿ -الجذكر العربية لؤلسماء ،الطبعة األكلى،
دار الكتاب الحديث ،بيركت.1988 ،
.63فرج اهلل صالح ديب :كذبة السامية كحقيقة الفينيقية ،الطبعة األكلى ،دار نكفؿ،
بيركت.1998 ،
.64فضؿ الجثاـ اليافعي :الحضكر اليماني في تاريخ الشرؽ األدنى -سبر في التاريخ
القديـ ،الطبعة األكلى ،منشكرات دار عبلء الديف ،دمشؽ.1999 ،
.65ابف الفقيو أبك بكر احمد بف إبراىيـ اليمذاني :مختصر كتاب البمداف ،مطبعة لندف،
.1885
.66كماؿ الصميبي :التكراة جاءت مف جزيرة العرب ،ترجمة :عفيؼ الرزاز ،الطبعة
السادسة ،مؤسسة األبحاث العربية ،بيركت.1997 ،
348
.67كماؿ الصميبي :حرب داكد :األجزاء الممحميَّة مف ِسفر صمكئيؿ الثاني مترجمة عف
األصؿ العبرم ،دار الشركؽ ،عماف -األردف.1991 ،
.68كيت كايتبلـ :اختبلؽ إسرائيؿ القديمة -اسكات التاريخ الفمسطيني ،ترجمة سحر
الينيدم ،مراجعة :فؤاد زكريا ،سمسمة عالـ المعرفة ،العدد ( ،)249المجمس الكطني
لمثقافة كالفنكف كاآلداب ،الككيت ،سبتمبر .1999
.70محمد األسعد :مستشرقكف في عمـ اآلثار :كيؼ ق أركا األلكاح ككتبكا التاريخ ،الطبعة
األكلى ،دار مسعى ،الدار العربية لمعمكـ -ناشركف ،بيركت.2010 ،
.71محمد حسف شراب :مكسكعة بيت المقدس كالمسجد األقصى ،التاريخ ،اآلثار،
األعبلـ كاألمكنة كالرجاؿ -الجزء األكؿ ،األىمية لمنشر كالتكزيع ،عماف.2003 ،
.72محمد محمكد محمديف :الجغرافيا كالجغرافيكف بيف الزماف كالمكاف ،الطبعة الثانية،
دار الخريجي ،الرياض.1996 ،
.74ناصر الديف أبك خضير :أسماء قرل القدس -دراسة لغكية داللية ،مجمة اتحاد
الجامعات العربية لآلداب ،جمعية كميات اآلداب في الجامعات أعضاء اتحاد
الجامعات العربية ،المجمد ( ،)13العدد ( .2016 ،)2ص ص .382 -355
.75ق .ج .كيمز :معالـ تاريخ االنسانية ،المجمد الثاني -في تاريخ اإلغريؽ كالركماف
كمف عاصركىما ،ترجمة :عبد العزيز تكفيؽ جاكيد ،الطبعة الثالثة ،الييئة المصرية
العامة لمكتاب ،القاىرة.1963 ،
349
.76ياقكت الحمكم :المشترؾ كضعا كالمفترؽ صقعان ،الطبعة الثانية ،عالـ الكتب،
بيركت1406 ،ق.1986 -
.77يكسؼ الكبلـ :تاريخ كعقائد الكتاب المقدس بيف اشكالية التقنيف كالتقديس -دراسة
في التاريخ النقدم لمكتاب المقدس في الغرب المسيحي ،الطبعة األكلى ،صفحات
لمدراسات كالنشر ،دمشؽ.2009 ،
.78يكسؼ كفركني :التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي :نقض تاريخانية التكراة ،مف مقدمة
كتاب :تكماس ؿ .طكمسكف :التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي ،ترجمة :صالح عمى
سكداح ،الطبعة األكلى ،بيساف لمنشر كالتكزيع ،بيركت.1995 ،
350
.4صالح السعيدم :ىؿ األكراد يمنيكف قدماء؟ ،صحيفة القبس الككيتية العدد
( 7 ،)12008نكفمبر ،2006متاح عمى الرابط االلكتركني:
https://alqabas.com/288765/- 20 Nov 2017.
.5عامر عبد اهلل الجميمي :أسماء المدف كالمكاقع الجغرافية المتشابية لفظان كالمختمفة
مكقعان في النصكص المسمارية 11 ،مايك ،2011متاح عمى الرابط االلكتركني:
http://dramerart.blogspot.com/search/label/%D8%A7%D8%B3%D
9%85%D8%A7%D8%A1%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D
9%86- 10 Nov 2017.
.6الباحث العراقي فاضؿ الربيعي :فمسطيف لـ تكف يكما أرض الميعاد الييكدم كال
عبلقة ليا بالييكدية ،حكار مع فاضؿ الربيعي ،صحيفة الكطف ،متاح عمى الرابط
االلكتركني:
http://www.alwatan.com/graphics/2011/01Jan/18.1/dailyhtml/ashr
eea.html- 26 May 2018.
.7فاضؿ الربيعي :التكراة لـ تذكر اسـ الفمسطينييف كال تعرؼ فمسطيف 12 ،يناير
،2017متاح عمى الرابط االلكتركني:
http://www.aljazeera.net/news/alquds/2017/1/12/%D8%A7%D9%
84%D8%AA%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%A9-%D9%84%D9%85-
%D8%AA%D8%B0%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D8%B3%D9%85-
%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9
%86%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%88%D9%84%D8%A7-
%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81-
%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86- 10 Nov
2017.
351