You are on page 1of 363

‫فكري آل هري‬

‫جغرافيت التىراة وحاخاماتها العرب‬


‫يف نقد نظريت كمال الصليبي وروادها اآلخرين من الباحثني العرب‬

‫دراست حتليليت ‪ -‬نقديت ‪ -‬تطبيقيت‬

‫‪2018‬‬
‫فكري آل هري‬
‫تنىيه هاو نهغايت‪:‬‬

‫ىذه الدراسة مسجمة وقيد الطباعة‬


‫والنشر في الوقت الراىن‪ ،‬وأي انتحال‬
‫لما جاء فييا‪ ،‬أو اقتباس منيا دون‬
‫عد من قبيل‬‫اإلشارة إلييا كمصدر‪ُ ،‬ي ّ‬
‫جغرافيت انتىراة وحاخاياتها انعرب‬ ‫السرقة العممية وانتياكاً لحقوق الممكية‬
‫يف نقد نظريت كًال انصهيبي وروادها اآلخري ي انباحي ن انعرب‬ ‫الفكرية لمباحث‪ ،‬ويترتب عنو قيام كافة‬
‫دراست حتهيهيت ‪ -‬نقديت – تطبيقيت‬ ‫المسؤولية القانونية عمى فاعمو‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬برجاء احترام أخالقيات‬
‫باألمانة‬ ‫وااللتزام‬ ‫العممي‪،‬‬ ‫البحث‬
‫‪2018‬‬
‫والموضوعية عند النقل أو االستفادة من‬
‫الدراسة بأي شكل من األشكال‪.‬‬
‫فكري آل ىير‬
‫صنعاء‬
‫الجميورية اليمنية‬

‫نهتىاصم يع انباحث‪:‬‬

‫‪E-Mail: fekri101@hotmail.com‬‬
‫**‬
‫‪https://www.facebook.com/Fekri‬‬
‫‪101‬‬
‫**‬
‫‪https://twitter.com/fekriAM‬‬

‫صورة الغالف من موقع مجمة المجتمع‪ ،‬عمى الرابط االلكتروني‪:‬‬


‫‪http://mugtama.com/ntellectual/item/57797-2017-07-16-13-23-42.html‬‬

‫‪I‬‬
II
‫إهداء‬

‫ألمي اليمن‪ ..‬وألمي التي من مااول المج‬


‫من ذ ار ىم ان‬
‫نعم الخؤولة‪ ،‬ونعم النسب‪ ..‬وخير العتا‬
‫والى روح وال ي‬
‫ولذكراه التي استضيء بيا ال رب صوب غاياتي العظام‬
‫**‬
‫الى سي ة نساء سبأ وحمير‪ ،‬التي بارك الرحمن خطو مسيرىا من ذي رعين‬
‫موالتي وموالة قمبي‪ ،‬شريكتي في ال رب والعرش والمصير‬
‫ذات يحصب‬
‫الى صغاري المموك‪ ،‬أبناء المموك وأحفا المموك من ذي يزن‪ ،‬والرائشين من سبأ الكرام‬
‫األكرمين‪..‬‬
‫ريم ذات ريمان‬
‫واألييم ذو عم‬
‫وان حمير في البشر كالب ر في الميمة الظمماء‪ ،‬يشاء الناس خفضيم ويأبى اهلل إال أن يرفع‬
‫شأنيم‪!!..‬‬
‫‪...‬‬
‫فكري‪..‬‬

‫‪III‬‬
‫كهًت البد ينها‬

‫أشكر إلينا الرحمن‪ ،‬الذي أحاطني برعايتو منذ المحظة األولى التي شرعت فييا بإعداد‬
‫ىذه الدراسة‪ ،‬إذ لم ولن أنسى أن كل سطر كتبتو فييا‪ ،‬كتبتو وكمي يقين بتوفيق اهلل سبحانو‬
‫وتأييده ودعمو لي‪ ،‬السيما وقد عممت بأني غير معصوم من الزالت واألخطاء‪ ،‬فأخمصت النية‬
‫في أن تكون غايتي ىي خدمة الحقيقة واشعال جذوة نارىا من حيث أراد البعض اطفائيا‪ ،‬وبيذا‬
‫استكان ضميري وطابت سريرة نفسي‪ ،‬فكان ىذا اجتيادي‪...‬‬

‫ثم إنو كان لي شرف الحظوة بتشجيع قمة من األساتذة واألخوة واألصدقاء‪ ،‬كانت كمماتيم‬
‫تمنحني التأييد والتحفيز‪ ،‬ولوال أن ذكر البعض منيم ىو عين الجحود بحق البعض اآلخر‬
‫لذكرتيم باالسم‪ ،‬لكني سأكتفي بأن أتوجو إلييم بالشكر وجزيل االمتنان واحداً واحداً دون ذكر‬
‫أسماء‪..‬‬

‫كما أشكر أيضاً جميع القراء‪..‬‬

‫‪IV‬‬
‫احملتىياث‬

‫رقم الصفحة‬ ‫الموضوع‬

‫‪III‬‬ ‫اإلى اء‬ ‫‪‬‬

‫‪IV‬‬ ‫كممة الب منيا‬ ‫‪‬‬

‫‪V‬‬ ‫المحتويات‬ ‫‪‬‬

‫‪VII‬‬ ‫ما مة‬ ‫‪‬‬

‫انقسى األول‪ :‬تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫‪1‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الجذور االستشراقية‪ -‬الييو ية لمنظرية‬

‫‪7‬‬ ‫[‪ .]1‬نظرية واحدة أم نظريات متعددة ومختمفة‬

‫‪13‬‬ ‫[‪ .]2‬المنطمقات العامة لمنظرية‪ ،‬مقوالتيا وفروضيا‬

‫‪19‬‬ ‫[‪ .]3‬الجذور االستشراقية‪ -‬الييودي لمنظرية‬

‫‪40‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬من نا التوراة الى إنااذ التوراة‬

‫‪41‬‬ ‫[‪ .]1‬تناقضات ثالثة وتساؤالت شائكة‬

‫‪50‬‬ ‫[‪ .]2‬عمم اآلثار يقول‪ :‬ال مصداقية لمتوراة‬

‫‪63‬‬ ‫[‪ .]3‬نظرية جديدة إلنقاذ التوراة‬

‫‪78‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬المنيج الجينمي وحاياة التزوير‬

‫‪81‬‬ ‫منيج عممي أم شعوذة لغوية‬


‫ٌ‬ ‫[‪.]1‬‬

‫‪99‬‬ ‫[‪ .]2‬مشروع تيويد الجغرافية الفمسطينية "نموذج تطبيقي"‬

‫‪107‬‬ ‫عممي‬
‫ّ‬ ‫منيج‬
‫ٌ‬ ‫تزوير أم‬
‫ٌ‬ ‫[‪.]3‬‬

‫‪119‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬نياية لعبة األسماء والكممات المتشابية‬

‫‪125‬‬ ‫[‪ .]1‬ماذا يعني تشابو األسماء الجغرافية؟‬

‫‪137‬‬ ‫[‪ .]2‬ماذا عن جغرافية التوراة الكوردية في اليمن؟‬

‫‪149‬‬ ‫[‪ .]3‬كيف تكشف أسماء األماكن عن موطنيا؟‬

‫‪V‬‬
‫‪157‬‬ ‫انقسى انياني‪ :‬نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهىاث اخلرائط‬

‫‪158‬‬ ‫م خل‬

‫‪163‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬فاضل الربيعي بين المطرقة والسن ان‬

‫‪167‬‬ ‫[‪ .]1‬ىكذا تحدث فاضل الربيعي‬

‫‪177‬‬ ‫[‪ .]2‬ىكذا تحدث اليمداني‬

‫‪185‬‬ ‫[‪ .]3‬ىكذا تحدث بطميموس‬

‫‪201‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬بين شيا ة اليم اني وح يث إفك الربيعي‬

‫‪206‬‬ ‫تخيمة‬
‫[‪ .]1‬أوىام وقعقعات ُم ّ‬
‫‪222‬‬ ‫[‪ .]2‬زنبيل أوىام الربيعي‬

‫‪236‬‬ ‫[‪ .]3‬فوضى الجغرافية المتُ َخيَّمة‬

‫‪247‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬ىورشمم حوتس آلرتس؟!‬

‫‪250‬‬ ‫[‪ .]1‬ىل ترجم الربيعي التوراة حقاً؟!‬

‫‪260‬‬ ‫[‪ .]2‬أورشميم آرتس أم حوتس آلرتس؟!‬

‫‪288‬‬ ‫تخيمة‬
‫الم ّ‬
‫[‪ .]3‬فوضى الربيعي ُ‬
‫‪295‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬أقواس الربيـ(‪).....‬ــعي الفارغة‬

‫‪297‬‬ ‫[‪ .]1‬الطفرة المخيالية‬

‫‪315‬‬ ‫[‪ .]2‬األقواس الفـ ــارغة‬

‫‪331‬‬ ‫[‪ .]3‬الربيعي وخرائطو العمياء‬

‫‪340‬‬ ‫الخاتمة‬ ‫‪‬‬

‫‪342‬‬ ‫المراجع والمصا ر‬ ‫‪‬‬

‫‪VI‬‬
‫يقديت‬

‫قبل سنوات طويمة‪ ،‬أعارني أحد األصدقاء كتاب "التوراة جاءت من جزيرة العرب" لكمال‬
‫الصميبي‪ ،‬ومن ثم سنحت لي فرص أخرى لقراءة "خفايا التوراة" و"حروب داود" أيضاً‪ ،‬ثم‬
‫حصمت الحقاً عمى كتاب "العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود" ألحمد داود‪،‬‬
‫وأيضاً كتاب "الحضور اليماني في تاريخ الشرق القديم" لـ فضل الجثام‪ ،‬كان ذلك في الفترة ما‬
‫بين ‪.2002 -2003‬‬

‫مثل معظم القراء‪ ،‬كنت منبي اًر جداً بالفكرة الرئيسية التي جمعت بين ىذه األعمال‪،‬‬
‫ومدفوعاً بشكل جارف إلييا‪ ،‬من حيث نال مني اإلعجاب بيا مبمغاً كبي اًر لم يسبق ألي فكرة‬

‫أخرى أن أوصمتني إليو‪ .‬فقد رأيت آنذاك أن ىذه االتجاه يمكن أن يكون فتحاً معرفياً حقيقياً‬
‫إلعادة قراءة تاريخ المنطقة العربية القديم بعيداً عن القوالب االستشراقية الغربية‪ ،‬تماماً كما‬
‫عبرت عن ذلك مقدمات ىذه األعمال ومضموناتيا‪ ،‬ناىيك وأن ىذا الفتح وفق ما تكون لدي في‬
‫ذلك الوقت يمكن أن يساىم في إعادة االعتبار لتاريخ اليمن القديم‪.‬‬

‫ىكذا ظننت بالفعل‪!!..‬‬

‫فكنت من أشد المتحمسين ليذه النظرية والمدافعين عنيا لسنوات أخرى طويمة‪ ،‬ولم يكن‬
‫يخطر ببالي أبداً أني سأكون ذات يوم في مواجية مباشرة مع ىذه النظرية وروادىا‪.‬‬

‫لسنوات عدة بعد ذلك‪ ،‬ظممت أتابع كل جديد بيذا الشأن‪ ،‬وأراقب عن كثب بين الحين‬
‫واآلخر كل ما يقال عن ىذه النظرية مجدداً‪ ،‬تزامن ذلك مع قراءتي ألعمال أخرى تصب في‬
‫فمك النظرية نفسيا‪ ،‬لــ‪ :‬أحمد عيد‪ ،‬وفرج اهلل صالح ديب‪ ،‬وزياد منى‪ ،‬وفاضل الربيعي‪،‬‬
‫اصدارت جمعية التجديد البحرينية‪ ،‬كما قرأت ردود كل من فراس السواح وجورجي كنعان‬
‫ا‬ ‫و‬
‫أيضاً‪ ،‬فضالً عن كم ىائل من المقاالت ذات الصمة‪.‬‬

‫‪VII‬‬
‫إال إن تمك القراءات المتتابعة والمتجددة سرعان ما ساىمت في تكوين رؤية مشوشة لدي‪،‬‬
‫إزاء النظرية التي صاغيا الصميبي‪ ،‬وازاء النماذج المنتحمة منيا مما قام بو اآلخرون كذلك‪.‬‬

‫ثم إنو وبعد عشر سنوات من الحماس الشديد والدفاع األشد عن نظرية الصميبي ورفاقو‪،‬‬
‫تكون لدي موقف مغاير تماماً‪ ،‬كان ذلك بعد أن قضيت الصيف كمو من العام ‪ 2013‬في قراءة‬
‫َّ‬
‫تمك األعمال مرة أخرى رغم قراءاتي المتعددة ليا من قبل‪ ،‬وأذكر جيداً أني في تمك الفترة توقفت‬
‫كثي اًر أمام أعمال فاضل الربيعي‪ ،‬وبدأت أسعى بقوة الى قراءة ما لم أقرأه بعد من أعمال فرج اهلل‬
‫ديب‪ ،‬وأعمال أحمد الدبش‪ ،‬إال إن قراءة أعمال ىذان األخيران لم تتحقق لي إال بعد ذلك بعدة‬
‫سنوات‪ ،‬ومع ذلك فقد كان ما توفر لدي حتى ذلك الوقت كافياً لمتحول الى الطرف اآلخر‬
‫ال ارفض والمناىض لمنظرية برمتيا‪.‬‬

‫كان تحوالً ناتجاً ومتكوناً عن قراءات عميقة فاحصة وناقدة‪ ،‬أسفرت عن العديد من‬
‫التساؤالت والمشكالت والمالحظات‪ ،‬التي تأكد لي منيا أنني أقف أمام نظرية ىشة ومتناقضة‬
‫من الناحية المنيجية والمعرفية‪ ،‬فضالً عن األخطاء والتحريفات التي بدأت تتضح لي أكثر‬
‫وأكثر كل يوم‪.‬‬

‫في ىذا االتجاه‪ ،‬بدأت أركز عمى المناقشات والحوارات التي تدور حول النظرية وأعمال‬
‫روادىا المتعددة والمتباينة في تفسيراتيا لمنص التوراتي حيثما أمكن لي رصدىا وتتبعيا‪ ،‬وذلك‬
‫بغية التعرف عن كثب عمى الطرق التي يستخدميا رواد ىذه النظرية وأنصارىا في تقديم‬
‫اطروحاتيم واستدالالتيم لمجميور بشكل مباشر‪ ،‬والتعرف أيضاً عمى طبيعة المواقف واالنتقادات‬
‫واآلراء المعارضة ليا والمتحفظة بشأنيا‪ ،‬األمر الذي ساعدني كثي اًر عمى ضبط صياغة دقيقة‬
‫لتمك التساؤالت التي كانت قد تكونت لدي‪.‬‬

‫الحقاً‪ ،‬بدأت تتخمق لدي أسباب ودوافع عديدة لمتفكير في تطوير منيج وأدوات نقدية‬
‫لمتعامل مع ىذه النظرية‪ ،‬إال إن األمر من ىذه الناحية كان بحد ذاتو منحص اًر عمى األغراض‬
‫الذاتية والشخصية‪ -‬أي تمكين نفسي من نقد النظرية‪ -‬خاصة أنو لم تكن لدي حتى ذلك الوقت‬
‫أي نية عمى اإلطالق في القيام بعمل بحثي ونقدي مماثل ليذا الذي نقدم لو‪.‬‬

‫‪VIII‬‬
‫أتاحت لي مواقع التواصل االجتماعي عبر شبكة االنترنت‪ ،‬أن أتعرف وأن تربطني معرفة‬
‫واتصاالت مباشرة ببعض رواد نظرية جغرافية التوراة‪ ،‬عمى نحو لم أحرص عميو إال بدافع‬
‫اىتمامي الشديد لطرح تساؤالتي عمييم‪ ،‬وىذا ما حصل بالفعل‪ ،‬لكن األمر أدى الى نتائج عجيبة‬
‫وغير متوقعة‪ ،‬أقصد بذلك أن من عرفتيم منيم سمكوا مسمكاً واحداً وموحداً في التعامل مع ما‬

‫تيرب من المناقشة‪ ،‬ومنيم من امتنع نيائياً‬


‫كنت أطرحو عمييم من تساؤالت‪ ،‬فكان منيم من َّ‬
‫عن قول كممة واحدة إزاءىا‪ ،‬وبرغم إني تعمدت تكرار محاوالتي إال إن النتيجة كانت نفسيا‪،‬‬
‫وىي‪ :‬رفضيم الشديد والغامض ألي نقاش معيم‪.‬‬

‫أفضل جواب حصمت عميو من أح ىم في ىذا الشأن‪ ،‬ىو‪ :‬اق أر كتابي الفالني وكتابي‬
‫العالني‪ ..‬كل األجوبة عمى أسئمتك تج ىا في كتابي‪ ..‬وعبارات من ىذا الابيل‪.‬‬

‫ولطالما كنت أؤكد ليم عمى أن تساؤالتي تمك ليست أولية يدفعيا الفضول‪ ،‬بل ىي نتاج‬
‫قراءات عميقة في أعماليم وأنيم ىم الوحيدون من ينبغي أن تكون األجوبة صادرة منيم‪ ،‬وأتذكر‬
‫جيداً أني صرحت ألحدىم في حوار خاص جرى بيني وبينو‪ ،‬بأني قادر عمى أن أرد عمى‬
‫نظريتو‪ ،‬غير أن ىذا لم يكن ىدفي‪ ،‬وأن ما أىدف إليو فعالً ليس إال معرفة آرائو بشأن تساؤالتي‬
‫ال أكثر‪ ،‬لكنو وبشكل عمني أظير الرفض واالمتناع عن أي نقاش‪ ،‬وأكد لي بصيغة أو بأخرى‬
‫أن ىذا الموقف قطعي تماماً‪ ،‬ثم سرعان ما تطور األمر الى إعالن القطيعة معي من قبميم‪،‬‬
‫واغالق كل أبواب التواصل والحوار‪ ،‬ولشد ما أثارني أن ىذا الموقف كان قاسماً مشتركاً بينيم‪،‬‬
‫من حيث بدا لي غريباً ومثي اًر لمريبة والشك‪.‬‬

‫وفي يوم غير بعيد عن مجرى ىذا كمو‪ ،‬كنت في حوار مع صديق من العراق الحبيبية‪،‬‬
‫كنا نخوض فيو بشأن ىذه النظرية‪ ،‬حينيا قال لي‪" :‬إن ما نحتاج إليو ىو ر عممي عمييا إن‬
‫لم يفن ىا وي حضيا‪ ،‬فعمى األقل يشكك بيا ويزعزع مص اقيتيا"‪ ،‬فصدر الوعد مني لو ولكل‬
‫الميتمين بأني سأقوم بذلك‪ ،‬في محاولة لبناء جسور الحوار العممي والعقالني مع رواد النظرية‬
‫ومن نحا نحوىم‪ ،‬وكان البد من تصديق الوعد‪.‬‬

‫‪IX‬‬
‫القراء األعزاء‪..‬‬

‫إنو ليسعدني ويشرفني أن أقدم لكم ما أراه بحق‪ :‬أول راسة نا ية عمى أساس عممي‬
‫ومنيجي وتطبياي لنظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب كما جرى التأسيس ليا في أعمال‬
‫ثمانية من الباحثين العرب‪ .‬من حيث لم يسبقيا أي دراسة مماثمة تعرضت ألعمال ىذه النظرية‬
‫بذلك الشمول والتخصيص الذي تنفرد بو ىذه الدراسة‪ ،‬بقدر ما تضمنتو دراستنا ىذه من نقد‬
‫عممي فريد ومميز‪ ،‬وما قدمتو من نتائج وكشفت عنو من حقائق‪ ،‬لم يسبق ألحد من الباحثين أن‬
‫قدميا أو كشف عنيا‪ ،‬عالوة عمى المنيج العممي الجديد والمبتكر الذي اتبعناه فييا‪ ،‬والذي‬
‫ابتكرناه وطورناه عمى مدى عامين كاممين ألغراض ىذه الدراسة‪.‬‬

‫لقد تكامل ذلك كمو من كل النواحي ليكون لي تصديق الذي قطعتو عمى نفسي والتزمت‬
‫ووفاء بوعد‪..‬‬
‫ً‬ ‫بو‪ ،‬فميس ىذا العمل إال تصديقاً‬

‫وليس من بعد الوعد إال الوفاء‪..‬‬

‫فكري آل ىير‬

‫صنعاء‪ -‬الجميورية اليمنية‬

‫‪ 23‬يوليو ‪3122‬‬

‫‪X‬‬
‫انقسى األول‬

‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬


‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫انفصم األول‬

‫اجلذور االستشزاقيت‪ -‬انيهىديت نهنظزيت‬

‫ال بأس‪ ..‬فقد بدأ األمر بكتاب صدر في العاـ ‪ 5763‬بعنكاف "التكراة جاءت مف‬
‫جزيرة العرب" لمبناني (كماؿ الصميبي) ‪ -‬المؤسس العربي األكؿ لنظرية جغرافية التكراة في‬
‫جزيرة العرب‪ -‬كالذم كضح في مقدمتو بأف كضح أف أساس كتابو ىك‪:‬‬

‫"المقابمة المغكية بيف أسماء األماكف المضبكطة بالحرؼ العبرم‪ ،‬كأسماء أماكف‬
‫تاريخية أك حالية في جنكب الحجاز كفي بالد عسير مأخكذة إما عف قدامى‬
‫الجغرافييف العرب كمنيـ (الحسف اليمداني) صاحب كتاب "صفة جزيرة العرب"‪،‬‬
‫ك(ياقكت الحمكم) صاحب "معجـ البمداف"[‪.]1‬‬

‫كقد كتب الصميبي في مقدمة كتابو ما الذم حدث معو كدفعو الى تأليؼ كتابو ذاؾ‪،‬‬
‫فقاؿ‪:‬‬

‫"لقد كاف األمر عبارة عف اكتشاؼ تـ بالصدفة‪ ،‬كنت أبحث عف أسماء األمكنة‬
‫ذات األصكؿ غير العربية في غرب شبو الجزيرة العربية‪ ،‬عندما فكجئت بكجكد أرض‬
‫التكراة كميا ىناؾ‪ ،‬كذلؾ في منطقة بطكؿ يصؿ الى حكالي ‪ 466‬كمـ كبعرض يبمغ‬
‫حكالي ‪ 066‬كمـ‪ ،‬كبالتحديد في "عسير كجنكب الحجاز"‪ .‬ككاف أكؿ ما تنبيت إليو أف‬
‫في ىذه المنطقة أسماء أمكنة كثيرة تشبو أسماء األمكنة في التكراة‪ ،‬كسرعاف ما تبيف‬
‫لي أف جميع أسماء األمكنة التكراتية [العالقة في ذىني]‪ ،‬أك جميا‪ ،‬مازاؿ مكجكدان‬
‫فييا"[‪.]2‬‬

‫[‪ .]5‬كماؿ الصميبي‪ :‬التكراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬ترجمة‪ :‬عفيؼ الرزاز‪ ،‬الطبعة السادسة‪ ،‬مؤسسة‬
‫األبحاث العربية‪ ،‬بيركت‪ .5775 ،‬ص ‪.51‬‬
‫[‪ .]0‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.05‬‬
‫‪1‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫إثر الضجة التي أثارىا كتاب الصميبي‪ ،‬بدأ باحثكف آخركف بتسمؽ الشجرة التي بدت‬
‫مثمرة كسائبة‪ ،‬ففي العاـ ‪ 5775‬صدر كتاب "العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ‬
‫كالييكد" لمسكرم (أحمد داككد)‪ ،‬كالذم قاـ عمى حد قكلو بدراسة التكراة دراسة تاريخية‬
‫كجغرافية كلغكية كسكانية كمنطقية‪ ،‬حتى تكصؿ الى أف جغرافية التكراة ليست في فمسطيف‪،‬‬
‫بؿ في غامد مف منطقة عسير غرب الجزيرة العربية‪ ،‬كذلؾ بناء عمى حزمة مف الكسائؿ‬
‫االستداللية أىميا طبعان دراسة الجذكر المغكية لؤلسماء الكاردة في التكراة[‪ .]1‬كبالطبع فإف‬
‫أحمد داكد أنكر تمامان أم صمة لما تكصؿ إليو في كتابو بطركحات كماؿ الصميبي‪.‬‬

‫جاء الباحث المبناني (فرج اهلل صالح ديب) بكتابو الذم صدر سنة ‪ 5772‬بعنكاف‬
‫"التكراة العربية كاكرشميـ اليمنية"[‪ ،]2‬منطمقان مف نفس األساس الذم أقامو الصميبي‪، ،‬‬
‫كباالستناد الى أف العمماء لـ يجدكا أم آثار في فمسطيف تدؿ عمى االحداث التاريخية في‬
‫التكراة‪ ،‬كىذا بدكره دفع الى التساؤؿ‪ :‬ىؿ نبحث في المكاف الخطأ؟‪ -‬نعـ‪ ،‬إف دراسة األسماء‬
‫الجغرافية في التكراة كمطابقتيا مع أسماء المناطؽ اليمنية‪ ،‬يكشؼ عمى نحك كثيؽ بأف مسرح‬
‫التكراة كاف في اليمف‪ ،‬كليس في عسير كما قاؿ الصميبي كال في غامد كما قاؿ أحمد داككد‪.‬‬

‫الحقان سكؼ ينطمؽ فرج اهلل صالح ديب‪ ،‬مف افتراض أف البحث في الجذكر المغكية‬
‫ألسماء القرل كالبمداف كالمناطؽ كالجباؿ كاألنيار المبنانية‪ ،‬فضالن عف مفردات الميجات‬
‫المبنانية البد كأف تعكس المراحؿ التاريخية التي سادت في لبناف كمحيطو‪ ،‬كبعد فحص تمؾ‬
‫األسماء كمقارنتيا باألسماء كمفردات الميجات اليمنية‪ ،‬تكصؿ الى أف اليمف ىي األصؿ[‪.]3‬‬

‫في نفس العاـ الذم صدر فيو كتاب فرج اهلل صالح ديب‪ -‬أم عاـ ‪ -5772‬صدر‬
‫كتاب آخر لمباحث المبناني (زياد منى) بعنكاف "جغرافية التكراة مصر كبنك اسرائيؿ في‬
‫عسير"‪ .‬كالحقيقة أف زياد منى لـ يتجاكز حدكد ما جاء بو الصميبي مف قبؿ‪ ،‬إال بشيء يسير‬

‫[‪ .]5‬أحمد داككد‪ :‬العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد‪ ،‬الطبعة األكلى‪ .5775 ،‬ص ‪.50‬‬
‫[‪ .]0‬فرج اهلل صالح ديب‪ :‬التكراة العربية كاكرشميـ اليمنية‪ ،‬دار نكفؿ‪ ،‬بيركت‪.5772 ،‬‬
‫[‪ .]1‬فرج اهلل صالح ديب‪ :‬اليمف ىي األصؿ‪ -‬الجذكر العربية لؤلسماء‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬دار الكتاب‬
‫الحديث‪ ،‬بيركت‪ .5766 ،‬ص ‪.4‬‬
‫‪2‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫ال يجعؿ كتابو مختمفان‪ .‬كذلؾ كفؽ ما قالو ىك بأف كتابو يرتكز عمى كتاب الصميبي كأف‬
‫اسيامو يندرج فحسب في إطار التيذيب العممي لما جاء فيو[‪ .]1‬كما أشار زياد منى الى‬
‫اعتماده المنيج المغكم الذم يعتمد عمى البحث في الجذكر المشتركة لؤللفاظ العربية كالعبرية‬
‫مف خالؿ مالحظة ظكاىر قمب الحركؼ كاستبداليا‪ ،‬لمتعرؼ عمى أصؿ األسماء التكراتية‬
‫كردىا الى منطقتيا الجغرافية الصحيحة‪.‬‬

‫في عاـ ‪ 5774‬أصدر الباحث المصرم األستاذ (أحمد عيد) كتابو بعنكاف "جغرافية‬
‫التكراة في جزيرة الفراعنة"[‪ ،]2‬كالذم انطمؽ في اتجاه الرد عمى كؿ المحاكالت الصييكنية‬
‫الرامية الى إثبات أف خركج بني اسرائيؿ كاف مف مصر الى فمسطيف (المحتمة)‪ ،‬كىي‬
‫المحاكالت التي ىدفت باألساس الى إثبات شرعية االحتالؿ الصييكني لفمسطيف‪ ،‬كذلؾ مف‬
‫خالؿ إثبات أف جزيرة العرب كانت جزء ال يتج أز مف مصر الفرعكنية القديمة‪ ،‬كأف األحداث‬
‫التكراتية حدثت في جنكب الجزيرة العربية‪ -‬كبالتحديد في اليمف‪.‬‬

‫في عاـ ‪ ،5777‬أصدر الباحث اليمني فضؿ الجثاـ (اليافعي) كتابو المكسكـ ب ػ‬
‫"الحضكر اليماني في تاريخ الشرؽ األدنى‪ :‬سبر في التاريخ القديـ"‪ -‬كقد أكد الباحث مف‬
‫أكؿ سطر في كتابو بأنو معني بالكشؼ عف حقيقة التزييؼ التي مكرست بحؽ جغرافية‬
‫التكراة‪ ،‬كجعميا في البالد الكاقعة ما بيف نير النيؿ كالفرات‪ ،‬كاثبات أف شبو جزيرة العرب‬
‫كبالذات إقميميا الكبير اليمف‪ ،‬ىك مكطف كمسرح أحداث التكراة‪ .‬كما أكد الجثاـ بأف معالجتو‬
‫تأتي في إطار ما طرحو كماؿ الصميبي كزياد منى كفرج اهلل صالج ديب كسيد القمني‬
‫كغيرىـ[‪.]3‬‬

‫[‪ .]5‬زياد منى‪ :‬جغرافية التكراة مصر كبنك اسرائيؿ في عسير‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬رياض الريس لمكتب كالنشر‪،‬‬
‫بيركت‪ .5772 ،‬ص ‪.54‬‬
‫[‪ .]0‬أحمد عيد‪ :‬جغرافية التكراة في جزيرة الفراعنة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬مركز المحركسة لمبحكث كالنشر‬
‫كالتدريب‪ ،‬القاىرة‪.5774 ،‬‬
‫[‪ .]1‬فضؿ الجثاـ اليافعي‪ :‬الحضكر اليماني في تاريخ الشرؽ األدنى‪ -‬سبر في التاريخ القديـ‪ ،‬الطبعة‬
‫األكلى‪ ،‬منشكرات دار عالء الديف‪ ،‬دمشؽ‪ .5777 ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪3‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫في عاـ ‪ 0664‬أصدرت جمعية التجديد الثقافية االجتماعية البحرينية كتابان بعنكاف‬
‫"نداء السراة‪ :‬اختطاؼ جغرافيا األنبياء"[‪ ،]1‬كالتي تفند األقاكيؿ التي يرددىا عمماء التكراة‬
‫بشأف جغرافية المكطف التكراتي – جغرافية األنبياء‪ -‬بأنيا في مصر كفمسطيف كسكريا‬
‫كالعراؽ‪ ،‬كتثبت أف تمؾ الجغرافية ليست إال في منطقة السراة غرب الجزيرة العربية‪ ،‬كىك‬
‫نفس الطرح الذم صاغو كماؿ صميبي كأحمد داكد كزياد منى‪ ،‬كلكف بصبغة دينية أكثر منيا‬
‫تاريخية كعممية‪.‬‬

‫منذ العاـ ‪ 0662‬بدأ الباحث الفمسطيني‪ -‬المقيـ في القاىرة‪ -‬األستاذ (أحمد الدبش)‬
‫اصدار سمسمة كتب بمغ عددىا حتى عاـ ‪ 0651‬ثمانية ُكتب‪ ،‬تدكر جميعيا في فمؾ مف‬
‫سبقكه‪ ،‬كترتكز حكؿ نقطة جكىرية ىي إثبات أف جغرافية التكراة ليست في فمسطيف‪ ،‬بؿ في‬
‫اليمف‪ ،‬كذلؾ باالعتماد عمى نفس المنيج المغكم الذم يطابؽ بيف أسماء المناطؽ في التكارة‬
‫كأسماء المناطؽ اليمنية‪ ،‬كالتي تكشؼ عف تطابؽ متيف‪ ،‬يؤكد ذلؾ االستنتاج بأف اليمف ىي‬
‫مسرح أحداث التكراة‪ ،‬في اتجاه مناىض التجاه مف ظؿ يصفيـ عمى طكؿ خط طرحو ب ػ‬
‫"حراس الفكر اآلسف ممف يرددكف ما تمقنكه في صالكف المتحؼ كيشتركف الزيؼ عمى حساب‬
‫الحقيقة بثمف بخس"[‪.]2‬‬

‫في عاـ ‪ 0666‬صدر ألكؿ مرة‪ ،‬كتاب الباحث العراقي المفكر العربي (فاضؿ‬
‫الربيعي) بعنكاف "فمسطيف المتخيمة‪ :‬أرض التكراة في اليمف القديـ"‪ ،‬كالذم تكالت بعده سمسمة‬
‫كتب أخرل لمربيعي نفسو تصب في نفس المكضكع‪ .‬ففي سفره الثقيؿ "فمسطيف المتخيمة‪-‬‬

‫[‪ .]5‬جمعية التجديد الثقافية االجتماعية‪ :‬نداء السراة‪ :‬اختطاؼ جغرافيا األنبياء‪ ،‬سمسمة عندما نطؽ السراة‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،‬جمعية التجديد الثقافية االجتماعية‪ ،‬المنامة ‪ -‬البحريف‪.0664 ،‬‬
‫[‪ .]0‬أحمد الدبش‪ :‬اختطاؼ أكرشميـ‪ ،‬محاكاة لمدراسات كالنشر‪ ،‬دمشؽ‪ .0651 ،‬ص ‪ .05‬باإلضافة الى‬
‫أعماؿ الدبش األخرل‪ ،‬كأىميا‪:‬‬
‫‪ ‬أحمد الدبش‪ :‬مكسى كفرعكف في جزيرة العرب‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار خطكات لمنشر‪ ،‬دمشؽ‪.0662 ،‬‬
‫‪ ‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف كممكؾ بني إسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬دار خطكات لمنشر‪،‬‬
‫‪.0663‬‬
‫‪ ‬أحمد الدبش‪ :‬عكرة نكح كلعنة الفراعنة كتمفيؽ األصكؿ‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬دار خطكات لمنشر‪ ،‬دمشؽ‪،‬‬
‫‪.0664‬‬
‫‪4‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫أرض التكراة في اليمف القديـ"‪ ،‬ينطمؽ المفكر العربي فاضؿ الربيعي مف عنكاف عريض‬
‫كضعو لمقدمة كتابو "اليمداني يصؼ أرض التكراة في السراة اليمنية"‪ ،‬كمف أكؿ سطر يجزـ‬
‫مفكرنا جزمان قاطعان بأف السبي البابمي لمييكد لـ يحدث في فمسطيف‪ ،‬كأف كؿ أحداث التكراة لـ‬
‫تحدث في فمسطيف‪ ..‬الى أف يعكد لذكر اليمداني قائالن‪:‬‬

‫"كفي ضكء اكتشاؼ اليمداني الذم أعرضو ىنا‪ -‬فإف الحقيقة التي ال مناص‬
‫مف التمعف فييا اليكـ ىي أف القبائؿ الييكدية العائدة مف األسر البابمي‪ ،‬ىي التي‬
‫أعادت بناء الييكؿ في "السراة" اليمنية كليس في فمسطيف‪ ،‬بدليؿ أف اليمنييف يسمكف‪-‬‬
‫حتى اليكـ‪ -‬كؿ آثار األبنية القديمة (ىياكؿ)"‪ -‬عمى حد تعبيره[‪.]1‬‬

‫تكصؿ الربيعي الى اكتشاؼ أف اليمداني كصؼ في كتابو "صفة جزيرة العرب"‬
‫األرض نفسيا التي كصفتيا التكراة‪ .‬فكصؼ األمر قائالن‪:‬‬

‫"بدأت حكاية االكتشاؼ المثير ىذا‪ ،‬عندما كنت أعيد قراءة كتابي اليمداني‬
‫(صفة جزيرة العرب‪ ،‬اإلكميؿ) بعد كصكلي بقميؿ الى ىكلندا‪ ،‬كأشد ما أثار دىشتي‪،‬‬
‫أنني كجدت اليمداني يسرد أمامي أسماء الجباؿ كالكدياف كاليضاب كعيكف الماء في‬
‫ال يمف‪ ،‬كما لك أنو يسرد األسماء نفسيا الكاردة في التكراة‪ ،‬كالتي أكاد [أحفظيا عف‬
‫ظير قمب]‪ ،‬كىي ذاتيا كتمامان كما في نصكص التكراة دكف أدنى تالعب‪ ،‬كمع ذلؾ‬
‫بدت لي نصكص اليمداني كما لك أنني قرأتيا مف قبؿ‪ ،‬أك كأنيا تكرر األسماء نفسيا‬
‫في التكراة"[‪.]2‬‬

‫عجبان‪ ،‬ألـ نق أر ىذه القصة قبؿ قميؿ؟!‪ -‬إنيا نفس القصة التي ركاىا لنا الصميبي‪.‬‬

‫بالنسبة لي‪ ،‬ال أعتقد أف ثالثة كعشريف عامان مف صدكر كتاب الصميبي فترة كافية‬
‫لتبرير انتحاؿ الربيعي لقصة اكتشافو ليذه النظرية مف كتاب الصميبي حرفيان كنسبتيا لنفسو‪،‬‬

‫[‪ .]5‬فاضؿ الربيعي‪ :‬فمسطيف المتخيمة‪ :‬أرض التكراة في اليمف القديـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬دار‬
‫الفكر لمنشر‪ ،‬دمشؽ‪ .0666 ،‬ص ‪.51‬‬
‫[‪ .]0‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪5‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫بحياة الصميبي كحضكره كبحياة كؿ ركاد النظرية اآلخريف الذيف جاء الربيعي مف بعدىـ‬
‫كميـ‪ ،‬إذ ال يمكف تسمية ىذا االنتحاؿ بأنو تناص أك تكارد خكاطر أك تخاطر با ار ‪-‬‬
‫سيككلكجي‪ ،‬فجميعنا يعمـ أف الربيعي ىك آخر العنقكد في سمسمة مف تسمقكا شجرة نظرية‬
‫الصميبي‪ ،‬بفارؽ عنيـ جميعان أف الربيعي قرر أف (يككش) عمى النظرية كميا ككأنو خالقيا‬
‫األكؿ‪.‬‬

‫عمى كؿ حاؿ‪ ،‬تمتقي جميع الطركحات المشار إلييا آنفان عند دراسة النص التكراتي‪،‬‬
‫إلثبات أف جغرافية أحداث التكارة كانت في جزيرة العرب‪ ،‬كاختمفكا فقط في تحديد المنطقة‪:‬‬
‫بيف مف قاؿ في أنيا كانت في عسير كغامد كالسراة‪ ،‬كمف قاؿ بأنيا كانت في اليمف‪.‬‬
‫كبالطبع فإف مغزل ىذه النظرية كدافعيا األكؿ يتمثؿ بشكؿ كاضح كصريح في دحض ما‬
‫تصفو جميعيا ب ػ "افتراءات عمماء التكراة كادعاءاتيـ بالحؽ التاريخي لمييكد في فمسطيف"‪،‬‬
‫كذلؾ مف خالؿ إثبات أف مسرح أحداث التكارة كنطاقيا الجغرافي كاف في جزيرة العرب‬
‫كاليمف‪.‬‬

‫كالجميع يستندكف بشكؿ جكىرم الى ما يصفكنو ب ػ "التحميؿ المغكم لمجذكر المشتركة‬
‫بيف المغات القديمة"‪ ،‬كمالحظة ظكاىر قمب الحركؼ كاستبداليا لمتعرؼ عمى األسماء‬
‫التكراتية في صيغتيا العربية كتحديد جغرافيتيا الحقيقية‪ ،‬كالبعض منيـ تحاشى تمؾ الظكاىر‬
‫كاكتفى باالعتماد عمى التشابو المفظي السميـ دكف الدخكؿ في متاىات قكاعد القمب‬
‫كاالستبداؿ المغكية‪ ،‬كاف كاف البعض منيـ قد لجأ الى استخداـ نفس اآللية المنيجية في‬
‫التعامؿ مع األسماء كاأللفاظ الكاردة في النقكش األثرية‪ ،‬كذلؾ إلكساب طركحاتيـ بعض‬
‫المالمح العممية‪.‬‬

‫واآلن‪ ،‬ىل نقف أمام نظرية واحدة أم عدة نظريات؟ وما ىي المنطمقات العامة‬
‫والمقوالت والفروض المشتركة والمؤسسة ليذه النظرية؟‬

‫‪6‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫)‪(1‬‬

‫نظزيت واحدة أو نظزياث يتعددة وخمتهفت‬

‫تبدك نظرية جغرافية التكراة في اليمف كجزيرة العرب الى حدما نظرية كاحدة‪ ،‬كلكف‬
‫التمعف في أعماؿ كمساىمات ركادىا مف الباحثيف العرب‪ ،‬سرعاف ما يكشؼ عف عدة‬
‫نظريات تتفؽ في الفركض الرئيسية كبعض المقكالت المؤسسة ليا‪ ،‬كما تتفؽ مف الناحية‬
‫المنيجية في االعتماد عمى األدكات المغكية‪ ،‬لكنيا جميعان تختمؼ في تحديد المسرح الجغرافي‬
‫الذم يفترض حسب تكجو ىذه النظرية أف كقائع تاريخ التك ارة قد حدثت فيو‪.‬‬

‫يحدد كماؿ الصميبي المسرح الجغرافي الذم كقعت فيو جميع أحداث التكراة بحسب‬
‫رؤيتو كنتائج بحثو‪" ،‬في منطقة بطكؿ يصؿ الى حكالي ‪ 466‬كمـ كبعرض يبمغ حكالي ‪066‬‬
‫كمـ‪ ،‬كبالتحديد في "عسير كجنكب الحجاز "[‪ .]1‬كمع نفس ىذا التحديد تتفؽ أطركحة زياد‬
‫منى الذم ال تخرج جغرافية التكراة فييا عف نطاؽ منطقة عسير‪.‬‬

‫أما أحمد داككد‪ ،‬فقد أكد عمى أف حقيقة أحداث التكراة بأشخاصيا كمكاقعيا‪ ،‬تتحدث‬
‫عف عشائر بدكية آرامية‪ ،‬تتحرؾ بيف مراعييا بأغناميا في بقعة ضيقة مف برية شبو جزيرة‬
‫العرب[‪ .]2‬كبالتحديد في غامد مف منطقة عسير غرب الجزيرة العربية[‪.]3‬‬

‫مع الصميبي‪ ،‬اتفؽ زياد منى كداككد عمى كضع جغرافية التكراة‪ ،‬في نطاؽ ضيؽ مف‬
‫غرب جزيرة العرب‪ ،‬مع تباينات دقيقة في تحديداتيـ المكانية لؤلماكف الكاردة أسمائيا في‬
‫التكراة‪ ،‬تبعان لتبايف كتعدد كاختالؼ طرائؽ استخداـ كتطبيؽ أدكاتيـ المغكية‪ ،‬القائمة عمى‬
‫مقابمة األسماء التكراتية بما يشابيا أك يماثميا بطريقة أك بأخرل في ىذه المناطؽ التي‬
‫خضعت لدراساتيـ‪.‬‬

‫[‪ .]5‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.05‬‬


‫[‪ .]0‬أحمد داككد‪ :‬العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪7‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫بيد أننا نجد تحديدان آخر مختمفان عف التحديد السابؽ‪ ،‬يبدك أنو ظير بشكؿ جمي عند‬
‫فرج اهلل صالح ديب‪ ،‬الذم نقؿ مسرح أحداث التكراة مف فمسطيف كحكالييا الى اليمف‪ -‬أجزاء‬
‫مف اليمف‪ ،‬كىك التحديد الذم تبناه كدعمو كؿ مف الباحث المصرم أحمد عيد كالباحث‬
‫اليمني فضؿ الجثاـ‪ ،‬مع األخذ بعيف االعتبار أف كؿ مف ىؤالء لو رؤيتو المغايرة تمامان عف‬
‫رؤية غيره‪.‬‬

‫أقاـ فرج اهلل صالح ديب نظريتو عمى عدة أسس أىميا أف اليمف شيدت في إحدل‬
‫مراحؿ تاريخيا القديـ قياـ دكلة تعتنؽ الديانة الييكدية بشكؿ رسمي‪ ،‬يقصد بذلؾ الدكلة‬
‫الحميرية في عيد (ذك نكاس) كالصراع مع األحباش في القرف السادس الميالدم‪ ،‬كقبميا‬
‫قصة المقاء الشيير بيف ممكة سبأ كالنبي سميماف التي كردت في التكراة كالقرآف‪ ،‬كما يحيمنا‬
‫ديب الى أدلة قديمة أك مكغمة في القدـ أبرزىا تسمية النبي (ىكد)‪ ،‬باعتبارىا الجذر األقدـ‬
‫لمديانة الييكدية‪ ،‬كطبعان فإف ىذا االستدالؿ األخير قائـ فقط عمى المقابمة المغكية (التشابو)‬
‫بيف (ىكد‪ ،‬ييكد)[‪.]1‬‬

‫يأتي اسياـ الباحث اليمني فضؿ الجثاـ في نطاؽ الضجة التي أثارتيا ىذه النظرية‬
‫كاقترابيا الشديد مف خالؿ جيكد الصميبي كمنى كداككد مف جغرافية اليمف كتاريخو‪ ،‬ربما‬
‫مدفكعان باإلحساس العميؽ بالتيميش الذم تعرض لو تاريخ اليمف في مقابؿ تاريخ العراؽ‬
‫كمصر كسكريا‪ ،‬حيث كجد في ىذه النظرية ضالتو‪ ،‬ليكشؼ عف أبعاد دفينة بشأف تأثير‬
‫الحضارة اليمنية في ثقافات كمعتقدات شعكب كحضارات الشرؽ األدنى (مصر‪ ،‬سكريا‪،‬‬
‫العراؽ) كصكالن الى اليكناف‪ ،‬بطريقة دفعتو الى كضع بعض األحداث كالشخصيات التكراتية‬
‫الكبرل كعمى رأسيا النبي إبراىيـ كبالتالي جغرافية حركة ارتحالو – قصة العبكر التكراتية‪-‬‬

‫[‪ .]5‬دكنان عف جميع ركاد النظرية المذككريف في ىذه الدراسة كالذيف اطمعت عمى أعماليـ‪ ،‬أنكه الى أني لـ‬
‫أطمع عمى جيكد األستاذ فرج اهلل صالح ديب كلـ يتسنى لي بعد الحصكؿ عمى كتبو المتعمقة بيذا‬
‫كنشر عف نظريتو‪ ،‬كيأتي‬
‫المكضكع‪ ،‬كما أكرده في ىذا العمؿ ناتج عف قراءاتي كمتابعاتي لبعض ما ُكتب ُ‬
‫تعرضي لو ىنا دكف االستناد الى كتبو لمضركرة األخالقية‪ ،‬إذ لـ يكف مف الجائز تجاىؿ مساىمتو في ىذه‬
‫النظرية‪ ،‬كىك مف أىـ ركادىا بالفعؿ‪ ،‬كمف ثـ فإني احتمؿ مسؤكلية ما أكرده كأنسبو إليو إذا لـ يكف صحيحان‪،‬‬
‫كال مسؤكلية عمى األستاذ فرج اهلل صالح ديب في كؿ األحكاؿ‪( .‬الباحث)‬
‫‪8‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫في نطاؽ الجغرافية اليمنية‪ ،‬جاعالن مف منطقة يافع – المنطقة التي ينتمي إلييا الجثاـ‪-‬‬
‫بمثابة مركز لكؿ األحداث كاألساطير التي ضمنيا عممو‪ ،‬كىذا بدكره ال يضعنا أماـ عمؿ‬
‫مختص بجغرافية التكراة‪ ،‬بؿ أماـ محاكلة لتقديـ تاريخ المنطقة بما فيو تاريخ التكراة مف‬
‫الناحية التي يككف فييا تاريخ اليمف في المركز الذم تدكر حكلو كفي فمكو تكاريخ الحضارات‬
‫األخرل القديمة‪ ،‬إذ يبدك أف الجثاـ كاف حيف قاـ بدراستو ىذه كاقعان تحت تأثير مزدكج لنظرية‬
‫الصميبي بالنسبة لنقؿ جغرافية التكراة الى جزيرة العرب مف جية‪ ،‬كتأثير نظرية أحمد داككد‬
‫بشأف سكريا الكبرل – سكريا المركز‪ ،‬كالتي انطمؽ منيا ىذا األخير نحك تعريب كؿ شيء‬
‫عمى حد كصؼ البعض‪ ،‬كذلؾ مف جية أخرل‪.‬‬

‫كالحقيقة‪ ،‬أننا نجد في عمؿ الجثاـ بخالؼ الجكانب المتعمقة بجغرافية التكراة‪ ،‬الكثير‬
‫مف المالحظات كاالستنتاجات المثيرة لالنتباه‪ ،‬لك أنيا فقط تحررت مف تمؾ المؤثرات التي‬
‫سيطرت عمييا‪.‬‬

‫حينما نقؼ أماـ عمؿ الباحث المصرم أحمد عيد‪ ،‬فإننا نجد نظرية أخرل تتجاذب‬
‫بعض جكانبيا نظرية جغرافية التكراة لمصميبي‪ ،‬خاصة فيما يتعمؽ بذلؾ الجانب الذم تتحدث‬
‫فيو عف مصر أخرل في جزيرة العرب‪ ،‬كعالقة مصر النيؿ ببالد بكنت‪ ،‬كغيرىا مف المسائؿ‬
‫التاريخية التي ككنت لدل أحمد عيد انطباعات عديدة‪ ،‬جعمتو يتعامؿ مع جزيرة العرب‬
‫باعتبارىا امتدادان لمجغرافية المصرية الفرعكنية‪ ،‬فالقط ارف المذاف كحدىما مؤسس الدكلة القديمة‬
‫(مينا) ىما (مصر النيؿ كمصر جزيرة العرب)‪ ،‬في الكقت نفسو الذم اعتبر الباحث أف‬
‫قداسة جزيرة العرب كبشكؿ خاص اليمف بالنسبة لممصرييف القدماء ثابتة‪ ،‬باعتبارىا المكطف‬
‫كبناء عميو فإف كقكع أحداث التكراة في جزيرة‬
‫ن‬ ‫األـ لحضارة مصر النيؿ أك ما شابو ذلؾ‪.‬‬
‫العرب ال يخرجيا مف الدائرة المصرية‪ ،‬كقصة التكاجد االسرائيمي‪ /‬الييكدم في مصر لعدة‬
‫قركف كخركجيـ منيا مع مكسى تظؿ جزنء مف تاريخ مصر الكبرل بقطرييا[‪ .]1‬كبال أدنى‬

‫[‪ .]5‬أنظر مثالن كيؼ عالج أحمد عيد مسألة (مصر األعمى عند أكرسيكس)‪ :‬أحمد عيد‪ :‬جغرافية التكراة في‬
‫جزيرة الفراعنة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.04‬‬
‫‪9‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫شؾ‪ ،‬فإف مثؿ ىذا الطرح البد كأف يدعـ مصداقية القصة التكراتية كلك كاف ذلؾ بإعطائيا‬
‫تفسي انر جديدان‪.‬‬

‫يبدك كاضحان تأثير فكرة المركز التي عبر عنيا داككد كالجثاـ عمى نظرية أحمد عيد‪،‬‬
‫كثير مف األسماء التي كردت في اآلثار‬
‫ان‬ ‫التي تحؿ فييا مصر محؿ سكريا كاليمف‪ ،‬لذا فإف‬
‫المصرية سكؼ تحاؿ في كتابو لمبحث عنيا في نطاؽ جغرافية اليمف كالجزيرة العربية‪ ،‬كلكف‬
‫عمى أساس مركزية مصر النيؿ‪.‬‬

‫في أعماؿ الباحث الفمسطيني أحمد الدبش‪ ،‬تصبح اليمف كاممة بمثابة مسرح أحداث‬
‫التكراة عمى نحك كامؿ مف التخصيص كدكف أم استثناء‪ ،‬فحيثما أمكف إيجاد أسماء مناطؽ‬

‫تقع في اليمف كمشابية ألسماء المناطؽ التي كردت في التكراة‪ ،‬اعتبر الدبش أف ىذا كافيان‬
‫لتقرير كاثبات أف اليمف ىي مسرح أحداث التكراة‪.‬‬

‫ىناؾ أمر مثير لمتعجب في أعماؿ الدبش‪ ،‬يتمثؿ في أنو يتعامؿ مع التكراة مف‬
‫الناحية التي تككف فييا فمسطيف ىي مسرح أحداثيا‪ ،‬باعتبارىا ككمة مف األباطيؿ كالتمفيقات‬
‫التي ال سند ليا كال دليؿ عمييا‪ ،‬لكنو في الكقت نفسو يجد أف تمؾ الككمة مف األباطيؿ‬
‫كالتمفيقات يصح ليا مف كجية نظره ‪-‬أك باألحرل كفؽ قناعتو‪ -‬أف تنطبؽ كأحداث تاريخية‬

‫عمى الجغرافية اليمنية‪..‬؟!!‪ -‬كىك أيضان حينما يصر عمى أف فمسطيف لـ تكف مسرحان‬
‫ألحداث التكراة‪ ،‬يصفيا بقكلو (بالدنا فمسطيف) كيصؼ مممكة اسرائيؿ التكراتية ب ػ "اسرائيؿ‬
‫المزعكمة"‪ ،‬ثـ سرعاف ما يحيؿ القارئ الى قناعتو بأف اليمف كمحيطيا ىي المنطقة التي‬
‫احتضنت تجربة بني اسرائيؿ‪ ،‬كأف فمشتيـ (الفمسطينييف الذيف كرد ذكرىـ في التكراة) ليسكا ىـ‬
‫الفمسطينييف الذيف استكطنكا فمسطيف كسميت باسميـ‪ ،‬كالذيف تصفيـ كتابات المستشرقيف‬
‫التكراتييف كمعيـ أصحاب الفكر اآلسف مف الباحثيف العرب‪ -‬عمى حد تعبيره‪ -‬بأنيـ مف‬
‫(شعكب البحر) الذيف جاءكا غزاة كاستكطنكا فمسطيف‪ ،‬بؿ أف فمشتيـ التكراة البد كأف تككف‬
‫قرية أك قبيمة ما ىنا أك ىناؾ في جغرافية اليمف ربما ذكرىا اليمداني أك اليعقكبي أك الحمكم‬
‫أك لـ يذكرىا أحد اطالقان‪ ،‬لكنيا مكجكدة بال شؾ في اليمف كفؽ قناعات الدبش‪ .‬كحينما يقع‬

‫‪10‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫الدبش في مأزؽ تحديد ىكية أكلئؾ الفمسطينييف القدماء الذيف سكنكا فمسطيف‪ ،‬فإنو يعكد‬
‫مجددان كيبحث ليـ عف أصكؿ يمنية (معينية‪ ،‬فينيقية)[‪.]1‬‬

‫عمى كؿ حاؿ‪ ،‬فإف نظرية الدبش عف جغرافية التكراة في اليمف‪ ،‬تختمؼ عمى ما يبدك‬
‫عف نظرية فرج اهلل صالح ديب كغيره‪ ،‬في تحديد مكاقع المناطؽ التكراتية‪ ،‬نظ انر لتكرار الكثير‬
‫مف األسماء الجغرافية في اليمف مف خالؿ كجكد أكثر مف مكاف يحمؿ نفس االسـ في أغمب‬
‫الحاالت إف لـ يكف جميعيا‪.‬‬

‫نأتي الى نظرية المفكر العربي فاضؿ الربيعي‪ ،‬كنقكؿ بأنيا مف الناحية العامة ىي‬
‫نفسيا نظرية فرج اهلل ديب كنظرية أحمد الدبش‪ ،‬بفارؽ التباينات في تحديد المناطؽ كمسارات‬
‫األحداث التكراتية‪ ،‬كفي النياية فإف الربيعي يأخذ خريطة اليمف المعاصرة لمرحمة التشطير أك‬
‫خريطة ما قبؿ اعادة تكحيد اليمف عاـ ‪ ،5776‬كالتي يظير اليمف فييا منقسمان الى شطريف‬
‫جنكبي كشمالي‪ ،‬فيضع مممكة اسرائيؿ في الشطر الشمالي مف اليمف‪ ،‬كيضع مممكة ييكذا‬
‫في الشطر الجنكبي‪ ،‬ىكذا بكؿ بساطة‪ ،‬لكنو مع ذلؾ نسي أف يسمي (بحر العرب) ب ػ "بحر‬
‫الييكد" أك ما شابو‪[ -‬أنظر خريطة الربيعي في الصورة رقم (‪ )1‬أدناه]‪.‬‬

‫بيد أف حرص الربيعي عمى تقديـ نظرية متكاممة‪ ،‬جعمو يبذؿ المزيد مف الجيكد‪ ،‬فقرر‬
‫تطبيؽ نفس األسمكب المتعمؽ بالتشابيات المفظية كالذم طبقو عمى األسماء التكراتية‪ ،‬عمى‬

‫األسماء التي ترد في النقكش اآلشكرية‪ ،‬كبذلؾ أكسب نظريتو – حسبما يعتقد‪ -‬طابعان عمميان‬
‫مف حيث أنيا استعانت بالنقكش األثرية‪ ،‬فضالن عف تأثير النزعة المركزية عمى نظرية‬
‫الربيعي‪ ،‬كالذم يتضح مف خالؿ تقديـ تاريخ آخر لميمف ليس عمى أنيا ىي جغرافية التكراة‬
‫فحسب‪ ،‬بؿ كعمى أنيا كانت دائمان تحت مطرقة التأديب العسكرم اآلشكرم[‪ ،]2‬ضاربان بآالؼ‬
‫النقكش األثرية اليمنية عرض الحائط‪ ،‬ككأنيا ال تعني لو شيئان‪ ،‬كمتجاىالن كؿ التشابكات‬

‫[‪ .]5‬أنظر مثالن‪ :‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪،01‬‬
‫‪.42 ،35‬‬
‫[‪ .]0‬لمتحقؽ مف ىذه المسألة‪ ،‬راجع‪ :‬فاضؿ الربيعي‪ :‬حقيقة السبي البابمي‪ -‬الحمالت األشكرية عمى الجزيرة‬
‫العربية كاليمف‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬جداكؿ لمنشر كالترجمة‪ ،‬الككيت‪.0651 ،‬‬
‫‪11‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫كالتداخالت التاريخية كالجغرافية كالحضارية لدكؿ كحضارات كشعكب المنطقة في التاريخ‬


‫القديـ‪ ،‬كالجيكد الغزيرة التي بذلت في دراسة آثار كتاريخ المنطقة ك ُكرست ألجميا المئات بؿ‬
‫كاأللكؼ مف البحكث العممية كاألكاديمية‪.‬‬

‫[‪]1‬‬
‫صورة رقم (‪ :)1‬جغرافية التوراة كما تحددىا نظرية فاضل الربيعي ‪.‬‬

‫خالصة األمر في ىذا الشأف‪ ،‬أننا نقؼ أماـ نظريات متعددة كمختمفة بؿ كمتصادمة‪،‬‬
‫بشأف جغرافية التكارة في اليمف كالجزيرة العربية‪ ،‬كليس أماـ نظرية كاحدة‪ ،‬كبالتالي فإذا أخذنا‬
‫بكؿ االحتماالت التي تضعيا ىذه النظريات بغض النظر عف النظرية األصمية التي تقدميا‬
‫التكراة‪ ،‬فإننا سنجد أف ىناؾ أربعة أك خمسة مسارح جغرافية مختمفة‪ ،‬ككؿ مف ىؤالء يرل أف‬
‫أحداث التكراة قد جرت فييا‪ ،‬كال نعرؼ بأم نظرية منيا نأخذ‪..‬؟!‬

‫[‪ .]5‬الخريطة مف‪ :‬فاضؿ الربيعي‪ :‬فمسطيف المتخيمة‪ ،‬المجمد (‪ ،)5‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ 326‬بترقيـ الممؼ‬
‫االلكتركني لمكتاب‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫)‪(2‬‬

‫املنطهقاث انعايت نهنظزيت‪ ،‬يقىالتها وفزوضها‬

‫بعد أف تعرفنا عمى مسار نظرية جغرافية التكراة كما قدميا ركادىا العرب‪ ،‬كعمى‬
‫مساىمات أكلئؾ الركاد كأعماليـ‪ ،‬كعف أىـ الفركؽ العامة بيف طركحاتيـ أيضان‪ ،‬يبقى أف‬
‫نقترب أكثر مف منطمقات ىذه النظرية كالمقكالت (الفركض) الرئيسية المؤسسة ليا كالمتفؽ‬
‫عمييا مف جميع ركاد النظرية‪ ،‬تمييدان إلخضاعيا لالختبار المكضكعي‪ ،‬كالتحقؽ مف مدل‬
‫قدرتيا عمى منح النظرية ما تحتاج إليو مف التماسؾ كالقدرة عمى الصمكد في كجو أعماؿ‬
‫المراجعة كالنقد كالتحقيؽ‪.‬‬

‫ُيعرؼ الصميبي كتابو "التكراة جاءت مف جزيرة العرب"‪ ،‬بأنو‪:‬‬

‫"بحث في جغرافيا التكراة عمى أسس جديدة‪ .‬كخالصتو أف البيئة التاريخية‬


‫لمتكراة لـ تكف في فمسطيف بؿ في غرب شبو الجزيرة العربية بمحاذاة البحر األحمر‪،‬‬
‫كتحديدان في بالد الس ارة بيف الطائؼ كمشارؼ اليمف‪ .‬كبالتالي‪ ،‬فإف بني اسرائيؿ مف‬
‫شعكب العرب البائدة‪ ،‬أم مف شعكب الجاىمية األكلى‪ .‬كقد نشأت الديانة الييكدية بيف‬
‫ظيرانييـ‪ ،‬ثـ انتشرت مف مكطنيا األصمي‪ ،‬كمنذ كقت مبكر‪ ،‬الى العراؽ كالشاـ‬
‫كمصر كغيرىا مف بالد العالـ القديـ"[‪.]1‬‬

‫ثـ يخبرنا الصميبي عف الغرض مف كتابو‪ ،‬بأنو يسعى الى ما كصفو بػػ‪:‬‬

‫تكضيح غكامض التاريخ التكراتي عف طريؽ إعادة النظر في خريطة التكراة‪.‬‬


‫وايصال القارئ الى استنتاج بأن ييود اليوم ال حقوق تاريخية ليم في أرض‬
‫فمسطين‪ .‬كالصحيح أف الحقكؽ التاريخية لمشعكب تزكؿ بزكاليا‪ .‬فييكد اليكـ ليسكا‬
‫استم ار ارن تاريخيان لبني اسرائيؿ ليككف ليـ شيء يسمى حقكؽ بني اسرائيؿ‪ ،‬كذلؾ سكاء‬

‫[‪ .]5‬كماؿ الصميبي‪ :‬التكراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪13‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫كانت أرض بني اسرائيؿ في فمسطيف أك في غيرىا‪ .‬كىذا قصد عممي بحت‪ ،‬كال يمت‬
‫الى كاقع العصر الراىف بصمة‪ ،‬إال بقدر ما في المقكلة بطبيعة حاليا مف دحض‬
‫لممفيكـ الصييكني المغمكط لمتكراة‪ ،‬كىك مفيكـ تتبناه فئة كبيرة مف الييكد‪ ،‬كيتبعيـ في‬
‫ذلؾ الكثيركف مف جيمة المسيحييف في الغرب"[‪.]1‬‬

‫كعمى أساس ما نيضت إليو جيكد الصميبي‪ ،‬يصؼ لنا الباحث المبناني زياد منى‪،‬‬
‫اليدؼ مف كتابو "جغرافية التكراة‪ -‬مصر كبنك اسرائيؿ في عسير"‪ ،‬قائالن‪:‬‬

‫"اسيامي ىذا يندرج في إطار التيذيب العممي لجغرافية التكراة‪ ،‬مرتك ازن في المقاـ‬
‫األكؿ عمى مكضكعة األستاذ الصميبي‪ ،‬فيذا البحث يعتبر إذكاء لمنقاش حكؿ ىذا‬
‫المكضكع كاضافة ألعماؿ الصميبي‪ .‬لكني عممت قدر اإلمكاف عمى حصر بحثي‬
‫ضمف إطار الجغرافيا‪ ،‬باحثان مف خالليا عمى بعض الجكانب المجيكلة مف تاريخ‬
‫جزيرة العرب‪ ،‬أك التي غرقت في السياف‪ ،‬كليس أكثر مف ىذا"[‪.]2‬‬

‫أما "أحمد داككد"‪ ،‬فنفيـ مف مقدمة كتابو "العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ‬
‫كالييكد"‪ ،‬أف جيده في ىذا الكتاب يأتي مكمالن لجيكده السابقة‪ ،‬كالتي تكشفت لو فييا‪:‬‬

‫"‪ ..‬حقيقة األحداث التكراتية بأشخاصيا كمكاقعيا‪ ،‬فيي تتحدث عف عشائر‬


‫بدكية عربية آرامية‪ ،‬تتحرؾ بيف مراعييا بأغناميا في بقعة ضيقة جدان‪ ،‬مف برية شبو‬
‫الجزيرة العربية‪ ،‬كليس لييكد العالـ اليكـ أم ما مف شأنو أف يمت الى أكلئؾ اآلباء‬
‫العرب بأية صمة‪.‬‬

‫لقد تكشفت حقيقة التزكير الصييكني في تفسير أحداث التكراة كجغرافيتيا‪،‬‬


‫كسقطت المقكالت االستعمارية الصييكنية الحديثة حكؿ ما يدعى ب ػ "الشعب العبرم"‬

‫[‪ .]5‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.51‬‬


‫[‪ .]0‬زياد منى‪ :‬جغرافية التكراة‪ -‬مصر كبنك اسرائيؿ في عسير‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪14‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫أك "المغة العبرية" أك "الدكلة العبرية" في تاريخنا العربي القديـ‪ ،‬كصار لزامان عمينا أف‬
‫نبدأ بتصحيح تاريخنا مستخدميف كؿ امكاناتنا الفكرية كالمؤسساتية"[‪.]1‬‬

‫عمى نفس الطريؽ‪ ،‬قرر الباحث المصرم "أحمد عيد" أف يجعؿ مقدمة كتابو تحية‬
‫مكجية ألستاذ عمـ اآلثار (تكماس‪ .‬ؿ‪ .‬طكمسكف)‪ ،‬عمى ما قدمو ىذا األخير مف جيكد في‬
‫كشؼ حقائؽ التزكير التكراتي لمتاريخ‪ ،‬قائالن‪:‬‬

‫[‪]2‬‬
‫في إنكارىا صحة المبررات‬ ‫"تتضح خطكرة الميمة التي تصدل ليا طكمسكف‬
‫األساسية إليجاد دكلة اسرائيؿ القائمة عمى االدعاء بعكدة الييكد الى األرض المكعكدة‬
‫التي نزحكا منيا قبؿ أكثر مف ألفيف سنة‪.‬‬

‫لقد كشفت دراسات طكمسكف عمى أف جميع قصص التكراة تقريبان مف صنع‬
‫الخياؿ كأنيا كتبت في القرف الخامس قبؿ الميالد‪ ،‬بعد مركر (‪ )5366‬سنة مف كقكع‬
‫األحداث التي تركييا‪ ،‬كلـ يتـ العثكر عمى أم أثر لقياـ مممكة اسرائيؿ في القرف‬
‫العاشر قبؿ الميالد أك عمى كجكد مستكطنات سكنية في القدس كالضفة الغربية التي‬
‫يصر اإلسرائيميكف عمى تسميتيا ييكذا كالسامرة[‪."]3‬‬

‫تأث انر بيذا االتجاه‪ ،‬عمد الباحث اليمني "فضؿ الجثاـ" الى تقديـ مساىمتو ىك أيضان‬
‫بكصفيا‪:‬‬

‫"معالجة لجغرافية التكراة كتاريخيتيا كدراسة ميثكلكجيتيا بالمقارنة مع معطيات‬


‫الكشكؼ اآلثارية ال في البالد الكاقعة ما بيف النيؿ كالفرات فحسب‪ ،‬بؿ كما تقدمو‬
‫الكشكؼ اآلثارية في شبو جزيرة العرب كبالذات في إقميميا الكبير المعركؼ ب ػ‬
‫(اليمف)‪ ،‬كاضعيف نصب أعيننا ما عني بو أساطيف ىذا الحقؿ‪ :‬كماؿ الصميبي‪ ،‬زياد‬

‫[‪ .]5‬أحمد داككد‪ :‬العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫[‪ .]0‬سيككف لنا كقفة خاصة عمى جيكد طكمسكف‪ ،‬نظ انر الحتفاء ركاد نظرية جغرافية التكراة في اليمف‬
‫كالجزيرة العربية بو‪ ،‬كاشادتيـ المتكررة بجيكده كمكاقفو العممية‪.‬‬
‫[‪ .]1‬أحمد عيد‪ :‬جغرافية التكراة في جزيرة الفراعنة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.50 -55‬‬
‫‪15‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫منى‪ ،‬فرج اهلل صالح ديب‪ ،‬سيد محمكد القمني" كغيرىـ ممف عنكا بدراسة جغرافية‬
‫التكراة‪ -‬تاريخيا‪ ،‬ميثكلكجيتيا كلغتيا‪ ..‬الخ"[‪.]1‬‬

‫أما الباحث الفمسطيني أحمد الدبش‪ ،‬فيصؼ كتابو "مكسى كفرعكف في جزيرة العرب"‪،‬‬
‫قائالن‪:‬‬

‫"‪ ..‬ىذا الكتاب رده عمى أباطيؿ كثيرة [يقصد األباطيؿ الصييكنية طبعان] تبناىا‪،‬‬
‫لؤلسؼ الشديد‪ ،‬كثير مف األكاديمييف كالباحثيف العرب‪ ،‬الذيف دافعكا بعناد عف جغرافية‬
‫التكراة‪ ،‬كاعتبركا أف مصر كدام النيؿ ىي مسرح خركج مكسى كقكمو‪[ ..‬في حيف]‬
‫ظمت اآلثار المصرية عمى صمتيا تجاه ىذا األمر‪.‬‬

‫كأتساءؿ ىنا‪ ،‬لماذا ال نكجو األنظار الى شبو الجزيرة العربية؟ السيما كقد تعذر‬
‫حتى اآلف إيجاد الدليؿ المادم في كادم النيؿ‪ ،‬كفمسطيف كالعراؽ‪ ،‬عمى األحداث‬
‫التكراتية؟ قد يفيـ البعض أف ىذا القكؿ معناه اعطاء الشرعية لمييكد لمسيطرة عمى‬
‫شبو الجزيرة العربية‪ ،‬كلكف ىذا فيـ خاطئ لمتاريخ‪ ،‬كاقحاـ لمسياسة في المكضكع"[‪.]2‬‬

‫كفي كتابو "اختطاؼ أكرشميـ" يكضح الدبش األسباب التي أدت الى انتشار كشيكع‬
‫االدعاءات الصييكنية بشأف فمسطيف‪ ،‬قائالن‪:‬‬

‫"أعتقد بأف أحد األسباب الرئيسية ىك أف االدعاء الصييكني‪ ،‬يجرم تدعيمو مف‬
‫خالؿ أساطير الكتاب المقدس‪ ،‬ككتابات بعض مؤرخينا مف أصحاب كحراس الفكر‬
‫اآلسف العربي""[‪.]3‬‬

‫[‪ .]5‬فضؿ الجثاـ اليافعي‪ :‬الحضكر اليماني في تاريخ الشرؽ األدنى‪ -‬سبر في التاريخ القديـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص ‪.7‬‬
‫[‪ .]0‬أحمد الدبش‪ :‬مكسى كفرعكف في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫[‪ .]1‬أحمد الدبش‪ :‬اختطاؼ أكرشميـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪16‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫نفس التأطير نجده لدل "فاضؿ الربيعي" بقكلو‪:‬‬

‫"لقد سعى المخياؿ االستشراقي األكركبي في قراءتو لمتكراة‪ ،‬نحك بناء سردية‬
‫جديدة خيالية تكضع في خدمتيا مكتشفات عمـ اآلثار‪ ،‬كتتكافؽ مع عصر الفتكحات‬
‫االستعمارية‪ ،‬كىي سردية كجد فييا الغرب امكانية مدىشة لمعثكر عمى حاضنة أكلى‬
‫كقديمة لمحضارة األكركبية مدفكنة في رماؿ الشرؽ‪ ،‬فعثر في الركاية عف بني اسرائيؿ‬
‫طفكلتو البعيدة تمؾ في الشرؽ الغامض كالممتبس‪ ،‬يكـ كاف لداكد مممكة مترامية‬
‫األطراؼ‪ .‬كلسكؼ يميد ىذا االنتساب المفاجئ الطريؽ أماـ أكركبا لكي تعيد إدراج‬
‫التراث الييكدم‪ -‬المسيحي كالحضارة الغربية في سياؽ استم اررية تاريخية كانت‬
‫مفتقدة‪ ،‬فمـ تعد أكركبا كريثة ألثينا كحسب‪ ،‬بؿ ىي استطراد لمممكة اسرائيؿ‪ .‬كىا ىك‬
‫تاريخ بني اسرائيؿ الممفؽ يكتشؼ عمى نحك قابؿ ألف يرل الغرب فيو تاريخان خاصان‬
‫بو‪ ،‬ضائعان كتائيان في شرؽ منسي‪ ،‬كقد أمكف استرداده بفضؿ إعادة الركاية [التكراتية]‬
‫كتركيجياػ عمى أكسع نطاؽ كبالتالزـ مع االستيالء عمى األرض"[‪.]1‬‬

‫بشكؿ مبسط يمكف تحديد المقكالت أك الفركض العامة المشتركة بيف جميع ركاد ىذه‬
‫النظرية‪ ،‬عمى نحك ما ىك آتي‪:‬‬

‫‪ ‬تـ تحريؼ كتزكير التاريخ التكراتي لتدعيـ االدعاءات كالمبررات الصييكنية بشأف‬
‫المكطف األصمي لمييكد‪ ،‬كأرض الميعاد‪ ..‬بيدؼ تبرير احتالؿ فمسطيف‪.‬‬

‫‪ ‬أثبتت البحكث كالتنقيبات األثرية عمى مدل أكثر مف قرف مف الزماف تـ فييا تمشيط‬
‫المنطقة الكاقعة بيف نير النيؿ كالفرات في سبيؿ إيجاد أدلة أثرية مادية تؤيد الركاية‬
‫التكراتية كاالدعاءات الصييكنية‪ ،‬أف‪" :‬ال شيء عمى األرض"‪.‬‬

‫[‪ .]5‬فاضؿ الربيعي‪ :‬فمسطيف المتخيمة‪ :‬أرض التكراة في اليمف القديـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.05‬‬
‫‪17‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫‪ ‬ىناؾ تطابؽ كبير كمدىش بيف أسماء األماكف كالمكاقع الجغرافية التي ترد في التكراة‬
‫كبيف أسماء المناطؽ كالمكاقع الجغرافية في جزيرة العرب‪( :‬عسير‪ ،‬غامد كالسراة‪،‬‬
‫اليمف)‪.‬‬

‫السؤاؿ الذم يمح عمي في ىذه المحظة‪ ،‬ىك الى أم مدل يمكف اختبار ىذه المقكالت‬
‫بصيغتيا العامة ىذه‪ ،‬كالى أم مدل يمكف ليذه الفركض كالمقكالت أف تصمد أماـ االختبار‬
‫بناء عمى‬
‫النقدم؟!‪ -‬فنحف بحاجة فعالن الى اختبار كقياس مدل تماسؾ ىذه النظرية‪ ،‬ن‬
‫مقكالتيا كفركضيا الرئيسية‪.‬‬

‫بيد أني سأركز في المرحمة الحالية عمى التحقيؽ في مدل صدؽ كثبات منطمقات‬
‫النظرية التي يرددىا عمى الدكاـ ركادىا‪ ،‬كبالتحديد بشأف ما إذا كانت ىذه النظرية تمثؿ‬
‫اتجاىان تحرريان كثكريان مناىضان لييمنة التيار االستشراقي‪ -‬الييكدم عمى التاريخ كالمعرفة‬
‫التاريخية‪ ،‬أـ أنيا جزهء مف ذلؾ التيار؟!‬

‫‪18‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫)‪(3‬‬

‫اجلذور االستشزاقيت‪ -‬انيهىدي نهنظزيت‬

‫األكيد حسب ما صرح بو ركاد ىذه النظرية‪ ،‬ىك أف جيكدىـ تصب في اتجاه تصحيح‬
‫التاريخ العربي كتنظيفو مف الشكائب التي دسيا فيو عمماء التاريخ كاآلثار التكراتييف‪ ،‬كتحريره‬
‫مف زيؼ التاريخ االستشراقي الغربي الذم يخدـ الييكد كالغرب‪ .‬فالمنطمؽ الرئيسي الذم أكد‬
‫عميو جميع ركاد نظرية جغرافية التكراة في اليمف كالجزيرة العربية‪ ،‬ىك أنو جرل تحريؼ‬
‫كتزكير التاريخ بناء عمى القصة التكراتية‪ ،‬كالتي استخدمت لتدعيـ االدعاءات الصييكنية‬
‫بشأف المكطف األصمي لمييكد‪ ،‬كأرض الميعاد‪ ..‬األمر الذم انتيى دائمان الى تبرير احتالؿ‬
‫فمسطيف‪.‬‬

‫تستكقفني ىنا عبارة لؤلستاذ أحمد الدبش‪ ،‬حينما قاؿ‪ " :‬قد يفيـ البعض أف ىذا القكؿ‬
‫معناه اعطاء الشرعية لمييكد لمسيطرة عمى شبو الجزيرة العربية‪ ،‬كلكف ىذا فيـ خاطئ‬
‫لمتاريخ‪ ،‬كاقحاـ لمسياسة في المكضكع"[‪ .]1‬فبعد كؿ تمؾ التصريحات التي صرح بيا جميع‬
‫ركاد النظرية‪ -‬بما فييـ الدبش نفسو‪ -‬كالتي تثبت أف محرؾ النظرية كدافعيا األكؿ ىك‬
‫السياسة كليس التاريخ‪ ،‬نراه يتحدث عما كصفو بأنو "اقحاـ لمسياسة في التاريخ"‪..‬؟!!‪ -‬كنحف‬
‫نتساءؿ ترل ما الذم يدفع دارسان متخصصان في القانكف الى ترؾ القانكف كالتفرغ لمكتابة‬
‫كالتأليؼ في التاريخ ما لـ يكف ذلؾ دفاعان عف أرضو المحتمة مف قبؿ الصياينة كييكد‬
‫العصر‪ ،‬الذيف ال صمة ليـ بأبناء عمكمتنا مف الييكد القدماء كما صرح بذلؾ الصميبي كمنى‬
‫كديب كداككد كالربيعي؟!‬

‫لكي يككف األمر كاضحان منذ البداية‪ ،‬ينبغي أف نمقي أكالن نظرة سريعة عمى ما الذم‬
‫يمكف أف يعنيو بالضبط تعبير (االدعاءات الصييكنية)‪ ،‬كليكف ذلؾ مف خالؿ ما كتبو أحد‬
‫الباحثيف الفمسطينييف‪:‬‬

‫[‪ .]5‬أحمد الدبش‪ :‬مكسى كفرعكف في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪19‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫"لقد دأب قادة الكياف الصييكني السياسيكف كالدينيكف عمى القكؿ بأف أرض‬
‫فمسطيف ىي أرض إسرائيؿ التاريخية‪ ،‬أرض آبائيـ كأجدادىـ‪ ،‬كأف ىذه األرض أرض‬
‫بال شعب لشعب بال أرض كىي ليست لشعب مف الشعكب سكاىـ‪ ،‬فيـ أصحابيا‬
‫الشرعيكف‪ ،‬كما عداىـ غرباء ال حؽ ليـ فييا‪ .‬كيستند ىذا االدعاء عمى مجمكعة مف‬
‫الركايات التكراتية‪ ،‬بدءن بما جاء في سفر التككيف (‪" :)56 :53‬في ذلؾ اليكـ قطع‬
‫الرب مع ابراـ ميثاقا قائال‪ .‬لنسمؾ اعطي ىذه االرض مف نير مصر الى النير الكبير‬
‫نير الفرات"‪ .‬كأيضان‪" :‬ظير الرب ‪ -‬أم إلبراىيـ‪ -‬كقاؿ لو‪ :‬إف نسمؾ سيككف غريبان‬
‫في أرض ليست ليـ"‪ .‬كبناءن عمى مثؿ ىذه النصكص التكراتية قاـ قادة الصييكنية‬
‫يجمعكف ييكد العالـ في ىذه األرض بناءن عمى تمؾ األساطير‪ ،‬كأخذكا يزيفكف التاريخ‬
‫كيزعمكف أف ليـ حقان تاريخيان في أرض فمسطيف[‪.]1‬‬

‫ندرؾ مف خالؿ ىذه الصيغة‪ ،‬أف أم ادعاء يمكف لمصييكنية أف تتبناه‪ ،‬البد كأف‬
‫يككف لو أساسان في التكراة‪ ،‬وعميو فإن المواجية التي يفترض أننا نخوض غمارىا ىي‬
‫مواجية مع التوراة نفسيا‪ ،‬ذلؾ أف أم تزكير يمكف أف يقكـ بو المستشرقكف لخدمة المشركع‬
‫الصييكني البد كأف يتجو صكب تدعيـ النص التكراتي كليس الى نقضو‪ .‬فالتكراة كما جاء‬
‫فييا ىك األساس الكحيد الذم يعتمد عميو ىؤالء الصياينة في تبرير احتالليـ لؤلرض‬
‫العربية‪ ،‬عمماً بأن احتالليم لألرض جرى بمنطق القوة السياسية والعسكرية التي كانت‬
‫تممكيا أوروبا في مقابل الضعف والتخمف واالنقسام العربي في مواجية ىذا المشروع‪،‬‬
‫وىذا ما أدى الى أن يصبح مشروع احتالل فمسطين واقعاً فعمياً منذ عام ‪.1441‬‬

‫ثم‪ ،‬ىل يحتاج المحتل ألرض الغير بالقوة لمسوغات ومبررات تاريخية وأثرية لتبرير‬
‫احتاللو؟!‬

‫[‪ .]5‬أنظر‪ :‬عدناف عياش‪ :‬دحض ادعاءات الييكد بأحقيتيـ في أرض فمسطيف‪ ،‬المؤتمر الدكلي الثالث‬
‫عشر لمركز جيؿ البحث العممي "فمسطيف قضية كحؽ"‪ ،‬طرابمس‪ -‬لبناف ‪ 1 -0‬ديسمبر ‪.0654‬‬
‫‪20‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫تزكير كتحريفان قامت كتقكـ بو المدارس التاريخية‬


‫ان‬ ‫كمع ذلؾ‪ ،‬فإني أعترؼ بأف ىناؾ‬
‫كاألثرية الغربية بالفعؿ منذ أكثر مف قرف مف الزماف لصالح الركاية التكراتية[‪ ،]1‬كفي المقابؿ‬
‫نجد أف جميع ركاد نظرية جغرافية التكراة في اليمف كالجزيرة العربية‪ ،‬لـ يبينكا لنا عمى نحك‬
‫دقيؽ ككاضح كيؼ جرل ىذا التزكير عمى أسماء المناطؽ الجغرافية‪ ،‬باستثناء المحاكلة التي‬
‫ضمنيا الباحث الفمسطيني أحمد الدبش مقدمة كتابو "كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة‬
‫العرب"[‪ .]2‬كالتي أعاد سردىا كما ىي مرة أخرل‪ ،‬كتكطئة لكتابو اآلخر المكسكـ ب ػ "اختطاؼ‬
‫أكرشميـ"[‪ .]3‬عممان بأني سأتعرض لمحاكلة الدبش ىذه بعد عدة صفحات مف ىنا‪.‬‬

‫أقكؿ‪ ،‬لك أف ركاد ىذه النظرية بينكا لنا كيؼ جرل ىذا التزكير كمتى‪ ،‬كالى أم مدل‬
‫أفضى اكتشافيـ لحقيقة ىذا التزكير الى قكليـ بأف أحداث التكراة لـ تجرم في فمسطيف‬
‫كحكالييا‪ ،‬كبالتالي الى افتراض أنيا ربما جرت في مسرح جغرافي آخر‪ ،‬ىـ بأنفسيـ مف قامكا‬
‫بالبحث عنو حتى كجدكه مف خالؿ رصد كتتبع التشابيات المفظية ألسماء المناطؽ التي ترد‬
‫في التكراة‪ .‬لك أنيـ فعمكا ذلؾ لكاف أجزل في إكساب النظرية طابعان منيجيان آخر‪ .‬لكنيـ لـ‬
‫يككنكا ليقكمكا بذلؾ أصالن لسبب كجيو‪ ،‬كىك أف نظريتيـ كما بيف الصميبي كأيضان الربيعي‬
‫كلدت بالصدفة المزعكمة عمى ىامش اىتمامات أخرل ال عالقة ليا بالمكضكع‪ ،‬بمعنى أنيا‬
‫لـ تكلد في سياؽ جيكد سابقة عنت بدراسة تاريخ التكراة ناىيؾ عف جغرافيتيا‪ ،‬كمف ثـ فإف‬
‫بناء عمى الركاية التاريخية‬
‫حقيقة تزكير التاريخ مف قبؿ المستشرقيف كالمؤرخيف التكراتييف ن‬
‫لمتكراة‪ ،‬لـ تكف طرفان أصيالن في المكضكع‪ ،‬كانما تـ تكظيفيا الحقان لتدعيـ النظرية أك‬
‫باألصح لتسكيغيا‪ ،‬السيما كأف مالحظة التشابيات المفظية لؤلسماء كالتي أقامكا عمييا‬
‫نظريتيـ ال تعدك أف تككف في معرض البحث العممي الجاد أكثر مف مجرد قرينة ال ترقى‬
‫الى مستكل الدليؿ األثرم المادم إطالقان‪.‬‬

‫[‪ .]5‬سنناقش ىذه المسألة في الفصكؿ القادمة مف ىذه الدراسة‪ ،‬كنبيف طبيعة التزكير الذم تمارسو المدارس‬
‫االستشراقية‪ -‬الييكدية عمى التاريخ‪.‬‬
‫[‪ .]0‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.05 -5‬‬
‫[‪ .]1‬أحمد الدبش‪ :‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.05 -51‬‬
‫‪21‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫لكف‪ ،‬إذا ما أخذنا بحقيقة التزكير االستشراقي‪ -‬الصييكني‪ ،‬كأساس نقيـ عميو افتراضان‬
‫بأف عممية التزكير ىذه قد امتدت لتشمؿ تزكير جغرافيا التكراة‪ ،‬مف خالؿ عممية كاسعة أك‬
‫ضيقة أك ما شابو قاـ فييا المستشرقكف كالصياينة بتغيير أسماء المناطؽ كالقرل كالمدف‬
‫كالجباؿ كالتالؿ كالقفار الفمسطينية لتصبح مطابقة لما يرد في التكراة‪ ،‬فإننا سنجد ىذا‬
‫االفتراض ممتنعان عف النيكض ألسباب عديدة‪ ،‬أكليا أننا سنتساءؿ بشأف ىذا التزكير عالما‬
‫كقع بالضبط‪ ،‬عمى األرض أـ عمى النص التكراتي؟!‬

‫األسيؿ كالمعقكؿ ىك القكؿ أف التزكير قد جرل عمى النص التكراتي‪ ،‬بمعنى أنو تـ‬
‫اقحاـ أسماء المناطؽ الفمسطينية في النص التكراتي‪ ،‬بينما كانت ترد في النص األصمي‬
‫لمتكراة أسماء مناطؽ أخرل تقع في مكاف ما غير فمسطيف عمى كجو ىذا الكككب‪ ،‬كلكف ىذا‬
‫االحتماؿ ال ينيض ألف التكراة مكتكبة منذ القرف الخامس قبؿ الميالد‪ ،‬أك عمى األقؿ معركفة‬
‫بصيغتيا الحالية – أك صيغيا المتعددة الحالية‪ -‬منذ أكثر مف ألؼ سنة عمى أقؿ تقدير‪،‬‬
‫كىي تنطؽ بأسماء تمؾ المناطؽ نفسيا‪.‬‬

‫ىناؾ افتراض ثالث‪ ،‬كىك أف يككف التزكير قد جرل عمى النص كاألرض معان‪ ،‬كلكف‬
‫ىذا االفتراض أيضان كاالحتماالت التي يمكف يحمميا معو‪ ،‬بأنو قد جرل بطريقة ما اسقاط‬
‫أحداث التاريخ التكراتي عمى جغرافية فمسطيف زك انر‪ ،‬أك تغيير أسماء المناطؽ الفمسطينية‬
‫عمى األرض كفي الخريطة كفي عقكؿ الناس لتتفؽ مع ما تـ تزكيره في التكراة‪ ،‬جميعيا ال‬
‫تنيض كال تقكـ اطالقان لعدـ معقكليتيا أكالن‪ ،‬كلعدـ كجكد ما يدؿ عمييا أك يثبتيا ثانيان‪.‬‬

‫منطؽ الحكمة كالعقؿ يقكؿ‪ ،‬إذا كنا نتحدث عف تزكير مس أسماء المناطؽ التي ترد‬
‫في جغرافية التكراة أك جغرافية فمسطيف الكاقعية‪ ،‬فالبد أف نعرؼ متى حدث ىذا التزكير‬
‫ككيؼ حدث‪ ،‬كمف الذم قاـ بو ككيؼ قاـ بو‪ ،‬ككيؼ جرل تثبيتو ككيؼ يمكننا اثبات كقكعو‪،‬‬
‫بناء عمى ذلؾ كمو[‪.]1‬‬
‫كاثبات آثاره كاستعادة الحقيقة ن‬

‫[‪ .]5‬كجيت ىذا السؤاؿ بشكؿ شخصي مباشر لبعض ركاد النظرية‪ :‬متى حدث تزكير أسماء المناطؽ‬
‫الجغرافية في فمسطيف أك في التكراة‪ ،‬ىؿ بعد احتالؿ الييكد لفمسطيف أـ قبؿ ذلؾ؟‪ -‬فكاف جكاب أحدىـ أف‬
‫‪22‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫لقد جرل استخداـ كتكظيؼ فكرة التزكير االستشراقي لجغرافية التكراة كاالدعاءات‬
‫الصييكنية في سياؽ الكاقع الذم تخضع فيو اليكـ فمسطيف العربية لالحتالؿ الصييكني‪،‬‬
‫لتسكيغ النظرية التي تبناىا ىؤالء الركاد‪ ،‬كىي النظرية التي كلدت أساسان نتيجة لمصدفة‪-‬‬
‫عمى حد تعبير الصميبي كالربيعي‪ -‬التي أدت الى مالحظة كجكد تشابيات لفظية‪ -‬كال أقكؿ‬
‫لغكية‪ -‬بيف أسماء مناطؽ التكراة كأسماء المناطؽ التي تقع في نطاقات جغرافية قائمة‬
‫بالفعؿ‪.‬‬

‫كبدالن مف أف تقكد تمؾ الصدفة المزعكمة الى خمؽ اتجاه منيجي لمبحث عف تفسيرات‬
‫عممية كمكضكعية لداللة ىذه التشابيات‪ ،‬كالبحث عما يمكف أف تساعدنا بو في سبيؿ معرفة‬
‫أكثر بتاريخ كتراث المنطقة العربية‪ ،‬جرل تأسيس نظرية تنقؿ أحداث التكراة المركية منذ‬
‫ألفيف سنة عمى األقؿ مف جغرافيتيا المنصكص عمييا الى جغرافية أخرل يدعييا ركاد ىذه‬
‫النظرية‪ ،‬بؿ كالبعض منيـ يجزمكف بيا جزمان مطمقان كال يترككف أم مجاؿ إلمكانية أف يككنكا‬
‫مخطئيف بشكؿ أك بآخر[‪ ،]1‬كعند أم اعتراض مف أم نكع ُيعرض عمييـ‪ ،‬يككف جكابيـ بأنو‬
‫اعتراض ييدؼ الى تسييس المكضكع أك اقحاـ لمسياسة في التاريخ‪ ،‬أك بأنو دفاع عف‬
‫المشركع االستشراقي‪ -‬الصييكني‪.‬‬

‫لـ يكف ىناؾ خيار أماـ ركاد نظرية جغرافية التكراة في اليمف كجزيرة العرب‪ ،‬سكل‬
‫االلتصاؽ بفكرة التزكير الذم يقكـ بو المستشرقيف كمؤرخي التكراة الغرب كالييكد‪ ،‬لتسكيغ‬
‫نظريتيـ كجعميا في مكضع القبكؿ‪ ،‬كلكي تككف كذلؾ فالبد أف تككف ىذه النظرية مف كجية‬

‫عممية التزكير ىذه بدأت منذ الفيف سنة‪ -!!!..‬لـ أنبس ببنت شفة‪ ،‬أخذت جكابو كمضيت في حاؿ سبيمي‪،‬‬
‫محاكالن إعادة حاجبام الى مكانيما الصحيح بعد أف رفعتيما الدىشة ثالثة أمتار فكؽ مستكل سطح رأسي‪.‬‬
‫(الباحث)‬
‫[‪ .]5‬الثابت ىك أف عمـ التاريخ يظؿ معرض أقكاؿ كآراء كنظريات كليس معرض حقائؽ ميما تكفرت األدلة‬
‫المادية‪ ،‬إذ أف عمماء التاريخ كعمماء اآلثار يتعاممكف مع نصكص كمكاد أثرية صنعتيا ككتبتيا أيادم بشرية‬
‫تحت امالءات كظركؼ خاصة بحيث ال يمكف تبرأة مضمكناتيا مف االنحياز لمذات كالتطرؼ ليا‪ ،‬كما أف‬
‫المؤرخ كالباحث األثرم نفسو يطمؽ آرائو كقناعاتو دكف الجزـ بيا احترامان لحقيقة تعدد اآلراء كتنكعيا في‬
‫المسألة الكاحدة‪ ،‬كإلفساح المجاؿ لآلخريف ليدلكا بدلكىـ‪ ،‬كلككف الدراسات التاريخية عمكمان كاقعة دائمان تحت‬
‫تأثير تنازعات كتناقضات الذاتية كالمكضكعية التي يقع فييا المؤرخ‪( .‬الباحث)‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫نظرىـ بمثابة تكجو حقيقي لكشؼ الزيؼ كتحرير عقكلنا كتاريخنا مف االدعاءات الصييكنية‬
‫القائمة عمى الركاية التكراتية‪ ،‬كىذا ما قالكه بالفعؿ‪ ،‬كما سبؽ كأف عرضت ذلؾ آنفان عند‬
‫الحديث عف منطمقات النظرية‪.‬‬

‫أصل الى جوىر الموضوع‪ ،‬وأتساءل الى أي مدى يمكن اعتبار ىذه النظرية نتاجاً‬
‫ح ارً ومستقالً عن أي جيد استشراقي‪ -‬غربي‪ -‬ييودي‪ -‬توراتي؟‬

‫البد أف نبحث عف الجذكر التاريخية كالمعرفية ليذه النظرية‪ ،‬إذ ال يعقؿ أف تككف‬
‫الصدفة ىي السبب فيما نحف مشغكلكف بو اآلف عمى ىذا النحك‪ ،‬فال شيء يحدث بالصدفة‬
‫كال شيء يمكف اعتبار أف حدكثو قد جرل عبثان‪.‬‬

‫أحد ركاد نظريتنا ىذه كفر عمي القياـ ببحث جانبي في ىذا الشأف‪ ،‬كقدـ لنا الحقيقة‬
‫عمى طبؽ مف فضة‪ ،‬إذ ينبغي ليذه المعمكمة بالذات أف تحظى بمصداقيتيا لدل قُرائي عمى‬
‫أساس‪" :‬وشيد شاىد من أىميا"‪.‬‬

‫قاـ بذلؾ‪ ،‬الباحث الفمسطيني أحمد الدبش‪ ،‬كبيف الجذكر االستشراقية‪ -‬الييكدية لنظرية‬
‫جغرافية التكراة في اليمف كالجزيرة العربية‪ ،‬قائالن‪:‬‬

‫"كمف الجدير باالنتباه أف أطركحات الباحثيف التي تعد عسير‪ ،‬أك اليمف‪ ،‬أك‬
‫الجزيرة العربية عمكمان‪ ،‬ىي مكاف قصة مكسى مع إليو ييكه‪ ،‬كمكضع خركج الييكد‬
‫مف مصر العربية‪ ،‬ليست بجديدة‪ ،‬فقد سبؽ إلييا العديد مف الباحثيف المستشرقيف‬
‫الثقات‪ .‬ففي عاـ ‪ ،5765‬بدأت أكاديمية فيينا‪ ،‬بإصدار مؤلؼ المستشرؽ النمساكم‬
‫(‪ )Alois Musil‬بعنكاف "‪ "Arabia Petraea‬في أربعة أجزاء‪ ،‬كقد كتبو أثناء زيارتو‬
‫لمكاقع التاريخ التكراتي‪ ،‬أمالن في أف يفيـ التكراة مف خالؿ الطبيعة التي ُكلدت فييا‪،‬‬
‫كأدرؾ (‪ )Alois Musil‬في حينو‪ ،‬كقبؿ غيره‪ ،‬أف سيناء التكراتية ليست ىي سيناء‬
‫الحالية‪ ،‬كأف اآلراء الشائعة حكؿ مكسى‪ ،‬كحكؿ الديانة الييكدية ليست صحيحة"[‪.]1‬‬

‫[‪ .]5‬أحمد الدبش‪ :‬مكسى كفرعكف في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪24‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫يتابع أحمد الدبش‪ ،‬تكضيح الجذكر االستشراقية‪ -‬الييكدية ليذه النظرية‪ ،‬ما أنقمو عمى‬
‫طكلو مف كتابو نقالن حرفيان‪ ،‬قائالن‪:‬‬

‫"كعمى ىذا المنكاؿ‪ ،‬ذىب المستشرؽ "مرجميكث" الى أف الكطف األصمي لبني‬
‫اسرائيؿ لـ يكف في شبو جزيرة سيناء‪ ،‬بؿ كاف ببالد اليمف التي خرجت منيا أمـ كثيرة‬
‫منذ أقدـ األزمنة التاريخية‪ ،‬كيستدؿ عمى رأيو ىذا ببضعة أدلة منيا أف عادات بني‬
‫اسرائيؿ كأخالقيـ االجتماعية في عصكرىـ األكلى‪ ،‬كانت قريبة مف أخالؽ العرب في‬
‫الجاىمية‪ ،‬فيناؾ شبيان عظيمان بيف بعض العادات االجتماعية كاألخالؽ الدينية عند‬
‫أىؿ سبأ كبني اسرائيؿ‪ .‬كمنيا أيضان كجكد ألفاظ مشتركة بيف المغتيف السبئية كالعبرية‪،‬‬
‫كزيادة عمى المادة المغكية العبرية التي تشبو العربية شبيان‪ ،‬نجد كثي ارن مف أسماء‬
‫األعالـ العبرية القديمة شائعة االستعماؿ عند العرب في الجاىمية‪ .‬ككانت بطكف كمب‬
‫الييكدية‪ ،‬مف أعظـ البطكف الييكدية التي تسكف في جنكب فمسطيف‪ ،‬ككذلؾ نجد بيف‬
‫القبائؿ العربية مف يمقب بيذا المقب‪ ،‬مثؿ القبائؿ الكمبية العربية في شماؿ جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬كالتي نسبت الى العصبية اليمنية‪ .‬ثـ انظر الى أسماء األعالـ األخرل التي‬
‫تدؿ عمى قكة الشبو بيف المغتيف‪ ،‬كعظـ التقارب في الميكؿ كالعقمية بيف الشعبيف‪ ،‬فمف‬
‫ىذه األعالـ ما يأتي‪ :‬حفني‪ ،‬عمي‪ ،‬عبد اهلل‪ ،‬حمكاؿ‪ ،‬الغادم‪ ،‬السعد‪ ،‬عفراء‪ ،‬كيكجد‬
‫كثير مف ىذه األعالـ في النقكش السبئية كالثمكدية‪.‬‬

‫كقد ألؼ المستشرؽُ األلماني "ىكغك كنكمر" (‪ )Hugo Winckler‬رسالتوُ المثيرة‬


‫لمجدؿ التي أسماىا "مصرم كممكخا كمعيف"‪ ،‬كبيف فييا أف (مصرم) ىي أرض عربية‬
‫شمالية‪ ،‬كأف مصر المذككرة في التكراة ىي في بالد العرب‪ ،‬ال في أفريقية‪ .‬كأف عبارة‬
‫"ىاكرىـ مصريت" (‪ )Hagar Ham- Misrith‬بمعنى "ىاجر المصرية"‪ ،‬ال يعني‬
‫"ىاجر" مف مصر المعركفة‪ ،‬بؿ مف مصر العربية‪ ،‬أم مف ىذه المقاطعة التي‬
‫نتحدث عنيا "معف مصرف" كأف القصص الكاردة في التكراة عف "مصر" كعف "فرعكف‪،‬‬
‫ىك قصص يخص ىذه المقاطعة العربية‪ ،‬كممكيا العربي‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫كيذكر القصاص العالمي "ق‪ .‬ج‪ .‬كيمز" تعميقان عمى قصة خركج مكسى كقكمو‬
‫مف مصر‪ ،‬أنو‪ ..." :‬في اإلمكاف أال تككف مصر ىي أرض األسر – كاسميا في‬
‫العبرانية مصرايـ‪ ،‬كانما مسريـ في شماؿ بالد العرب‪ ،‬عمى الجانب المقابؿ مف البحر‬
‫األحمر"[‪.]1‬‬

‫إذف‪ ،‬فنظرية جغرافية التكراة في اليمف كجزيرة العرب‪-‬بإقرار أحد ركادىا العرب‪ -‬ليا‬
‫جذكرىا العريقة في التراث االستشراقي كمف المستشرقيف الييكد أنفسيـ‪ ،‬كليس أنيا نظرية‬
‫ثكرية خارجة عف نطاؽ ما قدمو االستشراؽ‪ ،‬كىذا بحد ذاتو ما يتناقض مع المنطمؽ كاليدؼ‬
‫الرئيسي مف ىذه النظرية‪ ،‬مف حيث قاؿ لنا ركادىا جميعان بأنيا تتجو الى تحرير التاريخ‬
‫العربي مف سيطرة الفكر االستشراقي‪.‬‬

‫ما يدلنا عمى ىذا التناقض ىك أف "الدبش" عندما نكه الى أف ىذه النظرية ليست‬
‫جديدة‪ ،‬كأف ىناؾ مف المستشرقيف مف تبناىا مف قبؿ‪ ،‬كصؼ ىؤالء المستشرقكف ب ػ‬
‫"الثقات"‪ -!!..‬كىك تكصيؼ ُيحذرنا مف الخمط بيف نكعيف مف المستشرقيف‪ :‬ثقات كغير‬
‫ثقات‪.‬‬

‫لنتكقؼ عند ىذه الرؤية التصنيفية لممستشرقيف‪ ،‬كالتي تدفعنا بجد الى التعرؼ عمى‬
‫حقيقة المستشرقيف الذيف استشيد "الدبش" بأقكاليـ ككصفيـ بأنيـ ثقات‪ ،‬لعمنا نكتشؼ معياره‬
‫في التمييز بيف الثقات كغير الثقات مف المستشرقيف‪ ،‬مع أني أؤكد مسبقان عمى أنو ال يكجد‬
‫مستشرؽ عمى اإلطالؽ يمكف اعتباره ثقة تحت أم معيار‪ ،‬طالما كالجميع يخضعكف لمعايير‬
‫النقد العممية عمى حد سكاء‪.‬‬

‫االستشياد األكؿ كاف برأم منسكب لممستشرؽ التشيكي‪ -‬النمساكم "الكيس مكسيؿ"‬
‫(‪.]2[)5722 -5646( )Alois Musil‬‬

‫[‪ .]5‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.51 -50‬‬


‫[‪ .]0‬جاء استشياد أحمد الدبش بيذا المستشرؽ نقالن مف كتاب تكفيؽ سميماف "نقد النظرية السامية‪ -‬أسطكرة‬
‫النظرية السامية"‪ ،‬كىذا الكتاب لـ يتكفر لدم لمتحقؽ مف سياؽ االقتباس‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫يعطينا أحد الباحثيف العرب ترجمة كافية ليذا المستشرؽ‪:‬‬

‫"ألكيس مكسيؿ‪ ،‬أحد مستشرقي اإلمبراطكرية النمساكية المجرية‪ ،‬أستاذ جامعي‬


‫كأحد مشاىير الرحالة األكربييف الذيف قامكا بزيارة الجزيرة العربية في أكاخر القرف‬
‫التاسع عشر كبداية القرف العشريف‪ .‬كىك مف اكتشؼ في عاـ ‪ 5676‬قصكر بني أمية‬
‫الصحراكية‪ ،‬تمقى تعميمو كتخصص في الالىكت‪ ،‬ككاف عمى اطالع كبير بالمغة‬
‫العبرية‪ .‬كانت أىداؼ كجيكد "مكسيؿ" تصب في سد النقص الكبير في المعمكمات‬
‫المتعمقة ب ػ "العيد القديـ‪ -‬التكراة"‪ ،‬كىذا بدكره ما دفعو لمقياـ برحالت في مناطؽ‬
‫"جغرافية التكراة"‪ :‬فمسطيف كبالد الشاـ كشماؿ جزيرة العرب‪ .‬كقد تزامنت اىتمامات‬
‫"مكسيؿ" بالمنطقة العربية مع بركز تطمعات الدكؿ األكركبية االستعمارية في المنطقة‬
‫العربية‪ ،‬فكاف جزءن كبي ارن مف أعمالو مكرسان لخدمة مصالح االمبراطكرية النمساكية‬
‫كأىدافيا االستعمارية في المنطقة‪ ،‬كبفضؿ جيكده تـ رسـ كاحدة مف أىـ الخرائط‬
‫التفصيمية لجغرافية التكراة‪ ،‬في الكقت الذم كانت بريطانيا تحرص بشدة عمى متابعة‬
‫نتائج دراسات كرحالت "مكسيؿ"‪ ،‬كالذم بدكره كاف يرسؿ التقارير الى ك ازرة الخارجية‬
‫البريطانية التي كاف عمييا آنذاؾ "إدكارد جرم"‪ .‬كانت جيكد "مكسيؿ" ترصد الجغرافيا‬
‫كاآلثار كالسكاف كالقبائؿ كالعادات كالتقاليد كاألزياء كاألصكؿ كاألنساب‪ ،‬ككؿ شيء‬
‫يتعمؽ بالمنطقة التي جرت فييا رحالتو – أم منطقة جغرافية التكراة"[‪.]1‬‬

‫كبحسب الترجمة التي اعتمدت عمييا في التعريؼ بػ "ألكيس مكسيؿ"‪ ،‬فقد سجؿ ىذا‬
‫المستشرؽ مكاقفان جريئة ضد السياسات األكركبية في المنطقة بعد الحرب العالمية األكلى‪،‬‬
‫كلكف ىذا ال يمغي حقيقة أف جيكده كميا كانت مكرسة لخدمة التيار التكراتي بتكجياتو‬
‫الرئيسية الثالثة‪ :‬الالىكتي‪ ،‬التاريخي‪ -‬الجغرافي‪ ،‬االمبريالي‪.‬‬

‫[‪ .]5‬سعيد السعيد‪ :‬ألكيس مكسيؿ‪ ،‬حياة بيف العمـ كالسياسة‪ ،‬كرقة عمؿ مقدمة لمندكة العممية عف الرحالة‬
‫التشيكي "ألكيس مكسيؿ"‪ ،‬جامعة تشارلز‪ ،‬براغ‪ ،‬يكنيك ‪.0666‬‬
‫‪27‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫االستشياد الثاني الذم قدمو لنا أحمد الدبش‪ ،‬كاف بما ذىب إليو المستشرؽ‬
‫"مرجميكث""[‪ ،]1‬باعتباره مف المستشرقيف الثقات عمى حد كصفو‪.‬‬

‫بيد أف الثابت ىنا‪ ،‬ىك أصكؿ "مرجميكث" الييكدية‪ ،‬بفارؽ أف أسرتو تحكلت الى‬
‫المسيحية األنغميكانية‪ ،‬كىك نفسو عمؿ قسان في كنيستيا‪ .‬ككمستشرؽ‪ ،‬اشتير "مرجميكث"‬
‫بمنيجو التشكيكي الذم طبقو في معظـ دراساتو كأبحاثو التي خصصيا في التاريخ العربي‪.‬‬
‫فعمى سبيؿ المثاؿ‪ ،‬فيك مف أكائؿ مف أثار مسألة الشؾ في الشعر الجاىمي في العصر‬
‫الحديث‪ ،‬مف خالؿ البحث الذم نشره في مجمة (الجامعة اآلسيكية الممكية) اإلنجميزية‬
‫بعنكاف‪ ،)The Original Arabic Poetry( :‬كالمترجـ في كتاب "أصكؿ الشعر الجاىمي"‪،‬‬
‫كفيو يعتقد أف ما كصؿ إليو في بحثو "كاؼ لكضع كؿ ما ُيقاؿ إنو شعر جاىمي كبما فيو‬
‫أيضا كؿ الشعر السابؽ عمى العيد األمكم مكضع الشؾ"[‪.]2‬‬

‫الجدير بالذكر‪ ،‬أف األستاذ الدبش قد اقتبس رأم "مرجميكث" مف كتاب "تاريخ المغات‬
‫السامية" لممستشرق الييودي الشيير "اسرائيل ولفنسون"‪ ،‬الذم تعرض في كتابو لرأم‬
‫مرجميكث بشأف أف بني اسرائيؿ نزحكا مف اليمف‪ ،‬كاعتبره مما ال يستند الى أم دليؿ‪ ،‬إذ يقكؿ‬
‫"كلفنسكف"‪:‬‬

‫[‪ .]5‬ديفيد صمكئيؿ مرجميكث (‪ ،)David Samuel Margoliouth) (1858 - 1940‬مستشرؽ‬


‫انجميزم‪ ،‬بدت عنايتو بالدراسات العربية كالسامية بعد أف ُعيِّف أستاذان في جامعة أكسفكرد سنة ‪ ،5667‬كتب‬
‫بحثا عف أكراؽ البردم العربية في مكتبة بكدلي بأككسفكرد ‪ ،5671‬كترجـ قسما كبي ار مف تفسير البيضاكم‬
‫إلى اإلنجميزية سنة ‪5672‬ـ كما نشر رسائؿ أبي العالء المعرم سنة ‪ .5676‬كفي سنة ‪ 5763‬بدأ بنشر‬
‫دراساتو عف اإلسالـ‪ ،‬كذلؾ بكتاب (محمد كنشأة اإلسالـ) ثـ كتاب (اإلسالـ) سنة ‪ ،5755‬ثـ نشر‬
‫تطكر اإلسالـ في بدايتو سنة ‪ ،5752‬كالعالقات بيف العرب كالييكد سنة‬
‫محاضرات كاف قد ألقاىا عف ُّ‬
‫‪ ،5702‬كما نشر مجمكعة مف الكتب التراثية المتنكعة‪ ،‬كقد اختاره المجمع العممي العربي في دمشؽ عضكا‬
‫مراسال عند نشأتو في سنة ‪ .5706‬كمعظـ كتاباتو اتسمت بالتعصب كالتحيز كالبعد الشديد عف‬
‫المكضكعية‪ .‬عبد الرحمف بدكم‪ :‬مكسكعة المستشرقيف‪ ،‬الطبعة الثالثة "منقحة كمزيدة"‪ ،‬دار العمـ لممالييف‪،‬‬
‫بيركت‪ -‬لبناف‪ .5771 ،‬ص ‪.354‬‬
‫[‪ .]0‬ديفيد صمكيؿ مرجميكث‪ :‬أصكؿ الشعر العربي‪ ،‬ترجمة كتعميؽ كدراسة‪ :‬إبراىيـ عكض‪ ،‬دار الفردكس‪،‬‬
‫أسيكط‪ -‬مصر‪ .0664 ،‬ص ‪.565‬‬
‫‪28‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫"كليس في األدلة التي ذكرىا مرجميكث لتأييد رأيو دليؿ تاريخي كاحد يمكف أف‬
‫يعكؿ عميو‪ ،‬بؿ ىي أدلة تخيمية تصيدىا تصيدان‪ ،‬كىي مع ذؾ ال تجديو نفعان ألنيا ال‬
‫تنطبؽ عمى بني اسرائيؿ كالسبئييف كحدىـ‪ ،‬بؿ تشمؿ جميع األمـ السامية‪ ..‬فيناؾ‬
‫تشابو بيف لغة بني اسرائيؿ كعاداتيـ كأخالقيـ كبيف لغة بابؿ كعاداتيا كأخالقيا‪ ،‬فيؿ‬
‫نقكؿ بأف بني اسرائيؿ مف أصؿ بابمي؟!‪ -‬ىذا ينقض نظرية مرجميكث بالنظرية‬
‫نفسيا‪ .‬كبالتالي فإف ترجيح أف بني اسرائيؿ نزحكا مف اليمف أمر ال يمكف االطمئناف‬
‫إليو‪ ،‬ألف الشعكب العبرية لـ تكجد في كؿ العصكر التاريخية إال في شماؿ الجزيرة‬
‫العربية عمى أطراؼ فمسطيف"[‪.]1‬‬

‫يبدو واضحاً أن معارضة "ولفنسون" لرأي "مرجميوث"‪ ،‬ىو المعيار الذي اعتمده‬
‫أحمد الدبش في اعتبار ىذا األخير من المستشرقين الثقات‪.‬‬

‫المستشرؽ األلماني "ىكغك‬


‫ُ‬ ‫أما االستشياد الثالث‪ ،‬فكاف‪ -‬نقالن عف "جكاد عمي"‪ -‬ب ػ‬
‫كنكمر"‪ ،‬كيكفي أف ىذا المستشرؽ ينتمي الى حركة االستشراؽ األلمانية‪ ،‬التي كصفيا أحمد‬
‫الدبش نفسو‪ ،‬بقكلو‪:‬‬

‫"لقد لعب االستشراؽ األلماني دك ارن ميمان كبار ازن في التركيز عمى فمسطيف‪،‬‬
‫كاكتشاؼ آثارىا كمقارنة تمؾ اآلثار بما كرد في التكراة‪ ،‬كمف أشير المستشرقيف‬
‫األلماف في ىذا المجاؿ المدعك "كارستف نيبكر" ك"أكلريش زيتسف" ك"لكدفيغ‬
‫مكركيارت"‪ .‬كلعميا مف أخطر حركات االستشراؽ الغربية عمكمان ألف الجامعات‬
‫األلمانية ال تدرس إال عمـ اآلثار التكراتي‪ ،‬الذم يتطمب دراسة المغة العبرية لمدة عشر‬
‫سنكات"[‪.]2‬‬

‫[‪ .]5‬اسرائيؿ كلفنسكف‪ :‬تاريخ المغات السامية‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬لجنة التأليؼ كالترجمة كالنشر‪ ،‬مطبعة‬
‫االعتماد‪ ،‬القاىرة‪.5707 ،‬‬
‫[‪ .]0‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.52 -51‬‬
‫‪29‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫االستشياد الرابع‪ ،‬اقتبسو الدبش مف كتاب "معالم تاريخ االنسانية" لــ "ه‪ .‬ج‪ .‬ويمز"‪،‬‬
‫كيكفي أف نق أر في نفس الصفحة التي كقع منيا اقتباس الدبش‪ ،‬ما يمي‪:‬‬

‫"كميما تكف التفاصيؿ الدقيقة لغزك العبرانييف أرض كنعاف‪ ،‬فمما ال ريب فيو أف‬
‫ذلؾ القطر – يقصد فمسطيف‪ -‬الذم فتحكه تغير تغي ارن عظيمان منذ أياـ أسطكرة‬
‫"الميعاد" الذم كعد بو ابراىيـ قبؿ ذلؾ بقركف"[‪.]1‬‬

‫رأم "كيمز" ىذا يشير بكضكح الى أنو ينتمي الى تيار المؤرخيف التكراتييف الذيف تبنكا‬
‫نظرية "الغزك" كأساس لكصكؿ بني اسرائيؿ الى فمسطيف‪ ،‬كىي ركاية العيد القديـ (التكراة)‬
‫بالطبع‪ ،‬كقد تزعـ ىذا التيار ‪ -‬كما أكضح الدبش‪ -‬المستشرؽ الييكدم "كليـ اكلبرايت""[‪.]2‬‬
‫كالمعركؼ عف ىذا األخير أنو مف أكثر المستشرقيف تعصبان لمتكراة‪ ،‬فضالن عف ككنو مؤسس‬
‫الفرع االسرائيمي لقسـ دراسات التاريخ التكراتي في المنطقة‪.‬‬

‫وىكذا‪ ،‬فإن المستشرقين الذين استشيد بيم الدبش‪ ،‬يظمون عمى كل حال من رموز‬
‫االستشراق التوراتي‪ ،‬ومعظم أعماليم تقوم عمى اثبات الرواية التوراتية‪ ،‬ويؤمنون بأن‬
‫مممكة اسرائيل قامت في فمسطين‪ ،‬ومن ثم فتوصيف الدبش ليم بأنيم من "المستشرقين‬
‫الثقات" ال أساس لو وال معيار‪ ،‬سوى أنو وجد في اقتصاص آرائيم من سياقاتيا ما يدعم‬
‫بو نظريتو‪ ،‬ودفاعو عنيم ليس إال دفاعاً عن نظريتيم التي يتبناىا ىو والصميبي وداوود‬
‫ومنى وديب وعيد وغيرىم‪.‬‬

‫كىكذا‪ ،‬فإف نظرية جغرافية التكراة في اليمف كالجزيرة العربية في األصؿ كاألساس‪،‬‬
‫كلدت كنشأت في حضف االستشراؽ التكراتي‪ -‬الييكدم‪ ،‬كىذا بحد ذاتو يجعمنا نعيد النظر‬
‫في امكانية تصديؽ ما ركاه لنا كؿ مف الصميبي كالربيعي بشأف الصدفة التي كانت السبب‬

‫[‪ .]5‬ق‪ .‬ج‪ .‬كيمز ‪ :‬معالـ تاريخ االنسانية‪ ،‬المجمد الثاني‪ -‬في تاريخ اإلغريؽ كالركماف كمف عاصركىما‪،‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبد العزيز تكفيؽ جاكيد‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬الييئة المصرية العامة لمكتاب‪ ،‬القاىرة‪ .5741 ،‬ص ‪.51‬‬
‫[‪ .]0‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.01‬‬
‫‪30‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫الرئيسي في اكتشاؼ كمالحظة التشابيات المفظية بيف أسماء المناطؽ التكراتية كمناطؽ‬
‫اليمف كالجزيرة العربية التي حددكىا لنا‪.‬‬

‫لك حاكلنا تصديؽ كقكع األمر بالصدفة‪ ،‬سنجد أمامنا عقبة تحكؿ دكف ذلؾ‪ ،‬أقصد‬
‫بذلؾ أف حفظ أسماء المناطؽ الجغرافية الكاردة في التكراة عف ظير قمب كما صرح بذلؾ‬
‫الصميبي كالربيعي لف يككف ىك اآلخر نتاجان لمصدفة‪ ،‬ألف ىذه النظرية بحد ذاتيا كانت قد‬
‫كلدت كنمت كتغذت كشبت في عقكؿ كأعماؿ كجيكد المستشرقيف التكراتييف‪ -‬كما تبيف آنفان‪.‬‬

‫بيد أف األمر كما تكشؼ لي لـ يقتصر عمى مجرد كالدة ىذه النظرية كفكرة في حضف‬
‫مدرسة االستشراؽ التكراتية فحسب‪ ،‬بؿ اتضح بشكؿ أكيد أف المنيج نفسو كاألدكات نفسيا‬
‫المتعمقة بدراسة األلفاظ كاألسماء الجغرافية كتشابياتيا كتحكالتيا المغكية‪ ،‬قد استخدمت بالفعؿ‬
‫مف قبؿ المستشرقيف التكراتييف عندما بدأكا بالبحث عف المناطؽ الكاردة أسمائيا في التكراة‬
‫عمى األرض الفمسطينية بشكؿ عممي‪ ،‬في نطاؽ العممية التي قامكا فييا بتزكير الجغرافية‬
‫التكراتية كالصاقيا زك انر كبيتانان عمى أرض فمسطيف‪ -‬كما يدعي أصحابنا ركاد ىذه النظرية‬
‫مف الباحثيف العرب‪.‬‬

‫لنتكقؼ قميالن عند المحاكلة التي قاـ بيا الباحث الفمسطيني أحمد الدبش‪ ،‬لتكضيح‬
‫كيؼ جرت عممية تزكير أسماء المناطؽ الفمسطينية لتصبح مطابقة لما ىي في التكراة‪ .‬فقد‬
‫بدأت ىذه العممية قبؿ (‪ )5666‬سنة‪ ،‬يقكؿ الدبش‪:‬‬

‫"في كقت مبكر يعكد إلى القرف الثاني الميالدم بدأ الحجاج المسيحيكف األكائؿ‬
‫القادمكف مف مختمؼ أجزاء اإلمبراطكرية الركمانية يصمكف فمسطيف ليعاكدكا تعقب‬
‫خطكات يسكع كحكارييو‪ .‬كفي أثناء طكافيـ في أرجاء البالد بمجمكعات صغيرة كاف‬
‫ىؤالء يتكقفكف لمصالة كالتأمؿ في األماكف التي كاف سكانيا المحميكف يرشدكنيـ إلييا‬
‫عمى أنيا مكاقع نشاط يسكع كآالمو‪ .‬كلكف الحج المسيحي بدأ‪ ،‬مع حمكؿ القرف الثاني‪،‬‬
‫يأخذ بالضركرة طابع التنقيب األثرم ألف المشيد كاف قد بات شديد االختالؼ عما‬
‫كرد في العيد القديـ كالجديد‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫كانت النتيجة نكعان جديدان مف الحج معاديان ألىؿ البالد كمسكغان الستعمارىا‬
‫كتحكيميا إلى أرض التكراة"‪ ..‬كانت فمسطيف تتعرض لعممية نقؿ كتحكيؿ زمانية‬
‫تفضي إلى جعؿ الماضي التكراتي حقيقة‪ ،‬إال أف التكجو المنظـ كاليادؼ كالمرتبط‬
‫بالدكائر االستعمارية كالتكجيات الييكدية راح يتشكؿ في القركف السابقة األخيرة‬
‫كخاصة بعد انتياء الحركب الصميبية كالتقمبات التي حدثت في أكركبا"[‪.]1‬‬

‫يفترض الدبش أف التزكير الذم كقع عمى أرض فمسطيف قد بدأ مع بداية انتشار‬
‫العقيدة المسيحية في القرف الثاني لمميالد‪ ،‬كىذا أمر في الحقيقة لـ أستطع تفسيره‪ ،‬أك أف أجد‬
‫لو تفسي انر‪.‬‬

‫الثابت لدينا‪ ،‬ىك أف المسيحية أصالن نشأت ىنا في منطقتنا العربية كبالتحديد في‬
‫فمسطيف كبالد الشاـ كمصر‪ ،‬كجميع معتنقييا في ذلؾ الكقت مف شعكب المنطقة‪ ،‬ككانت‬
‫األغمبية المسيحية في العالـ القديـ آنذاؾ ىي شعكب المنطقة‪ ،‬كالمسيحية بحد ذاتيا تستند‬
‫مف الناحية المرجعية الى العيد القديـ (التكراة) باإلضافة الى العيد الجديد (االنجيؿ)‪ ،‬فكيؼ‬
‫ننسب الى الحجاج القادميف مف أطراؼ االمبراطكرية الركمانية‪ -‬أك لنقؿ مف أكركبا‪ -‬أنيـ‬
‫قامكا بعممية التزكير تمؾ‪ ،‬أم تغيير أسماء مناطؽ فمسطيف عمى غير ما ىي كاردة عميو في‬
‫العيد القديـ‪ ،‬أك عمى نحك ما ىي كاردة عميو أصالن‪ .‬فإذا كاف أىؿ المنطقة كشعكبيا قد أركا‬
‫في تمؾ األسماء الكاردة في التكراة خالفان لما ىك ثابت عندىـ عمى األرض لبحثكا عف مكطف‬
‫التكراة أك لعممكا بو أساسان كأخبركنا‪ ،‬ألف عقيدتيـ قائمة باألساس عمى شرط االيماف بما جاء‬
‫في التكراة التي كانت قد ُكتبت قبؿ ذلؾ العيد بحكالي سبعة قركف‪ ،‬كااليماف المسيحي قائـ‬
‫باألساس عمى اعتبار فمسطيف بمثابة األرض المقدسة كما أخبرىـ بذلؾ العيد الجديد‬
‫(االنجيؿ)‪ .‬فبغض النظر عف مدل ايمانيـ أك اطالعيـ عمى التكراة‪ ،‬فما ىك منصكص عميو‬
‫في العيد الجديد كافي بالنسبة ليـ لتحؿ فمسطيف في نفكسيـ ىذا المحؿ‪ ،‬كأرض مقدسة‪.‬‬

‫[‪ .]5‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.6 -5‬‬


‫‪32‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫في الحقيقة أن ىذه النظرية‪ -‬نظرية الصميبي ورفاقو‪ -‬تطمب منا أن نتبنى واحداً‬
‫من أسخف االفتراضات‪ ،‬وىو أن الماليين من الييود والمسيحيين عمى مدى ألفين عام‬
‫وحتى اليوم‪ ،‬عاشوا وآمنوا وىم يجيمون بحقيقة أين تقع أرضيم المقدسة؟!‬

‫يبدك أف عممية التزكير الذم أراد أف يبينيا لنا أحمد الدبش‪ ،‬لـ تحظ باتصاؿ زمني‬
‫يكسبيا طابع االستم اررية‪ ،‬إذ سرعاف ما ينقمنا الدبش مف القرف الثاني الميالدم الى القرف‬
‫التاس ع عشر الميالدم‪ ،‬ليعرض لنا الحمقة األىـ كاألكبر مف حمقات تزكير جغرافية التكراة‬
‫كتمفيقيا عمى أرض فمسطيف زك انر كبيتانان‪ ،‬مف حيث لـ يجد أم مجاؿ لمعرفة كيؼ جرت تمؾ‬
‫العممية ككيؼ استمرت كالى أيف آلت خالؿ سبعة عشر قرنان مف التاريخ‪ ،‬كىي الفترة التي لـ‬
‫يكف فييا ألم اسرائيؿ أك أم صييكنية كجكد يذكر عمى اإلطالؽ‪.‬‬

‫يقكؿ األستاذ أحمد الدبش‪:‬‬

‫"شيد القرف التاسع عشر أكبر الحمالت االستشراقية اآلثارية‪ ..‬فقد أخذت‬
‫تقنيات ىذه الجغرافيا الكتابية الحديثة شكميا مع األعماؿ االستكشافية التي قاـ بيا في‬
‫عاـ ‪ 5616‬كؿ مف "ادكارد ركبنسكف كايمي سميث"‪ ،‬فخالؿ رحمة مف السكيس إلى‬
‫بيركت دامت ثالثة أشير‪ ،‬اىتدى "روبنسون وسميث" إلى العشرات من المواقع‬
‫الكتابية التي كانت مغمفة ومتناثرة في أرجاء المسرح القديم لمبالد‪ ،‬وقد وصفا‬
‫التحوالت المغوية التي أفضت‪ ،‬باعتقادىما‪ ،‬إلى قمب أسماء األماكن العبرية القديمة‬
‫إلى أسماء عربية حديثة"[‪.]1‬‬

‫ىذا الكالم خطير لمغاية‪ ،‬كخصكصان الجزء األخير منو‪ ،‬كالذم تعمدت تضميمو ليبدك‬
‫كاضحان‪ ،‬إذ نفيـ مف ىذا النص المميز كالصريح‪ ،‬أمريف اثنيف‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬أف المستشرقيف بحثكا بطرؽ عممية‪ ،‬أم نزلكا الى األرض كتجكلكا فييا‬
‫كبحثكا كنقبكا بشكؿ فعمي بحثان عف المكاقع الجغرافية التي ترد في التكراة‪ ،‬كبالتحديد في‬
‫المنطقة الممتدة مف السكيس في مصر الى بيركت في لبناف‪ ،‬بمعنى أف المنطقة المدركسة‬

‫[‪ .]5‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.6‬‬


‫‪33‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫شممت كامؿ أرض فمسطيف‪ ،‬كاىتدكا إلى العشرات مف المكاقع الكتابية‪ -‬التكراتية‪ -‬التي كانت‬
‫مغمفة كمتناثرة في أرجاء المسرح القديـ لمتكراة‪.‬‬

‫األمر الثاني‪ :‬يتعمؽ بالكيفية التي اىتدل بيا ىؤالء المستشرقيف الى تمؾ المكاقع‬
‫التكراتية التي اكتشفكىا‪ ،‬كىي ما كصفكه ب ػ [التحوالت المغوية]‪ ،‬التي أدت الى [قمب أسماء‬
‫األماكن العبرية القديمة إلى أسماء عربية حديثة]‪!!..‬‬

‫يجب أف نراجع ما قالو الصميبي كجميع ركاد نظرية جغرافية التكراة في اليمف كجزيرة‬
‫العرب‪ ،‬بشأف منيجيـ المغكم‪ ،‬أك الكيفية التي طبقكىا لتعييف جغرافية التكراة عمى أساس‬
‫التشابيات المفظية‪ ،‬ألني عمى ثقة كاممة‪ ،‬بأنيـ تبنكا نفس ىذه الفكرة‪ ،‬فكرة التحكالت المغكية‬
‫كقمب األسماء كالحركؼ كما الى ذلؾ‪.‬‬

‫أكد كماؿ الصميبي عمى أف أساس كتابو ىك "المقابمة المغوية بين أسماء األماكن‬
‫[‪]1‬‬
‫تنتمي‬ ‫المضبوطة في التوراة بالحرف العبري‪ ،‬وأسماء أماكن أخرى تاريخية أو حالية"‬
‫الى دائرة المغة العربية بالطبع ألنيا مأخكذة مف المعاجـ العربية‪.‬‬

‫كما عبر الصميبي عف فكرة [التحوالت المغوية] االستشراقية تمؾ‪ ،‬بكضكح جمي ككأنو‬
‫كاف يشرح لنا األساس الذم عمؿ عميو المستشرقاف "ادكارد ركبنسكف كايمي سميث" في‬
‫االىتداء الى المناطؽ التكراتية في فمسطيف‪ ،‬أثناء رحمتيما البحثية التي جرت سنة ‪،5616‬‬
‫كذلؾ "عندما تبين لمصميبي بما ال يقبل الشك وجود معظم األسماء التوراتية بشكميا‬
‫معرب‪ ،‬في بالد السراة وما يمييا من جبال تيامة ووىادىا غرباً‪..‬‬
‫األصمي‪ ،‬أو بشكل ّ‬
‫الخ"[‪.]2‬‬

‫كىذا مفاده‪ ،‬أف الصميبي يفترض حدكث التحكالت المغكية التي أشار إلييا ىذاف‬
‫المستشرقاف‪ ،‬فاألسماء كانت عبرية كبسبب عكامؿ التاريخ كخالفو تعرضت لمتعريب‪ ،‬أم تـ‬

‫[‪ .]5‬كماؿ الصميبي‪ :‬التكراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫[‪ .]0‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪34‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫تحكيميا الى صياغات لفظية عربية‪ ،‬مع االحتفاظ بشيء مف أصميا العبرم‪ ،‬كىذا ألف‬
‫العبرية كالعربية مف مجمكعة لغكية كاحدة‪.‬‬

‫كاألىـ مف ذلؾ‪ ،‬ىك أف الصميبي استخدـ في التعبير عف منيجو نفس المصطمح‬


‫[التحوالت]‪ ،‬تمؾ التي تجرم عمى الكممات بيف لغتيف مف أصؿ مشترؾ‪ ،‬كيشرحو لنا في‬
‫معرض شرحو لمعالقة بيف العربية كالعبرية التكراتية‪ ،‬قائالن‪:‬‬

‫"ىناؾ جذكر كثيرة مشتركة بيف العبرية التكراتية كالعربية‪ ،‬كذلؾ دكف تغير في‬
‫األحرؼ في بعض األحياف‪ ،‬كمع (تحول) في األحرؼ في أحياف أخرل‪ .‬ك[التحوالت]‬
‫في األحرؼ التي يقرىا عمماء المغات السامية بيف المغتيف ىي اآلتية‪.]1["...:‬‬

‫ُيبيف لنا تمميذ الصميبي كمكاطنو "زياد منى" طبيعة تمؾ [التحوالت المغوية]‪ ،‬في سياؽ‬
‫تأكيده عمى "إن إدراك مدى ورود ظاىرة القمب واالستبدال بين المغتين العربية والعبرية‬
‫يعتبر أحد األسس التي ارتكزت عمييا دراستو في موضوع جغرافية التوراة التي نطق بيا‬
‫الصميبي"[‪.]2‬‬

‫أما فرج اهلل صالح ديب‪ ،‬فتتمثؿ منيجيتو ب ػ "المقابمة المغوية وتطويع أحرف التصويت‬
‫في األسماء لموصول إلى جذر أو صيغة لفظية يمكن إقرانيا بأحد المواقع الجغرافية في‬
‫اليمن"[‪.]3‬‬

‫كبالمثؿ‪ ،‬يبيف لنا األستاذ "أحمد داككد" أنو يمكف االستفادة مف ىذه المنيجية –‬
‫منيجية التحكالت المغكية‪ -‬التي جرت عمى أسماء المناطؽ الجغرافية التكراتية‪ ،‬كلكف فيما‬
‫بيف المغة الكمدانية كالمغة العربية‪ ،‬أم بعيدان عف العبرية‪ ،‬قائالن‪:‬‬

‫[‪ .]5‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.05‬‬


‫[‪ .]0‬زياد منى‪ :‬جغرافية التكراة‪ -‬مصر كبنك اسرائيؿ في عسير‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫[‪ .]1‬صقر أبك فخر‪ :‬التكراة العربية كأكرشميـ اليمنية‪ ،‬مجمة الدراسات الفمسطينية‪ ،‬المجمد (‪ ،)5‬العدد (‪،)05‬‬
‫صيؼ ‪ .5774‬ص ‪.013‬‬
‫‪35‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫"أما من الناحية المغوية العربية القديمة فقد اعتمدنا فييا القاموس الكمداني‬
‫لممطران يعقوب أوجيو منا‪ ،‬ألن الكمدانية – وىي نفسيا السريانية‪ -‬ىي العربية‬
‫القديمة‪ ،‬التي تكمم بيا ابراىيم الخميل وبنوه والسيد المسيح في المنطقة التي وجدوا‬
‫وعاشوا فييا قرب بابمون الكمدان عمى وادي الفرات شرق جبال غامد من شبو جزيرة‬
‫العرب‪ ...‬فأسماء مثل "وادي طوى" و"طور سيناء" و"موسى" و"ييوه" و"جبل حريب"‬
‫و"رفيديم" و"أورشميم"‪ ..‬ال يمكن فيم مدلوالتيا من خالل تتبع افتراضات المستشرقين‬
‫األجانب‪ ،‬بل بالعودة الى المغة العربية القديمة التي كشفت لنا حقيقة األشياء‬
‫ومسمياتيا كما ىي بعيداً عن أي تخمين أو تزوير فرض عمى لغتنا من الخارج"[‪.]1‬‬

‫عمى نفس المنكاؿ‪ ،‬كبطريقتو الخاصة يعبر "أحمد الدبش" عف منيجو المغكم لفؾ‬
‫طالسـ األسماء التكراتية‪ ،‬قائالن‪:‬‬

‫"وقد عمدت الى إجراء مقارنة وتقاطعات بين النصوص التوراتية والقرآنية‪،‬‬
‫حول المقصود بــ "مصر"‪" ،‬مدين"‪" ،‬دور سينين"‪" ،‬الوادي المقدس‪ /‬طوى"‪ ..‬وغيرىا‬
‫من المفاىيم‪ ،‬حيث ال يمكن فيم مدلوالتيا إال بالعودة الى المغة العربية والمعاجم‬
‫العربية"[‪.]2‬‬

‫في نفس الشأف‪ ،‬كحكؿ منيجو في فؾ طالسـ ذلؾ التشابو بيف األسماء التكراتية‬
‫كاألسماء الكاقعة في الجغرافية اليمنية‪ ،‬يقكؿ فاضؿ الربيعي‪:‬‬

‫"لقد عكفت عمى دراسة وتعمم المغة العبرية ليتسنى لي قراءة النصوص‬
‫األصمية – ال االستشراقية‪ .‬ثم كرست سنواتاً من عمري لمبحث عن جذورىا‬

‫[‪ .]5‬أحمد داككد‪ :‬العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫[‪ .]0‬أحمد الدبش‪ :‬مكسى كفرعكف في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪36‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫الحقيقية‪ ،‬ولمتعرف عمى ذلك التماثل المثير حتى في أشكال رسم األسماء في‬
‫الميجات اليمنية القديمة والعبرية"[‪.]1‬‬

‫بالعكدة الى محاكلة "أحمد الدبش" لتكضيح عممية التزكير التي قاـ بيا المستشرقكف‬
‫عمى أسماء المناطؽ في فمسطيف بيدؼ جعميا مطابقة لما في التكراة‪ ،‬يمكف أف نتعرؼ عمى‬
‫نكعية النتائج التي يمكف التكصؿ إلييا مف خالؿ تطبيؽ ىذه األدكات المفظية أك المغكية‪،‬‬
‫كلكف في السياؽ الذم تتضح فيو بعض النتائج التي تكصؿ إلييا المستشرقاف "ادكارد‬
‫ركبنسكف كايمي سميث"‪ ،‬كالتي يصفيا الدبش بأنيا كانت ضمف عممية تزكير‪ ،‬إذ يقكؿ‪:‬‬

‫"زكر "ركبنسكف" عشرات المكاقع القديمة بمساعدة "سميث" الذم كضع أثناء‬
‫عممو مبش ارن قائمة باألسماء العربية لقرم فمسطيف‪ .‬فقرية (عناتا)‪ ،‬لم تكن فيما يبدو‪،‬‬
‫إال (عنتوت) الكتابية (التوراتية)‪ ،‬مسقط رأس النبي إرميا‪ ،‬و(جباع) كانت ىي‬
‫(جبعة) إحدى مدن بنيامين‪ ،‬و(مخماس) بدت مناسبة تماماً لساحة معركة شاؤول‬
‫في (مخماس)؛ و(بيتن) كانت (بيت إيل) محطة توقف إبراىيم وموقع حمم يعقوب‬
‫الشيير؛ ومما ال شك فيو أن (الجب) كانت ىي (جبعون) الكتابية حيث قام يوشع‬
‫بتجميد الشمس في مكانيا‪.‬‬

‫كبحسب كالـ ركبنسكف فيما بعد‪ ،‬فقد قادتيـ ىذه المنيجية عبر مشاىد مرتبطة‬
‫بالعديد مف األسماء كاألحداث كاألفعاؿ التاريخية مثؿ إبراىيـ كيعقكب‪ ،‬كسميماف‬
‫كشاؤكؿ‪ ،‬كيكناف‪ ،‬كداكد‪ ،‬كصمكئيؿ كمكنتيـ مف تحديد األماكف التي عاشكا كنشطكا‬
‫فييا‪ ،‬كاستطاعكا أف يتعقبكا ما يمكف اعتباره خطكاتيـ ذاتيا"[‪.]2‬‬

‫باإلضافة الى ككننا عرفنا اآلف مف أيف جاءت ىذه النظرية كما ىك أصميا كفصميا‪،‬‬
‫فإننا يجب أف نتساءؿ‪:‬‬

‫[‪ .]5‬فاضؿ الربيعي‪ :‬فمسطيف المتخيمة‪ :‬أرض التكراة في اليمف القديـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.57 -56‬‬
‫[‪ .]0‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف كممكؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.7 -6‬‬
‫‪37‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫أليست النتائج التي توصل إلييا روبنسون وسميث من حيث األساس والمنيج‬
‫واألدوات‪ ،‬تشبو النتائج نفسيا التي توصل إلييا الصميبي وديب ومنى وعيد وداوود‬
‫والدبش والربيعي؟‪ -‬إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فكيف توصف نتائج روبنسون وسميث عمى أنيا‬
‫تزوير فيما يصف كل ىؤالء نتائجيم المماثمة بأنيا حقائق وتصحيح لمتاريخ؟!‬

‫مف أجؿ أف نتبيف األمر‪ ،‬يجب أف ننظر الى الفارؽ بيف ما قاـ بو ركبنسكف كسميث‬
‫عاـ ‪ ،5616‬كبيف ما قاـ بو الصميبي كمف جاء بعده في العصر الراىف‪ .‬فقد قاـ ركبنسكف‬
‫كسميث بدراسة أساسيا أف التكراة تحدد بالضبط جغرافيتيا كىي فمسطيف‪ ،‬كأف التكراة ذكرت‬
‫الكثير مف أسماء القرل كالتالؿ كالجباؿ كالمعالـ الجغرافية كلربما حددت مكاقعيا بشكؿ أك‬
‫بآخر‪ ،‬سكاء بالنسبة لبعضيا البعض أك بالنسبة لؤلحداث التي جرت فييا‪ ،‬كقاما بالنزكؿ الى‬
‫األرض كالتجكؿ فييا كالتحقؽ مف أسماء المناطؽ كمدل تطابقيا في زمف إجراء الدراسة مع‬
‫األسماء التي ترد في التكراة‪.‬‬

‫بناء عمى ذلؾ‪ ،‬فقد كجد "ركبنسكف كسميث" أف قرية اسميا "عناتا" تقع في نفس‬
‫ن‬
‫المكضع الذم يرد في التكراة قرية اسميا "عنتكت"‪ ،‬ككذلؾ كجدكا قرية "جباع" في مكضع‬
‫تسميو التكراة "جبعة"‪ ،‬ككجدكا في فمسطيف قرية اسميا "مخماس في مكضع يحمؿ نفس االسـ‬
‫في التكراة "مخماس"‪ ،‬ثـ كجدكا بيساف" التي ىي "باشاف"‪ ،‬كغزة التي ىي غزة‪ ،‬كأريحا التي‬
‫ىي أريحا كعسقالف التي ىي عشقمكف كنير األردف الذم ىك نير األردف‪ ..‬الخ‪ ،‬كفي‬
‫المحيط الجغرافي نفسو كجدكا صكر كصيدا كلبناف كدمشؽ كعماف كحماة‪ ..‬الخ‪ ،‬مف المدف‬
‫كالمناطؽ التي تذكرىا التكراة‪.‬‬

‫فكيف يعد ىذا بحق اهلل تزوي ارً؟!‬

‫بيد أف ما قاـ بو الصميبي كركاد نظريتو‪ ،‬ىك أنيـ أخذكا الفكرة مف المستشرقيف‬
‫كالمنيج مف المستشرقيف‪ ،‬كطبقكىا في مكاتبيـ التي تطؿ نكافذىا عمى بيركت كدمشؽ‬

‫وكوبنياجن وامستردام كالقاىرة‪ ،‬كىـ يبحمقكف في المعاجـ كالقكاميس‪ ،‬دكف أف يعرفكا شيئان‬

‫‪38‬‬
‫انفصم األول‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظزيت‬

‫عف األماكف التي يتحدثكف عنيا‪ ،‬كلـ يقكمكا بأم جيد منيجي عممي كتطبيقي‪ ،‬كأكاد أجزـ‬
‫أف ما مف أحد منيـ قادر عمى رسـ خريطة ألم مكاف عمى كرقة بيضاء فكؽ مكتبو‪..‬‬

‫فكيف بحق اهلل ال يعد ما فعموه تزوي ارً؟!‬

‫أترك الحكم لكم اعزائي القراء‪..‬‬

‫‪39‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫انفصم انثاني‬

‫من نقد انتىراة اىل إنقاذ انتىراة‬

‫كنت قد حددت في الفصؿ السابؽ المقوالت أو الفروض الرئيسية المشتركة التي أكد‬
‫عمييا وانطمؽ منيا جميع رواد ىذه النظرية‪ ،‬بثالث مقوالت‪ ،‬ىي‪:‬‬

‫المقولة األولى‪ :‬أنو تـ تحريؼ وتزوير التاريخ التوراتي لتدعيـ االدعاءات والمبررات‬
‫الصييونية بشأف الموطف األصمي لمييود‪ ،‬وأرض الميعاد‪ ..‬بيدؼ تبرير احتالؿ فمسطيف‪.‬‬

‫المقولة الثانية‪ :‬أف البحوث والتنقيبات األثرية عمى مدى أكثر مف قرف مف الزماف تـ فييا‬
‫تمشيط المنطقة الواقعة بيف نيري النيؿ والفرات في سبيؿ إيجاد أدلة أثرية مادية تؤيد الرواية‬
‫التوراتية واالدعاءات الصييونية‪ ،‬أثبتت أف ال شيء عمى األرض‪.‬‬

‫كبير ومدىشاً بيف أسماء األماكف والمواقع الجغرافية التي‬


‫المقولة الثالثة‪ :‬أف ىناؾ تطابقاً اً‬
‫ترد في التوراة وبيف أسماء المناطؽ والمواقع الجغرافية في جزيرة العرب‪( :‬عسير‪ ،‬غامد والسراة‪،‬‬
‫اليمف)‪.‬‬

‫عبر رواد‬
‫سبؽ وأف ناقشنا األمر بخصوص المقولة األولى في الفصؿ األوؿ‪ ،‬ورأينا كيؼ ّ‬
‫النظرية عنيا‪ ،‬بحيث اتضحت لنا الجذور االستشراقية‪ -‬الييودية لنظرية الصميبي ورفاقو‪ ،‬واآلف‬
‫نحف بحاجة الى التعرؼ عمى أبعاد المقولة الثانية في سياؽ اختبار البناء المنطقي لمنظرية‬
‫ومدى تماسكيا وقدرتيا عمى مواجية التساؤالت التي بوسعنا طرحيا إزاء ما تعنيو وما تدؿ عميو‪،‬‬
‫وما ىو باألصؿ ىدفيا الذي تؤدي إليو‪ .‬فإذا كاف سؤالنا في الفصؿ السابؽ عف جذور نظرية‬
‫جغرافية التوراة التي تبناىا بعض الباحثيف العرب‪ ،‬فإف سؤالنا في ىذا الفصؿ سوؼ يتجو الى‬
‫البحث عف اليدؼ الحقيقي مف ىذه النظرية‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫)‪(1‬‬

‫تناقضاث ثالثت وتساؤالث شائكت‬

‫تشير المقولة الثانية مف مقوالت نظرية جغرافية التوراة لمباحثيف العرب الى االستدالؿ‬
‫الرئيسي مف نتائج عمـ اآلثار‪ ،‬والذي عبر عنو مؤسس النظرية األستاذ "كماؿ الصميبي"‪ ،‬بقولو‪:‬‬

‫"والحقيقة الساطعة ىي أف األراضي الشمالية لمشرؽ األدنى قد مسحت وحفرت مف‬


‫قبؿ أجياؿ متوالية مف عمماء اآلثار‪ ،‬مف أقصاىا الى أقصاىا‪ ،‬وأف بقايا العديد مف‬
‫الحضارات المنسية قد نبشت مف تحت األرض ودرست وأرخت‪ ،‬في حيف أنو لـ يعثر في‬
‫أي مكاف كاف عمى أثر واحد يمكنو أف يصنؼ جدياً عمى أنو يتعمؽ مباشرة الى أي حد‬
‫بالتاريخ التوراتي"[‪.]1‬‬

‫عمى نفس االتجاه‪ ،‬يتبنى الباحث المبناني "زياد منى"‪ ،‬مقولة أستاذه‪ ،‬ويمعف في تبييف‬
‫حيثياتيا والنطاؽ الذي يمكف أف يرد فيو مثؿ ىذا االستدالؿ‪ ،‬السيما مف الناحية التي يمكف‬
‫النظر منيا الى جيود عمماء التوراة في نقد النص التوراتي‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫"لقد تناوؿ الكثير مف العمماء وفي مقدمتيـ رجاؿ ديف مسيحيوف ورعوف‪ ،‬محتويات‬
‫كتبيـ المقدسة بالنقد‪ ،‬وضمف إطار تيذيب "نقد العيد القديـ"‪ .‬ومف ذلؾ جغرافيتيا‬
‫وتاريخيتيا‪ ،‬كما أنيـ طرحوا العديد مف اآلراء المثيرة بشأف األصوؿ األولية لديانة بني‬
‫اسرائيؿ‪ ..‬لكف المسألة المركزية لكتاباتيـ ىي االنطالؽ مف بدييية صحة النظرة الجغرافية‬
‫التقميدية‪ .‬ىذه المنيجية جعمت الكثير مف العمماء في حيرة مف أمرىـ‪ ،‬ألنو بعد أكثر مف‬
‫قرف مف التنقيب األثري المبرمج الذي قمب أرض فمسطيف رأساً عمى عقب‪ ،‬لـ يعثر‬
‫عمى أي لقى أثرية ثابتة تدعـ آرائيـ"[‪.]2‬‬

‫[‪ .]1‬كماؿ الصميبي‪ :‬التوراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.51 – 55‬‬
‫[‪ .]2‬زياد منى‪ :‬جغرافية التوراة‪ :‬مصر وبنو اسرائيؿ في عسير‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪41‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫نفس التصريح‪ ،‬نجده لدى الباحث السوري األستاذ "أحمد داوود"‪ ،‬عندما قاؿ‪:‬‬

‫"أما مف حيث المكتشفات اآلثارية‪ ،‬فقد أجمعت كؿ الجيات اآلثارية العربية‬


‫واألجنبية أف أحداث التوراة ال وجود ليا آثارياً سواءً في فمسطيف أو في خارجيا"[‪.]1‬‬

‫كذلؾ‪ ،‬الباحث اليمني "فضؿ الجثاـ" الذي يأتي تصريحو مؤيداً بقوؿ لمصميبي‪:‬‬

‫" ىكذا‪ ،‬فنتائج الكشوؼ اآلثارية أتت بثمرات مرة ال تؤيد الجغرافيا التاريخية لمتوراة‪.‬‬
‫ورغـ الجيود المكثفة والمضنية مف قبؿ عمماء اآلثار في مصر وبالد الشاـ والعراؽ‪ ،‬فإنو‬
‫كما يقوؿ الصميبي‪ :‬لـ يعثر إطالقاً عمى آثار ألصوؿ العبراف في العراؽ وال ىجرتيـ‬
‫المفترضة الى فمسطيف عبر شماؿ الشاـ ػو مسألة األسر في مصر والخروج منيا"[‪.]2‬‬

‫وأيضاً في التصريح اليتيـ الذي أدلى بو الباحث المصري األستاذ "أحمد عيد"‪:‬‬

‫"لقد كشفت دراسات طومسوف عمى أف جميع قصص التوراة تقريباً مف صنع الخياؿ‬
‫وأنيا كتبت في القرف الخامس قبؿ الميالد‪ ،‬بعد مرور (‪ )1555‬سنة مف وقوع األحداث‬
‫التي تروييا‪ ،‬ولـ يتـ العثور عمى أي أثر لقياـ مممكة اسرائيؿ في القرف العاشر قبؿ‬
‫الميالد أو عمى وجود مستوطنات سكنية في القدس والضفة الغربية التي يصر‬
‫اإلسرائيميوف عمى تسميتيا ييوذا والسامرة"[‪."]3‬‬

‫نفس الفكرة والمقولة نجدىا لدى الباحث الفمسطيني األستاذ "أحمد الدبش"‪:‬‬

‫"إف األبحاث األثرية التي مسحت وادي النيؿ‪ ،‬منذ عشرات السنيف‪ ،‬وحتى اآلف لـ‬
‫تعثر عمى أقؿ دليؿ يؤكد األحداث التوراتية"[‪.]4‬‬

‫[‪ .]1‬أحمد داوود‪ :‬العرب والساميوف والعبرانيوف وبنو إسرائيؿ والييود‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫[‪ .]2‬فضؿ الجثاـ اليافعي‪ :‬الحضور اليماني في تاريخ الشرؽ األدنى‪ -‬سبر في التاريخ القديـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص ‪.46 -45‬‬
‫[‪ .]3‬أحمد عيد‪ :‬جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.12 -11‬‬
‫[‪ .]4‬أحمد الدبش‪ :‬موسى وفرعوف في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪42‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫وفي كتاب آخر لمدبش‪ ،‬نجد أيضاً قولو‪:‬‬

‫"وانطالقاً مف حقيقة غياب أي لقى آثارية واضحة تحسـ بأف فمسطيف احتضنت‬
‫تجربة بني اسرائيؿ‪ ،‬فقد رأينا أف حركة التاريخ التوراتي ال تنسجـ مع جغرافية المنطقة مف‬
‫العراؽ الى الشاـ والى مصر‪ ،‬وأف الخطاب الكتابي لفؽ جغرافية التوراة‪ ،‬وبالتالي فإف‬
‫موجز أطروحتي في موضوع جغرافية التوراة ىو أف مسرحيا كاف في اليمف ومحيطو"[‪.]1‬‬

‫لقد كاف ىذا االستدالؿ‪ ،‬أساساً لكؿ االفتراضات التي تبناىا رواد النظرية‪ ،‬وتعامموا مع ما‬
‫تؤدي إليو مف استنتاجات عمى نحو جازـ باعتبارىا ىي الحقيقة التي خضعت دوماً لعمميات‬
‫التغييب والتزييؼ‪ ،‬وعمى الرغـ مف أف عمـ التاريخ برمتو يظؿ بعيداً عف دائرة اعتباره مجاؿ‬
‫حقائؽ‪ ،‬بقدر ما ىو في جوىره وأساسو حقؿ نظريات ومقوالت وآراء متعددة ومتباينة‪ .‬فميما يكف‬
‫مف قوة االستدالالت التي نمتمكيا إزاء مسألة ما‪ ،‬فيناؾ أيضاً آراء أخرى مغايرة تجاه نفس‬
‫المسألة وليا مف األدلة والحجج ما تستند إليو‪ ،‬وبالتالي فال مجاؿ لمجزـ بأي نتائج أو آراء في‬
‫مجاؿ الدراسات التاريخية‪ ،‬وال مجاؿ اطالقاً العتبار نتائج معينة بأنيا حقائؽ‪ ،‬وىذا في‬
‫المحصمة النيائية ي ّعد واحداً مف أىـ المبادئ المنيجية في عمـ التاريخ‪.‬‬

‫ومع ذلؾ‪ ،‬نجد أف أكثر ما يمفت انتباه القارئ في معظـ كتب ومؤلفات رواد نظرية‬
‫جغرافية التوراة في الجزيرة العربية واليمف‪ ،‬ىي تمؾ العبارات الجازمة والقاطعة‪ ،‬التي تقابمنا‪.‬‬
‫فعمى سبيؿ المثاؿ ال الحصر‪ ،‬فإننا نجد ىذه العبارات الجازمة في أوؿ سطر مف كؿ كتاب‬
‫لممفكر العربي "فاضؿ الربيعي"‪ ،‬ىكذا‪:‬‬

‫"لـ يحدث السبي البابمي لمييود في فمسطيف‪ ،‬كما أف المصرييف واألشورييف لـ‬
‫يشتبكوا فوؽ أرضيا قط‪ ،‬وسفف سميماف لـ تمخر عباب المتوسط‪ ،‬ولـ ترس في أي وقت‬
‫مف األوقات في موانئ صور المبنانية"[‪.]2‬‬

‫[‪ .]1‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫[‪ .]2‬فاضؿ الربيعي‪ :‬فمسطيف المتخيمة‪ ،‬المجمد (‪ ،)1‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪43‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫"لـ يحدث السبي البابمي في فمسطيف قط‪ ،‬ولـ تعرؼ أرضيا وال تاريخيا مثؿ ىذا‬
‫الحدث (الضخـ)‪ .‬وكؿ ما كتب عف ىذا الحدث في المؤلفات التاريخية األجنبية والعربية‪،‬‬
‫بوصفو واقعة جرت فوؽ أرض فمسطيف‪ ،‬وضمف تاريخيا القديـ‪ ،‬ىو مف تمفيؽ القراءة‬
‫االستشراقية لمتوراة‪ ،‬ويتكشؼ عف كونو تزييفاً وتالعباً متعمديف بالتاريخ الحقيقي‬
‫لفمسطيف"[‪ ،]1‬إذ ال يوجد أي دليؿ ميما كاف بسيطاً‪ -‬أو يممح مجرد تمميح‪ -‬الى أنو وقع‬
‫ىناؾ‪ ،‬أو أف الييود وحدىـ كانوا ضحاياه‪ ،‬وىذا ما يثيره الكتاب ويجادؿ فيو"[‪.]2‬‬

‫أرى أنو مف المناسب أف أعيد سرد النظرية بالطريقة التي بنيت بيا مف قبؿ روادىا‪،‬‬
‫وعبرت عنيا مقوالتيـ الرئيسية الثالث‪ ،‬كاآلتي‪:‬‬

‫بدأ األمر حينما قاـ كتبة التوراة أو مفسروىا أو أشخاصاً ما في زمف ما غير‬
‫معموـ بالضبط‪ ،‬وعمى نحو مفاجئ وألسباب غامضة أو ربما معمومة‪ ،‬بعممية تزوير‬
‫وتحريؼ لحقيقة جغرافية التوراة‪ ،‬مف خالؿ التالعب بأسماء األماكف التي وقعت فييا‬
‫أحداثيا واسقاطيا مف بعد عمى جغرافية فمسطيف‪ ،‬أو ربما أنو وعمى مدى قروف طويمة‬
‫جرى تغيير أسماء المناطؽ في فمسطيف لتكوف مطابقة لما ىو في التوراة‪ .‬ثـ جاء عمـ‬
‫اآلثار وأثبت زيؼ االدعاءات التوراتية‪ ،‬وبأف ال آثار تدؿ عمى أف فمسطيف ىي مسرح‬
‫تمؾ األحداث التوراتية‪ .‬ومف بعد جاءت الصدفة العجيبة فكشفت عف ذلؾ التشابو‬
‫المدىش بيف أسماء المواقع الجغرافية في التوراة وأسماء المواقع في بعض المناطؽ‬
‫في عسير وغامد غرب الجزيرة العربية‪ ،‬وفي اليمف‪.‬‬

‫وبناءً عمى ذلؾ كمو‪ ،‬فإف الخمؿ أو التزوير الذي وقع‪ ،‬قد وقع عمى النص‬
‫التوراتي مف خالؿ تحريؼ حقيقة مسرحو الجغرافي‪ ،‬وعمى الخريطة الفمسطينية مف‬
‫خالؿ تغيير أسماء مناطقيا‪ ،‬وىذا ىو سبب كؿ تمؾ التناقضات التي حيرت المؤرخيف‬

‫[‪ .]1‬لـ يعنى فاضؿ الربيعي أو أي مف رواد نظريتو بأي تاريخ حقيقي لفمسطيف‪ ،‬وال نجد في كؿ أعماليـ أي‬
‫شيء عف ىذا التاريخ الحقيقي الذي يدافعوف عنو ويسعوف الى تحريره‪ ،‬فكؿ ما تقدمو كتبيـ ليس إال تفريغاً‬
‫لفمسطيف مف التاريخ‪ ..‬سنناقش ىذه المسألة الحقاً‪.‬‬
‫[‪ .]2‬فاضؿ الربيعي‪ :‬حقيقة السبي البابمي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪44‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫والمستشرقيف وعمماء اآلثار‪ ،‬ألنيـ كانوا يبحثوف عف تاريخ أحداث وقعت بالفعؿ‪ ،‬ولكف‬
‫في المكاف الخطأ‪.‬‬

‫وىذا ما تعنيو بالضبط أقواليـ بأف النظرية تقوـ عمى التسميـ بصحة الرواية التوراتية‬
‫كتاريخ ونقضيا كجغرافيا‪ ،‬والتي سنناقشيا في نياية الفصؿ‪.‬‬

‫في الحقيقة أف بناء النظرية بيذا الشكؿ تعتريو العديد مف التناقضات‪ ،‬وبياف تناقضاتيا‬
‫كفيؿ بأف يظير لنا مدى اختالؿ أسسيا المنطقية‪ .‬وبدوف إسياب في ىذا الشأف يمكنني إبراز‬
‫ثالثة مف ىذه التناقضات‪ ،‬والتي مف المؤكد أف إدراكيا يساعد عمى إعادة النظر في امكانية‬
‫بناء موقؼ آخر لدى المتحمسيف لمنظرية والمدافعيف عنيا‪ ،‬سواء كانوا مف روادىا المساىميف‬
‫فييا أو مف القراء والميتميف بيا‪.‬‬

‫لنتعرؼ بشكؿ سريع وموجز عمى ىذه التناقضات الثالثة‪ ،‬ولننطمؽ مف بعد في استكشاؼ‬
‫األىداؼ الخفية مف وراء اقامة ىذه النظرية والحشد ليا‪.‬‬

‫انتناقض األول‪:‬‬

‫لو أمعنا النظر في المقولتيف األولى والثانية‪ ،‬والمتاف تعبراف عف وجية نظر رواد النظرية‪،‬‬
‫فسنجد أنيما متناقضتاف ومتصادمتاف بشكؿ كمي‪ ،‬فالمقولة الثانية بشأف نتائج الكشوفات األثرية‬
‫التي صرح بيا عمماء اآلثار‪ ،‬تتناقض وتتصادـ مع المقولة األولى بشأف التزوير الذي جرى‬
‫لجعؿ نتائج االكتشافات األثرية في فمسطيف متطابقة مع الرواية التوراتية لمتاريخ‪ ،‬ألنو لو حدث‬
‫ىذا التزوير فعالً وأمكف تمريره دوف أف يكتشؼ أمره‪ ،‬لما اضطر عمماء اآلثار الى اإلقرار بأف‬
‫نتائج البحوث والمسوح األثرية تقوؿ بأف ال شيء عمى األرض يدؿ عمى حدوث ما تسرده‬
‫التوراة‪ ،‬بؿ لكاف ليـ تصريحاً آخر يعمنوف فيو عف العثور عمى أدلة أثرية‪ ،‬تؤكد بدورىا عمى أف‬
‫أحداث التاريخ التوراتي قد وقعت بالفعؿ كما ىي في النصوص التناخية والمقرائية‪ -‬أي نصوص‬
‫التوراة واألسفار األخرى التي تدور في فمؾ المعتقد الييودي‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫ىذا التناقض بيف المقولتيف يفضي الى القوؿ بأف إحداىما ال أساس ليا مف الصحة أو‬
‫ربما كالىما‪ ،‬ألف قياميما معاً غير ممكف إطالقاً‪ ،‬فكؿ منيما تنقض األخرى وتنسفيا تماماً‪.‬‬
‫فكيؼ نتيـ عمماء اآلثار بالتزوير في حيف أنيـ يعترفوف لنا بوضوح أف ال شيء توصموا إليو‬
‫أساساً ليزوروه؟!‪ -‬مع التنويو لمقارئ العزيز بضرورة االنتباه الى إننا ىنا إنما نختبر مقوالت‬
‫وافتراضات نظرية جغرافية التوراة كما صاغيا روادىا مف الباحثيف العرب‪.‬‬

‫السؤاؿ األصعب مف ذلؾ‪ ،‬ىو كيؼ لـ يتنبو ىؤالء الباحثيف ليذا التناقض بيف أىـ‬
‫المقوالت الرئيسية التي أقاموا عمييا نظريتيـ؟!‬

‫أحد أف تؤدي جيودىـ الى تثبيت قواعد ىذه النظرية بإثبات صحة ىذيف‬
‫ثـ كيؼ يتوقع ٌ‬
‫الفرضيف معاً‪ ،‬طالما وأف ىذا مف الناحية المنطقية يكاد يكوف أم اًر مستحيالً‪.‬‬

‫انتناقض انثاني‪:‬‬

‫ثمة تناقض آخر وقع فيو رواد ىذه النظرية‪ ،‬عندما أكدوا عمى أف جيودىـ مف خالؿ ىذه‬
‫النظرية تصب في اتجاه تصحيح التاريخ العربي‪ ،‬وتحريره مف زيؼ التاريخ االستشراقي الغربي‬
‫الذي يخدـ الييود والغرب‪ ،‬مف خالؿ إثبات زيؼ وتمفيقات االدعاءات الصييونية القائمة عمى‬
‫الرواية التوراتية‪ .‬فمو وضعنا ىذا اليدؼ في مقابؿ مقولتيـ بأف البحوث والتنقيبات األثرية عمى‬
‫مدى أكثر مف قرف مف الزماف تـ فييا تمشيط المنطقة الواقعة بيف نيري النيؿ والفرات في سبيؿ‬
‫إيجاد أدلة أثرية مادية تؤيد الرواية التوراتية واالدعاءات الصييونية‪ ،‬أثبتت أف ال شيء عمى‬
‫األرض‪ ،‬فسوؼ نجد أف ىذا اليدؼ متحقؽ أصالً بما أثبتو عمـ اآلثار‪ ،‬ومف ثـ فإف ىذه الفكرة‬
‫برمتيا وعمى ىذا النحو الذي بنيت عميو يعترضيا سؤاؿ استنكاري‪ ،‬غايتو التمحيص فيما إذا‬
‫كانت ىذه النظرية وكؿ الجيود التي بذلت مف قبؿ روادىا تقؼ عند حدود تحقيؽ اليدؼ المعمف‬
‫عنو‪ ،‬والمتحقؽ سمفاً‪ ،‬أـ أنيا تتجاوزه صوب ىدؼ آخر‪.‬‬

‫لكي تتضح فكرة ىذا التناقض‪ ،‬البد مف صياغة ذلؾ السؤاؿ االستنكاري عمى النحو‬
‫اآلتي‪:‬‬

‫‪46‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫إذا كانت نتائج الكشوفات والمسوح األثرية في فمسطيف وحوالييا‪ ،‬قد أفحمت التاريخ‬
‫التوراتي وأثبتت أنو لـ يتـ العثور عمى أدنى دليؿ يثبت أف شيئاً مف أحداثو قد حدث فعالً‪،‬‬
‫فما الداعي الى اثبات صحة الرواية التوراتية بإسقاطيا عمى منطقة أخرى‪ -‬أياً كانت ىذه‬
‫المنطقة األخرى؟!‬

‫إنو سؤاؿ عف اليدؼ مف المضي قدماً واالستماتة في الدفاع عف ىذه النظرية وتدعيميا‬
‫بشكؿ مكثؼ ومستمر‪ ،‬بالرغـ مف أف عمـ اآلثار قد تكفؿ بالميمة وأثبت بمغة العمـ زيؼ‬
‫االدعاءات الصييونية القائمة عمى مرويات التوراة‪ ،‬وبالتالي فإف تحقيؽ ىذا اليدؼ ال يحتاج‬
‫الى جيود إضافية ألنو ىدؼ متحقؽ فعالً‪ .‬لذا نحف مضطروف لمبحث عف جواب ليذا التساؤؿ‬
‫البالغ األىمية‪ ،‬ومف يدري‪ ،‬لعؿ اإلجابة عنو تكشؼ عف أبعاد أخرى لـ يشأ أياً مف رواد النظرية‬
‫أف يخبرنا عنيا‪ ،‬أو ربما أنيـ تعمدوا اخفائيا عنا‪.‬‬

‫سبؽ وأف طرحت ىذا السؤاؿ عمى بعض رواد النظرية بشكؿ مباشر‪ ،‬والحظت مف خالؿ‬
‫اء إزاء ما يعنيو‬
‫ردة فعؿ مف طرحتو عمييـ أنو لـ يكف في حسبانيـ أبداً سؤاؿ مف ىذا النوع سو ً‬
‫بالضبط أو ما يقود إليو‪ .‬فقد امتنع البعض منيـ عف اإلجابة‪ ،‬بؿ ورفض بشكؿ نيائي مناقشة‬
‫قدـ البعض اآلخر تفسيرات أقؿ ما يمكف وصفيا بو ىو أنيا "سطحية"‪!..‬‬
‫األمر‪ ،‬فيما ّ‬

‫لموصوؿ الى إجابة عمى ىذا السؤاؿ‪ ،‬البد مف الوقوؼ عند المقولة الرئيسية الثانية نفسيا‪،‬‬
‫بحيث تتجو وقفتنا المطموبة نحو تقصي حقيقة أمريف اثنيف‪:‬‬

‫األمر األوؿ‪ :‬الداللة الكمية لممقولة وكشؼ المضمر والمسكوت عنو فييا‪.‬‬

‫األمر الثاني‪ :‬التحقؽ مف مدى صحة ودقة المقولة في التعبير عف الواقع الفعمي‪.‬‬

‫انتناقض انثانث‪:‬‬

‫باإلضافة الى ما تقدـ‪ ،‬فإننا نممح تناقضاً ثالثاً في التكويف األساسي ليذه النظرية‪ ،‬يتعمؽ‬
‫بانعداـ الدليؿ األثري المادي في فمسطيف عمى وقوع األحداث التوراتية فييا‪ ،‬والذي جرى التعامؿ‬
‫معو باعتباره مسوغاً جوىرياً لمقوؿ بأف أحداث التوراة جرت في مسرح جغرافي آخر‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫في الحقيقة‪ ،‬أف ىذا الفرض مما كاف يمكف القبوؿ بو لو أنو طرح بدوف تحديد مكاف بعينو‬
‫باعتباره المسرح الحقيقي لمقصص التوراتية عمى األقؿ في ظؿ غياب الدليؿ األثري‪ ،‬لكف‬
‫المشكمة تكمف في أف رواد النظرية قاموا بتعييف األماكف التي يعتقدوف أنيا ىي مسرح أحداث‬
‫التوراة وجغرافيتيا‪ -‬اليمف وجزيرة العرب بدوف أف يكوف لدييـ أي أدلة أثرية‪.‬‬

‫بصيغة أوضح‪ ،‬فالتناقض الذي أشير إليو ىنا ناتج عف أف مسوغ تعييف المناطؽ الجديدة‬
‫لجغرافية التوراة ىو تشابو األسماء‪ ،‬وىذا يدعوا الى التساؤؿ‪ ،‬بشأف الى أي مدى يمكف أف تحؿ‬
‫التشابيات المفظية بيف األسماء محؿ الدليؿ األثري المادي‪ ،‬وعما إذا كاف غياب األدلة األثرية‬
‫عمى وقوع أحداث التوراة في فمسطيف‪ ،‬يمزـ بأف يكوف نقؿ أحداث التوراة الى اليمف وجزيرة‬
‫العرب قائماً عمى وجود أدلة أثرية مادية أـ ال؟!‪ -‬ألف تشابو األسماء ال يعد وال يمكف التعامؿ‬
‫معو عمى أنو دليؿ بحد ذاتو‪ ،‬وال يمكف اعتباره أيضاً مف القرائف األثرية أو مما يقع في نطاؽ‬
‫عمـ اآلثار‪ .‬فيو عمى كؿ حاؿ مجرد قرينة قائمة عمى التماثؿ والتشابو بيف ألفاظ ومسميات‪،‬‬
‫أثبت جميع رواد النظرية أنو يمكف أف يقع عمى أكثر مف نحو‪ ،‬وأف نمتمسو في أكثر مف نطاؽ‬
‫عينيا كؿ منيـ كمسرح لتمؾ األحداث التوراتية‪.‬‬
‫جغرافي‪ ،‬بدليؿ تعدد األماكف التي ّ‬

‫يمكف التعبير عف ىذا التناقض بتوجيو سؤاؿ لرواد النظرية‪ ،‬كاآلتي‪:‬‬

‫كيؼ تنقموف جغرافية التوراة مف فمسطيف بسبب انعداـ الدليؿ األثري‪ ،‬وفي الوقت نفسو‬
‫تسقطوف أحداثيا عمى مكاف آخر دوف أف يكوف لديكـ ذلؾ الدليؿ األثري؟!‬

‫كاف الباحث السوري "فراس السواح" – وىو مف أوائؿ مف قدموا جيوداً مميزة ومثمرة في‬
‫نقد ىذه النظرية‪ ،‬والكشؼ عف سوءاتيا‪ -‬قد أكد عمى ىذه المشكمة‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫" والتسميـ بتاريخية التوراة عند الصميبي‪ ،‬ىو نتيجة منطقية لنقمو جغرافيتيا ومسرح‬
‫أحداثيا الى غرب العربية‪ ،‬حيث نفتقد الى أي محؾ موضوعي يمكف اختبار روايات‬

‫‪48‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫التوراة إزاءه‪ ،‬فالمنطقة لـ تستكشؼ آثارياً حتى اآلف‪ ،‬ولـ يأتنا عنيا بنبأ واضح أي شعب‬
‫مف شعوب الشرؽ القديـ"[‪.]1‬‬

‫خالصة األمر‪ ،‬نحف بحاجة الى التعرؼ عمى األسباب والدوافع الحقيقية الكامنة وراء ىذا‬
‫التعمؽ الشديد‪ -‬الى درجة اليوس‪ -‬بتحويؿ مالحظة ناتجة عف الصدفة‪ ،‬الى نظرية مف شأنيا‬
‫أف تقمب كؿ مفاىيمنا ومعارفنا التاريخية والجغرافية رأساً عمى عقب‪ -‬كما أخبرنا بذلؾ رائد‬
‫النظرية األوؿ كماؿ الصميبي‪.‬‬

‫ترى‪ ،‬ما الذي حدث واستجد ودعا الى البحث بشكؿ مباشر في جغرافية التوراة‪ ،‬ومف ثـ‬
‫الخروج بنظرية جديدة تقوؿ لنا بأف جغرافية أحداث التوراة الحقيقية لـ تكف يوماً في فمسطيف‬
‫وحوالييا بؿ كانت في جزيرة العرب؟!‬

‫إنو سؤاؿ عف الموقؼ الذي كاف قائماً بيف عمماء اآلثار التوراتييف ونتائج الكشوفات‬
‫األثرية في منتصؼ ثمانينيات القرف الماضي‪ ،‬وىو يدفعنا الى دراسة وتحميؿ السياؽ الذي ولدت‬
‫فيو ىذه النظرية‪ ،‬والتعرؼ عمى مالمح الخمفية التي كانت قائمة عندما قاـ الدكتور كماؿ‬
‫الصميبي في منتصؼ ثمانينيات القرف العشريف بتكوينيا‪ ،‬وىو الوقت الذي يفترض أف عمماء‬
‫اآلثار كانوا قد وصموا فيو الى حقائؽ بشأف وقوع أحداث التوراة في فمسطيف أو غيرىا‪.‬‬

‫إف ىدفي مف دراسة موقؼ التوراة في تمؾ الفترة‪ ،‬ىو التحقؽ مف كوف نظرية الصميبي قد‬
‫ولدت في السياؽ الذي توفرت فيو األسباب الوجيية الستخداـ ىذه النظرية في فضح االدعاءات‬
‫الصييونية التوراتية بشأف فمسطيف‪ ،‬أـ أف والدتيا كانت في سياؽ مختمؼ استدعى أف تتجو‬
‫النظرية نحو تحقيؽ ىدؼ آخر‪ ،‬وما عساه يكوف ذلؾ اليدؼ بالضبط؟!‬

‫[‪ .]1‬فراس السواح‪ :‬الحدث التوراتي والشرؽ األدنى القديـ‪ :‬ىؿ جاءت التوراة مف جزيرة العرب‪ -‬نظرية كماؿ‬
‫الصميبي في ميزاف النقد والحقائؽ العممية‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬دار عالء الديف‪ ،‬دمشؽ‪ .1997 ،‬ص ‪.194 -193‬‬
‫‪49‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫)‪(2‬‬

‫عهم اآلثار يقىل‪ :‬ال مصداقيت نهتىراة‬

‫ىيمف التاريخ التوراتي عمى العقمية العممية في أوروبا منذ قروف عديدة‪ ،‬فكاف ىو األساس‬
‫المرجعي األوؿ الذي يؤسس ألي فيـ لمسار تاريخ المنطقة لدى المؤرخيف والمستشرقيف في‬
‫الغرب‪ ،‬وىو الفيـ الذي جعؿ مف فكرة اسرائيؿ التاريخية – وفؽ القصة التي تسردىا التوراة‪-‬‬
‫مرك اًز لمدائرة كميا‪ ،‬وكؿ أحداث ووقائع التاريخ البد وأف تدور حوؿ ىذا المركز‪ ،‬وكاف أساس ىذه‬
‫الييمنة ناتجاً عف اليالة التي أحيطت بيا التوراة بمنحيا صفة المصداقية المطمقة‪ ،‬ليس‬
‫باعتبارىا نصاً دينياً يعتقد مف يؤمنوف بو بأنيا جاءت وحياً مف عند اهلل فحسب‪ ،‬بؿ وباعتبارىا‬
‫مف أىـ الوثائؽ التاريخية وأقدميا ط اًر عمى كؿ حاؿ‪.‬‬

‫لقد جرى التعامؿ مع النص التوراتي مف الناحية التاريخية‪ ،‬عمى نحو يصدؽ معو كثي اًر‬
‫قوؿ كماؿ الصميبي‪:‬‬

‫"يبدو أف بني اسرائيؿ كانوا وحدىـ المالكيف إلحساس مرىؼ بالتاريخ‪ .‬أو ىـ عمى‬
‫األقؿ الوحيدوف الذي فيموا أنفسيـ تاريخياً وعبروا عف ذلؾ بطريقة واضحة منسجمة‬
‫مكتممة‪ .‬وتقدـ كتبيـ المقدسة رسماً ذاتياً حياً ومفصالً‪ ،‬وىو رسـ فريد مف نوعو بالنسبة‬
‫الى عصره"[‪.]1‬‬

‫ثـ قامت الحركة الصييونية‪ ،‬وسعت مباشرة الى تأسيس ذلؾ الفيـ االستشراقي الذي تكوف‬
‫في العصر االمبريالي‪ ،‬وترسخ في القناعات الغربية إزاء ما يمكف أف يكوف عميو التاريخ بالنسبة‬
‫الى ما ورد في التوراة‪.‬‬

‫[‪ .]1‬كماؿ الصميبي‪ :‬التوراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪50‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫"فعندما قامت الحركة الصييونية في نياية القرف التاسع عشر‪ ،‬طرح مشروع العودة‬
‫الى أرض الميعاد (فمسطيف) إلقامة دولة ييودية عمييا عمى أساس المرويات التوراتية‬
‫نفسيا‪ ،‬األمر الذي وافؽ االتجاه السائد آنذاؾ والذي فرض حتى عمى الباحثيف العرب‪،‬‬
‫حيث كاف يعرض تاريخ فمسطيف القديـ في إطار مف االلتزاـ بما ىو وارد في أسفار العيد‬
‫القديـ وفقاً لمترتيب التاريخي الذي دوف في ىذه األسفار‪ ،‬باعتبار أف االلتزاـ بيذا ىو جزء‬
‫مف االيماف بكامؿ ما ورد في الكتاب المقدس الذي ال يجوز إعماؿ التمحيص أو التأمؿ‬
‫أو المراجعة‪ ،‬لما ورد فيو"[‪.]1‬‬

‫في نفس الوقت‪ ،‬شيد مطمع القرف التاسع عشر ظيور تيار يتبنى اتجاىاً نقدياً إزاء‬
‫النصوص الكتابية‪ -‬نصوص الكتاب المقدس‪ -‬يرمي الى نزع صبغة الصحة والمصداقية‬
‫المطمقة عنيا‪ ،‬واخضاعيا لمنقد المنيجي العممي‪ ،‬ومف ثـ الحكـ عمييا حكماً يقوـ أساساً عمى‬
‫العمـ ال عمى الظف فحسب‪ ،‬وقد ساىمت المناىج النقدية مع بعض العموـ االنسانية األخرى في‬
‫إعطاء أحكاـ ىذا التيار عمى التوراة طابعاً كبي اًر مف الصحة العممية‪ ،‬وأبرزىا عمـ التاريخ وفقو‬
‫المغة المقارف (الفيمولوجيا) وعمـ اآلثار (األركيولوجيا)‪ ،‬وأيضاً عمـ المغات القديمة[‪ -]2‬وىو التيار‬
‫أو االتجاه الذي عرؼ بتيار "النقد التوراتي أو تيار "نقد التوراة"‪.‬‬

‫في تمؾ األثناء ولعدة عقود أخرى الحقة‪ ،‬كاف عمـ اآلثار في قبضة اتجاه أحادي مف‬
‫المستشرقيف وعمماء التاريخ واآلثار‪ ،‬الذيف سعوا بشكؿ مباشر الى إخضاع نتائج البحوث‬
‫والمسوح األثرية في المنطقة العربية وتكييفيا لتكوف بمثابة أدلة عممية عمى مصداقية التوراة‪،‬‬
‫وىو ما دفعيـ الى التعسؼ كثي اًر لصالح الراوية التوراتية‪ ،‬وتزييؼ نتائج البحوث العممية‬
‫واألثرية‪ ،‬إال أف تمؾ المساعي والجيود التي بذلت فييا سرعاف ما أثارت مشكالت جمة فيما‬

‫[‪ .]1‬ابراىاـ مالمات‪ ،‬حييـ تدمور‪ :‬العبرانيوف وبنو إسرائيؿ في العصور القديمة بيف الرواية التوراتية‬
‫واالكتشافات األثرية‪ ،‬ترجمة وتقديـ‪ :‬رشاد عبد اهلل الشامي‪ ،‬سمسمة الييود واسرائيؿ‪ -‬الجزء (‪ ،)2‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫المكتب المصري لتوزيع المطبوعات ‪ ،‬القاىرة‪ .2551 ،‬مقدمة المترجـ ص ‪.23‬‬
‫[‪ .]2‬يوسؼ الكالـ‪ :‬تاريخ وعقائد الكتاب المقدس بيف اشكالية التقنيف والتقديس‪ -‬دراسة في التاريخ النقدي‬
‫لمكتاب المقدس في الغرب المسيحي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬صفحات لمدراسات والنشر‪ ،‬دمشؽ‪ .2559 ،‬ص ‪.29‬‬
‫‪51‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫بعد‪ ،‬والتي برزت نتيجة لمتناقضات الشديدة التي بدت مكشوفة ومف الصعب القبوؿ بيا‪ .‬فظير‬
‫اتجاه آخر مف عمماء اآلثار التوراتييف سعى الى التوفيؽ بيف الرواية التوراتية مف جية‬
‫والكشوفات األثرية مف جية أخرى‪ ،‬وىو االتجاه الذي خفؼ قميالً مف حدة الممارسات التعسفية‬
‫التي قاـ بيا التيار السابؽ‪.‬‬

‫"فقد أدى تراكـ المعطيات األركيولوجية (األثرية) والتزايد الكبير في االكتشافات‬


‫اليامة في الشرؽ األدنى القديـ‪ ،‬إضافة الى البحث النقدي المتراكـ‪ ،‬الى تحوؿ العنصر‬
‫التاريخي في الدراسات التوراتية‪ .‬فبعد أف كاف االعتماد كمياً عمى المرويات التوراتية‪ ،‬بدأ‬
‫النقد يطاؿ البنية الداخمية ليذه المرويات‪ ،‬وحاوؿ البعض التوفيؽ بيف المرويات التوراتية‬
‫ىذه وبيف المكتشفات األثرية"[‪.]1‬‬

‫إال أنو ولمرة أخرى بعد عدة عقود‪ ،‬وبالتحديد منذ مطمع النصؼ الثاني مف القرف العشريف‬
‫بدأت تظير تناقضات أخرى ال يمكف معالجتيا‪ ،‬بؿ ويستحيؿ معيا أي توفيؽ بيف الرواية‬
‫التوراتية مف جية‪ ،‬والحقائؽ األثرية مف جية أخرى‪ .‬وىو ما أدى الى ظيور ما يسمى ب ػ‬
‫"المشكمة التوراتية"‪ ،‬أي استعصاء ىذا التوفيؽ كمما تقدمت التقنيات األثرية وتزايدت اليوة‬
‫الواسعة بيف تاريخ فمسطيف المستمد مف آثارىا والتاريخ التوراتي"[‪.]2‬‬

‫برزت المشكمة التوراتية وتطورت‪ ،‬نتيجة لمجيود الكبيرة التي بذليا تيار نقد التوراة‪.‬‬
‫فقد "ألقت تمؾ الدراسات النقدية ظالالً مف الشؾ العميؽ في إمكانية كتابة تاريخ لػ‬
‫"إسرائيؿ" استناداً إلى روايات التوراة‪ ،‬ووصؿ بعض المؤرخيف إلى حد التشكيؾ مف حيث‬
‫المبدأ‪ ،‬بإمكانية كتابة تاريخ مف ىذا النوع‪ .‬فالبحث عف تاريخ "إسرائيؿ" مازاؿ غامضاً كما‬
‫كاف دوماً‪ .‬وأي محاولة لمتوفيؽ بيف البينات التوراتية وغير التوراتية إثباتاً لتاريخانية‬

‫[‪ .]1‬يوسؼ كفروني‪ :‬التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي‪ :‬نقض تاريخانية التوراة‪ ،‬مف مقدمة كتاب‪ :‬توماس ؿ‪.‬‬
‫طومسوف‪ :‬التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي‪ ،‬ترجمة‪ :‬صالح عمى سوداح‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬بيساف لمنشر والتوزيع‪،‬‬
‫بيروت‪ .1995 ،‬ص (ب)‪.‬‬
‫[‪ .]2‬محمد األسعد‪ :‬مستشرقوف في عمـ اآلثار‪ :‬كيؼ ق أروا األلواح وكتبوا التاريخ‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار مسعى‪،‬‬
‫الدار العربية لمعموـ‪ -‬ناشروف‪ ،‬بيروت‪ .2515 ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪52‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫إسرائيؿ‪ ،‬سرعاف ما دخمت مرحمة االنييار‪ ،‬وىي األزمة التي ما زالت قائمة ومستمرة حتى‬
‫اليوـ""[‪.]1‬‬

‫ومع التقدـ في البحوث األثرية في فمسطيف وحوالييا طواؿ ستينيات وسبعينيات القرف‬
‫العشريف‪ ،‬تضاعفت النقمة الشديدة لدى نقاد التو ارة عمى الرواية التوراتية‪ ،‬وفي الوقت نفسو انقسـ‬
‫ىذا التيار الى اتجاىيف‪:‬‬

‫اال تجاه األوؿ‪ :‬ذىب أصحابو مف عمماء اآلثار االسرائيمييف والغربييف الى أف عمـ اآلثار‬
‫أدى الى تصحيح الكثير مف المغالطات والمبالغات التوراتية‪ ،‬مف حيث أثبتت األدلة األثرية‬
‫أحداثاً أو شخصيات ذكرت بالفعؿ في التوراة‪ ،‬ولكف ليس كما تصفو التوراة بؿ وفؽ سيناريوىات‬
‫مغايرة تماماً ليا‪ ،‬وبالتالي فقد احتفظ ىذا االتجاه بالتوراة كمصدر ضمف منيجية بحث ثالثية‬
‫المصادر تتصدرىا نتائج الكشوفات األثرية‪ ،‬ثـ السجالت التاريخية‪ ،‬ثـ النص التوراتي‪.‬‬

‫االتجاه الثاني‪ :‬تبنى أصحابو موقفاً بمغ مبمغاً شديداً مف التطرؼ إزاء أي قبوؿ بالنص‬
‫التوراتي كتاريخ‪ ،‬فرفضوا رفضاً قاطعاً أي ربط بيف التوراة ونتائج عمـ اآلثار‪ ،‬واعتبروا أف أي‬
‫شيء مف قبيؿ ىذا لف يكوف إال تحريفاً وتزوي اًر لمحقائؽ العممية‪ ،‬وأف ما جادت بو الكشوفات‬
‫األثرية ال ينبغي أف يفسر عمى أنو متصؿ مف قريب أو بعيد بما جاء في التوراة‪ ،‬حتى لو ظير‬
‫أف ىناؾ في التو ارة شيئاً مما أظيرتو تمؾ الكشوفات‪ ،‬إال أف ىذا االتجاه تـ تعطيمو‪.‬‬

‫الجدير بالذكر‪ ،‬أف االتجاه األخير ىو الذي سحر ألباب الباحثيف العرب‪ ،‬فانحازوا إليو‬
‫انحيا اًز تاماً‪ ،‬ورفضوا معو النظر الى بقية اآلراء النقدية التي تبناىا االتجاه األوؿ‪.‬‬

‫"عمى كؿ حاؿ‪ ،‬فإنو ويوماً بعد يوـ‪ ،‬صارت األبحاث والتقنيات األثرية الحديثة‬
‫تقوض الرواية الشعبية الشائعة عف "استعباد االسرائيمييف" في مصر‪ ،‬وخروجيـ الى‬
‫سيناء‪ ،‬ثـ التفافيـ حوؿ "فمسطيف" وغزوىا مف الشرؽ‪ ،‬وتحطيـ أسوار أريحا‪ ،‬وانشاء‬
‫مممكة مزدىرة‪ ،‬ثـ انقساـ ىذه المممكة واضمحالؿ شظاياىا بفعؿ الغزوات‪ ،‬آشورية وبابمية‬

‫[‪ .]1‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪53‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫وفرعونية‪ .‬والسبب ىو أنو بعد أف مسحت أرض فمسطيف وبقية أراضي الدوؿ المجاورة‬
‫طواؿ أكثر مف قرف وأبرزت الحضارات القديمة في ىذه المنطقة آثارىا ونصوصيا‬
‫تكوف لدى عمماء اآلثار "سيناريو" قائـ عمى أدلة ممموسة ال يتخممو حدث مف‬
‫وسجالتيا‪ّ ،‬‬
‫أحداث الروايات التوراتية‪ ،‬بؿ أف بعضيـ مضى الى القوؿ أف مممكة اسرائيؿ ليست إال‬
‫مممكة عمى الورؽ"[‪.]1‬‬

‫بغض النظر عف موقؼ الباحثيف العرب‪ ،‬فإف جميع اتجاىات وآراء تيار نقد التوراة مف‬
‫المستشرقيف وعمماء اآلثار الغربييف‪ -‬وأغمبيـ مف الييود‪ ،‬كانت ومازالت عمى إجماع عمى أف‬
‫نتائج عمـ اآلثار أثبتت مدى ما يتخمؿ الرواية التوراتية مف المبالغات والتيويؿ والتحريؼ‬
‫واألخطاء‪ ،‬التي يصعب معيا القبوؿ بالتوراة كمصدر لمتاريخ‪ ،‬بما يعني أف التوراة قد فقدت‬
‫مصداقيتيا المطمقة تمؾ‪ ،‬وأصبحت محط شكوؾ وارتياب الكثيريف بؿ وفي محؿ رفض البعض‬
‫منيـ تماماً‪ ،‬وبيذا اكتممت الطبيعة العامة ألزمة مصداقية التوراة أماـ الحقائؽ التي كشفيا عمـ‬
‫اآلثار‪.‬‬

‫"فبعد أف كانت الجيود في البداية متجية نحو فؾ خطوط تمؾ النصوص والتغمغؿ‬
‫داخميا‪ ،‬لعميا تجد خيطاً يعطي لرواية العيد القديـ (التوراة) المصداقية‪ ،‬جاءت نتائج ىذه‬
‫األبحاث فزادت مف أزمة الثقة وفقداف تمؾ المصداقية‪ ،‬مما حدا بكثير مف العمماء الى‬
‫اعتبار روايات العيد القديـ مجرد وثائؽ مقتبسة مف األدب التاريخي والتشريعي لحضارة‬
‫مصر وبابؿ وما خمفتو الشعوب السابقة‪ ،‬بؿ وجدنا مف النقاد مف نعتيا بالتوراة الكنعانية‪..‬‬
‫وىكذا أجيز عمـ اآلثار عمى تاريخ الحدث التوراتي‪ ،‬وفؾ ارتباطو باألرض المزعومة‬
‫داخؿ الروايات التوراتية"[‪.]2‬‬

‫[‪ .]1‬محمد األسعد‪ :‬مستشرقوف في عمـ اآلثار‪ :‬كيؼ ق أروا األلواح وكتبوا التاريخ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫[‪ .]2‬مصطفى زرىار‪ :‬مقاربات في دراسة النص التوراتي‪ -‬سفر راعوت أنموذجاَ‪ ،‬صفحات لمدراسات والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬دمشؽ‪ .2512 ،‬ص ‪..366‬‬
‫‪54‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫أترؾ المجاؿ لمباحث الفمسطيني "أحمد الدبش" ليروي لنا جزًء ميماً مف القصة‪ ،‬إذ يقوؿ‪:‬‬

‫"منذ أواخر سبعينيات القرف العشريف ومطمع ثمانينياتو‪ ،‬بدأ جيؿ جديد مف عمماء‬
‫اآلثار باستخداـ وتطوير أسموب مستحدث في التنقيب ىو أسموب المسح الميداني الكامؿ‬
‫لمناطؽ جغرافية معينة (‪ ،)Regional Survey‬بدالً مف الحفر في مواقع متباعدة‬
‫ومنعزلة عف بعضيا‪ .‬وقد قامت "جامعة تؿ أبيب" بتجييز فرؽ تنقيب متنوعة مزودة‬
‫بعمماء مف شتي االختصاصات لمساعدة عمـ اآلثار‪ ،‬قاـ أفرادىا سي ارً عمى األقداـ بمسح‬
‫كؿ متر مف مناطؽ اليضاب الفمسطينية‪ ،‬وعممت خالؿ العشريف سنة الماضية عمى‬
‫جمع معمومات غزيرة أحدثت ثورة في عمـ آثار فمسطيف‪ .‬وكمما كانت المعمومات‬
‫األركيولوجية تتراكـ ويتـ الربط بينيا وتحميميا تبيف لممؤرخيف واآلثارييف صعوبة مالءمة‬
‫ىذه المعمومات مع الرواية التوراتية عف أصوؿ "إسرائيؿ" في كنعاف‪/‬فمسطيف‪ ،‬وعف نشوء‬
‫ما يدعى بالمممكة الموحدة ومممكتي "السامرة وييوذا"‪ .‬وىذا ما دفع واحداً مف ألمع عمماء‬
‫اآلثار في "إسرائيؿ" وىو "إ‪ .‬فنكمشتايف" (‪ )Israel Finkelstien‬إلى الدعوة لتحرير عمـ‬
‫اآلثار "اإلسرائيمي" مف سطوة النص التوراتي‪ .‬ففي ندوة عقدتيا جامعة بف غوريوف عاـ‬
‫‪1998‬ـ وموضوعيا أصوؿ "إسرائيؿ" قاؿ "فنكمشتايف" بأف المصدر التوراتي الذي تحكّـ‬
‫بماضي البحث في أصوؿ "إسرائيؿ" قد تراجعت أىميتو في الوقت الحاضر‪ ،‬ولـ يعد مف‬
‫المصادر الرئيسية المباشرة‪ .‬فأسفار التوراة التي دونت بعد وقت طويؿ مف األحداث التي‬
‫تتصدى لروايتيا‪ ،‬تحمؿ طابعاً الىوتياً يجعميا منحازة‪ ،‬األمر الذي يجعؿ مف البحث عف‬
‫بذور تاريخية في المرويات التوراتية عممية بالغة الصعوبة‪ ،‬ىذا إذا كانت ممكنة مف حيث‬
‫األصؿ‪ .‬مف ىنا يرى "فنكمشتايف" ضرورة استقراء الوقائع األركيولوجية استقراء موضوعياً‬
‫وح ارً‪ ،‬بمعزؿ عف الرواية التوراتية"[‪.]1‬‬

‫البد مف التأكيد ىنا‪ ،‬عمى أف الموقؼ الرافض لالستمرار في إقحاـ النص التوراتي في‬
‫شؤوف عمـ اآلثار‪ ،‬لـ يكف ناتجاً عف عدـ الوصوؿ الى أدلة آثارية تتصؿ بتاريخ التوراة‬

‫[‪ .]1‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.16 -15‬‬
‫‪55‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫وتاريخ المنطقة بشكؿ أو بآخر‪ ،‬بؿ عمى العكس مف ذلؾ‪ ،‬كاف ناتجاً عف اكتشاؼ آثار كشفت‬
‫عف عدـ تطابؽ بينيا وبيف ما تسرده الرواية التوراتية‪ .‬فمـ تقدـ الكشوفات األثرية أي دليؿ‬
‫أثري عمى األحداث والشخصيات الكبرى التي في التوراة‪ ،‬كالعبور االبراىيمي‪ ،‬والخروج مف‬
‫مصر‪ ،‬وال عف المممكة االسرائيمية الكبرى الموحدة بذلؾ التيويؿ الذي يرد عنيا في التوراة‪ ،‬وال‬
‫عف شخصيات يعقوب ويوسؼ وموسى وغيرىـ مف اآلباء الكبار‪ ،‬فيذه األحداث وىذه‬
‫الشخصيات ال دليؿ عمييا حتى اآلف‪ .‬في حيف تـ التوصؿ الى بعض األدلة األثرية التي كشفت‬

‫عف جوانب ميمة في تاريخ المنطقة‪ ،‬لـ يرد ليا أو عنيا أي ذكر في التوراة‪ ،‬والتوصؿ أيضاً‬
‫الى أدلة أخرى صححت بعض التناقضات المحيرة مما اكتظت بو مساحة النص التوراتي[‪.]1‬‬

‫في كؿ األحواؿ‪ ،‬فإف عمـ اآلثار قدـ أدلة عمى الوجود الضئيؿ والمحدود لمغاية لذلؾ‬
‫الكياف الذي يمكف أف يطمؽ عميو اسـ "إسرائيؿ" في تاريخ فمسطيف الواسع والكبير والثري‪ ،‬فقد‬
‫أثبتت األدلة األثرية أف فمسطيف لـ تكف موطف قومية بعينيا أو ثقافة بعينيا‪ ،‬بؿ كانت منطقة‬
‫اختالط تداولت عمييا أقواـ وحضارات وأعراؽ وثقافات كثيرة‪ ،‬انصيرت بعضيا في بوتقة ثقافة‬
‫مشتركة أو ما شابو‪ ،‬واستطاعت أف تخمؽ ليا وجوداً ممي اًز عمى سبيؿ العموـ‪ ،‬وأفنت الفوارؽ‬
‫بيف كياناتيا عمى نحو يصعب الحديث معو عف أي أعراؽ كنعانية أو فمسطينية أو اسرائيمية أو‬
‫آرامية أو آمورية في تاريخيا القديـ‪ ،‬فكانت فمسطيف طواؿ معظـ عصورىا مساحة لكؿ ذلؾ‬
‫التنوع الفريد ومسرحاً إلذابة كتؿ الفروؽ والتمايزات بيف سكانيا‪ ،‬وأي وجود إلسرائيؿ ليس إال‬
‫وجود لحظي قصير وضئيؿ القامة واألثر‪.‬‬

‫ىكذا‪ ،‬فمنذ ثمانينيات القرف العشريف وحتى بداية القرف الجاري‪ ،‬كانت مصداقية التوراة قد‬
‫صرح بو عدد غير قميؿ مف عمماء‬
‫أصبحت عمى محؾ أقوى وأعنؼ أزمة في تاريخيا‪ ،‬وىذا ما ّ‬

‫[‪ .]1‬سنتعرض ونناقش مسألة األدلة األثرية عمى وجود اسرائيؿ في تاريخ فمسطيف القديـ‪ ،‬في فصؿ الحؽ‪،‬‬
‫فميس ىذا مقاـ الحديث والتفصيؿ بشأنيا‪ ،‬نظ اًر لحاجة الباحث الى التركيز عمى ىدؼ بعينو في كؿ فصؿ مف‬
‫فصوؿ ىذه الدراسة‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫[‪]1‬‬
‫(‪ ،)Zeew Herzog‬الذي‬ ‫اآلثار االسرائيمييف‪ ،‬وعمى رأسيـ عالـ اآلثار "زئيؼ ىيرتسوغ"‬
‫قاؿ‪:‬‬

‫"رويداً‪ ،‬رويداً بدأت تتبمور الثقوب في الصورة وبشكؿ متناقض نشأ وضع بدأت فيو‬
‫المكتشفات الكثيرة تزعزع المصداقية التاريخية لموصؼ التوراتي بدالً مف تعزيزىا‪.‬‬

‫وبدأت مرحمة األزمة وىي مرحمة ال تنجح فييا النظريات في حؿ عدد كبير ومتزايد‬
‫مف األمور المجيولة وتأخذ في إيراد تأويالت غير مالئمة تماماً‪ ،‬وبذلؾ يمؼ الغموض‬
‫لوحة البازلت التي تبنييا المكتشفات األثرية ليتضح أنيا غير قابمة لالستكماؿ"[‪.]2‬‬

‫ال مجاؿ لمتفصيؿ في ىذه المسألة‪ ،‬لكني أحيؿ القارئ لمتحقؽ مف األمر مف كافة أبعاده‬
‫ومف مختمؼ وجيات النظر العممية لعمماء اآلثار الييود المعاصريف‪ ،‬الى ثالثة أعماؿ ميمة‪،‬‬
‫كاف ليا األثر القوي في تحطيـ اسطورة الصدؽ المطمؽ لمنص التوراتي‪ ،‬وبالتالي تحطيـ ونقض‬
‫مصداقيتيا‪:‬‬

‫انعمم األول‪ :‬لمبروفسور "توماس ؿ‪ .‬طومسوف"‪:‬‬

‫"أستاذ عمـ اآلثار في جامعة ماركويت في ميمووكي بالواليات المتحدة األمريكية‪،‬‬


‫الذي حورب بسبب آرائو المعارضة لمتوراتييف التقميدييف‪ ،‬فقد طرد مف منصبو في العاـ‬
‫‪ ،1992‬ألنو دعا في كتابو الذي صدر في العاـ نفسو‪ ،‬وعنوانو "التاريخ القديـ لمشعب‬

‫[‪ .]1‬زئيؼ ىيرتسوغ‪ ،‬عالـ آثار اسرائيمي معاصر‪ ،‬أحد أبرز عمماء اآلثار اإلسرائيمييف‪ ،‬وأستاذ محاضر في‬
‫جامعة تؿ أبيب‪ ،‬نشر مقالتو الشييرة "عمـ اآلثار يقوؿ ال شيء عمى األرض" في صحيفة ىاآرتس االسرائيمية‬
‫في نياية اكتوبر مف العاـ ‪ ،1999‬أصبحت مقالتو ىذه مرجعاً حيوياً‪ ،‬وشيادة اسرائيمية معاصرة ودامغة بعدـ‬
‫صحة الرواية التاريخية‪ ،‬واعتراؼ أكاديمي بالظمـ الذي وقع عمى الفمسطينييف جراء االدعاءات الصييونية التي‬
‫بررت احتالؿ أرضيـ مف قبؿ الكياف االسرائيمي‪ .‬مجموعة مف المؤلفيف‪ :‬دراسات في التراث الثقافي لمدينة‬
‫القدس‪ ،‬مركز الزيتونة لمدراسات واالستشارات‪ ،‬بيروت‪ .2515 ،‬ص ‪.442‬‬
‫[‪ .]2‬ابراىاـ مالمات‪ ،‬حييـ تدمور‪ :‬العبرانيوف وبنو إسرائيؿ في العصور القديمة بيف الرواية التوراتية‬
‫واالكتشافات األثرية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.9 -8‬‬
‫‪57‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫[‪]1‬‬
‫إلى "نقض تاريخية التوراة" أي عدـ االعتماد عمى التوراة كتاباً لتاريخ‬ ‫اإلسرائيمي"‬
‫المنطقة والحضارات‪ ،‬والى اعتماد الحفريات األركيولوجية (األثرية) وثروة اآلثار الكتابية‬
‫القديمة كمصادر إلعادة كتابة تاريخ المنطؽ"[‪.]2‬‬

‫انعمم انثاني‪ :‬ل ػعالـ اآلثار الييودي "كيت وايتالـ‪:‬‬

‫"العالّمة "كيث وايتالـ"‪ ،‬أستاذ العموـ الكتابية في قسـ الدراسات الالىوتية بجامعة‬
‫سترلنغ بالمممكة المتحدة‪ ،‬بمراجعة المؤلفات التي تعاممت مع تاريخ فمسطيف القديـ‪ ،‬وأدرؾ‬
‫في حينو مدى توغؿ الخطاب االستشراقي في الكتابات عف تاريخ فمسطيف‪ .‬وأشار إلى أف‬
‫ىناؾ عممية طمس متعمد ومبرمج مف قبؿ الحركة الصييونية لكثير مف الدالالت‬
‫التاريخية لممكتشفات األثرية في فمسطيف ومحاولة تفسيرىا بطريقة مغموطة في أغمب‬
‫[‪]3‬‬
‫إلى‬ ‫األحياف‪ .‬فتوصؿ في كتابو "تمفيؽ إسرائيؿ" التوراتية طمس التاريخ الفمسطيني"‬
‫"أف صورة ماضي "إسرائيؿ"‪ ،‬كما وردت في معظـ فصوؿ الكتاب العبري‪ ،‬ليست إال قصة‬
‫خيالية‪ ،‬أي تمفيؽ لمتاريخ"[‪.]4‬‬

‫( ‪Israel‬‬ ‫انعمم انثانث‪ :‬لعالـ اآلثار االسرائيمي "اسرائيؿ فنكمشتايف"‬


‫[‪]5‬‬

‫[‪]1‬‬
‫( ‪Neil Asher‬‬ ‫‪ ،)Finkelstein‬وزميمو المؤلؼ والمؤرخ األمريكي "نيؿ اشر سيمبرماف"‬

‫[‪ .]1‬توماس ؿ‪ .‬طومسوف‪ :‬التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي‪ ،‬ترجمة‪ :‬صالح عمى سوداح‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫بيساف لمنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪.1995 ،‬‬
‫[‪ .]2‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫[‪ .]3‬كيت وايتالـ‪ :‬اختالؽ إسرائيؿ القديمة‪ -‬اسكات التاريخ الفمسطيني‪ ،‬ترجمة سحر الينيدي‪ ،‬مراجعة‪ :‬فؤاد‬
‫زكريا‪ ،‬سمسمة عالـ المعرفة‪ ،‬العدد (‪ ،)249‬المجمس الوطني لمثقافة والفنوف واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬سبتمبر ‪.1999‬‬
‫[‪ .]4‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫[‪ .]5‬اسرائيؿ فنكمشتايف‪ ،‬رئيس قسـ اآلثار في جامعة تؿ أبيب في فمسطيف المحتمة (اسرائيؿ)‪ ،‬وبروفسور في‬
‫القسـ نفسو‪ ،‬مف أصؿ ألماني‪ ،‬حصؿ عمى الماجستير عاـ ‪ ،1978‬ثـ الدكتوراه في عاـ ‪ ،1983‬في عمـ اآلثار‬
‫مف جامعة تؿ أبيب‪ ،‬شغؿ منصب مدير أو مدير مشارؾ لمعديد مف أعماؿ التنقيب اآلثارية في مناطؽ مختمفة‬
‫مف فمسطيف منذ ‪ ،1971‬ألؼ العديد مف الكتب في نتائج عمـ اآلثار‪ ،‬فضالً عف العديد مف المقاالت المنشورة‬
‫في دوريات مختمفة أىميا مجمو المعاىد األمريكية لمدراسات الشرقية‪ ،‬ومجمة عمـ اآلثار األمريكية‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪58‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫‪ ،)Silberman‬في كتابيما الشيير‪" :‬التوراة الييودية مكشوفة عمى حقيقتيا‪ -‬رؤية جديدة‬
‫إلسرائيؿ القديمة وأصوؿ نصوصيا المقدسة عمى ضوء اكتشافات عمـ اآلثار"‪.‬‬

‫ىذه األعماؿ الثالثة لعمماء آثار وباحثيف ييود‪ ،‬ينتموف الى مدرسة عمـ اآلثار التوراتي‪،‬‬
‫كشفوا فييا عف حقيقة الوضع الذي كاف سائداً فيما يتعمؽ بنتائج الكشوفات األثرية في مقابؿ‬
‫التاريخ التوراتي‪ ،‬وكشفوا عف الكثير مف األخطاء والعمميات التعسفية التي ارتكبيا الكثير مف‬
‫المؤرخيف وعمماء اآلثار التوراتييف طواؿ الفترة التي سبقت ذلؾ‪ ،‬منذ بداية أعماؿ التنقيب األثري‬
‫في فمسطيف وحوالييا‪.‬‬

‫بيد أف ىذا التيار نفسو لـ يتحرر قطعياً مف تأثير النزعة التوراتية‪ ،‬إذ يعترؼ "كيت‬
‫وايتالـ" منتقداً نفسو وتيار نقد التوراة الذي انتمى إليو‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫"عمى الرغـ مف أف ىذا التيار اعتقد أنو تحرر مف قيود الدراسات التوراتية في‬
‫بحثيا عف إسرائيؿ القديمة ونجح في تفكيكو لمنظريات السائدة‪ ،‬وبخاصة في تركيزه عمى‬
‫إظيار أف الفريؽ األوؿ لـ يعمؿ حسابا لممعمومات األثرية المتزايدة مف المنطقة‪ ،‬واستمر‬
‫في اعتبار التوراة كتابا تاريخيا ال يقبؿ الجداؿ‪ ،‬فإنو لـ يتمكف مف اإلفالت مف قبضة‬
‫الدراسات التوراتية التقميدية فظؿ سجينا ليا‪ ،‬إذ ساىـ في إسكات التاريخ الفمسطيني‬
‫وطمسو بدال مف إيجاد فضاء لو لكي يعبر عف نفسو كموضوع قائـ بذاتو"[‪.]2‬‬

‫اسرائيؿ فنكمشتايف‪ ،‬نيؿ إشر سيمبرماف‪ :‬التوراة الييودية مكشوفة عمى حقيقتيا‪ -‬رؤية جديدة إلسرائيؿ القديمة‬
‫وأصوؿ نصوصيا المقدسة عمى ضوء اكتشافات عمـ اآلثار‪ ،‬ترجمة وتعميؽ‪ :‬سعد رستـ‪ ،‬صفحات لمدراسات‬
‫والنشر‪ ،‬دمشؽ‪ -‬سوريا‪( ،‬ب ‪ .‬ت)‪ .‬ص ‪.437‬‬
‫[‪ .]1‬نيؿ أشر سيمبرماف‪ ،‬مؤلؼ ومؤرخ أمريكي ييودي األصؿ‪ ،‬ذو اىتماـ خاص بالتاريخ‪ ،‬وعمـ اآلثار‬
‫والتفسيرات العامة‪ ،‬زميؿ سابؽ ل ػ غوغنيايـ‪ ،‬وخريج جامعة ويزيمياف في الواليات المتحدة‪ ،‬مؤلؼ تسعة كتب في‬
‫مواضيع آثارية‪ ،‬ومحرر مساىـ في مجمة عمـ اآلثار األمريكية‪ ،‬وفي عدة دوريات عمـ آثارية أخرى‪ ،‬ولديو خبرة‬
‫في توصيؿ االكتشافات اآلثارية لعامة الناس‪ .‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.438‬‬
‫[‪ .]2‬المقصود بالفريؽ األوؿ مف العمماء التوراتييف‪ ،‬أولئؾ الذيف اعطوا األولوية لمرواية التوراتية وأخضعوا نتائج‬
‫عمـ اآلثار ليا‪ ،‬مف حيث يعتبروف التوراة كتاباً تاريخياً صادقاً عمى نحو مف اإلطالؽ ال يمكف التشكيؾ بو‪.‬‬
‫وأبرزىـ أولبرايت وبرايت (‪ )Lbright and Bright‬وآلت ونوث (‪ ،)Alt and Noth‬ومندنيوؿ وغوتفالد‬
‫‪59‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫يتأكد لنا اعتراؼ "وايتالـ" ىذا مف خالؿ ما خمصت إليو أبحاثو األثرية‪ ،‬وىو‪:‬‬

‫"أف فمسطيف القديمة تعاقبت عمييا عدة حضارات‪ ،‬لـ تكف اسرائيؿ‪ -‬بحسب‬
‫األدلة األثرية المتوصؿ إلييا‪ -‬تمثؿ إال خيطاً رفيعاً في نسيج التاريخ الفمسطيني‬
‫الغني"[‪.]1‬‬

‫ونفس الفكرة خمص إلييا وأعمنيا عالـ اآلثار االسرائيمي المعاصر "ىيرتسوغ"‪ ،‬بقولو‪:‬‬

‫"الحقيقة التي تتضح رويداً رويداً بأف مممكة داود وسميماف الموحدة التي‬
‫وصفتيا التوراة عمى أنيا دولة عظمى إقميمية‪ ،‬كانت في أقصى األحواؿ مممكة قبمية‬
‫صغيرة"[‪.]2‬‬

‫كما يتأكد لنا األمر مف المنيج الذي أقره "توماس ؿ‪ .‬طومسوف" لمبحث في تاريخ اسرائيؿ‬
‫المستقؿ وكتابتو‪ ،‬فقد أكد عمى المنيج الثالثي لدراسة تاريخ اسرائيؿ التوراتية‪:‬‬

‫"لكتابة تاريخ مستقؿ إلسرائيؿ القديمة‪ ،‬البد مف األخذ بثالثة أشكاؿ مختمفة مف‬
‫البينات المباشرة المستخمصة مف المصادر األولية‪ ،‬وىي‪ )1( :‬الحفريات األركيولوجية‬
‫وتحميميا‪ ،‬وتصنيؼ وتفسير الحقائؽ المستخمصة مف األركيولوجيا ونماذج االستيطاف‬
‫القديمة في فمسطيف المعروفة جغرافيا واقميمياً‪ )2( .‬ثروة اآلثار الكتابية القديمة المرتبطة‬
‫مباشرة أو مداورة بفمسطيف القديمة‪ ،‬الشعب‪ ،‬جيرانو‪ ،‬اقتصاده‪ ،‬البنى الدينية والسياسية‪،‬‬
‫نمط الحياة والحوادث المعروفة‪ )3( .‬المرويات التوراتية التي تعكس صراحة أو ضمناً‬
‫المجاؿ الذي تشكمت فيو والذي يرسـ تصور اسرائيؿ التي نبحث عف أصميا"[‪.]3‬‬

‫(‪ ،)Mendenhall and Gottwald‬وغيرىـ‪ .‬أنظر‪ :‬كيت وايتالـ‪ :‬اختالؽ إسرائيؿ القديمة‪ -‬اسكات التاريخ‬
‫الفمسطيني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.8‬‬
‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.8‬‬
‫[‪ .]2‬ابراىاـ مالمات‪ ،‬حييـ تدمور‪ :‬العبرانيوف وبنو إسرائيؿ في العصور القديمة بيف الرواية التوراتية‬
‫واالكتشافات األثرية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫[‪ .]3‬توماس ؿ‪ .‬طومسوف‪ :‬التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪60‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫أما "اسرائيؿ فنكمشتايف" و"نيؿ اشر سيمبرماف"‪ ،‬فيؤكداف عمى‪:‬‬

‫"أف ال تاريخ يقدمو عمـ اآلثار إلسرائيؿ في فمسطيف القديمة قبؿ القرف الثالث عشر‬
‫قبؿ الميالد‪ ،‬وعمى أف بني اسرائيؿ لـ يكونوا إال جزءً مف السكاف األصمييف لفمسطيف‬
‫(الكنعانييف)‪ ،‬فقد كشؼ عمـ اآلثار وعمى نحو مدىش أف الناس الذيف كانوا يعيشوف في‬
‫تمؾ القرى الفمسطينية إنما كانوا مف السكاف األصمييف لكنعاف‪ ،‬والذيف طوروا ألنفسيـ‬
‫بشكؿ تدريجي فحسب ىوية عرقية‪ ،‬أصبح باإلمكاف إطالؽ اصطالح "االسرائيمييف"‬
‫عمييا"[‪.]1‬‬

‫ىؤالء جميعاً مف عمماء اآلثار نقاد التوراة‪ ،‬ال ينكروف بأي حاؿ مف األحواؿ أف اسرائيؿ‬
‫وجدت بالفعؿ في فمسطيف القديمة‪ ،‬بؿ ولدييـ أدلة أثرية عمى ذلؾ‪.‬‬

‫بيد أف موقفيـ مف التوراة ناتج عف أف ما تقولو المكتشفات اآلثارية ليس مطابقاً لما تقولو‬
‫مرويات التوراة‪ ،‬وأنيا – أي اآلثار‪ -‬قدمت تاريخاً آخ اًر إلسرائيؿ القديمة‪ ،‬مختمفاً تماماً عما‬
‫ترويو أسفار التوراة‪ ،‬وبالتالي فالتوراة ليست إال كتاب أدب شعبي ال يمكف التعويؿ عميو في‬
‫أساطيرً وقصصاً منتحمة مف بعض ثقافات‬
‫ا‬ ‫مجاؿ التاريخ‪ ،‬أو أنيا مجرد مرويات ممفقة تحكي‬
‫المنطقة القديمة‪ ،‬وال يصح أبداً اعتبارىا مرجعاً لمتاريخ‪ ،‬أل ف كؿ الحقائؽ العممية التي قدميا‬
‫عمـ اآلثار تنقض مصداقيتيا وتنسفيا تماماً‪.‬‬

‫نخمص مما سبؽ‪ ،‬الى أف عمماء اآلثار الغربييف والييود منيـ بالذات أصبحوا عمى قناعة‬

‫تامة بأنو يمكنيـ االعتماد بثقة كاممة عمى الكشوفات األثرية في إثبات أف إلسرائيؿ وجوداً‬
‫تاريخياً في فمسطيف القديمة‪ ،‬وأف ال حاجة ليـ الى التوراة التي فقدت أماـ عمـ اآلثار كؿ‬
‫مصداقيتيا‪ ،‬وأف الوجود الضئيؿ والمحدود جداً إلسرائيؿ القديمة يكفي ليدـ ونسؼ كافة‬
‫االدعاءات الصييونية المتعمقة بأرض اآلباء واألجداد والعبور والخروج واالمبراطورية الضخمة‬

‫[‪ .]1‬اسرائيؿ فنكمشتايف‪ ،‬نيؿ إشر سيمبرماف‪ :‬التوراة الييودية مكشوفة عمى حقيقتيا‪ -‬رؤية جديدة إلسرائيؿ‬
‫القديمة وأصوؿ نصوصيا المقدسة عمى ضوء اكتشافات عمـ اآلثار‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.138‬‬
‫‪61‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫وما الى ذلؾ مف القصص الممفقة‪ ،‬والتي ثبت أنيا ال أساس ليا مف الصحة‪ ،‬وانو ال مناص مف‬
‫إعادة قراءة تاريخ اسرائيؿ كجزء صغير مف التاريخ الفمسطيني‪.‬‬

‫وعمى الرغـ مف قوة الحجج التي قدميا تيار نقد التوراة‪ ،‬إال أف طروحاتيـ قوبمت برفض‬
‫شديد مف التيار التقميدي المتمسؾ بتاريخيانية التوراة ومصداقيتيا المطمقة‪ .‬فيؤالء يؤمنوف بأف‬
‫كؿ ما ورد في التوراة صحيح وال يمكف نقضو بيذه السيولة‪ ،‬واذا لـ ينطبؽ ىذا التاريخ التوراتي‬
‫عمى فمسطيف فيذا ال يعني أنو لـ يحدث‪ ،‬بؿ يعني أنو حدث في فضاء جغرافي أوسع‪ ،‬وبالتالي‬
‫فالبد مف توسيع نطاؽ البحث الجغرافي عف بقية مواطف التوارة‪.‬‬

‫ىكذا إذف‪ ،‬فقد جاءت نظرية الصميبي في توقيتيا المناسب بالضبط‪ ،‬ال إلثبات شيء‬
‫كما يوىمنا روادىا‪ ،‬بؿ إلعطاء التوراة فرصة جديدة‪ ،‬ولإلبقاء عمى قبس كبير مف األمؿ‬
‫بمصداقيتيا المطمقة‪ .‬فأزمة التوراة منذ منتصؼ ثمانينيات القرف الماضي وحتى اليوـ‪ ،‬ىي‬
‫أزمة مصداقية‪ ،‬ويجب إيجاد مخرج لمتوراة مف أكبر وأعنؼ أزمة واجيتيا في التاريخ‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫)‪(3‬‬

‫نظريت جديدة إلنقاذ انتىراة‬

‫قمت مف قبؿ‪ ،‬أف االستدالؿ الثاني الذي أقامو رواد نظرية جغرافية التوراة مف الباحثيف‬
‫العرب‪ ،‬يفيد بأف عمـ اآلثار لـ يقدـ أي دليؿ حتى اآلف عمى األحداث التوراتية بأنيا وقعت‬
‫بالفعؿ في فمسطيف‪ ،‬وىذا االستدالؿ أدى الى خمؽ الفرض الرئيسي األوؿ ليذه النظرية‪ ،‬وىو أف‬
‫أحداث التوراة صحيحة ولكنيا لـ تحدث في فمسطيف‪ ،‬بؿ في مسرح جغرافي آخر‪ ،‬والذي بات‬
‫يدعمو ذلؾ التشابو المدىش بيف أسماء المناطؽ المذكورة في التوراة‪ ،‬والتي لوحظ عف طريؽ‬
‫الصدفة أنيا موجودة في نسؽ طبوغرافي وجغرافي واحداثي عجيب في بعض المناطؽ مف جزيرة‬
‫العرب‪.‬‬

‫جاء ىذا الفرض متسقاً مع ما كانت عميو األوضاع في ثمانينيات وتسعينيات القرف‬
‫العشريف‪ ،‬حيث كانت التوراة والباحثيف التوراتييف‪ ،‬يواجيوف أعنؼ نقد عممي في تاريخ البحوث‬
‫األثرية المستندة الى الرواية التاريخية لمتوراة‪ .‬عندما وضعت األدلة األثرية المكتشفة في فمسطيف‬
‫ومصر وسوريا والعراؽ مصداقية النص التوراتي عمى المحؾ‪ ،‬وأجيزت عمييا تماماً‪ .‬فبعد أف‬
‫كاف يفترض أف أي آثار يمكف اكتشافيا في تمؾ المناطؽ البد وأف تأتي لتدعـ صحة ومصداقية‬
‫التوراة‪ ،‬حدث العكس مف ذلؾ تماماً‪ ،‬ومف ثـ فقد وقعت التوراة وبحوث المؤرخيف التوراتييف تحت‬
‫مطرقة النقد الشديد‪ ،‬بؿ وتخمؽ تيار كامؿ يدعو الى التخمي عف دراسة تاريخ المنطقة عمى‬
‫أساس التاريخ التوراتي‪ ،‬الذي ثبت أنو يفتقد الى المصداقية ويعتريو الكثير مف التناقض والزيؼ‪.‬‬

‫في ىذا التوقيت ظيرت نظرية "كماؿ الصميبي‪ ،‬ومع تفاقـ واتساع نطاؽ أزمة مصداقية‬
‫التوراة في تسعينيات القرف العشريف‪ ،‬برز رواد النظرية اآلخروف مف الباحثيف العرب‪ ،‬والذي‬
‫يبدو أف جيودىـ قد اتجيت بشكؿ مباشر نحو انقاذ التوراة‪ ،‬وفتح باب آخر لإلبقاء عمى افتراض‬

‫‪63‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫مصداقيتيا المطمقة‪ ،‬أكثر ما أنيا اتجيت بالفعؿ نحو تفنيد ادعاءاتيا وىدميا‪ ،‬وىذا ما يؤكدونو‬
‫ىـ بأنفسيـ وبصيغ صريحة ال لبس فييا وال غموض‪.‬‬

‫األساس الجوىري الذي تستند إليو ىذه النظرية والقاعدة الصمبة التي تقوـ عمييا‪ ،‬ىو‬
‫القوؿ بأف‪ :‬الرواية التاريخية التي تسردىا التوراة صحيحة وأف ما وقع عميو التزوير في‬
‫التوراة ىو في تحديد جغرافيتيا‪ .‬فيذا ما صرح بو الصميبي حرفياً‪ ،‬بقولو‪:‬‬

‫"في الدراسة الراىنة‪ ،‬ستقمب األمور رأساً عمى عقب‪ .‬وبدالً مف أخذ جغرافية التوراة‬
‫العبرية كمسممة ومناقشة صحتيا كتاريخ‪ ،‬سآخذ تاريخيتيا كمسممة وأناقش جغرافيتيا"[‪.]1‬‬

‫كما صرح بو أيضاً "زياد منى"‪ ،‬بقولو‪:‬‬

‫"رغـ كافة القناعات والقناعات المتجددة‪ ،‬بقي ىاجس غياب الدليؿ األثري الحاسـ‬
‫يالحؽ كتابات وتحميالت أصحاب المنيجية التقميدية وفيميـ الجغرافي‪ ،‬لكف في الوقت‬
‫نفسو‪ ،‬كاف الرأي التقميدي ال يطرح كموضوعة قابمة لمتصويب أو القمب‪ ،‬وانما كحقيقة‬
‫مطمقة غير قابمة النقاش عممياً‪[...‬لذا فإني وحتى يتحقؽ الشرط العممي‪ -‬العثور عمى‬
‫دليؿ أثري في فمسطيف]‪ ،‬سأبحث في جغرافية التوراة ضمف إطار جزيرة العرب‪ ،‬وأقدـ‬
‫لمقراء ما أصؿ إليو مف نتائج"[‪.]2‬‬

‫يتناقض "زياد منى" مع نفسو ىنا‪ ،‬فيو يسوغ لنفسو البحث عف جغرافية التوراة في إطار‬
‫جزيرة العرب بسبب عدـ تحقؽ الشرط العممي وىو العثور عمى دليؿ أثري في فمسطيف‪ ،‬مع أنو‬
‫ال يممؾ أي دليؿ أثري واحد في جزيرة العرب يبرر لو البحث فييا باعتبارىا جغرافية التوراة‪،‬‬
‫فمماذا ال يضع ىذا الشرط لنفسو أماـ جزيرة العرب؟!‪ -‬ىذا ىو التناقض الثالث الذي أشرت إليو‬
‫مف قبؿ‪ ،‬والذي وقع فيو جميع رواد النظرية‪.‬‬

‫[‪ .]1‬كماؿ الصميبي‪ :‬التوراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫[‪ .]2‬زياد منى‪ :‬جغرافية التوراة‪ :‬مصر وبنو اسرائيؿ في عسير‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.18 -17‬‬
‫‪64‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫باالنتقاؿ الى المفكر العربي "فاضؿ الربيعي"‪ ،‬نجده يتبنى نفس الموقؼ ويصرح بأنو ال‬
‫يعترض عمى الرواية التاريخية لمتوراة‪ ،‬وانما يقع مناط التأكيد في اعتراضو عمى انكار صمة ىذه‬
‫الرواية وأحداثيا بفمسطيف‪ ،‬وذلؾ في سياؽ حديثو عف الموقع الحقيقي الذي حدث فيو السبي‬
‫البابمي‪ ،‬إذ يقوؿ‪:‬‬

‫"لكف‪ ،‬أيف وقع السبي البابمي‪ ،‬وما حقيقتو؟ وبالطبع فنحف ال ننكر وقوع الحدث‪،‬‬
‫بؿ ننكر صمتو بفمسطيف‪ ،‬وما يمكف الجزـ بو في ضوء الكثير مف األدلة األثرية‬
‫والتاريخية التي أقدميا‪-‬الربيعي يقدميا‪ -‬أف التوراة التي استند إلييا كتاب التاريخ مف‬
‫التيار التوراتي لتأكيد وقوع السبي‪ ،‬ال تشير البتة الى المكاف الذي وقعت فيو"[‪.]1‬‬

‫نفيـ مما تقدـ‪ ،‬أف رواد ىذه النظرية بنوا نظريتيـ عمى النحو الذي تترتب فيو ثالثة أمور‪،‬‬
‫يتبيف لنا مف خالليا عالقة نظريتيـ بمدرسة االستشراؽ التوراتية وعمـ اآلثار التوراتي المتعصب‬
‫والمتطرؼ‪ ،‬كاآلتي‪:‬‬

‫األمر األوؿ‪ :‬أف القصة التوراتية كتاريخ‪ ،‬رواية صحيحة جرت أحداثيا ووقائعيا فعالً‪ ،‬وال‬
‫مجاؿ إلنكار ذلؾ‪[ -‬ىذه ىي قناعة عمماء اآلثار التوراتييف والمؤرخيف المتطرفيف لمتوراة في‬
‫الغرب‪ ،‬وفي اسرائيؿ‪ ،‬فضالً عف كونيا معتقد العامة مف الييود والمسيحييف]‪.‬‬

‫األمر الثاني‪ :‬أف أحداث التاريخ التوراتي ال عالقة ليا بفمسطيف‪ ،‬وال تنطبؽ عمى جغرافيا‬
‫فمسطيف‪ ،‬كما أف ال دليؿ أثري تـ العثور عميو في فمسطيف يتعمؽ بأحداث التوراة‪[ -‬ىذه الفكرة‬
‫ولدت في قمب مدرسة االستشراؽ التوراتي‪ ،‬كما أثبتنا ذلؾ في الفصؿ األوؿ]‪.‬‬

‫األمر الثالث‪ :‬ىناؾ تشابو كبير بيف األسماء الجغرافية التوراتية واألسماء الجغرافية في‬
‫جزيرة العرب واليمف‪ ،‬وىو ما يمزـ بإعادة تاريخ التوراة الى مسرحو الحقيقي‪ -‬أي الى جزيرة‬
‫العرب واليمف‪[ -‬ىذه الفكرة ولدت بالصدفة كما قاؿ الصميبي والربيعي‪ -‬والحقيقة أنيا إحدى‬
‫بنات أفكار المستشرقيف كما تبيف لنا مف قبؿ]‪.‬‬

‫[‪ .]1‬فاضؿ الربيعي‪ :‬حقيقة السبي البابمي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪65‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫ىكذا‪ ،‬أعيد بناء الموقؼ االستشراقي المتعصب لمتوراة والمدافع عف مصداقيتيا المطعونة‬
‫بإحكاـ‪ ،‬ولكف ىذه المرة ليس بأيدي المستشرقيف أو عمماء اآلثار التوراتييف‪ ،‬بؿ بأيدي أصحابنا‬
‫رواد النظرية مف الباحثيف العرب‪ .‬فاالفتراض الجوىري الذي تقوـ عميو ىذه النظرية ليس إال‬
‫مصداقية التاريخ التوراتي المطمقة‪ ،‬في مقابؿ حصر الخطأ في الجغرافيا‪ ،‬وىو الخطأ الذي يمكف‬
‫تصحيحو بإعادة وضع أحداث التوراة في جغرافيتيا الحقيقية كما يقوؿ بذلؾ جميع رواد النظرية‪.‬‬

‫في ىذا الشأف‪ ،‬يقوؿ الباحث العربي "فراس السواح"‪:‬‬

‫"وفي الحقيقة‪ ،‬فإنو منذ ظيور النقد المنيجي لمتوراة اعتبا ارً مف مطمع القرف الثامف‬
‫عشر الميالدي‪ ،‬لـ تقـ مدرسة واحدة عمى القبوؿ المطمؽ لمرواية التاريخية باعتبارىا‬
‫تاريخاً حقيقياً غير خاضع لممناقشة أو النقد‪ ،‬باستثناء االتجاه الالىوتي الذي يؤمف بأف‬
‫الكتاب في صيغتو الحالية‪ -‬أي التوراة‪ -‬ىو كممة اإللو الموحاة الى األنبياء‪ .‬ثـ جاء‬
‫عصر االكتشافات األركيولوجية الكبرى في آشور وبابؿ عند منقمب القرف التاسع عشر‪،‬‬
‫وفي سورية مع مطمع القرف العشريف‪ ،‬ليضع بيف أيدي الباحثيف التوراتييف معمومات‬
‫تاريخية ونصية وأركيولوجية‪ ،‬لـ يسقطيا مف حسابو أحد قبؿ كماؿ الصميبي‪ ،‬قط"[‪.]1‬‬

‫السواح في نياية كالمو‪ -‬داللتيا‬


‫بيد أني أقوؿ أنو لـ يعد لكممة "قط" ‪ -‬التي جعميا ّ‬
‫ال صادقة كما كانت في وقتيا عندما كاف الصميبي ىو سيد النظرية ومالكيا األوحد‪ .‬فقد صار‬
‫لدينا سبعة أو ثمانية مف الباحثيف العرب يقولوف نفس ما قالو الصميبي‪ ،‬بؿ ويمعنوف في اعطاء‬
‫التوراة مصداقيتيا المطمقة‪ ،‬في حيف أف المستشرقيف التوراتييف وعمماء اآلثار الييود المتعصبيف‬
‫لمتوراة والمنتقديف ليا تورعوا عف فعؿ ذلؾ‪ ،‬احتراماً لمحقيقة العممية أوالً والتزاماً بالموضوعية‬
‫وأخالقيات العمـ والعمماء ثانياً‪ ..‬وىذه ىي المفارقة القاسية والمؤلمة‪.‬‬

‫"السواح"‪ ،‬موضحاً الى أي مدى بمغ الصميبي مف خالؿ نظريتو في إعطاء التوراة‬ ‫ّ‬ ‫يتابع‬
‫مصداقيتيا المطمقة عمى حساب كؿ األدلة والمرجعيات التاريخية واألثرية األخرى‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫[‪ .]1‬فراس السواح‪ :‬الحدث التوراتي والشرؽ األدنى القديـ‪ :‬ىؿ جاءت التوراة مف جزيرة العرب‪ -‬نظرية كماؿ‬
‫الصميبي في ميزاف النقد والحقائؽ العممية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.193‬‬
‫‪66‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫"وىو بعد أف شككنا – أي الصميبي‪ -‬بكثير مف معموماتنا حوؿ تاريخ بالد الرافديف‬
‫والشاـ ومصر‪ ،‬ورفض السجالت التاريخية كوثيقة يمكف االعتماد عمييا‪ -‬إال إذا قرأت‬
‫عمى طريقتو‪ ،‬فإنو لـ يترؾ أمامنا مف معيار آثاري ونصي وتاريخي يمكف االعتماد عميو‬
‫في نقد التوراة‪ ،‬لتبقى وحدىا الوثيقة المعتمدة‪ ،‬شاىدة عمى نفسيا وشاىدة عمى أحداث‬
‫عصرىا‪ .‬وىذه نتيجة لـ يضعيا قطعاً في حسبانو عندما شعر بأف مف الواجب أف ال يبقي‬
‫سرً"[‪.]1‬‬
‫ما توصمت إليو معرفتو بشأف التوراة ا‬

‫لقد أرسى كماؿ الصميبي األسس األولى لنظريتو التي تقؼ وجياً لوجو ضد الحقائؽ‬
‫العممية التي قدميا عمـ اآلثار مف ناحية‪ ،‬وضد كؿ قواعد المنطؽ والمعايير العقالنية مف جية‬
‫أخرى‪ .‬فبحسب نظرية الصميبي واضافات الرواد اآلخريف الذيف جاءوا مف بعده‪ ،‬أصبحت كؿ‬
‫كممة وكؿ حرؼ يرد في أسفار التوراة حقيقة مطمقة تنطبؽ انطباقاً مدىشاً وعجيباً عمى‬
‫جغرافية عسير وغامد واليمف‪ ،‬وفي محصمة جميع النظريات التي انشقت عف نظريتو وتآلفت‬
‫معيا‪ ،‬نجد كؿ مف ىذه المناطؽ وىي تشكؿ لوحدىا مسرحاً ألحداث التوراة‪ ،‬بؿ ومف ىذه‬
‫المناطؽ أيضاً ما ابتكر فييا ىؤالء الرواد مسرحيف أو أكثر لمقصة التوراتية‪.‬‬

‫مف جانب آخر وفي مقابؿ ذلؾ كمو‪ ،‬يبدو أف عدوى التناقضات التوراتية انتقمت الى رواد‬
‫ىذه النظرية‪ ،‬فيـ إذ يتقبموف نتائج عمـ اآلثار عف عمماء اآلثار الغربييف والييود برحابة صدر‪،‬‬
‫ويتبنوف مواقفيـ النقدية لمتوراة التي تستند الى الحقائؽ األثرية‪ ،‬فإنيـ في الوقت نفسو يتبنوف‬
‫موقفاً مناقضاً لذلؾ تماماً‪ ،‬يؤكدوف فيو عمى أف ما تسرده التوراة مف الناحية الجغرافية ينطبؽ‬
‫عمى جزيرة العرب‪ ،‬فعمى سبيؿ المثاؿ نجد الباحث العربي المبناني "فرج اهلل صالح ديب"‪ ،‬وىو‬
‫يستشيد بموقؼ أحد عمماء اآلثار الغربييف والييود‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫"أما (شانكس) فيعمف في مجمة اآلثار التوراتية‪ :‬إننا ال نستطيع التطمع أدبياً الى‬
‫نصوص التوراة‪ ،‬كما أنيا ليست نصوصاً مخترعة‪ ،‬واذا كاف معظـ عمماء اآلثار يتفقوف‬
‫معو مف حيث المبدأ‪ ،‬إال أف ثمة نقاط عديدة مفتوحة لمخالؼ‪ ،‬خاصة األجزاء أو األسفار‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.193‬‬


‫‪67‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫األولى مف التوراة‪ ،‬مثاؿ العبودية في مصر‪ ،‬ووجود موسى فييا‪ ،‬ومعارؾ يشوع بف نوف‬
‫في األراضي المقدسة‪ ،‬حيث ليس مف أدلة عمى وقوعيا‪ ،‬وليس مف إشارات في األثريات‬
‫والمخطوطات لمسألة موسى وخروجو ومسألة يشوع أي ذكر"[‪.]1‬‬

‫يأتي استشياد "ديب ىذا في السياؽ الذي يعتقد فيو أف نظريتو بشأف جغرافية التوراة في‬
‫اليمف تدخؿ في نطاؽ "نقد التوراة"‪ ،‬وىو اعتقاد زائؼ ال أساس لو مف الصحة‪ ،‬بؿ أف الصحيح‬
‫ىو العكس مف ذلؾ تماماً‪ .‬فنظريتو تدخؿ في نطاؽ تسوير التوراة وحجبيا عف دائرة النقد‬
‫العممي الذي أفحميا وزعزع مصداقيتيا‪ ،‬األمر الذي ينطبؽ حتماً عمى جميع رواد ىذه النظرية‬

‫عمى حد سواء‪ ،‬ألنيـ يقفوف في حقيقة األمر الى جانب أكثر المستشرقيف وعمماء اآلثار تطرفاً‬
‫لمتوراة‪ ،‬ويأخذوف ويستمدوف منيـ أسس نظريتيـ ومقوالتيا‪.‬‬

‫يبيف لنا أحد رواد ىذه النظرية أىـ المقوالت التي تبناىا "ديب"‪ ،‬في نفس الوقت الذي يبيف‬
‫فيو مصدر تمؾ المقولة‪ ،‬عمى سبيؿ اآلتي‪:‬‬

‫"توصؿ الباحث العربي الجاد "فرج اهلل صالح ديب" الى أف كممة "ييود" كممة عربية‬
‫قاموسية‪ .‬مف جذر "ىود"‪ ،‬وىي نسبة لمنبي "ىود"‪ ،‬الذي يرد ذكره في القرآف الكريـ‪ ،‬وقبره‬
‫وقريتو مازاال في حضرموت باليمف‪ ..‬فبعد أف استعرض تعريؼ كممة "الييود" في مختار‬
‫الصحاح‪ ،‬يتوصؿ الى نتيجة مفادىا أف الييود ىـ قوـ النبي "ىود"‪ ،‬وىو نبي مرسؿ الى‬
‫قوـ "عاد"‪!!..‬‬

‫والجدير بالذكر أف أطروحة ديب ىذه التي تعد الييود ىـ قوـ النبي ىود‪ ،‬ليست‬
‫بجديدة‪ ،‬فقد سبؽ إلييا العديد مف المستشرقيف (الثقات)‪ ،‬فقد الحظ المستشرقوف وجود‬
‫شبو بيف اسـ النبي "ىود" و"ىود" الواردة في القرآف أيضاً بمعنى "ييود"‪ ،‬وأشاروا الى أف‬
‫"ىوداً" تعني "التيود"‪ ،‬أي الدخوؿ في الييودية" كما الحظ المستشرقوف [الثقات] أف بعض‬
‫النسابيف قالوا أف ىوداً ىو "عابر بف شالح بف ارفكشاد" جد الييود‪ ،‬فذىبوا الى أف "ىوداً"‬

‫[‪ .]1‬فرج اهلل صالح ديب‪ :‬كذبة السامية وحقيقة الفينيقية‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار نوفؿ‪ ،‬بيروت‪ .1998 ،‬ص ‪.35‬‬
‫نقالً عف‪ :‬أحمد الدبش‪ :‬موسى وفرعوف في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪..28‬‬
‫‪68‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫لـ يكف اسـ رجؿ‪ ،‬وانما اسـ جماعة مف الييود ىاجرت الى بالد العرب‪ ،‬وأقامت في‬
‫األحقاؼ وحاولت تيويد الوثنييف‪ ،‬وعرفوا بييوذا‪ ،‬ومنيا جاءت كممة ىود‪ ،‬واستعممت ذاتيا‬
‫مف باب التجوز عمماً لمشخص"[‪.]1‬‬

‫إزاء ىذا النص‪ ،‬ال داعي لمخوض مرة أخرى في مسألة تصنيؼ المستشرقيف الى ثقات‬
‫وغير ثقات‪ ،‬وىذا أوالً‪ .‬أما ثانياً‪ ،‬فيذا النص مميء بالتناقضات التي ال أخجؿ مف تسميتيا ب ػ‬
‫"المغالطات" ألنيا حرفياً كذلؾ‪ ،‬فحكاية النبي ىود ال ترد في التوراة إطالقاً‪ ،‬وىي مما جاء في‬
‫القرآف وتفرد بو دوف غيره مف كتب الديانات السماوية الثالث‪ ،‬وىود أرسؿ الى قوـ (عاد)‪ ،‬وىذا‬
‫منصوص عميو صراحة في القرآف وال غبار عميو‪ ،‬وكؿ اآليات التي يرد فييا ذكر ىود وقومو ال‬
‫يرد فييا أي ذكر لعالقة تربط بينيـ وبيف الييود‪ ،‬وجميع كتب اإلخباريات تعد قوـ عاد مف‬
‫العرب البائدة‪ ،‬إذ يأتي ذكر قوـ عاد باعتبارىـ مف أقدـ األقواـ التي عاشت بعد طوفاف نوح‪ ،‬أي‬
‫في عصور سحيقة جداً قبؿ عصر النبي ابراىيـ الذي تقرر التوراة أف الييود أو باألصح بني‬
‫اسرائيؿ ينحدروف مف ساللتو‪ ،‬باإلضافة الى بني عمومتيـ الياجرييف‪ /‬االسماعيمييف‪.‬‬

‫واذف‪ ،‬فما ىو وجو العالقة بيف قوـ عاد وبني اسرائيؿ؟ وما وجو العالقة بيف الساللة‬
‫االسرائيمية ونبوة ىود والديانة الييودية؟ السيما إذا عممنا باالعتبارات التي لطالما أكد عمييا‬
‫رواد ىذه النظرية أنفسيـ‪ ،‬بضرورة التمييز والتفريؽ بيف بني اسرائيؿ كعرقية اثنية‪ ،‬وبيف‬
‫الييود معتنقي الييودية‪.‬‬

‫إنيا وحسب تناقضات‪ ،‬انتقمت عدواىا مف النص التوراتي بشكؿ أو بآخر وجرى اسقاطيا‬
‫حتى عمى النص القرآني‪ ،‬عمماً بأف ىذا الرأي يتناقض جممة وتفصيالً مع ما ورد في القرآف‬
‫الكريـ‪ ،‬وال سند لو في التوراة‪ ،‬فضالً عف ذلؾ فإف الييود والمسيحييف– منذ القدـ وحتى اليوـ‪-‬‬
‫ال يؤمنوف بأي نبي مف خارج ما ىو منصوص عميو في العيد القديـ‪.‬‬

‫كما أسمفت مف قبؿ‪ ،‬فإف عمـ اآلثار ‪-‬بإقرار جميع عمماء اآلثار الغربييف والييود وغير‬
‫الغربييف وغير الييود‪ -‬لـ يتوصؿ حتى اآلف الى أي أدلة أثرية عمى األحداث والشخصيات‬

‫[‪ .]1‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف ومموؾ بني اسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.255‬‬
‫‪69‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫الكبرى التي تتحدث عنيا أسفار التوراة‪ ،‬كالعبور االبراىيمي لنير الفرات وارتحالو الى حاراف في‬
‫الشاـ‪ ،‬وشخصيات اآلباء الكبار يعقوب ويوسؼ وموسى وأحداث االنتقاؿ الى مصر والخروج‬
‫منيا‪ ،‬وشخصيات الممؾ داود وسميماف وأحداث تأسيس مممكة اسرائيؿ الموحدة بذلؾ التيويؿ‬
‫الذي يرد عنيا في التوراة‪ ،‬فكؿ ىذه األمور ال دليؿ عمييا مف الناحية األثرية‪ ،‬ويمتنع جميع‬
‫عمماء اآلثار عف الحديث عنيا‪ ،‬بؿ أف منيـ مف اعتبرىا حكايات اسطورية‪ ،‬ومنيـ مف اعتبرىا‬
‫مجرد قصص ممفقة‪.‬‬

‫بيد أننا نجد رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب‪ ،‬جميعيـ عمى حد سواء‪،‬‬
‫يصروف عمى بحث ىذه المسائؿ التي لـ يبت فييا عمـ اآلثار إطالقاً‪ ،‬ويبنوف نظريتيـ مف خالؿ‬
‫التركيز عمييا عمى طريقتيـ في تأويؿ التشابيات المفظية‪.‬‬

‫إنيـ وبالفعؿ يقوموف ولمرة أخرى بعممية التعسؼ نفسيا التي قاـ بيا عمماء اآلثار‬
‫التوراتييف‪ .‬فنظرة واحدة عمى عناويف كتبيـ وأعماليـ أو فيارسيا وقوائـ محتوياتيا تكشؼ بشكؿ‬
‫واضح عف مدى تركيزىـ عمى ىذه القصص‪ ،‬واطباقيـ ليا اطباقاً حرفياً عمى جغرافية الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬مف حيث ال أدلة أثرية تسندىـ وال سجالت تاريخية تدعميـ‪ ،‬فميس لدييـ إال قرائف‬
‫التشابيات المفظية بيف أسماء المناطؽ‪ ،‬وآراء المستشرقيف التوراتييف المتعصبيف لمتوراة‪.‬‬

‫وانيـ يفعموف ذلؾ عمى نحو عجيب أحياناً‪ ،‬ومثير لمسخرية والسخؼ أحياناً أخرى‪ ،‬ومثاؿ‬
‫عمى ذلؾ‪ ،‬ما يمي‪:‬‬

‫"وبعد ايجاز اآلراء حوؿ غياب األثريات بالعالقة مع التوراة‪ ،‬وفحواه أف ال أثر‬
‫مادياً‪ ،‬وتاريخياً يؤكد أف مسرح سفر يشوع في فمسطيف‪ .‬ولكف أيف كاف المسرح الجغرافي‬
‫لمسيد يشوع؟!‪ -‬إف األثريات المفقودة في فمسطيف‪ ،‬عف معارؾ يشوع بف نوف‪ ،‬سرعاف‬
‫ما نجدىا في اليمف‪ ،‬وضمف منطؽ جغرافي يتناسب مع السرد التوراتي لسفر يشوع‪،‬‬
‫فالممؾ ليس سوى زعيـ عشيرة"[‪.]1‬‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.81‬‬


‫‪70‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫أيف ىي األثريات التي فقدىا األستاذ أحمد الدبش في فمسطيف وسرعاف ما وجدىا في‬
‫اليمف؟!‪ -‬إنيا ضمف منطؽ جغرافي يتناسب مع السرد التوراتي‪ ..‬ياهلل‪!!..‬‬

‫النص السابؽ‪ ،‬يجسد واحدة مف االنتقاالت الكثيرة التي يحشدىا رواد ىذه النظرية في‬
‫كتبيـ عمى ىذه الطريقة أو مثميا دائماً‪ .‬ولو تذكرنا التناقض الثالث الذي تحدثت عنو في بداية‬
‫الفصؿ‪ ،‬وكيؼ أف غياب الدليؿ األثري في فمسطيف ىو المسوغ الرئيسي لقوليـ بأف جغرافية‬
‫التوراة في جزيرة العرب أو في اليمف‪ ،‬فيتعامموف مع ىذه المناطؽ األخيرة وكأنيـ وجدوا فييا‬
‫الدليؿ األثري الذي لـ يجدوه في فمسطيف‪ ،‬وبالطبع ال دليؿ أثري عمى ىذه القصص ال في‬
‫فمسطيف وال في جزيرة العرب‪ ،‬وبدالً مف أف ينطبؽ الموقؼ عمى المنطقتيف‪ ،‬فيقاؿ إف ما ال دليؿ‬
‫أثري عميو ىنا أو ىناؾ يظؿ بعيداً عف دائرة االعتبار العممي والتاريخي حتى يثبت بشأنو شيء‪،‬‬
‫وأنو مف حيث ال ينبغي اسقاط أحداث التوراة عمى فمسطيف لغياب األدلة األثرية‪ ،‬فإنو ال يجوز‬
‫اسقاطيا أيضاً عمى جزيرة العرب لنفس السبب‪ ،‬نجدىـ وىـ يتناقضوف مع أنفسيـ بشكؿ سافر‪،‬‬
‫ويسقطوف نظريتيـ عمى اليمف وجزيرة العرب‪.‬‬

‫كيؼ نفسر ىذا التناقض؟!‪ -‬في الحقيقة‪ ،‬ال تفسير لموقفيـ ىذا إال أنو ناتج عف‬
‫حرصيـ الشديد عمى تأكيد مصداقية التوراة واعطائيا تمؾ المصداقية بأي شكؿ مف األشكاؿ‪،‬‬
‫وأف ىذه ىي غايتيـ التي تبرر ليـ كافة الوسائؿ‪.‬‬

‫ما ىو أكثر مف مثؿ ىذه التناقضات‪ ،‬ىي تمؾ الشطحات التي نجدىا لدى المفكر العربي‬
‫"فاضؿ الربيعي"‪ ،‬فيو في مؤلفو الضخـ والثقيؿ "فمسطيف المتخيمة"‪ ،‬ال يكشؼ لنا عف تناقضات‬
‫مف ىذا النوع فحسب‪ ،‬بؿ ويقدـ لنا شطحات ت ّجذر عممو في بؤرة األىداؼ والغايات التي يسعى‬
‫إلى تحقيقيا التيار التوراتي المتطرؼ‪ ،‬بما يكفي ليتضح ىدفو غير المعمف‪" :‬الدفاع عف‬
‫مصداقية التوراة المطمقة"‪.‬‬

‫ترى‪ ،‬ما الذي يعنيو لنا عنواف "فمسطيف المتخيمة"؟!‪ -‬بدالً مف أف يكوف موضوع‬
‫الربيعي ىو نفي وتفنيد أي وجود إلسرائيؿ التوراتية في فمسطيف باعتبارىا "اسرائيؿ متخيمة"‬
‫وضعيا خياؿ كتبة التوراة‪ ،‬نجده وىو يحيؿ ىذا التوصيؼ الى "فمسطيف" وعمييا‪ ،‬بمعنى أف أي‬

‫‪71‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫فمسطيف نتحدث عنيا ليست أكثر مف وىـ متخيؿ ناتج عف تحريؼ الحقيقة عمى أيدي‬
‫المستشرقيف الغربييف والييود الذيف فرضوا عمينا قراءتيـ الغربية لمتوراة‪ ،‬يقوؿ الربيعي‪:‬‬

‫"منذ عاـ ‪ 1917‬جرى تخييؿ لفمسطيف التاريخية ما كاف ليا تنجو منو‪ ،‬يرتكز‬
‫أساساً الى فيـ مخادع ومضمؿ لمنصوص لمتوراتية عمى الصعيديف التاريخي والجغرافي‪.‬‬
‫وبموازاة ىذا التخييؿ انطمقت سمسمة ال نياية ليا مف األعماؿ والسياسات والمكائد‬
‫والمناورات الرامية الى محو فمسطيف مف الوجود واحالؿ فمسطيف أخرى‪ ،‬قابمة تجريدياً ألف‬
‫ينظر إلييا عمى أنيا أرض الميعاد االسرائيمي"[‪.]1‬‬

‫وفي كتابو "حقيقة السبي البابمي" يصر الربيعي عمى التمسؾ بيذه الشطحة‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫"وفضالً عف ذلؾ فالتوراة في نصيا العبري‪ ،‬تجيؿ اسـ فمسطيف والفمسطينييف كمياً‪،‬‬
‫وكؿ ما يقاؿ عف أنيا أشارت الى فمسطيف والقدس العربية‪ ،‬ىو محض خياؿ استشراقي‬
‫سقيـ"[‪.]2‬‬

‫الجدير بالذكر‪ ،‬أف الربيعي عادة ما يكتب بمغة مراوغة لمغاية‪ ،‬يصعب عمى القارئ‬
‫العادي فيـ ما يرمي إليو صاحبيا بوضوح‪ ،‬وىذا أمر يمكف مالحظتو بسيولة في كتبو ومؤلفاتو‪،‬‬
‫وىو ما ينطبؽ عمى ما ورد مف أقوالو آنفاً‪ .‬فظاىر األمر أف الربيعي يدافع حقاً عف فمسطيف‬
‫التاريخية‪ ،‬وىي غير فمسطيف الجغرافية‪ ،‬مع أني ال أعرؼ بالضبط ما الذي يعنيو مفكرنا بمثؿ‬
‫ىذا التمييز‪ ،‬لكنو في واقع األمر يدافع عف التوراة التي تعرضت لتزييؼ قراءتيا وتفسير‬
‫مضمونيا لتصبح معانييا خادمة لممصالح االمبريالية الغربية‪ ،‬جغرافياً وتاريخياً‪ ،‬والبد مف‬
‫تحريرىا مف ىذه القراءة‪ ،‬لكي يعود لمنص التوراتي مصداقيتو األصمية‪.‬‬

‫تتكشؼ ىذه الحقيقة‪ ،‬عندما نق أر مقالة الربيعي التي نشرىا في يناير مف العاـ ‪ 2517‬في‬
‫موقع الجزيرة نت االلكتروني‪ ،‬وكانت بعنواف‪" :‬التوراة لـ تذكر اسـ الفمسطينييف وال تعرؼ‬

‫[‪ .]1‬فاضؿ الربيعي‪ :‬فمسطيف المتخيمة‪ ،‬المجمد (‪ ،)1‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫[‪ .]2‬فاضؿ الربيعي‪ :‬حقيقة السبي البابمي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪72‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫فمسطيف"‪ -!!..‬ىذا العنواف واضح ويعكس بشكؿ أكيد الداللة السابقة لعنواف كتابو "فمسطيف‬
‫المتخيمة"‪ .‬فالربيعي ال يقيـ معيا اًر ألي مرجعية إال معيار النص التوراتي‪ ،‬وبالتالي فإف فمسطيف‬
‫في نظره ال تعدو أكثر مف مجرد وىـ تاريخي‪ ،‬ال ذكر لو في التوراة‪.‬‬

‫يقوؿ الربيعي في مستيؿ مقالتو تمؾ ووسطيا‪ ،‬بصيغتو الجازمة التي يبدأ بيا مقدمات‬
‫كتبو ومقاالتو‪:‬‬

‫"ال وجود قط السـ فمسطيف أو فمسطينييف في التوراة‪ .‬وكؿ ما يقاؿ ويزعـ في‬
‫الدراسات والبحوث التاريخية "المعاصرة" عف وجود االسـ منذ عاـ ‪ 555‬قبؿ الميالد‪ ،‬ىو‬
‫تسويؽ مجاني لفكرة زائفة ال أساس وال سند ليا‪ ،‬ال في التاريخ وال في النصوص الدينية‪.‬‬

‫لقد تـّ الترويج لخدعة وجود اسـ فمسطيف في التوراة‪ ،‬بعد مؤتمر بازؿ الذي عقدتو‬
‫الحركة الصييونية (المؤتمر الصييوني األوؿ بزعامة تيودور ىرتزؿ في مدينة بازؿ بػ‬
‫سويس ار يوـ ‪ 29‬أغسطس‪/‬آب ‪ .)1897‬في ىذا الوقت كاف ىرتزؿ يشعر أف األثرياء‬
‫الييود البريطانيوف بشكؿ خاص‪ ،‬لـ يكونوا متحمسيف كفاية لتمويؿ مشروع (الوطف‬
‫القومي) في فمسطيف‪ ،‬ربما إلدراكيـ بالتعقيدات السياسية"[‪.]1‬‬

‫ىذه ىي النتيجة المتوقعة لمركض الميووس وراء مصداقية التوراة‪ ،‬عمى حساب العمـ‬
‫والحقيقة المثبتة تاريخياً وأثرياً وجغرافياً‪.‬‬

‫[‪ .]1‬فاضؿ الربيعي‪ :‬التوراة لـ تذكر اسـ الفمسطينييف وال تعرؼ فمسطيف‪ 12 ،‬يناير ‪ ،2517‬متاح عمى الرابط‬
‫االلكتروني‪:‬‬
‫‪http://www.aljazeera.net/news/alquds/2017/1/12/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9‬‬
‫‪%88%D8%B1%D8%A7%D8%A9-%D9%84%D9%85-‬‬
‫‪%D8%AA%D8%B0%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D8%B3%D9%85-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8‬‬
‫‪A%D9%8A%D9%86-%D9%88%D9%84%D8%A7-‬‬
‫‪%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81-‬‬
‫‪%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86- 10 Nov 2017.‬‬
‫‪73‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫في ىذا الشأف‪ ،‬اضطر الباحث الفمسطيني "أحمد الدبش" لنشر مقالة أخرى لمرد عمى‬
‫الربيعي‪ ،‬جاء في خاتمتيا‪:‬‬

‫"مف المناسب أف نختـ ىذا المقاؿ‪ ،‬بما يقوؿ المفكر الفرنسي بير روسي‪ ،‬في كتابو‬
‫"مدينة إيزيس‪ -‬التاريخ الحقيقي لمعرب"‪ :‬إف إعادة اسـ فمسطيف الوحيد إلى ىذه األرض‬
‫يصبح إذاً ليس فقط مطابقاً لمقاعدة التاريخية األدؽ واألصح‪ ،‬ولكف لرفض تدخؿ أو‬
‫وساطة أحكاـ عممية تعسفية ومسبقة‪ .‬إنو ليس ىذا العرؽ أو ذاؾ‪ ،‬ىذا الديف أو ذاؾ‬
‫الذي استفاد مف انتخاب الطبيعة‪ ،‬ولكنيا‪ ،‬فمسطيف‪ ،‬القطر ذاتو‪ ،‬الذي أخمى الشكؿ‬
‫الخارجي في البحر المتوسط لمركز ثقافي مختار‪ .‬فإلى غالبية سكانو إنما يعود دور‬
‫ناشري الفنوف والعموـ"[‪.]1‬‬

‫لو كاف لكالـ الربيعي معنى آخر غير الذي فيمناه ووضحناه‪ ،‬لما لزـ عمى الدبش أف يرد‬
‫عميو‪ ،‬عمماً بأنيما يتفقاف في نظريتييما عف جغرافية التوراة عمى أنيا في اليمف‪ ،‬وينشراف‬
‫مقاالتيما بشكؿ دوري في موقع الجزيرة نت‪ .‬وبالرغـ مف أف رد الدبش كاف سطحياً لمغاية‪ ،‬إال‬
‫أف دافعو الى كتابتو ونشره في نفس الموقع واضح لمغاية‪ ،‬وىو رفض وتفنيد فكرة الربيعي القائمة‬
‫بأف فمسطيف مجرد وىـ تاريخي ال أساس لو في التوراة والكتب الدينية‪ ،‬ومغزى ذلؾ كما فيمو‬
‫الدبش وفيمناه نحف‪ ،‬أف الربيعي يعطي إلسرائيؿ التوراتية وجوداً حقيقياً‪ ،‬جغرافياً‪ ،‬وتاريخياً‪،‬‬
‫ولو كاف ذلؾ الوجود خارج نطاؽ جغرافية فمسطيف التي نعرفيا‪ ،‬ولكنو في المقابؿ يفرغ‬
‫فمسطيف ىذه مف ذاتيا‪ ،‬ويمغي باستدالالتو المفظية وتفسيراتو الغرائبية أي وجود ليا‪ ،‬وذلؾ‬
‫كمو في سياؽ نصي غائـ يصوغو الربيعي بمغتو المراوغة‪ ،‬بحيث يوحي ظاىر كالمو بأنو يدافع‬

‫[‪ .]1‬جرت عادة الباحث الفمسطيني أحمد الدبش أف يقتبس عناويف كتب المستشرقيف والباحثيف الغربييف ويجعؿ‬
‫منيا عناويناً لفصوؿ كتبو ومقاالتو‪ ،‬فقد اقتبس عنواف كتاب "أالف غريش" "عالـ يطمؽ اسـ فمسطيف" وجعمو‬
‫عالـ يطمَؽ اسـ فمسطيف؟ ‪ 4‬اكتوبر‬
‫َ‬ ‫عنواناً لمقالتو ىذه التي رد بيا عمى فاضؿ الربيعي‪ .‬أنظر‪ :‬أحمد الدبش‪:‬‬
‫‪ ،2517‬متاح عمى الرابط االلكتروني‪:‬‬
‫‪http://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/10/4/%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85-‬‬
‫‪%D9%8A%D8%B7%D9%84%D9%82-%D8%A7%D8%B3%D9%85-‬‬
‫‪%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86- 10 Nov 2017.‬‬
‫‪74‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫عف ىوية فمسطيف العربية‪ ،‬بينما ىو في حقيقة األمر يطمب منا أف ننسؼ أي وجود ليذه ال ػ‬
‫"فمسطيف" مف رؤوسنا‪ ،‬ألف ال حقيقة إال ما تنطؽ بو التوراة‪.‬‬

‫بالعودة الى كتاب "فمسطيف المتخيمة" لمربيعي‪ ،‬وبدوف أف نتعمؽ كثي اًر فيو أو أف نتجاوز‬
‫الصفحة رقـ (‪ ،)24‬نجده في أوؿ مثاؿ يقدمو لنا إلثبات نظريتو‪ ،‬يكشؼ عما ىو أسوأ مف‬
‫تناقضاتو وشطحاتو تمؾ‪ ،‬بمغتو المراوغة نفسيا التي يخفي ورائيا موقفو المستميت دفاعاً عف‬
‫مصداقية التوراة‪ ،‬وأقصد بذلؾ جيمو الفظ أو تجاىمو المكشوؼ لمحقائؽ الجغرافية الثابتة‪ .‬فمنق أر‬
‫لو النص التالي‪:‬‬

‫"إف سائر ىذه المواضع‪[-‬يقصد "بيت ءوف"‪" ،‬لوز"‪" ،‬بيت ءيؿ"‪ ،‬أريحا‪ ،‬حوروف‬
‫السفمى‪ ..‬الخ‪ ،‬وىي أسماء أماكف توراتية]‪ -‬ىي جزء مف سمسمة جبمية ال وجود ليا في‬
‫فمسطيف‪ ،‬ومف المستحيؿ تخيؿ امكانية زواليا‪ ،‬فحتى لو افترضنا أف ىذه األسماء تالشت‬
‫أو ضاعت‪ ،‬فإف السمسمة الجبمية ستظؿ ىناؾ"[‪..]1‬؟!‬

‫عالمتي االستفياـ والتعجب في آخر النص مف عندي‪ ،‬فيذا القوؿ مثير لمدىشة والغرابة‬
‫ّ‬
‫بؿ ومثير لمفجيعة‪ ،‬حتى أني قمت في نفسي حيف قرأتو‪" :‬يالميوؿ"؟!‬

‫أال يوجد جباؿ في فمسطيف؟!‬

‫إف طفالً في الصؼ السادس مف التعميـ األساسي يعمـ جيداً أف جغرافية فمسطيف حافمة‬
‫بالجباؿ وبالسالسؿ الجبمية‪ ،‬بؿ أف إقميـ المرتفعات جزء ميـ مف تضاريس فمسطيف‪ .‬فيناؾ‬
‫سمسمة جباؿ الخميؿ وراـ اهلل وسمسمة جباؿ الكرمؿ وىي مناطؽ مشيورة لمقاصي والداني‪،‬‬
‫فضالً عف أف جغرافية فمسطيف عامرة باليضاب والتالؿ واآلكاـ واآلطاـ والجبع والجبعات‬
‫المتفاوتة في المساحة واالرتفاع‪ ،‬عمى نحو يفرض أف تكوف كؿ طرؽ فمسطيف صعوداً‬
‫وىبوطاً ألي كاف بش ارً أو بعي ارً‪.‬‬

‫[‪ .]1‬فاضؿ الربيعي‪ :‬فمسطيف المتخيمة‪ ،‬المجمد (‪ ،)1‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪75‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫منذ المحظة التي يقع فييا نظره عمى غالؼ كتاب "فمسطيف‬ ‫ىذا ما يجده القارئ‬
‫المتخيمة"‪ ،‬ثـ في أوؿ دليؿ يقدمو الربيعي إلثبات نظريتو في الصفحة رقـ (‪ ،)24‬فماذا يتوقع‬
‫القارئ بعد ذلؾ أف يجده في (‪ )1255‬صفحة لمجمديف ثقيميف‪ ،‬ال أثقؿ منيما إال كتب ومجمدات‬
‫تفاسير التوراة‪.‬‬

‫في رأيي‪ ،‬أف عمالً مثؿ ىذا ال يخرج عف نطاؽ كتب التفسير والتأويؿ لمنصوص الدينية‬
‫التي يكتبيا ويؤلفيا الحاخامات وسدنة التوراة‪ ،‬والتي ال عالقة ليا بأي شيء مما يسمى اليوـ ب ػ‬
‫"العمـ"‪.‬‬

‫ىكذا ىو الحاؿ‪ ،‬نجد أف شعارات رواد ىذه النظرية تقتمنا دفاعاً عف فمسطيف وتاريخ‬
‫فمسطيف وجغرافية فمسطيف‪ ،‬ولكف ىذا ال يتجاوز الصفحات القميمة األولى مف أعماليـ‪ ،‬أما بعد‬
‫ذلؾ فكؿ تطبيقاتيـ البحثية مسخرة لخدمة القصص التوراتية‪ :‬البحث عف نوح‪ ،‬اقتفاء أثر رحمة‬
‫ابراىيـ‪ ،‬تتبع مسار دخوؿ بني اسرائيؿ الى مصر وخروجيـ منيا‪ ،‬البحث عف يوسؼ وموسى‬
‫في قوائـ األسماء المصرية والبابمية والصينية والطحينية‪ ،‬شرح النص التوراتي بشأف غزوات‬
‫يشوع بف نوف‪ ،‬ومممكة داوود وسميماف‪ ،‬الخ الخ الخ‪ ..‬كؿ ما سكتت عنو المكتشفات األثرية‬
‫يتكمموف ىـ عنو ويحتفوف بو‪ ،‬ويخبرونا بأنيا حقائؽ حدثت في عسير ونجراف واليمف وجزيرة‬
‫كوريا موريا في البحر األحمر‪..‬‬

‫شعاراتيـ في و ٍاد وأعماليـ في و ٍاد آخر‪!!..‬‬

‫والسؤاؿ الذي أطرحو وسبؽ أف طرحو آخروف مف قبمي‪ :‬إذا كاف التاريخ التوراتي ليس‬
‫ىو تاريخ فمسطيف‪ ،‬فأيف ىو تاريخ فمسطيف الحقيقي؟!‬

‫لماذا ال يكشفوف عف تاريخ فمسطيف الحقيقي بدالً مف اليوس بأحداث التوراة‪ ،‬وكمماتيا‬
‫ومسمياتيا؟!‪ -‬ىذا ال ييـ رواد نظريتنا الفطاحؿ‪ ،‬الميـ عندىـ ىو تاريخ التوراة وأحداث التوراة‪.‬‬

‫أال يبدو ألحد ىنا‪ ،‬أننا نقؼ أماـ نظرية ال تؤدي إال الى تشويش الوعي التاريخي‬
‫والجغرافي لمجيؿ الحالي واألجياؿ القادمة‪ ،‬وأف ثمة عالقة مريبة بيف ىذه النظرية الجغرافية وبيف‬

‫‪76‬‬
‫انفصم انثاني‬ ‫تفكيك انبناء املنطقي واملنهجي نهنظريت‬

‫مفاىيـ السياسة الدولية المعاصرة عف خارطة الشرؽ األوسط الجديد‪ ،‬واألحداث التي تشيدىا‬
‫المنطقة‪ ،‬حيث يجري تمزيؽ األوطاف وشرذمة الشعوب العربية عمى أسس عرقية وطائفية ممفقة‬
‫ومزيفة‪ ،‬في اتجاه يقود نحو سايكس بيكو جديدة أو ما شابو‪ ،‬بينما تنعـ اس ارئيؿ فوؽ األرض‬
‫العربية المحتمة بأماف اهلل وأماف ييوه وكؿ اآللية؟!‪ -‬أترؾ الحكـ لكـ اعزائي القراء‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫انفصم انثانث‬

‫املنهح اجلهنًي وحقيقح انتزوير‬

‫حسناً‪ ،‬لنبدأ األمر مجدداً‪..‬‬

‫كالبداية ىذه المرة مف عند اكتشاؼ تكصمت إليو بالصدفة العجيبة كغير البريئة‪ ،‬إذ‬
‫اكتشفت أف قمب كممة [منيج] يؤدم الى كممة [جينم]‪ .‬إنو اكتشاؼ ينطكم عمى كاحد مف‬
‫أعمؽ المعاني كأصدقيا عمى اإلطالؽ‪ ،‬فقمب الحقائؽ كتزييفيا في كؿ معتقدات البشر‬
‫كأخالقياتيـ ال يؤدم إال الى جينـ‪.‬‬

‫لكـ شعرت ببالغة ىذا التحكيؿ المفظي الرائع كالمدىش‪ ،‬في مناسبة مثؿ ىذه التي‬
‫أعيشيا مع سطكر كصفحات ىذه الدراسة‪ .‬كلكـ أليمني ىذا المعنى البميغ كضاعؼ مف عزمي‬
‫عمى انجاز ميمتي‪ ،‬كبمكغ غايتيا في منتياىا‪.‬‬

‫مف ىنا جاءت تسمية ىذا الفصؿ ب ػ "المنيج الجينمي وحقيقة التزوير"‪.‬‬

‫كاف مثاالن بسيطان لمغاية‪ ،‬لكنو كبكؿ جدية يحاكي المنيجية التي استخدميا ركاد نظرية‬
‫جغرافية التكراة في جمع كاستعراض أدلتيـ القائمة عمى التشابيات المفظية كظكاىر القمب‬
‫كالتحكيؿ كالتحريؾ كاالستبداؿ لمحركؼ كاألصكات كالمكاحؽ كالزكائد المفظية كتأثيراتيا الصرفية‬
‫كالنحكية عمى جذكر الكممات كمشتقاتيا‪ ،‬كالتي قامكا بتطبيقيا عمى أسماء المناطؽ في عسير‬
‫كغامد غرب الجزيرة العربية‪ ،‬كفي اليمف أيضان‪ ،‬كسردكىا لنا بكثافة كغ ازرة شديدة في بحكثيـ‬
‫كمؤلفاتيـ‪ ،‬باعتبارىا منيجيـ الذم تكصمكا بو الى إثبات أف جغرافية التكراة في جزيرة العرب‪،‬‬
‫كبالتالي كشؼ حقيقة التزكير الذم جرل عمى جغرافية التكراة‪.‬‬

‫كاف مف المفترض أف أنتقؿ في ىذا الفصؿ لمناقشة المقكلة الثالثة مف مقكالت ىذه‬
‫النظرية‪ ،‬كىي المقكلة التي تفيد بأف ىناؾ تطابقان كبي انر كمدىشان بيف أسماء األماكف كالمكاقع‬

‫‪78‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫الجغرافية التي ترد في التكراة كبيف أسماء المناطؽ كالمكاقع الجغرافية في جزيرة العرب‪( :‬عسير‪،‬‬
‫غامد كالسراة‪ ،‬اليمف)‪ ،‬غير أف ثمة تحكؿ جرل في ذىني انعكس عمى خطة الدراسة‪ ،‬فقد‬
‫شعرت بضركرة لفت االنتباه الى العالقة بيف المقكلة األكلى عف التزكير الذم طاؿ األسماء‬
‫كالمسميات الجغرافية‪ ،‬كالمقكلة الثالثة بشأف تشابو أسماء المكاقع الجغرافية بيف التكراة كمناطؽ‬
‫أخرل خارج نطاؽ الخريطة الفمسطينية‪.‬‬

‫أقصد أف ىناؾ ضركرة ممحة لضبط العالقة بيف مسألة [تزوير أسماء األماكن] مف‬
‫جية‪ ،‬كمسألة [تشابو تمك األسماء] مف جية أخرل‪ .‬فمكؿ منيما طبيعة خاصة كحساسية‬
‫متفاكتة المقدار كاألثر إزاء مسألة [المنيج] الذم اتبعو ىؤالء الركاد في معالجة النظرية برمتيا‪،‬‬
‫كازاء [النتائج التي توصل إلييا عمم اآلثار]‪ ،‬السيما كقد جرل إحالؿ تمؾ التشابيات المفظية‬
‫محؿ الدليؿ األثرم مف قبميـ‪ .‬فرأيت أف الفصؿ بيف المسألتيف سيككف أفضؿ لك أني راعيت‬
‫التشبيؾ الذم رسمت معالمو تمؾ المقكالت الثالث‪ ،‬كالذم حددت بو نقاط التماس بيف ىذه‬
‫المسائؿ األربع‪ ،‬إذ يمكف لخطكة رباعية كيذه تتـ عمى مرحمتيف– في ىذا الفصؿ كالفصؿ‬
‫القادـ‪ -‬أف تتيح فرصة لمتعرؼ بشكؿ مستقؿ عمى منيج ركاد ىذه النظرية مف الناحية التي‬
‫تتكشؼ فييا حقيقة التزكير الذم يقكلكف بو‪ ،‬كىذا مف جية‪ ،‬كمف جية أخرل فإنيا تدفع باتجاه‬
‫التعرؼ عمى نتائج عمـ اآلثار في االتجاه الذم يمكف مف خاللو الكشؼ عف حقيقة التشابو بيف‬
‫األسماء‪ ،‬كبيذا يتسنى لنا إدراؾ المسافة الفاصمة كضبط العالقة بينيا جميعان‪.‬‬

‫ىذا الفصؿ مكرس لمعالجة كبحث حقيقة التزكير‪ -‬أم تزكير أسماء المكاقع الجغرافية‬
‫فيما بيف التكراة كخريطة فمسطيف‪ -‬مف خالؿ التعرؼ عمى طبيعة المنيج المغكم الذم اتبعو‬
‫ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب‪.‬‬

‫[زور] كىك‬
‫بشكؿ مباشر‪ ،‬تفيدنا معاجـ المغة كقكاميس معاني المفردات بأف التزكير مف َّ‬
‫مف فعؿ الزكر‪ ،‬أم الميؿ عف الحؽ كقكؿ الكذب‪ ،‬أك باألحرل ىك تزييف الكذب كطمس الحقيقة‬
‫بقصد التضميؿ‪ ،‬أك ىك تمكيو الباطؿ بما يكىـ أنو حؽ‪ ،‬كيشمؿ التزكير كؿ فعؿ يغاير الحقيقة‬
‫بمحاكاتيا‪ .‬كىذا مفاده أف أساس التزكير ىك مضاىاة الحقيقة كمحاكاتيا كتقميدىا مف خالؿ‬

‫‪79‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫تحسيف الشيء أك تقكيمو بشكؿ ينتيي بو الى صكرة أخرل غير حقيقتو األصمية‪ ،‬كيمكف أف‬
‫يككف التزكير جزئيان أك كميان‪ ،‬كيمكف أف يككف ماديان أك معنكيان‪.‬‬

‫كلكف عمينا أف نأخذ في االعتبار دائمان أف التزكير‪ -‬أم تزكير‪ -‬ال يتـ بطريقة اعتباطية‬
‫أك عشكائية‪ ،‬بؿ أنو يرقى الى أف يككف مجاالن لو فنكنو كمياراتو المتقنة كالبالغة التمكف‬
‫كاالحتراؼ‪ ،‬كمف الناحية العممية ال يمكف إجراء تزكير بدكف منيجية متبعة إلجرائو‪.‬‬

‫بالعكدة الى حيث قمت في الفصؿ األكؿ مف ىذه الدراسة‪ ،‬أف منطؽ الحكمة كالعقؿ يقكؿ‪،‬‬
‫إذا كنا نتحدث عف تزكير مس أسماء المناطؽ الجغرافية التي ترد في التكراة أك في جغرافية‬
‫فمسطيف الكاقعية‪ ،‬فالبد أف نعرؼ متى حدث ىذا التزكير ككيؼ حدث‪ ،‬كمف الذم قاـ بو ككيؼ‬
‫بناء عمى‬
‫قاـ بو‪ ،‬ككيؼ جرل تثبيتو ككيؼ يمكننا اثبات كقكعو‪ ،‬كاثبات آثاره كاستعادة الحقيقة ن‬
‫ذلؾ كمو‪ .‬فإف خطتي ليذا الفصؿ تقتضي أف نتعرؼ أكالن كبصكرة تطبيقية عمى [المنيج‬
‫المغوي] الذم اتبعو ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب في الكشؼ عف حقيقة‬
‫التزكير الذم يقكلكف بحصكلو عمى أسماء المكاقع الجغرافية في التكراة‪ ،‬كالذم مكف كؿ كاحد‬
‫منيـ مف إعادة األمكر الى نصابيا بطريقتو‪ ،‬كىذا بدكره سكؼ يساعدنا في إدراؾ كجية نظرىـ‬
‫إزاء ىذه المسألة‪..‬‬

‫كليكف اهلل في عكننا مف بعد‪..‬‬

‫‪80‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫)‪(1‬‬
‫ٌ‬
‫[‪]1‬‬
‫ينهح ػهًي أو شؼىذج نغىيح‬

‫عالج األستاذ كماؿ الصميبي مسألة المنيج في كتابو "التكراة جاءت مف جزيرة العرب"‪،‬‬
‫انطالقان مف التأكيد عمى مكضكعو الرئيسي كىك "التكراة باعتبارىا في األساس نصان عبريان‪-‬‬
‫مكتكبان بالمغة العبرية"‪ ،‬كباعتبارىا في األصؿ مجمكعة نصكص تاريخية كأدبية كدينية بالغة‬
‫القدـ كتبت بأحرؼ أبجدية خالية مف الحركات كالضكابط‪ ،‬كألف ىذه المغة ابتعدت عف إطار‬
‫االس تعماؿ العاـ منذ قركف طكيمة‪ ،‬فإف ال أحد يعرؼ بالضبط كيؼ كانت تنطؽ كمماتيا أك‬
‫باألصح كيؼ كانت "تمفظ كتصكت" في العصكر القديمة‪ ،‬فضالن عف المسائؿ المتعمقة بالتيجئة‬
‫كالصرؼ كالنحك كاالصطالح‪ ،‬كمفردات المغة العبرية محددة الى حد ما بالكممات الكاردة في‬
‫النصكص التكراتية[‪.]2‬‬

‫ثـ أكد الصميبي عمى أنو كلقراءة التكراة العبرية كفيميا ينبغي أف يتبع الباحث تقميد‬
‫العبرية المتأخرة‪ ،‬أك أف يمتمس اإلرشاد مف المغات السامية التي مازالت حية مثؿ العربية‬
‫كالسريانية‪ ،‬السيما كأف ىذه األخيرة مازالت قيد الكجكد مف اآلرامية القديمة‪.‬‬

‫[‪ .]1‬عبارة "شعكذة لغكية" ىنا‪ ،‬مستكحاة مما كصؼ بو المؤرخ كالباحث الفرنسي "بيير ركسي" منيجيات‬
‫المستشرقيف التكراتييف المغكية كمعالجاتيـ االشتقاقية التي كظفكىا مف خالؿ ىذا المنيج إلثبات صحة الركاية‬
‫التكراتية بشأف تاريخ اسرائيؿ‪ ،‬حيث أشار الى "وىم معقد ومستمر لشعوذة اشتقاقية لغوية استطاع أن يجر‬
‫الناس ليروا في العبرانيين وفي ثقافتيم وكأنيم األجداد الساميين لتاريخ الشرق"‪ .‬أنظر‪ :‬بيير ركسي‪ :‬مدينة‬
‫ايزيس‪ -‬التاريخ الحقيقي لمعرب‪ ،‬ترجمة‪ :‬فريد جحا‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬دار البشائر لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪،‬‬
‫دمشؽ‪ .2004 ،‬ص ‪.25‬‬
‫[‪ .]2‬كماؿ الصميبي‪ :‬التكراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.57‬‬

‫‪81‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫لممسوريِّين][‪ ،]1‬كىـ العمماء‬


‫كبحسب الصميبي‪ ،‬فإنو كبفضؿ [األمانة العممية الدقيقة ُّ‬
‫الييكد التقميديكف القدماء الذيف ضبطكا النصكص التكراتية باإلشارات الصكتية‪ ،‬فإف النص‬
‫المكتكب باألحرؼ الساكنة لمتكراة العبرية كصؿ إلينا كما ىك تقريبان[‪.]2‬‬

‫يستمر الصميبي في بياف األسس التي أقاـ عمييا منيجو المغكم‪ ،‬قائالن‪:‬‬

‫"ما مف ديف إال كيعتني األتقياء كالمؤمنكف مف أتباعو أشد العناية بحفظ نصكصو‬
‫المقدسة في صيغتيا األصمية‪ ،‬فتستمر ىذه النصكص في الكجكد دكف أم تغيير يطاليا‬
‫عبر األجياؿ‪ .‬األمر نفسو الذم ينطبؽ عمى أسماء األماكف عمكمان‪ ،‬إذ تنتقؿ ىذه األسماء‬
‫مف جيؿ الى جيؿ بالتكارث التقميدم‪ ،‬كال تشيد تغيي ارن‪ ،‬عمى األقؿ في بنيتيا األساسية‪،‬‬
‫ميما مر عمييا مف زمف‪ .‬كحتى عندما يتـ تغيير في ىذه األسماء في بعض األحياف عف‬
‫قصد‪ ،‬فإف األسماء القديمة تبقى‪ -‬في معظـ الحاالت‪ -‬في الذاكرة الشعبية‪ ،‬كغالبان ما‬
‫تككف ىي الثابتة في النياية‪ .‬فمدينة "بعمبؾ" مثالن‪ ،‬أطمؽ عمييا اإلغريؽ كالركماف اسـ‬
‫"ىيميكبكليس" لمدة طكيمة‪ ،‬لكف اسميا األصمي "بعمبؾ" بقي بعد ذلؾ كثبت عمييا‪ ،‬ككذلؾ‬

‫[‪ .]1‬المسكرييف أك الماسكرييف‪ ،‬تسمية مشتقة مف كممة (الماسكرا) كىذه األخيرة مشتقة بدكرىا مف الجذر [م س‬
‫ر]‪ ،‬كالذم يعني نقؿ ككصؿ‪ ،‬كتشير تسمية الماسكرييف الى مف قامكا بعممية النقؿ‪ /‬الترجمة التي جرت لمنص‬
‫التكراتي‪ ،‬كىك النص الذم أصبح بمثابة أحد التقاليد الرئيسية التي تستند إلييا الديانة الييكدية‪ ،‬كالماسكرييف ىـ‬
‫الكتبة الذيف قامكا بإعداد نسخة مكحدة لمتكراة‪ ،‬بيدؼ حسـ الخالفات التي كانت قائمة بشأف تعدد نصكصيا‬
‫كتباي نيا‪ ،‬مع األخذ بعيف االعتبار أنو ال تكجد مخطكطة كاممة لمنص الماسكرم‪ ،‬الذم بدأت عممية نقمو في‬
‫القرف السابع الميالدم كانتيت في القرف العاشر الميالدم‪ ،‬مع التخمص مف كافة النصكص القديمة بإقرار كؿ‬
‫الطكائؼ الييكدية‪ .‬فقد كانت ىناؾ نصكصان تكراتية معتمدة قبؿ كجكد النص الماسكرم‪ ،‬كالذم مازاؿ محؿ‬
‫خالؼ بشأنو حتى اليكـ‪ ،‬فضالن عف االشكاليات التي أثارىا اكتشاؼ مخطكطات قمراف أك ما يعرؼ‬
‫بمخطكطات البحر الميت في النصؼ الثاني مف القرف العشريف‪ ،‬كالتي ظمت محؿ حجب مف قبؿ المؤسسات‬
‫الييكدية لعدة عقكد كلـ يفرج عنيا إال في عاـ ‪ ،1982‬حيث يرل بعض نقاد التكراة الى أف ىذه المخطكطات‬
‫كشفت عف كجكد أخطاء كتحريفات كبيرة في النص الماسكرم‪ ،‬بينما رأل التيار المدافع عف مصداقية التكراة أف‬
‫مخطكطات قمراف أثبتت مدل دقة الترجمة الماسكرية‪ ،‬كفي كؿ األحكاؿ فإف الجدؿ بيذا الشأف مازاؿ قائمان كلـ‬
‫يحسـ بعد‪( .‬الباحث)‬
‫[‪ .]2‬كماؿ الصميبي‪ :‬التكراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.58‬‬

‫‪82‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫"بيركت" ك"الالذقية" كغيرىا مف المدف التي جرل في ظركؼ معينة تغيير أسمائيا لكنيا‬
‫استعادت اسمائيا األصمية بعد زكاؿ تمؾ الظركؼ‪ ،‬كاألمثمة عمى ذلؾ كثيرة"[‪.]1‬‬

‫كالصميبي يعتبر أف دراسة أسماء األماكف تخدـ بطريقتيا الغرض نفسو الذم يخدمو‬
‫عمـ اآلثار الميداني‪ ،‬بفارؽ أف االكتشافات األثرية ىي اكتشافات خرساء‪ ،‬ما لـ تتضمف‬
‫كتابات منقكشة‪ ،‬في حيف أف أسماء األماكف ناطقة‪ ،‬تخبرنا بما ىي كبكيفية نطقيا‬
‫الفعمي‪ ،‬كبالمغة التي انبثقت عنيا‪ ،‬كفي غياب النقكش األثرية تبقى االكتشافات األثرية‬
‫صعبة التفسير‪ ..‬في حيف أف أسماء األماكف ال تقدـ معمكمات بحجـ ما تقدمو المكتشفات‬
‫األثرية‪ ،‬إال أنيا تمتمؾ عمى األقؿ فضيمة اليقيف المطمؽ أك النسبي‪ .‬كعمى سبيؿ المثاؿ‪،‬‬
‫فإذا كجد الباحث مجمكعة مف أسماء األماكف في غرب الجزيرة العربية‪ ،‬تتحدر مف لغة‬
‫مطابقة بأحرفيا الساكنة لمعبرية التكراتية أك لآلرامية التكراتية‪ ،‬فإنو‪ -‬أم الباحث‪ -‬يمكف‬
‫أف يستنتج أف بال تردد أف لغات مطابقة أك مماثمة لمعبرية كاآلرامية التكراتيتيف كانت‬
‫تستخدـ في القدـ لمكالـ في غرب الجزيرة العربية‪ ،‬كذلؾ قبؿ ألفي سنة‪ -‬أم قبؿ أف‬
‫تصبح المغة العربية ىي لغة الكالـ السائدة ىناؾ‪ .‬كاذا أمكف البرىاف بأف لعدد كبير مف‬
‫أسماء األماكف التكراتية ميما كانت أصكليا المغكية‪ ،‬مثائميا الحية في غرب الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬في حيف أف القميؿ منيا ليا مثائؿ في فمسطيف‪ ،‬فإف مف المعقكؿ طرح السؤاؿ‬
‫التالي‪ :‬ىؿ التكراة العبرية سجؿ ألحداث تاريخية جرت في غرب الجزيرة العربية كليس‬
‫في فمسطيف؟[‪.]2‬‬

‫يفترض الصميبي دكف أف يككف الفتراضو أم أساس لغكم أك تاريخي‪ -‬بأف أصكؿ أسماء‬
‫األماكف في غرب الجزيرة تعكد الى المغة العبرية‪ ،‬كىذا افتراض ال أساس لو في مقابؿ ما ىك‬
‫متكفر مف األدلة المغكية التاريخية كاألثرية التي تؤكد عركبة جزيرة العرب بحيث أطمؽ عمييا‬
‫ىذا االسـ‪ ،‬كاني ألتساءؿ عالما اعتمد الصميبي في بناء افتراضو ىذا بكجكد أصؿ عبرم‬
‫ألسماء المناطؽ العربية في جزيرة العرب‪ ،‬أك خضكعيا لتحكالت لغكية فيما بيف العربية‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.60 -59‬‬


‫[‪ .]2‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.60‬‬

‫‪83‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫كالعبرية‪ ،‬إال أف يككف افتراضو قائمان عمى التصكر الييكدم التكراتي الذم يقكؿ بأسبقية المغة‬
‫العبرية عمى غيرىا‪ ،‬فيذا شأف آخر‪.‬‬

‫يعرؼ الصميبي منيجو بأنو‪" :‬مقارنة لؤلسماء السامية القديمة لؤلماكف التي تكردىا‬
‫التكراة بالتيجئة العبرية‪ ،‬مع أسماء أماكف مازالت مكجكدة في عسير كجنكب الحجاز‪،‬‬
‫كىي أسماء تكردىا المعاجـ بالتيجئة العربية‪ .‬كىناؾ ما يقارب (‪ )3000‬سنة تفصؿ‬
‫الصيغ التكراتية ليذه األسماء عف مثائميا الراىنة‪ .‬كفي إطار [التغيرات المغوية التاريخية]‬
‫تبدك ىذه الفترة الزمنية طكيمة جدان‪ ،‬كالبد أنيا استكعبت أكثر مف تغير لغكم كاحد جرل‬
‫في بالد الشرؽ األدنى‪ ،‬ناىيؾ عف [التحوالت] الطارئة عمى الميجات المحكية في كؿ‬
‫مرحمة‪ .‬كال عجب أف [األسماء التوراتية شيدت بعض التحريف] خالؿ ذلؾ‪ ،‬إال أف‬
‫المدىش فعالن ىك أف ىذه األسماء بقيت في أكثرىا قابمة لمتمييز الفكرم في زييا العربي‬
‫الراىف[‪.]1‬‬

‫يبيف لنا الصميبي في سياؽ شرحو لمنيجو‪ ،‬أنو مف الطبيعي أف تككف أسماء األماكف‬
‫التكراتية في غرب الجزيرة العربية قد شيدت بعض التغير في إطارم عمـ األصكات الكالمية‬
‫كعمـ التشكؿ الكالمي بعد مركر ثالثة آالؼ سنة‪ ،‬كمثاؿ عمى ذلؾ يمكف لؤلحرؼ الساكنة في‬
‫العبرية أف تصبح مختمفة في العربية كالعكس بالعكس مف خالؿ خاصية [االستبدال]‪ -‬أم تبدؿ‬
‫أماكف الحركؼ الساكنة داخؿ الكممات بيف لغتيف [ساميتين][‪ ،]2‬بؿ كبيف الميجات المختمفة لمغة‬
‫الكاحدة‪ .‬كما أف بعض الكممات أك األسماء يمكف أف تتعرض لمتحريؼ الناجـ عف التقديـ‬
‫الكتابي‪ ،‬فاألبجدية السامية في األصؿ تألفت مف (‪ )22‬حرفان ساكنان بما فييا اليمزة‪ ،‬كالكاك‬
‫كالياء‪ ،‬لكف نتيجة اختالؼ النطؽ بيف المغات ىذه‪ ،‬فقد كانت تعتمد حركفان كثيرة فييا أكثر مف‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.61‬‬


‫[‪ .]2‬مصطمح الشعكب السامية كالمغات السامية‪ ،‬صار محؿ انتقادات شديدة مف قبؿ الكثير مف الباحثيف في‬
‫الغرب كفي المنطقة العربية‪ ،‬إذ أنو باألساس مصطمح مخترع حديثان مف قبؿ أحد المستشرقيف الييكد‪ ،‬كما أنو‬
‫مستكحى مف النظرية العرقية التي تقدميا الركاية التكراتية‪ .‬فقد انتقدىا كرفضيا بشدة بعض ركاد نظرية‬
‫الصميبي‪ ،‬كفي مقدمتيـ الباحث السكرم األستاذ أحمد داككد‪ ،‬كالمبناني األستاذ فرج اهلل صالح ديب‪ ،‬ككذلؾ‬
‫الفمسطيني األستاذ أحمد الدبش‪( .‬الباحث)‬

‫‪84‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫الحركؼ التي تحددىا األبجدية‪ ،‬ككاف الناس يعكف العالقة بيف أحرؼ النطؽ كأحرؼ الكتابة‬
‫ىذه عف طريؽ الحدس‪ .‬ثـ في مراحؿ أخرل تمت عممية زيادة حركؼ األبجدية في بعض ىذه‬
‫المغات مف خالؿ عممية التنقيط أك ما شابو‪ ،‬كصار االعتماد عمى األبجدية أكبر في نطؽ‬
‫الكممات المكتكبة‪ ،‬كنتيجة لذلؾ كمو‪ ،‬فقد يحؿ حرؼ في المغة العبرية محؿ حرؼ آخر في المغة‬
‫العربية[‪.]1‬‬

‫جدول (‪ :)1‬الحروف التي تخضع لقواعد االستبدال بين المغتين العبرية والعربية‬
‫كما وضحيا كمال الصميبي‬
‫احلروف انؼرتيح‬ ‫احلروف انؼربيح‬

‫ك‪ ،‬م‬ ‫ء‬

‫غ‪ ،‬ؽ‬ ‫ج‬

‫ذ‪ ،‬ز‪ ،‬كأحيانان ت‪ ،‬ض‪ ،‬ظ في المفظ العامي‬ ‫د‬

‫ء‪ ،‬م‬ ‫ك‬

‫ذ‪ ،‬ص‪ ،‬ض‪ ،‬ظ‬ ‫ز‬

‫خ‬ ‫ح‬

‫ت‬ ‫ط‬

‫ء‪ ،‬م‬ ‫م‬

‫خ‪ ،‬ؽ‬ ‫ؾ‬

‫ف (في الحقة جمع المذكر خاصة)‬ ‫ـ (في الحقة جمع المذكر خاصة)‬

‫ـ‬ ‫ف‬

‫غ‬ ‫ع‬

‫ث‬ ‫ؼ‬

‫س‪ ،‬ض‪ ،‬ز‪ ،‬ظ‬ ‫ص‬

‫[‪ .]1‬كماؿ الصميبي‪ :‬التكراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.22 -21‬‬

‫‪85‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫ج‪ ،‬غ‪ ،‬ؾ‬ ‫ؽ‬

‫س‪ ،‬ث‬ ‫ش‬

‫ش‬ ‫س‬

‫ث‪ ،‬ط‬ ‫ت‬

‫كبحسب الصميبي‪ ،‬تبقى أربعة حركؼ عبرية (ب‪ ،‬ق‪ ،‬ؿ‪ ،‬ر) ال تتحكؿ الى‬
‫حركؼ أخرل عربية‪ ،‬بؿ تبقى ىي نفسيا في الجذكر المشتركة بيف المغتيف‪ ،‬ككذلؾ‬
‫حرؼ (س السامؾ) بالعبرية يبقى سينان بالعربية‪ ،‬كقد يتحكؿ الى (ص) في المفظ‪،‬‬
‫كربما الى (ز)‪ ،‬كال كجكد لمتاء المربكطة (ة) كاأللؼ المقصكرة (ل) في العبرية‬
‫كيستعاض عنيما كالحقتي التأنيث بالياء (ق)‪ ،‬كىاء التأنيث العبرية تنقمب (ت)‬
‫عادية‪.‬‬
‫المصدر‪ :‬كمال الصميبي‪ :‬التوراة جاءت من جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.22 -21‬‬

‫كمف الظكاىر التي تجرم عمى الكممات كاألسماء بيف المغات السامية‪ ،‬تمؾ المتعمقة‬
‫بأدكات التعريؼ‪ ،‬فكثي انر ما ينقمب حرؼ (ؿ) في أسماء األماكف التكراتية ميما كاف مكضعو في‬
‫الكممة‪ ،‬الى (أؿ) التعريؼ في االسـ المعرب‪ ،‬عمى نحك[‪:]1‬‬

‫[جمعد] (عبرية) ــــــــــــــــــــــــــــــــ تحول الى ـــــــــــــــــــــ [الجعد] (عربية)‪.‬‬

‫[لمعمو] (عبرية) ــــــــــــــــــــــــــــــــ تحولت الى ـــــــــــــــــــــ [المعالة] (عربية)‪.‬‬

‫كأيضان أداة التعريؼ العبرية (ق) تتحكؿ الى (اؿ) التعريؼ في العربية‪.‬‬

‫كىناؾ أسماء األماكف التكراتية عمى كزف (يفعؿ‪ /‬تفعؿ) تتحكؿ الى العربية عمى كزف‬
‫(فعؿ‪ /‬فعمو)‪ ،‬عمى نحك[‪:]2‬‬

‫[يقطن] (عبرية) ــــــــــــــــــــــــــــــــ تحول الى ـــــــــــــــــــــ [قطن] (عربية)‪.‬‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.23‬‬


‫[‪ .]2‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.23‬‬

‫‪86‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫[تعنك] (عبرية) ــــــــــــــــــــــــــــــــ تحولت الى ـــــــــــــــــــــ [عنقو] (عربية)‪.‬‬

‫كيمكف أف تككف المقابمة بيف األلفاظ دكف النظر في لكاحقيا كأحرؼ العمة‪ ،‬عمى نحك[‪:]1‬‬

‫[شمرون] (عبرية) ــــــــــــــــــــــــــــــــ تحولت الى ـــــــــــــــــــــ [شمرن‪ /‬شمران] (عربية)‪.‬‬

‫[شبعو] (عبرية) ــــــــــــــــــــــــــــــــ تحولت الى ـــــــــــــــــــــ [شبع‪ /‬شباعة] (عربية)‪.‬‬

‫اعتمادان عمى ىذا المنيج في مقابمة األسماء "عثر الصميبي عمى كامل األرض التوراتية‬
‫في غرب الجزيرة العربية‪ ،‬ويمكن اعطاء أمثمة عمى نتائجو في مجموعتين‪ ،‬المجموعة األولى‬
‫مقابالت يمكن النظر فييا‪ ،‬أما المجموعة الثانية فجاءت نتائجيا نتيجة عمميات معقدة من‬
‫القمب واالستبدال"[‪.]2‬‬

‫عمكمان‪ ،‬يمكف التعرؼ عمى طبيعة النتائج التي تكصؿ إلييا الصميبي مف خالؿ تطبيؽ‬
‫منيج مقارناتو المغكية بيف األسماء التكراتية كأسماء المناطؽ التي كجدىا بالصدفة في منطقة‬
‫عسير غرب الجزيرة العربية‪ ،‬في ضكء ما يبينو الجدكؿ التالي‪.‬‬

‫جدول (‪ :)2‬نماذج من المقابالت والمقارنات المغوية لألسماء التوراتية وأسماء‬


‫المناطق في عسير كما قام بيا الصميبي‬
‫اسى املكاٌ املقاتم يف غرب اجلزيرج انؼرتيح‬ ‫اسى املكاٌ انتىراتي‬

‫اجملًىػح األوىل‬
‫الق اررة‬ ‫جرار‪ /‬جرر‬

‫القناع‬ ‫كنعاف‪ /‬كنعف‬

‫آؿ عزه‬ ‫غزة‪ /‬غز‬

‫آؿ زيداف‬ ‫صيدكف‪ /‬صيدف‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.24‬‬


‫[‪ .]2‬فراس السكاح‪ :‬الحدث التكراتي كالشرؽ األدنى القديـ‪ :‬ىؿ جاءت التكراة مف جزيرة العرب‪ -‬نظرية كماؿ‬
‫الصميبي في ميزاف النقد كالحقائؽ العممية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪87‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫زكر الكادعة‬ ‫صكر‪ /‬صر‬

‫القابؿ‬ ‫جبيؿ‪ /‬جبؿ‬

‫عيف قديس‬ ‫قادش‪ /‬قدش‬

‫دامس‬ ‫سدكـ‪ /‬سدـ‬

‫الغمر‬ ‫عمكرة‪ /‬عمرة‬

‫مقدم‬ ‫مجدك‪ /‬مجد‬

‫كفيو‬ ‫يافك‪ /‬يؼ‬

‫اجملًىػح انثانيح‬
‫طناطف‬ ‫نتينيـ‪ /‬نتيف‬

‫العثابيات‬ ‫طباعكت‪ /‬طبعكت‬

‫الكرباس‬ ‫برقكس‪ /‬برقس‬

‫رصفو‬ ‫ىسكفرت‪ /‬ق‪-‬سفرت‬

‫القائـ‬ ‫ادكنيقاـ‪ /‬ءد‪-‬نيقـ‬

‫الجعافر‬ ‫فرعكش‪ /‬فرعش‬

‫مشاجيب‬ ‫مغبيش‪ /‬مجبيش‬

‫الضيؽ‬ ‫زكام‪ /‬زكي‬

‫المفاتيح‬ ‫نفتكحيـ‪ /‬نفتحيـ‬

‫الشرفات‬ ‫فتر كسيـ‪ /‬فتر سيـ‬

‫الرفقات‬ ‫كفتكريـ‪ /‬كفتريـ‬

‫الجرعاف‬ ‫عقركف‬

‫آؿ شريـ‬ ‫اكرشميـ‬


‫المصدر‪ :‬فراس السواح‪ :‬الحدث التوراتي والشرق األدنى القديم‪ -‬ىل جاءت التوراة‬
‫من جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.13 -12‬‬

‫‪88‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫كعندما لـ يجد الصميبي مقابالن لبعض األسماء التكراتية‪ ،‬عمد الى الجمع بيف اسميف‬
‫لمكقعيف متجاكريف في غرب الجزيرة كاعتبرىما معان مقابالن لالسـ التكراتي‪ ،‬عمى نحك[‪:]1‬‬

‫[كركميش] ــــــــــــــــــــــــــــــــ حددىا بموقعين ىما ـــــــــــــــــــــ [القر]‪[ ،‬القماشة]‪.‬‬

‫[أورشميم] ــــــــــــــــــــــــــــــــ حددىا بموقعين ىما ـــــــــــــــــــــ [أروي]‪[ ،‬آل سالم]‪.‬‬

‫كفي إحدل الطرؽ التي اتبعيا كماؿ الصميبي كفؽ منيجو المغكم ىذا‪ ،‬ما استخدميا عند‬
‫تفسيره السـ [ممكي صدق] الذم يرد في التكراة متعمقان بشخصية النبي ابراىيـ‪ ،‬فالمعنى السائد‬

‫ليذا االسـ أنو اسـ عمـ لشخصية تاريخية‪ ،‬لكف الصميبي يستنبط لو معنى جديدان تمامان مخالفان‬
‫لكؿ التفسيرات المكسكية (الييكدية) كالمسيحية‪ ،‬حيث أصبح معنى االسـ بحسب منيجو المغكم‬
‫[ألوك صدق] أي "ما يؤكل من الطعام"[‪ -!!..]2‬كقد اعتبر الصميبي تفسيره ىذا بأنو كشؼ‬
‫عظيـ‪.‬‬

‫جدير بالذكر أف الصميبي طالب بتطبيؽ ىذا المنيج ليس عمى التكراة فحسب‪ ،‬بؿ كعمى‬
‫السجالت القديمة المصرية كالعراقية التي تشير الى األسماء التكراتية‪ ،‬فأكد عمى ضركرة إعادة‬
‫قراءاتيا بعيدان عف التأكيالت الجغرافية كالطكبكغرافية القائمة‪ ،‬كبعيدان أيضان عف أعماؿ عمماء‬
‫التاريخ كالجغرافيا الكالسيكييف التي قد تككف مساعدة[‪.]3‬‬

‫يبدك حتى اآلف‪ ،‬أف الصميبي ال يرل حدكث أم تزكير في أسماء األماكف التكراتية‪ ،‬كأف‬
‫األمر برمتو ناتج عف التحكالت المغكية التي طرأت عمى تمؾ األسماء في مناطقيا األصمية‪،‬‬
‫كعكامؿ أخرل تاريخية مثؿ [فقدان الذاكرة الجمعية لشعب اسرائيل]‪ ،‬كالذم أدل الى نسيانيـ‬
‫حقيقة أرضيـ األكلى‪ ،‬ثـ حدث أف ىذا الشعب انقرض كباد‪ ،‬في حيف بقيت الديانة الييكدية الى‬
‫ما بعد مرحمة السبي البابمي‪ ،‬كعندما عاد الييكد [معتنقي الديانة الييودية] الى أرض اسرائيؿ‬
‫األكلى في غرب الجزيرة العربية لـ يجدكا فييا أسبابان لمعيش‪ ،‬فساحكا كتشتتكا في األرجاء‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.13‬‬


‫[‪ .]2‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫[‪ .]3‬كماؿ الصميبي‪ :‬التكراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.71‬‬

‫‪89‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫كارتحمكا الى فمسطيف كاستقركا بيا‪ ،‬كىناؾ قامكا بإحياء ما عمؽ بذاكرتيـ مف تمؾ األسماء‬
‫لمناطقيـ األصمية كأطمقكىا عمى مناطقيـ الجديدة‪ ،‬كمف ثـ تمكنكا في مرحمة ما مف تاريخ‬
‫كجكدىـ في فمسطيف مف إقامة دكلة ليـ فييا ابتداء مف سنة (‪ 140‬ؽ‪ .‬ـ)‪ ،‬كمف بعد ذلؾ كمو‬
‫ساد االعتقاد بأف جغرافية التكراة ىي فمسطيف[‪.]1‬‬

‫أدعك القارئ العزيز ىنا‪ ،‬الى االحتفاظ بالفكرة السابقة التي رسـ بيا الصميبي مسار تاريخ‬
‫بني اسرائيؿ كمرحمة مف مراحؿ تاريخ الديانة الييكدية‪ ،‬ثـ انقراضيـ كبقاء الديانة محمكلة عمى‬
‫كاىؿ معتنقييا مف غير بني اسرائيؿ‪ ،‬بحيث لـ يعد ىناؾ أم سبب لمحديث عف أم اثنية‬
‫مرتبطة بيا في مراحميا التاريخية الالحقة‪ ،‬ألف ىذه الفكرة ستقكدنا الحقان الى استنتاجات صادمة‬
‫لمغاية‪.‬‬

‫بيد أف الصميبي كقد أشاد باألمانة العممية لمماسكرييف‪ ،‬لـ يمانع في القكؿ باحتماؿ أف‬
‫ىناؾ تالعبان أك شيئان مف ىذا القبيؿ قد كجد في متف النص التكراتي‪ ،‬فقد أشار في سياؽ‬
‫محاكلتو فؾ طالسـ إحدل األحجيات التي صادفيا باستخداـ منيجو المغكم‪ ،‬الى تالعب كامف‬
‫في بنية النص التكراتي نفسو‪ ،‬كليس أنو كاقع عميو‪ .‬فالطريقة التي كتبت بيا بعض األسفار‬
‫انطكت عمى تالعب كالمي أك ما شابو‪ ،‬مف شأنو أف يضمؿ عف حقيقة األماكف المقصكدة‬
‫بالفعؿ‪:‬‬

‫"كلعؿ ىناؾ تالعبان بالكممات قد جرل في بعض النصكص التكراتية‪ ،‬كالتي كثي ارن ما‬
‫تحاكؿ أف تكحي معاني ألسماء األعالـ كاألماكف عف طريؽ ىذا التالعب الكالمي‪،‬‬
‫خصكصان في األسفار التي تعالج فترات ما قبؿ التاريخ‪ ،‬كالتي تعنى باألساطير أكثر مف‬
‫كاقع األحداث"[‪.]2‬‬

‫مكجز لمنيج الصميبي‪ ،‬كمف ثـ فقد سار الباحث المبناني "زياد منى"‬
‫ان‬ ‫كاف ىذا تكضيحان‬
‫عمى كقع خطكات الصميبي كمنيجو‪ ،‬مقر انر أف‪:‬‬

‫[‪ .]1‬فراس السكاح‪ :‬الحدث التكراتي كالشرؽ األدنى القديـ‪ :‬ىؿ جاءت التكراة مف جزيرة العرب‪ -‬نظرية كماؿ‬
‫الصميبي في ميزاف النقد كالحقائؽ العممية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.19 -18‬‬
‫[‪ .]2‬كماؿ الصميبي‪ :‬التكراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.128‬‬

‫‪90‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫"ظاىرة االستبداؿ كالقمب بيف العبرية كالعربية ال تنحصر في الكممات كالمفردات‬


‫المتداكلة يكميان فحسب‪ ،‬بؿ انو ال يمكف االستغناء عنيا عند التعرؼ عمى األسماء‪ ،‬سكاء‬
‫الكارد منيا في العيد القديـ (التكراة)‪ ،‬أك في أم نقكش سامية أخرل"[‪.]1‬‬

‫كبعد أف أكرد "زياد منى" عددان مف األمثمة التي كضح مف خالليا كيؼ طبقت ظاىرتي‬
‫[القمب واالستبدال] مف قبؿ [عمماء االختصاص]‪ ،‬كخشية منو عمى أال يصاب القارئ بالممؿ‬
‫مف سرد المزيد مف األمثمة‪ ،‬فقد أكد عمى أف‪:‬‬

‫"جميع ما ساقو مف أمثمة يعد كافيان لتكضيح أف [عمماء التوراة] يكظفكف ىذه‬
‫الظاىرة المغكية بشكؿ ركتيني‪ ،‬أم أف ىذا ىك جزء مف منيجية عممية ال يمكف االستغناء‬
‫عنيا في مثؿ ىذه األبحاث المعقدة‪ ،‬كأف ما يحؽ ألىؿ االختصاص تكظيفو مف منيجية‪،‬‬
‫يجكز لغيرىـ مف العامميف في المجاؿ نفسو‪ ،‬كبال حرج"[‪.]2‬‬

‫لـ يتعرض "منى" لمسألة التزكير أك التالعب‪ ،‬بؿ لـ يكرس أم اىتماـ ليذه المسألة‪،‬‬
‫معتمدان في ذلؾ عمى ما أسسو الصميبي‪ ،‬كىذا ما يدفعني الى القكؿ بأف "الصميبي كمنى" ال‬
‫يقكالف بحدكث تزكير متعمد في األسماء الجغرافية التكراتية‪ ،‬بؿ يؤكداف بشكؿ أك بآخر عمى أف‬
‫األمر ناتج في األساس عف أسباب لغكية كتاريخية‪ ،‬ثـ عف قراءة خاطئة لمنصكص التكراتية‪،‬‬
‫ساىمت في تعميقيا القراءات االستشراقية‪.‬‬

‫عمى خالؼ الصميبي الذم بنى منيجو دكف أف يكضح لنا المصدر الذم اقتبسو منو‪،‬‬
‫يبيف لنا "منى" أف ىذا المنيج ىك باألساس ما طبقو عمماء االختصاص أم عمماء التكراة‪ ،‬كلعؿ‬
‫ىذا األخير تبنى كجية نظر استاذه الصميبي بشأف التالعب الكالمي الكامف في بنية النص‬
‫التكراتي‪ ،‬كالذم صار باإلمكاف اكتشافو بفضؿ ىذه المنيجية‪.‬‬

‫انتقاالن الى البحث عف طبيعة المنيج الذم اتبعو الباحث السكرم "أحمد داككد"‪ ،‬البد مف‬
‫تكضيح أم انر ميمان بشأف مساىمة أحمد داككد في ىذه النظرية مف الناحية العامة‪ .‬إذ يمكف القكؿ‬

‫[‪ .]1‬زياد منى‪ :‬جغرافية التكراة‪ :‬مصر كبنك اسرائيؿ في عسير‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫[‪ .]2‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.38‬‬

‫‪91‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫بأف داككد قد شؽ لو طريقان مختمفان تمامان عف سائر ركاد النظرية‪ ،‬إف لـ يصدؽ عميو القكؿ بأنو‬
‫ككف لنفسو نظرية تكاد تككف مستقمة بالفعؿ‪ ،‬لكال تمؾ الحمقة التي ربطت نظريتو بنظرية‬
‫الصميبي كاآلخريف‪ ،‬كالمتمثمة في اتجاىو الى إعادة قراءة التكراة كالسجالت األثرية كفؽ قكاعد‬

‫منيجية مغايرة لمقكاعد التي أرساىا المستشرقكف كعمماء اآلثار الغربيكف المنحازكف دكمان‬
‫لمصييكنية‪ -‬مف كجية نظره‪ .‬عدا ذلؾ نجد لدل داككد جيدان مختمفان تمامان‪ ،‬انطكل عمى‬
‫مضمكنات كثيرة تستحؽ بالفعؿ الكقكؼ عمييا‪.‬‬

‫لـ يخرج داككد في الشكؿ العاـ عف الفكرة الرئيسية لمنيج المقابالت المغكية‪ ،‬لكنو تفرد‬
‫في طرائقو التي اختصيا لنفسو‪ ،‬كمرجعياتو المغكية كالتاريخية كاألثرية التي اعتمدىا في دراساتو‪،‬‬
‫ناىيؾ عف التكجو العاـ لنظريتو كالذم يتسـ بطابع مميز تمامان عما ماؿ إليو الركاد اآلخركف‪.‬‬

‫بيد أننا إذا ما ركزنا عمى الجانب الذم يتفؽ فيو داككد مع أكلئؾ اآلخريف‪ ،‬فسنجد أنو قد‬
‫عبر عف كاحدة مف أىـ الحقائؽ الثابتة التي قررىا ىك‪ ،‬كحدد طبيعة التزكير الذم جرل عمى‬
‫جغرافية التكراة‪ ،‬كاآلتي‪:‬‬

‫"الحقيقة التاريخية كالجغرافية في مدكنات التكراة شيء كالتفسير االستعمارم –‬


‫الصييكني لؤلحداث كلجغرافيتيا شيء آخر‪ ،‬إنو بكممة تزكير فادح ككاضح‪ ،‬كأف‬
‫المكتشفات اآلثارية كالدراسات العممية المكثقة قد أكدت ىذه الحقيقة كفضحت التزكير‪.‬‬
‫كمف الحقائؽ أيضان أف الصكرة التاريخية كالجغرافية‪ -‬كما ىي في التزكير الصييكني‪ ،‬ىي‬
‫السائدة اليكـ كالمعممة في جامعات الغرب‪ ،‬كىي نفسيا ما يد َرس في الجامعات العربية‪،‬‬
‫ضاربيف عرض الحائط كؿ ما قالتو المكتشفات اآلثارية‪ ،‬كمغمضيف البصر كالبصيرة عف‬
‫األغراض السياسية االستعمارية لمصييكنية القابعة ذلؾ التزكير"[‪.]1‬‬

‫نفيـ مف كالـ داككد – حتى اآلف عمى األقؿ‪ -‬أف التزكير لـ يقع عمى النص التكراتي بؿ‬
‫عمى قراءتيا كتفسيرىا مف قبؿ المستشرقيف الذيف عممكا عمى الدكاـ في خدمة المشركعات‬
‫االستعمارية كالصييكنية‪ ،‬كبدالن مف أف تحاؿ األحداث التاريخية في التكراة أثناء عممية قراءتيا‬

‫[‪ .]1‬أحمد داككد‪ :‬العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.92‬‬

‫‪92‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫كتفسيرىا الى مكطنيا الحقيقي كىي منطقة "غامد" في غرب جزيرة العرب‪ ،‬تـ إحالتيا الى‬
‫جغرافية أخرل كىي جغرافية فمسطيف‪.‬‬

‫كمع ذلؾ‪ ،‬فإف "داككد" يضيؼ الى ىذا الفيـ أمك انر أخرل تفيد بأف النص التكراتي بالفعؿ‬
‫قد تعرض لعمميات تزكير عديدة‪:‬‬

‫"التكراة التي بيف أيدينا ليست ىي تكراة مكسى األصمية‪ ..‬ككما ىك ثابت لدينا فقد‬
‫كضعت ىذه التكراة كجمعت ألكؿ مرة في القرف الثالث قبؿ الميالد‪ -‬بعد زمف مكسى‬
‫بألؼ عاـ‪ ،‬ثـ خضعت لمترجمة الى لغات متعددة منيا السريانية كبقية المغات األخرل في‬
‫العالـ‪ .‬كما أضيفت لمتكراة أسفا ارن أخرل في مراحؿ تاريخية متعددة‪ ،‬كما تزاؿ حتى اليكـ‬
‫تخضع مف طبعة الى أخرل لعمميات تزكير في جغرافية ينبغي أف أال يغفؿ عنيا أم‬
‫دارس متمعف حصيؼ‪ .‬ف ػ "بحر" عربت‪ ،‬الذم كاف اسمان لنير الفرات حيف مركره في برية‬
‫شبو جزيرة العرب صار البحر الميت‪ ،‬كبحيرة "كناركت" في المكضع نفسو صارت بحرية‬
‫طبريا‪ ،‬كبيت صكر‪ -‬الذم ىك اسـ شخص‪ -‬صار مدينة صكر‪.]1["..‬‬

‫يتضح مما تقدـ كمف األمثمة التي قدميا داككد في النص السابؽ‪ ،‬أف منيجو ال يخرج عف‬
‫نطاؽ المنيج المغكم الذم رسـ معالمو الصميبي‪ ،‬غير أنو يجعؿ مقارناتو المغكية بيف التكراة‬
‫بنصيا اآلرامي‪ -‬كليس بنصيا العبرم‪ -‬كبيف القامكس الكمداني‪ ،‬فيعالج عمى سبيؿ المثاؿ معنى‬
‫كممة "فمسطيف"‪ ،‬عمى النحك اآلتي‪:‬‬

‫"إف الكممة ىي في األصؿ "فمستيـ" أك "فمشتيـ" كىي جمع "فمستك" كتعني في‬
‫العربية القديمة‪ :‬المحارب‪ ،‬المقاتؿ‪ ،‬الثقاب‪ ..‬الخ‪ .‬كىي فمشتك" في القامكس الكمداني"[‪.]2‬‬

‫كفي سياؽ متصؿ‪ ،‬يرسـ داككد مسا انر تاريخيان طكيالن لعممية التزكير التي حصمت كتكرر‬
‫حصكليا في جغرافية التكراة‪ ،‬كأف األمر برمتو يدخؿ في نطاؽ ما قاـ بو عمى الدكاـ مف كصفيـ‬
‫ب ػ [مزوي التاريخ] دكف أف يحدد لنا بالضبط منيـ‪:‬‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.94‬‬


‫[‪ .]2‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.106‬‬

‫‪93‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫"ما حدث ىك أف [مزوري التاريخ] نقمكا جغرافيان األحداث التكراتية مف منطقتيا‬


‫عمى كادم الفرات في غامد مف شبو الجزيرة العربية‪ ،‬كىي برمتيا عربية صميمة‪ ،‬الى‬
‫سكريا الغربية‪ -‬أم فمسطيف‪ ،‬فجعمكا مف عشيرة المصرييف بالد كادم النيؿ‪ ،‬كمف عشائر‬
‫الكنعانييف كالفمسطينييف جنكب سكريا‪ ،‬كمف عشيرة بني حث الكنعاني في أعالي الفرات‬
‫[الثرات‪ -‬أصل تسمية الفرات كما يقرر داوود] شعبان ىندك أكربيان في شماؿ سكريا‪ ،‬كمف‬
‫عشيرة الفمسطينييف شعبان بحريان كغريبان عف المنطقة"[‪.]1‬‬

‫كلكي يتضح األمر أكثر بشأف رؤية داككد لحقيقة التزكير الذم حصؿ‪ ،‬كالذم كشفتو أكالن‬
‫بناء عمييا أقاـ ىك نظريتو المختمفة لحقيقة التاريخ كالجغرافيا التي تحددىا‬
‫المكتشفات اآلثارية‪ ،‬ك ن‬
‫التكراة‪ ،‬البد مف التنكيو الى أنو يرل أف عممية التزكير ىذه بدأت منذ نشأة الييكدية كديف عندما‬
‫حاكلت آنذاؾ ىذه الديانة أف تربط نشأتيا بإبراىيـ كاسحؽ كيعقكب (اسرائيؿ) كبنيو‪ -‬الذيف ىـ‬
‫مف األركمة العربية بال شؾ عند داككد‪ ،‬ثـ جاءت الحركة الصييكنية حديثان كجعمت كؿ مف‬
‫ينتمي لمييكديػ ػة مف شتى األعراؽ كاألجناس ينتسبكف الى بني يعقكب‪ -‬أم الى بني اسرائيؿ[‪.]2‬‬

‫بناء عمى ىذه القناعات كغيرىا يعيد الباحث السكرم "أحمد داككد" تحديد مسرح أحداث‬
‫ن‬
‫التكراة في [غامد غرب الجزيرة العربية]‪ ،‬فيجد كفؽ منيج مقارناتو المغكية بدائؿ ل ػ أريحا ولبنان‬
‫وسعير وأدوم ونير األردن‪ ..‬وغيرىا مف األماكف التكراتية في مسرحو التكراتي الجديد‪.‬‬

‫تدعك الحاجة الى التأمؿ في منيجية المفكر العربي "فاضؿ الربيعي"‪ .‬فيي باألساس‬
‫منيجية لغكية منبثقة عف نفس المنيج المغكم الذم قاؿ بو الصميبي كالمستمد أصالن مف مناىج‬
‫المستشرقيف التكراتييف‪ ،‬كما رأينا مؤخ انر في تصريح لػ "زياد منى"‪ ،‬ككما سبؽ أف تبيف لنا في‬
‫الفصؿ األكؿ‪ .‬أما كيؼ أقاـ الربيعي منيجو‪ .‬فقد حكى أنو ذات مرة "التفت الى كتاب "صفة‬
‫جزيرة العرب"‪ ،‬حيث الحظ أف اليمداني كاف يصؼ في كتابو ىذا جغرافية التكراة التي يحفظ‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.114‬‬


‫[‪ .]2‬لـ يحدد أحمد داككد في ىذا النص مف ىـ الذم ابتدعكا الديانة الييكدية‪ ،‬لكنو يرل أنيا في األساس ال‬
‫عالقة ليا ببني اسرائيؿ (أبناء يعقكب بف ابراىيـ)‪ ،‬كالذيف كانكا عمى ديف التكحيد االبراىيمي عمى حد قكلو في‬
‫مكضع آخر‪ .‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.126‬‬

‫‪94‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫الرب يعي أسماءىا عف ظير قمب‪ ،‬كالتي كجدىا لدل اليمداني كما ىي في التكراة دكف تالعب‪.‬‬
‫كلما عاد‪ -‬أم الربيعي‪ -‬الى التكراة بترجمتيا العربية تأكد مف األمر‪ ،‬لكنو لـ يقتنع كبدأ بسمسمة‬
‫قراءات في ىذا الصدد حتى تككنت لديو قناعة تامة بأف اليمف ىي مسرح أحداث التكراة"[‪.]1‬‬

‫ان تيى الربيعي بعد ذلؾ الى ضركرة العكدة الى النص التكراتي العبرم‪ ،‬فعكؼ عمى دراسة‬
‫المغة العبرية لسنكات مف عمره بحث فييا عن الجذور الحقيقية ليذه المغة‪ ،‬وتعرف عمى ذلك‬
‫التماثل المثير الذي لم يقتصر فقط عمى األلفاظ من حيث طريقة نطقيا فحسب‪ ،‬بل وحتى في‬
‫أشكال رسم األسماء في الميجات اليمنية القديمة والعبرية"[‪.]2‬‬

‫يصؼ الربيعي منيجو بأنو‪" :‬عرض النص التكراتي بمغتو األصمية مع ترجمتو ىك‬
‫– أم ترجمة الربيعي لمتكراة‪ -‬كىي عمى حد تعبيره ترجمة أمينة الى أقصى حد ممكف‪،‬‬
‫كخصكصان لمقصائد كالمراثي التي كتبيا أنبياء التكراة كشعراء الييكدية‪ ،‬مميدان السبيؿ أماـ‬
‫كصؼ اليمداني لممكاضع ذاتيا كباألسماء ذاتيا‪ ،‬ثـ استخدـ الربيعي تكصيؼ شعراء‬
‫الجاىمية لؤلماكف نفسيا‪ ،‬مف حيث سجمكا في أشعارىـ معظـ أسماء المكاضع الكاردة في‬
‫التكراة‪ ،‬كبيذه المنيجية سكؼ نرل األساطير التي نسجيا المستشرقكف األكربيكف‪ ،‬منذ‬
‫مطم ع القرف الماضي عف فمسطيف التكراتية‪ ،‬كالتي أدت الى بزكغ فمسطيف أخرل ال كجكد‬
‫ليا إال في المخياؿ االستشراقي‪ ،‬كأف فمسطيف الحقيقية أك أرض التكراة ليست إال‬
‫اليمف"[‪.]3‬‬

‫أما رؤية الربيعي لمتزكير الذم حصؿ‪ ،‬فمف الصعب تكصيفيا نظ انر لعدـ تركيزه في‬

‫معالجة ىذه المسألة بشكؿ متسؽ‪ ،‬فمو في كؿ مقاـ في كتبو كمؤلفاتو تكصيفان مختمفان كمتناقضان‬

‫[‪ .]1‬فاضؿ الربيعي‪ :‬فمسطيف المتخيمة‪ :‬أرض التكراة في اليمف القديـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫[‪ .]2‬لـ يكضح الربيعي حتى اآلف‪ -‬عمى األقؿ فيما اطمعت عميو مف مؤلفاتو‪ -‬ذلؾ التشابو الذم رآه في أشكاؿ‬
‫رسـ األسماء في الميجات اليمنية القديمة كالعبرية‪ ،‬كىك بال شؾ يقصد أف ىناؾ تشابيان بيف أشكاؿ رسـ‬
‫الحركؼ األبجدية بيف خط المسند السبئي‪ -‬الحميرم كالكتابة العبرية‪ -!!...‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.19 -18‬‬
‫[‪ .]3‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.19‬‬

‫‪95‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫مع التكصيفات األخرل‪ ،‬كقد كجدت لو نصان بالغ األىمية يكشؼ عف ركح تمؾ التناقضات‪ ،‬يقكؿ‬
‫فيو‪:‬‬

‫"إف التكراة التي بيف أيدينا اليكـ ىي نتاج تالعب باألسماء الحقيقية أسفرت عنو‬
‫نشاطات االستشراؽ الكالسيكي‪ ،‬كأف جيكد أجياؿ مف المؤرخيف كعمماء اآلثار التكراتييف‬
‫كالدراسيف كالكتاب انتيت – كميا‪ -‬الى تزكير الكثير مف مركيات التكراة كتأكيميا تأكيالن‬
‫مغمكطان‪ ،‬كأف كؿ ما كرد مف أسماء ألماكف كمكاضع كشخصيات كأسماء كقبائؿ ال كجكد‬
‫ليا البتة في التاريخ الفمسطيني‪ ،‬كاليمداني أثبت ذلؾ في عصره"[‪.]1‬‬

‫يرل الربيعي أف التزكير ذك طابع مزدكج مف حيث طاؿ النص التكراتي كطاؿ قراءتو‬
‫كتفسيره أيضان‪ ،‬كبالتالي فإف ىذا كافيان العتبار كؿ الجيكد التي بذلت مف قبؿ كؿ الباحثيف‬
‫كالدارسيف مطعكنة في شرفيا كصدقيا‪ ،‬ألنيا قائمة عمى ىذا التزكير نفسو‪ ،‬كبنا نء عميو يرفض‬
‫الربيعي القبكؿ بأم شيء مف تمؾ الجيكد السابقة‪ ،‬كأنو ال يمكف االعتداد بيا‪ ،‬كمثالن‪:‬‬

‫"فإف مف الصعب إيجاد رابطة لغكية أك جغرافية أك تاريخية‪ ،‬بيف االسـ التكراتي‬
‫(ىػا‪ -‬يردف) كنير األردف‪ .‬كلئف كجدت‪ ،‬كبالضد مف إرادة البحث التاريخي النزيو‪ ،‬مثؿ‬
‫ىذه الرابطة الكاىية كالشكمية كغير المبرىف عمييا‪ ،‬فإنيا لف تككف سكل صكرة زائفة مف‬
‫صكر المطابقات المخيالية التي ربطت بيف قصص التكراة كفمسطيف"[‪.]2‬‬

‫لـ يعرؼ تاريخ العمـ الحديث كالمعاصر أحدان تحدث بمغة العمـ كباسـ الحقيقة كأخالقيات‬
‫المعرفة كالبحث العممي‪ ،‬بيذه المغة المتطرفة التي تحدث بيا الربيعي‪ ،‬حتى المستشرقيف كعمماء‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.251‬‬


‫[‪ .]2‬يعتبر الربيعي أف تطبيؽ قاعدة معترؼ بيا مف قبؿ جميع عمماء فقو المغة المقارف‪ ،‬كىي قاعدة تبادؿ‬
‫أدكات التعريؼ بيف العربية كالعبرية‪ ،‬كالتي تتحكؿ بمكجبيا التسمية العبرية (ق‪ -‬يردف) الى صيغتيا العربية‬
‫(األردف)‪ ،‬بأنيا مجرد رابطة كاىية كشكمية كغير مبرىف عمييا‪ .‬عممان بأف معظـ ركاد نظريتو قد صادقكا عمى‬
‫ىذه القاعدة‪ .‬كيعزل مكقؼ الربيعي ىنا الى تشدده في رفض كؿ شيء يخالؼ منيجو أك يؤدم الى نتائج ال‬
‫تتفؽ مع تفسيراتو‪ .‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.502‬‬

‫‪96‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫اآلثار التكراتييف الييكد كىـ األكثر تعصبان كتطرفان لـ يتبنكا مكقفان كيذا‪ .‬فميس ثمة طرح نزيو‬
‫كأميف إال طرح الربيعي كما عداه ليس إال زيؼ كمخياؿ استشراقي‪.‬‬

‫بالنسبة لي‪ ،‬ال أعرؼ أم منطؽ يقؼ كراء آراء الربيعي ىذه‪ ،‬كال أستطيع أف اتصكر أف‬
‫ثمة منطقان يسمح بقبكؿ ذلؾ‪ .‬فما يتميز بو منيج الربيعي ليس إال نزعتو األحادية المتطرفة‪،‬‬
‫فالتكراة ترجميا ىك كال ترجمة نزيية في نظره سكاىا‪ ،‬كاليمداني كالشعر الجاىمي فسر‬
‫مضمكناتيا ىك‪ ،‬كما أف لو قراءاتو كتفسيراتو لمنقكش كالسجالت األثرية‪ ،‬التي ال يقبؿ بغيرىا أك‬
‫بغير ما يتفؽ معيا‪ .‬كبعد ذلؾ كمو يخبرنا مفكرنا بأنو اعتمد عمى التشابو السميـ بيف األسماء‪،‬‬
‫انطالقان مف مكقفو الرافض لتطبيؽ طرائؽ القمب كاالستبداؿ التي طبقيا مف سبقكه في ىذا‬
‫المجاؿ‪.‬‬

‫بالنسبة لبقية ركاد النظرية اآلخريف‪ ،‬فالبعض منيـ اعتمد تطبيؽ المنيج األصمي‬

‫لمصميبي‪ ،‬فيما اكتفى البعض اآلخر باالعتماد عمى التشابو السميـ بيف األسماء‪ ،‬كالمجكء أحيانان‬
‫الى نقؿ معاني األسماء مف لغة الى أخرل‪ ،‬كال داعي لمتفصيؿ فيما ذىب إليو كؿ منيـ‪ ،‬نظ انر‬
‫الستيعاب جميع أبعاد المسألة فيما تقدـ‪.‬‬

‫خالصة األمر حتى ىذه النقطة‪ ،‬ىك أف جميع ركاد النظرية قد اعتمدكا بشكؿ مباشر‬
‫عمى [منيج دراسة التحوالت والجذور المغوية] كاف كانت أغمب تطبيقاتيـ ال ترقى الى التطبيؽ‬
‫الفعمي ليذا المنيج‪ ،‬بقدر ما كانت مجرد مقارنات كمقابالت لفظية ال أكثر‪ ،‬تعتمد عمى التشابو‬
‫الظاىر أك عمى امكانية تطبيؽ بعض قكاعد القمب كاالستبداؿ التي طبقيا المستشرقكف‪ ،‬كىدفكا‬
‫جميعان مف ذلؾ الى ما كصفكه بالكصكؿ الى جذكر األسماء التكراتية في المغة العبرية كالمغة‬
‫اآلرامية كالسريانية‪ ،‬فضالن عف العربية‪ ،‬كىـ بذلؾ يعتبركف أف تطبيقاتيـ المختمفة لتمؾ المقارنات‬
‫بأنيا منيج لغكم يرقى في نتائجو الى مستكل نتائج عمـ اآلثار‪ -‬كما صرح بذلؾ رائد النظرية‬
‫األكؿ كماؿ الصميبي‪ -‬كلو قكاعده العممية كأسسو كمرتكزاتو الكثيقة‪ ،‬كمف ثـ فإف النتائج التي‬
‫تكصمكا إلييا كفؽ ىذا المنيج جديرة بالنظر‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫أما فيما يتعمؽ برؤيتيـ لحقيقة التزكير الذم جرل في جغرافية التكراة‪ ،‬فقد تباينت آرائيـ‬
‫كتفسيراتيـ ليذه المسألة‪ ،‬بيف ما قاؿ بأف التزكير طاؿ النص التكراتي في العصكر القديمة‬
‫كتكرر كقكعو دكمان في مراحؿ تاريخية الحقة‪ ،‬كمف قاؿ بأنو ناتج فقط عف القراءة الخاطئة‬
‫لمتكراة كالتي أدت الى تككيف كتعميـ كاشاعة فيـ محرؼ كمزيؼ لمنص التكراتي‪ ،‬نجـ عنو‬
‫تحريؼ حقيقة جغرافية أحداثو بإسقاطيا عمى فمسطيف‪ ،‬كجميع التفسيرات التي طرحكىا تظؿ‬
‫عاجزة تمامان عف إيضاح ىذه المسألة‪ ،‬فضالن عف تناقضات آرائيـ فييا كالتي ال نخرج منيا الى‬
‫نتيجة حاسمة بأم شكؿ مف األشكاؿ‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫)‪(2‬‬
‫[‪]1‬‬
‫يشروع تهىيد اجلغرافيح انفهسطينيح‬

‫"منىذج تطثيقي"‬

‫تأكد لنا فيما سبؽ كبما ال يدعك الى الشؾ أك ينزع بنا مرة أخرل الى االرتياب‪ ،‬أف منيج‬
‫دراسة التحكالت المغكية التي تجرم عمى األلفاظ كالمسميات فيما بيف لغتيف أك أكثر في مراحؿ‬
‫تاريخية‪ ،‬كالذم طبقو الصميبي كسائر ركاد جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب في معالجة ىذه‬
‫النظرية‪ ،‬ىك في األساس ‪-‬كبإقرار ىؤالء الركاد أنفسيـ‪ -‬منيج ابتكره المستشرقكف التكراتيكف في‬
‫نطاؽ تأسيسيـ كتطكيرىـ لحقؿ الدراسات المغكية التاريخية المقارنة‪ ،‬كما أف ىذا المنيج قد طبؽ‬
‫بالفعؿ مف قبؿ مستشرقيف كباحثيف أكركبييف كييكد لمبحث عف مكاقع األماكف التي كرد ذكرىا‬
‫في التكراة‪ ،‬كذلؾ في نطاؽ جغرافية الشرؽ األدنى كميا‪ -‬أم جغرافية العراؽ كسكريا كفمسطيف‬
‫كمصر‪ -‬كليس في فمسطيف كحدىا‪.‬‬

‫تفيدنا مراجعة التاريخ‪ ،‬بأف فمسطيف منذ القركف األكلى بعد الميالد كانت تحت سيطرة‬
‫الركماف غالبان حتى القرف السابع الميالدم‪ ،‬كمف ثـ دخمت تحت عباءة دكلة الخالفة االسالمية‬
‫لقركف طكيمة‪ ،‬قبؿ أف تعكد مجددان كتقع تحت سيطرة الصميبييف األكركبييف لقرف مف الزماف أك‬
‫أقؿ مف ذلؾ قميالن‪ ،‬ثـ استعادتيا مف قبؿ المسمميف في عصر الدكلة األيكبية‪ ،‬كمف ثـ دخكليا‬
‫انتياء بخضكعيا لحكـ الدكلة العثمانية حتى الحرب العالمية األكلى في‬
‫في حكـ المماليؾ ك ن‬

‫[‪ .]1‬اعتمدت في ىذا الفصؿ بالذات عمى مصادر مكثكقة كمعترؼ بيا مف قبؿ الدكائر الرسمية لمسمطة‬
‫الفمسطينية‪ ،‬فضالن عف أف أغمبيا لباحثيف فمسطينييف متخصصيف في مسألة األسماء كاألعالـ الجغرافية‬
‫الفمسطينية‪ ،‬كليـ جيكدىـ المشككرة في تكثيؽ عمميات تيكيد تمؾ األسماء مف قبؿ الكياف االسرائيمي‪ .‬فقد‬
‫حرصت منذ بداية ىذه الدراسة عمى أف تككف اقتباساتي كثيقة كحرفية قدر المزكـ كاإلمكاف‪ ،‬كأال يخدشيا أم‬
‫تصرؼ أقكـ بو أك يفقدىا جكىرىا المكضكعي الذم تنطؽ بو في مكاقعيا األصمية‪ ،‬كما حرصت عمى أف تككف‬
‫االقتباسات سميمة مف البتر المقصكد كغير منزكعة مف سياقاتيا‪ ،‬فجعمت كؿ منيا في سياؽ مقارب لمسياؽ‬
‫الذم أخذتو منو‪ ،‬كفصمتيا جميعان عف تعميقاتي‪ .‬كال يسمـ عمؿ المرء مع ذلؾ مف الزلؿ كالقصكر‪( .‬الباحث)‬

‫‪99‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫مطمع القرف العشريف‪ ،‬إذ كقعت بعدىا تحت سمطة االنتداب البريطاني كالذم سمح لمييكد‬
‫باالستيطاف في أجزاء منيا أكالن تنفيذان لكعد بمفكر الشيير عاـ ‪ ،1917‬ثـ السماح ليـ بالتكسع‬
‫االستيطاني حتى إعالف قياـ دكلتيـ عاـ ‪ ،1948‬كبقية القصة نعرفيا‪.‬‬

‫خالؿ ىذه الفترة الزمنية الطكيمة جدان‪ ،‬كبالتحديد الى نياية القرف الثامف عشر الميالدم‪،‬‬
‫كانت الفاعمية الييكدية عمى أرض فمسطيف غائبة تمامان‪ ،‬كال يمكف الحديث عف أم تحريؼ أك‬
‫تزييؼ يمكف أف يككف قد طاؿ جغرافية فمسطيف بالنسبة لمتكصيؼ الجغرافي الذم يرد في‬
‫التكراة‪ ،‬الميـ إف شاء البعض منا أف يفترض احتماالن –ال قطعان‪ -‬أف يككف التزكير قد كقع عمى‬
‫النص التكراتي‪ ،‬فيذا أمر آخر ألف التكراة خضعت بالفعؿ كمازالت تخضع لعمميات التدخؿ في‬
‫نصيا بطرؽ كأشكاؿ مختمفة منذ قركف طكيمة‪ ،‬كلكف يجب أف يأخذ باالعتبار كؿ مف يتبنى ىذا‬
‫االحتماؿ أف التكراة كفيما يتعمؽ بجغرافية فمسطيف بالذات ليست مصدرنا الكحيد‪.‬‬

‫ما نعرفو حؽ اليقيف مف التاريخ الحديث كالمعاصر‪ ،‬أف تفكير الييكد بشكؿ جدم في‬
‫اقامة دكلة ليـ في فمسطيف بدأ في منتصؼ القرف التاسع عشر‪ ،‬األمر الذم تزامف مع ظيكر‬
‫الحركة الصييكنية العالمية كالتي لعبت أكؿ أدكارىا في ىذا الشأف سنة ‪ ،1878‬عندما دعمت‬
‫تأسيس أكؿ مستكطنة ييكدية شرؽ مدينة يافا الفمسطينية أطمؽ عمييا اسـ "بيتح تيكفا" [פֶּתַ ח‬
‫תִּ ְקוָה]‪ -‬كتعني فتحة األمؿ‪ ،‬تبع ذلؾ عمميات تأسيس أخرل لبمدات كمستكطنات ييكدية تقكـ‬
‫عمى النشاط الزراعي في مناطؽ السيؿ الساحمي غرب فمسطيف‪.‬‬

‫"فقبؿ ظيكر الحركة الصييكنية المنظمة في أكاخر القرف التاسع عشر كاف اإليماف‬
‫بػالعيد القديـ (التكراة) ال يعدك أكثر مف ككنو ديننا كعقيدة‪ ،‬أما بعد ظيكر الصييكنية‬
‫أصبحت التكراة عقيدة كسياسة‪ ،‬ثـ سرعاف ما صار [منيجاً لمبحث في اآلثار والتاريخ]‪،‬‬
‫لكؿ مف يؤرخ ألرض فمسطيف أك بالد الشاـ‪ ،‬كانحصر اىتماـ العمماء الصياينة ‪ -‬كالذيف‬
‫يدكركف في فمكيـ ‪ -‬بتقديـ كثائؽ مف التنقيبات األثرية إلثبات أف فمسطيف ىي أرض‬

‫‪100‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫الميعاد التي كعد اهلل بيا الشعب الييكدم‪ ،‬كاثبات كجكد كياف ييكدم قديـ يحؽ لمحاضر‬
‫أف يكصمو"[‪.]1‬‬

‫بدأت عمميات تأسيس كبناء المستكطنات الييكدية األكلى في فمسطيف في سياؽ الجيكد‬
‫الصييكنية التي بذلت تحت شعار [العودة الى أرض اسرائيل‪ -‬أرض الميعاد]‪ ،‬كالذم أصبح‬
‫شعا انر لمشركع قكمي لكؿ ييكد العالـ‪ ،‬ساندتو الدكؿ األكركبية كسخرت ألجمو الكثير مف‬
‫اإلمكانيات التي كانت تحظى بيا المؤسسات االستشراقية‪ ،‬التي حممت عمى عاتقيا ميمة كضع‬
‫بناء عمى‬
‫األسس المعرفية كالتاريخية كالجغرافية األكلى التي تستند إلييا االدعاءات الصييكنية‪ ،‬ن‬
‫النص التكراتي‪.‬‬

‫"في الفترة (‪ )1877 -1871‬تـ تأسيس ما عرؼ ب ػ "صندكؽ استكشاؼ فمسطيف"‪،‬‬


‫لرعاية كتمكيؿ كتنفيذ عمميات مسح جغرافية كطبكغرافية جرت عمى األرض الفمسطينية‪،‬‬
‫بيدؼ جمع أسماء المكاقع القديمة كالخرائب كالقرل التي كرد ذكرىا في التكراة‪ ،‬كىي‬
‫العمميات التي انتيت ببناء سجالت دقيقة ألكثر مف عشرة آالؼ اسـ‪ ،‬كمف ثـ اعداد‬
‫خرائط مفصمة لكامؿ أرض فمسطيف‪ ،‬مف بينيا خرائط بأسماء أماكف العيد القديـ‬
‫(التكراة)‪ ،‬كخرائط أخرل بأسماء أماكف العيد الجديد (االنجيؿ)‪ .‬كقد ساعدت نتائج تمؾ‬
‫المسكحات‪ -‬بحسب مف قامكا بيا‪ -‬في تحديد أعداد كبيرة مف األماكف المذككرة في التكراة‬
‫لـ تكف مكاقعيا معركفة سابقان (‪ )622‬اسمان تكراتيان في غرب األردف كاف قد تحدد منيا‬
‫(‪ )262‬اسمان قبؿ عاـ ‪.]2["1870‬‬

‫كما جرل تصميـ منيجية خاصة لرسـ الخرائط التي تعيف مكاقع األسماء التي كرد‬
‫ذكرىا في" العيد القديـ"‪ ،‬كحدكد مناطؽ األسباط اإلثني عشر‪ ،‬كالخرائط التي أعدت مف‬

‫[‪ .]1‬محمد حسف شراب‪ :‬مكسكعة بيت المقدس كالمسجد األقصى‪ ،‬التاريخ‪ ،‬اآلثار‪ ،‬األعالـ كاألمكنة كالرجاؿ‪-‬‬
‫الجزء األكؿ‪ ،‬األىمية لمنشر كالتكزيع‪ ،‬عماف‪ .2003 ،‬ص ص ‪.76 ،48‬‬
‫[‪ .]2‬خيرية قاسمية‪ :‬نشاطات صندكؽ استكشاؼ فمسطيف (‪ )1915 - 1868‬مجمة شؤكف فمسطينية‪ ،‬مركز‬
‫األبحاث الفمسطيني‪ ،‬بيركت‪ ،‬العدد (‪ ،)112‬يكليك ‪ ،1980‬ص ‪.83‬‬

‫‪101‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫كجية نظر مصممييا لػ "اقتفاء آثار الجيكش الغازية كاليجرة القديمة"‪ ،‬باإلضافة إلى قراءة‬
‫النقكش الباقية كفؾ رمكزىا"[‪.]1‬‬

‫كان صندوق استكشاف فمسطين في كافة االصدارات الخاصة‪ ،‬يُعرف بأنو‪:‬‬


‫"جمعية من أجل البحث الدقيق والمنظم في اآلثار والطوبوغرافيا والجيولوجيا والجغرافيا‬
‫الطبيعية والتاريخ الطبيعي وعادات وتقاليد األرض المقدسة لغاية التوضيح التوراتي"[‪.]2‬‬

‫بالرغـ مف أف صندكؽ استكشاؼ فمسطيف قد انطمؽ مف فكرة دينية تيدؼ إلى دراسة كؿ‬
‫ما يتعمؽ باألرض المقدسة‪ ،‬إال أف حقكؿ نشاطاتو تعدت المسألة الدينية العممية كدخمت بشكؿ‬
‫مباشر في المسائؿ السياسية كاالستعمارية‪ .‬فكانت اجتماعاتو غالبان ما تشير إلى فكرة "عكدة‬
‫الييكد"‪ ،‬كما أف أعمالو قد شجعت بطريقة غير مباشرة عممية االستيطاف الييكدم بتقديـ صكرة‬
‫مفصمة عف فمسطيف[‪.]3‬‬

‫منذ ذلؾ الكقت بدأت العممية التي كصفت دائمان ب ػ "استعادة صكرة األرض الفمسطينية في‬
‫ضكء النص التكراتي" بشكؿ كاسع‪ ،‬بحيث جرل التركيز بدرجة كبيرة عمى أسماء المناطؽ‬
‫كالمكاقع كالقرل كالكدياف كالخرب كالتالؿ كالجباؿ‪ ..‬الخ‪ ،‬مما يرد في النص التكراتي كالبحث عنو‬
‫في إطار المسكحات األثرية كالجغرافية التي استمرت بدكف انقطاع منذ بدايات القرف التاسع‬
‫عشر‪ ،‬كليس فقط مف عند جيكد صندكؽ استكشاؼ فمسطيف‪ ،‬ككاف مف أىـ أىداؼ ىذه‬
‫العمميات إعادة تسمية األماكف بأسمائيا التكراتية‪ -‬أك باألصح بأسمائيا العبرية التي ترد في‬
‫التكراة‪ ،‬كىي العمميات التي استمرت الحقان في مرحمة ما بعد قياـ الدكلة العبرية في فمسطيف‪.‬‬

‫[‪ .]1‬أسعد رزكؽ‪ :‬إسرائيؿ الكبرل دراسة في الفكر التكسعي الصييكني‪ ،‬دار الحمراء لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫‪ .2002‬ص ‪.42‬‬
‫[‪ .]2‬إلياس شكفاني‪ :‬المكجز في تاريخ فمسطيف السياسي‪ :‬منذ فجر التاريخ حتى سنة ‪ ،1949‬مؤسسة الدراسات‬
‫الفمسطينية‪ ،‬بيركت‪ .1998 ،‬ص ‪.282‬‬
‫[‪ .]3‬خيرية قاسمية‪ :‬قضية الحدكد بيف مصر كفمسطيف قبؿ الحرب العالمية األكلى‪ ،‬مجمة شؤكف فمسطينية‪،‬‬
‫مركز األبحاث الفمسطينية‪ ،‬بيركت‪ ،‬العدد (‪ ،)5‬تشريف الثاني‪ .1971 ،‬ص ‪.164‬‬

‫‪102‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫الجدير بالذكر‪ ،‬أف كؿ الجيكد التي بذلت في ىذا السياؽ‪ ،‬كانت تتجو أيضان الى إعادة‬
‫خمؽ اسرائيؿ الجديدة بنفس الخطكات التي حددتيا النصكص التكراتية كالتي جرت بيا نشأة‬
‫كظيكر اسرائيؿ القديمة‪ ،‬ترافؽ مع ذلؾ كضع بعض المعالجات التاريخية المفترضة التي تجعؿ‬
‫مف امكانية مطابقة النشأة التاريخية إلسرائيؿ القديمة أم انر ممكنان في العصر الحاضر‪ ،‬بما في‬
‫ذلؾ المعالجات المتعمقة بالعالقات الدكلية كاالقميمية‪ ،‬ككيفية خمؽ المناخات الدكلية كاالقميمية‬
‫المناسبة لتمكيف اسرائيؿ مف البقاء بشكؿ أبدم‪ ،‬كذلؾ مف خالؿ التأكيد عمى المعالجات‬
‫التاريخية كالجغرافية‪ ،‬التي تتيح خمؽ فرص متعددة لمقبكؿ بمثؿ ىذا الكجكد لمدكلة االسرائيمية في‬
‫المنطقة العربية[‪.]1‬‬

‫منذ العاـ ‪ 1948‬بدأت بالفعؿ عممية تنفيذ "مشركع تيكيد األرض الفمسطينية"‪ ،‬مف‬
‫خالؿ إطالؽ األسماء التكراتية كالييكدية عمى القرل كالمدف كسائر المكاقع الفمسطينية‪ .‬إذ‬
‫يشير الصحفي االسرائيمي "تكـ سيغؼ" الى أف أكؿ ما أثير بيذا الشأف‪ ،‬كاف بعد إعالف‬
‫قياـ دكلة اسرائيؿ عاـ ‪ ،1948‬عندما تصدرت مسألة تسمية مدينة يافا‪ -‬التي سميت‬
‫الحقان "تؿ أبيب"‪ ،‬مجاؿ النقاش كالخالؼ بيف الصياينة المحتميف‪ .‬فاقترح البعض أف يعاد‬
‫تسميتيا بالصيغة العبرية [يافو] عمى أساس أف ىذا االسـ كرد ىكذا في التكراة‪ ،‬في حيف‬
‫أصر البعض عمى تسميتيا ب ػ "تؿ أبيب" ليككف االسـ مكافقان لمتكجو الصييكني‪ ،‬كمف ثـ‬
‫تـ االستقرار عمى االحتفاظ باالسميف [تل أبيب‪ -‬يافا][‪.]2‬‬

‫في نفس السنة‪ ،‬جرل تشكيؿ "المجنة الحككمية لؤلسماء"‪ ،‬كالتي ضمت دائمان كحتى‬
‫اليكـ العديد مف المتخصصيف في التاريخ الييكدم كالجغرافيا كبعض المستشرقيف أيضان‬
‫كميمتيا دراسة أسماء األماكف كالمعالـ كالمكاقع الجغرافية‪ ،‬ككضع بدائؿ عبرية لؤلسماء‬
‫العربية‪ ،‬كبالفعؿ بدأت ىذه المجنة أعماليا‪ ،‬فكانت تصدر سجالت كقكائـ ألسماء المناطؽ‬

‫[‪ .]1‬سيكون ليذه الفكرة شأن ميم وبالغ األىمية في الفصول القادمة‪ ،‬من حيث تقودنا مسارات ىذه الدراسة‬
‫صوب مناقشتيا عمى نحو من التفصيل‪ .‬ولسوف يساعدنا إدراك خفايا األىداف الكامنة وراء نظرية جغرافية‬
‫التوراة في جزيرة العرب‪ ،‬في الوصول الى حقائق ما كانت تخطر عمى بال‪( .‬الباحث)‬
‫[‪ .]2‬تكـ سيغؼ‪ :‬االسرائيميكف األكائؿ ‪ ،1949‬ترجمة‪ :‬خالد عايد كآخركف‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬مؤسسة الدراسات‬
‫الفمسطينية‪ ،‬بيركت‪ .1986 ،‬ص ‪.307‬‬

‫‪103‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫كالمكاقع العربية كما حؿ محميا مف األسماء العبرية كما قررتيا المجنة‪ ،‬كتنشرىا في‬
‫الصحؼ كالنشرات الرسمية االسرائيمية بالمغتيف العبرية كالعربية‪ ،‬فضالن عف إرساليا الى‬
‫الجيات المعنية‪ ،‬كعمى رأسيا مجالس السمطة المحمية في القرل كالمستكطنات كالمكاقع‬
‫التاريخية كالخرب‪ ،‬كالمناطؽ الطبيعية‪ ،‬كفي المعالـ الجغرافية الخاصة كاألنيار كالعيكف‬
‫كاآلبار كالسيكؿ كالجباؿ كالتالؿ كالمغارات كالطرؽ كالجسكر‪ ..‬الخ[‪.]1‬‬

‫كما سارعت الحككمة االسرائيمية الى تصميـ خارطة معدلة لمخارطة التي كضعتيا‬
‫حككمة االنتداب البريطاني عاـ ‪ 1944‬بمقياس (‪ ،)100,000 :1‬كبمغ عدد أجزائيا‬
‫(‪ )16‬جزءن لكنيا لـ تشمؿ منطقة النقب‪ .‬فمجأت إدارة المساحة اإلسرائيمية إلى زيادة (‪)8‬‬
‫أجزاء عمى ىذه الخارطة لتالفي النقص في خارطة االنتداب‪ ،‬ثـ أجرت تعديالت عمى‬
‫أطكاؿ األجزاء‪ ،‬فصدرت الخارطة الكمية بمجمكعة مف (‪ )26‬جزءن كبمقياس الرسـ ذاتو‪،‬‬
‫شاممة جميع المناطؽ مف أقصى الشماؿ حتى إيالت عمى البحر األحمر‪ .‬ككانت‬
‫الطبعات اإلسرائيمية المتعاقبة ليذه الخارطة تحمؿ األسماء العبرية التي تـ إطالقيا عمى‬
‫األماكف الفمسطينية‪ .‬كفي العاـ ‪ 1996‬صدر في إسرائيؿ" أطمس الطرؽ بمقياس رسـ‬
‫(‪ )100,000:1‬عمى شكؿ كراس مككف مف نحك (‪ )100‬صفحة متضمنان بالمثؿ األسماء‬
‫العبرية لمطرؽ كالمعالـ المذككرة في ىذا األطمس[‪.]2‬‬

‫عمى صعيد أكسع‪ ،‬اتجيت الحككمة االسرائيمية نحك تعميـ خرائطيا عمى المجتمع‬
‫الدكلي‪ ،‬فتقدمت إلى المؤتمر الدكلي لتكحيد المصطمحات الجغرافية الذم انعقد في جنيؼ‬
‫في سبتمبر مف العاـ ‪ 1967‬بمذكرة طالبت فييا بإحالؿ األسماء العبرية محؿ األسماء‬
‫العربية األصمية لممكاقع العربية في فمسطيف‪ ،‬كتعاكنت إسرائيؿ مع الييئات الدكلية كدكر‬
‫نشر األطالس كالكتب الجغرافية في العديد مف المؤسسات المنتشرة في دكؿ العالـ (‪)22‬‬
‫لتكريس ذلؾ اإلحالؿ‪ .‬كما جرل إعداد أطالس كمكسكعات إسرائيمية تضمنت تسميات‬

‫[‪ .]1‬إبراىيـ عبد الكريـ‪ :‬تيكيد األرض كأسماء المعالـ الفمسطينية‪ -‬دراسة كدليؿ‪ ،‬منشكرات اتحاد الكتاب‬
‫العرب‪ ،‬دمشؽ‪ .2001 ،‬ص ‪.77‬‬
‫[‪ .]2‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.78‬‬

‫‪104‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫عبرية لغالبية معالـ البالد‪ ،‬منيا مثالن‪ :‬أطمس إسرائيؿ المكسكعة الييكدية‪ ،‬مكسكعة‬
‫الصييكنية‪ ،‬كاسرائيؿ كؿ البالد‪ ،‬المعجـ الجغرافي إلسرائيؿ‪ ،‬الدليؿ السياحي بمختمؼ‬
‫المغات‪ ،‬كغير ذلؾ مف الكتب كالمؤلفات كاألعماؿ الدعائية التي نشرت في فمسطيف‬
‫المحتمة كخارجيا[‪.]1‬‬

‫السؤال الذي يجب أن يُطرح ىنا‪ ،‬ىو‪ :‬عمى أي أساس ووفق أي منيج بالضبط جرت‬
‫عممية تغيير أسماء المناطق الفمسطينية العربية وتحويميا الى أسماء عبرية‪ ،‬إذا كان األمر‬
‫متصالً باألصل باألسماء الواردة في التوراة العبرية؟!‬

‫الجكاب ‪-‬بكؿ بساطة‪ ،‬ىك‪ :‬مف خالؿ تطبيؽ [منيج دراسة التحوالت المغوية لألسماء‬
‫في ضوء الدراسات المغوية التاريخية المقارنة]‪.‬‬

‫لقد استخدـ ىذا المنيج مف قبؿ المستشرقيف كعمماء التاريخ كاآلثار التكراتييف في ىذه‬
‫العممية‪ ،‬مف حيث جرل التأكيد عمى أف معظـ األسماء العربية في فمسطيف‪ -‬إف لـ يكف كميا‪-‬‬
‫ما ىي إال أسماء تحكرت عبر مسارات متعددة‪ ،‬تعرضت فييا لمتحكالت المغكية التاريخية مف‬
‫أصكليا العبرية الى المغة العربية‪ ،‬كلكف دكف أف تتخمى ىذه األسماء عف جذكرىا العبرية‪،‬‬
‫كبالتالي فإف منيج المقارنات المغكية لؤلسماء بيف المغات يمكف أف يساعد في استعادة ىذه‬
‫الجذكر كالصكر العبرية األصمية لتمؾ األسماء‪.‬‬

‫يطالبنا ىذا التكصيؼ بأال ننظر الى عممية تيكيد األسماء التي قاـ بيا الييكد‬
‫كالمستشرقيف كمف لؼ لفيـ باعتبارىا تحريفان أك تزكي انر‪ ،‬كما ال يجب أف يفيـ بأنيا كانت كذلؾ‪،‬‬
‫ألف ىذه العممية– حسب ما يقكؿ الييكد طبعان‪ -‬جرت كفؽ منيج لغكم عممي رصيف كمعترؼ‬
‫بو في كؿ الدكائر األكاديمية كالعممية في العالـ بأسره‪ ،‬كقد جرل تنفيذىا كتطبيقيا عمى ىذا‬
‫األساس بيدؼ إعادة األسماء األصمية فقط ال أكثر[‪!!..]2‬‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.79 -78‬‬


‫[‪ .]2‬إنو الكالـ نفسو الذم قالو أصحابنا ركاد نظرية جغرافية التكراة في جزيرة العرب‪ .‬عمى نحك ما قالو "زياد‬
‫منى"‪[ :‬ما يحق لغيرنا يحق لنا]‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫ىذا التكضيح بالذات‪ ،‬تبناه المستشرقكف كالمؤرخكف كعمماء اآلثار التكراتيكف‪ .‬فقد‬
‫كرس لو الباحث االسرائيمي "ميركف بنفنستي" فصالن كامالن مف فصكؿ كتابو "المقذكؼ‬
‫كالعصا"‪ .‬كالذم أكد فيو عمى أف رسـ خارطة كتحديد أسماء يعنياف عمالن المتالؾ شيء‪،‬‬
‫كككؿ مجتمع مككف مف المياجريف‪ ،‬حاولنا أن نمسح من خارطة البالد األسماء الغريبة‬
‫ونعيد األسماء األصمية التي حممناىا في قموبنا طوال مئات السنين التي كان الييود‬
‫فييا ميجرين بعيداً عن أرض أجدادىم‪ .‬وقد صنع سكان البالد العرب معروفاً معنا‬
‫وحافظوا عمى األسماء القديمة‪ ،‬واال فكيف كنا سنعرف أين ىي "عنتوت" لوال "عناتا"‪،‬‬
‫وكيف كنا سنجد "شيموح" لوال خربة "سموان"[‪.]1‬‬

‫لنتكقؼ ىنا‪ ،‬كلنحكـ عقكلنا كنتكمـ بمنطؽ الحؽ كالحقيقة بدكف مراء أك خكؼ‪ ،‬كلنكف‬
‫منصفيف بحؽ اهلل‪ .‬أليس ىذا ىك منيج الصميبي كرفاقو؟ أليست ىذه ىي حججيـ كتفسيراتيـ لما‬
‫قامكا بو؟ ألـ يقكلكا لنا أنيـ اتبعكا مناىجان لغكية تستند عمى أسس عممية رصينة‪ ،‬ساعدتيـ في‬
‫رصد كتتبع مسارات التحكالت المغكية ألسماء المناطؽ الجغرافية في عسير كغامد كاليمف مف‬
‫الجزيرة العربية‪ ،‬كأف تمؾ األسماء كانت في األصؿ عبرية‪ ،‬كأنيا مع الزمف كبسبب عكامؿ‬
‫التاريخ حدث أنيا تحكلت الى أسماء بصياغات عربية‪ ،‬كلكنيا مع ذلؾ حافظت عمى جذكرىا‬
‫العبرية‪ ،‬كأنو لكال أف تمؾ األسماء حافظت عمى جذكرىا لما أمكف اكتشاؼ جغرافية التكراة‬
‫الحقيقية؟! أليس ىذا كالميـ الذم اثبتناه قبؿ صفحات قميمة مف ىنا؟!‬

‫نعم إنو ىو بال أدنى شك‪ ،‬وال داعي لممزايدة‪ .‬فيذه ىي الحقيقة وال مجال إلنكارىا‪.‬‬

‫يبقى أف نتعرؼ عمى النمكذج التطبيقي الذم اتبعو مشركع تيكيد األرض الفمسطينية‪ ،‬مف‬
‫ناحية الطرؽ كاآلليات المغكية التي اتبعيا القائمكف بو في تحكيؿ األسماء الجغرافية العربية الى‬
‫أسماء عبرية؟‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪.79‬‬

‫‪106‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫)‪(3‬‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫تزوير أو ينهح ػهًي؟!‬

‫تكرط ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب بصكرة صريحة كضمنية في اإلقرار‬
‫بمصداقية النص التكراتي‪ ،‬ما دفعيـ الى إطالؽ العديد مف األحكاـ الجزافية‪ ،‬كساىمكا بدرجة‬
‫كبيرة في تكسيع كتعميؽ اليكة التي تفصؿ بيف جيكدىـ مف ناحية‪ ،‬كبيف المنطؽ العقالني‬
‫كالقكاعد المنيجية كالمكضكعية التي يتطمبيا المكقؼ العممي الباحث كالناقد مف جية أخرل‪،‬‬
‫فجاءت نظريتيـ بعيدة كمنفصمة تمامان عف النقمة التي أحدثيا عمـ اآلثار في العقكد األخيرة إزاء‬
‫المسألة التكراتية‪ .‬كما تكرطكا عمى نحك ممؿ في الحشد لنظريتيـ كاإلغراؽ في تقديـ‬
‫االستدالالت المفظية كالمغكية دكف التكقؼ لمحظة لمراجعة آرائيـ كممارسة النقد الذاتي عمييا‪،‬‬
‫حتى بدت جيكدىـ كىي تصب في اتجاه استثمار نظريتيـ بصكرة دعائية صاحبيا التكرار‬
‫المثير لمسأـ‪ ،‬أكثر ما أنيا تصب في سياؽ تحقيؽ اإلضافة العممية المطمكبة‪.‬‬

‫إنو لمما يبعث عمى الحزف أف فريقان مف الباحثيف العرب ممف لدييـ الطاقات كاالمكانات‬
‫المميزة كالمذىمة في مجاؿ البحث كاالنتاج العممي‪ ،‬استطاع بكؿ سيكلة أف يشكؿ جبية مضادة‬
‫لعمـ اآلثار كجيكده النقدية البالغة الجرأة كالشجاعة‪ ،‬مف حيث سخر ىذا الفريؽ جيكد جميع‬
‫أفراده بانحياز كاضح الى جانب النص التكراتي كفي صفو‪ ،‬ضاربان عرض الحائط بجيكد قرف‬
‫كامؿ مف الزمف ىدفت الى تحرير عمـ التاريخ كعمـ اآلثار مف سطكة الركاية التكراتية‪ ،‬كدكف أف‬
‫ي متفت لمنتقديو أك يتقبؿ النقد‪ ،‬أك يفتح أبكاب النقاش العاـ فيما طرحو‪ ،‬فحتى اآلف لـ تطرح ىذه‬
‫النظرية لمنقاش الجاد كالمفتكح بيف ركادىا كبيف سائر الميتميف كالمتابعيف كالنقاد كالقراء‪.‬‬

‫الميـ‪ ،‬كامعانان في إثبات النتيجة التي لـ نبتعد عنيا أكثر مف عدة سطكر كىنييات قصيرة‬
‫مف الزمف‪ ،‬البد مف التحقؽ مف الطرؽ كاألساليب التي اتبعيا الييكد في استعادة أسماء مناطؽ‬
‫فمسطيف عمى ما كانت عميو ‪-‬حسب ما يعتقدكف‪ -‬في التكراة كفي العصكر القديمة‪ ،‬كالتحقؽ‬

‫‪107‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫أيضان مف ككنيا مطابقة لمطرؽ التي اتبعيا ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب‪ ،‬أـ‬
‫ال‪.‬‬

‫االستناد الرئيسي الذم لجأ إليو المستشرقكف كالمؤرخكف االسرائيميكف في تغيير أسماء‬
‫المناطؽ الفمسطينية‪ ،‬ىك افتراض أف الكثير مف تمؾ األسماء التي كردت في التكراة‪ ،‬البد كأف‬
‫تككف مكجكدة كحافظت عمى نفسيا كعمى جذكرىا العبرية حتى بعد أف جرت عممية تعريبيا عمى‬
‫مدل قركف طكيمة‪ ،‬مثالن‪:‬‬

‫[األردن] (عربية) ـــــــــــــــــــــــــــــــ أصميا ىو ـــــــــــــــــــــــــ [ىا‪ -‬يردن] (عبرية)‬

‫باستبداؿ (أؿ) التعريؼ العربية بأداة التعريؼ العبرية (ىا)‪ ،‬كقمب األلؼ ياء كىذا قمب‬
‫معركؼ كثابت لغكيان‪ ،‬كما أكد عمى ذلؾ الصميبي كالدبش كالجثاـ كداككد‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫[عكا] (عربية) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ أصميا ىو ـــــــــــــــــــــــــــــــــ [عكو] (عبرية)‬

‫[يافا] (عربية) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ أصميا ىو ـــــــــــــــــــــــــــــــــ [يافو] (عبرية)‬

‫بقمب األلؼ كاك‪ ،‬كىذا قمب معركؼ كثابت لغكيان كما أثبت ذلؾ الصميبي كرفاقو‪.‬‬

‫[الناصرة] (عربية) ــــــــــــــــــــــــــــ أصميا ىو ـــــــــــــــــــ [نصريت‪ /‬نتسريت] (عبرية)‬

‫بمطابقة جذر الكممة (ف ص ر)‪ ،‬كقمب حرؼ الصاد سيف‪ ،‬كتحكيؿ التاء المربكطة (تاء‬
‫التأنيث العربية) الى (تاء) التأنيث العبرية‪ ،‬كىذه قاعدة طبقيا الصميبي كرفاقو أيضان‪.‬‬

‫عمى ىذا النحك بالضبط جرل تحكيؿ األسماء العربية لممناطؽ الفمسطينية الى أسماء‬
‫عبرية مطابقة لما جاء في التكراة‪ ،‬كاألمر لـ يتـ جزافان بؿ تـ كفؽ منيج لغكم رصيف يعترؼ بو‬
‫كؿ الباحثيف في ىذا االختصاص‪ ،‬كعمى رأسيـ كفي مقدمتيـ دكمان ركاد نظرية جغرافية التكراة‬
‫مف الباحثيف العرب‪.‬‬

‫الجدير بالتنكيو ىنا‪ ،‬ىك أف قكائـ أسماء األماكف الفمسطينية التي سكؼ ترد في السياؽ‬
‫أدناه‪ ،‬تتضمف عددان ليس بالقميؿ مف أسماء األماكف التكراتية‪ ،‬كما أف منيا ما لـ يرد فييا‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫إف اليدؼ مف عرض سمسمة طكيمة نسبيان مف أسماء المناطؽ الفمسطينية كمقابالتيا‬
‫العبرية التي حكلت إلييا‪ ،‬ىك إبراز الطرؽ كاآلليات التي جرت بيا عممية تيكيد الجغرافية‬
‫الفمسطينية في العصر الراىف كالنتائج التي أسفرت عنيا‪ ،‬كىي العممية التي يمكف القكؿ بأنيا‬
‫حدثت ألكؿ مرة عمى أرض الكاقع بالطريقة التي جرت بيا‪ .‬فكؿ االدعاءات التي ركج ليا ركاد‬
‫نظرية جغرافية التكراة في جزيرة العرب بشأف عمميات مشابية حدثت قبؿ القرف التاسع عشر‪،‬‬
‫ليست صحيحة عمى اإلطالؽ‪ ،‬كاال لكاف األكلى بيـ أف يبينكىا لنا‪.‬‬

‫جرل اختيار جميع األمثمة مف قبؿ الباحث بما يتالءـ كىدؼ الدراسة‪ ،‬كلـ يكف مناسبان‬
‫الخركج عف جادة ىذا اليدؼ‪ .‬فيناؾ بالفعؿ الكثير مف األمثمة كالنماذج التي تظير حجـ‬
‫التعسؼ الذم مارسو الكياف االسرائيمي في طمس المعالـ اإلسمية لممكاقع كالمناطؽ الجغرافية‬
‫الفمسطينية العربية‪ ،‬خاصة تمؾ التي لـ ترد في التكراة كالتي عمد الى طمس غالبيتيا كاطالؽ‬
‫تسميات عبرية ال عالقة ليا باألسماء األصمية‪ ،‬كال تحيؿ إلييا ال بالمفظ كال بالمعنى في العبرية‪،‬‬
‫كلمف أراد التكسع فعميو بالعكدة الى الدراسة كالدليؿ الذم أعدىما الباحث الفمسطيني "إبراىيـ عبد‬
‫الكريـ" [تيويد األرض وأسماء المعالم الفمسطينية‪ -‬دراسة ودليل]‪ -‬كىك المصدر الذم اعتمدنا‬
‫عميو في ىذا الجانب‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫جدول (‪ :)3‬نماذج تحويل أسماء بعض المناطق الفمسطينية العربية الى أسماء عبرية‬
‫تاستخداو طريقتي انقهة واالستثدال‬
‫املىعغ انتقريثي نهًكاٌ‬ ‫االسى انؼربي‬ ‫االسى انؼرتي‬
‫كسط الجميؿ األعمى الشرقي‬ ‫تسفات‬ ‫صفد‬

‫الساحؿ الشمالي لفمسطيف‬ ‫عكك‬ ‫عكا‬

‫عمى الشاطئ الغربي لبحيرة طبرية‬ ‫طفرياه‬ ‫طبرية‬

‫كسط الجميؿ األسفؿ‬ ‫نتسيريت‬ ‫الناصرة‬

‫كسط غكر نير األردف‬ ‫بيت شآف‬ ‫بيساف‬

‫الساحؿ الفمسطيني األكسط‬ ‫كيسارم‬ ‫قيسارية‬

‫منطقة حيفا‬ ‫شفارعاـ‬ ‫شفاعمرك‬

‫السيؿ الداخمي الجنكبي(مقاطعة عسقالف)‬ ‫لخيش‬ ‫الشيش‬

‫الساحؿ الساحمي األكسط‬ ‫يافك‬ ‫يافا‬

‫الساحؿ الساحمي الجنكبي‬ ‫أشدكد‬ ‫اسدكد‬

‫السيؿ الساحمي الجنكبي‬ ‫اشكمكف‬ ‫عسقالف‬

‫السيؿ الداخمي األكسط‬ ‫رماله‬ ‫الرممة‬

‫السيؿ الداخمي األكسط‬ ‫لكد‬ ‫المد‬


‫السيؿ الساحمي‪ ،‬جنكب حيفا‪ ،‬شماؿ غرب‬
‫حدي ار‬ ‫الخضي ار‬
‫طكلكرـ‬
‫شمالي الضفة الغربية‬ ‫شكيـ‬ ‫نابمس‬

‫شمالي الضفة الغربية‬ ‫جنيـ‬ ‫جنيف‬

‫جنكب القدس‬ ‫بيت ليحيـ‬ ‫بيت لحـ‬

‫جنكبي الضفة الغربية‬ ‫حبركف‪ /‬حفركف‬ ‫الخميؿ‬

‫شمالي النقب‬ ‫بير شيفع‬ ‫بئر السبع‬

‫‪110‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫الجميؿ األعمى‬ ‫خربة نبكرياه‬ ‫خربة نبرتيف‬

‫الجميؿ األسفؿ‬ ‫خربة منكريـ‬ ‫خربة المنارة‬

‫الجميؿ األسفؿ‬ ‫خربة مشكنة‬ ‫خربة المسكنة‬


‫ىار برؾ [ىار بالعبرية‬
‫النقب الجنكبي‬ ‫جبؿ أباريؾ‬
‫تعني‪ :‬جبؿ]‬
‫النقب الجنكبي‬ ‫ىار درجا‬ ‫جبؿ الدرج‬

‫النقب األكسط‬ ‫ىار رحاماه‬ ‫جبؿ الرحمة‬

‫لنقب األكسط‬ ‫ىار نفحاه‬ ‫جبؿ طكاؿ النفخ‬

‫ىاركر‬ ‫تؿ أبك ىريرة‬

‫منطقة غزة‬ ‫سيرع‬ ‫تؿ الشريعة‬

‫شيحاف‬ ‫تؿ سيحاف‬

‫منطقة بيساف‬ ‫ممحاه‬ ‫تؿ المالحة‬

‫شرؽ حيفا بنحك ‪ 11‬كـ‬ ‫أكنك‬ ‫كفر عانة‬

‫شرؽ حيفا بنحك ‪ 15‬كـ‬ ‫أكشاه‬ ‫ىكشة‬

‫جنكب شرؽ يافا بنحك ‪6‬كـ‬ ‫أزكر‬ ‫يازكر‬

‫جنكب شرؽ الرممة‬ ‫بكرجاتا‬ ‫البرج‬

‫جنكب غرب بحيرة طبرية‬ ‫بكرياه‬ ‫بكرية‬


‫الجميؿ األعمى الشرقي‪ ،‬شماؿ صفد بنحك‬
‫بيرياه‬ ‫بيرية‬
‫‪2‬كـ‬
‫شماؿ غرب الخميؿ بنحك ‪ 23‬كـ‬ ‫بيت جكفريف‬ ‫بيت جبريف‬

‫جنكب شرؽ يافا بنحك ‪ 10‬كـ‬ ‫بيت داجكف‬ ‫داجاف‪ /‬بيت دجف‬
‫النقب الشمالي‪ ،‬جنكب شرؽ غزة بنحك ‪13‬‬
‫بيت ىجدم‬ ‫خربة الجندم‬
‫كـ‬
‫سيؿ عكا‪ ،‬قرب الحدكد مع لبناف‪.‬‬ ‫بتسيت‬ ‫البصة‬

‫‪111‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫الجميؿ األعمى‪ ،‬شماؿ غرب صفد بنحك ‪12‬‬


‫برعاـ‬ ‫كفر برعـ‬
‫كـ‬
‫السيؿ الساحمي الجنكبي‪ ،‬جنكب شرؽ‬
‫جئاه‬ ‫الجية‬
‫عسقالف بنحك ‪5‬كـ‬
‫جنكب حيفا بنحك ‪ 20‬كـ‬ ‫جيفع كرمؿ‬ ‫جبع‬
‫الجميؿ األعمى‪ ،‬شماؿ شرؽ عكا بنحك ‪15‬‬
‫جيتا‬ ‫جت‪ /‬جكت (جت كيانكح)‬
‫كـ‬
‫شماؿ شرؽ يافا بنحك ‪ 14 -12‬كـ‬ ‫جميمكت‬ ‫اجميؿ‬

‫شماؿ شرؽ يافا بنحك ‪ 14 -12‬كـ‬ ‫جميؿ ياـ‬ ‫اجميؿ‬

‫جنكب شرؽ المد بنحك ‪5‬كـ‬ ‫جمزك‬ ‫جمزك‬

‫الجميؿ األعمى‪ ،‬شماؿ صفد بنحك ‪6‬كـ‬ ‫دالتكف‬ ‫دالتو‬


‫أقصى شمالي الحكلة‪ ،‬بجكار الحدكد مع‬
‫داف‬ ‫خاف الدكير‬
‫سكرية‬
‫شمالي شرؽ الحكلة‪ ،‬مقابؿ تؿ العزيزيات‬ ‫دافناه‬ ‫دفنة‬

‫ساحؿ الكرمؿ‪ ،‬جنكب حيفا بنحك ‪ 23‬كـ‬ ‫دكر‬ ‫الطنطكرة‬

‫الجميؿ األعمى‪ ،‬شماؿ صفد بنحك ‪ 12‬كـ‬ ‫ديشكف‬ ‫ديشكـ‬

‫شماؿ غرب الخميؿ بنحك ‪ 25‬كـ‬ ‫زكاريا‬ ‫زخريا‪ /‬زكريا‬


‫زماريف السيؿ الساحمي‪ ،‬جنكب حيفا بنحك‬
‫زخركف يعقكب‬ ‫زماريف‬
‫‪ 29‬كـ‬
‫جنكب غرب الرممة بنحك ‪ 10‬كـ‬ ‫زرنكقاه‬ ‫زرنكقو‬
‫قرب الحدكد مع لبناف‪ ،‬شرؽ رأس الناقكرة‬
‫حانيتا‬ ‫حانكتا‬
‫بنحك ‪7‬كـ‬
‫شماؿ شرؽ المد بنحك ‪4‬كـ‬ ‫حديد‬ ‫الحديثة‬
‫الجميؿ األسفؿ الشرقي‪ ،‬جنكب صفد بنحك‬
‫حكككؾ‬ ‫ياقكف‬
‫‪ 12‬كـ‬

‫‪112‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫شماؿ بيساف بنحك ‪5‬كـ‬ ‫حمادية‬ ‫حميدية‬


‫عمى السفكح السفمى لجبؿ الكرمؿ‪ ،‬جنكب‬
‫طيراه‪ ،‬طيرات ىكرمؿ‬ ‫طيرة‪ /‬حيفا‬
‫حيفا بنحك ‪ 7‬كـ‬
‫جنكب شرؽ حيفا بنحك ‪ 10‬كـ‬ ‫ياجكر‬ ‫ياجكر‬
‫مرج ابف عامر‪ ،‬شماؿ شرؽ جنيف بنحك‬
‫يزرعيؿ‬ ‫زرعيف‬
‫‪ 10‬كـ‬
‫شماؿ غرب طكلكرـ بنحك ‪ 6‬كـ‬ ‫يككف‬ ‫قاقكف‬
‫الجميؿ األعمى الغربي‪ ،‬شمػػاؿ شرؽ عكا‬
‫كابرم‬ ‫الكابرم‬
‫بنحك ‪15‬كـ‬
‫شماؿ بيساف بنحك ‪ 10‬كـ‬ ‫ككخاؼ ىيردف‬ ‫كككب اليكا‬
‫السيؿ الساحمي الجنكبي‪ ،‬جنكب شرؽ‬
‫ككخاؼ ميخائيؿ‬ ‫كككبا‬
‫عسقالف بنحك ‪ 10‬كـ‬
‫غرب القدس بنحك ‪ 17‬كـ‬ ‫كسالكف‬ ‫كسال‬

‫سيؿ عكا‪ ،‬شرؽ مدينة حيفا بنحك ‪ 11‬كـ‬ ‫كفر أتا‬ ‫كفريتا‬

‫شرؽ الرممة بنحك ‪6‬كـ‬ ‫كفر دانئيؿ‬ ‫دانياؿ‬


‫السيؿ الساحمي‪ ،‬شماؿ شرؽ يافا بنحك‬
‫كفر سابا‬ ‫كفر سابا‬
‫‪20‬كـ‬
‫شرؽ يافا بنحك ‪8‬كـ‬ ‫كفر ساكيا‬ ‫ساقية‬

‫جنكب شرؽ يافا بنحك ‪ 22‬كـ‬ ‫كفار عقركف‬ ‫عاقر‬

‫غربي طبرية بنحك ‪ 12‬كـ‬ ‫الفي‬ ‫لكبية‬

‫جنكب غرب القدس بنحك ‪ 12‬كـ‬ ‫مافك بيتار‬ ‫بتير‬

‫خربة زكريا شرؽ الرممة بنحك ‪12 -10‬كـ‬ ‫مافك مكديعيـ‬ ‫المدية‬

‫شماؿ مدينة طبرية بنحك ‪6‬كـ‬ ‫مجداؿ‬ ‫المجدؿ‬

‫شماؿ غرب جنيف بنحك‪ 17‬كـ‬ ‫مي عامي‬ ‫أـ الفحـ‬

‫الجميؿ األعمى الشرقي‪ ،‬شماؿ صفد بنحك‬ ‫ممكياه‬ ‫المالكية‬

‫‪113‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫‪ 15‬كـ‬

‫جنكب مدينة طبرية بنحك ‪2‬كـ‬ ‫منكراه‬ ‫المنارة‬

‫جنكب غرب القدس بنحك ‪ 5‬كـ‬ ‫منحات (منح= ممح)‬ ‫المالحة‬


‫السيؿ الساحمي الجنكبي‪ ،‬جنكب غرب‬
‫مشميع شالكـ‬ ‫المسمية الكبيرة‬
‫الرممة بنحك ‪ 24‬كـ‬
‫أقصى الجميؿ األعمى الشرقي‬ ‫متكال‬ ‫المطمة‬

‫السيؿ الساحمي‪ ،‬جنكب الرممة بنحك ‪ 8‬كـ‬ ‫ناعف‪ /‬نعف‬ ‫نعاني‬

‫شماؿ شرؽ جنيف بنحك ‪ 10‬كـ‬ ‫نكريت‬ ‫نكرس‬


‫شماؿ غرب الخميؿ بنحك ‪ 18‬كـ‪ ،‬قرب بيت‬
‫نحكشاه (= نحاس)‬ ‫دير نحاس‬
‫جبريف‬
‫شماؿ غرب الخميؿ بنحك ‪ 20‬كـ‬ ‫نتيؼ ىمميدىي‬ ‫بيت نتيؼ‬
‫الجميؿ األعمى‪ ،‬شماؿ غرب صفد بنحك ‪12‬‬
‫ساسا‬ ‫سعسع‬
‫كـ‬
‫شرؽ يافا بنحك ‪ 5‬كـ‬ ‫كفار شاليـ‬ ‫سالمي‪ /‬سممة‬
‫الجميؿ األعمى الشرقي‪ ،‬شماؿ غرب صفد‬
‫سفسكفاه‬ ‫الصفصاؼ‬
‫بنحك ‪7‬كـ‬
‫شماؿ غرب الخميؿ بنحك ‪ 25‬كـ‬ ‫عجكر مكشاؼ‬ ‫عجكر‬

‫عند الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية‬ ‫عيف جيؼ‬ ‫النقيب‬


‫الجميؿ األسفؿ‪ ،‬جنكب شرؽ الناصرة بنحك‬
‫عيف دكر‬ ‫اندكر‬
‫‪12‬كـ‬
‫جنكب حيفا بنحك ‪ 14‬كـ‬ ‫عيف ىكد‬ ‫عيف حكض‬

‫الجميؿ األعمى‪ ،‬شماؿ صفد بنحك ‪ 4‬كـ‬ ‫عيف زيتيـ‬ ‫عيف الزيتكف‬

‫غرب القدس بنحك ‪7‬كـ‬ ‫عيف كيرـ‬ ‫عيف كارـ‬

‫الجميؿ األعمى‪ ،‬شماؿ صفد بنحك ‪10‬كـ‬ ‫عمماه‬ ‫عمما‬

‫شماؿ شرؽ عكا بنحك ‪12‬كـ‬ ‫عمكاه‬ ‫عمقا‬

‫‪114‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫مركز مرج ابف عامر‪ ،‬جنكب الناصرة بنحك‬


‫عفكاله‬ ‫العفكلة‬
‫‪10‬كـ‬
‫جنكب جبؿ الكرمؿ‪ ،‬جنكب حيفا بنحك‬
‫عتميت‬ ‫عتميت‬
‫‪15‬كـ‬
‫النقب الشمالي‪ ،‬شماؿ غرب بئر السبع‬
‫باطيش‪ /‬فاطيش‬ ‫فطيس‬
‫بنحك ‪25‬كـ‬
‫الجميؿ األعمى‪ ،‬جنكب غرب صفد بنحك‬
‫باركد‪ /‬فاركد‬ ‫فراضية‬
‫‪7‬كـ‬
‫الجميؿ األعمى‪ ،‬شماؿ شرؽ عكا بنحك‬
‫بكيعيف حداشا‬ ‫البقيعة‬
‫‪25‬كـ‬
‫السيؿ الساحمي‪ ،‬جنكب غرب طكلكرـ‬ ‫برديسيا‬ ‫فرديسيا‬

‫غرب القدس بنحك ‪ 10‬كـ‬ ‫تسكباه‬ ‫صكبا‬

‫الجميؿ األسفؿ‪ ،‬شماؿ الناصرة بنحك ‪7‬كـ‬ ‫تسيبكرم‬ ‫صفكرية‬

‫عند الشاطئ الجنكبي لبحيرة طبرية‬ ‫تسيمح‬ ‫سمخ‬

‫جنكب حيفا بنحك ‪ 20‬كـ‬ ‫تسيركفاه‬ ‫صرفند‬

‫جنكب شرؽ يافا بنحك ‪ 12‬كـ‬ ‫تسفرياه‬ ‫السافرية‬

‫غرب القدس بنحك ‪ 25‬كـ‬ ‫تسرعاه‬ ‫صرعة‬

‫غرب القدس بنحك ‪7‬كـ‬ ‫كاستؿ‪ /‬قاسطؿ‬ ‫القسطؿ‬


‫الجميؿ األسفؿ الشرقي‪ ،‬جنكب غرب طبرية‬
‫شاركناه‬ ‫شاركنة‬
‫بنحك ‪ 10‬كـ‬
‫كادم يصب في كادم العريش‬ ‫جرار‬ ‫الجاركر‬

‫جنكب شرؽ بئر السبع‬ ‫عركعر‬ ‫عرعرة‬


‫منطقة صفد‪ ،‬شرؽ قرية مغار الخيط‬
‫كطناه‬ ‫قطنة‬
‫المدمرة‬
‫المصدر‪ :‬إبراىيم عبد الكريم‪ :‬تيويد األرض وأسماء المعالم الفمسطينية‪ -‬دراسة ودليل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪ ،55‬ودليل الدراسة ص ‪ 102‬وما بعدىا‬

‫‪115‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫جدول (‪ :)4‬نماذج تحويل أسماء المناطق الفمسطينية العربية الى أسماء عبرية‬
‫تاستخداو طريقح نقم االسى تاملؼىن‬
‫املىعغ انتقريثي نهًكاٌ‬ ‫االسى انؼربي‬ ‫االسى انؼرتي‬
‫ىار جكفام (جكفام= جرادة)‬ ‫جبؿ جرادة‬
‫ىار تسياد (تسياد‪ /‬تصياد=‬
‫جبؿ رجـ القناصية‬
‫قناص)‬
‫ىار ريخؼ‬
‫جبؿ الراكب‬
‫منطقة النقب‬ ‫(ريخؼ‪ /‬ريكب‪ /‬ركب= مركبة)‬
‫ىار شحكركت (شحكركت=‬
‫جبؿ السكيدم‬
‫أسكد)‬
‫ىار تسافكاع (تسافكاع= ضبعة)‬ ‫جبؿ رجـ الضبعة‬

‫تيفف (تيفف= تبف‪ /‬تباف)‬ ‫كادم التباف‬


‫ىار راحيؼ (راحيؼ‪ /‬راحيب=‬
‫منطقة الجميؿ األعمى‬ ‫تؿ رحيب‬
‫كاسع)‬
‫منطقة غزة‬ ‫تؿ كيشت (كيشت= قنطرة)‬ ‫تؿ القنيطرة‬

‫منطقة سيؿ الكرمؿ‬ ‫عيف إيااله (إيااله= أيمو= غزالة)‬ ‫عيف غزاؿ‬
‫المصدر‪ :‬إبراىيم عبد الكريم‪ :‬تيويد األرض وأسماء المعالم الفمسطينيــــة‪ -‬دراسة ودليــــل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.56‬‬

‫قبؿ الخمكص الى نتيجة أخيرة‪ ،‬يجدر التأكيد عمى أف الكثير مف الباحثيف الفمسطينييف‬
‫كالعرب قد تنبيكا منذ بداية االحتالؿ االسرائيمي لؤلرض الفمسطينية كبداية مشركعات التيكيد‬
‫كالجرؼ التاريخي كالجغرافي لممعالـ العربية فييا‪ ،‬لمخاطر كأىداؼ ىذه المشركعات‪ .‬فبذلكا‬
‫جيكدان جبارة لمتصدم ليا كمكاجيتيا‪ ،‬فضالن عف الجيكد الرسمية التي بذلت مف قبؿ الجامعة‬
‫العربية‪ ،‬فقامكا بتكثيؽ األسماء كالمعالـ الجغرافية كالتاريخية كاألثرية العربية بطرؽ شتى‪ ،‬كجرل‬
‫إعداد المعاجـ كاألدلة كالدراسات المعجمية كالمغكية لتكثيؽ صكرة األرض الفمسطينية كما كانت‬

‫‪116‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫قبؿ تحريفيا كتيكيدىا مف قبؿ الكياف االسرائيمي‪ ،‬كما ال ننسى كتب البمدانيات كالمعاجـ التراثية‬
‫التي خصت فمسطيف كالشاـ بالكثير مف االىتماـ‪ ،‬فسجمت ككثقت أسماء المناطؽ في عصكر‬
‫تاريخية مختمفة‪ ،‬كأيضان ىنالؾ الكثير مف الكثائؽ اإلدارية لممجالس البمدية في عصر الدكلة‬
‫العثمانية‪ ،‬كالتي يمكف الرجكع إلييا لممقارنة كالبحث كتقصي الحقائؽ بشأف أسماء المناطؽ‬
‫الفمسطينية كعالقتيا بما كرد منيا في التكراة‪.‬‬

‫ىكذا‪ ،‬فسكاء جرل األمر عمى النص التكراتي أك عمى األرض‪ ،‬فمف يخرج األمر كميان عف‬
‫نطاؽ الفكرة التي تككنت لدينا عف [منيج دراسة التحويالت المغوية]‪ -‬وىذا فقط وفقط فقط إذا‬
‫قبمنا بيذا المنيج كأساس لالستدالل التاريخي والجغرافي‪.‬‬

‫إننا في مكقؼ يفرض عمينا أف نحكـ العقؿ كالمنطؽ‪ ،‬كأال نبحث عف أعذار أك أف نتيرب‬
‫مف مكاجية الحقيقة بتفسيرات كاحتجاجات جانبية كاىية‪ .‬البد مف اصدار حكـ بشأف ما إذا كاف‬
‫األمر الذم قاـ بو ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب مف جية‪ ،‬كما قاـ بو الييكد‬
‫أصحاب نظرية جغرافية التكراة في فمسطيف مف جية أخرل‪ ،‬يعد عمالن منيجيان عمميان جائ انز‬
‫كمشركعان أـ أنو تزكير كتحريؼ لمحقائؽ كتضميؿ ليا كعنيا‪.‬‬

‫لقد ثبت لنا فيما تقدـ نظريان كعمميان‪ ،‬أف العمؿ كاحد كالمنيج كاحد كالرؤية كالمنطمقات‬
‫كاحدة‪ ،‬اتفؽ عمييا ركاد نظرية جغرافية التكراة مف الباحثيف العرب كالييكد أصحاب مشركع‬

‫تيكيد األرض الفمسطينية‪ ،‬بما يعني أف اصدار أم حكـ بشأنيـ جميعان يمزـ بأف يككف حكمان‬
‫كاحدان عمى الطرفيف‪ .‬فإذا قبمنا بفكرة المنيج العممي لدل الركاد العرب‪ ،‬فيذا يعني أننا نعترؼ‬
‫بأف ما قاـ بو الييكد ىك أيضان عمؿ منيجي كعممي‪ ،‬كاذا حكمنا عمى ما قاـ بو الييكد بأنو‬
‫تزكير كتحريؼ لمحقيقة‪ ،‬فيذا يعني أننا نصدر نفس الحكـ عمى ما قاـ بو الباحثيف العرب‪.‬‬

‫عمى كؿ حاؿ‪ ،‬سكاء حكمنا بأف األمر ىك تطبيؽ لمنيج عممي‪ ،‬أك بأنو محض شعكذات‬
‫اشتقاقية لغكية كما قضى بذلؾ الباحث الفرنسي "بيير ركسي"‪ ،‬فإف النتيجة في كال الحالتيف‬
‫كاحدة‪ ،‬كىي [سقوط نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب]‪ .‬فبغض النظر عف حاالت‬
‫التعسؼ التي قاـ بيا باحثكنا العرب كقاـ بيا كذلؾ منفذك مشركع تيكيد الجغرافية الفمسطينية مف‬

‫‪117‬‬
‫انفصم انثانث‬ ‫تفكيك انثناء املنطقي واملنهجي نهنظريح‬

‫الييكد‪ ،‬فإف قبكلنا بفكرة المنيج المغكم ىك قبكؿ بأف ما قاـ بو الييكد ىك عمؿ منيجي‪ ،‬يمكف‬
‫عكسو إلعادة أسماء المناطؽ الفمسطينية الميكدة الى أصكليا العربية السابقة‪ ،‬كفي ىذا اقرار‬
‫أيضان بكجكد الكثير مف األسماء التكراتية عمى خريطة األرض الفمسطينية بالفعؿ‪ ،‬بما يسقط‬
‫كيفند نظرية الباحثيف العرب‪.‬‬

‫أما إذا اعتبرنا أف ما قاـ بو الييكد يعد مف قبيؿ التزكير فالبد أف يككف ىذا الحكـ كاقعان‬
‫عمى ما قاـ الباحثكف العرب أيضان‪ ،‬كبو تسقط نظريتيـ‪ ،‬ألنو ينطكم عمى إثبات حقيقة كـ أنو‬
‫مف الصعب جدان الرككف كاالعتماد عمى القرائف المغكية‪ ،‬كعدـ صالحيتيا ألف تحؿ محؿ الدليؿ‬
‫األثرم‪ ،‬كحينيا لف يبقى أمامنا سكل االحتكاـ الى نتائج عمـ اآلثار لحسـ المسألة برمتيا‪.‬‬

‫وحتى يتفضل أحد رواد نظرية جغرافية التوراة من الباحثين العرب‪ ،‬ويبين لنا الفرق بين‬
‫المنيج والتزوير‪ ،‬فإني أترك الحكم لكم اعزائي القراء‪..‬‬

‫‪118‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫انفصم انرابع‬

‫وهايت نعبت األمساء وانكهماث املتشابهت‬

‫اتجيت ىذه الدراسة في الفصول السابقة الى تقديم خمفية متكاممة وموجزة لنظرية جغرافية‬
‫التوراة في جزيرة العرب‪ ،‬بالتوازي مع تفكيك بنائيا المنطقي والمنيجي والكشف عن اختبلالتيا‬
‫وتناقضاتيا‪ ،‬ليغدو ممكناً بعد ذلك النفاذ الى عمق النظرية والبحث في إمكانية نقض استدالالتيا‬
‫وىدميا من الداخل‪ .‬وبالطبع فإن الدراسة موجية بشكل رئيسي الى عموم القراء والميتمين‬
‫باألمر‪ ،‬أكثر ما أنيا متجية صوب رواد النظرية‪ .‬ذلك أنو سبق بالفعل وأن قام باحثون‬
‫متخصصون بنقدىا‪ ،‬والقيام بمحاوالت جادة لفتح قنوات حوار مع روادىا في سبيل بحث امكانية‬
‫خمق أجواء مناسبة لمنقاش بشأنيا‪ ،‬إال أن ردود فعميم جاءت غالباً في اتجاه عكسي‪ ،‬عبر عنو‬
‫تجاىميم ألي نقد أو دعوة لمنقاش‪ ،‬بل أن التيرب من النقاش َّ‬
‫شكل سمة جوىرية من سمات‬
‫مواقفيم‪ ،‬فكمما دعوا الى نقاش تيربوا منو وتجاىموه‪.‬‬

‫ىناك الكثير من الميتمين بيذه النظرية والباحثين بشأنيا‪ ،‬ممن تطمعوا دائماً الى إدراك‬
‫طبيعتيا من وجية نظر مغايرة‪ ،‬وىذا ميم لمغاية إذ ال يمكن االنقياد لرؤية أحادية واعتبار أنيا‬
‫ىي الحقيقة دون غيرىا‪ ،‬فعمينا دائماً أن ننظر الى الطرف اآلخر وأن ننصت ألصحاب الرؤى‬
‫المغايرة والناقدة‪ ،‬وأن نتبين ما لدييم‪.‬‬

‫من أجل ذلك‪ ،‬حرصت منذ البداية عمى أن تكون مضامين الدراسة سيمة وسمسة ليتمكن‬
‫القارئ العادي من تمقييا وىضميا‪ ،‬متحاشياً قدر اإلمكان االغراق في المسائل التخصصية‬
‫العميقة‪ ،‬ومميداً في نفس الوقت لنقمة ضرورية في ىذا االتجاه‪ ،‬إذ ال مفر من الولوج الى‬
‫أعماق النظرية‪ ،‬من مختمف النواحي الموضوعية العممية والمعرفية‪ .‬لذا كان من الضروري اتباع‬
‫خطة تدريجية تمكن القارئ من امتبلك ناصية الموقف النقدي الذي تتبناه ىذه الدراسة ومن‬
‫السير بمحاذاتو حتى نيايتيا‪ ،‬بحيث ال يصل الى مرحمة ما تعوقو فييا المادة المتخصصة التي‬
‫البد من ادراجيا ومناقشتيا‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫لدي إصرار شديد عمى مناقشة مسألة المنيج الذي اتبعو رواد النظرية من كافة الجوانب‪،‬‬
‫ألن ىذه المسألة ىي مفتاح كل المسائل التي سنناقشيا الحقاً‪ ،‬وكل األدلة التي يمكن التوصل‬
‫إلييا لنقضيا‪ ،‬واثبات كيف أنيا تقع خارج نطاق المنطق والمعقول‪ ،‬فضبلً عن مخالفتيا التامة‬
‫لكل ما ىو حقيقي وواقعي‪ .‬السيما وأن الفصول السابقة تضمنت العديد من التساؤالت‬
‫واالشكاليات التي تحتاج بالفعل الى اجوبة دقيقة‪ ،‬تساعدنا عمى الخروج بحكم واضح ومحدد إزاء‬
‫ىذه النظرية‪ ،‬وازاء األدلة التي استخدمت في إثباتيا‪ ،‬وعمى رأسيا االستدالل الذي عبرت عنو‬
‫المقولة الثالثة من مقوالتيا‪ ،‬بشأن المبلحظة العجيبة التي كشفت عن ذلك التشابو المدىش بين‬
‫أسماء األماكن الجغرافية الواردة في التوراة‪ ،‬وأسماء المناطق الجغرافية في جزيرة العرب‪.‬‬

‫لقد بنيت نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب عمى أساس جسدتو المقوالت الثبلث التي‬
‫أصبحنا عمى دراية كافية بيا‪ ،‬واعتمد روادىا عمى [منيجية دراسة التحوالت المغوية ألسماء‬
‫األماكف الجغرافية الواردة في النص التوراتي‪ ،‬وقابموىا بنفس اآللية عمى تمؾ التي وجدوىا في‬
‫بعض المناطؽ مف جزيرة العرب‪ ،‬عمى أساس التشابو المفظي والتراكـ الكمي لتمؾ األسماء في‬
‫حيز جغرافي واحد‪ -‬كما يقولوف]‪ .‬إذ أشاروا دائماً الى أنو من الصعب أن نجد ذلك التراكم‬
‫ألسماء مناطق عمى األرض مشابية لتمك التي ترد في النص التوراتي‪ ،‬واستنتجوا في ظل غياب‬
‫األدلة األثرية عمى األحداث التوراتية في فمسطين أن تمك األحداث ربما وقعت في مكان آخر‬
‫يدل عميو ذلك التشابو العجيب بين األسماء‪.‬‬

‫عمى ىذا األساس قام رواد النظرية بتوظيف مقولتيم عن التزييف والتحريف الذي مارسو‬
‫عمماء التوراة منذ القدم ومن ثم المستشرقين في قراءاتيم وتفسيراتيم لمنص التوراتي‪ ،‬إلييامنا بأن‬
‫فمسطين ىي مسرح أحداث القصة التوراتية‪ ،‬وعميو جرى تفسير مواقع األسماء الجغرافية الواردة‬
‫في النقوش األثرية عمى أنيا في فمسطين أيضاً‪ ،‬واألمر نفسو ينطبق عمى كافة السجبلت‬
‫التاريخية واألدلة األثرية التي ترد فييا تمك األسماء‪ ،‬فحيثما جرى االعتقاد بأن جغرافية التوراة‬
‫ىي فمسطين والشرق األدنى برمتو‪ ،‬فيذا يعني أن القراءة والتفسير قائمان عمى أساس من الزيف‬
‫والتمفيق‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫بناء عميو‪ ،‬قرر رواد النظرية إعادة قراءة التوراة والسجبلت التاريخية والنقوش األثرية عمى‬
‫ً‬
‫أساس أن جغرافية التوراة ليست في فمسطين‪ ،‬بل في المناطق التي عينوىا‪.‬‬

‫ىكذا تم اغبلق المسألة بدون أن يتركوا أي معيار مشترك بينيم وبين أولئك الذين‬
‫يخالفونيم الرأي‪ ،‬من خبلل تسوير نظريتيم بتمك المقوالت‪ ،‬لمنع قيام الحجج التي كان يمكن‬
‫االحتجاج بيا ضد نظريتيم‪ ،‬والتي يمكن تحديدىا عمى النحو اآلتي‪:‬‬

‫الحجة األولى‪ :‬أن أسماء المناطق التوراتية موجودة في فمسطين‪ -‬وىذا صحيح بالفعل‪.‬‬

‫الحجة الثانية‪ :‬أن التوراة ليست مصدرنا الوحيد‪ ،‬فيناك سجبلت تاريخية وجغرافية‬
‫تتضمن توثيقاً ألسماء مناطق الشرق األدنى وجزيرة العرب‪.‬‬

‫الحجة الثالثة‪ :‬ىناك أدلة أثرية مصرية وبابمية وآشورية وسبئية أيضاً‪ ،‬رصدت أسماء‬
‫ومواقع مدن كثيرة ورد ذكرىا في النص التوراتي‪.‬‬

‫لمنع قيام ىذه الحجج الثبلث‪ ،‬ظل رواد النظرية يرددون مقولة التزوير والتزييف بصيغ‬
‫مطاطة وغير دقيقة‪ ،‬ساعدتيم في التشكيك بكل الحقائق التي تنطوي عمييا تمك الحجج‪،‬‬
‫فجغرافية التوراة تم تحريفيا‪ ،‬وأيضاً جغرافية فمسطين تعرضت لمتحريف‪ ،‬وبالتالي ال تقوم الحجة‬
‫األولى‪ ،‬مع أنيم لم يحددوا متى وكيف وقع ىذا التحريف والتزوير سواء عمى النص التوراتي أو‬
‫عمى األرض الفمسطينية‪ .‬وحين واجييم بعض النقاد بحجج عممية مصدرىا السجبلت التاريخية‬
‫األدلة األثرية‪ ،‬استخدموا أيضاً نفس العمة وقالوا بأنو جرت عمى الدوام قراءة وتفسير تمك‬
‫السجبلت التاريخية واألدلة األثرية وفق االفتراضات الزائفة والمحرفة التي قدميا التفسير التقميدي‬
‫لمتوراة‪ ،‬وكمما طرحت ىذه األدلة عمييم شككوا بيا واتيموىا بأنيا واقعة في شباك الق ارءة‬
‫االستشراقية المحرفة والزائفة‪ ،‬وىكذا دارت كل الجيود النقدية في حمقة مفرغة لم تساعدىا في‬
‫تحقيق أىدافيا‪.‬‬

‫في نفس االتجاه‪ ،‬مارس رواد النظرية ما يعرف ب ـ [الخداع أو المغالطات المنطقية‬
‫الصورية] في تقديم استدالالتيم المفظية والمغوية والتاريخية والجغرافية‪ ،‬في السياق الذي جرى‬
‫فيو دائماً اسقاط الواقع الراىن الذي تعيش فيو فمسطين العربية تحت وطأة االحتبلل الصييوني‪،‬‬

‫‪121‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫فرفعوا شعار فضح وكشف زيف االدعاءات الصييونية التاريخية‪ -‬التي مصدرىا التوراة أصبلً‪،‬‬
‫والمقوالت الرائجة عن التزوير واألغراض االمبريالية التي مارسيا وخدميا االستشراق الغربي‬
‫المعاصر لصالح الصييونية‪.‬‬

‫استخدم ذلك كمو كغطاء عاطفي شوش دائماً عمى العقل العربي‪ ،‬وحال دون تمكينو من‬
‫ادراك حقيقة أن تمك المقوالت بقدر ما تبدو حقيقية وواقعية‪ ،‬إال أنيا بالقدر نفسو زائفة وممفقة‪.‬‬

‫لقد سعت الدراسة الحالية في الفصول الثبلثة السابقة الى توضيح ىذه النقطة بالذات‪ ،‬من‬
‫خبلل إثبات الجذور االستشراقية‪ -‬الييودية ليذه النظرية فكرة ومنيجاً‪ ،‬وكيف أنيا ال تيدف إال‬
‫الى حماية مصداقية القصص التوراتية‪ ،‬التي أثبت عمم اآلثار حتى اآلن أنو ال وجود ألي دليل‬
‫يثبت وقوع أحداثيا الكبرى‪ ،‬بقدر ما تفيد األدلة المتوصل إلييا بأنيا ربما لم تحدث عمى‬
‫اإلطبلق‪.‬‬

‫نحن نقف أمام نظرية حبكت عمى مدى أكثر من ربع قرن من الزمان‪ ،‬تظافرت فييا ومن‬
‫أجميا جيود العديد من الباحثين الذي وجدوا فييا طابعاً راديكالياً [ثورياً] يدعم التفات الناس ليا‬
‫وانضماميم الى صفيا‪ ،‬وربما دفعت البعض الى الخروج عمى كل الحقائق القائمة والتصديق‬
‫المطمق بيا‪.‬‬

‫إن نظرية كيذه ال يمكن اسقاطيا بسيولة‪ ،‬خاصة في ظل اليوة الواسعة التي نتجت عن‬

‫غ ازرة االنتاج الكتابي والنظري لروادىا في مقابل قمة الدراسات النقدية التي وجيت إلييا‪ ،‬فضبلً‬
‫عن أن معظم الجيود النقدية التي قدمت لم تأخذ بعين االعتبار وبشكل كافي الطريقة التي بنيت‬
‫بيا ىذه النظرية‪ ،‬وأيضاً الطريقة التي جرت بيا عممية تسويرىا وتحصينيا من أي نقود أو ردود‬
‫مماثمة لتمك التي طرحت بالفعل‪.‬‬

‫جاءت الدراسة الحالية كاستجابة بالضرورة لذلك كمو‪ ،‬في اتجاه بناء مدخل نقدي مختمف‬
‫بناء عمى قراءات فاحصة متأنية ومتراكمة استغرقت‬
‫تماماً‪ .‬إذ جرى تكوين وجية نظرىا وخطتيا ً‬
‫أوقاتاً طويمة وبذلت فييا جيوداً عزيزة لرصد كافة ما يتعمق بيذه النظرية وبنقدىا‪ ،‬وبالتالي فإن‬
‫ما آمل أن تحققو ىذه الدراسة‪ ،‬ىو تقديم رؤية نقدية جديدة تساىم بشكل فعمي في إبراز‬

‫‪122‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫االشكاليات التي تثيرىا نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب‪ ،‬واالشكاليات الناتجة عنيا قدر‬
‫اإلمكان‪ ،‬وأن تفتح األبواب مجدداً لمقيام بدراسات مماثمة تعزز من فرص تحقيق ىذا اليدف‪.‬‬

‫استطيع القول‪ -‬انطبلقاً من ىذه المرحمة ‪ -‬أن كافة األسئمة واالشكاليات المتعمقة بنظرية‬
‫جغرافية التوراة في جزيرة العرب لمباحثين العرب قد طرحت‪ ،‬كما جرى توضيح نقاط اختبلليا‬
‫والكشف عن تناقضاتيا من الناحية النظرية والتطبيقية العامة‪ ،‬ولم يبق أمامنا سوى النقد‬
‫التطبيقي المتعمق صوب استدالالتيا المغوية والمفظية القائمة عمى فكرة تشابو أسماء المواقع‬
‫الجغرافية‪ .‬ف إن كان ثمة سؤال البد من طرحو في ىذا االتجاه‪ ،‬فبلبد أن يكون سؤاالً عن األدلة‬
‫الذي يمكن تقديميا لمكشف عن مدى ىشاشة االستدالالت االسمية والتشابيات المفظية التي‬
‫كانت ومازالت تدعم بقاء ىذه النظرية وتعطييا القوة البلزمة لمبقاء‪ ،‬والكشف أيضاً عن طبيعة‬
‫الخداع المنطقي والموضوعي الذي انطوت عميو تمك االستدالالت‪.‬‬

‫من أجل ذلك كمو‪ ،‬كان البد من البحث عن الثغرات التي تركيا رواد ىذه النظرية‪ ،‬أو‬
‫ربما تعمدوا التعمية عنيا بشكل أو بآخر‪ ،‬وتعتري نظريتيم ومنيجيم وأدلتيم‪ ،‬وبقدر ما أن ىذه‬
‫تعد ميمة بالغة الصعوبة‪ ،‬خاصة أمام الحبكة شبو المتقنة التي طرحت بيا النظرية‪ ،‬وأغمقت‬
‫بيا األبواب أمام كل الحجج المتوفرة‪ ،‬بالقدر نفسو الذي آمنت دائماً بأنو ال يوجد جيد بشري‬
‫عمى اإلطبلق يمكن أن يوصف بالكمال‪ ،‬وأنو ال توجد نظرية متماسكة ومتكاممة أو يمكن أن‬
‫تسمم من الثغرات التي يمكن أن تستخدم ضدىا‪.‬‬

‫ىنا البد من التنبيو مجدداً عمى أن االشكالية التي تضعنا أماميا نظرية جغرافية التوراة‬

‫في جزيرة العرب ال تكمن في ادعاءاتيا وفروضيا التي تتبناىا‪ ،‬وال في النتائج التي رامت دائماً‬
‫الى اثباتيا‪ ،‬بقدر ما تتمثل في أن ىذه النظرية برمتيا قائمة عمى نحو غريب ومثير لمريبة‬
‫والشك‪ ،‬خاصة إذا ما نظرنا إلييا من تمك الزوايا المتباينة التي عبرت عنيا كل التساؤالت التي‬
‫طرحت من قبل‪ ،‬وفي مقدمتيا ذلك السؤال عن الدواعي والدوافع واألىداف الكامنة وراء التوجو‬
‫بكل ىذه القوة واالندفاع نحو اسقاط جغرافية التوراة عمى مكان آخر‪ ،‬في الوقت الذي تكفل فيو‬
‫عمم اآلثار وأثبت بمغة العمم أن الرواية التاريخية لمتو ارة تفتقد الحد األدنى من المصداقية‪ ،‬وأنيا‬
‫مما ال يمكن الركون إليو كمصدر لمعرفتنا التاريخية أو مساعد لنا في البحث التاريخي‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫واذن‪ ،‬فإن ميمتنا في ىذا الفصل تتحدد بشكل رئيسي في التأسيس والتمييد الفعمي لتقديم‬
‫األدلة الجغرافية والتاريخية والمغوية التطبيقية التي تدحض مقوالت وادعاءات رواد نظرية جغرافية‬
‫التوراة في جزيرة العرب‪ ،‬وذلك من خبلل تحطيم مقولة تشابو أسماء المواقع الجغرافية أوالً‪،‬‬
‫والكشف عن الثغرات والثقوب المنيجية التي تعاني منيا نظريتيم ومنيجيم‪ ،‬في االتجاه الموازي‬
‫الذي نقوم فيو بتوضيح وتوصيف منيجنا في بناء وتكوين األدلة المضادة‪ ،‬تمييداً لعرضيا في‬
‫الفصول التالية‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫)‪(1‬‬

‫ماذا يعىي تشابه األمساء اجلغرافيت؟‬

‫لنبدأ بيذا السؤال االستيبللي‪:‬‬

‫ىؿ يمكف أف يكوف تشابو أسماء المواقع الجغرافية دليالً؟!‬

‫أبسط جواب عمى ىذا السؤال‪ ،‬يمكن التماسو عند الدكتور "أسامة محمد أبو نحل"‪-‬‬
‫األستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر ورئيس قسم التاريخ في كمية اآلداب والعموم‬
‫اإلنسانية بجامعة األزىر في مدينة غزة الفمسطينية‪ ،‬في مقالة لو نشرىا عمى شبكة االنترنت في‬
‫أغسطس من العام ‪ ،0202‬تحت عنوان‪[ :‬نظرية الدكتور كماؿ الصميبي وتاريخ فمسطيف‬
‫القديـ]‪ ،‬إذ قال فييا‪:‬‬

‫"اعتمد الصميبي في إثبات صحة نظريتو عمى تشابو أسماء عدد من المدن‬
‫الموجودة في التوراة بأسماء مدن أخرى موجودة في غرب الجزيرة العربية‪ ،‬وىذا وحده ال‬
‫يكفي إلثبات صحة ما وصؿ إليو‪ ،‬فمف المعموـ أف اسـ مدينة واحدة ربما يتكرر في‬
‫عدة بالد وتحمؿ المسمى نفسو‪ ،‬فعمى سبيل المثاؿ يوجد عمى سطح ىذه األرض ثالث‬
‫مدف تحمؿ اسـ مدينة غزة‪ ،‬األولى في جزيرة العرب في بالد بني سعد بف زيد بف مناة‬
‫بف تميـ‪ ،‬وقد نسب األخطؿ الشاعر المشيور الوحش إلى غزة الموجودة في جزيرة‬
‫العرب‪ .‬والثانية ببالد المغرب‪ ،‬بينيا وبيف القيرواف نحو ثالثة أياـ‪ ،‬والثالثة في‬
‫فمسطيف"[‪.]1‬‬

‫[‪ .]0‬أسامة محمد أبو نحل‪ :‬نظرية الدكتور كمال الصميبي وتاريخ فمسطين القديم‪ 8 ،‬أغسطس ‪ ،0202‬متاح‬
‫عمى الرابط االلكتروني‪:‬‬
‫‪https://groups.google.com/forum/#!topic/fayad61/BvVL9VVBwtM- 18 Nov 2017.‬‬

‫‪125‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫قد يرى البعض أن االستشياد بقول أستاذ جامعي متخصص ويرأس قسماً اكاديمياً في‬
‫عمم التاريخ بأنو مما ال يمكن اعتباره حجة كافية‪ ،‬ولعمي اتفق مع ىذا الرأي‪ ،‬لكن ال بأس من‬
‫استعراض آراء الباحثين األكثر تخصصاً‪ ،‬وأحدىم ىنا متخصص تماماً في [دراسة األسماء‬
‫الجغرافية القديمة واشكالياتيا المغوية والتاريخية]‪ ،‬وىو الدكتور "عامر الج َميمي"‪ -‬األستاذ‬
‫المساعد في قسم اآلثار بجامعة الموصل في العراق‪ ،‬الحاصل عمى درجة الدكتوراه عام ‪،0222‬‬
‫عن أطروحتو الموسومة ‪[ :‬المعارؼ الجغرافية عند العراقييف القدماء]‪.‬‬

‫يخبرنا الجميمي بأن فوضى الخمط وااللتباس بين أسماء األماكن الجغرافية القديمة‪ ،‬دفعتو‬
‫الى بذل العديد من الجيود البحثية المتخصصة في أصول األسماء الجغرافية وتشابياتيا‪ ،‬إذ‬
‫يقول‪:‬‬

‫"لدى قراءة العديد من البحوث والمصادر التاريخية ذات العبلقة بتاريخ الشرق‬
‫األدنى القديم بشكل عام‪ -‬أي العراق وسوريا وفمسطين ومصر‪ -‬ومن بينيا رسائل‬
‫ماجستير وأطاريح الدكتوراه‪ ،‬تبيف أف بعض الباحثيف قد وقعوا في وىـ وخمط في تعييف‬
‫وتحديد بعض المواضع والمدف مف غير عمـ أو تمحيص‪ ،‬فراحوا يطمقوف العناف‬
‫ألنفسيـ بالمعمومات الجغرافية جزافاً ومف دوف أف يجيدوا أنفسيـ عناء التحديد السميـ‬
‫لمواقع المدف موضوعة البحث‪ .‬وفاتيـ أف المدف شأنيا في ذلؾ شأف أسماء الناس ليا‬
‫(سَِمي)‪ ،‬إذ يطمؽ االسـ الواحد عمى غير مسمى [أي عمى أكثر مف مسمى واحد]‪،‬‬
‫وعمى الباحث ىنا تقع مسؤولية استنتاج وتحديد موقع المدينة المعنية والمقصودة بالبحث‬
‫والدراسة"[‪.]1‬‬

‫[‪ .]0‬عامر عبد اهلل الجميمي‪ :‬أسماء المدن والمواقع الجغرافية المتشابية لفظاً والمختمفة موقعاً في النصوص‬
‫المسمارية‪ 00 ،‬مايو ‪ ،0200‬متاح عمى الرابط االلكتروني‪:‬‬
‫‪http://dramerart.blogspot.com/search/label/%D8%A7%D8%B3%D9%85%D8%A7%‬‬
‫‪D8%A1%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86- 10 Nov 2017.‬‬

‫‪126‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫كان ىذا تأكيداً ‪ -‬من عالم متخصص في ىذا المجال‪ -‬عمى إن الخمط وااللتباس بشأن‬
‫بناء عمى أسمائيا‪ ،‬يعَّد من أىم وأصعب المشاكل التي يواجييا الباحثين‬
‫تحديد المواقع الجغرافية ً‬
‫المتخصصين‪ ،‬فما بالنا بغير المتخصصين؟!‬

‫أىم المشكبلت التي تواجو الباحثين في ىذا المجال‪ ،‬ىي ظاىرة تشابو أسماء األماكن‬
‫اء في نطاق جغرافية البمد الواحد‪ ،‬أو في النطاقات الجغرافية لبمدين أو أكثر‪ ،‬واألمثمة‬
‫والمدن سو ً‬
‫عمى ذلك كثيرة وال مجال لحصرىا‪ -‬كما سيتبين ذلك الحقاً‪ ،-‬ولكن يمكن تقديم بعض األمثمة‬
‫المتعمقة بأسماء مدن قديمة اشتركت فييا عدة مواضع في بمدان متعددة من الشرق األدنى‬
‫القديم‪ ،‬مما ورد ذكرىا في السجبلت التاريخية والنقوش األثرية البابمية واآلشورية‪:‬‬

‫"اسـ [(أبقو) (‪ ])apqu‬وىو اسـ مدينة تشترؾ فيو ثالثة مواضع‪ :‬الموضع‬
‫األوؿ ويرد في نصوص من العصرين البابمي واالشوري القديمين وىي مدينة (أبقو‪-‬م‪-‬‬
‫‪ )-apqu-m‬والذي يميز بالبلحقة (شا إيشكور ‪ )ša iškur‬أي‪ :‬مدينة (أبقو) العائدة إلى‬
‫االلو (إيشكور) الو العواصف والمناخ عند السومريين والذي يضاىي االلو (أدد) عند‬
‫حدَد) أو (ىَدَد) عند الفينيقيين واآلراميين‪ .‬ويبدو أن ىذه المدينة كانت أحد‬
‫االكديين و( َ‬
‫مراكز عبادة ىذا اإللو‪ .‬وىذه الصيغة وردت في نصوص العصر البابمي القديم أما في‬
‫نصوص العصرين البابمي واآلشوري الوسيطين فترد فقط بصيغة أبقو (‪ .)apqu‬وترد في‬
‫نصوص العصر اآلشوري الحديث بصيغة (أبكو ‪ .)apku‬ويتطابق ىذا الموضع مع (تؿ‬
‫ابو ماريا) شرقي قضاء تمعفر إلى الغرب من الموصل شمال غربي العراق‪ .‬أما الموضع‬
‫الثاني فيو (أبقو‪-‬م‪ -‬شا باليخا ‪ )apqu-m- ša baliha‬أي‪ :‬مدينة (أبقو) الكائنة عمى‬
‫رافد البميخ أحد روافد نير الفرات شمالي سوريا والتي اظيرت الدالئل والقرائن أنيا‬
‫تتطابق حالياً مع (تؿ ابيض) عمى رافد البميخ في محافظة الرقة في سوريا عمى الحدود‬
‫مع تركيا‪ .‬والموضع الثالث ىو أبقو (‪ )apqu‬وىو اسم مدينة ترد في نصوص العصر‬

‫‪127‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫اآلشوري الحديث وتتطابق إلى حد ما حاليا مع (تؿ افيؽ) شمال شرقي يافا في‬
‫فمسطيف"[‪.]1‬‬

‫"اسـ [تَمنا (‪ -])tamna‬أو تمنة‪ ،‬اسم مدينة يتطابق إلى حد ما مع (تؿ بطش)‬
‫غربي القدس في فمسطيف‪ ،‬و(تمنونو‪/‬أ) (‪ )tamnunu/a‬التي يرشح الباحثون (تؿ‬
‫جيكاف) الذي يقع حاليا تحت غمر مياه سد الموصؿ شماؿ غربي الموصؿ في العراؽ‬
‫موقعا ليا وكبلىما موقعان من العصر االشوري الحديث"[‪.]2‬‬

‫الجدير بالذكر‪ ،‬أن اسم [تمنة] [‪[ ]Timnah‬תל בטש] يعَّد من األسماء التي ورد ذكرىا‬
‫في التوراة بأنيا [مدينة في جباؿ ييوذا إلى جنوبي حبروف (يشوع‪ ،])57 :15 :‬وقام رواد‬
‫نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب بالبحث عن أسماء مشابية ليذا االسم في عسير وغامد‬
‫واليمن‪ ،‬ضمن استدالالتيم القائمة عمى التشابو المفظي إلثبات أن جغرافية التوراة ومسرح‬
‫أحداثيا كان في جزيرة العرب‪.‬‬

‫أيضاً‪ ،‬اسـ [مصر (‪ ])muşur‬التي يقصد بيا (بالد مصر)‪ ،‬و(مصر ‪)muşru‬‬
‫التي طابقيا اغمب الباحثين مع (جبل مقموب) قرب بعشيقة شمال شرقي نينوى شمالي‬
‫العراق‪ ،‬ويعتقد "أولمستد" (‪ )Olmstead‬أن التسمية الحالية ل ـ (سيؿ مزوري) في منطقة‬
‫(اتروش) شمالي (بارزان) ىي تسمية محورة لمنطقة "جباؿ مصري" (‪ )musri‬التي ترد‬
‫في نصوص الحوليات اآلشورية‪ ،‬ككتابات سنحاريب وغيره‪ ،‬وىي نفس المنطقة التي ينبع‬
‫صر" (‪ )misru‬الذي يرد في نصوص من العصر اآلشوري‬ ‫ِ‬
‫منيا نير الكرومل‪ .‬و"م ْ‬
‫الحديث ويشار لو عمى أنو جبل في موضع ما من حوض الفرات األعمى شمالي سوريا‬
‫عمى الحدود مع تركيا""[‪.]3‬‬

‫[‪ .]0‬عامر عبد اهلل الجميمي‪ :‬أسماء المدن والمواقع الجغرافية المتشابية لفظاً والمختمفة موقعاً في النصوص‬
‫المسمارية‪ ،‬مرجع سابق‪( ،‬موقع الكتروني)‪.‬‬
‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪( ،‬موقع الكتروني)‪.‬‬
‫[‪ .]3‬المرجع السابق‪( ،‬موقع الكتروني)‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫وىناؾ أيضاً [نَ َخؿ مصر (‪ ])nahal musur‬ويعني بالمغة األكدية (وادي‬
‫مصر) ويشترك فيو موضعين يردان في نصوص من العصر اآلشوري الحديث‪ ،‬األول‬
‫يتطابق إلى حد ما مع (وادي العريش) عمى البحر المتوسط شماؿ شرقي جزيرة سيناء‬
‫في مصر‪ .‬والموضع الثاني "نَ َخؿ مصر" (‪ )nahal musur‬والذي توحي المعطيات‬
‫والدالئل أنو يقصد بو تحديدا [وادي غزة] عمى البحر المتوسط في فمسطيف"[‪.]1‬‬

‫كما نعمم‪ ،‬فقد َّ‬


‫شكل اسم [مصر] واحداً من أىم أسماء االستدالالت التي أقيمت عمييا‬
‫نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب‪ ،‬فقد توصل رواد النظرية واستقروا جميعاً عمى أن‬
‫المقصود ب ـ [مصر] في التوراة وأيضاً في القرآن ليس [مصر النيؿ] وانما المقصود بيا ىو اقميم‬
‫في‬ ‫آخر يحمل نفس االسم ويقع في نطاق جزيرة العرب‪ ،‬فاختار الصميبي [قرية مصرمة]‬
‫[‪]2‬‬

‫عسير‪ ،‬في حين قرر الباحث الفمسطيني "أحمد الدبش" أن مصر المقصودة في التوراة والقرآن‬
‫الذي أطمق عميو‬ ‫البد وأن تقع في جغرافية اليمن‪ ،‬واستقر أغمبيم عمى أنيا منطقة [السحوؿ]‬
‫[‪]3‬‬

‫من قبل بعض البمدانيين صفة [مصر اليمف]‪ ،‬عبلوة عمى ذلك فقد قرر الربيعي أن أحد تمك‬
‫العربية‪،‬‬ ‫األسماء المتشابية ل ـ [مصر] والمذكورة في النقوش اآلشورية يشير الى [قبيمة مضر]‬
‫[‪]4‬‬

‫من حيث أن حرف الضاد [ض] غير موجود في المغة اآلشورية والعبرية وغيرىا من لغات‬
‫المنطقة القديمة وغالباً ما ينطق فييا عمى أنو حرف الصاد [ص][‪ ،]5‬وغيرىا من التخريجات‬
‫القائمة فقط عمى [التشابيات المفظية وآليات القمب واالستبداؿ]‪.‬‬

‫األمر ال يتوقف عمى مشكمة تشابو األسماء‪ ،‬بل أن ىناك العديد من المعضبلت‬
‫بناء عمى‬
‫والمشكبلت األخرى التي تجعل من الصعوبة بمكان تحديد المواقع الجغرافية القديمة ً‬

‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪( ،‬موقع الكتروني)‪.‬‬


‫[‪ .]0‬كمال الصميبي‪ :‬التوراة جاءت من جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .99‬وقد انتقد الربيعي بشدة تعيين‬
‫الصميبي ىذا لمصر‪ ،‬في‪ :‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.998‬‬
‫[‪ .]3‬أحمد الدبش‪ :‬موسى وفرعون في جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.22‬‬
‫[‪ .]9‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.929‬‬
‫[‪ .]5‬ال خبلف بشأن ابدال حرف الضاد الى صاد في المغات القديمة غير العربية‪ ،‬عمى نحو [ارض= ارص]‪،‬‬
‫بأنيا من القواعد التي يمكن القبول بيا‪( .‬الباحث)‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫أسمائيا وما ورد عنيا في السجبلت التاريخية واألدلة األثرية بدقة‪ ،‬وخاصة أسماء المناطق‬
‫والمواقع القديمة في العراق وسوريا وفمسطين ومصر [بمداف الشرؽ األدنى القديـ]‪.‬‬

‫"من أىم المشكبلت التي تواجو الباحثين في ىذا الشأن‪ -‬وبشكل خاص في‬
‫فمسطين‪ -‬أن بعض األسماء اعتراىا‪ -‬عبر آالف السنين تغير كامل‪ -‬لذلك يصعب تتبع‬
‫[أصوؿ جذورىا]‪ .‬إضافة إلى أنو ال توجد فواصل زمنية دقيقة‪ ،‬بين ِ‬
‫الحقب التاريخية‬
‫المتعاقبة [الكنعانية‪ ،‬واآلرامية‪ ،‬والفارسية‪ ،‬واليمنستية‪ ،‬والرومانية‪ ،‬والبيزنطية]"[‪.]1‬‬

‫كما "إف عدـ معرفتنا بشكؿ مفصؿ بالظروؼ التي أحاطت بالتسميات الجغرافية‪،‬‬
‫إذ يمؼ الغموض منشأ بعض ىذه األسماء‪ ،‬وخاصة في المصادر العربية بحيث يتعذر‬
‫التعرؼ عمى أصوليا"[‪ ،]2‬يعد من أىم الصعوبات التي تواجو الباحث في ىذا الشأن‪.‬‬

‫"ومما يزيد األمر صعوبة أن بعض األسماء قد يداخميا بعض التحريف‪ ،‬فيصعب‬
‫تحديد أصل االسم‪ :‬أعربي ىو أم غير عربي؟ فقد يكون االسم ترجمة لبلسم السابق‪ ،‬وقد‬
‫يكون كنعانياً أو آراميا‪ ،‬فيعتريو بعض التغيير‪ ،‬كدخول "أل التعريف" في العربية‪ ،‬أو ىاء‬
‫التأنيث‪ ،‬فيصبح االسم عندئذ ممزوجاً‪ ،‬األمر الذي يزيد مسألة التأصيؿ غموضاً‪ .‬وليذا‬
‫يمجأ الدارسون إلى وسائل عديدة‪ ،‬لتسييل ىذا األمر‪ ،‬ومن أىم ىذه الوسائل دراسة األبنية‬
‫الصرفية‪ ،‬وضبط المواصق الصرفية‪ ،‬من سوابق ولواحق‪ ،‬في أسماء القرى‪ ،‬فمن طريقيا‬
‫قد نقطع بأن ىذا االسم كنعاني أو آرامي أو عربي"[‪.]3‬‬

‫ال تقتصر اشكالية تشابو أسماء المواقع الجغرافية عمى أسماء المدن فحسب‪ ،‬بل يكاد‬
‫ينطبق عمى كل المعالم الجغرافية‪ ،‬من جبال وتبلل وآبار وعيون ‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫[‪ .]0‬ناصر الدين أبو خضير‪ :‬أسماء قرى القدس‪ -‬دراسة لغوية داللية‪ ،‬مجمة اتحاد الجامعات العربية لآلداب‪،‬‬
‫جمعية كميات اآلداب في الجامعات أعضاء اتحاد الجامعات العربية‪ ،‬المجمد (‪ ،)03‬العدد (‪ .0202 ،)0‬ص‬
‫ص ‪ .380 -355‬ص ‪.352‬‬
‫[‪ .]0‬عبد اهلل الحمو‪ :‬تحقيقات تاريخية لغوية في األسماء الجغرافية السورية استناداً لمجغرافيين العرب‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬بيسان لمطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ .0999 ،‬ص ‪.35‬‬
‫[‪ .]3‬ناصر الدين أبو خضير‪ :‬أسماء قرى القدس‪ -‬دراسة لغوية داللية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.352‬‬

‫‪130‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫"فما يقال عن أسماء المدن القديمة‪ ،‬يصدق عمى أسماء التبلل والمواقع الحديثة‬
‫والمحمية ألسماء تمك المدن‪ ،‬والمتصفح لكتاب [المواقع االثرية في العراؽ] لمدكتور عامر‬
‫الجميمي‪ ،‬وكذلك كتاب [المواقع االثرية السورية] لمدكتور قتيبة الشيابي يجد عشرات‬
‫األسماء المتشابية‪ ،‬وكمثال عمى ذلك‪ ،‬المواقع االثرية التي تعرف بـ [تؿ الذىب] والتي‬
‫تطمق عمى العشرات إن لم نقل المئات في كل من العراق وسوريا وغيرىا من الببلد‬
‫العربية‪ .‬وكذا الحال بالنسبة إلى [تؿ الفخار] و[تؿ اسود] و[تؿ احمر] و[مشرفو‬
‫ومشيرفو] [تؿ الصواف]‪ .‬و[تؿ العمارنة] من القرن الرابع عشر ق‪ .‬م في مصر و[تؿ‬
‫العمارنة] من األلف الثالث والثاني ق‪ .‬م والذي يقع جنوب [جرابمس] في محافظة حمب‬
‫شمالي سوريا‪ ..‬وغيرىا الكثير من المواضع [التي تشترؾ في أسمائيا بما يثير الخمط‬
‫وااللتباس لدى الباحثيف]‪ .‬وألولئؾ الباحثيف [الذيف يقعوف في الخطأ ويتوىموف صحة‬
‫تعييناتيـ لممواقع الجغرافية] عذرىـ في ىذا الوىـ لعدـ معرفتيـ أنيا مف متشابو‬
‫األسماء اوالً‪ ،‬ولقمة معرفتيـ بالجغرافية التاريخية ثانياً[‪.]1‬‬

‫وىكذا‪ ،‬فإن تشابو أسماء المواقع الجغرافية غالباً ما يكون عامبلً من عوامل التوىم والخمط‬
‫عند تعيينيا داخل البمد الواحد‪ ،‬أو في فيما بين البمدان المتجاورة أو غير المتجاورة‪ ،‬وأن البحث‬
‫في ىذا المجال يتطمب قد اًر بالغاً من اإللمام بالكثير من الجوانب العممية والتاريخية والجغرافية‪،‬‬
‫إذ أن قصور معرفة الباحث وقمة خبرتو في الجغرافية التاريخية والجغرافية المغوية وغيرىا من‬
‫الحقول العممية المساعدة‪ ،‬تضاعف حتماً من احتماالت الوقوع في دائرة الوىم والخطأ‪.‬‬

‫جدير بالذكر‪ ،‬أن ظاىرة تشابو أسماء المناطق الجغرافية ليست بجديدة‪ ،‬بل ىي ظاىرة‬
‫معروفة وتعرضت لمدراسة والتمحيص منذ قرون طويمة‪ ،‬بل وكادت أن تؤسس لمجال عممي‬
‫مستقل السيما في جيود المعجميين والجغرافيين والمؤرخين والرحالة العرب في العصور‬
‫الوسطى‪ ،‬والتي يطمق عمييا بالعادة [كتب البمدانيات]‪ .‬فمكتبة التراث العربي‪ -‬االسبلمي عامرة‬
‫بيذا النوع من الكتب والمؤلفات التي تيتم بكافة الجوانب التاريخية والمغوية والجغرافية‬

‫[‪ .]0‬عامر عبد اهلل الجميمي‪ :‬أسماء المدن والمواقع الجغرافية المتشابية لفظاً والمختمفة موقعاً في النصوص‬
‫المسمارية‪ ،‬مرجع سابق‪( ،‬موقع الكتروني)‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫والطبوغرافية لممدن والقرى ومختمف األماكن والمعالم في مختمف البمدان واألمصار التي وصل‬
‫إلييا مؤلفوىا‪.‬‬

‫تشكل كتب ومعاجم البمدانيات العربية في الغالب مصنفات اتخذت المنيج الوصفي أساساً‬
‫أحيانا كتب الرحبلت الجغرافية التي يغمب عمى تناوليا المنيج‬
‫ليا‪ ،‬وكذلك المعاجم الجغرافية و ً‬
‫الوصفي‪ ،‬وقد اتبع الجغرافيون المسممون في تناوليم لجغرافية البمدان أسموب المشاىدة والزيارات‬
‫الميدانية‪ ،‬فقد زار معظميم األقاليم والبمدان التي تحدثوا عنيا‪ ،‬السيما الرعيل األول منيم من‬
‫[‪]4‬‬
‫وغيرىم‪ ،‬وقد تناولوا في‬ ‫أمثال اليعقوبي[‪ ،]1‬وابن حوقل[‪ ،]2‬والمسعودي[‪ ،]3‬واإلدريسي‬
‫مصنفاتيم الجغرافية ىذه أوصافًا لؤلقاليم والمدن والشعوب وأديانيا وعاداتيا ودراسة لممسالك‬
‫وطرق المواصبلت التي تربط بين المدن المختمفة واألبعاد بينيا وما يفصل بينيا من أنيار‬
‫وبحار وبحيرات وجبال‪ ،‬ومن نماذج ىذه المصنفات كتب المسالك والممالك البن خرداذبو[‪،]5‬‬

‫[‪ .]0‬أحمد بن أبى يعقوب بن وىب بن واضح اليعقوبي (توفي‪022 :‬ىـ‪ 879 -‬م)‪ ،‬الكاتب العباسي‪ ،‬صاحب‬
‫كتاب "البمدان"‪.‬‬
‫[‪ .]0‬أبو القاسم محمد النصيبي‪ ،‬وىو ثالث المسالكيين العرب المسممين الكبار بعد البمخى واالصطخرى‪ ،‬وىو‬
‫رحالة جغرافي اعتمد في كتابو جغرافيتو ورسم خرائطيا عمى رحبلتو ومشاىداتو وكتابات ابن خردا ذبة‬
‫واالصطخري‪ ،‬ويقال إنو ولد في بغداد أو الموصل‪ ،‬وليذا يمقب بالموصمي‪ ،‬بدأ رحبلتو الطويمة في رمضان سنة‬
‫‪330‬ىـ ‪ /‬مايو ‪993‬م بادئاً بالمغرب‪ ،‬لو كتاب "صورة األرض" مزود بالخرائط‪ .‬وتقدم خريطة ابن حوقل مثاالً‬
‫واضحاً وانما جيداً ألعمال الجغرافيين المسممين الكارتوجرافية‪ ،‬فبالرغم من أنيا خريطة توضيحية لمعالم‬
‫المعروف آنذاك إال أنيا تقدم فكرة جيدة عن توزيع القارات كما عرفيا العرب المسممون‪.‬‬
‫[‪ .]3‬المسعودي (توفي‪955 :‬م)‪ ،‬وىو من مشاىير القرن العاشر الميبلدي‪ ،‬ولد في بغداد أواخر القرن التاسع‪،‬‬
‫وكان من الرحالة المشيورين‪ ،‬تنقل في سوريا وفمسطين وقضى مدة في أنطاكية‪ ،‬واقام بقية حياتو في مصر‪،‬‬
‫أىم كتبو "مروج الذىب ومعادن الجوىر"‪ .‬عبد اهلل الحمو‪ :‬تحقيقات تاريخية لغوية في األسماء الجغرافية السورية‬
‫استناداً لمجغرافيين العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.05‬‬
‫اء كبيرة من أوروبا وآسيا الصغرى‪ ،‬ورسم الخرائط لمعالم كما شاىده‬
‫[‪ .]9‬جغرافي أندلسي‪ ،‬شممت رحبلتو أجز ً‬
‫وتصوره‪ ،‬من أشير كتبو "نزىة المشتاق في اختراق اآلفاق"‪ ،‬أشتير بوصفو الدقيق لفمسطين‪ ،‬وان لم يتأكد‬
‫لمبعض أنو زارىا‪ .‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.02‬‬
‫[‪ .]5‬جغرافي فارسي المولد عاش في بغداد ولمع فييا أيام الخميفة العباسي المعتمد‪ ،‬في القرن التاسع الميبلدي‪،‬‬
‫صاحب كتاب "المسالك والممالك" وىو من أقدم المؤلفات الجغرافية العربية‪ .‬عبد اهلل الحمو‪ :‬تحقيقات تاريخية‬
‫لغوية في األسماء الجغرافية السورية استناداً لمجغرافيين العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.03‬‬

‫‪132‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫وكتاب البمدان لميعقوبي‪ ،‬وكتاب "أحسن التقاسيم في معرفة األقاليم لممقدسي"‪ ،‬وكتاب "األقاليم"‬
‫لئلصطخري[‪ ،]1‬وأيضاً كتاب "صورة األرض" البن حوقل‪ ،‬وغيرىم[‪.]2‬‬

‫[‪]4‬‬ ‫[‪]3‬‬
‫الذي اعتد بو‬ ‫صاحب كتاب "صفة جزيرة العرب"‬ ‫باإلضافة الى أبو الحسن اليمداني‬
‫كثي اًر رواد نظرية جغرافية التوراة – وخاصة الربيعي‪ -‬في جمع استدالالتيم‪.‬‬

‫[‪]5‬‬
‫عمى رأس أىم الجيود التي بذليا الجغرافيين والرحالة‬ ‫تعتبر جيود "ياقوت الحموي"‬
‫العرب المسممين في ىذا الشأن‪ ،‬خاصة وأن لو عمبلً فريداً تميز بو عن سائر من كتبوا أسمائيم‬
‫في ىذا المجال من العرب المسممين‪ ،‬وىو كتابو المعجمي‪ -‬الجغرافي الموسوم [المشترؾ وضعا‬
‫والمفترؽ صقعاً][‪ ،]6‬والذي استعرض فيو أسماء المواقع الجغرافية التي تشترك باسم واحد‪ ،‬والتي‬
‫والتي جمعيا باألساس من معجمو الجغرافي الشيير [معجـ البمداف]‪ ،‬وىذا المعجم األخير قام‬

‫[‪ .]0‬أبو القاسم محمد بن إبراىيم الكرخي‪ ،‬وىو من أىل القرن الرابع اليجري العاشر الميبلدي‪ ،‬طاف بببلد‬
‫اإلسبلم وجمع معمومات جغرافية دقيقة وافية‪ ،‬رأس مدرسة البمدانيين المسممين‪ ،‬وقد ألف كتابو "المسالك‬
‫والممالك" فيما بين سنتي (‪300 – 308‬ىـ‪933 – 932 -‬م) وىو أول من رسم خريطة لمعالم اإلسبلمي عمى‬
‫مذىب أىل الرحمة والمشاىدة الشخصية‪ ،‬ونقل عنو الكثيرون ومنيم اإلدريسي‪ .‬حسين مؤنس (مشرفاً)‪ :‬أطمس‬
‫تاريخ اإلسبلم‪ ،‬دار الزىراء لئلعبلم العربي‪ ،‬القاىرة‪ .0982 ،‬ص ‪.02‬‬
‫[‪ .]0‬دي السي أوليري‪ :‬مسالك الثقافة اإلغريقية إلى العرب‪ ،‬ترجمة‪ :‬تمام حسان‪ ،‬المكتبة الثقافية‪ ،‬القاىرة‪،‬‬
‫‪ .0957‬ص ‪.39‬‬
‫[‪ .]3‬أبو محمد الحسن بن أحمد اليمداني (‪995 -893‬م)‪ ،‬من أعظم جغرافيي جزيرة العرب في عصره‪ ،‬ألم‬
‫بعموم الفمك والحكمة والفمسفة والكيمياء‪ ،‬أشير كتبو اإلكميل‪ ،‬وصفة جزيرة العرب‪.‬‬
‫[‪ .]9‬أبو الحسن اليمداني الشيير ب ـ لسان اليمن‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد بن عمي األكوع الحوالي‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،‬مكتبة االرشاد‪ ،‬صنعاء‪0902 ،‬ه‪.0992 -‬‬
‫[‪ .]5‬ياقوت الحموي (‪202 -575‬ىـ‪0009 -0079 /‬م)‪ ،‬جغرافي شممت رحبلتو العراق والشام وسواحل جزيرة‬
‫جزيرة العرب‪.‬‬
‫[‪ .]2‬ياقوت الحموي‪ :‬المشترك وضعا والمفترق صقعاً‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪0922 ،‬ه‪.0982 -‬‬
‫‪.0982‬‬

‫‪133‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫بنشره المستشرق األلماني "فرديناند فستنفمد (‪ )0899 -0828‬في نياية القرن التاسع عشر‬
‫باعتباره أضخم عمل جغرافي في التراث العربي االسبلمي كمو[‪.]1‬‬

‫تشير المعطيات الحديثة والمعاصرة الى أن المستشرقين قد أولوا اىتماماً كبي اًر بظاىرة‬
‫تشابو أسماء المناطق الجغرافية منذ بدايات القرن التاسع عشر وخاصة [المستشرقيف مف‬
‫المدرسة األلمانية]‪ ،‬معتمدين في ذلك عمى التراث اليام الذي خمفو العرب في ىذا المجال‪ .‬كما‬
‫أن جزًء كبي اًر من ىذا االىتمام االستشراقي كرس بالفعل في خدمة البحوث والرحبلت‬
‫االستشراقية المعنية بجغرافية التوراة‪.‬‬

‫أما عربياً وفي العصر الحديث‪ ،‬فمم تتوقف الجيود المعجمية والتوثيقية ألسماء المدن‬
‫والقرى والمعالم الجغرافية في البمدان العربية منذ بداية القرن العشرين‪ ،‬إال أن اىتمام الباحثين‬
‫العرب بيذا الجانب نشط أكثر في النصف الثاني منو‪ .‬وفي العقود الثبلثة األخيرة وعمى الصدى‬
‫الذي أحدثتو نظرية كمال الصميبي برز نوع من االىتمام األكاديمي بمثل ىذه القضايا‪ ،‬فأطمق‬
‫البعض منيم عمى ىذا المجال اسم "حقل دراسة المشترك المفظي"‪ ،‬وأيضاَ "حقل دراسة األسماء‬
‫الطبوغرافية"‪ .‬إذ تنامى في ىذه الفترة وحتى اليوم عدد البحوث والرسائل العممية التي تعنى‬
‫بقضايا واشكاليات تشابو األسماء الجغرافية من مختمف النواحي المغوية والتاريخية والطبوغرافية‬
‫والجغرافية[‪.]2‬‬

‫نبع االىتمام المتنامي مؤخ اًر بيذه المسألة من قبل الباحثين العرب من دوافع عممية‬
‫وموضوعية متعددة‪ ،‬األمر الذي عبر عنو "الجميمي" عندما أشار الى كثرة خمط وتوىم بعض‬
‫الباحثين في تعيين مواقع المدن القديمة التي ورد ذكرىا في النقوش األثرية‪ ،‬نتيجة العديد من‬
‫المشكبلت التي واجيتيم‪ ،‬وأىميا ظاىرة تشابو األسماء واشتراك بعض المواقع باسم واحد‪.‬‬

‫[‪ .]0‬ياقوت الحموي‪ :‬معجم البمدان‪ ،‬تحقيق‪ :‬فرديناند فستنفمد‪ ،‬ليبزك‪ .0827 ،‬كما قامت مطبعة الخانجي في‬
‫مصر ‪ -‬القاىرة بنشر الكتاب سنة (‪0309‬ىـ‪0922 -‬م)‪ ،‬وفي سنة ‪ 0993‬نشرت دار صادر المبنانية طبعة‬
‫أخرى جديدة لمكتاب‪.‬‬
‫[‪ .]0‬أحدث ما اطمع عميو الباحث من الدراسات األكاديمية في ىذا المجال‪ :‬عبادة جمال أبو محسن‪ :‬تكممة‬
‫صقعت"‪ -‬دراسة في المشترك من األعبلم الجغرافية‬
‫ً‬ ‫صنيع ياقوت الحموي في كتابو "المشترك وضعاً والمفترق‬
‫في ببلد الشام‪ ،‬رسالة ماجستير‪ ،‬جامعة النجاح الوطنية‪ -‬نابمس‪.0202 ،‬‬

‫‪134‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫وىذا أيضاً ما َّ‬


‫عبر عنو الدكتور "عبد اهلل الحمو"‪ ،‬بقولو‪:‬‬

‫"لقد ظيرت منذ القرن الماضي بعض األبحاث الضيقة المحدودة في ىذا المجال‪،‬‬
‫سواء بشكل فصول في حوليات أوروبية تناولت بالذكر األسماء في مناطق متفرقة استناداً‬
‫لنصوص توراتية ولرحبلت قام بيا بعض المستشرقين‪ ،‬أو بشكل كتيبات مستقمة تناولت‬
‫منطقة محدودة‪ ،‬مثل الدراسة التي وضعيا األستاذ أنيس فريحة ألسماء األماكن المبنانية‪،‬‬
‫والدراسة المشابية التي وضعيا من بعده المستشرق األلماني "شتيفان فيمد"‪ .‬وقد بقت ىذه‬
‫األبحاث عموماً مفتقرة الى العمق التاريخي والجغرافي والى التحقيق المغوي الشامل"[‪.]1‬‬

‫كما أشار الحمو الى الضجة التي أثارىا كتاب الصميبي "التوراة جاءت من جزيرة‬
‫العرب"‪ ،‬مؤكداً عمى أن دراستو لم تأت استجابة ليا‪ ،‬وانما لمعالجة األسماء الطبوغرافية لغوياً‪،‬‬
‫بغض النظر عن إن كان منيا ما ورد في التوراة أو لم يذكر[‪.]2‬‬

‫ىكذا إذن‪ ،‬فإن تشابو أسماء المواقع الجغرافية ال يمكن أن يعَّد دليبلً نظ اًر لصعوبة تحديد‬
‫الموقع الصحيح من بينيا‪ ،‬فضبلً عن أن قصور امكانيات وخبرات ومعارف الباحثين قد‬
‫تضاعف من احتماالت التوىم والخمط في تعيين المواقع الجغرافية‪ .‬ومن ثم فإن ظاىرة األسماء‬
‫المتشابية لممواقع الجغرافية تعد اشكالية أكثر ما يمكن أن تعامل عمى إنيا دليل تاريخي أو‬
‫جغرافي‪ ،‬إذ يمكن أن يفضي البحث عن موقع ما الى عدة احتماالت لمواضع تحمل أو حممت‬
‫في مرحمة ما نفس اسم ىذه الموقع‪ ،‬األمر الذي يصعب معو القطع بأي منيا عساه يكون‬
‫الموقع الصحيح الذي نبحث عنو‪ ،‬وىذا ما نمتمسو بوضوح جمي في مشكمة تعدد المسارح‬
‫الجغرافية التي عينيا رواد النظرية‪ ،‬عمى أنيا ىي مسرح أحداث التوراة‪.‬‬

‫إن التعيينات الجغرافية التي قدميا رواد النظرية لمسرح أحداث في جزيرة العرب‪ ،‬تقدم لنا‬
‫اإلثبات العممي عمى صدق وجية النظر العممية والواقعية القائمة بأن تشابو األسماء الجغرافية ال‬
‫يمكن أن يكون دليبلً‪ .‬فتعدد واختبلف المناطق التي عينيا كل منيم جاء نتيجة لمعمميات‬

‫[‪ .]0‬عبد اهلل الحمو‪ :‬تحقيقات تاريخية لغوية في األسماء الجغرافية السورية استناداً لمجغرافيين العرب‪ ،‬مرجع‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.8‬‬

‫‪135‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫والتأويبلت التعسفية التي قام بيا كل منيم في سبيل البحث عن األسماء المتشابية‪ ،‬والتي تتعدد‬
‫بدورىا ىي األخرى كما نستدل عمى ذلك من تعدد الخيارات التي طرحوىا في كثير من‬
‫الحاالت‪ ،‬األمر الذي غمب عميو طابع التخرص والظن والتوىم‪ ،‬أكثر من الطابع العممي‬
‫والمنيجي‪.‬‬

‫نخمص بشكل أولي الى نتيجة مفادىا‪ :‬أن الركون الى مسألة تشابو األسماء ال يفضي بنا‬
‫قطعاً الى نتائج حاسمة‪ ،‬ولكن إذا ما اعتبرنا أن نظرية جغرافية التوراة برمتيا معدة لغرض ما‬
‫يتجاوز حدود ما ىو ظاىر في نسق الجدل المثار دوماً حول صحة ومطابقة التعيينات االسمية‬
‫التي وضعيا كل منيم ليذه المنطقة التوراتية أو تمك ىنا أو ىناك في عسير أو في اليمن‪ ،‬فيذا‬
‫يعني أننا نقف بالفعل أمام ما ال يمكن اعتبارىا استدالالت جغرافية ولغوية جادة ومقنعة في‬
‫تعيين موطن ممتبس وغامض لمقصة التوراتية‪ ،‬ومع ذلك ال يمكن انكار أن تشابو أسماء‬
‫المناطق الجغرافية يمكن أن يكون قرينة‪ ،‬ولكنو ال يصعد أبداً الى درجة الدليل القطعي‪ ،‬أو الى‬
‫مرتبة الدليل األثري المادي‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫)‪(2‬‬

‫ماذا عه جغرافيت انتىراة انكىرديت يف انيمه؟‬

‫يبقى جانب ميم ىنا‪ ،‬وىو أن التشابو المحدود بين اسمين أو ثبلثة أسماء يظل أم اًر واردًا‬
‫وشائعاً‪ ،‬وىذا قد ال يثير مشكمة لدى البعض تحول دون إقرارىم بأن مثل ىذه الحاالت ال يمكن‬
‫أن يكون التشابو فييا دليبلً حقيقياً‪.‬‬

‫من المؤكد أن االعتراض واالحتجاج الذي سوف يطرح‪ ،‬يتمثل في كون رواد نظرية‬
‫جغرافية التوراة في جزيرة العرب لم يقدموا اسمين أو ثبلثة أو أربعة أو عشرة‪ ،‬بل يقولون أنيم‬
‫وجدوا تشابياً بين كثير من األسماء التوراتية وأسماء المناطق في عسير واليمن‪ -‬إن لم يقولوا‬
‫بأن التشابو كمي تماماً‪ .‬ومن ثم فإن مثل ىذا التشابو التراكمي ال يمكن أن يكون صدفة أو عبثاً‪،‬‬
‫كما أن تك ارره يكاد يكون مستحيبلً‪ ،‬والبد أن ي َّعد دليبلً بالفعل‪.‬‬

‫لنتوقف عند ىذا االحتجاج قميبلً‪..‬‬

‫إن قول رواد النظرية بأن ىناك تشابياً وجدوه بين كؿ أو معظـ األسماء الجغرافية التوراتية‬
‫وبين أسماء تمك المناطق التي عينوىا في جزيرة العرب‪ ،‬ليس قوالً دقيقاً وربما ليس صادقاً في‬
‫أغمب األحواؿ‪ ،‬إذ يمكن ألي كان أن ينظر في قوائم األسماء التوراتية التي بحثوىا في مقابل‬
‫أسماء المناطق التي قابموىا بيا‪ ،‬وأن يتأكد بما ال يدع مجاالً لمشك بأن التشابو الذي يدعون‬
‫وجوده غير قائم بصورة كمية إطبلقاً‪ ،‬واال لما لجئوا أساساً الى شعوذات االشتقاق والقمب‬
‫واالبدال والترجمة بالمعنى وغيرىا‪ ،‬وىذه حجتيم تنقمب عمييم أوالً[‪.]1‬‬

‫[‪ .]0‬يمكن لمقارئ مراجعة قائمة مقاببلت الصميبي عمى سبيل المثال‪ ،‬والتي عرضناىا في الفصل الثالث من‬
‫ىذه الدراسة‪ ،‬أو العودة الى مؤلفات رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب‪ ،‬ليتحقق من أن قوائميم‬
‫لؤلسماء التوراتية ومقاببلتيا التي حددوىا ليا‪ ،‬ال تنطوي أبداً عمى ذلك التشابو الذي يمكن تصوره حسب ما‬
‫يقولونو ويرددونو دائماً‪( .‬الباحث)‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫أما قوليم باستحالة أن يتكرر مثل ىذا التراكم بين األسماء المتشابية‪ ،‬فنقول أنو وفضبلً‬
‫عن حجتنا السابقة والتي تمغي أساساً وجود ىذا التشابو فيما قدموه‪ ،‬فإن اختبلفيم في تعيين‬
‫مسرح جغرافية التوراة في جزيرة العرب‪ ،‬قد أفضى الى تعيين سبعة أو ثمانية مسارح تقع في‬
‫نطاق جغرافي واحد عمى أساس التشابيات المفظية لؤلسماء‪ ،‬وكل منيا يتضمن تعيينات دقيقة‬
‫مختمفة ومتباينة غالباً لكل اسم من األسماء التوراتية التي قابموىا‪ ،‬ىذا مع األخذ باالعتبار أن‬
‫حاالت كثيرة من تعييناتيم وقفت عمى احتمالين أو ثبلثة أمام االسم الواحد من التوراة‪ ،‬وىذا‬
‫أيضاً يرد الحجة عمييم‪ ،‬ويسقط دعوى التراكم‪.‬‬

‫بيد أن البعض قد ال يجد في الحجج السابقة ما يقنعو‪ ،‬وىذا أمر وارد ولن نتجاىمو‪.‬‬
‫فحسناً‪ ،‬ماذا لو أننا اكتشفنا عف طريؽ البحث الجاد والمقصود‪ -‬وليس عف طريؽ الصدفة‪-‬‬
‫أف عدداً كبي ارً مف أسماء األماكف في كردستاف‪ -‬مثالً‪ -‬تتشابو لفظياً وطبوغرافياً وعمى نحو‬
‫رىيب مع أسماء أماكف أخرى في اليمف؟! ما الذي يمكف أف يعنيو مثؿ ىذا االكتشاؼ؟!‬
‫وكيؼ سنفسره طالما وأنو حدث خارج دائرة القصة التوراتية؟!‬

‫ألم يتوسل إلينا الصميبي بصيغة ما في مقدمة كتابو بأن نتقبل ما كشفتو لو الصدفة من‬
‫تشابو عجيب ومتراكم بين أسماء األماكن التوراتية وأسماء األماكن في عسير غرب جزيرة‬
‫بناء عميو؟![‪ ..]1‬بمى‪ -‬لقد فعل‪.‬‬
‫العرب‪ ،‬وىو التشابو الذي أقام نظريتو ً‬

‫لكننا ىنا ال نتوسل القارئ أن يقبل نتائج تمخضت عنيا عمميات معقدة من التقميب‬
‫والتبديل والتفسير والتأويل والتعسف المضني الذي أجري عمى أسماء المناطق في عسير واليمن‬
‫إلرغاميا عمى أن تكون مشابية ألسماء األماكن التوراتية‪ ،‬بل نطمب منو وبكل ثقة واقتدار أن‬
‫ينظر ويقرر ما شاء بشأن النتائج التي توصمت إلييا دراسة فاحصة ومقارنة قام بيا منذ أكثر‬
‫من عشر سنوات باحث عربي من دولة الكويت‪ ،‬كشف فييا عن تشابو تراكمي رىيب بالفعل‪،‬‬

‫[‪ .]0‬كمال الصميبي‪ :‬التوراة جاءت من جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.08‬‬

‫‪138‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫بين أسماء المناطق اليمنية والمناطق الكردستانية‪ ،‬وىو البحث الذي نشرت بعض أجزاء منو‬
‫"صحيفة القبس الكويتية في نوفمبر من العام ‪.]1[0222‬‬

‫ما ىو مميز بالفعل وجدير بأن يثير دىشتنا في دراسة "صالح السعيدي" البحثية‬
‫والبسيطة‪ ،‬أن األمر فييا ال يقتصر عمى مجرد التشابو المفظي بين األسماء‪ ،‬كما نجده عند رواد‬
‫نظرية جغرافية التوراة‪ ،‬بل أنو قائم بشكل مدىش لمغاية عمى التطابق [الطبوغرافي][‪.]2‬‬

‫"فاسـ الجبؿ في اليمف يقابمو اسـ جبؿ في كردستاف مشابو لو تماماً‪ ،‬واسـ‬
‫الوادي في اليمف ىو ذاتو يتكرر في كردستاف‪ ،‬كما ينطبؽ ذلؾ عمى اليضاب والسيوؿ‬
‫والمواقع"[‪.]3‬‬

‫ىذه الدراسة البسيطة تقدم لنا قائمة طويمة من األسماء واألسماء المشابية ليا تماماً‬
‫لمواقع جغرافية في كل من اليمن وكردستان‪ ،‬بدون أن يضطر الباحث فييا الى اجراء عمميات‬
‫قمب لمواقع الحروف أو تبديل ليا أو التبلعب بتركيب األسماء وجذورىا‪ .‬كما أنيا قائمة تكشف‬
‫عن تشابيات طبوغرافية مثالية‪ ،‬تتقابل فييا المدينة بالمدينة والقرية بالبمدة ويتقابل الوادي بالوادي‬
‫أو النير‪ ،‬واليضبة باليضبة والجبل بالجبل‪ ،‬فضبلً عن أن التكرار نفسو لبعض األسماء قد يقع‬
‫مرتين فنجده يتكرر في إقميم كردستان العراق مرة‪ ،‬ومرة أخرى في إقميم كردستان تركيا أو إيران‪.‬‬

‫لنمعن النظر ولنندىش قدر ما نشاء من ذلك التشابو بين األسماء ومعالم سطح بعض‬
‫األماكن الجغرافية في اليمن وكردستان‪ ،‬كما في الجدول أدناه‪:‬‬

‫[‪ .]0‬صالح السعيدي‪ :‬ىل األكراد يمنيون قدماء؟‪ ،‬صحيفة القبس الكويتية العدد (‪ 7 ،)00228‬نوفمبر ‪،0222‬‬
‫متاح عمى الرابط االلكتروني‪:‬‬
‫‪https://alqabas.com/288765/- 20 Nov 2017.‬‬
‫[‪ .]0‬الطبوغرافيا‪ ،‬مصطمح جغرافي يشير الى وصف سطح األرض من كافة النواحي الطبيعية‪ ،‬والبشرية أيضاً‪،‬‬
‫فيصف التضاريس ومبلمح المكان الجغرافي الطبيعي من حيث سطحو ومكوناتو وموقعو وعبلقتو باألماكن‬
‫المحيطة بو‪( .‬الباحث)‬
‫[‪ .]3‬صالح السعيدي‪ :‬ىل األكراد يمنيون قدماء؟‪ ،‬المرجع السابق‪( ،‬موقع الكتروني)‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫جدوؿ (‪ :)1‬األماكف الجغرافية المتشابية أسمائيا وطوبوغرافيتيا في اليمف وكردستاف‬

‫كردستان‬ ‫انيمه‬
‫اسـ‬
‫اسـ المكاف وبيانو الطبوغرافي‬ ‫البياف الطبوغرافي لممكاف‬
‫المكاف‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬أمساء املدن وانقري وانبهداث واألقانيم‬
‫مدينة كبيرة تقع جنوب اليمن بالقرب من‬
‫ابيف‪ :‬مدينة تقع شرق كردستان التركية‬ ‫أبيف‬
‫عدن‬
‫مدو ار (‪ :)mdora‬بمدة تقع شرق كردستان التركية‬ ‫موقع في أبين جنوب اليمن‬ ‫مدورة‬
‫أرضيف‪ :‬والنطق الكردي أردين نير يمر في مدينة‬ ‫أرضين‪ :‬واد تقع عميو قرى في حضر‬
‫أرضيف‬
‫ماردين بكردستان التركية‪.‬‬ ‫موت‬
‫بمدة تطل عمى وادي دوعن في‬
‫شزف‪ :‬بمدة في كردستان التركية‪.‬‬ ‫شزف‬
‫حضرموت‬
‫سدبة‪ :‬قرية في كردستان التركية‪.‬‬ ‫قرية في حضرموت‬ ‫سدبو‬

‫تريـ‪ :‬مدينة في االجزاء الشرقية لكردستان التركية‪.‬‬ ‫من كبريات مدن حضرموت‬ ‫تريـ‬

‫تريس‪ :‬بمدة تقع عمى الحدود العراقية التركية‪.‬‬ ‫مدينة في حضرموت‬ ‫تريس‬

‫دموف‪ :‬موضع شرق كردستان التركية‪.‬‬ ‫موضع في حضر موت‬ ‫دموف‬


‫خودون‪ :‬موضع في شرق كردستان التركية بالقرب من‬
‫موقع في حضرموت بالقرب من دمون‪.‬‬ ‫خودوف‬
‫دمون‪.‬‬
‫موضع في حضرموت بالقرب من دمون ىدوف‪ :‬موضع شرق كردستان التركية بالقرب من دمون‬
‫ىدوف‬
‫وخودون‪.‬‬ ‫وخودون‬
‫بمدة قديمة تقع جنوب اليمن ‪ 05‬كم‬
‫جيشاف‪ -‬جيجاف‪ :‬موقع بكردستان التركية‪.‬‬ ‫جيشاف‬
‫شمال مدينة قعطبة‬
‫حمرة‪ :‬بمدة في كردستان التركية (عمى الحدود السورية)‪.‬‬ ‫قرية في يافع جنوب اليمن‬ ‫حمرة‬
‫جربتيف‪ :‬قرية في كردستان التركية (عمى الحدود‬
‫قرية في يافع جنوب اليمن‬ ‫جربتيف‬
‫السورية)‪.‬‬
‫زوؼ‪ :‬قرية في كردستان التركية (عمى الحدود السورية)‬ ‫قرية في يافع جنوب اليمن‬ ‫زوؼ‬

‫‪140‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫ذكر اليمداني أنيا قرية لبني صنابح في‬


‫أدما‪ :‬قرية في كردستان التركية‬ ‫أدمة‬
‫ببلد السوارية جنوب اليمن‬
‫أفار‪ :‬قرية كبيرة في كردستان التركية‪.‬‬ ‫قرية في ببلد السوارية جنوب اليمن‪.‬‬ ‫أفار‬

‫مدس‪ :‬مدينة في كردستان التركية‬ ‫قرية في ببلد السوارية جنوب اليمن‪.‬‬ ‫مدس‬

‫بينوف‪ :‬موقع موضع في كردستان التركية‬ ‫موقع يقع شمال شرق مدينة ذمار‪.‬‬ ‫بينوف‬

‫عكواف‪ :‬موضع في كردستان واسم عشيرة تركية‬ ‫موضع بمد شمال شرق صعده‬ ‫عكواف‬

‫بوصاف‪ :‬موضع في كردستان التركية‬ ‫موقع في نواحي صعدة‬ ‫بوصاف‬

‫نسريف‪ :‬موضع في كردستان التركية‪.‬‬ ‫موضع في نواحي صعدة‬ ‫نسريف‬


‫ارض تقع شمال شرق ذمار ورد ذكرىا‬
‫ىكر‪ :‬اقميم كبير في كردستان التركية‬ ‫ىكر‬
‫في شعر امرئ القيس‬
‫سمكر‪ :‬منطقة بكردستان التركية وسمكر عشيرة كردية‬
‫قرية كبيرة جنوب اقميم الخير اليمني‬ ‫سمكر‬
‫تستوطن سوريا‬
‫بمدة تطل عمى جبل الشرق بإقميم تيامة‬
‫جبجب‪ :‬بمدة في كردستان التركية‬ ‫جبجب‬
‫غرب اليمن‬
‫كوماف‪ :‬موضع في كردستان العراق‬ ‫مقاطعة في ارص عنس (وسط اليمن)‬ ‫كوماف‬
‫موضع باليمن في ارض عنس تشرف‬
‫سويؽ‪ :‬موضع في كردستان العراق تشرف عميو جبال‬ ‫سويؽ‬
‫عميو جبال‬
‫الخايس‪ :‬بمدة في كردستان العراق‬ ‫قرية في شمال رواع محافظة ذمار‬ ‫الخائس‬
‫ماور‪ :‬مدينة في كردستان العراق‬ ‫قرية في رواع محافظة ذمار‬ ‫ماور‬
‫رحابة‪ :‬موضع في كردستان العراق‬ ‫موضع في محافظة مأرب‬ ‫رحابة‬
‫ساماف‪ :‬سيل ونير في الجزء الكردي العراقي من جبال‬ ‫سيل في ببلد ىمدان (محافظة الجوف)‬
‫ساماف‬
‫زاجروس وسامان عشيرة كردية متنقمة‪.‬‬ ‫وسط اليمن‪.‬‬
‫موضع في بمد ىمدان (الجوف) وسط‬
‫يعموـ‪ /‬ياموـ‪ :‬منطقة في كردستان العراق‬ ‫يعموـ‬
‫اليمن‪.‬‬
‫ورور‪ :‬منطقة في كردستان العراق‬ ‫موضع في ىمدان (الجوف)‪.‬‬ ‫ورور‬
‫بقالف‪ :‬قرية في كردستان العراق واسم قرية بأطراف‬
‫موضع في مخبلف بعدان (الجوف)‪.‬‬ ‫بقالف‬
‫الجزيرة السورية‬

‫‪141‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫اعشار‪ :‬قرية في كردستان العراق‪ ،‬واسم قرية بأطراف‬


‫موضع في مخبلف بعدان (الجوف)‪.‬‬ ‫اعشار‬
‫الجزيرة السورية‪.‬‬
‫منطقة في محافظة عمران شمال صنعاء جوب‪ :‬موضع عمى الحدود العراقية التركية‬ ‫جوب‬
‫خمقة (كمقا) (‪ :)Xelka‬منطقة في كردستان العراق‬
‫موضع في حضرموت‬ ‫خمقو‬
‫واسم عشيرة كردية‬
‫مسيب‪ :‬مدينة في كردستان العراق توجد فييا اديرة‬
‫موضع في حضرموت‬ ‫مسيب‬
‫تاريخية‬
‫صمحمح‪ :‬سالال‪ :‬مدينة في كردستان العراق‬ ‫قرية في اقميم السر اليمني‬ ‫صمحمح‬
‫العارة (‪ :)ARA‬منطقة في كردستان العراقية‬ ‫قرية في اقميم الجند‬ ‫العارة‬
‫موضع في ببلد ىمدان (محافظة‬
‫مرىبة (‪ :)Merhabat‬مدينة في كردستان االيرانية‬ ‫مرىبة‬
‫الجوف)‬
‫طبوة‪ :‬مدينة في كردستان االيرانية‬ ‫موضع في ىمدان (الجوف)‬ ‫طبوة‬
‫غيماف (‪ :)Geman‬مدينة اثرية في كردستان االيرانية‬ ‫اقميم شيير في ىمدان بالجوف‬ ‫غيماف‬
‫مدار‪ :‬موضع في كردستان االيرانية‬ ‫موضع في ببلد ىمدان (الجوف)‬ ‫مدر‬
‫جيراف‪ :‬مدينة في كردستان االيرانية‬ ‫موضع في مأرب باليمن‬ ‫جيراف‬
‫ىراف‪ :‬مدينة في كردستان االيرانية‬ ‫موضع في مأرب باليمن‪.‬‬ ‫ىراف‬
‫جاش‪ :‬موضع في كردستان االيرانية‬ ‫موضع في مأرب باليمن‪.‬‬ ‫جاش‬
‫سمفا (‪ :)selva‬مدينة بكردستان االيرانية‬ ‫موضع قرب ابين‬ ‫سمفة‬
‫مسور‪ :‬موضع في كردستان االيرانية‬ ‫موقع في خوالن العالية‬ ‫مسور‬
‫العارة (‪ :)ARA‬منطقة في كردستان االيرانية‬ ‫قرية في اقميم الجند‬ ‫العارة‬
‫ً‬
‫ثاويا‪ :‬األوديت واألوهار‬
‫تنيف‪ :‬واد (نير) في كردستان العراق‬ ‫واد في ذمار وسط اليمن‬ ‫تنيف‬
‫سعواف‪/‬سيواف‪ :‬واد بكردستان العراق‬ ‫واد خصب شرق مدينة شعوب‬ ‫سعواف‬
‫ضمع‪/‬داأل‪ :‬واد بكردستان العراق‬ ‫واد يقع الى القرب من صنعاء‬ ‫ضمع‬
‫سامؾ‪ :‬واد بكردستان العراق‬ ‫واد وبمدة في سنحان شرق صنعاء‬ ‫سامؾ‬
‫شرجاف‪ :‬واد بكردستان العراق‪.‬‬ ‫واد في اليمن ذكره المؤرخ اليمداني‬ ‫شرجاف‬
‫نعوه‪ :‬النطق الكردي (ناوه) واد بكردستان العراق‬ ‫واد في يافع جنوب اليمن‬ ‫نعوه‬
‫الرباحة‪ :‬واد يقع عمى الشرق من مدينة الموصل‪.‬‬ ‫واد يقع الى الشرق من مدينة البيضاء‪.‬‬ ‫الرباحة‬

‫‪142‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫ذيبيف‪ :‬منطقة اودية بكردستان العراق‬ ‫واد في ببلد ىمدان (محافظة الجوف)‬ ‫ذي بيف‬
‫خيواف‪ :‬نير بكردستان العراق‬ ‫واد بببلد ىمدان (الجوف)‬ ‫خيواف‬
‫ىرات‪ :‬واد ومدينة بكردستان العراق‪.‬‬ ‫مضيق بببلد ىمدان (الجوف)‬ ‫ىرات‬
‫صوالف (سوالف)‪ :‬منطقة اودية بكردستان العراق‪.‬‬ ‫واد في ببلد ىمدان (الجوف)‬ ‫صوالف‬
‫سرار‪ :‬واد بكردستان العراق‬ ‫واد بصنعاء القديمة‬ ‫سرار‬
‫واد في نجران عمى الحدود السعودية‬
‫ينسـ‪ :‬واد وفرع من فروع الفرات بكردستان العراق‬ ‫يسنـ‬
‫اليمنية‬
‫جيجاف‪ :‬اسم نير كبير في كردستان عمى الحدود‬
‫واد في يافع جنوب اليمن‬ ‫جيجاف‬
‫العراقي التركية‬
‫شوكاف‪ :‬من روافد دجمة في كردستان التركية ويطمق‬
‫عمى جزء من الجبل المطل عميو وتوجد مدينة بيذا‬ ‫واد كبير في سرو حمير (ابين)‬ ‫شوكاف‬
‫االسم‬
‫نخالف‪ :‬واد في شرق كردستان التركية وقرية في‬
‫واد في محافظة البيضاء وسط اليمن‬ ‫نخالف‬
‫كردستان العراق‪.‬‬
‫بخاؿ‪ :‬واد من الفروع الصغيرة الممحقة بنير دجمة‬
‫واد في منطقة شعيب باين جنوب اليمن‬ ‫بخاؿ‬
‫ومنبعو بكردستان التركية‪.‬‬
‫دوعف‪ :‬دوأف (‪ :)Dawan‬واد يقع بكردستان التركية‬ ‫الوادي الرئيسي في حضرموت وعميو‬
‫دوعف‬
‫وأحد تفرعات دجمة يمر باألراضي السورية‬ ‫تقع الكثير من القرى والبمدات‪.‬‬
‫مذاب‪ :‬واد بكردستان التركية‬ ‫واد في صعدة شمال اليمن‪.‬‬ ‫مذاب‬
‫شراد‪ :‬واد بكردستان التركية‬ ‫واد وقرية غرب ذمار‬ ‫شراد‬
‫واد يقع في شرق مدينة المكبل باقميم‬
‫حمـ (اوماـ)‪ :‬واد يقع شرق كردستان التركية‬ ‫حمـ‬
‫حضرموت‬
‫سردد‪ :‬واد بكردستان التركية‬ ‫واد يقع في تيامة‬ ‫سردد‬
‫واد مشيور بالعسل الطيب يقع في‬
‫جرداف‪ :‬واد بكردستان االيرانية يشتير بالعسل الطيب‪،‬‬ ‫حضرموت لو شيرة يتناقميا العامة وقد‬
‫جرداف‬
‫وىناك ماركة عسل ايرانية شييرة باسم "عسل جردان"‬ ‫ورد ذكره بالمساند األوسانية 'يمينية‬
‫قديمة'‪.‬‬
‫يوحج‪ :‬واد بكردستان االيرانية‬ ‫واد في ذمار‬ ‫يوحج‬

‫‪143‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫سردد‪ :‬واد بكردستان االيرانية‬ ‫واد في تيامة غرب اليمن‪.‬‬ ‫سردد‬


‫زيياـ‪ :‬واد بكردستان االيرانية‬ ‫واد في تيامة غرب اليمن‪.‬‬ ‫سياـ‬
‫أخمو (‪ :)EXLA‬واد بكردستان االيرانية فيو الكثير من‬ ‫واد في منطقة يحوي الكثير من الينابيع‬
‫أخمو‬
‫الينابيع‬ ‫يقع في يافع السفمى جنوب اليمن‪.‬‬
‫الخارد (‪ :)Xared‬جنوب كردستان االيرانية‬ ‫واد كبير بالجوف‪.‬‬ ‫الخارد‬
‫ً‬
‫ثانثا‪ :‬اجلبال واهلضاب واملرتفعاث‬
‫حبانيف (‪ :)Ebanin‬مدينة جبمية في جبال زاجروس‬
‫جبل يقع في نواحي سد مأرب القديم‬ ‫حبانيف‬
‫بكردستان التركية تقع خمف سد اثري‬
‫كور‪ :‬جبل من سمسمة جبل الجودي بكردستان التركية‬ ‫سمسمة جبال بإقميم الجند‬ ‫الكور‬
‫حرير‪ :‬ىرير جبل بكردستان التركية‬ ‫جبل يقع في ابين جنوب اليمن‬ ‫حرير‬
‫توماف‪ :‬جبل بكردستان التركية‬ ‫جبل من اعمال ذي السفال باليمن‬ ‫توماف‬
‫الياف‪ :‬جبل بكردستان التركية‬ ‫جبل في منطقة أنس‬ ‫الياف‬
‫كيالف‪ :‬احد قمم جبال زاجروس بكردستان التركية‬ ‫جبل شرق صعدة نسبة لقبيمة كيبلن‬ ‫كيالف‬
‫جبل يقع بمحافظة المحويت يبعد عن‬
‫خفاش‪ :‬مرتفعات جبمية بكردستان التركية‪.‬‬ ‫خفاش‬
‫صنعاء ‪ 090‬كم‬
‫ياـ‪ :‬جبل بكردستان التركية واسم عشيرة كردية‬ ‫جبل نسبة لقبيمة يام اليمدانية‬ ‫ياـ‬
‫ىميؿ‪ :‬شعاب جبمية بكردستان التركية‬ ‫مرتفعات جبمية في ببلد السوارية‬ ‫ىميؿ‬
‫كداد‪ :‬جبل بكردستان العراق وأحد العشائر المترحمة‬ ‫جبل في ارض عنس وسط اليمن‬ ‫كداد‬
‫ورور‪ :‬مرتفعات بكردستان العراق‬ ‫جبل اسفل وادي شواية شرق صنعاء‬ ‫ورور‬
‫كنف‪ :‬جبل بكردستان العراقية‬ ‫جبل في سنحان شرق صنعاء‬ ‫كنف‬
‫مرتفع يقع شرق مدينة المكبل عمى‬
‫الكار‪ :‬مرتفعات تقع في كردستان االيرانية‬ ‫ساحل بحر العرب وىي اعمى قمة في‬ ‫الكار‬
‫حضرموت‬
‫خوالف (‪ :)Xouliolan‬سمسمة ىضاب بكردستان‬
‫ىضبة كبيرة وسط اليمن‬ ‫خوالف‬
‫االيرانية‬
‫المصدر‪ :‬صالح السعيدي‪ :‬ىؿ األكراد يمنيوف قدماء؟‪ ،‬المرجع السابؽ‪( ،‬موقع الكتروني)‪.‬‬
‫"الجدوؿ مف تصميـ الباحث"‬

‫‪144‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫جدير بالذكر أن الباحث الكويتي "صالح السعيدي" قدم في بحثو أيضاً قائمة طويمة نسبياً‬
‫ضمت العديد من أسماء القبائل والسبلالت القبمية اليمنية التي وجد ليا مماثبلت لفظية ‪ -‬وربما‬
‫فعمية‪ -‬في كردستان‪ ،‬لم نشأ التعرض ليا نظ اًر لتحقق الكفاية فيما أوردناه‪.‬‬

‫إن ىذا [التشابو في األسماء والسمات الطبوغرافية] بين [‪ ]11‬منطقة في اليمن ومثميا‬
‫في كردستان‪ ،‬ال نجده البتة بيذا الشكل الدقيق والمطابق في قوائم المقاببلت المفظية التي سردىا‬
‫لنا رواد نظرية جغرافية التوراة‪ ،‬فجل ما قدموه لنا ال يعدو أكثر من مقاببلت تعسفية في أغمب‬
‫األحوال‪ ،‬أخضعت فييا أسماء األماكن الجغرافية بشكل قسري لعمميات القمب واإلبدال وغيرىا‬
‫لكي تكون مطابقة لؤلسماء التوراتية‪ ،‬وعمى الرغم من أنيم فعموا ذلك فإنيم لم يأخذوا بعين‬
‫االعتبار في كثير من األحوال مطابقة الخصائص الطبوغرافية لؤلماكن‪ ،‬حتى وأن فعموا ذلك في‬
‫بعض األحوال فإن تعسفيم جعل نتائجيم طمسمية وتفتقر الى أبسط درجات التناغم واالنسجام‪،‬‬
‫خاصة إذا ما درسناىا عمى الخرائط‪.‬‬

‫في حين أن األسماء التي وجدناىا في دراسة "السعيدي" حممت تشابياً لفظياً سميماً ال‬
‫يحتاج الى تعسف وال ابدال أو قمب أو شعوذة لغوية‪ ،‬واتمنى فعبلً أن يتأمل القارئ العزيز الفرق‬
‫الكبير بينيا وبين الشعوذات المغوية التي قدميا لنا أصحاب النيافة الحاخامات العرب‪.‬‬

‫عمى كل حال‪ ،‬فقد قدمنا دليبلً تطبيقياً عمى أن تشابو أسماء المناطق يمكن أن يتخذ‬
‫طابعاً تراكمياً بين بمدين أو اقميمين جغرافيين غير متجاورين إطبلقاً‪ ،‬وأن األمر ليس مستحيبلً‪.‬‬
‫فيذا النموذج التطبيقي الحي يسقط بالفعؿ مقولة أف تشابو األسماء الجغرافية يمكف أف يكوف‬
‫دليالً لتصديؽ نظرية جاءت لتقمب كؿ أفكارنا ومعارفنا التاريخية رأساً عمى عقب‪.‬‬

‫واآلف‪ ،‬ىؿ يمكف أف نفسر تشابو أسماء المواقع الجغرافية بيف اليمف وكردستاف‪ ،‬عمى‬
‫أنو دليؿ قاطع عمى أف أحداث التوراة الكوردية لـ تجري في كردستاف بؿ جرت في اليمف؟!‬

‫لؤلسف‪ ،‬كردستان وشعب كردستان ال عبلقة ليما بأحداث التوراة واال لكان لؤلمر طابعاً‬
‫سينمائياً ودرامياً في أعمال رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫لكن‪ ،‬لماذا نذىب بعيداً الى كردستان ولدينا نموذج آخر في لبنان؟!‪ -‬فقد قدم الباحث‬
‫المبناني "فرج اهلل صالح ديب"‪ -‬وىو أحد رواد ىذه النظرية بالفعل‪ -‬نموذجاً معجمياً كامبلً أكد‬
‫فيو عمى أن أسماء الكثير من المواقع والمناطق والقرى والمعالم الجغرافية في بمده [لبناف] تتشابو‬
‫مع مثيبلت ليا في اليمن‪ .‬أما ما لم يقع فيو التشابو بشكل واضح‪ ،‬فقد أثبت "ديب" أن جذوره‬
‫المغوية يمنية‪ ،‬وىذا ما دفعو الى جعل عنوان عممو ىذا‪[ :‬اليمف ىي األصؿ][‪.]1‬‬

‫تتطابق رؤية "فرج اهلل صالح ديب" ىذه مع الرؤية التي تبناىا الباحث الكويتي "صالح‬
‫السعيدي"‪ ،‬والذي انطمق في دراستو باحثاً عما إذا كان األكراد من أصول يمنية أم ال؟! فجعل‬
‫عنوان بحثو‪[ :‬ىؿ األكراد يمنيوف قدماء؟]‪ ،‬متبنياً ىذه الفرضية ومضيفاً إياىا الى جانب‬
‫الفرضيات األخرى المطروحة بشأن أصول األكراد‪ ،‬انطبلقاً من بعض االشارات التي أوردىا‬
‫بعض المؤرخين والجغرافيين العرب والمسممين في العصور الوسطى‪ ،‬كالمسعودي صاحب‬
‫"مروج الذىب" الذي أشار الى أن ىناك من نسب األكراد الى قبيمة األزد اليمنية‪ ،‬وغيرىا من‬
‫االشارات التي تجاىميا الباحثون وأىمميا المؤرخون لعدم اقتناعيم بجديتيا وصحتيا[‪.]2‬‬

‫كما تبنى رائد آخر لنظرية جغرافية التوراة في اليمن‪ ،‬وىو الباحث الفمسطيني "أحمد‬
‫الدبش" نفس ىذه الرؤية‪ ،‬التي تًعيد أصول ومنبع الشعوب واألمم القديمة التي عاشت في‬
‫المنطقة ما بين الخميج العربي والمحيط األطمسي الى اليمن‪ ،‬وذلك في كتاب كامل خصصو‬
‫لذلك[‪.]3‬‬

‫عمى سبيل االستخبلص‪ ،‬يمكن القول بأن اكتشاف تشابو األسماء الجغرافية التي أقام‬
‫عمييا الصميبي نظريتو لم يكن مصادفة عمى اإلطبلق‪ ،‬األمر نفسو الذي ينسحب عمى مصادفة‬
‫الربيعي‪ ،‬ألن الموضوع برمتو شائع في الدراسات العربية القديمة‪ ،‬وىذا ما يؤكده أيضاً اعتماد‬

‫رواد النظرية عمى العديد من األعمال المعجمية العربية – التراثية‪ ،‬كاليمداني والحموي‪ ،‬وأيضاً‬

‫[‪ .]0‬فرج اهلل صالح ديب‪ :‬اليمن ىي األصل‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬


‫[‪ .]0‬صالح السعيدي‪ :‬ىل األكراد يمنيون قدماء؟‪ ،‬المرجع السابق‪( ،‬موقع الكتروني)‪.‬‬
‫[‪ .]3‬أحمد الدبش‪ :‬اليمن الحضارة واالنسان‪ -‬بحثاً عن الجذور‪ ،‬محاكاة لمدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫‪.0203‬‬

‫‪146‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫بعض المصنفات المماثمة الحديثة والمعاصرة كالمعجم الذي أعده السعودي "حمد الجاسر"‪،‬‬
‫ومعجم القبائل والبمدان اليمنية لممقحفي وغيرىا‪ .‬فاألمر ناتج عن استقصاء مقصود منذ البداية‪،‬‬
‫وبالتالي فإن التعميل بأن االكتشاف أو المبلحظة حدثت بالصدفة يبدو مثي اًر لمشفقة من حيث ال‬
‫يمكن تصديقو باألساس‪.‬‬

‫ثم أن الصميبي والربيعي ربطا تمك الصدفة باىتمامات َّ‬


‫عب ار عنيا بطرق متباينة بـتاريخ ما‬
‫يعرف ب ـ "العرب البائدة"‪ ،‬فقاما بإدراج بني اسرائيل ضمن ىذا التوصيف الحقاً في دراساتيما‪-‬‬
‫وىذا ما فعمو أيضاً أحمد داوود‪ ،‬وفرج اهلل صالح ديب‪ -‬وىو الربط الذي جرى بشكل مخالف‬
‫تماماً لما ىو سائد ومعروف في كتب األخبار العربية القديمة وأعمال المؤرخين الحديثة‬
‫والمعاصرة‪ ،‬التي لم تشر أو تممح اطبلقاً الى كون بني اسرائيل قد اعتبروا يوماً من العرب‬
‫البائدة‪ ،‬أو أن ليم صمة بيم‪ ،‬عمماً بأن البحث التاريخي واألثري المعاصر حول العرب البائدة‬
‫يختمف تماماً من حيث نتائجو عن البحوث المتعمقة بالقصص التوراتية الكبرى التي لم يتم‬
‫التوصل الى أي دليل تاريخي أو أثري عمييا‪ .‬فقد أثبتت العديد من األدلة األثرية وجود بعض‬
‫أقوام العرب البائدة‪ ،‬كعاد وثمود وطسم وجديس والعماليق وغيرىا‪ .‬فيناك األدلة األثرية عمى‬
‫حضارة ثمود‪ ،‬كما وردت أسماء عاد وثمود في السجبلت التاريخية والجغرافية الكبلسيكية‬
‫اليونانية‪ ،‬فضبلً عن ورود أسماء ىذه األقوام في النقوش المسمارية التي عثر عمييا في مكتبة‬
‫"اببل"‪ -‬موقع حضارة اببل السورية القديمة والمعاصرة لؤلكديين والبابميين واآلشوريين‪ ،‬ولكن بني‬
‫اسرائيل لم يكونوا يوماً‪ -‬وعمى اإلطبلق‪ -‬من ضمن الشعوب التي عرفت بالعرب البائدة‪.‬‬

‫فمماذا اليوـ إذف‪ ،‬يصر رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب دوناً عف سائر‬
‫خمؽ اهلل عمى أف بني اسرائيؿ أو أسالفيـ كانوا مف العرب البائدة؟!‬

‫إن ىذا اإلصرار عمى رد أصول بني اسرائيل الى العرب البائدة‪ ،‬وعمى أن جغرافية التوراة‬
‫البد وأن تكون ىي اليمن أو أجزاء من جغرافيتيا الطبيعية‪-‬عسير وغامد‪ -‬يجعل من ىذه‬
‫النظرية وكأنيا جاءت لتقدم حموالً ومعالجات لما يوصف من وجية نظر عمماء التاريخ التوراتي‬
‫بأنيا إخفاقات في التوصؿ الى أدلة أثرية بشأف حقيقة أصوؿ بني اسرائيؿ مف جية‪ ،‬وأصوؿ‬
‫الديانة الييودية مف جية أخرى‪ ،‬أو أنيا جاءت بالفعل لتسد بشكل أو بآخر ثغرات معينة أو ما‬

‫‪147‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫شابو في ىذا الشأن‪ ،‬خاصة إذا عرفنا وعمى نحو وثيق بأن قضية أصول بني اسرائيل والييود‬
‫والديانة الييودية تعد من أصعب المشكبلت والعوائق التي مازالت بمعزل عن أي معالجة نظرية‪،‬‬
‫وبعيدة كمياً عن أي استدالل أثري مادي‪ ،‬وىذا ما يؤرق الكثير من عمماء التاريخ واآلثار‬
‫التوراتيين‪ ،‬بل أن مشكمة األصول ىذه تحل في صدارة المشكبلت التي تعنى بيا كل البحوث‬
‫التاريخية واألثرية الييودية واالسرائيمية المعاصرة‪.‬‬

‫اعتقد أننا لو نظرنا الى المسألة من ىذه الناحية‪ ،‬فسوف نتمكن من تبيان العديد من‬
‫األمور التي ربما ماتزال غائبة عن اإلدراك بسبب انفصاليا عن أولويات ما نفكر بو بشأن ىذه‬
‫النظرية‪ ،‬وان صدق مثل ىذا الطرح فسيكون من المتوقع ببل شك أن يتكشف لنا اليدف الذي‬
‫رمت الى تحقيقو نظرية الصميبي‪ ،‬من خبلل اعتماده عمى ظاىرة تشابو األسماء الجغرافية‬
‫واالنطبلق منيا في بناء استدالالت تدعم صحة ما ذىب إليو‪ ،‬عمى نحو ما يتناقض مع ما‬
‫يشير إليو الواقع‪ ،‬من أنو ال يمكن بأي حال من األحوال اعتبار ىذه الظاىرة دليبلً تاريخياً أو‬
‫جغرافياً يمكن الركون إليو‪ -.‬وىذا ما سيكون لنا معو وقفة مفصمة في مكان الحق من الدراسة‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫)‪(3‬‬

‫كيف تكشف أمساء األماكه عه مىطىها؟‬

‫من الميم جداً أن نتفق عمى ما الذي نعنيو بالضبط بقولنا [جغرافية التوراة]‪ ،‬وكيف‬
‫تشكمت ىذه الجغرافية عمى متن النص التوراتي‪ ،‬ألن ىذا سيخدم بشكل مباشر كل ما سيأتي‬
‫منذ ىذه المحظة‪ ،‬مع التأكيد عمى أني سأتعامل مع ىذه المسألة إجرائياً بما يتناسب وأغراض‬
‫ىذه الدراسة‪.‬‬

‫تضع التوراة أحداثيا في نطاق جغرافي يشمل كافة مناطق الشرق األدنى القديم‪ :‬العراق‪،‬‬
‫سوريا‪ ،‬فمسطين‪ ،‬مصر‪ ،‬لذا يجب أن نضع في االعتبار دائماً أن جغرافية التوراة بحسب‬
‫نصوص أسفارىا ال تقتصر عمى فمسطين وحسب‪ ،‬ألن فمسطين ما ىي إال الحمقة األخيرة من‬
‫بناء عمى مجموعة من القصص عن‬
‫حمقات التاريخ التوراتي‪ .‬إذ تشكمت الجغرافية التوراتية ً‬
‫أصول بني اسرائيل ومنشأىم األول‪ ،‬وكيف تكونوا وتطوروا‪ ،‬والى أين انتقموا ورحموا‪ ،‬وأين‬
‫استقروا وأقاموا‪ ،‬حتى انتيوا الى "فمسطين" أو ما يطمقون عميو اسم "أرض الميعاد"‪ -‬أو أرض‬
‫اسرائيل‪ ،‬وتتمثل ىذه القصص بشكل رئيسي بما يمي‪:‬‬

‫القصة األولى‪ :‬قصة العبور اإلبراىيمي – عبور النبي والجد األول لمعبرانيين [ابراىيـ]‬
‫لنير الفرات‪ ،‬وانتقالو من مدينة [أور الكمدانية] في ببلد الرافدين الى مدينة [حاراف] السورية‪،‬‬
‫كما تشمل ىذه القصة القصص المتعمقة بزوجاتو وأبنائو وانتقالو الى مصر‪ ،‬وما الى ذلك‪،‬‬
‫باإلضافة الى استقرار يعقوب بن ابراىيم في فمسطين‪ ،‬وتحول اسمو الى [اسرائيؿ] ليصبح‬
‫المؤسس األول لقبيمة بني اسرائيل أو ما يعرف ب ـ [األسباط اإلثني عشرة الييودية] وىذا القصة‬
‫ترتبط ب ـ [الوعد اإلليي إلبراىيـ بأف تكوف لو ولنسمو مف بعده األرض مف الفرات الى النيؿ]‪.‬‬

‫القصة الثانية‪ :‬قصة [يوسؼ بف يعقوب] الذي ساقتو األقدار الى مصر عمى أيدي‬
‫اليكسوس أو ما شابو‪ ،‬ليحظى بتربية الفرعون وعنايتو بو كابن لو‪ ،‬ومن ثم ارتقاءه الى سدة‬
‫الحكم في أرض النيل‪ ،‬ودعوتو ألبيو وأشقائو واستقرارىم فييا لعدة قرون‪ ،‬حتى يأتي [موسى]‬

‫‪149‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫ويدخل في صراع مع فرعون آخر يقرر فيو ىذا األخير ابادة بني اسرائيل عن بكرة أبييم‪ ،‬أو‬
‫طردىم من مصر‪[ .‬ىذه الفترة‪ -‬فترة الوجود االسرائيمي في مصر ال تغطييا التوراة أبداً وال‬
‫تقوؿ عنيا شيئاً]‪ ،‬إال أنيا ترتبط بقصة الخروج من مصر وما يعرف ب ـ [الوعد اإلليي لموسى‬
‫بأف تكوف فمسطيف ىي أرض الميعاد لو ولقومو]‪.‬‬

‫القصة الثالثة‪ :‬قصة [الخروج االسرائيمي مف مصر] بقيادة موسى‪ ،‬والتيو لعدة عقود في‬
‫الصحراء‪ ،‬قبل أن يصموا الى تخوم نير األردن من جيتو الشرقية‪ ،‬بقيادة خميفة موسى [يشوع‬
‫بف نوف]‪ ،‬والذي يقود بني اسرائيل في معارك عديدة يتمكن فييا من اسقاط المدن الكنعانية‬
‫والفمسطينية الواحدة تمو األخرى‪ ،‬وتكوين مممكة اسرائيل في طورىا األول‪.‬‬

‫القصة الرابعة‪ :‬قصة [الممؾ داوود وابنو سميماف وانقساـ المممكة]‪ ،‬حيث تسرد التوراة‬
‫قصة وصول ممك اسرائيل الى داوود‪ ،‬وتأسيس امبراطورية ضخمة ميولة‪ ،‬ثم مجيئ سميمان بن‬
‫داوود خمفاً ألبيو وبناء الييكل وقدس األقداس وما الى ذلك‪ ،‬وبعد سميمان تنقسم مممكة اسرائيل‬
‫الى شطرين مممكة اسرائيل في الشمال ومممكة ييوذا في الجنوب من فمسطين‪.‬‬

‫القصة الخامسة‪[ :‬الصراع بيف المممكتيف]‪ ،‬وصوالً الى الصراع مع اآلشوريين والبابميين‬
‫والذي انتيي بالسبي البابمي لبني اسرائيل ودخوليم [مرحمة المنفى]‪ .‬وانتقاالً مع أحداث الصراع‬
‫بين الفرس وآشور والذي انتيى بانتصار الفرس‪ ،‬الذين ساعدوا بني اسرائيل في العودة الى‬
‫فمسطين‪ ،‬وتمكنيم من اقامة دولة ليم ىناك‪ ،‬استمرت حتى جاء الرومان ودمروا عاصمتيم‬
‫اورشميم وطرودا بني اسرائيل والييود منيا فيما عرف ب ـ [مرحمة الشتات][‪.]1‬‬

‫في متون النص التوراتي الذي تسرد جميع ىذه القصص‪ ،‬يرد ذكر المئات إن لم يكن‬
‫اآلالف من أسماء المدن والقرى والجبال والتبلل والقبلع والمعالم الجغرافية‪ ،‬السيما منذ بداية‬
‫قصة الخروج من مصر وحروب يشوع بن نون في فمسطين‪ ،‬بحيث يمكن تصنيف ىذه المواقع‬
‫الى مجموعتين‪ ،‬كما يأتي‪:‬‬

‫[‪ .]0‬استمرت مرحمة الشتات الييودي منذ ذلك الوقت وحتى اعبلن قيام دولة اسرائيل في العصر الراىن عام‬
‫‪ ،0998‬والفرق بين مرحمتي المنفى والشتات‪ ،‬أن األولى اجبر عمييا الييود أما الثانية فكانت باختيارىم‪.‬‬
‫(الباحث)‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫المجموعة األولى‪ :‬المدف والمواقع الرئيسية‪ :‬وىي المدن والمواقع المشيورة في التاريخ‬
‫والثابتة مواقعيا الجغرافية في السجبلت التاريخية واألدلة األثرية‪ ،‬مثل‪ :‬غزة‪ ،‬نير األردن‪ ،‬أريحا‪،‬‬
‫يافا‪ ،‬حيفا‪ ،‬شكيم‪ ،‬اورشميم‪ ،‬عسقبلن‪ ،‬اشدود‪ ،‬بيت لحم‪ ،‬صيدا‪ ،‬صور‪ ،‬دمشق‪ ،‬حماة‪ ،‬حمب‪،‬‬
‫عمان (عمون)‪ ،‬لبنان‪ ،‬فضبلً عن أسماء الدول القديمة الكبرى ومدنيا مثل مصر وآشور وبابل‬
‫وكوش وسبأ وغيرىا‪.‬‬

‫المجموعة الثانية‪ :‬المواقع والقرى والمعالـ الثانوية‪ :‬والتي يفترض أنيا تنتمي الى حيز‬
‫جغرافي واحد في فمسطين بالتحديد‪ ،‬مثل‪ :‬عاي‪ ،‬جبل عيبال‪ ،‬جبعون‪ ،‬حبرون‪ ،‬عقرون‪ ،‬بيتيل‪،‬‬
‫بيت شان‪ ،‬تمنة‪ ،‬تعنك‪ ،‬جبعة‪ ،‬مخماس‪ ،‬حاصور‪ ،‬دان‪ ،‬جمعد‪ ،‬لخيش‪ ،‬يزرعيل‪ ،‬النقب‪ ،‬جت‪،‬‬
‫جبع‪ ،‬رامة‪ ،‬ربة‪ ،‬عربة‪ ...‬والمئات األخرى من أسماء التبلل والجبع والخرب واآلبار والعيون‬
‫والوديان والجبال والقفار والقرى والبمدات مما ال يمكن حصره‪ .‬وىذه الفئة ىي التي تثير المشكمة‬
‫من حيث صعب ألسباب متعددة ايجاد مواقع البعض منيا في فمسطين‪ ،‬وغالباً ما جرى تعيين‬
‫مواقعيا االفتراضية عمى نحو غير قاطع‪.‬‬

‫تتضح اشكالية المجموعة الثانية‪ ،‬من خبلل مضمون واتجاه المعالجات التي قدميا رواد‬
‫نظرية جغرافية التوراة لتحديد مواقع المدن والمناطق التوراتية خارج أرض فمسطين‪ .‬مع التأكيد‬
‫عمى أن أغمب تمك المواقع الثانوية ىي ما جرى االنشغال بو بشكل رئيسي‪ ،‬حيث انحصرت‬
‫أغمب معالجات رواد النظرية بدرجة أساسية في المرحمة التي تبدأ من حادثة الخروج االسرائيمي‬
‫من مصر‪ ،‬وانطبلقة حروب يشوع‪ ،‬وحتى عصر السبي البابمي‪ ،‬بل أن عناوين موضوعاتيم‬
‫الرئيسية جاءت عمى نحو‪ :‬جغرافية معارؾ يشوع‪ ،‬جغرافية سفر صموئيؿ‪ ،‬جغرافية السبي‬
‫البابمي‪ ،‬جغرافية مممكة داود وسميماف‪ ..‬وىكذا‪.‬‬

‫لقد أخضع رواد النظرية المدن والمواقع الرئيسية الثابتة تاريخياً وجغرافياً لحكم المجموعة‬
‫الثانية وكأنيا مجيولة أو في غير مكانيا الصحيح بالنسبة لمتحديد التوراتي‪ .‬ثم قاموا بتوظيف‬
‫مسألة تشابو األسماء التوراتية مع مناطق عسير وغامد‪ ،‬وىي المسألة التي فتحت األبواب عمى‬
‫مصاريعيا لكل من ىب ودب أن يبحث عن مسرح أحداث التوراة في جزيرة العرب‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫أكد رواد النظرية عمى اتباعيم [منيج دراسة التحوالت المغوية لألسماء]‪ ،‬إال أنيم في‬
‫الحقيقة لم يطبقوا من ىذا المنيج إال قشرتو السطحية من حيث اعتمدوا عمى التشابو بين‬
‫األسماء دون أي اعتبار آخر غيره‪ ،‬باإلضافة الى بعض التقنيات المغوية البسيطة من إبدال‬
‫وقمب واشتقاق وما الى ذلك‪.‬‬

‫بطريقة ما ومن خبلل مقوالتيم الثبلث الرئيسية‪ ،‬وأيضاً من خبلل صنعيم لسبلسل طويمة‬
‫جداً من المغالطات المنطقية‪ ،‬تمكنوا من تشويش الكثير من األفكار عمى نحو بدت معو‬
‫استدالالتيم باألسماء المتشابية مقنعة بالفعل‪ ،‬معتمدين في ذلك بشكل رئيسي عمى جيل‬
‫الغالبية من الناس بحقائق الجغرافيا العامة وعمم الخرائط وعمم الطبوغرافيا وعمم الجغرافية‬
‫التاريخية باألساس وفقو المغات وغيرىا من العموم التخصصية الدقيقة‪ ،‬فضبلً عن قصور معرفة‬
‫الناس بالكثير من الحقائق التاريخية واألسس والقواعد المنيجية‪ ،‬وعمى رأسيا قواعد عمـ أصوؿ‬
‫األسماء [االيتمولوجي (‪ ])Etymologic‬أو ما يعرف ب ـ [عمـ اإلثالة‪ ،‬أو عمـ التأثيؿ‪ ،‬وأحياناً‬
‫يعرؼ بػػ عمـ التأصيؿ]‪ ،‬وىو العمم الذي بالكاد يعرف عنو القمة القميمة من الباحثين‬
‫المتخصصين‪ ،‬أو ممن حظوا بدرجة ما من المعرفة الموسوعية‪.‬‬

‫لقد تيرب رواد ىذه النظرية بالفعل من تطبيق القواعد المنيجية األساسية لعمم اإلثالة‪،‬‬
‫وصرح بو حرفياً عندما‪:‬‬
‫َّ‬ ‫وىذا ما اعترف بو رائدىم األول الدكتور كمال الصميبي‪،‬‬

‫"لفت نظر القارئ الى أف دراستو "التوراة جاءت مف جزيرة العرب" ال تتطرؽ الى‬
‫أصوؿ أسماء األماكف المشار إلييا في دراستو‪ ،‬كما لف تتطرؽ الى معاني ىذه‬
‫األسماء إال في حاالت قميمة‪ .‬وأف مف ىذه األسماء ما ىو كنعاني أو آرامي في‬
‫صيغتو‪ ،‬ومنيا ما ىو عربي‪ ،‬ومنيا ما ىو [سامي] قديـ يعود الى ما قبؿ الكنعانية‬
‫واآلرامية والعربية[‪.]1‬‬

‫بيد أن اعتراف الصميبي ىذا لم يخمو من المغالطة أيضاً‪ ،‬ذلك أن ما تجاىمو وىرب منو‬
‫ال يقتصر فحسب عمى [أصوؿ أسماء األماكف ومعانييا]‪ ،‬بل شمل الجوانب الرئيسية التي‬

‫[‪ .]0‬كمال الصميبي‪ :‬التوراة جاءت من جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.02‬‬

‫‪152‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫يفترض أن يأخذ بيا [الباحث االيتمولوجي‪ -‬الجغرافي] في بحثو عن حقائق األسماء التاريخية‬
‫لممواقع الجغرافية المختمفة في أي مكان‪ ،‬والتي تتمثل بما يمي‪:‬‬

‫‪ ‬األصؿ المغوي لالسـ‪ ،‬وبنيتو الصرفية‪ ،‬والجذور الصوتية والداللية لو‪.‬‬

‫‪ ‬أثر التغيرات الصوتية التاريخية الناتجة عف ظواىر القمب واإلبداؿ عمى الداللة‬
‫األصمية لالسـ‪ ،‬وعالقة الدالالت الناتجة بالمعنى األصمي‪.‬‬

‫‪ ‬السياؽ الثقافي والحضاري الذي ينتمي إليو االسـ مف حيث معالمو المغوية‬
‫والصوتية والداللية متصمة بالجغرافيا والطبوغرافيا‪ ،‬والذي ال تخمو التعبيرات‬
‫السائدة في مجتمع ما مف اإلشارة إليو مف خالؿ عبارات وصؼ الحركة واالنتقاؿ‬
‫في النطاؽ المكاني‪ ،‬وأسماء الطرؽ والجسور والمعابر والممرات ودالالت الصعود‬
‫واليبوط وغير ذلؾ‪.‬‬

‫‪ ‬الداللة الطبوغرافية التي يحمميا االسـ أو التوصيؼ الطبوغرافي الذي يأتي مرتبطاً‬
‫بو‪ ،‬فاألسماء الجغرافية غالباً ما تصاحبيا مفردات ذات داللة طبوغرافية‪ ،‬عمى‬
‫نحو‪ :‬جبؿ‪ ،‬تؿ‪ ،‬سيؿ‪ ،‬قرية‪ ،‬وادي‪ ،‬نير‪ ،‬خربة‪ ،‬عيف‪ ،‬نبع‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫‪ ‬اإلسقاطات اإلحداثية الطبوغرافية والجغرافية لممكاف الذي يشير إليو االسـ‪ ،‬مف‬
‫حيث طبيعة سطحو وتناغميا مع سطوح األماكف المسماة بجواره‪ ،‬باإلضافة الى‬
‫موقع المكاف بالنسبة لغيره في الجيات األربع أو الجيات الثماف‪.‬‬

‫‪ ‬تاريخ المكاف واألحداث المرتبطة بو‪ ،‬ومدى تناغميا مع االسـ ودالالتو الجغرافية‬
‫والطبوغرافية‪ ،‬مقارنة باألماكف األخرى التي ترتبط بنفس االسـ أو بأسماء مشابية‬
‫لو‪.‬‬

‫‪ ‬تاريخ وطبيعة السجالت والوثائؽ المرتبطة بالبحث االتيمولوجي‪ -‬الجغرافي عف‬


‫االسـ والمكاف أو الموقع‪ ،‬وسمات تمؾ الوثائؽ التي يمكف أف تؤثر عمى مصداقية‬
‫النتائج‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫ىذه ىي القواعد التي ال يمكن ألي باحث [ايتمولوجي‪ -‬جغرافي وتاريخي] أن يتجاىميا‪،‬‬
‫ألن تجاىميا وعدم االلتزام بيا يفضي الى نتائج فوضوية ال أساس ليا من الناحية العممية‪،‬‬
‫فضبلً عن التوىم الذي يقود إليو ذلك‪ .‬وىذا بالضبط ما قام بو جميع رواد نظرية جغرافية التوراة‬
‫في جزيرة العرب‪ ،‬فمم يمتزموا بأي من ىذه القواعد‪ ،‬بما فييم األستاذ "فرج اهلل صالح ديب" وىو‬
‫المغوي والجغرافي المعجمي الخبير والضميع في ىذا المجال‪ .‬فقد رموا بكل ثقميم البحثي‬
‫والمعرفي عمى مسألة تشابو األسماء وبنوا عمييا استدالالتيم التعسفية‪ ،‬والتي فرشت بالوىم‬
‫جغرافية جزيرة العرب لمتاريخ التوراتي وجعمتو منطبقاً عمييا كرىاً وحتم أنفيا‪ ،‬فقط لتبدو نظريتيم‬
‫مقنعة ومقبولة‪.‬‬

‫الثابت عممياً‪ ،‬أن "دراسة ىذه المدف والمواقع نفسيا تحظى باألىمية القصوى في‬
‫أوساط الباحثيف المعنييف بالجغرافية التاريخية‪ ،‬وىي األىمية التي تتأتى أصالً مف‬
‫أىمية دورىا في تحديد المسرح الجغرافي لمعديد مف الوقائع والحوادث التاريخية‪ ،‬فضال‬
‫عف رسـ وتحديد المسار الصحيح والمنطقي لمحطات القوافؿ والحمالت والرحالت عبر‬
‫العصور التاريخية[‪.]1‬‬

‫وىذا مفاده‪ ،‬أنو يجب قبل أن نحيل مسألة تاريخية ‪ -‬جغرافية ما الى اسمائيا المرتبطة‬
‫بيا أو اثبات عدم ارتباطيا بيا‪ ،‬أن نقوم بدراسة المكان نفسو وأال نقفز عميو ونبحث في األسماء‬
‫المعنية بو في مكان آخر‪ ،‬قبل أن يثبت لدينا بما ال ينزع بنا الى الشك مرة أخرى بأن ىذا‬
‫المكان مرتبط بالفعل باألحداث واألسماء المعنية‪ ،‬فإذا لم يثبت ىذا االرتباط يمكن بعد ذلك‬
‫الحديث عن امكانية البحث في نطاق جغرافي آخر‪ .‬وبالمثل فإنو يجب قبل أن نحيل البحث‬
‫عن الخصائص المغوية والمفظية لؤلسماء الجغرافية الى منطقة أخرى‪ ،‬أن نتحقق من مدى‬
‫مطابقة أو عدم مطابقة تمك األسماء بخصائصيا القائمة مع المنطقة المفترض أساساً أنيا‬
‫مرتبطة بيا‪.‬‬

‫[‪ .]0‬عامر عبد اهلل الجميمي‪ :‬أسماء المدن والمواقع الجغرافية المتشابية لفظاً والمختمفة موقعاً في النصوص‬
‫المسمارية‪ ،‬مرجع سابق‪( ،‬موقع الكتروني)‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫بصيغة أخرى أكثر وضوحاً‪ ،‬فقد كان من المفترض أن يقوم رواد نظرية جغرافية التوراة‬
‫العرب بالخطوة المنيجية األولى‪ ،‬وىي التحقق من مطابقة أو عدم مطابقة األسماء التوراتية مع‬
‫الجغرافية الفمسطينية‪ ،‬وأن يبنوا عمى نتائج ىذه الخطوة مسار خطوتيم التالية إذا ثبت لدييم عدم‬
‫التطابق فعبلً‪ ،‬لكن ىذا أيضاً لم يقوموا بو‪ ،‬حتى أنيم لم يقدموا لنا أي استدالالت بالسمب عن‬
‫الجغرافية الفمسطينية‪.‬‬

‫فقط‪ ،‬أقاموا مقوالتيـ الرئيسية الثالث ونقموا بموجبيا جغرافية الحدث التوراتي مف‬
‫فمسطيف ومناطؽ الشرؽ األدنى األخرى الى جزيرة العرب‪ ،‬عمى نحو أفرغ فمسطيف مف‬
‫تاريخيا كمياً‪ ،‬فمـ يعد فييا ال كنعانييف (فينيقييف) وال فمسطينييف‪ ،‬وال آمورييف وال آرامييف وال‬
‫مصرييف وال آشورييف‪ ،‬كميا جميعاً تبخرت وتالشت واصبحت في اليمف‪ ،‬وىذا كمو مف أجؿ‬
‫سواد عيوف كتبة التوراة والييود وبني اسرائيؿ‪ ،‬الذيف جاءوا الى فمسطيف أصالً بعد آالؼ‬
‫السنيف مف الوجود الحضاري اآلموري والفينيقي والفمسطيني‪ ،‬لكف ىذا كمو سيختفي بممح‬
‫العيف ولف يعود لو أي أثر في فمسطيف‪ ،‬بمجرد أف سعى ىؤالء الحاخامات العرب الى اثبات‬
‫مصداقية التاريخ التوراتي عمى حساب تاريخ وجغرافية المنطقة العربية كميا‪ ،‬وليس عمى‬
‫حساب تاريخ وجغرافية فمسطيف وحدىا‪.‬‬

‫من الثابت أيضاً‪ ،‬أن التوراة كتبت ما بين القرن الثالث والقرن الثاني قبل الميبلد‪ ،‬وىي‬
‫الفترة التي كانت فييا حضارة كاممة ومستقمة في جنوب جزيرة العرب‪ ،‬ليا لغتيا وقوميتيا‬
‫وثقافتيا‪ ،‬وكتابتيا‪ ،‬ونقوشيا‪ ،‬وأعرافيا‪ ،‬وأسمائيا‪ ،‬وجنيا وانسيا‪ ،‬وأساطيرىا‪ ،‬التي مازالت حية‬
‫وتنبض بالحياة حتى اليوم‪ ،‬لكن ىذا كمو اختفى أيضاً وذاب ذوبان الجميد في ابريل المكسيكي‪،‬‬
‫فبل حقيقة إال ما تقولو التوراة‪ ،‬وال جغرافية لمحدث التوراتي إال ما يحددىا لو أصحاب النيافة‬
‫حكماء التوراة العرب‪ :‬الصميبي ومنى وديب وداوود والدبش وعيد والجثام والربيعي‪..‬؟!‬

‫وحينما صرخنا وقمنا‪ :‬ليس كؿ التاريخ توراتياً يا سادة‪ ،‬وليست كؿ الجغرافيا معنية بيذه‬
‫االسرائيؿ البضعة التي نسيناىا قبؿ ألفيف سنة مف اليوـ‪ ،‬فماذا تفعموف؟!‪ -‬جاءنا الجواب‬
‫سريعاً‪ :‬نحف نصحح التاريخ ونحرره مف الزيؼ االستشراقي‪ ..‬ياهلل‪!!..‬‬

‫‪155‬‬
‫انفصم انرابع‬ ‫تفكيك انبىاء املىطقي واملىهجي نهىظريت‬

‫ختاماً‪ ،‬نكون بيذا قد وصمنا الى نياية تأسيسنا النظري والمنيجي ليذه الدراسة‪ ،‬ودخمنا‬
‫فعمياً في مرحمة النقد التطبيقي‪ ،‬فإذا كنا نتكمم عن حقائق األسماء الجغرافية فعمينا أن ننصت‬
‫لمجغرافيا نفسيا‪ ،‬والى الحقائق المغوية والتاريخية والثقافية والحضارية التي ال يمكن فصميا‬
‫اطبلقاً عن بيئتيا الجغرافية‪ ،‬ميما حاول الخراصون أو اجتيد المشعوذون‪.‬‬

‫سنحتكم الى الجغرافيا والى الخرائط‪ ،‬والى الحقائق الطبوغرافية والمغوية والتاريخية التي‬
‫تنطق بيا أسماء المناطق في فمسطين‪ -‬وليس أسماء المناطق في التوراة‪ -‬فإذا قالت خرائط‬
‫فمسطين التفصيمية الموثوقة والمعتمدة من قبل الفمسطينيين أنفسيم لما قبل عام ‪ ،0998‬أن‬
‫األسماء التي ترد في التوراة تنتمي إلييا‪ ،‬فقد حكمت والبد أن نرضخ لحكميا‪ ،‬وان أنكرت ذلك‬
‫فقد صدقت والبد أن نصدقيا أيضاً‪.‬‬

‫في المقابل‪ ،‬سنرسم الخرائط اليمنية وفق الوصف الذي حدده رواد النظرية ونقابميا بالنص‬
‫التوراتي نفسو‪ ،‬وبالحقائق الجغرافية والتاريخية واألثرية اليمنية في الزمان والمكان نفسو‪ ،‬واألمر‬
‫نفسو بالنسبة لمصر وآشور وغيرىا‪.‬‬

‫بيذه الطريقة وبيذا المنيج‪ ،‬سنكتشف الحقيقة‪ ،‬ونعرف عمى وجو اليقين من ىو الذي يقوم‬
‫بتزييف التاريخ والجغرافيا ومن ىو الذي يقوم فعبلً بتحريرىما‪..‬؟!!‬

‫وعمى ىذا يكوف الرىاف مف بعد‪..‬؟!‬

‫واآلف‪ ،‬الى نشيد أنشاد الجغرافيا وصموات الخرائط‪ ..‬والقسـ الثاني مف ىذه الدراسة‪..‬‬

‫‪156‬‬
‫القسم الثاني‬

‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬


‫مدخل‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫مدخل‪:‬‬

‫تضج أعمال ومؤلفات رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب بمحتوى تأليفي ال‬
‫يتوقف عند تقديم الحجج واألدلة التي توصموا إلييا فحسب‪ ،‬بل ويتضمن سرد التاريخ التوراتي‬
‫من خالل اسقاطو عمى جغرافية اليمن الطبيعي‪.‬‬

‫أؤكد ىنا عمى عبارة (تأليف) كوصف دقيق لمطريقة التي أعدت بيا تمك األعمال‪ ،‬من‬
‫حيث أنيا باألساس ال تقدم تاريخاً أو عمماً أو حقائق‪ ،‬بل إنيا ال تعدو أكثر من مجرد مؤلفات‬
‫ينطبق عمييا حرفياً وصفيا بأنيا "معارف خاصة"‪ -‬معارف خاصة بمؤلفييا‪ ،‬تماماً كما وصفيا‬
‫بذلك رائد النظرية األول كمال الصميبي‪ .‬في حين أن التاريخ ليس مجاالً لمتأليف يسمك فيو‬
‫المؤلف كما يشاء‪ ،‬بل ىو عمم لو أسسو وقواعده ومناىجو وأدواتو العممية وأساليبو الموضوعية‬
‫التي ال ينبغي أن يحيد عنيا الباحث في التاريخ‪ ،‬وىذا أمر ال يخفى عمى أحد‪.‬‬

‫عند النظر المباشر في أعمال ىؤالء الرواد‪ ،‬نجد أنيم قدموا لنا القصة التاريخية التوراتية‬
‫التقميدية نفسيا بفارق جوىري ىو أنيم أسقطوىا في نطاقات جغرافية أخرى‪ ،‬وبالتالي فما‬
‫يصفونو بأنو تحرير لمتاريخ من ىيمنة لمقصة التوراتية عميو‪ ،‬ال يعدو أكثر من مغالطة‬
‫صورية واضحة ومكشوفة‪ ،‬إذ أن نقل أحداث التوراة حرفيا واسباغ صفة المصداقية الكاممة‬
‫عمييا الى مسرح جغرافي آخر ليس إال تثبيت وتكريس لتمك الييمنة التوراتية التي صنعيا‬
‫المستشرقون وعمماء التوراة من قبل‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فإن البعض من المثقفين والدارسين ممن وقفوا عمى ىذه النظرية وانبيروا بيا‬
‫وتفاعموا بإعجاب شديد معيا‪ ،‬يرفضون دائماً النظر الى ىذه الحقيقة الواضحة‪ ،‬ويدعون أن ىذه‬
‫النظرية فتحت آفاقاً رحبة في مجال نقد التوراة‪!!..‬‬

‫منذ البداية‪ ،‬سعت ىذه الدراسة الى بحث وتفكيك الجوانب اإلجرائية في أعمال رواد‬
‫نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب‪ ،‬وبقدر ما أن ىذا السعي ال ولن يسعف الكثير من القراء‬
‫ممن ينتظرون‪ -‬أو يتوقعون عمى األقل‪ -‬أن تقدم ىذه الدراسة ردوداً عمى ما تضج بو كتبيم‬

‫‪158‬‬
‫مدخل‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫ومؤلفاتيم من استدالالت وشواىد‪ ،‬بحيث نكون مضطرين ىنا لموقوف أمام كل مسألة من‬
‫المسائل التي أثاروىا‪ ،‬والوقوف عمى كل اسم من أسماء المناطق الجغرافية التي نزعوىا من‬
‫جغرافيتيا األصمية‪ -‬أقصد جغرافية فمسطين وحوالييا وليس جغرافية التوراة كما يدعون‪ ،‬فميس‬
‫لمتوراة جغرافية يمكن الحديث عنيا‪ -‬وىي األسماء نفسيا التي اجتيدوا بشكل متعسف لمغاية في‬
‫اسقاطيا عمى كامل المساحة الجغرافية لما ىو ثابت ويعرف ب ـ "اليمن الطبيعي"‪ .‬فيذا الخيار لن‬
‫يؤدي إال الى إثارة الجدل العقيم الذي يخدم النظرية أكثر ما أنو يخدم أىداف نقدىا واثبات‬
‫أخطائيا وانحرافاتيا‪.‬‬

‫لذا‪ ،‬فإننا ال نريد أن يأمل القارئ العزيز أن تتجو ىذه الدراسة نحو تقديم نقد سطحي‬
‫مساير الستدالالت ىذه النظرية‪ .‬كما ال نريد أن يشعر القارئ بخيبة أمل من حيث يعتقد أو‬
‫يتصور بأن ىذه الدراسة جاءت وخالفت كل توقعاتو‪ ،‬بل نرغب فعالً أن يدرك القارئ أىمية وقوة‬
‫ىذا االتجاه الذي نسمكو في دراستنا ىذه‪ ،‬من حيث أنو مسمك منيجي مبتكر ومطور بشكل‬
‫خاص‪ ،‬وييدف الى وضع نظرية جغرافية التوراة وروادىا في مخنق شديد الوطأة‪ ،‬بحيث لن‬
‫يكون بوسعيم أو بوسع نظريتيم النجاة منو بسيولة‪ ،‬وىذا بالضبط ما سعينا إليو أوالً من خالل‬
‫خمخمة بنيان ىذه النظرية‪ ،‬واثبات مدى ىشاشتيا وارتخاء مفاصميا وعجزىا عن الصمود أمام‬
‫كل نتيجة من النتائج التي توصمنا إلييا من قبل‪ ،‬والتأكيد عمى أنيا لن تصمد أبداً أمام األدلة‬
‫واالثباتات القاطعة التي نسعى لعرضيا في المرحمة الحالية من الدراسة‪.‬‬

‫عندما نقول أننا ىنا نعنى بدراسة وتفكيك اإلجراءات التي قام بيا رواد نظرية جغرافية‬
‫التوراة من الباحثين العرب‪ ،‬فإننا نقصد بذلك أن نتحقق بالفعل مما قاموا بو في بناء وتقديم‬
‫نظريتيم‪ .‬وكما ىو ثابت فإن القاعدة العامة في كل ما يمكن أن يقوم بو اإلنسان‪ ،‬ىي أن‬
‫اإلجراء إذا كان صحيحاً فالبد من أن تكون النتائج صحيحة أو عمى األقل أكثر قرباً من الواقع‬
‫وأكثر قدرة عمى التعبير عنو بأقصى درجة ممكنة‪ ،‬والعكس صحيح أيضاً إذا كانت تمك‬
‫اإلجراءات خاطئة أو غير صحيحة‪ ،‬فالنتائج ستكون خاطئة وغير صحيحة‪.‬‬

‫كان القسم األول من ىذه الدراسة قد اتجو نحو تفكيك البناء المنطقي والمنيجي لمنظرية‪،‬‬
‫وىو ما ساعد في صياغة وتكوين العديد من التساؤالت والمالحظات والنتائج القيمة التي وان لم‬

‫‪159‬‬
‫مدخل‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫تحطم ىذه النظرية وتجيز عمييا تماماً‪ ،‬إال أنيا بال شك وضعتيا في دائرة الشكوك‪ ،‬وىزت‬
‫بشكل أو بآخر الكثير من القناعات حوليا‪.‬‬

‫أما اآلن‪ ،‬وبعد أن تبين لنا من خالل اختبار مقوالت النظرية وفروضيا ومنطمقاتيا‪ ،‬مدى‬
‫ىشاشة تمك المقوالت وتناقضات تمك الفروض والمنطمقات‪ ،‬فإننا في القسم الثاني من ىذه‬
‫الدراسة‪ ،‬نسعى الى التوغل أكثر في عمق البناء اإلجرائي لمنظرية‪ ،‬من خالل التعرف عمى‬
‫الطرق واآلليات التي اتبعيا روادىا في التعامل مع المصادر التي اعتمدوىا في إسناد نظريتيم‪،‬‬
‫وبناء منظوماتيم االستداللية المتباينة شكالً‪ ،‬والمتشابية منطقاً ومنطمقاً ومسمكاً وغاية وىدفاً‪،‬‬
‫والتعرف عمى األساليب اإلجرائية التي اتبعوىا في تكوين وتقديم أدلتيم‪ ،‬وتقييم مدى رسوخيا‬
‫المنيجي وصدقيا الموضوعي وثباتيا اإلجرائي‪ ،‬ناىيك عن نقض النظرية واثبات عدم صحتيا‬
‫والكشف عن التضميل والتمفيق والتزوير المتعمد الذي مارسو روادىا من الباحثين العرب بدرجات‬
‫متفاوتة وبأشكال مقصودة وأخرى غير مقصودة‪.‬‬

‫السؤال الرئيسي الذي ننطمق منو في ىذا القسم‪ ،‬ىو سؤال عن المصادر التي اعتمد‬
‫عمييا رواد نظرية جغرافية التوراة من الباحثين العرب‪ ،‬والكيفيات التي تعامموا بيا معيا‪ ،‬بحيث‬
‫يمكن صياغة ىذا السؤال عمى نحو ما تعبر عنو الصيغة اآلتية‪:‬‬

‫ما ىي المصادر التي اعتمد عمييا رواد نظرية جغرافية التوراة في اليمن وعسير؟‪-‬‬
‫وكيف تعامموا مع ىذه المصادر في بناء وتكوين أدلتيم؟‬

‫إن الغاية من طرح ىذا السؤال ىي الكشف عن تمك اآلليات التي طبقيا رواد النظرية في‬
‫جمع وتقديم المادة المعرفية التي ضمنوىا صفحات كتبيم ومؤلفاتيم‪ ،‬من مختمف النواحي‬
‫التاريخية والمغوية والجغرافية‪ ،‬وىذا بدوره سوف يميد لنا الطريق لمقيام بنقالت ضرورية تيدف‬
‫الى دراسة وتحميل نماذج األدلة التي قدموىا لنا إلثبات صحة نظريتيم‪.‬‬

‫بصيغة عامة يمكن تصنيف المصادر التي اعتمد عمييا رواد نظرية جغرافية التوراة في‬
‫جزيرة العرب‪ ،‬الى ثالث مجموعات أو ثالث فئات رئيسية‪ ،‬تتمثل بما يمي‪:‬‬

‫‪160‬‬
‫مدخل‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫الفئة األولى‪ ،‬المصادر الكتابية‪ ،‬وفي مقدمتيا طبعاً العيد القديم من الكتاب المقدس‬
‫(التوراة) والتي تتمثل باألسفار الخمسة الرئيسية‪ ،‬باإلضافة الى األسفار والنصوص المدراشية‬
‫والتناخية األخرى‪ ،‬وكذلك التممود‪ .‬وحول ىذه الفئة يمكن استحضار العديد من المسائل‬
‫واالشكاليات المتعمقة بتاريخ النص التوراتي‪ ،‬ولغتو وترجماتو الى المغات األخرى‪ ،‬وعالقتو‬
‫بالنصوص المماثمة‪ ،‬ومدى توافقو أو تعارضو معيا‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫الفئة الثانية‪ ،‬يدخل ضمنيا السجالت التاريخية والمغوية والجغرافية‪ ،‬ويراد بيا الكتب‬
‫والمؤلفات التاريخية والجغرافية القديمة‪ ،‬بما فييا المؤلفات التاريخية والجغرافية الكالسيكية التي‬
‫قام بيا اليونانيين‪ ،‬باإلضافة الى كتب األخبار العربية ومروياتيم‪ ،‬باإلضافة الى المصنفات‬
‫التاريخية والمغوية والجغرافية العربية‪ .‬وحول ىذه المصادر يمكن إثارة وبحث العديد من‬
‫االشكاليات‪ ،‬وما إذا كانت ىذه المصادر قد عنت بشكل أو بآخر بما أطمق عميو ىؤالء الباحثين‬
‫"جغرافية التوراة" أم ال‪.‬‬

‫الفئة الثالثة‪ ،‬النقوش واألدلة األثرية‪ ،‬حيث تعامل بعض رواد النظرية مع النقوش‬
‫المصرية والعراقية واليمنية القديمة‪ ،‬وكيفوىا لتدعم نظريتيم‪.‬‬

‫ولما كانت نظرية جغرافية التوراة التي قدميا روادىا العرب ليست نظرية واحدة ‪ -‬كما‬
‫يعتقد البعض‪ -‬بل ىي عدة نظريات تدور حول محور واحد وىو النص التوراتي‪ ،‬ومن حيث أن‬
‫لكل من روادىا رؤيتو وطريقتو وأدواتو وتعييناتو الجغرافية‪ ،‬فإن ميمتنا الحالية ىي التعرف عمى‬
‫الطرق واآلليات التي اتبعوىا في التعامل مع ىذه المصادر والمرجعيات التي استندوا إلييا‪،‬‬
‫وطرقيم في بناء وتكوين األدلة التي قدموىا في أعماليم‪ ،‬وذلك من خالل دراسة وتحميل واحد‬
‫من أىم النماذج التي قدميا ىؤالء الرواد‪ ،‬وىو نموذج المفكر العربي فاضل الربيعي‪ ،‬مع‬
‫اإلشارة المقارنة الى مضامين أعمال الرواد اآلخرين كمما سنحت الفرصة وناسب المقام‪.‬‬

‫واختيارنا لمنموذج الذي قدمو المفكر العربي فاضل الربيعي لنظرية جغرافية التوراة لم يكن‬
‫عشوائياً‪ ،‬بل ىو اختيار قائم عمى مجموعة متكاممة ومتناغمة من األسباب والدوافع التي يمكن‬
‫إبراز أىميا‪ ،‬في أن الربيعي يمثل آخر العنقود في سمسمة رواد نظرية جغرافية التوراة‪ ،‬وأكثرىم‬

‫‪161‬‬
‫مدخل‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫نشاطاً من حيث أنو مازال مستم اًر في رفد نظريتو بالعديد من األعمال والمؤلفات‪ ،‬في الوقت‬
‫الذي تراجع فيو الرواد اآلخرون قميالً مكتفين بما قدموه من قبل‪ ،‬وتاركين المسألة لمباحثين‬
‫اآلخرين ليكمموا الرحمة بجيود وآراء وتوجيات جديدة‪ .‬ىذا باإلضافة الى أن الربيعي جعل من‬
‫كامل األرض اليمنية مسرحاً ألحداث التوراة‪ ،‬وىو بذلك يمتقي مع بعض الرواد في ىذا االتجاه‪،‬‬
‫في حين أن طرحو يستوعب النطاق الجغرافي الضيق الذي اختاره البعض اآلخر ممن حصروا‬
‫أرض التوراة بمنطقتي عسير والسراة‪ ،‬وىذه المناطق تعد جزًء ال يتج أز من جغرافية اليمن‬
‫الطبيعي‪ ،‬وبالتالي فإن نموذج الربيعي يستوعب جميع التحديدات الجغرافية التي اختارىا بقية‬
‫رواد النظرية‪ ،‬فضالً عن أنو الوحيد الذي ادعى بالتطابق الكامل بين أسماء األماكن التوراتية‬
‫واألسماء المقابمة ليا في جغرافية اليمن‪ ،‬وىو الوحيد أيضاً الذي ادعى أنو قام بإعادة ترجمة‬
‫النص التوراتي وأثبت ذلك التطابق الموىوم‪.‬‬

‫وىناك أسباب أخرى ال داعي لإلطالة في ذكرىا‪.‬‬

‫عمى كل حال‪ ،‬فإن استراتيجيتنا في ىذا القسم تعتمد عمى البحث الجغرافي واألدوات‬
‫والوسائل الجغرافية التي من شأنيا أن تكشف عن الحقائق الثابتة التي يقدميا عمم الجغرافيا‪،‬‬
‫تؤازرنا في ذلك األدوات المغوية والتاريخية واألثرية‪ ،‬في السياق الذي نحرص فيو عمى اتباع‬
‫منيج عممي رصين من مناىج النقد التاريخي الحديثة والمعاصرة‪ ،‬وىو منيج قمب الدليل‪ -‬أو‬
‫منيج عكس الدليل‪ -‬والذي قمنا باختباره وتطويره عمى مدى عامين كاممين ألغراض ىذه‬
‫الدراسة‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫انفصم األول‬

‫فاضم انربيعي بني املطرقة وانسندان‬

‫تقوم أطروحة المفكر العربي فاضل الربيعي عمى إدعاء صريح مفاده أن الحسن بن أحمد‬
‫اليمداني في كتابو صفة جزيرة العرب َّ‬
‫قدم وصفاً مطابقاً لألماكن الجغرافية التي ذكرتيا التوراة‬
‫والتي دارت فييا مجمل أحداثيا‪ ،‬وأكد م ار اًر وتك ار اًر عمى أن ىذا التطابق ىو األساس الذي يستند‬
‫ضمنيا كتابو "فمسطين المتخيمة"‪ ،‬والتي أثبت بيا – عمى حد‬
‫إليو في تقديم كل استدالالتو التي َّ‬
‫قولو‪ -‬بأن جغرافية التوراة لم تكن يوماً في فمسطين‪ ،‬وانما كانت في اليمن‪.‬‬

‫كما أكد الربيعي بصورة ضمنية عمى أن وصف اليمداني لجغرافية التوراة قد ساعده كثي اًر‬
‫في اكتشاف التحريف والتزييف الذي صنعتو القراءات والتفسيرات االستشراقية المضممة لمنص‬
‫بناء عمى الصورة‬
‫التوراتي‪ ،‬وبالتالي فقد أوحى إليو ذلك بإعادة ترجمة النص التوراتي العبري ً‬
‫الصحيحة التي اكتشفيا ىو في كتاب اليمداني‪ .‬وبعد سنوات طويمة اعتكف فييا لتعمم المغة‬
‫العبرية واإللمام بكافة أبعادىا‪ ،‬قام بإعادة ترجمة التوراة العبرية ومطابقة ترجمتو تمك مع ما جاء‬
‫في كتاب اليمداني‪ ،‬فكانت النتائج مذىمة ورىيبة لمغاية‪ ،‬إذ وجد ذلك التطابق المدىش بين‬
‫أسماء األماكن التي ذكرىا اليمداني وتمك التي وردت في التوراة‪ ،‬ومن ثم فقد تحصل عمى‬
‫إثباتات قاطعة – حسب وصفو‪ -‬عمى أن جغرافية الحدث التوراتي كانت في اليمن‪ ،‬وىذا ىو‬
‫العنوان العريض ألطروحتو‪.‬‬

‫في ىذا االتجاه‪ ،‬ألقى فاضل الربيعي بكل حموالت نظريتو في كتابو "فمسطين المتخيمة"‪،‬‬
‫وىو كتاب كبير الحجم يتألف من ثالثة أجزاء تقع في مجمدين يزيد عدد صفحاتيما عن‬
‫(‪ )0011‬صفحة‪ ،‬وأكثر من (‪ )011‬ألف كممة‪ ،‬قدم فيو استدالالتو المغوية ومقارباتو المفظية‬
‫ومطابقاتو اإلسمية بين التوراة وكتاب اليمداني‪ ،‬وكل ما جاء بو في كتبو التالية ليس إال تك ار اًر‬
‫أو تخصيصاً بشروح موسعة لنقاط فرعية تناوليا في كتابو األول اآلنف الذكر‪ .‬ومن أجل ذلك‪،‬‬

‫‪163‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫فإن كتاب "فمسطين المتخيمة" كتاب ال ينفع معو التمخيص أو اإليجاز نظ اًر لتشعباتو وتداخالتو‬
‫وانتقاالتو العشوائية غير المنتظمة‪ ،‬والتي لم يحكميا منيج أو تضبطيا خطة مسبقة‪ ،‬كونو‬
‫باألساس عمل تأليفي وانطباعي بحت وال يستند الى منيجية عممية رصينة‪.‬‬

‫بفضل الطابع التأليفي واالنطباعي الذي اتخذه الربيعي لنظريتو‪ ،‬تمكن مفكرنا الف ّذ من‬
‫اختالق مساحة واسعة لمقيام بمقارباتو ومقارناتو المفظية بين أسماء األماكن التوراتية وأسماء‬
‫األماكن التي ذكرىا اليمداني‪ ،‬من خالل حصر تمك المقاربات في النطاق الذي كرسو اليمداني‬
‫عمى نحو خاص لوصف جغرافية اليمن الخضراء باعتبارىا جزًء من جزيرة العرب‪ ،‬بحيث ضمن‬
‫مفكرنا العربي بذلك أال يحدث أي تقاطع أو تصادم بين تحميالتو فيما لو أنو قارن األسماء‬
‫التوراتية باألسماء التي تدخل في النطاق العام لكامل جزيرة العرب كما وصفيا اليمداني‪ ،‬وتعذر‬
‫بناء عمى معايناتو‬
‫بحجة واىية في تبرير قيامو بذلك‪ ،‬مفادىا أن اليمداني وصف جغرافية اليمن ً‬
‫ومشاىداتو الميدانية‪ ،‬أما وصفو لبقية أجزاء جزيرة العرب فقد استمدىا اليمداني من غيره‪،‬‬
‫وباألخص من الجغرافي اإلغريقي "بطميموس"‪.‬‬

‫بيد أن الربيعي واجو مشكمة عويصة في كتاب اليمداني‪ ،‬كما أنو وقع في مأزق خطير لم‬

‫يتمكن من الخروج منو‪ ،‬نتيجة محاوالتو البائسة إليجاد حل أو مخرج من تمك المشكمة‪ ،‬تماماً‬
‫كما نقول في المثل الشعبي‪" :‬جاء يكحميا عماىا"‪!!..‬‬

‫تتعمق المشكمة ىذه بفقرة أوردىا اليمداني في كتابو‪ .‬فقرة ال تزيد عن بضعة سطور‪ ،‬إال‬
‫أنيا فقرة جوىرية بالنسبة لموضوعة الربيعي وغاياتو‪ ،‬ونظ اًر ألني كثي اًر ما سوف أشير الى ىذه‬
‫الفقرة في ىذا القسم‪ ،‬فسوف نتفق اجرائياً عمى أن نسمييا "فقرة اليمداني"‪ ،‬ومفادىا كما وردت‬
‫حرفياً في كتاب صفة جزيرة العرب‪ ،‬وكما أوردىا مؤلف كتاب "فمسطين المتخيمة" أيضاً‪ ،‬ما‬
‫يمي‪:‬‬

‫"وأما سائر أجزاء ىذا الربع الذي يمي وسط جميع األرض المسكونة وما يقع في‬
‫جزيرة العرب منيا مثل (إيدوما) (وأرض سورية) (وأرض فمسطين) (وبالد الييود‬
‫العتيقة من إيميا وتسمى بالعبرانيّة يرشمم‪ ،‬وتعربيا العرب فتقول أوراشمم)‪ .......‬فمن‬

‫‪164‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫كان منيم في بالد سورية وىي أرض بني إسرائيل وبالد إيدوما وبالد الييود العتيقة‬
‫فيم يشاكمون الحمل والمريخ خاصة‪.]1["...‬‬

‫عاش أبو محمد الحسن اليمداني في الفترة (‪000 -081‬ىـ‪949 -890 /‬م)‪ ،‬أي في‬
‫القرن العاشر الميالدي‪-‬أي قبل عشرة قرون من عصرنا الراىن‪ ،-‬وعمى طول ىذه المدة كان‬
‫كتابو ىذا موضع اىتمام وبحث واطالع من آالف القراء الذين ينتمون الى أماكن وعصور زمنية‬
‫متباينة‪ ،‬جميعيم ق أروا ىذه الفقرة اليمدانية‪ ،‬ولم ينتابيم أدنى شك أو يخالطيم ارتياب في أن‬
‫اليمداني كان يشير فييا الى سوريا وفمسطين وايدوما واورشميم التي ىي إيميا‪ ،‬باعتبار أن ىذه‬
‫األسماء تقع في األجزاء الشمالية من جزيرة العرب‪ ،‬والتي تعرف ب ـ "بالد الشام"‪.‬‬

‫فقط الربيعي‪..‬؟!‪ -‬وفقط فقط مفكرنا العربي فاضل الربيعي ىو الذي جاء بعد ألف سنة‬
‫تفسير آخر يتناقض جممة وتفصيالً مع ما‬
‫اً‬ ‫من زمن اليمداني‪ ،‬واكتشف أن ليذه الفقرة اليمدانية‬
‫أدركو وألفو وعرفو وتثبَّت منو اآلالف من الجغرافيين والرحالة والبمدانيين والمؤرخين والمعجميين‬
‫والقراء والباحثين‪!!..‬‬

‫ومن أجل ذلك‪ ،‬أقول بأن الربيعي قد وقع وأوقع نفسو ىنا في مشكمة عويصة ال حل ليا‬
‫أبداً‪ .‬فاألصل أن ىذه الفقرة في سياقيا الذي وردت فيو‪ ،‬وبمضمونيا الذي عبرت عنو تنقض‬
‫نظرية جغرافية التوراة في اليمن وتنسفيا من أساسيا‪ .‬وألنيا كذلك‪ ..‬وألنيا أيضاً مما لم يكن‬
‫بإمكانو أن يتجاىمو أو يتغافل عنو‪ ،‬فقد حاول أن يقدم ليا تفسي اًر آخر يتفق مع نظريتو‪ ،‬ولكنو‬
‫فشل فشالً ذريعاً في ذلك‪ ،‬فتعمد إخفاء فشمو وحجب انتباه القارئ عن مدلول تمك الفقرة‪.‬‬

‫كيف تعامل الربيعي مع تمك الفقرة اليمدانية؟! وىل نجح في تقديم تفسير ليا يتسق‬
‫ويتفق مع ما تقولو وتدعيو نظريتو؟!‬

‫وما ىي طبيعة المأزق الذي وقع فيو وما ىي دالالتو؟‬

‫[‪ .]0‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد بن عمي األكوع الحوالي‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫مكتبة اإلرشاد‪ ،‬صنعاء‪ .0991 ،‬ص ‪.30‬‬
‫‪165‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫ىذا ما سنجيب عميو في ىذا الفصل‪ ،‬باإلضافة الى أجوبة مماثمة سنقدميا عمى تساؤالت‬
‫أخرى‪ ،‬وسيكون ليا جميعاً دو اًر بالغ األىمية في الكشف عن حقيقة ما ىي عميو نظرية جغرافية‬
‫التوراة في عسير أو في اليمن كما قدميا إلينا روادىا من الباحثين العرب عمى سبيل العموم‪،‬‬
‫وعمى نحو ما قدميا لنا فاضل الربيعي عمى وجو الخصوص‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫)‪(1‬‬

‫هكذا حتدث فاضم انربيعي‬

‫ال بأس‪ ..‬ىذا ما نقولو دائماً‪..‬‬

‫فقد تطرق المفكر العربي فاضل الربيعي بشكل مباشر الى فقرة اليمداني المشار إلييا آنفاً‬
‫في ثالثة مواضع متفرقة من كتابو "فمسطين المتخيمة"‪ .‬موضعان منيا يقعان في المجمد األول‪،‬‬
‫والموضع الثالث يرد في المجمد الثاني من نفس الكتاب‪ :‬الموضع األول يقع في نياية مقدمة‬
‫الكتاب من المجمد األول في الصفحة (‪ ،)44‬ثم عمى القارئ أن يقطع مسافة قدرىا (‪)004‬‬
‫صفحة حتى يصل الى الموضع الثاني الذي تطرق فيو لفقرة اليمداني تمك في الصفحة (‪)418‬‬
‫من المجمد األول أيضاً‪ ،‬ثم عمى القارئ مرة أخرى أن يتجاوز قرابة (‪ )300‬صفحة متجاو اًز‬
‫المجمد األول حتى يصل الى الموضع الثالث الذي تطرق فيو لمفقرة اليمدانية في الصفحة رقم‬
‫(‪ )901‬من المجمد الثاني‪!!...‬‬

‫إزاء ذلك التقطيع والتفريق المتعمد‪ ،‬يخطر عمى البال سؤال عجيب وغريب‪ ،‬وىو‪:‬‬

‫لماذا كل ىذه الرحمة الشاقة إزاء فكرة جوىرية كان من األفضل ومن المنطقي ومن‬
‫المفروض أن يعالجيا الربيعي في نسق واحد؟!‬

‫عمي أن أورد ما‬


‫قبل المضي في تفسير طريقة الربيعي في التعامل مع فقرة اليمداني‪َّ ،‬‬
‫قالو وكتبو بشأن الفقرة اليمدانية في مواضعو الثالثة‪ ،‬وأن أضع القراء األعزاء في الصورة‬
‫كاممة‪ ،‬التي يتبين من خالليا الطريقة التي تعامل بيا مفكرنا العبقري الف ّذ مع تمك الفقرة‪،‬‬
‫والتفسير الذي خرج بو عمينا‪ ..‬فمنبدأ األمر‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫[‪]1‬‬

‫الموضع األول‪ :‬صفحة رقم (‪ )44‬من كتاب "فمسطين المتخيمة"‪ -‬المجمد األول‪:‬‬

‫يقول فيو الربيعي‪:‬‬

‫"إن شيادة اليمداني (‪334 -082‬ه) الثمينة‪ ،‬ووصفو الميداني لمنازل القبائل والتي سجميا‬
‫في كتابو الشيير "صفة جزيرة العرب"‪ ،‬ستعرض عمى متمقييا من القراء العرب‪ ،‬كما عمى القراء في‬
‫الغرب‪ ،‬صورة موازية ومتناظرة لألماكن والمواضع التي وردت في العيد القديم‪ .‬وقد تصيب – ىذه‬
‫الشيادة – الكثيرين بالذىول والحيرة واالرتباك وربما الصدمة وعدم التصديق‪ .‬ينقل اليمداني تصور‬
‫بطميموس لجغرافية جزيرة العرب القديمة في الصفحة (‪ )73‬من كتابو‪ ،‬ممي ازً بين فمسطين التاريخية‬
‫وبالد الييودية القديمة‪ ،‬وراسماً حدوداً فاصمة بينيما‪:‬‬

‫"وأما سائر أجزاء ىذا الربع الذي يمي وسط جميع األرض المسكونة وما يقع في جزيرة العرب‬
‫انية‬
‫منيا مثل (إيدوما) (وأرض سورية) (وأرض فمسطين) (وبالد الييود العتيقة من إيميا وتسمى بالعبر ّ‬
‫يرشمم‪ ،‬وتعربيا العرب فتقول أوراشمم)"‪.‬‬

‫فمماذا ميز اليمداني‪ -‬بدعم من بطميموس‪ -‬أرض فمسطين عن بالد الييود العتيقة من‬
‫إيمياء؟! وأية إيمياء ىذه التي عناىا بطميموس؟ وما صمتيا بحاضرة البحر الييودية التي أشار إلييا‬
‫القرآن الكريم بوصفو قرية عربية؟‪ -‬ىذه األسئمة وسواىا كثير‪ ،‬ستكون ىي اإلطار العمومي في‬
‫البحث عن الجغرافية الحقيقة لمتوراة‪ .‬إن إيمياء (إيمو) كما سوف نبرىن ىي في االمتداد الطبيعي‬
‫ألرض نجران القديمة‪ ،‬التي تشمل إيمة الجبل والقرية (حاضرة البحر)‪ ،‬التي اندثرت وكفت عن الوجود‪،‬‬
‫حيث انتقل اسميا مع ىجرات القبائل الى العقبة األردنية‪.‬‬

‫إن شيادة اليمداني التي نعيد اكتشافيا وتقديميا لمقراء تتطمب تأمالً عممياً عميقاً‪ ..‬ال مجرد‬
‫حماسات مفرطة في الرفض االعتباطي أو القبول المجرد من الفيم الصحيح‪."..‬‬

‫‪168‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫[‪]0‬‬

‫الموضع الثاني‪ :‬صفحة رقم (‪ )428‬من كتاب "فمسطين المتخيمة"‪ -‬المجمد األول‪:‬‬

‫يقول فيو الربيعي‪:‬‬

‫"إن ما يدعى في التوراة بجبال الييودية – أو مممكة ييوذا في التراث الكتابي‪ -‬ال يقصد بو‬
‫شمال فمسطين‪ ،‬وال يوجد دليل لغوي أو جغرافي عمى ذلك‪ ،‬بل يقصد بو سرو حمير (ونجران ىي في‬
‫آخر ى ذا السرو الممتد من صنعاء)‪ .‬ليذا السبب ميز اليمداني كما ميز الجغرافيون اليونان القدماء‬
‫بين فمسطين والييودية‪ .‬يقول اليمداني في كتابو (صفة‪ ،)73 :‬في سياق نص يعمق فيو عمى أقوال‬
‫بطميموس‪( :‬يورد الربيعي الفقرة اليمدانية مرة أخرى ىنا)‬

‫إذا كان المقصود ببالد الييودية القديمة‪ ،‬التي تعرف باسم إيميا عند بطميموس واليمداني‪ ،‬ىو‬
‫فمسطين عمى وجو التحديد وليس أي مكان آخر‪ ،‬فمماذا تم تمييزىا عن أرض فمسطين وأرض‬
‫سورية؟‪ -‬ال ريب أن التقسيم الفمكي الذي يعرضو اليمداني استناداً الى معارف اليونانيين‪ ،‬ييدف الى‬
‫رسم خريطة تتضمن أفضل ما يمكن من التوصيف لمطباع البشرية‪ ،‬طبقاً لتصورات القدماء عن تأثير‬
‫وفي ىذا التقسيم يمكن لممرء أن يالحظ صرامة التحديد لمبمدان القديمة‬ ‫المناخ في تكوينيا‪.‬‬
‫المتجاورة‪ .‬ودون الحط من قيمتو‪ ،‬فإنو يمثل أكثر التصورات الجغرافية الفمكية رواجاً في عصر‬
‫بطميموس‪ .‬ما يقولو ىذا االقتباس من اليمداني وبطميموس ببساطة ىو‪:‬‬

‫أن بالد الييودية العتيقة ىي جزء من الجزيرة العربية‪ ،‬وأنيا مكان بعينو في فضاء جغرافي‬
‫محدد ال صمة لو بفمسطين‪ ،‬ولذلك‪ ،‬فإن من الخطأ الشائع الذي روج لو االستشراقيون‪ ،‬والقائل‪ :‬إن‬
‫فمسطين عرفت باسم ايميا‪ -‬إيمياء ىو خطأ قابل بسيولة ألن يندرج في سياق التضميل‪ .‬وسوف‬
‫يتضح المقصود من ىذا التحديد عمى نحو ال يحتمل أدنى لبس‪ ،‬عندما نقوم بتحميل سفري المكابيين‬
‫األول والثاني‪ ،‬حيث دارت حروب اليونانيين ثم الرومان ىناك‪ .‬ىا ىنا فمسطين وىا ىنا بالد عتيقة‬
‫عرفيا العرب واليونانيين ببالد الييودية‪ .‬وبالطبع لم يقصدوا من ىذه التسمية البالد التي نعرفيا باسم‬
‫فمسطين"‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫[‪]3‬‬

‫الموضع الثالث‪ :‬صفحة رقم (‪ )562‬من كتاب "فمسطين المتخيمة"‪ -‬المجمد الثاني‪:‬‬

‫قبل أن أورد ما قالو الربيعي في ىذا الموضع‪ ،‬أود أن أنوه بأني وعمى أساس ما وعدنا بو‬
‫ىو في نياية قولو في الموضع السابق‪ ،‬بأنو سيوضح لنا األمر من خالل تحميمو لسفري‬
‫المكابيين األول والثاني‪ ،‬قمت بعمل رحمة غوص عميق في (‪ )00‬صفحة من السرد المشوش‬
‫واالنتقاالت المتقطعة والقعقعات المغوية التي يطرحيا‪ ،‬ألتفاجأ بعد ذلك بو وىو يقدم لنا نتيجة‬
‫التحميل في الصفحات (‪ ،)900 -901‬فماذا كانت النتيجة؟‪ -‬تعالوا لنرى‪!!..‬‬

‫يقول الربيعي‪:‬‬

‫"إن إعادة بناء الرواية التوراتية عمى أساس جديد يقطع مع التخييل االستشراقي‪ ،‬سيكون‬
‫ممكناً ومطموباً في اآلن ذاتو‪ ،‬وعندما تق أر األحداث في سياق طموح االمبراطورية الرومانية لبسط‬
‫نفوذىا عمى سواحل البحر األحمر‪ ،‬فإن ىذا وحده يفسر المعنى الذي ينطوي عميو تمييز اليمداني‬
‫نقالً عن بطميموس القموذي الجغرافي اليوناني‪ ،‬بين فمسطين وبالد الييودية‪ .‬لقد كانا يعرفان الفرق‬
‫الشاسع بين المكانين‪ ،‬ويدركان أن فمسطين في العصر الروماني المبكر شيء وبالد الييودية شيء‬
‫آخر‪.‬‬

‫إن الحدود المفيومية التي يقيميا اليمداني وبطميموس عمى حد سواء‪ ،‬بين أرض سورية‪:‬‬
‫بالد الشام وأرض فمسطين من جية‪ ،‬وبين بالد الييودية العتيقة من إيمياء‪ ،‬والتي كانت تعرف قديماً‬
‫بــ (يروشمم)‪ ،‬يجب أن يكون متضمناً لمعنى ما‪ ،‬واال فما ىو مبرر التمييز بين ىذه البمدان؟!‪ -‬ىذا‬
‫المعنى – من وجنة نظرنا‪ -‬يتمثل ىنا‪ :‬أن بالد الييودية العتيقة التي دارت فييا أحداث سفر‬
‫المكابيين ليست أرض فمسطين‪ ،‬كما أنيا ليست أرض سورية‪ -‬بالد الشام (أو جنوب الشام) بل ىي‬
‫مكان آخر‪.‬‬

‫وبكل تأكيد‪ ،‬فإن ىذا المكان اآلخر الذي تم تمييزه بأنو بالد الييودية العتيقة (أي البالد التي‬
‫ورثت مممكة ييوذا وتواصمت مع ديانتيا حتى ظيور الممك الحميري ذي نواس الذي أعاد بعث‬
‫الييودية في سائر أرجاء اليمن في العام ‪504‬م)‪ ،‬كان يعرف عند الجغرافيين اليونانيين باسم‬
‫يروشميم‪ ،‬ولو كانت يروشميم ىذه ىي ذاتيا مدينة القدس العربية في عصر بطميموس اليوناني‪ ،‬فمن‬
‫غير المنطقي أن يفصميا عن فمسطين؟ بل ال مبرر لتمييزىا أصالً‪ ،‬ولتوجب عمى بطميموس اليوناني‬
‫‪170‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫وىو الجغرافي الحاذق أن يقول‪ :‬يروشميم في فمسطين؟ بيد أن ىذا سيبدو أم ارً مخالفاً لمنطق‬
‫الجغرافية في عصر بطميموس‪ ،‬فيو يعرف أن يروشميم ىذه لم تكن في فمسطين ولم يكن اسميا‬
‫القدس أيضاً؟‬

‫ابتداءً من (‪ 022‬ق‪ .‬م) ونتيجة تدفق القبائل العربية العاربة ومنيا بقايا قبيمة بني اسرائيل‬
‫من ييود اليمن وسواحل البحر األحمر وتيامة ونجد اليمن‪ ..‬نحو جنوب الشام (فمسطين)‪ ،‬نتيجة‬
‫الحمالت العسكرية المدمرة التي طالتيا في مواطنيا األصمية‪ ..‬واستقرت ىذه القبائل بعد أن تممقت‬
‫الرومان ربما وتواطأت معيم ىناك في جنوب بالد الشام وىناك تركت ذكرياتيا في صورة أسماء قديمة‬
‫لممواضع واألوطان األم بالتالزم مع ظيور أولى التجمعات السكنية لمقبائل الييودية اليمنية‪ ،‬بعد أن‬
‫تصالحت مع عدوىا المدود وىو الرومان"‪.‬‬

‫ىكذا تعامل الربيعي مع الفقرة اليمدانية‪ ،‬وىكذا حاول أن يضمل القارئ عن المأزق الذي‬
‫وقع فيو‪ ،‬واالستمرار في االدعاء بأن فقرة اليمداني تمك بالفعل تدعم نظريتو‪.‬‬

‫اآلن‪ ..‬تأتي ميمتنا نحن‪ ،‬وىي إعادة قراءة وتحميل ما طرحو مفكرنا العربي بشأن ىذه‬
‫الفقرة‪ ،‬باألدوات التي نممكيا جميعاً وىي المنطق والعقل وحقائق الجغرافيا‪ ،‬ومن بعد ذلك سنعتمد‬
‫عمى حقائق عمم المغة والتاريخ وعمم اآلثار‪ ،‬وىذا كمو بالتوازي مع قراءة الربيعي لميمداني‬
‫وقراءتنا المستقمة ليذا األخير‪ .‬إذ يمكن ألي باحث أن يقوم بمراجعة ما قالو وكتبو الربيعي في‬
‫المواضع الثالثة أعاله‪ ،‬وأن يكتشف الى أي مدى يعج كالمو بالمغالطات واالنزالقات المفظية‬
‫والتعبيرية المقصودة والمتعمدة لتضميل القارئ واالستخفاف بو‪ ،‬فضالً عن االسقاطات‬
‫واالدماجات والتك اررات اإليحائية المضممة والخادعة‪ ،‬وتعبيرات السمب والمصادرة والتشويش‬
‫واإلرباك المتعمد‪ ،‬ومعاممة االفتراضات وكأنيا نتائج متوصل إلييا وتقريرىا والجزم بيا دون تقديم‬
‫أي دليل فعمي إلثباتيا‪.‬‬

‫وبصرت كثي اًر‪ ،‬واستعنت بقارئات الفنجان‪،‬‬


‫ّ‬ ‫يجدر التنويو ىنا‪ ،‬الى أني حاولت‪ ،‬وفتّشت‪،‬‬
‫وضاربات الودع‪ ،‬وأعشاب العطارين وطالسم سحرة الشامان في صحراء التبت‪ ،‬في سبيل‬
‫البحث عن أي اتساق موضوعي لممعالجات والتفسيرات التي قدميا الربيعي لفقرة اليمداني تمك‪،‬‬
‫ىباء مع الريح‪ .‬بقدر ما اتضح لي دائماً بأن كل ىذا الذي قام‬
‫إال أن كل تمك المحاوالت ذىبت ً‬

‫‪171‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫بو ىذا المفكر العبقري قام بو لغرض واحد وىو إخفاء حقيقة ىروبو الواضح من مواجية ما قالو‬
‫اليمداني عن موقع بالد الييود وأرض بني اسرائيل‪ ،‬واخفاء فشمو الذريع وعجزه المطمق عن‬
‫إيجاد مخرج لو ولنظريتو من ذلك المأزق الشديد الذي وضعتو فيو تمك الفقرة‪.‬‬

‫بشكل مبدئي يمكن لمقارئ أن يتحقق من صدقو الحقاً في ىذا الفصل والفصول التي‬
‫تميو‪ ،‬يمكن القول بأن مفكرنا العربي قد تعمد أن ينسل ىارباً من مواجية فقرة اليمداني بشأن‬
‫بالد الييود وأرض بني اسرائيل في المواضع الثالثة من كتابو والتي سردنا ما قالو فييا سمفاً‪،‬‬
‫وذلك بإخفائيا في ذيل مقدمتو أوالً‪ ،‬من حيث يعمم ىو– ونعمم نحن أيضاً بأن (‪ )%99‬من‬
‫القراء ال يقرؤون مقدمات الكتب‪ ،‬ومن يقرأىا منيم ال يقرأىا كاممة وال يقرأىا بعناية أو ييتم كثي ًار‬
‫بمضمونيا تاركاً إياىا ومنصرفاً عنيا الى فصول الكتاب أو مضامينو المباشرة‪.‬‬

‫وأخذاً باالعتبار بأن ىناك من يمكن أن يق أر المقدمة باىتمام وعناية‪ ،‬لم يجد الربيعي بداً‬
‫سوى أن يعطي وعداً لقرائو فييا بأنو سيقوم بمعالجة وتفسير كالم اليمداني عن بالد الييود‬
‫بشكل موسع في بحثو‪ ،‬مؤكداً عمى أنيا تعتبر شيادة ثمينة لمغاية‪ ،‬وىذا في وقت كان يعمم فيو‬
‫جيداً أنو لن يستطيع أن يفي بوعده‪ ،‬إذ أن ىروبو واضح لكل ذي عقل وبصيرة‪ ،‬من حيث عمد‬
‫الى إغراق القارئ عمى مدى (‪ )411‬صفحة بعد الموضع األول في مقاربات لغوية واسمية‬
‫وقصصية وسردية مشوشة لمغاية‪ ،‬وبعيدة كل البعد عما جاء في فقرة اليمداني تمك‪.‬‬

‫بيد أن مفكرنا العربي يعود مضط اًر ومضطرباً وقمقاً الى فقرة اليمداني في الموضع‬
‫الثاني‪ ،‬من حيث يفترض أن يقدم شيئاً جديداً يدل عمى أنو أوفى بوعده‪ ،‬لكنو لم يفعل ولم يأت‬
‫بأي إثبات أو تحميل ليا كما أوىم ووعد بذلك‪ ،‬بل وجدناه ييرب من مواجيتيا لممرة الثانية‬
‫بإحالة القارئ كما قال الى حيث سيقوم بمعالجتيا وتفسيرىا في سياق تحميمو لسفري المكابيين‬
‫األول والثاني‪ .‬غير أنو يعود ويغرق القارئ مرة ثانية في فضاء سردي مشوش بكثافة عالية الى‬
‫درجة أن أحداً ال يستطيع أن يمم بمحتوى صفحة واحدة مما أدوشنا بو بشكل واضح‪ ،‬وىذه المرة‬
‫قام بم َّد المسافة الفاصمة لتصبح زىاء (‪ )311‬صفحة أخرى‪ ،‬وعمى قدر اتساع ىذه المساحة‬
‫يتبين كم كان صاحبنا ميموماً مغموماً بما ينبغي أن يتوفر لو لكي يمارس تضميمو السردي‬

‫‪172‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫ويستمر في تقديم طرحو المشوش‪ ،‬والقيام بقفزاتو الغريبة والغير مبررة‪ ،‬فقط من أجل أن يتمكن‬
‫من إلياء القارئ وتضميمو عن متابعة ىذه المسألة‪.‬‬

‫الحقاً‪ ،‬بعد ىذا الموضع‪ ،‬يقدم الربيعي تفسي اًر وتحديداً جغرافياً ل ـ "إيميا" التي ىي بالد‬
‫الييود العتيقة والتي تسمى اورشميم كما ذكر اليمداني‪ ،‬من خالل بحثو عن مواقع أسماء أماكن‬
‫جغرافية وردت في التوراة وىي "عصيون جابر‪ ،‬زرد"‪ ،‬ثم في مكان نائي آخر يعالج بشكل‬
‫فج ومشوش اسم (إيمة) من ناحية مشكالت رسمو كتابياً‪ ،‬وفي كمتا الحالتين تصادفنا‬
‫سطحي ّ‬
‫أكثر المعالجات الربيعية فوضوية وتشويشاً‪ ،‬فضالً عن القدر البالغ الذي تنطوي عميو من الخمط‬
‫المقصود والتضميل والتحريف المتعمد‪.‬‬

‫في المجمد الثاني من كتابو "فمسطين المتخيمة"‪ ،‬يصل الربيعي الى منطقة تحميمو لسفري‬
‫المكابيين األول والثاني‪ ،‬فيبدأ في سرد وقائع وأحداث المعارك الرومانية التي يتوىم ويوىم القراء‬
‫بأنيا وقعت في اليمن‪ .‬فقد جعل مفكرنا العربي من اليمن متنزىاً لمجيوش المصرية واآلشورية‬
‫والرومانية واإلغريقية التي تذىب إلييا بين الحين واآلخر لتقوم بمعركة أو معركتين وتعود مرة‬
‫أخرى الى ثكناتيا في أطراف العالم القديم‪ ،‬مدعياً أن ذلك كمو تثبتو النصوص التوراتية في‬
‫السفرين ويؤيده اليمداني‪ ،‬ولكنو‪ -‬أي الربيعي‪ -‬لن يتطرق أبداً طوال صفحات تحميمو المكابي‬
‫لفقرة اليمداني تمك ولو بحرف واحد أو يستند الى أي نص آخر غيرىا يدعم ما ذىب إليو‪.‬‬

‫يستمر األمر كذلك‪ ،‬الى أن يفاجئنا الربيعي في الموضع الثالث الذي ذكر فيو تمك الفقرة‪،‬‬
‫وىو نياية المطاف بالنسبة لمتحميل والتفسير الذي وعد بو‪ ،‬حيث تبين أنو عجز بالفعل عن‬
‫الوفاء بذلك الوعد وحاول مجدداً إخفاء فشمو وعجزه عمى مدى ما يقارب (‪ )0011‬صفحة من‬
‫كتابو‪.‬‬

‫ىا ىو المفكر العربي الدكتور والبروفسور فاضل الربيعي يوىم القارئ في مناطق نائية‬
‫من كتابو بأنو قد أثبت من خالل سرده ‪ -‬الذي ال عالقة لو اطالقاً بفقرة اليمداني‪ -‬بأن ايميا‬
‫تقع في اليمن وأن اسميا باألصل ىو (ايمة) حاضرة البحر التي ذكرىا القرآن الكريم‪ ،‬ويخبرنا‬
‫بأنو يميز بين حاضرتين كالىما تحمل االسم نفسو (ايمة)‪ ،‬وكالىما كانتا موجودتان عمى ساحل‬

‫‪173‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫البحر األحمر ولكنيما اندثرتا واختفتا من الوجود تماماً‪ ،‬وأن المياجرين من القبائل العربية ومنيم‬
‫قبيمة بني اسرائيل نقموا اسم (ايمة) ىذه مع جممة ما نقموه من األسماء والمسميات األخرى‬
‫وأطمقوىا عمى المناطق التي سكنوىا في فمسطين الحقاً‪ ،‬إذ اطمقوا اسم (ايمة) ىذه عمى ايمة التي‬
‫في خميج العقبة‪ -!!..‬وىي كما أشرت سمفاً واحدة من أكثر المعالجات الربيعية تشويشاً وارتباكاً‪،‬‬
‫وأكثرىا تمفيقاً وتضميالً‪.‬‬

‫وىكذا‪ ،‬فإن صاحبنا وضع افتراضاً واعتبره نتيجة حاسمة‪ ،‬دون أن يناقشو أو يقوم بتحميمو‬
‫واالستدالل عمى صحتو تاريخياً أو لغوياً أو جغرافياً‪ ،‬بل قعقع الفرضية وأعاد تقديميا باعتبارىا‬
‫نتيجة في سياق معالجة مشوشة ومزرية لمغاية‪ ،‬قام بيا عمى نحو متصنع ومتكمف‪ ،‬وىو يعمم‬
‫جيداً بأنو يقوم بعممية تمفيق واضحة لممسألة بقصد تضميل القارئ واييامو‪.‬‬

‫إن القارئ المطمع بدرجة أساسية وكافية حينما يق أر كتاب "فمسطين المتخيمة"‪ ،‬ويتوقف عند‬
‫ىذه الفقرة التي أوردىا اليمداني في كتابو "صفة جزيرة العرب"‪ ،‬ويتأمل كيف تعامل معيا‬
‫الربيعي‪ ،‬البد وأن يشعر بأن ىناك بالفعل مشكمة إزاء الطريقة التي تعامل بيا معيا‪ ،‬بالرغم من‬
‫أن كالم اليمداني فييا كان واضحاً وصريحاً‪ .‬كما ويشعر القارئ أيضاً بأن ىناك بالفعل خطأً‬
‫واضحاً وتعسفاً مقصوداً في تفسيرىا‪.‬‬

‫تزداد شدة ىذا الشعور لدى القارئ وتزداد شكوكو أكثر وأكثر‪ ،‬عندما يحاول أن يمتمس‬
‫سبباً وجيياً ومنطقياً يبرر لمربيعي أن يتعرض لتمك الفقرة اليمدانية في مواضع متباعدة عن‬
‫بعضيا البعض‪ ،‬دون أن يصاحب ذلك أي معالجة أو تفسير متماسك ليا‪ ،‬وذلك بالرغم من‬
‫أىمية تمك الفقرة وخطورتيا عمى نظريتو‪.‬‬

‫ىذه ىي استراتيجيتو المفكر العربي الفاضل دائماً في التضميل والتمفيق والمراوغة والخداع‬
‫والتي يمكن التماسيا في كل كتبو‪ .‬إذ يتعمد دائماً أن يجعل القارئ يشك بنفسو إزاء أي شعور‬
‫يراوده بأن ىناك خطأً ما في كتابو وتفسيره‪ ،‬أو حين يكتشف القارئ بأن تفسير مفكرنا قد تناقض‬
‫بشكل واضح في ىذه المسألة أو تمك‪ .‬فغالباً ما يقوم القارئ بتفسير تمك المشكمة بأنيا ناتجة عن‬
‫عدم استيعابو لمطرح‪ ،‬بدالً من أن يوجو أصابع الشك والريبة صوب مؤلف الكتاب‪ ،‬خاصة وأن‬

‫‪174‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫ذلك يتم في ذىن القارئ بشكل عفوي وتمقائي‪ ،‬بحيث يندفع فيو نحو تكوين انطباع ضمني‬
‫مضمر وغير معمن بأنو ىو من لم يستوعب الطرح‪ ،‬وكأنو يقول لنفسو وفي نفسو‪:‬‬

‫"أوووه‪ ..‬لقد طرح الربيعي طرحاً مفصالً وقدم تفسي ارً مقنعاً‪ ،‬ولكني أنا من لم‬
‫استوعبو جيداً‪ ..‬حسناً‪ ،‬يا لو من تفسير مقنع"‪!!..‬‬

‫ىكذا يكون حال القارئ الم َّ‬


‫دجن‪.‬‬

‫أما القارئ اليقظ‪ ،‬والقارئ الكيس الفطن‪ ،‬فالبد أن يكون لو موقف آخر‪.‬‬

‫بكل بساطة‪ ،‬فإن كل من يعود الى كتاب اليمداني ويقابل بينو وبين ما أورده الربيعي‪،‬‬
‫سيجد أن ىذا األخير قد وقع فعالً في مأزق صعب‪ ،‬إذ يكفي أن تكون لدى القارئ خمفية لغوية‬
‫وتاريخية وجغرافية مناسبة‪ ،‬ليتأكد فعالً من أن فقرة اليمداني تمك جاءت دقيقة بما يكفي لتكشف‬

‫عن مدلوليا الصريح‪ ،‬ومن ثم عن ذلك المأزق الفاضح الذي وقع فيو صاحبنا ولم يتمكن أبداً‬
‫من الخروج منو‪ ،‬وسرعان ما يبدأ القارئ الحصيف في اكتشاف الدجل والتحريف الذي قام بو‬
‫صاحب فمسطين المتخيمة عن سبق اصرار وترصد‪.‬‬

‫من أجل أن نشترك معاً في الكشف عن حقيقة التمفيق والتحريف والتضميل المتعمد‬
‫والمقصود من قبل مفكرنا العبقري العظيم فاضل الربيعي‪ ،‬سنغض الطرف مؤقتاً في السياق‬
‫التالي عن كثير من التعبيرات الخادعة والعبارات المضممة التي استخدميا في المواضع اآلنفة‬
‫الذكر من كتابو‪ ،‬ونجعل تركيزنا منصباً عمى موقفو من صريح تمك الفقرة التي أوردىا اليمداني‪،‬‬
‫والتي أكد لنا الربيعي في نياية مقدمة كتابو بأنيا فقرة محورية وجوىرية وأنيا شيادة من‬
‫اليمداني تؤكد ما ذىب إليو‪ ،‬وىذا كمو في السياق الذي نتحقق فيو من مدى صدق وواقعية‬
‫وموضوعية التفسير الذي قدمو لنا‪ ،‬ناىيك وأن لفقرة اليمداني ىذه أىمية بالغة في اختبار مدى‬
‫صدقية وموضوعية وعممية نظرية جغرافية التوراة برمتيا‪.‬‬

‫ومن أجل ذلك أيضاً‪ ،‬البد من أن نتخذ لألمر تدرجاً مناسباً يمكننا جميعاً من ادراك‬
‫المشكمة التي واجييا الربيعي مع ما أثبتو اليمداني في تمك الفقرة المحورية من كتابو‪ ،‬والمأزق‬

‫‪175‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫الذي أوقع نفسو فيو‪ ،‬وكيف فشل وعجز تماماً عن معالجة تمك المشكمة والخروج من مأزق‬
‫محاولة التعسف في تفسيرىا‪.‬‬

‫وبال شك‪ ،‬فإن من شأن ىذا المسار الذي اتخذناه تمكين القراء األعزاء من إدراك مدى‬
‫موضوعية وقوة وصالبة وثبات األدلة التي سنعرضيا في ىذا االتجاه‪ ،‬ومدى تكامميا وتناغميا‬
‫جميعاً في كشف حقيقة الخداع والتضميل الذي مارسو الربيعي بصورة واضحة ال لبس فييا وال‬
‫غموض‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫)‪(2‬‬

‫هكذا حتدث اهلمداني‬

‫يمكن توضيح المأزق الذي وقع فيو الربيعي نتيجة تعاممو التعسفي وغير المنطقي مع فقرة‬
‫اليمداني من عدة جوانب متصمة‪ ،‬من السيل جداً اكتشافيا والتحقق منيا في كتاب اليمداني‬
‫نفسو‪ ،‬وفي غيره من كتب البمدانيات والجغرافيا والمعاجم الجغرافية التي صنفيا العمماء العرب‬
‫طوال (‪ )311‬سنة من عصور النيضة العربية‪ ،‬عندما كانت أوروبا ترقد في أوحال جيميا‬
‫ومستنقعات تخمفيا‪ ،‬وىي العصور التي سادت فييا الثقافة والعموم العربية عمى العالم بأسره‪،‬‬
‫وخمَّف فييا العمماء العرب والمسممون المئات من المصنفات واألعمال الجغرافية التي مازال‬
‫عمماء الشرق والغرب الى اليوم يشيدون بيا‪ ،‬وبدورىا في صعود الغرب ونيضتو‪ .‬فما اليمداني‬
‫إال اسم واحد من سمسمة طويمة من قائمة أسماء الجغرافيين العرب الذين قاموا بتحقيق طفرة‬
‫عممية مجيدة في حقل الدراسات الجغرافية في تمك الفترة الممتدة من القرن التاسع الى القرن‬
‫الرابع عشر الميالدي‪ ،‬والتي كان ليا الدور األكبر في التأسيس لمكشوفات الجغرافية التي نقمت‬
‫أوروبا من العصر الوسيط الى عصر النيضة ومنيا الى عصر التنوير ثم الى العصر الحديث‪.‬‬

‫تجسد فقرة اليمداني تمك واحدة من أىم وأشير الحقائق الجغرافية الثابتة منذ عصر‬
‫بطميموس القموذي وحتى عصر اليمداني نفسو‪ ،‬والى ما بعد عصر اليمداني بقرون طويمة بل‬
‫وحتى اليوم الذي يحاول فيو البعض تشويش الحقائق وتزييفيا‪ .‬فالربيعي لم يقفز عمى مجرد فقرة‬
‫صغيرة أوردىا اليمداني في سطر أو سطرين من كتابو‪ ،‬بل قفز عمى حقائق جغرافية ثابتة‬
‫وراسخة وال يمكن ألحد طمرىا أبداً‪ ،‬كما عمد أيضاً الى تحريف تمك الحقائق وتزييفيا‪ ،‬وليذا‬
‫نقول أن الرجل وضع نفسو في مأزق حرج لمغاية ومأزق ليس لو حل أبداً‪ ،‬من حيث أنو استخف‬
‫وألغى وقمل من شأن نتائج ومخرجات ما يزيد عن (‪ )311‬سنة من المعرفة الجغرافية التي‬

‫أنتجيا العرب المسممون وقاموا بتطويرىا في نسق عالمي شمولي‪ ،‬ومن حيث تعمد أيضاً‬

‫‪177‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫االستخفاف بعقول القراء وتشويش وعييم التاريخي والجغرافي‪ ،‬لصالح أن يقال عنو أنو جاء‬
‫بنظرية راديكالية‪ /‬ثورية تفند ادعاءات المستشرقين‪.‬‬

‫وىكذا‪ ،‬فإن عمى المفكر والبروفسور فاضل الربيعي أن يواجو اليمداني أوالً‪ ،‬إزاء ما‬
‫عبرت عنو فقرتو تمك‪ ،‬وأن يواجو من بعد ذلك كل ما يوازييا ويعبر عن مضمونيا في كتب‬
‫الجغرافيين والبمدانيين والرحالة والمؤرخين واإلخباريين العرب والمسممين‪ ،‬الذين عاشوا في عصر‬
‫السيادة العربية الكاممة عمى الثقافة العالمية والعموم البشرية كميا‪.‬‬

‫واآلن‪ ،‬البد من اعطاء فكرة واضحة عن خطة كتاب صفة جزيرة العرب وىيكمو‬
‫الموضوعي‪ ،‬نظ اًر ألىمية ذلك في توضيح األمر الذي نحن بصدده اآلن‪ .‬إذ يتألف كتاب صفة‬
‫جزيرة العرب لميمداني بصورة عامة من قسمين‪ ،‬قسم عام وقسم خاص‪ ،‬كاآلتي‪:‬‬

‫القسم األول العام‪ ،‬بعنوان "صفة جزيرة العرب"‪ ،‬واستعرض اليمداني فيو وصفو لمجزيرة‬
‫العربية عمى سبيل العموم‪ ،‬من خالل بيان موقعيا الجغرافي بالنسبة لألقاليم الجغرافية والمناخية‬
‫التي قسميا الجغرافيون اإلغريق لألرض‪ ،‬والمعروفة باسم "األقاليم السبعة"‪ ،‬وىو التقسيم الذي‬
‫يعتمد عمى خطوط العرض لكل أجزاء األرض المعروفة في العصور القديمة والوسيطة‪ ،‬بمعنى‬
‫أن ىذا التقسيم يفترض أنو يشمل األرض المأىولة كميا بحسب المعارف الجغرافية التي كانت‬
‫متوفرة آنذاك‪ ،‬باإلضافة الى وصف حدود جزيرة العرب‪ ،‬والقياسات المتعمقة بمساحتيا وطوليا‬
‫وعرضيا‪ ،‬والمسافات الفاصمة بين أجزائيا وأشير المدن الواقعة داخل حدودىا‪ ،‬والتأثيرات‬
‫المناخية عمى طباع سكان كل جزء من أجزائيا‪.‬‬

‫يبدأ القسم العام من عند الباب الذي عنوانو "معرفة أفضل البالد المعمورة"‪ ،‬وينتيي بالباب‬
‫الذي عنوانو "معرفة تفصيل الجزيرة عند أىل اليمن"‪.‬‬

‫القسم الثاني الخاص‪ ،‬وعنوانو "صفة اليمن الخضراء"‪ ،‬وفيو يقدم اليمداني وصفاً جغرافياً‬
‫لميمن الطبيعي باعتباره من أىم أجزاء جزيرة العرب‪ ،‬شمل ىذا الوصف تحديد الحدود الشمالية‬
‫لميمن والتي تفصميا عن نجد والحجاز‪ .‬كما وصف الجزر والمدن واألماكن والوديان ‪ ..‬وغير‬
‫ذلك مما يقع في نطاق الجغرافية اليمنية بتفصيل عميق ونادر لم يتكرر‪.‬‬
‫‪178‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫وعميو‪ ،‬يمكن أن نستيل بيان المأزق العويص الذي وقع فيو الربيعي‪ ،‬بطرح سؤال مفاده‪:‬‬

‫ىل قال اليمداني بأن الشام وسوريا وفمسطين ولبنان تدخل ضمن جزيرة العرب؟‬

‫الجواب المختصر ىو‪ :‬نعم‪ ،‬لقد قال وأكد وبيَّن لنا ذلك في عدة مواضع من كتابو‪ .‬وىذا‬
‫ما يقع عميو مناط التأكيد في بيان المأزق الذي وقع فيو مفكرنا العبقري‪.‬‬

‫وصف اليمداني حدود جزيرة العرب‪ ،‬كما يمي‪:‬‬

‫"وانما سميت بالد العرب الجزيرة إلحاطة البحار واألنيار بيا من أقطارىا وأطرارىا‪ ،‬وصاروا‬
‫منيا في مثل الجزيرة من جزائر البحر‪ ،‬وذلك أن الفرات القافل الراجع من بالد الروم يظير بناحية‬
‫َّ‬
‫انحط عمى الجزيرة وسواد العراق حتى دفع في البحر من ناحية البصرة واألبمة وامتد إلى‬ ‫َّقنسرين ثم‬
‫مغربا ببالد العرب منعطفاً عمييا فأتى منيا عمى سفوان وكاظمة‬
‫عبَّادان وأخذ البحر من ذلك الموضع ِّ‬
‫ونفذ إلى القطيف وىجر وأسياف البحرين وقطر وعُمان و ِّ‬
‫الشحر ومال منو عنق إلى حضرموت وناحية‬
‫أبين وعدن ودىمك‪ ،‬واستطال ذلك العنق فطعن في تيائم اليمن بالد فرسان وحكم واألشعريين ٍّ‬
‫وعك‬
‫ومضى إلى جدة ساحل مكة والجار ساحل المدينة وساحل الطور وخميج أيمة وساحل راية ‪ -‬كورة من‬
‫كور مصر البحرية ‪ -‬حتى بمغ قمزم مصر وخالط بالدىا وأقبل النيل من غربي ىذا العنق من أعمى‬
‫بالد السودان مستطيالً معارضاً لمبحر معو حتى دفع في بحر مصر والشام ‪ -‬ثم اقبل ذلك البحر من‬
‫األردن وعمى بيروت‬
‫ّ‬ ‫مصر حتى بمغ بالد فمسطين فمر بعسقالن وسواحميا وأتى عمى صور ساحل‬
‫وذواتيا من سواحل دمشق‪ ،‬ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل َّقنسرين‪ ،‬حتى خالط الناحية التي أقبل‬
‫[‪]1‬‬
‫منيا الفرات منحطاً عمى أطراف َّقنسرين والجزيرة إلى سواد العراق" ‪.‬‬

‫كان ىذا وصفاً جغرافياً لحدود جزيرة العرب من نقطة بدأ بيا اليمداني من (نير الفرات‬
‫القافل الراجع من بالد الروم يظير بناحية َّ‬
‫قنسرين)‪ ،‬متخذاً دورة كاممة حتى عاد الى نفس‬
‫النقطة (التي أقبل منيا الفرات منحطاً عمى أطراف َّ‬
‫قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق)‪.‬‬

‫[‪ .]0‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪179‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫في ىذا الشأن‪ ،‬ال أنسى التوجو بالشكر الجزيل الى كل من (سفير جاسم حسين وىدى‬
‫عيدان الربيعي) الباحثان في الجغرافيا الطبيعية من العراق الحبيبة‪ ،‬والمذان وف ار عمينا عناء‬
‫تصميم خريطة توضيحية دقيقة لحدود جزيرة العرب كما حددىا اليمداني‪.‬‬

‫[‪]1‬‬
‫خريطة رقم (‪ :)1‬حدود جزيرة العرب كما وصفيا اليمداني ‪.‬‬

‫وفق خريطة حدود جزيرة العرب لميمداني‪ ،‬فإن جزيرة العرب جزيرة وليست كما ييرف‬
‫الكثيرون اليوم بأنيا شبو جزيرة ال تدخل في نطاقيا ال بالد الشام وال بالد العراق‪.‬‬

‫إن جزيرة العرب كما يصفيا لنا اليمداني يحدىا من الشمال الشط األعمى لنير الفرات‬
‫كحد فاصل بينيا وبين بالد الترك‪ ،‬ومعروف أن تمك المناطق كانت تعرف ومازالت بأنيا ديار‬

‫[‪ .]0‬سفير جاسم حسين وىدى عيدان جبار الربيعي‪ :‬المالمح الجغرافية الطبيعية في كتاب صفة جزيرة العرب‬
‫لميمداني‪ ،‬مجمة اوروك لمعموم االنسانية‪ ،‬جامعة المثنى‪ ،‬العراق‪ ،‬المجمد (‪ ،)9‬العدد (‪ .0100 ،)4‬ص ص‬
‫‪ .013 -91‬ص ‪.90‬‬
‫‪180‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫ومنازل القبائل العربية الشمالية التي تنسب نفسيا الى الفرع الياجري‪ -‬االسماعيمي من الساللة‬
‫االبراىيمية‪ -‬نسبة الى إسماعيل عميو السالم وأمو ىاجر‪ ،‬ومنيا قبائل بكر وتغمب وربيعة واياد‬
‫والتي ثبت عنيا قديماً وحديثاً أنيا سكنت وتسكن في مناطق الفرات والجزيرة الفراتية وبادية‬
‫الشام‪ ،‬وجميعيا ىذه القبائل التي ذكرناىا وغيرىا أيضاً تمثل بنو عمومة الفرع الساري‪ -‬نسبة‬
‫الى سارة‪ -‬من الساللة االبراىيمية‪ ،‬وىو الفرع المشيور عبر التاريخ وفي التوراة بـاسم "بني‬
‫اسرائيل"‪.‬‬

‫بين اليمداني‬
‫خريطة رقم (‪ :)0‬منازل القبائل العربية في القرن السابع الميالدي عمى كامل جزيرة العرب كما ّ‬
‫حدودىا الجغرافية‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫في ضوء ذلك‪ ،‬عمينا أن نتوقع وجود تفسير جغرافي وتاريخي مقنع بالفعل كان لدى‬
‫اليمداني ولدى سائر الجغرافيين والمؤرخين في عصره‪ ،‬تفسير يعمل ويفسر لنا لماذا وصفت‬
‫سوريا بأنيا أرض بني اسرائيل‪ ،‬مع التنويو الى أن استخدام اليمداني لتسمية (سوريا) يكشف‬
‫عن دقة موضوعية وجغرافية بالغة‪ ،‬من حيث أنو لم يستخدم باألساس تسمية (بالد الشام) التي‬
‫استخدميا في (‪ )00‬موضع من كتابو‪ ،‬لكنو في ىذه الفقرة بالذات استخدم اسم (سوريا)‪ ،‬ومن‬
‫ثم‪ ،‬فإن اشارة اليمداني الفريدة الى أن سوريا ىي أرض بني اسرائيل تستحق االىتمام والبحث‬
‫والتحري العميق‪.‬‬

‫نستنتج مما سبق‪ ،‬أن أي رابطة وضعيا اليمداني تشير الى ارتباط بالد الييود من إيميا‬
‫التي ىي أورشميم بجزيرة العرب‪ ،‬ىي باألساس رابطة أصيمة وقائمة بأصالتيا جغرافياً من حيث‬
‫أن أرض سوريا وايدوما وأرض فمسطين وبالد الييود تقع باألساس جميعاً داخل حدود جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬وليس كما ىو االعتقاد السائد بأن حدود جزيرة العرب ىي حدود بالد الشام وسوريا‬
‫وفمسطين والعراق‪ .‬وبالتالي فإن ىذه الرابطة تسقط أي اعتبار ألي تفسير يضع إيميا التي تسمى‬
‫أورشميم في نطاق جغرافية اليمن كما يدعي ويتوىم مفكرنا الفاضل‪.‬‬

‫لقد تعمد فاضل الربيعي التضميل والتمفيق في تفسيره ومعالجتو لما جاء في تمك الفقرة من‬
‫كتاب اليمداني‪ ،‬معتمداً عمى الفكرة الرائجة التي تقول بأن بالد العراق والشام ال تدخالن ضمن‬
‫جزيرة العرب‪ ،‬األمر الذي يتبين معو تجاىمو الصارخ لحدود جزيرة العرب كما حددىا اليمداني‪،‬‬
‫وتعسفو في تفسير تمك الفقرة بقولو أن اليمداني ومن قبمو بطميموس إنما قصدا أن بالد الييود‬
‫كانت في اليمن‪.‬‬

‫ولسوف نثبت بعد قميل وبالدليل القاطع أن ىذا ىراء ال أكثر‪.‬‬

‫نعود الى اليمداني وكتابو‪ ،‬ونستكمل عرض البينات الجغرافية التي تدحض وتثبت زيف‬
‫ما يدعيو الربيعي‪ ،‬وذلك في ضوء ما تضمنو القسم الثاني من كتاب صفة جزيرة العرب‪ ،‬والذي‬
‫خصصو صاحبو لوصف جغرافية اليمن الطبيعية‪ .‬فمن المنطقي أن يحدد لنا اليمداني حدود‬
‫اليمن من الجية الشمالية بالنسبة لبقية أجزاء جزيرة العرب‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬

‫‪182‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫"وصار ما احتجز بو في شرقيو من الجبال وانحدر إلى ناحية فيد وجبمي طيّ إلى المدينة‬
‫وراجعاً إلى أرض مذحج من تثميث وما دونيا إلى ناحية فيد‪ ،‬حجاز‪ ،‬فالعرب تسميو نجداً وجمساً‬
‫وحجا ازً والحجاز يجمع ذلك كمو‪ .‬وصارت بالد اليمامة والبحرين وما واالىا العروض وفييا نجد وغور‬
‫لقربيا من البحار وانخفاض مواضع منيا‪ ،‬ومسايل أودية فييا والعروض يجمع ذلك كمو‪ .‬وصار ما‬
‫خمف تثميث وما قاربيا إلى صنعاء وما واالىا إلى حضرموت و ِّ‬
‫الشحر وعُمان وما يمييا اليمن‪ ،‬وفييا‬
‫[‪]1‬‬
‫التيائم والنجد واليمن تجمع ذلك كمو" ‪.‬‬

‫إزاء حدود جغرافية اليمن الشمالية‪ ،‬تكفل الباحث الجغرافي األستاذ عبد اهلل محمد ظافر"‬
‫من اليمن‪ ،‬بتزويدنا بخريطة توضيحية دقيقة لحدود اليمن كما وصفيا اليمداني‪:‬‬

‫[‪]0‬‬
‫خريطة رقم (‪ :)3‬الحدود الشمالية لميمن الطبيعي حسب وصف اليمداني ‪.‬‬

‫[‪ .]0‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫[‪ .]0‬عبد اهلل محمد ظافر‪ :‬نزىة المشتاق لميمن‪ -‬حدود وخرائط وشؤون اليمن في البمدانيات من القرن التاسع‬
‫وحتى القرن الرابع عشر الميالدي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مكتبة خالد بن الوليد‪ -‬دار الكتب اليمنية‪ ،‬صنعاء‪.0103 ،‬‬
‫ص ‪.00‬‬
‫‪183‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫إن المغزى من عرض ىذه الخرائط‪ ،‬يتعمق في كونيا تبين بشكل واضح جغرافياً الى أي‬
‫مدى بمغت دقة اليمداني وموضوعيتو ومعرفتو الجغرافية العميقة بتفاصيل وأبعاد ومكونات‬
‫وطبيعة جزيرة العرب عموماً واليمن عمى وجو الخصوص‪ .‬فعندما وصف اليمداني جغرافية‬
‫اليمن‪ ،‬نجده وقد قام بسرد أسماء مدنيا وقراىا‪ ،‬وأوديتيا‪ ،‬وجباليا‪ ،‬وىضابيا‪ ،‬وصحارييا‪،‬‬
‫وجزرىا البحرية‪ ،‬وأمطارىا‪ ،‬وطقسيا‪ ..‬وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة التي حرص عمى أالَّ‬

‫يفوتو شيئاً مما كان قد شاىده وعاينو عمى أرض الواقع منيا أو تثبت منو بطريق آخر غير‬
‫المشاىدة المباشرة‪ ،‬فأبدع في ذلك عمى نحو لم يسبقو إليو أحد من قبمو‪ ،‬ولم يقم بو أحد من‬
‫بعده‪.‬‬

‫وفي الوقت الذي يصمم فيو الربيعي عمى أن اليمداني ومن قبمو بطميموس قد أشا ار من‬
‫خالل ذلك الفصل والتمييز الذي اظيراه بين بالد الييود وفمسطين‪ ،‬بأنيما إنما قصدا أن بالد‬
‫الييود ال تجاور فمسطين بل تقع في فضاء جغرافي آخر ضمن جغرافية اليمن‪ ،‬نجد أن‬
‫اليمداني في وصفو الدقيق لجغرافية اليمن الطبيعي لم يذكر أو يشر بحرف واحد الى أرض أو‬
‫بمد أو قرية أو جبل أو صخرة أو حصاة صغيرة اسميا "بالد الييودية التي من إيميا والتي اسميا‬
‫اورشمم‪ ،‬وتعربيا العرب أورشميم" بأنيا موجودة في نطاق جغرافية اليمن‪.‬‬

‫فأين ضاعت ايميا ىذه التي كانت بالد الييود عمى اليمداني بحيث لم يراىا ولم يذكرىا‬
‫ولم يمتفت إلييا؟ وأين اختفت اورشميم؟ وكيف يعقل أن يفوت عمى اليمداني ذكر مكان في اليمن‬
‫اسمو ىكذا‪ ..‬أو صفتو كتمك التي تدعييا التوراة ويدعييا صاحبنا الربيعي؟!‬

‫إن ىذا بحد ذاتو يدحض مثل ىذا اإلدعاء ويؤكد بما ال يدع مجاالً لمشك بأن تفسيره‬

‫تفسير تمفيقياً خادعاً‬


‫اً‬ ‫الذي قدمو في معرض البحث العممي والجغرافي والتاريخي ليس إال‬
‫ومضمالً‪ ،‬بل وتحريفاً متعمداً لمحقائق‪ ،‬وتعسفاً واضحاً في التعامل مع النصوص التاريخية‬
‫والجغ ارفية‪ ،‬وىذا ما سيتأكد لنا بوضوح شديد لمغاية في المبحث التالي‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫)‪(3‬‬

‫هكذا حتدث بطهيموس‬

‫عمى نفس المسار‪ ،‬يتبين المأزق الذي وقع فيو الربيعي مع اليمداني من جانب آخر ال‬
‫يتعمق فحسب بحدود جزيرة العرب وجغرافية اليمن الطبيعية وحدودىا كما بينيا لنا اليمداني‪ ،‬بل‬
‫وباألساس الجغرافي الذي استند إليو بطميموس ونقمو عنو اليمداني وسائر الجغرافيين العرب‪،‬‬
‫في تقسيم األرض المأىولة أو المعمورة في تمك العصور الى أقاليم جغرافية محددة‪.‬‬

‫ما حصل ىو أن مفكرنا الفاضل تجاىل تماماً البنية الموضوعية والييكمية لكتاب‬
‫اليمداني‪ ،‬واألساس االبستمولوجي (المعرفي) لمجغرافية البطممية التي استند إلييا‪ ،‬فمضى في‬
‫تقديم تفسيره لفقرة اليمداني المشار إلييا سمفاً دون أن يأخذ باالعتبار السياق الذي وردت فيو‪،‬‬
‫أو األساس الذي قامت عميو‪ .‬فاعتبر وأكد ‪ -‬بل وقطع وأجزم‪ -‬بأن اليمداني إنما أراد أن يقول‬
‫لنا بأن ب الد الييود "إيميا" والتي منيا أورشميم تقع في اليمن وليس في فمسطين‪ ،‬وأن ىذا ىو ما‬
‫ميز بشكل صريح ‪ -‬وبدعم من بطميموس‪ -‬بينيا وبين فمسطين‪.‬‬
‫قصده اليمداني عندما ّ‬

‫يرى الربيعي أن فمسطين المقصودة عند اليمداني ىي تمك التي تقع بجنوب الشام‪ ،‬أما‬
‫بالد الييود إيميا التي منيا اورشميم‪ ،‬فتقع في جبال السراة اليمنية تارة‪ ،‬وتارة أخرى يقول بأنيا تقع‬
‫عمى سواحل البحر األحمر‪.‬‬

‫عمى كل حال‪ ،‬سنناقش التحديدات الجغرافية التي قدميا في ىذا الشأن بتفصيل كافي في‬
‫فصول قادمة‪.‬‬

‫بالعودة الى كتاب اليمداني‪ ،‬نجد أن فقرتو تمك جاءت في القسم العام من كتابو‪ ،‬والذي‬
‫كان يصف فيو جزيرة العرب عمى سبيل العموم‪ ،‬وبالتحديد في السياق الذي كان فيو يتحدث عن‬
‫موقع جزيرة العرب وموقع كل جزء منيا بالنسبة لألقاليم المناخية السبعة‪ ،‬وتأثير اختالف المناخ‬
‫عمى طبائع سكان كل جزء من أجزاء جزيرة العرب‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫لكي يتضح األمر‪ ،‬أرى ضرورة في إعطاء فكرة واضحة وموجزة عن جغرافية بطميموس‬
‫وتقسيمو األرض المعمورة الى سبعة أقاليم عمى أساس نظرية المناخ التي كانت سائدة في‬
‫عصره‪ ،‬والتي أخذ بيا الجغرافيين العرب والمسممين ومنيم أبو الحسن اليمداني‪.‬‬

‫كان بطميموس (‪030 -39( )Ptolemaeus‬م) قد قسم العالم المعروف في عيده إلى‬
‫سبعة أقاليم عمى أساس طبيعي بصفة عامة‪ ،‬ومناخي بصفة خاصة ىو درجة الح اررة‪ ،‬ويعرف‬
‫الواحد منيا باسم (اقميم) (‪ .]1[)Klimata‬ومن ثم‪ ،‬فقد رسمت األقاليم السبعة لبطميموس عمى‬
‫ىيئة أحزمة عريضة تمتد من أقصى الشرق الى أقصى الغرب فوق خط االستواء‪ ،‬ويختمف كل‬
‫إقميم عن اآلخر بعد ساعات النيار فيو[‪.]0‬‬

‫خريطة رقم (‪ :)4‬خريطة العالم لبطميموس موضح فييا تقسيمو لألقاليم السبعة‬

‫[‪ .]0‬أحمد محمد عبد العال‪ :‬دراسات في الفكر الجغرافي‪ ،‬بدون بيانات الطبعة والناشر ومكان النشر‪.0110 ،‬‬
‫ص ‪.9‬‬
‫[‪ .]0‬شاكر خصباك‪ :‬التراث الجغرافي عند العرب‪ ،‬المؤسسة العربية لمدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬بدون تاريخ‬
‫النشر‪ .‬ص ‪.94‬‬
‫‪186‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫تنويه‪:‬‬

‫جرت عادة الجغرافيين القدماء أن يرسموا الخرائط مقموبة‪ ،‬بحيث تظير مناطق الجيات‬
‫الجنوبية في األعمى والجيات الشمالية في األسفل‪ ،‬مع االحتفاظ بكون الجنوب جنوباً والشمال‬
‫شماالً‪ ،‬وىذا ما يجب مراعاتو عند التعامل مع معظم الخرائط القديمة‪.‬‬

‫ظمت خريطة العالم (‪ )Imago Mundi‬لبطميموس أكمل خريطة الى أن جاء الجغرافيون‬
‫العرب المسممون وصححوا الكثير من أخطاءىا[‪ .]1‬وليذا أخذ الجغرافيون العرب والمسممون عن‬
‫بطميموس تقسيمو لما عرف باألرض المعمورة أو المأىولة الى سبعة أقاليم في مؤلَّفاتيم‪ ،‬فقد‬
‫وضع أبو زيد أحمد بن سيل البمخي (ت‪000 :‬ه) كتاب "صور األقاليم" ذكر فيو أقاليم األرض‬
‫البطممية‪ ،‬كما وضع أبو إسحق إبراىيم بن محمد االصطخري (ت‪040 :‬ه) مؤلفين ميمين ىما‬
‫"كتاب األقاليم" و"المسالك والممالك" قسم فييما العالم اإلسالمي إلى عشرين إقميماً تمثّل مناطق‬
‫جغرافيةً واسعةً‪ ،‬ويعد محمد بن أحمد المقدسي (ت‪ 081 :‬ه) صاحب كتاب "أحسن التقاسيم‬
‫في معرفة األقاليم" رائداً في ىذا المجال[‪.]0‬‬

‫قسم العرب المعمور من األرض الى سبعة أقاليم ابتدا ًء من خط‬


‫وبناء عمى بطميموس‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫االستواء‪ ،‬ولكنيم اختمفوا في مدى الحد الذي تنتيي عنده أقصى الشمال (سيراب ‪ 915‬شماالً‬
‫ٌّ‬
‫مستمد لدييم من كتاب‬ ‫وابن خمدون ‪ 045‬شماالً‪ ،‬واإلدريسي ‪ 005‬شماالً ‪..‬الخ)‪ .‬وكل ىذا‬
‫بطميموس (الجغرافيا) وىي سبعة أقاليم أضاف إلييا اإلدريسي إقميماً ثامناً يمتد جنوب خط‬
‫االستواء‪ ،‬وىو الذي ينبع منو النيل (حتى الدرجة ‪ 005‬ج)‪ .‬اإلدريسي جعل اإلقميم األول يبدأ من‬
‫خط عرض صفر حتى (‪ )00‬شماالً ومن بعده خمسة أقاليم عرض كل منيا (‪ )0‬درجات أما‬

‫[‪ .]0‬محمد محمود محمدين‪ :‬الجغرافيا والجغرافيون بين الزمان والمكان‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار الخريجي‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫‪ .0990‬ص ‪.000‬‬
‫[‪ .]0‬عمي محمد دياب‪ :‬مفيوما اإلقميم وعمم األقاليم من منظور جغرافي بشري‪ ،‬مجمة جامعة دمشق‪ ،‬المجمد‬
‫(‪ ،)08‬العدد (‪ .0100 ،)0‬ص ص ‪ .918 -493‬ص ‪.401‬‬
‫‪187‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫وقسم اإلدريسي كل إقميم إلى (‪ )01‬أقسام متساوية من الغرب إلى‬


‫اإلقميم السابع بين (‪ّ )005 ،945‬‬
‫الشرق‪ ،‬ووضع لكل من األقسام السبعين خريطة[‪.]1‬‬

‫[‪]0‬‬
‫خريطة رقم (‪ :)5‬توزيع األقاليم الجغرافية السبعة كما رسميا ابن خمدون‬

‫استمر الجغرافيون العرب المسممين في األخذ بنظرية األقاليم السبعة وتطويرىا في القرون‬
‫التالية لمقرن العاشر الميالدي‪ .‬فقد قسم محمد بن محمد اإلدريسي (ت‪901 :‬ه) العالم إلى‬
‫سبعة أقاليم يضم كل منيا عشرة أقسام متساوية من الشرق إلى الغرب في كتابو الشيير "نزىة‬
‫المشتاق في اختراق اآلفاق"‪ ،‬ويعده كثيرون أفضل مؤلف تمتقي فيو الجغرافية القديمة الحديثة‪،‬‬

‫[‪ .]0‬ابن الفقيو أبو بكر احمد بن إبراىيم اليمذاني‪ :‬مختصر كتاب البمدان‪ ،‬مطبعة لندن‪ .0889 ،‬ص ‪.8‬‬
‫[‪ .]0‬عبد الرحمن بن خمدون‪ :‬مقدمة ابن خمدون‪ ،‬دار الطباعة‪ ،‬بوالق‪ -‬مصر‪( ،‬ب‪ .‬ت)‪ .‬ص ‪.90‬‬
‫‪188‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫كذلك ورد عند زكريا بن محمد القزويني (ت‪080 :‬ه)‪ ،‬وتحدث عنو عبد الرحمن بن خمدون‬
‫(ت‪818 :‬ه) في مقدمتو الشييرة التي قسم فييا العالم إلى سبعة أقاليم[‪.]1‬‬

‫ىذا ىو األساس االبستمولوجي الذي استند إليو اليمداني في توصيفو الجغرافي‪ ،‬وبالنظر‬
‫الى أن مجمل أجزاء جزيرة العرب ال تقع جميعاً في اقميم مناخي واحد‪ ،‬بل تتوزع بين أربعة‬
‫أقاليم‪ ،‬نجد أن الفقرة التي نشير إلييا ىنا دائماً قد أوردىا اليمداني في السياق الذي كان‬
‫يصف فيو طباع سكان المناطق التي تقع في اإلقميم المناخي الثالث من األقاليم السبعة‪.‬‬

‫[‪]0‬‬
‫خريطة رقم (‪ :)6‬توزيع األقاليم الجغرافية السبعة كما رسميا اليمداني‬

‫بشأن موقع جزيرة العرب‪ ،‬يقول اليمداني‪ -‬معمقاً عمى ما قالو باألصل بطميموس‪:‬‬

‫"أفضل البالد المعمورة من شق األرض الشمالي إلى الجزيرة الكبرى‪ ،‬وىي الجزيرة التي‬
‫يسمييا بطميموس (ما روي) تقطع عمى أربعة أقاليم‪ ،‬من عم ارن الشمال إلى الخامس‪ ،‬فجنوبييا‪:‬‬
‫اليمن‪ ،‬وشمالييا‪ :‬الشأم‪ ،‬وغربييا‪ :‬شرم أيمة وما طردتو من السواحل إلى الُقمزم وفسطاط مصر‪،‬‬

‫[‪ .]0‬عمي محمد دياب‪ :‬مفيوما اإلقميم وعمم األقاليم من منظور جغرافي بشري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.401‬‬
‫[‪ .]0‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪189‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫وشرقييا‪ :‬عُمان والبحرين وكاظمة والبصرة‪ ،‬وموسطيا‪ :‬الحجاز وأرض نجد والعروض‪ ،‬وتسمى جزيرة‬
‫[‪]1‬‬
‫العرب‪ ،‬ألن المسان العربي في كميا شائع وأن تفاضل" ‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬فجزيرة العرب تقع عمى أربعة أقاليم‪ ،‬وذلك ألنو وباإلضافة الى أن أغمب أراضي‬
‫الشام ونجد والعروض والحجاز تقع في اإلقميم المناخي الثالث‪ ،‬فإن جزء محدود وىو أقصى‬
‫شمال الشام وسوريا يدخل في نطاق اإلقميم المناخي الرابع‪ ،‬تماماً كما أن اليمن يقع أغمبيا في‬
‫اإلقميم الثاني وجزء يسير في أقصى الجنوب منيا يقع في اإلقميم األول‪.‬‬

‫في سياق آخر ال يبتعد كثي اًر عن جادة ما نحن فيو اآلن‪ ،‬يذكر اليمداني أسماء المناطق‬
‫التي تدخل في نطاق الربع الثالث أو ما سماه ب ـ "قسم ما بين المشرق والجنوب" من اإلقميم‬
‫المناخي الرئيسي الثالث من األقاليم السبعة‪ ،‬والذي يمتد‪ -‬بحسب وصفو ونقالً عن بطميموس‪-‬‬
‫من بالد آسيا العظمى‪ -‬أي من أقصى الصين شرقاً‪ -‬ويحوي من البالد‪ :‬أرمينية العميا‬
‫والسفمى والسغد ومدينتيا سمرقند‪ ،‬وطبرستان وجرجان وموقان وأذربيجان‪ ،‬والخزر وجيالن‬
‫والالن وياجوج وماجوج‪ ،‬وخراسان‪ ،‬وتُبت‪ ،‬وأرض الترك وأرض التغزغز وسوروماطقا‪ ..‬الخ[‪.]0‬‬

‫وبحسب وصف اليمداني أيضاً ونقالً عن بطميموس‪ ،‬فإن "ىذا التدبير‪ -‬أي القسم‪ -‬يفترق‬
‫عمى ثالثة أوجو تأتي عمى عدد من البروج المثمثة وأربابيا‪ ،‬كاآلتي[‪:]3‬‬

‫البرج األول‪ :‬ينفرد فيو الثور والزىرة بـ (ىمذان وفارس والماىين والصين من‬
‫المشرق)‪.‬‬

‫البرج الثاني‪ :‬وينفرد فيو عطارد ب ـ (بابل وما حوليا من العراق وممتقى النيرين‬
‫الجزيرة والشام وبالد أثور)‪.‬‬

‫البرج الثالث‪ :‬وينفرد بسائر أجزاء ىذا الربع الذي يمي وسط جميع األرض‬
‫المسكونة وما يقع في جزيرة العرب منيا مثل إيدوما وأرض سورية وأرض فمسطين وبالد‬

‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.09‬‬


‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.30 -30‬‬
‫‪190‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫الييود العتيقة من إيميا وتسمى بالعبرانيّة يرشمم‪ ،‬وتعربيا العرب فتقول أوراشمم‪ ،‬وبالد‬
‫األعراب الخصيبة يريد فالة العرب من نجد والحجاز والعروض وبالد فونيقا يريد اليمن‬
‫وما والى ىذه البمدان‪.‬‬

‫يكرر اليمداني ذكر ىذه البمدان بنفس الترتيب في سياق آخر‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫"‪ ..‬والذي يشاكمو من البمدان التي تمي الوسط بالد سوريا العتيقة وفمسطين‬
‫وايدوما وبالد الييود‪.]1["..‬‬

‫وبال شك‪ ،‬فإن ىذا التكرار يؤكد بأن ىذه البمدان تقع في جوار بعضيا البعض بيذا‬
‫الترتيب من الشرق الى الغرب‪ ،‬تبعاً لتقسيم بطميموس لألقاليم السبعة‪ ،‬كخطوط عرضية تمتد من‬
‫أقصى الشرق الى أقصى الغرب‪.‬‬

‫يتأكد لنا ذلك‪ ،‬من حيث نالحظ أن اليمداني قد ذكر (اليمن) بشكل صريح في ذيل‬
‫حديثو عما يدخل من البالد في نطاق البرج الثالث من اإلقميم الثالث‪ .‬فيا ترى‪ ،‬ما ىي عالقة‬
‫اليمن بالتسمسل الجغرافي المحدد ىنا في سياق كان يتحدث فيو اليمداني عن طباع سكان‬
‫األجزاء من جزيرة العرب التي تقع في اإلقميم المناخي الثالث‪ ،‬والذي يسير فيو اليمداني‬
‫خطي عرض يفترض‬
‫ّ‬ ‫ابتداء من أقصى الشرق في بالد الصين وباتجاه الغرب بين‬ ‫ً‬ ‫وبطميموس‬
‫أن تقع بينيما أرض سورية وايدوم وبالد الييود العتيقة؟!‬

‫البد أوالً من التأكيد بشكل جمي وواضح بأن اليمن ال يمكن أن تكون أو أن تقع ضمن‬
‫مناطق اإلقميم المناخي الثالث الذي توجد فيو سوريا وايدوما وبالد الييود من ايميا التي ىي‬
‫أورشميم‪ ،‬وذلك ألن أساس تقسيم بطميموس لألقاليم المناخية كما تبين قائم عمى رسم خطوط‬
‫عرض تمتد من الشرق الى الغرب أفقياً‪ ،‬بحيث يقع بين كل خطين منيا اقميم واحد من األقاليم‬
‫السبعة‪ ،‬وبالتالي فإن من الطبيعي أالَّ تكون اليمن واقعة عمى نفس خط العرض الذي يمر‬

‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.39‬‬


‫‪191‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫بفمسطين وسوريا والعراق وفارس وأرمينيا والتبت‪ .‬وىذا أمر ال يحتاج أساساً الى إثبات‪ ،‬طالما‬
‫وأن قاعدة تقسيم األقاليم السبعة ىي خطوط العرض صعوداً من جية الجنوب الى الشمال‪.‬‬

‫قد ال يستوعب البعض قوة المنطق الجغرافي‪ ،‬لكن وبما إننا نتعامل ىنا مع حقائق‬
‫الجغرافيا‪ ،‬فالبد من أن نستخدم ليس فقط لغتيا بل كل أدواتيا‪ ،‬ولنتأمل ممياً خريطة العالم‬
‫لإلدريسي أدناه‪ -‬مع مراعاة أنيا مقموبة كما سبق التنويو الى سبب كون الخرائط القديمة قد‬
‫رسمت مقموبة‪.‬‬

‫في الخريطة أدناه يتبين جغرافياً أن الخطوط الحمراء ىي خطوط العرض وأن كل خطان‬
‫منيا يحصران فيما بينيما إقميماً مناخياً من األقاليم السبعة‪ .‬فاإلقميم المناخي األول يكون من‬
‫اء قميمة‬
‫جية الجنوب ويقع ما بين خط العرض األول وخط العرض الثاني‪ ،‬وواضح جداً أن أجز ً‬
‫ومحدودة من جنوب اليمن واقعة فيو‪ ،‬أما أغمب أجزاء اليمن األخرى فتقع ضمن اإلقميم الثاني‬
‫بين خطي العرض الثاني الثالث‪ ،‬في حين أن اإلقميم المناخي الثالث الذي وصفو اليمداني بأنو‬
‫يمتد من أقصى الصين الى ما يمي وسط األرض المسكونة والذي يشمل بالد العرب الخصيبة‬
‫وسوريا وفمسطين وبالد الييود (إيميا) التي تسمى أورشميم‪ ،‬فيقع بين خطي العرض الثالث‬
‫والرابع‪.‬‬

‫ىذا ىو المقصود بالضبط من قول اليمداني بأن جزيرة العرب تقع في موقع يقطع أربعة‬
‫أقاليم من األقاليم المناخية السبعة التي رسميا بطميموس تبعاً لنظريتو في تأثير درجة الح اررة‬
‫والمواقع الفمكية عمى طباع البشر‪ ،‬وىو التأثير الذي يتفاوت بدرجات نسبية تبعاً الختالف‬
‫درجات الح اررة والمناخ بين المناطق الواقعة بين كل خطين من خطوط العرض التي رسميا‪ ،‬مع‬
‫التنويو الى أننا نستخدم ىنا تعبير خطوط العرض لبيان الفكرة‪ ،‬وليس ألن ىذا المصطمح كان‬
‫قائماً أو مستخدماً عند بطميموس أو اليمداني‪ ،‬بل ألن تقسيم بطميموس لألقاليم يستند الى توزيع‬
‫يشبو كثي اًر ما نعرفو اليوم في الجغرافيا الحديثة والمعاصرة بخطوط العرض‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫خريطة رقم (‪ :)7‬خارطة العالم لإلدريسي موضحاً فييا موقع جزيرة العرب بالنسبة لألقاليم السبعة من األرض‬
‫[‪]1‬‬
‫المعمورة‬

‫واآلن‪ ،‬نأتي الى بحث مغزى ذكر اليمداني لميمن في سياق تمك الفقرة التي أوردىا بقولو‪:‬‬

‫"بالد األعراب الخصيبة والتي يعني بيا فالة العرب من نجد والحجاز والعروض وبالد فونيقا‬
‫يريد اليمن وما والى ىذه البمدان"[‪.]0‬‬

‫[‪ .]0‬رائد راكان قاسم الجواري‪ :‬العناصر األساسية لمخارطة عند الشريف اإلدريسي (‪901 -490‬ه‪-0011 /‬‬
‫‪0000‬م)‪ ،‬مجمة التربية والعمم‪ ،‬جامعة الموصل‪ ،‬المجمد (‪ ،)09‬العدد (‪ .0100 ،)9‬ص ص ‪.009 -094‬‬
‫ص ‪.093‬‬
‫[‪ .]0‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫‪193‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫يوضح اليمداني لنا المقصود ب ـ "بالد األعراب الخصيبة"‪ ،‬بأن بطميموس إنما قصد بيذا‬
‫التعبير أرض نجد والحجاز وتيائميا"‪ .‬ففي ىذا يقول‪:‬‬

‫"‪ ..‬وأما الذين في أرض نجد والحجاز وتيائميا فيشكمون القوس والمشتري‪ ،‬فأىميا لذلك‬
‫حسنة أخالقيم‪ ،‬جميمة ىيئتيم سيل عيشيم يريد أنيم يجتزون بالدّر من أنعاميم وليم نفاذ في‬
‫التجارة واألخذ واألعطاء ومالءمة لممذاىب الجميمة والمعالي والرياسات وبمدىم خصب كثير األفاويو‪.‬‬
‫وانما سماىا بطميموس أرض األعراب ألجل أن أكثر العرب بادية‪ ،‬وسماىا خصبة ألنيا أكثر البالد كال‬
‫دون المزارع‪ ،‬ولذلك اعتمد أىميا عمى المال السارح وحموه بالخيل‪ ،‬إذ ال يحصون ليم‪ ،‬ويريد أنيا‬
‫كثيرة األفاويو بزىور الرمال مثل األقحوان والخزامى وغير ذلك‪ ،‬واليمن يجمع الورد وكثيراً من‬
‫[‪]1‬‬
‫األفاويو‪. "..‬‬

‫ىذا يعني أن اليمداني قد ذكر اليمن في ىذا السياق باعتبارىا جية وباعتبارىا جزء آخر‬
‫م ن جزيرة العرب تقع خمف الحدود الجنوبية لتمك األراضي من جزيرة العرب التي تقع في اإلقميم‬
‫المناخي الثالث‪ ،‬فكل ما خرج عن حدود أرض الشام ونجد والحجاز جنوباً فيو يمن‪ ،‬وىذا ما‬
‫تعنيو بالضبط عبارة اليمداني (يريد اليمن وما والى ىذه من البمدان) والتي تعني باتجاه الحدود‬
‫مع اليمن وما واالىا من البمدان‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فإن حدود ما يقع من جزيرة العرب في اإلقميم الثالث‬
‫يمتد من الشمال من حدود األرض الخصيبة ويمتد غرباً الى بالد فونيقا (لبنان)‪ ،‬وجنوباً الى‬
‫حدود نجد والحجاز والعروض وما الى ذلك من جية اليمن‪ ،‬وىذا التحديد الجغرافي واضح‬
‫ودقيق لمغاية بحيث ال يمكن انكاره أو تجاوزه‪.‬‬

‫فكيف بحق اهلل تكون اليمن حداً ألرض ىي باألساس واقعة فييا؟!‬

‫يا ليا من سقطة مريعة سقطيا مفكرنا العبقري‪!!..‬‬

‫وألن اليمداني كان يتحدث عن سائر أجزاء ذلك الربع وحدوده‪ ،‬فإنو سيعود ويستدرك في‬
‫وصف طباع سكانو‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.34 -30‬‬


‫‪194‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫"‪ ..‬فمن كان منيم في بالد سورية وىي أرض بني إسرائيل وبالد إيدوما وبالد‬
‫الييود العتيقة فيم يشاكون الحمل والمريخ خاصة‪.]1["..‬‬

‫وىذا يعني أن سكان ىذه المناطق يشتركون في بعض الطباع التي حددىا اليمداني‪،‬‬
‫وذلك نتيجة وقوع مناطقيم في إقميم مناخي واحد ىو اإلقميم الثالث الذي يقع تحت تأثير‬
‫مجاالت فمكية معينة مرتبطة بو عمى وجو الخصوص‪ .‬بل أن اليمداني يضرب المثل ببني‬
‫اسرائيل في ىذا السياق‪ ،‬مستشيداً بما عرف عن طباعيم واتفاق ذلك مع التقسيم الجغرافي‬

‫لألقاليم الذي يربطيم بمواطنيم في سوريا وبالد الييود ايميا التي تسمى أورشميم‪ ،‬فيقول ناسباً‬
‫القول الى نفسو‪:‬‬

‫"قال أبو محمد‪ :‬مصداق ذلك مسألة بني إسرائيل موسى عميو السالم أن يرييم‬
‫اهلل جيرة‪ ،‬وأن يجعل ليم إالىاً يعبدونو لما أروا أصحاب األوثان في كثير من ىذا قال‬
‫بطميموس‪ :‬وىم غاشون ذو خفة وطيش‪.]0[ ..‬‬

‫ال شك أن البعض من المدجنين والموىومين المغرمين بالركض وراء الخرافات الربيعية‪،‬‬


‫قد ال يقتنعون بمجرد القول بأن من الطبيعي أالَّ تكون اليمن في اقميم مناخي أو عمى خط‬
‫عرض واحد مع سوريا والعراق ولبنان‪ ...‬الخ‪ ،‬بما يعني أن بالد الييود التي ذكرىا اليمداني ال‬
‫يمكن أن تكون أبداً جزًء من اليمن‪ .‬وقد يقول البعض منيم بأننا ربما أسأنا تفسير كالم‬
‫اليمداني‪ ،‬وربما يقول البعض من ىؤالء أيضاً بأننا فعالً قد تعمدنا ذلك تحامالً عمى بروفسورىم‬
‫العمالق فاضل الربيعي‪.‬‬

‫حسناً يا قوم‪ ،‬ال مشكمة‪ ..‬طالما وأننا نتفق أوالً عمى أن األقاليم السبعة ىي تقسيم‬

‫افي عربي آخر أخذ ىو أيضاً‬ ‫بناء عمى خطوط العرض‪ .‬فمنذىب من بعد الى جغر ّ‬ ‫بطميموس ً‬
‫بيذا التقسيم عن بطميموس‪ ،‬وليكن الجغرافي العربي الشيير شياب الدين النويري[‪.]1‬‬

‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.30‬‬


‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫‪195‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫قد يتساءل البعض‪ ،‬لماذا شياب الدين النويري؟!‪ -‬والجواب‪ :‬ألن النويري ىذا نقل عن‬
‫بطميموس حرفياً‪ ،‬وجاء بعد اليمداني بثالثة قرون أي بعد أن تقّدم عمم الجغرافيا العربي وتطّور‬
‫وبمغ قمة نضوجو في القرن الثامن اليجري= الرابع عشر الميالدي‪ ،‬وصار مؤىالً ألن يساىم‬
‫في صنع أكبر نيضة عممية في تاريخ البشر‪ ،‬وىي النيضة التي انتشمت أوروبا من المستنقعات‬
‫الضحمة ورفعتيا الى مصاف األمم المتقدمة لتبقى كذلك حتى اليوم‪ ،‬وبحسب من ترجموا‬

‫لمنويري فإن وفاتو كانت في سنة (‪300‬ىـ)‪ ،‬فضالً عن أن النويري قدم مصنفاً جغرافياً ومعجمياً‬
‫ولغوياً ضخماً وشامالً‪ ،‬جمع فيو عموم عصره كميا‪ ،‬حتى أعتبر مصنفو ىذا بمثابة دائرة معارف‬
‫شاممة لكل عموم العصر الذي عاش فيو النويري‪.‬‬

‫سوف نكتفي باقتباس ما قالو النويري عن اإلقميمين المناخيين الثاني والثالث‪ ،‬ووصفو‬
‫ليما كما جاء في كتابو "نياية األرب في فنون األدب" حرفياً‪ ،‬وىو ما يمي‪:‬‬

‫"أما اإلقميم الثاني‪ .‬فيبتدئ من بالد الصين‪ ،‬ويمر عمى بعض بالد اليند الساحمية مثل تانة‪،‬‬
‫وصيمور‪ ،‬وسندان؛ ومن بالد السند عمى المنصورة وديبل‪ ،‬ثم يبمغ عمان‪ .‬ويكون فيو من أرض‬
‫العرب‪ :‬نجران‪ ،‬وىجر‪ ،‬وجنابة‪ ،‬وميرة‪ ،‬وسبأ‪ ،‬وتبالة‪ ،‬والطائف‪ ،‬وجدة‪ ،‬ومكة‪ ،‬والمدينة‪ ،‬ومممكة‬
‫الحبشة‪ ،‬وأرض البجة‪ ،‬وأسوان‪ ،‬وقوص‪ ،‬والصعيد األعمى‪ ،‬وجنوب بالد المغرب حتى ينتيي إلى البحر‬
‫المحيط؛ وعرضو من غاية اإلقميم األول إلى سبعة وعشرين درجة واثنتي عشرة دقيقة‪ .‬وزعم‬
‫(بطميموس) أن فيو أربعمائة وخمسين مدينة‪ .‬وأىمو بين السمرة والسواد‪ ،‬وىو كثير الذىب‪.‬‬

‫أما اإلقميم الثالث‪ .‬فمبدؤه من شرق أرض الصين‪ ،‬وفيو مدينة مممكتيا‪ ،‬حمدان؛ وفيو من بالد‬
‫اليند تانش والقندىار‪ ،‬ومن بالد السند المولتان وقزدار‪ .‬ثم يمر ببالد سجستان‪ ،‬وكرمان‪ ،‬وفارس‪،‬‬
‫وأصبيان‪ ،‬واألىواز‪ ،‬والبصرة‪ ،‬والكوفة‪ ،‬وأرض بابل‪ ،‬وبالد الجزيرة‪ ،‬والشام‪ ،‬وفمسطين‪ ،‬وبيت المقدس‪،‬‬
‫والقمزم‪ ،‬والتيو‪ ،‬وأرض مصر‪ ،‬واإلسكندرية‪ ،‬وبالد برقة‪ ،‬وافريقية‪ ،‬وتاىرت‪ ،‬وبالد طنجة‪ ،‬والسومن‪،‬‬

‫[‪ .]0‬أحمد بن عبد الوىاب بن محمد بن عبد الدائم القرشي التيمي البكري‪ ،‬شياب الدين النويري (‪300 -033‬‬
‫ىـ = ‪0000 - 0038‬م)‪ ،‬عالم وبحاثة غزير االطالع‪ ،‬ينتسب إلى نويرة (من قرى بني سويف بمصر) ومولده‬
‫ومنشأه بقوص‪ .‬اتصل بالسمطان الممك الناصر ووكمو السمطان في بعض أموره‪ ،‬وتقمب في الخدم الديوانية‪،‬‬
‫وباشر نظر الجيش في طرابمس‪ ،‬وتولى نظر الديوان بالدقيمية والمرتاحية‪ .‬اشتير النويري بمصنفو الجغرافي‬
‫والمغوي والمعجمي المشيور (نياية األرب في فنون األدب)‪ ،‬وىو مصنف كبير جدا وأشبو بدائرة معارف جمع‬
‫فيو كل ما وصل إليو العمم عند العرب في عصره‪ ،‬وقد توفي النويري في القاىرة‪.‬‬
‫‪196‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫وينتيي إلى البحر المحيط‪ .‬وعرضو من غاية اإلقميم الثاني في العرض إلى تمام ثالث وثالثين درجة‬
‫[‪]1‬‬
‫وتسع وأربعين دقيقة‪ .‬وزعم بطميموس أن فيو تسعا وخمسين مدينة‪ .‬وأىمو سمر" ‪.‬‬

‫من المؤكد أن التطابق بين ما قالو اليمداني وما قالو النويري واضح تماماً‪ .‬فقد أشار‬
‫النويري ‪-‬بصيغة صريحة ال يمكن إساءة فيميا‪ -‬الى أن اليمن (نجران‪ ،‬ميرة‪ ،‬سبأ) تقع في‬
‫اإلقميم الثاني‪ ،‬وأن العراق والشام وفمسطين تقع في اإلقميم الثالث‪.‬‬

‫ليس ذلك فحسب‪ ،‬بل أن النويري يقول‪ ..[ :‬والشام‪ ،‬وفمسطين‪ ،‬وبيت المقدس‪ ،‬والقمزم‪،‬‬
‫والتيو‪ .]..‬بمطابقة ترتيب النويري ىذا مع ما كان من ترتيب اليمداني وىو‪ ..[ :‬إيدوما وأرض‬
‫سورية وأرض فمسطين وبالد الييود العتيقة من إيميا وتسمى بالعبرانيّة يرشمم]‪ ،‬يتضح جمياً‬
‫وجمياً جداً أن النويري أيضاً فصل وميَّز بين فمسطين وبيت المقدس‪ ،‬كما فصل اليمداني بين‬
‫فمسطين وايميا التي ىي اورشميم‪ .‬وبأبسط قواعد المنطق‪ ،‬فإن إيميا التي ىي اورشميم عند‬
‫اليمداني‪ ،‬ىي نفسيا بيت المقدس عند النويري‪ ،‬وىذا ما سنثبتو باألدلة الجغرافية والتاريخية‬
‫والمغوية القاطعة في سياق الحق‪.‬‬

‫إن كالم اليمداني ومن بعده النويري واضح لمغاية‪ ،‬دون أن يكون فيما بيَّناه لنا أي شبية‬
‫لغوية أو تعبيرية أو سياقية تبرر أن يذىب المرء في تفسيره ذلك المذىب السخيف الذي ذىب‬
‫إليو مفكرنا العبقري الفذ فاضل الربيعي‪ .‬فأين ىو ىذا المفكر العربي العظيم‪ ،‬ليكشف لنا عن‬
‫سر ومعنى ومبرر التمييز الذي أشار إليو النويري بين فمسطين وبيت المقدس؟!‪ -‬وىل سيكون‬
‫بوسع مفكرنا لو أنو كان يتعامل مع النويري وليس مع اليمداني أن ينقل بيت المقدس أيضاً الى‬
‫نجران؟!‪ -‬أو أن يقول بأن النويري كان يتحدث عن فمسطين أخرى غير فمسطين التي تقع‬
‫بجوار بيت المقدس؟!‬

‫[‪ .]0‬أحمد بن عبد الوىاب بن محمد بن عبد الدائم القرشي التيمي البكري‪ ،‬شياب الدين النويري (ت‪300 :‬ىـ)‪:‬‬
‫نياية األرب في فنون األدب‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار الكتب والوثائق القومية‪ ،‬القاىرة‪0400 ،‬ه‪ .0114 -‬ص‬
‫‪.098‬‬
‫‪197‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫وىكذا‪ ،‬فإن نموذج بطميموس المناخي قائم عمى تقسيم األقاليم السبعة بوضعيا بين‬
‫خطوط عرض أفقية تمتد من الشرق الى الغرب بدرجات وقياسات عينيا بطميموس بأقصى دقة‬
‫أمكن التوصل إلييا بأدوات وامكانيات عصره‪ ،‬ووفق ىذا التقسيم تحدث اليمداني عن أرض‬
‫سوريا وايدوما وأرض فمسطين وبالد الييود من ايميا التي تسمى أورشميم باعتبارىا مناطق‬
‫متجاورة ومتالصقة تقع في نطاق اإلقميم المناخي الثالث‪ ،‬ووفق ىذا التقسيم البطممي أيضاً تقع‬
‫أغمب أجزاء اليمن في نطاق اإلقميم المناخي الثاني‪ ،‬وال يقع أي جزء منيا في اإلقميم الثالث‪ ،‬بل‬
‫أن حدود اإلقميم الثالث تقترب كثي ارً من تحديد اليمداني لحدود اليمن الطبيعية من الجية‬
‫الشمالية‪ ،‬كما تفصل بين اليمن وأرض سوريا وايدوما وأرض فمسطين وبالد الييود أجزاءً أخرى‬
‫من جزيرة العرب تقع في وسطيا وىي الحجاز ونجد والعروض‪.‬‬

‫وبناءً عمى ذلك‪ ،‬فإن اليمداني كان يشير بوضوح وبقصد ثابت وراسخ الى أن ايميا التي‬
‫ىي أورشميم ىي أرض مجاورة ألرض سوريا التي ىي أرض بني اسرائيل‪ ،‬ومجاورة أيضاً‬
‫أليدوما (شرق نير األردن حالياً‪ -‬موآب في التوراة)‪ ،‬ومجاورة ألرض فمسطين‪ ،‬ومن خالل‬
‫مطابقة ما جاء عمى لسان اليمداني وما أثبتو النويري وغيره من الجغرافيين العرب واالغريق‪،‬‬
‫فإن إيميا ىذه اسميا أيضاً أورشميم‪ ،‬وبحسب النويري فإنيا صارت في عصر السيادة العربية‬
‫واالسالمية تسمى "القدس" وتسمى أيضاً "بيت المقدس"‪.‬‬

‫إذا لم يبدو ما تقدم مقنعاً لمبعض وماحقاً بالفعل الدعاءات الربيعي وغيره‪ ،‬فإنو ما يزال‬
‫لدينا الكثير مما ينبغي التدرج في عرضو وتقديمو من األدلة الجغرافية والتاريخية والمغوية التي‬
‫تدحض ىذه النظرية وتصيبيا في مقتل محتم‪ ،‬ولسوف نستمر في عرضيا حتى نصل الى ما‬
‫يتعمق منيا بتفسير ذلك التمييز الذي قال بو كل من بطميموس أوالً‪ ،‬ثم قال بو اليمداني ومن‬
‫بعده النويري بين إيمياء التي ىي أورشميم من جية‪ ،‬وبين فمسطين من جية أخرى‪ ،‬فضالً عن‬
‫تفسير التمييز اآلخر الذي قال بو اليمداني بين أرض بني اسرائيل التي ىي سوريا وبالد‬
‫الييود‪ ،‬وىذا التمييز األخير ىو نفسو الذي تجاىمو الربيعي تماماً وتحاشى ذكره كمياً‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫خالصة األمر حتى ىذه النقطة نقوليا وبكل ثقة ويقين‪ ،‬ىي أن تفسير الربيعي لفقرة‬
‫اليمداني ومن ثم تفسيره لكل ما جاء في كتاب اليمداني‪ ،‬ليس إال تفسي ارً مختمقاً ومضمالً وال‬
‫أساس لو‪ ،‬بل وال يستند الى أدنى درجات المنطق‪ ،‬وىذا فضالً عن كونو يتعارض تعارضاً‬
‫صارخاً وفاضحاً ومروعاً مع الحقائق الجغرافية‪ ،‬وسأكون صريحاً ومغالياً في الصراحة وأقول‬
‫بأن ذلك التفسير ليس إال نوعاً من االستخفاف بعقول القراء‪ ،‬ونموذجاً رديئاً من التمفيق والتزييف‬
‫وقمب الحقائق وتشويشيا بنيّة مسبقة وارادة قاصدة ومتعمدة‪ ،‬واال فكيف تجاىل صاحبو كل ىذه‬
‫الحقائق التي عرضناىا حتى اآلن؟!‬

‫إني بحق لغير آسف عمى ما سوف يؤول إليو حال مفكرنا الربيعي عندما يعمم تماماً بأن‬
‫ىذه الحقائق الثابتة والراسخة والتي تقف بكل قوة في وجو نظريتو العجفاء ستكون في معرض‬
‫انتباه وتفكير جميع القراء منذ اآلن‪ ،‬خاصة وأن ال أحد من النقاد قد تطرق إلييا من قبمنا‪ ،‬ومن‬
‫حيث أنو لن يكون بوسعو أو أحداً سواه أبداً ‪-‬وأبداً أبداً‪ -‬أن يجد لو مخرجاً من ىذه الورطة‬
‫العنيفة والمستحيمة الحل‪.‬‬

‫السؤال األىم‪ ،‬كيف يكون ذلك كمو الذي وصفو اليمداني شيادة تاريخية بأن اليمن ىي‬
‫أرض التوراة؟!‬

‫لن نترك بعد اليوم سؤاالً نطرحو بدون اجابة‪ ،‬فالجواب ىنا ىو أن ال شيادة في كتاب‬

‫اليمداني كما يتوىم الربيعي ويوىم بذلك قراءه‪ ،‬وال ىم يحزنون‪ .‬فأوىام الربيعي بمغت مبمغاً‬
‫صعباً بحيث ال يصدقيا إال المغفمون‪ ،‬واال فكتاب اليمداني في متناول أيدي الجميع‪ ،‬وليتيم‬
‫وحسب يقرأون‪!!..‬‬

‫إ ن كل كالم الربيعي عن ايميا أو اورشميم أو بالد الييود بأنيا تقع في اليمن وأن ذلك ىو‬
‫ما قالو اليمداني ومن قبمو بطميموس‪ ،‬ىو محض افتراء مقصود‪ ،‬ومحاولة فاشمة وسيئة لتحريف‬
‫الحقائق‪ .‬فكما تبين آنفاً بالدليل الجغرافي الثابت والواضح‪ ،‬فقد جاء ذكر اليمداني لفمسطين‬
‫وايميا بعد ذكره لسوريا وايدوما وكل ذلك في ترتيب جغرافي دقيق قائم عمى التجاور الحتمي‬
‫والقطعي‪ ،‬فسوريا تقع في جوار ايدوما‪ ،‬كما أن سوريا أيضاً تقع في جوار فمسطين وايميا‪ ،‬وىن‬

‫‪199‬‬
‫انفصم األول‬ ‫نشيد أنشاد اجلغرافيا وصهوات اخلرائط‬

‫جميعاً عمى ذلك متجاورات وكل منيا تحد األخرى جغرافياً وفق تقسيم األقاليم السبعة لبطميموس‬
‫التي تمتد عمى شاكمة خطوط العرض المعروفة في الجغرافيا الحديثة‪ ،‬وىو التقسيم الجغ ارفي‬
‫الذي أخذ بو الجغرافيون العرب وطبقوه في مصنفاتيم الجغرافية عمى مدى أكثر من (‪)311‬‬
‫سنة‪ ،‬فضالً عن أن ىذا ىو نفسو ما أكد عميو كل اإلخباريون والمغويون المعجميون والمؤرخون‬
‫والبمدانيون والرحالة العرب والمسممون في كتبيم التي تعد بالمئات‪.‬‬

‫ترى‪ ،‬كيف سيواجو الربيعي كل تمك المصنفات المغوية واإلخبارية والمعجمية والتاريخية‬
‫والجغرافية التي تركيا العرب القدماء وتشكل رصيداً معرفياً ىاماً لكل البشرية؟!‪ -‬وىل ستنفع‬
‫معيا حيمتو الدفاعية المسبقة عن ىجرة القبائل وانتقاليا ونقميا ألسماء أماكنيا األصمية واطالقيا‬
‫عمى المناطق التي ىاجروا إلييا؟!‬

‫‪200‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫الفصل الثاني‬

‫بني شهادة اهلمذاني وحذيث إفك الربيعي‬

‫جينا اىجدوا‪!!..‬‬

‫قبل كل شيء‪ ،‬ينبغي أن نتوقف عند المصطمح الرئيسي الذي صاغو الربيعي إزاء ما‬
‫جاء في كتاب صفة جزيرة العرب‪ ،‬وىو مصطمح (شيادة اليمداني)‪ ،‬وكيف يمكن أن نفيم‬
‫داللتو ومغزاه من حيث ما عبر عنو مفكرنا من جية‪ ،‬ومن حيث ما ىو عميو باألصل مضمون‬
‫كتاب اليمداني من جية أخرى‪.‬‬

‫ما معنى (شيادة اليمداني) وفق تعبيرات المفكر العربي الفاضل؟!‬

‫من أجل اإلجابة عمى ىذا التساؤل‪ ،‬البد من إعادة تجميع وتقديم خالصة آراء الربيعي‬
‫ومقوالتو في المواضع الثالثة التي أوردناىا – بصيغ حرفية‪ -‬في الفصل السابق‪ ،‬إزاء ما عبرت‬
‫عنو فقرة اليمداني ود ّل عميو مجمل ما تضمنو كتابو‪ ،‬وذلك بإيجاز ووضوح عمى النحو اآلتي‪:‬‬

‫"لقد قدّم اليمداني شيادة تتطمب تأملً عممياً عميقاً‪ ،‬من حيث تفيد ىذه الشيادة بأن ما يدعى‬
‫في التوراة بجبال الييودية– أو مممكة ييوذا في التراث الكتابي‪ -‬ال يقصد بو شمال فمسطين‪ ،‬إذ ال‬
‫يوجد دليل لغوي أو جغرافي عمى ذلك‪ ،‬بل أن بلد الييودية ىي سرو حمير (ونجران ىي في آخر ىذا‬
‫السرو الممتد من صنعاء)‪ .‬فقد ميز اليمداني بدعم من بطميموس بين فمسطين وبلد الييودية‪ ،‬ألن‬
‫كل منيما تقع في حيز جغرافي مغاير‪ ،‬إذ تقع فمسطين في الشام‪ ،‬وبلد الييودية في نجران في‬
‫اليمن‪ ،‬وأن المستشرقين ىم من روجوا بأن فمسطين عُرفت باسم إيميا بيدف التضميل‪ ،‬وبناءً عمى ذلك‬
‫فإن أحداث سفري المكابين‪-‬كما شرحيا الربيعي في كتابو‪ -‬قد وقعت في اليمن في سياق طموح‬
‫االمبراطورية الرومانية لبسط نفوذىا عمى سواحل البحر األحمر‪ ،‬وىذا يعني في المقابل بأن تمك‬
‫الغزوات والحروب لم تحدث في فمسطين (الشام)‪ ،‬وىذا بالضبط ىو المعنى العميق والمتضمن في‬
‫تمييز اليمداني بين فمسطين وبلد الييودية‪ .‬فاليمداني وبطميموس كانا يعرفان الفرق الشاسع‬
‫ويدركان أن فمسطين في العصر الروماني المبكر شيء وبلد الييودية شيء آخر‪ ،‬ويعرفان أيضاً أن‬

‫‪201‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫بلد الييودية العتيقة التي دارت فييا أحداث سفر المكابين ليست أرض فمسطين‪ ،‬كما أنيا ليست‬
‫أرض سورية‪ -‬بلد الشام (أو جنوب الشام) بل ىي مكان آخر‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فإن إيمياء‪ -‬التي أشارت‬
‫إلييا فقرة اليمداني‪ -‬لم تكن في فمسطين ولم يكن اسميا القدس أيضاً‪ ،‬وأن وجود اسم ايمة‪ -‬التي‬
‫ىي ايميا كما يدعي الربيعي‪ -‬في فمسطين‪ ،‬ناتج عن ىجرة القبائل العربية بما فييا قبيمة بني اسرائيل‬
‫إلى الشام‪ ،‬حيث طبعت ىذه القبيمة عمى مواطنيا الجديدة ذكرياتيا القديمة في صورة أسماء قديمة‬
‫[ٔ]‬
‫عمى غرار ما كانت عميو أسماء المواضع واألوطان األم ‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬فكالم الربيعي ىذا يضعنا أمام احتمالين‪:‬‬

‫االحتمال األول‪ ،‬أن تكون شيادة اليمداني بخصوص ما يدعيو مفكرنا العربي صريحة‬
‫وواضحة‪ ،‬ويمكن إدراكيا بدون لبس أو غموض‪ .‬وىذا غير صحيح‪ ،‬من حيث أثبتنا في الفصل‬
‫السابق أن ىذا االحتمال غير متحقق البتة‪ ،‬وال وجود لو عمى اإلطالق حتى في حرف واحد مما‬
‫كتبو اليمداني في كتابو صفة جزيرة العرب‪ ،‬أو في كتبو األخرى التي وصمت إلينا‪.‬‬

‫االحتمال الثاني‪ ،‬أن يكون قصد الربيعي أن اليمداني قد أدلى بشيادتو تمك من حيث لم‬
‫يكن يعمم بأنو يصف في حقيقة األمر جغرافية بالد التوراة‪ .‬وبصيغة أخرى أن عبقري الجغرافيا‬
‫والتاريخ والفمسفة والفكر العربي في القرن العاشر الميالدي ولسان اليمن اليمداني عندما وصف‬
‫جغرافية اليمن لم يكن يعمم بالفعل أنيا ىي نفسيا جغرافية أحداث التوراة‪ ،‬ولم يكن لديو أدنى‬
‫عمم بأن وصفو جاء مطابقاً لما ورد في التوراة‪ ..‬فيل ىذا ما يجب أن نصدقو؟!‬

‫في واقع الحال‪ ،‬فإن االحتمال األخير يجعمنا نقف أمام تأويل صاغو مفكرنا الربيعي لكالم‬
‫صرح بو ىذا األخير‪ ،‬بل ويمكن القول أن األمر قد تجاوز مجرد‬
‫اليمداني‪ ،‬وليس أنو بالفعل ما َّ‬
‫التأويل وتعداه الى ما يمكن وصفو ب ـ "حديث إفك" اختمقو مفكرنا وال أساس لو‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬إنو حديث إفك ربيعي ال أكثر‪ ،‬خاصة وقد كشفنا في الفصل السابق عن واحد من‬
‫أىم وأكبر األخطاء الفادحة التي ارتكبيا مفكرنا قاصداً ومتعمداً‪ ،‬وأثبتنا بما ال يدع مجاالً لمشك‬

‫[ٔ]‪ .‬ىذه الفقرة تمخيص حرفي لممقوالت التي صاغيا الربيعي في المواضع الثالثة التي أوردناىا حرفياً في‬
‫الفصل السابق من‪ :‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬مرجع سابق‪.)٘ٙٓ /ٕ ،ٗٓٛ /ٔ ،ٗٗ/ٔ( ،‬‬
‫‪202‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫وبمغة الجغرافيا وأدواتيا العممية والمنيجية بأنو قد وقع في مشكمة عويصة‪ ،‬وأوقع نفسو في مأزق‬
‫مستحيل الحل بسبب ىذا التفسير الذي قدمو‪ .‬فإيميا التي ىي أورشميم بحسب األساس‬
‫االبستمولوجي الذي وضعو بطميموس في تقسيمو الجغرافي لألقاليم المناخية السبعة‪-‬الذي نقمو‬
‫عنو الجغرافيون العرب والمسممون ومنيم اليمداني‪ -‬البد وأن تقع بالفعل في االقميم المناخي‬
‫الثالث بجوار سوريا وا يدوما‪ ،‬ويستحيل عمى اإلطالق وفق ىذا األساس وىذا التقسيم أن تقع في‬
‫اليمن‪ ،‬ألن اليمن تقع في االقميم المناخي الثاني‪.‬‬

‫كما أثبتنا أيضاً‪ ،‬أن وصف اليمداني الدقيق لجغرافية اليمن الطبيعية لم يتضمن أو ُيشر‬
‫أبداً إلى أي وجود ألي إيميا تسمى أورشميم فييا‪ ،‬وىذا كمو يعد بمثابة دليل جغرافي وتاريخي‬
‫قاطع عمى عدم صحة تفسير صاحبنا الربيعي‪ ،‬ودليل كاف إلثبات أن كل مقارباتو بين أسماء‬
‫األماكن الواردة في النص التوراتي وأسماء األماكن التي ذكرىا اليمداني ال أساس ليا من‬
‫الصحة أبداً من كافة النواحي المغوية والجغرافية والتاريخية‪ ،‬وبالتالي فإن تمك المقاربات‬
‫والمقارنات جميعاً البد وأن تسقط وتتياوى وتنيار بشكل كمي في ضوء تمك األدلة‪ ،‬والتي‬
‫عززناىا بشيادة أحد أقطاب الجغرافية العربية في العصر الوسيط وىو شياب الدين النويري‪.‬‬

‫ولعل القارئ العزيز قد الحظ أيضاً أننا لم ِ‬


‫نأت بأدلة من خارج منظومة المصادر التي‬
‫اعتمد عمييا الربيعي‪ ،‬بل استخدمنا المصادر واألدلة نفسيا التي عرضيا ىو لتدعيم ادعاءاتو‪.‬‬
‫فما قمنا بو ال يعدو أكثر من إعادة أدلتو إلى وضعيا الصحيح وفق منيجية قمب الدليل‪ ،‬والتي‬
‫قمنا بتطويرىا واختبارىا طوال عامين كاممين فقط ألغراض ىذه الدراسة‪ ،‬إذ قمنا بتصميم ىذه‬
‫المنيجية بيدف تقييم مستوى الموضوعية والدقة والصدق العممي والمنطقي ألطروحات من ىذا‬
‫النوع من جية‪ ،‬والكشف عن حجم ونوع التضميل والتزييف الذي يمكن أن يكون قد مورس فييا‬
‫من جية أخرى‪ .‬فالدليل العممي عمى سبيل العموم والتاريخي عمى وجو الخصوص ال يمكن أن‬
‫يثبت مقولتان متناقضتان ومتصادمتان تسيران في اتجاىين متقاطعين‪ ،‬وانما يثبت مقولتان‬
‫متوازيتان تسيران في نفس االتجاه من حيث أن اإلثبات يحتمل وجيان‪ ،‬ىما‪( :‬اإليجاب والنفيّ)‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ىذا ما ينطبق عمى ما قمنا بو إزاء فقرة اليمداني التي اعتبرناىا مرك اًز مشتركاً بيننا وبين‬
‫الربيعي ‪ ،‬من حيث أنيا في سياقيا العام الذي وردت فيو ومنطوقيا الصريح الواضح الذي ال‬
‫يحتاج إلى تأويل وال ينطوي عمى أي لبس أو خمط أو اشتباه‪ ،‬ال يمكن أن تثبت أن بالد الييود‬
‫من إيميا التي تسمى أورشميم تقع في اليمن في الوقت نفسو الذي تثبت فيو أنيا تقع بجوار سوريا‬
‫وايدوما‪ .‬فيذان االستنتاجان يسيران في اتجاىين متصادمين‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬إذا كان ىناك ما تثبتو‬
‫تمك الفقرة فيو إما أن تكون بالد الييود واقعة في نطاق جغرافية اليمن كما ادعى ذلك الربيعي‪،‬‬
‫وبالتالي فيي تنفي أن تكون بالد الييود تمك واقعة بجوار سوريا وايدوما‪ ،‬أو أن تثبت العكس من‬
‫ذلك وىو أن بالد الييود تقع بالفعل بجوار سوريا وايدوما‪ ،‬من جية‪ ،‬وتنفي أن تكون واقعة في‬
‫نطاق جغرافية اليمن من جية أخرى‪ ،‬وعمى غرار ذلك تكون سائر النتائج التي نتوصل إلييا‬
‫باتباع ىذا المنيج‪.‬‬

‫إن دافع التركيز عمى فقرة اليمداني واالنطالق منيا بالنسبة لتقييم مدى موضوعية‬
‫عبرت عنو وجاء فييا في‬
‫ومصداقية التفسير الذي قدمو فاضل الربيعي‪ ،‬ينبع من أىمية ما ّ‬
‫الوقت الذي اعتبرىا الربيعي شيادة جغرافية وتاريخية تدعم وتؤكد نظريتو بشأن موقع بالد الييود‬
‫العتيقة من إيميا التي تسمى أورشميم‪ ،‬غير أننا أثبتنا وبكل ثقة ورسوخ أن األمر في حقيقتو عمى‬
‫العكس من ذلك تماماً‪ ،‬وىو أن فقرة اليمداني وسائر ما جاء في كتابو تؤكد عمى أنو وبطميموس‬
‫كانا يقصدان بشكل راسخ أن بالد الييود تقع بالجوار من سوريا وايدوما‪ ،‬وىو ما أثبت بدوره أن‬
‫تحميل الربيعي وتفسيره غير صحيح عمى اإلطالق‪ ،‬وأنو ليس إال محض تمفيق وتحريف متعمد‬
‫لمحقائق‪.‬‬

‫أما الدافع إلى االستمرار في تقديم األدلة من جيتنا‪ ،‬فيأتي من كون المفكر الفاضل َّ‬
‫ظل‬
‫ستمر وطوال الوقت عمى ما يصفو دائماً ب ـ "شيادة اليمداني"‪ ،‬التي كشفت عن حقيقة أن‬
‫يؤكد م اً‬
‫موطن أحداث التوراة وشخصياتيا والجماعات التاريخية التي ورد ذكرىا فييا حسب زعمو‪.‬‬
‫فبحسب تصريحات لو من ىذا النوع‪ ،‬فإننا "مع اليمداني ال نحتاج إال لقميل من التبصر ورؤية‬
‫التوصيفات الجغرافية الدقيقة لمجماعات نفسيا‪ ،‬ولمنازليا التاريخية وبالصيغ والتراكيب المغوية‬

‫‪204‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ذاتيا من دون أدنى تلعب"[ٔ]‪" .‬وأورشميم التي سقطت في يد الممك داوود في التوراة ليست‬
‫القدس العربية‪ ،‬وليست في فمسطين التاريخية‪ ،‬بل ىي أورشميم (أورسمم) السراة اليمنية كما‬
‫وصفيا اليمداني‪ .]ٕ["..‬ومن ثم‪ ،‬فإن "تصورات اليمداني المتطابقة كمياً وحرفاً بحرف مع ما‬
‫جاء في سفر صموئيل‪ -‬وغيره من أسفار التوراة‪ -‬تكشف عن حقيقة أن الرواية االستشراقية‬
‫ألحداث التوراة ليست إال اختلقاً"[ٖ]‪.‬‬

‫وعمى ىذا المنوال ترددت تأكيدات مفكرنا بال توقف‪.‬‬

‫في الحقيقة‪ ،‬أن مثل ىذه التصريحات واالدعاءات االنشائية الجازمة تُضاعف من حدة‬
‫المأزق الذي وقع فيو مفكرنا‪ ،‬السيما وأنو من السيل جداً عمى أي ٍ‬
‫أحد أن يعود إلى كتاب‬
‫اليمداني ويتحقق مما جاء فيو‪ ،‬ومن صدق وموضوعية ىذه التصريحات والمقوالت العبقرية التي‬
‫صاغيا مفكرنا الف ّذ‪ ،‬ولكن ىذا ال يمنع من إعادة النظر واألخذ باحتمال أن يكون ىذا المفكر قد‬
‫وضعنا بالفعل أمام قراءة جديدة وصحيحة تقدم لنا حقائقاً ربما كانت محجوبة عن أبصارنا‬
‫وادراكنا لسبب أو آلخر‪ ،‬يتبين معيا أن كتاب اليمداني قد تضمن شيادة مفادىا أن أحداث‬
‫التوراة قد جرت في اليمن وليس في فمسطين‪.‬‬

‫تدفعنا تمك التصريحات إلى االستمرار في دراسة وتحميل طرح الربيعي إزاء فكرة محورية‬
‫واحدة نقف عمييا من أول كتابو إلى نيايتو‪ ،‬إذ أن تعاممو مع فكرة من ىذا النوع عمى مدى‬
‫كتابو كامالً البد وأن يكشف عن كافة اإلجراءات واألساليب التي استخدميا في بناء استدالالتو‬
‫عرف‬
‫وتقديميا‪ ،‬وىذا بدوره يغني عن الوقوف عمى محتوى كتابو كمو‪ ،‬وذلك في إطار ما ُي َ‬
‫منيجياً ب ـ "التحميل الموضوعي"‪.‬‬

‫وفق ىذه المنيجية سنرى من بعد إلى أين يمكن أن نصل مع تمك المعالجات‬
‫والتفسيرات التي قدميا مفكرنا العبقري‪.‬‬

‫[ٔ]‪ .‬المرجع السابق‪.ٖٕٗ /ٔ ،‬‬


‫[ٕ]‪ .‬المرجع السابق‪.ٕٜٗ /ٔ ،‬‬
‫[ٖ]‪ .‬المرجع السابق‪.ٖٗٗ /ٔ ،‬‬
‫‪205‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫)‪(1‬‬

‫أوهام وقعقعاث متخيلت‬

‫الستئناف بحثنا‪ ،‬البد من العودة إلى فقرة اليمداني نفسيا‪ ،‬ولننطمق ىذه المرة من حيث‬
‫أشارت إلى أن بالد الييود العتيقة قد ُعرفت واُشتُيرت باسمين‪ ،‬االسم األول‪ :‬إيميا أو إيمياء‪ ،‬أما‬
‫االسم الثاني فيو (يرشمم) وتعربو العرب وتقول (أوراشمم)‪ ،‬أو كما جاءت في عبارة أخرى‬
‫صريحة يوردىا اليمداني‪ ،‬قائالً‪ .." :‬وايميا ىي أوري شمم"[ٔ]‪ -‬مكتوبة ىكذا في ىذه الفقرة من‬
‫كتابو‪.‬‬

‫الجدير بالذكر والتنويو إليو‪ ،‬بل والجدير بالتأكيد عميو ىنا ىو أن عبارة "بلد الييود‬
‫العتيقة" تُ ّع ُّد في حقيقة األمر تسمية اصطالحية كانت سائدة في عصر بطميموس وليست كما‬
‫قد يتصور البعض بأنيا تعبير وصفي استخدمو اليمداني‪ ،‬وىو المصطمح نفسو الذي يرد في‬
‫بعض األسفار التوراتية مرتبطاً بمرحمة معينة من مراحل التاريخ المروي فييا عمى غرار‪" :‬بلد‬
‫الييود‪ ،‬بلد الييودية‪ ،‬جبال الييودية‪ ،‬الييودية"‪.‬‬

‫من المؤكد أن اليمداني قد أدرك في عصره حقيقة ما قام بنقميا كما ىي عن بطميموس‪،‬‬
‫وتثبَّت منيا بما يكفي ُليصرح بيا‪ ،‬نقصد بذلك حقيقة أن لبالد الييود العتيقة اثنين من األسماء‬
‫قد أطمقا عمييا أو عمى حاضرتيا أو مدينتيا أو قصبتيا‪ ،‬وىما‪( :‬إيميا أورشميم)‪ .‬وكما ىو‬
‫معموم‪ ،‬فإن تعدد أسماء المكان الواحد أمر شائع في مجال األعالم واألسماء الجغرافية‪ .‬فكثي ًار‬
‫ما يحدث أن ُيطمق عمى المكان أو الموضع الواحد أكثر من اسم‪ ،‬ويحدث أيضاً أن يسود أحد‬
‫تمك األسماء عمى البقية األخرى في عصر ما أو عمى مدى عصور طويمة‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫تبقى فيو بقية األسماء محفوظة في الذاكرة الجمعية لسكان المكان نفسو والمنتمين إليو‪ ،‬ولربما‬
‫يأخذىا عنيم وينقميا الغير من خارج نطاقيم الجغرافي أيضاً‪.‬‬

‫[ٔ]‪ .‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٗ‪.‬‬
‫‪206‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫وعالوة عمى إن تعدد أسماء األماكن الجغرافية يعتبر حقيقة ثابتة ال مجال إلنكارىا أو‬
‫تجاىميا‪ ،‬فإن ىذه الظاىرة نفسيا غالباً ما تحتمل أبعاداً ودالالت لغوية وحقائق ومعارف تاريخية‬
‫متعددة ومتنوعة‪ .‬فعمى سبيل المثال احتفظت صنعاء اليمن باسميا الشيير ىذا‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫تذكر فيو المصادر القديمة أن من أسمائيا أيضاً‪ :‬مدينة سام‪ ،‬أزال‪ /‬أوزال[ٔ]‪ .‬وكذلك‪ ،‬فإن من‬
‫أسماء دمشق‪ :‬جيرون‪ ،‬الشام‪ ،‬بالد آرام[ٕ]‪ .‬وبالمثل أيضاً‪ ،‬نجد أن بغداد قد أطمق عمييا اسم‬
‫(دار السالم)‪ -‬وىي تسمية رأى البعض أنيا قديمة وتم احيائيا من قبل الخميفة العباسي الذي‬
‫اختارىا عاصمة لدولتو‪ ،‬السيما أنيا تحتمل نفس المعنى الذي يشير إليو اسم أورشميم[ٖ]‪.‬‬

‫لذا‪ ،‬ال ينبغي أن تكون مفاجئة لنا إشارة اليمداني إلى ظاىرة تعدد أسماء األماكن‬
‫الجغرافية بشكل قصدي مباشر في فقرتو تمك‪ ،‬ناىيك وأن استحضارىا من قبمو جاء مرتبطاً بأىم‬
‫وأبرز األماكن والمواضع التي تحتفي بيا نصوص التوراة وسائر أسفارىا األخرى وأدبياتيا‪.‬‬

‫لقد خمعت النصوص الكتابية لمتوراة عمى (اورشميم) العديد من األسماء‪ .‬إذ أطمقت عمييا‬
‫اسم (مدينة شاليم) في (سفر التكوين‪" :)ٔٛ :ٔٗ ،‬وممِْكي ص ِادقُ‪ ،‬مِم ُ ِ‬
‫ك شَاليمَ"‪ُ .‬‬
‫وسميت أيضاً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫(ساليم) و(صييون) في (المزمور‪" :)ٕ -ٔ :ٚٙ ،‬اسمو عظيم في إسرائيل‪ .‬كانت في ساليم‬
‫مظمتو‪ ،‬ومسكنو في صييون"‪ ،‬ويرد ذكرىا باسم (حصن صييون) في (سفر صموئيل الثاني‪،‬‬
‫داودَ"‪ .‬وقبل أن تكون أورشميم قد حممت‬
‫وىو مدين ُة ُ‬ ‫صن ِص َ‬
‫ييون َ‬ ‫داودَ اَحتَ َل ِح َ‬
‫٘‪" :)ٛ :‬لكن ُ‬
‫اسميا ىذا يرد في التوراة أنيا كانت تسمى (يبوس أو مدينة اليبوسيين) كما في (سفر القضاة‪،‬‬
‫[يَبُوس]‪ِ ،‬ىي [أُور َِ‬ ‫ب َو َجاءَ إلى مُقَاِب ِل‬
‫شميمُ]‪ ...‬قَا َل الْغُلَمُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫‪ .." :)ٔٔ -ٔٓ :ٜٔ‬بَ ْل قَامَ َو َذىَ َ‬
‫ِفييَا"‪ ،‬وأطمق عمييا كذلك اسم (اريئيل)‬ ‫ىذ ِه َونَِب ُ‬
‫يت‬ ‫ين] ِ‬ ‫ِلسيِِّد ِه‪ :‬تَعا َل نَ ِمي ُل إلى [مِدينَ ِة الْيَبُ ِ‬
‫وسيِّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫[ٔ]‪ .‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪ .ٛ‬وكذلك‪ :‬أبو العباس أحمد بن عبد‬
‫اهلل بن محمد الرازي الصنعاني (ت‪ٗٙٓ :‬ه)‪ :‬تاريخ مدينة صنعاء‪ ،‬تحقيق‪ :‬حسين بن عبد اهلل العمرى‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ .ٜٜٔٛ ،‬ص ٓ‪.ٚ‬‬
‫[ٕ]‪ .‬حول أسماء دمشق وتاريخيا‪ ،‬راجع‪ :‬أحمد األييش وقتيبة الشيابي‪ :‬معالم دمشق التاريخية‪ ،‬مكتبة المتنبي‬
‫لمطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق‪.ٜٜٔٛ ،‬‬
‫[ٖ]‪ .‬سييل زكار‪ :‬التوراة ترجمة عربية عمرىا أكثر من ألف عام‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار قتيبة لمطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ -‬بيروت‪ .ٕٓٓٚ ،‬ص ٕ٘‪.‬‬
‫‪207‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫"ويْ ٌل لــ [أ َِريئي َل]‪ ،‬لــ [أ َِريئي َل] قَ ْريَة نَ َز َل عَمَيْيَا دَ ُ‬
‫اودُ"‪ .‬كما يرد ذكر‬ ‫في (سفر أشعيا‪َ :)ٔ :ٕٜ ،‬‬
‫[م ِدي َن ِة ا ْلقُ ْد ِ‬
‫س] ُد ُعوا"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أورشميم أيضاً باسم (مدينة القدس) في (أشعيا‪" :)ٕ :ٗٛ ،‬ألَن م ْن َ‬

‫بيد أننا ال نجد في النصوص التوراتية أن (أورشميم) قد أطمق عمييا اسم (إيميا)‪ ،‬بل يرد‬
‫نبي من أنبياء بني اسرائيل يدعى (إيميا التشبي)‬
‫ىذا االسم األخير في التوراة باعتباره اسم عمم ل ّ‬
‫وشيرتو في الغالب (إيميا النبي)‪ ،‬كان قد أُرسل إلى الييود بعد أن تحولوا إلى الوثنية أو خرجوا‬
‫عن جادة العقيدة الموسوية األصمية‪ ،‬أو شيء من ىذا القبيل‪ ،‬في عصر انقسام المممكة كون‬
‫إيميا ىذا ُيعد من أنبياء المممكة الشمالية‪ ،‬وذلك عمى نحو ما ورد ذكره لعدة مرات في (سفر‬
‫المموك األول‪" :)ٔ :ٔٚ ،‬قال [إيميا التشبي] من سكان جمعاد آلخاب‪."..‬‬

‫نخمص من ذلك‪ ،‬إلى أن التوراة لم تُشر صراحة أو ضمناً إلى أن اسم (إيميا) قد أُطمق‬
‫عمى بالد الييود العتيقة التي عرفت كذلك باالسم التوراتي الصريح (أورشميم)‪ ،‬وعمى الرغم من‬
‫أن االسم (إيميا) ليس غريباً عن النص التوراتي وعن بيئتو الجغرافية والتاريخية‪ ،‬إال إن ىذا ال‬
‫يمغي واقع أننا من خالل الشواىد التوراتية من جية‪ ،‬وما تضمنتو أيضاً فقرة اليمداني من جية‬
‫أخرى‪ ،‬نقف أمام تسميتان أطمقتا عمى مكان واحد‪ -‬مكان واحد بالضبط وبالتحديد‪ -‬اصطمح‬
‫عمى وصفو ب ـ "بالد الييود العتيقة"‪ ،‬وأنو أينما استخدمتا ووردتا أياً من ىاتين التسميتين بمفردىا‬
‫أو كالىما معاً‪ ،‬فإنيما تشيران إلى نفس ذلك المكان‪.‬‬

‫يدعونا ىذا االستخلص إلى طرح سؤال عما إذا كان اسم (إيميا) قد أطمق عمى بلد‬
‫الييود العتيقة نسبة إلى ذلك النبي المذكور في التوراة في عصور الحقة عمى االنتياء من‬
‫كتابة وتدوين أسفار التوراة بحيث يكون ىذا سبباً في عدم وروده في العيد القديم كاسم لتمك‬
‫البلد التي كانت تسمى أيضاً يرشمم وتعربو العرب وتقول أوراشمم أو أوري شمم؟!‪ -‬أم أن‬
‫ىناك أسباباً وعوامل أخرى كانت وراء اطلق ىذه التسمية (إيميا) عمييا؟!‬

‫ىذا سؤال ذو مغزى بالغ األىمية‪ ،‬من حيث ينبغي التأكيد عمى أن ظاىرة تعدد أسماء‬
‫بالد الييود العتيقة وحاضرتيا اورشميم‪ ،‬وكذا اطالق اسم آخر عمييا لم يرد في النص التوراتي‪-‬‬
‫أي أنو اسم غير توراتي‪ -‬البد وأن يفيدنا كثي اًر في تقصي الحقائق التاريخية والجغرافية لموقع‬

‫‪208‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ىذه البالد‪ ،‬خاصة وأن ذلك يضعنا أمام اشتراطات جوىرية ينبغي توفرىا وانطباقيا عمى أي‬
‫مكان أو موضع ُيحتمل أو ُيتوقع أنو ىو الموقع الجغرافي لبالد الييود العتيقة من إيميا والتي‬
‫كانت تسمى أيضاً أورشميم‪.‬‬

‫عمى ىذا األساس‪ ،‬يكتسب اسم (إيميا) أىمية شديدة في سياق ىذا البحث وأىدافو‪ ،‬خاصة‬
‫وأنو يساعدنا في تبيان حقيقة ما أشار إليو اليمداني و َّ‬
‫عبر عنو بدقة متناىية في تمك الفقرة وفي‬
‫اسم غريب وغير موجود البتة في نطاق الجغرافية‬
‫عموم ما جاء في كتابو‪ ،‬عالوة عمى أنو ٌ‬
‫اليمنية سواء في ضوء الوصف الدقيق والمفصل الذي قدمو اليمداني‪ ،‬أو في ضوء ما تقدمو لنا‬
‫سائر المصادر الجغرافية والتاريخية العربية القديمة األخرى‪ ،‬وىذا ليس افتراضاً بل حقيقة َّ‬
‫قدميا‬
‫لنا مفكرنا الفاضل عمى طبق من ذىب وبشكل غير مباشر‪ ،‬ومن حيث لم يكن ذلك في مراميو‬
‫أو في نطاق ادراكو البتة‪.‬‬

‫ىذا بالضبط‪ ،‬ما سيتبين لنا بقدر كبير من الوضوح من خالل دراسة وتحميل المعالجة‬

‫التي تضمنيا كتاب "فمسطين المتُ َخيَّمة" حول (إيميا)‪ ،‬من حيث حاول مؤلف الكتاب متعسفاً‬
‫إثبات أن بالد الييود العتيقة تقع في نطاق جغرافية اليمن‪ ،‬ومدعياً بصيغ صريحة وواضحة أن‬
‫ذلك ىو ما شيد بو الحسن بن أحمد اليمداني‪ ،‬لوال أن محاولتو التعسفية وغير الموضوعية تمك‬
‫قد باءت بالفشل الذريع‪ ،‬وىو الفشل الذي لم يردعو أو يثنيو عن االستمرار في تزييف وتشويو‬
‫حقائق التاريخ والجغرافيا‪ ،‬وتمفيق االدعاءات الباطمة‪ ،‬والتضميل عن الحقائق بإرادة عالمة وقصد‬
‫عمدي‪.‬‬
‫ّ‬

‫عبر عنو في فقرتو تمك من كتابو "صفة جزيرة العرب" في‬


‫لقد أخبرنا اليمداني بنفس ما ّ‬
‫الجزء الثامن من كتابو (اإلكميل)‪ ،‬ومن األفضل أن نورد ذلك بسياقو الكامل‪ .‬فعن [قبر في‬
‫حراء]‪ ،‬يقول اليمداني[ٔ]‪:‬‬

‫[ٔ]‪ .‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬اإلكميل‪ -‬الجزء الثامن‪ ،‬حرره وعمق عميو‪ :‬نبيو أمين فارس‪ ،‬دار الكممة‪،‬‬
‫صنعاء‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪( ،‬ب‪ .‬ت)‪ .‬ص ‪.ٔٚٓ -ٜٔٙ‬‬
‫‪209‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫"وروى ابن لييعة قال‪ :‬لما أصاب داود عميو السلم الخطيئة أعمل االختلف الى غيران العباد‬
‫العباد‪ ،‬فأوحي إليو أن يدخل غار بالقرب منو فيبط إليو داود فإذا فيو‬
‫حتى وقع عمى حراء‪ ،‬جبل ّ‬
‫[ميت مسجي]‪ ،‬واذا عند رأسو صفيحة من نحاس مكتوب فييا‪" :‬أنا ذو شمم الممك ممكت ألف سنة‬
‫ّ‬
‫ونكحت ألف عاتق ثم صرت الى األرض فراشي التراب ووسادي الحجر وجيراني الدود فمن رآني فل‬
‫يغتر بالدنيا بعدي"‪.‬‬

‫وىذا الممك لم يشتير خبره عند العمماء‪ .‬ويروى أنو يريد في خبره ُبعد داود عميو السلم‪.‬‬

‫قال اليمداني‪ :‬إني ال أرى في ىذه األشياء المستنكرة في الزبر القبورية إنما يكون من الذين‬
‫يكتبونيا فيزيدون في الشيء ما ليس فيو ليعظم ذلك عند من بعدىم فيزىدوا في الدنيا ويعممون أنيم‬
‫من دون من فرطيم‪.‬‬

‫(سمِم) قال األعشى‪:‬‬


‫شم ُم ىي إيمياء وقد تعربيا العرب فتقول َ‬
‫َ‬

‫سمِم‬
‫وقد طفت لممال آفاقو *** عمان فحمص فأوري َ‬

‫شمِم"‪.‬‬
‫يور َ‬
‫وقال العبرانيون وىي َ‬

‫نالحظ أن اليمداني يستنكر وجود ممك اسمو (ذو شمم)‪ ،‬ويعتبر ما جاء عنو في‬
‫الصحيفة المكتوبة التي تتحدث عنيا الرواية بأنيا من الزيادات والتحريفات التي يضيفيا ُكتَّاب‬
‫الزبوريات لتعظيم األمور والمبالغة في شأنيا لمعظة والعبرة‪ ،‬بل ويستنكر اليمداني أيضاً أن‬
‫شممُ ىي إيمياء وقد‬
‫يكون شيئاً من ذلك قد وجد في حراء‪ -‬بالقرب من مكة‪ ،-‬مؤكداً عمى أن َ‬
‫(عمان‬
‫َّ‬ ‫تعربيا العرب فتقول (سَِمم)‪ ،‬مستشيداً ببيت شيير لألعشى وضع أورشميم بجوار‬
‫وحمص)‪ ،‬واال فما قيمة استدراكو بذكر موقع شمم والتأكيد عمى أن المقصود بيا ىو (إيمياء)‪،‬‬
‫وما قيمة استشياده بشعر األعشى‪..‬؟!!‬

‫وفي موضع سابق من نفس الكتاب– اإلكميل الجزء الثامن‪ -‬يقول اليمداني[ٔ]‪:‬‬

‫"فاجتمعت جرىم وعدنان وطسم وجديس والعمالقة وجميع العرب والتقوا ببني اسرائيل لقتاليم‬
‫فيزموىم الى (بيت المقدس) وأخذوا التابوت عمى بني اسرائيل‪."..‬‬

‫[ٔ]‪ .‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖ‪.ٔٙ‬‬


‫‪210‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ىذه شيادة واضحة من اليمداني تسير في اتجاه معاكس وعمى النقيض تماماً لما‬
‫يدعيو الربيعي‪ ،‬خصوصاً إذا ما أخذنا باالعتبار أن ىذا بالضبط ىو ما تنطق بو فقرة‬
‫اليمداني في كتابو صفة جزيرة العرب التي جاءت في سياق تحديد جغرافي دقيق وفق تقسيم‬
‫بطميموس لألقاليم السبعة‪ ،‬وأن إيميا ىي أورشميم وىي أيضاً بيت المقدس‪ ،‬وأن حرباً جرت‬
‫بين العرب شموالً وبني اسرائيل‪ ،‬ىُزم فييا ىؤالء االسرائيميين ودُحروا الى مواطنيم في بيت‬
‫المقدس‪.‬‬

‫فعن أي شيادة يتحدث الربيعي؟!‬

‫لقد حاول رائد النظرية األول كمال الصميبي أن يستخدم رواية اليمداني التي أوردناىا آنفاً‬
‫عن قبر بحراء بطريقة ما لتدعم نظريتو بأن جغرافية أحداث التوراة تقع في عسير وغرب جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬إذ قال[ٔ]‪:‬‬

‫"‪ ..‬وقد أرشدني مؤ ّخ ًار صديقي الباحث فرج اهلل صالح ذيب إلى ما يقولو‪ ...‬اليمداني‪ ،‬صاحب‬
‫نقل عن قدامى رواة األخبار من أىل اليمن‪ .‬ومن ذلك خبر ىروب‬ ‫"كتاب اإلكميل"‪ ...‬بيذا الشأن‪ً ،‬‬
‫داود في وقت من األوقات‪ ،‬ودخولو إلى الغار في جبل حراء‪ ،‬خارج م ّكة"‪.‬‬

‫كانت ىذه واحدة من االستشيادات االنتقائية التي فشل الصميبي في استخداميا إلييام‬
‫القراء وتضميميم‪ ،‬بأن ثمة مرويات عن قدماء أىل اليمن تشي بأن بالد الييودية كانت في‬
‫اليمن‪ ،‬وكما تبين لنا من سياق الرواية كما أوردىا اليمداني‪ ،‬فإن مثل ىذا اإلييام ال يعدو أكثر‬
‫من حديث إفك ال أكثر‪ ،‬وىذا ما ينطبق حرفياً عمى أوىام الربيعي وادعاءاتو‪.‬‬

‫بالعودة إلى كتاب الربيعي "فمسطين المتُ َخيَّمة"‪ ،‬والبحث عن مواقع المعالجات التي قدميا‬
‫بشأن ما ورد في فقرة اليمداني‪ ،‬وباألخص ما يتعمق منيا بتفسيره السم (إيميا)‪ ،‬نجد أنو وعدا‬
‫عن المواضع الثالثة التي ِّ‬
‫بيناىا في الفصل السابق‪ ،‬قدم ثالث معالجات في ثالث مناطق نائية‬

‫[ٔ]‪ .‬كمال الصميبي‪ :‬حرب داود‪ :‬األجزاء الممحميَّة من ِسفر صموئيل الثاني مترجمة عن األصل العبري‪ ،‬دار‬
‫الشروق‪ ،‬عمان‪ -‬األردن‪ .ٜٜٔٔ ،‬ص ‪.ٜٔ‬‬
‫‪211‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫وجرداء ومنفصمة عن بعضيا البعض‪ :‬موضع واحد في المجمد األول‪ ،‬وموضعان اثنان في‬
‫المجمد الثاني‪.‬‬

‫نبدأ بالموضع األول‪ ،‬حيث نمضي مع الربيعي في سياق رحمة جغرافية بحثاً عن إيميا‬
‫التي ذكرىا اليمداني‪ .‬ففي منطقة نائية من المجمد األول من كتابو توقف فييا عند النص‬
‫التوراتي من (سفر التثنية‪" :)ٖٔ :ٔ :ٕ ،‬فعبرنا بعيداً عن اخوتنا بني عيسو المقيمين في‬
‫سعير من طريق العربة من أيمة ومن عصيون جابر وتحولنا وعبرنا طريق برية موآب"‪.‬‬

‫يفسر الربيعي ىذا النص التوراتي‪ ،‬قائالً[ٔ]‪:‬‬

‫"ظن الكثيرون خطأ أن (إيمو) في ىذا النص ىي ذاتيا (مدينة وميناء العقبة األردنية)‪ ،‬فيما‬
‫ىي (أيمو) المدينة الساحمية القديمة المندثرة‪ ،‬التي عرفتيا القبائل العربية باسم (إيميا‪ -‬إيمياء)‪.‬‬

‫إن أيمو‪ -‬إيميا ىذه ىي المدينة القديمة التي وصفيا القرآن بــ (حاضرة البحر)‪ ،‬وأشار إلى‬
‫كونيا مدينة ييودية بآية صريحة‪ .‬ونحن نميز بينيا وبين (إيمو الجبل)‪ ،‬وىما معاً من المواضع‬
‫الساحمية عمى البحر األحمر‪ .‬وسوف نلحظ في ضوء المرويات واألشعار أن المتأخرين من المغويين‬
‫والجغرافيين العرب والمسممين‪ ،‬لم يعرفوا (إيمياء) ىذه‪ ،‬ولم يميزوا أو يحددوا مكانيا‪ .‬ولذلك اختمطت‬
‫صورتيا باسم الجبل أو بــ (خميج أيمو)‪ ،‬حتى ظن الكثيرون أن (إيمياء) في المرويات العتيقة ليست‬
‫سوى (عقبة األردن) البمد العربي‪ .‬بينما نرى أن أيمو القديمة التوراتية ىي التي تحولت مع الوقت إلى‬
‫(إيمياء) وأعطت اسميا‪ ،‬مع ىجرات القبائل نحو بلد الشام إلى خميج أيمو‪ -‬خميج العقبة‪.‬‬

‫ولذلك‪ ،‬فالمقصود من ىذا الموضع التوراتي إنما ىو (إيمون) المدينة المندثرة‪ ،‬التي ذكرتيا‬
‫التوراة والقرآن بوصفيا (عاصمة البحر األحمر)‪ .‬وبكلم آخر إن النص التوراتي يشير إلى المدينة‬
‫القديمة عمى البحر األحمر قرب (عصيون جابر) وليس إلى العقبة األردنية‪ .‬وبطبيعة الحال ال يوجد‬
‫قرب خميج (إيمو) األردني موضع يدعى عصيون جابر‪ ،‬كما ال توجد (عربو) عمى طريق (سعير)‪.‬‬
‫وىذا يؤكد صحة وضرورة التمييز بين االسمين المتشابيين‪.‬‬

‫ما يقولو النص اآلنف من التوراة‪ ،‬ىو أن بني اسرائيل عبروا من مكان ما عمى الساحل‪،‬‬
‫مبتعدين عن جبل سعير الذي يقطن فيو بنو عيصو‪ ،‬ومتجيين صوب وادي عربو من أيمو عمى مقربة‬

‫[ٔ]‪ .‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ٘‪.٘ٔٗ -‬‬
‫‪212‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫من عصيون جابر ‪ .‬ىذه األسماء ال وجود ليا في جغرافية خميج العقبة األردني المعروف بخميج أيمو‪.‬‬
‫يعني ىذا أن ىناك أيمو أخرى ساحمية قديمة عبرت منيا القبيمة في طريقيا إلى برية موآب‪ -‬مآب"‪.‬‬

‫يتابع الربيعي[ٔ]‪:‬‬

‫"وبقطع النظر عن تاريخية الحدث التوراتي المروي‪ ..‬فإن التوصيف المقبول يتطمب ويستمزم‬
‫رفض المطابقات العشوائية‪ ،‬كما يتطمب وضع إيمو في جغرافيتيا الصحيحة عند ساحل مكة إنيا (إيمة‬
‫القديمة الزائمة التي وصفيا القرآن بأنيا حاضرة البحر)‪ .‬واليكم وصف اليمداني لــ عصيون جابر"‪!!..‬‬

‫من يق أر ىذا التفسير الذي قدمو الربيعي‪ -‬أعاله‪ -‬من المؤكد أنو لن يفيم منو شيئاً ولن‬
‫يخرج منو بنتيجة حاسمة‪ .‬فيو بحق‪ -‬وعمى نحو ظاىر لمغاية‪ -‬تفسير مشوش جداً‪ ،‬ومرتبك‬
‫ومضطرب بشدة‪ ،‬يعكس بطبيعة الحال الوضع الذىني والنفسي الذي كان مفكرنا العبقري يعيش‬
‫فيو تحت تأثير الشعور الشديد بوطأة المشكمة التي وقع فييا أمام فقرة اليمداني الواضحة‬
‫والدقيقة‪ ،‬فضالً عن أنو يكشف عن نمط المحاوالت البائسة التي قام بيا في سبيل الخروج من‬
‫تمك المشكمة التي تتمثل أساساً في أن فقرة اليمداني‪ -‬كما وضحنا في الفصل السابق‪ -‬تُصرح‬
‫وتثبت حقيقة أخرى ىي عمى العكس تماماً مما أراد مفكرنا أن يوىمنا بو‪.‬‬

‫في ىذا الوضع النفسي والذىني المأزوم الذي عاشو ىذا المفكر لم يكن أمامو إال طريقان‬
‫اثنا ن‪ ،‬إما أن يعترف بالحقيقة كما أوردىا اليمداني ويعود أدراجو ويتخمى عن نظريتو العجفاء‬
‫لعدم وجود ما يسندىا فعالً‪ -‬وىذا ما يكون عميو بالعادة موقف الباحث الجاد الذي يحترم‬
‫أخالقيات العمم ومبادئ البحث العممي وموضوعيتو‪ ،-‬أو أن يمجأ إلى الطريق الثانية وىي‬
‫طريق التمفيق والتزييف‪ ،‬وىذه لألسف ىي الطريق التي اختارىا الربيعي لنفسو‪ .‬وليذا نقول أنو‬
‫وبسبب محاوالتو تمك قد أوقع نفسو في مأزق أشد وأنكى ومستحي ٌل حمَّو‪ ،‬كما ويستحيل بأي حال‬
‫من األحوال تبريره أو التماس العذر لصاحبو‪ ،‬وىو مأزق تنم عنو تمك التصريحات الكثيرة‬
‫والوفيرة التي ما برح الربيعي يكررىا ويرددىا ويتغنى بيا في كل شاردة وواردة بأن اليمداني قدم‬

‫[ٔ]‪ .‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٗٔ٘‪.‬‬


‫‪213‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫شيادة تاريخية وجغرافية مدعومة من بطميموس عمى أن موطن التوراة وجغرافية أحداثيا ىي‬
‫اليمن وليست فمسطين‪.‬‬

‫ينطوي ما قالو مفكرنا وما كتبو في تفسيره لذلك النص التوراتي عمى قدر بالغ من الخمط‬
‫تعمد‬
‫(الم َّ‬
‫تي ُ‬‫واإلييام والتضميل والتزييف والتحريف المتعمد والمقصود‪ ،‬مع التأكيد ىنا عمى عبار ّ‬
‫والمقصود)‪ ،‬ألن األمر كذلك بالفعل وليس أننا نقول ذلك عمى سبيل المبالغة أو من باب‬
‫التجني‪.‬‬
‫ّ‬

‫لكي تتضح الرؤية لمقراء األعزاء كما قدمنا ليا آنفاً‪ .‬فالنص التوراتي الذي تعامل معو‬
‫الربيعي أعاله يذكر موقعاً جغرافياً اسمو (أيمة) مقترناً بذكر مواقع جغرافية أخرى قريبة منو أو‬
‫حواليو‪ ،‬منيا موقع يدعى (سعير) كان يقيم فيو بني عيسو أنسباء بني اس ارئيل‪ ،‬وبحسب النص‬
‫فإن ىؤالء ال ـ بنو اسرائيل كانوا قد انصرفوا من موضع (سعير) واتجيوا عبر طريق يمر من‬
‫مكان يسمى (العربو ‪ -‬عربو)‪ ،‬وىذا الطريق كان من جية أو قريب من موقع (أيمة) القريب‬
‫جداً ىو اآلخر عمى ما يبدو من موقع تسميو التوراة (عصيون جابر)‪ ،‬وكان ذلك كمو في اتجاه‬
‫يفضي ببني اسرائيل إلى سموك طريق صوب مكان يسمى ب ـ (برية موآب‪ -‬مآب)‪.‬‬

‫لسنا ىنا بصدد دراسة جغرافية حركة بني اسرائيل كما عبر عنيا ىذا النص التوراتي‪-‬‬
‫وان كنا سنتعرض لذلك بعض الشيء الحقاً من ىذا الفصل‪ -‬بل نحن بصدد تحميل تفسير‬
‫الربيعي وتحديداتو الجغرافية لموقع المكان الذي يسمى (أيمة)‪ ،‬وكيف أقام رابطة بينو وبين اسم‬
‫(إيميا)؟ وما ىو أساس الرابطة التي أقاميا؟‪ -‬وما مدى موضوعية تفسيره بالنسبة لما جاء في‬
‫كتاب اليمداني بيذا الشأن؟!‪ -‬ىذا ىو مجال بحثنا في السياق التالي‪.‬‬

‫أ ّك َّد مفكرنا الربيعي عمى أن المقصود ب ـ (أيمة) في النص التوراتي المذكور أعاله ليس‬
‫(أيمة) المشيورة والقريبة من مدينة العقبة األردنية والتي تقع عمى ساحل القرن الشرقي لمبحر‬
‫األحمر‪ ،‬بل المقصود بيا ىو‪( :‬أيمو) المدينة الساحمية القديمة المندثرة‪ ،‬التي عرفتيا القبائل‬
‫العربية باسم (إيميا‪ -‬إيمياء)‪ ..‬والتي ذكرىا القرآن بأنيا حاضرة البحر‪ ،‬والتي تقع في مكان ما‬
‫عمى ساحل البحر األحمر‪ ،‬ونتيجة ىجرات القبائل العربية في مرحمة ما ومنيا بني اسرائيل‬

‫‪214‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫انتقل ىذا االسم إلى (أيمة) في خميج العقبة‪ ،‬فتوىم الناس أنيا ىي المقصودة‪ ،‬خاصة وأن‬
‫(أيمة) الحقيقية كانت قد اندثرت‪.‬‬

‫كما يشير مفكرنا إلى أنو يُ ِّميز بين (أيمة) التي كانت (حاضرة البحر) و(أيمة) أخرى‬
‫كانت تعرف بأنيا (حاضرة الجبل)‪ ،‬وىو مع ذلك يصفيما بأنيما مكانين معاً يقعان عمى‬
‫ساحل البحر األحمر‪ ..‬وال زلنا ال نعرف ‪ -‬عمى األقل حتى ىذه المحظة‪ -‬أين بالضبط من‬
‫ساحل البحر األحمر؟!‬

‫في الفقرة التالية من تفسيره‪ ،‬يعطي مفكرنا ل ـ (أيمة)‪ -‬التي يعتبرىا أيضاً (إيمياء)‪ -‬يعطييا‬
‫تسمية ثالثة معتمداً في ذلك عمى التشابو النسبي بين األسماء‪ ،‬مؤكداً عمى أن المقصود ب ـ‬
‫(أيمة) في ذلك النص التوراتي‪ ،‬إنما ىو (إيمون) المدينة المندثرة‪ ،‬التي ذكرتيا التوراة والقرآن‬
‫بوصفيا (عاصمة البحر األحمر)‪.‬‬

‫بحسب ما تقدم‪ ،‬فإن (ايمة‪ ،‬ايمون) ىما اسمان لذلك المكان المقصود في النص التوراتي‪،‬‬
‫يقع عمى ساحل البحر األحمر وىو المعني في القرآن بأنو مدينة الييود (حاضرة البحر)‪ ،‬وقد‬
‫انتقل اسميا مع ىجرة القبائل إلى خميج العقبة‪ ،‬وىناك حيث انتقمت تمك القبائل أطمقت عمييا‬
‫اسم (إيمياء) أيضاً‪.‬‬

‫ىنا‪ ،‬البد من طرح سؤال ماكر وخبيث‪:‬‬

‫ىل أيمة ىذه التي ىي إيمون التي ىي تقع في مكان ما عمى ساحل البحر األحمر والتي‬
‫وصفيا القرآن بأنيا حاضرة البحر والتي اندثرت وكفت عن الوجود كما يزعم مفكرنا‪ ..‬ىل ىي‬
‫ما قصده اليمداني وأشار إلييا بأنيا إيمياء بلد الييود العتيقة التي تسمى أيضاً أورشميم؟!‬

‫لكي يتبين لنا أمر(إيمياء) التي ىي أورشميم والتي ىي أيضاً بالد الييود العتيقة‪ ،‬نود أن‬
‫نمفت عناية القراء األعزاء الى شيادات رواد نظرية جغرافية التوراة‪ ،‬أو باألصح الى معالجاتيم‬

‫‪215‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ليذه المسألة‪ ،‬وباألخص رائد النظرية األول "كمال الصميبي"‪ ..‬إذ يقول تحت عنوان فرعي‬
‫"الييودية في فمسطين"[ٔ]‪:‬‬

‫"والمذىب الييودي بدأ يبرز بشكمو المميز في بلد بابل من العراق‪ ،‬ثم انتشر ىذا المذىب منذ‬
‫وقت مبكر الى غرب الجزيرة العربية‪ ،‬وكذلك الى بلد الشام‪ ،‬ومنيا فمسطين‪ .‬وسرعان ما صار لمييود‬
‫في فمسطين وجود كثيف‪ ،‬بحيث صار الرومان ومن بعدىم يطمقون اسم (الييودية)‪ -‬باليونانية‬
‫(‪ -)Ioudaia‬عمى جزء منيا‪ .‬وفي ىذا الجزء من أرض فمسطين أطمق الييود وغيرىم من الطوائف‬
‫الموسوية اسم (يروشمم) عمى بمدة كانت تدعى في األصل (إيميا)"‪.‬‬

‫جاء ذلك في السياق الذي أورد فيو كمال الصميبي قصتو المتُ َخيَّمة عن تاريخ بني اسرائيل‬
‫في غرب جزيرة العرب‪ ،‬عمى نحو متسمسل لمحطات تطور فييا وجودىم ىناك كما ادعى‪ ،‬ثم‬
‫سرعان ما وقع ىو اآلخر في مأزق أجبره عمى أن يعترف كرىاً ومضط اًر بأنو كان لمييود وجود‬
‫واستيطان وتاريخ ديموغرافي وسياسي في فمسطين‪ ،‬فاتحاً المجال لالعتراف بوطنين لبني‬
‫اسرائيل والييود معاً‪ ،‬األول في عسير والثاني في فمسطين‪ ،‬وذلك ما أشار إليو الدكتور وعالم‬
‫اآلثار العربي السوري "عفيف بينسي"‪ ،‬عندما انتقد نظرية الصميبي‪ ،‬قائالً[ٕ]‪:‬‬

‫"يبدو كتاب الصميبي مغامرة خطرة في أمرين‪ :‬األمر األول جغرافي فقد قسم التاريخ الييودي‬
‫إلى قسمين‪ ،‬قسم إسرائيمي وأرضو عسير‪ ،‬وقسم ييودي وأرضو فمسطين‪ .‬وبيذا يحاول توسيع رقعة‬
‫التاريخ التوراتي‪ ،‬معتمداً عمى فرضيات ألْسنية تقوم عمى تعديل في التسميات الكنعانية القديمة‪.‬‬
‫وتعديل في التسميات الجغرافية القائمة اليوم في عسير‪ ،‬وىي فرضيات ضعيفة ال تدعميا المعاني‬
‫المشتركة التي لم يستطع توضيح أكثرىا‪ ،‬بل يذكر المؤلف أن ىذه الدراسة ال تتطرق إلى أصول‬
‫أسماء األماكن المشار إلييا ومعاني ىذه األسماء‪.‬‬

‫واألمر الثاني تاريخي‪ .‬فمقد قمّص األمم المذكورة في التوراة إلى مجرد قرى ومضارب بدو‬
‫كالعموريين والكنعانيين والحثيين بل والمصريين وسكان بين النيرين‪ ،‬وبالتالي فقد ألغى تاريخ الشرق‬

‫[ٔ]‪ .‬كمال الصميبي‪ :‬حرب داود‪ :‬األجزاء الممحميَّة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.ٖٛ‬‬
‫[ٕ]‪ .‬عف يف بينسي‪ :‬تاريخ فمسطين القديم من خالل عمم اآلثار‪ ،‬منشورات الييئة العامة السورية لمكتاب‪ ،‬و ازرة‬
‫الثقافة‪ ،‬دمشق‪ -‬سوريا‪ .ٕٜٓٓ ،‬ص ‪.ٕٓ ،ٔٛ‬‬
‫‪216‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫األوسط‪ ،‬أو عمى األقل ألغى التسميات الحضارية في ىذا التاريخ‪ .‬ولكنو لم يستطع أن يقدم دليلً‬
‫ألسماء الشعوب التي شكمت حضارات ضخمة أكدتيا الكشوف األثرية"‪.‬‬

‫عمى كل حال‪ ،‬فإن شيادة الصميبي ىذه ميمة جداً بغض النظر عن التحريف والتمفيق‬
‫الذي ضجت بو نظريتو‪ ،‬فيي تشير الى أمرين تثبت معيما داللة فقرة اليمداني بوضوح جمي‪:‬‬

‫األمر األول‪ ،‬أن المكان الذي أطمق عميو اسم "بالد الييودية" يقع في جزء محدود من‬
‫أرض فمسطين‪ ،‬وأن إطالق ذلك االسم كان من قبل الرومان الذين صاروا ومن جاء من بعدىم‬
‫يطمقون اسم بالد الييود أو بالد الييودية عمى ذلك الجزء المحدود من فمسطين‪.‬‬

‫األمر الثاني‪ ،‬أن الييود قد أطمقوا عمى ذلك الجزء من أرض فمسطين اسم (يروشمم)‪،‬‬
‫وىي بمدة كانت تدعى من قبل (إيميا)"‪.‬‬

‫واألصح أن الييود في مرحمة ما تمكنوا من إعادة التسمية القديمة إليمياء وىي (أورشميم)‪،‬‬
‫عمماً بأن اسم اورشميم قد أطمق عمى القدس قبل أي وجود لمييود والييودية بألف سنة عمى‬
‫األقل‪ ،‬فظمت ىاتان التسميتان مرتبطتان ببالد الييود العتيقة في جزء من فمسطين الى عصر‬
‫المسممين‪.‬‬

‫وىذا أيضاً ما يعترف بو رائد نظرية جغرافية التوراة في السراة وبالد زىران من عسير‬
‫أحمد داود‪ ،‬حيث وجدنا لو إشارة مشوشة ال بأس من ذكرىا ىنا لتتضح بعض جوانب الصورة‪،‬‬
‫إذ يقول[ٔ]‪:‬‬

‫"إن أول تزوير في جغرافية األرض المقدسة حدث في زمن قسطنطين البيزنطي‪ -‬حوالي القرن‬
‫الرابع الميلدي‪ -‬ألسباب وأغراض سياسية واحتللية بحتة‪ ،‬وبعيد مبعث النبي محمد بفترة وجيزة كان‬
‫التزوير‪ -‬جرياً عمى زمن قسطنطين‪ -‬يعتبر أن بيت المقدس ىو في (إيمياء)‪ -‬القدس الحالية‪."..‬‬

‫كان ىذا اعتراف صريح آخر من قبل رائد آخر من رواد النظرية نفسيا التي تبناىا‬
‫الربيعي بل وىم من نقميا عنيم‪ ،‬يفيد بأن اسم (إيمياء) أطمق عمى القدس أو بيت المقدس من‬

‫[ٔ]‪ .‬أحمد داود‪ :‬العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ٘‪.‬‬
‫‪217‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫أرض فمسطين‪ -‬كما في قولو القدس الحالية‪ -‬منذ القرن الرابع الميالدي‪ ،‬بالرغم من أن ىذا‬
‫االعتراف قد أورده صاحبو في سياق محاولتو كشف التزوير الذي طال جغرافية األرض المقدسة‬
‫كما يتوىم ويدعي‪ ،‬والصحيح أن القدس حممت اسم إيميا من قبل القرن الرابع الميالدي بزمن‬
‫طويل نسبياً‪.‬‬

‫تعمد‪ -‬بشكل صريح ومباشر‪ -‬اختالق رابطة‬


‫من أجل ذلك كمو‪ ،‬نقول أن الربيعي قد َّ‬
‫اسمي (أيمة) و(إيميا) معتمداً بشكل واضح عمى التشابو النسبي‬
‫ّ‬ ‫وىمية ال وجود ليا إطالقاً بين‬
‫بين االسمين‪ ،‬إذ تعامل معيما عمى أنيما اسمان لمكان واحد‪ ،‬وىذا غير صحيح البتة‪ .‬إذ أن‬
‫فقرة اليمداني ال تشير ال من قريب وال من بعيد إلى (أيمة) سواء كانت أيمة ىذه في فمسطين أو‬
‫في اليمن أو في جزر الواق واق‪ .‬ألن اليمداني كان يتحدث ص ارحة عن مكان ُيعرف بأنو بالد‬
‫الييود العتيقة من أسمائو (إيميا‪ -‬إيمياء) ويسمى أيضاً (يرشمم) وتعربو العرب فتقول (أوراشمم)‪،‬‬
‫وفي مكان آخر يقول اليمداني (وايميا ىي أوري شمم)‪.‬‬

‫كما تجاىل الربيعي متعمداً– بيدف اإلييام والتضميل‪ -‬حقيقة أن اسم (إيميا) قد ارتبط‬
‫بشكل مباشر في كل مؤلفات العرب القديمة اإلخبارية والتاريخية والمغوية والجغرافية ببيت‬
‫المقدس أو القدس‪ ،‬والتي عرفت قبل أن تغمب عمييا ىذه التسمية في العصور االسالمية باسم‬
‫(أورشميم)[ٔ]‪.‬‬

‫وألنو يعرف ويدرك حقيقة ذلك‪ ،‬نجد مفكرنا وىو يكشف لنا عن أحد اضطراباتو النفسية‬
‫والذىنية‪ -‬وىو اإلسقاط‪ ،-‬فيقول‪" :‬لقد ظن الكثيرون خطأ أن (إيمو) في ىذا النص ىي ذاتيا‬
‫مدينة وميناء العقبة األردنية"[ٕ]‪.‬‬

‫من ىم ىؤالء الكثيرون الذين ظنوا خطأً؟!‬

‫[ٔ]‪ .‬يمكن لمباحث أن يجد كماً كبي اًر من الشواىد التي ترد في المصنفات االخبارية والمغوية والتاريخية‬
‫والجغرافية العربية القديمة بيذا الشأن‪ ،‬والتي تثبت زيف ادعاءات الربيعي‪.‬‬
‫[ٕ]‪ .‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ٘‪.‬‬
‫‪218‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫يأتي جواب مفكرنا بعد ذلك بقميل‪ ،‬بأنيم من يصفيم ب ـ‪" :‬المتأخرين من المغويين‬
‫والجغرافيين العرب والمسممين‪ ،‬الذين لم يعرفوا (إيمياء) ىذه‪ ،‬ولم يميزوا أو يحددوا مكانيا‪.‬‬
‫ولذلك اختمطت صورتيا باسم الجبل أو بــ (خميج أيمو)‪ ،‬حتى ظن الكثيرون أن (إيمياء) في‬
‫المرويات العتيقة ليست سوى (عقبة األردن) البمد العربي"[ٔ]‪!!..‬‬

‫ولكن‪ ،‬متى خمط المغويين والجغرافيين العرب والمسممين بين إيمياء وأيمة؟!‪ -‬ىذا افتراء‬
‫سافر وافك مفضوح‪ ،‬وكذب مكشوف لمغاية‪.‬‬

‫ىكذا‪ ،‬صار لدينا فئة جديدة يجب أن ُنقصي جيودىا بعيداً وأالَّ نتعامل معيا باإلضافة‬
‫الى فئة المستشرقين‪ .‬فئة أخرى يجب أن نضرب عرض الحائط بما سجمتو في كتبيا ووثقتو في‬
‫مصنفاتيا طوال عدة قرون من عصور النيضة العربية من العصر الوسيط‪ ،‬فكل من يأتي بغير‬
‫ما يدعم كالم مفكرنا يجب أالّ يؤخذ باالعتبار أبداً‪ ،‬ىذا ما يريد منا المفكر الفاضل أن نفيمو‬
‫ونمتزم بو‪.‬‬

‫وعمى أساس أن اليمداني ىو مصدر الربيعي وشاىده الرئيسي‪ ،‬فالبد أن يكون قصده ب ـ‬
‫(المتأخرين) كافة المغويين والجغرافيين العرب والمسممين الذين جاءوا بعد عصر اليمداني‪،‬‬
‫وعميو ينبغي أن نعتبر اليمداني آخر من كان يعمم بحقيقة أين تقع إيمياء المتُ َخيَّمة لدى مفكرنا‬
‫والتي يتوىم ويوىمنا بوجودىا‪!!..‬‬

‫وبما أن مفكرنا العبقري لم يخبرنا صراحة إن كان قد عثر فعالً عمى (أيمة) المندثرة التي‬
‫تقع عمى ساحل البحر األحمر أم ال‪ ،‬وبما أن كتاب اليمداني ىو المصدر األساسي الذي اعتمد‬
‫عميو‪ ،‬فإنو سيكون من المنطقي أن نتوقع أن تكون ىذه ال ـ (أيمة) مما قد ذكره اليمداني باعتبارىا‬
‫قرية أو مدينة‪ ،‬ومنو استدل عمييا‪.‬‬

‫ال بأس‪ ،‬ينبغي أن نتعب قميالً‪ ،‬ونبحث في كتاب اليمداني عن (أيمة) ىذه التي أشار‬
‫وصرح بكل ثقة بأنيا تقع في عمى ساحل البحر األحمر‪ .‬فبعد تفتيش دقيق في‬
‫َّ‬ ‫إلييا الربيعي‬

‫[ٔ]‪ .‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٔ٘‪.‬‬


‫‪219‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫كتاب اليمداني‪ ،‬اتضح أن لسان اليمن وفيمسوف العرب الثاني الذي ال ثالث بعده إلى اليوم‪،‬‬
‫وأول عالم آثار تجريبي في تاريخ البشرية‪ ،‬وأفضل من قدم وصفاً جغرافياً لجزيرة العرب واليمن‬
‫حتى عصرنا الراىن‪ ،‬قد ذكر اسم (أيمة) في أربعة مواضع من كتابو الشيير‪ ،‬والتي نبينيا كما‬
‫يمي‪:‬‬

‫الموضع األول‪ ،‬ذكر اليمداني فيو اسم (أيمة) في سياق بيانو التمييدي لمحدود الغربية‬
‫لجزيرة العرب بعد انقضاء الحد البحري الذي يمثمو البحر األحمر‪ ،‬قائالً‪ ..." :‬وغربييا‪ -‬أي‬
‫غرب الجزيرة العربية‪ :-‬شرم [أيمة] وما طردتو من السواحل إلى الُقمزم وفسطاط مصر"[ٔ]‪.‬‬

‫الموضع الثاني‪ ،‬ذكر اليمداني اسم (أيمة) أيضاً في سياق وصفو التفصيمي لمحدود‬
‫الغربية لمجزيرة العربية صاعداً في ذكر المناطق التي تقع في غربيا من الجنوب إلى الشمال‪،‬‬
‫قائالً‪ ..." :‬ومضى إلى جدة ساحل مكة والجار ساحل المدينة وساحل الطور وخميج [أيمة]‬
‫وساحل راية ‪-‬كورة من كور مصر البحرية‪ -‬حتى بمغ قمزم مصر"[ٕ]‪.‬‬

‫الموضع الثالث‪ ،‬ويذكر فيو اليمداني (أيمة) في سياق بيانو لمنازل القبائل العربية عمى‬
‫امتداد منطقة تيامة التي تمثل طبعاً الجزء الغربي من جزيرة العرب المجاور لسواحل البحر‬
‫األحمر صاعداً نحو الموقع نفسو المحدد في الموضعين السابقين‪ ،‬حيث يقول اليمداني‪...." :‬‬
‫ثم ليا ميامن البر إلى حد تبوك ثم إلى جبال الشراة ثم إلى معان راجعاً إلى [أيمة] إلى أن‬
‫تقول المغار‪ :‬ىا أناذه‪ ،‬والمغار منزل لمخم ثم وقعت في ديار لخم من حد المغار ثم الداروم‬
‫ثم الجفار‪ ،‬والجفار رمال إلى حد الفرما وما خمف الفرما إلى مصر لمقبط"[ٖ]‪.‬‬

‫أما الموضع الرابع الذي ذكر فيو اليمداني (أيمة)‪ ،‬فسنؤجل بيانو والتطرق إليو إلى‬
‫المبحث الثالث من ىذا الفصل‪ ،‬نظ اًر لخصوصيتو وأىميتو لدى الربيعي ولدينا نحن أيضاً‪.‬‬

‫[ٔ]‪ .‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.ٖٜ‬‬
‫[ٕ]‪ .‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٗ‪.ٛ‬‬
‫[ٖ]‪ .‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٗٗ‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫واضح من كالم اليمداني في المواضع الثالثة أعاله بأنو يقصد بالضبط وبالتحديد (أيمة)‬
‫التي تقع في خميج العقبة‪ ،‬والتي تُعرف حالياً ب ـ (إيالت) وكانت تسمى عند العرب قديماً ب ـ‬
‫(أ يمة)‪ ،‬كما أطمق عمييا في عصور الحقة حتى العصر الحديث باسم آخر ىو (أم الرشراش‪-‬‬
‫المرشش)‪ ،‬وىي اليوم ميناء بحري واقع تحت وطأة االحتالل الصييوني ‪ -‬االسرائيمي‪.‬‬

‫علوة عمى ذلك كمو‪ ،‬ال نجد في كتاب اليمداني أي إشارة إلى أي علقة بين (أيمة)‬
‫و(إيميا) التي ىي بلد الييودية العتيقة والتي تسمى أورشميم‪ ،‬إذ يرد ذكر (إيميا‪ -‬إيمياء) في‬
‫كتاب اليمداني في ثالثة مواضع مختمفة تماماً‪ ،‬ال بأس من ذكرىا لقطع دابر الشك لدى القراء‬
‫األعزاء‪ ،‬كما يمي‪:‬‬

‫الموضع األول‪ ،‬في باب معرفة أفضل البالد المعمورة‪ ،‬وفي سياق ذكره لممواضع والمآثر‬
‫العظيمة التي استأثرت بيا جزيرة العرب عمى سائر األرض‪ ،‬وبعد أن ذكر أن فييا مكة‬
‫والمدينة‪ ،‬حيث قال‪ .." :‬وبيا الوادي المقدس طوى‪ ،‬وطور سينا‪ ،‬ومسجد إيمياء‪ ،‬وآثار‬
‫األنبياء‪ ،‬ومنابت األتقياء‪ ،‬ومحافد األصفياء‪ ،‬وعرصة المحشر وجبال الرحمة[ٔ]‪.‬‬

‫الموضع الثاني‪ ،‬حيث وردت فيو فقرة اليمداني موضوع الدراسة‪ ،‬وال داعي إلعادة‬
‫ايرادىا‪.‬‬

‫الموضع الثالث‪ ،‬في "باب فيو أبيات من الشعر"‪ ،‬حيث جاء فيو قول اليمداني‪" :‬أوري‬
‫شمم ىو إيمياء"[ٕ]‪.‬‬

‫نالحظ في الموضع األول أن اليمداني ذكر مسجد إيمياء في سياق أسماء أخرى توحي‬
‫داللتيا بشيء من القطع أن المقصود بو مسجد (بيت المقدس)‪ ،‬فميس من ثمة أرض وصفت‬
‫بأن فييا آثار األنبياء‪ ،‬ومنابت األتقياء‪ ،‬ومحافد األصفياء‪ ،‬وعرصة المحشر وجبال الرحمة في‬
‫كل المصنفات العربية االسالمية القديمة والحديثة إال بيت المقدس وأرض فمسطين‪ ،‬فضالً عن‬

‫[ٔ]‪ .‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔٗ‪.‬‬


‫[ٕ]‪ .‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٖٗ‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫أن كالمو ىذا جاء في سياق ترتيب جغرافي منتظم يشير إلى تجاور المواضع المذكورة بالنسبة‬
‫لبعضيا البعض‪ ،‬وىو تجاور ال يأتي عمى أي جزء من اليمن بذكر‪.‬‬

‫أما الموضع الثاني فقد سبق ووضحنا داللتو بالنسبة لتقسيم األرض المعمورة وفق نموذج‬
‫بطميموس الجغرافي الذي نقمو عنو الجغرافيون العرب‪ ،‬وفي الموضع الثالث تأكيد صريح بأن‬
‫أورشميم ىي نفسيا إيميا‪ ،‬وىي عمى ذلك بالد الييود العتيقة‪ ،‬وبالتالي فال عالقة ليا البتة بـ (أيمة‬
‫أو إيمة‪ /‬إيمو) كما ادعى مفكرنا العبقري‪ ،‬بل أن (إيميا) التي ىي أورشميم مكان بعينو ىو نفسو‬
‫ما يوصف بـ بالد الييود العتيقة‪ ،‬في حين أن (أيمة) مكان آخر تماماً واقع في نفس اإلقميم‬
‫الجغرافي الذي تنتمي إليو سوريا وأيدوما وبالد الييود وأرض فمسطين‪ ،‬وىذا يعني أن لممكانين‬
‫مشترك جغرافي وتاريخي يربط بينيما‪ ،‬إال إن ذلك المشترك بينيما ال يفضي أبداً إلى وضع‬
‫كالوضع الذي اختمقو الربيعي وتوىمو‪.‬‬

‫ىذا كمو واضح لمغاية في كتاب اليمداني وعمى أنحاء صريحة ال لبس فييا وال غموض‬
‫أبداً‪ ،‬فأين ىي شيادة اليمداني التي يتحدث عنيا الربيعي؟!‪ -‬الجواب‪ ،‬إنيا موجودة بالفعل‪،‬‬
‫نعم موجودة في أوىامو وجغرافيتو المتُ َخيمة‪.‬‬

‫لم ينتيي األمر‪ ،‬فمازال في زنبيل الربيعي الكثير من األوىام؟!‪ -‬فمنرى ماذا تبقى في‬
‫زنبيمو في ىذا الشأن‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫)‪(2‬‬

‫زنبيل أوهام الربيعي‬

‫بعد ذلك الموضع الذي تعرضنا لو آنفاً‪ ،‬سوف يتخمى الربيعي عن ذكر (إيميا) ويكتفي‬
‫بمعالجة األسماء المشابية لو (إيمة‪ /‬أيمة‪ /‬إيمون‪ /‬أيمون) والتي تعمد الخمط بينيا من قبل لتضميل‬
‫القارئ واييامو بأنو قد استثمر شيادة اليمداني وعالجيا عمى نحو يتضح معو كيف أنيا تدعم‬
‫ونائي من المجمد الثاني لكتاب "فمسطين المتُ َخيَّمة"‪ ،‬يقف مفكرنا‬
‫ٍ‬ ‫أوىامو‪ .‬ففي موضع قصي‬
‫العمالق عمى نص توراتي من (سفر يشوع‪ ،)ٖٜ -ٖٕ :ٜٔ ،‬نقتبسو من الترجمة العربية لمعيد‬
‫ف ِم َن ٱلْبَُّموطَة‪."...‬‬
‫ان تُ ْخمُيُمْ ِم ْن َحالَ َ‬
‫ب عَشَ ِائ ِرِىمْ‪َ .‬وكَ َ‬
‫القديم‪"ِ :‬لبَِني نَفْتَ ِالي َحسَ َ‬

‫ترجم الربيعي ىذا النص من النسخة العبرية إلى العربية‪ -‬بطريقتو كما قال‪ -‬عمى ىذا‬
‫النحو‪" :‬لبني نفتمي وعشائرىم ما أقبل من –وادي‪ -‬حمف‪ ،‬ومن إيمون‪.]ٔ["...‬‬

‫الفرق بين الترجمتين التقميدية والربيعية ليذا النص‪ ،‬ىو أن الربيعي أجرى بعض‬
‫التعديالت الشكمية في رسم بعض األسماء (نفتالي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ حولو إلى ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ نفتمي) (حالف ـ ـ ـ ـ ـ ـ حوليا‬
‫إلى ـ ـ ـ ـ حمف)‪ ،‬وأضاف من عنده صفة طبوغرافية لممكان الذي اسمو (حالف) ليصبح (وادي‬
‫حمف) وىذه الصفة الطبوغرافية ليست موجودة عمى اإلطالق في األصل العبري الذي ترجمو‪،‬‬
‫وانما استمدىا من اليمداني حيث وجد في كتابو وادياً اسمو (وادي حمف)‪ ،‬وألن صاحبنا‬
‫امتين البحث عن المتشابيات‪ ،‬فقد أعطى لنفسو الحق في إضافة عبارات إلى النص التوراتي‬
‫نيابة عن ييوه كيفما شاء‪..‬؟!!‬

‫أما (البموطة) المذكورة في الترجمة التقميدية فقد حوليا الربيعي إلى (ايمون)‪ ،‬وذلك عمى‬
‫أساس ما ىو متداول في تفاسير التوراة وترجماتيا من أن معنى اسم (ايمون) ىو (بموطة)‪ ،‬وعمى‬

‫[ٔ]‪ .‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.ٖٕٛ‬‬
‫‪223‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ىذا يبدو إجراءه ىنا سميماً وال تشوبو شائبة‪ ،‬غير أن الحقيقة عمى العكس من ذلك قطعاً وقطعاً‬
‫وقطعاً‪.‬‬

‫إن ىذا االجراء الذي قام بو مفكرنا ليس صحيحاً أبداً‪ ،‬ألن اسم (البموطة) في ىذا النص‬
‫بالذات ال يشير أبداً إلى ذلك الموضع الذي يرد في التوراة باسم (ايمون) والذي يعني (بموطة)‪.‬‬
‫فيذا الموضع األخير ُيشار إليو دائماً في التوراة باالسم نفسو (ايمون) وليس بمعناه‪ ،‬ولو كان ىو‬
‫المقصود في ىذا النص لذكر باسمو كما جرت العادة بذلك دائماً وليس بإيراد معناه‪.‬‬

‫يرد اسم (ايمون) متكر اًر‪ -‬مرة بيمزة فوق ومرة أخرى بيمزة تحت بما يشير الى موقعين‬
‫اثنين حمال معاً التسميتان المتشابيتان‪ -‬في مواضع متفرقة من أسفار التوراة‪ .‬كما في النص‬
‫من (سفر يشوع‪ -)ٕٗ : ٜٔ ،‬والذي سوف يستخدمو الربيعي في الموضع الثالث من كتابو كما‬
‫سيأتي بيانو‪ .‬وفي نص آخر من (سفر يشوع‪ ،)ٕٗ :ٕٔ ،‬يرد ذكرىا كأرض أعطيت لبني‬
‫قيات‪" :‬ومن سبط دان التقى ومسرحيا وجبثون ومسرحيا‪ .‬وايمون ومسرحيا وجت رمون‬
‫ومسرحيا اربع مدن‪ ...‬كل المدن عشر مع مسارحيا لعشائر بني قيات الباقين"‪.‬‬

‫كما يصفيا (سفر القضاة‪ )ٖ٘ : ٔ ،‬بأنيا أرض لألموريين‪ .." :‬فعزم األموريون عمى‬
‫السكن في جبل حارس في ايمون وفي شعمبيم وقويت يد بيت يوسف فكانوا تحت الجزية"‪.‬‬
‫ونجدىا أيضاً في سياق حروب يني اسرائيل مع الفمسطينيين في (سفر صموئيل األول‪:ٔٗ ،‬‬
‫ب ِجدًّا"‪ .‬وفي‬
‫َعيَا الشعْ ُ‬ ‫اس ِإلَى أَيمُ َ‬
‫ون‪َ .‬وأ ْ‬ ‫ضربُوا ِفي ِذل َك الْيَوِم الِْفِمس ِط ِينيِّ َ ِ ِ‬
‫ين م ْن م ْخمَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ٖٔ)‪" :‬فَ َ َ‬
‫ُّون مدُ َن السو ِ‬
‫اح ِل َو َجنُوِبي يَيُو َذا‪،‬‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫(سفر أخبار األيام الثاني‪" :)ٔٛ : ٕٛ ،‬واقْتَ َحمَ الْفمسْطيني َ ُ‬
‫وت َوسُوكُو َوقُ َراىَا‪َ ،‬وِتمْنَ َة َوقُ َراىَا‪َ ،‬و ِحمْ ُزو َوقُ َراىَا‪َ ،‬وسَكَنُوا‬
‫ير َ‬ ‫س وأَيمُ َ ِ‬
‫ون َو َجد ُ‬ ‫ت شَمْ ٍ َ‬
‫َوأَ َخ ُذوا بَيْ َ‬
‫ىُنَا َك"‪ .‬وأيضاً مرة أخرى في (سفر أخبار األيام الثاني‪ )ٔٓ :ٔٔ ،‬يرد ذكرىا‪َ .." :‬وصَ ْرعَ َة‬
‫ين‪ ،‬مدُنًا َح ِ‬
‫صينَ ًة"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ون وحَبْر َ ِ ِ‬
‫ون التي في يَيُو َذا َوبَنْيَام َ ُ‬ ‫َوأَيمُ َ َ ُ‬

‫وىذا مفاده أن (البموطة) المذكورة في النص الذي عناه الربيعي أعاله‪ ،‬ال يمكن أن يكون‬
‫ىو المقصود بأيمون أو إيمون‪ ،‬ألن ىذين الموضعين وفق النصوص التوراتية موضعان ال عالقة‬
‫ليما بأيمة أو إيميا عمى نحو ما يصفو مفكرنا ويدعيو‪ ،‬وىذا بدوره يشير الى أن الربيعي لم‬

‫‪224‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫يمتزم حتى بما جاء في التوراة نفسيا‪ ،‬فعمد الى تقديم تفسير مناقض ليا تماماً‪ ،‬وال نعرف‬
‫ماذا تبقى من صدقية التوراة أو من صدقية مفكرنا بعد ىذا كمو‪.‬‬

‫كما أن اسم البموطة في النص التوراتي أعاله يرد ُم َّعرفاً‪ ،‬فمو كان المقصود بو (ايمون)‬
‫فعالً لجاء ذكره بإيراد معناه ىكذا (بموطة)‪ -‬أي غير ُمعَّرف بأداة التعريف سواء في األصل‬
‫العبري أو في الترجمة العربية‪ ،‬وىذا كمو يؤكد عمى أن المقصود ب ـ (البموطة) مكان آخر غير‬
‫(ايمون)‪.‬‬

‫كان ىذا من ناحية اجراء الترجمة الذي ادعى الربيعي أنو قام بو‪ .‬أما اإلجراء التفسيري‬

‫الذي قام بو لتحديد المقصود بيذا المكان الذي يدعى (البموطة) والذي اعتبره ىو المقصود دائماً‬
‫ب ـ (ايمون)‪ ،‬فمسوف تثير اعجابنا ودىشتنا العبقرية الفذة التي كشف عنيا صاحبنا في تفسيره‬
‫ليذه المسألة‪!!..‬‬

‫من األفضل أن نق أر حرفياً ما كتبو المفكر الفاضل بيذا الشأن‪ ،‬إذ يقول[ٔ]‪:‬‬

‫(بُمْطة)‪ ..‬االسم في العبرية ىو‪( :‬ءيمون)‪ ،‬وقد تمت مكافأة ءيمون العبرية بالكممة العربية‬
‫(بموطة) لتصبح الجممة عمى النحو التالي‪" :‬ما أقبل من حمف من بُموطة"‪ .‬والترجمة الصحيحة ىي‬
‫النحو التالي‪" :‬وما أقبل من وادي حمف ومن أيمون"‪ ،‬ويبدو من بعض المرويات واألشعار القديمة‪ ،‬أن‬
‫القبائل العربية تعرف ىذا المكافئ لمكممة العبرية‪ ،‬وىي استخدمتو دون االضطرار إلى استعمال كممة‬
‫(ءيمون) المندثرة‪ .‬قال امرؤ القيس‪:‬‬

‫نزلت عمى عمرو بن درماء بمطة *** فيا خير ما جار ويا حسن ما محل‬

‫يقول ياقوت نقلً عن البكري‪ :‬بمطة موضع في جبال طي‪ .‬وقال األصمعي‪ :‬ىضبة بعينيا‪ ،‬وقال‬
‫السكري" بمطة عين ماء ونخل وواد من أرض قبيمة طمح بن درماء‪ .‬وقال الشاعر الطائي سلم بن‬
‫درماء‪:‬‬

‫إذا ما غضبت أو تقمدت منصمي *** فألياً لكم في بطن بمطة مشرب‬

‫[ٔ]‪ .‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.ٖٖٛ‬‬
‫‪225‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ىذا ىو وادي بمطة الخصب الذي تغني بو الشعراء‪ ،‬وفيو منازل عامرة ونخيل في بلد طي‬
‫قرب نجران‪ ،‬ولنلحظ وصف يشوع لمنازل سبط نفتمي‪ ،‬فيي تمتد من حمف فالبموطة ثم تتجو نحو‬
‫وادي ءزنت (أذنة)‪ ،‬ومنيا إلى أرض زبالة‪ -‬زبولون‪ .‬ىا ىنا مقاربة بين نصي يشوع واليمداني‪!!...‬‬

‫حسناً‪ ،‬ماذا نلحظ ىنا؟!‬

‫نلحظ أوالً‪ ،‬أن الربيعي بحث عن البموطة في كتاب اليمداني فمم يجدىا أبداً ولم يجد ليا‬
‫شبياً حتى‪ ..‬فماذا فعل؟!‪ -‬استنجد ب ـ "معجم البمدان" ل ـ (ياقوت الحموي) ليجد ضالتو لديو‪ ،‬وىي‬
‫(بْمطة)‪ ،‬ىكذا أي واهلل‪!!..‬‬
‫فالبمُوطة أصبحت بقدرة قادر ُ‬
‫(بْمطة)‪ُ ..‬‬
‫ُ‬

‫أين ذىبت شيادة اليمداني ىنا؟!‪ -‬ال نعرف‪..‬؟!‬

‫األمر الثاني‪ ،‬أن الربيعي أورد (بموطة) في تفسيره كذا مرة غير ُم َّعرفة‪ ،‬وىذا يدعم ما‬
‫أشرنا إليو قبل ذلك عن الخطأ المتعمد الذي قام بو في اجراء ترجمتو المزعومة‪ .‬ومن حيث قد‬
‫يظن القارئ العزيز أن مثل ىذا الخطأ يسير وليس ذو أىمية‪ ،‬نقول لو كان كذلك لما لجأ إليو‬
‫مفكرنا أوالً ثم تعامل مع ما ىو مفترض أن يتعامل معو منذ البداية‪ ..‬ىذه أمور بالغة األىمية‬
‫في الترجمة وال يمكن التغافل عنيا أو التقميل من شأنيا إطالقاً‪ ،‬بل أن مفكرنا يؤكد لنا عمى مثل‬
‫ىذه القواعد اليامة في سياقات متعددة من كتابو المخيالي‪.‬‬

‫عالوة عمى ذلك‪ ،‬ينبغي أن نمفت عناية القراء األعزاء إلى ذلك الفرق الشاسع بين اسم‬
‫(بْمطة)‪ ،‬إذ ال يوجد أي اعتبار منطقي أو أساس لغوي يمكن أن يجعل‬
‫(البموطة‪ -‬بموطة) واسم ُ‬
‫اء من حيث التركيب أو من حيث المعنى والداللة‪ -‬متكافئان‪ ،‬وىذا بحد‬
‫من ىذين االسمين‪ -‬سو ً‬
‫ذاتو يجعمنا نتساءل عن وجو العالقة بين البموطة التي ورد ذكرىا في النص التوراتي وبين‬
‫(بْمطة) التي لم يجدىا الربيعي عند اليمداني ووجدىا عند الحموي؟!‬
‫ُ‬

‫طبعاً‪ ،‬ال شيء سوى التشابو المفظي ومنيجية االنتقاء واالقتصاص التي مارسيا‬
‫الربيعي عمى مصادره طوال صفحات كتابو‪!!..‬‬

‫‪226‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫من أجل ذلك‪ ،‬البد من التأكيد عمى بعض الحقائق الثابتة فيما يتعمق باألسماء الجغرافية‪.‬‬
‫إذ تنشأ األسماء الجغرافية عادة في إطار البيئة التي تجمع بين االنسان والطبيعة من حولو‪.‬‬
‫فاالسم الجغرافي ليس لفظة طفيمية تنبت دون جذور‪ ،‬بل ىو تعبير عن انتماء المكان إلى ثقافة‬
‫معينة‪ ،‬واحتواء لرقعة جغرافية محددة أيضا‪ .‬وىو – باإلضافة إلى ذلك– تعبير لو عالقة بمسألة‬
‫الوجود وحب البقاء وما تشكمو من خطورة في حمبة الصراع األبدي بين اإلنسان واإلنسان وبين‬
‫اإلنسان والطبيعة[ٔ]‪ .‬وعميو‪ ،‬فإن أسماء األماكن الجغرافية تجسد الثقافة السائدة في محيطيا‬
‫وتعكس الظروف الطبيعية والبيئية واالجتماعية والتاريخية التي تساىم في تشكيل تمك الثقافة‬
‫حدث ما أو تاريخ معيَّن أو معمم طبيعي محدد من نباتات‬
‫ٌ‬ ‫وتحويرىا‪ ،‬بحيث يعبر االسم عن‬
‫وأشجار وحيوانات وتضاريس‪ ،‬وبيذا كمو تكتمل بصورة تاريخ الموقع وجغرافيتو وحضارتو وبيئتو‬
‫في نفوس وذاكرة وضمائر الجميع‪.‬‬

‫بال شك‪ ،‬فإن ىذه الحقائق تنطبق تماماً وكمياً عمى ما نحن بصدده ىنا‪ ،‬ومما ىو معموم‬
‫وشائع أيضاً من الناحية المغوية والجغرافية والتاريخية‪ .‬فالبموطة مفرد وجمعيا البموط وىو نوع‬
‫مر التاريخ وحتى عصرنا الراىن‪ ،‬اشتيرت‬
‫من األشجار التي تعرف أيضاً ب ـ (السنديان)‪ .‬وعمى َّ‬
‫فمسطين بغابات وأحراش أشجار البموط في جباليا‪ ،‬وىي أشجار تتمتع بقدرتيا العالية عمى‬
‫مقاومة الظروف الطبيعية‪ ،‬وبقدرتيا عمى النمو حتى في المناطق التي ال تنزل فييا األمطار‬
‫بغ ازرة‪ ،‬وغالباً ما ترتفع أشجار البموط كثي اًر عن سطح األرض بحيث يصل ارتفاعيا أحياناً إلى‬
‫عشرين مت اًر في بعض المناطق‪ ،‬وتنمو ىذه الشجرة في جميع أنواع األتربة ولكنيا تفضل التربة‬
‫الحمراء العميقة وتنتشر في المناطق الجبمية والساحمية من فمسطين‪ ،‬بل أن ثمة نوع من ىذه‬

‫األشجار اشتير عمى مر التاريخ ب ـ "البموط الفمسطيني"‪ .‬وىذا يعني أن أشجار البموط تعد مممحاً‬
‫بيئياً وطبيعياً من المالمح المميزة لمجغرافية الفمسطينية عمى مر العصور‪.‬‬

‫[ٔ]‪ .‬رشيد حميم‪ :‬عمم اإلسمائية عالقتو العممية واجراءاتو‪ -‬دراسة طبونيمية لموقعين‪ ،‬مجمة المغة العربية‪،‬‬
‫المجمس األعمى لمغة العربية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬العدد (‪ ،)ٖٚ‬الثالثي الثالث‪ .ٕٓٔٚ ،‬ص ص ٖٕٔ‪ .ٖٔٛ -‬ص‬
‫‪.ٕٔٚ‬‬
‫‪227‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫وفي فمسطين أيضاً‪ ،‬ىناك نوعان شييران من البموط الفمسطيني‪ ،‬نوع يعرف بالبموط أو‬
‫السنديان العادي‪ ،‬ونوع آخر يعرف بالممول‪ .‬إذ تنتشر شجرة البموط العادي أو السنديان في جبال‬
‫مترا‪،‬‬
‫الخميل والقدس ونابمس وبيت لحم‪ ،‬وىي شجرة دائمة الخضرة‪ ،‬يصل ارتفاعيا إلى (٘ٔ) ً‬
‫تزىر في شيري آذار ونيسان‪ ،‬تنمو في التربة الجبمية الحمراء‪ ،‬تحتاج إلى أمطار أقل من‬
‫سنويا‪ .‬أما شجرة البموط "الممول"‪ ،‬فتنتشر في جبال شمال فمسطين‪،‬‬
‫ً‬ ‫ٓٓٗ ممم من مياه األمطار‬
‫وال تختمف خصائصيا كثي اًر عن النوع األول‪ ،‬ولكن يميز بينيما أىل الخبرة من سكان المكان‪.‬‬

‫صورة رقم (ٔ)‪ :‬لوحة تصور بموطة سيدنا إبراىيم في الخميل الفمسطينية في بدايات القرن العشرين‬

‫لقد اشتيرت مواضع جغرافية بعينيا في فمسطين بتسميتيا بموطة كذا‪ ،‬عمى غرار (بموطة‬
‫سيدنا إبراىيم) نسبة إلى النبي إبراىيم عميو السالم‪ ،‬الموجودة عمى مرتفع مطل عمى مدينة‬

‫‪228‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫الخميل‪ ،‬يقع في محيط مبنى كنيسة المسكوبية الروسية القائمة لميوم‪ ،‬والتي يقال بأن عمرىا‬
‫ويشار إلى ىذا المكان بأنو المكان الذي نزلت فيو العائمة اإلبراىيمية‬
‫ينوف عن (ٓٓٓ٘) سنة‪ُ ،‬‬
‫لدى وصوليا مدينة الخميل‪.‬‬

‫صورة رقم (ٕ)‪ :‬بموطة سيدنا إبراىيم سنة ٓ٘‪ ،ٔ5‬يظير إلى جوارىا الحاج أحمد عبد الرازق زبمح البسطامي‬
‫من أىالي مدينة الخميل ومعو أطفالو شريف ووحيد وفيصل‪ ،‬والذين مازالوا أحياء لميوم بعد وفاة والدىم رحمو‬
‫اهلل‪.‬‬

‫يخبرنا بعض أبناء فمسطين‪ ،‬إن تسمية األماكن في فمسطين نسبة إلى أشجار البموط عادة‬
‫قديمة جداً‪ ،‬تعزى إلى كون البموط من األشجار المعمرة نسبياً‪ ،‬فمنيا ما تتجاوز أعمارىا ألف‬
‫عام وربما أكثر‪ ،‬كما ترتبط بعض أشجار البموط بمعتقدات قديمة‪ ،‬ومثال ذلك‪ :‬بموطة شييرة‬
‫ينسب إلييا الييود أفعاالً خارقة توجد في منطقة قريبة من حيفا‪ ،‬حيث يذىبن إلييا عادة الفتيات‬
‫الراغبات بالزواج‪ ،‬ويقمن بربط مناديمين قرب الشجرة وعمى فروعيا‪ ،‬كي تتحقق أمانيين‪ ،‬حتى‬
‫تحولت الشجرة إلى مزار‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ومن عادات الفمسطينيين القديمة والموغمة بالقدم والمستمرة لميوم‪ ،‬زراعة أشجار البموط في‬
‫مناطق معينة لرسم وتعميم الحدود الفاصمة بين الممكيات الخاصة‪ ،‬إذ أن وجود شجرة بموط في‬
‫أرض ما يمثل دائماً لمالك األرض نقطة احداثيات ىامة وعمى ضوئيا يتم ترسيم الحدود بين‬
‫الممكيات المتجاورة‪ ،‬تماماً كما يشير إلى ذلك النص التوراتي‪.‬‬

‫صورة رقم (ٖ)‪ :‬صورة حديثة لكنيسة المسكوبية في الخميل حوليا أشجار البموط الفمسطينية حيث توجد‬
‫بالقرب منيا بموطة سيدنا ابراىيم العتيقة‪.‬‬

‫كما نجد أن شجر البموط حاضر بقوة في أدب وتراث الشعب الفمسطيني منذ القدم‪ ،‬بما‬
‫في ذلك األمثال الشعبية عمى غرار‪" :‬أجا من يعرفك يا بموط"‪ ..‬وىو مثل ُيقال لمشخص الذي‬
‫يدعي ما ليس فيو‪ ،‬فيما يشبو التشفي عندما يأتي شخص آخر يعرف حقيقتو‪.‬‬

‫ىذه معمومات عامة ال يجيميا أي مطمع عمى جغرافية فمسطين‪ ،‬وبمستطاع أياً كان أن‬
‫يتحقق منيا كيفما شاء‪ ..‬وال تحتاج منا إلى إثبات نسب أو بيان مصدر ألن مصدرىا ىو‬
‫الواقع الفعمي‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫في المقابل‪ ،‬فإن األجزاء الصحراوية من جزيرة العرب واألجزاء الجبمية في الغرب‬
‫والجنوب منيا وبالتحديد نجد والعروض والحجاز واليمن ال تعرف ىذا النوع من األشجار‪ ،‬نظ اًر‬
‫لعدم توفر المناخات المالئمة لنموىا في ىذه المناطق‪ ،‬فيي من األشجار التي تنبت في‬
‫المناطق التي يسود فييا مناخ البحر المتوسط‪ ،‬ومناخات األجزاء الشمالية من الكرة األرضية‪،‬‬
‫وان وجد ىذا النوع من األشجار في بعض تمك األجزاء من جزيرة العرب فإن ذلك يكون من‬
‫أسماء أخرى غير البموط والسنديان‪.‬‬
‫ً‬ ‫النوادر‪ ،‬وغالباً ما ُيطمق عمييا‬

‫(بْمطة) ‪-‬بضم ثم سكون‪ -‬بحسب ما جاء في لسان العرب‪ .‬فبمطة‬ ‫واآلن‪ ،‬نأتي إلى اسم ُ‬
‫ط فيو ُمْبمَطٌ‬ ‫ق باألَرض وأُْبمِ َ‬
‫ط لَ ِز َ‬ ‫الم ْف ُروشةُ في َّ‬
‫الد ِار‪ ..‬وأَْبمَ َ‬ ‫مشتقة من بالط وأبمط وتعني الحجارة َ‬
‫عمى ما لم ُي َس ّم فاعمو افتقر وذىب مالُو وأَْبمَطَ فيو ُمْبمِطٌ ِإذا ق ّل مالو قال أَبو الييثم أَْبمَطَ ِإذا‬
‫ت عمى عَمْرو بن دَ ْرماءَ بُمْط ًة *** فيا كُ ْرمَ ما ٍ‬
‫جار‬ ‫امرؤ القيس‪ :‬نَ َزلْ ُ‬
‫بالبالط‪ .‬قال ُ‬
‫فمزق َ‬‫أَ ْفمَس ِ‬
‫ح ْل‪ .‬أَراد فيا كرم جار عمى التعجب‪ .‬قال واختمف الناس في ُبْمطة فقال بعضيم‬ ‫ويا كُ ْرم ما مَ َ‬
‫ودى اًر وقال آخرون بمطة أَراد داره أَنيا ُمَبمَّطةٌ‬
‫ماء ُبمطة أَي ُب ْرىة َ‬
‫يريد بو حممت عمى عمرو بن َد ْر َ‬
‫مفروشة بالحجارة ويقال ليا البالط"[ٔ]‪ -‬انتيى كلم ابن منظور‪.‬‬

‫نخمص من ذلك‪ ،‬إلى أن ىناك فرقٌ شاسعٌ بين اسميّ بموطة وبمطة‪ ،‬وىو فرق يؤكد‬
‫عمى أنو إذا كان اسم بموطة التوراتي ينتمي إلى مجال أو فضاء جغرافي ما‪ ،‬فيو فضاء‬
‫الجغرافية الفمسطينية‪ ،‬وليس جغرافية اليمن أو نجد أو الحجاز أو العروض‪ .‬ونخمص أيضاً‬
‫الى أن البموطة التي ىي شجرة ال يمكن أن تتحول بأي حال من األحوال إلى بلط من‬
‫األحجار مفروش في دار عمرو بن درماء‪ ،‬أو أن تصبح‪ -‬بين عشية وضحاىا بسبب تمفيق‬
‫لغوي‪ -‬نخمة في واحة من واحات صحراء النفوذ والدىناء أو الربع الخالي‪ ،‬كما لن يفمح رسم‬
‫الضمة والسكون في التقريب بين االسمين أبداً‪.‬‬

‫[ٔ]‪ .‬أبو الفضل ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪( ،‬ب‪ .‬ت)‪ .‬باب (بمط)‪ .ٕٙٗ /ٚ ،‬ترقيم (م‪.‬‬
‫ش)‪.‬‬
‫‪231‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫األدىى من ذلك كمو‪ ،‬أن ُبْمطة التي حددىا الربيعي وأحميا محل البموطة التوراتية من‬
‫الناحية الجغرافية‪ ،‬تعد بالفعل من المناطق التي تقع أصالً خارج حدود جغرافية اليمن الخضراء‬
‫كما حددىا اليمداني‪ ،‬وليس فقط بمطة بل اتضح لنا من خالل البحث في كتاب "فمسطين‬
‫كثير من تحديدات مؤلفو واقعة بالفعل خارج نطاق جغرافية اليمن الطبيعي‪ ،‬وىذا‬
‫اً‬ ‫المتُ َخيَّمة" أن‬
‫أمر يثبت حقيقة الفوضى التي يضج بيا الكتاب‪ ،‬ومن قبمو الفوضى التي في عقل مؤلفو‪.‬‬

‫لننظر الى تحديد الربيعي لموقع (أيمون) التي حدد بأنيا (بمطة) النجدية‪ ،‬إذ يقول‪" :‬ىذا‬
‫ىو وادي بمطة الخصب الذي تغني بو الشعراء‪ ،‬وفيو منازل عامرة ونخيل في بلد طي قرب‬
‫نجران‪ ،‬ولنلحظ وصف يشوع لمنازل سبط نفتمي‪ ،‬فيي تمتد من حمف فالبموطة ثم تتجو نحو‬
‫وادي ءزنت (أذنة)‪ ،‬ومنيا إلى أرض زبالة‪ -‬زبولون[ٔ]‪.‬‬

‫تقع (عين بمطة) التي قصدىا امرؤ القيس وغيره من الشعراء والتي اشتيرت بأنيا أرض‬
‫عمرو بن درماء في الجاىمية بالقرب من جبال (أجا) من أرض قبيمة طي الشييرة في منطقة‬
‫حائل النجدية‪ ،‬في االحداثيات (ٖٓ‪ٕٚ,ٕٛ,‬عرض) (‪ ٗٔ,ٕٜ,ٜٔ‬طول)‪ ،‬وبالقرب من سد‬
‫حديث يعرف ب ـ "سد السمف"‪ ،‬أما وادي أذنة‪ ،‬فيو الوادي الشيير الذي يقع فيو سد مأرب القديم‪.‬‬

‫نالحظ من الخريطة أدناه‪ ،‬أن (بمطة) التي حدد الربيعي بأنيا ىي المقصودة بالبموطة في‬
‫النص التوراتي‪ ،‬والتي ىي أيضاً (أيمون)‪ -‬ال ندري إن كانت حاضرة البحر عنده أم حاضرة‬
‫الجبل‪ -‬تقع خارج نطاق جغرافية اليمن الطبيعي كما حددىا اليمداني‪ .‬ثم نالحظ أن المسافة‬
‫بينيا وبين نجران تبمغ حوالي (‪ )ٜٔٙٓ‬كم‪ ،‬والمسافة بينيا وبين وادي أذنة البد وأن تكون أكثر‬
‫م ن ذلك‪ ،‬فيل يعقل أن تكون كل ىذه المساحة الشاسعة قد أعطيت لسبط نفتمي؟ ثم‪ ،‬ماذا عن‬
‫بقية المواقع األخرى التي ذكرىا النص التوراتي ضمن منازل ىذا السبط؟! ثم‪ ،‬ماذا تبقى‬
‫لألسباط اآلخرين من األرض حتى توزع بينيا؟!‪ -‬وياترى بعقل من من البشر يمكن أن يصدق‬
‫عمى ىذه المسافات الشاسعة تعبير الربيعي بأنيا بال ـ قرب من نجران" بينما تخبرنا التوراة عن‬
‫أرض وزعت بين األسباط كانت تقاس مساحاتيا ب ـ (الذراع)؟!‬

‫[ٔ]‪ .‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.ٖٖٛ‬‬
‫‪232‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫خريطة رقم (ٔ)‪ :‬موقع (بمطة) بالنسبة لنجران ووادي أذنة في مأرب‬

‫وعندما ننظر الى الخريطة التي قدميا لنا الربيعي والتي توضح نطاق أراضي سبط نفتمي‬
‫كما رسميا ىو‪ ،‬فإننا نتساءل‪ :‬أين ىي بمطة التي أخبرنا عنيا بأنيا تقع ضمن منازل سبط‬
‫نفتمي‪ ،‬فالخريطة التي قدميا لنا تظير لنا أن منازل ىذا السبط بالكاد اقتربت من نجران‪ ،‬ولم‬
‫تشمل وادي أذنة في مأرب‪ ،‬فمماذا لم يدرج الربيعي بمطة ضمن مساحة أرض ىذا السبط في‬
‫خريطتو؟!‬

‫الجواب واضح وبسيط‪ ،‬وىو ألنيا تقع بعيداً عن حدود اليمن الطبيعية‪ ،‬وألن الربيعي‬
‫يعتمد عمى جيل القراء بالجغرافيا‪ ،‬وعمى انقيادىم األعمى وراء ادعاءاتو وأوىامو الممفقة‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫[ٔ]‬
‫خريطة رقم (ٕ)‪ :‬حدود أرض سبط نفتمي كما حددىا ورسميا فاضل الربيعي‬

‫األمر نفسو نجده في التحديدات الجغرافية األخرى لمربيعي‪ ،‬مثل تحديده لموضع (نير‬
‫زارد) التوراتي بأنو (وادي زرود) الذي يقع ىو اآلخر في منطقة حائل خارج جغرافية اليمن‬
‫الطبيعي‪ -‬بالقرب فعالً من موقع بمطة الذي حدده‪ ،-‬والذي يصفو بأنو ب ـ (القرب من جبل الرما‬
‫من بلد القبيطة‪ -‬محافظة لحج‪ ،‬جنوب غرب اليمن)‪ ،‬فيما الموقعان تفصل بينيما مسافة‬
‫شاسعة تبمغ أكثر من (ٓٓ‪ )ٔٙ‬كم‪!!..‬‬

‫[ٔ]‪ .‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬في ممحق الخرائط‪ ،‬ص ٓ‪.٘ٙ‬‬
‫‪234‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫خريطة رقم (ٖ)‪ :‬موقع وادي زرود في حائل بالنسبة لجبل الرما في بلد القبيطة‬

‫بل شك‪ ،‬فإننا وفق ىذه التحديدات سنتصور الجزء األخير فقط من رحمة الخروج التي‬
‫قام بيا بني اسرائيل بقيادة النبي موسى من موقع عصيون جابر قرب أيمة الى موآب‪ ،‬عمى‬
‫نحو تبدو فيو بحق رحمة فوضوية ومستحيمة الحدوث‪!!..‬‬

‫وىكذا‪ ،‬فإن ىذه الممارسات اإلجرائية االنتقائية واالعتباطية التي ال تستند إلى منيج وال‬
‫إلى قاعدة عممية أو أساس موضوعي‪ ،‬أمر شائع جداً في كتاب الربيعي من حيث أقام جميع‬
‫مقارباتو عمى التشابو المفظي أساساً‪ ،‬ثم عمى الشعوذات التأويمية والقعقعات الفوضوية التي ال‬
‫تُحيل إال إلى أوىام تكونت في مخيمتو وسعى عمى نحو مفرط إلى إييام القراء بأنيا أدلة تدعم‬
‫نظريتو‪ ،‬وال عالقة ليا بعمم الجغرافيا وحقائقو ال من قريب وال من بعيد‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫)‪(3‬‬
‫َ َّ‬
‫فىضى اجلغرافيت املتخيلت‬

‫فضالً عما سبق‪ ،‬يمكن التماس المزيد من تمك الممارسات اإلجرائية المضممة والخادعة‬
‫بوضوح أكثر من خالل التحول إلى الموضع الثالث واألخير من المواضع الثالثة النائية والقاحمة‬
‫التي يفترض أن مفكرنا قد عالج وفسر لنا فييا ما حممتو لنا فقرة اليمداني بشأن موقع بالد‬
‫الييود من إيميا والتي تسمى أورشميم‪.‬‬

‫لقد رأينا أن نسير عمى ىدي إيقاع الربيعي وأن نتبعو في ذلك من البداية إلى النياية‪،‬‬
‫لنكون قادرين عمى معرفة إلى أي مدى قدم معالجة مقنعة تستند إلى أسس منطقية ومنيجية‪،‬‬
‫وتتضمن قراءة عممية وموضوعية‪ ،‬وسوف نتعرف في السياق التالي عمى تحديداتو المغوية‬
‫والجغرافية لمنازل سبط دان كما جاء سفر يشوع بن نون من جية‪ ،‬وفي ضوء المقابالت‬
‫اإلسمية التي وجدىا في كتاب اليمداني من جية أخرى‪.‬‬

‫ففي إطار البحث عن منازل سبط دان‪ ،‬يطالعنا الربيعي بتفسيره لالسمين المتشابيين‬
‫ِ‬ ‫الواردين في النص التوراتي من (سفر يشوع‪"ِ :)ٗٛ -ٗٔ :ٜٔ ،‬ل ِسبْ ِط بَِني دَ َ‬
‫ب عَشَائ ِرِىمْ‬‫ان َحسَ َ‬
‫س‪َ ،‬وشَعَمَبيْ ِن َوأَيمُ َ‬
‫ون‬ ‫ير شَمْ ٍ‬ ‫ان تُ ْخمُ نَ ِصيِب ِيمْ صَ ْرعَ َة َوأَ ْ‬
‫شتَأُو َل َو ِع َ‬ ‫َخ َر َج ِت ٱلْقُ ْرعَ ُة ٱلساِبعَ ُة‪َ .‬وكَ َ‬
‫ون‪ ،"..‬تحت عنوان فرعي‪( :‬إيْموَ وأيْمو)‪ ،‬ويقدم آخر معالجاتو بشأن‬ ‫ون َوِتمْنَ َة َوعَقْ ُر َ‬
‫َوِيتْمَ َة‪َ ،‬واِيمُ َ‬
‫ما يفترض أنو تفسير متصل بشكل أو بآخر بما جاء في فقرة اليمداني‪.‬‬

‫يترجم مفكرنا ىذا النص ليشوع‪ ،‬ىكذا‪" :‬ولسبط دان وعشائرىم يخرج سيميم السابع‪،‬‬
‫مرتفاعاتيم وأغوارىم‪ :‬ضرعة وءشتءل‪ ،‬وقرى شمس‪ ،‬وثعمبين و(إيمو) ويثمث و(أيمة)‪ ،‬وتمنة‬
‫وعقرون‪.]ٔ[ "..‬‬

‫[ٔ]‪ .‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.ٖٜٙ‬‬
‫‪236‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫وبعد أن استعرض وحدد مواقع األسماء السابقة في النص عمى اسمي (إيمون‪ ،‬أيمون)‪،‬‬
‫نجده يقول[ٔ]‪:‬‬

‫"كل ما تبقى من منازل ىذا السبط – سبط دان‪ -‬ىو (ءيمون) و(ءيالون) وىما اسمان يُحيلن‬
‫قارئ النص التوراتي إلى اسم ورد في منازل سبط نفتمي ويكافئو المترجمون بكممة (البموطة)‪ .‬إن‬
‫تكرار مثل ىذه األسماء في قوائم يشوع‪ ،‬ىو الذي أثار الحيرة والفوضى في أشكال رسميا‪ ،‬فيل نحن‬
‫أمام موضع واحد أم ثلثة مواضع يحمل كل منيما االسم نفسو؟ أم أننا حيال موضعين حقيقيين‬
‫يحملن اسم (ءيمون وءيالون) بالمد؟‬

‫لقد آثرنا ترك ىذين االسمين لمعالجتيما في ىذا الحيز من الفصل ألسباب تقنية‪ ،‬تتصل‬
‫بالرغبة في عرض مقاربة جديدة بين نصوص يشوع واليمداني‪ ،‬ومن أجل إزالة االلتباس الناجم عن‬
‫القراءة االستشراقية‪ .‬وىي قراءة فاقمت من غرائبية أسماء المواضع في فمسطين المتُ َخيمة‪ .‬إن‬
‫فمسطين الحقيقية ال تعرف قط‪ ،‬موضعاً يحمل مثل ىذا االسم‪ ،‬وليس ثمة أثر لغوي أو جغرافي أو‬
‫ثقافي دال عميو‪ .‬وعمى الضد من ذلك نستطيع الوصول إلى ىذين الموضعين إذا ما تتبعنا وصف‬
‫يشوع واليمداني لتيامة اليمن‪ ،‬أي في المكان نفسو الذي وجدت فيو سائر المنازل السابقة‪ .‬إليكم‬
‫الملحظات التالية‪:‬‬

‫طبقاً لمقاعدة المغوية المستنبطة من فيم القدماء لوظائف الحروف اللحقة واللصقة في‬
‫األسماء اليمنية (مثل الياء المثناة من تحت في أول االسم‪ :‬يعرم‪ ،‬يعرب‪ ،‬يكرب‪ ،‬وىي‪ :‬عرم‪ ،‬عرب‪،‬‬
‫كرب‪ ،‬ومثل ييوذه‪ -‬ىوذه) بوصفيا طريقة نطق تدخل في نطاق العادات الصوتية القديمة‪ ،‬وكذلك‬
‫النون التي يسمييا اليمنيون (النون الكلعية في صعدة وسواىا من المخاليف) والتي تمحق بأواخر‬
‫األسماء‪ ،‬فإن اسم الموضع األول‪ -‬أي ءيمون‪ -‬ىو (إيمو)‪ -‬بيمزة من تحت‪ -‬أما اسم الموضع‬
‫الثاني فيو (أيمو)‪ -‬بيمزة من فوق‪ -‬والفرق واضح بينيما‪.‬‬

‫ىذا التمييز بين االسمين ينسجم كل االنسجام مع الرسم العبري ليما‪ .‬وألجل توضيح ذلك ىنا‬
‫بيت من قصيدة لحسان بين ثابت‪:‬‬

‫ممكاً من جبل الثمج إلى ** جانبي إيمو من عبد وحر‬

‫بينما يقول كثير‪:‬‬

‫[ٔ]‪ .‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.ٗٓٓ -ٖٜٜ‬‬


‫‪237‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫رأيت وأصحابي بأيمة موىناً *** وقد غار نجم الفرقد المتصوب‬

‫فمماذا اختمف شعراء االسلم المبكر ثم األموي وقبميما الجاىمي في رسم اليمزة؟ تماماً كما‬
‫اختمف الرسم العبري في رسم االسم بالقصر والمد (ءيمون‪ ،‬ءيالون)؟ ىل نعد ىذا التفاوت الطفيف‬
‫جوىرياً من حيث داللتو؟ وىل يتضمن إشارة قوية عمى معرفة مبكرة ومباشرة بمكانين حقيقيين؟ لقد‬
‫عرف الشعراء العرب في واقع األمر جبلً بعينو من جبال تيامة يدعى (أيمة) ىو شعبة من جبل‬
‫رضوى‪ ،‬في سمسمة جبال ينبع عمى البحر األحمر‪ ،‬وفيو عيون ماء عذبة كما يقول اليمداني‪:‬‬
‫الرسيسان ضاس جبل إلى جنب رضوى‪ ،‬و(أيمة) أيضاً جبل"‪.‬‬
‫"ومجالخ من أودية تيامة الحجاز‪ِّ ،‬‬

‫ىذا ىو الجبل (أيمو‪ -‬ءيمون) الذي عناه كثير في قصيدتو‪ ،‬ضمن سمسمة جبال ينبع‪.‬‬

‫أما (إيمو‪ -‬ءيالون) في قصيدة حسان فيو اسم المدينة القديمة والمندثرة التي ارتبطت‬
‫بأسطورة (إيمو بنت مدين‪ -‬مدين في التوراة عاصمة ساحل البحر األحمر عمى مقربة من حمي‪ ،‬وقد‬
‫ذكرىا القرآن لشيرتيا في سورة األعراف كمدينة ييودية‪ .‬وىذه بالضبط ىي التي عناىا حسان بن‬
‫ثابت في قصيدتو‪.‬‬

‫وايمو المدينة ىذه ال علقة ليا باسم خميج العقبة (أيمو) كما يتوىم االستشراقيون‪ ،‬بل ىي‬
‫المدينة الدارسة التي ظيرت ذات يوم في سواحل البحر األحمر‪ ،‬ثم نقمت القبائل اسميا إبان اليجرة‬
‫الكبرى إلى بلد الشام وظمت مرتبطة بأساطيرىم عن مدين القديمة وقوم مدين ونبييم شعيب‪.‬‬

‫إننا ال نعرف من التاريخ الغابر اسم مدينة ييودية‪ ،‬كانت عاصمة (حاضرة البحر) في‬
‫فمسطين‪ .‬لكننا نعمم من تمييزات الشعراء والمرويات القبمية والقرآن أن حاضرة من حواضر البحر‬
‫األحمر ظيرت بالفعل ذات يوم عمى الساحل‪ ،‬ارتباطاً بمروية اسطورية عن إيمة بنت مدين (في ساحل‬
‫تيامة غير بعيد من جبل أيمو)‪.‬‬

‫واذا كانت (ءيمون) تعني في العبرية بموطة‪ ،‬وىو ما فيمو المترجمون من جممة (من حمف‬
‫من ءيمون‪ -‬في سبط نفتمي‪ -‬فإن المقصود بيذا الموضع في قائمة نفتمي وليس في قائمة سبط‬
‫ييوذا‪ ،‬وانما ىو جبل أيمو حيث وادي حمف‪ .‬وبالطبع ليس ثمة وادي حمف قرب العقبة في األردن‪،‬‬
‫كما ال يوجد جبل يدعى أيمو ىناك‪.‬‬

‫الفارق بين االسمين أن أحدىما يشير إلى مدينة زائمة وآخر إلى جبل"‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ىكذا أوصمنا الربيعي في معالجتو ىذه الى الموضع الرابع من كتاب اليمداني الذي ذكر‬
‫أجمنا التعرض ليا من قبل حتى‬
‫فيو (أيمة) أخرى غير (أيمة) التي في العقبة األردنية‪ ،‬والتي ّ‬
‫الرسيسان‬
‫نصل الى ىذا المكان‪ ،‬حيث أشار اليمداني الى أن‪" :‬من أودية تيامة الحجاز‪ِّ ،‬‬
‫ضاس جبل إلى جنب رضوى‪ ،‬و(أيمة) أيضاً جبل"[ٔ]‪ .‬ولكن دون أن يذكر شيئاً عن حاضرة‬
‫البحر أو حاضرة الجبل‪.‬‬

‫ىنا يجب أن نوضح ما يمي‪:‬‬

‫أوالً‪ ،‬ال عالقة ليذا كمو ب ـ ببالد الييود العتيقة (إيمياء) التي ىي أورشميم المقصودة في‬
‫فقرة اليمداني‪ .‬أما حديث الربيعي عن الزوائد والمواصق من الحروف فال يمت الى حقيقة ما‬
‫أشار إليو بصمة الى اإلطالق‪ .‬فالنون الكالعية تسمية مبسترة يستخدميا الربيعي وال أصل ليا‬
‫في ثقافة اليمنيين القدماء ألن وجود ىذه النون لدييم أقدم بكثير جداً من تاريخ القيالة الكالعية‪،‬‬
‫بل ىي نون سبئية عرفتيا كل كتابات وليجات سبأ القديمة‪ ،‬وىي ترد نوناً مفردة ال يسبقيا واو‬
‫أبداً‪ ،‬بل أن الزائدة (ون) معروف عنيا أنيا شائعة في أسماء األعالم والمناطق الواقعة في‬
‫جغرافية بالد الشام القديمة وفي مقدمتيا أرض فمسطين‪.‬‬

‫أما ياء التأليف التي تنوب عن األلف في بدايات األسماء‪ ،‬فقد جرت عادة اليمنيين‬
‫القدماء أن يستخدموىا في أسماء األعالم البشرية تنزيياً لأللف المقدسة عن أن تكون أداة‬
‫تعريف ألسماء البشر فيما ىي باألساس اسم وأداة تعريف إليية حسب معتقداتيم آنذاك‪ ،‬وذلك‬
‫عمى غرار (أحمد= يحمد‪ ،‬عمي= يعمي‪ ،‬اخضب= يخضب‪ ..‬الخ)‪ ،‬ومن ثم فيذه القاعدة لم‬
‫تطبق أبداً عمى أسماء األماكن الجغرافية ما لم تُسمى بأسماء رجال أو أعالم قبمية‪ ،‬ويمكن لمن‬
‫شاء أن يتحقق من ذلك بمراجعة جميع التسميات اليمنية القديمة‪.‬‬

‫[ٔ]‪ .‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.ٕٜٛ‬‬
‫‪239‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ثانياً‪ ،‬أيمة الوحيدة التي وجدىا مفكرنا في كتاب اليمداني‪ ،‬ليست إال جبالً مقف اًر من جبال‬
‫ينبع بين المدينة ومكة لم تكن أبداً مدينة أو قرية‪ ..‬ولنق أر بإمعان ما قالو ياقوت الحموي‬
‫بشأنو[ٔ]‪:‬‬

‫"أيمة‪ ،‬موضع برضوى وىو جبل‪ ،‬قال ابن حبيب‪ :‬أيمة من رضوى وىو جبل ينبع‬
‫بين مكة والمدينة‪( ،‬وىو غير المدينة المذكورة)‪ -‬ىذا لفظو‪ ،‬وأنشد غيره يقول‪ :‬من‬
‫وحش أيمة موشي أكارعو‪( ..‬والوحش ال ينسب إلى المدن)"‪.‬‬

‫كان ياقوت واضحاً لمغاية من حيث قال (وىو غير المدينة المذكورة)‪ .‬فمن يراجع معجم‬
‫البمدان سيجد أن عبارة ياقوت ىذه قد جاءت عمى سبيل االستدراك الذي قصد منو أن جبل أيمة‬
‫من رضوى في ينبع ليس ىو المدينة المذكورة في القرآن بحاضرة البحر‪ ،‬ولو كان ىناك كما‬
‫يقول الربيعي بجواره أو بالقرب منو مكان يسمى (أيمة) عمى الساحل‪ ،‬لكان األولى بياقوت أن‬
‫يشير إليو وأن يشير إلى أنيا ليست المقصودة في اآلية القرآنية أو أنيا ىي‪ ،‬ولكنو يعرف حق‬
‫المعرفة أنو ما من شيء سوى جبل أيمة القافر والذي أشتير بأنو من البقاع المسكونة بالوحش‪،‬‬
‫وألن مكاناً ىذه صفتو‪ ،‬فإنو ال يمكن أن يكون حاضرة أو عاصمة أو مكاناً مأىوالً بالبشر‪ ،‬وىذا‬
‫معنى قول ياقوت ‪( ..‬والوحش ال ينسب إلى المدن)‪ ،‬إذ جاء قولو ىذا تأكيداً عمى أن (أيمة) في‬
‫العقبة األردنية ىي المقصودة بالقرآن الكريم بأنيا حاضرة البحر وليس ىذا الجبل في ينبع‪.‬‬

‫ثم أن الربيعي يؤكد لنا أن (أيمة‪ /‬ءيمون‪ ،‬إيمو‪ /‬ءيالون) مكانان حقيقيان وليس ثالثة‬
‫أماكن‪ ،‬وقد اىتدينا من خاللو الى جبل أيمة وايمو حاضرة البحر المندثرة والمذان يقعان معاً عمى‬
‫سواحل البحر األحمر‪ ،‬فماذا عن بُمْطة النجدية التي ىي (أيمون) كما قال؟!‬

‫ال ندري‪ ،‬إنيا فوضى وحسب‪..‬؟!‬

‫ثالثاً‪ ،‬إن اسماء (أيمة وايميا وايمون) ال تنتمي إلى جغرافية اليمن إطالقاً‪ ،‬والدليل عمى ذلك‬
‫أن الربيعي لم يجد أياً منيا أو ما يشابييا في نطاق جغرافية اليمن أبداً‪ ،‬ولو أنو وجد شيئاً من‬

‫[ٔ]‪ .‬ياقوت بن عبد اهلل الحموي‪ :‬معجم البمدان‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪( ،‬ب‪ .‬ت)‪ .ٕٜٖ /ٔ .‬ترقيم (م‪ .‬ش)‪.‬‬
‫‪240‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫ذلك لما تردد لمحظة في توظيفو وقعقعة تفسير إييامي لو بحيث يجعمو يبدو متطابقاً مع جغرافية‬
‫أوىامو المتُ َخيَّمة‪.‬‬

‫كما أن موقع جبل أيمة ىذا والحاضرة المندثرة التي يزعميا الربيعي وتقع بالقرب من ذاك‬

‫الجبل‪ ،‬ىما ما يقع خارج نطاق جغرافية اليمن الطبيعي‪ ،‬األمر الذي يسقط معو جممة وتفصيالً‬
‫العنوان العريض الذي صاغو مفكرنا لنظريتو بأن جغرافية أحداث التوراة جرت في اليمن‪ ،‬وأن‬
‫اليمداني قدم شيادة قوية تؤكد ذلك‪.‬‬

‫ويقول الربيعي أيضاً‪ ،‬أن أيمة الجبل يقع بالقرب من وادي حمف الذي حدد موقعو‬
‫اليمداني بأنو يقع بين نجران والجوف‪ ،‬في حين أن المسافة بين الموقعين تنوف عمى أكثر من‬
‫(ٕٓٓٔ) كم‪ ،‬فيل يصدق بحق اهلل عمى ىذه المسافة عبارة (بالقرب)؟!‬

‫خريطة رقم (ٗ)‪ :‬موقع جبل أيمة‪ -‬بالنسبة لــ وادي حمف بين نجران والجوف‬

‫‪241‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫وبالتالي‪ ،‬فإنو سواء كانت (أيمة) ىذه أو (أيمون) تقع في سبط نفتمي أو سبط دان بالنسبة‬
‫لمنص التوراتي‪ ،‬فيذا يعني في كل األحوال أن امتداد أرض الميعاد كما ورد تقسيميا بين‬
‫األسباط في سفر يشوع ال يتوقف عند حدود اليمن الطبيعي كما حددىا اليمداني‪ ،‬بل يتجاوزىا‬
‫إلى أراضي نجد والحجاز‪ -!!...‬باهلل عميكم‪ ،‬ىل ىذا منطقي؟!‬

‫رابعاً‪ ،‬أين ىي أيمة حاضرة البحر المذكورة في القرآن‪ ،‬والتي تقع بالقرب من جبل أيمة‬
‫عمى ساحل األحمر‪ ،‬والتي ىي نفسيا إيميا التي ذكرىا اليمداني كما يدعي الربيعي‪ ،‬طالما وىو‬
‫يعرف يقيناً أنو ما من مكان ىناك في عمى الساحل الغربي لمبحر األحمر المحاذي لمحجاز‪-‬‬
‫ناىيك عن اليمن الطبيعي كمو‪ -‬اسمو (أيمة) كان مدينة أو حاضرة ال في الماضي العتيق وال‬
‫في الماضي القريب وال اليوم يوجد ىذا المكان؟!‬

‫إزاء ىذا السؤال‪ ،‬يدىشنا الربيعي كالعادة ويفاجئنا بالجواب السحري الرىيب الذي يقطع‬
‫كل الشكوك‪ ،‬ويمقي بكل صنوف الريبة التي تختال في نفوسناً كب اًر وتحامالً عميو في مالقي‬
‫اليالك‪ .‬فقد أطل الربيعي عمينا من نافذة جغرافيتو الموىومة المعشعشة في رأسو وحده من دون‬
‫خمق اهلل‪ ،‬وأخبرنا بأن (أيمة) ىذه‪" :‬اندثرت وكفت عن الوجود‪ ،‬حيث انتقل اسميا مع ىجرات‬
‫القبائل إلى العقبة األردنية"[ٔ]‪!!..‬‬

‫يا اهلل‪!!..‬‬

‫يا اهلل‪!!!..‬‬

‫كم أنت مدىش وبارع يا مفكرنا العظيم‪!!..‬‬

‫بالطبع‪ ،‬لن نسأل البروفسور‪ ،‬عن متى وبأي زمن وجدت أيمة ىذه التي اخترعيا كما‬
‫اخترع الصياينة أوىام حقيم المقدس في اغتصاب أرض فمسطين؟ ولن نسألو إلى متى بقيت؟‬
‫وكيف زالت وكفت عن الوجود واندثرت؟ وال كيف اىتدى ىو إلييا؟!‬

‫[ٔ]‪ .‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٗ‪.‬‬
‫‪242‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫لن نسألو عن ذلك كمو‪ ،‬ليس ألنو لم ولن يجيب أبداً عمى تساؤالتنا الماكرة والخبيثة‪ ،‬بل‬
‫ألنو يكفي أن يعمم ىو‪ ،‬وأن يصدقو اإلمعات ويتبعونو في ذلك‪.‬‬

‫خامساً‪ ،‬تأتي الطامة الكبرى والفجيعة األدىى‪ ،‬من حيث حدد مفكرنا جغرافياً موقع‬
‫أورشميم التوراتية بأنيا (بيت بوس)‪ -‬بالقرب من العاصمة اليمنية (صنعاء)‪ ،‬ما يعني أنو قد‬
‫تجاىل قاصداً ومتعمداً الرابطة الوثيقة التي عبَّرت عنيا فقرة اليمداني وعبارتو األخرى الصريحة‬
‫بأن (إيميا ىي أورشميم)‪ ،‬فأسقط ذلك االرتباط الوثيق بينيما في تعيين مكان واحد ارتبطا بو‬
‫وىو بالد الييود العتيقة‪.‬‬

‫في الحقيقة‪ ،‬أنو فعل ذلك من حيث لم يكن أمامو أي خيار تمفيقي آخر‪.‬‬

‫خريطة رقم (٘)‪ :‬موقع بيت بوس في صنعاء بالنسبة لموقعي جبل أيمة في ينبع وعين بمطة في حائل‬

‫‪243‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫واذن‪ ،‬كيف بحق اهلل تكون أورشميم في بيت بوس بالقرب من صنعاء‪ ،‬بينما تكون‬
‫(إيميا) في مكان ما عمى ساحل البحر األحمر تفصل بينيما مسافة تزيد عن (ٓٓٗٔ) كم‪،‬‬
‫واذا كانت بمطة النجدية ىي إيمون التي ىي إيمو‪ -‬ايمياء كما يتوىم الربيعي‪ ،‬فإنيا بذلك لن‬
‫تكون أبداً حاضرة البحر القرآنية‪ ،‬كما وأن المسافة التي تفصل بينيا وبين بيت بوس تزيد‬
‫عن (ٓٓ‪ )ٔٙ‬كم‪..‬؟!‬

‫كيف لنا‪ -‬بحق اهلل‪-‬أن نتصور أن ىذه الفوضى التي اختمقيا مفكرنا وتوىميا يمكن‬
‫أن تفسر لنا المقصود في فقرة اليمداني وكل ما جاء في كتابو بشأن إيميا بلد الييود التي‬
‫تسمى أورشميم‪ ،‬في الوقت نفسو الذي نعمم فيو تماماً أن اليمداني قد ربط االسمين بمكان‬
‫واحد عناه بأنو بلد الييود العتيقة‪ ،‬فضلً عن أن ىذه العلقة قد أكدىا كبار األساتذة الذين‬
‫انتحل الربيعي نظريتيم كالصميبي وأحمد داود‪ ،‬وأكدىا من قبميم العشرات من المؤرخين‬
‫والمغويين والجغرافيين العرب والمسممين ممن جاءوا قبل اليمداني وممن جاءوا من بعده؟!‬

‫ثم‪ ،‬ما علقة ذلك كمو بــ نج ارن التي ظل الربيعي يستحضرىا وكأنيا أيقونتو المقدسة؟!‬

‫بون شاسعٌ لمغاية بين الحقائق الجغرافية‬


‫ال جواب عمى مثل ىذه التساؤالت سوى أن ىناك ٌ‬
‫التي أثبتيا اليمداني في كتابو وتؤيدىا كافة المؤلفات المغوية والتاريخية والجغرافية العربية‬
‫القديمة‪ ،‬وبين األوىام والقعقعات المتُ َخيَّمة‪ ،‬التي ال أصل ليا وال سند سوى إرادة التزييف‬
‫والتحريف‪ ،‬ونزعة التمفيق والتضميل التي مارسيا مفكرنا الف ّذ بصور ُمعيبة ومثيرة لمخجل‪.‬‬

‫سادساً‪ ،‬يختتم مفكرنا معالجتو الرىيبة‪ ،‬قائالً[ٔ]‪:‬‬

‫"ىذه ىي منازل سبط دان القبيمة اليمنية البائدة التي أقامت في مخلف مممكة الييودية‪ .‬لقد‬
‫عادت ىذه المممكة الى الظيور مع العصر الروماني المتأخر مع صعود سللة جديدة في منطقة‬
‫اليمامة‪ ،‬وكان آخر مموكيا عشية االسلم يدعى ىوذة بن عمي الحنفي السحيمي"‪.‬‬

‫[ٔ]‪ .‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٓٗ‪.‬‬
‫‪244‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫بما كان يتحدث عنو‬ ‫[ٔ]‬


‫ترى‪ ،‬ما ىي عالقة (ىوذة بن عمي السحيمي الحنفي)‬
‫الربيعي؟!‪ -‬إذ ينتسب (ىوذة بن عمي السحيمي) الى بني حنيفة من قبيمة بكر بن وائل العدنانية‬
‫العربية الصريحة عروبتيا‪ ،‬ومساكنيا في وادي بني حنيفة باليمامة‪ ،‬وقبيمتو بني سحيم‪ .‬فيو‬
‫ىوذة بن عمي بن ثمامة بن عمرو بن عبد اهلل بن عمرو بن عبد العزى بن سحيم بن مرة بن‬
‫الدول بن حنيفة كما في جميرة النسب البن الكمبي‪ ،‬وكان من زعماء بنو حنيفة‪ ،‬وكان يجيز‬
‫الثياب الى كسرى حتى تصل الى نجران‪ ،‬ووفد عمى كسرى وأعطاه قمنسوة قيمتيا ثالثون ألف‬
‫درىم‪ ،‬وكان معاص اًر ألعشى قيس ومدحو األعشى بأربع قصائد‪ .‬وكان عمى النصرانية وأدرك‬
‫االسالم ولم يسمم[ٕ]‪.‬‬

‫وىكذا‪ ،‬فإن ىوذة السحيمي زعيم قبمي عربي صريح العروبة ينتمي الى إحدى القبائل‬
‫العدنانية العربية وىي قبيمة بكر بن وائل‪ ،‬ولم يكن ييودياً أبداً بل نصرانياً – أي من العرب‬
‫المتنصرة‪ -‬ولم يكن لو أي عالقة بالرومان ال من قريب وال من بعيد‪ .‬فمتى كانت قبيمة بكر‬
‫سللة جديدة لبني اسرائيل أو لمييود ومتى أقام بنو حنيفة مممكة ييودية في اليمامة‪ ،‬ومتى‬
‫كان ىوذة ىذا ممكاً من مموك الييودية؟!‬

‫ما علقة الرجل بالييود والييودية يا مفكرنا العبقري؟!‬

‫ياء زائدة والصقة في بداية‬


‫ال شيء‪ ،‬سوى أن الرجل اسمو (ىوذة)‪ ،‬وأن الربيعي يتوىم أن ً‬
‫ىذا االسم قد اندثرت وكفت عن الوجود ىي األخرى‪ ،‬وأن األصل من ىذا االسم ىو‬
‫(ييوذة)‪.!!..‬‬

‫السحيمي الحنفي‪ ،‬أنو الممقب بذي‬


‫[ٔ]‪ .‬جاء في حواشي محقق كتاب صفة جزيرة العرب عن ىوذة بن عمي ّ‬
‫التاج‪ ،‬قال أبو عمرو معدي‪ :‬قط وانما كانت التيجان لميمن‪ ،‬وقيل لو‪ :‬فيوذة بن عمي‪ ،‬فقال‪ :‬إنما كانت خرزات‬
‫تنظم لو وقد كتب رسول اهلل صمى اهلل عميو وسمم الى ىوذة يدعوه كما كتب الى المموك ولم يسمم ألنو عاجمو‬
‫الموت‪ .‬أنظر‪ :‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ٘‪.‬‬
‫[ٕ]‪ .‬حمد بن ناصر الدخيل‪ :‬يحيى بن طالب الحنفي (ٕٓٔ‪ٔٛٓ -‬ه‪ٜٚٙ -ٖٚٛ /‬م) شعره وحياتو‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬جامعة اإلمام محمد بن سعود‪ ،‬الرياض‪ .ٕٓٓٓ ،‬ص ‪ ،ٜٔ‬ه (٘)‪.‬‬
‫‪245‬‬
‫الفصل الثاني‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلىاث اخلرائط‬

‫عمى كل حال‪ ،‬ياليا من خاتمة تمفيقية غبية ورعناء‪ ،‬ال يصدقيا إال المغفمون من‬
‫القراء‪ ..‬وما أكثرىم في ىذا الزمن‪ .‬ومن يدري‪ ،‬لعمنا نقف أمام مشروع ربيعي جديد إلضافة‬
‫نجد والحجاز واليمامة والعراق وتركيا والصين الى جغرافية التوراة؟!‬

‫ختاماً‪ ،‬كانت تمك نماذج محدودة من السقطات واألوىام والتمفيقات الكثيرة التي تركيا لنا‬
‫مفكرنا الربيعي في ركام سرديتو المشوشة والمضطربة والرخوة وغير المتماسكة‪ .‬فعن ىذه‬
‫أمر‬
‫السقطات الربيعية الكارثية‪ ،‬حدثوا منذ اليوم وال حرج‪ ..‬ألننا مقبمون عمى اكتشاف ما ىو ُّ‬
‫وأدىى‪ ،‬ومقبمون عمى الكشف عما لم يسبقنا إليو أي ناقد ليذه النظرية العجفاء السخيفة التي‬
‫جاء يبشرنا بيا مفكرنا العبقري‪.‬‬

‫وانو لمن المؤسف والمخجل أكثر أن نجد من المثقفين واألكاديميين العرب‪ ،‬من ُيطّبل‬
‫ويشيد بجرأتو ومغامرتو المعرفية والتاريخية والجغرافية‪ ،‬ويصفيا بكل سذاجة بأنيا فتحت‬
‫لمربيعي ُ‬
‫آفاقاً واسعة في معرض نقد التوراة‪ -!!..‬فيما ىي في الحقيقة فتحت آفاقاً رحبة لمتزوير‬
‫والتدليس‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫الفصل الثالث‬

‫هورشلن حوتس آلرتس؟!‬

‫لطالما كان صنع التاريخ من قبل الشعوب منذ أقدم األزمان وأقدم الحضارات رىيناً‬
‫اء باختيارىا أو رغماً عنيا تحت قير‬
‫بالموقع والرقعة الجغرافية التي تستوطنيا وتسكنيا‪ ،‬سو ً‬
‫الطبيعة أو قير الحروب البشرية‪ ،‬لتصبح الجغرافيا (األرض) عمى رأس الحقائق الثابتة التي‬
‫يكاد يكون مستحيلً أن يطاليا التغيير‪ ،‬نظ اًر الرتباطيا الوثيق والعميق بالجذور المغوية والثقافية‬
‫لسكانيا‪ ،‬والتي ال تمحى أبداً من الذاكرة ألنيا تمثل جزًء جوىرياً من كينونة وجودىا االنساني‬
‫ومن تاريخيا وأعلميا[‪.]1‬‬

‫إن العلقة بين االنسان والجغرافيا‪ ،‬ىي نفسيا العلقة بين التاريخ والجغرافيا‪ ،‬والتي‬
‫يوجزىا ويعبر عنيا ذلك الحدث الذي يصنعو الفرد المبدع والجماعة المتطمعة الى النيوض‬
‫والتقدم‪ ،‬والذي يؤرخ لو بالزمان وفي المكان الذي انتموا دوماً إليو‪ ،‬واذا كانت معركة الشعوب‬
‫الرئيسية انطلقاً من كونيا صانعة تاريخيا وحضاراتيا تتمثل في حفظ وحماية نتاج ذلك التاريخ‬
‫مرتبطاً باألرض وبالجغرافيا‪ ،‬فإن أعداء الحقيقة وصناع الزيف أبدعوا الكثير من الطرق لتزييف‬
‫التاريخ وتشويو معالمو والتضميل عن حقائقو‪ ،‬ليبقى السؤال في مضمار ىذا الصراع‪:‬‬

‫ىؿ يمكف تزييؼ الجغرافيا أيضاً؟!‬

‫تتناقض األسفار التوراتية في تقديم معطياتيا وتحديداتيا الجغرافية إزاء ما تعبر عنو‬
‫العديد من االصطلحات المقرائية‪ ،‬عمى غرار‪ :‬الوعد المقدس‪ ،‬أرض الميعاد‪ ،‬أرض اسرائيل‪،‬‬
‫وغيرىا من االصطلحات التي تراتبت دالالتيا الجغرافية بين ادعاءات الحق اإلليي وشعارات‬

‫[‪ .]1‬أحمد زرير‪ :‬عمم األعلم الجغرافية الطبونيميا في رصد بعض الحقائق التاريخية في منطقة أيت سدرات ن‬
‫إغيل‪ 11 ،‬مايو ‪ ،7116‬متاح عمى الرابط االلكتروني‪:‬‬
‫‪http://www.dades-infos.com/?p=42925- 30 May 2018.‬‬
‫‪247‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫الحق التاريخي‪ ،‬في الوقت الذي كشفت فيو نتائج عمم اآلثار وغيره من العموم المساعدة عن‬
‫استحالة القبول بمثل ىذه االدعاءات لعدم وجود ما يسندىا عمى أية حال‪ ،‬وىذا ما دفع البعض‬
‫من الباحثين العرب – تأث ارً ببعض المقوالت واالفتراضات التي طُرحت مف قبؿ مفسري التوراة‬
‫والمستشرقيف كما تبيف لنا مف قبؿ‪ -‬الى افتراض أن ثمة خطأ وقع في تحديد جغرافية النص‬
‫التوراتي‪ ،‬والذي أفضى بدوره الى اختلق نظرية جغرافية التوراة في اليمن وجزيرة العرب‪.‬‬

‫تنطمق ىذه الدراسة من رؤية نتبناىا والبد من توضيحيا‪ ،‬وىي رؤية تتمثل في رفضنا‬

‫التام لمصطمح "جغرافية التوراة" بكل مدلوالتو وحموالتو وتفسيراتو‪ ،‬إذ أننا نراه مصطمحاً خادعاً‬
‫ومضملً من حيث يعطي مشروعية أو مصداقية زائفة لفكرة أن النص التوراتي بحد ذاتو لو ىوية‬
‫جغرافية تستتبعيا ىوية تاريخية‪ .‬والحقيقة أنو ال يمكن أن تكون ىناك جغرافية أو أرض موىوبة‬
‫لنص أو معطاة بموجب نص أو مستدل عمييا بموجب نص‪ .‬فاألرض والجغرافية لسكانيا‬
‫ولشعوبيا تتسمى بأسمائيم وتعبر عن ىوياتيم‪ ،‬فنقول جغرافية اليمن وسكانيا اليمنيين‪ ،‬وجغرافية‬
‫فمسطين وسكانيا الفمسطينيين‪ ،‬إذ أن ىوية األرض باألساس نتاج طبعي وطبيعي ليوية سكانيا‬
‫كما سموىا ورسموىا وصنعوىا ودافعوا عنيا‪ ،‬وأي اصطناع قائم عمى غير ذلك ما ىو إال خداع‬
‫وتحريف‪.‬‬

‫ولكي تتضح رؤيتنا أكثر لمقراء األعزاء‪ ،‬نقول أن وقع مصطمح جغرافية التوراة عمى نفوس‬
‫الناس يختمف تماماً عن وقع مصطمحات أخرى لو أنيا استخدمت‪ ،‬مثل‪" :‬جغرافية العبرانيين أو‬
‫جغرافية الييود‪ ،‬أو جغرافية بني اسرائيل"‪ ،‬وىذا بالضبط ما تفاداه أصحاب ىذه النظرية‪ ،‬من‬
‫حيث أدركوا الدور الوظيفي الذي يمكن أن يمعبو مصطمح جغرافية التوراة في خداع الناس‬
‫وتضميميم عن كونو في الحقيقة بديلً لتمك المصطمحات التي تعبر عن الحقيقة الكامنة وراء ما‬
‫تسعى نظريتيم الى تمفيقو‪ ،‬وبالتالي فإن مصطمح (جغرافية الييود) ىو ما يجب أن يوضع في‬
‫االعتبار عندما نتعاطى مع مصطمح جغرافية التوراة‪ ،‬ألن من الصعب اليوم الحديث عن‬
‫(جغرافية أرض بني اسرائيل) من حيث لم يعد يوجد باألساس شعب أو جماعة أو قومية يمكن‬
‫أن نقول بأنيا بني اسرائيل‪ ،‬وليذا يحرص رواد ىذه النظرية عمى اإلمعان في الخداع والتضميل‬
‫من خلل تأكيداتيم المستمرة عمى ضرورة الفصل والتمييز بين الييود وبني اسرائيل‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫ونظ اًر الستحالة القبول اليوم بالمدلول الصريح لمصطمح جغرافية أرض الييود أو جغرافية‬
‫أرض بني اسرائيل‪ ،‬جرى استخدام وتوظيف مصطمح جغرافية التوراة إلييامنا بأن األمر ال يعدو‬
‫أكثر من طروحات تفسيرية تاريخية وجغرافية ذات طابع معرفي بحت لمنص التوراتي‪ ،‬وأن األمر‬
‫ليس لو أي ارتباطات سياسية أو وظائف أيديولوجية تخدم فئة ما أو نظرية ما أو مشروع ما‪.‬‬
‫فيما األمر واضح جداً‪ ،‬والخداع واضح جداً‪ ،‬والتضميل واضح جداً‪ ،‬واال لماذا ال يسمي أصحاب‬
‫ىذه النظرية األشياء بمسمياتيا‪ ،‬عمى األقل كما وردت في النصوص التوراتية طالما وىي‬
‫مرجعيم الجوىري؟!‬

‫لماذا ال يقولوف جغرافية أرض الميعاد‪ ،‬أو جغرافية أرض اسرائيؿ تماماً كما تنطؽ بذلؾ‬
‫التوراة‪..‬؟!‪ -‬عمى القراء َّ‬
‫أال تفوتيـ مثؿ ىذه المالحظات البالغة األىمية‪.‬‬

‫يبرز ىذا االتجاه الخادع والمضمل في رسم أطر وحدود ىذه النظرية بكامل ملمحو‬
‫وسماتو في النموذج الذي قدمو المفكر العربي فاضل الربيعي‪ ،‬الذي نيض عمى افتراضات‬
‫غرائبية تمحل صاحبيا بجيد بالغ في وضع الكثير من الحقائق الجغرافية‪ -‬فضلً عن الحقائق‬
‫المغوية والتاريخية‪ -‬عمى محك الشك واالرتياب‪ ،‬إذ تعامل عمى الدوام مع افتراضاتو وكأنيا‬
‫حقائق راسخة‪ ،‬األمر الذي أثار الكثير من الدوافع لوضع نموذجو تحت مجير الفحص العممي‬
‫والنقد المنيجي والموضوعي‪.‬‬

‫وىكذا‪ ،‬ماداـ األمر يتعمؽ بالجغرافيا‪ ،‬فالبد مف أف تكوف األسس والمفاىيـ واألدوات‬
‫التي يحددىا عمـ الجغرافيا ىي المعيار الذي ينبغي االحتكاـ إليو‪ ،‬ومف ثـ يتـ تدعيـ ىذا‬
‫المعيار بالمعايير المغوية والتاريخية األخرى المؤازرة لو‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫)‪(1‬‬
‫ً‬
‫هل ترجن الربيعي التوراة حقا؟!‬

‫ادعى مفكرنا الربيعي وكرر ادعاءاتو دائماً في مواقع مختمفة من كتابو "فمسطيف‬
‫المتخيمة"‪ ،‬بأن وصف اليمداني لجغرافية جزيرة العرب واليمن عمى وجو الخصوص‪ ،‬قد جاء‬
‫متطابقاً مع ما ورد في النص التوراتي‪ ،‬وأن ىذا التطابق يتضح من خلل المقابلت االسمية‬
‫لألماكن الجغرافية بين الوصفين اليمداني والتوراتي‪ ،‬األمر الذي تركز بشكؿ أكثر في تحميالتو‬
‫عمى ما جاء في سفر يشوع بشأف أرض الميعاد‪ -‬أرض كنعاف‪ -‬وتقسيميا بيف األسباط‪.‬‬
‫وبحسب ادعاءاتو أيضاً‪ ،‬فإن اليمداني قد حدد الفضاء الجغرافي لألماكن والمنازل التي ورد‬
‫ذكرىا في سفر يشوع وغيره من أسفار التوراة[‪.]1‬‬

‫بيد أن النص التوراتي يعطينا الكثير من المقومات التي تدعم مسار التحقق من صحة‬
‫وموضوعية تفسير كيذا‪ ،‬من حيث أعطانا ىذا النص توصيفات جغرافية ىامة لحدود األرض‬
‫الموعودة وحدود أرض كنعان مثلً‪ .‬كما أمدنا ببيانات وصفية عن المساحة والتضاريس والمعالم‬
‫والسكان والطبيعة والطقس والمناخ وغير ذلك من البيانات التي تدخل بل أدنى شك في لحمة‬
‫وسدى البحث الجغرافي‪ ،‬رغـ ما يشوبيا مف التناقضات والتضاد والتشوش‪ ،‬إال أنيا تبقى‬
‫متاحة لمبحث والتحميؿ النقدي‪.‬‬

‫قائم – كما أكدنا م ار اًر ‪ -‬عمى‬


‫وألن األمر بالنسبة ليذه النظرية‪ -‬نظرية جغرافية التوراة‪ٌ -‬‬
‫وقائم أيضاً عمى اختلق ذلك التشابو والتطابق‬
‫ٌ‬ ‫البحث عن المتشابيات من األسماء الجغرافية‪،‬‬
‫المزعوم‪ ،‬أكثر ما إنو قائم فعلً عمى األسس العممية والموضوعية التي البد وأن يستند إلييا أي‬
‫بحث في الجغرافيا التاريخية‪ ،‬بل وألن األسس والمعايير العممية الجغرافية ظمت منذ البداية‬
‫معزولة‪ ،‬ومقصاة‪ ،‬وممنوعة من الحضور بشكل فعمي عمى طول النسق الذي سمك فيو مفكرنا‬

‫[‪ .]1‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪250‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫العبقري مسالكو المختمفة في وضع اجتياداتو وطرح معالجاتو‪ ،‬نقول أنو ليذا السبب ولغيره من‬
‫األسباب تجاىل ىذا المفكر عمداً وقصداً تمك التفاصيل والمعطيات التوراتية المتعمقة بجغرافية‬
‫األرض المعنية في أسفارىا واصحاحاتيا‪.‬‬

‫من أجل ذلك‪ ،‬سوف نتعامل بالقدر الكافي مع بعض تمك التفاصيل والمعطيات الكتابية‬
‫التي وردت في النص التوراتي‪ ،‬نظ اًر لما تنطوي عميو من أبعاد ودالالت ىامة تتقاطع وتتناقض‬
‫مع نظرية مفكرنا الموىومة وتفسيره المختمق والممفق لجغرافية أحداث التوراة‪.‬‬

‫ولكي يتبين بالضبط ما نقصده‪ ،‬فإن تمك التفاصيل والمعطيات الجغرافية التي وردت في‬
‫األسفار التوراتية والتي نشير إلييا ىنا‪ ،‬تتمثل بما يمي‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬التفاصيؿ المتعمقة بػػ "حدود أرض الميعاد"‪ ،‬والتي يمكن أن تعطينا فكرة ال بأس بيا‬
‫عن حدود األرض المعنية دائماً في النص التوراتي‪ ،‬وربما تساعدنا بدرجة أو بأخرى في تحديد‬
‫موقعيا الجغرافي‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬التفاصيؿ المتعمقة ب ػ "مساحة أرض الميعاد"‪ ،‬وىي تفاصيل بالغة األىمية من‬
‫حيث طبيعتيا الكمية والقياسية كيفما وردت في النص التوراتي‪ ،‬ومن شأنيا أن تعطينا فكرة‬
‫واضحة عن مساحة األرض المعنية في التوراة‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬التفاصيؿ المتعمقة ب ػ "تقسيـ األرض بيف األسباط"‪ ،‬وىذا ىو الجزء الذي تعامل‬
‫معو الربيعي متسرعاً‪ ،‬وجعل مرتك اًز أساسياً في تكوين نظريتو واستدالالتو‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬المعطيات المتعمقة بجوانب جغرافية أخرى‪ ،‬وىي معطيات متفاوتة الكم والمضمون‬
‫إزاء جوانب جغرافية ال يمكن التغافل عنيا‪ ،‬كالطقس والمناخ ومواسم األمطار واألشجار‬
‫والنباتات والمنتجات الزراعية والحيوانات‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫ال شك في أن توفر مثل ىذه المعطيات والتفاصيل في النص التوراتي وبشكل واضح‬
‫وصريح في أغمب األحوال‪ ،‬ينبغي أن يكون مدخلً جوىرياً لبناء أي أطروحة عممية ومنيجية‬

‫‪251‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫بشأن ما يصفو الربيعي وغيره ب ـ "جغرافية التوراة" أو "مسرح أحداث التوراة"‪ .‬لكن ىذا لم يحدث‬
‫ولم يقم بو مفكرنا أو يعيره أي انتباه‪ ،‬في مقابل أن ىناك من رواد ىذه النظرية من حاول‬
‫االقتراب من تمك التفاصيل بحذر شديد‪ ،‬ومنيم من تعامل معيا بشكل مجتزئ ومنقوص لخدمة‬
‫أىدافو الضيقة‪ ،‬األمر الذي يدفعنا الى تحري األسباب والدوافع الكامنة وراء تجاىل وتغييب تمك‬
‫المعطيات رغم أىميتيا الشديدة في الكشف بدقة عن حقيقة مسرح أحداث النص التوراتي‪.‬‬

‫عمى ىذا األساس‪ ،‬سوف نتعامل في ىذا الفصل مع معطيات النص التوراتي المتعمقة‬
‫بحدود أرض الميعاد‪ ،‬وذلك في ضوء النصوص التوراتية المتعددة التي تستند إلييا عقيدة (أرض‬
‫الميعاد أو أرض الموعد أو األرض الموعودة) الكتابية لما يعرف ب ـ (الوعد اإلليي)‪ .‬فقد صدر‬
‫ىذا الوعد أوالً لمنبي إبراىيم في (سفر التكوين‪ ،)71 -17 :14 ،‬كما صدر وعداً آخر ليعقوب‬
‫نجده أيضاً في (سفر التكوين‪ ،)14 -11 :77 ،‬ثم صدر وعداً مماثلً لمنبي موسى في (سفر‬
‫الخروج‪ ،)21 :72 ،‬وىو الوعد الذي جرى تفصيمو جغرافياً في (سفر العدد‪،)12 -1 :23 ،‬‬
‫ومن بعد ذلك نجد نصان رابعاً وخامساً يحملن في جديمتييما الوعد نفسو وكلىما في سفر‬
‫التثنية‪ ،‬الرابع منيما في مطمع (سفر التثنية‪ ،)7 -6 :1 ،‬والخامس في نياية السفر نفسو (‪:23‬‬
‫‪ ،)3 -1‬ثم يرد ذلك الوعد اإلليي مجدداً بصيغ مغايرة في عدة مواضع من سفر يشوع‪:1( :‬‬
‫‪.)5 -1 :12( ،)73 -1 :17( ،)77 -1 :11( ،)37 -31 :11( ،)14 -17 :1( ،)3‬‬

‫غير أن كل تمك الوعود اإلليية بمنح بني اسرائيل‪ /‬الييود أرضيم الموعودة والتي اقترنت‬
‫بالدعوة الى إجلء سكانيا وقتميم بل وابادتيم عن بكرة أبييم‪ ،‬لم تدخل حيز التنفيذ إال في سفر‬
‫يشوع الذي انطوى عمى وصف اإلجراءات التي قام بيا "يشوع بن نون" في غزو بلد كنعان‪-‬‬
‫والتي سيجري تسميتيا الحقاً ب ـ "أرض اسرائيؿ" ثم "بالد الييود"‪ ،-‬ومن ثم تقسيميا بين األسباط‬
‫االثني عشرة من بني اسرائيل‪ ،‬وفق أسس ومعايير لم يغفل النص التوراتي عن تبيانيا لنا‪.‬‬

‫المثير للىتمام ىنا‪ ،‬ىو أن النصوص التوراتية المشار إلييا آنفاً‪ ،‬لم تكتف بإطلق ذلك‬
‫الوعد اإلليي وتسمية األرض الموعودة فحسب‪ ،‬بل اقترنت بنصوص متصمة بيا بينت حدود‬
‫تمك األرض الموعودة‪ ،‬وبالتالي فإننا نجد أمامنا كماً كبي اًر من النصوص التي تصف لنا حدود‬

‫‪252‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫أرض الميعاد‪ ،‬ونظ اًر لتعدد صيغ ذلك الوعد واألشخاص الذين وعدوا بيا‪ ،‬والمراحل الزمنية‬
‫المتباينة التي عاش فييا كل منيم‪ ،‬فإننا ال نجد تمك الحدود وىي معينة عمى نحو واحد‪ ،‬بل إنيا‬
‫تختمف فيما بينيا من نص أو وعد الى آخر‪ ،‬فضلً عن أنيا جميعاً تختمف عن حدود ما تمكن‬
‫"يشوع بن نون" بعد ذلك من تحصيمو بالفعل‪" .‬كما أف حدود األرض التي سكنيا بنو إسرائيؿ‬
‫ومف بعدىـ الييود في إطارىا تختمؼ مف مممكة إلى مممكة"[‪ .]1‬فالحدود التاريخية الفعمية‬
‫ألرض الميعاد أو أرض إسرائيل في التوراة كانت دائماً حدوداً غير ثابتة‪ ،‬متنقمة‪ ،‬تغيرت‪،‬‬
‫وتنقمت‪ ،‬وتوسعت‪ ،‬وتقمصت في فترات مختمفة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يرى جانب كبير من مفسري وشارحي‬
‫ونقاد النص التوراتي والباحثين في شؤونو‪" ،‬أن التحديد الدقيق ألرض إسرائيل كان في زمن‬
‫القضاة‪ ،‬وعمى وجو التحديد فترة يشوع واألسباط"[‪.]2‬‬

‫ومن أجل البقاء في مسار بحثنا‪ ،‬سوف نبتعد عن الكثير من القضايا التي تدخل في‬
‫لحمة وسدى ىذا األصل االعتقادي الذي حممتو التوراة‪ ،‬والذي أثار الكثير من المشكلت‬
‫التاريخية والدينية والجغرافية والفكرية‪ ،‬بحيث نتمكن من الولوج الى صميم موضوع ىذا البحث‬
‫ومجالو‪ ،‬والذي يتمثل في التعرف عمى بعض ملمح جغرافية أرض اسرائيل وبلد الييود كما‬
‫وردت في التوراة‪ ،‬مما تجاىمو مفكرنا الربيعي وغيره من الرواد العرب لنظرية جغرافية التوراة‪.‬‬

‫يمضي اتجاىنا في السياق التالي نحو استقراء ودراسة بعض تمك الملمح الجغرافية التي‬
‫قدمتيا لنا التوراة عن األرض المقصودة فييا‪ ،‬دوف التدخؿ في أو االعتماد عمى التفسير‬
‫التقميدي الذي يضع ىذه األرض دائماً في نطاؽ جغرافية بالد الشاـ‪ -‬الجزء الجنوبي الغربي‬
‫مف بالد الشاـ‪ :‬فمسطيف‪ .‬فاليدف الجوىري من بحثنا ىنا ىو التحقق من مدى انطباق الوصف‬
‫التوراتي ألرض اسرائيل عمى جغرافية اليمن كما وصفيا اليمداني‪ ،‬عمى نحو يبدو فيو األمر‬
‫وكأننا نقوم بالخطوة التي كان يفترض بمفكرنا الربيعي أن يقوم بيا‪ ،‬والتحقق من مدى قدرتيا‬
‫عمى تدعيم نظريتو وادعاءاتو‪.‬‬

‫[‪ .]1‬عمر أمين مصالحة‪ :‬حدود ارض إسرائيل في المك ار (التوراة)‪ -‬دراسة توثيقية‪ ،‬مجمة قضايا اسرائيمية‪،‬‬
‫المركز الفمسطيني لمدراسات اإلسرائيمية "مدار"‪ ،‬العدد (‪ ،)35‬يوليو ‪ .7117‬ص ص ‪.87 -78‬‬
‫[‪ .]7‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.78‬‬
‫‪253‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫وىذا يعني أننا سنتبنى افتراضو بأن موطن وجغرافية أحداث التوراة ىو اليمن‪ ،‬ثم نتحقق‬
‫من مدى صحة ىذا االفتراض من خلل مطابقة التحديدات الجغرافية التي أقاميا في كتابو‬
‫"فمسطين المتخيمة" لممناطق والمواقع التوراتية والمتعمقة بحدود أرض الميعاد أو أرض اسرائيل‪،‬‬
‫كما أسقطيا عمى الجغرافية اليمنية‪.‬‬

‫وبيذا تتكامل معنا حمقة البحث بين النص التوراتي واليمداني والمعالجة التي قدميا‬
‫مفكرنا الفاضل‪.‬‬

‫بيد أن ثمة أمران ليما أىمية بالغة في الكشف والتعرف عمى األسس التي انطمق منيا‬
‫الربيعي في بناء معالجتو الجغرافية واستدالالتو التي قدميا في كتابو "فمسطين المتخيمة"‪ ،‬نرى أن‬
‫نتطرق ليما ىنا من حيث لم يتسنى لنا ذلك من قبل‪ ،‬وىما‪:‬‬

‫األمر األوؿ‪ ،‬ما أكد عميو الربيعي من أنو قام بإعادة ترجمة النص التوراتي من أصمو‬
‫العبري‪ ،‬كإجراء قام فيو بإعادة ضبط األسماء الجغرافية‪ ،‬وألنو لم يبين لنا أسس ترجمتو أو‬
‫يعرضيا لنا‪ ،‬فنحن مضطرون لتحري حقيقة ىذه الترجمة‪ ،‬والبحث قدر المستطاع عن الفروق‬
‫التي أحدثتيا ودورىا في تصحيح الرؤية الجغرافية لمسرح أحداث التوراة‪.‬‬

‫األمر الثاني‪ ،‬وىو ما يتعمق بالطريقة التي تعامل بيا الربيعي مع نصوص اليمداني‬
‫الوصفية والجغرافية واألسماء الواردة فييا‪ ،‬والى أي مدى كان تعاممو عممياً وموضوعياً‪ .‬فمن‬
‫المؤكد أن التعرف عمى ملمح ترجمتو لمنص التوراتي شرط ضروري لمتحقق من موضوعية ذلك‬
‫التطابق بين األسماء الجغرافية التي أكد عميو بين التوراة واليمداني‪.‬‬

‫من أجل ذلك‪ ،‬رأينا أن نعقد مقارنة سريعة بشأن األساس الذي أقام عميو الربيعي نظريتو‪،‬‬
‫بين نموذجو من جية ونموذج أستاذه ميندس النظرية األول الدكتور كمال الصميبي من جية‬
‫أخرى‪ .‬فاألساس الذي اعتمده الصميبي في بناء نظريتو ىو ملحظة وجود تشابو بين أسماء‬
‫األماكن التي ترد في النص التوراتي‪ ،‬وأسماء األماكن القائمة اليوم في منطقة عسير غرب‬
‫الجزيرة العربية‪ ،‬ولكي يثبت الصميبي ىذه الظاىرة بنى منيجو عمى مقابمة األسماء التوراتية في‬
‫النص الماسوري منيا مع أسماء األماكن في عسير‪ ،‬ومن ثم قام بتطبيق قواعد التحوالت المغوية‬
‫‪254‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫من تقميب وابدال وغيرىا عمى أسماء القرى والتلل والوديان في عسير لتصبح مشابية فعلً‬
‫لألسماء التوراتية التي حرص عمى االحتفاظ بيا سميمة دون خدش‪ ،‬وىذا ما جعل الصميبي يقع‬
‫في مأزق تفسيري‪ ،‬جعمو يتعسف في المطابقة بين األسماء الجغرافية‪ ،‬إذ عمد الى اجبار أسماء‬
‫المناطق في عسير عمى أن تصبح مشابية ألسماء أماكن التوراة‪ ،‬وىذا ما أفقد استدالالتو الكثير‬
‫من المنطق وأخرجيا من دائرة المنيجية العممية‪.‬‬

‫كان الربيعي قد انتقد اجراءات الصميبي تمك في أكثر من مناسبة‪ ،‬ففي حوار معو طرح‬
‫عميو سؤال عن مواطن االتفاق واالختلف بينو وبين الصميبي‪ ،‬أجاب مفكرنا قائلً[‪:]1‬‬

‫"الدكتور كماؿ صميبي عالـ جميؿ قاـ بفتح عظيـ في الثقافة العربية وكتابو‬
‫(التوراة جاءت مف الجزيرة العربية) ىاـ لمغاية‪ ،‬ومف حيث الجوىر ال خالؼ بيني وبينو‬
‫في فيـ النص التوراتي‪ ،‬ونحف نتفؽ في القواعد العامة لمبحث وفي المنطمقات‬
‫األساسية في قراءة ىذا التاريخ ونختمؼ في األدوات‪ ،‬ىو لجأ الى الػػ (فونيطيقا) أي‬
‫لعبة المقاربات المغوية التفكيؾ والتركيب (البنى الصوتية) لألسماء‪ ،‬معتقدا مف خاللو‬
‫أف المتغيرات التي حدثت في أسماء األماكف والمواضع في منطقة عسير يمكف أف‬
‫تكوف مفتاحا إلعادة فيـ وتركيب النص التوراتي‪ ،‬وانا عمى العكس مف ذلؾ لـ أسقط‬
‫في فخ المعبة المغوية"‪.‬‬

‫نفس ىذه الفكرة‪ ،‬عبر عنيا الربيعي في عدة مواضع من كتابو "فمسطين المتخيمة"[‪،]2‬‬
‫حيث كشف عن عيوب منيج الصميبي‪ ،‬واصفاً إياه ب ـ (لعبة المقاربات المغوية) ‪ ،‬ومؤكداً بصيغ‬
‫مباشرة عمى أنو استفاد من خطأ الصميبي (ولم يسقط في الفخ الذي وقع فيو)‪ ،‬وىذا بدوره يدفعنا‬
‫الى التعرف عمى طبيعة المنيج واألدوات التي استخدميا الربيعي إلثبات تشابو أسماء األماكن‬

‫[‪ .]1‬الباحث العراقي فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين لم تكن يوما أرض الميعاد الييودي وال علقة ليا بالييودية‪ ،‬حوار‬
‫مع فاضل الربيعي‪ ،‬صحيفة الوطن‪ ،‬متاح عمى الرابط االلكتروني‪:‬‬
‫‪http://www.alwatan.com/graphics/2011/01Jan/18.1/dailyhtml/ashreea.html-‬‬ ‫‪26‬‬
‫‪May 2018.‬‬
‫[‪ .]7‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪255‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫تجنب حقاً‬
‫في التوراة مع أسماء األماكن التي مازالت قائمة في اليمن‪ ،‬وأن نعرف بالضبط كيف ّ‬
‫الوقوع في مأزق الصميبي؟!‬

‫في نفس الحوار المشار إليو آنفاً‪ -‬وأيضاً في مقدمة كتابو "فمسطين المتخيمة"‪ -‬يصف‬
‫الربيعي منيجو وأدواتو التي نأى بنفسو من خلليا عن الوقوع في ذلك الفخ‪ ،‬قائلً[‪:]1‬‬

‫"ذىبت مباشرة الى المحاور الثالثة اآلتية‪ :‬إعادة ترجمة النص العبري ومقارنتو‬
‫مع نص اليمداني والتطابؽ المذىؿ في أسماء المواقع واألماكف وفي نفس الفضاء‬
‫الجغرافي‪ ،‬ثـ الشعر الجاىمي"‪.‬‬

‫نفيم من ىذا‪ ،‬أنو استند في بناء نظريتو عمى منيج ثلثي‪ -‬أي قائم عمى ثلث‬
‫خطوات‪ -‬كاآلتي‪:‬‬

‫الخطوة األولى‪ ،‬قام فييا بدراسة المغة العبرية لعدة سنوات‪ -‬كما صرح لنا‪ -‬حتى تمكن‬
‫منيا ومن فك أسرارىا وكل طلسميا‪ ،‬وبالتالي فقد أصبح قاد اًر عمى قراءة التوراة في نصيا‬
‫العبري األصمي‪.‬‬

‫الخطوة الثانية‪ ،‬قام فييا بتعيين النص التوراتي العبري األصمي واعادة ضبط أسماء‬
‫األماكن الجغرافية الواردة فيو‪.‬‬

‫الخطوة الثالثة‪ ،‬قام بمطابقة ومقارنة أسماء األماكن التوراتية وأسماء المناطق الواردة في‬
‫كتاب اليمداني وقصائد الشعر الجاىمي‪.‬‬

‫كما يؤكد مفكرنا عمى أنو ومن خلل ىذه اإلجراءات‪ ،‬توصل الى نتائج مدىشة لمغاية‪،‬‬
‫حيث أن اكتشف أن األمر ليس مجرد تشابو بين األسماء بل ىو تطابق تام‪ ،‬بحيث ال يحتاج‬
‫معو الى تطبيق التلعبات المغوية كما فعل الصميبي‪.‬‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.18 -17‬‬


‫‪256‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫لكننا وحتى ىذه المحظة‪ ،‬وبرغم مرور ما يزيد عن عشر سنوات منذ صدور كتابو‬
‫فمسطين المتخيمة ال نعمم إن كان مفكرنا قد قام بالفعل بترجمة النص العبري أم ال‪ ،‬وال نعرف ما‬
‫ىي األسس المنيجية والعممية والمغوية التي اعتمدىا في ترجمتو‪ ،‬وال نممك أيضاً نسخة من تمك‬
‫الترجمة التي قام بيا‪ ،‬وال ىو أخبرنا عنيا أو شرحيا لنا كما يفعل المترجمون عادة في مقدمات‬
‫أعماليم‪ .‬فكل ما عرضو الربيعي في كتبو ومؤلفاتو ليس إال نتائجو التي دبمجيا ولقمقيا وقعقعيا‬
‫لتبدو بمثابة أدلة مقنعة عمى تطابق أسماء التوراة مع أسماء األماكن في الجغرافية اليمنية‪.‬‬

‫وبعد دراسة وتحميل إلجراءات مفكرنا المشار إلييا سمفاً‪ ،‬تبين أن ما قالو ووصفو بشأن‬
‫منيجو الثلثي المزعوم‪ ،‬ال يعدو أكثر من ادعاء‪ ،‬إذ ال يوجد دليل واحد قدمو صاحبو يثبت أنو‬
‫قام بالفعل بترجمة النص العبري لمتوراة‪ ،‬بل أننا ومن خلل فحص دقيق أجريناه عمى عينة‬
‫عشوائية من األسماء التوراتية التي أعاد تعيينيا جغرافياً عمى الخارطة اليمنية في كتابو‪ ،‬ومن‬
‫حيث يفترض أن نجد تغاي اًر بينيا وبين صيغيا أو مقابلتيا التي تظير في الترجمة التقميدية‬
‫لمتوراة‪ ،‬تبي ن لنا أنو لم يقم بأي ترجمة عمى اإلطلق‪ ،‬بل قام بتلعب ال يختمف كثي اًر عن الذي‬
‫قام بو الصميبي‪.‬‬

‫وعميو‪ ،‬يمكن إعادة توصيف حقيقة المنيج الثلثي المزعوم من قبل مفكرنا الفاضل‪ ،‬عمى‬
‫النحو التالي‪:‬‬

‫الخطوة األولى‪ ،‬قام فييا بتفتيش النص التوراتي العربي واعداد قائمة باألسماء الجغرافية‬
‫الواردة فيو والتي ادعى أنو يحفظيا عن ظير قمب‪.‬‬

‫الخطوة الثانية‪ ،‬قام بتفتيش كتاب اليمداني وجمع المتشابيات المفظية من األسماء‬
‫الجغرافية التي وردت فيو مع قائمة األسماء التوراتية التي أعدىا في الخطوة األولى‪.‬‬

‫الخطوة الثالثة‪ ،‬قام فييا مفكرنا بانتقاء األسماء األكثر تشابياً والتي يمكن إييام القراء‬
‫بأنيا متحصمة نتيجة اجراءات طبقت فييا قواعد لغوية‪ ،‬كقمب الصاد ضاد‪ ،‬فضلً عن جمع‬
‫بعض المفاىيم المغوية عن الزوائد والمواصق وغيرىا‪ ،‬ثم بدأ عممية القعقعة سارداً لنا بعبقريتو‬
‫الفذة جغرافية التوراة وتاريخيا اليمني العريق المتخيل في أوىامو‪.‬‬
‫‪257‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫ما حصل ىو أنو وبينما قام الصميبي باإلبقاء عمى أسماء األماكن التوراتية سميمة كما‬
‫ىي‪ ،‬وأجرى تلعباتو المغوية فقط عمى أسماء المناطق التي عينيا في المقابل في منطقة عسير‬
‫اليمنية‪ ،‬قام الربيعي بالعكس من ذلك‪ ،‬إذ تلعب باألسماء التوراتية وقام بإعادة ضبطيا بطريقة‬
‫ما معتمداً في ذلك عمى التسميات المشابية ليا في كتاب اليمداني‪ ،‬فكل األسماء التوراتية التي‬
‫ادعي ترجمتيا ليست إال األسماء الواردة أصلً في كتاب صفة جزيرة العرب لميمداني‪ ،‬في‬
‫الوقت الذي أوىم مفكرنا نفسو وأوىم قرائو بأنو تحصل عمى تمك األسماء المضبوطة من خلل‬
‫إعادة ترجمة نص التوراة العبري‪ ،‬بل أنو تعمد اقتباس ألفاظ ومصطمحات سياقية وتعبيرية من‬
‫كتاب اليمداني واستخداميا في معالجاتو التمفيقية لمنصوص التوراتية‪ ،‬عمى غرار تعبيرات مثل‪:‬‬
‫أقبؿ‪ ،‬مقبالً‪ ،‬مغرباً‪ ،‬يصالي‪ ،‬يشاكؿ‪ ...‬الخ‪ ،‬وأعطى نفسو الحق في إضافة عبارات وأسماء‬
‫وتوصيفات طبوغرافية لألماكن الى النص التوراتي نيابة عن ييوه‪ ،‬وىو إذا قام بذلك كمو ظل‬
‫معتقداً أنو أخفاه خمف حجاب معتم لن يتمكن أحد من النفاذ منو واكتشاف سر تلعباتو المفظية‬
‫والتحريفية‪ ،‬وما ذلك الحجاب إال حجاب ادعاءه بترجمة التوراة ترجمة سميمة وصحيحة‪.‬‬

‫بكل بساطة‪ ،‬ىذه ىي العممية الممفقة والمضممة التي قام بيا مفكرنا عمى الدوام‪ ،‬والتي‬
‫جعمت األسماء التوراتية التي عرضيا في كتابو تبدو مطابقة ألسماء المناطق اليمنية‪ ،‬التي أبقى‬
‫عمييا سميمة دون تغيير‪ ،‬وبيذا أوىم نفسو أنو ترجم التوراة‪ .‬ولسوؼ نثبت في كثير مف‬
‫السياقات التالية مف ىذه الدراسة‪ ،‬مدى صحة تحميمنا السابؽ‪ ،‬بؿ ومدى دقتو في توصيؼ‬
‫حقيقة ما قاـ بو مفكرنا العبقري‪ ،‬بأدلة واضحة لمغاية مستمدة مف النماذج الفعمية التي يضج‬
‫بيا كتابو فمسطيف المتخيمة‪.‬‬

‫ومف أجؿ كشؼ ىذا التالعب واثباتو‪ ،‬سنأخذ في االعتبار مف اآلف وصاعداً أربعة‬
‫مكونات جوىرية‪ ،‬نظؿ نعمؿ عمى المطابقة والمقارنة بينيا‪ ،‬وذلؾ لمتحقؽ عف كثب وعمى نحو‬
‫أكثر دقة ورسوخاً مف حقيقة الترجمة التي يدعي مفكرنا الربيعي أنو قاـ بيا لمنص العبري مف‬
‫التوراة‪.‬‬

‫يمكن تمثيل تمك المكونات األربعة المشار إلييا آنفاً‪ ،‬كما يمي‪:‬‬

‫‪258‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫المكوف الرابع‬ ‫المكوف الثالث‬ ‫المكوف الثاني‬ ‫المكوف األوؿ‬

‫نص اليمداني‬ ‫ترجمة الربيعي‬ ‫الترجمة التقميدية‬ ‫النص العبري لمتوراة‬

‫عمى أية حال‪ ،‬يمكن القول بأن االنتقائية التي استخدميا مفكرنا الفاضل في ابتداع‬
‫نظريتو الموىومة والمنتحمة أصلً من نظريات غيره من الباحثين العرب‪ -‬فشموا من قبمو في أن‬
‫يؤسسوا لنظرية جديرة بالنظر إلييا من زوايا العمم والمنيج العممي وأخلقياتو الموضوعية‬
‫والمعرفية‪ -‬ىي بيت الداء وىي اإلفك األكبر الذي أقيمت عميو ىذه النظرية الخارجة عمى كل‬
‫الحقائق والثوابت المعرفية والعممية التي تكونت لدى البشرية عبر آالف السنين‪ ،‬من حيث‬
‫تعمدوا مصادرتيا وتعطيميا وتحييدىا لصالح القبول بادعاءاتيم وأوىاميم المختمقة‪ .‬وىذا يدفعنا‬
‫الى تعرية انتقائيتيم والكشف عن خبثيا وكذبيا وتمفيقيا‪ ..‬وانيا لميمة جديرة بأن نقوم بيا‬
‫وتستحق منا أن نبذل ليا من عزيز أوقاتنا وجميل جيودنا في سبيل كشف حقيقة ىذه االنتقائية‬
‫المستمدة أصلً من أساليب المستشرقين‪ ،‬والتي ستفضح سوءات نظريتيم وتيتك ستر الزيف‬
‫والتضميل الذي نتج عنيا‪.‬‬

‫وعميو‪ ،‬فإن ما سنقوم بو وما سنقدمو في السياق التالي‪ ،‬ليس إال اختبا اًر تجريبياً عممياً‬
‫وتطبيقياً جديداً يضاف الى قائمة االختبارات التطبيقية التي أجريناىا في الفصمين السابقين‪،‬‬
‫والتي قامت جميعيا عمى أسس عممية وموضوعية دقيقة‪ ،‬يمكن ألي باحث أن يطبقيا في إجراء‬
‫اختبارات مماثمة كثيرة ومتعددة من مختمف الجيات والزوايا‪ ،‬الكتشاف حجم الخداع والتضميل‬
‫والتزييف والتحريف‪ ،‬الذي ارتكبو مفكرنا العبقري وأمثالو من خلل تبنييم ىذه النظرية العجفاء‬
‫والسقيمة‪ ،‬واننا لنثق كل الثقة بكل خطوة قمنا بيا‪ ،‬ونثق كل الثقة بقوة وثبات ومنعة النتائج التي‬
‫سنتوصل إلييا في ىذا الفصل وما سيأتي من بعده‪ ،‬كأدلة راسخة ال يمكن االلتواء عمييا أو‬
‫انكارىا أو تجاىميا‪.‬‬

‫فمنبدأ‪ ..‬ولنرى الى أيف يمكف أف نصؿ‪!!..‬‬

‫‪259‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫)‪(2‬‬

‫أورشلين آرتس أم حوتس آلرتس[‪]1‬؟!‬

‫تعرض الربيعي لمسألة حدود أرض اسرائيل بصيغة انشائية وحيدة ويتيمة‪ ،‬فضفاضة‬
‫ومطاطة‪ ،‬ال تسمن وال تغني من جوع‪ ،‬من حيث لم تضف شيئاً الى أطروحتو‪ ،‬باستثناء المزيد‬
‫من االدعاءات الواىية والممفقة التي أطمقيا‪ .‬فقد أشار مفكرنا العتيد الى أن "التوراة لـ تتضمف‬
‫أي وعد إليي بأرض مف النيؿ (المصري) الى الفرات (العراقي)‪ ،‬بؿ أف ىذا تفسير مخيالي‬
‫استشراقي جرى الترويج لو حديثاً[‪ -]2‬وىذا قول ال نختمف فيو معو‪ ،‬ولو أن صاحبو اكتفى بو‬
‫لكان أسمم لو‪ ،‬ولكنو لم يفعل‪.‬‬

‫إن ما يقع عميو مناط التأكيد ىنا ىو استخدام مفكرنا لتوصيفات قطرية واضحة‪( :‬النيؿ‬
‫المصري والفرات العراقي)‪ ،‬فمماذا يا ترى توجب عميو استخدام مثل التوصيفات اليوياتية‬
‫المخاتمة والم اروغة؟!‬

‫عندما نق أر ما كتبو بعد ذلك ستتضح الفكرة ويتكشف السر والسبب‪ .‬فعمى أساس أن‬
‫الترجمة التقميدية لمنص العبري لمتوراة مطعون بيا وغير موثوقة‪ ،‬ومن حيث لم يبقى أمامنا إال‬
‫ترجمة الربيعي المدعاة‪ ،‬يقول مفكرنا[‪:]3‬‬

‫[‪ .]1‬آرتس وحوتس آلرتس‪ ،‬كممتان عبريتان‪ ،‬تشير األولى (آرتس) الى أرض اسرائيل فيما تشير الثانية‬
‫(حوتس آلرتس) الى كل األراضي التي تسكنيا الشعوب األجنبية‪ -‬أي البمدان األجنبية‪ ،‬والعنوان بيذه الصيفة‬
‫ينطوي عمى تساؤل‪ :‬ىؿ أورشميـ مف أرض اسرائيؿ أـ أنيا مف األراضي األجنبية؟‪ -‬يفترض أن يكون الجواب‬
‫ىو أن أورشميم ىي عاصمة أرض اسرائيل‪ ،‬أي أنيا قمب ال ـ (آرتس)‪ ،‬ولكن السير خمف نظرية الربيعي سوف‬
‫يوصمنا الى نتيجة عكسية‪ ،‬كما سنرى في ىذا المبحث‪ ،‬األمر الذي يكشف عن مدى فساد نظريتو وبطلنيا‬
‫وعدم انطباقيا ولو بنسبة ‪ %1‬عمى جغرافية اليمن‪!!..‬‬
‫[‪ .]7‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.156‬‬
‫[‪ .]2‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.157 -156‬‬
‫‪260‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫"العودة الى النص العبري كفيمة بالكشؼ عف ذلؾ التزوير‪ .‬إف النص وعمى الضد‬
‫مف ىاتيف الفكرتيف الزائفتيف‪ -‬فكرتي الوعد اإلليي وحدود األرض الموعودة مف النيؿ‬
‫الى الفرات‪ -‬يشير الى جماعات وقبائؿ‪ ،‬ال وجود ليا أصالً فوؽ ىذه المساحة مف‬
‫األرض‪ -‬أي العراؽ ومصر‪ -‬بؿ ىي موجوداً [حص ارً] في جغرافية اليمف القديـ"‪.‬‬

‫ليتأمل الق ارء األعزاء ممياً ىذه القفزة الربيعية المذىمة والمعجزة‪ .‬فالرجل كان يتحدث تحت‬
‫عنوان صريح صاغو ىو واستوحاه من أدبيات التوراة (من النيل الى الفرات)‪ ،‬عن الوعد اإلليي‬
‫واألرض الموعودة وحدود ىذه األرض‪ ،‬ثم أنكر تماماً ورفض قطعاً أن يكون مقصود التوراة ىو‬
‫نير النيل المصري ونير الفرات العراقي‪ ،‬ثم قفز عمى ذلك كمو‪ ،‬وأكد وأجزم قطعاً وحص اًر بأن‬
‫األرض المقصودة موجودة في جغرافية اليمن القديم‪.‬‬

‫عجيبة ىذه القفزة حقاً‪ ،‬من حيث بينت لنا أن األمر عند مفكرنا ال يتعمق أساساً بأرض‬
‫وحدود جغرافية بل بجماعات وقبائل‪ ،‬مشي اًر بذلك الى األقوام والجماعات التي ورد ذكرىا في‬
‫سياق النص من سفر التكوين حيث جاء الوعد اإلليي إلبراىيم باألرض‪ ،‬ليقدم بعد ذلك معالجة‬
‫قصيرة مبسترة وغير ناضجة حول أين كانت منازل ومواطن تمك األقوام كما يتوىم ويتخيل‪.‬‬

‫لكف‪ ،‬ماذا عف حدود تمؾ األرض الموعودة التي ورد الوعد اإلليي بيا وماذا عف‬
‫تفاصيؿ حدودىا التي جاء ذكرىا في عشرات النصوص مف أسفار التوراة‪ -‬كما وضحنا‬
‫سمفاً؟!‬

‫في الحقيقة‪ ،‬لم نجد في فمسطين المتخيمة شيئاً عن ذلك‪ ،‬فمماذا يا ترى يقتحم مفكرنا‬
‫موضوعاً جوىرياً مثل ىذا بيذه الطريقة‪ ،‬ثم يتركو ويتخمى عنو تماماً؟!‪ -‬وكيف يمكن لنصوص‬
‫التوراة التي تصف حدود أرض أحداثيا أالّ تكون ميمة وضرورية في الكشف عن حقيقة موقعيا‬
‫الجغرافي؟!‬

‫لكي نصل الى التفسير المنطقي والعممي ليذا اليروب الواضح من مسألة حدود أرض‬
‫التوراة‪ ،‬عمينا أن نقوم بالخطوة التي ىرب منيا مفكرنا بأنفسنا‪ ،‬وأن نحظى بمعرفة كافية عن‬

‫‪261‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫حدود أرض اسرائيل (أرض الميعاد) عمى األقل في واحدة من أىم المحطات التاريخية والنصية‬
‫التي ورد فييا ذلك الوعد اإلليي‪.‬‬

‫تتضمن أسفار التوراة – وخاصة األسفار الثلثة (التثنية‪ ،‬العدد‪ ،‬يشوع)‪ ،‬نصوصاً تصف‬
‫حدود أرض الميعاد من الجيات األصمية األربعة‪ ،‬ولعل أكثرىا دقة ووضوحاً ومما يتيسر لنا‬
‫التعامل معو ويمكن ايصالو الى عموم القراء عمى اختلف وتباين مستويات اطلعيم‪ ،‬التحديد‬
‫الجغرافي الذي ورد في سفر العدد‪ ،‬والذي سنتعامل معو تجريبياً وتطبيقياً في السياق التالي‪،‬‬
‫نظ اًر ألىميتو بالنسبة لما سيأتي متصلً بيذا الشأن مما سنخصص لو مساحة ميمة من ىذه‬
‫الدراسة‪ ،‬وأقصد بذلك ما جاء في سفر يشوع بن نون‪.‬‬

‫يسرد سفر العدد حدود أرض الميعاد من الجيات األربع‪ ،‬كما يمي‪:‬‬

‫‪ .1‬الحدود الجنوبية‪َّ " :‬‬


‫وكمـ الرب موسى قائالً‪ :‬أ ِ‬
‫َوص بني إسرائيؿ وقؿ ليـ‪ :‬إنكـ‬
‫داخموف إلى أرض كنعاف‪ .‬ىذه ىي األرض التي تقع لكـ نصيباً‪ ،‬أرض كنعاف بتخوميا‪ ،‬تكوف‬
‫لكـ ناحية الجنوب مف برية صيف عمى جانب أدوـ‪ .‬ويكوف لكـ تُخـ الجنوب مف طرؼ بحر‬
‫الممح إلى الشرؽ‪ ،‬ويدور لكـ التخـ مف جنوب عقبة عَقْربيـ ويعبر إلى صيف وتكوف مخارجو‬
‫مف جنوب قادش برنيع‪ ،‬ويخرج إلى حصر أدَّار ويعبر إلى عصموف‪ .‬ثـ يدور التخـ مف‬
‫عصموف إلى وادي مصر‪ ،‬وتكوف مخارجو عند البحر" (سفر العدد‪.)4 -1 :23 ،‬‬

‫‪ .2‬الحدود الغربية‪" :‬وأما تُخـ الغرب فيكوف البحر الكبير لكـ تُخماً‪ ،‬ىذا يكوف لكـ تُخـ‬
‫الغرب"(سفر العدد‪.)5 :23 ،‬‬

‫‪ .3‬الحدود الشمالية‪" :‬وىذا يكوف لكـ تُخـ الشماؿ‪ :‬مف البحر الكبير ترسموف لكـ إلى‬
‫جبؿ ىور‪ .‬ومف جبؿ ىور ترسموف إلى مدخؿ حماة وتكوف مخارج التخـ إلى صَدَد‪ .‬ثـ يخرج‬
‫التخـ إلى زفروف وتكوف مخارجو عند حصر عيناف‪ .‬ىذا يكوف لكـ تُخـ الشماؿ"(سفر العدد‪،‬‬
‫‪.)8-6 :23‬‬

‫‪262‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫‪ .4‬الحدود الشرقية‪" :‬وترسموف لكـ تُخماً إلى الشرؽ مف َحصَر عيناف إلى شفاـ‪.‬‬
‫وينحدر التخـ مف شفاـ إلى ربمة شرقي عيف‪ .‬ثـ ينحدر التخـ ويمس جانب بحر َّ‬
‫كنارة إلى‬
‫الشرؽ‪ .‬ثـ ينحدر التخـ إلى األردف وتكوف مخارجو عند بحر الممح‪ .‬ىذه تكوف لكـ األرض‬
‫بتخوميا حوالييا"(سفر العدد‪.)17-11 :23 ،‬‬

‫ىذه إذن ىي حدود أرض بني اسرائيل التي وعد بيا اهلل نبيو موسى‪ ،‬محددة من الجنوب‬
‫ثم الغرب‪ ،‬ثم الشمال ومن بعد ذلك من الشرق‪ .‬وبحسب ادعاءات الربيعي بشأن ترجمتو لمتوراة‬
‫ومطابقتو لوصف اليمداني‪ ،‬فإن من المفترض أن تنطبق ىذه الحدود بشكل أو بآخر عمى‬

‫خريطة اليمن‪ .‬لذا‪ ،‬سنتعامؿ مع ىذا االدعاء بحسف النية‪ ،‬ونفترض إمكانية أف يكوف صحيحاً‬
‫بالفعؿ‪.‬‬

‫وعمى طريقتو أيضاً‪ ،‬نقوؿ‪ :‬ىا ىنا وصؼ توراتي لحدود أرض الميعاد‪ ،‬وىا ىنا جغرافية‬
‫اليمف الطبيعي كما وصفيا اليمداني‪ ،‬يبقى أف نتحقؽ مف تطابقيما وفؽ تفسيرات مفكرنا‬
‫العبقري‪.‬‬

‫في البدء‪ ،‬سوف نحاول أن نطابق بين حدود اليمن الطبيعية وحدود أرض الميعاد كما‬
‫وردت في النصوص أعله بصورة مجردة من حيث أن الحدود ىي معالم جغرافية طبيعية‬
‫كالجبال والوديان واألنيار والبحور وغيرىا‪ ،‬أو حدود من صنع البشر كالمدن والقرى وغيره‪ ،‬ومن‬
‫حيث أنيا قد تكون حدوداً برية أو بحرية‪ .‬فكما ىو ظاىر في الخريطة أعله فإن اليمن تقع في‬
‫الجزء الجنوبي من جزيرة العرب‪ ،‬محاطة بحدود بحرية من ثلث جيات (الغرب‪ ،‬الجنوب‪،‬‬
‫الشرق)‪ ،‬وبحدود برية من جية الشمال‪ ،‬تمتد عمى خط أفقي مف نقطة ما عمى ساحؿ الخميج‬
‫العربي شرقاً الى نقطة مقابمة ليا عمى ساحؿ البحر األحمر غرباً‪.‬‬

‫في المقابل من حدود اليمن الجغرافية‪ ،‬يشير وصف التو ارة لحدود األرض الموعودة الى‬
‫اء من الحدود الشرقية تقع عمى بحر أيضاً‪ ،‬لكن‬
‫حد بحري كامل من جية الغرب‪ ،‬والى أن أجز ً‬
‫ليس كل الحدود الشرقية طبعاً‪ ،‬ألن ثمة أجزاء منيا يبدو بحسب النص أنيا ال تقع عمى ذلك‬
‫البحر الشرقي بل عمى البر المتصل بو‪ ،‬أما الحدود الشمالية فكميا برية‪ ،‬وكذا الحدود الجنوبية‬

‫‪263‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫التي ىي خط بري يمتد من نقطة قريبة من البحر المشار إليو بأنو واقع في الجية الشرقية الى‬
‫نقطة ما عمى ساحل البحر في الغرب‪.‬‬

‫[‪]1‬‬
‫خريطة رقـ (‪ :)1‬جغرافية اليمف الطبيعية مبينة فييا الحدود الشمالية كما حددىا اليمداني ‪.‬‬

‫التطابق الوحيد الذي يمكن القول باحتمال وجوده حتى اآلن بين الوصف التوراتي‬
‫والجغرافية اليمنية يتمثل في الحدود الغربية‪ .‬فحدود أرض الميعاد من جية الغرب بحرية‪ ،‬وىو‬
‫كذلك بالنسبة الى الحد الغربي لميمن‪ ،‬ولو أخذنا بعين االعتبار أن نصوص التوراة تشير الى أن‬
‫جزًء من الحدود الشرقية ألرض الميعاد ىو حد بحري‪ ،‬فيما الجزء اآلخر يبدو برياً‪ ،‬وىذا ما‬
‫يمكن ايجاد تفسير لو عمى خريطة اليمن‪ ،‬باحتمال أن تبدأ حدود أرض الميعاد من جية الشرق‬
‫من نقطة برية بعيدة عن ساحل الخميج العربي‪ ،‬ثم تستمر ىبوطاً نحو الجنوب الى أن تصل الى‬

‫[‪ .]1‬عبد اهلل محمد ظافر‪ :‬نزىة المشتاق لميمن‪ -‬حدود وخرائط وشؤون اليمن في البمدانيات من القرن التاسع‬
‫وحتى القرن الرابع عشر الميلدي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪264‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫نقطة ما عمى ساحل الخميج بحيث تصبح الحدود من عندىا بحرية الى أن تصل الى نقطة ما‬

‫في الطرف الجنوبي لمخميج ينعطف من عندىا خط الحدود نحو الداخل لتظير مجدداً حدوداً‬
‫برية تستمر حتى تصل الى النقطة التي تبدأ من عندىا الحدود الجنوبية ألرض الميعاد من‬
‫نقطتيا الشرقية‪.‬‬

‫وال مانع ىنا‪ ،‬مف إلقاء نظرة عمى حدود أرض الميعاد وفؽ التفسير التقميدي لتكتمؿ‬
‫الصورة‪ ،‬وتتسيؿ لمقارئ بعض متطمبات المقارنة‪ -‬أنظر الخريطة أدناه‪.‬‬

‫خريطة رقـ (‪ :)2‬حدود أرض الميعاد وفؽ التفسير التقميدي لمنص التوراتي والذي يضعيا في نطاؽ جغرافية‬
‫فمسطيف وبالد الشاـ‬

‫‪265‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫وألن حدود أرض الميعاد الجنوبية ىي حدود برية‪ ،‬وىذا ما يبدو واضحاً من كل نصوص‬
‫التوراة التي تصف دخول بني اسرائيل أو اقترابيم من تمك األرض قادمين من مصر بأنو كان‬
‫من جية الجنوب ب اًر‪ ،‬وىذا ما حدا بالنص أن يبدأ بوصف الحدود الجنوبية‪ ،‬وىو أيضاً ما نفيمو‬
‫من عبارة (إنكـ داخموف الى أرض كنعاف)‪ ،‬فإن ىذا الوصف يسقط من اعتبارنا أن يكون لبحر‬
‫العرب في جنوب اليمن أي علقة باألمر‪ ،‬بما يقضي أن نبحث عن الحدود الجنوبية ألرض‬
‫الميعاد في جغرافية اليمن بين نقطتين بعيدتين عنو وترسمان حداً برياً بينيما‪ ،‬وبالمثل بالنسبة‬
‫لمحدود الشمالية كونيا برية أيضاً‪ ،‬غير أن ىذا يوجب عمينا أن نستعين بعلمات وأمارات‬
‫تساعدنا عمى االىتداء تحديد خطي الحدود الجنوبية والشمالية ألرض الميعاد عمى الجغرافية‬
‫اليمنية بدقة‪ ،‬ولن نجد أفضل من االستعانة بأسماء المناطق ومواقعيا عمى امتداد الحدين كما‬
‫يصف النص التوراتي‪.‬‬

‫تبقى لدينا مشكمة البحر المشار إليو في النص التوراتي من الحد الشرقي‪ ،‬إذ لسنا عمى‬
‫يقين بأي حال من األحوال أن ما افترضناه قبل قميل قد يكون ممكناً‪ ،‬وبالتالي فإن أي تطابق‬
‫جغرافي مجرد وبحت بين حدود أرض الميعاد وجغرافية اليمن يبدو من الناحية الجغرافية المجردة‬
‫ىشاً وضعيفاً لمغاية من الجيات الجنوبية والشمالية والشرقية‪ ،‬في الوقت الذي يظل فيو التطابق‬
‫في الجية الغربية في موضع اختبار وتحقق حتى يثبت بثبوت الحدود عمى الجيات الثلث‬
‫األخرى‪.‬‬

‫واآلن‪ ،‬سنبحث عن التعيينات التي اختارىا مفكرنا الربيعي عمى مساحة الجغرافية اليمنية‬
‫مما يقع فعلً عمى الخطوط الحدودية المذكورة في النص التوراتي‪ ،‬وىذا ما سيساعدنا كثي اًر في‬
‫التحقق من التطابق الذي لطالما أكد عميو في كتابو‪ ،‬وىو نفسو ما سيضعنا في سياق مباشر‬
‫الستقصاء حقيقة منيجو الذي اعتمد عميو في ترجمة ورسم أسماء تمك المواقع‪.‬‬

‫وفؽ ىذه الرؤية‪ ،‬سنقوـ باختبار تجريبي وتطبيقي لمتحقؽ مف مدى تطابؽ الحدود‬
‫الجنوبية بيف النص التوراتي والتفسير الربيعي محموالً ىذا األخير بوصؼ اليمداني‪ ،‬واختيارنا‬
‫لمحد الجنوبي ليس قصدياً بالدرجة األولى‪ ،‬بؿ ألنو يرد في السفر األخير مف األسفار الخمسة‬

‫‪266‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫لمتوراة الموسوية‪ ،‬وألف وصؼ الحد الجنوبي ىو أوؿ ما ورد في النص التوراتي مف ىذا‬
‫السفر‪ ،‬وألف الحد الجنوبي نفسو ىو المدخؿ األساسي الذي نيض بو مفيوـ أرض اسرائيؿ‬
‫عمى أرض الواقع – كما يخبرنا النص‪ -‬بعد مرحمة الخروج مف مصر‪ ،‬إذ إف عممية احتالؿ‬
‫األرض الموعودة مف قبؿ الييود قد جرت أساساً بناء عمى تحديد ذلؾ الحد الجنوبي ليا‪ ،‬فيما‬
‫ظؿ البحر الغربي حداً حتمياً‪ ،‬ومف ثـ فإف توسيع نطاؽ االحتالؿ وتحشيد أرض الييود قد ظؿ‬
‫يجري في االتجاىيف الشمالي والشرقي‪ ،‬وليذا كمو سيكوف مف المناسب جداً أف نجري اختبارنا‬
‫عمى الحد الجنوبي‪.‬‬

‫لكي ينجح األمر بالنسبة للختبار الذي نزمع عمى القيام بو‪ ،‬نحتاج في البداية وعمى‬
‫األقل لثلثة مواقع لمتحقق من مدى مطابقة جغرافية الربيعي المتخيمة مع النص التوراتي من‬
‫جية‪ ،‬ومطابقة تفسير الربيعي مع اليمداني من جية أخرى‪ ،‬إذ يشير النص التوراتي الى أن‬
‫مركز حدود أرض الميعاد من الجنوب ىي (برية صيف‪ -‬التي ىي الى جانب أدوم)‪ -‬أي أن‬
‫(برية صيف) ىذه تقع في الوسط من الحد الجنوبي‪ ،‬أما بداية ىذا الحد فتكون من طرف (بحر‬
‫الممح) الذي يقع في الشرق‪ ،‬ثم يدور ىذا الحد أفقياً عمى عدة مواقع برية باتجاه البحر في‬
‫الغرب‪ ،‬وىذه المواقع ىي‪( :‬عقبة عقربيـ‪ ،‬صيف‪ ،‬الجنوب من قادش برنيع‪ ،‬حصر أدار‪،‬‬
‫عصموف‪ ،‬وادي مصر)‪ ،‬ومن بعد ذلك ينتيي الحد الجنوبي عند مخارجو في البحر الى الغرب‪.‬‬

‫بعد بحث أرىقتنا فيو التحقيقات التي كان البد من إجرائيا لمتثبت من دقة اختيارنا‬
‫لألسماء التي عالجيا مفكرنا في كتابو‪ ،‬والتأكد من أنيا ىي المقصودة والمتطابقة تماماً مع ما‬
‫جاء ذكره منيا في النص التوراتي مما يتعمق بالحد الجنوبي ألرض الميعاد‪ ،‬وجدنا أن الربيعي‬
‫قد حدد فعلً ثلثة مواقع مما يدخل في تشكيل ىذا الحد كاملً من طرفو الشرقي الى وسطو‪،‬‬
‫ومن ثم الى نيايتو في الغرب‪ ،‬وىي المواقع الثلثة‪( :‬برية صيف‪ ،‬بحر الممح‪ ،‬وادي مصر)‪.‬‬

‫كما أشرنا سابقاً‪ ،‬فيذه المواقع الثلثة كافية جداً لمتحقق من مدى مطابقة ذلك عمى‬
‫جغرافية اليمن الطبيعية‪ ،‬في رسم الحدود الجنوبية ل ـ (بلد الييود)‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫لنبدأ من عند الموقع الذي اسمو في التوراة (برية صيف)‪ ،‬إذ ترجم الربيعي ىذا االسم الى‬
‫(جبؿ ضيف‪ -‬بالضاد بدالً مف الصاد)[‪ ،]1‬وبالطبع فقد توقعنا مسبقاً أن يكون مفكرنا قد وجد‬
‫(ضين) ىذه عند اليمداني‪ ،‬وليس أن تعيينو ليذا االسم ناتج عن إجراء ترجمة قام بيا أو ما‬
‫شابو‪ ،‬إذ ال يوجد أي أساس لغوي أو منطقي أو حتى خرافي تدعو الى ترجمة اسم (صين) الى‬
‫(ضين)‪ .‬وبالفعل‪ ،‬كان توقعنا صحيحاً جداً‪ ،‬من حيث وجدنا (ضين) في موضع واحد من كتاب‬
‫اليمداني‪ ،‬كان يتحدث فيو عن (الجباؿ المشيورة في اليمف وسائر أجزاء جزيرة العرب)‪ ،‬حيث‬
‫أشار الى من تمك الجبال‪ .." :‬ضيف مدع شظب ىيالف جبؿ ممح‪.]2["..‬‬

‫ال يتوقؼ األمر عند ىذا الحد‪ ،‬بؿ اتضح لنا أيضاً لماذا اختار الربيعي (ضيف)‪.‬‬

‫اء‬
‫وكما أشرنا آنفاً‪ ،‬فإن تحويل اسم (برية صين) الى (ضين) من قبل الربيعي كان اجر ً‬
‫انتقائياً ال علقة لو بأي ترجمة ممكنة أو محتممة لمنص التوراتي‪ ،‬وىذه اإلجراء االنتقائي ىو‬
‫النموذج العام لكل اإلجراءات التي قام بيا لتعيين األسماء التوراتية كما يتوىم في الجغرافية‬
‫اليمنية مدعياً أن اليمداني قد شيد بذلك‪.‬‬

‫إن كل ما أوىمنا بو مفكرنا عن ترجمتو لمتوراة ليس إال محض افتراء‪ .‬فالترجمة المزعومة‬
‫لم تحدث اطلقاً‪ -‬واطلقاً لم تحدث‪ .‬فكل ما قام بو الربيعي ليس إال إنو بحث عن المتشابيات‬
‫من األسماء الجغرافية التي ذكرىا اليمداني في كتابو مع ما ورد من األسماء الجغرافية في‬
‫التوراة‪ ،‬ثم قام بانتقاء األسماء الملئمة ألغراضو من كتاب اليمداني‪ ،‬واعتبار أنيا ىي التي‬
‫يجب أن تكون في النص التوراتي الذي صار ينطق بيا فقط في كتابو‪.‬‬

‫ىذا كؿ شيء‪!!..‬‬

‫حتى يتبين لنا ىذا التلعب‪ ،‬نقول أن السياق الذي ذكر فيو اليمداني جبل (ضين) جاء‬
‫فيو ذكر جبل آخر اسمو (ممح)‪ -‬وىو جبل لـقبيمة (يام)‪ -‬األمر الذي يتشابو ظاىرياً مع السياق‬
‫التوراتي الذي ترد فيو (برية صين) في سياق يربطيا برباط حقيقي ووثيق بموقع آخر يدعى‬

‫[‪ .]1‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.742‬‬
‫[‪ .]7‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.727‬‬
‫‪268‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫(بحر الممح)‪ .‬فتوىم صاحبنا وسعى الى إييامنا‪ -‬كما ىي عادتو‪ -‬بأن ىذا متطابق مع النص‬
‫ال توراتي الذي يربط بين بحر الممح وبرية صين باعتبارىما مما يقع عميو خط الحد الجنوبي‬
‫ألرض اسرائيل‪ ،‬عمماً بأن الربيعي لم يتطرق أبداً لمسألة حدود أرض الميعاد اطلقاً‪ ،‬بل عين‬
‫ىذه المواقع بصورة عشوائية وانتقائية بعيداً عن ىذه المسألة تماماً‪ ،‬وىذا ما ستبين لنا أكثر عند‬
‫السمي (بحر الممح‪ ،‬وادي مصر)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التطرق الى معالجتو‬

‫عمى نفس اآللية‪ ،‬حول الربيعي (بحر الممح) الى (ياـ الممح)[‪ -!!..]1‬وعندما نحاول‬
‫اكتشاف األساس المغوي والمعجمي الذي أقام عميو مفكرنا ترجمتو ليذا االسم‪ ،‬لن نفمح في إيجاد‬
‫أي أساس منطقي‪ ،‬لكننا نستطيع بسيولة اكتشاف األساس التمفيقي الذي استند إليو‪ ،‬وىو أنو‬
‫طابق بين كممة (يم) العبرية التي تعني (بحر) من جية‪ ،‬وبين اسم (يام) وىو اسم منطقة يمنية‬
‫تنسب الى قبيمة (يام) اليمدانية الساكنة في نجران منذ القدم‪ ،‬ونظ اًر لوجود اسم (جبل ممح في‬
‫منطقة يام)‪ ،‬فقد حول مفكرنا (بحر الممح‪ /‬يم ممح) الى (يام الممح)‪!!..‬‬

‫ترى‪ ،‬ىؿ ىذه ترجمة أـ تالعب أـ شعوذة أـ استخفاؼ بعقولنا؟!‪ -‬في الحقيقة‪ ،‬ىذه‬
‫ىي كؿ ما سبؽ‪ ،‬باإلضافة الى كونيا قعقعة ال تنطوي عمى أكثر مف المغو واليراء‪!!..‬‬

‫ىذا ىو األساس التمفيقي الذي اعتمده الربيعي في مقاربتو‪ ،‬األمر الذي يؤكد عمى أن‬
‫ترجمتو لمنص التوراتي العبري ليست إال محض افتراء صار من السيل جداً اثباتو مع سائر‬
‫األسماء التي عالجيا في كتابو‪.‬‬

‫عدا عن ذلك‪ ،‬فإننا ال نرى من مفكرنا شيء سوى القعقعات التي لطالما رددىا عن تحول‬

‫حرف (الصاد) العبري الى حرف (الضاد) العربي‪ ،‬وغيرىا من القعقعات التي أطنب فييا حديثاً‬
‫وثرثرة عن الزوائد اللصقة والبوادئ المنقرضة من الحروف‪ ،‬األمر الذي يتناقض أساساً مع‬
‫ادعائو بأنو تعامل مع األسماء بدون إجراء أي تلعبات لغوية‪ ،‬فإذا كان تحويل الصاد الى‬
‫ضاد واضافة حروف بادئة وافتراض وجود زوائد الصقة منقرضة‪ ،‬ال يعد تلعباً لغوياً‪ ..‬فما‬
‫الذي عساه يكون تلعباً؟!‬

‫[‪ .]1‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.742‬‬
‫‪269‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫في الحقيقة‪ ،‬ىذه واحدة مف أسوأ سقطات مفكرنا العبقري التي لـ يستطع أف يخفييا‬
‫عمى اإلطالؽ‪.‬‬

‫لنتوقف قميلً إزاء التحويل التمفيقي لمصاد العبري الى الضاد العربي‪ .‬فحتى وان كانت‬
‫ىناك بالفعل قاعدة لغوية تفيد بإمكانية إجراء مثل ىذا التحويل‪ ،‬إال أن من الضروري أن يكون‬
‫ليا أساس ونطاق معين تجري عميو‪ ،‬إذ أن مثل ىذه القواعد ىي في الغالب ذات طابع خاص‪،‬‬
‫بحيث يجري تطبيقيا في نطاقات محدودة تتفاوت ضيقاً واتساعاً من قاعدة الى أخرى‪ ،‬وبالتالي‪،‬‬
‫فإن قاعدة مثل ىذه يستحيل أن تكون عامة وشاممة لتسري عمى كل األلفاظ التي يرد فييا حرف‬
‫الصاد العبري‪ ،‬بحيث نحولو دائماً الى حرف (الضاد) عندما نقوم بتعريبيا‪.‬‬

‫علوة عمى ذلك‪ ،‬نقول إذا كان حرف الضاد باألصل غير موجود في العبرية وال ينطقو‬
‫المتكممون بيا‪ ،‬فكيف يتحول (صاد) العبريين الى (الضاد) العربي‪ ،‬في الوقت الذي يوجد فيو‬
‫في العربية‪ -‬أصلً وفصلً‪ -‬شيء اسمو حرف الصاد؟!‬

‫ولو قمنا أن األصل في الكممة ىو (ضين) اليمنية – العربية‪ -‬وأنيا ىي التي تحولت الى‬
‫(صين) في العبرية‪ ،‬فاألقرب الى الرجل العبري أن ينطق الضاد (دال) من حيث أن الضاد‬

‫والدال يخرجان من مخرج صوتي واحد أو متقارب عمى األقل‪ ،‬والدال موجود‪ -‬مخرجاً وصوتاً‬
‫وحرفاً ورسماً‪ -‬في العبرية‪ .‬فيقال حينئذ (دين) وليس (صين)‪ ،‬واذا كان حرفي السين والصاد‬
‫متقالبان سواء في العبرية أو العربية‪ ،‬فمماذا ال تصبح (صين) العبرية (سين) بالعربية‪ ،‬خاصة‬
‫وأن الصيغة (سين) ومشتقاتيا شائعة جداً في األسماء التوراتية‪ ،‬ناىيك عن المعجم العبري؟!‪-‬‬
‫كما أنيا كذلك في المعجم العربي‪.‬‬

‫بيد أن المسألة عند الربيعي ال تتصل بمخارج الحروف وتحوالتيا الفونيمية (الصوتية)‬
‫فحسب‪ ،‬بل إنو دائماً ما يؤكد عمى كونيا أيضاً مسألة متصمة بالرسم الكتابي لمحروف‪ ،‬وال‬
‫نعرف من أين استمد مفكرنا العبقري ىذا االمتداد فيما يعمم أكثرنا أن ىناك فرقاً شاسعاً بين‬
‫(المغة) و(الكتابة)؟!‬

‫وىذه أيضاً‪ ،‬سقطة أخرى ال وصؼ ليا إال إنيا مريعة‪ ،‬ومريعة جداً‪.‬‬
‫‪270‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫عموماً‪ ،‬مثل ىذه االعتراضات التي قدمناىا‪ -‬رغم وجاىتيا وقوة منطقيا وحجتيا‪ -‬قد‬
‫تفتح لمعارضينا باباً واسعاً لجدل عقيم ال ينقصنا اآلن أن نخوض فيو‪ .‬فما نحتاج إليو بالفعؿ‬
‫ىو أدلة وبينات ثابتة وقاطعة ال يمكف االلتواء أو االحتياؿ عمييا‪ ،‬وىذا ما سنحرص عمى‬
‫توفيره لتدعيـ نقدنا وقطع الطريؽ عمى أي مكابر أو معاند أف يخوض معنا في جدؿ سقيـ‪.‬‬

‫نعود الى موضوعنا‪ ،‬من حيث يفترض بحسب النص التوراتي أن يكون الموقع المسمى ب ـ‬
‫(وادي مصر) في طرف الحد الجنوبي من جية الغرب ألرض الميعاد وذلك عمى البر وقبل أن‬
‫ينتيي ذلك الحد عند مخارجو عمى ساحل البحر الكبير‪ ،‬فأيف حدد الربيعي موقع وادي مصر‬
‫ىذا؟!‬

‫يرد اسـ (وادي مصر) في النص التوراتي العبري بــصيغة (نحؿ مصريـ‪ /‬نخؿ مصريـ)‪،‬‬
‫بمعنى وادي مصر‪ .‬وفي ىذا يقول الربيعي‪" :‬بكؿ يقيف أراد سارد النص مكاناً يدعى (وادي‬
‫مضر‪ -‬وادي المضرييف)‪ ،‬أي مف ساحؿ مضر‪.]1["..‬‬

‫ومن حيث يبدو أن (صاد) العبرية لم يجد لو شبيياً إال (ضاد) العربية التي تنفرد بو‬
‫العربية عن سائر لغات األرض‪ ،‬نالحظ أف مفكرنا لـ يزد عمى ما أشرنا إليو بشأف ترجمة‬
‫االسـ العبري‪ ،‬ولكنو مُصر عمى تحويؿ الصاد العبري الى الضاد العربي ألنو عمى يقيف مف‬
‫أف ىذا ىو قصد سارد النص التوراتي‪ ،‬وال نعرؼ‪ -‬واهلل‪ -‬مف أيف جاءه ذلؾ اليقيف؟!‬

‫حسناً‪ ،‬ماذا لدينا عف (مُ ٍ‬


‫ضر) ىذه في كتاب اليمداني؟‬

‫في الحقيقة‪ ،‬أنو وحيثما ورد ذكر (مُضر) في صفة جزيرة العرب‪ ،‬فإننا ال نجد ليذا االسـ‬
‫أي عالقة تاريخية أو جغرافية أو سكانية بجغرافية اليمف‪ .‬فيو اسم شيير لقبيمة عربية شمالية‬
‫عدنانية اسماعيمية ىاجرية من بني عمومة بني اسرائيل من السللة االبراىيمية‪ ،‬ومواطنيا‬
‫معروفة وثابتة في شمال جزيرة العرب عمى شط الفرات وفي الجزيرة الفراتية وبوادي الشام‪ ،‬وعمى‬
‫ىذا النحو يذكرىا اليمداني في كثير من المواضع‪ ،‬إذ يقول في أحدىا‪" :‬وأما باقي أجزاء ىذا‬

‫[‪ .]1‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.745‬‬
‫‪271‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫الربع الذي يمي وسط األرض المسكونة وما يقع في جزيرة العرب منو أو يجاورىا فآذربيجاف‬
‫وتخوـ ديار ربيعة وديار مضر إلى ما يمي الجنوب"[‪.]1‬‬

‫عموماً‪ ،‬ال يوجد عاقل يمكن أن يتصور أن أذربيجان تقع بجوار اليمن لكي يقال بأن‬
‫مضر يمكن أن تقع فييا‪.‬‬

‫وىكذا‪ ،‬فإنو ال يوجد عمى اإلطالؽ وادياً أو جبالً أو صخرة أو حتى بغمة في ذيؿ قافمة‬
‫مرت عمى أرض اليمف واسميا (مُضر) حتى‬
‫ألبي سفياف قبؿ ألؼ وخمسمائة سنة مف اليوـ‪َّ ،‬‬
‫يذكرىا اليمداني‪.‬‬

‫وألن الربيعي أدرك ذلك عمى ما يبدو واصطدم بو‪ ،‬نجده وقد سارع الى االحتيال عمى ىذه‬
‫الحقيقة واييامنا بشيء آخر يخفي بو ىروبو منيا‪ ،‬قائلً‪ .." :‬والذي سوؼ يُدعى تالياً ساحؿ‬
‫كنانة أكبر بطوف مُضر‪ -]2["..‬قصده أن وادي مضر أطمق عميو الحقاً اسم وادي أو ساحل‬
‫كنانة‪.‬‬

‫عمى خلف (وادي مضر) الذي لم يذكره اليمداني إطلقاً‪ ،‬نجد أنو قد ذكر ساحل كنانة‬
‫فعلً‪ ،‬بقولو‪ .." :‬ساحؿ كنانة ىو وحمضة والمّيث ومركوب وادياف فييما عيوف‪.]3["..‬‬

‫وبحسب اليمداني أيضاً‪ .‬فإن ساحل كنانة يقع في أرض الحجاز بعيداً عن حدود اليمن‬
‫الطبيعي‪ .‬إذ أن منطقة (الميث) الواقعة أساساً عمى ساحل البحر األحمر تعتبر من أراضي‬
‫الحجاز الواقعة بعد انتياء حدود اليمن الشمالية من الجية الغربية بمسافة كبيرة نسبياً‪.‬‬

‫واذا ما أخذنا باالعتبار ما ذكره الربيعي عن (وادي مضر بأنو ىو وادي كنانة)‪ ،‬سنجد أن‬
‫ىذه المنطقة تقع فعلً في أرض تيامة الحجازية‪ ،‬وىذا ما يؤكده اليمداني‪ ،‬بقولو‪" :‬وأـ جحدـ‬
‫قرية بيف كنانة واألزد وىي حد اليمف"[‪ -]4‬فأم جحدم ىذه ىي منتيى حدود اليمن‪ ،‬وبعدىا يأتي‬

‫[‪ .]1‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫[‪ .]7‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.745‬‬
‫[‪ .]2‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.727‬‬
‫[‪ .]3‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪272‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫امتداد ساحل كنانة صعوداً نحو الشمال ومنو وادي حمضة والميث ومركوب‪ ،‬وىذه جميعاً أماكن‬
‫تقع خارج حدود اليمن الطبيعية كما حددىا اليمداني‪ -‬أنظر الخريطة أدناه‪.‬‬

‫خريطة رقـ (‪ :)3‬موقع ساحؿ كنانة في الحجاز خارج حدود اليمف الطبيعي كما وضحيا اليمداني‬

‫إذف‪ ،‬فال وادي مُضر في اليمف‪ ،‬وال ساحؿ كنانة أيضاً يقع فييا وال ىـ يحزنوف‪-!!..‬‬
‫كميا ىذه مناطق تقع خارج نطاق حدود اليمن الخضراء والطبيعية‪.‬‬

‫وألن الربيعي عمى ما يبدو قد أدرك ىذا أيضاً‪ ،‬فقد قرر أن يحتال مرة أخرى عمى القارئ‬
‫ويحيمو الى اسم مشابو لو واقع في نطاق جغرافية اليمن وىو (وادي مسور)‪ ،‬إذ يقول‪ .." :‬وعمى‬

‫‪273‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫مقربة مف ىذا الوادي‪ -‬أي وادي مضر أو وادي كنانة‪ -‬يوجد واد آخر في مخالؼ خوالف‬
‫يدعى – حسب رسمو العربي‪( -‬وادي مسور)[‪.]1‬‬

‫بالفعل‪ ،‬ىذا الوادي مما ذكره اليمداني‪ ،‬بقولو‪ .." :‬ووادي مسور‪ ،‬فمف أدناه ثرباف‬
‫وعصفاف ومف أقصاه زبار والحجمة والحسؼ ووادي مالحاً ومالحاً أيضاً بالجوؼ‪.]2["...‬‬

‫غير إننا ال نعرف بالضبط‪ ،‬كيف يفيم مفكرنا عبارات من نوع (بالقرب)؟!‪ -‬فالمسافة بين‬
‫وادي مسور ووادي كنانة أو ساحل مضر تنوف عمى (‪ )1711‬كيمو متر أو أقل من ذلك بشيء‬
‫يسير‪.‬‬

‫خريطة رقـ (‪ :)4‬موقع وادي مسور جنوبي صنعاء بالنسبة الى ساحؿ كنانة في الشماؿ الغربي مف مكة في‬
‫منطقة الحجاز (فيما الربيعي يصفيما بأنيما بالقرب مف بعضيما‪)!!..‬‬

‫[‪ .]1‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.745‬‬
‫[‪ .]7‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.714‬‬
‫‪274‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫عالوة عمى ذلؾ‪ ،‬ما ىي عالقة وادي مسور بوادي مضر ووادي كنانة؟!‪ -‬وما عالقة‬
‫ىذه األسماء بوادي مصر التوراتي؟!‪ -‬ال شيء سوى التشابو المفظي والتمفيق الفاشل الذي‬
‫يقدمو لنا مفكرنا العبقري عمى الدوام‪.‬‬

‫ثـ‪ ،‬أياً مف ىذه المواضع ىو (وادي مصر) يا مفكرنا الجيبذ؟!‪ -‬ال ندري‪ ،‬ربما عمينا أن‬
‫نخمن أو أن نستعين بصديق أو ما شابو‪ -!!..‬ال بأس‪ ،‬يمكن أن نضع احتمالين‪.‬‬

‫عمى كؿ حاؿ‪ ،‬فقد صار لدينا ثلثة تحديدات لمربيعي مما يمكن أن يتعين بيا الحد‬
‫الجنوبي ألرض الميعاد كما جاء في النص التوراتي‪ ،‬وىي‪:‬‬

‫أوالً‪ ،‬الطرؼ الشرقي مف الحد الجنوبي ألرض الميعاد= (بحر الممح)‪ ،‬حدده الربيعي بأنو‬
‫(ياـ الممح‪ -‬جبؿ في بمد قبيمة ياـ اليمدانية اليمنية بوادي نجراف)‪ ،‬وىو الذي يفترض أن يبدأ‬
‫من عنده الحد الجنوبي كما جاء في نص التوراة‪.‬‬

‫ثانياً‪ ،‬مركز أو وسط الحد الجنوبي ألرض الميعاد= برية (صيف)‪ ،‬حدد الربيعي موقعيا‬
‫بأنيا في (جبؿ ضيف)‪ ،‬وىو الذي يفترض أن يكون في مركز الحد الجنوبي كما في النص‬
‫التوراتي‪.‬‬

‫ثالثاً‪ ،‬الطرؼ الغربي مف الحد الجنوبي قبؿ مخارجو الى البحر= (وادي مصر)‪ :‬وقد‬
‫حدد مفكرنا لو موضعين‪ :‬األول‪( ،‬وادي مضر أو ساحؿ مضر‪ -‬أو وادي وساحؿ كنانة)‪،‬‬
‫والموضع الثاني ىو (وادي مسور)‪ ،‬وىذا الموضع يفترض أن يكون آخر نقطة لمحد الجنوبي‬
‫قبل أن ينتيي الى الساحل الغربي‪.‬‬

‫لكي يتضح األمر لمقارئ العزيز‪ ،‬فإن ما قمنا بو بعد ذلك ليس إال إننا قمنا بتعيين ىذه‬
‫المناطق بشكل فعمي عمى خريطة اليمن‪ ،‬ورسمنا خطاً بينيا‪ ،‬وىو الخط الذي يفترض أن يكون‬
‫ىو الحد الجنوبي ألرض الميعاد كما في الوصف التوراتي‪ ،‬وألن لدينا احتماالن إزاء الموقع‬
‫الثالث‪ ،‬فقد تكونت لدينا خريطتان توضح كل منيما احتمال منيما‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫واآلف‪ ،‬الى أي مدى تتطابؽ ىذه التحديدات بيف ما جاء في النص التوراتي عف الحد‬
‫الجنوبي ألرض اسرائيؿ الموعودة وما جاء في كتاب اليمداني وما ىو عميو الواقع في‬
‫جغرافية اليمف الفعمية؟!‬

‫لإلجابة عمى تساؤلنا األخير‪ ،‬سوؼ نستعرض النتائج التي توصمنا إلييا كما يمي‪:‬‬

‫أوالً‪ ،‬أن اليمداني قد ذكر جبل (ضيف) في سياق كان فيو يعدد الجبال المشيورة‪ ،‬وبالتالي‬
‫ال يجب أن نفيم من ذلك أن ىذه الجبال تقع في نسق مكاني واحد بالنسبة لبعضيا البعض‪ ،‬بل‬
‫ىي جبال مشيورة في جزيرة العرب عددىا اليمداني وفق نسق جيوي بدأ فيو من جنوب اليمن‬
‫صعوداً نحو الشمال‪ ،‬فجبال‪ .." :‬دثينة وجرش ومف ثـ صبر وتعكر وبعداف وريماف" التي‬
‫ذكرىا في بداية فقرتو ىذه تتدرج مواقعيا من الجنوب الى وسط اليمن‪ ..‬لكنو في نياية الفقرة‬
‫يصل الى‪ .." :‬جبؿ الحضف بأرض نجد‪ ،‬عارض اليمامة‪ ،‬وجبال طيء أجأ وسممى‪،]1["..‬‬
‫وىي مما يقع في نجد خارج حدود اليمن الطبيعية‪ ،‬وىذا بدوره يسقط الفكرة التي يدعييا الربيعي‬
‫من أن جبل (ضيف) وجبؿ (ممح) جبلن يقعان في نسق مكاني واحد عمى نحو ما تصفو التوراة‬
‫بالنسبة ل ـ (برية صيف) و(بحر الممح)‪ ،‬باعتبارىما موقعان جغرافيان يدخلن في نطاق أرض‬
‫الميعاد‪ ،‬فضلً عن كونيما يشكلن معاً جزًء من خط رسم الحد الجنوبي لتمك األرض‪.‬‬

‫(برية)‪ ،‬وليس‬
‫ثانياً‪ ،‬أن اسم (صيف) التوراتي قد ورد مرتبطاً بصفتو الطبوغرافية بأنو َّ‬
‫منطقة جبمية أو أنو بحد ذاتو (جبؿ)‪ ،‬كما أن اسم (الممح) ىو اآلخر يرد في التوراة بصفة‬
‫طبوغرافية محددة وىو أنو (بحر)‪ ،‬وفي المقابل يشير اليمداني الى أن (ضيف وممح) جبلن‬
‫وليسا برية وبحر‪ .‬فكيؼ لمكاف تصفو التوراة بأنو (برية) ومكاناً آخر تصفو بأنو (بحر) أف‬
‫يصبح كؿ منيما جبالً؟!‪ -‬وما عساه المسوغ الجغرافي أو الطبوغرافي أو التاريخي أو المغوي‬
‫أو الخنفشاري الذي يجعمنا نقبؿ بػ ىكذا أمر؟!‬

‫الحقيقة‪ ،‬إنو لمن الصعب جداً‪ ،‬بل ومن غير الموضوعي والعممي أن نتجاىل في سياق‬
‫بحث جغرافي عبارات الوصف الطبوغرافية التي تسبق أو تمحق أسماء المواقع الجغرافية‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫[‪ .]1‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.727‬‬
‫‪276‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫جبؿ‪ ،‬بحر‪ ،‬واد‪ ،‬نير‪ ،‬تؿ‪ ،‬قرية‪ ،‬مدينة‪ ،‬برية‪ ...‬الخ‪ ،‬ألن ىذه العبارات الوصفية ىي األساس‬
‫الذي نعتمد عميو في تعيين المناطق ومواقعيا بدقة‪ ،‬أما األسماء التالية فميا أسس أخرى سواء‬
‫من حيث سبب اطلقيا أو من حيث مدلوليا‪ .‬فقد تتسمى األماكن بأسماء رجال أو نساء أو‬
‫قبائل أو بأسماء ذات مدلول ثقافي أو بيئي متجانس مع ثقافة المنطقة التي تنتمي إلييا‪ ،‬فكثير‬

‫ما نجد جبلً ووادياً وقرية تسمى معاً في الوقت نفسو باالسم (ضين) وىذا أمر شائع وليس غريباً‬
‫أو مجيوالً‪ ،‬بل أن التوراة تتحفنا بذكر موقع بذاتو في نطاق برية (صين) اسمو (صين)‪ ،‬بما‬
‫يعني أن البرية قد نسبت الى ىذا الموقع أو العكس‪.‬‬

‫ىذا إف دؿ عمى شيء‪ ،‬فإنما يدؿ عمى أف مفكرنا العظيـ ال يفقو شيئاً في الجغرافيا أو‬
‫في عمـ األسماء الجغرافيا (طوبنيما)‪ ،‬وال يعمـ قطعاً أف ىذه المسألة ال يمكف أف تعالج عمى‬
‫أساس (اتيمولوجي) أبداً‪ ،‬ألنيا مما يدخؿ في مبادئ وثوابت عمـ األسماء الجغرافية‪ ،‬كأحد‬
‫أىـ فروع عمـ الجغرافيا المعاصر‪.‬‬

‫ثالثاً‪ ،‬من المثير لمدىشة ولمعجب‪ ،‬بل ومن المسبب حقاً لمبمّو المنغولي ومتلزمة اوكشنج‬
‫وكل الطفرات الجينية المؤدية الى الغباء الجغرافي‪ ،‬أن الربيعي قد حدد جغرافياً موقع (جبل‬
‫ضين)‪ ،‬ىكذا[‪:]1‬‬

‫"يقع جبؿ ضيف في تيامة عمى مقربة مف الشريط الساحمي المعروؼ بساحؿ‬
‫عثر‪ ،‬وبالطبع فالسائر مف تيامة والساحؿ عبر السراة سوؼ يجتاز المواضع المذكورة‬
‫في نصي يشوع واليمداني‪."..‬‬

‫عجباً‪!!..‬‬

‫ما ىذا اليراء؟!‬

‫حياكـ اهلل يا عبقري الجغرافيا‪ -!!..‬أنظر الخريطة أدناه‪.‬‬

‫[‪ .]1‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.751‬‬
‫‪277‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫خريطة رقـ (‪ :)5‬موقع جبؿ ضيف القريب مف صنعاء بالنسبة لػػ عثر عمى ساحؿ تيامة‬

‫من الخريطة أعله‪ ،‬واضح جداً أن جبل ضين الشيير يقع في الشمال القريب من مدينة‬
‫صنعاء‪ ،‬بل وىو أحد الجبال التي أعتمد عمييا في تحديد جية القبمة لجامع صنعاء األول من‬
‫عيد اإلسلم صوب مكة‪ ،‬كما في بعض الروايات المنسوبة الى النبي محمد (ص)‪ ،‬أما عثر‬
‫فتقع بالقرب من ساحل البحر األحمر بعيداً عن ىذا الجبل بمئات الكيمومترات‪ ،‬وان كانت عثر‬
‫تقع فعلً ضمن مناطق تيامة‪ ،‬فإن جبل ضين ليس كذلك أبداً‪ ،‬ألنو يقع في نطاق اليضبة‬
‫اليمنية الداخمية بعيداً بما ال تقل عن (‪ )211‬كيمو متر عن السواحل التيامية‪.‬‬

‫ال نظف أنو يوجد مخموؽ عمى وجو ىذا الكوكب يعتقد أو يتوىـ أف صنعاء تقع في‬
‫تيامة‪ ،‬فما بالنا وجبؿ ضيف يقع في نطاؽ صنعاء نفسيا‪!!..‬‬

‫‪278‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫رابعاً‪ ،‬بالنظر الى الخرائط الدقيقة والواضحة والقابمة لمتحقق والتأكد من دقتيا من قبل كل‬
‫جغرافيي الكوكب‪ ،‬نتساءل‪ :‬أيف ىي أدوـ؟!‬

‫نقصد (أدوـ) التي ىي بحسب النص التوراتي بالقرب من (برية صيف) التوراتية‪ ،‬والتي‬
‫يفترض أنيا بالقرب أيضاً من (جبؿ ضيف) بحسب التفسير الربيعي‪ ،‬فضلً عن كون أدوم ىذه‬
‫مما يفترض أن تكون واقعة خارج نطاق حدود أرض الميعاد‪ ،‬أي أنيا أرض أخرى (حوتس‬
‫آلرتس)؟!‬

‫في واقع الحاؿ‪ ،‬لقد أجيدنا البحث في متخيمة الربيعي عف (أدوـ) ىذه‪ ،‬ولكننا لـ نفمح‬
‫في ايجادىا‪.‬‬

‫خامساً‪ ،‬متى أطمق عمى البحر األحمر اسم البحر الكبير؟!‪ -‬وما ىو البحر الذي أطمق‬
‫عميو فعلً البحر الكبير في المصادر التاريخية القديمة؟‬

‫ىذه نقطة بالغة األىمية‪ ،‬فالبحر األحمر لم يعرف يوماً أو يطمق عميو أو يشار إليو بأنو‬
‫ىو (البحر الكبير)‪ ،‬بل عمى العكس من ذلك تماماً‪ ،‬فإن ىذه التسمية قد أطمقت عمى البحر‬
‫األبيض المتوسط‪ ،‬وىذا باتفاق جميع المصادر وعمى رأسيا النقوش المسمارية اآلشورية‪ .‬إذ يرد‬
‫ىذا االسم مشي اًر بوضوح الى البحر المتوسط في إحدى حوليات الممك اآلشوري (آشور ناصر‬
‫باؿ الثاني)‪ ،‬التي يخبرنا فييا عن الحدود الجغرافية لمممكتو بفضل غزواتو التي شممت مناطق‬
‫واسعة من الشرق االدنى القديم‪ -‬والتي لم تشمل اليمن إطلقاً كما يتوىم الربيعي‪ ،-‬قائلً‪ ،‬بأنو‪:‬‬

‫"الممؾ الذي اخضع (األ راضي الممتدة) مف الضفة المقابمة لدجمة حتى جبؿ لبناف‬
‫والبحر الكبير‪.]1["..‬‬

‫وفي نقش مسماري آخر‪ ،‬يخبرنا (ادد – نيرازي) أنو‪:‬‬

‫يمي‪ :‬المعارف الجغرافية عند العراقيين القدماء‪ ،‬أطروحة دكتوراه‪ ،‬جامعة الموصل‪،‬‬
‫[‪ .]1‬عامر عبد اهلل نجم الج َم ّ‬
‫العراق‪ . 7115 ،‬ص ‪.62‬‬
‫‪279‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫"جعؿ الناس تشاىد باكت (‪ )pagutu‬القردة الضخمة والتمساح وثور البحر (؟)‬
‫(الجاموس) ومخموقات البحر الكبير التي كاف ممؾ بالد (مصر) قد ارسميا"[‪.]1‬‬

‫قبل أن نعمق عمى ما جاء في النقشين أعلىـ‪ ،‬البد من التأكيد عمى أن مفكرنا الفاضل‬
‫لطالما أدوشنا بأن (مصر) التي ترد في التوراة ىي (مصر) أخرى ال يقصد بيا مصر النيل‬
‫قطعاً‪ -‬حد تعبيره‪ ،-‬ولطالما أشار الى أن المقصود ب ـ (مصر‪ /‬مصرايم) التوراتية ىو منطقة‬
‫يمنية تسمت بيذا االسم‪.‬‬

‫حسناً‪ ،‬إذا كانت (مصر) المقصودة في ىذا النقش المسماري األوؿ تقع في اليمف‪ ،‬فيؿ‬
‫يوجد في اليمف (جبؿ لبناف) بجوار (البحر الكبير)‪ ،‬أـ أف النقش يشير الى جبؿ لبناف الذي‬
‫نعرفو ويقع عمى سواحؿ البحر المتوسط؟!‪ -‬واذا كانت (مصر) التي ترد في النقش الثاني تقع‬
‫في اليمف‪ ،‬فمتى عرفت اليمف (الجواميس والتماسيح)؟!‪ -‬فالتماسيح بالذات ال يمكف أف‬
‫تعيش في اليمف‪ ،‬لسبب بسيط يعرفو كؿ المتخصصيف في الجغرافيا البيولوجية والبيئية‪ ،‬وىو‬
‫أنو ال توجد (موائؿ) مناسبة لعيش التماسيح في اليمف‪ .‬لكف في مصر النيؿ توفرت عمى مدى‬
‫عصور طويمة وحتى اليوـ ربما الكثير مف الموائؿ المائية المناسبة لعيش التماسيح‪.‬‬

‫أشتير نير النيل نفسو عمى مر التاريخ بأنو موأل لثاني أضخم نوع من أنواع الزواحف‬
‫الموجودة في العالم‪ ،‬والذي يعرف ب ـ (تمساح النيؿ) (‪ ،)Crocodylus Niloticus‬وتعتبر‬
‫محافظة أسوان من أشير المناطق بوجود التماسيح فييا‪ ،‬فضلً عن بحيرة ناصر وغيرىا من‬
‫األماكن في مصر‪ ،‬وتقوم الدولة المصرية حالياً بجيود كبيرة مدعومة من المنظمة الدولية‬
‫المعنية بالتنوع البيئي وحماية األنواع من االنقراض‪ ،‬في سبيل المحافظة عمى التمساح النيمي‬
‫من مخاطر االصطياد العشوائي‪ ،‬نظ اًر لشدة الطمب عمى جموده وارتفاع سعرىا عالمياً‪ ،‬حيث‬
‫يواجو ىذا النوع خطر االنقراض ليذا السبب‪.‬‬

‫ىذه معمومات عامة‪ ،‬مستمدة أساساً مف أصدؽ مصدر تاريخي وجغرافي‪ ،‬وىو الواقع‬
‫الفعمي‪.‬‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.126‬‬


‫‪280‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫صورة رقـ (‪ :)1‬تمساح النيؿ‪ -‬ثاني أضخـ الزواحؼ الموجودة في العالـ‬

‫صورة رقـ (‪ :)2‬تمساح النيؿ في حديقة الفيوـ بمصر‬

‫‪281‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫فضالً عف ذلؾ‪ ،‬فإف البيئة الرعوية المصرية مازالت تحتفظ لميوـ بفصيمة الجواميس‬
‫مف األبقار الكبيرة والضخمة وأشيرىا اليوـ ثالثة أنواع (البحيري والصعيدي والمنوفي)‪ ،‬بؿ أف‬
‫الجاموس الذي يعيش في مصر يسمى الى اليوـ بػػ (الجاموس المصري)‪ ،‬أي أف موطنو ىو‬
‫مصر‪ ،‬ويتميز ىذا النوع بمونو الرمادي أو الرصاصي الفاتح والغامؽ الذي يميؿ الى األسود‪،‬‬
‫وىو مف الجواميس الضخمة ذات القروف الكبيرة والمختمفة األشكاؿ التي اُشتيرت بيا مصر‬
‫عمى مر التاريخ‪.‬‬

‫صورة رقـ (‪ :)3‬الجاموس المصري‬

‫ومنذ بداية األلؼ الرابع قبؿ الميالد عرفت مصر األبقار الضخمة (الجواميس)‪ ،‬فظيرت‬
‫في المناظر والنقوش المصرية القديـ بحفاوة بالغة‪ ،‬بؿ وحظيت بمكانة عالية ولربما وصمت‬
‫الى مرتبة إليية أحياناً‪ ،‬حيث ظيرت الثيراف مرسومة أو مصنوعة مف الصمصاؿ‪ ،‬كما رسمت‬
‫عمى جدراف المقابر وفي أشكاؿ ترمز إلى القوة الحربية المقاتمة كما في لوحة الثور الممثمة‬
‫لمممؾ المنتصر نعرمر[‪.]1‬‬

‫[‪ .]1‬لممزيد‪ ،‬راجع‪ :‬فرانسوا دينالد‪ ،‬روجيو ليشتنبرج‪ :‬الحيوانات والبشر تناغم مصري قديم‪ ،‬ترجمة‪ :‬فاطمة عبد‬
‫اهلل محمود‪ ،‬مراجعة وتقديم‪ :‬محمود ماىر طو‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬المركز القومي لمترجمة‪ ،‬القاىرة‪.7117 ،‬‬
‫‪282‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫صورة رقـ (‪ :)4‬الجاموس المصري في النقوش الييروغميفية القديمة‬

‫أما اليمف‪ ،‬فمـ تعرؼ الجواميس في تاريخيا الطويؿ أبداً‪ ،‬وانما عرفت فييا فصيمة‬
‫األبقار العادية الصغيرة الحجـ عمى مر العصور وحتى اليوـ‪.‬‬

‫القصد مما سبق‪ ،‬أن مصر المقصودة في النقوش اآلشورية والبابمية ىي مصر النيل التي‬
‫تقع عمى البحر األبيض المتوسط‪ ،‬وأن البحر الكبير في التوراة والنقوش األثرية القديمة لمختمف‬
‫حضارات المنطقة‪ ،‬ىي تسمية ثابتة لمبحر األبيض المتوسط‪ ،‬وىذا أمر ال يحتاج الى جدال‪،‬‬
‫من حيث يمكن تقديم عشرات األدلة األثرية والتاريخية التي تثبت ىذه الحقيقة‪ ،‬ولكننا نكتفي بما‬
‫نراه مناسباً‪.‬‬

‫سادساً‪ ،‬أن المواقع الثلثة التي تعرضنا ليا (جبؿ ممح‪ ،‬جبؿ ضيف‪ ،‬وادي مضر أو وادي‬
‫مسور)‪ ،‬باإلضافة الى المواقع األخرى الداخمة معيا في رسم الحد الجنوبي ألرض الميعاد‪،‬‬
‫وىي‪( :‬عقربيـ‪ ،‬صيف‪ ،‬قادش برنيع‪ ،‬حصر أدار‪ ،‬عصموف)‪ -‬وفق النص التوراتي والذي يجب‬

‫‪283‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫أن يتوافق معو تفسير الربيعي‪ -‬يفترض أن تكون جميعيا واقعة عمى مسار الحد الجنوبي في‬
‫خط أفقي‪ ،‬تقع الى شمالو جميع أراضي ومدن أرض الميعاد‪.‬‬

‫لكف النتائج التي توصمنا إلييا تعطينا شكالً عجيباً وغريباً لمحد الجنوبي ألرض الميعاد‬
‫بافتراض أنيا كانت في اليمف‪.‬‬

‫خريطة رقـ (‪ :)6‬االحتماؿ األوؿ لخط الحد الجنوبي ألرض الميعاد في التوراة (بحر الممح‪ ،‬برية صيف‪ ،‬وادي‬
‫مصر) وفؽ التحديدات التي أسقطيا الربيعي عمى جغرافية اليمف والحجاز‪.‬‬

‫إن النتائج التطبيقية التي توصمنا إلييا من اختبار تحديدات الربيعي الجغرافية لمناطق‬
‫أرض التوراة‪ ،‬وعمى أساس االحتمال األول الذي تكون فيو (وادي مصر) ىو (وادي مضر)‬
‫بحسب مفكرنا‪ ،‬نجد أن الحد الجنوبي يرسم خطاً رأسياً آخذاً مسارين عكسيين إذ يبدأ من جبل‬
‫ممح في يام النجرانية منحد اًر جنوباً الى (جبؿ ضيف) في اليضبة اليمنية الداخمية‪ ،‬ثم يتخذ‬

‫‪284‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫مساره الثاني صاعداً بميل زاوية حادة نحو الشمال الغربي البعيد حتى ينتيي في (سواحؿ كنانة)‬
‫في الشمال الغربي أرفع قميلً من مكة الحجازية‪ -‬أنظر الخريطة رقـ (‪.)6‬‬

‫أما إذا أخذنا باالحتمال الربيعي الثاني‪ ،‬الذي تكون فيو (وادي مصر) ىي (وادي‬
‫مسور)‪ ،‬فإننا سنحصل عمى خط حدود رأسي تماماً ينحدر من نقطة في الشمال ىي (جبؿ‬
‫ممح)‪ -‬الذي يفترض أن يكون بحسب النص التوراتي في الشرق من برية صين‪ -‬متجياً نحو‬
‫الجنوب حتى يصل الى (جبؿ ضيف)‪ ،‬ثم ينكسر ىذا الخط بزاوية حادة الى جية الجنوب‬
‫الشرقي حتى يستقر عند (وادي مسور)‪ -‬الذي يفترض أن يكون بالقرب من مخارج البحر‬
‫الكبير في الغرب‪ ،‬ولكنيا وفق تحديد الربيعي ىذا أصبحت في الشرق بعيداً وبعيداً جداً عن أي‬
‫بحر غربي‪ -!!..‬أنظر الخريطة رقـ (‪.)7‬‬

‫خريطة رقـ (‪ :)7‬االحتماؿ الثاني لخط الحد الجنوبي ألرض الميعاد في التوراة (بحر الممح‪ ،‬برية صيف‪ ،‬وادي‬
‫مصر) وفؽ التحديدات التي أسقطيا الربيعي عمى جغرافية اليمف‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫واآلن‪ ،‬إذا كانت ىذه ىي الحدود الجنوبية‪ ،‬فأين سنجد الحدود الشمالية لموطن أحداث‬
‫التوراة ومنازل جماعاتيا وقبائميا؟!‪ -‬الجواب‪ :‬طالما وأن الجيات تتحدد بالنسبة لبعضيا البعض‬
‫تناظرياً‪ ،‬وبما إن الحد الجنوبي ألرض الميعاد صار حداً رأسياً وليس أفقياً‪ ،‬فلبد أن يكون الحد‬
‫الشمالي واقعاً عمى خط رأسي آخر يقابمو‪ ،‬قد نجده في وسط البحر األحمر أو ربما في شواطئ‬
‫مصر النيل تبعاً لما ىي عميو مساحة أرض الميعاد في تصور الربيعي‪!!..‬‬

‫يا ليا من نتائج رىيبة‪ ،‬من حيث ال ندري أين ذىبت كل تمك التطابقات التي شحنيا‬
‫مفكرنا في كتابو بين التوراة واليمداني‪ ،‬والتي أكد عمى أنيا يستحيل أن تكون مصادفات‪..‬؟!‪-‬‬
‫فيما نقوؿ نحف‪ ،‬أف ىذا طبيعي جداً‪ ،‬ألف التمفيؽ والتحريؼ والتخريؼ ال يصنعاف حقائقاً‪ ،‬وال‬
‫يقوداف الى حقائؽ‪.‬‬

‫بيد أف الكارثة األعنؼ واألدىى التي أحدثيا مفكرنا العمالؽ في حؽ التوراة والتممود‬
‫والتاريخ والجغرافيا والحقيقة واألوىاـ‪ ،‬تتمثل في أن التحديدات التي اختارىا ىو لممواقع التوراتية‬
‫الثلثة‪ -‬من حيث يفترض أساساً أن تكون بقية المواقع األخرى التي نصت عمييا التوراة بأنيا‬
‫تقع عمى امتداد خط الحدود الجنوبية ألرض الميعاد وبلد الييود بين النقطتين (بحر الممح في‬
‫الشرق) و(وادي مصر في الغرب)‪ ،‬تجعؿ مف بيت بوس التي ىي أورشميـ عند الربيعي واقعة‬
‫الى الجنوب خمؼ ىذه الحدود في حيف يُفترض أف تكوف أورشميـ باألساس واقعة في قمب‬
‫أرض الميعاد‪.‬‬

‫لنعد النظر مرة أخرى الى الخرائط أعاله‪!!...‬‬

‫لقد أسفر االختبار التجريبي والتطبيقي لمحد الجنوبي ألرض الميعاد في ضوء تعيينات‬
‫الربيعي لثلثة مواقع تحدد وسط ىذا الحد وطرفيو كما وصف ذلك في النص التوراتي‪ ،‬ومن‬
‫خلل اسقاطيا عمى الخارطة اليمنية‪ ،‬أسفر ىذا االختبار الى نتيجة عجيبة لم تكن عمى‬
‫اإلطلق متوقعة‪ ،‬وىي‪:‬‬

‫أف (بيت بوس‪ -‬بالقرب مف صنعاء) التي حدد الربيعي أنيا ىي (أورشميـ) التوراتية‪،‬‬
‫أصبحت تقع خارج حدود أرض الميعاد تماماً‪ ،‬في حيف يفترض أف يثبت التفسير الجغرافي‬
‫‪286‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫الذي قدمو مفكرنا العمالؽ بأف بيت بوس تقع داخؿ حدود أرض الميعاد شماؿ الحد الجنوبي‪،‬‬
‫ألنيا ىي عاصمة أرض اسرائيؿ‪ ،‬وحاضرة بالد كنعاف‪ ،‬وقصبة بالد الييود وكورتيا العتيدة‪..‬‬
‫فكيؼ أصبحت أورشميـ خارج أرض اسرائيؿ يا مفكرنا العبقري؟!‬

‫بحؽ اهلل‪ ،‬كيؼ ألرض الميعاد التي ىي األرض التي يُفترض أف اهلل قد وعد بيا‬
‫وأعطاىا لبني اسرائيؿ‪ ،‬والتي أُطمؽ عمييا في مرحمة ما اسـ (بالد الييودية)‪ ،‬أف تكوف ىي‬
‫موطف أحداث التوراة في الوقت الذي ال نجد فيو أف عاصمتيا ال تقع فييا؟!‪ -‬ىذا ما فاجأتنا‬
‫بو نظرية الربيعي وأدىشتنا وصعقتنا بو‪ ،‬لمجرد أننا فكرنا برسم الخرائط التي يفترض أنو ىو من‬
‫كان يجب عميو أن يرسميا ويتحقق من خلليا من صدق تفسيراتو ومعالجاتو؟‬

‫واآلف‪ ،‬ىؿ بوسع ىذا المفكر العظيـ‪ ،‬أف يخبرنا متى لُعنت أورشميـ وطُردت وأزيحت‬
‫بعيداً عف أرضيا وجغرافيتيا‪..‬؟؟!!‬

‫وىؿ مازلنا نحتاج الى أدلة تثبت بطالف ىذه النظرية الخرقاء أقوى مف ىذه األدلة التي‬
‫قدمتيا لنا الخرائط الدقيقة والثابتة؟!‬

‫أعتقد أف ما قدمناه حتى اآلف سيكوف كافياً لقمة قميمة مف أولئؾ المؤمنيف بنظرية‬
‫الربيعي وأوىامو‪ ،‬لكي يُمقوا بنظريتو وكؿ كتبو وحواراتو ومقاالتو‪ ..‬وكؿ شيء قالو‪ ..‬وكؿ‬
‫شيء يتعمؽ بو الى سمة الميمالت فو ارً وبدوف أدنى تردد‪..‬‬

‫ولكف أكثر الناس ال يعقموف‪..‬؟!‬

‫‪287‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫)‪(3‬‬
‫ُ ّ‬
‫فوضى الربيعي املتخيلة‬

‫كما رأينا‪ ،‬فقد تضمن وصف الحد الجنوبي ألرض الميعاد في النص التوراتي‪ ،‬ذكر عدة‬
‫مواقع يمر عمييا ىذا الحد‪ ،‬قمنا نحن بتعيين ثلثة مواقع منيا فقط‪ ،‬الموقعان المذان يشكلن‬
‫طرفي الحد من جيتي الشرق والغرب‪ ،‬والموقع الوسطي الذي يقع في منتصفو‪ ،‬عمى أساس أن‬
‫ثلثة مواقع تكفي لرسم خط الحدود الجنوبية ألرض اسرائيل أو بلد الييود‪.‬‬

‫بالرغم من كفاية االختبار السابق في تحقيق اليدف الذي أردنا تحقيقو‪ ،‬وفي تقديم الحقيقة‬
‫التي تعمدنا أن يراىا القراء األعزاء رأي العين‪ ،‬فإن البعض من المكابرين والمعاندين قد يقولون‬
‫بأننا ربما قمنا باالنتقاء أو تصوير األمر كما نحب أن نراه‪ ،‬وىذا ليس صحيحاً أبداً من حيث‬
‫أن بمقدور أي شخص أن يقوم بما قمنا بو‪ ،‬ونحن عمى ثقة بأنو سيصل الى نتائج كارثية تثبت‬
‫مدى الفوضى التي تعبر عنيا نظرية الربيعي وادعاءاتو الخرقاء والسخيفة أكثر مما توصمنا‬
‫إليو‪ ،‬ولكن حرصاً منا عمى أن نوصل الحقيقة بأقصى وضوح ممكن لجميع القراء‪ ،‬سوف نستمر‬
‫في اختبار تحديدات الربيعي الجغرافية لممواقع التوراتية عمى جغرافية اليمن‪ ،‬مما يفترض أن‬
‫يكون واقعاً عمى امتداد الحد الجنوبي لبلد الييود الموعودة‪.‬‬

‫ذكر النص التوراتي من (سفر العدد‪ )4 -1 :23 ،‬أن الحد الجنوبي يمر ب ـ (عقربيـ‪،‬‬
‫صيف‪ ،‬قادش برنيع‪ ،‬حصر أدار‪ ،‬عصموف)‪.‬‬

‫حدد الربيعي مواقع ىذه األسماء كاآلتي[‪:]1‬‬

‫ادعى الربيعي أن األصل العبري السم (عقربيـ) الذي يرد في الترجمة التقميدية ىو‬
‫(عقبة العقارب)‪ ،‬وترجميا بأنيا ىي (معالة العقارب‪ -‬عقربيـ في العبرية والعربية)‪.‬‬

‫[‪ .]1‬تظير معالجات ىذه األسماء في الجدول الذي يظير في‪ :‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد‬
‫الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.743 -742‬‬
‫‪288‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫أما (قادش برنيع) فقد اعتبر أنيا موضعين وليست موضعاً واحداً‪ -!!..‬الموضع األول‬
‫ىو (قادش) وقد حوليا الى (قَدَس)‪ .‬والموضع الثاني ىو (برنع)‪ ،‬وحولو الى (برع)‪.‬‬

‫وأيضاً اعتبر الربيعي أن (حصر أدار) موضعين وليس موضع واحد‪ :‬الموضع األول‬
‫(حصر) وقد اعتبر أن األصل العبري منو ىو (حصروف) وأن المكافئ العربي لو ىو (حضر)‪،‬‬
‫أما الموضع الثاني (أدار) فاعتبر أن األصل العبري منو (ءدر) وأن المكافئ العربي لو ىو‬
‫(أدراف)‪.‬‬

‫أما (عصموف)‪ ،‬فقد حوليا الى (عصماف)‪.‬‬

‫إزاء ىذا التحميل والمعالجة العجيبة إلسمي (قادش برنيع‪ ،‬حصر أدار)‪ ،‬البد من‬
‫استحضار ادعاء الربيعي حرفياً‪ ،‬إذ يقول[‪:]1‬‬

‫"ومف غير شؾ أيضاً فإف وجود كؿ ىذا العدد مف األماكف التوراتية‪ ،‬التي تمت‬
‫مقاربتيا بموضوعية مينية‪ ،‬ومف دوف أي تالعب مع الشعر العربي ووصؼ جغرافية‬
‫اليمف‪ ،‬ال يمكف أف يكوف نتاج مصادفة لغوية أو جغرافية‪ .‬وقد بينا ‪ -‬دوف أدنى‬
‫تالعب لغوي عمى أصؿ األسماء‪ -‬قوة ىذا التماثؿ‪ ،‬ومف ثـ فإف المسرح الحقيقي‬
‫لقصص التوراة وبيئتيا الحقيقة إنما ىو بالد اليمف القديمة"‪.‬‬

‫لن نعيد ما سبق لنا قولو من قبل بشأن خزعبلت الترجمة المزعومة التي يدعي الربيعي‬
‫أنو قام بيا لمنص التوراتي‪ ،‬طالما وقد صار بوسعنا أن نتأكد وعمى نحو وثيق لمغاية أن جميع‬
‫المكافئات العربية المزعوم أنو توصل إلييا نتيجة تمك الترجمة الموىومة‪ ،‬ليست إال تسميات‬
‫استمدىا الربيعي حرفياً وبشكل انتقائي من كتاب اليمداني‪ .‬ولكن مفكرنا يؤكد لنا وبكل ثقة بأنو‬
‫قام بمقارباتو دون أدنى تلعب لغوي عمى أصل األسماء‪ ،‬في حين أننا نلحظ ىنا أنو قد حول‬
‫موضعين في التوراة الى أربعة مواضع‪ ،‬وال نعرؼ ما ىو األساس الذي استند إليو في ذلؾ‪ ،‬وال‬
‫ما إذا كاف ىذا يمثؿ تالعباً لغوياً أـ ال؟‪.‬‬

‫[‪ .]1‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.218‬‬
‫‪289‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫إن تفسير ىذا اإلجراء ال يحتاج لجيد خارق‪ ،‬ألننا سبق وأن أشرنا إليو في القسم األول‬
‫من ىذه الدراسة‪ ،‬وبمراجعة ما كتبناه من قبل تبين أن األمر الذي قام بو الربيعي ىنا ىو محض‬
‫إجراء تلعبي وتمفيقي ال أساس منطقي أو لغوي يقوم عميو أبداً‪.‬‬

‫األدىى من ذلك أن الربيعي الذي كان قد انتقد الصميبي واتيمو بأنو وقع في فخ‬
‫المقارنات والتلعبات المغوية‪ ،‬نجده ىنا وىو يقوم بيذا اإلجراء الغريب مستمداً إياه من الصميبي‬
‫نفسو‪ ،‬فمما قام بو ىذا األخير‪ ،‬تحويلتو التالية[‪:]1‬‬

‫[كركميش] ػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػ حددىا بموقعيف ىما ػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػ [القر]‪[ ،‬القماشة]‪.‬‬

‫[أورشميـ] ػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػ حددىا بموقعيف ىما ػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػ [أروي]‪[ ،‬آؿ سالـ]‪.‬‬

‫ىذا ىو النموذج الذي قام بو الصميبي‪ ،‬واليكم أييا القراء األعزاء اإلجراء الذي قام بو‬
‫الربيعي‪ ،‬والنموذج الذي قدمو لنا‪:‬‬

‫[قادش برنيع] ػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػ حددىا بموقعيف ىما ػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػ [قدس]‪[ ،‬برع]‪.‬‬

‫[حصر أدار] ػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػ حددىا بموقعيف ىما ػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػػ [حضر]‪[ ،‬أدراف]‪.‬‬

‫واآلف‪ ،‬ما الفرؽ بيف النموذجيف؟!‪ -‬وكيؼ يعتبر اجراء الصميبي تالعباً لغوياً وال يعتبر‬
‫إجراء الربيعي كذلؾ؟!‪ -‬ىاىو مفكرنا إذن يقوم بواحد من أسوأ اإلجراءات التي قام بيا الصميبي‬
‫من قبل‪ .‬فعمى أي أساس ييرؼ مفكرنا العبقري بأنو لـ يقع في فخ التالعبات المغوية الذي‬
‫وقع فيو الصميبي؟!‪ -‬وأليس ىذا تناقضاً فاضحاً ومعيباً يكشؼ عف المدى الذي بمغ إليو ىذا‬
‫المفكر في االستخفاؼ بعقوؿ القراء؟!‬

‫عموماً‪ ،‬التحقيق الجغرافي ىو الحكم الحاسم والفيصل الفاصل‪ ،‬وليس المجادالت المغوية‬
‫والخنفشارية التي يفضميا ىؤالء العباقرة من الحاخامات العرب‪ ،‬والسؤال ىنا‪:‬‬

‫[‪ .]1‬إزاء اإلجراءات والتلعبات المغوية التي قام بيا الصميبي في بناء نموذجو لنظرية جغرافية التوراة في جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬راجع الفصل الثالث‪ :‬المنيج الجينمي وحقيقة التزوير‪ ،‬القسم األول من ىذه الدراسة‪ ،‬ص ‪.77‬‬
‫‪290‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫أيف نجد المواقع التي حددىا الربيعي لتمؾ األسماء التوراتية عمى الخريطة اليمنية؟!‪-‬‬
‫وكيؼ سيكوف خط الحد الجنوبي ألرض الميعاد لو حددنا مواقعيا؟!‬

‫قبل أن نذىب الى جغرافية اليمن عمى الخريطة‪ ،‬البد من التنويو الى بعض الملحظات‬
‫الميمة‪ ،‬بشأن مواقع ورود األسماء التي قررىا الربيعي كمكافئات لألسماء التوراتية في كتاب‬
‫اليمداني‪:‬‬

‫أوالً‪ ،‬يرد ذكر (قدس) لمرة واحدة في كتاب اليمداني‪ ،‬في الفقرة التي عدد فييا الجبال‬
‫المشيورة في جزيرة العرب‪ ،‬إذ قال‪ ..." :‬اقرع تعار لبف أباح شماـ‪ ،‬مف جبؿ طيّ‪ ،‬عسيب‬
‫عرواف يمممـ‪ ،‬قدس‪ ،‬رضوى أعفر‪ ،‬أفرع‪ ،‬يسوـ‪ ،‬آرة‪ ،‬األشعر"[‪ .]1‬وكما واضح‪ ،‬فيذا االسم‬
‫يشير في كتاب اليمداني الى جبل يقع خارج نطاق جغرافية اليمن الطبيعي‪ .‬لكن الربيعي يقصد‬
‫ب ـ (قدس) منطقة يمنية تقع في نطاق محافظة تعز اليمنية‪ ،‬وما أردنا أن نمفت عناية القارئ إليو‬
‫أن اليمداني لم يذكر (قدس) التي يشير إلييا الربيعي‪ ،‬وىذا أمر نستغربو نحن من حيث كنا‬
‫نعتقد أن المنطقة اليمنية التي عرفت بيذا االسم قديمة ومعروفة بذلك في عصر اليمداني‪،‬‬
‫األمر الذي يثير الشك في إمكانية أن تكون منطقة قدس اليمنية قد عرفت اسميا ىذا في‬
‫عصور متأخرة‪ ،‬وبالتالي فاالسم الذي تعرف بو اليوم لم يكن اسميا في عصر اليمداني‪ ،‬ما لم‬
‫نتحصل عمى تفسير آخر‪.‬‬

‫ثانياً‪ ،‬أن (برع) جبل شيير من جبال اليمن يقع في نطاق محافظة الحديدة الساحمية‪،‬‬
‫وىو اليوم من المحميات الطبيعية المصنفة في قوائم المحميات الطبيعية العالمية‪ .‬وقد ورد ذكر‬
‫ىذا االسم في كتاب اليمداني ست مرات‪ ،‬يشير في معظميا الى ىذا الجبل‪.‬‬

‫ثالثاً‪( ،‬حضر) اسم وادي يقع في بلد الحواشب من محافظة الضالع اليمنية‪ ،‬يبعد عن‬
‫مدينة قعطبة حوالي (‪ )21‬كيمو[‪ ،]2‬ويرد ذكر ىذا االسم عند اليمداني أربع مرات‪.‬‬

‫[‪ .]1‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.727‬‬
‫[‪ .]7‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،162‬ىامش المحقق رقم (‪.)2‬‬
‫‪291‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫رابعاً‪( ،‬أدراف) يرد ذكر ىذا االسم (‪ )2‬مرات في كتاب اليمداني‪ ،‬إذ يصفو في الموضع‬
‫األول‪ ،‬بأنو‪ .." :‬ونمل وشرس وأرض أدران وحجة وعيان ‪ ."..‬ويعرفنا بو محقق الكتاب بأنو‬
‫يسمى اليوم (دو ارف) بينو وبين مدينة حجة اليمنية من الجية الشمالية الشرقية ميل ونصف[‪.]1‬‬

‫السراة‬
‫خامساً‪( ،‬عصماف)‪ ،‬ذكره اليمداني في موضعان‪ ،‬األول منيما‪ .." :‬يتصؿ بيذا َّ‬
‫سراة عذر وىنوـ وظاىر بمد الجواشة مف الفائش فائش بكيؿ فبمد الشاكرييف مف أىؿ الدرب‬
‫ونودة فالحفر مف أعمى عصماف فمقتؿ سفراف فبمد حرب بف عبد ودّ بف وادعة وىـ بنو‬
‫صريـ‪ ."..‬وبحسب محقق الكتاب‪ ،‬ف ـ عصمان وادي من السودة ينسب إليو البن والقشر‬
‫العصماني الشيير[‪ .]2‬إال إننا لم نجده عمى الخريطة فاعتمدنا أقرب منطقة إليو مما ذكره محقق‬
‫كتاب اليمداني‪ ،‬وىو موقع (السودة)‪ ،‬ويبدو أن ىذا الموقع قريب من وادي أدران (دوران) الذي‬
‫لم نتمكن من ايجاد موقعو عمى الخريطة‪ ،‬لذا سنكتفي بإمرار خط الوصل عمى موقع السودة‪،‬‬
‫باإلضافة الى أننا لم نجد (معالة العقارب) التي ذكرىا الربيعي ال عند اليمداني وال في الخريطة‬
‫اليمنية‪.‬‬

‫بحسب ما تبين لنا أعله فإن األسماء التي اختارىا الربيعي‪ ،‬تتوزع عمى مناطق مختمفة‬
‫من اليمن‪ ،‬فمنيا ما يقع في جنوب اليمن ومنيا ما يقع في وسطيا‪ ،‬ومنيا ما يقع في شماليا‬
‫ومنيا أيضاً ما يقع في شماليا الغربي‪ ،‬األمر الذي يجعل من المستحيل أن يكون الخط الذي‬
‫يمر منيا جميعاً مطابقاً لموصف الذي ورد في التوراة والذي يصفيا بأنيا تقع عمى امتداد الحد‬
‫الجنوبي ألرض الميعاد من الشرق الى الغرب‪.‬‬

‫لتأكيد ىذه النتيجة‪ ،‬نستعيد ترتيب النص التوراتي لتسمسل المواقع عمى امتداد الحد‬
‫الجنوبي ألرض الميعاد‪ ،‬وىو كما يمي‪:‬‬

‫مف الشرؽ= [بحر الممح ػػػػػػ صيف ػػػػػػػ قادش برنيع ػػػػػػػ حصر أدار ػػػػػ عصموف ػػػػػ وادي‬
‫مصر]= الى الغرب‬

‫[‪ .]1‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،174‬ىامش المحقق رقم (‪.)7‬‬


‫[‪ .]7‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،177‬ىامش المحقق رقم (‪.)1‬‬
‫‪292‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫يقابميا تحديد الربيعي‪ ،‬كما يمي‪:‬‬

‫مف الشرؽ= [جبؿ ممح (ياـ) ػػػػػ جبؿ ضيف ػػػػػ قدس ػػػػػ برع ػػػػػػ حضر ػػػػػػ عصماف ػػػػػػػ‬
‫وادي مسور]= الى الغرب‬

‫واآلف‪ ،‬لننظر الى الخريطة رقـ (‪ )8‬ونتأمؿ النتائج الرىيبة‪:‬‬

‫خريطة رقـ (‪ :)8‬شكؿ الحد الجنوبي ألرض الميعاد بحسب تحديد الربيعي لممواقع التي يمر بيا عمى الخريطة‬
‫اليمنية‬

‫كانت تمؾ ىي النتيجة كما ىي واضحة بدقة جغرافية متناىية‪ ،‬كما في الخريطة‬
‫أعاله‪ -!!..‬فيؿ توجد فوضى أكثر مف ىذه الفوضى التي عثرنا عمييا في جغرافية الربيعي‬
‫المتخيمة؟!‬

‫‪293‬‬
‫الفصل الثالث‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫ال‪ ،‬لن نجد مثل ىذه الفوضى حتى في عقول األطفال‪ ..‬فما بالكم بمن يحب أن يناديو‬
‫الناس ب ـ المفكر العربي وأحياناً البروفسور‪!!..‬‬

‫وىكذا‪ ،‬فإف ادعاءات مفكرنا الجيبذ وتمفيقاتو وأوىامو وتخيالتو لـ تعد مسألة مختمطة‬
‫أو غير واضحة أو أنيا نظرية تفتح آفاقاً واسعة لنقد التوراة‪ ،‬أو أف فييا وجية نظر يمكف‬
‫األخذ بيا‪ .‬لقد صار كؿ شيء واضحاً مف الناحية التي كاف يُطمب منا فييا دائماً الدليؿ‬
‫والحجة عمى بطالف ىذه النظرية السخيفة‪ ،‬أما بعد ىذا فالمسألة مسػألة مبدأ أخالقي‬
‫وضمير‪ ..‬فال يكابر الحقيقة أو يعاندىا إال مف تخمى عف ضميره وعف أخالؽ العمـ والعمماء‪.‬‬

‫وكؿ منا يعرؼ بالضبط أيف يضع نفسو‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫الفصل الرابع‬

‫أقواس الربيـ(‪).....‬ــعي الفارغة‬

‫تكشف مقاربات الربيعي الممفقة والمضممة من إحدى النواحي‪ ،‬عن قصور وضعف شديد‬
‫في المعرفة والوعي بأبسط مبادئ عمم الجغرافيا مما يتعممو الصغار في صفوف المدرسة‬
‫االبتدائية‪ ،‬األمر الذي يمكن اعتباره واحداً من أىم األسباب الكامنة وراء تقديمو نظرية ىشة‬
‫وسخيفة الى ذلك الحد الذي اثبتناه في الفصول الثالثة السابقة‪ ،‬والذي نسعى الى تجاوزه‬
‫والوصول الى حد أبعد بكثير مما تقدم لدعم النتائج التي توصمنا إلييا‪ .‬فعندما رصدنا وتتبعنا‬
‫اإلجراءات التي قام بيا في تعاممو مع كتاب اليمداني‪ ،‬الحظنا ظاىرة ال نظنيا اختفت أو توارت‬
‫عن أنظار أولئك الذين ق أروا كتابو "فمسطين المتخيمة"‪ ،‬وىي ظاىرة االقتصاص المتعمد‬
‫والمقصود لمتون كتاب صفة جزيرة العرب‪ ،‬وبتر االستشيادات التي استخدميا لدعم رؤيتو‬
‫الموىومة من سياقيا عمى نحو سافر‪ ،‬ولسوف نثبت كيف أن مثل ىذه اإلجراءات تكشف بعمق‬
‫شديد الى أي مدى بمغت ضحالة الوعي والحس الجغرافي عند ىذا المفكر بعنصر المساحة‬
‫الجغرافية وغيرىا من العناصر األساسية‪ ،‬وكيف أنو اختزل مساحات شاسعة من الجغرافية‬
‫اليمنية واستقطع مساحات أخرى وألغى مسافات ومسافات في سبيل ترقيع نظريتو‪ ،‬وتقديم أدلة‬
‫وىمية مصطنعة وممفقة تخدع القارئ وتضممو‪ ،‬فضالً عن كونيا في األساس تستخف بو تماماً‪.‬‬

‫بذلك الضيق الشديد في الرؤية واألفق المعرفي بأسس الجغرافيا‪ ،‬اقتحم مفكرنا العبقري‬
‫أسفار التوراة متعجالً ومسارعاً في وصف وتحديد أرض التوراة ومنازل األسباط– أسباط بني‬
‫اسرائيل‪ -‬ومواقع المعارك والغزوات التي قام بيا المصريين واآلشوريين واإلغريق والرومان‬
‫والفرس في نطاق الجغرافية اليمنية‪ ،‬مستعيناً دائماً باليمداني وجاعالً منو شاىده الرئيسي‪،‬‬
‫باإلضافة الى األبيات المجتزأة والمقتصة من قصائد الشعراء القدماء‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫بدأ مفكرنا في الفصل الثاني من الجزء األول في المجمد األول من كتابو "فمسطين‬
‫المتخيمة" بتحديد منازل خمسة من األسباط االسرائيمية عمى مدى (‪ )422‬صفحة‪ ،‬ومن بعدىا‬
‫انشغل بإعداد بقية فصول الجزء األول وفصول الجزء الثاني وفصول الجزء الثالث‪ ،‬لنجده يعود‬
‫مرة أخرى الى تعيين منازل سبطين آخرين‪ ،‬خصص لكل منيما فصل من الجزء الرابع الذي يقع‬
‫بدوره في المجمد الثاني من الكتاب نفسو‪.‬‬

‫ودائماً نتساءل‪ ،‬لماذا يفعل الربيعي ىذا؟!‬

‫لماذا ال يتعامل مع الموضوع الواحد في نسق واحد متكامل ُيمم فيو بجميع أبعاده‬
‫وتفاصيمو بدالً من التقطيع والتجزئة والفصل بمسافات شاسعة بين أجزاءه؟!‬

‫لماذا يبدأ بسفر يشوع وقبل أن ينتيي منو ينتقل الى سفر القضاة‪ ،‬ثم ودون أن يكون‬
‫ىناك سبب وجيو نجده يقفز الى سفر صموئيل‪ ،‬ثم الى أشعيا‪ ،‬ثم نجده فجأة في سفر أخبار‬
‫األيام‪ ،‬وبشكل مفاجئ مرة أخرى ينقمنا الى سفري المكابيين‪ ،‬ومن بعدىا جميعاً يقفز بنا الى‬
‫أشعار وقصائد أحزان الييود ومرثياتيم؟!‬

‫وعمى أساس أن ِع ّدة أسباط بني اسرائيل إثنا عشر سبطاً‪ ،‬فإننا نتساءل أيضاً لماذا تعامل‬
‫الربيعي فقط مع سبعة من األسباط؟!‪ -‬ولماذا لم يحدد منازل األسباط الخمسة األخرى أو عمى‬
‫األقل لماذا لم يسير في تعيين جميع منازل األسباط كما وردت في سفر يشوع؟!‪ -‬عالوة عمى‬
‫الكثير من التساؤالت التي يمكن طرحيا ىنا‪.‬‬

‫لجميع ىذه األسئمة ولغيرىا أيضاً‪ ،‬يأتي ىذا الفصل مكمالً لما قبمو‪ .‬فإذا كنا قد تطرقنا‬
‫الى مسألة حدود األرض وأىمية ىذا العنصر الجغرافي في أي معالجة ممكنة ومحتممة لمنص‬
‫التوراتي‪ ،‬فإننا في ىذا الفصل سنتعرض لنظرية الربيعي من منظور عنصر المساحة الذي ال‬
‫يقل أىمية عن سابقو‪ ،‬إذ أن الكشف عن الطريقة واإلجراءات التي تعامل بيا مع ىذا العنصر‬
‫في تقديم األدلة التي استند إلييا‪ ،‬سوف يساعدنا كثي اًر في تكميل الصورة التي تكونت لدينا حتى‬
‫اآلن‪ ،‬عن حجم التضميل والتزييف والتحريف الذي مارسو‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫)‪(1‬‬

‫الطفرة املخيالية‬

‫ُيقدم أحمد داود – رائد نظرية جغرافية التوراة في غامد وبالد زىران‪ -‬معالجة بالغة‬
‫األىمية لبعض النصوص الواردة في أحد األسفار التاريخية الممحقة باألسفار الخمسة لمتوراة‪،‬‬
‫مما يتعمق بمساحة أرض الميعاد‪ ،‬وذلك ضمن نموذجو الخاص لمسرح أحداث التوراة غير‬
‫مبتعد عن موضع المسرح الذي حدده من قبل الصميبي وزياد منى ألحداث المقراء‪.‬‬

‫تأتي أىمية معالجة أحمد داود ىذه من عدة جوانب‪ ،‬أىميا أنيا تدلنا عمى نصوص ميمة‬
‫من سفر حزقيال‪ -‬الذي يعود زمن كتابتو الى ما بعد مرحمة السبي البابمي وعودة الييود الى‬
‫[ٔ]‬
‫ألرض الميعاد في ذلك العصر‪ ،‬وكيف ينبغي‬ ‫أورشميم‪ ،‬والذي يتضمن توصيفاً جغرافياً رؤيوياً‬
‫بناء عمى معطيات كمية وقياسية لمساحة ىذه األرض‪.‬‬
‫تقسيميا بين فئات المجتمع الييودي‪ً ،‬‬
‫فقد قام أحمد داود بمعالجة ىذا النص قياسياً وكمياً عمى نحو أعطانا فكرة تبدو واضحة عن‬
‫مساحة وأبعاد األرض‪ ،‬فضالً عن أن النص التوراتي بحد ذاتو ومن دون ىذه المعالجة ُيعطينا‬
‫بيانات ىامة عن وحدات قياس الطول والمسافة واألبعاد‪ ،‬األمر الذي يمكن االستفادة منو في‬
‫معرض نقدنا لنظرية الربيعي‪ -‬أو باألصح لمنموذج الذي قدمو في إطار ىذه النظرية‪.‬‬

‫[‪ .]4‬نقصد بعبارة (توصيف رؤيوي)‪ ،‬ما يدل عميو باألساس أن سفر حزقيال يتضمن ما كتبو صاحبو عن رؤى‬
‫توصل إلييا ونسبيا الى مصدر إليي‪ .‬فمسألة الرؤى والنبوءات في ثقافة األدب والتاريخ التوراتي مسألة شييرة‬
‫نظ اًر لكثرة األنبياء الذين ادعوا أنيم عاشوا تجارب من ىذا النوع‪ ،‬حتى أن ىذه الظاىرة الكتابية قد انتقمت بعد‬
‫ذلك الى المسيحية عمى غرار أنجيل يوحنا الذي يتضمن رؤيا من ىذا النوع‪ .‬وبال شك فإنو يجب األخذ‬
‫باالعتبار طبيعة الوصف الذي يقدمو سفر حزقيال لمساحة وأبعاد أرض الميعاد بأنو ليس ناتجاً عن معايرة‬
‫واقعية قام بيا كاتب السفر‪ ،‬بل ىو ناتج عن رؤيا أو معرفة باراسيكولوجية‪ -‬حممية أو ما شابو‪ ،‬وىذا األمر‬
‫تجاىمو أحمد داود تماماً‪ ،‬من حيث تعامل مع النص وكأنو توصيف معياري واقعي ومادي‪ ،‬ولكن ىذا ال يقمل‬
‫من شأن معالجتو التي تستند حقيقة الى أساس سميم وصحيح‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫‪297‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫في الحمقة ال ـ (‪ )41‬من كتابو "العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود"‪،‬‬
‫وتحت عنوان‪" :‬أرض الميعاد وأبعادىا التوراتية بالذراع"‪ ،‬يقدم لنا أحمد داود معالجتو لما ورد‬
‫في سفر حزقيال بشأن مساحة أرض الميعاد ومقاييسيا‪ ،‬والتي ننقميا عمى نحو حرفي كما‬
‫يمي[ٔ]‪:‬‬

‫"تقول التوراة‪ :‬في السنة الخامسة والعشرين من جالئنا في رأس السنة في العاشر من‬
‫الشير‪ .‬في ذلك اليوم نفسو كانت عميّ يد الرب وأتى بي إلى ىناك أتى بي إلى أرض إسرائيل‬
‫ووضعني عمى جبل شامخ جداً عميو كبناء مدينة من جية الجنوب فأتى بي إلى ىناك فإذا برجل‬
‫كمرأى النحاس وبيده خيط كتان وقصبة قياس وىو واقف بالباب فإذا بحائط خارج البيت عمى محيطو‬
‫وبيد الرجل قصبة القياس وىي ستة أذرع وذراعيا ذراع وقبضة فقاس عرض البنيان قصبة وسمكو‬
‫قصبة وأتى إلى الباب المتجو نحو طريق الشرق وبعد أن قاس غرف البيت والمذبح أتى بي إلى‬
‫الييكل وقاس األطر ستة أذرع عرضاً من ىنا وستة أذرع عرضاً من ىناك وىو عرض الخباء وقال لي‬
‫يا ابن البشر ىذا موضع عرشي وموضع أخامص قدمي الذي أسكن فيو في وسط بني إسرائيل إلى‬
‫األبد ىذه شريعة البيت الذي عمى رأس جبل إن جميع تخومو عمى محيطو ىي قدس أقداس ىذه ىي‬
‫شريعة البيت‪..‬‬

‫‪ ..‬واذا قسمتم األرض ميراثاً تقدمون من األرض تقدمة مقدسة لمرب طوليا خمسة وعشرون‬
‫ألفاً وعرضيا عشرة آالف وىذه تكون مقدسة في جميع تخوميا من حوليا ومن ذلك القياس تقيس‬
‫طول خمسة وعشرين ألفاً وعرض عشرة آالف وىناك يكون المقدس قدس األقداس وىذا يكون المحل‬
‫المقدس من األرض ويكون لمكينة خدام المقدس المقربين ليخدموا الرب وتجعمون لمرئيس ما عمى‬
‫جانبي التقدمة المقدسة وما يمي ممك المدينة من جية الغرب إلى الغرب ومن جية الشرق إلى‬
‫الشرق ويكون الطول قبالة كل واحد من النصيبين من تخم الغرب إلى تخم الشرق فذلك يكون أرضو‬
‫وممكو في إسرائيل فال يظمم رؤسائي شعبي من بعد وانما يعطون األرض آلل إسرائيل ألسباطيم ىكذا‬
‫قال السيد الرب‪ :‬حسبكم يا رؤساء اسرائيل كفوا عن الجور واالغتصاب وأجروا الحكم والعدل وارفعوا‬
‫عن شعبي إعسافكم ىكذا قال السيد الرب ىذه ىي التخوم التي فييا ترثون األرض عمى حسب أسباط‬
‫إسرائيل االثني عشر وليوسف سيمان ترثون كل واحد مثل سيم أخيو من ىذه األرض التي رفعت‬
‫يدي عمى أن أعطييا آلبائكم فتقع لكم ميراثاً وىذا تخم األرض من جية الشمال يكون التخم من البحر‬
‫حصر عينون تخم دمشق وصافون نحو الشمال وتخم حماه وجية الجنوب يميناً من تامار إلى ماء‬

‫[‪ .]4‬أحمد داوود‪ :‬العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.077 -072‬‬
‫‪298‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫الخصومة في قادش ومن النير إلى البحر الكبير ىذه جية اليمين جنوباً وجية الغرب البحر الكبير‬
‫من التخم إلى ما قدام و أنت ٍ‬
‫آت إلى حماه ىذه جية الغرب فتقسمون ىذه األرض لكم عمى حسب‬
‫أسباط إسرائيل‪."..‬‬

‫لنبدأ بدراسة ىذه النصوص أوالً من الناحية الوصفية الجغرافية‪ ،‬حيث إن بيت المقدس في‬
‫أورشميم ىو عمى جبل شامخ جداً‪ .‬وىذا القول ال ينطبق عمى مدينة القدس في فمسطين‪ .‬ومدخل‬
‫البيت متجو نحو الشرق تخرج من تحت عتبتو مياه نحو الشرق تزداد غزارتيا كل ألف ذراع (أي كل‬
‫نصف كيمو متر تقريباً) (حسب التوراة) بفضل تجمع الينابيع والروافد حتى تتحول إلى نير ال يعبر‬
‫وىذا أيضاً ال ينطبق عمى مدينة القدس التي ال ينبع منيا أي نير صغي ارً كان أم كبي ارً‪.‬‬

‫كما إن ىذه (األرض الموعودة) أرض عشائر الكنعانيين تمتد مستطيمة عمى سفوح جبل غامد‬
‫ونالحظ عند توزيع الحصص عمى األسباط أن التوزيع كان يحرص دائماً عمى القول‪( :‬من الشرق‬
‫إلى الغرب) ولما كان النص قد حدد لنا عرض األرض من الشرق إلى الغرب الذي ىو عرض كل‬
‫حصة من الحصص االثنتي عشرة بعشرة آالف ذراع وان الذراع كما سوف نرى يعادل ٘‪ ٓ.ٜٗ‬متر‬
‫فإن عرض األرض من النير إلى البحر الكبير الذي ىو تخم الجنوب ىو ٓٓٓٓٔ ذراع × ٘‪ٓ.ٜٗ‬‬
‫متر يساوي ٓ٘‪ ٜٗ‬متر‪ .‬أي أقل من خمسة كيمو مترات‪ ،‬أي ما يعادل المسافة بين ساحة األمويين‬
‫ونياية حي المزة في دمشق‪.‬‬

‫وىذا الكالم ال يمكن أن ينطبق عمى أي فرات في سوريا‪ ،‬بل وال عمى نير األردن إذا ما‬
‫افترضنا مع المفترضين جيالً بأنو ربما يكون األردن ىو النير المقصود والبحر األبيض المتوسط ىو‬
‫البحر الغربي إذا ما طبق ذلك عمى فمسطين‪ .‬إن الكالم يدور حول نير الفرات و وادي عردة في جبل‬
‫غامد‪.‬‬

‫أما دمشق و حماة المقصودتان فيما قريتا (دوماسك) اآلرامية شمال غامد‪ ،‬و(حمــت) الذي‬
‫ىو أحد أبناء كنعان غرب دوماسك اآلرامية في شمال غامد‪ .‬وكنا قد فصمنا في ذلك في حمقات‬
‫سابقة‪.‬‬

‫ثانياً‪ ،‬معالجة النص من حيث األبعاد والمساحة‪ .‬فقد أصر كتبة األسفار عمى أن يقدموا لنا‬
‫وصفاً قياسياً دقيقاً بالذراع ألبعاد تمك (األرض الموعودة) األرض المرعى‪ ،‬فخمصونا بذلك من كثير من‬
‫األوىام واالفتراضات وأسقطوا كل التزوير الصييوني بضربة واحدة ولنتأمل في ىذه األبعاد التي‬
‫حفظتيا لنا أسفار التوراة‪ ..‬فمن حيث القياس واألبعاد فإن النص يخبرنا بصراحة أن وسيمة القياس‬

‫‪299‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫ىي القصبة وطوليا ستة أذرع وأن حساب األبعاد يتم بالذراع‪ ،‬ونحن إذا ما عدنا إلى القاموس‬
‫الكمداني لوجدنا أن (دراعو) = ذراع؛ قياس قدره ٕٗ إصبعاً‪.‬‬

‫وفي كتاب (ميسوفوطاميا) (مابين النيرين) لمؤلفو ل‪ .‬ديالبورت جدول بالمقاييس العربية‬
‫البابمية التي كانت مستخدمة في ذلك الزمن‪ ،‬وقد وردت فييا القصبة والذراع عمى النحو التالي‪:‬‬

‫القصبة= ‪ ٙ‬أذرع = ‪ ٕ.ٜٚ‬متراً‪.‬‬

‫الذراع= ٖٓ إصبعاً = ٘‪ ٓ.ٜٗ‬مت ارً‪.‬‬

‫واذا ما عممنا أن (أرض إسرائيل) قسمت إلى اثنتي عشرة حصة متساوية عرض كل منيا من‬
‫الشرق إلى الغرب ىو عرض األرض البالغ عشرة آالف ذراع‪ ،‬وأن طول كل منيا امتداداً من الشمال‬
‫إلى الجنوب ىو خمسة وعشرون ألف ذراع صار في إمكاننا أن نحسب عرض ىذه األرض الذي ىو‬
‫عرض الحصص جميعاً وطوليا الذي ىو مجموع أطوال ىذه الحصص باألمتار إن العرض باألمتار‬
‫ىو‪:‬‬

‫ٓٓٓٓٔ ذراع × ٘‪ ٓ.ٜٗ‬مت ارً =ٓ٘‪ ٜٗ‬مت ارً أي ٘‪ ٗ.ٜ‬كيمو متر ‪.‬‬

‫وان طول الحصة الواحدة باألمتار ىو‪:‬‬

‫ٕٓٓٓ٘ ذراع × ٘‪ ٕٖٔٚ٘ = ٓ.ٜٗ‬مت ارً أي أنو يساوي ٘‪ ٕٔ4ٗٚ‬كيمو متر ‪.‬‬

‫ونحن إذا ما عرفنا أن ىذه األرض تتموى بين جبال شامخة شديدة االنحدار كما ىي حال‬
‫جبال غامد تأكدنا من أن مسافة المئة كيمو متر قياساً تتقمص إلى خمسيا في خط النظر‪ ،‬وىذا ما‬
‫يفسر لنا إمكانية رؤيتيا كميا من فوق الجبل المرتفع‪ .‬فتأمموا معنا ىذه (األرض المرعى) التي كان‬
‫يمكن إلبراىيم أن يراىا كميا بعينيو وىو واقف أمام باب خيمتو تحت البموطة في الجبل وعرضيا أقل‬
‫من خمسة كيمومترات و تمتد بطول أقل من (ٓ٘ٔ) كيمومت ارً‪ ،‬وقد صارت فجأةً في التزوير الصييوني‬
‫تشمل كل األرض التي تمتد ما بين الفرات في أقصى شمال سوريا و وادي النيل في مصر‪.‬‬

‫واذا ما حسبنا مساحة تمك األرض المرعى لمعشيرة باألمتار المربعة وجدنا أن مساحتيا ىي‪:‬‬

‫الطول ٘‪ ٔٗٛ.‬كيمومتر × ٘‪ ٗ.ٜ‬كيمومتر (العرض) = ٘‪ ٕٚٚ4ٙ‬كيمومتر مربع‪ ،‬أي أقل من‬


‫ألف كيمو متر مربع‪ .‬فإذا ما عممنا أن مساحة فمسطين وحدىا ىيٓٓٓ‪ ٕٚ‬كم مربع‪ ،‬ومساحة لبنان‬
‫ٓٓٗٓٔ كم مربع‪ ،‬ومساحة سوريا ٓٓٓ٘‪ ٔٛ‬كم مربع‪ ،‬وأن مساحة محافظة دمشق وحدىا تعادل‬

‫‪300‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫عشرة أضعاف تمك المساحة تكشف لنا مدى فداحة التزوير الصييوني واالستشراقي االستعماري في‬
‫تفسير أحداث التوراة و جغرافيتيا"‪ -.‬انتيى كالم أحمد داود ىنا‪.‬‬

‫حسناً‪ ،‬بغض النظر عن اإلشكاليات الموضوعية والمآخذ التي يمكن أخذىا عمى معالجة‬
‫كيذه‪ ،‬سواء من حيث ق ارءة وتفسير النص التوراتي أو من حيث االسقاطات الجغرافية التي‬
‫وضعيا صاحبيا وأراد أن يخدميا في االطار الذي اعتبر فيو أن بالد زىران من عسير ىي‬
‫أرض التوراة‪ -‬بغض النظر عن ذلك‪ ،‬فإن ىذا النص وتمك المعالجة يكشفان لنا عن حقائق ال‬
‫يمكن تجاىميا‪ ،‬بشأن ما يفترض أن تكون عميو مساحة أرض التوراة‪ ،‬والمقاييس التي استخدمت‬
‫لقياسيا‪ ،‬وىذان بال شك أمران بالغا األىمية‪.‬‬

‫واضح ىنا‪ ،‬أن إدراك أحمد داود ألىمية مراعاة مثل ىذه النصوص المتعمقة بمساحة‬
‫وامتداد وحجم أرض الميعاد في النص التوراتي‪ ،‬قد لعب دو اًر بالغ األىمية في اختياراتو‬
‫الجغرافية‪ ،‬وفي تحديد مساحة النطاق الجغرافي الذي يمكن اسقاط نصوص التوراة عمييا‪ .‬فقد‬
‫أكد عمى أن حقيقة أحداث التوراة بأشخاصيا ومواقعيا‪ ،‬تتحدث عن عشائر بدوية آرامية‪ ،‬تتحرك‬
‫بين مراعييا بأغناميا في بقعة ضيقة من برية شبو جزيرة العرب[ٔ]‪ .‬وبالتحديد في غامد من‬
‫منطقة عسير غرب الجزيرة العربية[ٕ]‪.‬‬

‫كان كمال الصميبي قد أشار الى ما يشي بإدراك مماثل لديو ليذه المسألة في مقدمة كتابو‬
‫"التوراة جاءت من جزيرة العرب"‪ .‬فحصر األمر "في منطقة بطول يصل الى حوالي ‪ 422‬كمم‬
‫وبعرض يبمغ حوالي ‪ 022‬كمم‪ ،‬وبالتحديد في "عسير وجنوب الحجاز"[ٖ]‪ .‬ومع نفس ىذا التحديد‬
‫اتفقت أطروحة زياد منى‪.‬‬

‫لقد حرص ىؤالء عمى جعل مسرح أحداث التوراة في مساحة ضيقة تتناسب مع مساحة‬
‫األرض التي تصفيا النصوص‪ ،‬وحرصوا أيضاً عمى أن تكون األرض المختارة لإلسقاط‬

‫[‪ .]4‬أحمد داوود‪ :‬العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫[‪ .]1‬كمال الصميبي‪ :‬التوراة جاءت من جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.05‬‬
‫‪301‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫الجغرافي الجديد عمى ساحل بحر يحدىا من الغرب‪ ،‬فجعموىا في نطاق ضيق من غرب جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬مع تباينات دقيقة في تحديداتيم المكانية لألماكن الواردة أسمائيا في التوراة‪ ،‬تبعاً لتباين‬
‫مصادرىم‪ ،‬وتعدد واختالف طرائق استخدام وتطبيق أدواتيم االستداللية‪.‬‬

‫خريطة رقم (ٔ)‪ :‬مسرح أحداث التوراة كما تخيمو أحمد داود‬

‫إذا ما أخذنا بيذا من ناحية أخرى‪ .‬فإن بوسعنا القول أن ىؤالء الثالثة‪ :‬الصميبي‪ ،‬منى‪،‬‬

‫داود‪ ،‬قد حرصوا تماماً عمى اختيار منطقة مطابقة تماماً من حيث التوصيف الجغرافي‪ :‬حدوداً‬
‫ومساحة وطبوغرافيا‪ ..‬الخ‪ ،‬مع ما ىي عميو خريطة فمسطين‪ ،‬خاصة وانو يمكننا بالفعل‬
‫مالحظة ذلك التشابو الكبير فعالً‪ .‬وىذا بالطبع‪ ،‬يدفع الى طرح سؤال‪ ،‬لماذا أخذ ىؤالء‬

‫‪302‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫باعتبارىم أن تكون اسقاطاتيم الجغرافية واقعة عمى مناطق مشابية فعالً لفمسطين عمى األقل‬
‫من الناحية الشكمية أو من حيث يمكن تمثيل األراضي المعينة الجديدة عمى الخريطة؟!‬

‫ىذا سؤال ميم لمغاية في حقيقة األمر‪ ،‬واإلجابة عميو تتمثل في كونيم اعتقدوا دائماً‬
‫أن بإمكانيم اجراء مطابقات مماثمة لجغرافية فمسطين‪ -‬أكثر ما ىي مطابقات لمنص‬
‫التوراتي‪ -‬في مناطق أخرى تشبو في مالمحيا الجغرافية جغرافية فمسطين بالفعل‪ ،‬وىذا يفسر‬
‫لماذا وقعت اختياراتيم الرئيسية األولى عمى عسير‪.‬‬

‫خريطة رقم (ٕ)‪ :‬تقسيم أرض الميعاد بين األسباط وفق نموذج أحمد داود وتبدو فيو منازل األسباط مقسمة‬
‫عمى شكل كيتوىات منتظمة الشكل‪!!..‬‬

‫‪303‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫إن نظرة واحدة الى نموذج أحمد داود‪ -‬مثالً‪ -‬كما عرضو ىو من خالل خرائطو‬
‫الموضحة أعاله‪ ،‬يكشف بالضبط عما نشير إليو ىنا‪ ،‬فعسير تقع عمى الضفة الشرقية لمبحر‬
‫األحمر‪ ،‬عمى نفس خط الطول الذي تقع عميو فمسطين تماماً‪ ،‬وعسير أيضاً من حيث يحدىا‬
‫من الغرب بحر‪ ،‬تماماً كما يحد فمسطين من الغرب بحر‪ ،‬وتنفتح جغرافياً عمى فضاء قاري‬
‫واسع‪ ،‬يتشابو نسبياً مع ما ىو قائم بالنسبة لفمسطين‪ ،‬واذا ما جارينا األمر بحثاً عن غير ذلك‬
‫من التطابقات فسوف نجد الكثير‪ ،‬مما يثبت أن نظريتيم ىذه قامت من الناحية اإلجرائية وعمى‬
‫نحو سابق ألي بحوث فعمية في مدلوالت النص التوراتي ومعطياتو الجغرافية‪ ،‬عمى التشابو‬
‫بين جغرافية فمسطين وجغرافية عسير‪ ،‬ثم جاءت ذريعة تشابو األسماء التي اخترعيا من‬
‫قبميم ‪ -‬بقرون عديدة‪ -‬مفسرو التوراة من الييود والمسيحيين لتضفي شرعية لتمك‬
‫المطابقات المقصودة والمتعمدة‪ ،‬ومن بعدىا جرى تعميد ذلك بتفسير النص التوراتي‪ ،‬ليتسع‬
‫األمر مجدداً بتوظيف مصادر معجمية وأدوات لغوية وما الى ذلك‪.‬‬

‫واذا ما أخذنا بالمعايير الجغرافية‪ -‬المساحة‪ ،‬الحدود‪ ،‬التضاريس‪ .. ،‬الخ‪ -‬في تقييم تمك‬
‫الطروحات التي قدميا أولئك الرواد العرب ليذه النظرية‪ ،‬فسوف نجد أن النموذج الذي قدمو‬
‫أحمد داود ىو النموذج األكثر نضوجاً من الناحية المعيارية التي تبدو فييا محاولتو جادة بالفعل‬
‫في إقامة الحد المعقول من التوازن الموضوعي والمنيجي بين ما ىي عميو في األساس والواقع‬
‫حقائق الجغرافيا في األرض المختارة إلسقاط معطيات النص التوراتي الجغرافية عمييا من جية‪،‬‬
‫وبين ما يفترض أن تسعى النظرية الى اثباتو من جية أخرى‪.‬‬

‫وىذا مفاده‪ ،‬أننا إذا ما أردنا تقييم نموذج أحمد داود من ىذه الناحية فسوف نقول بأنو‬
‫األفضل من بين سائر النماذج األخرى‪.‬‬

‫نقول ىذا‪ ،‬بالرغم من اختالفنا التام مع نظرية أحمد داود‪ ،‬بل ومع إق اررنا األكيد بأن‬
‫منيجنا وأدلتنا قادرة عمى دحض نظريتو واثبات عدم صحتيا عمى اإلطالق‪ ،‬إذ أن الغاية من‬
‫ىكذا تقييم ليس الموضوع بحد ذاتو‪ ،‬بل اإلجراء الذي يقع عميو مناط التأكيد دائماً في توجينا‬
‫النقدي‪ .‬ف تقييمنا ىنا يذىب الى مدى التزام الباحث أو المفكر باحترام عقمية القراء‪ ،‬وحرصو عمى‬

‫‪304‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫تقديم طرح قابل ألن يوضع موضع البحث الجاد مع احترام الجيد المبذول فيو‪ ،‬ميما كانت‬
‫أخطائو وانحرافاتو‪ ،‬وميما كانت مواقفنا معو أو ضده‪.‬‬

‫وفيما يتعمق بجغرافية أرض الميعاد كما تصفيا التوراة أيضاً‪ ،‬نجد أن تمك االعتبارات‬
‫اليامة لعناصر الحدود والمساحة وغيرىا من المالمح الطبوغرافية التي تشكل األسس‬
‫المعيارية ألي بحث جغرافي‪ ،‬كانت في موضع اىتمام جدي عمى مدى أزمان طويمة من قبل‬
‫مفسري التوراة التقميديين‪ -‬أخص بذلك التفسيرات المسيحية‪ ،-‬وبناءً عمييا رسموا جغرافية‬
‫أحداث التوراة في فمسطين‪ ،‬وحاولوا الى أقصى درجة ممكنة أن يروا ذلك التطابق المفترض‬
‫بين النص والواقع عمى األرض‪ ،‬ساعدىم في ذلك أن الكثير من مضمونات النص التوراتي‬
‫ذات اليوية الجغرافية المجردة منقولة بشكل أكيد من واقع الجغرافية الفمسطينية‪ ،‬بمعنى أن‬
‫النص التوراتي قد تعرض منذ بداية كتابتو ودائماً لعممية تكييف ىدفت الى جعل وصوفو‬
‫متطابقة مع ما ىو عميو الواقع عمى أرض فمسطين‪.‬‬

‫أبسط مثال عمى مثل ىذا‪ ،‬أن يكتب روائي انجميزي نص رواية أبطاليا من انكمت ار‬
‫واسكتمندا يصنعون أحداثيا في قرى وأقاليم الصين‪ ،‬ثم بعد عدة قرون من الزمان يأتي من يقرأىا‬
‫دون أن ينظر في أي شيء آخر غير نص الرواية نفسيا‪ ،‬فإن من المتوقع أن يعتقد ىذا القارئ‬
‫أن ما تصفو الرواية من الناحية الجغرافية ىو بالفعل ما كانت عميو قرى وأقاليم الصين قبل‬
‫بناء عمى مضمون‬
‫ثالثة قرون من عصره‪ ،‬ولكن ىذا ال يعني أبداً أنو سوف يعتقد أو يتصور ً‬
‫الرواية أن انكمت ار كانت واقعة في زمن أحداث القصة في نطاق جغرافية الصين أو عمى‬
‫حدودىا‪ ،‬وأن عممية ىجرة قد حدثت بعد زمن الرواية قام بيا أولئك االنجميز الى أوروبا حيث‬
‫استقروا وصار ليم موطناً جديداً فييا‪ ،‬نقموا إليو أسماء قراىم وأقاليميم التي كانت في الصين‪،‬‬
‫وكل ىذا فقط ألن كاتب الرواية انجميزي وأبطاليا كذلك‪ ،‬والرواية مكتوبة بالمغة االنجميزية‪!!..‬‬

‫ال يوجد أحد عمى وجو األرض يمكن أن يكون بيذه السذاجة‪ ،‬فكيف نتصور إذن أن‬
‫ىذا قد يكون ممكناً مع النص التوراتي أو أي نص آخر؟!‬

‫‪305‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫ىذا بالضبط ما نؤكد عميو دائماً‪ ،‬وىو أن األرض والجغرافيا حقائق ثابتة‪ ،‬وليس النص‪،‬‬
‫واذا كان ىناك من يمكن أن يرتدي حقيقة اآلخر فيو النص وليس األ رض‪ ،‬فكتبة التوراة ىم‬
‫من اقتبسوا جغرافية فمسطين وجعموىا في نصوصيم‪ ،‬وليس أنيم أخطأوا أو أن من جاءوا من‬
‫بعدىم فسروا تمك النصوص وأخطأوا في تفسيرىا‪ ،‬ىذا إذا غضينا النظر عن كون التوراة‬
‫باألساس كتاب إليي‪ ،‬أما إذا لم نفعل وتوخينا أعمى درجات الحيطة والحذر من أي تحريف أو‬
‫تزييف يمكن أن يكون قد وقع عمى نصيا‪ ،‬فإنو لن يكون بوسعنا انكار أنيا تنطق بقدر من‬
‫الحقيقة‪ ،‬إذ أن المسألة برمتيا فيما يتعمق بالتوراة وفمسطين ىي مسألة إيمانية‪ ،‬وال يمكن‬
‫تناوليا أو بحثيا بعيداً عن جذرىا اإليماني‪ ،‬وذلك عمى نحو ما ذىب إليو أحد المؤرخين‬
‫الفمسطينيين[ٔ]‪.‬‬

‫حسناً‪ ،‬إذا كان الصميبي وأحمد داود وزياد منى‪ ،‬قد حاولوا بشكل أو بآخر األخذ بتمك‬
‫االعتبارات الجوىرية لعناصر الحدود والمساحة‪ ،‬فإن ىذه العناصر سوف تسقط تماماً منذ‬
‫المحظة التي ّتبنى فييا رواد آخرون لنظرية جغرافية التوراة نموذج أوسع‪ ،‬أسقط معطيات التوراة‬
‫الجغرافية بتعيينات متباينة عمى جغرافية اليمن‪ ،‬أي أنيم وسعوا نطاق طروحاتيم لتشمل كامل‬
‫المساحة الطبيعية ألرض اليمن بما في ذلك عسير ونجران وجازان وغيرىا من األراضي الداخمة‬
‫حالياً ضمن حدود المممكة العربية السعودية‪ ،‬كان ذلك التحول قد بدأ عند فرج اهلل صالح ديب‪،‬‬
‫وانتقل الى أحمد الدبش واستقر في النياية لدى فاضل الربيعي‪.‬‬

‫بال شك‪ ،‬فإن ىذا التحول الى نموذج الجغرافية اليمنية الشامل لم يكن جزافياً بل كانت لو‬
‫دوافعو وأسبابو‪ ،‬إذا ما نظرنا إليو باعتباره أحد المالمح المميزة لتحوالت ىذه النظرية وطبيعة‬
‫أطوارىا‪ ،‬فإن من المؤكد أنيا أسباب ودوافع بعيدة تماماً عن األسباب المعرفية والعممية‪ ،‬ألن‬

‫تغافل تمك الطروحات عن معايير واعتبارات من ىذا النوع الذي نشير إليو دائماً‪ ،‬يفتح باباً‬
‫واسعاً لمتفكير مميون مرة فيما عساىا تكون دوافع وأسباب تحول من ىذا النوع عمى مسار نظرية‬
‫واحدة‪.‬‬

‫[‪ .]4‬عبد اهلل التل‪ :‬خطر الييودية العالمية عمى االسالم والمسيحية‪ ،‬دار القمم‪ ،‬القاىرة‪ .4742 ،‬ص ‪.7 -6‬‬
‫‪306‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫لكي نقترب كثي اًر مما نتحدث عنو‪ ،‬نقول أننا لو أخذنا بشكل مبدئي ومقارن الفرق بين‬
‫مساحة فمسطين ومساحة اليمن‪ ،‬فسنجد فرقاً ميوالً لمغاية‪ .‬إذ أن مساحة فمسطين بحدودىا‬
‫الراىنة تبمغ (‪ )05227‬كم‪ ،0‬وبالطبع فإن ىذه المساحة قد أُجريت وأسقطت عمييا كافة األحداث‬
‫التوراتية المتعمقة بأرض الميعاد منذ بداية كتابة نصوصيا‪ ،‬فإذا كان من المستحيل – كما يدعي‬
‫رواد نظريتنا األشاوس‪ -‬أن ينطبق ذلك الوصف التوراتي عمى أرض فمسطين الصغيرة في‬
‫مقابل ما أن مساحة أرض الميعاد الموصوفة توراتياً أصغر من المساحة الفمسطينية بكثير‪ ،‬فإنو‬
‫سيكون منطقياً وعقالنياً القول بأن من سابع‪ -‬بل ومن تاسع‪ -‬المستحيالت انطباق الوصف‬
‫التوراتي عمى كامل جغرافية اليمن الطبيعي التي تربوا مساحتيا عمى أكثر من (‪ )4.1‬مميون‬
‫كم‪ -0‬وفق حدود اليمداني‪ ،-‬فيما مساحة اليمن بحدودىا السياسية الراىنة تبمغ (‪ )333‬ألف‬
‫كم‪ ،0‬ومساحة ما كان يعرف بالشطر الشمالي من اليمن قبل عام ‪ 4772‬تبمغ أكثر من (‪)406‬‬
‫ألف كم‪ ،0‬فيما كانت مساحة ما كان ُيعرف بالشطر الجنوبي أكثر من (‪ )153‬ألف كم‪ ،0‬وىذه‬
‫جميعاً مساحات شاسعة وميولة أمام مساحة فمسطين من جية‪ ،‬وأمام ما تصفو التوراة بأنو كان‬
‫ُيقاس باإلصبع والذراع من جية إولى‪!!..‬‬

‫أحد منا ىنا ماضياً في اتجاه إجراء بحث استقصائي ييدف‬


‫وعميو‪ ،‬إذا ما كان ٌ‬
‫باألساس الى تعيين جغرافية أحداث التوراة‪ ،‬فكيف لو أالّ يأخذ باالعتبار مثل ىكذا معطيات‬
‫جادت بيا وقدمتيا لنا نصوص المقراء التناخية‪ ،‬في مقابل ما ىو عميو األمر في واقع الحال‬
‫أو عمى الخرائط التي نمعن فييا بحثاً عن أرض ميعاد التوراة؟!‬

‫من ىنا نقول‪ ،‬أن الرواد المتأخرين لنظرية الصميبي لم يمتمكوا باألساس حساً ووعياً‬
‫جغرافياً‪ ،‬ولم يكونوا يدركون حقيقة ما يقومون بو من تمطيخ وتشويو فج وساذج لمجغرافيا‪ ،‬حتى‬

‫سبحوا وحمقوا وطاروا بعيداً وبعيداً جداً ليس عن المنطق والواقع الجغرافي فحسب‪ ،‬بل وبعيداً‬
‫حتى عن المعطيات الجغرافية التي تقدميا التوراة‪ ،‬إذ ال يمكن تفسير مثل ىذا التوجو الدوغمائي‬
‫إال باعتباره أحد أمرين‪ :‬إما إنو ناتج بالفعل عن جيل شديد في مبادئ الجغرافيا والعموم‬
‫المساعدة ليا‪ -‬وىو ما نسميو ىنا بالقصور في الحس والوعي الجغرافي‪ ،‬أو أنيا بالفعل‬

‫‪307‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫كانت منذ البداية توجيات تسعى نحو التضميل المتعمد والتحريف المقصود لمحقائق‪ ،‬وال نظن‬
‫أنو قد يوجد حكم ثالث بين ىذين الحكمين‪.‬‬

‫وعندما نتكمم عما ىو قائم في معرض دراستنا ونقدنا‪ ،‬فال ينبغي أن ينظر أحد الى مثل‬
‫ىكذا قول بأنو نوع من كيل االتيامات‪ ..‬فميست ىذه غايتنا‪ ،‬ولم ولن ننصب من أنفسنا قضاة‬
‫عمى أحد‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ولكي ال تكون أقوالنا ىنا في نظر البعض مجرد اتيامات أو ما شابو‪،‬‬
‫فإننا سنبين بالدليل المادي القاطع والبات أن ما نقولو حقيقة فعمية‪ ،‬وليس أنيا أقوال مبنية عمى‬
‫ظنون أو ادعاءات في حمبة استعراض لممبادئ‪.‬‬

‫نجد ىذا االنعدام الواضح لمحس والوعي الجغرافي لدى مفكرنا الربيعي وىو يتجمى بكامل‬
‫حذافيره‪ .‬فقد أثبت ىذا المفكر العبقري أنو لم يكن يوماً من أولئك الذي يفقيون شيئاً عن المنيج‬
‫والمنيجية‪ ،‬السيما وقد تسبب ىذا االنعدام لمحس والوعي الجغرافي لديو في الكثير من السقطات‬
‫المخجمة التي وقع فييا‪ ،‬بل واعطاه في كثير من األحيان الحق في أن يتعاطى مع الجغرافيا‬
‫بشكل أخرق وساذج لمغاية‪.‬‬

‫إزاء ذلك‪ ،‬سبق وأن كشفنا عن مظيرين حقيقيين من مظاىر انعدام الحس والوعي‬
‫الجغرافي لديو‪ -‬أقصد مفكرنا العبقري‪ -‬في عدة نماذج من األدلة التي قدمناىا في الفصمين‬

‫السابقين‪ ،‬وال بأس أن نذكر القراء األعزاء بيما مرة أخرى عمى نحو من التخصيص‪ ،‬تمييداً‬
‫لعرض مظاىر أخرى مماثمة تؤكد ما نقولو وتثبتو قطعاً‪ ،‬كما سيرد في السياقات التالية من ىذا‬
‫الفصل‪.‬‬

‫يتمثل ذينك المظيران المشار إلييما آنفاً‪ ،‬بما يمي‪:‬‬

‫المظير األول‪ ،‬خروج التعيينات التي حددىا مفكرنا لكثير من األسماء التوراتية عن نطاق‬
‫حدود الجغرافية اليمنية كما وصفيا اليمداني‪ ،‬إذ وجدنا لو تعيينات في نجد وفي الحجاز يفترض‬
‫بحسب عنوان أطروحتو العريض جداً أن تكون داخل حدود اليمن وفق ما ينطق بو كتاب‬
‫اليمداني‪ ،‬فضالً عن أنو أعطى تعيينات جغرافية خاطئة جداً‪ ،‬مثل تعيينو لموقع جبل (ضين)‬

‫‪308‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫بأنو يقع في تيامة‪ ،‬عمماً بأن ما عرضناه ال يعدو أكثر من مجرد أمثمة‪ ،‬واال فبوسع الباحث‬
‫المتمعن أن يجد الكثير من ىذه األخطاء الفادحة‪ ،‬فما عساه يعني لنا ذلك؟!‬

‫المظير الثاني‪ ،‬توصيفات الربيعي المتناقضة مع حقائق المواقع التي تحدث عنيا وعينيا‬
‫عمى الخريطة‪ ،‬فقد وصف لنا مواقعاً عدة بأنيا تقع (بالقرب) من مواقع أخرى‪ ،‬وعندما نظرنا في‬
‫الخريطة وجدنا أن تمك المواقع متباعدة عن بعضيا عمى نحو يستحيل معو أن نقول بأنيا‬
‫بالقرب من بعضيا البعض‪ .‬كانت مواقعاً تفصل بينيا آالف الكيمومترات وبالحد األدنى مئات‬
‫الكيمومترات‪ ،‬فما الذي يدلنا عميو ذلك؟!‬

‫وبال شك‪ ،‬فإن وضوح ىذه المسألة قد ازداد اآلن‪ ،‬بعد أن تأكد لنا ومن خالل شيادة‬
‫النص التوراتي‪ ،‬وشيادة أحد رواد ىذه النظرية‪ ،‬بأن مساحة األرض الموصوفة في التوراة في‬
‫أوسع ما يمكن أن تكون عميو‪ ،‬لم تكن تُقاس إال باإلصبع والذراع وليس حتى بالدونم أو‬
‫اليكتار‪.‬‬

‫مساحة مثل ىذه‪ ،‬ترى كم سيكون بوسعيا أن تحتمل من البشر بعد حذف جميع‬
‫الكائنات األخرى التي يمكن أن تكون فييا وتقمل من فرص البشر لمعيش فييا؟!‬

‫إزاء ىذا السؤال‪ ،‬يقدم لنا أحمد داود أيضاً معالجة بالغة األىمية لما جادت بو التوراة‬
‫بشأن مستوى الكثافة السكانية التي يفترض أن بني اسرائيل والييود كانوا عميو ذات يوم من أيام‬
‫التاريخ الذي تسرده لنا أسفار كتابيم المقدس‪ ..‬تعالوا لنق أر معالجتو األخرى لمسألة السكان‪،‬‬
‫وكيف أثبت أن عدد بني اسرائيل في الزمن الذي خرج بيم موسى لم يكن يتجاوز (ٓٓ‪)ٚ‬‬
‫شخص[ٔ]‪:‬‬

‫تقول التوراة‪" :‬ىذه أسماء بني اسرائيل الذين دخموا مصر مع يعقوب ‪،‬كل واحد مع بيتو دخموا‪:‬‬
‫راوبين وشمعون والوي وييوذا ويساكر وزبولون وبنيامين ودان ونفتالي وجاد واشير‪ ،‬وكانت جممة‬
‫النفوس الخارجة من صمب يعقوب سبعين نفساً‪ ،‬وأما يوسف فكان في مصر‪ .‬ومات يوسف وجميع‬
‫إخوتو وسائر ذلك الجيل‪ ،‬ونما بنو إسرائيل وتوالدوا وكثروا وعظموا جداً‪ ..‬وقام ممك جديد عمى مصر‬

‫[‪ .]4‬أحمد داوود‪ :‬العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل والييود‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.431 -434‬‬
‫‪309‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫لم يكن يعرف يوسف فقال لشعبو‪ :‬إن شعب بني إسرائيل أكثر وأعظم منا‪ ،‬تعالوا نحتال عمييم كي ال‬
‫يكثروا‪ ،‬فأقاموا عمييم وكالء تسخير لكي يعنتوىم بأثقاليم‪ ..‬فاستخدم المصريون بني إسرائيل بقسوة‬
‫ونغصوا حياتيم بخدمة شاقة بالطين والمبن وسائر أعمال األرض‪ .‬وكمم ممك المصريين قابمتي بني‬
‫إسرائيل المتين اسم إحداىما شفرة واألخرى فوعة وقال‪ :‬إذا استولدتما النساء فانظ ار عند الكراسي فإن‬
‫كان ذك ارً فاقتاله وان كانت أنثى فاستبقياىا‪ ،‬فخافت القابمتان الرب‪ .‬ولم تصنعا كما قال ليما ممك‬
‫مصر فاستبقيا الذكران‪ ...‬فأمر فرعون جميع شعبو قائالً‪ :‬كل ذكر يولد ليم فاطرحوه في النير وكل‬
‫أنثى فاستبقوىا ‪."..‬‬

‫في ىذا الظرف بالذات وجد موسى الطفل وكان من بين من (ألقوا في النير)‪ .‬لندرس ىذا‬
‫النص دراسة سكانية‪ ،‬ابتداءَ من أن عدد بني إسرائيل (يعقوب) في مصر زمن يوسف بن يعقوب الذي‬
‫ىو أحد األسباط االثني عشر‪ ،‬كان سبعين نفساً فقط‪ .‬ثم إن الفترة الزمنية لتكاثر تمك األسرة‬
‫المقصودة في النص ىي الفترة المحصورة ما بين الجيل األول (جيل أبناء يعقوب االثني عشر)‬
‫ومرحمة البدء بقتل األطفال من الذكور والقائيم في النير‪ ،‬أي زمن موسى‪ .‬واذا ما عممنا أن موسى‬
‫ىو فرع من الوي الذي ىو أحد األسباط االثني عشر كما تؤكد التوراة‪ ،‬وأن الوي ىو الجد الرابع‬
‫لموسى حسب ما تؤكده التوراة وكل المصادر التاريخية العربية‪ .‬فإن ىذا يعني أن الفاصل الزمني بين‬
‫الوي وموسى لن يتعدى المئة عام‪ .‬إذ أننا إذا ما اعتبرنا السن الوسطي لمزواج ىو ٕ٘ سنة فيكون‬
‫الرجل الذي يبمغ سنة المائة لديو ابن في الخامسة والسبعين وحفيد في الخمسين والحفيد الثالث في‬
‫الخامسة والعشرين الذي إذا ما تزوج في ىذا السنن أيضاً يكون ابنو في عامو األول‪.‬‬

‫وىذا ىو الجيل الرابع‪ .‬إن موسى عند كل المؤرخين العرب و في التوراة ىو موسى بن عمران‬
‫بن يصير بن قاىث بن الوي بن يعقوب‪ .‬واذا ما أجرينا تقاطعاً في أنساب فراعنة المصريين كما‬
‫أوردىا كل المؤرخين العرب نحصل عمى النتيجة نفسيا‪ ،‬وبكممة أخرى إذا ما حسبنا الفترة من األجيال‬
‫ما بين فرعون يوسف وفرعون موسى لرأينا أن فرعون موسى ينتمي إلى الجيل الرابع أيضاً بعد‬
‫فرعون يوسف‪.‬‬

‫يقول الطبري‪( :‬وكان الممك عمى مصر يومئذ الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران‬
‫بن عمرو بن عمالق بن الوذ بن سام بن نوح)‪( ..‬وكان الفرعون في أيام موسى قابوس بن مصعب‬
‫بن معاوية‪ ..‬وكانت امرأتو آسية بنت مزاحم بن عبيد ابن الريان بن الوليد فرعون يوسف األول)‪.‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإن آسية بنت مزاحم امرأة فرعون موسى كما ىو واضح تنتمي إلى الجيل الرابع من جدىا‬
‫الريان بن الوليد فرعون يوسف األول‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫إن نسبة الزيادة السنوية لمسكان في أقصى حدودىا ال تتجاوز العشرة في المئة‪ ،‬وىي بالتالي‪،‬‬
‫لن تجعل أية جماعة سكانية تزيد خالل مئة عام أكثر من عشرة أضعاف‪ ،‬وبيذا فإن عدد سكان بني‬
‫يعقوب(إسرائيل) في مصر لن يتجاوز الـٓٓ‪ ٚ‬نفس من زمن يوسف إلى زمن موسى‪ .‬ونحن سوف‬
‫نفترض تجاو ازً أن الفارق الزمني ىو مائتا سنة وأن عدد النفوس تضاعف عشرين مرة وىذا‬
‫مستحيل‪ ،‬فسيكون عدد بني يعقوب (إسرائيل) في مصر ٓٓٗٔ نفس‪.‬‬

‫عالوة عمى ذلك‪ ،‬نجد إن ممك المصريين قال لشعبو (إن شعب بني إسرائيل أكثر وأعظم منا‬
‫ىممّ نحتال عمييم) فيل ىذه ىي حقاً مصر وادي النيل التي كان جيشيا يعد عشرات اآلالف‪ ،‬وكان‬
‫الكينة والخدم والحراس في قصر ممكيا وحدىم بضعة آالف!!‪ -‬إن أعمى نسبة من الرجال القادرين‬
‫عمى الحرب والقتال وسط ذلك العدد من عشيرة بني إسرائيل لن يتجاوز نسبة العشرة في المائة‪،‬‬
‫وبالتالي فمن يتجاوزوا السبعين شخصاً كحد أدنى‪ ،‬والمئة وأربعين شخصاً كحد أعمى‪ .‬وىؤالء ىم‬
‫الذين خرج بيم موسى إلى أرض الكنعانيين‪ ،‬أضف إلى ذلك أنيم جميعاً من الرعاة الذين ال يممكون‬
‫في معظميم من السالح غير العصي والمقاليع حتى زمن داود كما تؤكد التوراة‪ .‬وأن خروجيم كان‬
‫خروجاً رعوياً بأغناميم وأبقارىم وحميرىم‪ ،‬بنسائيم وأطفاليم‪ ،‬ال خروج حممة قتالية تقتصر عمى‬
‫المحاربين‪.‬‬

‫فماذا فعل التزوير االستشراقي الصييوني؟!‪ -‬لقد نقل عشيرة المصريين من مضارب خياميا‬
‫في برية شبو جزيرة العرب إلى وادي النيل‪ .‬كما نقل عشيرة بني إسرائيل من مضارب خياميم في‬
‫نفس منطقة عشيرة المصريين إلى سوريا الجنوبية‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فقد نفخوا جماعة موسى التي لم تكن‬
‫تتجاوز الــ ٓٓ‪ ٚ‬شخص واعتبروىا شعباُ ييودياً يضطيده (فراعنة) مصر ويسخرىم في نباء األىرام‬
‫وتحت ىذا االضطياد يقوم موسى باليجرة من مصر وادي النيل إلى فمسطين في جنوب سوريا‪..‬‬

‫إن تصحيح المواقع الجغرافية التوراتية يدحض مرة واحدة والى األبد مقولة دولة بني صييون‬
‫المزعومة"‪.‬‬

‫بشأن ما تقدم‪ ،‬ال يسعنا القول بأن المعالجة التي قدميا أحمد داود صحيحة قياساً‪ ،‬ولكن‬
‫يمكن القول أن مبدأىا صحيح وسميم‪ ،‬وىو أن بنو اسرائيل كما تصفيم التوراة لم يكونوا أكثر من‬
‫عشيرة صغيرة الحجم‪ ،‬وال يمكن أن ترقى بأي حال من األحوال الى مستوى شعب أو أمة‪،‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬كيف يمكن أن نتصور أن جماعة كيذه يمكن أن تحتل مساحة جغرافية ميولة مثل‬
‫مساحة اليمن الطبيعي؟!‪ -‬وحتى بعد عشرة أجيال من زمن خروجيم مع موسى أو حتى بعد‬

‫‪311‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫عشرين جيالً‪ ،‬يظل من غير الممكن أن يبمغ حجميا الديموغرافي ذلك الحجم الذي يمكن أن‬
‫نتصور معو أن تحظى بأرض مساحتيا أكثر من (‪ )52‬كم‪ ،0‬واذا نمت ىذه الجماعة وترعرعت‬
‫فإن حجم رقعتيا الجغ ارفية لن تزيد عن بضع مئات من الكيمومترات‪.‬‬

‫ما نؤكد عميو ونريد توصيمو لمقراء األعزاء‪ ،‬ىو أن النص التوراتي قدم لنا عمى الدوام‬
‫معطيات جغرافية وصفية بالغة األىمية‪ ،‬تشير الى أن األرض الموعودة صغيرة جداً من حيث‬
‫مساحتيا‪ ،‬وأن بنو اسرائيل كانوا جماعة صغيرة لمغاية‪ ،‬وتعطينا أيضاً تفاصيل أخرى حول‬
‫المناخ والتضاريس والحدود وغير ذلك‪ ،‬وبالتالي فإن أي تجاىل ليذه المعطيات في سياق أي‬
‫بحث جغرافي حول مدلول النص التوراتي‪ ،‬سوف يؤدي الى تكوين نتائج غير صحيحة بالمرة‪.‬‬

‫ىذا بالضبط ما حصل‪ ،‬وىو ما قام بو معظم رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬وخصوصاً أولئك الذين تبنوا النموذج اليمني‪ ،‬تميي اًز ليم عمن تبنى منيم نموذج عسير‬
‫وبالد زىران‪.‬‬

‫وبال شك‪ ،‬فإن ىذه المسألة تجعمنا نتساءل‪ :‬إن كان ىؤالء قد ق أروا التوراة فعالً‪ ،‬فمماذا‬
‫تجاىموا تمك المعطيات كميا؟!‬

‫ىناك أيضاً أسئمة أخرى أىم‪ .‬ولكن قبل طرحيا في ىذا السياق‪ ،‬لننظر ولنتأمل بعمق‬
‫بوذي وكونفوشي خريطة الربيعي التي توضح لنا مساحة وحدود مممكة بني اسرائيل المنقسمة‬
‫بعد عصر سميمان‪ -‬أنظر الخريطة رقم (ٖ) أدناه‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫خريطة رقم (ٖ)‪ :‬أرض الميعاد كما حددىا الربيعي في عصر انقسام المممكة الييودية‬

‫ياهلل‪ ..‬ما ىذا اإلعجاز؟!‬

‫يمكنني التعميق عمى خريطة الربيعي الفادحة ىذه عمى مدى ثالثين أو أربعين صفحة‪،‬‬
‫مُقل في ذلك غير مكثر‪ -!!..‬لكنني لن أفعل‪ ،‬بل سأترك ىذه الميمة لمفكرنا نفسو‪ ،‬من حيث‬
‫أن تناقضاتو كفيمة بأن تفسر نفسيا بنفسيا‪ ،‬وتكشف عن الفوضى الالنيائية التي اختمقيا‬
‫وتوىميا واعتقد عمى الدوام بأنيا انجاز فكري ضخم في اتجاه تحرير التاريخ والجغرافيا من‬
‫سيطرة المخيال االستشراقي‪.‬‬

‫بغض النظر عن كون ىذه الخريطة ال تتطابق ولو بنقطة مخيالية واحدة مع ما جاء في‬
‫التوراة‪ ،‬وبغض النظر أيضاً عن كون مفكرنا قد نسي حتماً أن يُسّمي بحر العرب بحر الييود‪،‬‬
‫وأن يُطمق عمى البحر األحمر اسم البحر االسرائيمي‪ ،‬فإنو وبال أدنى شك كان أكثر كرماً وأكثر‬
‫جوداً وسخاءً من اإللو العنصري البركاني (ييوه) الذي بالكاد اعطى شعبو المختار أرضاً تقاس‬
‫بالذراع‪!!..‬‬

‫‪313‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫فعن أي مخيال استشراقي يتحدث ىذا المفكر الفطحل‪ ،‬وىو واهلل ما أبقى لممستشرقين‬
‫منو شيئاً‪..‬؟!‬

‫واذا كان المستشرقون‪ -‬بحسب تعبير أحمد داود‪ -‬قد نفخوا أولئك الـ بني اسرائيل الى‬
‫ذلك الحد الذي أصبح من الممكن معو تصور استيطانيم ألرض فمسطين‪ -‬أو باألصح لجزء‬
‫منيا كما تنطق بذلك التوراة‪ ،-‬فبما عسانا نصف ىذه النفخة الجبارة التي قام بيا مفكرنا‬
‫تفوق بيا عمى‬
‫الجيبذ فاضل الربيعي؟!‪ -‬أليست ىذه ىي الطفرة الربيعية المخيالية التي ّ‬
‫أعتى عتاه االستشراق أم ترانا نكيل لو االتيامات‪..‬؟!!‬

‫تعالوا قرائنا األعزاء مرة أخرى نتابع كيف تحققت ىذه الطفرة بإعجاز مذىل‪ ..‬عمى يد‬
‫مفكرنا المتخيل َ‬
‫الخال ق‪ ،‬مدعوماً كما يقول ويقول دائماً بشيادة اليمداني‪!!..‬‬

‫‪314‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫)‪(2‬‬

‫األقواس الفــــارغة‬

‫عمى طريقة يشوع بن نون التوراتية‪ ،‬ومن حيث لم يغب عنو تأييد ييوه أيضاً‪ ،‬اقتحم‬
‫الربيعي أسفار المقراء باحثاً عن أرض األسباط‪ ..‬اقتحم واقتحم وظل يقتحم حتى وجدىا في‬
‫اليمن‪ ،‬بمساعدة ما تغنى بو وثرثر عنو ووصفو عمى الدوام ب ـ (شيادة اليمداني)‪.‬‬

‫وبالرغم من إننا قد فضحنا حقيقة االفتراء واإلفك الذي أشاعو مفكرنا عن اليمداني‪ ،‬وأثبتنا‬
‫بطرق شتى أن ما يتحدث عنو بخصوص تمك الشيادة ليس إال افتراء‪ ،‬ومحض تخيالت وأوىام‬
‫اختمقيا وصدقيا‪ ،‬إال إننا نرى ضرورة في الكشف عن مظاىر أخرى من مظاىر تعاممو‬
‫الخنفشاري مع كتاب اليمداني والشعر الجاىمي‪ ،‬نظ اًر التصاليا الوثيق بما وصفناه بأنو (قصور‬
‫في الوعي والحس الجغرافي لديو)‪ ،‬وألنيا أيضاً تكشف بشكل واضح عن طرق أخرى ليذا‬
‫المفكر تعمد التضميل والتزييف والتحريف من خالل ممارستو ليا‪ ،‬ولسوف نتعرف عمى عينة من‬
‫أبشع وأفظع أساليب التمفيق والدجل والتضميل التي مارسيا من أول سطر في كتاب أوىامو‬
‫وتخيالتو الى آخر سطر‪ ،‬وعمى تمك االنتقائية التحريفية والتمفيقية التي سبق وأن تطرقنا إلييا‬
‫من قبل‪.‬‬

‫ما سوف نقوم بو في ىذا المبحث‪ ،‬ىو أننا سنتعرض بالدراسة والتحميل والنقد لجوانب‬
‫رئيسية من ا لنموذج الذي عالج فيو الربيعي تحديد منازل سبط بنيامين في الفصل الثاني من‬
‫الجزء األول من كتابو في المجمد األول‪ ،‬واختيارنا ليذا النموذج يعود لعدة أسباب‪ ،‬أوليا أنو‬
‫النموذج التطبيقي األول الذي يقدمو مفكرنا في مشروع تأسيسو لنظريتو واثباتيا‪ -‬انطالقاً من‬
‫كونو السبط األول الذي يرد تحديد منازلو في سفر يشوع‪ ،‬وثانياً ألن النماذج األولى ألي باحث‬
‫غالباً ما تكون األقوى وأكثر رصانة مما يأتي بعدىا‪ ،‬وثالثاً الرتباط ىذا النموذج بموقع أورشميم‬
‫التي ىي إيميا كما جاء في فقرة اليمداني‪ ،‬والتي كانت ومازالت ىي مدخمنا الرئيسي في ىذه‬
‫الدراسة‪ ،‬أما رابع أسباب ىذا االختيار فيو أنو يدفع عنا تيمة االنتقاء التي ننتقدىا ىنا دائماً‪.‬‬
‫‪315‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫من السطور األولى في معالجتو‪ ،‬يجد الربيعي متطابقاتو الموىومة بين األسماء التوراتية‬
‫والجغرافية اليمنية‪ ،‬ىكذا كما يقول‪:‬‬

‫(بنيامين) حسب الرسم العربي في الطبعة العربية من التوراة‪ -‬ولنالحظ ىنا‬


‫القرابة الحميمة بين اسم السبط االسرائيمي واالسم التاريخي لمجماعة اليمنية األولى‬
‫فيي من (بني يامن)‪ -‬ىذا التوزيع ينتيي بسبط دان وىو عند اليمداني كما سنرى‪،‬‬
‫قبيمة (أذان) اليمنية التي انقرضت‪.]ٔ["..‬‬

‫يكمل الربيعي فكرتو في الصفحة التالية‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫"إن اسم ىذا السبط االسرائيمي وحسب الرسم العبري ىو (بن‪ -‬يامن)‪ ،‬واالسم‬
‫كما ىو واضح لو صمة بمكان بعينو حممتو الجماعة‪ .‬إننا نعمم من التاريخ القديم‬
‫لمختمف القبائل أنيا تحمل أسماء األماكن التي تقيم فييا‪ ،‬وبالطبع ليس ثمة مكان‬
‫يحمل االسم نفسو سوى جبل يامن‪ ،‬ىذا الجبل الذي وصفو اليمداني كما وصفو الشعر‬
‫الجاىمي‪ ،‬ىو الموطن التاريخي لمجماعة اليمنية األولى ويقع في سرو حمير قرب جبل‬
‫صبر"[ٕ]‪.‬‬

‫لنتوقف أوالً عند ما قالو الربيعي مما أوردناه آنفاً‪ ،‬ولنتساءل من حيث يفترض أن نجد‬
‫لتساؤالتنا إجابات في سياق معالجتو الجغرافية لمنازل سبط بنيامين‪ :‬ما وجو العالقة المغوية‬
‫والكتابية (الرسم) بين (بنيامين) و(بني يامن)؟!‪ -‬وما ىي أيضاً العالقة التاريخية بين االسمين‬
‫عدا عما قالو لنا؟ وما الذي يقصده الربيعي ب ـ (الجماعة اليمنية األولى)؟ وىل وصف اليمداني‬
‫جبل يامن؟ وماذا قال عنو؟!‬

‫بحثنا في كتاب اليمداني عن أي وصف لجبل (يامن) فمم نجد شيئاً‪ .‬فاليمداني بالكاد‬
‫ذكر اسم ىذا الجبل في موضع واحد فقط من كتابو‪ ،‬وىو الموضع نفسو الذي اقتبسو الربيعي‪:‬‬

‫[‪ .]4‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫[‪ .]0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪316‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫"من ناحية ىذا الحيز جبل صبر ومن جبالن جبل يامن‪-‬بفتح الميم‪ -‬وىو عمى‬
‫شط رم ٍع الشمالي مع عتمة"[ٔ]‪.‬‬

‫ىذا كل شيء قالو اليمداني عن جبل (يامن)‪ ،‬أي أنو ذكر اسم الجبل فقط وفقط فقط‪،‬‬
‫ولم يصفو عمى اإلطالق بأي وصف‪ .‬بينما يخبرنا مفكرنا العبقري بأن ىناك وصفاً ليذا الجبل‬
‫عند اليمداني‪ .‬غير أننا نجد ىذا الوصف المزعوم الزماً في قصد الربيعي في الشعر الجاىمي‪،‬‬
‫فمنرى ما أورده مفكرنا من الشعر في ىذا الشأن‪.‬‬

‫أورد الربيعي بيت من الشعر ألمرؤ القيس‪ -‬الذي يصفو دائماً بالحميري‪ -‬مع أن امرؤ‬
‫القيس ُيمقب في كل مصادر التاريخ ب ـ الكندي‪ ،‬وال خالف بأن كندة يمانية وأنيا شقيقة حمير‬
‫وحميفيا األقوى واألعز‪ ،‬ولكن مفكرنا اختمق ىذا المقب ألغراض اإلييام والتمفيق‪ ،‬إذ يقول امرؤ‬
‫القيس‪:‬‬

‫أو المكرعات من نخيل ابن يامن *** دوين الصفا الالئي يمين المشقّ ار‬

‫ثم يورد الربيعي بيتاً آخر لطرفة بن العبد‪ ،‬يقول فيو‪:‬‬

‫المال ُح طو ارً وييتَدي‬


‫َعدولي ٌة‪ ،‬أو من سفين ابن يامن *** َي ُجور بيا ّ‬

‫كما ىو واضح من نص البيتين‪ ،‬فإن الداعي إليرادىما يكمن في أنيما يشيران الى‬
‫شخص ما كان يعرف ب ـ (ابن يامن)‪ ،‬والذي يخمط الربيعي بينو وبين الجبل الذي ذكر اليمداني‬
‫اسمو‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫"يقع جبل (يامن) الذي تنتسب إليو الجماعة التي ستُعرف بيذا االسم‪ ،‬في السراة‬
‫التي تتجو نحو تيامة والمنتيية في البحر األحمر‪ ،‬وىي سراة عظيمة فييا الكثير من‬

‫[‪ .]4‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.432‬‬
‫‪317‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫المواضع منيا جبل صبر ومخالف جُبالن‪ ،‬حيث يشكل جبل يامن عزلة في ىذا‬
‫المخالف"[ٔ]‪.‬‬

‫إذا أخذنا األمر عمى عالتو‪ ،‬فسوف ُنصدق الربيعي بأن تمك االستشيادات الشعرية تدعم‬
‫صحة ما ذىب إليو‪ ،‬ولكن إذا تفحصنا األمر جيداً سنجد أن ما قالو محض ىراء ال أكثر‪ ،‬وأن‬
‫ما استشيد بو الشعر ال عالقة لو إطالقاً بما يريد اييامنا بو‪.‬‬

‫بصيغة أوضح‪ ،‬إذا تمعنا فيما جاء عند اليمداني بشأن المقصود بجبل يامن من جية‪،‬‬
‫وبين المقصود بو بالضبط ب ـ (ابن يامن) في األبيات الشعرية من جية أخرى‪ ،‬فسنجد أنو فيما‬
‫عدا التشابو بين األسماء‪ ،‬ال يوجد أي عالقة بين ما قالو اليمداني وما ذكره امرؤ القيس وطرفة‬
‫بن العبد‪ ،‬فجبل يامن الذي يذكره اليمداني ىو الذي يقع في السراة كما أشار الربيعي بالفعل‪،‬‬
‫لكن (ابن يامن) الذي األبيات الشعرية سواء كان شخصاً أو قبيالً أو مكاناً فيو مما يتصل‬
‫جغرافياً بمنطقة (ىجر) من (األحساء) النجدية التي تقع أصالً خارج حدود اليمن الطبيعي‪.‬‬

‫وبعد تفتيش دقيق في مصادر الربيعي وترتيب أفكاره التي عرضيا في ىذا الشأن‪ ،‬تبين‬
‫لنا بكل ثقة أن ما أورده لم يكن نتاج بحث واستقصاء فعمي قام بو في دواوين الشعر‪ ،‬بل ىو‬
‫تمفيق عمدي لمادة جاىزة من معجم ياقوت الحموي‪ ،‬من حيث كان ىذا األخير قد ذكر ضمن‬
‫معالجتو لمادة معجمية وبمدانية ىذه األبيات التي اختطفيا الربيعي من سياقيا لديو‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬لقد انتحل الربيعي اقتباساً بأكممو من الحموي‪ ،‬وقام بتمفيق مضمونو وتحريف مدلولو‬
‫ونتيجتو‪ ،‬ولقد فعل ذلك من حيث لم يجد شيئاً يدعمو عند اليمداني‪ .‬فقد كان الحموي يتحدث‬
‫عن مكان ُيسمى (المشقر) أو – حصن المشقر النجدي الشيير‪ -‬الذي ذكره امرؤ القيس في‬
‫البيت الشعري المشار إليو سمفاً‪ ،‬وىو واحد من أشير الحصون العربية الواقعة في األحساء‬
‫شمال شرق جزيرة العرب‪ ،‬وىي منطقة شييرة بزراعة النخيل عمى مر العصور[ٕ]‪.‬‬

‫[‪ .]4‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫[‪ .]0‬ياقوت الحموي‪ :‬معجم البمدان‪ ،‬مرجع سابق‪ .413 -412 /3 ،‬ترقيم (م‪ .‬ش)‪.‬‬
‫‪318‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫ارتبط ذكر المشقر بواحد من أىم أسواق العرب في عصر ما قبل االسالم وفي العصر‬
‫االسالمي أيضاً‪ ،‬ويبدو أن ابن يامن الذي تذكره األشعار الجاىمية كان شخصية مشيورة في‬
‫عصره وعمى قدر عال من الثراء والعز والمكانة‪ ،‬بحيث كانت تفد إليو خواص العرب وأعيانيم‬
‫ووجوىيم وشعرائيم بما فييم امرؤ القيس‪ ،‬فضالً عن أن امرؤ القيس يذكر موقعاً آخر اسمو‬
‫(الصفا) وىي منطقة قريبة جداً من المشقر ىذا وتنتمي إليو‪ ،‬بل وتُسمى حتى اليوم (صفا‬
‫المشقر)[ٔ]‪ ،‬عدا ىذا االستنتاج لم نجد عن ىذه الشخصية أي ذكر واضح في كل مصادر‬
‫التاريخ القديمة‪.‬‬

‫[ٕ]‬
‫خريطة رقم (ٗ)‪ :‬موقع حصن المشقر الذي ذكره امرؤ القيس وطرفة بن العبد في أشعارىما‬

‫[‪ .]4‬لممزيد بشأن حصن المشقر والصفا وذكرىما عند شعراء الجاىمية‪ ،‬راجع‪ :‬عبدالرحمن آل مال‪ :‬تاريخ ىجر‪،‬‬
‫مطابع الجواد‪ ،‬األحساء‪ .440 /4 .4774 ،‬خالد الغريب‪ :‬منطقة األحساء عبر أطوار التاريخ‪ ،‬الخبر‪.4766 ،‬‬
‫ص‪ .300‬عبداهلل النجم‪ :‬البحرين في صدر اإلسالم‪ ،‬دار الحرية لمطباعة‪ ،‬بغداد‪ .4751 ،‬ص‪ .42‬حمد‬
‫الجاسر‪ :‬المعجم الجغرافي لمبالد العربية السعودية‪ ،‬دار اليمامة‪ ،‬الرياض‪.440 /2 .4757 ،‬‬
‫[‪ .]0‬الخريطة من‪ :‬سعيد األفغاني‪ :‬أسواق العرب في الجاىمية واالسالم‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪.4771‬‬
‫‪319‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫وبحسب ياقوت الحموي أيضاً‪ ،‬فإن البيت الشعري المنسوب ألمرئ القيس يتكرر تماماً‬
‫بنفس األلفاظ منسوباً لشاعر بني أسد عرفطة بن عبداهلل المالكي األسدي‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬

‫المشقر‬
‫ُا‬ ‫يحف‬
‫الصفا الألئي‪ّ ..‬‬ ‫عات من نخيل ابن ٍ‬
‫يامن *** ُدوين ّ‬ ‫المكر ُ‬
‫أو ُ‬

‫الفارق بين البيتين ىي كممة (يمين) التي صارت عند عرفطة (يحف)‪ ،‬وامعاناً منا في‬
‫إيضاح الصورة‪ ،‬فالمكرعات ىنا يراد بيا النخيل التي تحيط بواحة الماء‪ ،‬وألن المكان كما ىي‬
‫حقيقتو واحة في الصحراء بالقرب من حصن المشقر وصفاه‪ ،‬فمن الطبيعي أن يصف طرفة بن‬
‫العبد صاحب ىذا المكان واسمو (ابن يامن)‪ ،‬بـأنو صاحب سفين أي سفينة‪ ،‬وليس ذلك إال أن‬
‫طرفة يصف ناقة الرجل الكريم‪ ،‬مشبياً إياىا بالسفينة التي يجور بيا المالح طو اًر وييتدي بيا‬
‫طو اًر آخ اًر‪.‬‬

‫ىذه الصورة المتكاممة لمنطقة صحراوية فييا واحة ونخيل‪ ،‬يستحيل أن تكون موجودة في‬
‫جبل يامن التيامي الذي ذكره اليمداني‪ ،‬وىذا ما صرح بو الربيعي‪ .‬فال يمكن أن نجد الصحراء‬
‫والواحة في سمسمة جبمية‪ ،‬كما أن جبل يامن التيامي في اليمن ال ولم يعرف زراعة النخيل‬
‫إطالقاً‪.‬‬

‫لنستعيد ما قالو الربيعي مرة أخرى‪ -‬ولنخجل نيابة عنو مما قالو‪:‬‬

‫"‪ ...‬وبالطبع ليس ثمة مكان يحمل االسم نفسو سوى جبل يامن‪ ،‬ىذا الجبل‬
‫الذي وصفو اليمداني كما وصفو الشعر الجاىمي‪ ،‬ىو الموطن التاريخي لمجماعة‬
‫اليمنية األولى ويقع في سرو حمير قرب جبل صبر"[ٔ]‪.‬‬

‫فأي جبل يامن ىذا الذي وصفو اليمداني يا مفكرنا؟! وأي جبل يامن ىذا الذي وصفو‬
‫الشعراء بأنو الموطن التاريخي لمجماعة اليمنية األولى المتخيمة في خاليا دماغكم الكريم؟!‬

‫امن)‪ -‬بالفتح ثم الفتح ثم سكون‪ -‬ذكر اليمداني اسمو‬


‫(ي َ‬
‫كل ما وجدناه ىو جبل اسمو َ‬
‫فحسب ولم يصفو بحرف واحد‪ ،‬وىناك رجل كريم وعزيز اشتير عند عرب ما قبل االسالم‬

‫[‪ .]4‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪320‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫بكنيتو أو لقبو (ابن يامن) كان يسكن في المشقر من ىجر باألحساء بعيداً جداً جداً عن اليمن‬
‫وعن سراتيا‪.‬‬

‫فما ىي عالقة الجبل بالرجل؟ وما عالقة الجبل والرجل بسبط بنيامين؟!‪ -‬الجواب‬
‫كالعادة‪ ،‬ال شيء سوى تشابو األسماء‪!!..‬‬

‫كما بحثنا ودققنا فيما عساه يكون قصد الربيعي مما اخترعو وسماه (الجماعة اليمنية‬
‫األولى)‪ .‬وتأكد لنا بما ال مجال لمشك بو‪ ،‬بأن ىذا المصطمح ال وجود لو إطالقاً إال في عقل‬
‫مفكرنا‪ ..‬فالجماعة اليمنية األولى في أقدم وجود ليا يمكن أن نسمييا (عاد) أو (سبأ)‪ ،‬حتى في‬
‫كتب األنساب اليمنية القديمة‪ ،‬التي يرد فييا أن (يمن) كان اسماً ل ـ (يعرب) بن قحطان‪ ،‬فإن‬

‫الجماعة اليمنية األولى قد أطمق عمييا أسماء من قبيل (اليعاربة) أو (القحطانية)‪ ،‬أما جغرافياً‬
‫فاسم اليمن حديث نسبياً‪ ،‬وىذا أمر ثابت وال يحتاج الى تفصيل بشأنو‪ ،‬ىذا إن لم يكن باألساس‬
‫من البديييات‪.‬‬

‫عالوة عمى ما تقدم‪ ،‬سيكون من المناسب أن نبين لمقراء األعزاء ىنا من أين استمد‬
‫الربيعي فكرتو ىذه عن بنيامين السبط في التوراة وابن يامن الذي يرد ذكره في الشعر العربي‬
‫القديم‪ ،‬وأن ُن ّعرف القراء بالمصدر الذي تعمد الربيعي أال يمفت انتباىنا إليو‪ .‬فيذه الفكرة انتحميا‬
‫مفكرنا العبقري من محاضرة ألقاىا الشاعر واألديب السوداني "عبد اهلل الطيب" في مقر مجمع‬
‫المغة العربية عام ‪ ،4774‬وقد كان الطيب من الميتمين بتاريخ التوراة واسقاطاتيا الجغرافية‪،‬‬
‫حتى أنو توىم ىو اآلخر بأن جغرافية التوراة تقع في السودان‪!!..‬‬

‫في تمك المحاضرة‪ ،‬ذىب الطيب في تفسير قول طرفة بن العبد (عدولية أو من سفين‬
‫ابن يامن)‪ ،‬الى أن المقصود بــ (عدولية) منطقة أو مدينة أو فرضة قديمة تسمى (أدوليس)‪-‬‬
‫كانت عمى البحر في ناحية ما بين مصوع وحاليب قبل أن تندثر أو ما شابو‪ ،‬وأنيا كانت‬
‫تذكر في الخرائط القديمة أحياناً بالقرب من (مصوع)‪ ،‬وأحياناً بالقرب من (سواكن) عمى البحر‬
‫األحمر‪ ،‬وأشار الطيب في سياق شرحو الى أن ابن يامن ىو (بنيامين) التوراة وىو تاجر‬
‫ييودي ذكره امرؤ القيس بقولو‪" :‬حمتو بنو الربداء من آل يامن بأسيافيا حتى أقر وأوق ار"‪-‬‬

‫‪321‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫ومن ثم خمص الطيب الى أن (بنو يامن) الذين ذكرىم طرفة وامرؤ القيس إنما يراد بيم (ييود‬
‫الفالشا األحباش)[ٔ]‪.!!..‬‬

‫بالطبع‪ ،‬فإن الربيعي ومن سار عمى نيجو من المشعوذين لن يجدوا أفضل من ىذا‬
‫النموذج لمتفكير والتفسير‪ ،‬ليقدموه لمقراء مساىمة منيم في االنحدار بوعييم الفكري وتفكيرىم‬
‫المنيجي‪ .‬فمثل ىذه التفسيرات القائمة عمى تأويل األسماء المتشابية واسقاطيا جغرافيا‪ ،‬قد‬
‫تحيمنا الى البحث عن يامن وبنيامين في إقميم (يمونا) في اليند‪ ،‬لما ال ويامن وبنيامين مشتقان‬
‫من يمن ويمونا؟!‬

‫انتقاالً الى معالجة الربيعي ألول موقع جغرافي توراتي تعامل معو مما يدخل في نطاق‬
‫منازل سبط بنيامين‪ ،‬وىو الموقع الذي يرد في التوراة بـاسم (عمق قصيص)‪ -‬أي وادي‬
‫قصيص‪ ،‬حيث سنجد الربيعي وىو يكرر نفس اآللية السابقة في معالجتو ليذا االسم‪ -‬تماماً كما‬
‫عالج اسم (بنيامين)‪ .‬فقد بحث عن (عمق قصيص) عند اليمداني فمم يجده بيذه الصورة‪ ،‬نظ اًر‬
‫الستحالة ذلك أصالً‪ ،‬فماذا فعل؟!‪ -‬ال شيء‪ ،‬سوى أنو قام باالقتداء بمعممو الصميبي وحول اسم‬
‫عمق قصيص الى اسمين‪( :‬عمق‪ ،‬وقصيص)‪ ،‬فيكذا تجري األمور سيمة في ترجمة التوراة‬
‫الربيعية‪ ،‬ومن ثم وقف أمام قصيص‪ ،‬وأيضاً لم يجدىا عن اليمداني إال في عبارة واحدة‪ ،‬وردت‬
‫في سياق كان اليمداني يسرد فيو أسماء الوديان التي تقع في المناطق الوسطى اليمنية المعروفة‬
‫ب ـ (سرو مذحج)‪ .‬ففي تمك العبارة‪ ،‬قال اليمداني‪ ..." :‬قصص لرىا‪ -"]ٕ["..‬أي أن وادياً كان‬
‫يسمى قصص يقع في منازل قبيمة (رىا) اليمنية‪ ،‬وقد نسب ىذا الوادي الى تمك القبيمة فقيل عنو‬
‫(قصص رىا)‪.‬‬

‫بيد أن مفكرنا وقع إزاء ىذا االسم في مأزق وكان عميو أن يجد منو مخرجا‪ ،‬فمو بدأ بما‬
‫قالو اليمداني‪ ،‬فمن تسعفو العبارة اليتيمة التي وجدىا لديو في اختالق ثرثرة تقديمية وتفسيرية‬
‫مناسبة ُيشغل بيا عقل القارئ عما ينبغي أن يركز عميو باألصل‪ .‬فعدا عن تمك العبارة لم يجد‬

‫[‪ .]4‬لممزيد بيذا الشأن‪ ،‬راجع‪ :‬عبد اهلل الطيب‪ :‬محاضرة البروفسور عبد اهلل الطيب في مقر مجمع المغة‬
‫العربية‪ ،‬مجمة مجمع المغة العربية‪ ،‬العدد (‪ ،)57‬نوفمبر ‪.4774‬‬
‫[‪ .]0‬الحسن بن أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.465‬‬
‫‪322‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫الربيعي شيئاً لدى اليمداني‪ ،‬وكما رأيناه كيف فعل مع بنيامين ويامن قبل قميل‪ ،‬فالبد أن يفعل‬
‫ذلك مجدداً‪ ..‬أي أن يمجأ الى الشعر الجاىمي‪ ،‬وأن يمارس انتحاالً وتحريفاً جديداً لمعاني‬
‫وتفسيرات أشعار األولين‪!!..‬‬

‫لنق أر معاً معالجة مفكرنا الجيبذ كما وردت حرفياً في كتابو‪:‬‬

‫"قال امرؤ القيس‪:‬‬

‫ُنصيفيا حتى إذا لم ُيسغ ليا *** حمي بأعمى حائل وقصيص‬

‫يصف امرؤ القيس‪ -‬وىو ىنا الحميري اليمني وليس أي امرئ قيس آخر‪ -‬وادي‬
‫قصيص في الفضاء الجغرافي لسمسمة من الوديان والمواضع‪ ،‬عمى امتداد ساحل البحر‬
‫األحمر حيث حمي وحائل‪ .‬وىذا الوصف ينسجم كل االنسجام مع تحديدات سفر يشوع‬
‫لممكان‪ ،‬بما ىو من األودية وليس جبالً أو بئر ماء‪ .‬إن وجود وادي قصيص حسب‬
‫وصف الشاعر في الطريق الى حمي‪ ،‬يتناغم تماماً مع وصف سفر يشوع لوادي‬
‫حمي‪...‬‬

‫‪ ..‬وىا نحن نفعل الشيء ذاتو‪ ،‬نبحث عن وادي قصيص في الشريط الساحمي‬
‫نفسو الذي وصفو يشوع ثم عاد الى اليمداني وصفو‪ .‬في وصفو لسرو مذحج يحدد‬
‫اليمداني بدقة موضع قصيص الوادي ويضبط اسمو في الصورة ذاتيا قصص‪:‬‬

‫"الحجمة‪ ،‬وميار‪ ،‬وذو زوم‪ ،‬وذو جيشان (‪ )........‬قصص لرىا ولبني زائدة من‬
‫أود"‪.‬‬

‫لنالحظ ىنا أن اليمداني عمى غرار ما يفعل يشوع‪ ،‬يضع قصص قرب وادي‬
‫حجمة‪ ،‬وىذا توافق مثير فالواديان في سرو مذحج وىو اليوم أنقاض وخرائب‪ ،‬يعرف‬
‫باسم المدينة الحديثة التي قامت في المكان نفسو‪ -‬مدينة البيضاء[ٔ]‪.‬‬

‫[‪ .]4‬فاضل الربيعي‪ :‬فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.32 -34‬‬
‫‪323‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫نحتاج ىنا الى أن نرتب أفكارنا إ ازء ىذا التحميل العرنفجي البديع‪ ..‬فكما أسمفنا سابقاً‬
‫بشأن تمقيب الربيعي ألمرئ القيس بالحميري‪ ،‬ىا ىو في عبارة مستقطعة في أول كالمو أعاله‬
‫يؤكد لنا مرة أخرى كيف أراد أن يستخدم ىذه الفكرة المغموطة التي بتسرىا ىو لتحسين مقدمات‬
‫منتجو التمفيقي‪ ،‬وال بأس من تنويو القارئ الى بديييات مما يتعمق بأمرئ القيس‪ ،‬فيو سميل‬

‫مموك كندة اليمنية التي كانت تقوم مممكتيم عمى كافة األراضي النجدية‪ ،‬باعتبارىا امتداداً‬
‫فيدرالياً لالتحاد السبئي في طوره الخامس واألخير السابق عمى عيد االسالم‪ ،‬وكانت عاصمتيا‬
‫(قرية‪ -‬الفاو) وىي منطقة أثرية في نجد مميئة بآثار ونقوش المسند والمآثر التي صنعتيا‬
‫وخمفتيا مممكة كندة السبئية‪ ،‬التي بمغ امتداد ممكيا تخوم البصرة في العراق وبادية الشام‪ ،‬ومن‬
‫الطبيعي أن يصول ويجول امرؤ القيس في أرض مممكتو ومممكة أبيو وأجداده‪ ،‬إذ كانت نجد‬
‫وتخوم الشام ىي فضاءه الجغرافي‪ ،‬وىذا ما تنطق بو معظم أشعاره‪.‬‬

‫بيد أن الربيعي يريد أن يوصل لمقارئ ويوىمو بأن امرؤ القيس باعتباره حميرياً فإنما‬
‫يحمل ىذا عمى أن يكون كل ما ذكره في أشعاره من المناطق في اليمن‪ ،‬وىذا تمفيق واضح إذا‬
‫ما أخذنا بحقائق تاريخ امرؤ القيس‪ ،‬وحقائق ما ذكره في أشعاره‪ ،‬فيو وان ذكر مناطق يمنية‬
‫ثابتة وال يوجد أي إشكال في تحديدىا مثل‪ :‬نجران وحضرموت ودمون وغيرىا‪ ،‬إال أن أغمب ما‬
‫ذكره أمرؤ القيس في شعره كان من المناطق التي تقع في أرض مممكتو وتخوميا الشامية بل‬
‫وفي الشام ذاتيا‪ ،‬وبوسع أي باحث أن يتحقق من ذلك بدراسة جغرافية شعر أمرؤ القيس‬
‫وشروحاتيا عند قدماء العرب والمتأخرين منيم‪ ،‬ونحن عمى ثقة كاممة بأنو لن يجد خالف ما‬
‫ذكرناه أعاله‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فعمى القارئ أال تنطمي عميو مثل ىذه اإلييامات الربيعية الفاشمة‪.‬‬

‫عوداً الى صمب الموضوع‪ ،‬نقول أن ما نحتاج الى القيام بو لنخرج معاً برؤية واضحة‬
‫لمتمفيق الذي مارسو المفكر الفاضل في ىذه القصيصة من كتابو الصحراوي‪ ،‬ليس أكثر من‬
‫خطوتين‪ ،‬نحددىما ونقوم بيما عمى نحو ما يرد في السياق اآلتي‪.‬‬

‫الخطوة األولى‪ ،‬وفييا نقابل بين المقصود ب ـ "قصيص" التي ذكرىا امرؤ القيس من جية‪،‬‬
‫وبين قصص التي ذكرىا اليمداني من جية أخرى‪ ،‬والتحقق من أنيما يشيران الى مكان واحد‬

‫‪324‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫بعينو أم ال‪ .‬فكما أقر الربيعي‪ ،‬فإن موقع (قصص) الذي يعنيو اليمداني يقع في سرو مذحج‬
‫داخل الجغرافية اليمنية حيث تنيض اليوم مدينة البيضاء وال خالف عندنا عمى ذلك‪ ،‬لكن‬
‫(قصيص) و(أعمى حائل) التي استشيد بيما الربيعي مما جاء في شعر امرئ القيس ال عالقة‬
‫ليما بـ (قصص) السرو المذحجي إطالقاً‪ ،‬ألن الشاعر كان يتحدث عن مواقع معروفة ومشيورة‬
‫في كل كتب البمدانيات العربية‪ ،‬ولم يشر إلييما أحد بأنيما مما يقع في اليمن‪ ،‬بل أجمعت كل‬
‫تمك المصادر عمى أن (أعمى‪ /‬أعال حائل) و(قصيص) تقعان‪ -‬كما ينطق البيت الشعري‬
‫صراحة‪ -‬في بالد طي وبالتحديد في منطقة حائل النجدية‪.‬‬

‫خريطة رقم (٘)‪ :‬موقع قرية القصيصة نسبة الى منيل (قصيص) الذي ذكره امرؤ القيس في شعره في‬
‫جنوب غرب حائل‪.‬‬

‫بدقة جغرافية مستمدة من الواقع‪ ،‬بعد أن تواصمنا مع بعض من أعيان ووجياء مديرية‬
‫الغزالة في حائل‪ ،‬وسألناىم عن أعمى حائل وقصيص التي ذكرىما أمرؤ القيس في شعره‪ ،‬فأكدوا‬
‫لنا بدقة متناىية‪ ،‬بأن ىذان الموقعان ىما اليوم بالقرب من قرية القصيصة عمى بعد (‪ )72‬كم‬

‫‪325‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫جنوب غربي منطقة حائل النجدية‪ ،‬وىي قرية تقع عمى مورد ماء قديم مازال يسمى (قصيص)‪،‬‬
‫ذكرتو كتب البمدانيين العرب بأنو منيل لمماء يقع بالقرب من قريتي سقف وغضور‪ ،‬وقصيص‬
‫ىذا والقصيصة يتبعان إدارياً مركز الغيثة من الدغيرات من عبدة في مديرية الغزالة من منطقة‬
‫حائل النجدية‪ -‬أنظر الخريطة رقم (٘) أعاله‪.‬‬

‫ليس ىذا فحسب‪ ،‬بل أكدوا لنا أىل المنطقة‪ ،‬بأن الوصول الى منيل قصيص قدوماً من‬
‫جية الجنوب الغربي‪ ،‬ال يكون إال بالمرور من مكان يسمى (أعمى‪ /‬أعال) وىو اليوم في وادي‬
‫األديرع الى الجنوب من جبال أجا من بالد طي النجدية‪ ،‬والمسافة بين (أعمى‪ /‬أعال حائل)‬
‫وبين منيل (قصيص) ال تزيد عن (‪ )42‬كيمومترات‪.‬‬

‫وىكذا‪ ،‬فإن أعمى وقصيص ىما مكانان موجودان في منطقة واحدة منسوبان إلييا بشكل‬
‫صريح في قول امرئ القيس‪" :‬أعمى حائل‪ ،‬قصيص"‪ ،‬وىي منطقة (حائل) النجدية‪.‬‬

‫ٍ‬
‫كاف لسقوط ىراء الربيعي‪ ،‬وافكو السافر‪ ،‬وأرجو أن يركز القراء‬ ‫وبال شك‪ ،‬فإن ىذا‬
‫األعزاء ممياً فيما سيأتي بعد ىذا مباشرة‪.‬‬

‫تدىمنا الفاجعة المعجونة بخمطات الساحرات ودجل المشعوذات المبتدئات والفاشالت‪،‬‬


‫عندما نجد الربيعي ينظر الى كممة (حمّي) التي ترد في بداية الشطر الثاني من بيت امرؤ‬
‫القيس باعتبارىا اسم لمنطقة‪ ،‬في حين أن الكممة في سياقيا واضحة المعنى وال تشير اطالقاً‬
‫الى أي مكان أو حتى الى ثقب في رأس إبره‪.‬‬

‫األصل من (حمّي) التي ترد في شعر امرؤ القيس ىو ح ّل من الح ّل والحمول‪ -‬أي اإلقامة‬
‫والبقاء‪ -‬والياء في آخرىا ضمير متكمم يعود الى امرؤ القيس الذي يخبرنا بأنو‪:‬‬

‫يُصيفيا إذا لم يسغ ليا ِ‬


‫(حَمو) بأعمى حائل وقصيص‬

‫وىذا واضح تماماً‪ ،‬وال لبس فيو‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫بيد أن الربيعي بطبيعتو وعادتو‪ ،‬تعمد أن يوىم القارئ بأن كممة (حمّي) تشير الى ذلك‬
‫(حمَي) والذي يقع عمى ساحل تيامة الحجازية بين المدينة ومكة بالقرب من‬
‫الموقع الذي يسمى َ‬
‫ينبع‪ ،‬وبالطبع فإنو ال توجد أي عالقة لغوية أو سياقية حقيقية أو مجازية بين حل امرؤ القيس‬
‫واقامتو بأعمى حائل وقصيص‪ ،‬وقرية (حمي) التيامية الساحمية‪.‬‬

‫وفوق ىذا كمو‪ ،‬فالمناطق المذكورة ىنا ال عالقة ليا بجغرافية اليمن الطبيعي‪ ،‬كونيا‬
‫باألساس واقعة خارج حدودىا‪.‬‬

‫وكما نبينا دائماً‪ ،‬فإن مثل ىذه اإلييامات والتيويمات التي يختمقيا الربيعي تعتمد‬
‫باألساس عمى تشابو األلفاظ والمسميات‪ ،‬وعمى اقتصاصو ليا وبترىا من سياقاتيا وتحويرىا‬
‫وتمفيق واختالق معاني ودالالت موىومة ال أصل ليا وال تمت الى أي حقيقة بصمة‪ ،‬وان ىذا‬
‫المثال الذي قدمناه آنفاً‪ -‬عالوة عمى ما سبق وأن نبينا إليو من قبل‪ -‬ليو بحق من أسوأ‬
‫وأسخف التفسيرات التمفيقية التي قدميا مفكرنا العمالق عنوة استخفافاً بعقول الناس‪ ،‬وتيويناً من‬
‫شأن قدرتيم عمى اكتشاف تحريفاتو وتخريفاتو‪ ،‬وكأنو عنما كان يكتب أوىامو تمك‪ ،‬كان يقول في‬
‫ق اررة نفسو‪:‬‬

‫"ومن ييتم‪ ،‬فأنا أعرف عقمية من يقرأون لي‪ ..‬إنيم حثالة من الجيمة ممن‬
‫يمكن تمرير أي شيء وكل شيء سخيف الى عقوليم"‪.‬‬

‫في ختام ىذه الخطوة‪ ،‬ثمة أمر طريف الحظناه أيضاً‪ ،‬وىو أننا كمما عمدنا الى كشف‬
‫تضميل الربيعي من الناحية الجغرافية‪ ،‬نجد (حائل) تمك أمامنا‪ .‬فقد توصمنا حتى اآلن الى أكثر‬
‫من ستة أو سبعة مواقع جغرافية ادعى الربيعي أنيا في اليمن‪ ،‬ثم اتضح لنا من خالل التدقيق‬
‫والتحقيق أنيا تقع في حائل‪ ،‬ومن يدري‪ ،‬لعمنا فتحنا بيذه المالحظة باباً لمربيعي ليعيد النظر في‬
‫جغرافية التوراة مجدداً‪ ،‬لعمو يجدىا فعالً في حائل التي يبدو أن ليا عالقة وثيقة بمخيالو‬
‫الالشعوري الدفين‪..‬؟!!‬

‫الخطوة الثانية‪ ،‬وفييا سنتحقق من موضوعية ودقة المقاربة الجغرافية التي أقاميا الربيعي‬
‫لموقع وادي قصيص بين ما ورد في التوراة من جية‪ ،‬وما أورده اليمداني من جية أخرى‪ ،‬بغية‬
‫‪327‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫التحقق من صحة ذلك التناغم واالنسجام العجيب الذي ظل مفكرنا العتيد يتغنى بو بين‬
‫اليمداني ويشوع‪.‬‬

‫ىنا‪ ،‬البد من التنويو الى الطريقة التي استخدميا الربيعي كثي اًر وكثي اًر جداً في االقتباس‬
‫من اليمداني‪ .‬فقد الحظنا ظاىرة الــ (‪ –).....‬أي ظاىرة األقواس الفارغة‪ -‬في كثير من‬
‫النصوص التي اقتبسيا من كتاب اليمداني‪ ،‬األمر الذي كشف لنا عن واحدة من أسوأ وأرعن‬
‫الممارسات االنتقائية وأكثرىا فجاجة وتحريفاً‪ ،‬ىذا طبعاً‪ ،‬إذا ما نظرنا الى ذلك من الناحية‬
‫اإلجرائية‪.‬‬

‫لننظر الى نماذج من أقواس مفكرنا الفارغة‪ ،‬اقتبسناىا بالصورة إمعاناً في التأكيد‬
‫والتثبيت‪:‬‬

‫صورة رقم (ٔ)‪ :‬نماذج من أقواس الربيعي الفارغة‬


‫من كتابو فمسطين المتخيمة‪ ،‬المجمد األول‪ ،‬ص (‪)٘ٚ -ٗٙ‬‬

‫أما من الناحية العممية والجغرافية‪ ،‬فإن أقواس الربيعي الفارغة تكشف لنا عن مدى‬
‫ضحالة وعيو‪ ،‬والى أي مدى بمغ انعدام حسو الجغرافي بعنصر المساحة الذي تطرقنا إليو من‬
‫قبل‪ ،‬فما بين تمك األقواس ىو في الغالب كم واسع من القرى والوديان والجبال والتالل التي‬
‫‪328‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫تحتل مساحات واسعة من األرض اليمنية والتي تجاىميا الربيعي دائماً‪ ،‬واعتبر أن حجب كل‬
‫ذلك والتعبير عنو بقوسين يحصران بينيما أربع نقاط ليس إال اختصا اًر أو إيجا اًز سردياً‪ ،‬وىو‬
‫يعمم أصالً أن مثل ىذا االختصار واإليجاز ليس إال تحريفاً وتزييفاً مقصوداً لممساحة الجغرافية‬
‫ومكوناتيا الطبوغرافية التي تفصل بين كل مكانين قارب بينيما‪.‬‬

‫األدىى مما سبق‪ ،‬ىو الخطأ الجغرافي الكارثي الذي وقع فيو الربيعي في تحديده لموقع‬
‫قصيص وغيرىا‪ .‬فقد ثبت لدينا أن مفكرنا قد عرف أوالً بأن وادي قصص الذي تحل محمو اليوم‬
‫مدينة البيضاء يقع في وسط اليمن تماماً‪ ،‬لكننا نجده في الوقت نفسو يخبرنا استناداً الى وصف‬
‫يشوع بأن ىذا الوادي يقع عمى امتداد الساحل الغربي لميمن‪ ،‬أي عمى سواحل البحر األحمر‪-‬‬
‫راجع كالم الربيعي الذي اقتبسناه حرفياً قبل قميل‪ ،‬فيو واضح لمغاية‪.‬‬

‫إن ىذا التحديد الفظيع يؤكد حقيقة واضحة جداً‪ ،‬وىو أن الربيعي لم يكمف نفسو عناء‬

‫التحقق من موقع مدينة البيضاء اليمنية بالنسبة لساحل البحر األحمر‪ ،‬وبالتالي فيو يجيل تماماً‬
‫من الناحية الجغرافية أين تقع بالضبط ىذه المدينة عمى خريطة اليمن‪ ،‬باعتبار أنيا أقيمت عمى‬
‫وادي قصص الذي ذكره اليمداني‪.‬‬

‫تقع مدينة البيضاء عمى بعد (‪ )062‬كم تقريباً إلى الجنوب الشرقي من العاصمة صنعاء‪،‬‬

‫وىي مدينة قارية ال تقع عمى أي ساحل‪ ،‬والمسافة بين البيضاء‪ /‬قصص وبين ما يقابميا أفقياً‬
‫عمى ساحل البحر األحمر وىي مدينة (المخا) مثالً تبمغ (‪ )052‬كم‪ ،‬وأقرب نقطة ساحمية من‬
‫البيضاء ىي مدينة (شقرة) وىي عمى ساحل بحر العرب‪ -‬أي الساحل الجنوبي لميمن وليس‬
‫الساحل الغربي‪ -‬وتتبع شقرة إدارياً محافظة أبين‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فال عالقة لمدينة البيضاء من‬
‫الناحية الجغرافية بأي ساحل‪ ،‬ال أحمر وال أبيض وال ىم يخمطون‪ -‬أنظر الخريطة رقم (‪)ٙ‬‬
‫أدناه‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫خريطة رقم (‪ :)ٙ‬موقع مدينة البيضاء اليمنية من الساحمين الغربي والجنوبي‬

‫وىكذا‪ ،‬فالتناغم الذي يتحدث عنو الربيعي بين اليمداني ويشوع ال يعدو أكثر من إفك‬
‫وافتراء ال أساس لو‪ ،‬وال وجود لو إال في أوىامو وتخييالتو التي بمغت مبمغاً ينبغي الحديث معو‬
‫عن مدى حاجة الرجل الى تشخيص سكسومتري وتدخل اكمينيكي‪ ،‬لمحد من تفاقم حالتو‬
‫السيكوباثية اليدامة والمدمرة لكل الحقائق والثوابت‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫)‪(3‬‬

‫الربيعي وخرائطه العمياء‬

‫ىناك كم ىائل من الكوارث الفاجعة التي قدميا لنا الربيعي في معرض تأسيسو لنظريتو‬
‫أحد‬
‫الخرقاء‪ ،‬من حيث اعتقد أن بوسعو تمريرىا عمى عقول البشرية جمعاء دون أن يكتشف ٌ‬
‫حقيقة ما قام بو من تحريف وتزييف وتضميل متعمد ومقصود‪.‬‬

‫بيد أنو لن يسعنا الوقت لعرضيا جميعاً‪ ،‬كما إننا نعول عمى ىذه الدراسة أن تميم باحثين‬
‫آخرين الستكمال ما بدأناه فييا‪ ،‬وليذا رأينا اختصا اًر لموقت والجيد أن بوسعنا أن ننظر الى‬
‫الحصيمة النيائية من تمك الكوارث المخيالية عمى نحو ما تظيره وتكشف عنو خرائط الربيعي‬
‫العمياء‪ ،‬تمك الخرائط التي أراد أن يقنع بيا ذوي العقول الصغيرة من الكائنات البشرية المدجنة‪،‬‬
‫فقررنا أن ننيي جيودنا في تحميل معالجتو الجغرافية لمنازل األسباط باستعراض خرائطو تمك‪،‬‬
‫وتقديميا لمقراء األعزاء عمى النحو الذي يميق بيا وبمفكرنا الجيبذ‪.‬‬

‫قبل النظر في خرائط الربيعي البد من إعطاء فكرة عن تقسيم منازل األسباط في فترة‬
‫يشوع بن نون والتي وثقيا السفر الممحق بالتوراة والموسوم باسمو‪ ،‬وكيف جرى تفسير ومعالجة‬
‫ذلك التقسيم عمى الخريطة الفمسطينية من قبل مفسري العيد القديم‪ ،‬وذلك كي تتضح الصورة‬
‫بعد ذلك كاممة‪ ،‬من حيث نريد أن يتعرف قرائنا األعزاء عمى الفروق العامة‪ -‬وليس التفصيمية‪-‬‬
‫بين النموذج التقميدي الذي قدمو مفسرو العيد القديم لجغرافية أرض األسباط والخرائط التي‬
‫رسموىا لو من جية‪ ،‬والنموذج الخنفشاري الذي قدمو لنا مفكرنا في كتاب وخرائط مخيمتو‬
‫وأوىامو من جية أخرى‪.‬‬

‫جاء في (سفر العدد‪:)43 -41 :12 ،‬‬

‫"فأمر موسى بني إسرائيل قائالً‪ :‬ىذه ىي األرض التي تقتسمونيا بالقُ ْرعة‪ ،‬التي أمر الرب أن‬
‫تُعطَى لمتسعة األسباط ونصف السبط‪ ،‬ألنو قد أخذ سبط بني رأوبين حسب بيوت آبائيم وسبط بني‬

‫‪331‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫سى‪ ،‬قد أخذوا نصيبيم‪ .‬السبطان ونصف السبط قد أخذوا‬


‫جاد حسب بيوت آبائيم ونصف سبط من َ‬
‫نصيبيم في عَبْر أردن أريحا شرقاً نحو الشروق"‪.‬‬

‫يتحدث ىذا النص عن تقسيم أرض كنعان بين تسعة أسباط ونصف سبط‪ ،‬من أصل‬
‫(‪ )40‬سبطاً‪ ،‬ألن السبطان والنصف الباقيان كانوا قد أخذوا نصيبيم في عبر األردن شرقاً‪ -‬أي‬
‫في مناطق تقع الى الشرق من نير األردن‪ ،‬ومن ثم فقد جرى تقسيم األرض التي تقع غرب نير‬
‫األردن بين تسعة أسباط ونصف حددىم النص التوراتي باالسم في (سفر العدد‪-44 :12 ،‬‬
‫‪ ،) 07‬وحدد ليم اآللية التي يجرون بيا القرعة‪ ،‬واألساس الذي ينبغي أن يقوم عميو التقسيم‪،‬‬
‫فكان التقسيم عمى ثالثة أسس‪ :‬األساس األول‪ :‬حسب عدد أسماء الذكور من كل سبط‪ ،‬فالكثير‬
‫ُيكثر لو‪ ،‬والقميل ُيقمل لو‪ ،‬األساس الثاني‪ :‬يكون التقسيم بالقرعة‪ ،‬ليخرج لكل سبط المكان من‬
‫األرض الذي يأخذ نصيبو فيو‪ ،‬األساس الثالث‪ :‬لم يكن لسبط الوي نصيب في األرض‪ ،‬بل‬
‫يعطييم كل ٍ‬
‫سبط مدناً من نصيبو‪.‬‬

‫وبحسب التفسير التقميدي لمعيد القديم الذي يسقط النص عمى جغرافية فمسطين‪ ،‬فقد كانت‬
‫نتيجة التقسيم عمى النحو اآلتي‪:‬‬

‫‪ .4‬سبط ييوذا‪ :‬امتدت تخومو إلى بنيامين ودان وىو إقميم التالل الوسطى‪ ،‬وقد أحاط بو‬
‫الموآبيون واألدوميون والعمالقة والفمسطينيين‪.‬‬

‫‪ .0‬سبط أفرايم‪ :‬امتمك السيول الوسطى لنير األردن بما فييا أرض شيمو‪ /‬سموان‪ ،‬وىي‬
‫أرض خصبة ومنتجة وجميمة‪.‬‬

‫‪ .1‬سبط منسى‪ :‬امتمك نصفو في شرق األردن بيد موسى‪ ،‬أما النصف اآلخر فقد امتمك‬
‫في غرب األردن بيد يشوع‪ ،‬فامتمك األرض التي تتاخم يساكر وزبولون وأشير بما فييا‬
‫أرض شكيم‪ ،‬وىي أرض خصبة ومنتجة وجميمة‪ ،‬واتساع أمالك يوسف بأرض أفرايم‬
‫ومنسى‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫‪ .2‬سبط بنيامين‪ :‬امتمك األرض بين ييوذا وأفرايم بما فييا أورشميم‪ ،‬وأرضو جبمية وال‬
‫تصمح لمزراعة‪.‬‬

‫‪ .3‬سبط شمعون‪ :‬امتمك األرض جنوب ييوذا‪ ،‬وأحاطت بو شعوب كنعان‪ ،‬وكانت أرضو‬
‫منبسطة ومعظميا صحراء‪.‬‬

‫‪ .4‬سبط زبولون‪ :‬امتمك سيل مجدو في حدود برية يساكر‪ ،‬وكانت أرضو عبارة عن سيل‬
‫خصب منتج‪ ،‬ويمثل الطريق إلى البحر‪.‬‬

‫‪ .5‬سبط يساكر‪ :‬امتمك األرض شرق زبولون وجنوب بحر الجميل بما فييا وادي ع اززيل‪،‬‬
‫وأرضو خصبة ومنتجة وجميمة‪.‬‬

‫‪ .6‬سبط أشير‪ :‬امتمك األرض التي تطل عمى البحر من جبل الكرمل إلى صيدون‪ ،‬فكان‬
‫ُيعتبر نقطة دفاعية في وجو األعداء القادمين من الغرب‪ ،‬وأرضو عبارة عن سيل ساحل‬
‫خصب مشيور بالزيتون‪.‬‬

‫‪ .7‬سبط نفتالي‪ :‬امتمك األرض شرق أشير وغرب بحر الجميل وبحيرة ميروم‪ ،‬واخترقت‬
‫الجبال أرضو من الشمال إلى الجنوب‪ ،‬بينما كانت ىناك أودية خصبة ومنتجة‪.‬‬

‫‪ .42‬سبط دان‪ :‬سكن غرب بنيامين في وسط الفمسطينيين‪ ،‬وكان الجزء الخصب المنتج ال‬
‫يقع في أيدي الدانيين‪ ،‬إنما كان يقع في أيدي الفمسطينيين‪.‬‬

‫يأتي تفصيل ىذا التقسيم في سفر يشوع‪ ،‬من حيث حدد حدود أرض كل سبط بالنسبة‬
‫ألرض من يحاده من األسباط اآلخرين‪ ،‬ومن حيث حدد أيضاً المدن والقرى التي تدخل ضمن‬
‫أرض كل واحد من األسباط‪ ،‬ويفترض أن الخريطة رقم (‪ )ٚ‬أدناه تعبر بأدق ما يمكن أن يكون‬
‫عميو عن النص التوراتي من خالل تنزيمو الى الواقع بالنسبة ألرض فمسطين‪ ،‬وبالتالي فإنيا في‬
‫تموضعاتيا الجغرافية الجيوية النسبية تتطابق مع النص التوراتي‪ ،‬فعمى سبيل المثال‪ ،‬فإن أرض‬
‫سبط بنيامين تقع غرب نير األردن‪ ،‬يحدىا من الشمال منازل سبط افرايم‪ ،‬ومن الجنوب منازل‬
‫سبط ييوذا‪ ..‬وىكذا‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫[ٔ]‬
‫خريطة رقم (‪ :)ٚ‬تقسيم أرض األسباط بحسب التفسير التقميدي لمعيد القديم ‪.‬‬

‫كما أن النص التوراتي يخبرنا بأن توزيع األرض بين األسباط قد جعل من نير األردن‪،‬‬
‫حداً فاصالً بين األرض التي تقع الى الشرق منو والتي أعطيت لسبطين ونصف‪ ،‬وبين األرض‬

‫[‪ .]4‬الخريطة من‪ :‬عبد اهلل ناصر القحطاني‪ :‬سفر يشوع‪ -‬دراسة عقدية نقدية‪ ،‬رسالة ماجستير‪ ،‬جامعة أم‬
‫القرى‪ ،‬مكة المكرمة‪4213 ،‬ه‪.0242 -‬‬
‫‪334‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫التي تقع الى غربو وأعطيت لتسعة أسباط ونصف‪ ،‬لذا تتركز معظم األسباط في األرض التي‬
‫تقع الى الجية الغربية من نير األردن‪ ،‬كما وصف النص التوراتي ذلك‪.‬‬

‫وعميو‪ ،‬فإن أي مقاربة جغرافية لتعيين منازل أرض األسباط عمى أي جغرافية كانت‪ ،‬البد‬
‫وأن تأخذ بعين االعتبار وجود نير فاصل جرى توزيع األرض عمى ضفتيو الشرقية والغربية‬
‫بمقدار (‪ )0.3‬سبط في الضفة الشرقية الى (‪ )7.3‬سبط في الضفة الغربية‪ ،‬ثم يتم تعيين موقع‬
‫كل سبط بالنسبة الى النير والى حدود أرض بقية األسباط كما وصف ذلك سفر يشوع‪ ،‬وىكذا‪..‬‬

‫ىذا ما يفترض أن يكون مفكرنا العمالق قد قام بو‪ ،‬والسؤال الذي نسعى الى طرحو‬
‫واإلجابة عميو‪ ،‬ىو‪ :‬كيف قسم الربيعي أرض األسباط عمى الجغرافية اليمنية؟!‪ -‬الجواب ىو‬
‫انظر الخرائط الربيعية أدناه‪:‬‬

‫خريطة رقم (‪ :)ٛ‬أراضي األسباط (افرايم‪ ،‬افرايم‪ ،‬زوبولون) كما حددىا الربيعي عمى الجغرافية اليمنية‬

‫‪335‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫خريطة رقم (‪ :)ٜ‬أراضي األسباط (جاد‪ ،‬أشير‪ ،‬كمب) كما حددىا الربيعي عمى جغرافية اليمن‬

‫خريطة رقم (ٓٔ)‪ :‬أراضي األسباط (ييودا‪ ،‬دان‪ ،‬منسي) كما حددىا الربيعي عمى جغرافية اليمن‬

‫‪336‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫خريطة رقم (ٔٔ)‪ :‬أراضي األسباط (بنيامين‪ ،‬يساكر‪ ،‬نفتالي) كما حددىا الربيعي عمى جغرافية اليمن‬

‫حسناً‪ ،‬كانت تمك خرائط المفكر العمالق فاضل الربيعي التي توضح لنا مواقع منازل‬
‫األسباط اإلثني عشر عمى الجغرافية اليمنية‪ ،‬فماذا نالحظ في تمك الخرائط؟!‬

‫لن نمضي كثي اًر في تفصيل ىذه المسألة‪ ،‬ألنيا واضحة لكل ذي عقل وبصيرة ليرى‬
‫الفوضى المخيالية التي صنعيا مفكرنا رأي العين‪ ،‬في أوضح ما يمكن أن يحتاج المرء منا الى‬
‫الوضوح‪ ،‬بل سنكتفي بالتنويو الى ما يمي‪:‬‬

‫أوالً‪ ،‬أن الربيعي وزع منازل األسباط حسب تفسيره الجغرافي عمى أرض اليمن في أربع‬

‫خرائط‪ ،‬كل خريطة منيا تتضمن تعيين منازل ثالثة أسباط‪ ،‬وواضح فييا جميعاً أنو فشل فشالً‬
‫مطمقاً ولم يتمكن وفق تفسيره من أن يجمع منازل األسباط كميا في خريطة واحدة‪ ،‬فمنازل‬
‫األسباط إذا ما جمعناىا عمى خريطة واحدة‪ ،‬ستكون متداخمة ومتشابكة وكل منيا واقعة في‬

‫‪337‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫أراضي األسباط اآلخرين‪ .‬فأرض سبط بنيامين في الخريطة األخيرة تقع في قمب أرض سبط‬
‫ييودا كما تظير في الخريطة التي قبميا‪ ،‬وىكذا كل أراضي األسباط متداخمة مع بعضيا‪،‬‬
‫وجميعيا تقع في منطقة واحدة‪ ،‬حيث نرى أن المساحة الجغرافية التي تقع فييا كل ثالثة أسباط‬
‫في خريطة من تمك الخرائط األربع‪ ،‬ىي نفسيا المساحة التي رسم عمييا بقية أ ارضي األسباط‬
‫التسعة في بقية الخرائط‪ -!!..‬وىذا يعني باختصار أن الربيعي بنفسو‪ ،‬قد توصل الى حقيقة‬
‫استحالة تطابق تفسيره الجغرافي لمتوراة مع الجغرافية اليمنية‪.‬‬

‫ثانياً‪ ،‬يفترض أن يكون ىناك نير األردن فاصالً بين أراضي األسباط في شرقيو وأراضي‬
‫بقية األسباط في غربيو‪ ،‬وبالرغم من أن الربيعي أعطى في معالجتو الكثير من االىتمام بنير‬
‫األردن‪ ،‬وأعاد تعيين موقعو عمى الجغرافية اليمنية‪ ،‬إال أنو فشل فشالً ذريعاً في أن يجعل تعيينو‬
‫ذاك مطابقاً ولو بنسبة (‪ )%3‬لما يرد بشأن نير األردن من الناحية الجغرافية في التوراة‪ ،‬فأين‬
‫ىو نير األردن أو (ىا‪ -‬يردن) كما يسميو‪ ،‬وأين منازل األسباط التي تقع الى الشرق منو‪ ،‬وأين‬
‫ىي منازل األسباط التي تقع الى الغرب منو‪.‬‬

‫يمكن لمقارئ العزيز أن يعود الى خريطة التفسير التقميدي أعاله وأن يطابق بينيا وبين‬
‫ما ذكره النص التوراتي من جية‪ ،‬وأن يقارن بينو وبين ما جاء بو الربيعي ليتحقق من الفرق‬
‫بين النموذجين‪ ،‬كما يمكن من خالل مطابقة تعيين وتحديد الربيعي لنير األردن عمى الخريطة‬
‫اليمنية‪ ،‬أن نرى المزيد من مظاىر ىذه الفوضى الربيعية عمى نحو أسوأ وأفظع‪.‬‬

‫ثالثاً‪ ،‬أن خرائط مفكرنا العمالق كما رأيناىا ىي خرائط مصمتة وغير ناطقة‪ ،‬أي ال‬
‫تحتوي عمى أية بيانات جغرافية‪ ،‬أو تسميات أو تعيينات‪ ،‬فقط مجرد خرائط جافة مقفرة ال‬
‫صوت ليا إال صوت أوىام صاحبيا ومختمقيا وتخييالتو‪ ،‬والسبب في ذلك يعود الى أن الربيعي‬
‫توصل الى حقيقة أنو لو وضع تعييناتو الجغرافية لممواقع والمناطق بحسب مطابقاتو االسمية‬
‫بين التوراة واليمداني‪ ،‬لفضح نفسو‪ ،‬ولقدم أكبر دليل عمى فشل نظريتو وزيفيا‪ .‬فقرر أن يقدم‬
‫الخرائط مصمتة غير ناطقة‪ ،‬معتمداً في ذلك عمى أمرين‪:‬‬

‫أوليما‪ :‬جيل معظم القراء بالجغرافيا والحقائق الجغرافية‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫الفصل الرابع‬ ‫نشيذ أنشاد اجلغرافيا وصلوات اخلرائط‬

‫واألمر الثاني‪ :‬اسموبو المشوش الذي قدم بو تفسيراتو والذي ُيمزم القارئ المتمعن بالقيام‬
‫بجيد بالغ في مالحقة كل فكرة قدميا ىو‪ ،‬وىذا ما لن يقوم بو أغمب القراء‪.‬‬

‫فوق ذلك كمو‪ ،‬قام الربيعي بوضع خرائطو في ذيل كتابو كممحق‪ ،‬دون أن يقدم عمييا أية‬
‫شروحات مما قمل من أىمية الرجوع إلييا في نظر أغمب القراء‪ ،‬من حيث يبدو أنيم سيكتفون‬
‫بقراءة السرد الذي قدمو‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فإن من القراء من تدجن وصدق األوىام الربيعية‪ ،‬ومنيم من‬
‫تشكك في الحقائق التي كانت ثابتة لديو دون أن يندفع في تأييد نظرية الربيعي‪ ،‬ومنيم من لم‬
‫يصدق النظرية ولكنو لم يكمف نفسو عناء تأسيس موقفو منيا بشكل عممي‪ ،‬ومنيم من سار‬
‫يبحث عن الحقيقة متخبطاً بين الشك والحيرة‪ ،‬ومنيم من رفضيا وسعى الى تفنيدىا‪.‬‬

‫ىكذا‪ ،‬استطاع الربيعي‪ -‬وغيره من رواد ىذه النظرية الموىومة والمختمقة‪ -‬أن يصنع حالة‬
‫خطيرة ومروعة من التشويش عمى الوعي التاريخي والجغرافي والمعرفي لجيل بأكممو وربما عدة‬
‫أجيال خالل العقود األربعة الماضية وحتى اليوم‪ ،‬من خالل تمك الصورة الفوضوية والخرافية‬
‫والخنفشارية التي قدميا لنا الربيعي من خالل نظريتو العجفاء‪ ،‬والتي كان من الصعب الكشف‬
‫عنيا بغير الطريق الذي سمكناه والمنيج الذي طورناه ألجل ذلك‪.‬‬

‫إنيا كارثة بحق أمة بأسرىا أال تنبري المؤسسات األكاديمية العربية لتنير ىذا السخف‬
‫وتتصدى لو‪ ،‬والكارثة األدىى أن من األكاديميين واألساتذة في الجامعات من خرجوا ليطبموا‬
‫وييمموا ليذا الزيف الربيعي المبين‪ .‬وانيا لجاىمية ما بعدىا جاىمية‪ ،‬تكشف عن حقيقة البعض‬
‫ممن يقومون بتعميم أجيالنا‪ ،‬ممن يمكن وصفيم بأنيم سرطان الجيل والفشل الذي يترقى ويتدرج‬
‫في االرتقاء عبر ساللم األلقاب والكراسي األكاديمية في كل جامعاتنا العربية من أقصى المحيط‬
‫الى أدنى الخميج‪ ،‬إذ يكفي أن يظير في عصرنا ربيعي واحد لكي يفضح بأثر رجعي ما ىي‬
‫عميو بعض النخب األكاديمية في عصرنا وفي منطقتنا العربية الى األبد‪ ،‬إال القمة القميمة التي‬
‫يمكن أن نستثنييا من ىذه الفئة‪ ،‬ممن جاىدوا وكافحوا قدر ما أمكنيم ضد طغيان ىذه النظرية‬
‫المخجمة‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫اخلامتة‬

‫لف تككف ىذه ىي النياية‪ ،‬بؿ البد مف استمرار جيكد الباحثيف في الكشؼ عف حقيقة ىذه‬
‫النظرية المستمدة أصبلن مف خزائف المستشرقيف‪ ،‬كمف قبميـ المفسريف الييكد لمتكراة‪ ،‬خاصة كقد‬
‫تبيف لنا أف أكثر ما يمكف أف يككف ىدفان كاضحان ليذه النظرية‪ ،‬ىك أنيا جاءت إلنقاذ التكراة مف‬
‫أزمة مصداقيتيا التي زعزعيا عمـ اآلثار‪ ،‬كما تبيف لنا أف المنيج المغكم المستخدـ في‬
‫اطركحات ركاد النظرية ىك نفسو المنيج الذم استخدمو الصياينة في تيكيد أسماء المكاقع‬
‫الجغرافية الفمسطينية‪ ،‬في الكقت نفسو الذم تأكد لنا فيو أف تشابو األسماء الجغرافية ال يمكف‬
‫بأم حاؿ مف األحكاؿ أف يككف دليبلن عمميان كجغرافيان لتحديد مكاقع األماكف التاريخية‪.‬‬

‫لقد كاف ىدؼ الدراسة في القسـ األكؿ ىك اسقاط المقكالت التي استندت إلييا ىذه‬
‫النظرية‪ ،‬كعمى رأسيا مقكلة تشابو األسماء‪.‬‬

‫أما في القسـ الثاني‪ ،‬فقد قدمنا دراسة تطبيقية عممية كمنيجية لنمكذج فاضؿ الربيعي‪،‬‬
‫ككشفنا عف الكثير مف الحقائؽ‪ ،‬كأىميا أف ما ركج لو الربيعي كاآلخركف عف تشابو األسماء‬
‫كعف جغرافية التكراة الحقيقية كما يزعمكف في اليمف أك في عسير‪ ،‬ىي محض تخيبلت كأكىاـ‬
‫ال أساس ليا في الكاقع‪ ،‬كىذا ما تبيف بجبلء سافر مف حيث كاجينا الربيعي باليمداني مف‬
‫جية‪ ،‬كبالتكراة مف جية أخرل‪ ،‬كما كاجيناه بالحقائؽ كالثكابت الجغرافية مف جية ثالثة‪،‬‬
‫ككاجيناه فكؽ ذلؾ كمو بأساتذتو الذيف نقؿ عنيـ النظرية‪ -‬أك باألصح الذيف انتحميا منيـ‪ -‬مف‬
‫جية رابعة‪.‬‬

‫كؿ تمؾ المكاجيات المنطقية كالمنيجية لـ تعطي لرؤية الربيعي أم قدر مف المكضكعية‬
‫كالمنطقية‪ ،‬ناىيؾ عف المصداقية‪ ،‬السيما كأف األدلة التي رصدناىا في معرض نقد نمكذجو‬
‫كانت ثابتة كقاطعة كال يمكف لمباحث الرصيف أف ينكر ثباتيا كقكة حجتيا كمنعتيا‪ ،‬كألنيا أدلة‬
‫غير قابمة لمنقض اطبلقان‪ ،‬فقد أثبتت بما ال يدع مجاالن لمشؾ بأف نظرية جغرافية التكراة عمى‬
‫سبيؿ العمكـ‪ ،‬كنمكذج الربيعي منيا عمى كجو الخصكص لـ تثبت عمى جغرافية اليمف كلك‬

‫‪340‬‬
‫بنسبة (‪ ،)%1‬كىذا ما يدؿ عمى حجـ التضميؿ كالخداع كالتزييؼ المتعمد كالمقصكد الذم‬
‫مارسو الربيعي كرفاقو مف ركاد ىذه النظرية‪.‬‬

‫باإلضافة الى ما تقدـ‪ ،‬قمنا بإجراء تطبيقات كاف يفترض أف يقكـ بيا الربيعي لتدعيـ‬
‫نظريتو‪ ،‬كتبيف لنا بعد القياـ بيا كالتحقؽ مف نتائجيا أنو لـ يفعؿ ذلؾ لككنو قد أدرؾ أف مثؿ‬
‫تمؾ التطبيقات المنيجية كالعممية لف تدعمو كلف تككف أدلة لدعـ نظريتو بؿ أنيا ستساىـ في‬
‫نقضيا كدحضيا‪ ،‬فعمؿ عمى االلتفاؼ عمييا كتجاىؿ ضركراتيا العممية كالمنيجية‪ ،‬ناىيؾ عف‬
‫التبلعبات المغكية كالسياقية كالمفظية التي مارسيا بشكؿ متعمد كمقصكد‪ ،‬في الكقت الذم ادعى‬
‫فيو أنو لـ يقع في فخ تمؾ التبلعبات‪.‬‬

‫كغير ذلؾ مف األدلة التي انتيينا مف خبلؿ محصمتيا الكمية الى حقيقة راسخة كىي‬
‫بطبلف النظرية‪ ،‬كتيافت ركادىا كنزكليـ الى مستكل التحريؼ كالتزييؼ‪ ،‬كالتضميؿ عف الحقائؽ‬
‫ال أكثر‪.‬‬

‫ختامان‪ ،‬يمكف القكؿ بأف الغاية األساسية مف ىذه الدراسة قد تحققت حتى اآلف‪ ،‬مف حيث‬
‫أنيا قدمت لمقراء كالباحثيف رؤية كاضحة لبعض األدكات المنيجية كالكسائؿ كاآلليات النقدية‬
‫التي يمكف االستفادة منيا مف استكشاؼ عمؿ أطركحة جغرافية التكراة في جزيرة العرب‪ ،‬كرصد‬
‫كتتبع مكاضع الخطأ فييا‪ ،‬كمكاطف التحريؼ كالتضميؿ الذم مارسو ركادىا‪ ،‬عمى أمؿ أف يستمر‬
‫الباحثيف في تقديـ المزيد مف الجيكد النقدية الكاشفة‪ ،‬لمقضاء عمى ىذا الكرـ التمفيقي الذم‬
‫أحدثتو نظرية الصميبي كرفاقو في الكعي العربي المعاصر‪.‬‬

‫عمى أمؿ أف تككف لنا جيكد مكممة في المستقبؿ‪ ،‬خاصة فيما يتعمؽ بالجكانب التاريخية‬
‫كاألثرية‪ ،‬كغيرىا مف الجكانب التي مازلنا ننظر إلييا بعيف االىتماـ‪ ،‬كندرؾ مدل ضركرة تبيانيا‬
‫لجميع القراء كالباحثيف‪.‬‬

‫‪341‬‬
‫املراجع واملصادر‬

‫أوالً‪ :‬المراجع والمصادر العامة‪:‬‬

‫‪ .1‬إبراىيـ عبد الكريـ‪ :‬تيكيد األرض كأسماء المعالـ الفمسطينية‪ -‬دراسة كدليؿ‪،‬‬
‫منشكرات اتحاد ال ّكتاب العرب‪ ،‬دمشؽ‪.2001 ،‬‬

‫‪ .2‬ابراىاـ مالمات‪ ،‬حييـ تدمكر‪ :‬العبرانيكف كبنك إسرائيؿ في العصكر القديمة بيف‬
‫الركاية التكراتية كاالكتشافات األثرية‪ ،‬ترجمة كتقديـ‪ :‬رشاد عبد اهلل الشامي‪ ،‬سمسمة‬
‫الييكد كاسرائيؿ‪ -‬الجزء (‪ ،)2‬الطبعة األكلى‪ ،‬المكتب المصرم لتكزيع المطبكعات‪،‬‬
‫القاىرة‪.2001 ،‬‬

‫‪ .3‬إلياس شكفاني‪ :‬المكجز في تاريخ فمسطيف السياسي‪ :‬منذ فجر التاريخ حتى سنة‬
‫‪ ،1949‬مؤسسة الدراسات الفمسطينية‪ ،‬بيركت‪.1998 ،‬‬

‫‪ .4‬أبك العباس أحمد بف عبد اهلل بف محمد الرازم الصنعاني (ت‪460 :‬ق)‪ :‬تاريخ مدينة‬
‫صنعاء‪ ،‬تحقيؽ‪ :‬حسيف بف عبد اهلل العمرل‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪،‬‬
‫بيركت‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشؽ‪.1989 ،‬‬

‫‪ .5‬أبك الفضؿ ابف منظكر‪ :‬لساف العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيركت‪( ،‬ب‪ .‬ت)‪.‬‬

‫‪ .6‬أحمد األييش كقتيبة الشيابي‪ :‬معالـ دمشؽ التاريخية‪ ،‬مكتبة المتنبي لمطباعة كالنشر‬
‫كالتكزيع‪ ،‬دمشؽ‪.1998 ،‬‬

‫‪ .7‬أحمد الدبش‪ :‬اختطاؼ أكرشميـ‪ ،‬محاكاة لمدراسات كالنشر‪ ،‬دمشؽ‪.2013 ،‬‬

‫‪ .8‬أحمد الدبش‪ :‬اليمف الحضارة كاالنساف‪ -‬بحثان عف الجذكر‪ ،‬محاكاة لمدراسات كالنشر‬
‫كالتكزيع‪ ،‬دمشؽ‪.2013 ،‬‬

‫‪342‬‬
‫‪ .9‬أحمد الدبش‪ :‬عكرة نكح كلعنة الفراعنة كتمفيؽ األصكؿ‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬دار خطكات‬
‫لمنشر‪ ،‬دمشؽ‪.2006 ،‬‬

‫‪ .10‬أحمد الدبش‪ :‬كنعاف كممكؾ بني إسرائيؿ في جزيرة العرب‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬دار‬
‫خطكات لمنشر‪.2005 ،‬‬

‫‪ .11‬أحمد الدبش‪ :‬مكسى كفرعكف في جزيرة العرب‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار خطكات لمنشر‪،‬‬
‫دمشؽ‪.2004 ،‬‬

‫‪ .12‬أحمد بف عبد الكىاب بف محمد بف عبد الدائـ القرشي التيمي البكرم‪ ،‬شياب الديف‬
‫النكيرم (ت‪733 :‬ىػ)‪ :‬نياية األرب في فنكف األدب‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬دار الكتب‬
‫كالكثائؽ القكمية‪ ،‬القاىرة‪1423 ،‬ق‪.2004 -‬‬

‫‪ .13‬أحمد داككد‪ :‬العرب كالساميكف كالعبرانيكف كبنك إسرائيؿ كالييكد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪.1991‬‬

‫‪ .14‬أحمد عيد‪ :‬جغرافية التكراة في جزيرة الفراعنة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬مركز المحركسة‬
‫لمبحكث كالنشر كالتدريب‪ ،‬القاىرة‪.1996 ،‬‬

‫‪ .15‬أحمد محمد عبد العاؿ‪ :‬دراسات في الفكر الجغرافي‪ ،‬بدكف بيانات الطبعة كالناشر‬
‫كمكاف النشر‪.2006 ،‬‬

‫‪ .16‬أسعد رزكؽ‪ :‬إسرائيؿ الكبرل دراسة في الفكر التكسعي الصييكني‪ ،‬دار الحمراء‬
‫لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت‪.2002 ،‬‬

‫‪ .17‬اسرائيؿ فنكمشتايف‪ ،‬نيؿ إشر سيمبرماف‪ :‬التكراة الييكدية مكشكفة عمى حقيقتيا‪ -‬رؤية‬
‫جديدة إلسرائيؿ القديمة كأصكؿ نصكصيا المقدسة عمى ضكء اكتشافات عمـ اآلثار‪،‬‬
‫ترجمة كتعميؽ‪ :‬سعد رستـ‪ ،‬صفحات لمدراسات كالنشر‪ ،‬دمشؽ‪ -‬سكريا‪( ،‬ب ‪ .‬ت)‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫‪ .18‬اسرائيؿ كلفنسكف‪ :‬تاريخ المغات السامية‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬لجنة التأليؼ كالترجمة‬
‫كالنشر‪ ،‬مطبعة االعتماد‪ ،‬القاىرة‪.1929 ،‬‬

‫‪ .19‬بيير ركسي‪ :‬مدينة ايزيس‪ -‬التاريخ الحقيقي لمعرب‪ ،‬ترجمة‪ :‬فريد جحا‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة‪ ،‬دار البشائر لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬دمشؽ‪.2004 ،‬‬

‫‪ .20‬تكـ سيغؼ‪ :‬االسرائيميكف األكائؿ ‪ ،1949‬ترجمة‪ :‬خالد عايد كآخركف‪ ،‬الطبعة‬


‫األكلى‪ ،‬مؤسسة الدراسات الفمسطينية‪ ،‬بيركت‪.1986 ،‬‬

‫‪ .21‬تكماس ؿ‪ .‬طكمسكف‪ :‬التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي‪ ،‬ترجمة‪ :‬صالح عمى سكداح‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،‬بيساف لمنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪.1995 ،‬‬

‫‪ .22‬جمعية التجديد الثقافية االجتماعية‪ :‬نداء السراة‪ :‬اختطاؼ جغرافيا األنبياء‪ ،‬سمسمة‬
‫عندما نطؽ السراة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬جمعية التجديد الثقافية االجتماعية‪ ،‬المنامة ‪-‬‬
‫البحريف‪.2006 ،‬‬

‫‪ .23‬حسيف مؤنس (مشرفان)‪ :‬أطمس تاريخ اإلسبلـ‪ ،‬دار الزىراء لئلعبلـ العربي‪ ،‬القاىرة‪،‬‬
‫‪.1986‬‬

‫‪ .24‬حمد الجاسر‪ :‬المعجـ الجغرافي لمببلد العربية السعكدية‪ ،‬دار اليمامة‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫‪.162 /4 .1979‬‬

‫‪ .25‬الحسف بف أحمد اليمداني‪ :‬اإلكميؿ‪ -‬الجزء الثامف‪ ،‬حرره كعمؽ عميو‪ :‬نبيو أميف‬
‫فارس‪ ،‬دار الكممة‪ ،‬صنعاء‪ ،‬دار العكدة‪ ،‬بيركت‪( ،‬ب‪ .‬ت)‪.‬‬

‫‪ .26‬الحسف بف أحمد اليمداني‪ :‬صفة جزيرة العرب‪ ،‬تحقيؽ‪ :‬محمد بف عمي األككع‬
‫الحكالي‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬مكتبة اإلرشاد‪ ،‬صنعاء‪.1990 ،‬‬

‫‪ .27‬حمد بف ناصر الدخيؿ‪ :‬يحيى بف طالب الحنفي (‪180 -120‬ق‪796 -738 /‬ـ)‬
‫شعره كحياتو‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬جامعة اإلماـ محمد بف سعكد‪ ،‬الرياض‪.2000 ،‬‬

‫‪344‬‬
‫‪ .28‬خالد الغريب‪ :‬منطقة األحساء عبر أطكار التاريخ‪ ،‬الخبر‪.1988 ،‬‬

‫‪ .29‬خيرية قاسمية‪ :‬قضية الحدكد بيف مصر كفمسطيف قبؿ الحرب العالمية األكلى‪ ،‬مجمة‬
‫شؤكف فمسطينية‪ ،‬مركز األبحاث الفمسطينية‪ ،‬بيركت‪ ،‬العدد (‪ ،)5‬تشريف الثاني‪،‬‬
‫‪.1971‬‬

‫‪ .30‬خيرية قاسمية‪ :‬نشاطات صندكؽ استكشاؼ فمسطيف (‪ )1915 - 1868‬مجمة‬


‫شؤكف فمسطينية‪ ،‬مركز األبحاث الفمسطيني‪ ،‬بيركت‪ ،‬العدد (‪ ،)112‬يكليك ‪.1980‬‬

‫‪ .31‬دم السي أكليرم‪ :‬مسالؾ الثقافة اإلغريقية إلى العرب‪ ،‬ترجمة‪ :‬تماـ حساف‪ ،‬المكتبة‬
‫الثقافية‪ ،‬القاىرة‪.1957 ،‬‬

‫‪ .32‬ديفيد صمكيؿ مرجميكث‪ :‬أصكؿ الشعر العربي‪ ،‬ترجمة كتعميؽ كدراسة‪ :‬إبراىيـ‬
‫عكض‪ ،‬دار الفردكس‪ ،‬أسيكط‪ -‬مصر‪.2006 ،‬‬

‫‪ .33‬رائد راكاف قاسـ الجكارم‪ :‬العناصر األساسية لمخارطة عند الشريؼ اإلدريسي‬
‫(‪560 -493‬ق‪1166 -1100 /‬ـ)‪ ،‬مجمة التربية كالعمـ‪ ،‬جامعة المكصؿ‪ ،‬المجمد‬
‫(‪ ،)19‬العدد (‪ .2012 ،)5‬ص ص ‪.369 -354‬‬

‫‪ .34‬رشيد حميـ‪ :‬عمـ اإلسمائية عبلقتو العممية كاجراءاتو‪ -‬دراسة طبكنيمية لمكقعيف‪،‬‬
‫مجمة المغة العربية‪ ،‬المجمس األعمى لمغة العربية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬العدد (‪ ،)37‬الثبلثي‬
‫الثالث‪ .2017 ،‬ص ص ‪.138 -123‬‬

‫‪ .35‬زياد منى‪ :‬جغرافية التكراة مصر كبنك اسرائيؿ في عسير‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬رياض‬
‫الريس لمكتب كالنشر‪ ،‬بيركت‪.1994 ،‬‬

‫‪ .36‬سعيد األفغاني‪ :‬أسكاؽ العرب في الجاىمية كاالسبلـ‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬
‫بيركت‪.1993 ،‬‬

‫‪345‬‬
‫‪ .37‬سعيد السعيد‪ :‬ألكيس مكسيؿ‪ ،‬حياة بيف العمـ كالسياسة‪ ،‬كرقة عمؿ مقدمة لمندكة‬
‫العممية عف الرحالة التشيكي "ألكيس مكسيؿ"‪ ،‬جامعة تشارلز‪ ،‬براغ‪ ،‬يكنيك ‪.2008‬‬

‫‪ .38‬سفير جاسـ حسيف كىدل عيداف جبار الربيعي‪ :‬المبلمح الجغرافية الطبيعية في‬
‫كتاب صفة جزيرة العرب لميمداني‪ ،‬مجمة اكركؾ لمعمكـ االنسانية‪ ،‬جامعة المثنى‪،‬‬
‫العراؽ‪ ،‬المجمد (‪ ،)9‬العدد (‪ .2016 ،)4‬ص ص ‪.107 -90‬‬

‫‪ .39‬سييؿ زكار‪ :‬التكراة ترجمة عربية عمرىا أكثر مف ألؼ عاـ‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬دار‬
‫قتيبة لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬دمشؽ‪ -‬بيركت‪.2007 ،‬‬

‫‪ .40‬شاكر خصباؾ‪ :‬التراث الجغرافي عند العرب‪ ،‬المؤسسة العربية لمدراسات كالنشر‪،‬‬
‫بيركت‪ ،‬بدكف تاريخ النشر‪.‬‬

‫‪ .41‬صقر أبك فخر‪ :‬التكراة العربية كأكرشميـ اليمنية‪ ،‬مجمة الدراسات الفمسطينية‪ ،‬المجمد‬
‫(‪ ،)7‬العدد (‪ ،)27‬صيؼ ‪.1996‬‬

‫يمي‪ :‬المعارؼ الجغرافية عند العراقييف القدماء‪ ،‬أطركحة‬


‫الج َم ّ‬
‫‪ .42‬عامر عبد اهلل نجـ ُ‬
‫دكتكراه‪ ،‬جامعة المكصؿ‪ ،‬العراؽ‪. 2006 ،‬‬

‫‪ .43‬عبادة جماؿ أبك محسف‪ :‬تكممة صنيع ياقكت الحمكم في كتابو "المشترؾ كضعان‬
‫صقعت"‪ -‬دراسة في المشترؾ مف األعبلـ الجغرافية في ببلد الشاـ‪ ،‬رسالة‬
‫ن‬ ‫كالمفترؽ‬
‫ماجستير‪ ،‬جامعة النجاح الكطنية‪ -‬نابمس‪.2016 ،‬‬

‫‪ .44‬عبد الرحمف بدكم‪ :‬مكسكعة المستشرقيف‪ ،‬الطبعة الثالثة "منقحة كمزيدة"‪ ،‬دار العمـ‬
‫لممبلييف‪ ،‬بيركت‪ -‬لبناف‪.1993 ،‬‬

‫‪ .45‬عبد الرحمف بف خمدكف‪ :‬مقدمة ابف خمدكف‪ ،‬دار الطباعة‪ ،‬بكالؽ‪ -‬مصر‪( ،‬ب‪ .‬ت)‪.‬‬

‫‪ .46‬عبد اهلل التؿ‪ :‬خطر الييكدية العالمية عمى االسبلـ كالمسيحية‪ ،‬دار القمـ‪ ،‬القاىرة‪،‬‬
‫‪..1964‬‬

‫‪346‬‬
‫‪ .47‬عبد اهلل الحمك‪ :‬تحقيقات تاريخية لغكية في األسماء الجغرافية السكرية استنادان‬
‫لمجغرافييف العرب‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬بيساف لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت‪.1999 ،‬‬

‫‪ .48‬عبد اهلل الطيب‪ :‬محاضرة البركفسكر عبد اهلل الطيب في مقر مجمع المغة العربية‪،‬‬
‫مجمة مجمع المغة العربية‪ ،‬العدد (‪ ،)79‬نكفمبر ‪.1996‬‬

‫‪ .49‬عبد اهلل محمد ظافر‪ :‬نزىة المشتاؽ لميمف‪ -‬حدكد كخرائط كشؤكف اليمف في‬
‫البمدانيات مف القرف التاسع كحتى القرف الرابع عشر الميبلدم‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬مكتبة‬
‫خالد بف الكليد‪ -‬دار الكتب اليمنية‪ ،‬صنعاء‪.2017 ،‬‬

‫‪ .50‬عبد اهلل ناصر القحطاني‪ :‬سفر يشكع‪ -‬دراسة عقدية نقدية‪ ،‬رسالة ماجستير‪ ،‬جامعة‬
‫أـ القرل‪ ،‬مكة المكرمة‪1435 ،‬ق‪.2014 -‬‬

‫‪ .51‬عبدالرحمف آؿ مبل‪ :‬تاريخ ىجر‪ ،‬مطابع الجكاد‪ ،‬األحساء‪.1991 ،‬‬

‫‪ .52‬عبداهلل النجـ‪ :‬البحريف في صدر اإلسبلـ‪ ،‬دار الحرية لمطباعة‪ ،‬بغداد‪.1973 ،‬‬

‫‪ .53‬عدناف عياش‪ :‬دحض ادعاءات الييكد بأحقيتيـ في أرض فمسطيف‪ ،‬المؤتمر الدكلي‬
‫الثالث عشر لمركز جيؿ البحث العممي "فمسطيف قضية كحؽ"‪ ،‬طرابمس‪ -‬لبناف ‪-2‬‬
‫‪ 3‬ديسمبر ‪.2016‬‬

‫‪ .54‬عفيؼ بينسي‪ :‬تاريخ فمسطيف القديـ مف خبلؿ عمـ اآلثار‪ ،‬منشكرات الييئة العامة‬
‫السكرية لمكتاب‪ ،‬ك ازرة الثقافة‪ ،‬دمشؽ‪ -‬سكريا‪.2009 ،‬‬

‫‪ .55‬عمي محمد دياب‪ :‬مفيكما اإلقميـ كعمـ األقاليـ مف منظكر جغرافي بشرم‪ ،‬مجمة‬
‫جامعة دمشؽ‪ ،‬المجمد (‪ ،)28‬العدد (‪ .2012 ،)2‬ص ص ‪.508 -457‬‬

‫‪ .56‬عمر أميف مصالحة‪ :‬حدكد ارض إسرائيؿ في المك ار (التكراة)‪ -‬دراسة تكثيقية‪ ،‬مجمة‬
‫قضايا اسرائيمية‪ ،‬المركز الفمسطيني لمدراسات اإلسرائيمية "مدار"‪ ،‬العدد (‪ ،)46‬يكليك‬
‫‪ .2012‬ص ص ‪.98 -89‬‬

‫‪347‬‬
‫‪ .57‬فاضؿ الربيعي‪ :‬حقيقة السبي البابمي‪ -‬الحمبلت األشكرية عمى الجزيرة العربية‬
‫كاليمف‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬جداكؿ لمنشر كالترجمة‪ ،‬الككيت‪.2013 ،‬‬

‫‪ .58‬فاضؿ الربيعي‪ :‬فمسطيف المتخيمة‪ :‬أرض التكراة في اليمف القديـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،‬دار الفكر لمنشر‪ ،‬دمشؽ‪..2008 ،‬‬

‫‪ .59‬فراس السكاح‪ :‬الحدث التكراتي كالشرؽ األدنى القديـ‪ :‬ىؿ جاءت التكراة مف جزيرة‬
‫العرب‪ -‬نظرية كماؿ الصميبي في ميزاف النقد كالحقائؽ العممية‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬دار‬
‫عبلء الديف‪ ،‬دمشؽ‪.1997 ،‬‬

‫‪ .60‬فرانسكا دينالد‪ ،‬ركجيو ليشتنبرج‪ :‬الحيكانات كالبشر تناغـ مصرم قديـ‪ ،‬ترجمة‪ :‬فاطمة‬
‫عبد اهلل محمكد‪ ،‬مراجعة كتقديـ‪ :‬محمكد ماىر طو‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬المركز القكمي‬
‫لمترجمة‪ ،‬القاىرة‪.2012 ،‬‬

‫‪ .61‬فرج اهلل صالح ديب‪ :‬التكراة العربية كاكرشميـ اليمنية‪ ،‬دار نكفؿ‪ ،‬بيركت‪.1994 ،‬‬

‫‪ .62‬فرج اهلل صالح ديب‪ :‬اليمف ىي األصؿ‪ -‬الجذكر العربية لؤلسماء‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫دار الكتاب الحديث‪ ،‬بيركت‪.1988 ،‬‬

‫‪ .63‬فرج اهلل صالح ديب‪ :‬كذبة السامية كحقيقة الفينيقية‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬دار نكفؿ‪،‬‬
‫بيركت‪.1998 ،‬‬

‫‪ .64‬فضؿ الجثاـ اليافعي‪ :‬الحضكر اليماني في تاريخ الشرؽ األدنى‪ -‬سبر في التاريخ‬
‫القديـ‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬منشكرات دار عبلء الديف‪ ،‬دمشؽ‪.1999 ،‬‬

‫‪ .65‬ابف الفقيو أبك بكر احمد بف إبراىيـ اليمذاني‪ :‬مختصر كتاب البمداف‪ ،‬مطبعة لندف‪،‬‬
‫‪.1885‬‬

‫‪ .66‬كماؿ الصميبي‪ :‬التكراة جاءت مف جزيرة العرب‪ ،‬ترجمة‪ :‬عفيؼ الرزاز‪ ،‬الطبعة‬
‫السادسة‪ ،‬مؤسسة األبحاث العربية‪ ،‬بيركت‪.1997 ،‬‬

‫‪348‬‬
‫‪ .67‬كماؿ الصميبي‪ :‬حرب داكد‪ :‬األجزاء الممحميَّة مف ِسفر صمكئيؿ الثاني مترجمة عف‬
‫األصؿ العبرم‪ ،‬دار الشركؽ‪ ،‬عماف‪ -‬األردف‪.1991 ،‬‬

‫‪ .68‬كيت كايتبلـ‪ :‬اختبلؽ إسرائيؿ القديمة‪ -‬اسكات التاريخ الفمسطيني‪ ،‬ترجمة سحر‬
‫الينيدم‪ ،‬مراجعة‪ :‬فؤاد زكريا‪ ،‬سمسمة عالـ المعرفة‪ ،‬العدد (‪ ،)249‬المجمس الكطني‬
‫لمثقافة كالفنكف كاآلداب‪ ،‬الككيت‪ ،‬سبتمبر ‪.1999‬‬

‫‪ .69‬مجمكعة مف المؤلفيف‪ :‬دراسات في التراث الثقافي لمدينة القدس‪ ،‬مركز الزيتكنة‬


‫لمدراسات كاالستشارات‪ ،‬بيركت‪.2010 ،‬‬

‫‪ .70‬محمد األسعد‪ :‬مستشرقكف في عمـ اآلثار‪ :‬كيؼ ق أركا األلكاح ككتبكا التاريخ‪ ،‬الطبعة‬
‫األكلى‪ ،‬دار مسعى‪ ،‬الدار العربية لمعمكـ‪ -‬ناشركف‪ ،‬بيركت‪.2010 ،‬‬

‫‪ .71‬محمد حسف شراب‪ :‬مكسكعة بيت المقدس كالمسجد األقصى‪ ،‬التاريخ‪ ،‬اآلثار‪،‬‬
‫األعبلـ كاألمكنة كالرجاؿ‪ -‬الجزء األكؿ‪ ،‬األىمية لمنشر كالتكزيع‪ ،‬عماف‪.2003 ،‬‬

‫‪ .72‬محمد محمكد محمديف‪ :‬الجغرافيا كالجغرافيكف بيف الزماف كالمكاف‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫دار الخريجي‪ ،‬الرياض‪.1996 ،‬‬

‫‪ .73‬مصطفى زرىار‪ :‬مقاربات في دراسة النص التكراتي‪ -‬سفر راعكت أنمكذجاَ‪،‬‬


‫صفحات لمدراسات كالنشر كالتكزيع‪ ،‬دمشؽ‪.2012 ،‬‬

‫‪ .74‬ناصر الديف أبك خضير‪ :‬أسماء قرل القدس‪ -‬دراسة لغكية داللية‪ ،‬مجمة اتحاد‬
‫الجامعات العربية لآلداب‪ ،‬جمعية كميات اآلداب في الجامعات أعضاء اتحاد‬
‫الجامعات العربية‪ ،‬المجمد (‪ ،)13‬العدد (‪ .2016 ،)2‬ص ص ‪.382 -355‬‬

‫‪ .75‬ق‪ .‬ج‪ .‬كيمز ‪ :‬معالـ تاريخ االنسانية‪ ،‬المجمد الثاني‪ -‬في تاريخ اإلغريؽ كالركماف‬
‫كمف عاصركىما‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد العزيز تكفيؽ جاكيد‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬الييئة المصرية‬
‫العامة لمكتاب‪ ،‬القاىرة‪.1963 ،‬‬

‫‪349‬‬
‫‪ .76‬ياقكت الحمكم‪ :‬المشترؾ كضعا كالمفترؽ صقعان‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬عالـ الكتب‪،‬‬
‫بيركت‪1406 ،‬ق‪.1986 -‬‬

‫‪ .77‬يكسؼ الكبلـ‪ :‬تاريخ كعقائد الكتاب المقدس بيف اشكالية التقنيف كالتقديس‪ -‬دراسة‬
‫في التاريخ النقدم لمكتاب المقدس في الغرب المسيحي‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬صفحات‬
‫لمدراسات كالنشر‪ ،‬دمشؽ‪.2009 ،‬‬

‫‪ .78‬يكسؼ كفركني‪ :‬التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي‪ :‬نقض تاريخانية التكراة‪ ،‬مف مقدمة‬
‫كتاب‪ :‬تكماس ؿ‪ .‬طكمسكف‪ :‬التاريخ القديـ لمشعب اإلسرائيمي‪ ،‬ترجمة‪ :‬صالح عمى‬
‫سكداح‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬بيساف لمنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪.1995 ،‬‬

‫ثانياً‪ :‬المواقع االلكترونية‪:‬‬

‫اسـ فمسطيف؟ ‪ 4‬اكتكبر ‪ ،2017‬متاح عمى الرابط‬


‫عبلـ ُيطمَؽ ُ‬
‫َ‬ ‫‪ .1‬أحمد الدبش‪:‬‬
‫االلكتركني‪:‬‬
‫‪http://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/10/4/%D8%B9%D9%84%D8‬‬
‫‪%A7%D9%85-%D9%8A%D8%B7%D9%84%D9%82-‬‬
‫‪%D8%A7%D8%B3%D9%85-‬‬
‫‪%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86-‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪Nov‬‬
‫‪2017.‬‬
‫‪ .2‬أحمد زرير‪ :‬عمـ األعبلـ الجغرافية الطبكنيميا في رصد بعض الحقائؽ التاريخية في‬
‫منطقة أيت سدرات ف إغيؿ‪ 11 ،‬مايك ‪ ،2017‬متاح عمى الرابط االلكتركني‪:‬‬
‫‪http://www.dades-infos.com/?p=42925- 30 May 2018.‬‬
‫‪ .3‬أسامة محمد أبك نحؿ‪ :‬نظرية الدكتكر كماؿ الصميبي كتاريخ فمسطيف القديـ‪8 ،‬‬
‫أغسطس ‪ ،2010‬متاح عمى الرابط االلكتركني‪:‬‬
‫‪https://groups.google.com/forum/#!topic/fayad61/BvVL9VVBwtM-‬‬
‫‪18 Nov 2017.‬‬

‫‪350‬‬
‫‪ .4‬صالح السعيدم‪ :‬ىؿ األكراد يمنيكف قدماء؟‪ ،‬صحيفة القبس الككيتية العدد‬
‫(‪ 7 ،)12008‬نكفمبر ‪ ،2006‬متاح عمى الرابط االلكتركني‪:‬‬
‫‪https://alqabas.com/288765/- 20 Nov 2017.‬‬
‫‪ .5‬عامر عبد اهلل الجميمي‪ :‬أسماء المدف كالمكاقع الجغرافية المتشابية لفظان كالمختمفة‬
‫مكقعان في النصكص المسمارية‪ 11 ،‬مايك ‪ ،2011‬متاح عمى الرابط االلكتركني‪:‬‬
‫‪http://dramerart.blogspot.com/search/label/%D8%A7%D8%B3%D‬‬
‫‪9%85%D8%A7%D8%A1%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D‬‬
‫‪9%86- 10 Nov 2017.‬‬
‫‪ .6‬الباحث العراقي فاضؿ الربيعي‪ :‬فمسطيف لـ تكف يكما أرض الميعاد الييكدم كال‬
‫عبلقة ليا بالييكدية‪ ،‬حكار مع فاضؿ الربيعي‪ ،‬صحيفة الكطف‪ ،‬متاح عمى الرابط‬
‫االلكتركني‪:‬‬
‫‪http://www.alwatan.com/graphics/2011/01Jan/18.1/dailyhtml/ashr‬‬
‫‪eea.html- 26 May 2018.‬‬
‫‪ .7‬فاضؿ الربيعي‪ :‬التكراة لـ تذكر اسـ الفمسطينييف كال تعرؼ فمسطيف‪ 12 ،‬يناير‬
‫‪ ،2017‬متاح عمى الرابط االلكتركني‪:‬‬
‫‪http://www.aljazeera.net/news/alquds/2017/1/12/%D8%A7%D9%‬‬
‫‪84%D8%AA%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%A9-%D9%84%D9%85-‬‬
‫‪%D8%AA%D8%B0%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D8%B3%D9%85-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9‬‬
‫‪%86%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%88%D9%84%D8%A7-‬‬
‫‪%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81-‬‬
‫‪%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86-‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪Nov‬‬
‫‪2017.‬‬

‫‪351‬‬

You might also like