You are on page 1of 242

‫عبقريـة اللغـة العربيـة‬

‫الشـافـي ال ُق ِ‬
‫ـوصـي‬ ‫محمـد عبد َّ‬

‫منشورات املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ ‪ 1437‬ه ‪2016 /‬م‬
‫الرب واحد‪ ،‬واألب واحد‪،‬‬
‫إن َّ‬‫(أيها الناس؛ َّ‬
‫وليست العربية بأحدكم من أب وال أم‪،‬‬
‫وإنما هي اللسان‪ ،‬فمن تكلم العربية فهو عربي)‪.‬‬
‫حديث شريف‬

‫رقم اإليداع القانوين ‪2016MO0963 :‬‬


‫ردمك ‪978-9981-26-612-4 :‬‬
‫اليسيسكو‬ ‫ف‬
‫التصفيف والتوضيب والسحب ي� إ‬
‫الرباط‪-‬المملكة المغربية‬

‫© جميع الحقوق محفوظة لإليسيسكو‬


‫إهـداء‬
‫النبي المظلَّل بالغمام"‬
‫"سـيد األنـام‪ّ ،‬‬
‫إلى ِّ‬
‫القائل ‪( :‬أنا أفصح العرب ‪ ..‬وأُ ُ‬
‫عطيت فواتح الكلِم وخواتمه وجوامعه)‪.‬‬

‫‪-4-‬‬
‫املحتويات‬

‫إهــداء ‪4 ....................................................................‬‬
‫تقديــم ‪7 ....................................................................‬‬
‫مقدمــة ‪9 ...................................................................‬‬
‫ِّ‬
‫ملــاذا العربيــة؟ ‪13 ............................................................‬‬
‫أي اللغــات أوىل باحلاميــة؟ ‪16 ................................................‬‬
‫ّ‬
‫تاريــخ العربيــة وتطورهــا ‪22 ................................................‬‬
‫أم لغة قريــش؟ ‪29 .................................‬‬
‫«الفصحــى» لغة العرب ْ‬
‫أم لغة الظاء؟ ‪32 ..................................................‬‬
‫لغــة الضاد ْ‬
‫اللهجات العربية ‪39 .........................................................‬‬
‫الشــعرية ‪42 ........................................................‬‬
‫األسواق ِّ‬
‫اخلط العريب ‪45 .............................................................‬‬
‫خريطة العربية ‪53 ..........................................................‬‬
‫مزايا لغة الضــاد ‪59 ..........................................................‬‬
‫خصائص العربية ‪73 ........................................................‬‬
‫ثورات النحــو العريب ‪79 ....................................................‬‬
‫عىل مائدة ســيبويه ‪86 .......................................................‬‬
‫عجائــب الفصحى وغرائبهــا ‪93 ............................................‬‬
‫معارك العربيــة ‪106 ..........................................................‬‬
‫حتديــات يف طريق الفصحــى ‪116 ...........................................‬‬
‫فضــل القرآن عىل العربية ‪121 ...............................................‬‬

‫‪-5-‬‬
‫النبأ العظيم ‪127 ...............................................................‬‬
‫دالئل اإلعجــاز ‪132 ...........................................................‬‬
‫عالقة العربية باإلسالم ‪135 ..................................................‬‬
‫تأثري العربيــة يف اللغات الرشقية ‪139 ........................................‬‬
‫أثر العربية يف اللغات األجنبيــة ‪146 ..........................................‬‬
‫وشهد شــاهد من أهلها ‪153 ..................................................‬‬
‫أم اصطــاح؟ ‪161 .............................................‬‬
‫اللغة‪ :‬توقيف ْ‬
‫وظائف اللغــة ‪167 ............................................................‬‬
‫املجامع اللغوية ‪170 ..........................................................‬‬
‫قضية التعريب ‪175 ..........................................................‬‬
‫من أخبار العربيــة ‪181 .......................................................‬‬
‫علامء العربية ومؤلفاهتــم ‪186 ...............................................‬‬
‫رســالة إىل األمــة ‪223 ..........................................................‬‬
‫فـي عا َلـم اجلامل ‪226 .........................................................‬‬

‫‪-6-‬‬
‫تقديم‬
‫روح األمــة‪ ،‬وعنــوان هويتهــا‪ ،‬ووعــاء ثقافتهــا‪ ،‬ورمــز وجودهــا‪،‬‬‫اللغــة هــي ُ‬
‫ومصــدر إشــعاعها‪ .‬إذا تعهدهــا أهلهــا بالحفــاظ عليهــا وبصونهــا وبالنهوض بهــا‪ ،‬أوفوا‬
‫بحقهــا عليهــم‪ ،‬وقامــوا بواجبهــم نحوهــا‪ ،‬فظفــروا بشــرف الــذود عنهــا ونالــوا فضــل‬
‫البنــاة لنهضتهــا والرافعيــن ألعالمهــا بيــن‬
‫حمايتهــا‪ ،‬واســتحقوا أن يكونــوا مــن ُ‬
‫لغــات األمــم والشــعوب‪ ،‬فيعلــو شــأنها وتســمو منزلتهــا وينتشــر إشــعاعها‪ ،‬فتكــون‬
‫لغــة حيــة نابضــة بالحيــاة‪ ،‬ومزدهــرة بازدهــار الحضــارة التــي تنتمــي إليهــا‪ ،‬لمــا‬
‫تمتلكــه مــن مق ّومــات النمـ ّو‪ ،‬وشــروط التطــور‪ ،‬وموجبــات إثبــات الحضــور النافــذ‬
‫والمشــع‪ ،‬وبمــا لهــا مــن القــدرات الذاتيــة لإلبــداع فــي شــتى حقــول المعرفــة‬
‫يؤســس للمســتقبل‪.‬‬ ‫اإلنســانية‪ ،‬بحيــث تســاير العصــر فتكــون لغــة الحاضــر الــذي ّ‬
‫فالنهــوض باللغــة مــن نهضــة األمــة الناطقــة بهــا‪ .‬وقابليــ ُة اللغــة للتطــور‬
‫ولمواكبــة التقــدم الــذي تعرفــه اإلنســانية فــي جميــع حقــول العلــوم والمعــارف‬
‫والفنــون واآلداب‪ ،‬مــن خصائصهــا التــي تنطــوي عليهــا‪ ،‬ومــن مق ّوماتهــا التــي‬
‫تســتند إليهــا‪ .‬فليســت كل لغــة بقــادرة علــى النمـ ّو المواكــب للتقــدم اإلنســاني‪،‬‬
‫وإنمــا اللغــات مقامــات‪ ،‬لــكل منهــا مقــام خــاص بهــا‪ ،‬وطبيعــة تنفــرد بهــا وتميزها‬
‫إن صعــوداً أو هبوط ـاً‪ ،‬قــو ًة أو ضعف ـاً‪ ،‬قــدر ًة أو عجــزاً‪.‬‬
‫عــن غيرهــا مــن اللغــات‪ْ ،‬‬
‫وهــذا التفــاوت فــي الدرجــات بيــن اللغــات‪ ،‬هــو المعيــار الــذي يحكــم بالتف ـ ّوق‬
‫وبالتميــز وبالســبق‪ ،‬أو بالنقيــض مــن ذلــك كلــه‪.‬‬
‫ّ‬
‫ـرف اللــه‪ ،‬تبــارك وتعالــى‪ ،‬اللغــة العربيــة تشــريفاً لــم تنلــه لغــة أخرى‪،‬‬
‫لقــد شـ َّ‬
‫ونبيــه محمــد بــن‬ ‫ـل وعــا‪ ،‬كتابــه العزيــز علــى قلــب رســوله ّ‬ ‫حيــن أنــزل‪ ،‬جـ َّ‬
‫ـي مصــدر الحفــظ‬ ‫عبــد اللــه‪ ،‬صلــى اللــه عليــه وســلم‪ ،‬فــكان هــذا التشــريف اإللهـ ّ‬
‫والمناعــة والمتانــة والقــوة للغــة العربيــة الــذي رفــع قدرهــا وأكســبها مــن عناصــر‬
‫متميـــزة‪ ،‬ألنهــا لغــة الوحــي‬
‫القــدرة علــى النمــو الــذي ال يتوقــف‪ ،‬مــا جعلهــا ّ‬
‫الربانــي والرســول الخاتــم‪ ،‬بهــا تقــام الصــاة ركــن الديــن المتيــن التــي يؤ ّديهــا‬
‫المســلمون مــن شــتى األجنــاس فــي جميــع أقطــار األرض علــى مــدار الليــل‬
‫والنهــار‪ ،‬فأصبحــت لغــة إنســانية ولســاناً عالميــاً منــذ ظهــور اإلســام‪ ،‬أبدعــت‬
‫حضــارة راقيــة أشــعلت األنــوار التــي بــددت ظلمــات العصــور الوســطى فــي العالــم‬

‫‪-7-‬‬
‫حتــى انبثــق فجــر النهضــة وعصــر التنويــر فــي أوروبــا الــذي قــام علــى أســاس‬
‫مــن التــراث العربــي اإلســامي المــدون باللغــة العربيــة‪ ،‬ســواء بطريقــة مباشــرة‬
‫ا عــن المؤلفــات العربيــة‪ ،‬أو اعتمــاداً علــى الترجمــة العبريــة لكتــب ابــن رشــد‬
‫نقـ ً‬
‫شــارح أرســطوطاليس التــي أبدعهــا باللغــة العربيــة وضاعــت أصولهــا‪.‬‬
‫هــذه الخصائــص المتميــزة والفريــدة التــي تجعــل مــن اللغــة العربيــة لغــة‬
‫الحيــاة فــي كل العصــور‪ ،‬وترتقــي بهــا إلــى الــذروة مــن القــدرة علــى اإلبــداع فــي‬
‫التعبيــر عــن اإلنتــاج العقلــي الراقــي‪ ،‬هــي التــي قصــد إليهــا الباحــث المدقــق‬
‫ـدال الجامــع الــذي اختاره‬ ‫األســتاذ محمــد عبــد الشــافي القوصــي‪ ،‬بهــذا العنــوان الــ َّ‬
‫لكتابــه (عبقريــة اللغــة العربيــة)‪ ،‬والــذي تنشــره المنظمــة اإلســامية للتربيــة والعلوم‬
‫والثقافــة‪ ،‬ليكــون مــن ضمــن مصــادر المعرفــة اللغويــة الجديــدة التــي تنفتــح علــى‬
‫التــراث األدبــي الغنــي للغــة العربيــة‪ ،‬وتقــرب القــارئ مــن ينابيــع الغنــى التــي‬
‫تمتــاز بــه هــذه اللغــة‪ ،‬حيــث يأخــذه فــي جولــة منعشــة للعقــل ممتعــة للنفــس‪،‬‬
‫عبــر حدائــق اللغــة والمياديــن التــي يُـــبدع فيهــا األقطــاب ذوو القامــات الشــامخة‬
‫المؤسســون لعلــوم اللغــة‪ ،‬الذيــن هــم رموزهــا مــن مختلــف العصــور‪ ،‬ويقــدم لــه‬ ‫ّ‬
‫جيــد الشــعر أحســن اختيارهــا مــن بيــن بدائــع ديــوان العــرب‪.‬‬ ‫ـات مــن ّ‬ ‫باقـ ٍ‬
‫يتنــاول هــذا الكتــاب‪ ،‬بأســلوب مبتكــر وبلغــة مشــرقة‪ ،‬موضوعــات لغويــة ذات‬
‫قيمــة علميــة عاليــة تؤكــد جمي ُعهــا مظاهــر النبــوغ وتجليــات العبقريــة للغــة العربيــة‪،‬‬
‫علــى النحــو الــذي يظهــر جمــال اللغــة وبهاءهــا‪ ،‬ويجلــي حســنها ورواءهــا‪ ،‬ممــا‬
‫يحمــد للمؤلــف الفاضــل‪ ،‬ويكتــب لــه فــي ســجل الخدمــات التــي قدمهــا لهــذه اللغــة‬
‫ـوض بهــا مســؤوليتنا المشــتركة والمهمة‬ ‫العبقريــة التــي هــي أمانــة فــي أعناقنــا‪ ،‬والنهـ ُ‬
‫يتوجــب علينــا االضطــاع بهــا‪ .‬فهــو كتــاب ذو ميــزة مزدوجــة؛ يجــد‬ ‫الحضاريــة التــي ّ‬
‫فيــه القــارئ المتخصــص مــا ينشــده مــن التوســع فــي ثقافتــه اللغويــة‪ ،‬ويســتفيد منه‬
‫القــارئ العــام الــذي يلقــى فيــه مــا يحببــه فــي لغتــه ويشــده إليهــا‪ .‬وبذلــك يحقــق‬
‫المؤلــف غايــة ســامية مــن غايــات التأليــف بهــذا النمــط الجامــع بيــن الحســنيين‪.‬‬
‫وتلــك فضيلــة مــن فضائــل البحــث الرصيــن الــذي يجلــي الحقائــق ويبســطها أمــام‬
‫القــارئ‪ ،‬لتكــون مصــدراً للمعرفــة الموثقــة ومرجعـاً للعلــم النافــع‪.‬‬
‫والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل‪.‬‬

‫الدكتور عبد العزيز بن عثامن التويجري‬


‫املدير العام للمنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‬

‫‪-8-‬‬
‫املقدمة‬
‫قد أفلح المؤمنون بالقرآن المجيد‪ ،‬الذي أعجز الفصحاء والبلغاء‪َّ ،‬‬
‫وظل معجز ًة‬
‫تتأبَّى على اإلتيان بمثلها‪ ،‬ومفخر ًة تتضاءل أمامها مفاخر ُ‬
‫األ َمم والحضارات‪.‬‬
‫قد أفلح العالِمون بلغة التنزيل الحكيم؛ الذي بلغ غاية الفصاحة ونهاية البالغة‪،‬‬
‫أن يستعينوا بمن‬ ‫أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه‪ ،‬وأباح لهم ْ‬ ‫وتحدى األولين واآلخرين ْ‬‫َّ‬
‫عض‬‫عض ُه ْم ِل َب ٍ‬‫َان بَ ُ‬ ‫ْ‬
‫ثم رماهم والعالَم كله بالعجز‪ ،‬فقال‪... ﴿ :‬ال َ يَأت َ‬
‫ُون ِب ِمث ِْل ِه َو َل ْو ك َ‬ ‫شاءوا‪َّ ،‬‬
‫بالحكم القاطع المؤبد‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬ف ِإن َّل ْم تَف َْع ُلوا َو َلن تَف َْع ُلوا‪.﴾...‬‬ ‫ظَ ِه ي�اً ﴾‪ .‬وأجه َز عليهم ُ‬
‫قد أفلح العاشقون للغـة الضـاد‪ ،‬المتدلّهون بمناقبها‪ ،‬المغرمون بعجائبها‪ ،‬المولعون‬
‫بغرائبها‪ ،‬المرابطون على ثغورها‪ ،‬الذائدون عن حياضها‪ ،‬المقاتلون في سبيلها‪.‬‬
‫هـذا الكتـاب محاولة السترداد الذات‪ ،‬وحمايتها من الذوبان‪ ،‬ونفخ الروح فيها‪،‬‬
‫واستعادة مالمحها الحضارية‪ ،‬وإعادة بناء مرجعيتها اإليمانية‪ ،‬بعدما أصابتها معاول‬
‫الهدم إصابات بالغة‪ ،‬وتبصيرها بمقومات الشهود الحضاري‪ ،‬وتذكيرها بشرف االنتساب‬
‫ألمة «سيد العالمين»‪ ،‬وتنبيهها للقيام بدورها نحو أم اللغات‪ ،‬والتفاخر بعبقريتها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ومحاسنها‪ ،‬وعالميتها التي تتطلب اليوم‪ ،‬الصحوة الصادقة‪ ،‬والتأليف المثمر‪ ،‬في‬
‫المجال العلمي‪ ،‬والمعرفي‪ ،‬واإلنساني‪ ،‬وتبسيط وسائل تعلّمها‪ ،‬حتى يصبح المرء‬
‫قادراً على شحذ فاعليته‪ ،‬واستثمار طاقاته‪ ،‬فيستأنف دوره في حمل األمانة‪ ،‬استجابة‬
‫لتكليف الله سبحانه‪َ ﴿ :‬وك ََذ ِلكَ َج َع ْل َناك ُْم أُ َّم ًة َو َسطاً ِّل َتكُونُوا شُ َه َدا َء َع َل ال َّن ِاس ‪ .﴾..‬فال‬
‫شهادة‪ ،‬وال شهود‪ ،‬بعيداً عن التنزيل‪ ،‬ولغة التنزيل‪.‬‬
‫هـذا الكتـاب؛ مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري‪ ،‬والتحصين الثقافي‪،‬‬
‫واسترداد الروح المسلوبة‪ ،‬وتشكيل مركز الرؤية‪ ،‬في ضوء هداية الوحي‪ ،‬ومكتسبات‬
‫العقل‪ ،‬وتخليصه من االرتهان الحضاري‪ ،‬والضالل الثقافي‪ ،‬واألزمات الفكرية‪ ،‬التي‬
‫جراء المفاهيم‬
‫يعاني منها‪ ،‬بسبب اضطراب المفاهيم‪ ،‬والتباس المصطلحات؛ من َّ‬
‫المغلوطة التي تُفرض علينا‪ ،‬وتُقذف بها ساحتنا العلمية والثقافية‪ ،‬وتُصبح لها السيادة‬
‫في حياتنا الفكرية‪ ،‬حتى صارت من المسلَّمات‪ ،‬التي نفهم من خاللها ثقافتنا‪ ،‬ونقيس‬
‫بها حضارتنا‪ ،‬ونُق َّوم بها واقعنا‪ ،‬وننظر من خاللها إلى مستقبلنا‪ ،‬والتي تنتهي بإضعاف‬

‫‪-9-‬‬
‫وصب قيمها الفكرية‬
‫األمة‪ ،‬وتوهين أفكارها‪ ،‬وه ّز قيمها‪ ،‬وتغييب قسماتها الحضارية‪ّ ،‬‬
‫أن حفظ البيان ‪-‬الذي ال يتحقق َّ‬
‫إال‬ ‫في أوعية غريبة عنها‪ ،‬ناسين‪ ،‬أ ْو متناسين َّ‬
‫بوضوح مصطلحاته‪ ،‬ودالالت ألفاظه‪ ،‬وإدراك معهود اللغة التي نزل بها الخطاب‪ -‬هو‬
‫أي تفريط في المدلوالت أ ْو في المفاهيم‪ ،‬يعني العبث‬ ‫وأن ّ‬
‫قسيم حفظ القرآن ذاته‪َّ ،‬‬
‫ألن حفظ البيان‪،‬‬
‫والضالل الثقافي‪ ،‬الذي يؤدي إلى االنتحال الباطل‪ ،‬والتأويل الفاسد‪َّ ،‬‬
‫ال يقل من حيث المردود‪ ،‬عن حفظ القرآن‪.‬‬
‫هـذا الكتـاب؛ صيحة تحذير من خطورة التالعب بالمصطلحات‪ ،‬السيما فيما يتعلق‬
‫ألن ذلك لون من الضالل الثقافي‪ ،‬واالنتقاص لعملية البالغ الرباني‪.‬‬
‫بالمعاني القرآنية‪َّ ،‬‬
‫فخاتمية الرسالة؛ تقتضي حفظ النص اإللهي‪ ،‬سليماً من ّ‬
‫أي تحريف‪ ،‬أ ْو انتقاص‪،‬‬
‫حتى يكون التكليف صحيحاً‪ ،‬يترتب عليه الثواب والعقاب‪ ،‬وفقاً لمقتضيات العدل‬
‫خاطب ال ّناس‪ ،‬بنصوص محرفة‪ ،‬أ ْو منحولة‪ ،‬فحفظ‬ ‫أن يُ َ‬
‫اإللهي المطلق‪ ،‬فال يمكن ْ‬
‫يعد أيضاً من لوازم الخاتمية‪ ،‬إ ْذ ال قيمة لحفظ‬
‫المصطلحات والدالالت القرآنية؛ ّ‬
‫النص‪ ،‬وغياب بيانه‪ ،‬واالنحراف بمدلوالته‪.‬‬
‫هـذا الكتـاب؛ رحلة ممتعة‪ ،‬وزيارة جديدة؛ إلى ما قبل التاريخ‪ ،‬وأقاصي الجغرافيا‪،‬‬
‫وفي بطون المراجع والمخطوطات‪ ،‬بصحبة اللغويين والنحاة والبالغيين واألدباء‪.‬‬
‫هـذا الكتـاب؛ جولة في أرجاء جزيرة العرب؛ حيث منطلق دعوة أنبياء العرب‬
‫المكرمين(هود‪ ،‬وصالح‪ ،‬وشعيب‪ ،‬وإسماعيل‪ ،‬وسيد ولد عدنان)‪.‬‬
‫هـذا الكتـاب؛ أشبه بعملية حفر وتنقيب؛ الستخراج الخرائط والوثائق واآلثار‪،‬‬
‫وبقايا أطالل قوم عاد األولى‪ ،‬ومدائن صالح‪ ،‬وأصحاب األيكة‪ ،‬وقوم ت َُّبع‪ ،‬والذين جاءوا‬
‫من بعدهم‪.‬‬
‫هـذا الكتـاب؛ عصارة قرون‪ ،‬وخالصة عقول‪ ،‬وشهادة شهود‪ ،‬وقضية وجود‪ ،‬ومرآة‬
‫أن يتم نوره‪ ،‬ول ْو كره الكارهون‪.‬‬ ‫حضارة‪ ،‬ولسان دين يأبى الله َّ‬
‫إال ْ‬
‫هـذا الكتـاب؛ دفاع عن أُم اللُّغات‪ ،‬وسيدة اللغات‪ ،‬وأعرقها وأشرفها‪ ،‬وأقدسها‪،‬‬
‫وأطولها عمراً‪ ،‬وأخلدها ذِكراً‪ ،‬وأوفرها حظاً‪ ،‬وأقومها قي ً‬
‫ال‪.‬‬
‫هـذا الكتـاب؛ حكايات عن قريش‪ ،‬وأمسيات عكاظ‪ ،‬ومجالس بكر وربيعة‪،‬‬
‫وفصاحة تغلِب‪ ،‬وموسيقى الفراهيدي‪ ،‬ومعارك الكوفيين والبصريين‪ ،‬ومناورات‬
‫البحتري وأبي تمام‪.‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫هـذا الكتـاب؛ موسوعة شاملة ألسماء األعالم‪ ،‬والمعاجم‪ ،‬واللهجات‪ ،‬واألرقام‪،‬‬
‫والخطوط‪ ،‬واألمكنة واألزمنة‪ ،‬والمعارك التي خاضتها لغة الضـاد‪.‬‬
‫هـذا الكتـاب؛ ردود ومناقشات‪ ،‬وأسئلة وأجوبة‪ ،‬وحوارات ومجادالت بين أحبار‬
‫اللغة وعباقرة البيان وسدنة البالغة؛ الذين زيَّنهم الله بالفصاحة‪ ،‬واصطفاهم على العالمين‪.‬‬
‫هـذا الكتـاب؛ أشبه بخيمة ثقافية جمعت‪ :‬األخفش‪ ،‬واألصمعي‪ ،‬والجاحظ‪،‬‬
‫والزمخشري‪ ،‬والرازي‪ ،‬والباقالني‪ ،‬والجرجاني‪ ،‬واألصفهاني‪ ،‬والبغدادي‪ ،‬واأللوسي‪،‬‬
‫برد‪ ،‬وابن العميد‪ ،‬وابن األعرابي‪ ،‬وابن مسكويه‪ ،‬وغيرهم ممن‬ ‫والز َّجاج‪ ،‬وال َف َّراء‪ُ ،‬‬
‫والم ِّ‬ ‫َّ‬
‫نضر الله وجوههم‪.‬‬ ‫َّ‬
‫هـذا الكتـاب؛ أعياد وأفراح وأعراس؛ لتوزيع األوسمة والنياشين على صناديد‬
‫اللغة وسدنتها؛ كالخليل‪ ،‬والكسائي‪ ،‬وسيبويه‪ ،‬وابن فارس‪ ،‬وابن ِج ِّني‪ ،‬والثعالبي‪،‬‬
‫رضي الله عنهم‪ ،‬ورضوا عنه‪.‬‬‫والجوهري‪ ،‬وابن منظور‪ ،‬والفيروز أبادي‪ ،‬وغيرهم ممن َ‬
‫إن كان ينقصها‬
‫هـذا الكتـاب؛ شهادة تاريخية‪ ،‬ورؤية تحليلية‪ ،‬وقصيدة وجدانية؛ ْ‬
‫الوزن والقافية‪ ،‬فال ينقصها اإلحساس والشعور‪ِ .‬‬
‫وأبصـر فسـوف يبصـرون‪.‬‬

‫مح ّمد عبد الشَّ ايف الق ِ‬


‫ُوصـي‬

‫‪- 11 -‬‬
‫ملاذا العربية؟‬
‫وفصله‪ ،‬وجعله آي ًة دونها كل آية‪ ،‬ومعجز ًة دونها كل‬
‫سبحان الذي أبدع كتابه َّ‬
‫وكر َر اإلشارة والتنبيه‬
‫معجزة‪ ،‬واصطفى (اللسان العربي) وكرمه بنزول الوحي به‪َّ ،‬‬
‫تسع سو ٍر محكمات من سور القرآن المجيد‪.‬‬ ‫والتذكير بمنزلة ذلك اللسان المبين في ِ‬
‫امتن على العرب بهذا الشرف الخالد‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و ِإنَّهُ َل ِذك ٌْر َّلكَ َو ِلق َْو ِمكَ ﴾‬
‫وقد َّ‬
‫[الزخرف ‪.]44 :‬‬
‫وأن "العربية" من خصائص منهاج الله‪،‬‬ ‫وأخبر الدنيا كلها بمزايا هذا اللسان‪َّ ،‬‬
‫فقال‪ِ ﴿ :‬إنَّا أَن َز ْل َنا ُه ُق ْرآناً َع َر ِبياًّ َّل َع َّلك ُْم ت َْع ِق ُلونَ ﴾ [يوسف ‪.]2 :‬‬
‫� ﴾ [النحل‪:‬‬ ‫ان َع َ ِرب ي ٌّ� ُّم ِب ي ن ٌ‬
‫يذكر بهذه النعمة مرات عديدة‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬وَهَ َذا ِل َس ٌ‬ ‫وظل ِّ‬ ‫َّ‬
‫جل جالله‪َ ﴿ :‬وك ََذ ِلكَ‬ ‫‪ .]103‬وقال سبحانه ‪ِ ﴿ :‬ب ِل َس ٍان َع َ ِرب ي ٍّ� ُّم ِب ي ٍن� ﴾ [الشعراء ‪ .]195:‬وقال َّ‬
‫جل شأنه‪ِ ﴿ :‬إنَّا َج َع ْل َنا ُه ُق ْرآناً َع َر ِبياًّ ﴾‬ ‫أَ ْو َح ْي َنا ِإ َل ْيكَ ُق ْرآناً َع َر ِبياًّ ﴾ [الشورى ‪ .]7 :‬وقال َّ‬
‫اب ُّم َص ِّد ٌق ِّل َساناً َع َر ِبياًّ ﴾ [األحقاف ‪.]12 :‬‬ ‫عز من قائل‪َ ﴿ :‬وهَ َذا ِك َت ٌ‬ ‫[الزخرف ‪ .]3 :‬وقال َّ‬
‫ظل ممتد مع التشريع‬ ‫ظل جديد؛ ففي سورة الرعد؛ يأتي ٌّ‬ ‫ومع كل تأكيد‪ ،‬يتجلَّى ٌّ‬
‫اتبعت أهواءهم بعدما‬ ‫َ‬ ‫والحكم الذي تتسع له العربية‪َ ﴿ :‬وك ََذ ِلكَ أَن َز ْل َنا ُه ُحكْماً َعربياًّ ئ ن‬
‫ول�‬ ‫َِ‬
‫ول وال واق ﴾ [الرعد ‪ .]37 :‬ويرتبط التفصيل في‬ ‫جاءكَ من العلم ما لك من الله من ي ٍّ‬
‫اب ُف ِّص َل ْت آيَاتُهُ ُق ْرآناً‬ ‫سورة ُف ّصلت‪ ،‬باللغة العربية التي تتسع لهذا التفصيل وبيانه ‪ِ ﴿ :‬ك َت ٌ‬
‫َع َر ِبياًَّ لقوم يعلمون ﴾ [فصلت ‪ .]3 :‬ويرتبط معنى الوضوح واستقامة المعنى والبيان‬
‫َ� ِذي‬ ‫والتشريع والعلم باللغة العربية التي تو ّفر هذا كله في سورة الزمر‪ُ ﴿ :‬ق ْرآناً َع َر ِبياًّ غ ي ْ َ‬
‫ِع َو ٍج لع َّلهم يتقون ﴾ [الزمر ‪.]28 :‬‬
‫وسراً موصوالً بسر‪ ،‬مؤكداً‬
‫ظال ممتداً إلى ظل‪ِ ،‬‬
‫ول ْو تابعنا جميع اآليات؛ لوجدنا ًّ‬
‫أهمية اللسان العربي في فهم الخطاب القرآني‪ ،‬والنور المنبعث عن شمس العِلم اإللهي‪.‬‬
‫إن في اختيار اللسان العربي((( ليكون أداة التوصيل‪ ،‬ووسيلة اإلبانة‪ ،‬ووعاء التفكير‬
‫َّ‬
‫للرسالة الخاتمة الخالدة ـ التي تنتظم جميع شؤون الحياة‪ ،‬وتستجيب لمشكالتها ـ‬

‫((( يف رشف العربية‪( ،‬كتاب األمة)‪ ،‬العدد الثاني واألربعون ـ الدوحة‪.‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫قضية ذات أبعاد لغوية‪ ،‬وثقافية‪ ،‬وعلمية‪ ،‬وحضارية؛ حيث لم يعد ينكر اليوم‪ ،‬عالقة‬
‫التعبير بالتفكير‪ ،‬ودور التعبير في التفكير واإلبداع األدبي والعلمي‪ ،‬والمحاكمات‬
‫العقلية‪ .‬لذلك فمجرد اختيار (العربية) لتكون لغة الله ـ سبحانه ـ في مخاطبة البشر‬
‫في النبوة الخاتمة‪ ،‬التي انتهت إليها أصول الرساالت السماوية كافة‪ ،‬والتي تحددت‬
‫مهمة الرسول الكريمﷺ فيها‪ ،‬بالبالغ المبين‪ ،‬يعني امتالكها هذه األبعاد جميعاً‪.‬‬
‫ول ِإال َّ ال َبال ُغ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬فإنما عليك البالغ ي ن‬
‫﴿و َما َع َل َّ‬
‫الر ُس ِ‬ ‫المب� ﴾ [آل عمران‪َ .]20 :‬‬
‫الم ِب ي ن� ﴾ [النور ‪.]54 :‬‬
‫ُ‬
‫أجـل‪ .‬فاختيار (العربيـة) لتكون لغة التنزيل للخطاب السماوي‪ ،‬أ ْو لتكون لغة‬
‫أن من مقتضى (الخاتمية)‬ ‫خطاب الله األخير إلى البشر‪ ،‬له دالالت كثيرة‪ ،‬فإذا سلَّمنا َّ‬
‫أ ْو من لوازمها (الخلود) ـ والخلود يعني التجرد عن قيود الزمان والمكان‪ ،‬والقدرة على‬
‫العطاء واإلنتاج العلمي والمعرفي‪ ،‬في كل زمان ومكان ـ أدركنا خلود اللغة العربية‪،‬‬
‫وسعتها‪ ،‬ومرونتها‪ ،‬وغِنى مفرداتها‪ ،‬وكثرة مترادفاتها‪ ،‬التي تمتلك التعبير عن كل حالة‬
‫أي معنى‪ ،‬وال يضيق سلُّمها الصوتي عن النطق‬ ‫شعورية‪ ،‬وال يضيق لفظها عن استيعاب ّ‬
‫ال عن قدرتها على تقديم األوعية‬ ‫بأي حرف‪ ،‬مهما كان معقداً في اللغات األخرى‪ .‬فض ً‬ ‫ّ‬
‫التعبيرية‪ ،‬واالستجابة لكل الظروف واألحوال‪ ،‬التي يكون عليها الناس‪ ،‬واالستجابة‬
‫لإلنتاج الحضاري‪ ،‬في سائر العلوم والفنون‪ ،‬حتى يرث الله األرض‪ ،‬ومن عليها‪.‬‬
‫إن التنزيل الخالد‪ ،‬الممتد إلى نهاية الزمان‪ ،‬والذي وصف الله‬ ‫وحسبنا أن نقول‪َّ :‬‬
‫ات َرب ي ِّ� َل َن ِف َد ال َب ْح ُر َق ْب َل أَن تَنف ََد ك َِل َم ُ‬
‫ات‬ ‫أبعاده ومداه‪ ،‬بقوله‪ُ ﴿ :‬قل َّل ْو ك َ‬
‫َان ال َب ْح ُر ِم َداداً ِّلك َِل َم ِ‬
‫أ‬ ‫ف‬
‫﴿و َل ْو أَن ََّما ِ ي� ال َ ْر ِض ِمن شَ َج َر ٍة أَ ْق ٌ‬
‫الم‬ ‫َرب ي ِّ� َو َل ْو ِج ْئ َنا ِب ِمث ِْل ِه َم َدداً ﴾ [الكهف ‪ .]109 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫ات ال َّل ِه ﴾ [لقمان ‪ .]27:‬والذي كانت‬ ‫َوا ْل َب ْح ُر يَ ُم ُّد ُه ِم ْن بَ ْع ِد ِه َس ْب َع ُة أَبْ ُح ٍر َّما ن َِف َد ْت ك َِل َم ُ‬
‫(العربية) وعاءه الخالد‪ ،‬هو الذي يجعلنا ندرك الطاقة التي تمتلكها العربية‪ ،‬والشرف‬
‫الكبير‪ ،‬بجعلها لغة التنزيل‪.‬‬
‫ويجعلنا ندرك ـ أيضاً ـ التخاذل اللغوي والثقافي‪ ،‬الذي يعاني منه العرب والمسلمون‬
‫أن المشكلة ليست في قدرة اللغة‪ ،‬وإنما في تخلف أهلها وعجزهم‪.‬‬ ‫اليوم‪ ،‬وكيف َّ‬

‫أن اإلسالم لم يُقِم وزناً لقضية األجناس‪ ،‬واأللوان‪ ،‬واألقوام‪ْ ،‬‬


‫ولم‬ ‫جديـر ِّ‬
‫بالذكر؛ َّ‬
‫يعتبرها وسيلة تفاخر وتفاضل‪ ،‬فهي مجرد فوارق قسرية‪ ،‬ليس من المقبول عق ً‬
‫ال أن‬
‫تكون ميزان تمييز وتفاضل‪ ،‬ولو كان ذلك كذلك لكان الظلم عينه‪ ،‬وصارت وسيلة‬
‫للصراع واالقتتال‪.‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫وعلى الرغم من أن اإلسالم لم يُقم وزناً لهذه الفوارق القسرية كلها‪ ،‬إ َّال أنه لم يتنازل‬
‫والبد منها لصيانة األمة الواحدة‪،‬‬
‫ألن اللغات مكتسبة‪ ،‬وتعليمية‪َّ ،‬‬ ‫عن قضية (العربية)‪َّ ،‬‬
‫وتعبر عن إرادتها‪.‬‬ ‫وتشكيل أوعية متجانسة للعقيدة الواحدة‪ ،‬التي تحفظ روح األمة‪ِّ ،‬‬
‫وقد بدا التطبيق العملي لهذا في حياة المسلمين (من غير العرب) فلم يعتبر‬
‫أحدهم أن بإمكانه االستغناء عن العربية‪ ،‬واالقتصار على ما يفهم من اإلسالم بلغته‬
‫بل كانت (العربية) غاية مناه‪ ،‬ووسيلة فهمه إلسالمه وعقيدته؛ فظهر منهم‬ ‫اإلقليمية‪ْ ،‬‬
‫ومفسرون‪ ،‬ونحويون‪ ،‬ومؤرخون‪ ،‬أدركوا من مدلوالت الخطاب‬ ‫ِّ‬ ‫مؤلِّفون‪ ،‬وعلماء‪،‬‬
‫ما أدركه العرب أنفسهم‪ْ ،‬‬
‫بل وصلوا إلى مرتبة اإلمامة في اللغة‪ ،‬والفقه‪ ،‬والتفسير‪،‬‬
‫والحديث‪ ،‬وما إلى ذلك من العلوم‪ ،‬التي ال تتوفر َّ‬
‫إال لمن أتقن العربية وعلومها‪ .‬وهذا‬
‫ما سنعرفه عند الحديث عن "علمـاء اللغة ومؤلفاتهم"‪.‬‬
‫لم يتنازل اإلسالم عن أمر (اللغة) ألنها الميثاق الجامع‪ ،‬والصعيد المشترك‪،‬‬ ‫نعـم‪ْ .‬‬
‫الترقي والنهوض ‪..‬‬ ‫والقاعدة الثقافية والفكرية‪ ،‬والحصن العقلي لألمة‪ ،‬ووسيلتها إلى ِّ‬
‫فالله ـ سبحانه ـ خلق أول ما خلق (القلم)‪ .‬وجاء في اإلنجيل‪( :‬في البدء كان الكلمة)‪.‬‬
‫وكانت أولى التعاليم السماوية‪ ،‬بعد الخلق األول‪ :‬تعليم األسماء (وعلَّم آد َم األسما َء كلها)‪.‬‬
‫وبدأت الرسالة الخاتمة بكلمة (اقـرأ)‪ .‬والعربية اللسان‪ ،‬وليست الجنس وال الجغرافيا‪.‬‬
‫بل هي المقوم األساس‪،‬‬‫أن (اللغة العربية) أحد مقومات األمة‪ْ ،‬‬‫من هنـا نعلـم؛ َّ‬
‫ألنها سبيل توصيل العقيدة‪ ،‬واالنفعال بها‪ ،‬وصياغة األمة‪ ،‬وتنظيم نمط تفكيرها‪،‬‬
‫وإعادة بناء نسيجها‪ ،‬وحماية ذاكرتها‪ ،‬وبناء سياجها الثقافي‪ ،‬والحيلولة دون اختراقه‪.‬‬
‫إن حماية (العربية) والدفاع عنها؛ حماية للعالَم كله‪ ،‬ودفاع عن إحدى أدوات‬ ‫ْ‬
‫بل َّ‬
‫العقـاد‪« :‬من واجب القارئ العربي إلى جانب غيرته‬‫تفكيره ـ أ ْو على حد قول عبـاس َّ‬
‫أن يذكر أنه ال يُطالِب بحماية لسانه فحسب‪ ،‬ولكنه يطالِب بحماية العالم‬‫على لغته‪ْ ،‬‬
‫من خسارة فادحة تصيبه‪ ،‬بما يصيب هذه األداة العالمية من أدوات المنطق اإلنساني‪،‬‬
‫وإن بيت القصيد هنا أعظم من‬ ‫بعد أن بلغت مبلغها الرفيع من التطور والكمال‪َّ .‬‬
‫يسدد إلى القلب وال يقف عند الفم واللسان‪،‬‬
‫ألن السهم في هذه الرمية َّ‬ ‫القصيد كله‪َّ ،‬‬
‫وما ينطق به في كالم منظوم أو منثور»‪.‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫ي اللُّغات أوىل باحلامية؟‬
‫أ ّ‬
‫أن دراس َة لغ ٍة َما وممارستها‪ ،‬تعني دراسة ثقافة أهلها‬ ‫يرى علماء االجتماع‪َّ ،‬‬
‫ألن (اللغة) ليست مجرد ألفاظ للتفاهم بين األفراد‪ ،‬وإنما هي وعاء يحوي‬ ‫وأفكارهم؛ َّ‬
‫أي لغة ال ينفك عن تعلُّم ثقافة أهلها وأفكارهم‬ ‫مكونات وجدانية‪ ،‬ومعتقدات‪ .‬فتعلُّم ِّ‬
‫بأي ثقافة يستلزم اإللمام باللغة التي تمثّل تلك الثقافة‪.‬‬ ‫ومعتقداتهم‪ ،‬وكذا اإللمام ّ‬
‫أي لغة يمكن أن تسيطر على فكر دارسها وروحه‪ ،‬وتؤثر على لغته األم‪.‬‬
‫إن دراسة ّ‬ ‫ْ‬
‫بل َّ‬
‫إن "المتخصصين الذين ينهمكون في التدريس‬ ‫وفي ذلك يقول د‪ .‬زغلول النجار‪َّ :‬‬
‫تدريجيا عن مجتمعاتهم‪ ،‬حتى‬
‫ًّ‬ ‫أجنبية‪ ،‬ينعزلون‬
‫َّ‬ ‫والبحث والتأليف والنشر بلغات‬
‫يصبحوا غرباء بين أهليهم وعشائرهم ـ على غير قصد أ ْو تخطيط منهم ـ مما يؤدي‬
‫يتم تحلّلها"‪.‬‬
‫إلى تفكيك روابط المجتمعات وحجبها عن أصحاب الفكر والرأي حتى ّ‬
‫تنبه المسلمون ـ منذ وقت مبكر ـ إلى هذه الحقيقة؛ حقيقة تأثير اللغة‬ ‫وقد َّ‬
‫بل دعوا إلى تغيير االسم‬‫بألفاظها‪ .‬لذا؛ حرصوا على تسمية المواليد باألسماء الحسنة‪ْ ،‬‬
‫غير الحسن إلى اسم حسن‪ ،‬حتى ول ْو كان صاحبه قد ُع ِر َف به ونشأ عليه فيما ذهب‬
‫أن األسماء ليست مجرد كلمات جوفاء‪ ،‬فاللغة عموماً وعاء القيم‬ ‫من حياته‪ .‬والسبب؛ َّ‬
‫الثقافية التي تعيشها األمة‪.‬‬
‫وفي هذا الصدد؛ يقول شاعر َص َقلية «أجنازيا بوتينا» في قصيدة له بعنوان «لغة‬
‫وحوار» ‪:‬‬
‫ِ‬
‫السالسل ‪ُ ..‬س َّد أفوا َههم‬ ‫ضع شعباً في‬
‫وجوازات سف ِرهم‬ ‫جردهم من َمالبِسهم ‪َ ..‬‬ ‫ِّ‬
‫لكنهم ما زالوا أحراراً‬ ‫َّ‬
‫والموائد التي يأ ُكلون عليها‬
‫واألَ ِس َّرة التي يَنا ُمون عليها‬
‫لكنهم ما زالوا أغنياء‬ ‫َّ‬
‫ستعبد‬
‫إن الشعب يفتقر ويُ َ‬ ‫َّ‬

‫‪- 16 -‬‬
‫عندما يُسلَب اللسان الذي َ‬
‫تر َكه له األجداد‬
‫وعندئ ٍذ يضيع لألبد‪.‬‬
‫أن هذه «القصيدة» أيقظت األوربيين‪ ،‬وألهبت حماستهم؛ فاتفقوا على أن‬ ‫يبدو َّ‬
‫يجعلوا يوم «السادس والعشرين من سبتمبر» من كل عام؛ يوماً قومياً أوربياً خاصاً‬
‫(((‬
‫بحماية اللغات األوربية‪ ،‬من المهاجرين الوافدين من دول العالم الثالث‪.‬‬
‫‪European day‬‬ ‫وقالت «المفوضية األوربية» التي أطلقت على هذا اليوم اسم‬
‫‪ of language‬إنه من الواجب الوطني على األوربيين حماية لغاتهم من الجيل األول‬
‫والثاني من المهاجرين الذين ال ينطقونها بشكل سليم؛ ما يش ّوه اللغات األوربية‪ ،‬حيث‬
‫لعب الهنود والباكستانيون والبنغاليون والصينيون والفلبينيون واإليرانيون وغيرهم‬
‫دوراً في تشويه اللغات األوربية‪ ،‬ألنهم ال ينطقون حروفها بدقة‪ ،‬ما يؤثر على سالمة‬
‫اللغات األوربية مع مرور الزمن‪.‬‬
‫إن هناك اتجاهاً لدى األوربيين أن ال يسمحوا ّ‬
‫ألي‬ ‫وتقول مجلة ‪َّ The Monitor‬‬
‫أجنبي أن يأخذ (تأشيرة) لبالدهم َّ‬
‫إال بعد أن يجتاز امتحان اللغة من المعاهد‬
‫البريطانية واأللمانية والفرنسية المنتشرة في معظم أنحاء العالم‪.‬‬
‫إن الشعوب‬ ‫هذا؛ ويقول المشرفون على المركز األوربي لحماية اللغات األوربية ‪َّ :‬‬
‫األوربية بدأت تتخوف على لغاتها من المهاجرين إليها‪ ،‬حيث ينقل هؤالء المهاجرون‬
‫إلى أوربا ثقافتهم ولغاتهم‪ ،‬ومع مرور الوقت يؤثر ذلك سلباً على األجيال المقبلة‪،‬‬
‫أن ‪ % 92‬من اللواتي يعملن في مجال حضانة األطفال وخادمات ومربيات‬ ‫خصوصاً َّ‬
‫وألن هذه الشريحة‬‫من الهند وباكستان والفلبين وغيرها من دول جنوب شرقي آسيا‪َّ .‬‬
‫من المجتمع ال تنطق اللغات األوربية بطريقة جيدة‪ ،‬فإن األطفال األوربيين سيتأثرون‬
‫ال من األطفال األوربيين الذين يخلطون‬ ‫سلباً بالعامالت في هذا المجال‪ ،‬ما سيخلق جي ً‬
‫المربية القادمة من جنوب شرقي آسيا‪.‬‬‫َّ‬ ‫بين لغتهم وثقافتهم األوربية ولغة وثقافة‬
‫إن الهدف من تخصيص يوم لحماية اللغات األوربية؛ هو تذكير‬ ‫ويقولون ـ أيضاً ـ ‪َّ :‬‬
‫بأن لغاتهم مهددة بالخطر‪ ،‬وعليهم الحذر من المربيات القادمات من آسيا‪.‬‬ ‫األوربيين َّ‬
‫أن لديهم الكثير من األفكار والطرق التي سيحمون بها لغاتهم‪ ،‬وإنهم‬
‫ويؤكدون َّ‬
‫لن يسمحوا باستخدام خادمة أ ْو مربية أطفال أ ْو حتى حرفيين من‬‫من عام ‪2015‬م ْ‬

‫((( مجلة التبيان‪ ،‬القاهرة‪ .‬العدد ‪ 128‬ربيع أول ‪1436‬هــ‪.‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫إال بعد خضوعهم المتحان لغة‪ ،‬فالذي يريد أن يعمل في بريطانيا‬ ‫الدول األجنبية‪َّ ،‬‬
‫عليه إتقان اللغة اإلنجليزية كما ينطقها اإلنجليز‪ ،‬وليس كما ينطقونها هم‪ .‬وكذلك من‬
‫يريد أن يعمل في فرنسا أ ْو إسبانيا أ ْو ألمانيا‪ ،‬أ ْو غيرها من الدول‪.‬‬
‫أي شعب الحفاظ على لغته دون‬
‫أن من حق ّ‬‫من جانبها؛ ذكرت (األمم المتحدة) َّ‬
‫وأن األوربيين لديهم الحق في البحث عن وسائل يحمون‬
‫المساس بها من اآلخرين‪َّ ،‬‬
‫بل حق مشروع‬‫يشكل نظرة عنصرية‪ْ ،‬‬
‫بها لغاتهم من الوافدين إلى بالدهم‪ ،‬وأن هذا ال ِّ‬
‫ألي دولة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأن‬
‫إن العالم اليوم به أكثر من (‪ )6000‬ستة آالف لغة‪َّ ،‬‬
‫وقال بيان األمم المتحدة‪َّ :‬‬
‫وألن العالم‬
‫‪ % 95‬من هذه اللغات ال ينطقها وال يستخدمها سوى ‪ % 6‬من الناس‪َّ .‬‬
‫فإن اللغات الضعيفة‪،‬‬
‫أصبح يتقارب اآلن بشكل كبير‪ ،‬وزالت الحواجز بين القارات‪َّ ،‬‬
‫ولن يبقى حتى نهاية القرن الحادي والعشرين سوى اللغات القومية‪،‬‬ ‫سوف تندثر‪ْ ،‬‬
‫والتي لن يتجاوز عددها ‪ 8-6‬لغات‪.‬‬
‫من هنا؛ بدأت الدول األوربية تبحث عن طرق حديثة للحفاظ على لغاتها‪ ،‬ولهذا‬
‫حددت يوم "السادس والعشرين" من شهر سبتمبر من كل عام؛ يوماً خاصاً بحماية‬
‫اللغات األوربية‪.‬‬
‫أهمية «اللغة» في المحافظة‬ ‫جانب آخر؛ هناك تجا ِرب لدول ِ‬
‫معاصرة‪ ،‬أدركت َّ‬ ‫على ٍ‬
‫إيجابية في سبيل المحا َفظة على لغتها‪ ،‬أ ْو إحيائها‬
‫َّ‬ ‫شخصيتها‪ ،‬فاتَّخذت خطوات‬
‫َّ‬ ‫على‬
‫األمة والمحافظة‬ ‫شخصية َّ‬
‫َّ‬ ‫مما ترتَّب عليه إحياء‬
‫وتوظيفها في الحياة العلمية والعملية؛ َّ‬
‫قوتها‪.‬‬
‫على َّ‬
‫أن ن ِ‬
‫ُشير إلى تجرب َت ْين مرتبط َت ْين بإحياء اللغة المرتَبِطة بإحياء الهويَّة أ ْو‬ ‫بحسب ْ‬
‫الفرانكفونيـة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫القوة؛ وهما‪ :‬التجربة العِبريَّـة‪ ،‬والتجربة‬
‫المحافظة على َّ‬
‫التجربـة ِ‬
‫العربيـة‬
‫بدأَ ْت (التجربة العبرية) في أواسط القرن التاسع عشر‪ ،‬حين كان اليهود ُم َو َّزعين‬
‫كل جماع ٍة منهم لغة البلد الذي تَعِيش‬ ‫وتتحدث ُّ‬
‫َّ‬ ‫على أكثر من مائة دولة في العالم‪،‬‬
‫ُ‬
‫التخاطب‬ ‫إال في بيوت العِبادة‪ ،‬وفي بعض عِبارات‬‫ُوجد اللغة العِبريَّة َّ‬
‫فيه‪ ،‬وال ت َ‬
‫وطن لليهود ر َفع‬ ‫َ‬
‫والمجا َملة‪ ،‬وكانت تُع َت َبر لغة دينية ميتة‪ ،‬وعندما بدأ ْت فكرة إقامة ٍ‬
‫وقرر‬
‫ألمة بدون لغة»‪َّ .‬‬ ‫أحد ُم َف ِّك ِريهم؛ وهو «إليعازر بن يهوذا» ِش ً‬
‫عارا هو‪« :‬ال حياة َّ‬

‫‪- 18 -‬‬
‫حية على مستوى الكتابة وتدوين المعرفة‬ ‫لكي يجعل من العِبريَّة لغة َّ‬ ‫أن يسعى ْ‬
‫إن لم يكن‬ ‫اليومية‪ ،‬وبدا هذا الهدف عند اليهود أنفسهم صعباً ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫والتخاطب في الحياة‬
‫وقرر الهجرة إلى فلسطين‬ ‫تمسك بفكرته رغم سخ ِريَة أصدقائه منه‪َّ ،‬‬ ‫لكنه َّ‬ ‫ُمس َت ِحي ً‬
‫ال‪َّ ،‬‬
‫سنة ‪1881‬م مع أسرته‪ ،‬وأنشأ أول بيت يهودي تُفرض فيه «العِبرية» لغ ًة للتخاطب‬
‫ال على إنجاحه أربعين سنة‬ ‫متمس ًكا برأيه عا ِم ً‬
‫ِّ‬ ‫كل شؤون الحياة‪َّ ،‬‬
‫وظل‬ ‫والحديث في ِّ‬
‫أسس رابطة للمتكلِّمين بالعِبرية في فلسطين‪ ،‬وصارت داره منتدى يتم‬ ‫متصلة؛ فقد َّ‬
‫خصصا لألطفال‪،‬‬ ‫الحديث فيه بالعِبرية‪ ،‬وأصدر صحيفة بالعِبرية‪ ،‬وجعل جز ًءا منها ُم ً‬
‫سمي أبطال قصصهم بأسماء عِبرية‪ ،‬وعكف على تأليف قاموس كبير‬ ‫وحرص على أن يُ ِّ‬
‫للغة العِبرية‪ ،‬باالستعانة بالتراث اليهودي واللغات السامية‪ ،‬وابتكار مصطلحات جديدة‬
‫في كل مجاالت المعرفة‪ ،‬فاستطاع أن ينجز منه تسعة أجزاء‪ ،‬وأكمله تالميذه إلى ستة‬
‫وامتد التعلُّم‬
‫َّ‬ ‫مجلدا‪ ،‬وأثمرت دعوته؛ فانتشرت المدارس العبرية في فلسطين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عشر‬
‫ُدرس كل موادها بما‬ ‫امتد إلى الجامعات التي ت ِّ‬ ‫والتأليف بالعِبرية إلى كل المناهج‪ ،‬ثم َّ‬
‫في ذلك الطب والهندسة والعلوم بمختلف ألوانها بالعِبرية‪ ،‬وتُعقد فيها المؤتمرات على‬
‫أعلى مستوى بهذه اللغة‪ ،‬مع االستفادة من تعلُّم اللغات األخرى؛ ألنهم يُدركون ً‬
‫جيدا‬
‫وتقدم‪ -‬وبين‬ ‫لكل حضارة ُّ‬ ‫الفرق بين تعلُّم اللغات األجنبية ـ وهو أمر مطلوب وضروري ِّ‬
‫التعلُّم باللغات األجنبية ـ وهو أمر ي َق ِضي على الشخصية واللغة القومية على المدى‬
‫البعيد‪ -‬وال يُساعد كما يقول الباحثون على توطِين المعرفة لدى األمة‪.‬‬
‫امتدت تج ِربة اللغة العِبرية إلى كل مناحي الحياة؛ االقتصادية واالجتماعية‪،‬‬
‫وقد َّ‬
‫تاجر واألماكن‬ ‫والفنية والسياسية‪ ،‬فأصبحت المؤتمرات تُع َقد بها‪ ،‬وتكتب الفِتات َ‬
‫الم ِ‬
‫العامة والمنتديات بها‪ ،‬والمسئولون يُل ُقون كلماتهم في ِّ‬
‫أي دولة أجنبية بها‪ ،‬وبهذا‬
‫الجهد الخارق اس َتطاع اليهود أن يحيوا لغتهم من العدم‪ ،‬وأن يحيوا هم بهذه اللغة‪،‬‬
‫ويتشكل لهم كِيان وإن كان مزيفاً وهوية مصطنعة‪.‬‬

‫جت ِربة إنعاش الفرنسـيـة‬


‫العالميتين‪،‬‬
‫ْ‬ ‫الحربين‬
‫ْ‬ ‫تم التخطيط لها بعد التغييرات السياسية التي حدثت بعد‬‫لقد َّ‬
‫والتي تراجعت ُبمقتضاها مكانة اإلمبراطورية الفرنسية لصالح القوة األمريكية المتعاظمة‪،‬‬
‫سائدا في كثي ٍر من أرجاء العالم‪ُ ،‬مهد ًدا ِ‬
‫باالنحسار‪،‬‬ ‫وأصبح نفوذ اللغة الفرنسية الذي كان ً‬
‫فتشكلت في النصف الثاني من القرن العشرين‪« ،‬رابطة الفرانكفونية» من الد َول التي‬
‫تتحدث الفرنسية‪ ،‬وشكلت مؤسسات علمية ترعى الفرنسية في العالم‪ ،‬وتتابِع المتكلِّمين‬
‫بها‪ ،‬وتبحث عما يعترضهم من مشاكل في سبيل المحافظة على لغتهم األصلية أو‬

‫‪- 19 -‬‬
‫المكتسبة‪ ،‬وتعقد المؤتمرات التعليمية والثقافية والعلمية بالفرنسية في مختلف البلدان‪،‬‬
‫َ‬
‫لتقدم التوصيات بعدم شيوع األخطاء في اللغة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫لها‪،‬‬ ‫اإلعالم‬ ‫وسائل‬ ‫استخدام‬ ‫وترصد‬
‫من الرؤساء وكبار المسئولين‬ ‫كثيرا‬
‫وتضم مؤسسة الفرانكفونية في عضويتها ً‬‫ّ‬
‫ِم تنسيق جهودهم جمي ًعا‬ ‫يت ّ‬ ‫ِ‬
‫والوزراء في الدول الناطقة بالفرنسية‪ ،‬ومن خاللها‬
‫والصحة والحيوية لها‪.‬‬ ‫لحماية الفرنسية‪ ،‬والعمل على المزيد من االنتشار‬
‫فـي المقابـل؛ هل فكرت (الدول العربية) في الحفاظ على كيانها من سطوة اللغات‬
‫أي إجراءات لوقف زحف اللهجات األجنبية على أراضيها؟‪.‬‬
‫اتخذت ّ‬
‫ْ‬ ‫األجنبية الوافدة؟ هل‬

‫بل إنَّنا نشهد غزواً سافراً من اللغات األجنبية‪ ،‬دون ّ‬


‫أي رد فعل إيجابي‪.‬‬ ‫َّ‬
‫كال؛ ْ‬

‫إن كثيراً من وسائل اإلعالم؛ تتهاون في استعمال العربية‪ ،‬حتى َّ‬


‫إن كبار‬ ‫ْ‬
‫بل َّ‬
‫بحجة أنهم ليسوا من رجال اللغة‪.‬‬
‫بررون أخطاءهم؛ َّ‬ ‫اإلعالميين –من أسف‪ -‬يُ ِّ‬
‫ناهيك عن كثير من البنوك والمصارف المالية‪ ،‬وكثير من األنشطة التجارية‬
‫إال باللغات األجنبية‪ ،‬وتتخذ العربية وراءها ظِهرياً‪.‬‬
‫والعلمية والثقافية‪ ،‬ال تتعامل َّ‬

‫شهدت الحقبة األخيرة موجة عاتية من التغريب‪ ،‬تحمل‬


‫ْ‬ ‫ليس هذا فحسب؛ ْ‬
‫بل‬
‫في طياتها «مؤامرة» تستهدف محو األسماء والرموز والعالمات العربية‪ ،‬واستبدال‬
‫مسميات أجنبية بها‪ ،‬خاصة أسماء الشوارع والميادين والمؤسسات والمدارس‬
‫والمحالت‪ ،‬ومختلف المنتجات‪ ،‬وسائر األنشطة المعيشية‪.‬‬
‫فيخيل‬
‫َّ‬ ‫وال عجب أن يسير المرء في بعض األحياء والمدن والعواصم العربية‪،‬‬
‫إليه أنه يمشي في لندن أ ْو باريس أ ْو نيويورك‪ ،‬نظراً لشيوع اللغات األجنبية‪ ،‬وهيمنة‬
‫الرطانات الوافدة‪.‬‬
‫ومن ال يعرف لغات أجنبية؛ قد يجد حرجاً شديداً حين تسوقه األقدار إلى تلك‬
‫األماكن‪.‬‬
‫إن الكثير من الطالب ـ السيما في المدارس الخاصةـ ال‬ ‫ليس هذا فحسب؛ ْ‬
‫بل َّ‬
‫أي لغة اختيارية)‪،‬‬
‫يتعلمون العربية‪ ،‬وفي مدارس أخرى يطلقون عليها (‪ْ Option lang‬‬
‫فمن يريد أن يتعلمها له ذلك‪ ،‬ومن ال يريد له ذلك أيضاً‪ ،‬كما َّ‬
‫أن الرسوب فيها أ ْو‬
‫ألن درجاتها ال تضاف إلى المجموع العام أص ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫النجاح؛ ال يؤثر على النتيجة النهائية؛ َّ‬
‫لذا فهي لغة مهملة في معظم المدارس الخاصة‪.‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫ليس هذا فحسب؛ ْ‬
‫بل إذا أضفنا ‪( 4000000‬أربعمائة ألف) عاملة ومربية فلبينية‬
‫وإثيوبية وإندونيسية وسيرالنكية في بلد عربي ما‪ ،‬ونصف مليون في لبنان‪ ،‬وما يزيد‬
‫على مليون من تلك الجنسيات في مصر‪ ،‬وماليين أخرى في منطقة الخليج العربي‪،‬‬
‫إضافة إلى ماليين الهنود والباكستانيين والصينيين وجنسيات أخرى‪ ،‬يجوبون البالد‬
‫العربية ليل نهار؛ سنعرف مدى الخطر الذي يهدد لغة الضاد‪.‬‬
‫بل صدر ـ أخيراً ـ تقرير “منظمة العمل الدولية" التابعة لألمم‬
‫ليس هذا فحسب؛ ْ‬
‫أن الدول العربية فيها نحو ‪ 24‬مليون عامل ومربية وموظف في سوق‬ ‫المتحدة؛ وذكر َّ‬
‫العمل من الهنود والباكستانيين والفلبينيين والصينيين واإلثيوبيين‪ ،‬وطالب التقرير‬
‫كي تحافظ على‬ ‫بفتح مدارس لهذه الجاليات في البالد العربية التي تستضيفهم؛ ْ‬
‫لغاتها ولهجاتها‪ ،‬وثقافاتها‪.‬‬
‫ِـي لهـا‪.‬‬
‫هكذا يبكون‪ ،‬ويتباكون على لغاتهم‪ ،‬والعربيـة ال بواك َ‬

‫‪- 21 -‬‬
‫تاريخ العربية وتطورها‬
‫انشغل العلماء والفالسفة والمؤرخون والباحثون في استقصاء جذور اللغات‬
‫أن (العربيـة) هي‬
‫وتاريخها؛ وذهبوا في ذلك مذاهب شتى‪ ،‬فريق منهم ذهب إلى َّ‬
‫أصل اللغات‪ ،‬وبقية اللغات انبثقت منها في صور لهجات؛ تحولت بعد ذلك إلى لغات‬
‫مستقلة‪ ،‬تقترب من بعضها في الكتابة أ ْو في النطق‪.‬‬
‫وقد القت هذه الرؤية قبوالً في بعض األوساط المتديِّنة؛ استناداً لآلية الكريمة‪:‬‬
‫أ‬
‫أن األسماء في هذه اآلية تعبير‬ ‫﴿ َو َع َّل َم آ َد َم ال َ ْس َما َء ُك َّل َها ‪[ ﴾ ....‬البقرة ‪ .]31:‬باعتبار َّ‬
‫عن المقدرة اللغوية عبر العصور‪ ،‬غير أن العلماء الذين يعتمدون البحث العلمي‬
‫ينقبون عن الحقيقة بين أطالل الحضارات ومجاهيلها حتى عثروا على أبجدية‬ ‫مازالوا ِّ‬
‫"أوغاريت" على الساحل السوري‪ ،‬وشهدوا بأقدميتها على ما سبقها من كشوفات‪.‬‬
‫ثم وقفوا على كتابات أثرية في مملكة (ايبال) شمال سورية‪ ،‬مكتوبة بحروف‬ ‫َّ‬
‫عربية‪ ،‬ثبت أنها أقدم من الكشوفات الهيروغليفية والفينيقية‪.‬‏‬
‫ومن النقوش العربية القديمة‪ :‬ن ْقش «عجل بن هفعم» الذي ُعثِر عليه في الفاو‬
‫ِب بالخط المسند‪ ،‬ويعود إلى‬ ‫(قرب السليل) في المملكة العربية السعودية‪ ،‬وقد ُكت َ‬
‫القرن األول قبل الميالد‪.‬‬
‫وكذلك ن ْقش «عين عبدات» في صحراء النقب‪ ،‬ويعود تاريخه إلى القرن األول‬
‫الميالدي‪ ،‬وقد ُكت َ‬
‫ِب بالحرف النبطي القريب من الخط العربي الحالي‪.‬‬
‫ومن النقوش العربية‪ ،‬نقش «النمارة» الذي اكتشف في الصحراء السورية‪ ،‬وهو‬
‫نص مؤرخ بتاريخ ‪328‬م‪ ،‬ومكتوب بنوع من الخط النبطي‪ ،‬وهو عبارة عن رسم‬
‫وص َف فيه بأنه «ملِك العرب»‪.‬‬
‫لضريح ملِك الحيرة «امرئ القيس بن عمرو» ِ‬

‫ومن النصوص األثرية التي ورد فيه اسم العرب (اللوح املسامري) المنسوب للملك‬
‫شلمنص الثالث» في القرن التاسع قبل الميالد‪ ،‬ذكر فيه انتصاره على تحالف‬
‫َّ‬ ‫اآلشوري «‬
‫ِم ألف جمل من جنديبو من بالد العرب‪.‬‬ ‫ملوك آرام ضده بزعامة ملك دمشق‪ ،‬وأنه َغن َ‬

‫‪- 22 -‬‬
‫أن كلمة (عرب) موجودة في القصص واألوصاف اليونانية‬ ‫وأكد علماء اللغات‪َّ :‬‬
‫َّ‬
‫والفارسية‪ ،‬وكان يقصد بها أعراب الجزيرة العربية‪ ،‬ولم يكن هناك لغة عربية معينة‪ ،‬لكن‬
‫سميت لغات عربية‪ ،‬نسبة إلى الجزيرة العربية‪.‬‬
‫مجموع اللهجات التي تكلمت بها القبائل ِّ‬
‫وقد وجد في أحد متاحف باريس لوحة منقوشة بالعربية‪ ،‬اكتشفت في قرية‬
‫أي قبل العصر الذي يسمونه بالعصر‬
‫(جلوزل) الفرنسية‪ ،‬تعود إلى عشرة آالف سنة؛ ْ‬
‫الحجري الحديث‪.‬‬
‫إن المستقبل سيكشف عن أبجديات أكثر إغراقاً‬ ‫وليس رجماً بالغيب إذا قلنا ‪َّ :‬‬
‫في القِدم بعد أن تأكد وجود آثار حضارية في أعماق المحيط األطلسي؛ مما يثبت‬
‫أن تلك األعماق كانت في سالف العصور‪ ،‬قارة آهلة بالناس والحضارة‪ ،‬قبل أن تصير‬
‫تلك المعالم قاعاً للمحيط‪.‬‬
‫وضع طارئ‬
‫على جانب آخر؛ يرى المتخصصون في اللسانيات؛ أن تعدد اللغات ٌ‬
‫إن التطور البشري اقتضى تطور اللسان‪ ،‬وتداخل اللغات أدى إلى هذه‬ ‫عرضي‪ ،‬إ ْذ َّ‬
‫الكثرة؛ إ ْذ تتالقح لغتان أ ْو أكثر فتنتج من هذا التالقح لغة ثالثة‪ ،‬ومنها ومن غيرها‬
‫لغة رابعة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫أكدوا أقدمية العربية على غيرها‪ ،‬مستدلِّين بالحديث‬
‫«المعجميون» فقد ُّ‬
‫ُّ‬ ‫َّأما‬
‫الشريف‪ ،‬الذي رواه أبو ذر عن رسول الله ﷺ (خمسة أنبياء من العرب‪ :‬مح َّمد‬
‫(((‬

‫بأن العربية أقدم من‬


‫وإسامعيل وشع ْيب وصالح وهود)‪ .‬وهذا الحديث النبوي؛ أفاد َّ‬
‫النصوص الوثائقية المعروفة باألدب الجاهلي‪.‬‬
‫لذا؛ قال ابن دحية ((( ‪ :‬العرب ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬عاربة وعرباء وهم الخلَّص‪ ،‬وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح‪،‬‬
‫وهي‪ :‬عاد وثمود وأميم وعبيل وطسم وجديس وعمليق وجرهم ووبار‪،‬‬
‫ومنهم تعلم إسماعيل العربية‪.‬‬
‫الثانـي ‪ :‬المتعربة‪ ،‬وهم الذين ليسوا بخلَّص‪ ،‬وهم بنو قحطان‪.‬‬
‫الثالـث ‪ :‬المستعربة وهم الذين ليسوا بخلَّص أيضاً‪ ،‬وهم بنو إسماعيل‪ ،‬وهم ولد معد‪.‬‬

‫حبان في صحيحه‪.‬‬
‫(( ( رواه ابن َّ‬
‫((( روح املعاين لأللوسي‪ ،‬جزء ‪ ،12‬صفحة ‪.172‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫النبي ﷺ ‪( :‬أح ُّبوا العرب لثالث‪ :‬ألنَّني‬
‫يدل على أقدميتها المطلقة قول ّ‬ ‫ومما ُّ‬
‫عريب‪ ،‬والقرآن عريب‪ ،‬ولغة أهل الج َّنـة عربية) (((‪.‬‬
‫إن العربية هي (اللغة األم) وهي‬
‫وعلى رأي جمهور العلماء العرب والمسلمين؛ َّ‬
‫يتنزل الوحي على أصحاب الرساالت‪ ،‬فيترجم كل رسول‬ ‫لسان أهل السماء‪ ،‬وبها كان َّ‬
‫رسول إال َّ‬
‫ٍ‬ ‫أوحي إليه إلى لغة قومه‪ ،‬مستدلِّين باآلية الكريمة ‪ ﴿ :‬وما أرسلنا من‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫ن‬
‫ليب� لهم ﴾‪.‬‬
‫بلسان قومه ي ِّ‬
‫أن الله ألهم العباد االهتداء إلى اللغة‪ ،‬فهي توقيف‬
‫وفي رسائل إخوان الصفا‪َّ :‬‬
‫مباشر‪ ،‬وربطوا قضيتها بالبرهان على وجود الله بوصفه معلم كل شيء‪ ،‬واإلنسان عند‬
‫هؤالء كائن متميز بالنطق‪ ،‬وعالقته بالكالم عالقة طبع واقتضاء؛ بمعنى أن الكالم‬
‫ألست‬
‫ُ‬ ‫مالزم لوجوده منذ كان في عالم األرواح َّلما أشهد الله الذرية على أنفسهم ﴿‬
‫بربكم؟ قالوا بىل‪.﴾...‬‏‬
‫أن «العربية» هي (أم اللغـات) التي تعرف‬
‫هذا؛ وقد أثبتت دراسات علمية حديثة َّ‬
‫حميرية وبابلية وآرامية‬
‫(أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب‪ْ :‬‬ ‫باللغات األعرابية ْ‬
‫وعبرية وحبشية)‪ ،‬اختارها الله لتكون لسان دينه ورساالته‪ ،‬وقد تميزت بنموها‬
‫السريع وتطورها العجيب‪ ،‬وحملت معها بركة النبع األول لإلنسان‪ ،‬برعاية ربانية حتى‬
‫وكأن الوحي الكريم‬
‫النبي العربي الخاتم‪َّ ،‬‬
‫بلغت ذروة كمالها بنزول الوحي بها على ّ‬
‫يشير إلى بركة التاريخ وبركة المصدر‪ ،‬وبركة النبع األول‪ ،‬ليرتبط ذلك كله ارتباطاً‬
‫ال وشاهداً على عظمة هذه اللغة وقداستها‪.‬‬
‫يقف دلي ً‬

‫بأن تعدد اللغات يرجع إلى أبناء نوح الثالثة‬


‫وبذلك تسقط مزاعم المستشرقين؛ َّ‬
‫(سام وحام ويافث) الذين استوطنوا أماكن مختلفة من األرض –كما يقول عالِم‬
‫اللغات‪« /‬ماريو ب ْ‬
‫ِل» في كتابه (تاريخ اللغات ‪ ،)The Story of Language‬إ ْذ ال يعقل‬
‫أن ينشأ ثالثة أخوة في بيت واحد‪ ،‬ويتكلمون ثالث لغات‪ .‬ولماذا اختاروا العيش‬ ‫ْ‬
‫بل من أين أتى‬ ‫متفرقين في قارات مختلفة‪ ،‬في ذلك الوقت المبكر من التاريخ؟‪ْ .‬‬
‫(((‬
‫أي دليل علمي‪ ،‬أ ْو برهان عقلي»؟‪.‬‬
‫العنصريون بتلك المزاعم التي ال تستند إلى ّ‬

‫((( أخرجه الطبراني والحاكم والبيهقي وآخرون عن ابن عباس‪.‬‬


‫((( تاريخ اللغات‪ ،‬ماريو ب ْ‬
‫ِل‪ ،‬ترجمة سامي خليل‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬دمشق‪1996 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫وقد كان المستشرق «شلوتسر» هو أول من تزعم ذاك الرأي‪ ،‬مستنداً إلى جدول‬
‫لم‬
‫أن أسفار «العهد القديم» ْ‬‫نسي َّ‬
‫تقسيم الشعوب الموجودة في «التوراة»‪ .‬لكنه َ‬
‫تتحدث عن الحضارات التي نشأت بأرض العرب بعد «الطوفان»؛ كعاد‪ ،‬وثمود‪ ،‬ومديَن‪.‬‬
‫أن «التوراة» لم‬
‫لذلك أنكر اليهود أنبياء العرب؛ كـ(هود‪ ،‬وصالح‪ ،‬وشعيب) بحجة َّ‬
‫تتحدث عنهم‪.‬‬
‫أن (العربية) فرع من «لغـة املسند»‪ ،‬انتشرت في‬‫هذا؛ وقد أثبتت دراسات أخرى؛ َّ‬
‫شمال الجزيرة العربية وجنوبها‪ ،‬فـ «لغـة مثـود» فرع من العربية‪ ،‬وكذلك «لغة عـاد»‪،‬‬
‫و«لغـة مديَـن»‪ .‬وقد امتدت هذه اللغة إلى بالد الشام مع القبائل العربية المهاجرة‪،‬‬
‫وإلى العراق‪.‬‬
‫وفي دراسة علمية‪ ،‬بعنوان «اللغة العربية في عصور ما قبل اإلسالم» للباحث‬
‫إن أبجدية «اللهجة الثمودية»‪ ،‬وأبجدية «اللهجة‬
‫أحمد حسين شرف الدين‪ ،‬يقول((( ‪َّ :‬‬
‫موطن واحد‪ ،‬هو موطن شعوب الجزيرة‬
‫ٍ‬ ‫الفينيقية» متشابهتان‪ ،‬مما يشير إلى أنهما من‬
‫ثم يعود أصل جميع اللغات‬‫العربية‪ ،‬وأن اللغة الفينيقية هي أم اللغات الالتينية‪ ،‬ومن َّ‬
‫إلى جذور اللغة العربية‪.‬‬
‫وهذا يؤكد ما أثبتته بعثة فرنسية عام ‪1951‬م في شمال الجزيرة العربية‪ ،‬وهي‬
‫المنطقة التي تعرف بـ(مدائن صالح ﷺ)؛ حيث اكتشفت نقوشاً حجرية وبقايا مساكن‬
‫صخرية مهدومة مكتوبة بالحروف العربية؛ مما يدل على أن لغة قوم ثمود هي العربية‪.‬‬
‫وفي عام ‪1962‬م عثرت بعثة ألمانية على نقوش عربية بجبال(األحقاف) باليمن‪،‬‬
‫منطلق دعوة سيدنا (هـودﷺ)‪ ،‬وهم قوم عاد األولى‪ ،‬الذين ذكرهم القرآن في مواضع‬
‫(((‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫ومعروف أن قوم (عـاد) هم أول من سكنوا األرض بعد الطوفان‪ ،‬فآباؤهم‬
‫وأجدادهم ممن كانوا مع نوح في السفينة‪ .‬وسيدنا (نـوح ﷺ) قريب العهد بأبي‬
‫البشر(آدم) سالم الله عليه‪.‬‬
‫بأن اللغات كلها نشأت من أصل واحد‪ ،‬تلك‬‫يعضد مذهب القائلين‪َّ :‬‬ ‫َّ‬
‫لعل هذا األمر؛ ِّ‬
‫ثم توارثت في ذريته‪.‬‬
‫حدث بها زوجه وأوالده‪َّ ،‬‬
‫اللغة التي كان (أبو البشر) يُ ِّ‬

‫((( اللغة العربية يف عصور ما قبل اإلسالم‪ ،‬أحمد حسين شرف الدين‪.‬‬
‫(( ( جريدة الزمان‪ ،‬ميشال أمين‪ ،‬لندن‪ 2008/3/1 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫أن أصل اللغة «اإلنجليزية» هو العربية؛ لوجود مفردات‬‫وقد اتجه البعض ليثبت َّ‬
‫تحية عبد العزيز إسماعيل‪ -‬في كتابها ‪« :‬العرب ّية‬
‫كثيرة لها أصول عربية ‪ ...‬فالدكتورة ّ‬
‫الفصحى أ ّم اللغات الهندية واألوروبية وأصل الكالم» الذي نشرته باللغة اإلنجليزية‪،‬‬
‫أن ‪ % 80‬من‬ ‫وأكدت َّ‬
‫ْ‬ ‫قالت ‪ :‬إن بحثها هذا هو خالصة جهد استغرق عشر سنوات‪.‬‬
‫عربية‬
‫وأن ‪ % 75‬من أفعال اللغة الالتينية ّ‬ ‫أفعال اللغة السكسونية عربية األصل‪َّ ،‬‬
‫(((‬
‫األصل أيضا ً‪.‬‬
‫أن البحث والتنقيب عن تاريخ «اللغة العربية» لم يبدأ َّ‬
‫إال منذ عهد قريب‬ ‫ال جرم َّ‬
‫العربية المستشرق‬
‫ّ‬ ‫نسبياً‪ ،‬ربما مع بداية موجة االستشراق‪ .‬فقد زار جنوب الجزيرة‬
‫الدنماركي «كارستن نيبور» سنة ‪1761‬م‪ ،‬وجاء المستشرق الفرنسي «جوزيف توماس‬
‫ثم‬
‫آرنود» سنة ‪1843‬م‪ ،‬وبعده المستشرق الفرنسي «جوزيف هاليفي» سنة ‪1869‬م‪َّ ،‬‬
‫المستشرق النمساوي «إدوارد جالزر» سنة ‪1882‬م‪ .‬كما زار شمال الجزيرة العربية‬
‫المستشرق البريطاني «تشارلز دوتي» سنة ‪1877‬م‪ ،‬وتاله المستشرق الفرنسي‬
‫ثم الفرنسيان «جوسن» و«سافيناك» سنة ‪1907‬م‪،‬‬ ‫«تشارلز هوبر» سنة ‪1884‬م‪َّ ،‬‬
‫وبعدهما اإلنجليزي «أويس موسل» سنة ‪1910‬م‪.‬‬
‫وكان القنصل األلماني في سورية «ج‪ .‬ويتزتن» أول من اكتشف نقوش اللغة‬
‫ثم درسها‬‫الصفائية (النسبة إلى الصفائيين العرب) سنة ‪1858‬م جنوب شرقي دمشق‪َّ ،‬‬
‫وكتب عنها العالم البلجيكي «ريني دوزود» في كتابه‪« :‬العرب يف سوريا قبل اإلسالم»‪.‬‬
‫هكذا توالت وفود المستشرقين نحو جزيرة العرب‪ ،‬تحت أهداف مختلفة‪،‬‬
‫ونشطت الجامعات الغربية في القرن العشرين‪ ،‬مثل‪ :‬جامعة «هوبكنز» األمريكية‪،‬‬
‫ومعهد «سميشونيان» بواشنطن‪ ،‬وجامعة تورنتو‪ ،‬وجامعة لندن‪ ،‬ومتحف «آرهاس»‬
‫الدنماركي‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫تمتد‪ ،‬والحفريات عن التاريخ‬
‫ثم أخذت األبحاث االستشراقية تتوالى‪ ،‬والدراسات ّ‬‫َّ‬
‫كتاب سنة‬
‫ٌ‬ ‫غويدي»‬ ‫«إغناطيوس‬ ‫اإليطالي‬ ‫للمستشرق‬ ‫فصدر‬ ‫العرب‪،‬‬ ‫أرض‬ ‫في‬ ‫تزداد‬
‫حمي»‪.‬‬
‫‪1934‬م‪ ،‬بعنوان‪« :‬املخترص يف لغة َ‬
‫والسبئية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫المعينية‬
‫َّ‬ ‫وقد أصدرت جامعة القاهرة عدداً من النشرات عن النقوش‬

‫((( العربية بني مكر األعداء‪ ،‬وجفاء األبناء‪ ،‬عدنان النحوي‪ ،‬الرياض‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫ثم‬
‫وصدر ألحمد حسين شرف الدين كتاب عن «لغة المسند» سنة ‪1968‬م‪َّ ،‬‬
‫صدرت له كتب أخرى حول هذه الموضوعات مثل كتاب‪« :‬اللغة العربية يف عصور ما‬
‫قبل اإلسالم»‪.‬‬
‫يقول أحمد شرف الدين‪ :‬تعد جذور اللغة العربية هي جذور (اللغات السامية)‬
‫ـ السامية هي اللغة األصلية في الجزيرة العربية ـ وهي كذلك جذور (لغة المسند)‬
‫وهي إحدى اللغات السامية‪ .‬علماً َّ‬
‫بأن اللغات السامية‪ ،‬هي‪« :‬الكنعانية واآلرامية‬
‫واألثيوبية والكوشية واألكادية»‪ .‬فالفصحى فرع من لغة المسند‪ .‬وقد ازدهر هذا‬
‫الفرع‪ ،‬وترعرع خالل القرون الثالثة قبل البعثة النبوية الشريفة‪.‬‬
‫أن (لغة المسند) في الجزيرة العربية‪ ،‬لها عدة لهجات‪ ،‬كاآلتي‪:‬‬
‫جدير بالذكر؛ َّ‬
‫‪1.1‬لهجات جنوب الجزيرة العربية ‪:‬‬
‫ ‪ .‬ألهجة المعينية‪ :‬لهجة منطقة الجوف باليمن قبل القرن الخامس عشر ق‪ .‬م‪.‬‬
‫(‪5‬‬ ‫ ‪ .‬باللهجة السبئية‪ :‬لهجة شرق اليمن ما بين (القرن ‪ )15‬ق‪ .‬م حتى‬
‫بعد الميالد)‪.‬‬
‫الحضرمية‪ :‬لهجة جنوب شرقي الجزيرة العربية‪ ،‬وما زال السكان‬
‫َّ‬ ‫ ‪ .‬جاللهجة‬
‫هناك ينطقونها‪.‬‬
‫القتبانية‪ :‬لهجة قبيلة القتباني التي كانت تسكن منطقة شرق‬
‫َّ‬ ‫ ‪ .‬داللهجة‬
‫اليمن‪ ،‬التي تعرف اليوم بـ «بيحان»‪.‬‬
‫‪2.2‬لهجات شامل الجزيرة العربية‪:‬‬
‫المعينية الشمالية ‪ :‬لهجة القبائل التي نزحت من جنوب اليمن في‬
‫ّ‬ ‫ ‪ .‬أ‬
‫تسمى حالياً «العالء»‪.‬‬
‫عصور مبكرة‪ ،‬واستوطنت واحة الدادان التي ّ‬
‫الدادانية ‪ :‬لهجة مملكة عربية قديمة قامت بالعالء‪ ،‬شمال غربي الجزيرة‬
‫ّ‬ ‫ ‪ .‬ب‬
‫العربية‪ ،‬وقد نشأت قبل القرن السادس‪.‬‬
‫اللحيانية ‪ :‬لهجة شعب اللحياني الذي كان يسيطر على األرض الممتدة‬
‫ّ‬ ‫ ‪ .‬ج‬
‫غربي النفود‪ ،‬من شمال يثرب إلى ما يحاذي خليج العقبة‪ ،‬من القرن‬
‫الرابع ق‪ .‬م حتى القرن الثاني بعد الميالد‪.‬‬
‫ ‪ .‬دالثمودية ‪ :‬لهجة قبيلة ثمود التي عاشت شمال الجزيرة العربية‪،‬‬
‫من الجوف شماالً إلى الطائف جنوباً‪ ،‬ومن اإلحساء شرقاً إلى يثرب‬

‫‪- 27 -‬‬
‫وأرض مديَن غرباً‪ ،‬وفي المسالك المؤدية إلى العقبة واألردن وسورية‪،‬‬
‫وحتى أرض حضرموت من جنوب الجزيرة العربية‪ .‬ومن المحتمل أن‬
‫يكون (الثموديون) يمثلون السكان األصليين لشمال الجزيرة العربية‪.‬‬
‫خصهم بالذكر لهذا السبب‪ ،‬دون ذكر اللحيايين‬ ‫َّ‬
‫ولعل القرآن الكريم َّ‬
‫والدادانيين واألنباط وغيرهم‪.‬‬
‫ ‪ .‬هالصفائية ‪ :‬نسبة إلى «الصفائيين» العرب الذين أقاموا بجبل الصفا جنوب‬
‫شرق دمشق‪ ،‬منذ القرن الثاني والثالث ق‪ .‬م‪ .‬وكان القنصل األلماني أول‬
‫من اكتشف نقوشها سنة ‪ 1858‬م‪.‬‬
‫ومن الطبيعي أن يطرأ على لغة «المسند» من التطور ما يمكن أن يطرأ على‬
‫سائر اللغات‪ ،‬السيما بعد انتشارها في شعوب مختلفة كاألنباط العرب واآلراميين‪.‬‬
‫وكان نتيجة نم ّو نفوذ األنباط وامتداده إلى مسالك التجارة في الشمال‪ ،‬أن قويت‬
‫لغة «المسند»‪ ،‬وامتدت إلى سورية ولبنان وفلسطين واألردن والعراق‪ ،‬وازداد نموها‬
‫وتطورها مع امتدادها ما بين القرن الثالث ق‪ .‬م إلى القرن السادس بعد الميالد‪ ،‬حتى‬
‫بلغت العربية الفصحى أعلى مراحل نضجها ‪ ..‬فاختارها الله –سبحانه‪ -‬آلخر رساالته‪،‬‬
‫ووحيه للعالمين‪.‬‬
‫أجل‪ .‬لقد بلغت (العربيــة) ذروة نضجها وتطورها في عصر نزول الوحي‪ ،‬بعد أن‬
‫غنية‬ ‫وشعراً‪ ،‬حتى َّ‬
‫تظل ‪-‬لغة التنزيل‪ -‬ثابتة القواعد والبيان‪َّ ،‬‬ ‫استقرت بياناً وقواعد‪ ،‬نثراً ِ‬
‫َّ‬
‫مفص ً‬
‫ال ّبينا للعالمين‪.‬‬ ‫يسراً ِّ‬
‫للذكر‪َّ ،‬‬ ‫كل ال ِغ َنى‪َّ ،‬‬
‫ليظل القرآن الكريم ُم َّ‬
‫بأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين‪.‬‬
‫ُلح َّ‬
‫ولذلك توالت اآليات الكريمة التي ت ُّ‬
‫تيسر القرآن على هذا النحو البديع‪.‬‬
‫ولوال استقرار «العربيـة» بقواعدها؛ لما كان َّ‬
‫وبالفعل؛ فمازالت قواعد البيان القرآني‪ ،‬ثابتة مألوفة في شتى أنحاء األرض‪ ،‬على‬
‫تميزت (العربية) بخصائص االستقرار والصفاء‪ ،‬حتى ّ‬
‫يظل «القرآن»‬ ‫بل ّ‬ ‫مدى العصور‪ْ .‬‬
‫حجته‪.‬‬
‫يحمل خصائص إعجازه‪ ،‬وخصائص بالغته‪ ،‬وق ّوة ّ‬
‫كما عرفت قواعدها صافية منذ بكور نشأتها‪ ،‬وعرفت نحوها وصرفها ‪-‬كذلك‪ -‬في‬
‫أجوائها النقية‪ ،‬فعرفت المفرد والمثنى والجمع‪ ،‬والمذكر والمؤنث‪ ،‬وضمائر الغائب‬
‫المعرف باأللف والالم‪،‬‬
‫والمتكلم والمخاطب‪ ،‬واسم اإلشارة واالسم الموصول‪ ،‬واالسم َّ‬
‫والضمير المتصل والضمير المنفصل وأنواعهما‪ ،‬واسم الزمان واسم المكان‪ ،‬والنعت‪،‬‬
‫والمجرد من األفعال والمزيد‪ ،‬إلى غير ذلك‪ ،‬وأبصرهـم فسوف يبصـرون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واألعداد‪،‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫أم لغة قريش؟‬
‫"الفصحى" لغة العرب ْ‬
‫أن اللغات القديمة كانت متشابهة إلى حد إمكانية‬‫يعتقد علماء األنثربولوجيا َّ‬
‫التفاهم بها‪ ،‬فاإلسرائيليون الذين عاشوا في التيه أربعين عاماً‪ ،‬تفاهموا مع جيرانهم‬
‫إلى حد ما‪.‬‬
‫النبي سليمان بن داود (ع)‪ ،‬والمكاتبات بينهما تمت‬ ‫وزيارة الملكة بلقيس إلى ّ‬
‫دون ترجمة‪ .‬ومثل هذا‪ ،‬يمكن أن يقال عن رحالت إبراهيم الخليل (ع) المتعددة‬
‫أن إمكانية التفاهم في‬ ‫ومكـة‪ ،‬مما يؤكد َّ‬‫إلى عدد من البالد كالشام والعراق ومصر َّ‬
‫العالم القديم لم تكن مستحيلة‪ .‬باإلضافة إلى رحالت العرب التجارية إلى جيرانهم‪،‬‬
‫وإلى الهجرة األولى لبعض المسلمين إلى الحبشة‪ .‬فاللغات كلها ترجع إلى أصل واحد‬
‫ثم توزعوا في األرض‪،‬‬‫‪-‬كما ذكرنا آنفاً‪ -‬فـ"العربية" كاألم التي أنجبت كثيراً من األبناء‪َّ ،‬‬
‫واختلفت لهجاتهم تباعاً‪ .‬والرأي السائد أنه كانت هناك جاهلية أولى وجاهلية ثانية‪،‬‬
‫فاألولى تبدأ بابتداء البشرية حتى القرن الخامس الميالدي‪ ،‬والثانية تمتد من القرن‬
‫الشعر القديم‪،‬‬
‫الخامس الميالدي إلى ظهور اإلسالم‪ ،‬وهي الفترة التي أوصلت لنا ِّ‬
‫والتي يصل بها الجاحظ إلى مائة وخمسين عاماً‪ ،‬أ ْو مائتين عام قبل اإلسالم‪ْ .‬‬
‫وإن كان‬
‫عبر عنه أبو عمرو بن العالء بقوله‪“ :‬ما انتهى إليكم مما قالته‬ ‫الذي وصل لنا قليل‪َّ ،‬‬
‫وشعر كثير"‪.‬‬‫إال أقله‪ ،‬ول ْو جاءكم وافراً لجاءكم عِلم ِ‬
‫العرب َّ‬

‫الفترتين األولى والثانية‪ ،‬فالعرب لم يكونوا‬


‫ْ‬ ‫وقد تعرض القرآن الكريم لهم في‬
‫في عزلة عمن حولهم سياسياً واقتصادياً بالقياس إلى األمم األخرى‪ ،‬مما يترتب عليه‬
‫رئيسة هي‬ ‫التفاهم بنقاط االتصال التي كانت بين اللغات القديمة‪ ،‬وفيما بينهم بلغة َ‬
‫“لغة قريش"‪ ،‬وعدد من اللهجات‪ .‬وإذا كانت العربية تعرف بلغة قريش‪ ،‬فذلك يرجع‬
‫إلى مكانة القبيلة بين العرب‪ ،‬ولمكانة الرسول ﷺ منها‪ .‬لكن يمكن القول‪ :‬بأنها‬
‫حض الرسول ﷺ على القراءة‬ ‫إال بعد مجيء اإلسالم‪ ،‬فقد َّ‬ ‫تدون تدويناً واضحاً َّ‬
‫لم َّ‬
‫والكتابة بالعديد من األحاديث‪ ،‬وبمختلف األساليب‪ .‬وكان أن اتسعت دائرة ( ُك َّتاب‬
‫الوحي) إلى دائرة تعرف باسم (ال ُق ّراء)‪ ،‬وفداء األسير في مقابل تعليمه لعشرة من‬
‫الصبيان‪ ،‬باإلضافة إلى ُك ّتاب الرسائل والمعاهدات‪.‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫َّ‬
‫ولعل المراد بـ"قرشية اللغة"‪ ،‬ليس إلغا ًء لدور القبائل العربية األخرى‪ ،‬فالمصطلح‬
‫إسالمي وعاطفي –كما ذهب ابن فارس في كتابه (الصاحبي يف فقه اللغة)‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫"كانت قريش مع فصاحتها‪ ،‬وحسن لغتها‪ ،‬ورقة ألسنتها‪ ،‬إذا أتتهم الوفود من العرب‬
‫تخيروا من كالمهم وأشعارهم أحسن لغاتهم‪ ،‬وأصفى كالمهم‪ ،‬فاجتمع مما تخيروا‬
‫من تلك اللغات إلى نحائزهم وسالئقهم‪ ،‬التي ُطبِعوا عليها‪ ،‬فصاروا بذلك أفصح العرب‪،‬‬
‫أالَ ترى أنك ال تجد في كالمهم عنعنة تميم‪ ،‬وال عجرفية قيس‪ ،‬وال كشكشة أسد‪ ،‬وال‬
‫(((‬
‫كسكسة ربيعة‪ ،‬وال الكسر الذي تسمعه من أسد وقيس‪ ،‬مثل‪ :‬تِعلمون بكسر التاء"‪.‬‬

‫إن عملية التنقية واالختيار من لغات العرب‪ ،‬لم تكن فقط في موسم الحج‪،‬‬ ‫ثم َّ‬
‫َّ‬
‫الشعر والنثر‪،‬‬
‫وفي أسواق العرب؛ التي كان العرب يتوافدون عليها للتسوق ولسماع ِّ‬
‫والحكم عليهما‪ ،‬فما تزال هذه األسواق باللغة نخ ً‬
‫ال واصطفا ًء‪ ،‬حتى يتبقى األنسب‬
‫األرشق‪ ،‬ويطرح المجف ّو الثقيل‪.‬‬

‫إال أنها لم يكن لها دور‬ ‫أن قريشاً مع عل ّو شأنها في الفصاحة‪َّ ،‬‬
‫ومن المعروف؛ َّ‬
‫كبير في “اإلبداع"‪ ،‬فالنصوص األدبية الرفيعة لغير قريش‪ ،‬وقد علَّ َل "ابن َّ‬
‫سالم" هذا‪،‬‬
‫ولم يحاربوا‪ ،‬كان هذا في الوقت الذي تعالت فيه أصوات‬ ‫بأنه لم يكن بينهم ثائرة ْ‬
‫إن النحاة‬ ‫إمارتي‪ :‬المنذرة والغساسنة‪ْ ،‬‬
‫بل َّ‬ ‫ْ‬ ‫المبدعين في أكثر من مكان‪ ،‬وبخاصة في‬
‫جعلوا للفصاحة حدوداً وأقواماً‪ ،‬ولم يقصروا األمر على قريش‪ ،‬فالتركيز كان على‬
‫(قيس‪ ،‬وتميم‪ ،‬وأسد‪ ،‬وطي‪ ،‬ثم هذيل) فهؤالء هم معظم من نقل عنه لسان العرب‪.‬‬

‫َّأما عن ِس ّر فصاحة الرسول ﷺ وبالغته؛ فقد أرجعها العلماء إلى أنه ولَِد في بني‬
‫رض َع في بني سعد‪ ،‬وتزوج من بني أسد‪ ،‬وهاجر إلى بني‬ ‫هاشم‪ ،‬ونشأ في قريش‪ ،‬واس ُت ِ‬
‫عمرو‪ ،‬وهم األوس والخزرج‪.‬‬

‫حدد أبو حاتم السجستاني القبائل التي نزل القرآن بلغتها‪ ،‬وهي‪( :‬قريش‪،‬‬
‫وقد َّ‬
‫وتميم الرباب‪ ،‬واألزد‪ ،‬وربيعة‪ ،‬وهوازن‪ ،‬وسعد بن بكر)‪.‬‬

‫علي بن أبي طالب أنه قال‪" :‬نزل القرآن بلسان قريش‪ ،‬وليس‬
‫وي عن اإلمام ّ‬ ‫وقد ُر َ‬
‫النبي ما أهمزنا"‪.‬‬
‫بأصحاب نرب‪ ،‬ولوال أنَّ جربيل نزل بالهمز عىل ّ‬

‫((( أهمية تعلّم اللغة العربية‪ ،‬د‪.‬عبده بدوي‪ ،‬حوليات كلية اآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬الحولية السادسة عشرة‪ 1416 ،‬هـ‪.‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫يفرق بين القرآن المنزل على األلسنة والقرآن المنزل على‬
‫لكن "ابن عربـي" ِّ‬
‫وإن‬
‫"إن الذي ينزل القرآن على قلبه‪ ،‬ينزل بالفهم‪ ،‬فيعرف ما يقرأ‪ْ ،‬‬
‫األفئدة‪ ،‬فيقول‪َّ :‬‬
‫وإن كانت تلك األلفاظ ال يعرف معانيها في‬
‫كان بغير لسانه‪ ،‬ويعرف معاني ما يقرأ‪ْ ،‬‬
‫غير القرآن‪ ،‬ألنها ليست بلغته‪ ،‬ويعرفها في تالوته‪ ،‬إذا كان ممن ينزل القرآن على‬
‫قلبه عند التالوة"‪.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫أم لغة الظاء؟‬
‫لغة الضاد ْ‬
‫(لغـة الضـاد) هو االسم الدارج‪ ،‬والموصوفة به اللغة العربية‪ .‬وقد اتفق طائف ٌة‬
‫المتقدمين؛ بخصوصية حرف (الضـاد) بالعرب‪ ،‬دون سائر األمم‪ .‬وقد أطلقوه على‬ ‫ِّ‬ ‫من‬
‫أن هناك لغات أخرى بها حرف (الضاد)‪.‬‬ ‫لغتهم‪ ،‬فيما نَ َف ْت طائفة أخرى ذلك‪َّ ،‬‬
‫بحجة َّ‬
‫الرأيين‪،‬‬
‫أن العربية لغة (الظـاء)‪ .‬وقد ذهبت طائفة ثالثة إلى التوفيق بين ْ‬ ‫والصواب َّ‬
‫أن وجود (الضاد) في لغات متعددة‪ ،‬ال ينفي تميز (العربية) به‪ ،‬ألسباب‬ ‫واعتبرت َّ‬
‫كثيرة وموضوعية‪.‬‬
‫وهنا نبسط القضية للنقاش‪ ،‬ونعرض مختلف اآلراء‪ ،‬لنقف على الحقيقة ‪:‬‬
‫الفريـق األول ‪:‬‬
‫بأن (الضاد) من خصوصية العربية وحدها‪ ،‬أ ْو كما قال صاحب «القاموس‬
‫الفريق القائل َّ‬
‫المحيط»‪« :‬الضاد حرف هجاء للعرب خاصة‪ ،‬وال توجد في كالم العجم إ َّال في القليل»‪.‬‬
‫المتنبي؛ بأنها للعرب خاصة‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ويستشهدون بما جاء في قول أَبي الطيب‬
‫فخرت ال بجـدودي‬
‫ُ‬ ‫رشفت ْبل رشفـوا يب وبنفيس‬
‫ُ‬ ‫ال بقومـي‬
‫وبهم فخر كل من نطق الضــا َد وعوذ الجاين وغـوث الطريـد‬
‫تبناه البعض‬ ‫الرأي َّ‬‫وذهبوا إلى أنها ‪ -‬الضاد ‪ -‬من خصائص اللهجة ال ُق َر ِش َّية‪ .‬وهذا َّ‬
‫وسلِمت‬ ‫والر َّقة‪َ ،‬‬
‫تميزت عن سائر اللهجات العربية بالوضوح ِّ‬ ‫أن لغة قريش َّ‬ ‫من ُم َ‬
‫نطلَق َّ‬
‫من الْتباس مخارج الحروف‪ ،‬واختالط بعضها ببعض؛ فليس فيها شي ٌء من تلك الحروف‬
‫حرفين من الحروف‬ ‫ستقبح ٌة‪ ،‬وال الحروف التي مخرجها بين ْ‬ ‫التي ذكر اللُّغويُّون أنها ُم َ‬
‫ولعل سبب‬ ‫فتتميز بالخشونة و َمزج الحروف ببعضها‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫الفصيحة‪َّ .‬أما اللّهجات األخرى‪،‬‬
‫روي من ِسمات الحضارة‪ ،‬وال َع َفويَّة‬ ‫والت ِّ‬
‫ذلك طبيعة الحياة الحضرية المكية‪ ،‬فالتأنُّق َّ‬
‫والسرعة من َخالئق البادية‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫الساميات‪ :‬صوت‬‫غير في عد ٍد من َّ‬ ‫إن من بين األصوات التي كانت عرض ًة َّ‬
‫للت ُّ‬ ‫ويقولون ‪َّ :‬‬
‫الضاد؛ فهي تقاب ُ‬
‫ِل‪« :‬العين في اآلرامية»‪ ،‬و«تُقابل‪ :‬الصاد في اللغات األكادية واألوجاريتية‬

‫‪- 32 -‬‬
‫والعبرية؛ فكلمة‪« :‬أرض» في العربية تُقابل‪ :‬كلم َة «‪ »ersetu‬في األكادية‪ ،‬وكلمة‪»ars« :‬‬
‫في األوجاريتية‪ ،‬وكلمة «‪ »eres‬في العبرية‪ ،‬كما تُقابل الضا ُد َغي ًنا في ُّ‬
‫السريانية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫تبق ضا ًدا إ َّال في العربية الشمالية والعربية الجنوبية‬
‫ولم َ‬
‫«‪ »ara‬بمعنى «أرض» كذلك‪ْ ،‬‬
‫والح َبشية‪ ،‬مثل كلمة‪ »rd« :‬في العربية الجنوبية بمعنى «أرض»‬ ‫«السبئِية وال َمعِينية» َ‬
‫َّ‬
‫تحولت َّ‬
‫الضاد‬ ‫كذلك‪ ،‬وكلمة «‪ »dahny‬بمعنى‪« :‬الشمس‪ ،‬الضحى» في الحبشية»‪ ،‬وهكذا َّ‬
‫وإما إلى عين‪.‬‬
‫وإما إلى غين‪َّ ،‬‬
‫في غير العربية؛ َّإما إلى صاد‪َّ ،‬‬
‫تفسيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الصوتية‬
‫غير األخير في صوت الضاد من أصعب التحوالت َّ‬ ‫الت ُّ‬
‫عد هذا َّ‬ ‫ويُ ُّ‬
‫أساسا إلى خصائص تميزه‪ ،‬جعلت نُط َقه‬ ‫ترجع ً‬
‫ُ‬ ‫وت الضاد‬
‫لحقت َص َ‬ ‫التغيرات التي ِ‬ ‫تلك ُّ‬
‫ِرة على‬ ‫ال عن غيرها‪ .‬لذا؛ بدت األفوا ُه المقتد َ‬ ‫عسيرا على عامة األلسن السامية‪ ،‬فض ً‬ ‫ً‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫األلسن القليلة التي تنطقه؛ صار وصف (لغة‬ ‫ِّ‬
‫ميزةً‪ ،‬ولكون اللسان العربي من ُ‬ ‫صناعته ُم َّ‬
‫غدا يُن َع ُت أهلُها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫العربيةِ‪ ،‬فإذا أطلق لم يَنص ِرف َّ‬
‫إال إليها‪ ،‬وبه َ‬ ‫الضاد) َعلَ ًما على‬
‫َّ‬
‫إن العرب ال يجدون صعوبة في نطق صوت الضاد‪ ،‬مقارنة بغيرهم‬ ‫وقالوا أيضاً‪َّ :‬‬
‫والمحدثين؛ يقول‬
‫َ‬ ‫الدارسين من القدامى‬
‫التعليل ذهب أكثر َّ‬ ‫من الشعوب‪ ،‬وإلى هذا َّ‬
‫غير موجود ‪-‬حسبما‬ ‫جدا‪ُ ،‬‬ ‫(برجشتراسر ‪" :)Bergsträsser‬الضاد العتيقة ٌ‬
‫حرف غريب ًّ‬
‫أعرف‪ -‬في لُغ ٍة من اللغات َّ‬
‫إال العربية؛ ولذلك كانوا يكنون عن العرب بالناطقين الضاد"‪.‬‬
‫عصي َة‬
‫ويؤيِّده في ذلك إبراهيم أنيس‪ ،‬بقوله‪" :‬يظهر أن الضاد القديمة كانت َّ‬
‫النطق على أهالي األقطار التي فتحها العرب‪ ،‬أو حتى على بعض القبائل العربية في‬ ‫ُّ‬
‫والمراد بالضاد القديمة‬
‫يفسر تلك التسمية القديمة لغة الضاد"‪ُ .‬‬ ‫شبه الجزيرة‪ ،‬مما ِّ‬
‫المتدا َولَة اليوم‪ ،‬والَّتي تُنطق‬
‫هنا‪ :‬تلك الموصوفة في كتب القدامى‪ ،‬في ُمقابل الحديثة ُ‬
‫بكيفيات تختلف باختالف البيئات‪.‬‬
‫ِسب مصادر الكلمات‬ ‫وقد انتهى حسن عباس ـ بعد بحث استقرائي طويل في ن َ‬
‫أن‪" :‬صوت الضاد بفخامته ونضارته و ُغ َّنته‪ ،‬إنما هو أوحى‬ ‫الضادية ودالالتها ـ إلى َّ‬
‫أن‬
‫أدل على ذلك من َّ‬ ‫والشمم‪ ،‬وال َّ‬ ‫الشهامة والمروءة َّ‬ ‫أصوات الحروف قاطب ًة بمشاعر َّ‬
‫أش ُّد أصوات َّ‬
‫الط َرب‬ ‫التجويف األنفي‪ ،‬إنما هي َ‬ ‫األصوات الغنائية التي تعتمد في ُغ َّنتها َّ‬
‫ِ‬
‫تستح ُّق‬ ‫النبيلة‬
‫ِثل هذه المشاعر َّ‬ ‫ومية ‪ ..‬وم ُ‬
‫والرجولة والعواطف ال َق َّ‬ ‫النخ َوة ُّ‬
‫إثار ًة لمشاعر َّ‬
‫(((‬
‫بصوت يح ِملُها" ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫النطق‬ ‫حم ُل لِسانُه َم َّ‬
‫شقة ُّ‬ ‫في نظر العربي أن يُ َّ‬

‫((( علوم اللسانيات‪ ،‬مجلة عامل الفكر‪ ،‬الكويت‪1994 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫تفر َد العرب بصوت الضاد‪ ،‬إنما هو بكثرة‬ ‫أن ُّ‬‫وترى طائفة من أنصار هذا الفريق؛ َّ‬
‫“ستة أحرف انفردت بكثرة‬ ‫مكي بن أبي طالب‪َّ :‬‬ ‫االستعمال ال بمطلَق االستعمال‪ .‬يقول ُّ‬
‫العرب‪ ،‬وهي قليلة في لغات العجم‪ ،‬وال توجد ألبتة في لغات كثير منهم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫استعمالِها‬
‫الستة يكثُر دورانُها‬ ‫وهي‪( :‬العين‪ ،‬والصاد‪ ،‬والضاد والقاف‪ ،‬والظاء‪ ،‬والثَّاء) فهذه األصوات َّ‬
‫األلسن البشريَّة‪ ،‬ال أنها مفقود ٌة منها بالكلِّ َّية‪.‬‬
‫في اللسان العربي ُمقارن ًة بغيره من ُ‬
‫الفريـق الثانـي ‪:‬‬
‫بل تشاركها فيه لغات‬‫بأن (الضاد) ليست ِحكراً على العربية‪ْ ،‬‬
‫يرى هذا الفريق َّ‬
‫وأن مما اختصت به لغة العرب من الحروف وليس هو في غيرها؛ حرف (الظـاء)‪.‬‬
‫عديدة‪َّ ،‬‬
‫من هذا الفريق “ابن ُد َريد" الذي يقول‪“ :‬ستة أحرف للعرب‪ ،‬ولقليل من العجم؛‬
‫وهي‪( :‬العين‪ ،‬والصاد‪ ،‬والضاد‪ ،‬والقاف‪ ،‬والطاء‪ ،‬والثاء)‪.‬‬
‫أن الضاد قليلة في لسان العجم ال معدوم ٌة‪ ،‬وقد َّ‬
‫تبنى رأيَه هذا‬ ‫يقرر َّ‬
‫فابن ُد َريد ِّ‬
‫الرأي األخير‬
‫يده‪ ،‬وابن منظور)‪ .‬ولهذا َّ‬ ‫جمع‪ ،‬منهم‪( :‬ابن ِج ِّني‪ ،‬وابن فارس‪ ،‬وابن ِس َ‬ ‫ٌ‬
‫وعز الدين ابن جماعة‪،‬‬ ‫النحوي‪ِّ ،‬‬ ‫حيان َّ‬‫الم َح ِّققين؛ من أمثال‪ :‬أبي َّ‬ ‫انتصر طائف ٌة من ُ‬
‫المشتغِلون بعلم‬ ‫توص َل إليه ُ‬‫وعلي بن محمد الصفاقسي‪ .‬وهذا المذهب يتوافق مع ما َّ‬ ‫ِّ‬
‫أن مقولة‪“ :‬العربية لغة الضاد" ليست‬ ‫اللغات المقارن؛ فإنهم يكادون يُج ِم ُعون على َّ‬
‫َ‬
‫بعضهم إلى تأكيد ُوجو ِد صوت الضاد أ ْو أثَ ٍر منه في اللُّغات‬ ‫دقيقة تما ًما‪ .‬وقد مال ُ‬
‫تقدمت بها‬‫الرائدة في هذا المجال‪ :‬الدراسة التي َّ‬ ‫السامية األخرى‪ ،‬ومن البحوث َّ‬ ‫َّ‬
‫والستين‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫"سلوى ناظم" إلى مؤتمر َمجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورته الخامسة‬
‫ُقرر‪" :‬أن الضاد التي وصفها القدامى لها‬ ‫بعنوان‪" :‬العربية لغة الضاد أ ْم الظاء؟‪ ،".‬وفيها ت ِّ‬
‫الساميات‪.‬‬
‫وجو ٌد في اللغات الحبشية"‪ ،‬وهي من ُجملة َّ‬
‫على جانب آخر؛ يقول الدكتور عبد الرحمن السليمان‪ ،‬الباحث في اللغات‬
‫إن "حرف الضاد كان موجوداً في كل اللغات السامية‪َّ ،‬‬
‫إال أنها كلها أهملته‪،‬‬ ‫السامية‪َّ :‬‬
‫بل دمجته بالدال تارة‪ ،‬والظاء تارة أخرى‪َّ ،‬‬
‫إال العربية الشمالية والعربية الجنوبية‬ ‫ْ‬
‫(الحميرية والحضرمية والقتبانية والسبئية) والعربية الوسطى (اللحيانية والثمودية)‪،‬‬
‫باإلضافة إلى األوغاريتية والحبشية‪.‬‬
‫وأما في العبرية فاندمج هو والظاء مع حرف الصاد‪ .‬وأصوات العربية هي األصل في‬ ‫َّ‬
‫(((‬
‫الدراسات السامية‪ ،‬وهنالك إجماع تام بشأن ذلك بين المشتغلين باللغات السامية‪.‬‬

‫((( الثبات اللغوي ومعضلة املصطلحات‪ ،‬محمد مختار‪ ،‬دار المعرفة‪2003 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫وقد أشار الفقيه التونسي ابن عزوز‪ ،‬في مقطوعة له يصف لفظ الضاد ‪:‬‬
‫الضاد مخرجه بحافـــة ِمقول ُينى أو اليرسى بغري عنـــاء‬
‫التفش دقــــة البصـــراء‬
‫ّ‬ ‫الضاد مضبوط متني ما رأت فيه‬
‫ثم امتياز الضـاد سـهل عند مـن عانـاه بالتلقن واإللقــــاء‬
‫ومن الخطأ يف الضاد يُلفظ حرفه داالً مفخــم ًة مع استعالء‬
‫العربية‪،‬‬
‫الصوتية للغة َّ‬‫َّ‬ ‫الخصوصي َة‬
‫َّ‬ ‫المتقدمين الحظوا هذه‬
‫ِّ‬ ‫أن‬
‫وذهب هذا الفريق؛ إلى َّ‬
‫ص‬ ‫بأن صوت (الظاء) ُمخ َت ٌّ‬ ‫صرحوا َّ‬
‫وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي من األوائل الذين َّ‬
‫ال‪" :‬وليس في شي ٍء من األلسن‬ ‫قتص ٌر عليها؛ فقد َص َّرح في مقدمة "العين" قائ ً‬
‫بالعربية ُم ِ‬
‫وكرر هذا المعنى في موضع آخر من الكتاب عينِه بقوله‪" :‬والظاء عربية‬ ‫ظا ٌء غير العربية"‪َّ ،‬‬
‫يصر ُح مكي بن‬ ‫أحدا من العجم‪ ،‬وسائر الحروف اشتركوا فيها"‪ .‬وبمثل قول الخليل ِّ‬ ‫لم ت َ‬
‫ُعط ً‬
‫بل قد نقل أبو عم ٍرو‬ ‫وغير وا ِحدٍ‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫حيان النحوي‪ُ ،‬‬ ‫َ‬
‫ابن أبي األح َوص‪ُ ،‬‬‫وشيخه ُ‬ ‫أبي طالب‪ ،‬وأبو َّ‬
‫أن العرب ُخ َّصت بحرف‬ ‫الداني اإلجما َع في هذه المسألة؛ فقال‪" :‬أجمع علماء اللُّغة على َّ‬
‫الضاد‪.‬‬ ‫الظاء دون سائر األمم‪ ،‬لم يتكلَّم بها غيرهم"‪ .‬فعلى هذا تكون العربية لغ َة َّ‬
‫الظاء ال َّ‬
‫ص بهما العرب دون‬ ‫ويُضيف ابن ُد َريد الحا َء إلى الظاء؛ فيقول‪" :‬حرفان ُمخ َت ٌّ‬
‫ِره ابن فارس‪ ،‬وال َقل َقشندي‪ ،‬دون أن يُشيرا إلى نزاع َمن‬‫الخلْق‪ ،‬وهما الحاء والظاء"‪ ،‬ويُق ُّ‬
‫َ‬
‫نفسه الذي أع َقب مقالته السابقة بقوله‪:‬‬‫خصوصية الحاء‪ ،‬كما فعل ابن ُدريد ُ‬ ‫َّ‬ ‫نازع في‬
‫وحدها‬
‫الظاء َ‬ ‫وأن َّ‬
‫والحبشية كثيرةٌ‪َّ ،‬‬ ‫السريانية والعِبرانية َ‬
‫أن الحاء في ُّ‬ ‫"وزعم آخرون َّ‬
‫َمقصور ٌة على العرب"‪.‬‬
‫السريانية‪ ،‬وفي‬‫واب؛ فالحاء موجود ٌة في األبجدية األوغاريتية‪ ،‬وفي ُّ‬
‫الص ُ‬
‫وهذا هو َّ‬
‫واآلرامية واآلشورية‪ ،‬ولغات جنوب الجزيرة‪ ،‬والحبشة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫العبرية‬
‫نعت اللغة العربية بأنها لغة الظا ُء أَولى من‬
‫إن َ‬ ‫تقدم‪ ،‬يُمكن ُ‬
‫القول‪َّ :‬‬ ‫فمن مجموع ما َّ‬
‫نعتِها بكونها لغ َة الضاد‪ .‬يقول كمال بشر‪" :‬هناك إشارات متناثرة في أعمال السابقين‬
‫أن صوت الظاء "ال الضاد" هو الخاص بالعربية"‪.‬‬
‫ُؤكد َّ‬ ‫والخالفين‪ ،‬تشير ْ‬
‫بل ت ِّ‬

‫الفريـق الثالـث‪:‬‬
‫بأن (الضاد) المقصودة؛‬
‫السابقين؛ ويقولون‪َّ :‬‬
‫ْ‬ ‫الرأيين‬
‫هذا الفريق يحاول التوفيق بين ْ‬
‫المتنبـي في ِشعره؛‬
‫ِّ‬ ‫التي تفاخرت بها العرب‪ ،‬واعتبروها ِحكراً عليهم‪ ،‬والتي افتخر بها‬
‫ليست الضاد التي تستخدم اليوم في الفصحى التي هي عبارة عن دال مفخمة‪.‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫فالضاد العربية القديمة؛ كانت صوتاً آخر مزيجاً بين الظاء والالم‪ ،‬واندمج هذا‬
‫أي أنها حرف ما‬ ‫وألن الظاء هي ذال مفخمة‪ْ ،‬‬
‫الصوت مع الظاء في الجزيرة العربية‪َّ .‬‬
‫بين األسنان‪ ،‬فقد تحولت بدورها في الحواضر إلى دال مفخمة كتحول الثاء إلى تاء‪،‬‬
‫والذال إلى دال‪ ،‬وصارت هذه الدال المفخمة هي الضاد الفصيحة الحديثة‪.‬‬
‫إذن؛ فالدال المفخمة ليست خاصة بالعربية‪ْ ،‬‬
‫بل هي موجودة في لغات كثيرة‪.‬‬
‫المتنبي‪ ،‬وابن منظور صاحب لسان‬
‫ِّ‬ ‫وهي ليست الضاد األصلية التي كان يعنيها‬
‫العرب‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫ونحن اليوم ننطق الضاد (داالً مفخمة) وتشاركنا في هذا الصوت لغات أخرى‪.‬‬
‫وهناك طريقتان للفظ الضاد‪ :‬قديمة ومعاصرة‪ .‬وقد وصف سيبوي ِه اللفظ القديم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫حافــة اللسان وما يليه من األضراس مخرج الضاد»‪.‬‬
‫َ‬ ‫«أول‬
‫احتكاكيـا رخ ًوا‪ ،‬بينما هو اليوم في لفظنا‬
‫ً‬ ‫وهذا الحرف كما نفهم أ ْو نتخيل‪ ،‬كان‬
‫انفجاري شديد ومخرجه اللسان واللثة‪.‬‬
‫ويعلِّل تمام حسان في كتابه «اللغة العربية ـ معناها ومبناها»‪ ،‬فيقول‪« :‬الضاد‬
‫الفصيحة كانت تُنطق بواسطة احتكاك هواء الزفير المجهور بجانب اللسان واألضراس‬
‫ثم يكون صوت الضاد الفصيحة من بين أصوات الرخاوة‬ ‫المقابلة لهذا الجانب‪ ،‬ومن َّ‬
‫مثله في ذلك مثل الثاء»‪.‬‬
‫وهناك من المعلومات التي تشير إلى الطريقة في ذلك اللفظ‪ ،‬فكان ثمة خلط‬
‫بين الضاد والظاء (شأن كثير من العراقيين والمغاربة في لهجاتهم اليوم) ومن ذلك ما‬
‫أورده الجاحظ في (البيان والتبيني)‪.‬‬
‫ومما قيل في ذلك من باب الطرائف‪" :‬كان رجل بالبصرة له جارية تسمى‬
‫َّ‬
‫المقفع‪" :‬قل يا ظمياء"‪،‬‬ ‫"ظمـياء"‪ ،‬فكان إذا دعاها قال‪ :‬يا ضميـاء‪ ،‬فقال له ابن‬
‫غير عليه ابن المقفع مرتين أو ثالثاً‪ ،‬قال له‪" :‬هي جاريتي‬
‫فناداها‪" :‬يا ضميـاء" فلما ّ‬
‫أ ْم جاريتك"؟‪.‬‬
‫إن الضاد القديمة هي‬ ‫في كتابه "األصوات اللغوية" يؤكد الدكتور إبراهيم أنيس‪َّ -‬‬
‫ميزت لغتنا‪ ،‬فيقول‪" :‬ويظهر أن الضاد القديمة مقصورة على اللغة العربية"‪ .‬فهو‬ ‫التي ّ‬
‫قدر أنه قد طرأ على لفظ الضاد أ ْو صوتها تطور‪ .‬ولكن الدكتور رمضان عبد التواب‪،‬‬ ‫يُ ّ‬
‫في كتابه (املدخل إىل علم اللغة) يؤكد هذا التباين بما ال يدعو إلى الشك‪.‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫إن تعريف العربية بأنها (لغة الضاد) فقد ورد بعد عصر االحتجاج‬ ‫ويقولون أيضاً‪َّ :‬‬
‫والرواية‪ ،‬ومع ذلك فلم يذكر "الثعالبي" هذا التركيب "لغة الضاد" في كتابه "مثار‬
‫أي‪ :‬لم يكن التعبير شائ ًعا وذائ ًعا‬
‫القلوب يف املضاف واملنسوب"‪ ،‬مع أنه أدرك المتنبي‪ْ .‬‬
‫في اللغة‪.‬‬
‫ثم ورد بعد ذلك على لسان «الفيروز أبادي» في صورة النسبة‪ ،‬وذلك في قوله ‪:‬‬
‫َّ‬
‫النبي الهادي ُمفــحمـ ًـا باللسان الضادي‪.‬‬
‫يا باعث ّ‬
‫مفاخرا ‪:‬‬
‫ً‬ ‫وفي ِشعرنا المعاصر‪ ،‬يقول «شوقـي»‬

‫جعل الجامل ورسه يف الضَّ ـاد‪.‬‬ ‫إنَّ الذي مأل اللغات محاس ًنا‬
‫يسمي العرب «بني الضـاد»‪:‬‬
‫وخليل «مطران» ِّ‬

‫وجـــب‬
‫ْ‬ ‫وأثنـت عليـك مبــا‬ ‫وفود بني الضـاد جاءت إليــك‬
‫ويقول «إسماعيل صبري»‪:‬‬
‫منهل صفــا ألهل الضـاد‬ ‫أيها الناطقون بالضـاد هذا‬
‫الشاعر اللبناني حليم دموس‪:‬‬
‫ويقول َّ‬
‫كانت لنا بر ًدا عىل األكباد‬ ‫لغة إذا وقعت عىل أكبـادنا‬
‫الرجــاء لناطــق بالضـــاد‬ ‫وتظل رابطـــة تؤلِّـف بيننــا‬
‫الشاعر «علي الجارم» بالكناية‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫ويتحدث عنها َّ‬
‫ويف الشِّ عر وارث البحرتي‬ ‫وارث األصمعي يف لغة الضـاد‬
‫فإن‬
‫ويرى هذا الفريق؛ أننا إذا درسنا «العربية» كنظام اتصال لغوي وصوتي؛ َّ‬
‫قدرة الكلمة (كقناة اتصال) في نقل المعنى في اتجاهين متضادين في ذات القناة‪،‬‬
‫فإن‬
‫هو دليل قاطع على تفوق ذلك النظام اللغوي وقدرته (االتصالية) العالية‪ ،‬ولذلك َّ‬
‫العقل اللغوي العربي الذي يستطيع التمييز بين اتجاه المعاني المضادة‪ ،‬هو أيضاً‬
‫أي نظام لغوي بشري آخر‪ ،‬وهذا يجعل معاني‬ ‫يمتاز بقدرة اتصالية عالية ال يجاريها ّ‬
‫مفردات اللغة تتدفق بشكل ال نهائي في كل اتجاه‪.‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫بأن صوت الضاد يخرج من التقاء إحدى حافتي اللسان مع ما‬ ‫ويعلِّلون رأيهم؛ َّ‬
‫مخرجين متضاديْن؛ فهو‬
‫ْ‬ ‫أن لصوت حرف الضاد‬ ‫يقابلها من األضراس العليا‪ ،‬بمعنى َّ‬
‫يخرج تارة من الحافة اليمنى‪ ،‬ويخرج تارة أخرى من الحافة التي تقابلها وتضادها في‬
‫وكأن هذا الحرف قد أخذ اسمه من هذه الظاهرة التي هي ظاهرة التضاد‪.‬‬ ‫االتجاه‪َّ ،‬‬
‫فبذلك –حسب قولهم‪ -‬تكون تسمية «العربية» بلغة الضـاد‪ ،‬من ظاهرة (التضـاد)‪.‬‬
‫لم‬
‫بمعنى قدرتها على أداء معان متضادة كثيرة في نظامها الصوتي‪ ،‬وهي ظاهرة ْ‬
‫يتميز بها سوى اللسان العربي المبين‪ .‬وإلى هذا الرأي نذهب‪ ،‬وإليه نستريح‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫اللهجات العربيـة‬
‫الدين الطاهر‪ ،‬واألدب الباهر‪ ،‬وديوان الفضائل والمفاخر‪ ،‬ووعاء الفكر‬ ‫(العربية) لغة ِّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬والشريان الذي يربط بين أواصر األمة‪ ،‬وأحد أسس الوحدة العربية ودعامتها‪،‬‬
‫واألداة الحية لألدب والثقافة العربية‪ ،‬وعامل من أكبر العوامل على تجميع المسلمين‪ ،‬وقيام‬
‫الروابط القوية بينهم‪ ،‬حسبها أنها َش ُر َف ْت بحمل آخِر ِرساالت السماء بلسان عربي ُمبِين‪.‬‬
‫نجحت في ماضيها في القيام بدورها الحضاري المنوط بها‪ ،‬وارتَ َق ْت َّ‬
‫بأمة‬ ‫وقد َ‬
‫من مجتمع الصحراء المتوا ِري؛ لتكون هي ولغتها قائدة الحضارة على مستوى العالم‬
‫قرونًا عديدة‪.‬‬
‫يعبر كل منها عن لفظة مختلفة‪،‬‬ ‫وقد اشتملت «العربية» على ‪ 28‬حرفاً ثابتاً‪ِّ ،‬‬
‫إضافة إلى الهمزة التي تتخذ ستة أشكال في الكتابة‪ ،‬هي‪ ( :‬ء أ إ ئ ؤ ئـ)‪.‬‬
‫يعبر عن لفظة معينة‪ ،‬إنما حركة‬ ‫يعدون األلف مع الحروف؛ ألنه ال ِّ‬‫علماء اللغة ال ُّ‬
‫أن يشكال لفظة أ ْو حركة طويلة‪.‬‬‫طويلة (حرف علة)‪َّ .‬أما الواو والياء‪ ،‬فيمكن ْ‬
‫بهذه الحروف؛ ُكت ْ‬
‫ِبت اللغة العربية‪ ،‬ومرت بأطوا ٍر كثيرة عبر مئات السنين‪ .‬فقد كانت‬
‫قبيل اإلسالم ـ تسمى (لغـة مضـر)‪ ،‬وكانت تستخدم في شمال الجزيرة‪ ،‬وقد قضت على‬ ‫ـ ْ‬
‫اللهجة العربية الشمالية القديمة وحلَّت محلها‪ ،‬بينما كانت تسمى اللهجة العربية الجنوبية‬
‫القديمة (لغـة ِح ْميـر) نسبة إلى أعظم ممالك اليمن آنذاك‪ ،‬وما كاد النصف األول لأللفية‬
‫األولى للميالد ينقضي حتى كانت هناك‪ :‬لغة لقريش‪ ،‬ولغة لهذيل‪ ،‬ولغة لربيعة‪ ،‬ولغة لقضاعة‪.‬‬
‫وهذه تسمى (لغات)‪ ،‬مع أنها لهجات متقاربة‪ ،‬بدليل أن كل قبيلة كانت تفهم غيرها بسهولة‪.‬‬
‫أن تعدد اللهجات؛ كان موجوداً عند العرب من عصر الجاهلية‪ ،‬حيث‬
‫هذا بدوره يؤكد َّ‬
‫كانت هناك لهجة لكل قبيلة من القبائل‪ .‬وقد استمر الوضع هكذا بعد مجيء اإلسالم‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذه اللهجات؛ فقد كانت هناك لغة واحدة مشتركة تك ّونت من مزيج‬
‫من لهجات وسط وشرق شبه الجزيرة العربية بتأثير التجارة والحج‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫وقد كان التواصل بين أفراد القبيلة الواحدة يَتم بواسطة لهجتها الخاصة‪َّ ،‬أما عندما‬
‫يَخطب شخص ما‪ ،‬أ ْو يَتحدث مع قبائل أخرى‪ ،‬فقد كان يستعمل حينها اللغة المشتركة‪.‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫أن العامية الحديثة بدأت منذ الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬إ ْذ إن المسلمين‬‫ويُرجح َّ‬
‫الجدد في بالد األعاجم (والتي أصبح العديد منها اليوم من البلدان العربية) بدءوا‬
‫بتعلم العربية‪ ،‬لكنهم ‪-‬وبشكل طبيعي‪ -‬لم يَستطيعوا التحدث بها كما يتحدثها العرب‬
‫حرفت قلي ً‬
‫ال‪.‬‬ ‫بالضبط‪ ،‬وبالتالي فقد ِّ‬
‫وفي ذلك الوقت لم يَكن الفرق واضحاً كثيراً‪ ،‬لكن بالتدريج ُح ِّرفت العربية‪ ،‬وتغيرت‬
‫مخارجها الصوتية‪ ،‬وتركيب الجمل فيها‪ ،‬حتى تح ّولت إلى اللهجات العامية الحديثة‪.‬‬

‫إشكالية الثنائية اللغويـة‬


‫البد من التفريق بين «االزدواجية اللغوية»‪ ،‬و«الثنائية اللغوية»‪ .‬ما الفارق بينهما؟‪.‬‬
‫َّ‬
‫شعب ما أكثر من لغة‪ ،‬كما هو الحال في‬
‫(االزدواجيـة اللغوية) هي أن يتحدث ٌ‬
‫دول المغرب العربي‪ .‬وهي من مخلَّفات االستعمار الذي َّ‬
‫ظل جاثماً هناك ألكثر من‬
‫قرن من الزمان‪.‬‬
‫َّأما (الثنائيـة اللغوية) فهو مصطلح يُطلَق على تحدث جماعة من الناس‪ ،‬أ ْو شعب‬
‫آن واحد‪ ،‬وهو حال أغلب الشعوب‪.‬‬
‫من الشعوب‪ ،‬أكثر من لهجة (كالعامية والفصحى) في ٍ‬
‫وقد اختلف الباحثون بشأن تصنيف وضع العامية والفصحى في البلدان العربية‪:‬‬
‫ازدواجية لغوية أ ْم ثنائية لغوية؟‪.‬‬
‫بعضهم يرى أنهما مختلفتان كثيراً‪ ،‬ويجب ْ‬
‫أن يُقال عن وضعهما «ازدواجية لغوية»‪.‬‬
‫منفصلتين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫كلغتين‬
‫ْ‬ ‫صنفا‬ ‫رأي الجمهور؛ أن الفرق ليس جذرياً‪ ،‬ويَجب َّ‬
‫أال يُ َّ‬ ‫لكن ْ‬
‫أن «الثنائية اللغوية» أمر جيد‪ .‬في حين رأى‬
‫حتى ذهب بعض الباحثين إلى َّ‬
‫المتعِب للطفل أن يتعلم في المدرسة لغة‬
‫آخرون؛ أنها كارثة يَجب أن تزول؛ ألنه من ُ‬
‫غير التي يتحدثها في حياته اليومية‪ ،‬وأيضاً َّ‬
‫فإن وقت تعلمها سوف ِّ‬
‫يؤخر تعلمه كله‪.‬‬
‫يرى علماء اللغة أنه ليس هناك ما يثير العجب في هذه الثنائية اللغوية بالنسبة‬
‫إن غالبية لغات العالم تتعامل مع هذه الثنائية الطبيعية بين األسلوب‬
‫للعرب؛ حيث َّ‬
‫وإن كان هناك تباين ظاهر‪َّ ،‬‬
‫إال‬ ‫اللغوي في المحادثة واألسلوب اللغوي الكتابي‪ ،‬حتى ْ‬
‫أنه مندرج تحت لغة واحدة‪ .‬فلغة المحادثة في شمال كل بلد تختلف بشكل ظاهر‬
‫عنه في جنوبه‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ :‬سكان «مدريد» يتحدثون بلهجة مختلفة تماماً‬
‫عن سكان «قرطبة»‪ ،‬وكالهما يعتمد اللغة اإلسبانية في التدوين والطباعة‪.‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫لكن؛ دول "اإلتحاد األوروبي" منذ فتح الحدود فيما بينها‪ ،‬أخذت في اإلمعان‬
‫في قضية اختالف اللهجات‪ ،‬وإشكالية التعددية اللغوية بين الجاليات التي تقطن في‬
‫قطر واحد‪ .‬وقد مثلت مدينة "بولزانو" التي أُقيم فيها مؤتمر "تعددية لغات أوروبا"‪،‬‬
‫نموذجاً لعدد من المدن األوروبية‪ ،‬التي تفرض فيها رسمياً (الثنائية اللغوية) حيث‬
‫اللغتين‪" :‬اإليطالية"‪ ،‬و"األلمانية" بدرجة متساوية‪ .‬كما‬
‫ْ‬ ‫يتحدث سكان تلك المدينة‬
‫باللغتين كلتيهما‪ .‬كذلك؛ التوظيف‬
‫ْ‬ ‫تكتب جميع اللوحات وأسماء الشوارع والمعامالت‬
‫اللغتين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫متحدثي‬
‫ِّ‬ ‫الحكومي يأخذ بمناصفة شغل الوظائف بين‬
‫َّأما (العربية) فقد حافظت إلى يومنا هذا على شكلها "الفصيح" بين حدود الدول‬
‫العربية اإلثنتين والعشرين‪ ،‬حيث تصدر الصحف والمطبوعات‪ ،‬وتطبع الكتب من‬
‫المحيط غرباً إلى الخليج شرقاً‪ ،‬بالعربية "الفصحى"‪ .‬ويستطيع المغربي أن يُحاور‬
‫الكويتي ويفهم حديثه بسهولة‪ ،‬وكذلك الحال بين السوداني والعراقي‪.‬‬
‫جانب آخر؛ اختلف الباحثون حول مستقبل «الثنائية اللغوية» في الوطن‬ ‫ٍ‬ ‫على‬
‫العربي؛ فبعضهم يرى أن اللغة الفصحى سوف تغلب العامية‪ ،‬وسوف تُستخدم بشكل‬
‫عام حتى خارج المعامالت الرسمية‪ ،‬وذلك بزيادة المادة الصوتية الفصيحة التي يتم‬
‫االستماع إليها يومياً‪ .‬باإلضافة إلى الرسوم المتحركة التي سوف تساعد األطفال على‬
‫تعلم الفصحى قبل دخول المدرسة‪ .‬وهناك اقتراحات بتبسيط قواعد الفصحى قلي ً‬
‫ال‬
‫لتسهيل تعلمها‪.‬‬
‫بينما يرى آخرون أن اللهجات العامية؛ سوف تتطور‪ ،‬أ ْو ستندمج في لهجة عربية‬
‫واحدة‪ ،‬وبهذا تُشكل معاً لغة عربية واحدة كالفصحى‪.‬‬
‫وقد دعا البعض إلى دمج العامية والفصحى معاً بحيث تتك ّون لغة جديدة بين‬
‫االثنتين‪ ،‬لكن هذا االقتراح ال يحظى بالكثير من التأييد؛ نظراً َّ‬
‫ألن الفصحى هي لغة‬
‫القرآن‪ ،‬واألدب‪ ،‬والتراث بأكمله‪.‬‬
‫َّ‬
‫منحطة‬ ‫إذن؛ فال جدوى من اإللحاح على استعمال اللهجات المتنافرة؛ فهي‬
‫النحطاط الناطقين بها‪ .‬أ ْو على حد قول الدكتور طه حسين‪« :‬ال أدب َّ‬
‫إال أدب اللغة‬
‫الفصحى‪ ،‬والذين يستخدمون العامية ليسوا واقعيين‪ ،‬وإنما هم عاجزون»‪.‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫األسواق ال ِّشعرية‬
‫الشعرية" مكانة عظيمة في نفوس العرب‪،‬‬ ‫في العصر الجاهلي‪ ،‬تب ّوأت "األسواق ِّ‬
‫للملِك واألمير‪ ،‬وكانت القبيلة ت ِ‬
‫ُفاخر كل الفخر بميالد‬ ‫الشاعر نظرتهم َ‬
‫حتى نظروا إلى َّ‬
‫المقاتِل‪ ،‬وذلك‬ ‫بل َّ‬
‫احتل الشاعر منزلة أرفع من منزلة ُ‬ ‫شاعرها‪ ،‬وتزهو به على المأل‪ْ .‬‬
‫للدفاع عنها ضد أعدائها بشعره‪ .‬وكانت القبيلة إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به احتفاالً‬
‫عظيماً؛ فأخذوا يُهنئون بعضهم بعضاً‪ ،‬ويقيمون الحفالت الغنائية‪ُّ ،‬‬
‫ويعدون الوالئم؛‬
‫الشاعر حماية ألعراضهم‪ ،‬وذبّا عن أحسابهم‪ ،‬وتخليداً لمآثرهم‪،‬‬ ‫ألن في نبوغ ذلك َّ‬
‫َّ‬
‫الشعر وإنشاده‪ ،‬وتُقام األسواق من‬
‫وإشادة بذِكرهم‪ .‬وكانت تُعقد المجالس لسماع ِّ‬
‫إن القبائل التي ال‬ ‫الشعر ‪ْ ..‬‬
‫بل َّ‬ ‫أجل المفاخرة والمباراة بين القبائل عن طريق سالح ِّ‬
‫والضعة‪ ،‬وخمول ِّ‬
‫الذكر والهوان‪ ،‬كما يقول ابن‬ ‫ينبغ فيها الشعراء‪ ،‬كانت تشعر بالنقص َّ‬
‫رشيق في كتابه "العمدة"‪.‬‬
‫الشعرية‬
‫إن األسواق ِّ‬
‫هذا؛ ويقول الدكتور حسين نصار في كتابه (يف الشِّ عر العريب)‪َّ :‬‬
‫كانت كثيرة؛ فمنها سوق (عكاظ) التي كانت تعقد في وا ٍد بين مكة والطائف‪ ،‬في شهر‬
‫ثم توارت أهمية عكاظ في اإلسالم‪ ،‬وبرز سوق (المربد) في البصرة‪ ،‬وسوق‬ ‫ذي القعدة‪َّ .‬‬
‫الشعرية‬
‫(الكناسة) في الكوفة‪ ،‬يُضاف إليهما المساجد التي كانت فيها المجالس ِّ‬
‫حسان بن ثابت‪ ،‬واقتدى به‬ ‫أيضاً‪ ،‬فقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ّ‬
‫المسلمون بعد ذلك‪ ،‬كما تذكر أخبار جرير والفرزدق‪.‬‬
‫الشعرية‪ ،‬التي أقيمت في األسواق العربية‪ ،‬آثارها الخطيرة في‬
‫وكان لالحتفاالت ِّ‬
‫الشعر العربي‪ْ ،‬‬
‫بل في اللغة العربية كلها؛ فقد كان سوق عكاظ البقعة التي تتالقى فيها‬ ‫ِّ‬
‫توجد لها‬
‫القبائل من شتى األرجاء‪ ،‬ومع اختالف اللهجات‪ ،‬وكانت القبائل تحاول أن ِ‬
‫وحد‬
‫لغة أدبية رسمية؛ فاختارت لغة الحجاز (قريش)‪ ،‬فكانت عكاظ الموطن الذي ّ‬
‫اللهجات العربية‪ ،‬وم ّهد لتوحيد العرب أنفسهم في أمة واحدة‪.‬‬
‫الشعرية رسومها وطقوسها وآدابها‪ ،‬فقد روى الرواة أن "عمرو بن‬
‫كان لتلك األسواق ِّ‬
‫كلثوم" عندما نظم معلَّقته الشهيرة‪ ،‬وأراد إشاعتها بين العرب‪ ،‬ذهب إلى سوق عكاظ‪،‬‬
‫وأنشدها هناك‪ ،‬فنالت إعجاب السامعين واعترافهم بجودتها؛ فطار صيتها بين الناس‪.‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫المحلَّق الكالبي‪ ،‬وأثنى على بناته؛ ليجد ّ‬
‫لهن‬ ‫أن "األعشى" عندما مدح ُ‬ ‫وروي َّ‬‫َ‬
‫ْ‬
‫األزواج األكفاء‪ ،‬فعل ذلك في عكاظ‪ ،‬وكان يُنشد الناس تحت َسرحة (شجرة عظيمة ذات‬
‫ظل) وقد ح ّققت قصيدته غرضها سريعاً‪ ،‬فتهافت األشراف على بنات الرجل طلباً للزواج‪.‬‬
‫كما ذكرت كتب األدب‪ ،‬أن بعض الشعراء الذين اعترف لهم أهل عكاظ بميزة أو‬
‫فيعلِّمون أنفسهم بعالمات‬‫فضل‪ ،‬كانوا يهتمون بهذا االعتراف‪ ،‬ويُبرزونه إبرازاً واضحاً؛ ُ‬
‫يحل لغيرهم استخدامها‪ ،‬فكان "النابغـة الذبياني" الذي اتخذ منه أهل‬ ‫خاصة‪ ،‬ال ُّ‬
‫عكاظ َح َكماً يفصل بين الشعراء‪ ،‬ويبين منزلتهم‪ ،‬يضرب لنفسه ُق ّبة حمراء من ِ‬
‫الجلد‪.‬‬
‫ولما أصيبت "الخنساء" بأبيها عمرو بن الشريد‪ ،‬وأخ َويْها‪ :‬صخر ومعاوية؛ رثتهم‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫بالقصائد التي شاعت في األرجاء العربية‪ ،‬واعترف لها الناس بعِظم مصيبتها‪ ،‬وكانت‬
‫"لما كانت‬
‫تشهد عكاظ‪ ،‬وقد أعلمت هودجها براية‪ .‬قال أبو الفرج في "األغاني" عنها‪َّ :‬‬
‫وقعة بدر‪ُ ،‬قتِل عتبة بن ربيعة‪ ،‬وشيبة بن ربيعة‪ ،‬والوليد بن عتبة‪ ،‬فأقبلت "هند بنت‬
‫عتبة" ترثيهم‪ ،‬وبلغها تسويم (اتخاذ عالمة) الخنساء هودجها في الموسم‪ ،‬ومعاظمتها‬
‫فلما أصيبت هند بما أُصيبت به‪،‬‬ ‫وأن العرب قد عرفت لها ذلك‪ّ .‬‬ ‫العرب بمصيبتها‪َّ ،‬‬
‫فس ِّوم براية‪ ،‬وشهدت الموسم‬ ‫قالت‪ :‬إني أعظم من الخنساء مصيب ًة‪ ،‬وأمرت بهودجها ُ‬
‫فلما أن دنت منها‪ ،‬قالت لها‬ ‫بعكاظ؛ فقالت‪ :‬اقرنوا َج َملي بجمل الخنساء‪ ،‬ففعلوا‪َّ ،‬‬
‫أنت يا أُ َخ َّية؟‪ .‬قالت‪ :‬أنا هند بنت عتبة‪ ،‬أعظم العرب مصيب ًة‪ ،‬وقد بلغني‬
‫الخنساء‪ :‬من ِ‬
‫فبم تعاظمينهم؟‪ .‬قالت الخنساء‪ :‬بعمرو بن الشريد‪،‬‬ ‫أنك تُعاظمين العرب بمصيبتك‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫أنت؟‪ .‬قالت هند‪ :‬بأبي عتبة بن ربيعة‪،‬‬ ‫وبم تعاظمينهم ِ‬ ‫وصخر‪ ،‬ومعاوية اب َني عمرو‪َ .‬‬
‫ِ‬
‫عندك؟‪ .‬ثم أنشدت تقول‪:‬‬ ‫وعمي شيبة بن ربيعة‪ ،‬وأخي الوليد‪ .‬قالت الخنساء ‪ :‬أو سوا ٌء‬
‫ِّ‬
‫يل ُهجـو ُدهـــــا‬ ‫قليلٍ إذا نام الخ ُّ‬ ‫ُأ َبكِّـي أبـي عمراً بعـ ٍني غـزير ٍة‬
‫له من رساة ال َح َّرتَ ِني ُوفو ُدهـــــا‬ ‫ِ‬
‫وصن َو َي ال أنسـى معـاوي َة الـذي‬
‫بساهمـ ِة اآلطال ٌق َّبـاً يقودهــــا‬ ‫وصخراً‪ ،‬ومن ذا مثل صخ ٍر إذا غدا‬
‫شب َوقودهــــا‬ ‫حرب حني َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ونريانُ‬ ‫فـذلك يا هنـدُ الـرزي ُة‪ ،‬فاعلمـي‬

‫فقالت هنـد تجيبها‪:‬‬

‫وحاميـها من كـل باغٍ يـريدهــــا‬ ‫ُأبَ ِّك عمـيد األب َطـ َحني كليـهمـــا‬
‫وشيبة والحامـي الذما َر وليـدهـــا‬ ‫ِ‬
‫ويحك فاعلمـــي‬ ‫أيب عتب ُة الخري ِ‬
‫ات‪،‬‬
‫ويف ال ِع ِّز منها حني ينمى عديدهـــا‬ ‫غالب‬
‫ٍ‬ ‫أولئـك آل املـجد مـن آل‬

‫‪- 43 -‬‬
‫الت َزيُّن‪ .‬وكان التزين‬
‫للشعر‪ ،‬هو َّ‬
‫ليعد نفسه ِّ‬
‫الشاعر؛ َّ‬
‫إن أول ما كان يلجأ إليه َّ‬
‫قيل‪َّ :‬‬
‫أمراً جوهرياً وضرورياً‪ ،‬يفعله كل شاعر‪ ،‬وال سيما الفحول؛ فقيل‪ :‬إن "الفرزدق" حين‬
‫أراد أن ينشد في المدينة قصيدته ‪:‬‬
‫تعرف‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫وأنكرت من حورا َء ما َ‬
‫َ‬ ‫تعزف‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫بأعشاش‪ ،‬وما َ‬
‫ٍ‬ ‫عزفت‬
‫َ‬
‫طلع الفرزدق على القوم في ُحلَّة يماني ٍة ّ‬
‫موشاة‪ ،‬وقد أرخى غديرته‪ .‬كما كان‬
‫بصفرة‪.‬‬
‫مصبوغين ُ‬
‫ْ‬ ‫خصمه الذي تحداه يلبس ثوبين‬
‫ميري وقومه‪،‬‬
‫الن ْ‬
‫وحينما أراد "جرير" أن ينشد قصيدته‪ ،‬التي هجا فيها الراعي ُّ‬
‫وقال فيها ‪:‬‬
‫بلغــت وال كالبـــا‬
‫َ‬ ‫فال كعباً‬ ‫فغ َُّض الطـرف إنـك من نُ يـ ٍر‬
‫وضم أطرافه‪.‬‬ ‫يُقال‪ :‬إنه َّادهن بدهن‪ ،‬وجمع َشعره ‪ -‬وكان َح َسن َّ‬
‫الشعر ‪َّ -‬‬
‫الشاعر َج َمله الذي يركبه؛ فيضع عليه أجمل‬ ‫وكان من تمام االحتفال‪ ،‬أن يُ َزيِّن َّ‬
‫تجم ٍل‪ ،‬حين هاجى ج ّواس‬‫األردية‪ .‬وقد وصف واصف‪ ،‬ما لجأ إليه "جميل بثينـة" من ُّ‬
‫"قدمت من عند عبد الملك بن مروان‪ ،‬وقد أجازني‪ ،‬وكساني بُرداً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بن قطبة‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫فنزلت وادي القِرى‪ ،‬فلقيني جميل‪ ،‬وكان صديقاً لي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫البرد أفضل جائزتي؛‬ ‫وكان ذلك ُ‬
‫البرد الذي‬ ‫أمسيت إذا هو قد أتاني في رحلي‪ ،‬فقال ‪ُ :‬‬
‫ُ‬ ‫فسلَّم بعضنا على بعض ‪َّ ..‬‬
‫فلما‬
‫بل هو‬ ‫قلت ‪ :‬ال‪ْ ،‬‬
‫فإن بيني وبين ج ّواس مراجزة‪ُ ،‬‬ ‫أتجمل به‪َّ ،‬‬ ‫رأيته عليك تُعيرنيه حتى َّ‬
‫لك كسوةً؛ فكسوته إياه‪ ،‬فلما أصبحنا جعل األعاريب يأتون أرساالً‪ ،‬حتى اجتمع منهم‬
‫رأيت مثلهما قط‪،‬‬‫وحضرت وأصحابي؛ فإذا بجميل قد جاء وعليه ُحلّتان‪ ،‬ما ُ‬ ‫ُ‬ ‫بشر كثير‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ال لجمله‪ ،‬فتراجزا‪ ."..‬وكانت النتيجة أن كسب‬ ‫وإذا بُردي الذي كسوته إياه قد جعله ُج ً‬
‫راجزة‪ ،‬وارتفعت مكانته بين الناس‪.‬‬ ‫الم َ‬
‫جميل ُ‬
‫وأغرب من ذلك وأعجب‪ ،‬ما كان يفعله "حسان بن ثابت" وهو يستعد إلنشاد‬
‫قصائده الحماسية؛ فقد كان يُ َخ ِّضب شاربه والشعرات التي بين الشفة السفلى والذقن‬
‫بالح ّناء‪ ،‬وال يُ َخ ِضب سائر اللحية؛ ليكون كاألسد الوالغ في الدماء‪ ،‬كما َّ‬
‫فسر هو نفسه‬ ‫ِ‬
‫ثم ينشد حماسيته‪ ،‬ويتغ ّنى بشجاعته وغنائه في الحروب‪.‬‬ ‫هيئته‪َّ .‬‬
‫الناس مباريات ِشعرية بعد‬ ‫وهل سمع ُ‬‫فهل رأت الدنيا شعراء كشعراء عكاظ؟‪ْ .‬‬ ‫ْ‬
‫قت أُ َّمـة‬
‫المجنة؟‪ .‬وهل علَّ ْ‬
‫َّ‬ ‫وهل شهدت الدنيا أسواقاً كأسواق عكاظ‪ ،‬وذي‬ ‫عكاظ؟‪ْ .‬‬
‫القصائد على معابدها ومقدساتها غير أُ َّمـة العرب‪ .‬فما لكم كيف تحكمـون؟‪.‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫اخلط العربـي‬
‫"الخط العربي" هو فن وتصميم الكتابة بالحروف العربية‪ ،‬إ ْذ تتميز الكتابة العربية‬
‫بكونها متصلة‪ ،‬مما يجعلها قابلة الكتساب أشكال هندسية مختلفة من خالل المد‬
‫والرجع واالستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب‪ .‬كما يقترن فن الخط‬
‫بالزخرفة العربية "أرابيسك" حيث يستعمل لتزيين المساجد والقصور‪ ،‬كما أنه‬
‫يستعمل في تجميل المخطوطات والكتب‪ ،‬خاصة عند نسخ القرآن الكريم‪ .‬وقد‬
‫شهد هذا المجال إقباالً من الفنانين المسلمين؛ بسبب نهي الشريعة عن رسم البشر‬
‫والحيوان‪ ،‬خاصة فيما يتصل باألماكن المقدسة والمصاحف‪.‬‬
‫ويعتمد الخط العربي جمالياً على قواعد خاصة تنطلق من التناسب بين الخط‬
‫والنقطة والدائرة‪ ،‬وتستخدم في أدائه فنياً العناصر ذاتها التي تعتمدها الفنون‬
‫التشكيلية األخرى‪ ،‬كالخط والكتلة‪ ،‬ليس بمعناها المتحرك مادياً فحسب‪ْ ،‬‬
‫بل بمعناها‬
‫الجمالي الذي ينتج حركة ذاتية تجعل الخط يتهادى في رونق جمالي مستقل عن‬
‫مضامينه‪ ،‬ومرتبط معها في آن واحد‪.‬‬
‫يقول القلقشندي ‪" :‬الخط العربي هو ما يسمى اآلن بالكوفي‪ ،‬ومنه تطورت باقي‬
‫الخطوط"‪.‬‬
‫إال أن موريتز في "موسوعة اإلسالم" يوضح أن "الخط العربي" الذي عرف الحقاً‬ ‫َّ‬
‫بالخط الكوفي‪ ،‬ترجع أصوله إلى ما قبل بناء الكوفة بقرن من الزمان‪ .‬إ ْذ َّ‬
‫إن العربية‬
‫قبل اإلسالم كانت تكتب بأربعة خطوط‪ :‬الحيري (نسبة إلى الحيرة) والذي منه‬
‫اشتق الخط الكوفي‪ ،‬األنباري (نسبة إلى األنبار)‪ ،‬المكي (نسبة إلى مكة المكرمة)‪،‬‬
‫المدني (نسبة إلى المدينة المنورة)‪ .‬وأول تسمية لهذا الخط بالكوفي؛ كان في كتاب‬
‫(الفهرست) البن النديم عام ‪999‬م‪.‬‬
‫وقال ابن عباس‪" :‬أول من كتب بالعربية رجال من بوالن‪ ،‬وهي قبيلة سكنت‬
‫األنبار‪ .‬ووضعوا حروفاً مقطعة وموصولة‪ .‬وهم مرار بن مرة‪ ،‬وأسلم بن سدرة‪ ،‬وعامر‬
‫وأما "عامر" فوضع‬
‫وأما "أسلم" ففصل ووصل‪َّ ،‬‬
‫فأما "مرامر" فوضع الصور‪َّ ،‬‬
‫بن جدرة‪َّ .‬‬
‫الشاعر ‪:‬‬
‫اإلعجام‪ .‬وفي ذلك يقول َّ‬

‫‪- 45 -‬‬
‫ولست بكاتب‬
‫ُ‬ ‫وس ّودت رسبايل‬ ‫كتبت أبا جاد و ُحطِّي مرامر‬

‫تطور نظام الكتابة العربيـة‬


‫بالخطين المسند‪ ،‬والثمودي‪ ،‬ثم دخل الخط‬
‫ْ‬ ‫كانت العربية القديمة‪ ،‬تكتب‬
‫النبطي على العربية الحديثة‪ .‬وقيل‪ :‬إنه نسبة لنابت بن إسماعيل‪ -‬فأخذ ذلك الخط‬
‫مكان الخط الثمودي في شمال الجزيرة‪ ،‬وأصبح الخط المعتمد في "لغة مضر العربية‬
‫الحديثة" (نسبة إلى قبيلة مضر)‪.‬‬
‫َّأما لغة حمير "العربية الجنوبية" فحافظت على الخط المسند‪.‬‬
‫وقد تطور الخط النبطي ‪-‬الذي هو أبو الخط العربي الحديث‪ -‬وكان أقدم نص‬
‫عربي مكتشف مكتوبًا بالنبطي‪ ،‬هو نقش (النمارة) المكتشف في سورية‪ ،‬والذي يرجع‬
‫لعام ‪328‬م‪.‬‬
‫وفي الفترة السابقة لإلسالم‪ ،‬كانت هناك خطوط أخرى حديثة للغة مضر‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫"الخط الحيري" نسبة إلى الحيرة‪ ،‬و"الخط األنباري" نسبة إلى األنبار‪.‬‬
‫وعندما جاء اإلسالم؛ كان الخط المستعمل في قريش هو الخط النبطي المطور‪،‬‬
‫النبي الكريم ﷺ في كتابة رسائله للملوك والحكام‬
‫وهو الخط الذي استخدمه ك ّتاب ّ‬
‫آنذاك‪ .‬ويلحظ في صور بعض تلك الخطابات االختالف عن الخط العربي الحديث الذي‬
‫تطور من ذلك الخط‪.‬‬
‫قديما‪ ،‬وأقدم‬
‫عربيا ً‬
‫لكن بعض المختصين‪ ،‬يعتبرون ذلك الخط النبطي المطور ً‬
‫المكتشفات المكتوبة به "نقش زبد" (‪568‬م)‪ ،‬و"نقش أم الجمال" (‪513‬م)‪َّ .‬أما‬
‫النقوش السبئية‪ ،‬فهي أقدم النقوش العربية‪ ،‬والتي يرجع بعضها إلى ‪ 1000‬ق‪ .‬م‪.‬‬
‫وقد كان "الحجازيون" أول من حرر العربية من الخط النبطي‪ ،‬وبدأ يتغير‬
‫ثم‬
‫بشكل متقارب حتى عهد األمويين‪ ،‬حين بدأ "أبو األسود الدؤلي" بتنقيط الحروف‪َّ .‬‬
‫ال من (عاصم الليثي‪ ،‬ويحيى بن يعمر) بتشكيل الحروف‪،‬‬ ‫أمر عبد الملك بن مروان‪ ،‬ك ً‬
‫فبدءوا بعمل نقطة فوق الحرف للداللة على فتحه‪ ،‬ونقطة تحته للداللة على كسره‪،‬‬
‫ثم تطور إلى وضع ألف صغيرة مائلة فوق الحرف‬ ‫ونقطة عن شماله للداللة على ضمه‪َّ .‬‬
‫ثم تطور مجدداً للشكل الحالي في الفتح‬‫للفتح‪ ،‬وياء صغيرة للكسر‪ ،‬وواو صغيرة للضم‪َّ .‬‬
‫والكسر والضم ‪ ..‬وهو نظام "الخليل بن أحمد الفراهيدي" المستعمل إلى اليوم‪.‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫أنـواع اخلـط العربـي‬
‫فسميت بعضها نسبة إلى‬ ‫أخذت الخطوط العربية مناهج عدة في التسمية‪ِّ ،‬‬
‫أسماء المدن‪ :‬كالنبطي والكوفي والحجازي والفارسي‪ .‬أ ْو بأسماء مبدعيها‪ :‬كالياقوتي‬
‫(المستعصمي)‪ ،‬والريحاني‪ ،‬والرياسي‪ ،‬والغزالني‪ .‬كما سميت ‪-‬أيضاً‪ -‬نسبة مقادير‬
‫ال عن تسميته نسبة إلى األداة التي‬ ‫الخط‪ :‬كخط الثلث ثلث والنصف والثلثين‪ .‬فض ً‬
‫تسطره‪ :‬كخط الغبار‪ .‬وكذلك نسبة إلى هيئة الخط‪ :‬كخط المسلسل‪ .‬ومن أشهر أنواع‬
‫(((‬
‫الخطوط العربية المتداولة ‪:‬‬

‫الخـط الكوفــي‬
‫أقدم الخطوط العربية وأعرقها على اإلطالق‪ ،‬نشأ واع ُتمِد في عصر النبوة لحاجة‬
‫المسلمين لتدوين القرآن الكريم‪ .‬والزال يعرف حتى يومنا هذا بالكوفي المصحف‪،‬‬
‫وهو خط يابس هندسي زخرفي يحتاج إلى دقة ودراية‪ .‬ومن حظ هذا الخط؛ أنه‬
‫يحمل صبغة تاريخية حيث ينسب إلى دول وبلدان وممالك وحقب تاريخية مهمة‬
‫في األمة مثل‪( :‬الكوفي المملوكي) و(الكوفي األيوبي) و(الكوفي الفاطمي) و(الكوفي‬
‫األندلسي)‪ .‬كما ينسب إلى إقليم مثل (الكوفي النيسابوري) و(الكوفي القيرواني)‬
‫وغيرها من الكوفي المتعارف عليه‪ ،‬مثل‪( :‬الكوفي المورق) و(الكوفي الشطرنجي)‬
‫و(الكوفي المضفور)‪.‬‬
‫ومن أعالم ومؤرخي هذا الخط الجليل‪ :‬عالم المشهور يوسف أحمد؛ حيث اهتم‬
‫به اهتماماً خاص ُا‪َّ ،‬‬
‫وفرغ نفسه لخدمته والتعريف به بعد أن كان على وشك االضمحالل‪.‬‬
‫وقد اهتم نخبة من تالميذه بهذا الخط‪ ،‬كان آخرهم الخطاط محمد عبد القادر‪.‬‬

‫خـط النسـخ‬
‫أوضح الخطوط العربية على اإلطالق‪ ،‬يتميز بوضوح صور حروفه واكتمال تشكيله‪،‬‬
‫يسهل عملية القراءة‪ ،‬ويضمن سالمة النطق‪ ،‬وقد درجت كتابة المصاحف بهذا الخط‬
‫مما ِّ‬
‫في عهد الخطاطين العثمانيين‪ .‬يكتب خط النسخ شأنه شأن الخطوط المشرقية األخرى‪،‬‬
‫تقليدياً بقلم مصنوع من القصب والحبر‪ ،‬ولصور حروفه قواعد خطية وأشكال محددة‬
‫(أي تقاس هندسياً بالنقطة كما هو متبع في دراسة الخط)‪ .‬وعادة ما يكتب‬
‫ومنسوبة ْ‬

‫((( حوار أجريناه مع الخطاط األديب محمد عبده أبو قمر‪ -‬منشور بمجلة (الوعي اإلسالمي)‪ ،‬الكويت‪.‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫بمقاس صغير (ال يتعدى عرض القلم ‪ 2‬ملم) مما يتناسب مع كتابة النصوص الطويلة‬
‫في اللوحات الخطية والكتب (كالمصاحف‪ ،‬وكتب األذكار واألوراد‪ ،‬والمراجع الدينية) إلخ‪.‬‬
‫وقد استحدث "خط النسخ" على األغلب في حدود عام ‪ 800‬م في العراق‪ ،‬وأخذ‬
‫يتطور شأنه شأن األقالم الستة على يد ابن مقلة (‪940-886‬م) وياقوت المستعصمي‬
‫خص خط النسخ‬ ‫ثم الشيخ حمد الله األماسي (‪1520-1429‬م) والذي َّ‬ ‫(‪1298‬م)‪َّ ،‬‬
‫بكتابة المصاحف‪ ،‬أيضاً تطور خط النسخ في حدود عام ‪1678‬م على يد الخطاط‬
‫الحافظ عثمان (‪1698-1642‬م) والذي استحدث أسلوباً جديداً خاصاً به في خط‬
‫النسخ يختلف عن طريقة الشيخ حمد الله‪ ،‬وقد وصل خط النسخ إلى قمته بظهور‬
‫مستقلتين‪ :‬مدرسة القاضي عسكر مصطفى عزت (‪1876-1801‬م)‬ ‫ْ‬ ‫مدرستين‬
‫ْ‬
‫والخطاط محمد شوقي أفندي (‪ 1887-1829‬م) حيث قام األخير بتطوير طريقة في‬
‫خط النسخ تميز بها عن سابقيه من الخطاطين‪.‬‬
‫وقد انتشر "خط النسخ" بقواعده للعالم اإلسالمي والعربي‪ ،‬واشتهر العديد من‬
‫الخطاطين العثمانيين بإجادتهم له‪ ،‬أمثال‪ :‬حسن رضا (‪ )1920-1849‬والحاج عارف‬
‫البقال (‪ )1909-1836‬والشيخ عبد العزيز الرفاعي (‪ )1934-1871‬ومن المعاصرين‪:‬‬
‫محمد أوزجاي‪.‬‬

‫خـط الثلـث‬
‫من أروع الخطوط العربية منظراً وجماالً‪ ،‬وأصعبها كتابة وإتقاناً‪ ،‬سواء من حيث‬
‫الحرف أ ْو من حيث التركيب‪ ،‬كما أنه أصل الخطوط العربية‪ ،‬والميزان الذي يوزن‬
‫لم يتقن خط الثلث‪ ،‬فمن أتقنه أتقن‬ ‫به إبداع الخطاط‪ .‬وال يعتبر الخطاط فناناً ما ْ‬
‫غيره بسهولة ويسر‪ ،‬ومن لم يتقنه ال يعد بغيره خطاطاً‪ ،‬مهما أجاد‪ .‬ويمتاز عن غيره‬
‫بكثرة المرونة؛ إ ْذ تتعدد أشكال معظم الحروف فيه‪ .‬لذلك يمكن كتابة جملة واحدة‬
‫عدة مرات بأشكال مختلفة‪ ،‬ويطمس أحياناً شكل الميم للتجميل‪ ،‬ويقل استعمال‬
‫هذا النوع في كتابة المصاحف‪ ،‬ويقتصر على العناوين وبعض اآليات والجمل لصعوبة‬
‫كتابته‪ ،‬وألنه يأخذ وقتاً طوي ً‬
‫ال في الكتابة‪.‬‬
‫يعتبر "ابن مقلة" المتوفى ‪ 328‬هـ‪ ،‬واضع قواعد هذا الخط من نقط ومقاييس وأبعاد‪،‬‬
‫وله فضل السبق عن غيره‪ ،‬ومن جاءوا بعده أصبحوا عياالً عليه؛ فقد جاء "ابن البواب علي‬
‫وهذبه‪ ،‬وأجاد في‬‫بن هالل البغدادي" المتوفى سنة ‪413‬هـ‪ ،‬فأرسى قواعد هذا الخط َّ‬
‫تراكيبه‪ ،‬لكنه لم يتدخل في القواعد التي ذكرها ابن مقلة‪ ،‬فبقيت ثابتة إلى اليوم‪.‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫ومن أشهر الخطاطين المعاصرين الذين أبدعوا في خط الثلث‪ :‬هاشم محمد‬
‫البغدادي‪ ،‬مصطفى راقم‪ ،‬حمد الله األماسي‪ ،‬سامي أفندي‪ ،‬حامد األمدي‪ ،‬الشيخ‬
‫محمد عبد العزيز الرفاعي‪ ،‬محمد حسني‪ ،‬وسيد إبراهيم‪ ،‬ومحمد إبراهيم‪ ،‬سعد‬
‫حداد‪ ،‬ومسعد خضير البورسعيدى‪ ،‬وحسن جلبي‪ ،‬محمد أوزجاي‪ ،‬داود بكتاش‪،‬‬
‫وعثمان أوزجاي‪ .‬ومحمد شوقي أفندي‪.‬‬
‫عائلة خط الثلث‪( :‬خط التوقيع‪ ،‬خط اإلجازة‪ ،‬خط الرقاع‪ ،‬خط المسلسل‪ ،‬خط‬
‫المحقق‪ ،‬خط الريحان‪،‬خط التاج‪ .‬شجرة خط القلقشندي‪ ،‬خط الرقعة والسياقة‪ ،‬خط‬
‫التعليق‪ ،‬خط نسخ تعليق‪ ،‬خط ديواني‪ ،‬خط ديواني جلي‪ ،‬خط الشكستة‪ ،‬الخطوط‬
‫التفننية‪ :‬الخط المثنى‪ ،‬خط المعمى)‪.‬‬

‫خـط الرقعـة‬
‫سم َي بذلك؛ نسبة إلى "الرقاع" وهو جلد الغزال‪ ،‬وضع قواعده الخطاط العثماني‪:‬‬
‫ِّ‬
‫ممتاز بك‪ ،‬وأنشئ في دواوين الخالفة العثمانية لتوحيد خط الكتابة بين موظفي الدولة‪،‬‬
‫ويعتبر "الرقعة" خط الكتابة اليومية‪ ،‬كما أن له أساليب متعارف عليها‪ ،‬منها‪ :‬أسلوب‬
‫تركي ومصري أو تجارى‪ .‬كما أنه يعتبر عند معلمي الخط‪ ،‬هو الخط األول للمتعلم‪.‬‬

‫الخط الديواين (السلطاين) (الغزالين)‬


‫كأن حروفه تتراقص على‬ ‫أجمل الخطوط العربية‪ ،‬يتميز بالحيوية والطواعية‪َّ ،‬‬
‫إن أول من وضع قواعده‪ ،‬وحدد موازينه‪ ،‬الخطاط إبراهيم منيف‪ ،‬وقد‬ ‫الورق‪ .‬يقال‪َّ :‬‬
‫عرف هذا الخط بصفة رسمية بعد فتح السلطان محمد الفاتح للقسطنطينية عام‬
‫‪ 857‬هـ (‪1453‬م) فكان يستعمل في كتابة األوسمة والنياشين والتعيينات‪ ،‬ولهذا‬
‫سمي بالديواني نسبة إلى الدواوين الحكومية‪ ،‬وكان في أول أمره سراً من أسرار‬
‫القصور في الدولة العثمانية‪ ،‬وكانت له صورة معقدة تزدحم فيها الكلمات‪ ،‬وتزدحم‬
‫أي حرف أو كلمة إليها‪ ،‬وهذا‬ ‫أسطره ازدحاماً ال يترك بينهما فراغ يسمح بإضافة ّ‬
‫التعقيد كان مقصوداً لذاته منعاً من تغيير النص في تلك األوراق الرسمية‪ .‬ومن أشهر‬
‫سمي بالخط الغزالني نسبة له‪ ،‬حيث‬ ‫خطاطي هذا النوع‪" :‬مصطفى غزالن بك" حتى َ‬
‫خرج به من مرحلة التعقيد واالزدحام‪ ،‬إلى مرحلة السهولة في الكتابة‪ .‬ومقاييس‬
‫نقطه بسمك القلم الذي يكتب به بالطول واالتساع والميل واالنحناء واالرتفاع‪ .‬وهذا‬
‫الخط له نوعان ‪:‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫‪1.1‬الخط الديواين املرسل ‪ :‬وله عدة مدارس‪ ،‬هي‪( :‬البغدادية ـ المصرية ـ التركية)‪،‬‬
‫وكل من هذه المدارس لها قواعدها الخاصة بها‪ .‬ويمتاز بإمكانية كتابة الحرف‬
‫الواحد على عدة أشكال مختلفة‪ ،‬لكن على قواعد محددة‪.‬‬
‫‪2.2‬الخط الديواين الجيل ‪ :‬يمتاز بالليونة وسهولة المد والشد‪ ،‬ويكثر فيه الزخارف‪،‬‬
‫معين‪ ،‬فل ُِيونَة الخط‬
‫شكل ٍ‬‫لذا يستخدم حين يريد الخطاط عمل لوحة على ٍ‬
‫تساعد على ملء الشكل المحدد‪ ،‬والزخارف تعمل على ملء الفراغات‬
‫الصغيرة لتحديد الشكل بطريقة أدق‪.‬‬

‫الخـط املغربـي‬
‫هو نوع من خطوط األبجدية العربية‪ ،‬ينتشر استخدامه في بلدان شمال إفريقيا‬
‫وغيرها‪ ،‬وموطنه عموم بالد المغرب العربي والسودان الغربي (غرب إفريقيا وجنوب‬
‫الصحراء الكبرى)‪ ،‬كما استخدم سابقاً في األندلس‪.‬‬

‫الخـط الفارسـي‬
‫ظهر هذا الخط في بالد فارس في القرن السابع الهجري‪ ،‬ويسمى (خط التعليق)‬
‫وهو خط جميل تمتاز حروفه بالدقة واالمتداد‪ .‬كما يمتاز بسهولته ووضوحه وانعدام‬
‫التعقيد فيه‪ .‬وال يتحمل التشكيل‪ ،‬رغم اختالفه مع خط الرقعة‪.‬‬
‫كما يعد من أجمل الخطوط التي لها طابع خاص‪ ،‬إ ْذ يتميز بالرشاقة في حروفه‪،‬‬
‫فتبدو وكأنها تنحدر في اتجاه واحد‪ ،‬وتزيد من جماله الخطوط اللينة والمدورة فيه‪،‬‬
‫ألنها أطوع في الرسم وأكثر مرونة‪ ،‬السيما إذا رسمت بدقة وأناقة وحسن توزيع‪،‬‬
‫الخطاط في استعماله إلى الزخرفة للوصول إلى القوة في التعبير باإلفادة‬‫وقد يعمد َّ‬
‫ال عن رشاقة الرسم‪ ،‬فقد يربط الفنان بين حروف الكلمة‬ ‫من التقويسات والدوائر‪ ،‬فض ً‬
‫الواحدة والكلمتين ليصل إلى تأليف إطار أو خطوط منحنية وملتفة يظهر فيها‬
‫عبقريته في الخيال واإلبداع‪.‬‬
‫كان اإليرانيون قبل اإلسالم يكتبون بالخط (البهلوي) فلما اعتنقوا اإلسالم‪،‬‬
‫أهملوه‪ ،‬وكتبوا بالخط العربي‪ ،‬وقد طور اإليرانيون هذا الخط‪ ،‬فاقتبسوا له من‬
‫جماليات خط النسخ ما جعله سلس القياد‪ ،‬جميل المنظر‪ ،‬لم يسبقهم إلى رسم‬
‫حروفه أحد‪ ،‬وقد وضع أصوله وأبعاده الخطاط البارع مير علي الهراوي التبريزي‬
‫المتوفى سنة ‪ 919‬هـ‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫ونتيجة النهماك اإليرانيين في فن الخط الفارسي الذي احتضنوه واختصوا به‪،‬‬
‫مر بأطوار مختلفة‪ ،‬ازداد تجذراً وأصالة‪ ،‬واخترعوا منه خطوطاً أخرى مأخوذة‬
‫فقد َّ‬
‫عنه‪ ،‬مثل ‪:‬‬
‫‪1.1‬خط الشكستة‪ :‬اخترعوه من خطي التعليق والديواني‪ .‬وفي هذا الخط شيء‬
‫من صعوبة القراءة‪ ،‬لذلك بقي محصوراً في إيران‪ ،‬ولم يكتب به أحد من‬
‫خطاطي العرب أو ينتشر بينهم‪.‬‬
‫‪2.2‬الخط الفارسي المتناظر‪ :‬كتبوا به اآليات واألشعار ِ‬
‫والحكم‪ ،‬بحيث ينطبق‬
‫آخر حرف في الكلمة األولى مع آخر حرف في الكلمة األخيرة‪ ،‬وكأنهم‬
‫يطوون الصفحة من الوسط ويطبعونها على يسارها‪ .‬ويسمى (خط المرآة‬
‫الفارسي)‪.‬‬
‫‪3.3‬الخط الفارسي المختزل‪ :‬كتب به الخطاطون اإليرانيون اللوحات التي تتشابه‬
‫حروف كلماتها بحيث يقرأ الحرف الواحد بأكثر من كلمة‪ ،‬ويقوم بأكثر من‬
‫دوره في كتابة الحروف األخرى‪ ،‬ويكتب عوضاً عنها‪ .‬وفي هذا الخط صعوبة‬
‫كبيرة للخطاط والقارئ على السواء‪.‬‬
‫‪4.4‬ومن وجوه تطور الخط الفارسي (التعليق) مع خط النسخ‪ ،‬أن ابتدعوا منهما‬
‫خط التعليق وهو فارسي أيضا‪ .‬وقد برع الخطاط عماد الدين الشيرازي‬
‫الحسني في هذا الخط وفاق به غيره‪ ،‬ووضع له قاعدة جميلة‪ ،‬تعرف عند‬
‫الخطاطين باسمه‪ ،‬وهي (قاعدة عماد)‪.‬‬
‫وكان أشهر من كان يكتبه بعد الخطاطين اإليرانيين‪ :‬محمد هاشم الخطاط‬
‫البغدادي‪ ،‬ومحمد بدوي الديراني بدمشق‪ ،‬ولكن يبقي السبق للخطاطين اإليرانيين‬
‫بال منازع‪.‬‬

‫خـط الطغـرى‬
‫"الطغرة" أو الطغراء" أو الطغرى‪ ،‬هو شكل جميل يكتب بخط الثلث على شكل‬
‫مخصوص‪ .‬وأصلها عالمة سلطانية تكتب في األوامر السلطانية‪ ،‬أو على النقود اإلسالمية‬
‫أو غيرها‪ ،‬ويذكر فيها اسم السلطان أو لقبه‪ .‬قال طه البستاني‪" :‬واتخذه السالطين‬
‫والوالة من الترك والعجم والتتر‪ ،‬حفاظاً ألختامهم‪ ،‬وقد يستعيض السالطين عن الختم‬
‫برسم الطغراء السلطانية على البراءات والمنشورات‪ ،‬ولها دواوين مخصوصة‪ ،‬على أن‬

‫‪- 51 -‬‬
‫الطغراء في الغالب ال تطبع طبعاً‪ْ ،‬‬
‫بل ترسم وتكتب‪ ،‬وطبعها على المصكوكات كان‬
‫يقوم مقام رسم الملوك عند اإلفرنج"‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن أصل كلمة "طغراء" كلمة تترية‪ ،‬تحتوى على اسم السلطان الحاكم‬
‫ولقبه‪ ،‬وإن أول من استعملها السلطان العثماني مراد األول‪ .‬ويروى في أصل الطغراء‬
‫قصة مفادها أنها شعار قديم لطائر أسطوري مقدس كان يقدسه سالطين األوغور‬
‫الترك‪ ،‬وأن كتابة طغراء جاءت بمعني ظل جناح ذلك الطائر‪.‬‬
‫وقد اختلطت بهذه الرواية قصة طريفة للطغراء ونشوئها عند العثمانيين‪ ،‬وهي‬
‫أنه َّلما توترت العالقات بين السلطان المغولي "تيمور لنك" حفيد "جنكيزخان"‪ ،‬وبين‬
‫السلطان "با يزيد" ابن مراد األول العثماني‪ ،‬أرسل تيمور لنك إنذاراً للسلطان بايزيد‬
‫يهدده بإعالن الحرب‪ ،‬ووقع ذلك اإلنذار ببصمة كفه ملطخة بالدم‪ .‬وقد طورت هذه‬
‫البصمة فيما بعد واتخذت لكتابة الطغروات بالشكل البدائي الذي كتبه العثمانيون‪.‬‬
‫وأقدم ما وصل إلينا من نماذج شبيهة بالطغروات‪ ،‬ما كان ليستعمل في المكاتبات‬
‫باسم السلطان المملوكي الناصر حسن بن السلطان محمد بن قالوون ‪752‬هـ‪ ..‬وقد‬
‫أدى كتابة االسم على شكل الطغراء إلى التصرف في قواعد الخط‪ .‬ويكون "الطغراء"‬
‫في الغالب مزيجاً من خط الديواني وخط الثلث‪.‬‬
‫دونت معارف العربية المشهورة‪ ،‬والتي هي اثنا‬
‫بهذه الخطوط (الخطوط العربية) ِّ‬
‫عشر علماً‪ ،‬على النحو التالي ‪:‬‬
‫(‪ )1‬النحو‪ )2( .‬الصرف‪ )3( .‬العروض‪ )4( .‬القافية‪ )5( .‬اللغة‪ )6( .‬القرض‪)7( .‬‬
‫اإلنشاء‪ )8( .‬الخط‪ )9( .‬البيان‪ )10( .‬المعاني‪ )11( .‬المحاضرة‪ )12( .‬االشتقاق‪.‬‬
‫(‪ )13‬اآلداب‪.‬‬
‫وقد جمعها الناظم في بيتين‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫وبعدها لغـة قـرض وإنشــــاء‬ ‫نحو ورصف عروض ثم قافيــــة‬
‫واالشتقاق لهــا اآلداب أسمــــاء‬ ‫خط بيان معانٍ مع محاضـــرة‬

‫‪- 52 -‬‬
‫خريطـة العربيـة‬
‫ُعد (العربيـة) أكثر اللغات السامية انتشاراً في العالم‪ .‬وبالنسبة للمسلمين هي‬
‫ت ُّ‬
‫ُعد أيضاً لغة الشعائر لعدد كبير من الكنائس المسيحية‬
‫مصدر التشريع في اإلسالم‪ ،‬وت ُّ‬
‫في الوطن العربي‪ ،‬مثل كنائس الروم األرثوذكس‪ ،‬والروم الكاثوليك‪ ،‬والسريان‪ ،‬وبعض‬
‫الكنائس البروتستانتية‪ ،‬كما ُكتِبت بها الكثير من األعمال الدينية والفكرية اليهودية‬
‫في العصور الوسطى‪ .‬وقد بلغ عدد الذين يتحدثون العربية حوالي ‪ 700‬مليون نسمة‪،‬‬
‫يتوزعون في الوطن العربي‪ ،‬باإلضافة إلى العديد من المناطق األخرى المجاورة؛‬
‫كاألهواز وتركيا وتشاد ومالي والسنغال وإريتريا‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن الجاليات العربية في أوربا‬
‫وأميركا(((‪.‬‬
‫بل فتح الباب واسعاً أمام‬‫وقد ساعد (القرآن) على حفظ هذه اللغة واالرتقاء بها‪ْ .‬‬
‫كل األجناس واألعراق‪ ،‬لتحمل شرف االنتِماء إلى هذا اللسان المبين‪ ،‬فتسابَق أبناء‬ ‫ِّ‬
‫ممن عاشوا في كنف اإلمبراطورية اإلسالمية‪ ،‬إلى إجادة‬ ‫الشعوب والحضارات األخرى َّ‬
‫وضع أسس قواعد مختلف العلوم العربية‬ ‫وشار ُكوا في ْ‬
‫العربية‪ ،‬والتسابُق في اإلبداع بها‪َ ،‬‬
‫واإلسالمية بها‪ ،‬وأصبحت أسماؤهم رمو ًزا با ِرزة في مختلف فروع المعرفة‪ ،‬أمثال‪:‬‬
‫(سيبويه) في النحو‪ ،‬و(الجرجاني) في البالغة‪ ،‬و(البخاري) في الحديث‪ ،‬و(الزمخشري)‬
‫لكي تتجا َوز الجنس العربي إلى‬‫في التفسير‪ ،‬وهكذا اتَّسع مفهوم (العربية) وثقافتها‪ْ ،‬‬
‫ثقافة اإلمبراطورية اإلسالمية التي لم تق َت ِصر فقط على علوم اللغة ِّ‬
‫والدين؛ وإنما‬
‫العلمية اإلنسانية في الطب والجراحة‪ ،‬والرياضيات‬ ‫َّ‬ ‫امتد ْت من خالل اللغة إلى الثقافة‬
‫َّ‬
‫والجبر‪ ،‬والفلك والصيدلة‪ ،‬وظلَّت ترجمات الكتب العربية لألعالم مثل‪ :‬ابن سينا‪،‬‬
‫حيان‪ ،‬وابن الهيثم‪ ،‬وابن النفيس‪ ،‬وغيرهم؛ تُشا ِرك في تمثيل‬ ‫والزهراوي‪ ،‬وجابر بن َّ‬
‫انطال ًقا من‬
‫العلمية في الجامعات األوروبية حتى وقت ليس بالبعيد‪ِ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫كتب المعرفة‬
‫الحية للعلوم‪.‬‬
‫اتِّساع المفهوم‪ ،‬وثراء العربية‪ ،‬واستخدامها في المجاالت َّ‬
‫ُمثِّل نموذج اللغة التي‬
‫وتوسعها أن ت َ‬ ‫وقد استطاعت «العربية» في ف ْترة ِ‬
‫انطالقِها ُّ‬
‫استعار ْت حرو َفها‬
‫َ‬ ‫المثقفون من غير أبنائها‪ ،‬على أن يتحلَّوا بمعرفتها‪ْ ،‬‬
‫بل‬ ‫يح ِرص َّ‬

‫((( العربية لغة الوحي والوحدة‪ ،‬محمد عبد الشافي القوصي‪ ،‬وزارة اإلعالم‪ ،‬الرياض‪2001 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 53 -‬‬
‫لكي تكتب بها كلماتها‪ ،‬ومن‬ ‫خاصة اللغات اإلسالمية‪ْ ،‬‬ ‫كثير من اللغات األخرى‪َّ ،‬‬‫ٌ‬
‫بينها‪ :‬الفارسية في إيران وأفغانستان‪ ،‬واألوردية في الهند وباكستان‪ ،‬اللتان كانتا ‪-‬وما‬
‫إسالمية أخرى كانت تكتب بالحرف‬ ‫َّ‬ ‫العربية‪ ،‬لكن لغات‬
‫َّ‬ ‫تزاالن‪ -‬تُك َتبان بالحروف‬
‫المح َكم ُلم َ‬
‫حاربة العربية في القرن‬ ‫العربي وتخلَّت عن ذلك الحرف؛ نتيج ًة للتخطيط ُ‬
‫غيرت حروفها إلى الالتينية بعد‬ ‫مقدمة هذه اللغات‪ :‬التركية التي َّ‬
‫العشرين‪ ،‬وفي ِّ‬
‫سقوط الخالفة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية األولى‪ ،‬وتب َع ْتها في ذلك اللغات‬
‫َقاسم النفوذ عليها‬
‫اإلسالمية في منطقة تركستان‪ ،‬والتي ت َ‬
‫َّ‬ ‫المن َت ِشرة في سهول آسيا‬
‫الصين واالتِّحاد السوفيتي السابق بعد الحرب العالمية‪ ،‬وعملوا على إزالة الحرف‬
‫اإلفريقية التي كانت‬
‫َّ‬ ‫العربي وتحريم الكتابة به‪ ،‬كما حدث الشيء ذاته في اللغات‬
‫تُك َتب بالحروف العربية‪ ،‬وعلى رأسها‪ :‬اللغة السواحلية في شرق إفريقيا‪ ،‬والتي ظلَّت‬
‫تُك َتب بحروف عربية حتى عام ‪1964‬م‪ ،‬حينما صدر قرار بإزالة الحروف العربية ووضع‬
‫وحدث ذلك في اللغات اإلسالمية في غرب إفريقيا‪.‬‬ ‫الالتينية مكانها‪َ .‬‬
‫فظهرت َص ْيحات‬
‫ْ‬ ‫تمتد إلى ِ‬
‫داخل اللغة العربية ذاتها؛‬ ‫ولقد حا َولت تلك الحرب أن َّ‬
‫منذ أوائل القرن العشرين‪ ،‬تدعونا إلى أن نكتب ‪-‬نحن ً‬
‫أيضا‪ -‬لغتنا العربية بحروف‬
‫زحف الحروف الالتينية على المؤسسات والشوارع في كثي ٍر من‬
‫التينية‪ .‬وما زلنا نرى ْ‬
‫المدن العربية‪.‬‬
‫ُ‬
‫وإن منزلتها بين اللغات صور ٌة‬
‫«إن غلبة اللغة بغلبة أهلها‪َّ ،‬‬
‫يقول ابن خلدون‪َّ :‬‬
‫لمنزلة دولتها بين األمم»‪ .‬فاللغة تحيا وتنتعش بانتعاش الذهنية التي تصدر عنها‪،‬‬
‫–أي‬
‫أن يعرف حالة األمة ّ‬ ‫وتمرض وتموت بموت الكيان الصادرة عنه»‪ .‬ومن يريد ْ‬
‫أمة‪ -‬فلينظر إلى حالة لغتها من القوة والضعف‪ ،‬واالنتشار والخمول‪ .‬لذا؛ فالعربية في‬
‫حالة (مد وجزر) مستمرة‪.‬‬
‫ال؛ قبل نزول (القرآن) كانت العربية حبيسة جزيرة العرب‪ ،‬لكن نزول الوحي‬ ‫فمث ً‬
‫بها؛ منحها أهمية كبرى‪ ،‬وأكسبها أرضاً جديدة‪ ،‬وصارت لغ ًة لبال ٍد وممالك وأقوام جدد‪.‬‬
‫وأثرت فيها تأثيراً قوياً‪ ،‬ولم‬
‫ْ‬ ‫فاختلطت في (األندلس) باللهجات اإلسبانية‪،‬‬
‫شكلت أيضاً بعض (المدن‬ ‫تكن إسبانيا المنفذ الوحيد لولوج العربية إلى أوروبا‪ْ ،‬‬
‫بل َّ‬
‫اإليطالية) قنطر ًة أ ْو وسيطاً من خالل عربية صقلية والبندقية وجنوا‪.‬‬
‫كما توغلت حتى (الصحراء الكبرى وشرق إفريقيا) مخلِّفة تراثاً كبيراً هناك‪.‬‬
‫فقد قام التوسع اإلسالمي بمد نفوذه بمحاذاة (السافانا) وقد أطلق العرب على هذه‬

‫‪- 54 -‬‬
‫المنطقة‪ ،‬اسم «بالد السودان»‪ .‬وكانت هذه الشعوب تتكلم لغة (الهوسا) المتضمنة‬
‫لمجموعة من الكلمات المقترضة من العربية‪ .‬كما أقام العرب على (الساحل الشرقي‬
‫للقارة اإلفريقية) عالقات تجارية مع سكان هذه الشعوب المتجمعين في منطقة‬
‫الصومال والموزمبيق‪ ،‬والمتكلمين لغات البانتو‪.‬‬
‫أيضاً‪ ،‬انبثق تراث ساحلي في (زنزيبار) نتيجة التالقح الثقافي بين كل من‬
‫العربية والسواحلية في القرن الثاني عشر الميالدي‪ ،‬ليحل محلها التأثير اإلنجليزي‬
‫ٳبان فترة االستعمار‪.‬‬
‫لكن سرعان ما عادت «العربية» لغة رسمية بعد استقالل المنطقة عام ‪1964‬م‪.‬‬
‫في حين ظلت «العربية» في كل من (كينيا‪ ،‬وتنزانيا) مرتبطة بالتعليم القرآني‪ .‬وقد‬
‫شهدت السنوات األخيرة نزوعاً قوياً نحو العربية لدى سكان هذه المناطق؛ بغية ٳحاللها‬
‫محل اإلنجليزية‪ ،‬ترتب على ذلك عملية دمج عالية‪ ،‬صاحبها اقتراض لغوي من العربية‪.‬‬
‫َّأما في (ٳيـران) فقد ارتبطت العربية بنزعة سياسية‪ ،‬ٳ ْذ احتلت مكانة رفيعة بعد‬
‫ثم انحسرت لظروف سياسية‪ ،‬وصار دورها محصوراً في كونها لغة القرآن‪.‬‬‫الفتح اإلسالمي‪َّ ،‬‬
‫بأن «الفارسية» تقترب كثيراً من «العربية»؛ ألنها تكتب بالخط العربي‪ ،‬وتتضمن‬‫عِلماً َّ‬
‫وإن كانت الفارسية قد طورت نظامها‬ ‫ال من الكلمات المقترضة من العربية‪ْ .‬‬‫عدداً هائ ً‬
‫الخاص بها؛ مثل اندماج مجموعة من األصوات في صوت واحد (الثاء والشين والسين)‬
‫باتت تنطق (سينا)‪ .‬كما تستخدم توليفات مصحوبة بضمائر المفعول في التركيب‬
‫الصوتي للفعل العربي مع احتوائها للفعل الفارسي (كردن)‪.‬‬
‫وفي (تركيـا) تعاقب كل من (العربية‪ ،‬والفارسية‪ ،‬والتركية) وذلك ابتدا ًء من الفتح‬
‫اإلسالمي مروراً بالخالفة العثمانية وانتها ًء بالجمهورية التركية‪ .‬لكن «العربية» احتفظت‬
‫الدين والقرآن الكريم‪ ،‬حتى بعدما أصبح موقفها ضعيفاً‪.‬‬ ‫بميزتها األساس في كونها لغة ِّ‬
‫أن اقترضت كل من العثمانية والتركية عدداً كبيراً من الكلمات العربية‪٬‬‬ ‫وقد سبق ْ‬
‫تجلى في استخدام صيغ الجمع‪ ،‬والتغييرات المركبة من كلمات عربية األصل‪.‬‬
‫وفي (شبه القارة الهنديـة) ساعدت تجارة المسلمين على نسج عالقات بين الهند‬
‫والعالم اإلسالمي‪ ،‬ٳ ْذ كانت لغة األوردو –المتضمنة للعديد من الكلمات الفارسية–‬
‫هي لغة التواصل بين المسلمين والهندوس تحت حكم «الغزنويين»‪ .‬لكن االحتالل‬
‫اإلنجليزي أحدث اضطراباً أسفر عن استخدام «األوردو» للحروف العربية–الفارسية‬
‫باعتبارها لغة رسمية في باكستان‪.‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫وبعد انفصال باكستان؛ استخدمت الهند اللغة بأسلوب مغاير؛ الهندي بخط‬
‫(ديفاناجارى)‪.‬‬
‫وعندما بدأت الصالت بين شرق آسيا والعالم اإلسالمي في القرن التاسع عشر‬
‫الميالدي كانت اللغة «المالوية» لغة كل من (شبه جزيرة الماليو وإندونيسيا)‪ .‬فلم‬
‫ٳال أنها استطاعت أن تؤثر في‬ ‫تستطع العربية احتالل مكانة رفيعة بهذه المناطق‪َّ ،‬‬
‫الوضع اللغوي لكونها لغة القرآن‪ .‬السيما أن «إندونيسيا» أكبر معاقل المسلمين‬
‫خارج العالم العربي‪ ،‬فاحتلت العربية مكانة رفيعة باعتبارها لغة الدين اإلسالمي‪ .‬لذا؛‬
‫ال من الكلمات العربية‪.‬‬‫تضم اإلندونيسية عدداً هائ ً‬

‫ُعد الجيوب اللغوية عنصراً مهماً في دراسة االتصال اللغوي‪ ،‬لكونها لم تتعرض‬
‫وت ُّ‬
‫لضغوط العربية الفصحى رغم وجودها بالعالم العربي‪ ،‬باستثناء «المالطية»؛ التي تضم‬
‫مزيجاً من اللغات‪ ،‬وذلك ابتداء من الفتح اإلسالمي عام ‪ 256‬هـ مروراً بغزو النرميين‬
‫سنة ‪ 445‬هـ‪ ،‬انتهاء بحلول اإلنجليزية محل اإليطالية سنة ‪1814‬م‪.‬‬
‫وقد أدى الكم المتدفق من الكلمات على المالطية إلى تغيير في البنية الصرفية‬
‫لهذه اللغة‪ .‬كذلك هناك اندماج عدد من الصوامت من أصل عربي‪ ٬‬حيث حلَّت القاف‬
‫محل الهمزة‪ ،‬واختفى كل من العين والغين والهاء‪.‬‬
‫ٳلى جانب المالطية؛ نجد عربية (موارنة قبرص)‪ ،‬وهم أقلية في قرية «كورماكيتي»‬
‫شمال غرب قبرص‪ .‬ويرجع تاريخ دخول العرب لها في القرنين التاسع والعاشر الميالديين‪.‬‬
‫الحضريتين‬
‫ْ‬ ‫اللهجتين‬
‫ْ‬ ‫وتتضمن عربية قبرص‪ ،‬سمات كثيرة مشتركة مع كل من‬
‫السورية والعراقية‪ .‬كما تتميز هذه اللغة ببعض الخصوصيات‪ ،‬مثل ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬تطوير األصوات االنفجارية العربية‪ ،‬ويرجع ذلك ٳلى تأثير اليونانية‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تخفيض عدد الصيغ الصرفية‪ :‬عدد صيغ جمع االسم‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬وجود كلمات يونانية مقترضة تمتد إلى المجاالت الرسمية‪.‬‬
‫كذلك؛ ظلت العربية في (األناضـول) ـ تركيا ـ حاضرة رغم تعاقب كل من السالجقة‬
‫والعثمانيين‪.‬‬
‫وتقسم اللهجات العربية هناك ٳلى خمس مجموعات‪ :‬مجموعة ديار بكر‪ ،‬ومجموعة‬
‫َّ‬
‫مردين‪ ،‬ومجموعة سيرت‪ ،‬ومجموعة كوزلوك‪ ،‬ومجموعة ساسون‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫وتوجد بين هذه المجموعات تباينات عدة‪ ،‬تخص النواحي الصرفية والصوتية‬
‫مع وجود تجديدات لغوية مهمة‪ .‬كما تتضمن لهجات األناضول العربية عدة كلمات‬
‫مقترضة من التركية والكردية بشكل يجعلها مميزة لهذه اللهجات‪.‬‬
‫َّأما في (أوزبكستان وأفغانستان) ففيهما عربية قريبة من اللهجات العراقية‬
‫للعربيتين؛ ٳلى غزوات «تيمور لنك» في‬
‫ْ‬ ‫الحضرية‪ ،‬ويرجع العلماء األصول العرقية‬
‫القرن الثامن الهجري‪ .‬فقد جلبها معه من قبيلة قريش‪ .‬لذا نرى تلك الجماعات تفتخر‬
‫بأصلها العرقي‪.‬‬
‫وتختلف اللغتان في احتفاظ األفغانية بصوتي (الحاء والعين) اللذيْن اختفيا من‬
‫ولما كانت هذه األخيرة ذات جذور متفرعة من اللهجة العراقية الحضرية‪،‬‬ ‫األوزبكية‪َّ .‬‬
‫فقد عكست الكثير من سماتها‪ ،‬رغم أنها قد طورت نظامها الخاص بها مثل مخالفة‬
‫ترتيب الجملة العربية‪ ،‬إ ْذ نجد (مفعول‪ -‬فاعل‪ -‬فعل) مع اختفاء أداة التعريف الموجودة‬
‫بالعربية الفصحى‪.‬‬
‫وهناك كذلك اسم (كريول) الذي يطلق على اللهجة التي خضعت لعملية تهجين‬
‫‪-‬يوظف في التواصل‪ -‬نحو لغة ثانية‬ ‫لغوي‪ ٬‬عبر االنتقال من نمط لغوي مبسط َّ‬
‫عد «الكريول»‬
‫مساعدة على التواصل اكتسبت صفة اللغة األم بفعل تعاقب األجيال‪ .‬ويُ ُّ‬
‫المستخدم حالياً في كل من (جنوب السودان‪ ،‬وكينيا‪ ،‬وأوغندا)‪ ،‬عربية مهجنة‬
‫اكتسبت في معسكرات الجيش المصري بالسودان‪ .‬وقد انبثقت منها لغة ستحتل‬
‫قريباً مرتبة اللغة األم‪ ،‬هي (عربية جوبا) التي قلَّصت من نظامها الصوتي باختفاء‬
‫مجموعة من األصوات مثل الحاء والعين مع دمج األصوات المفخمة في نظيرتها غير‬
‫تفرق بين صيغ المفرد والجمع‪ ،‬كما اقترضت كلمات أجنبية‬ ‫المفخمة‪ .‬غير أنها ال ِّ‬
‫من اإلنجليزية والبانتو من الناحية المعجمية‪.‬‬
‫وال ننسى الهجرات العربية باتجاه (أوروبا وأميركا) وما صاحب ذلك من تحوالت‬
‫لغوية لدى المهاجرين‪ .‬ويمكن التمييز بين نوعين من الهجرة إلى الغرب‪:‬‬
‫األوىل ‪ :‬هجرات اللبنانيين نحو أميركا في بداية القرن التاسع عشر الميالدي؛‬
‫اللذين ينتمون لطبقات متعلِّمة‪ ،‬ومنهم أدباء وشعراء َّ‬
‫وكتاب‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬هجرات المغاربة (من دول المغرب العربي) من أصول بربرية باتجاه‬
‫أوروبا‪ ،‬ومعظمهم عمال‪ ،‬وحرفيين‪.‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫وقد تركت «اللغة الثانية» إشكالية‪ ،‬اصطدم به المهاجرون‪ ،‬أدت ٳلى تحول لغوي‬
‫مس األبناء‪ .‬وقد تمثل هذا التحول في تغيير على مستوى النظام الصوتي‪ ،‬مع تغيير‬‫َّ‬
‫أ ْو خلط شفرة الخطاب‪ ،‬أ ْو فقدان اللغة األصلية في بعض األحيان‪.‬‬
‫أن حكومات (المهجر) قد منحت أهمية لهذه األقليات‪ ،‬بنهج‬ ‫وجدير بالذكر؛ َّ‬
‫أن‬ ‫سياسة تعليمية تراعي خصوصية لغتهم األصلية في كل من السويد وهولندا‪َّ ،‬‬
‫ٳال َّ‬
‫هذه السياسات وجدت صعوبات‪ ٬‬لكون المتعلمين المنحدرين من أصول مغاربية‬
‫كثير منهم من «البربر»‪ ،‬يصعب معهم تحديد النوع المستخدم في عملية التعليم‪.‬‬
‫تقصي مسار العربية في المهجر لتداخل مجموعة من العوامل‪ ،‬منها‬
‫كما يصعب ّ‬
‫ما هو ديني‪ ،‬وما هو ثقافي‪ ،‬وما هو سياسي أيديولوجي‪.‬‬
‫الخالصـة؛ (العربية) ذات تأثير ملحوظ في كل األزمنة واألمكنة التي ّ‬
‫تحل بها‪،‬‬
‫و(العرب) لهم بصمة واضحة عند اتصالهم بالشعوب األخرى‪ ،‬وقد أدى هذا االحتكاك‬
‫بل أيضاً في بنيتها الصرفية‬
‫ٳلى التأثير القوي‪ ،‬ليس فقط في مفردات تلك اللغات‪ْ ،‬‬
‫النحوية‪.‬‬
‫المرجح أن‬
‫َّ‬ ‫ألن كثيراً من اللغات المعاصرة آيلة للسقوط واالندثار؛ فمن‬
‫ونظراً َّ‬
‫تحل (العربية) محلها‪ ،‬وترث عروشها‪ ،‬وتبسط لسانها الطاهر مكانها‪.‬‬
‫أن تستجمع «العربية» ُقواها لمواجهة متطلَّبات الحاضر والمستقبل‬ ‫لكن بشرط ْ‬
‫وأن تقوم بدورها الحقيقي في المحافظة على ال ُهويَّة‪،‬‬
‫في المجال المعرفي والحضاري‪ْ ،‬‬
‫المهددة َّ‬
‫بالض َياع في ظل تصارع الحضارات‪ .‬فهل أنتم فاعلون؟‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫واستِعادة مالمِحها‬

‫‪- 58 -‬‬
‫مزايا لغة الضاد‬
‫إذا كانت اللهجات واللغات تحتاج إلى ذِكر مناقبها‪ ،‬واإلشادة بمكانتها‪ ،‬والترويج‬
‫فإن (العربيـة) ال تحتاج إلى شيء من ذلك‪ ،‬بعدما َّ‬
‫تخط ْت اليابس والماء‪،‬‬ ‫لمكاسبها‪َّ ،‬‬
‫وشهد لها األكابر من غير أهلها‪ ،‬وقد خصصنا لتلك الشهادات مبحثاً مستق ً‬
‫ال في أواخر‬
‫هذا الكتاب‪.‬‬
‫حسب العربية؛ أنها نزلت بها آخر رساالت السماء وأكملها‪ ،‬فضمن لها الحفظ‬
‫والخلود األبدي﴿ ِإنَّا ن َْح ُن نَ َّز ْل َنا ِّ‬
‫الذك َْر َو ِإنَّا َلهُ َل َح ِافظُ َ‬
‫ون ﴾ [الحجر‪.]9 :‬‬
‫أن (القرآن) رسالة عالمية؛ فمن المنتظر في هذه الرسالة أن تحمل‬‫وكما هو معلوم‪َّ ،‬‬
‫وأن يحتاج غيرها إليها وال تحتاج‬
‫أسمى المعاني في أوجز الكلمات وأوضح وأدق المعاني‪ْ ،‬‬
‫ألن هذه الرسالة باقية إلى آخر الدهر‪.‬‬ ‫وأن تكون صالحة ِّ‬
‫لكل زمان ومكان؛ َّ‬ ‫إلى غيرها‪ْ ،‬‬
‫علمية أثب َتتها ُ‬
‫األ َمم‬ ‫هذه ميزات ال تتوفر في أيَّة لغ ٍة أخرى‪ ،‬وهذه حقيقة َّ‬
‫أصدرت بيانًا بعدد اللغات التي ماتت خالل القرن العشرين‪ ،‬واللغات‬
‫ْ‬ ‫المتحدة؛ حيث‬
‫المتوقع موتها في القرن الحادي والعشرين‪ ،‬ومن بينها‪ :‬العربية‪ .‬لكن الله –سبحانه‪-‬‬
‫قيض جامعة «برمنجهام ‪ »Bermengham‬البريطانية؛ ل ُتثبِت خطأ هذا ُّ‬
‫التوقع؛ حيث‬ ‫َّ‬
‫أن «العربيـة» لغة خالدة‪.‬‬
‫أثب َتت َّ‬
‫بعده تنقرض‬ ‫حددت ‪-‬تلك الجامعة‪ -‬للُّغات الكبرى في العالَم ً‬
‫عمرا محد ًدا َ‬ ‫ْ‬
‫بل َّ‬
‫هذه اللغات‪ ،‬فكان من بينها «اللغة اإلنجليزية» التي ستموت في خالل قرن ونصف‬
‫(((‬
‫من الزمان‪ ،‬و«اللغة الفرنسية» التي ستموت خالل ثالثة أرباع قرن‪.‬‬
‫لذلك؛ سارعت بعض الدول الكبرى؛ تُ َقيد تاريخها باللغة العربية‪ ،‬ومنها الواليات‬
‫يدل على ثَبات (العربية) وتماسكها وتفكك اللغات‬ ‫المتحدة األمريكية‪ ،‬وروسيا؛ وهذا ُّ‬
‫جميع اللغات تحوي أسباب فنائها َّ‬
‫إال العربية؛‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫األخرى‪ .‬فقد أثبتت ذات الجامعة َّ‬
‫تؤدي إلى اندثار اللغات وزوالها‪.‬‬ ‫فإنها خالية من ِّ‬
‫كل اآلفات التي ِّ‬

‫((( فضائل لغة القرآن‪ ،‬حسن محمد فؤاد‪ ،‬بحث غير منشور‪.‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫مميزات (لغة الضـاد)‪ ،‬مع مقارنة هذه الميزات مع‬
‫في هذا الصدد؛ سنعرض ِّ‬
‫أي اللغات حاز من أسباب التفاضل والتكامل‬
‫بعض اللغات العالمية الشهيرة‪ ،‬لنرى ّ‬
‫على األخرى‪.‬‬

‫امليزة األوىل ‪( :‬الفصاحـة)‬


‫خلوه من ‪:‬‬
‫مما يَ ُشوبه‪ ،‬ومن شروط فصاحة الكالم‪ُّ ،‬‬
‫خلو الشيء َّ‬
‫الفصاحة يف اللغة ‪ُّ :‬‬
‫مبني على تكرار ٍ‬
‫صوت‬ ‫ ‪ .‬أتنا ُفر الكلمات ‪ :‬وهذا َّيت ِصل باألصوات ً‬
‫أيضا؛ ألنَّه ٌّ‬
‫ما بنسبة معيبة‪.‬‬
‫ ‪ .‬بضعف التأليف اللفظي ‪ :‬بجريانه على خالف المشهور من القواعد‪ ،‬وهذا‬
‫َّيت ِصل بالنحو‪.‬‬
‫ ‪ .‬جالتعقيد اللفظي ‪ :‬وذلك باضطراب مرجع الضمير وغير ذلك‪ :‬وهذا َّيت ِصل‬
‫بعلم النحو‪.‬‬
‫ ‪ .‬دالتعقيد المعنوي ‪ :‬وذلك بصعوبة ال ُو ُصول من المعنى األساس للكلمات‬
‫الم َراد ‪ :‬وهذا َّيتصل بعلم البيان‪.‬‬ ‫إلى المعنى ُ‬
‫يقول الفارابي‪« :‬هذا اللسان كال ُم أهل الجنة‪ ،‬وهو الم َن َّزه من بين األلسنة من‬
‫هجن أو يُس َتش َنع‪ ،‬فبنى‬‫مما يُس َت َ‬
‫كل خسيسة‪ ،‬والمهذب َّ‬ ‫كل نقيصة‪ ،‬والمعلى من ِّ‬ ‫ِّ‬
‫أوج َده الله له‪ ،‬وتأليف بين حركة وسكون‬ ‫إعراب َ‬‫ٍ‬ ‫مباني بايَن بها جميع اللغات من‬
‫يالق بين حر َف ْين ال‬
‫متضاديْن‪ ،‬ولم ِ‬
‫َّ‬ ‫متحر َك ْين‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫حاله به‪ ،‬فلم يجمع بين ساك َن ْين‪ ،‬أو‬
‫يأتلفان‪ ،‬وال يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة وحس السمع‪،‬‬
‫كالغين مع الحاء‪ ،‬والقاف مع الكاف‪ ،‬والحرف المطبق مع غير المطبق؛ مثل‪ :‬تاء‬
‫أخوات لهما‪ ،‬والواو الساكنة مع الكسرة قبلها‪ ،‬والياء‬ ‫ٍ‬ ‫االفتِعال‪ ،‬والصاد مع الضاد في‬
‫(((‬
‫ُحصى»‪.‬‬
‫الساكنة مع الضمة قبلها‪ ،‬في خالل كثيرة من هذا الشكل ال ت َ‬

‫(التـرادف)‬
‫ُ‬ ‫امليزة الثانيـة‪:‬‬
‫وهذه ميزة ُمترتِّبة على سابقتها ونتيجة لها‪ ،‬فما هو الترادف؟‬
‫«الترادف» هو التتابُع‪ .‬أ ْو داللة عدد من الكلمات المختلفة على معنى واحد؛ مثل‪:‬‬

‫((( املزهر يف علوم اللغة وأنواعها؛(‪ )272 /1‬جالل الدين السيوطي‪.‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫(الحزن)‪ :‬الغم‪ ،‬الغمة‪ ،‬األسى‪ ،‬والشجن‪ ،‬الترح‪ ،‬ال َو ْجد‪ ،‬الكآبة‪ ،‬الجزع‪ ،‬األسف‪،‬‬
‫اللهفة‪ ،‬الحسرة‪ ،‬الجوى‪ ،‬الحرقة‪ ،‬واللوعة‪.‬‬
‫تام‪ ،‬إنما المترادفات تش َت ِرك في معنى عام‪ ،‬ثم‬
‫وليس في اللغة العربية ترادف ٌّ‬
‫كل مفردة عن األخرى بزيادة معنى ليس في غيرها‪.‬‬ ‫تختص ُّ‬
‫ُّ‬
‫وهنا تظهر بالغة العربية؛ فهي لُغة دقيقة في تعبيراتها‪ ،‬ال ِّ‬
‫تعبر بمعنى فضفاض‬
‫كلمات كثيرة إليصال المعنى؛ ْ‬
‫بل الكلمة الواحدة تحمل‬ ‫ٍ‬ ‫ثم هي ال تحتاج إلى‬‫الداللة‪َّ ،‬‬
‫معاني كثيرة‪.‬‬

‫امليزة الثالثـة ‪( :‬األصوات وداللتها عىل املعاين)‬


‫تدل على معناها بمجرد سماع صوت‬ ‫أن أصوات بعض كلمات العربية ُّ‬ ‫لقد ثبت َّ‬
‫إن بعض الكلمات قد يُف َهم معناها العام أ ْو معناها بدقة من خالل أصوات‬ ‫الكلمة‪ْ ،‬‬
‫بل َّ‬
‫المتكلم‪.‬‬
‫الحاصلة للعرب أحسن الملكات وأوضحها‬ ‫ِ‬ ‫وفي هذا؛ يقول ابن خلدون‪« :‬الملكات‬
‫إبان ًة عن المقاصد لداللة غير الكلمات على كثي ٍر من المعاني؛ مثل الحركات التي ت ِّ‬
‫ُعين‬
‫المضاف‪ -‬ومثل الحروف التي ت ِ‬
‫ُغضي باألفعال إلى‬ ‫‪-‬أي‪ُ :‬‬
‫الفاعل من المفعول والمجرور ْ‬
‫وأما غيرها من‬ ‫الذوات من غير تكلُّف ألفاظ أخرى‪ .‬وال يوجد ذلك َّ‬
‫إال في لغة العرب‪َّ ،‬‬
‫تخصه بالداللة؛ ولذلك نجد كالم العجم‬
‫البد له من ألفاظ ُّ‬ ‫اللغات‪ُّ ،‬‬
‫فكل معنى أو حال َّ‬
‫تقدره بكالم العرب‪.»...‬‬
‫مما ِّ‬
‫في مخاطبتهم أطول َّ‬

‫امليزة الرابعـة ‪( :‬سعـة املفـردات)‬


‫ال توجد لغ ٌة على وجه األرض يحوي قاموسها ما يَح ِويه المعجم العربي من مفردات‪،‬‬
‫وهذه حقيقة واقعة شهد بها جحافل المستشرقين‪ ،‬فاللغة العربية هي لغة ال ِغ َنى والثَّراء‪.‬‬
‫مذهبا‪ ،‬وأكثرها ً‬
‫ألفاظا»‪.‬‬ ‫وقد قال اإلمام الشافعي‪« :‬لسان العرب أوسع األلسنة ً‬
‫نبي‪ ،‬مهما بلَغ في اللغة شأ ًوا‬ ‫فال يُمكِن ألح ٍد إحصاء جميع األلفاظ العربية َّ‬
‫إال ّ‬
‫لمسمى واحد؛ كأسماء‪( :‬السيف‪ ،‬والرمح‪ ،‬واألسد‪،‬‬‫ًّ‬ ‫كثير من األسماء‬
‫بعيدا‪ ،‬وفي العربية ٌ‬
‫ً‬
‫وممن ألف في المترادف العالمة‬ ‫والحية‪ ،‬والعسل‪ ،‬والملبس‪ ،‬والعفو‪ ،‬والعشق‪ ،‬وغيرها)‪َّ .‬‬
‫مجد الدين الفيروزآبادي صاحب «القاموس»‪ ،‬ألَّف فيه كتابًا سماه‪« :‬الروض املسلوف‬
‫كتبا في أسماء أشياء مخصوصة‪ ،‬فألَّف‬ ‫األئمة ً‬
‫خلق من َّ‬ ‫فيام له اسامن إىل ألوف»‪ ،‬وأفرد ٌ‬

‫‪- 61 -‬‬
‫ابن خالويه كتابًا في «أسماء األسد»‪ ،‬وكتابًا في «أسماء الحية»‪ ،‬ذكر أمثلة من ذلك‬
‫سماه‪« :‬ترقيق‬
‫أور َدها صاحب «القاموس» في كتابه الذي َّ‬
‫اسما‪َ ،‬‬
‫«العسل» له ثمانون ً‬
‫األسل لتصفيق العسل»‪.‬‬
‫البتة أوصاف السيف واألسد والرمح وغير‬‫«ومما ال يُمكِن نقله‪َّ ،‬‬
‫يقول ابن فارس‪َّ :‬‬
‫فأما‬
‫أن العجم ال تَع ِرف لألسد أسماء غير واحد‪َّ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫ومعروف َّ‬ ‫ذلك من األسماء المترادفة‪،‬‬
‫(((‬
‫نحن فنخرج له خمسين ومائة اسم»‪.‬‬
‫ويقول ً‬
‫أيضا‪« :‬حدثني أحمد بن بندار قال‪ :‬سمعت أبا عبد الله بن خالويه‬
‫وللحية مائتين»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫جمعت لألسد خمسمائة اسم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الهمذاني‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ِ‬
‫المعاصرين‪ .‬قال الدكتور‬ ‫قرره جميع علماء اللغة‬
‫صرح به ابن فارس؛ يُ ِّ‬
‫وهذا الذي َّ‬
‫جمع المفردات العربية‬
‫«إن البروفيسور دو هامر ‪َ De Hammer‬‬ ‫علي عبد الواحد وافي ‪َّ :‬‬
‫فتجاوزت أكثر من خمسة آالف وستمائة وأربع وأربعين»‪.‬‬
‫ْ‬ ‫المت ِصلة بالجمل وشؤونه‪،‬‬
‫َّ‬
‫العربية أنها أوسع أخواتها السامية‬
‫َّ‬ ‫أهم ما تَمتاز به‬
‫أن من ِّ‬
‫ويقرر «علـي وافـي» َّ‬
‫ِّ‬
‫ثرو ًة في أصول الكلمات والمفردات؛ فهي تش َتمِل على جميع األصول التي تش َتمِل‬
‫بأصول كثيرة اح َت َ‬
‫فظ ْت بها من‬ ‫ٍ‬ ‫عليها أخواتها السامية أو على معظمها‪ ،‬وتزيد عليها‬
‫اللسان السامي األول‪ ،‬وأنَّه تجمع فيها من المفردات في مختلف أنواع الكلمة؛ اسمها‬
‫وفعلها وحرفها‪ ،‬ومن المترادفات؛ في األسماء والصفات واألفعال‪ .‬ما لم يجتمع مثله‬
‫(((‬
‫بل يندر وجود مثله في لُغة من لغات العالم»‪.‬‬
‫للغة سامية أخرى؛ ْ‬

‫تعجب المرء من وفرة‬ ‫البد أن يزدا َد ُّ‬


‫ويقول المستشرق األلماني نولدكه ‪« :‬إنه َّ‬
‫جدا؛‬
‫أن عالقات المعيشة لدى العرب بسيطة ًّ‬ ‫مفردات اللغة العربية‪ ،‬عندما يع ِرف َّ‬
‫ولكنهم في داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدقيق في المعنى بكلمة خاصة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫بالص َيغ النحوية)‪.‬‬ ‫غنية ً‬
‫أيضا ِّ‬ ‫ولكنها َّ‬
‫غنية فقط بالمفردات؛ َّ‬
‫والعربية الكالسيكية ليست َّ‬
‫عملة من اللغة العربية خمسة ماليين وتسعة وتسعون أل ًفا‬ ‫المس َت َ‬
‫وعدد األلفاظ ُ‬
‫ستة ماليين وستمائة وتسعين أل ًفا وأربعمائة لفظ‪ ،‬بينما‬ ‫وأربعمائة لفظ‪ ،‬من جملة َّ‬
‫نجد غيرها من اللغات األوربية ال يبلغ عدد مفرداتها معشار ما بلغ ْته مفردات العربية‪.‬‬

‫(( ( «الصاحبي» البن فارس‪.‬‬


‫((( فقه اللغة‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الواحد وافي‪.‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫امليزة اخلامسة ‪ِ :‬‬
‫(علـم العـروض)‬
‫الشعر العربي‪ .‬يقول ابن فارس‪« :‬ثم للعرب‬
‫ُعرف أوزان ِّ‬‫وهو العلم الذي به ت َ‬
‫عرف صحيحه من سقيمه»‪.‬‬ ‫الشعر‪ ،‬وبه يُ َ‬
‫ال َع ُروض الذي هو ميزان ِّ‬
‫وقد أشار كثير من المستشرقين إلى اختِصاص العربية بعلم ال َع ُروض‪ ،‬فقال‬
‫المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في ٍ‬
‫بحث له بعنوان «مقام الثقافة العربية‬
‫فإن الفكر السامي لَم يَ ِصل إلى‬
‫«وأما في علوم اللغة؛ َّ‬
‫بالنسبة إلى المدنية العالمية»‪َّ :‬‬
‫علم العروض َّ‬
‫إال عند العرب»‪.‬‬
‫الموسيقية للغة العربية» في‬
‫َّ‬ ‫وقد أفاض «عباس العقاد» في بحث «الخاصية‬
‫الشعر في‬ ‫الشاعرة؛ اللغة التي بُنِيت على نسق ِّ‬ ‫كتابه «اللغة الشاعرة»‪ ،‬وهو يَعنِي باللغة َّ‬
‫فن منظوم ُم َن َّسق األوزان واألصوات‪ ،‬ال‬ ‫أصوله الفنية والموسيقية؛ فهي في جملتها ٌّ‬
‫لم يكن من كالم الشعراء‪ .‬وهذه الخاصية‬ ‫الشعر في كال ٍم تألَّفت منه‪ ،‬ول ْو ْ‬
‫تنفصل عن ِّ‬
‫تركيب حروفها على ِح َدةٍ‪ ،‬إلى تركيب مفرداتها على ِح َدةٍ‪،‬‬ ‫العربية ظاهر ٌة من ْ‬
‫في اللغة َّ‬
‫إلى تركيب قواعدها وعباراتها «إلى تركيب أعاريضها وتفعيالتها في بنية القصيد»‪.‬‬

‫امليزة السادسة ‪( :‬الثبـات احلـر)‬


‫الممتدة العمر‪ ،‬يف َهم‬
‫َّ‬ ‫المتِينة البنيان‪،‬‬
‫العربية من اللغات القالئل الثابتة األصول‪َ ،‬‬ ‫َّ‬
‫تواصل أبناؤها عبر‬
‫األول‪ ،‬وتمخر نصوصها عبر العصور والقرون‪ ،‬ويَ َ‬ ‫ِ‬
‫اآلخر فيها ما ك َتب َّ‬
‫الزمان والمكان‪ ،‬فما قاله (امرؤ القيس‪ ،‬والنابغة‪ ،‬وعنترة) في أقدم عصورها‪ِ ،‬‬
‫حاضر‬
‫َّ‬
‫والطالب‪ ،‬ويَ ِسير في الناس‬ ‫الش َعراء وال ُك َّتاب‪ ،‬بْل يتعلَّمه التالميذ‬
‫يتغنى به ُّ‬
‫ماثل اليوم َّ‬
‫مسير األمثال‪.‬‬
‫اإلنجليزي المعاصر كثيراً مما ك َت َبه شكسبير َ‬
‫قبل بضع مِئات‬ ‫ُّ‬ ‫على حين ال يفهم‬
‫من السنين‪.‬‬
‫أخر َجها اإلسالم‬‫َحد واج َهته العربية كان عندما َ‬
‫«إن أكبر ت ٍّ‬
‫يقول د‪ .‬حسين نصار‪َّ :‬‬
‫حد اإلمالق‬‫من جاهلية غنية كل ال ِغ َنى في اإلبداع األدبي‪ ،‬فقيرة كل الفقر إلى ِّ‬
‫القرنين الثاني والثالث الهجري في بحر زاخر‬ ‫ْ‬ ‫في اإلنتاج العلمي‪ ،‬ثُ َّم ألقى بها في‬
‫من الحضارات والعلوم‪ ،‬والفلسفات والفنون‪ ،‬وكل صنوف المعرفة التي اب َتكرتْها ُ‬
‫األ َمم‬ ‫َ‬
‫تاخمة للجزيرة العربية؛ كالفرس والروم‪ ،‬والسريان والمصريين‪ ،‬واألمم البعيدة‬ ‫الم ِ‬
‫ُ‬
‫العربية صمدت‬ ‫َّ‬ ‫ولكن‬
‫عنها؛ كالهنود والصينيين‪ ،‬واألتراك والبربر‪ ،‬وشعوب إسبانيا‪َّ ،‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫وسعي في‬‫ٍ‬ ‫التحدي‪ ،‬بفضل ما بثَّه اإلسالم في العرب من رغب ٍة في المعرفة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫لهذا‬
‫طلبها‪ ،‬وطموح وع ْزم‪ ،‬وتخطيط وتنفيذ‪ ،‬وتعاون مع غير العرب من أبناء الشعوب‬
‫طويل حتى نقلت العربية َّ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫وقت‬
‫مض ٌ‬ ‫العا ِر َفة باللغات األجنبية واللغة العربية‪ْ ،‬‬
‫فلم يَ ِ‬
‫يمض‬‫ولم ِ‬ ‫فهما‪ْ ،‬‬
‫بعد أن يتمثَّلوها ً‬ ‫ما وجدت عند هذه ُ‬
‫األ َمم إليها‪ ،‬فاس َتطاع أبناؤها ُ‬
‫المفكرون وال ُعلَماء‬
‫شاركوا في اإلنتاج واالبتِكار‪ ،‬فصار ما ك َت َبه هؤالء ِّ‬
‫وقت طويل حتى َ‬
‫ِر‬ ‫نبراسا اس َتضاءت به شعوب العالم‪ ،‬ال يس َت ِطيع أن يُنكِر ذلك َّ‬
‫إال ُمنك ٌ‬ ‫منذ القرن الثالث ً‬
‫(((‬
‫وتطوره الحضاري»‪.‬‬
‫ِر لتاريخ اإلنسان ُّ‬ ‫لعقله‪ُ ،‬منك ٌ‬
‫بل ظلَّت‬‫تنخ ِرط اللغة في غيرها من اللغات؛ ْ‬
‫فلم َ‬
‫التحدي الكبير‪ْ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫ومع هذا‬
‫متماسكة ال تذوب في غيرها من اللغات‪ْ ،‬‬
‫بل يذوب غيرها فيها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫محافِظة على ُهويَّتها‪،‬‬
‫أجل‪ .‬تميزت العربية بالثبات‪ ،‬وهذا الثبات ال يَعنِي الجمود وعدم التطور‪ ،‬فهي‬
‫لكل عصر ومصر‪ ،‬من خالل‬ ‫لكل زمان ومكان‪ِّ ،‬‬‫طيعة صالحة ِّ‬ ‫متطورة في إطا ٍر ثابت‪ِّ ،‬‬
‫أُ ُطر وقواعد تحفظ عليها رونقها وأصولها‪ .‬لذلك لم يطلها ما طال اللغات األخرى من‬
‫تطو ًرا نشأ عنه مراحل من اللغة ال يف َهم‬
‫تطو ِرها ُّ‬
‫تطور أدى في النهاية إلى اندِثارها‪ ،‬أو ُّ‬
‫المتعددة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫اندثَرت اللغة الالتينية‪ ،‬ونشأ عنها اللغات األوربية‬
‫الالحق منها السابق‪ ،‬فقد َ‬
‫وتطورت اللغة اإلنجليزية‪ ،‬فصار َمن يدرس اإلنجليزية الحديثة ال يف َهم اإلنجليزية‬ ‫َّ‬
‫الوسيطة‪ ،‬فاحتاج دا ِرس اإلنجليزية إلى ترجمة روايات شكسبير َليف َهمها‪َّ ،‬أما العرب‬
‫بل يشعرون به ويعيشون مشاعر‬ ‫ِب منذ عشرات القرون ويفهمونه‪ْ ،‬‬ ‫فهم يقرؤون ما ُكت َ‬
‫قائِلِه َّ‬
‫األول‪.‬‬
‫وتغي؟‪.‬‬
‫لكن؛ ملاذا لَم تتبدَّ ل العربية‪ ،‬يف حني تبدَّ ل غريها َّ‬
‫تؤدي إلى‬
‫كل اللغات تَح ِوي صفات ذاتية فيها‪ِّ ،‬‬ ‫أن َّ‬‫أثب َت ْت جامعة «برمنجهام» َّ‬
‫عمرا كعمر اإلنسان من الطفولة‬ ‫أن ِّ‬
‫لكل لغ ٍة ً‬ ‫ير ْون َّ‬
‫تطورها وتغيرها عبر األزمان؛ ألنهم َ‬
‫أن «العربية» خالية من هذه األسباب؛ ألنها تحوي‬ ‫أثبتوا َّ‬
‫إلى الكهولة ثم الموت‪ ،‬وقد َ‬
‫نفسها من داخلها ل ُت ِ‬
‫ناسب العصر والتجديد‪.‬‬ ‫ُجدد َ‬ ‫ِسمات تجعلها ت ِّ‬
‫اآلليات التي‬
‫هذه المميزات‪ ،‬هي‪ :‬االشتِقاق والترا ُدف والتعريب‪ .‬وغيرها من َّ‬
‫حدثات‪ ،‬مع احتفاظها‬
‫والم َ‬
‫ُناسب العصر ُ‬‫جدد َخالياها حتى ت ِ‬ ‫تستخدمها العربية ل ُت ِّ‬
‫ُبأ ُصولها وألفاظها وقواعدها‪ ،‬فهي لُغة األدب والعلم والحضارة‪.‬‬

‫((( من كلمته التي ألقاها بمناسبة حصوله على جائزة فيصل العالمية‪ ،‬في الرياض‪ ،‬ذو الحجة ‪1425‬هـ‪.‬‬

‫‪- 64 -‬‬
‫حرة َم ِرنَ ٌه‪ .‬يقول «عباس العقاد» في مقدمة كتاب‬ ‫ومع هذا الثبات‪ ،‬فهي لغة َّ‬
‫إن اللغة العربية بقيت ألنها لغة القرآن‪،‬‬ ‫كثيرا‪َّ :‬‬
‫«الصحاح»؛ لألستاذ العطار‪« :‬ولقد قيل ً‬
‫ألن اإلسالم دين‬
‫وهو قول صحيح ال ريب فيه‪ ،‬ولكن القرآن الكريم إنما أبقى اللغة؛ َّ‬
‫اإلنسانية قاطبة‪ ،‬وليس بالدين المقصور على شعب أو قبيل‪ ،‬وقد ماتت العبرية وهي لغة‬
‫دينية أو لغة كتاب يَدِين به قومه‪ ،‬ولم تمت العبرية إ َّال ألنها فقدت المرونة التي تجعلها‬
‫الضيقة بحيث وضعها أبناؤها منذ قرون»‪.‬‬ ‫العصبية ِّ‬
‫َّ‬ ‫لغة إنسانية‪ ،‬وتُخ ِرجها من حظيرة‬

‫امليزة السابعـة ‪( :‬التخفيـف)‬


‫ثم الرباعية‬
‫الثالثية َّ‬
‫َّ‬ ‫نقصد التخفيف في الحروف‪ ،‬فالعربية تغلب عليها األصول‬
‫فالخماسية‪َّ ،‬أما اللغات األخرى فال نجد بها هذه الميزة‪ ،‬فالكلمات الثالثية في اللغات‬
‫األخرى قليلة‪.‬‬
‫اختصت بِ ِه لغ ُة العرب قلبهم الحروف عن جهاتها؛‬ ‫َّ‬ ‫«ومما‬
‫َّ‬ ‫يقول ابن فـارس‪:‬‬
‫األول‪ ،‬نحو قولهم‪( :‬ميعاد) ولم يقولوا‪ِ ( :‬م ْوعاد)‪ ،‬وهما من‬ ‫ليكون الثاني َّ‬
‫أخف من َّ‬
‫الساكنين‪ ،‬وقد تجتمع‬ ‫الجمع بين َّ‬
‫َ‬ ‫أخف‪ ،‬ومن ذلك تر ُكهم‬
‫أن اللفظ الثاني ُّ‬ ‫(الوعد)‪َّ ،‬‬
‫إال َّ‬
‫فِي لغة العجم ثالث سواكن»‪.‬‬
‫«إن األصول ثالثة‪ :‬ثالثي ورباعي وخماسي‪،‬‬
‫جنـي‪ ،‬في «الخصائص»((( ‪َّ :‬‬ ‫ويقول ابن ِّ‬
‫حشى‬
‫الثالثي؛ وذلك ألنَّه حرف يُب َتدأ به‪ ،‬وحرف يُ َ‬
‫ُّ‬ ‫فأكثرها استعماالً وأعدلها تركيبا‬
‫ُّ‬
‫«فتمكن الثالثي‬ ‫بي ًنا الحكمة من غلبة الثالثي‪:‬‬‫به‪ ،‬وحرف يُو َقف عليه»‪ .‬ثم يقول ُم ِّ‬
‫إنما هو لقلَّة حروفه»‪.‬‬
‫قررناه‪ ،‬بحسب‬ ‫سيتضح ما َّ‬
‫األوربية َّ‬
‫َّ‬ ‫وبمقارنة بعض الكلمات العربية ومقابلها في اللغات‬
‫أن نقارن الكلمة العربية بأهم ثالث لغات حية وشهيرة (اإلنجليزية‪ ،‬الفرنسية‪ ،‬األلمانية) ‪:‬‬
‫ْ‬
‫األملانيـة‬ ‫الفرنسيـة‬ ‫اإلنجليزيـة‬ ‫العربيـة‬
‫‪Das gebaude‬‬ ‫‪Le batiment‬‬ ‫‪building‬‬ ‫مبنى‬
‫‪Die universitat‬‬ ‫‪L`universite‬‬ ‫‪university‬‬ ‫جامعة‬
‫‪Die bucherei‬‬ ‫‪La bibliotheque‬‬ ‫‪library‬‬ ‫مكتبة‬

‫((( الخصائص‪ ،‬البن ِّ‬


‫جني‪.‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫األملانيـة‬ ‫الفرنسيـة‬ ‫اإلنجليزيـة‬ ‫العربيـة‬
‫‪Die unterhaltung‬‬ ‫‪Les divertissement‬‬ ‫‪entertainment‬‬ ‫تسلية‬
‫‪Der vater‬‬ ‫‪Le pere‬‬ ‫‪Father‬‬ ‫أب‬
‫‪Die mutter‬‬ ‫‪La mere‬‬ ‫‪Mother‬‬ ‫أم‬
‫‪Der Gross vater‬‬ ‫‪Le grand-pere‬‬ ‫‪Grand-father‬‬ ‫جد‬
‫‪Die Gross mutter‬‬ ‫‪La grand-mere‬‬ ‫‪Grand-mother‬‬ ‫جدة‬
‫‪Der Bruder‬‬ ‫‪Le frère‬‬ ‫‪brother‬‬ ‫أخ‬
‫‪Die schwester‬‬ ‫‪La soeur‬‬ ‫‪Sister‬‬ ‫أخت‬

‫العربية (ذوات الحر َف ْين أ ْو‬


‫َّ‬ ‫أن الكلمات القصيرة في‬ ‫ففي هذا الجدول؛ نالحظ َّ‬
‫األوربية قد تصل إلى عشرة أحرف‬ ‫َّ‬ ‫كلمات طويلة في اللغات‬
‫ٌ‬ ‫الثالثة أ ْو األربعة) تُقابِلها‬
‫العربية بالزيادة سبعة أحرف‬ ‫َّ‬ ‫أن أقصى ما تصل إليه الكلمات‬‫أو تَ ِزيد‪ .‬ومن المعروف َّ‬
‫وستة في األفعال كما في‪( :‬استخرج‪،‬‬ ‫في األسماء؛ كما في‪( :‬استِخراج‪ ،‬واستعمار)‪َّ ،‬‬
‫أن الكلمات في اللغات األوربية قد تصل إلى خمسة عشر حر ًفا أ ْو‬ ‫واستعمر)‪ ،‬في حين َّ‬
‫أكثر‪ ،‬كما في ‪ internationalism‬بمعنى الدولية‪ ،‬و ‪ incomprehensible‬بمعنى غامض‬
‫في اإلنجليزية‪ ،‬و‪ enstschuldigung‬بمعنى معذرة في األلمانية‪.‬‬
‫جمة في العربية؛ ففيها توفير للوقت والجهد والمال؛‬‫الخاصية لها فوائد َّ‬
‫َّ‬ ‫هذه‬
‫فالنطق بالكلمات الصغيرة ُّ‬
‫أخف على اللسان‪ ،‬وأسرع في الكتابة من الكلمات الطويلة‪.‬‬
‫إن الجذور الثُّالثية من سمات اللغات السامية عمو ًما‪.‬‬
‫قد يقول قائل‪َّ :‬‬
‫نادرا‪ ،‬وهذا القليل النادر غير ُمطابِق‬
‫إال ً‬‫الساميات اليوم غير مستعمل َّ‬
‫َّ‬ ‫نقول ‪ :‬أكثر‬
‫فصح أن تُ َع َّد هذه ِس َمة من ِسمات العربية‪.‬‬
‫في أكثره لقواعد الساميات القديمة‪َّ ،‬‬

‫امليزة الثامنـة ‪( :‬اإلجيـاز)‬


‫جدا؛ لذا‬ ‫يعد «اإليجاز» ميزة تنفرد بها العربية‪ ،‬ونظراً َّ‬
‫ألن قضية اإليجاز واسعة ًّ‬ ‫ّ‬
‫قسم على ِح َدة‪ ،‬مع المقارنة باللغات األخرى‬
‫كل ٍ‬ ‫سنقسمها أقسا ًما؛ ليسهل تنا ُول ِّ‬
‫ليت ِضح الفارق‪.‬‬
‫َّ‬
‫ألفيته‪ ،‬هذه القاعدة َّ‬
‫المطردة في‬ ‫بداي ًة نذكر القاعدة التي ذ َك َرها ابن مالك في َّ‬
‫َو َح ْذ ُف َما يُ ْعلَ ُم َجائِ ٌز ‪................ ...‬‬ ‫العربية‪:‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫المراد»‪.‬‬
‫والمقصود باإليجاز هنا‪ ،‬أنه‪« :‬ما يستغني عن زوائد الكالم‪ ،‬ويحتفظ بالمعنى ُ‬
‫تتحمل‬
‫وحساسة‪ ،‬ال َّ‬
‫حد هذه اللغة رقيقة َّ‬ ‫تبين لنا بجال ٍء إلى ِّ‬
‫أي ٍّ‬ ‫وهذه القاعدة ِّ‬
‫وسنقسم‬
‫ِّ‬ ‫غير المعنى‪.‬‬
‫العربية يُ ِّ‬
‫َّ‬ ‫المفِيدة‪ ،‬وال تقبل حش ًوا‪ ،‬فالحرف في‬
‫الزيادات غير ُ‬
‫اإليجاز إلى ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫والجمل)‪.‬‬
‫(إيجاز في الحروف ‪ -‬إيجاز في الكلمات ‪ -‬إيجاز في التراكيب ُ‬
‫أوالً ‪ :‬اإليجـاز يف الحـروف ‪:‬‬
‫حي ًزا في الكتابة‪،‬‬
‫ ‪ .‬أتُك َتب الحركات في العربية فوق الحرف أ ْو تحته‪ ،‬فال تأخذ ِّ‬
‫بينما في اللغات األجنبية تأخذ حج ًما يُسا ِوي حجم الحرف أ ْو يَ ِزيد عليه‪ ،‬وقد‬
‫نحتاج في اللغة األجنبية إلى حرفين مقابل حرف واحد في العربية ألداء صوت‬
‫ُم َع َّين؛ كالخاء (‪ )KH‬مث ً‬
‫ال‪ ،‬وال نكتب من الحروف العربية إ َّال ما نحتاج إليه‪.‬‬
‫ُسميها (الشدة)‪،‬‬ ‫العربية إشارات وعالمات تُ َع ِّزز هذا اإليجاز؛ منها‪ :‬إشارة ن ِّ‬ ‫ ‪ .‬بوفي َّ‬
‫أي‪ :‬إنَّه في النطق‬ ‫مشدد؛ ْ‬ ‫مكرر أ ْو َّ‬
‫أن الحرف َّ‬ ‫لندل على َّ‬ ‫نضعها فوق الحرف َّ‬
‫المكرر في‬
‫َّ‬ ‫أن الحرف‬ ‫مكر ًرا‪ ،‬في حين َّ‬ ‫حرفان‪ ،‬وبذلك نس َتغنِي عن كتابته َّ‬
‫أيضا في الكتابة‪ ،‬مثل ‪ )flapper( (:‬و(�‪recom‬‬ ‫مكرر ً‬‫النطق في اللغة األجنبية َّ‬ ‫ُّ‬
‫العربية قد نس َتغنِي باإل ْدغام عن كتابة حروف بكاملها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫‪ ،)mendation‬وفي‬
‫وقد نلجأ إلى حذف حروف‪ ،‬فنقول ونكتب‪َ ( :‬ع َّم) ِع َو ًضا عن (عن ما)‪ ،‬و(م َّ‬
‫ِم)‬
‫ِم) ِع َو ًضا عن (لِما)‪.‬‬‫ِم) ِع َو ًضا عن (بما)‪ ،‬ومثلها (ل َ‬ ‫ِع َو ًضا عن (من ما)‪ ،‬و(ب َ‬
‫مت ِصلة بالكلمة‪ ،‬واالتِّصال في‬ ‫ ‪ .‬جأداة التعريف التي نس َتعمِلها هي (أل)‪ ،‬وتكتب َّ‬
‫الكتابة أسهل وأ ْوفر وق ًتا‪َّ ،‬أما التنكير فيكون بعدم وجود (أل)‪ ،‬وفيه مزيد‬
‫فالعربية تس َتثمِر انعِدام األداة كما تس َتثمِر وجودها‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫اختصار‪،‬‬
‫ثان ًيا ‪ :‬اإليجـاز يف الكلامت ‪:‬‬
‫نتوسل بها إلقامة المعاني‪ ،‬فنقول‪( :‬أنا‬ ‫ٌ‬
‫أفعال ُمساعِدة َّ‬ ‫ ‪ .‬أليس في العربية‬
‫سعيد‪ ،‬وهو يكتب) مباشرة‪ ،‬والفعل قد يس َتتِر فاعله فال يُك َتب‪ ،‬وقد َّيت ِصل‬
‫ضميرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بالفعل نفسه فيكون‬
‫شكل ُجمل ًة واحدةً‪ ،‬نف َهم منها الفعل‬ ‫ ‪ .‬بالحرف الواحد في بعض األحيان يُ ِّ‬
‫فإن هذا الحرف إنما هو ُجملة‪،‬‬ ‫(ف)‪َّ ،‬‬ ‫والفاعل والمفعول؛ مثال ذلك قولنا‪ِ :‬‬
‫خاطب وهو الفاعل هنا‪ ،‬ليفعل هذا العمل وهو الوفاء‪.‬‬ ‫للم َ‬
‫وجه ُ‬‫أمر ُم َّ‬
‫فيها ٌ‬

‫‪- 67 -‬‬
‫نوع من أنواع اإليجاز؛ فبالحركة نس َت ِطيع التفريق بين‬ ‫أيضا هي ٌ‬‫ ‪ .‬جالحركات ً‬
‫كـ«فرح» االسم‪ ،‬و« َف ِر َح» الفعل‪ ،‬وبين نوعين من أنواع‬‫َ‬ ‫الكلمات المختلفة؛‬
‫فعل معلوم الفاعل‬ ‫االسم؛ كـ«ف ِرح» صيغة المبالغة‪ ،‬و« َف َرح» المصدر‪ ،‬وبين ٍ‬
‫وآخر مجهول الفاعل « ُكتِب»‪ ،‬وإذا ترجمنا هذه الكلمات إلى أيَّة لغ ٍة‬
‫« َك َتب» َ‬
‫من لغات العالَم؛ سنجد أنَّنا نحتاج إلى أكثر من كلم ٍة ال كلمة واحدة‪ ،‬أو إلى‬
‫عطي نفس المعنى الذي أفا َدتْه الكلمة العربية‬ ‫كلم ٍة وبها لواحق أو سوابق ل ُت ِ‬
‫الواحدة التي ال تحتاج إضافة كلمات‪ ،‬إنما هي الحركة على الحرف‪ ،‬وحسب‪.‬‬
‫ ‪ .‬دفي العربية قد نس َتغنِي بحر َف ْين عن كلمات كاملة؛ ففي حالة (التثنية)‪،‬‬
‫فالعربية ليست كاللغات التي تُهمِل حالة التثنية لتنتقل من المفرد إلى‬
‫الجمع‪ ،‬وتكون التثنية بإضافة حر َف ْين إلى المفرد ليصبح مثنى (الباب ‪-‬‬
‫البد في الفرنسية واإلنجليزية من ذِكر‬
‫البابان ‪ -‬البابين)‪ ،‬على حين أنه َّ‬
‫العدد مع ذكر الكلمة وذِكر عالمة الجمع بعد الكلمة‪ ،‬فنقول في الفرنسية‪:‬‬
‫(‪ ،)Les deux portes‬ونقول في اإلنجليزية (‪.)the tow doors‬‬
‫وفي (إضافة الضمائر) نكتفي في العربية بإضافة الضمير إلى الكلمة‪،‬‬
‫وكأنه جزء منها‪ ،‬فنقول ‪( :‬كتابه) و(منزلهم)‪ ،‬على حين تقول في الفرنسية‪:‬‬
‫(‪ )son livre‬و(‪.)leur maison‬‬
‫نضيف حركة‬ ‫فيكفِي في العربية أن ِ‬
‫َّأما في (إضافة الشيء إلى غيره)‪َ ،‬‬
‫آخر المضاف إليه‪ ،‬فنقول‪( :‬كتاب التلميذِ)‪،‬‬ ‫ً‬
‫بسيطا إلى ِ‬ ‫أي‪ :‬صوتًا‬
‫إعرابية؛ ْ‬
‫خاصة لذلك‪،‬‬
‫و(مدرسة التالميذِ)‪ ،‬على حين تستعمل في الفرنسية أدوات َّ‬
‫فنقول ‪ )le livre de eleve( :‬و(‪.)lecole des eleves‬‬
‫وفي (اإلسناد) يكفي في العربية أن تذكر المسند والمسند إليه‪ ،‬وتترك‬
‫تصل بينهما بال رابطة ملفوظة أو‬‫لعالقة اإلسناد العقلية والمنطقية أن َ‬
‫أن ذلك ال َّ‬
‫يتحقق في الفرنسية‬ ‫سعيد)‪ ،‬على حين َّ‬‫ٌ‬ ‫مكتوبة‪ ،‬فتقول مث ً‬
‫ال ‪( :‬أنا‬
‫مما يُساعِد على الربط‪ ،‬فتقول ‪)je sui heureux( :‬‬
‫والبد لك فيهما َّ‬
‫واإلنجليزية‪َّ ،‬‬
‫و(‪ ،)I am happy‬وتستعمل هاتان اللغتان لذلك طائفة من األفعال المساعدة؛‬
‫مثل ‪ etre( :‬ـ ‪ )avoir‬في الفرنسية‪ ،‬و(‪ to have‬و‪ )to be‬في اإلنجليزية‪.‬‬
‫ ‪ .‬هالفعل في العربية يمتاز باستِتار الفاعل فيه حي ًنا‪ ،‬وكونه جز ًءا منه حي ًنا‬
‫مقد ًرا الفاعل المستتر‪ ،‬وتقول ‪( :‬كتبت‪،‬‬ ‫آخر؛ تقول ‪( :‬أكتب‪ ،‬وتكتب) ِّ‬ ‫َ‬
‫حرف من حروفه‪ ،‬فال نحتاج‬ ‫وكتبنا‪ ،‬وكتبوا)‪ ،‬ف َت ِصل الفاعل بالفعل وكأنَّه ٌ‬

‫‪- 68 -‬‬
‫(‪nous -‬‬ ‫البدء به منفص ً‬
‫ال مقد ًما على الفعل كما هو األمر في الفرنسية‪:‬‬ ‫إلى ْ‬
‫‪ ،)tu - il- je‬وفي اإلنجليزية (‪.)I - you - they‬‬
‫ُغير حركة بعض‬‫العربية أن ت ِّ‬
‫َّ‬ ‫وكذلك عند (البناء للمجهول) يكفي في‬
‫ِب‪ُ ،‬ق ِر َئ)‪ ،‬في حين تقول في الفرنسية مث ً‬
‫ال‪a ete( :‬‬ ‫حروفه‪ ،‬فتقول‪ُ ( :‬كت َ‬
‫‪ ،)ecrit‬وفي اإلنجليزية (‪.)it was read‬‬
‫وفي العربية كلمات يصعب ترجمتها أ ْو التعبير عن معناها إ َّال في ُج َمل‬
‫كاملة؛ مثل ‪:‬‬
‫اإلنجليزية‬ ‫العربية‬

‫‪It is too far‬‬ ‫هيهات‬


‫‪There is a great difference‬‬ ‫شتان‬
‫َّ‬
‫‪I shall go‬‬ ‫سأذهب‬
‫‪He will go‬‬ ‫سيذهب‬
‫‪He is as strong as a lion‬‬ ‫هو قوي كاألسد‬

‫وبمقارنة بعض الكلمات بين (العربية واإلنجليزية والفرنسية) نجد‬


‫واضحا ‪:‬‬
‫ً‬ ‫الفرق‬
‫ْ‬
‫الفرنسية‬ ‫اإلنجليزية‬ ‫العربية‬

‫‪père‬‬ ‫‪father‬‬ ‫أب‬


‫‪mère‬‬ ‫‪mother‬‬ ‫أم‬
‫‪frère‬‬ ‫‪brother‬‬ ‫أخ‬

‫ثالثًا ‪ :‬اإليجـاز يف الرتاكيب والجمل‪:‬‬


‫ال على الدمج أ ْو اإليجاز؛ ففي اإلضافة‬‫الجملة والتركيب في العربية قائمان أص ً‬
‫يَكفِي أن ت ِ‬
‫ُضيف الضمير إلى الكلمة‪ ،‬وكأنَّه جز ٌء منها ‪:‬‬
‫‪leur livre‬‬ ‫كتابهم‬ ‫‪son livre‬‬ ‫كتابه‬
‫فيكفِي في العربية أن تذكر المسند والمسند إليه بال رابطة ملفوظة‬
‫وأما في اإلسناد؛ َ‬
‫َّ‬
‫أو مكتوبة‪ ،‬فنقول مث ً‬
‫ال‪( :‬أنا سعيد)‪ ،‬على حين أن ذلك ال َّ‬
‫يتحقق في الفرنسية أو اإلنجليزية‪،‬‬
‫مما يُساعِد على الربط فتقول‪.)je suis heureux) ،(I am happy( :‬‬
‫والبُ َّد لك فيهما َّ‬
‫‪- 69 -‬‬
‫أسلوب في العربية ُّ‬
‫يدل على اإليجاز ‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫والنفي‬
‫(لم أقابله) في العربية‪ ،‬نجدها في اإلنجليزية ‪)I did not meet him( :‬‬
‫فكلمة ‪ْ :‬‬
‫وفي الفرنسية‪ ،‬على النحو التالي ‪)Je ne l’ai pas rencontré( :‬‬
‫وهناك من األمثلة على ذلك ما يفوق الحصر‪ ،‬بحسب أن تنظر ـ مث ً‬
‫ال ـ في سورة‬
‫(الفاتحة) المؤلَّفة من ( ‪ 31‬كلمة)؛ استغرقت ترجمتها إلى اإلنكليزية ( ‪ 70‬كلمة)‪.‬‬

‫امليزة التاسعـة ‪( :‬اإلعراب وداللته عىل املعنى)‬


‫وإن كان بينها وبين‬
‫مبنية و ُمعربة‪ ،‬واللغات السامية كلها معربة‪ْ ،‬‬
‫اللغات قسمان ‪َّ :‬‬
‫اإلعراب في العربية فرق غير يسير‪.‬‬
‫وفي اإلعراب شيء من الصعوبة‪ ،‬يحتاج المتكلِّم إلى معرفة حاالت اإلعراب‪ ،‬مثل ‪:‬‬
‫‪Khalid I saw‬‬‫خالدا‬
‫رأيت ً‬
‫خالد ‪Khalid came‬‬
‫حضر ٌ‬
‫ذهبت مع خالد ‪I went with Khalid‬‬
‫ُ‬
‫فيجب معرفة المرفوع من المنصوب من المجرور‪ ،‬على عكس اإلنجليزية‪ .‬لكن‬
‫عيب في اللغة العربية؟‪.‬‬
‫دائما؟‪ .‬وهل اإلعراب ٌ‬
‫هل السهولة مزية ً‬
‫تعقيدا من مثيالتها القديمة؛ فالحاسبات‬
‫ً‬ ‫دائما؛ فاألجهزة الحديثة أكثر‬
‫ليس ً‬
‫ومتطورة‪ ،‬نراها َّ‬
‫معقدة عن َمثِيالتها القديمة‪ ،‬ومع‬ ‫ِّ‬ ‫والماكينات وغيرها إذا كانت حديثة‬
‫قدمة؛ لِما فيها من خصائص ليست في غيرها‪.‬‬ ‫ذلك هي ُم َّ‬
‫فضلة و ُم َّ‬
‫المبنية في َّ‬
‫دقة التعبير‬ ‫َّ‬ ‫ُؤديه اللغات‬
‫يؤدي ما ال ت ِّ‬
‫كذلك في العربية؛ نجد اإلعراب ِّ‬
‫وتنوع المعاني ِّ‬
‫بأقل قد ٍر من الكلمات‪.‬‬ ‫واإليجاز ُّ‬
‫مـا هـو اإلعـراب؟‬
‫أحمد أباه)‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اإلعراب هو ‪ :‬اإلبانة عن المعاني باأللفاظ؛ فمث ً‬
‫ال عندما نقول ‪( :‬يحتر ُم‬
‫علمت برفع أحدهما ونصب اآلخر الفاعل من المفعول‪ ،‬ولو كان الكالم شرحاً ِ‬
‫واح ًدا‬
‫الستبهم أحدهما من صاحبه‪.‬‬
‫أهمية اإلعراب‬
‫لكنه ال يُدانِي َّ‬
‫الالتينية؛ َّ‬
‫َّ‬ ‫واإلعراب موجو ٌد في بعض اللغات؛ مثل‪:‬‬
‫اندثرت وصارت لغ ًة من التاريخ‪ْ ،‬‬
‫بل كان اإلعراب في‬ ‫الالتينية قد َ‬
‫َّ‬ ‫إن‬
‫العربية‪ ،‬ثم َّ‬
‫َّ‬ ‫في‬

‫‪- 70 -‬‬
‫عدة ميزات‪ ،‬نذ ُكر منها على‬
‫الالتينية من أسباب صعوبتها‪َّ ،‬أما هو في العربية فله َّ‬
‫سبيل اإليجاز ‪:‬‬
‫‪1.1‬اإلعراب دليل التخفيف واإلبانة عن المعاني بسهولة ويُسر‪.‬‬
‫‪2.2‬اإلعراب وسيل ٌة من وسائل اإلبداع والبالغة؛ فبه نس َت ِطيع التقديم والتأخير‬
‫أن هذا‬
‫يختل المعنى أو يل َتبِس طالما َّ‬‫ُّ‬ ‫بالمتقدم وإبرا ًزا له‪ ،‬وال‬
‫ِّ‬ ‫اهتما ًما‬
‫خاضع لقواعد النحو‪.‬‬ ‫التقديم ِ‬
‫ضرب من ضروب اإليجاز في اللغة؛ ألنَّنا بالحركات نك َت ِسب‬
‫ٌ‬ ‫‪3.3‬اإلعراب هو‬
‫نضطر لزيادة حجم الكلمة أو رفدها بمقاطع أخرى‬ ‫َّ‬ ‫معاني جديدة دون أن‬
‫أو بأفعال مساعدة‪.‬‬
‫والتفنن في‬
‫ُّ‬ ‫للعربية قدر ًة هائلة في التعبير عن المعاني‬
‫َّ‬ ‫‪4.4‬اإلعراب يُتِيح‬
‫وتصر ًفا في بناء التراكيب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫األساليب‪ ،‬وتجعلها أكثر مرون ًة‬
‫الج َمل في العربية ال يبين معناها َّ‬
‫إال باإلعراب‪.‬‬ ‫وكثير من ُ‬
‫ٌ‬ ‫‪5.5‬اإلبانة عن المعاني‪،‬‬
‫ومحمد؟‬
‫ٌ‬ ‫كيف أنت‬
‫ومحمدا؟‬
‫ً‬ ‫كيف أنت‬
‫الص َّحة‪ ،‬وتكون اإلجابة مث ً‬
‫ال‪ :‬أنا‬ ‫ِر ْفع محمد معناها السؤال عن الحال أ ْو ِّ‬‫فب َ‬
‫إن عالقتنا جيدة‪.‬‬‫ومحمد بخير‪َّ ،‬أما بالنصب فالسؤال عن العالقة‪ ،‬وتكون اإلجابة‪َّ :‬‬
‫مثـال ثان ‪:‬‬
‫كم رج ًَ‬
‫ال عندك قال الحق؟‬
‫رجل عندك قال الحق‪.‬‬
‫كم ٍ‬
‫رجل عندك حق؟‬ ‫كم ٌ‬
‫الحق‪.‬‬
‫معين َّ‬
‫فاألولى للسؤال‪ ،‬والثانية لإلخبار بالكثرة‪ ،‬والثالثة تعني‪ :‬كم قال رجل َّ‬
‫تاما ‪:‬‬
‫تغييرا ًّ‬
‫ً‬ ‫يبين َ‬
‫خطر اإلعراب في تغْيير المعنى‬ ‫مثـال ثالـث ‪ِّ :‬‬
‫الله َو َر ُسو ِل ِه ِإ َل ال َّن ِاس‬ ‫سمع أحد األعراب قارئًا يقرأ قول الله تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ َذ ٌ‬
‫ان ِم َن ِ‬
‫أ‬
‫� ِك ي ن َ‬
‫� َو َر ُسو ُلهُ ﴾ [التوبة ‪.]3 :‬‬ ‫ش‬
‫يَ ْو َم ا ْل َح ِّج ْالَك ب َ ِْ� أَ َّن اللهَ بَ ِري ٌء ِم َن ا ْل ُم ْ ِ‬
‫فقرأها بكسر كلمة ﴿ رسولِه ﴾‪ ،‬والصحيح أنها مرفوع ٌة‪ ،‬فقال األعرابي‪ :‬أبَ ِرأَ الله‬
‫من رسوله؟‪.‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫«إن من العلوم‬
‫الخاصية الخصيصة في لغة العرب‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬
‫َّ‬ ‫وقد َّبين ابن فارس هذه‬
‫اإلعراب؛ الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة‬
‫َ‬ ‫اختصت بها العرب‬
‫َّ‬ ‫الجليلة التي‬
‫تعجب من‬‫فاعل من مفعول‪ ،‬وال مضاف من منصوب‪ ،‬وال ُّ‬ ‫في اللفظ‪ ،‬ولواله ما ميز ٌ‬
‫(((‬
‫استفهام‪ ،‬وال صدر من مصدر‪ ،‬وال نعت من توكيد»‪.‬‬
‫رجل رأيت)‪ ،‬في الخبر يُراد به‬ ‫وتقول ‪( :‬كم رج ً‬
‫ال رأيت؟) في االستخبار‪ ،‬و(كم ٍ‬
‫التكثير‪.‬‬
‫مهمة إلى دور الحركات عمو ًما في التمييز‬
‫وفي هذا الكالم من ابن فارس؛ إشارة َّ‬
‫أيضا على مستوى‬ ‫بين المعاني المختلفة‪ ،‬ليس فقط على مستوى اإلعراب‪ ،‬ولكن ً‬
‫البنية المفردة‪.‬‬
‫اإلعرابية‪ ،‬وما ُّ‬
‫تدل‬ ‫َّ‬ ‫أن اإلعراب ُّ‬
‫يدل على المعاني بقرينة الحركة‬ ‫سبق؛ َّ‬
‫يتضح مما َ‬
‫عليه هذه الحركة وما تفيده‪.‬‬
‫ليست هذه فقط مزايا «لغة الضاد»؛ فهذا قليل من كثير؛ مما ذكره علماء اللغة‬
‫ترك كله)‪.‬‬
‫درك كله‪ ،‬ال يُ َ‬
‫وفقهاؤها‪ .‬ولكن حسبنا القاعدة التي تقول‪( :‬ما ال يُ َ‬

‫((( الصاحبي‪ ،‬البن فارس‪.‬‬

‫‪- 72 -‬‬
‫خصائص العربية‬
‫خص (أبو حيان التوحيدي) العرب بالثناء‪ ،‬وتكلم‬‫في كتابه "اإلمتاع واملؤانسة" َّ‬
‫أي منها "نصوع‬‫عن اللغة العربية‪ ،‬فقال‪ :‬إنه استعرض غيرها من اللغات فلم يجد في ّ‬
‫العربية‪ ،‬أعني الفرج التي في كلماتها‪ ،‬والفضاء الذي نجده بين حروفها‪ ،‬والمسافة التي‬
‫بين مخارجها ‪."...‬‬
‫أن تدريس "العربية" لغير الناطقين بها أيسر من تدريس‬ ‫وقد الحظ التربويون؛ َّ‬
‫أن كل‬‫"اإلنجليزية" كلغة ثانية‪ ،‬وتتمثل هذه السهولة بالنسبة للعربية في حقيقة َّ‬
‫وألن القراءة والكتابة هما أهم ما يميز‬
‫حرف يُنطق يُكتب‪ ،‬وكل حرف يُكتب يُنطق‪َّ ،‬‬
‫فإن إتقان غير العربي لهذه اللغة الجديدة ‪-‬والتي تختلف تماماً عن‬
‫المتعلم عن األمي‪َّ ،‬‬
‫اللغات الالتينية المنتشرة ـ ربما يكون أسهل وأكثر منطقية للمتعلم الذي يستطيع‬
‫إجادة هاتين المهارتين في وقت قصير قياساً بغيرها من اللغات‪ .‬ونظراً لكثرة خصائص‬
‫(العربية)؛ فسنكتفي باإلشارة إلى بعضها ‪:‬‬

‫لغـة فخيمـة‬
‫فيها من الحروف الفخيمة ما ال يوجد في غيرها‪ ،‬وكل حروفها وأصواتها واضحة‬
‫صريحة‪ ،‬فال تسمع كلمة إ َّال سمعت كل حروفها‪ ،‬وتبينت كل أصواتها‪ ،‬لكن كثيراً من‬
‫حروف اللغات األوروبية صامتة أو خفية‪ ،‬والحركات عديدة منها خالصة ومنها بين وبين‪.‬‬
‫أيضاً؛ نجد في العربية حروفاً حلقية‪ ،‬ال تجدها في غيرها من اللغات‪ ،‬فما السر‬
‫في ذلك؟‪.‬‬
‫السر؛ أنه َّلما كانت األمة العربية عريقة في البداوة وحياة الصحاري؛ كانت حلوقها‬
‫بل إن األصوات التي تخرج من أعماق الحلق؛‬ ‫قوية تقدر على إخراج تلك األصوات‪ْ ،‬‬
‫تدل على أن األمة التي تنطق بها شديدة التأثر‪ ،‬حادة الطبع‪ ،‬ال تطيق الهمس‬
‫بل تميل إلى الصراحة والوضوح‪ ،‬وال تتكلم َّ‬
‫إال عن تأثر‪ ،‬وأنها تعني ما تقول‪.‬‬ ‫والغمغمة‪ْ ،‬‬
‫وقد كان في بعض اللغات األوروبية مثل هذه األصوات‪ ،‬ولكنها لم تلبث أن ماتت فيها‪،‬‬
‫وربما ماتت بعض الحروف األخرى‪ ،‬فال يتكلم الناس بها إال همساً‪ْ .‬‬
‫بل إن العرب أنفسهم‬

‫‪- 73 -‬‬
‫في دور انحطاطهم هذا‪َّ ،‬لينوا القاف فجعلوها همزة‪ ،‬وحذفوا العين من بعض كلماتهم‪ ،‬مثل‬
‫ألن حلوقهم ضعفت بسبب تمدنهم‪ ،‬فصارت‬ ‫«إسا» – هذه الساعة‪ ،‬و«لِسا» – لهذه الساعة‪َّ ،‬‬
‫بل استبدلوا بالحركات القصيرة في بعض الكلمات حركات طويلة‬ ‫تستثقل هذه األصوات‪ْ .‬‬
‫الرتخاء في نفوسهم‪َ « ،‬ف ُق ْم» يلفظونها‪« :‬أوم»‪ْ ،‬‬
‫و«قل» يلفظونها «أول» ‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫لغـة إجيـاز‬
‫يتضح ذلك في إعرابها‪ ،‬وغِنى حروفها‪ ،‬وغِنى أفعالها‪ ،‬وحركاتها‪ ،‬على النحو التالي‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬لغة إعرابية‪ ،‬فتغيير حركة آخر الكلمة يغني عن تغيير ترتيب الجملة أو‬
‫زيادة بعض حروف أو كلمات‪ ،‬ويؤدي المعنى المراد على أوضح صورة ‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫بل هي أرقى اللغات في االشتقاق‪ ،‬فنقل الكلمة من وزن إلى وزن‬ ‫ثانياً ‪ :‬لغة اشتقاقية‪ْ ،‬‬
‫آخر يفيد معنى جديداً‪ ،‬قد ال يؤدى في لغة أخرى إ َّال بعدة كلمات مساعدة‪.‬‬
‫ثالثاً ‪ :‬لغة غنية في أفعالها؛ فلكل معنى لفظ خاص حتى أشباه المعاني أ ْو فروعها‬
‫وجزيئاتها‪ ،‬على حين نجد اللغات األخرى قليلة األفعال‪ ،‬فبدالً من أن‬
‫بلفظتين أ ْو أكثر‪ ،‬وال سيما اللغة‬
‫ْ‬ ‫تؤدي المعنى بلفظ واحد خاص به‪ ،‬تؤديه‬
‫اإلنجليزية؛ فهي تلجأ في كثير من المعاني إلى استعمال الصفة مع فعل‬
‫«صار» أو «حصل» أو «أحس»‪ .‬ثم َّلما كان لكل شخص عالمة خصوصية‬
‫تدخل على الفعل أو تلحق به مثل التاء في «ضربت»‪ ،‬والهمزة في‬
‫«أضرب»‪ ،‬فكيفما استعملت الفعل فال يقع التباس‪ .‬لكن اللغات األوروبية‬
‫تضطر لدفع هذه االلتباس؛ بتغيير التركيب‪ ،‬واستعمال كلمات أخرى‪ ،‬مما‬
‫ال يتسع المجال هنا لبيانه‪.‬‬
‫رابعاً ‪ :‬لغة غنية في حروفها؛ ففيها من حروف الجر والنفي والنداء واالستفهام‬
‫على كثرة ما تتضمنه من المعاني واالعتبارات ما ال تضاهيها فيه لغة أخرى‪.‬‬
‫خامساً ‪ :‬أنها تحتمل اإلضمار والتقدير والتقديم والتأخير والحذف أكثر من غيرها‪.‬‬
‫لهذه األسباب وغيرها؛ امتازت «العربية» بإيجازها‪ ،‬وال يظهر فقط في ألفاظها‬
‫بل في خطها‬ ‫بل في قراءتها‪ ،‬إ ْذ تتصل الكلمات ويأخذ بعضها برقاب بعض‪ْ ،‬‬‫وتراكيبها‪ْ ،‬‬
‫وألن العرب‬
‫ألن الحروف االبتدائية والوسطى صغيرة الحجم دقيقة الشكل‪َّ .‬‬
‫وكتابتها‪ ،‬وذلك؛ َّ‬
‫يلغون الحركات القصيرة؛ ألنها في اعتبارهم مفهومة ال حاجة إلى كتابتها ‪ ..‬لذلك يظهر‬
‫اإليجاز في أمثالهم وأشعارهم وخطبهم وسائر أدبياتهم‪ ،‬فهم يكرهون التطويل الممل‪.‬‬

‫‪- 74 -‬‬
‫لغـة شاعـرة‬
‫أوالً ‪ :‬لكثرة استعمال المجاز والكناية واالستعارات واإلشارات والتشبيه‪ ،‬وهذا‬
‫مألوف فيها ـ حتى في اللغة العامية ـ مثل قولهم فالن «مبسوط اليد»‬
‫أي مضياف ‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫أي بخيل‪ ،‬و«كثير الرماد» ْ‬‫أي كريم‪ ،‬و«مقبوض اليد» ْ‬ ‫ْ‬
‫الشاعر بها ذرعاً‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬ألنها كثيرة المترادفات‪ ،‬فال يضيق َّ‬
‫ثالثاً ‪ :‬ألنها كثيرة التراكيب اإلعرابية‪ ،‬فإذا تعذر اإلتيان بهذا التركيب جيء بغيره‪،‬‬
‫فموقع الكلمة في الجملة يظهر َّإما بعالمات اإلعراب‪ ،‬أو الترتيب‪ ،‬أو القرينة‬
‫على خالف اللغات األخرى‪ ،‬إ ْذ تعتمد على بيان موقع الكلمة في الجملة‬
‫على الترتيب فقط‪.‬‬
‫رابعاً ‪ :‬ألن ألفاظها تختلف بين الفخامة والرقة‪ ،‬بحيث يستطيع العربي أن يختار‬
‫لكل مقام من األلفاظ ما يناسبه ‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫خامساً ‪ :‬لو قابلنا كثيراً من مفرداتها بمثلها في لغات أخرى؛ لظهر أنها أنسب‬
‫للمعنى‪ ،‬وأوضح للفكر‪ ،‬وأطوع إلظهار أعمق التأثرات‪.‬‬
‫أي لغة كانت‪ ،‬إ ْذ يسهل‬
‫فلفظة «ال» النافية أنسب من كل أدوات النفي في ّ‬
‫مد الصوت‪ ،‬والصفات فيها التي تجيء على وزن فاعل‪ ،‬مثل‪( :‬واسع‪ ،‬وغافر‪،‬‬ ‫معها ّ‬
‫طاهر‪ ،‬كامل) أ ْو على وزن فعيل أ ْو فعول‪ ،‬مثل‪( :‬كبير‪ ،‬عظيم‪ ،‬عليم‪ ،‬سميع‪ ،‬أ ْو‬
‫صبور‪ ،‬غفور‪ ،‬شكور) أطوع للتعبير عن أعمق التأثرات لِما فيها من الحركات‬
‫الطويلة‪ ،‬الخ‪.‬‬
‫المشددة العميقة ال تعادلها كلمة أخرى‬
‫ّ‬ ‫فمث ً‬
‫ال؛ كلمة (حـق) بحائها وقافها‬
‫والبد أن الناطق بهذه اللفظة يشعر بالحق‬
‫أي لغة في الداللة على معناها‪َّ ،‬‬ ‫من ّ‬
‫بل لها تأثير في السامع‪ ،‬بحيث تصل إلى أعماق‬‫أكثر من غيره‪ ،‬ليس ذلك فقط‪ْ ،‬‬
‫قلبه‪ ،‬وتحدث في نفسه هزة‪.‬‬
‫إن هذه اللفظة‬ ‫وكلمة (حـب) ال تعادلها كلمة أخرى في جمالها وقوتها‪ْ ،‬‬
‫بل َّ‬
‫تكاد تشم منها رائحة الحب؛ ألنها تخرج من أعماق القلب مصحوبة بنفس‬
‫الحب‪ ،‬وحق العرب أن يفاخروا بهذه الكلمة؛ ألنها تدل على أن الحب عندهم‬
‫من القلب وليس من الشفاه‪ .‬وليس أجمل من ضم هذه الحاء وإطباق الشفتين‬
‫المشددة مما يستشف منه الحزم والثبات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫على بائها‬

‫‪- 75 -‬‬
‫وكلمة (مرحبـاً) هذه اللفظة الجميلة بميمها ورائها وحائها وبائها وتنوينها‬
‫وحركات الفتح فيها؛ كأنها قطعة موسيقية يتبادلها الناس‪.‬‬
‫سادساً‪ :‬إذا نظرنا في اللغة العربية من جهة الحركات؛ لرأينا لها مزية على غيرها؛‬
‫فحركاتها ثالث‪( :‬الضم والفتح والخفض) ومعلوم أن الضم أفخم الحركات‪،‬‬
‫والفتح أخفها‪ ،‬والخفض أثقلها‪ ،‬فاللغة التي يكثر فيها صوت الكسر ثقيلة‬
‫مستكرهة‪.‬‬
‫وإذا استقرينا ألفاظ العربية‪ ،‬ومواطن الضم والفتح والخفض اإلعرابية فيها‪،‬‬
‫لرأينا الخفض أقلها‪ ،‬والفتح أكثرها؛ وهذا مما يكسبها جماالً ورشاقة‪ ،‬ويصدق‬
‫معه القول‪« :‬إنها لغة شـاعرة»‪.‬‬

‫لغـة ِ‬
‫معجـزة ‪:‬‬
‫يتبين مدى إعجازها في أنه يتعذر نقل الكثير من ألفاظها؛ السيما التي وردت‬
‫(الدين‪ ،‬أُمة‪ ،‬الساعة‪ ،‬الوالء‪،‬‬‫في القرآن وتعبيراته إلى اللغات األخرى‪ ،‬فكلمات مثل‪ِّ :‬‬
‫ض هذا األدنى‪َ ،‬ق َد َم‬
‫آية‪ ،‬اإلحسان‪ ،‬التقوى‪ ،‬إمام‪َّ ،‬أواب‪ ،‬عاكفين‪ ،‬سنستدرجهم‪َ ،‬ع َر َ‬
‫أن َّ‬
‫تقطع قلوبهم‪ ،‬التي جعل الله لكم قياماً‪ ،‬قوالً‬ ‫ِصدق‪ ،‬وأُملي لهم‪َ ،‬‬
‫أنزل سكينته‪َّ ،‬‬
‫إال ْ‬
‫معروفاً ‪ .)....‬كل هذه األلفاظ وغيرها‪ ،‬أعجزت العرب أن يأتوا بمثلها‪ ،‬فأنَّى للغات غير‬
‫أن تأتي بمثلها؟‪.‬‬
‫العربية ْ‬
‫ُترجم في االنجليزية بـ ‪ sign‬وشتان بين معنى هذه وتلك‪،‬‬ ‫فمث ً‬
‫ال لفظة (آيـة) ت َ‬
‫ظاللها‪.‬إن لفظة (آيـة) لفظة معجزة بنفسها‪ ،‬توحي باإلعجاز‪ ،‬والسم ّو الذي ال‬
‫َّ‬ ‫وبين‬
‫يُبلَغ‪.‬‬
‫معاني وظالالً ممتدة غنية نديَّة‪ ،‬تعجز عنها الترجمة‬
‫َ‬ ‫وكلمة (من أنفسكم) تحمل‬
‫اإلنجليزية ( ‪.)From you‬‬
‫و(أزواجاً لتسكنوا إليها) مليئة بالظالل التي ال تبلغها الترجمة اإلنجليزية ( ‪Mates‬‬
‫‪.)dwell in tranquility with them‬‬
‫كذلك؛ كلمة (السكن) ومشتقاتها‪ ،‬غنية المعاني والظالل‪ .‬وكلمة (الرحمة) نجدها‬
‫تترجم حيناً (‪ )Mercy‬وحيناً آخر (‪ ،)Kindness‬ولكن كلمة (الرحمة) تظل أغنى‬
‫معنى‪ ،‬وأوقع جرساً‪.‬‬

‫‪- 76 -‬‬
‫َّأما كلمة (التقوى) وما يشتق منها‪ ،‬مثل‪ :‬المتقون‪ ،‬اتقوا؛ فإنها تحمل من المعاني‬
‫والظالل ما ال يمكن حصره بجمل وشروح في اللغات األخرى‪.‬‬
‫لذلك؛ لجأ بعض المترجمين الستخدام الكلمة العربية ذاتها عند الترجمة‪ ،‬أ ْو‬
‫وضع شرح لمعنى الكلمة العربية‪ ،‬بدل استخدام لفظة محددة‪.‬‬

‫لغـة مع ِّبـرة‬
‫تظهر قدرتها على التعبير عن الشيء في أكمل صوره وأدقها‪ ،‬بما تعجز عنه سائر‬
‫آن واحد‪.‬‬
‫اللغات األخرى‪ ،‬لدرجة أننا نرى تطابق المبنى والمعنى في ٍ‬
‫يص َّعد ف ي� السماء)‪.‬‬
‫انظر لكلمات مثل‪( :‬فك ُِبكبوا فيها هم والغاوون) أ ْو (كأنَّما َّ‬
‫أي‬
‫فالكلمات طابقت المعنى‪ ،‬أ ْو الحالة المراد التعبير عنها‪ .‬وهذا ما ليس له نظير في ّ‬
‫لغة أخرى‪.‬‬
‫في مقال بعنوان "العيد يف الدِّ ين ويف اللغة"‪ ،‬لعباس العقاد ـ قال فيه‪" :‬في سياق‬
‫هذا المقال‪ ،‬نُتابِع النظر في مزايا العربية‪ ،‬يتفق لنا أن نذكر مزيَّ ًة لهذه اللغة في كلمة‬
‫بأخص معانيه‪ ،‬وهي‬ ‫ِّ‬ ‫فإن تسمي َة العيد بهذا االسم تدل‬
‫(العيـد) بلفظها ومعناها؛ َّ‬
‫فيد في أسماء العيد بأكثر اللغات‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫مدلول ُم ٌ‬ ‫والتعييد‪ ،‬وليس لهذه الخاصية‬ ‫اإلعادة َّ‬
‫فبعض أسمائه باللغات األوربية تدل على معنى الوليمة‪ ،‬ووفرة الطعام‪ ،‬وبعض أسمائه‬
‫خواص العيد‪ ،‬التي‬‫ِّ‬ ‫تدل على اليوم الديني‪ ،‬أو يوم البِطالة (ال ُعطلة)‪ ،‬وليست هذه من‬
‫ينفرد بها بين سائر األيام‪ .‬وبعض أسمائه الحديثة تُقابل كلمة (السنوية)‪ ،‬أ ْو (المئوية)‪،‬‬
‫احتفال بعينه‪ ،‬يجوز أن يكون يوماً واحداً ال يُعا ُد إليه‪ ،‬ويجوز أن يكون‬‫ٍ‬ ‫وتصدق على‬
‫الحداد‪َّ .‬أما كلمة العيد بصيغتها‬ ‫من غير األعياد‪ ،‬ألنه من ذِكرى الكوارث‪ ،‬أ ْو ذكرى ِ‬
‫أدل من تلك األسماء جميعاً على خاصته ومعناه"‪.‬‬ ‫في العربية‪ ،‬فهي ُّ‬

‫العقـاد‪ ،‬بعنوان "األطفال هم الذين يخلقون العيد" عن سبب‬‫آخر نشره َّ‬


‫مقال َ‬
‫وفي ٍ‬
‫"إن الذين يتهمون اللغة العربية‬
‫تسمية اليوم السابق للعيد باسم (الوقفة)‪ ،‬قال فيه‪َّ :‬‬
‫الم َّتفق عليها في لغات‬
‫بضيق الحظيرة‪ ،‬ويظنون أنها تضيق عن اختراع المصطلحات ُ‬
‫أن كل‬‫ال يوم وقفة العيد الصغير‪ ،‬ليذكروا َّ‬ ‫أن يقفوا قلي ً‬‫العلوم الحديثة‪ ،‬خليقون ْ‬
‫مناسبة كافية لخلق الكلمة‪ ،‬التي تؤدي معناها األصيل أ ْو المستعار‪ ،‬فليس من العسير‬
‫المالبسات‪ ،‬فإنها ستساوي‬ ‫بمالبس ٍة من ُ‬ ‫َخلْق كلمة تؤدي معنى ُ‬
‫الم ْخ َت َرع الحديث ُ‬
‫إن "الوقفة" قبل العيد الكبير مفهومة؛ ألن‬
‫على األقل ُمالبسة الوقفة في شهر رمضان‪َّ .‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫ولكن ما هي "الوقفة"‬
‫الوقوف على عرفات ومناسك الحج فريضة من فرائض هذا العيد‪ْ ،‬‬
‫ٍ‬
‫منسك من‬ ‫ُس ِّمي آخر رمضان يوم وقفة‪ ،‬وال وقوف فيه على‬
‫قبل عيد الفِطر؟‪ .‬ولماذا ن َ‬
‫مناسك الصيام أو اإلفطار؟»‪.‬‬
‫درس مفيد‬
‫«إن وقفة رمضان هنا ُمستعارة من وقفة ذي الحجة‪ ،‬وفيها لنا ٌ‬ ‫َّ‬
‫من دروس اللغة‪ ،‬نتعلم منه الشيء الكثير عن أسرار وضع الكلمات‪ ،‬أ ْو نتعلم منه‬
‫صطلح عليه‪ ،‬ثم َّ‬
‫يتكفل‬ ‫الم َ‬
‫كفاية القليل من المناسبات إلطالق الكلمة على المعنى ُ‬
‫المستعار‪ ،‬بغير سؤال»‪.‬‬
‫االصطالح بالبقية‪ ،‬ف ُتصبح الكلمة مفهومة متدا َولة على معناها ُ‬
‫"العقـاد" تأثُّر المسيحيين بالمسلمين فيما يتعلق باألعياد والمصطلحات‬
‫ويلحظ َّ‬
‫المتعلقة بها‪ ،‬فيقول‪" :‬إننا سمعنا من بعض إخواننا المسيحيين من يُطلق اسم (الوقفة)‬
‫اكتسبت معنى اليوم الذي يسبق العيد‪ ،‬حيث‬
‫ْ‬ ‫على اليوم السابق لعيد القيامة؛ ألنها‬
‫(((‬
‫وانفصلت عن معناها األصلي كل االنفصال"‪.‬‬
‫ْ‬ ‫كان‪،‬‬
‫أجل‪ ،‬إنها (لغة الضاد) التي تميزت بالجمال‪ ،‬والوضوح‪ ،‬والدقة في التعبير عن‬
‫المعاني‪ .‬ولقد تحددت مصطلحاتها اللغوية؛ حتى ال يختلط الكالم‪ ،‬واستقرت أحكام‬
‫اإلسالم وتشريعاته على قواعد راسخة‪ .‬حتى يتمايز كالم الله‪ ،‬وحتى تستقيم دالالته‪.‬‬
‫ومما يؤكد هذه الحقيقة المهمة؛ أنه عندما يُنقل القرآن إلى لغة أخرى غير‬
‫فإن المعاني ال تُستو َفى كما هي مستوفاة باللغة العربية‪َّ ،‬‬
‫وإن َ البيان المعجز‪،‬‬ ‫العربية‪َّ ،‬‬
‫الذي تحدى به اإلنس والجن؛ قد يفقد كثيراً من خصائصه عن الترجمة‪ .‬وال ينبغي‬
‫لبعض ظهيرا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أن تأتي بمثله‪ ،‬ول ْو كان بعضها‬
‫لسائر اللغات ْ‬

‫(( ( جريدة (األخبار) القاهرية‪ ،‬اليوميات‪ ،‬عباس محمود العقاد‪1961 ،‬م‪ .‬وجمعت هذه المقاالت في كتاب من ثالثة‬
‫أجزاء بعنوان (اليوميات) نشرت بعد وفاة الكاتب‪ .‬وللعقاد كتاب بعنوان (اللغة الشاعرة)‪.‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫ثورات النحو العريب‬
‫معان وظالل وجرس‬ ‫ٍ‬ ‫امتازت (لغة الضاد) بألفاظها وكلماتها وما تحمل من‬
‫ينضم معنى إلى معنى‪ٍّ ،‬‬
‫وظل إلى ظل‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫موسيقي‪ ،‬وامتازت ببنائها وصياغتها‪ ،‬حين‬
‫وجرس إلى جرس‪ .‬لتبلغ الصياغة أعلى درجاتها من الجمال الفني َّ‬
‫األخاذ‪ ،‬وامتازت‬ ‫ٍ‬
‫ـ أيضاً ـ بقواعدها‪ ،‬بنحوها وصرفها‪ ،‬تميزاً ظاهراً‪ ،‬تبدو فيه دقة المنطق والتناسق‬
‫والترابط‪ ،‬ال تختلف عن دقة علوم الرياضيات‪.‬‬
‫أي لغة مجال لالشتقاق كما يوجد في العربية ‪ ..‬فالفعل الثالثي يأخذ‬
‫فال يوجد في ّ‬
‫حوالي عشرة أشكال بالمزيدات الرباعية والخماسية والسداسية‪ ،‬هذا بخالف اشتقاق‬
‫المصدر‪ ،‬واسم الفاعل‪ ،‬واسم المفعول‪ ،‬والصفة المشبهة‪ ،‬وصيغة المبالغة‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫أن وضع علم النحو والصرف‪ ،‬وتقعيد القواعد‪ ،‬إنما كان في الحقيقة‪،‬‬ ‫جدير ِّ‬
‫بالذكر؛ َّ‬
‫ال إلى حماية األلفاظ والدالالت القرآنية‪ ،‬وضبطها بمعهود العرب في الخطاب‪،‬‬ ‫سبي ً‬
‫حيث نزل بلسان عربي مبين‪ ،‬حتى ال يكون إسالم أصحاب اللغات األخرى سبي ً‬
‫ال‬
‫إلى التيه الداللي واالصطالحي‪ ،‬حتى إِ َّن كثيراً من علماء اللغة‪ ،‬كـ«ابن هشام»‬
‫عندما ُطلب إليه أن يضع لتالمذته كتاباً في تفسير القرآن‪ ،‬وضع لهم كتاب‪« :‬مغني‬
‫اللبيب عن كتب األعاريب» لضبط دالالت األلفاظ‪ ،‬واألدوات‪ ،‬ومعانيها‪ ،‬حتى يدرك‬
‫المصطلح القرآني‪ ،‬بكل احتماالته‪ ،‬وكانت معظم شواهده‪ ،‬واستدالالته من النص‬
‫القرآني‪ ،‬والبيان النبوي‪ ،‬وكالم العرب من حقبة السالمة اللغوية‪.‬‬
‫المجددين على مدار تاريخ لغة الضاد ما تقدم‬‫ِّ‬ ‫لكن‪ ،‬ال ننسى أنه لوال جهود‬
‫النحو العربي خطوة إلى األمام‪ ،‬وال امتازت المدارس النحوية العربية على الصعيد‬
‫العلمي العالمي في ارتقائها واستيعابها لمظاهر القوة والضعف فيما حولها من لغات‪،‬‬
‫ولما اعترف أساتذة الدرس اللغوي المقارن في الجامعات الغربية بمواءمة النحو العربي‬
‫للتجديد والتطور والنمو والقابلية للتفاعل مع مستجدات الحياة والتاريخ كافة‪.‬‬
‫وقد تحدث الباحث عبد الله جاد الكريم((( عن مدى تغلغل ثورات التحديث في‬
‫«يعد كتاب «سيبويه» أول وأهم‬
‫النحو العربي منذ ماقبل اإلسالم وإلى اآلن‪ ،‬فقال ‪ُّ :‬‬
‫عمل حداثي بالنسبة للدرس النحوي‪ ،‬ألنه عمل غير مسبوق في منهجه»‪.‬‬

‫((( الدرس النحوي يف القرن العرشين‪ ،‬عبد الله جاد الكريم‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫فشخصية «سيبويه» كانت مبدعة في تأطيرها للنحو على منهجية جديدة‪،‬‬
‫ظهرت في ابتداع بعض القواعد‪ ،‬وفي ترتيب الكتاب حاوياً عناصر الفن كلها‪ ،‬وتبويبه‪،‬‬
‫وحسن التعليل للقواعد‪ ،‬وجودة الترجيح عند االختالف‪ ،‬واستخراج الفروع من القياس‬
‫الذي امتأل به الكتاب‪ .‬فكتاب سيبويه ‪-‬على حد وصف بعض النحاة القدماء ـ «أصبح‬
‫النحو منطق العربية بمجيء سيبويه»‪.‬‬
‫وتأتي المحطة الثانية المكملة لسيبويه‪ ،‬وهي ثورة األندلسي ابن مضاء القرطبي‬
‫(ت‪ 592‬هـ) في كتابه (الرد عىل النحاة) الذين وصفهم بالتقليديين‪ ،‬فقد رفض أن‬
‫يستمر الدرس النحوي لثالثة قرون مرتكزاً على مجموعة من القواعد التي نالت درجة‬
‫التقديس عند كثير منهم‪ ،‬وكانت ثورة ابن مضاء دعوة باكرة إلعادة النظر في منهج‬
‫النحو العربي‪ ،‬وقد استوحى آراءه النحوية الجديدة من المذهب الظاهري في الفقه‪.‬‬
‫بل يطالب بتجريد النحو من الشوائب‪،‬‬ ‫وهو ال يدعو إلى هدم النحو ونسف الماضي‪ْ ،‬‬
‫رأيت النحويين ‪-‬رحمة الله عليهم‪ -‬قد‬ ‫وتخليصه من صناعة النحاة‪ ،‬فيقول‪« :‬إني ُ‬
‫وضعوا صناعة النحو لحفظ الكالم من اللحن‪ ،‬وصيانته من التغيير فبلغوا الغاية التي‬
‫أ ّموا‪ ،‬وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتغوا»‪.‬‬
‫لكن معاصري ابن مضاء ومن جاءوا بعدهم؛ لم يكترثوا بآرائه التجديدية‪ ،‬فقد‬
‫استمر الغالة في الصناعة النحوية القديمة؛ إلى أن قام الدكتور شوقي ضيف بتحقيق‬
‫هذا الكتاب عام ‪1947‬م‪ ،‬وأصدر من بعده كتابه (تجديد النحو)‪.‬‬
‫ومن سمات النحو العربي قدرته على اإلفادة من اللغات األخرى‪ ،‬واألخذ بما‬
‫يرفده بالحيوية والتطور والنمو‪ ،‬في تفاعل حضاري بين الشرق والغرب منذ القديم‪.‬‬
‫ويرى الدكتور إبراهيم مدكور أنه ‪ :‬من الثابت أن كتب أرسطو المنطقية كانت‬
‫معروفة لدى السريان‪ ،‬وقد تُرجمت إلى لغتهم قبل اإلسالم‪ .‬والمهم أنها تُرجمت‬
‫إلى اللغة العربية منذ النصف األول من القرن الثاني الهجري‪ .‬فهي إذن ثروة جديدة‬
‫نُقلت إلى العالم العربي‪ .‬ومن أقدم األمثلة على تأثير السريانية على العربية‪ ،‬األبجدية‬
‫النبطية‪ ،‬نشأة الحركات اإلعرابية في فجر اإلسالم‪ ،‬والتي يُنسب وضعها إلى أبي‬
‫األسود الدؤلي‪ ،‬وهي في الحقيقة مأخوذة عن السريان؛ ألن طريقة الشكل بالنقط‬
‫إحدى طرق الشكل السرياني‪ ،‬وهي الطريقة التي اتبعها النساطرة‪.‬‬
‫وقد أثّرت العربية بدورها في غيرها من اللغات نحوياً‪ ،‬حيث تعترف دائرة المعارف‬
‫قوي بعامل‬
‫بأن «الحافز لدراسة الفلوجي العبري قد َ‬ ‫اليهودية في مادة (‪َّ )GRAMAR‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫خارجي‪ ،‬وبالتحديد بالمثال الذي قدمته اللغة العربية‪ .‬وقد استمرت العربية تؤثر على‬
‫علم اللغة العبري‪ ،‬وكان النموذج العربي هو الذي احتذاه العبرانيون‪ ،‬ثم ُطور»‪.‬‬
‫وذكر المستشرق لويس ماسينيون مدى تأثير النحو العربي في اللغات األوربية‪،‬‬
‫خاصة في المجاالت العلمية‪ ،‬فقال‪« :‬والعربية من أنقى اللغات؛ فقد تفردت بتميزها‬
‫ال في‬ ‫في طرق التعبير العلمي والفني والصوفي‪ ،‬فالتعبير العلمي الذي كان مستعم ً‬
‫القرون الوسطى لم يتناوله القدم؛ ولكنه وقف أمام تقدم القوى المادية فلم يتطور‪َّ .‬أما‬
‫المعبرة عن المعاني الجدلية والنفسانية والصوفية؛ فإنها لم تحتفظ بقيمتها‬‫األلفاظ ِّ‬
‫ُنشطه؛ بفضل مرونة النحو العربي‬ ‫بل تستطيع أن تؤثر في الفكر الغربي وت ّ‬ ‫فحسب‪ْ ،‬‬
‫وإدهاشه اإلبداعي المتواصل‪ ،‬أخذاً وعطا ًء‪ ،‬على طريق التحديث في بنيتها القادرة‬
‫على التعاطي مع اللسانيات الغربية والشرقية»‪.‬‬
‫كما أثّر النحو العربي في أكبر عقلية لغوية غربية في الربع األخير من القرن‬
‫العشرين‪ ،‬وفي أبرز مدرسة لغوية حداثية؛ عقلية العالِم األمريكي اليهودي نعوم‬
‫أقر بالحق العربي وبمكانة العربية‪ ،‬وقد تزعم الدراسات اللغوية‬‫تشومسكي حيث َّ‬
‫وكو َن نظرية جديدة قلبت الفكر اللغوي رأساً على عقب‪ ،‬وقد ن ّوه تشومسكي‬
‫المعاصرة‪َّ ،‬‬
‫‪-‬في معرض رده على سؤال ُو ّجه إليه عام‪1989‬م ـ بأن تأثيرات النحو العربي كبيرة‬
‫على نظريته في دراسة اللغة‪ ،‬وأنه قرأ كتاب سيبويه كمرجع له‪.‬‬
‫«النحـو القرآنـي» هو الحـل‬
‫هناك رأي يقول ‪ :‬إن علماء اللغة؛ منذ أن قاموا بالتنظير والتقعيد‪ ،‬لم يستطيعوا‬
‫«الشعر الجاهلي»‪ ،‬متجاهلين‬
‫الشعرية‪ ،‬السيما الموروثة من ِّ‬ ‫الخروج من دائرة الشواهد ِّ‬
‫أساس‪ ،‬ومصدر رئيس في التقعيد ألصول العربية‪ .‬إ ْذ حصروا‬ ‫ٍ‬ ‫«القرآن الكريم» كرافد‬
‫أن «كتاب الله» هو الذي ارتقى‬‫جهودهم في تتبع لهجات القبائل العربية‪ُ ،‬متناسين َّ‬
‫وأمدها بشرايين النمو والتجدد‬
‫ِن لها الخلود والبقاء‪ّ ،‬‬ ‫فضم َ‬ ‫بالعربية إلى العالمية‪َ ،‬‬
‫والحياة‪ ،‬حتى أصبحت أُم اللغات‪ ،‬ومعجزة الزمان‪.‬‬
‫لقد شعر الدكتور طه حسين بعجز النحو عن استيعاب كثير من القضايا اللغوية‪،‬‬
‫عند مقارنته بما يتضمنه القرآن الكريم من قواعد وأصول‪ ،‬يخالف فيها ما ق ّعده النحاة‬
‫أن ما ظ ّنه النحاة‬‫األمريْن؛ إلى أن قادته سليقته اللغوية إلى َّ‬
‫األوائل‪ ،‬فقارن بين َ‬
‫والمستشرقون من قبيل االختالف مع القاعدة النحوية‪ ،‬هو من باب رد األمور إلى‬
‫نِصابها‪ ،‬والعودة من جديد للتقعيد للنحو باالعتماد على القرآن الكريم كمصدر أساس‪،‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫ألن هذا يحل كثيراً من مغاليق النحو‪ ،‬ويفتح شرايينه المسدودة‪.‬‬
‫َق ْبل الشعر الجاهلي‪َّ ،‬‬
‫بأن في القرآن أخطا ًء نحوية‪ ،‬وهو غير‬
‫وهو يرد ‪-‬كذلك‪ -‬على ادعاءات المستشرقين‪َّ ،‬‬
‫صحيح‪ ،‬بسبب تجاهل النحاة العرب للقرآن عند التنظير والتقعيد للنحو‪.‬‬
‫لقد ألَّف "طه حسين" بحثاً مهماً‪ ،‬بعنوان" ضمري الغائب‪ ،‬واستعامله اسم إشارة يف‬
‫القرآن الكريم"‪ ،‬كان قد ألقاه أمام مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة أكسفورد‬
‫أن‪" :‬علم النحو العربي ‪-‬كما هو اآلن‪ -‬ال يكفي لتفسير‬
‫عام ‪1928‬م‪ ،‬انتهى فيه إلى َّ‬
‫القرآن‪ ،‬وتخريجه من الوجهة النحوية الصرفة؛ مطالباً بضرورة وضع نح ٍو ٍ‬
‫خاص للقرآن؛‬
‫يُزيل ما يعلق بنفوس بعض المستشرقين من الشك‪ ،‬حين يقرأون القرآن‪ُ ،‬معتمدين‬
‫على النحو القديم‪ ،‬فيرون بينه وبين هذا النحو ضروباً من الخالف؛ فيظنون َّ‬
‫أن‬
‫قصر النحويون حين وضعوا‬ ‫لم يُ ِ‬
‫خطئ‪ ،‬وإنما َّ‬ ‫بالقرآن خطأ نحوياً‪ .‬والواقع ّ‬
‫أن القرآن ْ‬
‫قواعد النحو؛ لم يستوعبوا القرآن والشعر‪ ،‬ولم يستقصوهما"‪.‬‬
‫نص‬
‫بعدما درس "طه حسين" ضمائر الغائب في القرآن الكريم‪ ،‬وجدها تخالف ما َّ‬
‫"إن ضمير الغائب‬‫عليه النحاة في ُك ُتبهم‪ ،‬في القاعدة النحوية الشهيرة‪ ،‬التي تقول‪َّ :‬‬
‫يجب أن يعود إلى مذكور يتقدمه لفظاً ُ‬
‫ورتب ًة‪ ،‬وأن يطابق هذا المذكور في التذكير‬
‫أن هذا الكالم يُخالف كثيراً من اآليات‬
‫والتأنيث‪ ،‬وفي اإلفراد والتثنية والجمع"‪ .‬فرأى ّ‬
‫القرآنية‪ ،‬التي وردت خالف ذلك‪.‬‬
‫فإن‬
‫"إن هذه القاعدة شاملة ال يقبل النحويون فيها استثنا ًء؛ ْ‬ ‫يقول طه حسين‪َّ :‬‬
‫أن هذا التأخر اللفظي‬ ‫تأخر المرجع عن الضمير تأ ّولوا وتكلّفوا إلثبات ّ‬ ‫عرض ما يُوهِم ُ‬
‫حال‪ ،‬ال يقبلون استثنا ًء في قاعدة المطابقة بين‬ ‫الرتبة‪ .‬وهم‪ ،‬على كل ٍ‬ ‫ال يستلزم تأخر ُّ‬
‫الشعر والنثر؛ فهي ال‬ ‫ردت في ِّ‬ ‫اط ْ‬ ‫إن َّ‬
‫‪-‬بج ْز َءيها‪ْ -‬‬
‫ولكن هذه القاعدة ُ‬
‫الضمير ومرجعه‪َّ ،‬‬
‫يتقدمها لفظاً‬
‫أن في القرآن ضمائر ال تعود إلى مذكو ٍر َّ‬ ‫تط ِرد في القرآن الكريم؛ ذلك ّ‬ ‫َّ‬
‫ورتب ًة‪ .‬بل فيه ضمائر يظهر أنها تعود إلى مذكو ٍر‪ ،‬ولكنها ال تُطابِقه تذكيراً وتأنيثاً‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬
‫إفراداً وتثني ًة وجمعاً"‪.‬‬
‫وقد حصر طه حسين الضمائر في تسعة أنوا ٍع‪ ،‬على النحو التالي ‪:‬‬
‫محمد ﷺ‪ ،‬و ُمجادلته‪ ،‬واستفتاءه‬
‫النبي َّ‬
‫تعودوا حوار ّ‬
‫األول ‪ :‬ضمائر يُراد بها الذين َّ‬
‫في مكة والمدينة‪ ،‬من المسلمين وغير المسلمين‪ .‬ومن هذا النوع‪ ،‬كل‬
‫والج َمل‪ ،‬التي تبتدئ بقوله تعالى‪ ﴿ :‬يسألونك ﴾‪ .‬وكذلك قوله‬
‫اآليات ُ‬
‫تعالى‪" :‬أ ْم يقولون افتراه" فالواو راجعة إلى المشركين من أهل مكة‪،‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫النبي ﷺ‪ ،‬وهو لم يُ ْذ َكر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫راج ٌع إلى‬ ‫وهم لم يُ ْذ َكروا‪ ،‬وفاعل افترى ِ‬
‫ومفعوله راجع إلى القرآن‪ ،‬وهو لم يُ ْذ َكر"‪.‬‬
‫الثانـي ‪ :‬الضمائر التي يُراد بها القرآن‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪ ﴿ :‬إنّا أنزلناه ف ي� ليلة القدر ﴾‪.‬‬
‫النبي ﷺ نفسه‪ ،‬ومنها قوله سبحانه‪ ﴿ :‬عبس ّ‬
‫وتول ﴾‪.‬‬ ‫الثالـث ‪ :‬الضمائر التي يُراد بها ّ‬
‫الرابـع ‪ :‬الضمائر التي تعود إلى األفعال‪ ،‬وذلك حين يأمر الله بأم ٍر‪ ،‬أو ين َهى عنه‪،‬‬
‫أو تأكيد األمر والنهي‪ ،‬ومثال ذلك قوله تعالى‪ ،‬في سورة البقرة‪ ﴿ :‬ومن‬
‫للحق من ربك ﴾‪.‬‬ ‫فول وجهك شطر المسجد الحرام‪ ،‬وإنه ُّ‬ ‫خرجت‪ِّ ،‬‬
‫َ‬ ‫حيث‬
‫عز من قائل‪ ،‬في سورة المائدة‪ ﴿ :‬اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾‪ .‬وقوله‬ ‫وقوله َّ‬
‫عز وجل في سورة األنفال‪ ،‬بعد أن َّبين أحكام المواالة بين المسلمين‬ ‫َّ‬
‫أ‬ ‫ف‬ ‫والكافرين‪ ﴿ :‬إال ّ تفعلوه تكن ٌ‬
‫فتنة ي� الرض ﴾‪.‬‬
‫قدم‪ ،‬ولكنه‬‫الم ْب َهمة‪ ،‬وهي على قس َمين‪ ،‬أحدهما يعود إلى ُم َت ِّ‬ ‫الخـامس ‪ :‬الضمائر ُ‬
‫صدقاتهن ِن ً‬
‫حلة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ال يُطابقه كقوله تعالى‪ ،‬في سورة النساء‪ ﴿ :‬وآتوا النساء‬
‫� منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً ﴾ فالهاء في "منه" ظاهرة‬ ‫� لكم عن ش ئ‬ ‫فإن ِط ب ْ ن َ‬
‫الرجوع إلى الصدقات‪ ،‬ولكنها ال تطابق الصدقات في الجنس‪ ،‬وال في‬
‫"إن هذه الهاء بمعنى اسم‬ ‫الكشاف‪ّ :‬‬
‫العدد‪ .‬ولهذا قال الزمخشري في ّ‬
‫فإن طِبن لكم عن شئ من ذلك نفساً"‪.‬‬ ‫اإلشارة؛ كأنه قال‪ْ :‬‬
‫تأخر لفظاً‬
‫فسرها ُم ِّ‬
‫والقسم الثاني‪ :‬ضمائر ال ترجع إلى متقدم‪ ،‬ولكن يُ ِّ‬
‫"إن هي إ ّال حياتنا الدنيا"‪.‬‬ ‫ورتب ًة‪ ،‬كقوله تعالى‪ْ :‬‬
‫ُ‬
‫السـادس ‪ :‬الضمائر التي تقع في آيات التشريع‪ ،‬كقوله تعالى‪ ،‬في سورة البقرة ‪:‬‬
‫ترسيح بإحسان‪ ،‬وال يحل لكم أن‬ ‫ٌ‬ ‫بمعروف أو‬
‫ٍ‬ ‫مرتان‪ ،‬فإمساكٌ‬
‫﴿ الطالق ّ‬
‫آتيتموهن شيئاً إال ّ أن يخافا أال ّ يُقيما حدود الله ﴾ فاأللف في‬
‫َّ‬ ‫مما‬
‫تأخذوا ّ‬
‫الزوج ْين اللذين لم يُ ْذ َكرا‪.‬‬
‫(يخافا) راجعة إلى َ‬
‫وأوضح مثال لهذا النوع ‪-‬أيضاً‪" :-‬آية الميراث في سورة النساء؛ فالضمائر‬
‫التي تعود فيها إلى غير المذكور كثيرة"‪.‬‬
‫النص‪ ،‬كقوله سبحانه‪ ،‬في سورة النحل‪:‬‬ ‫السابـع ‪ :‬الضمائر التي يُ ْف َهم مرجعها من َّ‬
‫﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ﴾ فالهاء راجعة إلى‬
‫ُذ َكر‪ .‬وقوله تعالى إلبليس‪ ﴿ :‬اخرج منها فإنك رجيم ﴾‪.‬‬ ‫األرض‪ ،‬التي لم ت ْ‬
‫ُذ َكر"‪.‬‬
‫الج َّنة‪ ،‬التي لم ت ْ‬
‫فالهاء راجعة إلى َ‬

‫‪- 83 -‬‬
‫الثامـن ‪ :‬الضمائر التي تعود إلى( َم ْن) دون أن تُطابقها جنساً أ ْو عدداً‪ .‬والنحويون‬
‫في ْف َرد‪ ،‬ويُ َذ َّكر‪ ،‬وباعتبار‬
‫إن الضمير يرجع إلى"من" باعتبار لفظها؛ ُ‬ ‫يقولون‪َّ :‬‬
‫ولكن رجوع الضمائر إلى األلفاظ‬ ‫فيطابق هذا المعنى جنساً وعدداً‪َّ ،‬‬ ‫معناها؛ ُ‬
‫أقبلت‪ُ ،‬مراعا ًة‬
‫ْ‬ ‫مرة‪ ،‬وإلى المعاني مرةً‪ ،‬ال معنى له‪ ،‬فأنت ال تقول‪ :‬حمزة‬ ‫ّ‬
‫لتأنيث اللفظ‪ ،‬وإنما تقول‪ :‬حمزة أقبل‪ ،‬مراعا ًة لتذكير المعنى‪ ،‬ولو جاز‬
‫إرجاع الضمائر إلى األلفاظ مرةً‪ ،‬وإلى المعاني مر ًة أخرى؛ ألصبحت اللغة‬
‫والنحو ضرباً من اللَّعِب‪ .‬والواقع أن الضمائر ترجع إلى ( َمن) في القرآن‬
‫الكريم ُمفرد ًة في أكثر األحيان‪ ،‬كقوله تعالى ‪َ ﴿ :‬م ْن جاء بالحسنة فله‬
‫وم ْن جاء بالسيئة فال يُ ْج َزى إال ّ مثلها ﴾ ولكنها ترجع إلى ( َم ْن)‬‫ع� أمثالها‪َ ،‬‬‫ش‬
‫ُمطابق ًة في الصلة‪ ،‬وغير ُمطابقة في الصفة أو الخبر‪ ،‬كقوله سبحانه‪ ،‬في‬
‫خوف عليهم وال هم يحزنون ﴾‪.‬‬ ‫هداي فال ٌ‬
‫َ‬ ‫سورة البقرة‪ ﴿ :‬فمن ت َِب َع‬
‫قاعـدة ذهبيــة‬
‫أن" ضمير الصلة ُمفرد في القرآن الكريم دائماً‬‫توصل طه حسين‪ ،‬إلى َّ‬‫وقد َّ‬
‫اثنتين‪ ،‬في قوله تعالى‪ ﴿ :‬ومنهم من يستمعون إليك ﴾‪ ،‬وقوله‬ ‫مرتين ْ‬ ‫إ ّال في ْ‬
‫ين‬
‫الشياط� من يغوصون له‪ ،‬ويعملون عمال ً دون ذلك ﴾‪ .‬فأ ّما ما‬ ‫سبحانه‪ ﴿ :‬ومن‬
‫عدا الصلة فال تتحقق فيه المطابقة‪ .‬غير أنّا نجد أحيانا الضمير ـ كما رأينا في‬
‫المثال السابق ـ وأحياناً اسم اإلشارة كقوله تعالى‪ ،‬في سورة البقرة ‪ ﴿ :‬بىل من‬
‫سيئة‪ ،‬وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾‪.‬‬‫كسب ً‬
‫وأكثر من هذا؛ أن عدم المطابقة ليس مقصوراً على ( َمن) فقط‪ ،‬بل‬
‫أن (الذي) مفرد قطعاً؛ فال يصح أن يرجع الضمير‬ ‫يتجاوزها إلى (الذي)‪ ،‬مع َّ‬
‫إلى لفظه مرةً‪ ،‬وإلى معناه أخرى‪ .‬فمن ذلك قوله تعالى في سورة الزمر‪ ﴿ :‬والذي‬
‫وصدق به‪ ،‬أولئك هم المتقون ﴾‪ .‬وقوله سبحانه في سورة البقرة ‪:‬‬ ‫جاء بالصدق َّ‬
‫صفوان‬ ‫آ‬
‫﴿ كالذي يُنفق ماله رئا َء الناس‪ ،‬وال يؤمن بالله‪ ،‬واليوم ال ِخر‪ ،‬فمثله كمثل‬
‫ٍ‬
‫بل ال يقتصر‬ ‫� مما كسبوا ﴾‪ْ .‬‬ ‫وابل تف�كه صلداً‪ ،‬ال يقدرون عىل ش ٍ ئ‬
‫عليه تراب فأصابه ٌ‬
‫عدم المطابقة على (من‪ ،‬والذي) وإنما يتجاوزهما إلى أسماء ُم ْظ َه َرة‪ ،‬منها العام‪،‬‬
‫النسان‬‫ووصينا إ‬
‫ومنها الخاص‪ .‬فمن األول‪ :‬قوله تعالى في سورة األحقاف ‪ّ ﴿ :‬‬
‫بوالديه إحساناً ﴾ إلى قوله ‪ ﴿ :‬أولئك الذين نتق ّبل منهم أحسن ما عملوا ﴾‪ .‬ومن‬
‫رب شا�ح يل‬‫الثاني ‪ :‬قوله في سورة طه ‪ ﴿ :‬اذهب إىل فرعون إنه طغى‪ ،‬قال ِّ‬
‫ن‬
‫قول ﴾‪.‬‬
‫لسا� يفقهوا ي‬‫ويس يل أمري‪ ،‬واحلل عقد ًة من ي‬ ‫صدري‪ْ ِّ ،‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫فعدم المطابقة ‪-‬إذن‪ -‬ليس من خصائص الضمير‪ ،‬وال من خصائص األسماء‬
‫الموصولة‪ ،‬وإنما هو أسلوب من أساليب القرآن الكريم‪ ،‬إذا أمكن ضبطه وتحديده؛‬
‫مرجع لها"‪.‬‬
‫َ‬ ‫فقد أمكن حل مسألة الضمائر غير المطابقة‪ ،‬أو التي ال‬
‫ويرى "طه حسين" أن القرآن الكريم يستعمل أحياناً أسما ًء عامة‪ ،‬أو خاصة‪،‬‬
‫جماعات أخرى ثاني ًة‪ْ .‬‬
‫أي‬ ‫ٍ‬ ‫أن هذه األسماء تدل على أصحابها أوالً‪ ،‬وتُ َمثِّل‬
‫وهو يريد َّ‬
‫أن هؤالء األشخاص ممتازون‪ ،‬لهم من المكانة في حياتهم االجتماعية ما يجعلهم‬ ‫َّ‬
‫عنوانا لقومهم؛ فالضمائر التي تعود إلى أسماء مفردة مطابقة هي الضمائر التي تحدد‬ ‫ً‬
‫تم هذا التحديد والتمييز‪ ،‬لم تعد الضمائر إلى هؤالء‬ ‫أشخاصهم وتميزها‪ ،‬حتى إذا َّ‬
‫ال‪ -‬يعود إليه‬‫األشخاص‪ ،‬وإنما عادت إلى الجماعات التي يُمثِّلونها؛ ففرعون ‪-‬مث ً‬
‫الضمير مفرداً‪ ،‬في قوله تعالى‪" :‬إنه طغى"‪ .‬ومِن حيث إنه يمثل المصريين؛ فالضمير‬
‫في (يفقهوا قولي) ال يعود إلى فرعون وحده‪ ،‬وإنما يعود إليه وإلى المصريين‪.‬‬
‫واإلنسان‪ ،‬في آية األحقاف السالفة‪ ،‬يراد به أبو بك ٍر الصديق‪ ،‬كما قال‬
‫ولكن أبا بك ٍر عنوان لطائفة من المسلمين أخلصوا في إيمانهم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫المفسرون‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ً‬
‫وب ِِّرهم وخضوعهم لله؛ فيرجع الضمير أول األمر إلى أبي بكر مفردا ليحدده‬
‫ويميزه‪ ،‬ثم يرجع الضمير بعد ذلك جمعاً إلى أبي بكر ون َ‬
‫ُظرائه"‪.‬‬
‫التاسـع ‪ :‬ضمير الشأن‪ ،‬الذي يرى طه حسين أنه فقد معناه‪ ،‬وأصبح أدا ًة لفظي ًة‪،‬‬
‫لتقوية الجملة في القصص القرآني‪ ،‬وفي الوعد والوعيد‪.‬‬
‫واضح في نفسه‪ ،‬وهو مفهوم من النحو المنطقي الصرف‪ ،‬ومن‬ ‫ٌ‬ ‫هذا الحل‬
‫أن اآليات‬ ‫القرآن الكريم نفسه‪ ،‬الذي يحل هذه المشكلة ح ً‬
‫ال ال شك فيه‪ ،‬ذلك َّ‬
‫التي لم تتحقق فيها المطابقة‪ ،‬والتي تبلغ نحو المائة‪ ،‬قد ورد فيها اسم اإلشارة‬
‫سبعاً وأربعين مرةً‪ ،‬وورد فيها الضمير ثالثاً وأربعين مرة‪.‬‬
‫إذن؛ فالقرآن الكريم يستعمل في هذه اآليات الضمير واسم اإلشارة على‬
‫السواء‪ .‬فالضمير في هذه اآليات بمعنى اسم اإلشارة‪ .‬ونحن نعلم أن اسم اإلشارة ال‬
‫يلزم أن يرجع إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتب ًة‪ ،‬وإنما يجب أن يرجع إلى المشار إليه‪،‬‬
‫وأن يطابقه عدداً وجنساً‪ ،‬سواء ُذكِر هذا المشار إليه أ ْو لم يُ ْذ َكر‪.‬‬
‫وقد طالب طه حسين النحاة واللغويين العرب بضرورة "تطبيق هذه القاعدة التي‬
‫توصل إليها‪ ،‬على كل الضمائر التي ال مرجع لها‪ ،‬أو التي ال تُطابق مرجعها‪ ،‬بحيث‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫تؤخذ هذه الضمائر على أنها أسماء إشارات" بدال من اللهاث وراء ألغاز وأحاجي‬
‫وتخريجات؛ أوقعت اللغويين أنفسهم في مآزق محرجة‪ ،‬ومواقف ال يحسدون عليها‪.‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫عىل مائدة سيبويه‬
‫حافظت (العربيـة) على أرستقراطيتها قروناً طويلة‪ ،‬وأزاحت مئات اللغات واللهجات‬
‫وصنعت أمجاداً ال تزال‬
‫ْ‬ ‫وتبخترت فوق الحضارات‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وتخطت اليابس والماء‪،‬‬
‫ْ‬ ‫من طريقها‪،‬‬
‫النهار إلى دليل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫دليل‪ ،‬إ َّال إذا احتاج‬
‫شواهدها قائمة‪ ،‬ال تحتاج إلى ٍ‬
‫تغنى الشيخ قسطاكي الحمصي ـ بجمال العربية في قصيدته‪ ،‬التي أسماها‬
‫لذا؛ َّ‬
‫(ليىل) ‪:‬‬
‫ـن شــكالً ما لــه ثانِ‬ ‫ِصيغـ ْ‬
‫ـت مــن ال ُحسـ ِ‬ ‫فــإنَّ ليــى فتــا ٌة ال مثيــل لهــا‬
‫منيــت فهــل فخــ ٌر كعدنــان؟‬ ‫ْ‬ ‫وإنْ‬ ‫منســوب منابتهــا‬
‫ٌ‬ ‫إىل البــداو ِة‬
‫آياتهـــا غُــر ٌر‪ ،‬فـــي كـــل قــرآن‬ ‫ألفاظهــا ُدر ٌر‪ ،‬تركيبهـــا صـــو ٌر‬
‫«الشاعر القـروي» بضرورة تعليم األبناء القرآن الكريم والحديث‬
‫وقد نصح َّ‬
‫النبوي‪ ،‬فقال‪« :‬علِّموا القرآن والحديث ونهج البالغة في مدارسكم وجامعاتكم‪َّ ،‬‬
‫لتقوم‬
‫بالفصحى ألسنتكم‪ ،‬وتتقوى ملكاتكم‪ ،‬ويعلو نفسكم‪ ،‬وتزخر صدوركم بالحكمة‪،‬‬
‫وتشرق طروسكم بسحر البيان»‪.‬‬
‫لكن؛ على الرغم من الكمال الذي بلغته «العربية»‪ ،‬وعلى الرغم من الثبات الذي‬
‫إال أنه كثيراً ما تشتعل المعارك بين (األدباء) و(علماء‬
‫امتازت به عن سائر اللغات؛ َّ‬
‫ولعل أعنفها ما كان في الماضي البعيد بين «الكوفيين» و»البصريين»‪.‬‬‫النحو)‪َّ .‬‬

‫التقيد بالقواعد النحوية‬


‫أفق بعيد‪ ،‬وخيال جامح‪ ،‬ال يحبون ُّ‬ ‫فاألدباء أصحاب ٍ‬
‫الدقيقة؛ التي يعتبرونها عثر ًة في طريقهم‪ ،‬وحاجزاً أمام ملكاتهم اإلبداعية‪ ،‬فيلجأون‬
‫إلى اختالق الحيل األدبية‪ ،‬والنكات اللغوية‪ ،‬ليحرجوا خصومهم المتربصين بهم؛ كما‬
‫فعل أبو نواس‪ ،‬وابن الرومي‪ ،‬وكما فعل المتنبي‪ ،‬وأبو العالء‪.‬‬
‫بينما نجد (علماء النحو) يقفون لهم بالمرصاد‪ ،‬وينصبون أجهزة الرادار‪،‬‬
‫المكبرة‪ ،‬وأجهزة االستشعار عن بُعد؛ فيحاسبون على الصغيرة‬
‫ويستخدمون العدسات ِّ‬
‫ويفوتون الفرصة على أولئك المبدعين المتسلِّلين‪ ،‬وال يسمحون لهم‬
‫قبل الكبيرة‪ِّ ،‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫بالهروب باألوزان المغشوشة‪ ،‬وال بالخروج سوى من بوابة «الخليل» و«الكسائي»‬
‫ويحرمون عليهم ترك النوافل اللغوية‪ِّ ،‬‬
‫ويذكرونهم بالمعلوم من النحو‬ ‫بل ِّ‬ ‫و«سيبويه»‪ْ .‬‬
‫بالضرورة‪ ،‬ويطالبونهم بفقه اللغة‪ ،‬ويمنعونهم من تجاوز اإلشارات النحوية الحمراء‪.‬‬
‫ولم ُ‬
‫يخل عصر من العصور من تلك المنازعات اللغوية العنيفة‪ ،‬والمعارك النحوية‬ ‫ْ‬
‫وتتأجج العداوات‪ ،‬وربما‬
‫َّ‬ ‫الحامية الوطيس‪ .‬وقد ترتفع األصوات‪ ،‬وتحتدم المناقشات‪،‬‬
‫يسقط إزاءها من القتلى والجرحى‪ ،‬كتلك التي مات على إثرها «سيبويه» كمداً‪.‬‬
‫(حتاك‬ ‫صدرها َّ‬
‫«العقـاد» في هجومه على «طه حسين» بمقالة عنوانها‪َّ :‬‬ ‫أ ْو كالتي َّ‬
‫أن يمسك لسانه‪ ،‬ويغلِق عليه داره‪ ،‬ويبكي على خطيئته‪.‬‬
‫فاضطر األخير ْ‬
‫َّ‬ ‫يا طه)‪.‬‬
‫أ ْو كقول َّ‬
‫العقـاد للرافعي‪( :‬إيه يا خفافيش األدب؛ أغثيتم نفوسنا‪ ،‬أغثى الله‬
‫لم تُخلَق َّ‬
‫إال لهذا السوط‪،‬‬ ‫نفوسكم‪ ،‬ال هوادة بعد اليوم‪ ،‬السوط في أيدينا‪ ،‬وظهوركم ْ‬
‫ثم موته البائس ‪..‬‬
‫تسبب في مرض الرافعي المفاجئ‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫وسنفرغ لكم أيها الثقالن)‪ .‬مما َّ‬
‫كي يستريح من سياط َّ‬
‫العقـاد‪.‬‬ ‫ْ‬
‫وكثيراً ما تحدث «وساطات» بين المتخاصمين‪ ،‬ويتدخل «أهل الحل والعقد»‬
‫البين؛ كالصلح بين «حافظ» و«المازني»‪ ،‬أ ْو بين «زكي‬
‫لفض النزاع‪ ،‬وإصالح ذات ْ‬
‫مبارك» و«أحمد أمين»‪.‬‬
‫وأحياناً يكون النقد هادئاً‪ ،‬أ ْو موارباً‪ ،‬أ ْو محتشماً‪ ،‬أ ْو من وراء حجاب‪ ،‬تأسياً‬
‫ينبه ضيفه إلى‬
‫فالشعبي –رحمه الله‪ِّ -‬‬
‫ّ‬ ‫بالخطاب القرآني ﴿ وقولوا لل َّناس حسناً ﴾‪.‬‬
‫االهتمام بالنحو‪ ،‬دون أن يح ِرجه‪ ،‬فيقول‪ :‬النحو في الكالم كالملح في الطعام‪.‬‬
‫يحذر مريديه من عاقبة اللحن –الخطأ‪ -‬فيقول‪« :‬أخوف ما أخاف‬ ‫واألصمعي ِّ‬
‫النبيﷺ‪َ :‬من َك َذ َب‬
‫على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول ّ‬
‫رويت عنه ولحنت؛‬‫علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"‪ .‬ألنه لم يكن يلحن‪ ،‬فمهما َ‬
‫َّ‬
‫فقد كذبت‪.‬‬
‫دعوت فلحنت‪ ،‬فأخاف َّ‬
‫أال‬ ‫ُ‬ ‫وقد استدرك أحدهم على أبيه –بالتلميح‪ -‬قائ ً‬
‫ال‪ :‬ربما‬
‫يستجاب لي‪.‬‬
‫وتطبيقاً للقول األخير؛ نجد "األصمعـي" وقد سمع رج ً‬
‫ال يدعو‪( :‬يا ذو الجالل‬
‫البد أن يكون منصوباً‪ .‬فقال له‬
‫ألن "المنا َدى المضاف" َّ‬
‫واإلكرام)‪ .‬وهذا خطأ نحوي؛ َّ‬

‫‪- 87 -‬‬
‫كم تدعو؟ قال‪ :‬منذ سبع سنين دأباً‪ْ ،‬‬
‫فلم َأر إجابة‪ .‬فقال األصمعي‪ :‬ما اسمك؟‪.‬‬ ‫‪ :‬منذ ْ‬
‫قال ‪ :‬ليث‪ .‬فأنشأ األصمعي‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫لــذاك إذا دعـــاه فــا يجيــب‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫ليــث‬ ‫ينــادي ر َّبـــه باللحــن‬
‫صحح له خطأه‪ ،‬فقال‪« :‬قل يا ذا الجالل واإلكرام»‪.‬‬
‫ثم َّ‬
‫َّ‬
‫إن "أبا األسود الدؤلي" يعجب من أن يربح من يخطئ‪ ،‬فعندما دخل السوق؛‬ ‫ْ‬
‫بل َّ‬
‫رأى أعداالً للتجار مكتوباً عليها‪ :‬ألبو فالن ـ والصحيح ألبي فالن ـ فقال‪ :‬سبحان الله‪.‬‬
‫يلحنون ويربحون‪.‬‬
‫وال يخفى أثر البيئة على اللغة‪ ،‬من ذلك؛ قصة أبي عمرو ابن العالء مع (أبي‬
‫خيرة) األعرابي حين سأله عن ضبط جمع مؤنث سالم في حالة النصب‪ ،‬فنطق به أبو‬
‫َ‬
‫جلدك يا أخيرة‪ ،‬لقد أصبح أبو خيرة‬ ‫خيرة مفتوحاً‪ ،‬فقال أبو عمرو ‪" :‬هيهات‪ ،‬قد َ‬
‫الن‬
‫من الحضر أهل السواد‪ ،‬أكلة الكواميخ والشواريز‪ ،‬بعد أن كان من أهل البداوة‪ ،‬حرشة‬
‫الضباب‪ ،‬وأكلة اليرابيع"‪.‬‬

‫معركـة (البقروت) اللغويـة‪.‬‬


‫كثيراً ما نجد كبار العلماء والفالسفة والمصلحين‪ ،‬يأتون بألفاظ مستحدثة‪،‬‬
‫وطيعة وخصبة وقادرة على‬‫بأن "لغـة الضاد" مرنة ّ‬ ‫وأساليب غير معهودة؛ إيماناً منهم َّ‬
‫التعبير عن مختلف المعاني والمشاعر واألحاسيس‪ ،‬من ذلك الحكاية الطريفة التي‬
‫العالمة الشامي من أصل جزائري عبد القادر المغربي في مجلة (كوكب الرشق)‬ ‫رواها َّ‬
‫أن الشيخ جمال الدين األفغاني‬ ‫عدد ‪ 12‬يونيو ‪1928‬م‪ ،‬قال‪ :‬روى عبد الله البستاني َّ‬
‫البلَداء‪" :‬هذا رجل من نسل البقروت"‪ .‬فعابوا عليه كلمة "البقروت"‬ ‫قال في هجو بعض ُ‬
‫فأجابهم‪" :‬أالَ تقولون‪ :‬جبروت ورهبوت وملكوت‪ ،‬فلماذا تمنعون عني القول بقروت"؟‪.‬‬
‫بأن "البقروت" لم ترد في كالم العرب‪ ،‬فقال‪" :‬وهل تريدون مني‬
‫فاعترضوا عليه َّ‬
‫أن أُنكر نفسي‪ ،‬وأخضع ألعرابكم"‪.‬‬
‫ْ‬
‫وعلّق البستاني على كالم األفغاني بقوله‪" :‬هذا مما قاله األفغاني‪ ،‬وهذه هي‬
‫فإن الجمود يقتل اللغة العربية‪،‬‬
‫القاعدة التي يجب علينا العمل بها في إنهاض لغتنا؛ َّ‬
‫وإذا نحن رددنا عنها تيار ال ُعجمة والرطانة والركاكة‪ ،‬ال يستنتج من عملنا أننا نريد‬
‫فإن ابن البادية جاءنا بما عنده‪ ،‬وعلينا أن ن ِ‬
‫ُتحف اللغة‬ ‫أن نعيش بعقل ابن البادية؛ َّ‬
‫بما عندنا؛ لتقوم لها قائمة"‪.‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫لكن األب أنستانس ماري الكرملي نقل هذا الكالم في مجلة "لغة العرب" ورفض‬
‫ندخل في لغتنا مثل البقروت‪ ،‬بحجة أن جمال‬ ‫كالم األفغاني‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‪ .." :‬وال نقبل أن ِ‬
‫الدين نطق بها؛ فلقد يكون المرء حسن الرأي والقول في أمور‪ ،‬وال يصلح رأيه في‬
‫أمور أخرى"‪.‬‬
‫أن َّ‬
‫العالمة البستاني يقبل البقروت‪ ،‬بمعنى البقر‪ ،‬ويُفتي‬ ‫ويظهر من سياق الكالم َّ‬
‫بجواز استعمالها‪ ،‬على العكس من الكرملي‪ ،‬الذي عابها‪ ،‬وأقام النكير على األفغاني‬
‫من أجلها‪:‬‬
‫أن كثيراً من المفردات قد يفرضها كثرة ورودها على ألسنة الناس‪،‬‬
‫لكن؛ ال ننسى َّ‬
‫وعلى أقالم ال ُك ّتاب والصحفيين‪ ،‬من غير المتخصصين في المجال اللغوي‪ ،‬وبرغم هذا‬
‫فقد نشأت في العربية قديماً االتجاهات نفسها التي تأخذ باستعماالت الناس‪.‬‬
‫أن "المتنبي" قال قصيدة‬
‫ومما يروى في ذلك مما ذكره صاحب تاج العروس من َّ‬
‫جاء فيها هذا البيت المشهور‪:‬‬
‫ـتصحب اإلنســان مــن ال يالمئــه‬
‫ُ‬ ‫ويسـ‬ ‫وقــد يتزيَّــا بالهــوى غــرُ أهلــ ِه‬
‫أي كان‬
‫فاعترض عليه تلميذه ابن ِج ِّني‪ ،‬في استعماله للفعل (يتزيَّا) بالياء‪ْ ،‬‬
‫الصواب أن يكون بالواو‪ .‬وقال له‪ :‬هل تعرفه في ِشعر أ ْو كتاب في اللغة؟‪ .‬فقال المتنبي‬
‫أقدمت عليه؟‪ .‬قال‪ :‬ألنه جرى في االستعمال‪ .‬فقال ابن جني‪ :‬أرى‬ ‫َ‬ ‫‪ :‬ال‪ .‬فقال‪ :‬فكيف‬
‫ذهبت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫لي األرض‪ .‬وإلى هذا‬‫(يتزوى) من ُزويَ ْت َ‬
‫َّ‬ ‫الصواب‬
‫لم ي ِرد في االستعمال َّ‬
‫إال (تزيَّا)‪.‬‬ ‫فقال المتنبي ‪ْ :‬‬
‫ُس َب ـ أيضاً ـ إلى الشاعر عمارة بن عقيل‪ ،‬عندما جمع (ريح) على‬ ‫وهناك ما ن ِ‬
‫(أرياح) في بعض شعره‪ .‬فاعترضه اللغوي أبو حاتم السجستاني قائ ً‬
‫ال‪ :‬هذا ال يجوز‪ ،‬إنما‬
‫هو (األرواح) بالواو‪ .‬فقال عمارة معتذراً‪ :‬لقد جذبني إليها طبعي‪ ،‬أ َما تسمعهم يقولون‪:‬‬
‫(رياح) بالياء أيضاً؟‪.‬‬
‫وهكذا انتصر رأي المتنبي‪ ،‬وعمارة بن عقيل؛ المعتمد على االستعمال‪ ،‬ال‬
‫أن بوسعهما‬
‫المسموع‪ ،‬واندثر رأي اللغويين‪ ،‬أمثال‪ :‬ابن ِج ِّني وأبي حاتم‪ ،‬اللذيْن ظنا َّ‬
‫تحجير اللغة في قوالب ال تسمح لها بالتنفس والحركة‪.‬‬
‫(يتزوى) مطلقاً‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ولم ت ِرد‬
‫فلقد شاع في االستعمال (يتزيَّا) بال جدال‪ْ ،‬‬

‫‪- 89 -‬‬
‫اكتفت الفصحى‬
‫ْ‬ ‫وأما (أرياح) فقد استعملتها بعض اللهجات العربية‪ ،‬على حين‬ ‫َّ‬
‫لم ت ِرد مطلقاً في االستعمال إ َّال جمعاً للفظة (روح)‪.‬‬
‫ْ‬ ‫(أرواح)‬ ‫ولكن‬ ‫(رياح)‪.‬‬ ‫القرآني‬ ‫بالجمع‬
‫وبعض الشعراء واألدباء –السيما في هذا العصر‪ -‬يضيقون ذرعاً بالتقعر النحوي‪،‬‬
‫ال‪" :‬كفاني من النحو‬‫ال؛ نجد "أمين الريحانـي" يتألَّم ويصرخ‪ ،‬قائ ً‬
‫والتعقيد اللغوي‪ ،‬فمث ً‬
‫قت أحشائي بين الكسائي‪ ،‬وسيبويه‪ ،‬وابن ٍ‬
‫مالك‪،‬‬ ‫وتمز ْ‬
‫قواي‪َّ ،‬‬
‫مشقة وعذاب‪ ،‬لقد أنهكت َ‬
‫برد‪ ،‬ونِفطويه‬
‫والم ِّ‬
‫ُ‬
‫وقعت كما تعلم بين‬
‫ُ‬ ‫أود أن أكتب كل أسبوع‪ ،‬غير أني‬ ‫ويقول لنعوم مكرزل‪ُّ :‬‬
‫فإن كانت اإلنجليزية في دمي‪ ،‬فلغة سيبويه في عظامي‪ ،‬واالثنتان‬ ‫تين؛ ْ‬‫بلي ْ‬
‫بل ّ‬‫لغتين‪ْ ،‬‬
‫ْ‬
‫والحيرة‪ .‬والبلية الكبرى هي‬
‫الهم َ‬
‫أليف ِّ‬ ‫تتجاوبان في فؤادي؛ ولذلك أحيا ُم َ‬
‫نهك ال ُق َوى‪َ ،‬‬
‫حفظت لفظ ًة جديدة عربية‪ ،‬أنسى من اإلنجليزية اثنتين وثالثاً‪ْ ،‬‬
‫فإن طال‬ ‫ُ‬ ‫أنني كلما‬
‫قصر في هذه‪.‬‬
‫باعي في تلك‪َّ ،‬‬
‫ذات مرة؛ كتب (جبـران خليل جبران) للنحاة المتنطعين‪ ،‬في مقال بعنوان (لكم‬
‫لغتكم ولي لغتي)‪" :‬لكم من لغتكم البديع والبيان والمنطق‪ ،‬ولي من لغتي نظرة في‬
‫عين المغلوب‪ ،‬ودمعة في جفن المشتاق‪ ،‬وابتسامة على ثغر المؤمن‪ ،‬وإشارة في يد‬
‫السموح الحكيم‪ .‬لكم منها الفصيح دون الركيك‪ ،‬والبليغ دون المبتذل‪ ،‬ولي منها ما‬
‫يتمتمه المستوحش‪ ،‬وما يغص به المتوجع‪ ،‬وما يلثغ به المأخوذ‪ ،‬وكله فصيح بليغ"‪.‬‬
‫وقال أيضاً‪ ،‬مهاجماً علماء النحو‪" :‬لكم منها ما قاله سيبويه واألسود وابن عقيل‪،‬‬
‫ومن جاء قبلهم وبعدهم من المضجرين المملِّين‪ ،‬ولي منها ما تقوله األم لطفلها‪،‬‬
‫والمتعبد لسكينة ليله"‪..‬‬
‫ِّ‬ ‫والمحب لرفيقته‪،‬‬
‫رأي آخر في هذه القضية‪،‬‬ ‫الشاعر واألديب اللبناني "مـارون عبـود" له ٌ‬ ‫لكن َّ‬
‫إن لغة العرب‬‫والمتقعرين‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬
‫ِّ‬ ‫فقال في كتابه "نقدات عابر" منتقداً ِّ‬
‫المنفرين‬
‫تبل بالذين ينقبون أبداً في‬ ‫لم َ‬ ‫ال تحتاج إلى تعديل خطير في نحوها األدبي‪ ،‬ل ْو ْ‬
‫أقبيتها وسراديبها عن كلمات نافرة‪ ،‬ليفتحوا بها في األدب فتحاً مبيناً‪ ،‬فمصطفى‬
‫و"بنيت به" عدا أنها غلط‪،‬‬
‫ُ‬ ‫(بنيت بها) ويقبر تزوجتها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫صادق الرافعي يريد أن يبعث‬
‫فهي جدة الشنفرة وتأبط شراً‪ ،‬ناهيك عن عهد البناء على النساء قد انقضى‪ ،‬فنحن‬
‫سكان مدر ال وبر‪ .‬و"محمد كرد علي" عضو المجمع الملكي المصري ورئيس المجمع‬
‫بالقذة) في تلخيص كتاب فرنسي حديث‪ ،‬فيزيدنا‬ ‫القذة ّ‬
‫الدمشقي‪ ،‬يقول لنا‪( :‬حذو ّ‬
‫عمى قلب‪ .‬و"أحمد حسن الزيات" يحاول أن يزيد في ثروتنا اللغوية ـ زاده الله فصاحة‬

‫‪- 90 -‬‬
‫اللهم‬
‫ـ فيقول ‪( :‬كنا نسمر ليلة النيروز المسيحي) ثم شرحها لنا نحن الشرقيين‪َّ .‬‬
‫أنزلت به كتابك‪.‬‬
‫َ‬ ‫رحماك‪ ،‬ورفقاً بهذا اللسان الذي‬
‫الشاعر المهجري نعمـة قـازان‪ -‬يرتجل قائ ً‬
‫ال ‪:‬‬ ‫وربما هذا الذي دعا َّ‬
‫الخبــب‬
‫ْ‬ ‫همــزت جــوادي‪ ،‬يســر‬
‫ُ‬ ‫لــ ْن عــاق دريب إىل اللــه لفــظ‬
‫وأوجبــت يف النحــو مــا ال يجِ ْ‬
‫ــب‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الــرف مــا ال يجــوز‬ ‫وجــوزت يف‬
‫ُ‬
‫بل بلغ به الغضب مبلغه‪ ،‬فصاح قائ ً‬
‫ال ‪:‬‬ ‫ْ‬
‫وليــس عــى الدهــر مــن ُحجــ ِة‪.‬‬ ‫قــول‬‫ٌ‬ ‫وقلــت‪ ،‬وللدهــ ِر‬
‫ُ‬ ‫لــت‬
‫ُ‬
‫ويــا لــكَ ‪ ،‬وبــاأل ِّم مــن ِحلفــ ِة‬ ‫حلفــــت بأُ ِّمــي ال ناكثـــــاً‬
‫ُ‬
‫(رفعــت) البنــا َء عــى الكــر ِة‬
‫ُ‬ ‫علـــــي‬
‫ِّ‬ ‫إذا فتــح اللــهُ يومــاً‬
‫ومرمــى خيــايل وعقل َّيتــــــي‬ ‫أقــاس النحــا ُة حــدو َد الزمــانِ‬
‫َ‬
‫ــت عــى فكــريت‪.‬‬ ‫فضاقــت وز َّم ْ‬
‫ْ‬ ‫لقــد حددوهــا ألفكارهــــــم‬
‫عانت (نبويـة موسى) من طريقة تدريس حروف المعاني العقيمة في النحو‪،‬‬
‫وقد ْ‬
‫فنظمت أبياتاً كلها تذمر وشكوى‪ ،‬تقول ‪:‬‬
‫ْ‬
‫ـت بقلبــي مــن تكرارهــا ال ِعلـ ُـل‬
‫حلَّـ ْ‬ ‫أشــكو إليــكَ حروفــاً يف تعلمهــا‬
‫ـدت أدمعــي كالســيل تنهمـ ُـل‬ ‫إالَّ بـ ْ‬ ‫(إذنْ وإ ْذ مــا) فــا كررتهــا أبــداً‬
‫األمــل‬
‫ُ‬ ‫إالَّ وخــاب لــدى تذكارهــا‬ ‫جلل)‬
‫والكاف ثــم ُ‬
‫َ‬ ‫ـرت (بــى‬
‫وال ذكـ ُ‬
‫امللل‬
‫حتــى ثنــا همتــي عن حفظهــا ُ‬ ‫ـت أقرأها‬‫(جــرى وحتى وحاشــا) ِبـ ُّ‬
‫عــن ســاحة الكــرم املأمــولِ أنتقـ ُـل‬ ‫عــي بذلــك ال ألقــى العقــاب وال‬ ‫ِّ‬
‫فأعطاها المعلّم «صفراً» تشجيعاً لها على قرض ِّ‬
‫الشعر المتذمر من طريقته‬
‫السقيمة في التعليم‪.‬‬
‫وقالت (نبوية موسى) أيضاً‪ ،‬اعتراضاً على دروس النحو والصرف العقيمة ‪:‬‬
‫ـت رصفــه‬ ‫وال خــر يف فعــلٍ إذا ُرمـ َ‬ ‫دهتنــي رصوف الـ ِ‬
‫ـرف‪ ،‬ال د َّر د ّره‬
‫ـدي ورصفــه‬‫أرى الفعــل موهوب ـاً لـ َّ‬ ‫كــا أنــه يُخــى الزمــان ورصفــه‬
‫ـرت ذرا َع الفعــلِ عمــداً وأنفــه‬
‫كـ ُ‬ ‫فــإنْ تكــروا للفعــل عين ـاً فإننــي‬
‫دعــو ُه دعــوه علَّــه يلقــى حتفــه‪.‬‬ ‫فلســت طبيبــ ًة‬
‫ُ‬ ‫وإنْ كان معتــاً‬

‫‪- 91 -‬‬
‫تأج َج النزاع بين المدرستين‪،‬‬
‫الفريقين‪ ،‬ومهما َّ‬
‫ْ‬ ‫أخيـراً؛ مهما نشب الصراع بين‬
‫ومهما احتدم الجدال بين المعسكرين‪ ،‬فجميعهم أبناء هذه اللغة الشاعرة‪ ،‬وثمرة‬
‫لم يصبهم منها ٌ‬
‫وابل فطل‪.‬‬ ‫خلودها وتألّقها؛ ْ‬
‫إن ْ‬
‫بل إنهم جميعاً أغنوا (العربية) بمعاركهم‪ ،‬ونافحوا عنها بإبداعاتهم‪ ،‬بعدما أدركوا‬
‫ْ‬
‫خلبت ألبابهم‪ ،‬وفاضت بجمالها قرائحهم‪ّ ،‬‬
‫لتظل‬ ‫ْ‬ ‫عظمتها‪ ،‬وانبهروا بخصائصها‪ ،‬وبعدما‬
‫فسبح باسم ربِّك العظيم‪.‬‬
‫(العربيـة) أم اللغات‪ ،‬ولسان التنزيل‪ ،‬ولغة الوحي والوحدة‪ِّ ،‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫عجائب "الفصحى" وغرائبها‬
‫يقول َّ‬
‫العالمة الطاهر بن عاشور‪" :‬اللغة العربية أوفر اللغات مادة‪ ،‬وأقلها حرو ًفا‪،‬‬
‫وأفصحها لهجة‪ ،‬وأكثرها تصرفاً في الداللة على أغراض المتكلم‪ ،‬وأوفرها ألفاظاً‪ ،‬وفيها‬
‫لفظا ومعنى ما يفي بأقصى ما يراد من وجوه البالغة"‪.‬‬ ‫من الدقائق واللطائف ً‬
‫تصور‬
‫عزام‪« :‬العربية لغة كاملة محببة عجيبة‪ ،‬تكاد ِّ‬
‫ويقول الدكتور عبد الوهاب َّ‬
‫ألفاظها مشاهد الطبيعة‪ ،‬وتمثل كلماتها خطرات النفوس‪ ،‬وتكاد تتجلى معانيها في‬
‫أجراس األلفاظ‪ ،‬كأنما كلماتها خطرات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة»‪.‬‬
‫وقد كشف الفيلسوف زكي األرسوزي عن خصائص امتازت بها العربية‪ ،‬مقارنة مع‬
‫اللغات العالمية التي كان يجيدها‪ ،‬فرأى أن العربية ذات جذور في األصوات والصور‬
‫الطبيعية مثل (نية ونواة‪ .‬وذكاء وذكاء)‪ ،‬لذلك تبقى على ما هي عليه ال يؤثر فيها‬
‫إال ما أهمل من الكلمات المعبرة عن أوضاع مهملة‪ ،‬أو ما أنشئ منها اشتقاقاً‬
‫الزمان‪َّ ،‬‬
‫في حدود نظام اللغة مما هو تعبير عن حاجات المرحلة التاريخية المعاصرة‪.‬‬
‫أن كل كلمة ال يمكن إرجاعها إلى صورة صوتية مقتبسة عن‬ ‫ورأى ـ أيضاً ـ َّ‬
‫الطبيعة‪ ،‬وفي إطار الصناعة اللغوية؛ هي كلمة دخيلة على العربية‪ ،‬في حين أن‬
‫العالقة بين الصوت والمعنى في اللغات غير العربية تقوم على العرف واالصطالح‪،‬‬
‫وليس على رابطة طبيعية‪ ،‬ولهذا تتطور فيها الكلمة من جيل إلى آخر حتى تصبح‬
‫مختلفة المعالم عن نشأتها‪ .‬وهذا ما دعا إلى تسمية اللغات الحديثة باللغات التاريخية‪.‬‬
‫وهذه جاءت بدورها من تطور (الهندية ـ األوروبية)‪ .‬لذلك فالفرنسيون المعاصرون ال‬
‫يعرفون شيئاً عن أدبهم القديم الذي يعود إلى ما قبل عشرة قرون َّ‬
‫إال من كان منهم‬
‫متخصصاً في اللغة الالتينية‪ ،‬بينما ال يتعذر علينا فهم األدب العربي القديم الذي يعود‬
‫إلى أبعد من ذلك بقرون‪.‬‏‬
‫إن من يقف على خواص (العربية) يرى فيها ما ال يحصى من العجائب والغرائب‪،‬‬ ‫نعم؛ َّ‬
‫وبخاصة من كان ضليعاً من فقه اللغة‪ ،‬وعلم االشتقاق‪ ،‬فالكلمة عند أرباب هذا العلم ‪:‬‏‬
‫نم)‪.‬‬
‫(من ‪َّ ،‬‬
‫‐إذا كانت مؤلفة من حرفين؛ يمكن أن تأتي على صيغتين مثل َّ‬ ‫‐‬

‫‪- 93 -‬‬
‫‐وإذا كانت ثالثية؛ يمكن أن تأتي على ست صيغ نحو (ملك‪ ،‬مكل‪ ،‬لكم‪ ،‬لمك‪،‬‬ ‫‐‬
‫كمل‪ ،‬كلم)‪.‬‏‬
‫‐ َّأما إذا كانت رباعية الحروف؛ فتكون قابلة ألربع وعشرين صيغة (‪*2 *1‬‬ ‫‐‬
‫‪.)24 = 4 *3‬‏‬
‫‐وعلى هذا القانون؛ فالكلمة الخماسية تكون قابلة إلى مائة وعشرين صيغة‬ ‫‐‬
‫اشتقاقية‪ ،‬إلمكان جعل كل واحد من حروفها ابتداء لصيغة جديدة‪ ،‬وإمكان‬
‫تركيب كل حرف من الحروف األربعة الباقية على أربعة وعشرين وجهاً (‪*1‬‬
‫‪ .)120 =5 *4 *3 *2‬فتأمل عبقرية هذه اللغة وخصائصها المدهشة‪ ،‬ومزاياها‬
‫التي تنفرد بها عن سواها‪ ،‬والتي وصفتها «دائرة المعارف الفرنسية» بقولها‬
‫(إن اللغة العربية هي اللغة الجميلة بصورة متفوقة ال تضاهى)‪.‬‏‬
‫‏‪َّ :‬‬
‫ومن كان على معرفة أكاديمية بالفرنسية‪ ،‬وله صلة بأصحاب هذا اللسان ـ وهم‬
‫على ما هم عليه من االعتزاز بلغتهم ـ أدرك أهمية هذا االعتراف من دائرة معارفهم‪.‬‬
‫تماماً كذلك من كان من جهابذة العربية؛ يدرك أنها لغة إبداعية تنتمي كلماتها إلى‬
‫أصول ثابتة‪ ،‬وفيها تبدو سمات القرابة بين الحرف وأشقائه‪ ،‬وبين الكلمة وأخواتها‪،‬‬
‫يفسر لنا سر اإلعجاز البالغي في لغة القرآن‪ ،‬كما يعلِّل‬
‫وبين الكلمة ومعناها‪ ،‬وهذا ِّ‬
‫فارق التأثير ِشعراً أ ْو نثراً‪ ،‬بين عبارة تتأذى بها األسماع وتنفر منها النفوس‪ ،‬وبين‬
‫عبارة ترتشفها اآلذان‪ ،‬وتدخل القلوب بال استئذان‪.‬‬
‫وفي هذا الصدد؛ نعرض جانباً من عجائب العربية وغرائبها؛ التي يستحيل أن‬
‫يكون لها نظير في مختلف اللغات قديمها وحديثها ‪:‬‬
‫فمن عجائب لغة الضـاد ‪ :‬أنها مملوءة باأللغاز والنكات الطريفة؛ التي تجعل من‬
‫السهل التالعب بمعاني الكلمات‪ .‬ومن عجائبها‪ :‬دقتها في إيراد الكلمات للتعبير عن‬
‫األحوال والصفات‪ .‬ومن عجائبها‪ :‬المترادفات الكثيرة واألسماء العديدة للشيء الواحد‪.‬‬
‫حمالة‬
‫من عجائبها‪ :‬أن تجد الكلمة تعطي معنى‪ ،‬وتعطى المعنى المضاد لها‪ ،‬وأنها َّ‬
‫ويقبح‪ .‬ومن‬
‫يحسن ِّ‬‫وأن ِّ‬
‫وأن يجانس ويطابق‪ْ ،‬‬ ‫أوجه؛ بحيث تسمح للمضطر أن يُ َع ِّرض‪ْ ،‬‬
‫بل الجملة تقرأ من‬ ‫عجائبها ‪ :‬كلمات تقرأ من اليمين واليسار؛ وتؤدي ذات المعنى‪ْ .‬‬
‫قرئت من اليمين صار مدحاً‪ ،‬وإذا‬
‫بمعنى آخر‪ .‬وأحياناً؛ إذا ْ‬
‫ً‬ ‫اليمين بمعنى‪ ،‬ومن اليسار‬
‫قرئت من اليسار صار ذماً‪ .‬ومن عجائبها‪ :‬أن تجد صوت الحرف له داللة على معناه‪،‬‬ ‫ْ‬
‫كما تجد األسماء تحمل مسمياتها في الشدة واللين‪ ،‬والبشارة والنذارة‪ ،‬والحب والكره‪،‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫–أي تطابق المبنى والمعنى‪ .‬ومن عجائبها‪ :‬تجد «المث ّنى» الدال‬
‫والسعادة والشقاوة ْ‬
‫متشابهين‪ .‬ومن عجائبها‪ :‬أن تجد كلمات تأتي (اسماً‪ ،‬وفع ً‬
‫ال‪ ،‬وحرفا)‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫شيئين غير‬
‫على ْ‬
‫لم يخطر على قلب بشر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫بل هناك من عجائبها ما ال عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وما ْ‬
‫األسامء الكثرية لليشء الواحد ‪:‬‬
‫مكنت الشعراء من أن‬ ‫الذاتية؛ كثر َة مترادفاتها‪ ،‬التي َّ‬
‫مِن أسرار قوة اللغة العربية َّ‬
‫الروي والقافية‪ ،‬كما أنها أداة جيدة لبالغة‬
‫يَنظموا عليها قصائدهم الطويلة‪ ،‬مع التزام ِّ‬
‫ال ُك َّتاب‪ ،‬وفصاحة الفصحاء؛ فقد استطاعوا أن َّ‬
‫يتخيروا من األلفاظ المرادفة ما يناسب‬
‫السجع أحيانًا‪ ،‬والترصيع أحيانًا‪ ،‬الذي يُعرف عند البالغيين بتوازن األلفاظ مع توافق‬ ‫َّ‬
‫األَعجاز أو تقاربها‪.‬‬
‫إذن؛ ال عجب في قول «ابن خالويه»‪« :‬أحفظ للسيف خمسين اسماً»‪ْ .‬‬
‫بل إنه‬
‫صنف كتاباً في أسماء (األسد) يحتوي على خمسمائة اسم‪ .‬وزاد عليه من جاء بعده‬ ‫َّ‬
‫صنف ابن خالويه كتاباً في أسماء (الحية) أوصلها لمائتي‬
‫حتى أوصلوها إلى األلف‪ .‬أيضاً؛ َّ‬
‫اسم‪ .‬و(العسل) له ثمانون اسما أفردها الفيروزآبادي بمصنف‪ .‬و(العادة) لها أكثر من مائة‬
‫بمصنف‪ .‬وكذلك أفردها الفيروزآبادي بمصنف‪ .‬وأسماء (الخمر)‬ ‫َّ‬ ‫اسم أفردها الصغاني‬
‫أفردها كثيرون بالمصنفات‪ .‬وذكر أبو العالء المعري أن (الكلب) له سبعون اسماً‪ ،‬حاول‬
‫السيوطي جمعها في مصنف‪ ،‬فلم يدرك سوى ما يربو على الستين‪ .‬والبن خالويه أيضاً‬
‫رسالة في أسماء الريح‪ .‬وقال الزبيدي‪ :‬لألسد ‪ 400‬اسم‪ ،‬وللسيف ‪ ،300‬وللناقة ‪،255‬‬
‫وللماء ‪ ،170‬وللمطر ‪ 70‬لكل واحد منها استعماله الخاص في حالة معينة‪.‬‬
‫ومن عجائب لغة الضـاد التي ال يشاركها فيها غيرها من اللغات؛ أنها تحتوي على‬
‫ألفاظ كثيــرة‪ ،‬تستوي في المعنى‪ ،‬حتى ولو مع التصحيف بالنقط إعجاماً وإهماالً‪،‬‬
‫من ذلك ‪:‬‬
‫‐ َز َك َب ‪َ ،‬ز َك َت‪ :‬بمعنى مأل‪.‬‬ ‫‐‬
‫البكع‪ :‬بمعنى الضرب بالقدم على الدبر‪.‬‬
‫النكع ‪ُ ،‬‬ ‫‐ ُ‬ ‫‐‬
‫‐دبّح ‪ ،‬دبّخ‪ :‬بمعنى لزم بيته‪.‬‬ ‫‐‬
‫أي الجماع‪.‬‬
‫الذحو‪ْ :‬‬‫الدحو ‪ّ ،‬‬ ‫‐ ّ‬ ‫‐‬
‫أي سلّه‪.‬‬
‫حط سيفه وام َت َخطه‪ْ :‬‬ ‫‐ام َت َ‬ ‫‐‬
‫ضب ‪ :‬الغالم النشيــط‪.‬‬ ‫صب‪ ،‬ال َع ُ‬
‫‐ال َع ُ‬ ‫‐‬

‫ومن عجائب لغة الضـاد ‪ :‬ما يس َّمى باالشتقاق الكبري واألكرب‪.‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫فإذا نظرنا إلى كتاب (مقاييس اللغة) البن فارس؛ نجده يحاول أن يجد أص ً‬
‫ال‬
‫ومعنى عاماً يرد إليه جميع كلمات المادة ْ‬
‫إن أمكنه السبيل إلى ذلك‪َّ ،‬‬
‫وإال فإنه يجعلها‬
‫معنيين أو أكثر‪.‬‬
‫ْ‬
‫جني في مقدمة (الخصائص) فقد أطال النفس في بيان أن بعض الكلم‬
‫َّأما ابن ِّ‬
‫في العربية يرجع إلى معنى واحد‪ ،‬مهما قلبت الحروف وغيرت في الترتيب‪.‬‬
‫والمثال الذي ضربه هو ( ق و ل) وتقليباتها ستة ‪:‬‬
‫قول‪/‬قلو‪/‬وقل‪/‬ولق‪/‬لقو‪/‬لوق‬
‫ثم راح يتكلم على كل منها‪ ،‬ضارباً األمثلة‪ ،‬وشارحاً االشتقاق‪ ،‬وراجعاً ك ً‬
‫ال منها‬
‫إلى المعنى الذي يريد أن يثبته‪.‬‬
‫ومن عجائبهـا ‪ :‬كلمات تقرأ من اليمين واليسار‬
‫دام عــال العمــاد‬ ‫رس فال كبا بك الفرس‬
‫وهناك كلمات مفردة كثيرة‪ ،‬مثل ‪( :‬سوس‪ ،‬توت‪ ،‬كعك‪ ،‬خوخ‪ ،‬دود ‪ ....‬إلخ)‪.‬‬
‫أن صوت الحرف له داللة على معناه‪ ،‬مثل‪ :‬نضخ ونضح ‪ -‬قضم‬‫ومن عجائبهـا ‪َّ :‬‬
‫وخضم ‪ -‬لطم ولكم ‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫ومن عجائبهـا ‪ :‬أن األسماء على مسمياتها في الشدة واللين‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬مثل‬
‫أن إنساناً قال‬
‫إن بعض العلماء قال‪ :‬لو َّ‬
‫"الح َجـر" سميت حجر لصالبتها وشدتها‪ ،‬حتى َّ‬‫َ‬
‫تر الحجر‪ ،‬فإنه سيتبادر إلى ذهنك؛ أنها صلبة وشديدة‪.‬‬ ‫لك‪َ :‬ح َجر‪ ،‬وأنت لم َ‬
‫بمعنى آخر‪ ،‬وقد جاءت‬
‫ً‬ ‫أن الجملة تقرأ من اليمين بمعنى‪ ،‬ومن اليسار‬ ‫ومن عجائبهـا ‪َّ :‬‬
‫في قصة رجل أسره الروم‪ ،‬فلما طلبوا منه إرسال رسالة إلى قائد المسلمين ليشجعه على‬
‫القدوم إليهم ‪ ..‬وكان الروم قد نصبوا للمسلمين كميناً؛ فكانت الرسالة‪ ،‬جملة واحدة فقط‪ ،‬إذا‬
‫قرئت من اليمين كانت كما أراد الروم‪ ،‬وإذا قرئت من الشمال كانت تحذيراً للمسلمين‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫فتحصن)‪.‬‬
‫(نصحت فدع يبك ودع مهلك) فإذا عكست كانت (كلهم عدو كبري عد َّ‬
‫حمالة أوجه؛ بحيث تسمح للمضطر أن يُ َع ِّرض‪ ،‬وللشاعر أن‬
‫ومن عجائبهـا ‪ :‬أنها َّ‬
‫ويقبح‪ ،‬وخير مثال على ذلك كتاب أبي منصور‬‫يحسن ِّ‬
‫يجانس ويطابق‪ ،‬وللمتكلم أن ِّ‬
‫(تحسني القبيح وتقبيح الحسن)‪.‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫سئل ابن الجوزي أيام ظهور الشيعة ‪ :‬أيما أفضل أبو بكر أ ْم علي؟‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫أفضلهما الذي بن ُته تح َته‪ ،‬وهذه العبارة تحتمل االثنين‪ ،‬وفيها عبقرية فذة‪.‬‬
‫فعد على أصابعه‪ :‬التوراة والزبور‬
‫وسئل أحد السلف في فتنة خلق القرآن‪َّ ،‬‬
‫أن هذه األربعة مخلوقة‪.‬‬ ‫واإلنجيل والقرآن‪ ،‬ثم أشار إلى أصابعه وقال ‪ :‬أشهد َّ‬
‫قال أبو الفتح البستي ‪:‬‬

‫عــن الجا ِهلــ ْن‬‫ِ‬ ‫أ ِمــ ْر َت وأَعــر ِْض‬ ‫خُــ ِذ ال َعفْــ َو وأ ُمــ ْر ب ُعــ ْر ٍف كــا‬
‫فُمس َت ْح َســ ٌن ِمــن َذوي الجــا ِه لِــ ْن‬ ‫األنــام‬
‫ِ‬ ‫َالم لِــك ِّْل‬
‫ولِــ ْن يف الــك ِ‬
‫فدعه فدولته ذاهبة‪.‬‬ ‫وقال أيضا ‪ :‬إذا ملك لم يكن ذا هبة‬
‫ال يســاوي ن َْملَـة‬ ‫َم لَ ْه فإنــه‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬ن ْ‬
‫ومن غرائبهـا ‪ :‬أن البيض يكتب وينطق مع جميع الحيوانات التي تبيض بالضاد‪،‬‬
‫وأن كلمة فيض مع جميع ما يفيض‬ ‫ماعدا النمل يكتب وينطق "بيظ النمل" بالظاء‪َّ .‬‬
‫تكتب وتنطق بالضاد‪ ،‬ماعدا الماء يكتب وينطق فيظ الماء بالظاء‪.‬‬
‫ومن العجائب اللغوية يف القرآن‪ ،‬قوله تعالى‪( :‬كل في فلك)‪ .‬فلو قرأتها بالعكس؛‬
‫فسيكون المعنى واحد‪.‬‬
‫ومن عجائبهـا ‪ :‬دقتها في إيراد الكلمات للتعبير عن األحوال والصفات‪ .‬وهذه‬
‫الظاهرة واضحة جداً في القرآن الكريم‪ ،‬والتي ُّ‬
‫تعد من جماليات لغة القرآن ودقتها؛‬
‫ال ـ عندما يستخدم القرآن كلمة (زوجة) وعندما يستخدم كلمة (امرأة)‪.‬‬ ‫فانظر ـ مث ً‬

‫يعبر بكلمة‬
‫أن تكون‪ِّ ،‬‬
‫قالوا ‪ :‬عندما تكون العالقة الزوجية جيدة‪ ،‬أ ْو كما ينبغي ْ‬
‫(زوجة) ومشتقاتها‪ .‬كقوله تعالى (قل ألزواجك)‪َّ .‬أما عندما تمر العالقة الزوجية بأزمة‪،‬‬
‫أ ْو تشوبها شائبة؛ كأن يكون أحدهما مؤمن‪ ،‬واآلخر كافراً‪ ،‬يستخدم كلمة (امرأة)؛‬
‫كقوله سبحانه‪( :‬امرأة نوح وامرأة لوط)‪ ،‬و(امرأة فرعون) أ ْو االثنان كافران (وامرأته‬
‫حمالة الحطب)‪ .‬أ ْو في حالة فقد الزوج (امرأة عمران)‪.‬‬
‫َّ‬
‫أيضـاً؛ يستخدم القرآن كلمة (الرياح) للحياة والبشرى والسرور (وأرسلنا الرياح‬
‫مبشرات بين يدي رحمته)‪ .‬لكنه يستخدم كلمة (الريح) للعذاب‬ ‫لواقح)‪( ،‬الرياح ِّ‬
‫والهالك‪ ،‬كقوله (ريح صرصر عاتية) و(الريح العقيم)‪.‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫يفرق بين كلمة (مدينة) وكلمة (قرية)‪ .‬المدينة ترمز لإليمان والحياة‬ ‫أيضـاً؛ ِّ‬
‫لم ينزل بها العذاب (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ‪َّ .)...‬أما القرية‬ ‫المستقرة‪ ،‬والتي ْ‬
‫(وإن من قري ٍة َّ‬
‫إال‬ ‫سيحل بها العذاب ْ‬‫ّ‬ ‫فهي التي ترمز للكفر والمعاصي‪ ،‬أ ْو التي َّ‬
‫حل أ ْو‬
‫معذبوها‪( ،)...‬وتلك القرى أهلكناهم َّلما ظلموا)‪( ،‬وكم من قري ٍة هي‬ ‫نحن مهلكوها أ ْو ِّ‬
‫أشد قو ًة من قريتك‪.)..‬‬
‫ّ‬
‫يفرق بين كلمة (عام) وكلمة (سنة) فاألولى ترمز للنعماء والسعادة‬ ‫أيضـاً؛ ِّ‬
‫واإليمان‪ ،‬كقوله (عا ٌم فيه يغاث الناس وفيه يعصرون)‪ .‬والثانية ترمز للقحط والعناء‬
‫والظلم والكفر (أخذناهم بالسنين ‪ )..‬ويتضح هذا المعنى بشكل جيد‪ ،‬في قوله تعالى‬
‫إال خمسين عامًا)‪ .‬وهذه إشارة إلى معاناة سيدنا نوح مع قومه‬
‫(فلبث فيهم ألف سن ٍة َّ‬
‫طوال تسعة قرون ونصف القرن‪.‬‬
‫كذلك؛ حافظ العرب في كالمهم على دقة استخدام الكلمات والمصطلحات عند‬
‫التعبير عن مختلف األحوال والصفات‪ .‬من ذلك ‪:‬‬
‫تفرق في الشهوات؛ فيقولون ‪ :‬فالن جائع إلى الخبز‪َ ،‬ق ِرم إلى اللحم‪،‬‬ ‫‐العرب ِّ‬ ‫‐‬
‫َع ْطشان إلى الماء‪َ ،‬ع ْيمان إلى اللّبن‪ ،‬بَ ِرد إلى التمر‪َ ،‬جعِم إلى الفاكهة‪َ ،‬شبِق‬
‫إلى النكاح‪.‬‬
‫‐يفرقون في المساكن؛ فيقولون ‪ :‬بيت اإلنسان‪ ،‬عرين األسد‪ ،‬عش الطائر‪ ،‬عطن‬ ‫‐‬
‫البعير‪ ،‬كناس الظبي‪ ،‬قرية النمل‪ ،‬كور الزنابير‪ ،‬نافقاء اليربوع‪ ،‬وجار الذئب والضبع‪.‬‬
‫يفرقون في اسم الشيء اللين‪ ،‬فيقولون ‪ :‬ثوب لين‪ ،‬ورمح لدن‪ ،‬ولحم رخص‪،‬‬
‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫وريح رخاء‪ ،‬وفراش وثير‪ ،‬وأرض دمثة‪.‬‬
‫يفرقون في االمتالء‪ ،‬فيقولون ‪ :‬بحر طام‪ ،‬ونهر طافح‪ ،‬وعين ثرة‪ ،‬وإناء مفعم‪،‬‬
‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫ومجلس غاص بأهله‪.‬‬
‫يفرقون في تغير الطعام وغيره‪ ،‬فيقولون ‪ :‬أروح اللحم‪ ،‬وأسن الماء‪ ،‬وخنز‬
‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫الطعام‪ ،‬وسنخ السمن‪ ،‬وزنخ الدهن‪،‬وقنم الجوز‪ ،‬ودخن الشراب‪ ،‬وصدئ‬
‫الحديد‪ ،‬ونغل األديم‪.‬‬
‫يفرقون في الكشف عن الشيء من البدن‪ ،‬فيقولون ‪ :‬حسر عن رأسه‪ ،‬وسفر‬ ‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫وكشر عن أسنانه‪ ،‬وأبدى عن ذراعيه‪ ،‬وكشف عن‬
‫عن وجهه‪ ،‬وأفتر عن نابه‪َّ ،‬‬
‫ساقيه‪ ،‬وهتك عن عورته‪.‬‬
‫ْ‬

‫‪- 98 -‬‬
‫وإن كان من وبر‪ ،‬قالوا‪:‬‬‫فإن كان من مدر‪ ،‬قالوا ‪ :‬بيت‪ْ ،‬‬
‫يفرقون في المنازل ‪ْ :‬‬
‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫الشعر‪ ،‬قالوا‪ :‬فسطاط‪.‬‬‫وإن كان من َّ‬‫وإن كان من صوف‪ ،‬قالوا ‪ :‬خباء‪ْ .‬‬
‫بجاد‪ْ .‬‬
‫وإن كان من جلود‪ ،‬قالوا‪ :‬قشع‪.‬‬‫وإن كان من غزل‪ ،‬قالوا ‪ :‬خيمة‪ْ .‬‬
‫ْ‬
‫يفرقون في الضرب‪ ،‬فيقولون ‪ :‬للضرب على مقدم الرأس‪ :‬صقع‪ ،‬وعلى القفا‪:‬‬‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫صفع‪ ،‬وعلى الوجه ‪ :‬صك‪ ،‬وعلى الخد ببسط الكف‪ :‬لطم‪ ،‬وبقبضها ‪ :‬لكم‪،‬‬
‫وبكلتا اليدين‪ :‬لدم‪ ،‬وعلى الذقن والحنك‪ :‬وهز‪ ،‬وعلى الجنب‪ :‬وخز‪ ،‬وعلى‬
‫الصدر والبطن بالكف‪ :‬وكز‪ ،‬وبالركبة‪ :‬زبن‪ ،‬وبالرجل‪ :‬ركل‪،‬وكل ضارب بمؤخره‬
‫من الحشرات كلها كالعقارب ‪ :‬تلسع‪ ،‬وكل ضارب منها بفيه ‪ :‬يلدغ‪.‬‬
‫يفرقون في أسماء األوالد‪ ،‬فيقولون ‪ :‬لولد كل سبع‪ :‬جرو‪ .‬ولولد كل ذي‬ ‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫ريش‪ :‬فرخ‪ .‬ولولد الفرس‪ :‬مهر وفلو‪ .‬ولولد الحمار‪ :‬جحش وعفو‪ .‬ولولد البقرة‪:‬‬
‫عجل‪ .‬ولولد األسد‪ :‬شبل‪ .‬ولولد الظبية‪ :‬خشف‪ .‬ولولد الفيل ‪ :‬دغفل‪ .‬ولولد‬
‫الناقة ‪ :‬حوار‪ .‬ولولد الثعلب‪ :‬هجرس‪ .‬ولولد الضب‪ :‬حسل‪ .‬ولولد األرنب ‪:‬‬
‫خرنق‪ .‬ولولد النعام ‪ :‬رأل‪ .‬ولولد الدب‪ :‬ديسم‪ .‬ولولد الخنزير ‪ :‬خنوص‪ .‬ولولد‬
‫اليربوع والفأرة ‪ :‬درص‪ .‬ولولد الحية‪ :‬حريش‪.‬‬
‫يفرقون في الجماعات‪ ،‬فيقولون‪ :‬موكب من الفرسان‪ ،‬وكبكبة من الرجال‪،‬‬‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫وجوقة من الغلمان‪ ،‬ولمة من النساء‪ ،‬ورعيل من الخيل‪ ،‬وصرمة من اإلبل‪،‬‬
‫وقطيع من الغنم‪ ،‬وسرب من الظباء‪ ،‬وعرجلة من السباع‪ ،‬وعصابة من الطير‪،‬‬
‫ورجل من الجراد‪ ،‬وخشرم من النحل‪.‬‬
‫يفرقون في الوسخ؛ فإذا كان في العين قالوا‪ :‬رمص‪ ،‬فإذا َّ‬
‫جف قالوا‪ :‬غمص‪،‬‬ ‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫فإذا كان في األسنان قالوا‪ :‬حفر‪ ،‬فإذا كان في األذن فهو‪ :‬أف‪ ،‬وإذا كان في‬
‫األظفار فهو‪ :‬تف‪ ،‬وإذا كان في الرأس قالوا‪ :‬حزاز‪ ،‬وهو في باقي البدن‪ :‬درن‪.‬‬
‫ريحين فهي‪ :‬نكباء‪ ،‬فإذا وقعت بين‬
‫يفرقون في الرياح؛ فإذا وقعت الريح بين ْ‬ ‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫الجنوب والصبا فهي‪ :‬الجريباء‪ ،‬فإذا هبت من جهات مختلفة فهي‪ :‬المتناوحة‪،‬‬
‫فإذا جاءت بنفس ضعيف فهي‪ :‬النسيم‪ ،‬فإذا كانت شديدة فهي‪ :‬العاصف‪ ،‬فإذا‬
‫قويت حتى قلعت الخيام فهي‪ :‬الهجوم‪ ،‬فإذا حركت األشجار تحريكاً شديداً‬
‫وقلعتها فهي‪ :‬الزعزع‪ ،‬فإذا جاءت بالحصباء فهي‪ :‬الحاصب‪ ،‬فإذا هبت من‬
‫األرض كالعمود نحو السماء فهي‪ :‬اإلعصار‪ ،‬فإذا جاءت بالغبرة فهي‪ :‬الهبوة‪ ،‬فإذا‬
‫كانت باردة فهي‪ :‬الحرجف والصرصر‪ ،‬فإذا كان مع بردها ندى فهي‪ :‬البليل‪ ،‬فإذا‬
‫كانت حارة فهي السموم‪ ،‬فإذا لم تلقح ولم تحمل مطراً فهي‪ :‬العقيم‪.‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫يفرقون في المطر؛ فأوله رش‪ ،‬ثمطش‪ ،‬ثم طل‪ ،‬ورذاذ‪ ،‬ثم نضخ‪ ،‬ثم هضل‪ ،‬وتهتان‪،‬‬ ‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫ثم وابل وجود‪ ،‬فإذا أحيا األرض بعد موتها فهي‪ :‬الحياء‪ ،‬فإذا جاء عقيب المحل أو‬
‫عند الحاجة فهو‪ :‬الغيث‪ ،‬وإن كان صغار القطر فهو‪ :‬القطقط‪ ،‬فإذا دام مع سكون‬
‫فهو‪ :‬الديمة‪ ،‬فإذا كان عاماً فهو‪ :‬الجداء‪ ،‬وإذا روى كل شيء فهو‪ :‬الجود‪ ،‬فإذا كان‬
‫كثير القطر فهو‪ :‬الهطل والتهتان‪ ،‬فإذا كان ضخم القطر شديد الوقع فهو‪ :‬الوبل‪.‬‬
‫يفرقون في األصوات؛ فيقولون‪ :‬رغا البعير‪ ،‬وجرجر‪ ،‬وهدر وقبقب‪ .‬وأطت‬ ‫‐ ِّ‬ ‫‐‬
‫الناقة‪ .‬وصهل الفرس‪ ،‬وحمحم‪ .‬ونهم الفيل‪ .‬ونهق الحمار‪ ،‬وسحل‪ .‬وشحج‬
‫البغل‪ .‬وخارت البقرة وجأرت‪ .‬وثاجت النعجة‪ .‬وثغت الشاة ويعرت‪ .‬وبغم‬
‫الظبي ونزب‪ .‬ووعوع الذئب‪ .‬وضبح الثعلب‪ .‬وضغت األرنب‪ .‬وعوى الكلب‬
‫ونبح‪ .‬وصأت السنونو‪ .‬وضأت الفأرة‪ .‬وفحت األفعى‪ .‬ونعق الغراب ونعب‪ .‬وزقا‬
‫الديك وسقع‪ .‬وصفر النسر‪ .‬وهدر الحمام وهدل‪ .‬وغرد المكاء‪ .‬وقبع الخنزير‪.‬‬
‫ونقت العقرب‪ .‬وأنقضت الضفادع ون ّقت أيضا‪ .‬وعزفت الجن‪.‬‬
‫فإن كان على جبل أو جدار‬
‫‐يقولون لِما يضعه الطائر على الشجر‪ :‬وكر‪ْ ،‬‬ ‫‐‬
‫فهو‪ :‬وكن‪ ،‬وإذا كان في كن فهو‪ :‬عش‪ ،‬وإذا كان على األرض فهو‪ :‬أفحوص‪،‬‬
‫واألدحى للنعام خاصة‪.‬‬
‫‐يقولون في تقسيم الصدور‪ :‬صدر اإلنسان‪ ،‬ويسمونه من البعير الكركرة‪ ،‬ومن األسد‬ ‫‐‬
‫الزور‪ ،‬ومن الشاة القص‪ ،‬ومن الطائر‪ :‬الجؤجؤ‪ ،‬ومن الجرادة‪ :‬الجوشن‪ ،‬ومن الفرس لبان‪.‬‬
‫‐يقولون في مراتب الضحك ‪ :‬التبسم أول مراتب الضحك ثم اإلهالس‪ ،‬وهو‬ ‫‐‬
‫إخفاؤه‪ ،‬ثم االفترار واالنكالل‪ ،‬وهما‪ :‬الضحك الحسن‪ ،‬ثم الكتكتة أشد منهما‪،‬‬
‫ثم القهقهة‪ ،‬ثم القرقرة‪ ،‬ثم الكركرة‪ ،‬ثم االستغراب‪ ،‬ثم الطخطخة‪ ،‬ثم اإلهزاق‬
‫والزهزقة‪ ،‬وهي أن يذهب الضحك به كل مذهب‪.‬‬
‫‐يقولون ‪ :‬يدي من اللحم غمرة‪ ،‬ومن الشحم زهمة‪ ،‬ومن البيض زهكة‪ ،‬ومن‬ ‫‐‬
‫الحديد سهكة‪ ،‬ومن السمك صمرة‪ ،‬ومن اللبن والزبد شترة‪ ،‬ومن الثريد مرة‪،‬‬
‫ومن الزيت قنمة‪ ،‬ومن الدهن زنخة‪ ،‬ومن الخل خمطة‪ ،‬ومن العمل لزقة‪،‬‬
‫ومن الفاكهة لزجة‪ ،‬ومن الزعفران ردغة‪ ،‬ومن الطين ودغة‪ ،‬ومن العجين‬
‫ودخة‪ ،‬ومن الطيب عبقة‪ ،‬ومن الدم ضرجة وسطلة وسلطة‪ ،‬ومن الوحل لثقة‪،‬‬
‫ومن الماء بللة‪ ،‬ومن الحمأة ثئطة‪ ،‬ومن البرد صردة‪ ،‬ومن األسنان قضضة‪،‬‬
‫ومن المداد وجدة‪ ،‬ومن البزر والنفط نمشة ونثمة‪ ،‬ومن البول قتمة‪ ،‬ومن‬
‫العذرة طفسة‪ ،‬ومن الوسخ درنة‪ ،‬ومن العمل مجلة‪.‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫‐يقولون هجهجت بالسبع‪ ،‬وشايعت باإلبل‪ ،‬ونعقت بالغنم‪ ،‬وسأسأت بالحمار‪،‬‬ ‫‐‬
‫وهأهأت باإلبل‪ :‬إذا دعوتها للعلف‪ ،‬وجأجأت بها ‪ :‬إذا دعوتها للشرب‪ ،‬وأشليت‬
‫الكلب ‪ :‬دعوته‪ ،‬وأسدته أرسلته‪.‬‬
‫البشرة‪ ،‬الجمال في األنف‪ ،‬المالحة في الفم‪،‬‬
‫الصباحة في الوجه؛ ال َوضاءة في َ‬
‫‐ َّ‬ ‫‐‬
‫القد‪ ،‬الّلباقة في الشمائل‪،‬‬
‫الرشاقة في ّ‬ ‫الحالوة في العينين‪َّ ،‬‬
‫الظ ْرف في اللسان‪ّ :‬‬
‫َكمال الحسن في َّ‬
‫الشعر‪.‬‬
‫‐الثدي للمرأة وللرجل‪:‬ثندؤة‪ ،‬وهو من ذوات الخف‪ :‬الخلف‪ ،‬ومن ذوات الظلف‪:‬‬ ‫‐‬
‫الضرع‪ ،‬ومن ذوات الحافر والسباع‪ :‬الطبي‪.‬‬
‫‐الظفر لإلنسان وهو من ذوات الخف ‪ :‬المنسم‪ ،‬ومن ذوات الظلف ‪ :‬الظلف‪ ،‬ومن‬ ‫‐‬
‫ذوات الحافر ‪ :‬الحافر‪ ،‬ومن السباع والصائد من الطير‪ :‬المخلب‪ ،‬ومن الطير غير‬
‫الصائد والكالب ونحوها‪ :‬البرثن‪ ،‬ويجوز البرثن في السباع كلها‪.‬‬
‫‐المعدة لإلنسان‪ ،‬الكرش لألنعام‪ ،‬الحوصلة للطائر‪.‬‬ ‫‐‬

‫رئت من اليمين كانت مدحاً‪َّ ،‬أما إذا‬


‫أن تجد أبياتاً إذا ُق ْ‬
‫ومن غرائـب لغـة الضـاد؛ ْ‬
‫رئت من اليسار‪ ،‬صارت ذماً‪ ،‬وهذا مثال من شعر إسماعيل بن أبي بكر المقري ‪:‬‬ ‫ُق ْ‬
‫رفعــت فــا حطــت لهــم رتــب‬ ‫طلبــوا الــذي نالــوا فــا ُحرِمــوا‬
‫ســلموا فــا أودى بهــم عطــب‬ ‫ُــق‬
‫متــت لهــم ُخل ٌ‬
‫ْ‬ ‫وهبــوا ومــا‬
‫حمــدت لهــم شــيم فــا كســبوا‬ ‫جلبــوا الــذي نــرىض فــا كســدوا‬
‫وها هي ذات األبيات من اليسار إلى اليمين‪ ،‬تصير ذماً ‪:‬‬
‫حرمــوا فــا نالــوا الــذي طلبــوا‬ ‫رتــب لهــم حطــت فــا رفعــت‬
‫خلــق لهــم متــت ومــا وهبــوا‬ ‫عطــب بهــم أودى فــا ســلموا‬
‫كســدوا فــا نــرىض الــذي جلبــوا‬ ‫كســبوا فــا شــيم لهــم حمــدت‬
‫الشعري العجيب؛ هي في األصل أبيات مدح وثناء‪،‬‬ ‫وهذا مثال آخر من هذا اللون ِّ‬
‫لكن إذا قرأناها بالمقلوب‪ ،‬فإذا بها تصبح ذماً وهجا ًء‪.‬‬
‫ســمحوا فــا شــحت لهــم منــن‬ ‫حلمــوا فــا ســاءت لهــم شــيم‬
‫رشــدوا فــا ضلــت لهــم ســنن‬ ‫َّــت لهــم قــدم‬
‫ســلموا فــا زل ْ‬
‫هكذا تصير األبيات من المدح إلى الذم ‪:‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫شــيم لهــم ســاءت فــا حلمــوا‬ ‫منــن لهــم شــحت فــا ســمحوا‬
‫قــدم لهــم زلــت فــا ســلموا‬ ‫ســنن لهــم ضلــت فــا رشــدوا‬
‫بل أعجب من ذلك؛ قصيدة المدح التي قيلت في «نوفل بن دارم» إذا اكتفينا‬ ‫ْ‬
‫فإن القصيدة تصبح هجا ًء الذعاً‪ ،‬كاآلتي ‪:‬‬
‫بقراءة الشطر األول من كل بيت‪َّ ،‬‬
‫أمــر مخــزوم وســيف هاشــم‬ ‫إذا أتيــت نوفــــل بــــن دارم‬
‫عــى الدنانــر أو الدراهـــــم‬ ‫وجدتــه أظلــم كــــل ظالـــــم‬
‫بعرضــه وســــــره املكـاتـــــم‬ ‫وأبخــل األعــــراب واألعاجــــم‬
‫إذا قــى بالحــق يف الجرائــم‬ ‫ال يســتحي مــن لــوم كل الئــم‬
‫يف جانــب الحــق وعــدل الحاكــم‬ ‫وال يراعــي جانــب املــكارم‬
‫إذا مل يكــن مــن قــدم بقــادم‬ ‫يقــرع مــن يأتيــه ســن النــادم‬
‫ثم انظر كيف تتحول إلى ذ ٍم وهجاء إذا اكتفينا بقراءة الشطور األولى فقط من‬
‫َّ‬
‫كل بيت ‪:‬‬
‫وجدتــه أظلــم كــــل ظالـــــم‬ ‫إذا أتيــت نوفــل بــن دارم‬
‫ال يســتحي مــن لــوم كل الئـــــم‬ ‫وأبخـــــل األعــراب واألعاجـــــم‬
‫يقــرع مــن يأتيــه ســن النــادم‬ ‫وال يراعــي جانـــــب املكــــــارم‬
‫من غرائـب لغـة الضـاد‪ ،‬التي ال توجد في غيرها من اللغات‪( :‬المث ّنى) الدال على‬
‫متشابهين‪ .‬من ذلك ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫شيئين غير‬
‫ْ‬
‫املراد هبـا‬ ‫الكلمـة‬ ‫املراد هبـا‬ ‫الكلمـة‬
‫اإلنس والجان‬ ‫الثقالن‬ ‫والسنة‬
‫َّ‬ ‫القرآن‬ ‫الوحيان‬
‫الدنيا واآلخرة‬ ‫الداران‬ ‫األب واألم‬ ‫الوالدان‬
‫مكة والطائف‬ ‫القريتان‬ ‫المغرب والعتمة‬ ‫العشاءان‬
‫الذهب والزعفران‬ ‫األصفران‬ ‫القلب واللسان‬ ‫األصغران‬
‫دجلة والفرات‬ ‫الرافدان‬ ‫البصرة والكوفة‬ ‫العراقان‬
‫مكة والمدينة‬ ‫الحرمان‬ ‫الليل والنهار‬ ‫العصران‬
‫الدهر والموت‬ ‫األثرمان‬ ‫الفقر والمرض‬ ‫األمران‬
‫ّ‬
‫الماء واللبن‬ ‫األبيضان‬ ‫التمر والماء‬ ‫األسودان‬
‫الظل والفيء‬ ‫األبردان‬ ‫الشمس والقمر‬ ‫الجديدان‬

‫‪- 102 -‬‬


‫املراد هبـا‬ ‫الكلمـة‬ ‫املراد هبـا‬ ‫الكلمـة‬
‫الغنى والعافية‬ ‫البردان‬ ‫األمن والسالمة‬ ‫األحمدان‬
‫السهر والضجر‬ ‫األخبثان‬ ‫الطعام والشراب‬ ‫األطيبان‬
‫أبو بكر وعمر‬ ‫الشيخان‪ ،‬العمران‬ ‫البقرة وآل عمران‬ ‫الزهراوان‬
‫أبو موسى وعمرو‬ ‫الحكمان‬ ‫البخاري‪ ،‬مسلم‬ ‫الصحيحان‬
‫الحسن والحسين‬ ‫السبطان‬ ‫إسماعيل‪ ،‬وعبد الله‬ ‫الذبيحان‬
‫الشمس والقمر‬ ‫النيران‬
‫الدائبان‪ّ ،‬‬ ‫الحج والجهاد‬ ‫الكريمان‬
‫البحر والمطر‬ ‫األغزران‬ ‫السيل والحريق‬ ‫األيهمان‬
‫الشرق والغرب‬ ‫الخافقان‬ ‫النصر والشهادة‬ ‫الحسنيان‬
‫عرفة ومنى‬ ‫العسكران‬ ‫القوة والشباب‬ ‫الجيشان‬
‫المرض والفقر‬ ‫البليتان‬
‫ّ‬ ‫الليل والسحاب‬ ‫األعميان‬
‫الماء والقمح‬ ‫األسمران‬ ‫البدو والحضر‬ ‫الثاويان‬
‫حجرا الرحى‬ ‫الضرتان‬ ‫الجوع والعري‬ ‫الخائنان‬
‫العشب والشجر‬ ‫األخضران‬ ‫الصبح والمساء‬ ‫الباكران‬
‫الطير والوتر‬ ‫األعجمان‬ ‫الذهب والفضة‬ ‫الحجران والنقدان‬
‫بحرا العرب والروم‬ ‫البحران‬ ‫الحمار والوتد‬ ‫األذ ّالن‬

‫من غرائـب لغـة الضـاد؛ أن تجد كلمة تعطي معنى‪ ،‬وتعطى المعنى المضاد لها‪ ،‬وقد‬
‫ألَّف أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار األنباري النحوي‪ ،‬المولود ببغداد عام (‪ 271‬هــ)‬
‫كتاباً بعنوان (األضداد) قال في مقدمته‪( :‬هذا كتاب ذِكر الحروف التي توقعها العرب على‬
‫المعاني المتضادة ‪ .)...‬وقد ضرب كثيراً من األمثلة‪ ،‬مثل كلمة (جلل) في قول الشاعر ‪:‬‬
‫كل يشء ما خال املوت جلل والفتى يسعى ويلهيه األمل‬ ‫ ‬
‫فكلمة (جلل) تعني الشيء القليل اليسير‪ ،‬وتعني أيضاً الشيء العظيم‪ ،‬وهذا ضد ذاك‪.‬‬
‫وهناك أمثلة‪ ،‬ال حرص لها من هذا اللون العجيب‪ ،‬من ذلك ‪:‬‬
‫فسروا ‪ ﴿ :‬وكان وراءهم ِملك يأخذ كل سفينة غصبا ﴾ ْ‬
‫أي‬ ‫وراء ‪ :‬خلف أ ْو قدام‪ ،‬وبه َّ‬
‫أمامهم‪.‬‬
‫عسعس الليل ‪ :‬إذا أقبل بظالمه أ ْو أدبر‪ ،‬ولذا قالوا في تفسير قوله تعالى ﴿ والليل‬
‫إذا عسعس ﴾ إذا أقبل بظالمه أو إذا أدبر‪ ،‬روي القوالن عن ابن عباس رضي الله عنهما‪.‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫الرصيم ‪ :‬الليل أ ْو الصبح‪ .‬وبه فسر قوله تعالى ﴿ فأصبحت كالرصيم ﴾ ْ‬
‫أي كالليل‬
‫األسود‪ ،‬وقيل كالنهار فال شيء فيها‪.‬‬
‫الغابر ‪ :‬الباقي أ ْو الغائب‪ .‬ولذا قالوا في تفسير قوله تعالى ﴿ فأنجيناه وأهله إال َّ‬
‫امرأته كانت من الغابرين ﴾ ْ‬
‫أي الباقين في عذاب الله‪ ،‬أ ْو الغائبين عن النجاة‪.‬‬
‫أي التعنيف أو التعظيم‪ ،‬ومنها قوله‪ ﴿ :‬لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه ‪﴾..‬‬
‫التعزير ‪ْ :‬‬
‫أي تعظموه‪.‬‬
‫ْ‬
‫األقراء ‪ :‬الحيض أ ْو األطهار‪ ،‬ولذا اختلفوا في تفسير قوله تعالى ﴿ والمطلقات‬
‫تي�بصن بأنفسهن ثالثة قروء ﴾ قال أهل الكوفة‪ :‬هي الحيض‪ ،‬وهو قول عمر وعلي وابن‬
‫مسعود‪ .‬وقال أهل الحجاز ‪ :‬هي األطهار‪ ،‬وهو قول عائشة وابن عمر‪ .‬وقال الشافعي‪:‬‬
‫االنتقال من الطهر إلى الحيضة يسمى قرءا‪.‬‬
‫وأرسوا الندامة َّلما رأوا العذاب ﴾‬
‫ُّ‬ ‫فسروا ﴿‬
‫أرسرت اليشء ‪ :‬أخفيته أ ْو أعلنته‪ ،‬وبه َّ‬
‫أي أظهروها‪.‬‬
‫ْ‬
‫أي جمع أ ْو قطع ؛ وبه فسر قوله تعالى ﴿ فرصهن إليك ﴾ قال ابن عباس‬
‫صار ‪ْ :‬‬
‫أي قطعهن‪ ،‬وقال عطاء‪ :‬اضممهن إليك‪.‬‬
‫ْ‬
‫فسروا ﴿ ما لكم ال ترجون لله وقار ًا ﴾ ْ‬
‫أي ال تخافون‬ ‫الرجاء ‪ :‬للرغبة أ ْو للخوف‪ ،‬وبه َّ‬
‫عظمة الله‪.‬‬
‫الجون ‪ :‬لألسود أ ْو لألبيض وهو في األسود أكثر‪.‬‬
‫الطرب ‪ :‬الفرح أو الحزن‪ ،‬ففي المعجم ‪ :‬الطرب خفة تصيب اإلنسان لشدة حزن‬
‫أو سرور‪.‬‬
‫الناه ُ‬
‫ِل ‪ :‬العطشان‬ ‫الناهل ‪ :‬العطشان أو الذي قد شرب حتى روي‪ .‬وفي المعجم‪َّ :‬‬
‫والريان‪.‬‬
‫َّ‬
‫العادل ‪ :‬المنصف‪ ،‬أ ْو المشرك القاسط عن الحق‪.‬‬
‫السدفة ‪ :‬الظلمة في لغة تميم أو الضوء في لغة قيس‪ ،‬وبعضهم يجعل السدفة‬
‫اختالط الضوء والظلمة معاً كوقت ما بين صالة الفجر إلى اإلسفار‪.‬‬
‫طلعت عىل القوم ‪ :‬إذا أقبلت عليهم حتى يروك أو إذا غبت عنهم حتى ال يروك‪.‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫ملقت اليشء ‪ :‬إذا كتبته أو محوته‪.‬‬
‫بعت اليشء ‪ :‬إذا بعته غيرك أو اشتريته‪.‬‬
‫رشيت اليشء ‪ :‬إذا بعته غيرك أو اشتريته‪.‬‬
‫شعبت اليشء ‪ :‬أصلحته أو شققته‪.‬‬
‫الهاجد ‪ :‬المصلي بالليل أو النائم‪.‬‬
‫الجلل ‪ :‬الشيء العظيم أ ْو الشيء الصغير الحقير‪.‬‬
‫الصارخ ‪ :‬المستغيث والصارخ المغيث‪.‬‬
‫اإلهامد ‪ :‬السرعة في السير أو اإلقامة‪.‬‬
‫الظن ‪ :‬اليقين أ ْو الشك‪.‬‬
‫فرع الرجل ‪ :‬في الجبل صعد أ ْو انحدر‪.‬‬
‫رتوت اليشء ‪ :‬شددته وأرخيته‪.‬‬
‫أخفيت اليشء ‪ :‬كتمته أ ْو أظهرته‪.‬‬
‫شمت السيف ‪ :‬أغمدته أ ْو سللته‪.‬‬
‫الل‪ِ ،‬‬
‫للواح ِد‬ ‫والح ُ‬
‫الحرا ُم َ‬
‫البسل ‪ :‬الحرام أ ْو الحالل‪ .‬جاء في القاموس المحيط‪َ :‬‬
‫َّث‪.‬‬ ‫والم َذ َّك ِر ُ‬
‫والم َؤن ِ‬ ‫والج ْم ِع‪ُ ،‬‬
‫َ‬
‫أكرى ‪ :‬زاد‪ ،‬أ ْو نقص‪.‬‬
‫يحدها حد‪ ،‬وال تنقضي عجائبها‪ ،‬وال تنفد‬
‫هكذا؛ هي (لغــة الضــاد) التي ال ُّ‬
‫نبي من األنبياء‪.‬‬ ‫غرائبها‪ ،‬وال يحيط بها َّ‬
‫إال ّ‬

‫‪- 105 -‬‬


‫معـارك العربية‬
‫لم َ‬
‫تحظ لغ ٌة بمثل ما حظيت به (العربية) من الروعة والسحر والبهاء والغنى‬
‫لم تتعرض لغة للعداء السافر بمثل ما‬
‫وحسن التعبير واألداء‪ .‬هذا في الوقت الذي ْ‬
‫تعرضت له (العربية) من الضربات الخارجية والطعنات الداخلية‪ ،‬وبمختلف األسلحة‬
‫من مستشرقين وتغريبيين‪ ،‬ومالحدة وماديين‪ ،‬ومرتزقة‪ ،‬وسماسرة‪ ،‬وأكاديميين‪،‬‬
‫ومتطوعين‪ ،‬وأناس من جلدتنا‪ ،‬وأناس غرباء عنا‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وإعالميين وعلمانيين‪ ،‬وعمالء‬

‫فتوالت الحمالت‬
‫ْ‬ ‫وقد تعهد االستعمار بدعم أوليائه وربائبه‪ ،‬إلنجاز تلك المهمة؛‬
‫الجائرة‪ ،‬لتشويه العربية واالفتراء عليها‪ ،‬ورميها بالقصور وعدم الكفاية العلمية‪ ،‬واتهام‬
‫حروفها ونطقها بالصعوبة والتعقيد ‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫ال‪ ،‬فبات حتماً عليها خوضه حتى‬


‫ض على (الفصحى) صراع ال تريده أص ً‬ ‫لقد ُف ِر َ‬
‫النهاية‪ ،‬وال نهاية حتى ت َُرد األمور إلى نصابها‪ ،‬ويزول الشر‪ ،‬وينطفئ الشرر‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬لقد حوربت (الفصحى) من مختلف الجهات‪ ،‬وباألسلحة كافة؛ فقد حاربها‬
‫(األتـراك) على امتداد خمسة قرون‪ ،‬وحاولوا اغتيالها عن طريق تتريكها‪ ،‬ولم يفلحوا‬
‫في مهمتهم هذه‪ ،‬لكن محاولتهم تركت الكثير من الخدوش والتشوهات التي مازالت‬
‫آثارها بارزة‪.‬‬

‫وحاربها (األوربيـون) بغية إحالل لغاتهم محلها‪ ،‬وال زالت محاوالتهم الجائرة‬
‫مستمرة‪ ،‬حتى بعد انسحاب جيوشهم‪ ،‬وأساطيلهم الحربية‪.‬‬

‫كما حاربها (دعاة العاميـة) بضراوة‪ ،‬وحاولوا إزاحتها؛ ليخلو الميدان للهجاتهم‬
‫تفشى في العصر‬
‫المنحطة‪ .‬وقد تصدى الدكتور "طه حسني" لتيار اللهجة العامية الذي َّ‬‫َّ‬
‫مقوم من مقومات الحياة‪ ،‬وأنها ترفع مكانة األدب‬
‫فأكد على أن "الفصحى" ِّ‬ ‫الحديث‪َّ ،‬‬
‫العربي في العالم‪ ،‬فقال‪" :‬إنه في يو ٍم غير بعيد‪ ،‬ستعود الحياة القومية إلى هذه اللغة‪،‬‬
‫وستصبح ـ ليست لغة المثقفين فحسب‪ ،‬وال لغة األدب فحسب‪ ،‬لكنها لغة المثقفين‬
‫ولغة األدب التي يفهما الشعب كله"‪.‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫أن "النعرات اإلقليمية مجرد فقاقيع‪ ،‬تبرز حيناً‬
‫وقد كان "شوقـي ضيـف" يرى َّ‬
‫ثم تختفي‪ ،‬ويرجع الناس بعدها إلى التيار القومي العام‪ ،‬فالعربية الفصحى تملك كل‬
‫مقومات البقاء"‪.‬‬
‫أكد عباس العقَّـاد ‪" :‬أن الحملة‬
‫وفي كتابه "أشتات مجتمعات يف اللغة واألدب"؛ َّ‬
‫على اللغة في األقطار األخرى‪ ،‬إنما هي حملة على لسانها‪ ،‬أ ْو أدبها على أبعد االحتمال‪.‬‬
‫ولكن الحملة على لغتنا نحن؛ حملة على كل شيء يعنينا‪ ،‬وعلى تقليد من تقاليدنا‬
‫االجتماعية والدينية‪ ،‬وعلى اللسان والفكر والضمير في ضرب ٍة واحدة؛ َّ‬
‫ألن زوال اللغة‬
‫في أكثر األمم يبقيها بجميع مقوماتها غير ألفاظها‪ ،‬ولكن زوال اللغة العربية ال يبقي‬
‫للعربي والمسلم قواماً يميزه عن سائر األقوام‪ ،‬وال يعصمه أن يذوب في غمار األمم‪،‬‬
‫فال تبقى له باقية من بيان‪ ،‬وال ُعرف‪ ،‬وال معرفة‪ ،‬وال إيمان"‪.‬‬
‫هل إعالن الحرب على الفصحى‪ ،‬والسخرية منها‪ ،‬وعزلها‪ ،‬ومحاولة التخلص‬ ‫ترى؛ ْ‬
‫يعد من أصول "الحداثة" وأسس "التنوير" ومبادئ "الليبرالية" التي يتغ ّنى‬
‫هل ُّ‬‫منها ـ ْ‬
‫بها القوم؟‪.‬‬
‫لم يتوقف الهجوم على (لغة الضاد) يوماً واحداً‪ ،‬منذ ْ‬
‫أن وطئ المستعمِر‬ ‫ولماذا ْ‬
‫الوطن العربي‪ ،‬وحتى بعد رحيله؟‪.‬‬
‫أن الفصحى عاجزة عن أن تكون لغة العلم والفكر والثقافة‪،‬‬ ‫وإذا كانوا يزعمون َّ‬
‫ْ‬
‫فهل اللهجات العامية أقدر منها في هذه الميادين؟‪.‬‬
‫إن األمر ليس كما يزعم القوم ويفترون‪.‬‬
‫الحق أقول ‪َّ :‬‬
‫أدركت منذ الحروب الصليبية؛ قوة اإلسالم ـ حضارة وتاريخاً وفكراً وثقافة‬
‫ْ‬ ‫فأوروبا قد‬
‫أن المسلمين إذا أحسنوا صلتهم بالفكر والثقافة اإلسالمية؛ فلن تكون في‬ ‫ـ وأيقنوا َّ‬
‫األرض قوة تضارعهم‪ ،‬وذلك لِ َما حوته الحضارة اإلسالمية من القوى الروحية والمعنوية‪.‬‬
‫إن أمكن‪ ،‬وعزل اإلسالم عن‬ ‫من هنا؛ قرر الغرب القضاء على اإلسالم كلي ًة ْ‬
‫إن لم يمكن القضاء عليه‪ ،‬فاستخدم وسائل متعددة لتحقيق هذا الهدف‬ ‫المسلمين ْ‬
‫خالل قرنين من الزمان‪ ،‬أهمها‪ :‬محاربة الفصحى‪ ،‬وإحالل اللهجات المحلية مكانها‪،‬‬
‫والتمرد على األصالة والتراث بما أسموه بالحداثة‪ ،‬واختراق الوسط الثقافي‪ ،‬وهدم‬
‫القيم األصيلة‪ ،‬وتجنيد تالمذة ومريدين لهم من جلدتنا لمحاربتنا من الداخل عبر‬
‫(((‬
‫وسائل اإلعالم والقنوات الثقافية التي يعملون من خاللها‪.‬‬

‫((( الصفحات السود ملدرسة التغريب والحداثة والتنوير‪ ،‬محمد عبد الشافي القوصي‪ ،‬مكتبة مدبولي الصغير‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫ولم تكن الحرب على (الفصحى) من حيث هي لغة عربية؛ ولكن ألنها لغة‬
‫تقوم بدور الوحدة والتوحيد؛ توحيد اللسان والفكر والثقافة‪ ،‬كما قامت بدور التوحيد‬
‫األمة أن تتوحد‪ ،‬وألنها أيضاً لغة تستوعب تراث‬‫في الماضي‪ ،‬وهم ال يريدون لهذه ُ‬
‫األمة بماضيها‪ ،‬وهم ال يريدون لهذه‬ ‫الحضارة اإلسالمية؛ وبقاء هذه اللغة يصل هذه ُ‬
‫ال ومؤثراً‪.‬‬ ‫ُ‬
‫األ ّمة أن تتواصل‪ ،‬وال يريدون لهذا التراث أن يبقى حياً وفاع ً‬
‫حقق بعض النجاح في التعليم الجامعي ـ هو‬ ‫ولَ ْم يكن إحالل اللغات األجنبية ـ الذي َّ‬
‫بت فيه الفصحى‪ ،‬إنما ُحو ِربت أيضاً بسالح "اللهجات العامية"‪،‬‬
‫الميدان الوحيد الذي ُحو ِر ْ‬
‫َّ‬
‫"المغفلون" من األعراب‪.‬‬ ‫وقد تولى ك ِْب َر هذه الدعوى دعاة االستعمار‪ ،‬ثم تبعهم‬
‫تعدد لهجات العرب إلى الوحدة لتكون لسان توحيد‬ ‫إن العربية التي انتقلت من ّ‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫لهذه األمة‪ ،‬ال يُستساغ أن تتوارى لتحل محلها العاميات‪ ،‬إنها مغالطات مفضوحة‬
‫وأباطيل مكشوفة‪ ،‬ما سبقهم بها من أح ٍد من العالَمِين‪.‬‬
‫المهم؛ أنه في إطار كراهية أوروبا لإلسالم‪ ،‬وخوفها منه‪ ،‬كرهت كل ما يتصل‬
‫ووقفت أمامه وجهاً لوجه‪ ،‬ومن ذلك العربية الفصحى‪ ،‬فهي لسان التنزيل‬
‫ْ‬ ‫باإلسالم‪،‬‬
‫ووعاء اإلسالم‪ ،‬ومن أكبر عوامل تجميع المسلمين‪ ،‬وقيام الروابط القوية بينهم ‪..‬‬
‫وأوروبا تخشى وحدة المسلمين‪ ،‬وتعمل بكل وسيلة على تفتيتها بالقوميات‪،‬‬
‫والوطنيات‪ ،‬والطائفيات‪.‬‬
‫فكان نصيب الفصحى من مواجهة أوروبا كبيراً‪ ،‬إ ْذ بُ ِذلَ ْت جهو ٌد جبارة في القضاء‬
‫على هذه اللغة ليقوم حاجز بينها وبين األجيال القادمة‪ ،‬وكان االستعمار يواجه‬
‫العربية في كل بلد من خالل محورين ‪:‬‬
‫‐إحالل اللهجات العامية لكل بلد يحلّها‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف الالتينية‪.‬‬ ‫‐‬

‫وكان هناك ثالثة ميادين واجهت فيها أوروبا اللغة العربية في العصر الحديث‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‐(لبنان وديار الشـام) حيث كانت مسرحاً لنشاط استعماري تنصيري هائل‬ ‫‐‬
‫ضد الفصحى من ق َِبل فرنسا‪.‬‬
‫والحقيقة أن االتجاه المناهض للغة الفصحى في لبنان ظهر منذ وقت مبكر‪،‬‬
‫وحمل لواء العداء نحوها الدكتور أنيس فريحة‪ ،‬وسعيد عقل‪ ،‬وأساتذتهما من‬
‫نصرين الغربيين الذين كانوا يعملون في حقول التدريس‬ ‫والم ّ‬
‫المستشرقين ُ‬
‫في الجامعة األمريكية ببيروت‪ ،‬وفى المدارس اليسوعية ذات الطابع التنصيري‪.‬‬

‫‪- 108 -‬‬


‫‐(شامل غرب أفريقيـا) وهناك تعرضت الفصحى لحرب شرسة في البالد‬ ‫‐‬
‫اإلسالمية الواقعة في شمال غربي أفريقيا‪ ،‬وعمل االستعمار الفرنسي على‬
‫تغييب العربية عن تلك البالد‪ ،‬و ُف ِر َض ْت الفرنسية على المسلمين فرضاً‪،‬‬
‫كما ُف ِر َض ْت المدنية الغربية في كثير من األخالق والسلوك اليومي‪ ،‬فكانت‬
‫وانزوت العربية؛ حتى كادت‬
‫ْ‬ ‫الفرنسية لغة كتابة وتعليم وصحافة ومحافل‪.‬‬
‫تُ ْن َسى في تونس والجزائر والمغرب‪.‬‬
‫لقد َج َن ْت فرنسا على العربية في تلك البالد جناية بشعة؛ تار ًة بإحالل الفرنسية‬
‫محلها‪ ،‬وأخرى بإحياء اللهجات المحلية التي كانت سائدة فيها قبل اإلسالم‪.‬‬
‫فنجحت فرنسا في فرض لغتها قسراً وكرهاً على دول المغرب العربي‪ ،‬ومازالت‬
‫هذه الدول تعانى ازدواجية لغوية بسبب التأثير الذي خلّفته الفرنسية‪ ،‬حيث‬
‫الك ّتاب أدبـهم بالفرنسية‪ ،‬ألنهم ال‬‫بلغتين‪ ،‬ويصوغ بعض ُ‬ ‫ْ‬ ‫يتكلم الشعب‬
‫يجيدون العربية‬
‫فكري؛ وهو أخطر وأشد‬
‫ٌ‬ ‫ثقافي‬
‫أن (االستعمار الفرنسي) استعمار ٌّ‬ ‫جدير بالذكر؛ َّ‬
‫فلم‬
‫المادي الذي اتبعته بريطانيا وغيرها من الدول المستعمِرة‪ْ ،‬‬
‫ّ‬ ‫من االستعمار‬
‫بنهب الثروات‪ ،‬وتأمين السوق للسلع الرأسمالية‪،‬‬
‫تكتف فرنسا من مستعمراتها ِ‬ ‫ِ‬
‫وتوفير مواطئ قدم للجيوش الغازية‪ ،‬وإنما وضعت على رأس قائمة أهدافها‬
‫اإلستراتيجية‪ ،‬القضا َء على الثقافة اإلسالمية‪ ،‬ألنها الدرع الواقية للشعوب‬
‫ضد االستعمار‪.‬‬
‫والمؤججة للجهاد ّ‬
‫ّ‬ ‫المسلمة‪،‬‬
‫المستعمروشخصيته‪،‬‬
‫َ‬ ‫وقدقامتفرنسابإجراءجراحةثقافيةولغويةتهدماستقالل‬
‫وتدفعه إلى اقتداء الغالب واإلذعان له‪ ،‬والتماهي معه‪ ،‬وفقدان القدرة على وعيه لذاته‪.‬‬
‫ولتحقيق ذلك؛ وضعت خطة إستراتيجية تتمثل في المحاور الثالثة (الكنيسة‪،‬‬
‫اآلني‪ ،‬ودور الكنيسة ير ّكز‬
‫المدرسة‪ ،‬اإلعالم)‪ .‬فدور اإلعالم ينحصر في التركيع ِّ‬
‫العلمي‪ ،‬بينما كانت المدرسة ـ وال تزال ـ أكثر الثالثة خطورة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫في التشويه‬
‫باعتبارها الوسيلة التي أبقت على الوجود االستعماري حتى بعد رحيله‪.‬‬
‫‐ َّأما في (مصـر) فقد كانت الفرصة مهيأة لشن هجوم على العربية على أوسع‬ ‫‐‬
‫نطاق‪ ،‬وكان أول من حمل لواء الهجوم على الفصحى في مصر؛ هم ممثلو‬
‫ثم تولى القيام بهذه المهمة من استطاع الغرب‬
‫االستعمار الغربي أنفسهم‪َّ ،‬‬
‫تجنيدهم من المصريين أنفسهم‪.‬‬

‫‪- 109 -‬‬


‫وفي خالل تلك المعركة التي حاول االستعمار أن يجعل عنوانها "عجز اللغة‬
‫العربية عن أداء مهمتها إزاء املخرتعات الحديثة"؛ ظهرت قوى مخلِصة تنافح عن شرف‬
‫العربية‪ ،‬بإدخال كلمات جديدة إلى العربية عن طريق‪ :‬النحت واالشتقاق والترجمة‬
‫والتعريب‪ .‬وظهر أصحاب المعاجم في لبنان ومصر‪ ،‬وأُنشئت مجامع لغوية في سورية‬
‫ومصر والعراق؛ وظهرت معاجم‪ :‬الكرملي‪ ،‬والمعلوف‪ ،‬وشرف الدين‪ ،‬وأحمد عيسى‬
‫الشهابي‪ ،‬وأحمد باشا‪ ،‬وعبد الله البستاني‪ .‬وكان لألزهر أبعد األثر في حماية اللغة‬
‫ونصرتها‪ .‬وكانت "دار العلوم" أبرز معاقل المقاومة الثقافية بمصر‪ ،‬حتى قال اإلمام‬
‫أردت أن تعرف أين تموت اللغة وأين تحيا؟ فإنها‬
‫محمد عبده كلمته الشهيرة‪( :‬إذا َ‬
‫تموت في كل مكان‪ ،‬وتحيا في دار العلوم)‪.‬‬
‫ولعل التركيز على محاربة الفصحى في مصر كان شديداً للغاية‪ ،‬لعدة أسباب‬
‫َّ‬
‫تتعلق بأوضاع مصر بصفة خاصة‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‐أنها أكبر بلد إسالمي عربي‪ ،‬وأن ما يجري فيها سيكون له تأثير على غيرها‪.‬‬ ‫‐‬
‫ال أمانة العلم والمعرفة‪ ،‬محافظاً على العربية وآدابها‪.‬‬
‫‐وجود األزهر فيها حام ً‬ ‫‐‬
‫‐وجود االستعمار فيها واضعاً كل ثقله؛ لنقل الحضارة الغربية إليها بكل وسيلة‬ ‫‐‬
‫ممكنة‪.‬‬
‫‐وجود أتباع يدينون بكل الوالء للغرب وحضارته من المصريين أنفسهم‪.‬‬ ‫‐‬

‫وقد سار هؤالء يف مرص يف طريقني ((( ‪:‬‬


‫‐ ‐أحدهام ‪ :‬الدعوة إلى جعل العامية لغة كتابة وفن وتأليف وأدب‪.‬‬
‫‐ ‐ثانيهام ‪ :‬اتجه اتجاهاً علمياً أعمق جذوراً من سطحية الدعوة إلى العامية‪.‬‬
‫يرددون ما قاله‬‫وهؤالء وغيرهم من عبيد الحضارة الغربية‪ ،‬مجرد "ببغاوات" ِّ‬
‫أسيادهم‪.‬‬
‫ول ْو أنهم أنصفوا ما ساروا في هذا الطريق الخادع‪ ،‬وما اتهموا العربية بتلك االتهامات‬
‫الجائرة ‪ ..‬إنهم يعلمون علم اليقين أن "العربية" هي وعاء الحضارة اإلسالمية‪ ،‬وهي‬
‫وعاء الفكر العربي الذي تفاعل فيها هذا التراث العظيم‪ ،‬وهي األداة الحية لألدب‬
‫العربي واللسان الذي يربط األمة‪ ،‬وهي أساس ودعامة وقاعدة الوحدة العربية‪ ،‬وأن‬

‫((( أوروبا يف مواجهة اإلسالم‪ ،‬د‪ .‬عبد العظيم المطعني‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫لهذه اللغة مكانة ضخمة بين اللغات‪ ،‬بشهادة عباقرة الغرب‪ ،‬حتى َمن بلغوا غاية‬
‫التعصب ضد اإلسالم‪.‬‬
‫أجل؛ إنهم يعلمون ذلك وأكثر من ذلك‪ ،‬ولكنه الحقد الدفين الذي مأل صدورهم؛‬
‫أعماهم عن الحقيقة‪ .‬فانظر ـ مث ً‬
‫ال ـ إلى أحدهم يتهم الفصحى بأنها‪" :‬لغـة بدويـة‪ ،‬ال تكاد‬
‫تكفل األداء إذا تعرضت لحالة مدنية راقية كتلك التي نعيش بين ظهرانيها اآلن‪ ،‬ها أنذا‬
‫في هذه الغرفة ال أعرف كيف أصف أثاثها بالعربية‪ ،‬ولكني أستطيع وصفها باإلنجليزية"‪.‬‬
‫وألن هذا المهزوم؛ يسير على مذهب المهندس اإلنجليزي "وليم ولكوكس"‬ ‫َّ‬
‫الذي دعا المصريين إلى إحالل العامية محل الفصحى‪ ،‬فترجم اإلنجيل إلى العامية‪،‬‬
‫لينافس بترجمته هذه ترجمته الفصحى‪ ،‬فلقد كان نصيب الفصحى من هجومه‬
‫بل وحتى‬ ‫ميتة" ليس اآلن فقط‪ْ ،‬‬ ‫نصيب األسد من الفريسة‪ ،‬فهو يتهمها بأنها "لغة ِّ‬
‫أي‬
‫"إن الفصحى في اعتقادي كانت لغة الكتابة فقط‪ْ ،‬‬ ‫في عصر نزول القرآن‪ .‬فيقول‪َّ :‬‬
‫لغة ميتة حتى في زمن ظهور القرآن‪ ،‬ولكن تعليم العربية في مصر ال يزال في أيدي‬
‫أي في ثقافة القرون المظلمة‪،‬‬ ‫الشيوخ الذين ينقعون أدمغتهم نقعاً في الثقافة العربية‪ْ ،‬‬
‫فال رجاء لنا بإصالح التعليم حتى نمنع هؤالء الشيوخ منه‪ ،‬ونُسلِّمه لألفندية الذين‬
‫ساروا شوطاً بعيداً في الثقافة الحديثة‪.(((" ...‬‬
‫ُرجمت حضارات الدنيا إلى العربية‪ ،‬من الفرس إلى‬ ‫ولَ ْم يسأل نفسه ‪ :‬كيف ت ِ‬
‫لم ينتبه‪ ،‬في غمرة‬ ‫بل إنه ْ‬‫الهند إلى اليونان إلى الحضارة األوروبية الحديثة؟‪ْ .‬‬
‫كذ َب نفسه بنفسه‪ ،‬وذلك عندما اعترف بأنها قد مثَّلت‬ ‫كراهيته للعربية‪ ،‬إلى أنه قد َّ‬
‫لغة العلم والروح العلمية التي تميزت بها الحضارة العربية‪ ،‬والتي تتلمذ فيها الغرب‬
‫على اإلسالم والعربية‪ ،‬حتى إن علماء أوروبا‪ ،‬الذين أخذوا العلم والمنهج التجريبي‪،‬‬
‫أي المصدر الثالث من مصادر الثقافة األوروبية –حسب تعبيره– إن هؤالء العلماء‬ ‫ْ‬
‫المجددين‪ ،‬الذين صنعوا النهضة األوروبية‪ ،‬إنما "كانوا يهتمون باإلسالم‬
‫ِّ‬ ‫األوروبيين‬
‫وبمعرفة اللغة العربية"‪.‬‬
‫إنه يعترف بهذه الحقيقة الشاهدة على مجد العربية وعظمتها وإمكاناتها‪ّ ،‬‬
‫فيكذب‬
‫"أما األصل الثالث للثقافة األوروبية‪ ،‬فهو الروح العلمية التي‬
‫نفسه بنفسه‪ ،‬عندما يقول‪َّ :‬‬
‫ظهرت في األندلس على أيدي العرب‪ ،‬فقد انغمس اإلغريق في النظريات الفلسفية‪،‬‬

‫((( اليوم والغد‪ ،‬سالمة موسى‪ ،‬مكتبة المستقبل‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫وانتقلت هذه العدوى إلى العرب‪ ،‬لكنها لم تغمرهم‪ ،‬وكان للتجربة عندهم شأن كبير‪،‬‬
‫وبخاصة عندما أخذوا في محاولة إيجاد الذهب من الزئبق‪ ،‬فدرسوا أشياء‪ ،‬هي في‬
‫الواقع أصل النزعة العلمية الحديثة التي تتسم بالتجربة‪ ،‬ومما هو ذو داللة في النهضة‬
‫جددين من أمثال (روجر بيكون) كانوا يهتمون باإلسالم وبمعرفة‬ ‫الم ِّ‬
‫األوروبية‪ ،‬أن ُ‬
‫اللغة العربية"‪.‬‬
‫لكنه ـ من أسف ـ ينسى هذه الحقائق‪ ،‬ويتناسى داللتها على قدرة الفصحى على‬
‫التواصل والتفاعل مع اللغات والحضارات‪ ،‬ويمضي ليصب عليها جام غضبه‪ ،‬وكيف‬
‫ال‪ ،‬وهو من دعاة انسالخ عن الشرق والعرب واإلسالم‪ ،‬بينما العربية رباط بين مصر‬
‫والشرق والعرب واإلسالم‪ .‬فهو بتعبيره "ينقِـم" عليها أنها تجمع مصر بهذا اإلطار‬
‫يحطمه ويلغيه‪ ،‬فيقول ‪" :‬ومما يمكن أن ينقِم على‬ ‫الحضاري األوسع الذي يريد أن ِّ‬
‫اللغة الفصحى أيضاً‪ ،‬أنها تبعثر وطنيتنا المصرية‪ ،‬وتجعلها شائعة في القومية العربية‪،‬‬
‫فالمتعمق في اللغة الفصحى يشرب روح العرب‪ ،‬ويعجب بأبطال بغداد القدماء‪ .‬فنظره‬
‫أبداً متجه نحو الشرق‪ ،‬وثقافته كلها عربية شرقية‪ ،‬مع أننا في كثير من األحيان‬
‫نحتاج إلى االتجاه نحو الغرب‪ .‬والثقافة تقرر الذوق والنزعة‪ ،‬وليس من مصلحة األمة‬
‫المصرية أن ينزع شبابها نحو الشرق"‪.‬‬
‫إنه يريد عزل مصر عن جسمها العربي‪ ،‬ليسهل تحقيق حلم سلفه القديم "المعلِّم‬
‫يعقوب اللَّعين" في إلحاقها بالغرب‪ .‬والعربية تمثِّل عقبة أمام العزل واالنسالخ‪ ،‬وأمام‬
‫كليهما‪ ،‬فلذلك استحقت منه النقمة التي نراها منه في هذه النصوص(((‪.‬‬ ‫الضم واإللحاق ْ‬
‫َّأما البديل الذي رشحه سالمة موسى َّ‬
‫ليحل محل العربية‪ ،‬فهو العامية المصرية‪،‬‬
‫فقد اجتهد حتى أجهد الحقيقة ذاتها‪ ،‬فزعم أن ال عالقة لهذه العامية المصرية بالعربية‬
‫الفصحى‪ ،‬وجاء بكالم مضحك؛ زعم فيه أن هذه العامية هي لغة الهكسوس القدماء‪.‬‬
‫والمرء يعجب من رفضه للعربية ألنها آسيوية قديمة‪ ،‬في ذات الوقت الذي يدعو فيه‬
‫إلى لغة الهكسوس ـ وهم رعاة آسيويون غزوا مصر ـ ولغتهم أقدم من العربية في مصر‪.‬‬
‫لكن العجب يزول عندما نعلم أن العربية جامع لمصر بالعرب والشرق‪ ،‬وفي ذلك‬
‫العقبات أمام رسالته في سلخ مصر عن محيطها وتراثها إللحاقها بالغرب األوروبي‪،‬‬
‫يفضل لغة الهكسوس‪ ،‬الذين غزوا مصر قبل الميالد بثمانية عشر قرناً‪ ،‬على‬
‫لذلك هو ِّ‬

‫((( سالمة موىس‪ :‬اجتهاد خاطئ أ ْم عاملة حضارية؟ د‪ .‬محمد عمارة‪ ،‬دار الصحوة‪1995،‬م‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 112 -‬‬


‫العربية التي جاءت إلى مصر مع الفتح الذي حررها من االضطهاد الذي يؤرخ به‬
‫أقباطها حتى اآلن (((‪.‬‬
‫ولذلك تجاهل تلك الحقيقة اللغوية التي أكدت أن العامية المصرية هي لهجة‬
‫إن قاموساً‬ ‫عربية‪ ،‬وليست هكسوسية‪ ،‬وهي حقيقة وضعت فيها كتب ودراسات‪ْ ،‬‬
‫بل َّ‬
‫خاصاً قد أحصى كلماتها وعاد بها جميعها إلى (القاموس املحيط) للفيروز آبادي‪.‬‬
‫وهو يتجاهل هذه الحقيقة اللغوية ـ عروبة العامية المصرية ـ ويسير خلف السير‬
‫"وليم ولكوكس" الذي نعرف منه أنه كان مهتماً بتنصير المصريين أيضاً‪ ،‬حتى إنه‬
‫ترجم اإلنجيل إلى العامية المصرية‪ ،‬وقد تزعم الدعوة إلى استبدال العامية بالفصحى‪،‬‬
‫"إن السير وليم ولكوكس هو أحد أولئك األجانب القالئل‬‫فكتب "عن "أستاذه" يقول‪َّ :‬‬
‫الذين تقر مصر بفضلهم ووالئهم‪ ،‬وهموم السير ولكوكس مصرية أكثر مما هي إنجليزية‪،‬‬
‫ألن مصر هي وطنه الثاني"‪.‬‬
‫فهو يقيم في مصر ويفكر في صالح مصر‪َّ ،‬‬
‫وللمرء أن يسأل دعاة العامية الذين زعموا عجز العربية عن أن تكون لغة العلم‬
‫والفكر والثقافة والحضارة‪ْ ،‬‬
‫فهل العامية أقدر منها في هذه الميادين؟‪.‬‬
‫َّ‬
‫منحطة النحطاط عقول الناطقين بها‪.‬‬ ‫َّ‬
‫كال؛ فالعامية لهجة‬
‫أن القضية قضية "مراحل"‪ ،‬فبعد قطع الروابط القومية والعقدية والحضارية‬
‫أ ْم َّ‬
‫بالعامية‪ ،‬تأتي مرحلة اإللحاق اللغوي‪ ،‬كجزء من اإللحاق الثقافي والحضاري بالغرب‬
‫األوروبي؟‪.‬‬
‫وإذا كنا قد عرضنا آلراء "ولكوكس" وتلميذه النجيب‪ ،‬وإذا كنا نقرأ اليوم لمن‬
‫ألن الحرف العربي يؤدي‬ ‫يريدون في بعض بالد الشمال اإلفريقي التراجع عن التعريب؛ َّ‬
‫أي اإلسالم الذي يكرهون ويحاربون ـ إذا كانت هذه هي حقيقة‬ ‫إلى الفكر الغيبي ـ ْ‬
‫فإن كلمات "ليوطي" ـ المقيم العام الفرنسي في المغرب من سنة‬ ‫المقاصد والغايات‪َّ ،‬‬
‫‪1912‬م إلى منتصف العشرينيات‪ ،‬تلقي المزيد من األضواء على هذه الحقيقة‪ ،‬فقد‬
‫"إن العربية تجر إلى اإلسالم؛ ألن هذه اللغة تُتعلَّم في القرآن‪ ،‬في‬
‫كتب يومئذ يقول‪َّ :‬‬
‫حين أن مصلحتنا تحتم علينا العمل على جعل البربر يتطورون خارج إطار اإلسالم‪،‬‬
‫ومن الناحية اللغوية يجب أن نعمل على االنتقال مباشرة من البربرية إلى الفرنسية"‪.‬‬

‫(( ( السابق‪.‬‬

‫‪- 113 -‬‬


‫ولقد كان (ولكوكس‪ ،‬وتلميذه) يريدان لمصر ما أراده "ليوطي" للبربر‪ :‬التطور‬
‫خارج إطار اإلسالم‪ ،‬وهجر العربية ـ لغة القرآن التي تتعلَّم فيه ـ إلى العامية‪ ،‬للعبور‬
‫منها إلى اإلنجليزية‪ .‬وإ َّال فماذا تعني كلمات تلميذ ولكوكس عن تراث العربية‪" :‬إنه‬
‫تراث لغوي‪ ،‬يحمل عقيدة اجتماعية يجب أن نحاربها‪ .‬فالعربية ليست لغة الديمقراطية‬
‫تعن‬
‫لم ِ‬ ‫واألتومبيل والتلفون‪ْ ،‬‬
‫بل لغة القرآن وتقاليد العرب"‪ .‬ماذا تعني هذه الكلمات إذا ْ‬
‫(((‬ ‫ما أراده "ليوطي" وأضرابه من االستعمار والسحق لهوية ُ‬
‫األمة العربية واإلسالمية ؟‪.‬‬
‫ألن الناطقين‬
‫تفرق وال تجمع‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫المنحطة ّ‬ ‫أن هذه اللهجات‬‫وليعلم (دعاة العامية) َّ‬
‫بالعربية أنفسهم تختلف لهجاتهم العامية باختالف األصقاع‪ ،‬فاستبدال العامية بالفصحى‬
‫يحرم كل قطر من االنتفاع بإنتاج القطر اآلخر‪.‬‬
‫‐كما أن إغفال الفصحى يستوجب إغفال كل ما كتب عنها من العلوم منذ‬ ‫‐‬
‫حد لها‪.‬‬
‫أكثر من ألف وستمائة عام‪ ،‬وهي خسارة بالغة وال ّ‬
‫‐أن الوحدة بين أجزاء الوطن العربي قائمة بالمحافظة على اللغة الفصحى‪ ،‬إ ْذ‬ ‫‐‬
‫لتشت َت شمل الشعوب العربية‪.‬‬
‫لوال القرآن َّ‬
‫‐أن "العامية" ال يمكن أن تقوم مقام الفصحى؛ التي هي بشهادة المنصفين‬ ‫‐‬
‫أرقى لغات العالم‪.‬‬
‫‐أن العامية تفتقر إلى قواعد للنطق والتسجيل في األصوات المحدودة التي‬ ‫‐‬
‫تستخدمها‪ ،‬حيث تتداخل مخارج بعض أصواتها‪.‬‬
‫‐أنها محدودة بعدد معين من المفردات غير قادر على التعبير عن كثير‬ ‫‐‬
‫من المعاني التي يمكن أن تجيش بها النفس اإلنسانية‪ ،‬وقد أحصى بعض‬
‫الباحثين مفردات العامية كلها‪ ،‬فوجدوها لم تزد على بضع مئات‪.‬‬
‫أي معنى كالباء التي‬
‫‐كذلك؛ اعتماد العامية على لوازم داللية زائدة ال تؤدي ّ‬ ‫‐‬
‫تتصدر الفعل المضارع‪ ،‬والشين التي تجيء في أواخر األفعال المنفية‪ ،‬ومثل‬
‫هذا العبث ينافي أهون مبادئ اللغة والمنطق‪.‬‬
‫‐أن العامية ال تجاوز حدودها اإلقليمية بسبب اختالف اللهجات وارتباطها‬ ‫‐‬
‫بالبيئة‪ ،‬وذلك عكس الفصحى تماماً‪.‬‬

‫(( ( السابق‪.‬‬

‫‪- 114 -‬‬


‫‐أن العامية ّ‬
‫تسف وتتبذل وترتبط بالقيعان‪ ،‬عكس اللغة الفصحى التي تترعرع‬ ‫‐‬
‫في العلياء‪.‬‬
‫‐أن مفردات العامية ال تجمعها أصول واحدة‪ ،‬فهي مزيج من العربية والتركية‬ ‫‐‬
‫واإلنجليزية والفرنسية وغيرها‪ ،‬لذلك ال تخضع لقواعد ثابتة في االشتقاق‪.‬‬
‫لهذه األسباب وغيرها‪ ،‬ال يجوز المقارنة أو المفاضلة بين العامية والفصحى‪،‬‬
‫ومهما بلغت العامية من الجودة والقبول في زمانها أو بيئتها‪ ،‬فهي غير قادرة على‬
‫مزاحمة الفصحى ذات التراث الذي استقر في وجدان األمة بأسرها مدى الزمان‪.‬‬
‫أخيراً؛ ال خوف على (لغـة الضـاد) فإنَّها قادرة على أن تسحق سائر اللغات‬
‫ولن يفلحوا أبداً‪.‬‬ ‫أن يحجبوا نورها بغربالهم الهزيل‪ ،‬لَ ْم ْ‬ ‫وإن الذين يريدون ْ‬ ‫واللهجات‪َّ .‬‬
‫ت‬
‫ين ِمن َق ْب ِل ِه ْم َفأَ َ� ال َّلهُ بُ ْن َيانَ ُهم ِّم َن الق ََو ِاع ِد َفخَ َّر َع َل ْي ِه ُم َّ‬
‫السق ُْف ِمن َف ْو ِق ِه ْم‬ ‫و﴿ َقد َمكَ َر ا َّل ِذ َ‬
‫ون ﴾ [النحل ‪.]26:‬‬ ‫اب ِم ْن َح ْي ُث ال َ يَشْ ُع ُر َ‬ ‫الع َذ ُ‬ ‫َوأَتَاهُ ُم َ‬

‫‪- 115 -‬‬


‫حتديات يف طريق الفصحى‬
‫ال توجد لغة من اللغات َّ‬
‫إال وقد تعرضت الختبارات عديدة‪ ،‬قد تسفِر عن فنائها‬
‫كما حدث مع اآلرامية‪ ،‬والهيروغليفية‪ ،‬أ ْو تفتتها إلى لهجات متصارعة؛ كما حدث في‬
‫اللغتين‪ :‬الصينية‬
‫ْ‬ ‫الهند‪ ،‬أ ْو جفافها؛ مما يصعب استخدامها كلغة حياة؛ كما هو حال‬
‫واليابانية‪ ،‬أ ْو تدخل عوامل أخرى مثل‪ :‬العوامل االقتصادية والسياسية واالجتماعية‬
‫في تحديد اللغة المستخدمة‪ ،‬أ ْو فرضها عنوة على بعض الشعوب‪.‬‬

‫وقد تعرضت «العربيـة» لمجموعة من التحديات ‪ -‬قديماً وحديثاً ‪ -‬حاولت ْ‬


‫النيل‬
‫منها بطرق مختلفة‪ ،‬لكن لكونها مرتبطة بعقيدة دينية صلبة‪ ،‬وقيم حضارية راسخة؛ فقد‬
‫صمدت أمام تلك التحديات‪ ،‬حتى قال عنها المستشرق «جروبنام» في مقدمة كتاب‬
‫«تراث اإلسالم»‪« :‬إن اللغة العربية هي محور التراث العربي‪ ،‬وهي لغة عبقرية ال تدانيها‬
‫لغة في مرونتها واستقامتها‪ ،‬وهذه العبقرية في المرونة واالشتقاق اللذيْن ينبعان من‬
‫ذات اللغة‪ ،‬جعلتها تتسع لجميع مصطلحات الحضارة القديمة بما فيها من علوم وفنون‬
‫وآداب‪ ،‬وأتاحت لها القدرة على وضع المصطلحات الحديثة لجميع فروع المعرفة»‪.‬‬
‫فإن إيماننا بلغتنا الجميلة يقف بنا أمام‬
‫وعلى الرغم من اإلقرار بهذه الحقيقة؛ َّ‬
‫عدة مشكالت تبحث عن حلول؛ نعزي أكثرها إلى المتحدثين بهذه اللغة والمتعاملين‬
‫بها‪ ،‬ال إلى اللغة ذاتها؛ لِما توافر لها من مقومات وظواهر تدفعها إلى استيعاب كل‬
‫المفردات المعاصرة التي واكبت ظهور هذه التقنيات الحديثة‪.‬‬
‫وليس هذا الموقف بجديد على العربية‪ ،‬فقد واجه أسالفنا العرب موقفاً مماث ً‬
‫ال‬
‫يوم انفتحوا على لغات الفرس والرومان؛ فنتج عن ذلك ما يمكن تسميته بالمواجهة‬
‫اللتين حدثتا‬
‫اللغوية التي أغنت مفردات العربية؛ نتيجة لحركتي التعريب والترجمة ْ‬
‫في العصر العباسي فتضخم‪ -‬آنذاك‪ -‬معجم اللغة العربية تضخماً كبيراً‪.‬‬
‫الموقفين رغم التفاوت الزمني؛ فإنه ال تغيب‬
‫ْ‬ ‫ومع وجود هذا التشابه الواضح بين‬
‫عنا نقاط االختالف‪ ،‬ألن العرب في المرة األولى واجهوا هذه اللغات‪ ،‬واللغة العربية‬
‫ـ حينذاك ـ تمثل لغة الحياة اليومية يتصرفون فيها تصرف المالك فيما يملك‪َّ ،‬أما‬

‫‪- 116 -‬‬


‫عبر أحمد أمين عن ذلك تعبيراً‬ ‫اليوم فنحن نواجه اآلخر بالتعليم ال بالسليقة‪ ،‬وقد َّ‬
‫رائعاً‪ ،‬فقال((( ‪« :‬لقد واجه العرب المدنية إ ْذ ذلك وهم غزاة فاتحون‪ ،‬ونحن واجهناها‬
‫مغزوون محتلُّون‪ ،‬والشعور األول يدعو إلى العزة والعزة تدعو إلى الجرأة‪.‬‬
‫اليوم ونحن ُّ‬
‫ال عن أن المدنية‬‫والشعور الثاني يدعو إلى الضعف والضعف يدعو إلى التردد‪ ،‬فض ً‬
‫المعاصرة أكثر تعقيداً»‪.‬‬
‫ولم تمنع المواجهة ـ سلباً أ ْو إيجاباً ـ من ظهور الصراع بين لغة عربية حافظت‬
‫على أرستقراطيتها رغم تغلغل الوافد‪ ،‬وبين لغة أخرى تفرعت من اللغة األم‪ ،‬ولكنها‬
‫تحررت من صور اإلعراب وصعوبته‪.‬‬
‫لقد تمخضت المواجهة األولى عن وجود عدة ظواهر لغوية؛ ساهم في خلقها‬
‫اختالف هؤالء األعاجم وفقاً الختالف مجتمعاتهم التي نزحوا منها‪ ،‬ولنا في كتب‬
‫الجاحظ الثالثة «البخالء‪ ،‬والحيوان‪ ،‬والبيان والتبيني» نماذج وأمثلة تدل على كثير منها‪.‬‬
‫فإن تأثير ذلك لم‬
‫وعلى الرغم من شيوع صور اللحن والتحرر من قيود اإلعراب؛ َّ‬
‫يكن كبيراً في العصور اإلسالمية األولى‪ ،‬وذلك لِما تميزت به الفصحى من خصائص‬
‫جعلتها تفرض نفسها في شتى المحافل الثقافية والفكرية التي انتشرت في أجزاء‬
‫ال عن تشجيع خلفاء بني العباس لها‪ ،‬واعتبار‬ ‫كثيرة من المجتمع العباسي‪ ،‬فض ً‬
‫إجادتها مسوغاً من مسوغات التوظيف‪.‬‬
‫َّأما اليوم فقد صارت (العامية) لغة الحياة اليومية‪ ،‬وما نالحظه من انتشار األدب‬
‫الفكاهي والنكات والطرائف في مجتمعاتنا العربية‪ ،‬وهو أمر يمكن إرجاعه إلى ارتباط‬
‫مثل هذه األلوان الشعبية باللهجة العامية المتداولة أكثر من ارتباطها باللغة الفصحى‬
‫غير المتداولة‪.‬‬
‫وال يعني إقرارنا بهذه الحقيقة؛ أننا نشجع العامية‪ ،‬وإنما نحاول أن نضع أمام‬
‫المتلقي الصورة الحقيقية‪ ،‬والتي دفعت البعض‪ ،‬أمثال‪ :‬توفيق الحكيم‪ ،‬ويحيى حقي‪،‬‬
‫وأحمد أمين‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬إلى البحث عن لغة توفيقية ثالثة؛ تجمع بين الفصحى السهلة‬
‫حرفت عن اللغة الفصحى‪ ،‬ومع ذلك بقيت المشكلة قائمة؛‬‫وبين الكلمات العامية التي ِّ‬
‫ألن الوضع اللغوي قد استقر على بقاء العامية كلغة حياة‪ ،‬وانحسار الفصحى في قاعات‬
‫َّ‬
‫الدرس والمؤتمرات والكتابة‪.‬‬

‫((( فيض الخاطر‪ ،‬الجزء العاشر‪ ،‬أحمد أمين‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫ويستمر اآلخر في غزوه لنا مرتدياً أقنعة مختلفة عبر العصور‪ ،‬حيث ظهر في‬
‫وتفشي‬
‫ثوب المماليك والعثمانيين والفرنسيين واإلنجليز‪ ،‬وقد رأينا تراجع الفصحى‪ِّ ،‬‬
‫العامية واألمية في المجتمعات العربية بصفة عامة‪ ،‬حتى كانت العقود األولى من‬
‫القرن العشرين؛ حيث قويت فيها شوكة المحافظين المرتبطين بالتراث؛ فعاد للعربية‬
‫الفصحى أرستقراطيتها‪ ،‬وبقيت العامية تتسرب إلينا من خالل لغة الحوار القصصي‬
‫والمسرحي والشعر العامي‪.‬‬
‫َّأما العقود األخيرة من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين؛ فقد‬
‫وامتد تأثيره‬
‫َّ‬ ‫شهدت تطورات تكنولوجية هائلة‪ ،‬حين غزا «الحاسوب» عالمنا العربي‪،‬‬
‫إلى الدارسين الذين شغفوا بكل ما هو مسموع ومرئي‪ ،‬في حين قلَّت العناية بالكتابة‬
‫فكثرت األخطاء اإلمالئية والنحوية وساء الخط العربي بشكل ملحوظ‪.‬‬
‫إال أن السبيل لمعالجة هذا الضعف اللغوي المستشري‬‫ومع إقرارنا بقتامة الصورة؛ َّ‬
‫في األوصال العربية‪ ،‬يمكن معالجته بالوسائل التالية ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬تنمية الذوق العربي‪ ،‬وتكوين الملكة اللغوية الخاصة ألطفالنا منذ نعومة‬
‫إال بالتمرس على قراءة وحفظ القرآن الكريم‪،‬‬‫أظفارهم‪ ،‬وهذا ال يتأتَّى َّ‬
‫والشعر العربي‪ ،‬والخروج من حيز القاعدة النحوية الجافة‬
‫والحديث النبوي‪ِّ ،‬‬
‫إلى إطار التوظيف الجيد لها من خالل النصوص األدبية المضبوطة‪ ،‬ومن‬
‫والشعر العربي تستوقفه الحركة التي تجئ‬
‫فإن الحافظ للقرآن الكريم ِّ‬‫ثم؛ َّ‬
‫َّ‬
‫في غير موضعها؛ ألنها تأتي مقلقة ألذنه الموسيقية التي اعتادت سماع‬
‫اللغة الصحيحة والجرس اإليقاعي المرتبط بصحتها‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬محاولة الربط بين فروع مادة اللغة العربية في الدرس التعليمي‪ ،‬وتكريس‬
‫االهتمام ببعض المقررات المهملة في تدريس العربية رغم أهميتها‬
‫الشديدة مثل التعبير اإلنشائي‪ ،‬واإلمالء والخط العربي‪ ،‬والقراءة‪ ،‬وتوجيه‬
‫المعلمين إلى الطريقة المثلى من خالل تدريب عملي لتدريس مثل‬
‫هذه المقررات‪.‬‬
‫ِّ‬
‫المشكلة لعقلية الطفل‬ ‫ثالثاً ‪ :‬التركيز في مرحلة الطفولة؛ باعتبارها أهم المراحل‬
‫العربي‪ ،‬على القصائد واألناشيد السهلة بغية تنمية مهارة التذوق والحس‬
‫اللغوي لدى الطفل‪ .‬وهذا يتطلب بطبيعة الحال‪ ،‬اإلعداد الجيد لمدرسي‬
‫اللغة العربية‪ ،‬والسعي إلى تطوير أدائهم‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫رابعاً ‪ :‬االهتمام بوسائل اإلعالم المسموعة والمرئية؛ من أجل االرتقاء بالنطق‬
‫الصحيح‪ ،‬وتكوين جماعة الخطابة في المدرسة؛ يوكل إليها مهمة‬
‫اإلعداد اللغوي الجيد للكلمة الملقاة‪ ،‬والسعي إلى تطعيمها من القرآن‬
‫والشعر العربي‪.‬‬
‫الكريم والحديث النبوي ِّ‬
‫خامساً ‪ :‬اإلفادة من األجهزة التكنولوجية الحديثة‪ ،‬والسيما برنامج الحاسوب لتنمية‬
‫المغنى واالرتقاء بلغة الكتابة‪.‬‬
‫ملكة السماع لروائع الشعر َّ‬
‫سادساً ‪ :‬مواصلة االهتمام بالعربية في جميع المراحل الدراسية بما فيها المرحلة‬
‫الجامعية التي تستلزم جعلها مطلباً جامعياً كمحاولة لمواجهة التحديات‬
‫الناتجة عن العولمة وتمييع الهوية الثقافية‪ ،‬والمساهمة في تخريج بعض‬
‫الكوادر العارفة بقواعد لغتها الفصحى حتى تتكامل جهود المحافظة على‬
‫جماليات الصورة المشرقة للغتنا الجميلة بين معلمي العربية من ناحية‪،‬‬
‫ومعلمي التخصصات العلمية األخرى من ناحية ثانية‪ ،‬بحيث يأتي معلم‬
‫الرياضيات وقد رفع الفاعل ونصب المفعول قراءة وكتابة‪ ،‬وكذلك غيره‬
‫من المعلِّمين‪.‬‬
‫سابعاً ‪ :‬تقييد انتشار شرائط المغنيين الشبان وخضوعها للرقابة اللغوية؛ حرصاً‬
‫ال عن تنقية األسماع من‬ ‫على منع استمرارية األخطاء المعيبة‪ ،‬فض ً‬
‫االنجراف وراء سماع المبتذل من األلفاظ واألساليب‪.‬‬
‫ثامنا ‪ :‬اإلكثار من البرامج الثقافية في المذياع والتلفاز مع ضرورة إعداد التخطيط‬
‫الجيد لهذه البرامج‪ ،‬واختيار أكفأ العناصر للتقديم والمحاورة‪ ،‬وكذا اختيار‬
‫أكثر الضيوف إفادة في شتى المجـاالت الفكرية؛ َّإما ببحثهم الدءوب في‬
‫التراث وتعميق االرتباط به‪ ،‬أو بالربط بينه وبين المعاصرة‪ ،‬وهذا أمر في‬
‫ألن تجاهل التراث وإهماله؛ ال يعني سوى الوقوف‬ ‫غـاية األهمـية‪ ،‬وذلك َّ‬
‫ضد اللغة العربية باعتبارها هدفاً قومياً ودينياً‪.‬‬
‫يتسولون‬
‫َّ‬ ‫أخيـراً؛ ال خوف على «العربية» إنما الخوف على أهلها‪ ،‬الذين راحوا‬
‫لهجات اآلخرين‪ ،‬كما اعتمدوا في الطعام والشراب والدواء‪ ،‬والسالح على خصومهم‬
‫الحضاريين‪.‬‬
‫أبية‪ ،‬أ ْو كما قال عنها عباس‬
‫َّأما (العربية) ذاتها؛ فقد كانت –وستظل‪ -‬شامخة َّ‬
‫وقضت على الفارسية في ربوعها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫العقـاد ‪« :‬إنها غالبت الزمن‪ ،‬وقويت على األحداث‪،‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫وطردت البربرية من أوكارها في‬
‫ْ‬ ‫وحلّ ْت محل السوريانية والقبطية في الشام ومصر‪،‬‬
‫وصمدت فيما بعد‬
‫ْ‬ ‫وأنشأت في األندلس أدباً رفيعاً َع ّمر عدة قرون‪،‬‬
‫ْ‬ ‫شمال إفريقية‪،‬‬
‫لغزو التركية والصينية‪ ،‬وقاومت حبائل لغات المستعمرين من إنجليزية وفرنسية‬
‫وإيطالية‪ ،‬وبقيت لغة قديمة وحديثة‪ ،‬تجمع بين الطارف والتليد‪ ،‬محافظة ومجددة‪،‬‬
‫تستمسك بأصولها‪ ،‬وال تأبى أن تخضع لحاجات العصر ومقتضياته»‪.‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫فضل القرآن عىل العربية‬
‫في كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية» يقول جورجـي زيدان‪« :‬لوال القرآن الكريم‬
‫لكانت لغة العالم العربي لغات متفرقة‪ ،‬يصعب التفاهم بين أصحابها‪ ،‬كما صارت اللغة‬
‫الالتينية بعد زوال دولة الرومان‪ .‬ولواله لكانت كل دولة من هؤالء تتكلم لغة ال تفهمها‬
‫صاحبتها‪ ،‬ومع ذهاب التمدن اإلسالمي‪ ،‬وتقهقر الدولة اإلسالمية‪ ،‬كان يُخشى ضياع‬
‫تلك األمم وفناؤها واندماجها في األمم التي تسلطت عليها‪ ،‬كما أصاب األمم التي‬
‫اندمجت بالعرب بعد اإلسالم‪ ،‬ولكنها اآلن تجتمع وتتكاتف‪ ،‬ألنها تتفاهم بلغة واحدة‬
‫هي لغة القرآن‪ ،‬وتعد نفسها أمة واحدة»‪.‬‬
‫«مـي زيـادة» عن العربية كثيراً‪ ،‬من ذلك قولها‪« :‬لقد ُع َّد ْت‬
‫ّ‬ ‫دافعت األديبة‬
‫ْ‬ ‫وقد‬
‫اليونانية والالتينية في صف اللغات الميتة منذ سقوط مدنيتيهما‪ ،‬فما الذي َحفِظ‬
‫إن الذي كان باعثاً على تكوين‬ ‫بقرون سبعة؟‪َّ .‬‬
‫ٍ‬ ‫حي ًة‪ ،‬بعد زوال المدنية العربية‬
‫العربية َّ‬
‫المدنية العربية هو الذي مازال حافظها إلى اليوم‪ :‬هو القرآن‪ ،‬لذلك ستظل العربية‬
‫حياً‪ ،‬ومادام في أنحاء المسكونة ماليين البشر يضعون يدهم على‬ ‫حي ًة مادام اإلسالم َّ‬
‫قسمون به»‪.‬‬‫القرآن يُ ِ‬
‫وحد اللغة‬
‫وفي هذا الصدد؛ يقول الدكتور طـه حسين(((‪( :‬القرآن الكريم هو الذي َّ‬
‫العربية األدبية بعد أن كانت تختلف لهجاتها باختالف بعض القبائل‪ ،‬و َف ْض ُل القرآن إثر‬
‫ثم لغير العرب من األمم التي خضعت‬ ‫نزوله‪ ،‬هو أنه جعل لغته لغة أدبية للعرب جميعاً‪َّ ،‬‬
‫يكتف بقصر اللهجات القبلية على‬ ‫ِ‬ ‫لم‬
‫إذن ْ‬
‫لسلطان األمة العربية بعد الفتح‪ ،‬فالقرآن ْ‬
‫أن تظل لغة التخاطب العادي دون أن يكون لها تأثير قليل أ ْو كثير في اللغة األدبية‬
‫بل قد أثَّر في لغات كانت حية منتشرة‪ ،‬فأخفاها القرآن من البالد اإلسالمية‪،‬‬ ‫العامة‪ْ ،‬‬
‫وأتاح للغة العربية أن تستأثر بألسنة الناس وأقالمهم وقتاً غير قصير‪ .‬فما أكثر الفرس‬
‫الذين استعربوا‪ ،‬واتخذوا لغة القرآن لغ ًة أللسنتهم حين يتحدثون‪ ،‬وألقالمهم حين‬
‫يكتبون‪ .‬وما أكثر الفرس الذين أصبحوا شعراء‪ ،‬وأصبحت اللغة العربية هي التي‬

‫(( ( من تقديمه لكتاب «أثر القرآن يف اللغة العربية» للشيخ أحمد حسن الباقوري‪.‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫يؤدون بها ِشعرهم‪ ،‬وكذلك كان شأن اليونانية في الشرق األدنى‪ ،‬فقد كانت هي لغة‬
‫الكتابة والتعليم والتأليف‪ ،‬ولم تستطع العربية أن تخفيها من هذا الشرق األدنى‪.‬‬
‫واستأثرت‬
‫ْ‬ ‫ردت لغة اليونان إلى أهلها في البالد اليونانية‪،‬‬
‫ولكن اللغة العربية هي التي ْ‬
‫بألسنة الناس وأقالمهم في هذا الشرق‪ .‬وكثير من الناس في سورية والجزيرة كانوا‬
‫يتكلمون اآلرامية والسوريانية خاصة‪ ،‬كما كان المصريون يتكلمون القبطية‪ ،‬ولكن‬
‫وغلبت اللغة العربية على األلسنة واألقالم‪ .‬وما أسرع‬
‫ْ‬ ‫هذه اللغات تضاءلت شيئاً فشيئاً‪،‬‬
‫ما استأثرت العربية بأهل العراق‪ ،‬وأصبحت كأنها لغتهم منذ ٍ‬
‫وقت بعيد‪.‬‬
‫أن العرب الجاهليين قد انتشروا قبل اإلسالم في الشام والجزيرة والعراق‪،‬‬
‫ومع َّ‬
‫فقد كان أهل هذه البالد محتفظين بلغتهم الخاصة‪ ،‬برغم وجود العرب في هذه‬
‫س المناذرة والغسانيون من ُملك في العراق والشام‪ .‬ولكن ما‬ ‫أس َ‬
‫األقطار‪ ،‬وبرغم ما َّ‬
‫كاد اإلسالم يظهر‪ ،‬وما كادت هذه األقطار تخضع لسلطانه حتى جعلت هذه اللغات‬
‫تتضاءل وتستخفي شيئاً فشيئاً‪ ،‬وتخلفها اللغة العربية حتى أصبحت لغة الناس عامة‬
‫في هذه البالد‪ .‬وما كاد العرب بعد الفتوح يدخلون في بالد الفرس‪ ،‬ويستقرون فيها‪،‬‬
‫حتى تعلم الفرس هذه اللغة الجديدة‪ ،‬وغلبت على ألسنة كثير منهم وأقالمهم‪ ،‬وما‬
‫أكثر الفرس الذين شاركوا في إنشاء علوم اللغة العربية وتدوينها‪ ،‬وما أكثر الفرس‬
‫الذين استأثروا ببعض هذه العلوم‪ ،‬حتى أصبحوا كأنهم أصحابها‪ .‬وكلنا يعلم مكانة‬
‫كتاب «سيبويه» بين كتب النحو‪ .‬وكلنا يعلم أيضاً استئثار الفرس بتدوين علوم‬
‫البالغة العربية‪.‬‬
‫يدرس كتب الفرس في البالغة‪ ،‬وال يكاد‬ ‫وليس من القليل أن نرى األزهر ِّ‬
‫يلتفت إلى غيرها‪ .‬وكانت دروس البالغة في األزهر مقصورة على كتاب «التلخيص»‬
‫السكاكي‪ ،‬وشروح هذا التلخيص كانت‬ ‫الذي اختصر فيه الخطيب القزويني كتاب َّ‬
‫فارسية المؤلّف‪ ،‬كما كان المتن‪ .‬ولم يعرف األزهر لهذا التلخيص َّ‬
‫إال شروح التفتازاني‬
‫«المختصر» و«المط ّول» و«األطول»‪.‬‬
‫فدرس‬
‫يجدد في درس البالغة‪ّ ،‬‬ ‫وجاء األستاذ اإلمام «محمد عبده» وأراد أن ِّ‬
‫أن فلسفة‬
‫«أرسار البالغة» و«دالئل اإلعجاز» لعبد القاهر الجرجاني‪ .‬وأكثر من هذا؛ َّ‬
‫مت إلى العربية عن اليونانية أحياناً‪ ،‬وعن السوريانية أحياناً أخرى‪،‬‬
‫ُرج ْ‬
‫اليونان حين ت ِ‬
‫أقبل الفرس على هذه التراجم‪ ،‬وتعمقوها‪ ،‬وأكثروا الكتابة والتأليف فيها‪ .‬والغريب‬
‫استأثرت بدروس األزهر‪ .‬وعن كتبهم تعلمنا‬
‫ْ‬ ‫أن كتبهم في هذه الفلسفة هي التي‬
‫َّ‬
‫المنطق‪ ،‬وما بعد الطبيعة‪ ،‬حين كنا ُط َّ‬
‫الباً في األزهر‪.‬‬

‫‪- 122 -‬‬


‫الشعر منذ أواسط القرن الرابع‬
‫أن الفرس قد أحبوا لغتهم الفارسية‪ ،‬ونظموا فيها ِّ‬
‫ومع َّ‬
‫للهجرة‪ ،‬فقد ظلت اللغة العربية لغة العلم والفلسفة عندهم إلى أواخر القرون الوسطى‪.‬‬
‫وانظر إلى كتب ابن سينا‪ ،‬والتفتازاني‪ ،‬والسيد الجرجاني‪ ،‬والطوسي‪ ،‬وغيرهم‪ .‬وكل‬
‫هذا بفضل القرآن الكريم‪ ،‬فبفضله انتشر اإلسالم‪ ،‬وبانتشار اإلسالم والقرآن انتشرت‬
‫بل تجاوزهم إلى أهل الهند‪ ،‬فكثير‬ ‫اللغة العربية‪ .‬ولم يقف األمر عند الفرس في الشرق‪ْ ،‬‬
‫من علماء الهند الذين أسلموا قد شاركوا في هذه العلوم‪ ،‬وشاركوا فيها باللغة العربية‪.‬‬
‫استعربت مصر‪ ،‬واستعرب شمال إفريقية‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ولم يقتصر األمر على الشرق‪ ،‬فقد‬
‫مستعربة أ ْو عربية‪ .‬واستعربت إسبانيا‪ ،‬ومع أن اإلسبانية قد غلبت‬
‫َ‬ ‫ومازالت هذه البالد‬
‫عليها في آخر القرون الوسطى‪ ،‬فآثار اللغة العربية األندلسية مازالت باقية‪ ،‬ال يمكن‬
‫يت حضارة الغرب‪.‬‬‫ُس ْ‬‫يت ون ِ‬ ‫أن تُمحى‪ ،‬وال أن تنسى‪َّ ،‬‬
‫إال إذا ُم ِح ْ‬
‫في كتابه «أثر القرآن يف اللغة العربية»((( يقول الشيخ أحمد حسن الباقـوري ‪:‬‬
‫حت‪ ،‬وقد كان‬‫«يحدثنا التاريخ عن أمم كثيرة‪ ،‬سادت حتى ملكت‪ ،‬وضعفت حتى َّام ْ‬ ‫ِّ‬
‫لتلك األمم لغات سايرت حياتها السياسية جنباً إلى جنب‪ ،‬وكانت مرآ ًة تنعكس عليها‬
‫ثم أصبحت يعرفها‬ ‫صور وجودها وألوان حياتها‪ ،‬فرقيت برقيها‪ ،‬وضعفت بضعفها‪َّ ،‬‬
‫عفت آثاره ودرست معالمه‪ ،‬فال يدركه الناس عن طريق‬ ‫التاريخ كما يعرف الشيء‪ْ :‬‬
‫متحدث‪ .‬فاللغة الفينيقية‪ ،‬لغة أهل لبنان‬
‫ّ‬ ‫وجود قائم‪ ،‬وإنما يدركونه من طريق تاريخ‬
‫قديماً‪ ،‬واللغة اآلشورية‪ ،‬لغة أهل نينوى‪ ،‬واللغة المصرية وغيرها مما لسنا بسبيل‬
‫إال في بطون الصحف وأعماق القبور‪ ،‬طوى الزمن صفحتها‪،‬‬ ‫حصره‪ ،‬ال ترى لها ظ ً‬
‫ال َّ‬
‫ومحا آيتها على ما كان ألهلها من حضارة رائعة‪ ،‬ومدنية بالغة‪ ،‬وسلطان عظيم‪ .‬وذلك‬
‫أن اللغة ـ ككل مظهر اجتماعي ـ خاضعة لقانون النشوء واالرتقاء‪ ،‬فهي تقوى وتضعف‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وترقى وتنحط‪ ،‬ثم تحيا وتموت‪ ،‬فإذا رقيت األمة أ ْو انحطت‪ ،‬وضعفت أ ْو قويت‪ ،‬ظهر‬
‫ذلك في لغتها جلياً واضحاً‪.‬‬
‫الدين‬‫ألن الدفاع عنه –لكونه أصل ِّ‬ ‫َّ‬
‫لعل بقاء العربية راجع إلى الدفاع عن القرآن‪َّ ،‬‬
‫بل ألنها السبيل إلى‬ ‫ومستقى العقيدة‪ -‬يستتبع الدفاع عنها‪ ،‬ألنها السبيل إلى فهمه‪ْ ،‬‬
‫النبي وأصحابه‪ .‬ول ْو‬
‫وأن القرآن من عنده‪ ،‬ال من وضع ّ‬ ‫بأن اإلسالم دين الله‪َّ ،‬‬
‫اإليمان؛ َّ‬
‫فرضنا أنه نزل كما نزل غيره من الكتب المقدسة حكماً وأحكاماً‪ ،‬وأمراً ونهياً‪ ،‬ووعداً‬
‫عن الناس بلفظه‪ ،‬ولم ينظروا إليه‬ ‫فلم يُ َ‬
‫يتحر هذا األسلوب الذي جاء به‪ْ ،‬‬
‫ولم َّ‬ ‫وعيداً‪ْ ،‬‬

‫((( أثر القرآن يف اللغة العربية‪ ،‬أحمد حسن الباقوري‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫ال‪ ،‬وبياناً شافياً‪ ،‬وبالغة معجزة‪ ،‬لكان من الممكن أن تزول هذه اللغة بعد أن‬
‫قوالً فص ً‬
‫يضعف العنصر الذي يتعصب لها‪ ،‬على أنها لغة قومية‪ ،‬ومن ذلك تضعف هي‪ ،‬وتتراجع‬
‫حتى تعود لغ ًة أثرية‪.‬‬
‫وفي اللغة «العربية» ما يؤكد هذا الذي نقول؛ فإنها ـ وهي لغة كتاب مقدس ـ‬
‫أن «التوراة» جاءت كما جاء «القرآن» فتحدث اليهود على‬ ‫صارت إلى ذمة التاريخ‪ .‬ول ْو َّ‬
‫النحو القرآني الحتفظوا بلغتهم‪ ،‬ألن في ذلك احتفاظاً بمعجزة نبيهم‪ ،‬فكان ممكناً أن‬
‫تعن بالناحية اللفظية‪ ،‬إ ْذ ال حكمة‬
‫لم َ‬‫نرى اليوم لغة موسى عليه السالم‪ ،‬ولكن التوراة ْ‬
‫ألن اليهود لم يبلغوا من قوة اللسن‪ ،‬وحسن البيان‪ ،‬أن يروا التقصير‬ ‫تدفعها إلى ذلك‪َّ ،‬‬
‫في ذلك شيئاً له قيمته وخطورته‪ ،‬كما كان الشأن عند العرب‪ ،‬حتى تتحداهم التوراة‬
‫ُعن َّ‬
‫إال‬ ‫لم ت َ‬
‫لتعجزهم‪ ،‬ومن ذلك تلجئهم إلى اإلذعان وتحملهم على الخضوع‪ ،‬لذلك ْ‬
‫ِي الناس بما فيها من ذلك ينقلونه إلى اللغة التي يريدون‪،‬‬ ‫بالناحية االختراعية‪ ،‬ف ُعن َ‬
‫ويفرغونه في القالب الذي يشاءون‪ ،‬ماداموا ال حاجة بهم إلى الحرص على األلفاظ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ومن ذلك اندفعت العبرية تصارع األحداث الزمنية بما فيها من مناعة ذاتية‪ ،‬خاضعة‬
‫خضوعاً مطلقاً لقانون النشوء واالرتقاء‪ ،‬من غير أن يكون لها سند تركن في حياتها‬
‫إليه‪ ،‬وتع ّول في بقائها عليه‪ ،‬فمازالت تنمو وتضعف‪ ،‬وتلفظ قديماً‪ ،‬وتؤى حديثاً‪ ،‬حتى‬
‫وصلت إلى ما يسميه الناس اليوم العبرية‪ .‬وشتان ما هي‪ ،‬ولغة موسى عليه السالم‪.‬‬
‫العقـاد ‪« :‬ولقد قيل كثيراً إن العربية بقيت ألنها‬
‫وفي هذا المعنى؛ يقول عباس َّ‬
‫لغة القرآن‪ .‬وهو قول صحيح ال ريب فيه‪ ،‬ولكن القرآن الكريم إنما أبقى اللغة؛ ألن‬
‫بالدين المقصور على شعب أ ْو قبيل‪ .‬وقد ماتت‬ ‫اإلسالم دين اإلنسانية قاطبة‪ ،‬وليس ِّ‬
‫«العبرية» وهي لغة دينية أو لغة كتاب يدين به قومه‪ ،‬ألنها فقدت المرونة التي تجعلها‬
‫لغة إنسانية‪ ،‬وتخرجها من حظيرة العصبية الضيقة حيث وضعها أبناؤها منذ قرون»‪.‬‬
‫ثم يضيف َّ‬
‫العقاد ‪ :‬إن هذه الفضيلة اإلنسانية التي ال تفرق بين العربي واألعجمي‬
‫وال بين القرشي والحبشي‪ ،‬لهي التي أنهضت لخدمة اللغة أناساً من األعاجم غاروا‬
‫–أي أنهم غاروا عليها من لغة أ ّمهاتهم وآبائهم‪ ،‬ألنها لغتهم‬
‫عليها من حيف األعجمية ْ‬
‫على المساواة بينهم وبين جميع المؤمنين بالقرآن الكريم كتاب اإلسالم»‪.‬‬
‫«وستبقى العربية ما دام لها أنصار يريدون لها البقاء‪ .‬ولم ينقطع أنصارها في عصرنا‬
‫الحاضر‪ْ ،‬‬
‫بل نراهم بحمد الله يزدادون ويتعاونون‪ .‬ويتالقى أبناء البالد المختلفة على خدمتها‬
‫ودعمها‪ ،‬ألنهم مختلفون بمواقع البالد متفقون بمقاصد الضمائر واأللسنة واألفكار»‪.‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫فالعقاد يشير إلى أن إنسانية اإلسالم وعالمية تشريعه‪ ،‬ساعدت على انتشار‬
‫وحد في المؤمنين به (مقاصد) الضمائر‬ ‫العربية التي هي لغة كتابه (القرآن) الذي ّ‬
‫واأللسنة واألفكار‪ ،‬على الرغم من اختالفهم في مواقع البالد‪.‬‬
‫أن األلفاظ التي‬
‫لعل من فضائل القرآن الكريم وتأثيره البالغ في اللغة العربية؛ َّ‬ ‫َّ‬
‫استخدمها‪ ،‬صارت هي األهم‪ ،‬واألبهى‪ ،‬واألجمل‪ ،‬واألكثر شيوعاً وتداوالً على األلسنة‪.‬‬
‫والتي أُطلِق عليها (األلفاظ اإلسالمية) تلك التي ت ِّ‬
‫ُوس َع في داللتها لتتسع للمعاني التي‬
‫حدثت عن القرآن‪.‬‬
‫ال ـ جاء بعبادات لم تكن في جملتها معروفة للعرب‪ ،‬كما جاء بمبادئ‬ ‫فالقرآن ـ مث ً‬
‫يسميه العلماء "الحقائق الشرعية" وبديهي ـ إذا كان‬ ‫وتعاليم لم يكونوا أيضاً يعرفونها مما ِّ‬
‫ألن الداللة فرع‬‫العرب ال يعرفونها ـ أن ال يكون في لغتهم ما يدل عليها‪ ،‬ويكشف عنها‪َّ ،‬‬
‫الوضع‪ ،‬والوضع موقوف على معرفة الموضوع له‪ ،‬وإ َّال كلفنا اللغة شططاً‪ ،‬وألزمناها محاالً‪،‬‬
‫ُعرف أن تحققه وتقوم به‪ .‬لذلك أخذت تلك‬ ‫ليس في طوقها وال في طوق أية لغة ُع ِرفت وت َ‬
‫المعاني التي استحدثها القرآن باشتراعه‪ ،‬أسما ًء كانت لمسميات بينها وبين هذه صلة من‬
‫الصالت‪ ،‬فمن ذلك‪ :‬لفظ (املؤمن) كان يُعرف من اإليمان‪ ،‬بمعنى التصديق مطلقاً‪ .‬و(الكافر)‬
‫الرطبة من‬‫من الكفر بمعنى الستر‪ ،‬و(الفاسق) لم يكن يعرف إ َّال من الفسق بمعنى خروج ُ‬
‫قشرتها‪ ،‬و(الصالة) بمعنى الدعاء‪ ،‬و(الزكاة) بمعنى النماء‪ ،‬و(الصوم) وأصله اإلمساك مطلقاً‪،‬‬
‫و(الحج) وأصله القصد كذلك ‪ ..‬وغير ذلك كثير يحتاج في اإلحاطة به إلى بحث خاص‪.‬‬
‫ومع انتشار اإلسالم؛ ظهرت كثير من المصطلحات السياسية‪ ،‬واإلدارية التي‬
‫تبعت قيام الخالفة اإلسالمية‪ ،‬مثل ‪ :‬الخليفة‪ ،‬الوزارة‪ ،‬الكتابة‪ ،‬الحجابة ‪ ..‬إلى غير ذلك‬
‫مما امتألت به القواميس‪ ،‬ولم يكن حظ المصطلحات العلمية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والقانونية‪،‬‬
‫بل ظهرت معاجم لغوية خاصة بهذه العلوم‪.‬‬ ‫والطبية‪ ،‬والفقهية‪ ،‬واألدبية بقليل‪ْ ،‬‬
‫على جانب آخر؛ فقد أهمل القرآن ألفاظاً‪ ،‬لم تستطع معانيها أن تعيش إلى‬
‫ثم اندثرت‪ ،‬وماتت إلى األبد؛ من ذلك كلمة (املرباع)‬
‫جانب القرآن‪ ،‬ألنه يأباها‪ ،‬ومن َّ‬
‫وهو ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية‪ ،‬و(النشيطة) وهي ما أصاب‬
‫الرئيس قبل أن يصير إلى القوم‪ ،‬أو ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغ الهدف‪،‬‬
‫و(املكس) وهو دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في األسواق الجاهلية‪.‬‬
‫معان جديدة‪،‬‬
‫وهناك ألفاظ صرفها القرآن عن مدلولها القديم في البيئة العربية إلى ِ‬
‫أبيت اللعن) وغير ذلك‪.‬‬
‫كقول العبد لسيده (ربِّـي)‪ .‬وألفاظ استهجنها‪ ،‬كقولهم للملِك ( َ‬

‫‪- 125 -‬‬


‫لم يقرها اإلسالم‪ْ ،‬‬
‫بل‬ ‫ألن معانيه ْ‬
‫وهناك نوع آخر من األلفاظ أهملها القرآن‪ ،‬ال َّ‬
‫ألنها غريبة حوشية‪ ،‬أ ْو خشنة جافة أهملها العرب حين درجوا في حياة الحضر‪ ،‬ولم‬
‫يذكرها َّ‬
‫إال من يريد التق ّعر‪ ،‬فتسخر منهم العامة‪ ،‬وتسخر بهم الخاصة‪.‬‬
‫الخالصـة؛ أن العربية كغيرها من لغات البشر‪ ،‬خاضعة للتغير والتبدل‪ ،‬وللزوال‬
‫وأن (القرآن) بحكم أنه لسان اإلسالم الناطق‪ ،‬ومعجزته الباقية‪ ،‬هو الذي‬ ‫والفناء‪َّ ،‬‬
‫حفظها من الضياع‪ ،‬ألنه جاء على وجه تحدى به العرب تحدياً صارخاً‪ ،‬فذلُّوا‪ ،‬واستكانوا‪.‬‬
‫وقد حرص كل مسلم على ألفاظه احتفاظاً بالمعجزة‪ ،‬وتعبداً بتالوته‪ .‬ولو أنه جاء‬
‫كما جاء غيره من الكتب مجرداً عن اإلعجاز‪ ،‬لما كان حتماً على الناس أن يلزموا‬
‫بل كانوا يأخذون ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم‪ ،‬بعد أن ينقلوه‬ ‫أنفسهم بحفظه‪ْ ،‬‬
‫إلى لغاتهم‪ ،‬فتضطر العربية أن تقف وحدها في معترك الحياة‪ ،‬فال تزال تتطلع إلى‬
‫لغتين أو لغات متباينة‪ ،‬أو تمشي إلى الموت‬ ‫التجديد حتى تصبح في مبدئها ونهايتها ْ‬
‫وتدب إلى الفناء‪ ،‬حتى تصبح في ذمة التاريخ‪ .‬والت حين مناص‪.‬‬

‫‪- 126 -‬‬


‫النبأ العظيم‬
‫حقاً؛ إن (القـرآن) هو النبأ العظيم؛ الذي أعجز الفصحاء والبلغاء‪َّ .‬‬
‫وظل معجز ًة‬
‫تتأبَّى على اإلتيان بمثلها‪ ،‬ومفخر ًة تتضاءل أمامها مفاخر ُ‬
‫األ َمم والحضارات‪.‬‬
‫وتتحدى علوم األولين واآلخ ِرين‪ ،‬بما‬
‫َّ‬ ‫تتحدى عقول البشر‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أجل‪ .‬إنها معجزة‬
‫حوته من ألوان اإلعجاز المختلفة‪ .‬فقد بلغ غاية الفصاحة ونهاية البالغة‪ ،‬وامتاز بأنه‬
‫خطاب يجمع بين الخوف والرجاء‪ ،‬وبين الترغيب والترهيب‪ ،‬وبين الوعد والوعيد‪،‬‬
‫وبين البشارة والنذارة‪ ،‬وبين العمل للدنيا والتوجه لآلخرة؛ فهو خطاب وسطي‪ ،‬يخاطب‬
‫بل يأتي على هذا وذاك‪ ،‬بما‬ ‫جوانب اإلنسان كافة‪ ،‬ال يركز على جانب ويدع جانباً‪ْ ،‬‬
‫يناسب المقام‪ ،‬وبما يقتضيه الحال‪  .‬‬
‫ولقد واجه "القرآن" منذ لحظة نزوله‪ ،‬هجوماً ضارياً ومعارك شرسة‪ ،‬لكنه خرج منتصراً‬
‫المن ِك ِرين‪ ،‬وافتراءات الحاقدين‪ .‬حتى في عصر نزول القرآن –‬ ‫ورد شبهات ُ‬ ‫في كل معركة‪َّ ،‬‬
‫وتواترت األخبار على أنه أرقى عصور العرب لغ ًة وبياناً‪ ،‬وأكثرها‬ ‫ْ‬ ‫ذلك العصر الذي اتفق الرواة‬
‫وفرة بأرباب الفصاحة وفرسان البالغة‪ ،‬وكانوا أشد حرصاً على التمسك بما كانوا عليه‬
‫سفه‬ ‫خطئ آراءهم‪ ،‬ويُ ِّ‬ ‫وحمية لعقائدهم وعقائد أسالفهمـ نزل القرآن يُ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫من أديان آبائهم‪،‬‬
‫أحالمهم‪ ،‬ويحتقِر أصنامهم‪ ،‬ويدعوهم إلى ما ال تعهده أيامهم‪ ،‬وال ُح ّجة بين يدي ذلك‬
‫بل أباح لهم في كل مرة أن‬ ‫تحديهم باإلتيان بمثل أقصر سورة من ذلك الكتاب‪ْ ،‬‬ ‫كله إ َّال ِّ‬
‫ون ال َّل ِه‬‫يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا ﴿ َفأْتُوا ِب ُسو َر ٍة ِّمن ِّمث ِْل ِه َوا ْد ُعوا شُ َهدا َءكُم ِّمن ُد ِ‬
‫� ﴾ [البقرة ‪ .]23:‬ثم رماهم والعالم كله بالعجز دون مواربة‪ ،‬فقال ‪ُ ﴿ :‬قل َّل ئِ ِن�‬ ‫ِإن كُن ُت ْم َص ِاد ِق ي ن َ‬
‫َان بَ ْع ُض ُه ْم ِل َب ْع ٍض‬ ‫نس َوا ْل ِج ُّن َع َل أَن يَأْتُوا ِب ِمث ِْل هَ َذا الق ُْر ِآن ال َ يَأْت َ‬
‫ُون ِب ِمث ِْل ِه َو َل ْو ك َ‬ ‫ال ُ‬ ‫ْاج َت َم َع ِت ِإ‬
‫بالحكم القاطع المؤبد‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬ف ِإن َّل ْم تَف َْع ُلوا َو َلن‬ ‫ظَ ِه ي�اً ﴾ [اإلسراء ‪ .]88:‬وأجهز عليهم ُ‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫ين ﴾ [البقرة ‪.]24 :‬‬ ‫تَف َْع ُلوا َفاتَّقُوا ال َّنا َر ا َّل ِ ي� َو ُقو ُدهَ ا ال َّن ُ‬
‫اس َوا ْل ِح َجا َر ُة أ ِع َّد ْت ِل ْلك َِاف ِر َ‬
‫سواهم باألحجار‪.‬‬ ‫استفزهم بقوله ﴿ َو َلن تَف َْع ُلوا ﴾ ثم َّ‬
‫هددهم بالنار‪ ،‬ثم َّ‬ ‫َّ‬ ‫انظر كيف‬
‫األلداء‪،‬‬
‫فوا الله؛ ل ْو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم األعداء ّ‬
‫وأُباة الضيم األعزاء‪ ،‬وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم‪ ،‬لكنهم لم يجدوا ثغرة‬
‫ينفذون منها إلى معارضته‪ ،‬وال ُسلَّماً يصعدون به إلى مزاحمته‪ْ ،‬‬
‫بل وجدوا أنفسهم‬

‫‪- 127 -‬‬


‫وجروا أذيال الخيبة‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫وحق ْت‬ ‫أمام ط ْو ٍد شامخ‪ّ ،‬‬
‫فخروا صاغرين‪ ،‬وأصيبوا بالعجز المهين‪ّ ،‬‬
‫العلي على جميع األحكام‪.‬‬
‫للكتاب العزيز الكلمة ال ُعليا على كل كالم‪ ،‬وقضى حكمه ّ‬
‫ـي) أعظم معجزة وأقوى ُح ّجة ّ‬
‫وأدل برهان‬ ‫ُ‬
‫أليس في ظهور هذا الكتاب على لسان (أ ِّم ّ‬
‫والحكم‬
‫على أنه ليس من صنع البشر‪ ،‬وإنما هو النور المنبعث عن شمس العِلم اإللهي‪ُ ،‬‬
‫الصادر عن المقام الرباني‪.‬‬
‫ثم إنه‬
‫"إن األسلوب القرآني مختلف عن غيره‪َّ ،‬‬
‫وفي هذا‪ ،‬يقول د‪ .‬فيليب حتى‪َّ :‬‬
‫ال يقبل المقارنة بأسلوب آخر‪ ،‬وال يمكن أن يُقلَّد‪ ،‬ألنه إعجاز إلهي‪ ،‬فمن جميع‬
‫المعجزات كان القرآن المعجزة الكبرى‪ .‬وهو الذي حفظ اللغة العربية وصانها من أن‬
‫تتمزق إلى لهجات"‪.‬‬
‫ويوافقه الرأي ذاته العالم اللغوي ‪ Hanna john‬في كتابه "قصة اإلنسان ‪Human‬‬
‫البد من اإلقرار بأن القرآن ـ فض ً‬
‫ال عن كونه كتاب هداية وتشريع ـ فهو‬ ‫‪" : "story‬إنه َّ‬
‫أيضاً دستور خالد للفصحى‪ ،‬ولطالما يعود إليه أئمة اللغة في بالغة الكلمة وبيانها‪،‬‬
‫سواء كانوا هؤالء األئمة مسلمين أم مسيحيين‪ ،‬وإذا كان المسلمون يعتبرون أن‬
‫صوابية لغة القرآن هي نتيجة محتومة لكون القرآن من ّزال وال يحتمل التخطئة‪،‬‬
‫فالمسيحيون يعترفون أيضاً بهذه الصوابية‪ ،‬ويرجعون إليه لالستشهاد بلغته الصحيحة‬
‫(((‬
‫كلما استعصى عليهم أمر من أمور اللغة"‪.‬‬
‫يجتث‬
‫ّ‬ ‫واآلخرون على أن هذا القرآن له جذور في الروح ال‬ ‫وقد أجمع األولون ِ‬
‫منها بسهولة‪ ،‬وله وقع في النفس واستجابة عجيبة‪ ،‬حتى المعاندين من فرسان‬
‫عبر‬
‫أقروا أنهم سمعوا كالما ليس من كالم البشر‪ ،‬وقد َّ‬ ‫البالغة المعاصرين للدعوة‪ّ ،‬‬
‫كثير من زعمائهم عن هذا الموقف‪ ،‬فهذا الكافر "عتبة بن ربيعة" حين سمع من‬
‫الرسول اآليات األولى من سورة " ُف ِّصلت" ورجع إلى قومه‪ ،‬فسألوه‪ :‬ما وراءك يا أبا‬
‫بالشعر‪ ،‬وال بالسحر‪،‬‬
‫سمعت مثله قط‪ ،‬ما هو ِّ‬
‫ُ‬ ‫سمعت قوالً ما‬
‫ُ‬ ‫الوليد؟‪ .‬فقال‪" :‬ورائي أني‬
‫حمـد وبين ما هو‬ ‫وال بالكهانة‪ ،‬يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي‪ ،‬وخلُّوا بين ُم ّ‬
‫فإن لكالمه سيكون شأن عظيم"‪.‬‬ ‫فيه‪َّ ،‬‬
‫"إن له‬ ‫كذلك‪" ،‬الوليد بن المغيرة" عندما سمعه لم يتمالك نفسه َّ‬
‫إال أن قال ‪َّ :‬‬
‫وإن أسفله لمغدِق‪ ،‬وما هو بقول البشر‪،‬‬
‫وإن أعاله لمثمِر‪َّ ،‬‬
‫وإن عليه لطالوة‪َّ ،‬‬‫لحالوة‪َّ ،‬‬
‫وإنَّه ليعلو وال يُعلَى عليه"‪.‬‬

‫((( مح َّمد مشت َهى األممو محمد عبد الشافي القوصي‪ ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 128 -‬‬


‫وقد جاء صاحب كتاب (حضارة اإلسالم) المستشرق جرونباوم ‪ Grunbaum‬في‬
‫القرن العشرين‪ ،‬ليؤكد ذات المعنى‪ ،‬فيقول‪" :‬القرآن ظاهرة لم يسبق لها مثيل في‬
‫إن جاز القول ـ‬ ‫نبي أن يخترعها‪ْ ،‬‬
‫بل هي ـ ْ‬ ‫اللسان العربي‪ ،‬وليست آياته مما يستطع ّ‬
‫حمد أن يضيف إليه كلمة واحدة‪ ،‬أو‬
‫الصورة العربية لكلمة الله نفسه‪ ،‬وال يستطيع ُم ّ‬
‫يلغي منه كلمة واحدة"‪.‬‬
‫من هنـا؛ فإننا ندعو العالم كله (المؤمنين والجاحدين) وننادي الدنيا كلها (اإلنس‬
‫والجن) أن تفتح قلوبها وعقولها‪ ،‬ثم تقرأ هذا الكتاب العزيز‪ ،‬وتتدبر ألفاظه وأحكامه‬
‫الجملة القرآنية وعظمتها‪ ،‬وكيف استطاعت بأقصر‬ ‫ومعانيه ومراميه‪ ،‬وتتأمل في دقة ُ‬
‫جلية في القرآن كله‪ ،‬مهما اختلفت‬
‫عبارة الداللة على أوسع معنى‪ ،‬وهذه ظاهرة واضحة ّ‬
‫بحوثه وموضوعاته‪ ،‬فال تجد كلمة زائدة يمكن االستغناء عنها‪ ،‬فانظر على سبيل المثال ‪:‬‬
‫تحدث القرآن عن الضمانات التي أعطاها آلدم‪ ،‬مما يحتاجه اإلنسان في‬ ‫كيف ّ‬
‫حياته من كل ما يدخل في مقومات بقائه وعيشه‪ ،‬لقد وضع البيان اإللهي هذه‬
‫االحتياجات كلها في جملتين فقط‪ِ ﴿ :‬إ َّن َلكَ أَال َّ ت َُجو َع ِفي َها َوال َ ت َْع َرى‪َ .‬وأَنَّكَ ال َ تَظْ َمأُ‬
‫ِفي َها َوال َ ت َْض َحى ﴾ [طه‪.]118-119:‬‬
‫وتأمل إلى هذه اآلية‪ ،‬وقد تضمنت ُحكماً من األحكام الشرعية المهمة‪ ،‬وهي قوله‬
‫�﴾‬ ‫انب ْذ ِإ َل ْي ِه ْم َع َل َس َو ٍاء ِإ َّن ال َّلهَ ال َ يُ ِح ُّب الخَ ا ِئ ِن ي ن َ‬
‫تعالى ‪َ ﴿ :‬و ِإ َّما تَخَ ا َف َّن ِمن َق ْو ٍم ِخ َيان ًَة َف ِ‬
‫[األنفال ‪.]58 :‬‬
‫فمن يتأمل في هذه اآلية‪ ،‬يجد نفسه أمام أسلوب فريد‪ ،‬ليس من دأب اإلنسان‬
‫أن يتأتَّى له التعبير بمثله‪ ،‬كما يشعر بعجزه في نقل معنى هذه اآلية بألفاظ من عنده‪.‬‬
‫يغت في آيتين ‪-‬فقط‪-‬‬‫وانظر إلى أحكام الميراث في كتاب الله‪ ،‬وتأمل كيف ِص ْ‬
‫حوت أحوال الوارثين‪ ،‬ونصيب كل منهم في كل حال من األحوال‪،‬‬ ‫من آيات القرآن‪ْ ،‬‬
‫فن مستقل يمثِّل شطراً كبيراً من األحكام الشرعية‪،‬‬
‫ولقد انبثق من هاتين اآليتين ٌّ‬
‫سمى بعلم الميراث؛ الذي أدهش حكماء الدنيا وفالسفتها‪.‬‬
‫وهو ما يُ ّ‬
‫نت ثالثة وعشرين‬‫تضم ْ‬
‫يغت من ستة أسطر قرآنية‪ّ ،‬‬ ‫ْ‬
‫بل انظر إلى آي ٍة واحدةٍ‪ِ ،‬ص ْ‬
‫ُحكماً مما يتعلق بنظام األسرة‪ ،‬ل ْو حاول أبلغ الناس أن ِّ‬
‫يعبر عن هذه األحكام القتضى‬
‫منه ذلك ما ال يقل عن ثالثين سطراً من الكالم‪ْ ،‬‬
‫أي أضعاف وأضعاف النص القرآني‪.‬‬
‫اب أُ ْح ِك َم ْت آيَاتُهُ ث ُ َّم ُف ِّص َل ْت ِمن َّل ُد ْن َح ِك ٍيم خَ ِب ي ٍ� ﴾ [هود ‪.]1 :‬‬
‫نعم‪ .‬إنه ﴿ ِك َت ٌ‬

‫‪- 129 -‬‬


‫يقول الدكتور عبد الصبور شاهين((( ‪" :‬لقد كان القرآن الكريم بحق زلزاالً هائ ً‬
‫ال‬
‫رج أنحاء الحياة العربية على اختالف مستوياتها‪ ،‬والسيما الجانب‬‫إن جاز التعبير ـ َّ‬
‫ـ ْ‬
‫لم يعهدوه من قبل في لغة شعرائهم‬ ‫اللغوي والبياني‪ ،‬فقد واجه العرب في لغتهم شيئاً ْ‬
‫وخطبائهم‪ ،‬كان جديداً في كل شيء قام به بيانه‪ ،‬فاأللفاظ المعروفة بأصواتها تختلف‬
‫عما عرفوه بمعانيها القرآنية‪ ،‬واختالف معاني األلفاظ يقتضي من القارئ أن يتعرف عليها‬
‫حتى يفهم المراد من الجمل والعبارات‪ ،‬وحتى يستوعب المفهوم الكامل للنص المقروء‪.‬‬
‫ولنأخذ من القرآن آياته األولى التي بهر بها العرب‪ ﴿ :‬ا ْقرأْ ِب ْ‬
‫اس ِم َربِّكَ ا َّل ِذي خَ َل َق‪.‬‬
‫أ‬
‫ان َما َل ْم يَ ْع َل ْم ﴾‬ ‫نس َ‬ ‫ان ِم ْن َع َل ٍق‪ .‬ا ْق َرأْ َو َربُّكَ الَك َْر ُم‪ .‬ا َّل ِذي َع َّل َم ِبا ْل َق َل ِم‪َ .‬ع َّل َم ِإ‬
‫ال َ‬ ‫نس َ‬ ‫خَ َل َق ِإ‬
‫ال َ‬
‫[العلق ‪.]1-5 :‬‬
‫فهذه آيات خمس‪ ،‬تضمنت من األلفاظ مجموعة ال تزيد على عشرة‪ ،‬ولسنا‬
‫نستطيع القول بأن عرب الجاهلية كانوا يجهلون هذه األلفاظ‪ ،‬ولكنا نملك الجزم بأن‬
‫كل لفظ منها كان يحمل معنى ال يعرفه جاهلي‪ ،‬وهذه هي المباينة بين ما ألِفوه من‬
‫قدرتهم على البيان‪ ،‬وبين ما تميز به بيان القرآن من اقتدار‪.‬‬
‫كان العرب يعرفون كلمة (اقـرأ) ومعنى القراءة‪ ،‬ولكن المراد بهذه اللفظة في‬
‫اآليات‪ ،‬ال عالقة له بمعرفتهم هذه‪ ،‬فاألمر (اقـرأ) أمر إلهي‪ ،‬وهو موجه إلى من ال‬
‫يعرف القراءة وال الكتابة بالمفهوم اللغوي‪ ،‬وقد وضع الوحي بين يديه مادة القراءة‪ ،‬فإذا‬
‫هي معان ال تمت إلى مذخور العقل العربي بصلة ما‪ ،‬وذلك متمثل في الربط البديع‬
‫الرب الخالق‪ ،‬وقد كانت للعرب الجاهليين فكرة عن اإلله مشوهة‪،‬‬ ‫بين القراءة واسم ّ‬
‫أن مسافة هائلة كانت تفصل بين‬ ‫مغلوطة‪ ،‬تختلط بفكرة الوثنية المشركة‪ ،‬فال ريب َّ‬
‫الرب‬
‫حمد في هذه اللحظة اإللهية من القراءة باسم ّ‬ ‫ِي إليه ُم َّ‬
‫فكرتهم هذه‪ ،‬وبين ما ُدع َ‬
‫الخالق‪ .‬وهو شيء غريب على العقلية العربية الجاهلية‪ ،‬وهو شديد الغرابة إ ْذ استمرت‬
‫اآليات فذكرت (خلق اإلنسان من علق) فاأللفاظ سهلة مأنوسة‪ ،‬ولكن المعنى جديد‬
‫تماماً‪ ،‬بل إن هذا المعنى بقي جديداً حتى اآلن‪ ،‬يحاول العلم يصل إلى أسرار هذه‬
‫العلقة‪ ،‬فيتكشف له كل يوم جديد‪ ،‬دون أن يتصور أنه واصل إلى غاية هذا المعنى‬
‫القرآني‪ ،‬عن أصل اإلنسان وهو اللغز األبدي‪.‬‬
‫فالبد أن ندرك من هذا الوصف ال‬
‫الرب األكرم‪َّ ،‬‬
‫وحين تمضي اآليات في وصف ّ‬
‫محدودية الكرم اإللهي‪ ،‬الذي لم يتصل العربي آنذاك في معتقده بطرف منه‪ .‬لقد كان‬

‫((( العربية لغة العلوم والتقنية (مرجع سابق)‪.‬‬

‫‪- 130 -‬‬


‫للرب‬
‫يرى أن الخير كله في أوثانه التي يعكف عليها‪ ،‬ولم يكن يتصور هذه األكرمية ّ‬
‫الخالق‪ ،‬وال مناص من أن نعترف نحن اآلن‪ ،‬وبعد أن عاشت العقيدة أربعة عشر قرناً‪،‬‬
‫معبرة عن صفة للرب‪ ،‬تمتد إلى وجود ال يحده‬ ‫أننا عاجزون عن إدراك كنهها‪ ،‬إ ْذ هي ّ‬
‫تعبر عن المطلق‪ ،‬ال عن النسبي ﴿ربك‬ ‫زمان وال مكان‪ ،‬وقد جاءت بصيغة تفضيل ّ‬
‫أ‬
‫وأي إنسان؟‬ ‫الكرم ﴾‪ .‬ثم؛ كيف َّ‬
‫تم هذا التعليم بالقلم؟ وما مادته؟ وما حقيقة القلم؟ ّ‬
‫لم يعلم ﴾؟ وما مداه؟‪ .‬أسئلة وأسئلة ِّ‬
‫تحير‬ ‫أهو اإلنسان بعامة؟ وما حقيقة ﴿ ما ْ‬
‫العقول فتذهب في إجاباتها مذاهب شتى دون أن تنتهي إلى رأي قاطع‪ ،‬فالمعنى‬
‫القرآني ال نهائي‪ ،‬والفهم البشري محدود‪ ،‬ولكنه مستمر بتتابع األجيال‪.‬‬
‫أخـرياً؛ أليس بهذا ﴿ النبأ العظيم ﴾ وبهذه المعجزة العظمى؛ قام الدليل القاطع‪،‬‬
‫حمـداً رسول الله إلى خلقِه‪ ،‬ويجب التصديق برسالته‪،‬‬ ‫والبرهان الناصع على أن ُم َّ‬
‫وس َّنة‬
‫واالعتقاد بجميع ما ورد في الكتاب المنزل عليه‪ ،‬بكل ما ثبت عنه من هدي ُ‬
‫فوجب اإليمان بذلك كذلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫متبعة‪ ،‬وقد جاء في الكتاب أنه خاتم األنبياء‪،‬‬

‫‪- 131 -‬‬


‫دالئـل اإلعجاز‬
‫أكد العلماء بشدة على ضرورة المحافظة على (المصطلحات القرآنية) واالحتفاظ‬‫َّ‬
‫ألن هذه المصطلحات أوعية النقل الثقافي‪ ،‬وأقنية‬ ‫بمدلوالتها كما هو مراد منها‪َّ ،‬‬
‫التواصل الحضاري‪ ،‬وعدم تحديدها‪ ،‬ووضوحها‪ ،‬يؤديان إلى لون من التسطيح الخطير‬
‫في الشخصية المسلمة‪ ،‬والتقطيع لصورة تواصلها الحضاري‪ ،‬وإلغاء المتدادها المعرفي‪.‬‬
‫وقد َّنبه القرآن الكريم لهذه القضية الخطيرة‪ ،‬عندما أرشد المسلمين إلى ضرورة‬
‫استخدام مصطلح (انظرنـا)‪ ،‬ونهى عن مصطلح (راعنـا) الذي كان يستعمله اليهود‪ ،‬كنوع‬
‫من التضليل الثقافي‪ ،‬وتحقيق بعض األغراض الكامنة في نفوسهم‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّ َها‬
‫اب أَ ِل ٌيم ﴾ [البقرة ‪.]104 :‬‬‫ين َع َذ ٌ‬ ‫ين َآم ُنوا ال َ تَقُو ُلوا َر ِاع َنا َو ُقو ُلوا انظُ ْرنَا َو ْ‬
‫اس َم ُعوا َو ِل ْلك َِاف ِر َ‬ ‫ا َّل ِذ َ‬
‫أن تحديد داللة المصطلح‪ ،‬في البناء الثقافي لألمة‪ ،‬أمر ذو قيمة‬
‫من هنا نعلم؛ َّ‬
‫فكرية بالغة‪ ،‬إلى درجة أصبح معها كثير من المؤلفين يفردون صفحات في مقدمة‬
‫مؤلفاتهم‪ ،‬لمعجم المصطلحات المستعملة‪ ،‬والدالالت التي أرادوها من استعمالها‪ .‬حتى‬
‫أن تفرد معاجم لمدلوالت كل علم من العلوم‪ ،‬كمعجم المصطلحات الفلسفية‪،‬‬ ‫بلغ األمر؛ ْ‬
‫ومعجم المصطلحات الدبلوماسية‪ ،‬ومعجم المصطلحات النفسية‪ ،‬ومعجم المصطلحات‬
‫اإلعالمية‪ ،‬ومعجم المصطلحات القانونية‪ ،‬ومعجم المصطلحات الطبية‪...‬الخ‪.‬‬
‫وقد كان المسلمون هم األسبق في وضع معاجم لمصطلحات كثير من الفنون‪:‬‬
‫لغوية‪ ،‬أو فقهية‪ ،‬أو أصولية‪ ،‬أو غيرها‪ ،‬حتى يضبط اللفظ بمدلوالته‪ ،‬من خالل معهود‬
‫العرب في الخطاب‪ ،‬واإلبانة‪ ،‬أو من خالل مدلوله في الفن‪ ،‬الذي وضع له‪ ،‬دون‬
‫االنقطاع عن أصله اللغوي‪.‬‬
‫‪frithjon‬‬ ‫في كتابه "مفهوم اإلسالم" يقول المستشرق الفرنسي فريثجوف شيون‬
‫"والبد للقارئ إذا أراد أن يفهم رسالة‬
‫َّ‬ ‫‪ Schuon‬ـ المتخصص في شرح العقائد الشرقية‪:‬‬
‫وأن اإلعجاز فيه ال‬‫أن يذكر أنه كتاب فرائض وكتاب إقناع وكتاب هداية‪َّ ،‬‬ ‫القرآن ْ‬
‫يرجع إلى فصاحة اللفظ وحدها وال إلى نسق البيان وحده‪ ،‬ولكنه يرجع إلى إيحاء‬
‫(((‬ ‫اللفظ وإيحاء البيان بما يعجز ّ‬
‫كل كالم "غير إلهي" عن اإليحاء بمثله"‪.‬‬

‫((( «مح َّمد ُمشت َهـى األمم» (مرجع سابق)‪.‬‬

‫‪- 132 -‬‬


‫«أما‬
‫وقد تعرض طه حسين لدالئل اإلعجاز القرآني في كتابه "مرآة اإلسالم" فقال‪َّ :‬‬
‫القرآن؛ فهو المعجزة الكبرى‪ ،‬التي آتاها الل ُه رسولَه ﷺ‪ ،‬على صدقه فيما يُ َبلِّغ عن‬
‫ربِّه سبحانه وتعالى‪ .‬والقول في إعجاز القرآن الكريم يكثر ويطول‪ ،‬وتختلف وجوهه‪،‬‬
‫النبي؛ فهو في‬‫العرب مثلَه‪ ،‬قبل أن يتلوه ّ‬
‫وتختلف فنونه أيضاً‪ ،‬فالقرآن ‪ :‬كال ٌم لم تسمع ُ‬
‫صورته الظاهرة‪ ،‬ليس ِشعراً‪ ،‬ألنه لم يج ِر في األوزان والقوافي‪ ،‬والخيال‪ ،‬على ما جرى‬
‫قليل أو كثي ٍر من موضوعاته ومعانيه؛ فهو‬‫عر‪ ،‬في ٍ‬ ‫الش َ‬
‫الشعر‪ .‬ثم هو لم يشارك ِّ‬ ‫عليه ِّ‬
‫األحبة‪ ،‬وال يصف اإلبل في أسفارها‬ ‫ال يصف األطالل والربوع‪ ،‬وال يصف الحنين إلى َّ‬
‫مدح‪ ،‬وال هجا ٌء‪ ،‬وال رثا ٌء‪ ،‬وهو ال يصف‬
‫فخر‪ ،‬وال ٌ‬ ‫الطوال والقصار‪ ،‬وليس فيه ٌ‬
‫غزل‪ ،‬وال ٌ‬
‫الحرب‪ ،‬ال يعرض من هذا كله لشيءٍ‪ ،‬وإنما يتحدث إلى الناس عن أشيا َء لم يتحدث‬
‫أحد من قبله‪ ،‬يتحدث عن التوحيد‪ ،‬فيحمده ويدعو إليه‪ .‬ويتحدث عن‬ ‫إليهم بها ٌ‬
‫حد لها»‪.‬‬
‫فيعظمه‪ ،‬ويصف قدرته التي ال َّ‬ ‫الشرك‪ ،‬فيذمه‪ ،‬وين َهى عنه‪ .‬ويتحدث عن الله‪ُ ،‬‬‫ِّ‬
‫رجل من‬‫«كل هذا وأكثر جداً من هذا يتحدث به القرآن إلى الناس‪ ،‬على لسان ٍ‬
‫قريش‪ ،‬لم يتعلَّم قط كتاب ًة وال قراء ًة وال حساباً‪ ،‬ولم يجلس‪ -‬قط‪ -‬إلى أحبار اليهود‪ ،‬وال‬
‫عربي أُ ِّم ٌّي‪ ،‬كأكثر العرب‪ ،‬ال يعلم‬ ‫ُرهبان النصارى‪ ،‬وال أصحاب الفلسفة‪ ،‬وإنما هو ٌ‬
‫رجل ٌّ‬
‫أوساط العرب يعلمون‪ .‬وهو مع ذلك يُجادل اليهود في‬ ‫ُ‬ ‫من أمر الدنيا إ َّال مثل ما كان‬
‫التوراة‪ ،‬ويجادل النصارى في اإلنجيل‪ ،‬ويصفهم بأنهم يكذبون على موسى‪ ،‬ويقولون على‬
‫غير الحق‪ ،‬كل ذلك‪ ،‬وهو ال يقرأ التوراة‪ ،‬وال اإلنجيل‪ ،‬وإنما ينبئه الله نبأ الحق‬ ‫المسيح َ‬
‫يأت لنسخ التوراة‪ ،‬وال لنسخ اإلنجيل‪ ،‬وإنما جاء مصدقاً لِما بين‬‫بما في كليهما‪ ،‬وهو لم ِ‬
‫يديه منهما‪ ،‬ثم يُنبئ الناس في الدنيا‪ ،‬بما تقول ألسنتهم‪ ،‬وما تعمل جوارحهم‪ ،‬وما‬
‫األمي‪ ،‬والذي أُ ِخ َذ في‬
‫تُضمر نفوسهم‪ .‬نجد هذا كله في القرآن‪ ،‬الذي يتلوه هذا الرجل ُ‬
‫تالوته ُفجاء ًة ذات يو ٍم‪ ،‬بعد أن بلغ األربعين‪ ،‬وأنفق ثُلُثَي عمره في الدنيا يحيا كما يحيا‬
‫غيره من قريش‪ ،‬فال غراب َة أن يبهر قريشاً‪ ،‬وسائر العرب‪ ،‬هذا ُ‬
‫العلم الذي جاء به ُفجاءةً»‪.‬‬
‫العرب أن يُحاكوه أيا َم‬
‫ُ‬ ‫«لكن للقرآن وجهاً آخر من وجوه اإلعجاز‪ ،‬لم يستطع‬ ‫َّ‬
‫أي أسلوبه في أداء المعاني‪ ،‬التي أراد الله أن‬ ‫النبي‪ ،‬وال بعده‪ ،‬ذلك هو نظم القرآن‪ْ ،‬‬ ‫ّ‬
‫قدمنا‪ ،‬ولم يؤدها إليهم نثراً أيضا‪ً،‬‬ ‫ً‬
‫يؤد هذه المعاني ِشعرا‪ ،‬كما َّ‬
‫َدى إلى الناس‪ .‬لم ِّ‬ ‫تُؤ َّ‬
‫خاص به لم يُ ْس َبق إليه‪ ،‬ولم يُلحق‬
‫أسلوب ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وإنما أ ّداها على مذهب مقصو ٍر عليه‪ ،‬وفي‬
‫الك ّتاب في اإلسالم‪ ،‬وإنما هو‬ ‫فيه‪ .‬ليس ِشعراً‪ ،‬ألنه ال َّ‬
‫يتقيد بهذه القيود التي عرفها ُ‬
‫ِصر‪ ،‬وفيما‬ ‫فصل ٌة‪ ،‬لها مِزاجها الخاص في االتصال واالنفصال‪ ،‬وفي الطول والق َ‬ ‫آيات ُم َّ‬
‫ٌ‬
‫ضطر في تالوتها إلى‬ ‫أنت ُم ٌ‬ ‫بعض سوره؛ فإذا َ‬ ‫يظهر من االئتالف واالختالف‪ ،‬تتلو َ‬

‫‪- 133 -‬‬


‫والريْث‪،‬‬
‫معاني تحتاج إلى البسط َّ‬
‫َ‬ ‫ث‪ ،‬وم َه ٍل‪ ،‬ألداء‬‫لت في ريْ ٍ‬ ‫األناة والتمهل‪ ،‬ألنها ُف ِّص ْ‬
‫ووصف ما كان يُثار بين المسلمين والمشركين من الحروب والمواقع‪.‬‬ ‫ال‪ْ ،‬‬ ‫كالتشريع مث ً‬
‫مضطر إلى شي ٍء من َّ‬
‫التس َرع‪ ،‬ألنها تؤدي معاني يحتاج‬ ‫ٌ‬ ‫أنت‬
‫بعض سوره؛ فإذا َ‬ ‫وتتلو َ‬
‫أداؤها إلى القوة والعنف‪ ،‬قد ُف ِّصلت آياتها قِصاراً ُملتئم َة الفواصل‪ ،‬تقرأها فكأنك تنحدر‬
‫عل‪ ،‬وذلك حين يُ َخ ِّوف الله عبا َده‪ ،‬ويشتد في تخويفهم؛ فيأخذهم من جميع‬ ‫من ٍ‬
‫والحجاج»‪.‬‬ ‫أقطارها‪ ،‬ويقطع عليهم طريق الجدال ِ‬
‫«ثم يقص في سور ٍة أخرى نفس األنباء‪ ،‬فت ْق ُصر اآليات وتسرع‪ ،‬وتتسق الفواصل‬
‫عبارات بعينها في آخر كل قصةٍ‪ ،‬ألنه يتجه إلى اإلرهاب واإلثارة‬ ‫ٌ‬ ‫وتنسجم‪ ،‬وتتكرر‬
‫واإلحاطة بالسامعين والقارئين‪ ،‬وإعجالهم عن التفكر والتدبر؛ كأنما أخذتهم من كل‬
‫ريح عاصفة ال يجدون منها مهرباً‪ ،‬وال يرون ألنفسهم عنها مصرفاً؛ فهي ُّ‬
‫تصب‬ ‫مكان ٌ‬‫ٍ‬
‫صباً‪ .‬فهم ال يملكون َّ‬
‫إال أن يُذعنوا لما يُ َص ُّب عليهم‪،‬‬ ‫والمثُالت َّ‬
‫عليهم الع َِبر والعِظات َ‬
‫الجدال في بعض ما‬ ‫رجع الجواب‪ ،‬أو ِ‬
‫ال يجدون من الوقت‪ ،‬وال من القوة‪ ،‬ما يتيح لهم َ‬
‫أروع االتساق‪ ،‬والع َِب ُر‬
‫ِصر‪ ،‬متسقة َ‬ ‫يُ َص َّب عليهم‪ .‬وإنما هي اآليات تتابع قِصاراً َّ‬
‫أشد الق َ‬
‫القاصم ُة تُستنبط منها في َس َر ٍع سريع أيضاً‪ .‬وهم ال يكادون يفزعون من قصةٍ‪ ،‬حتى‬
‫تتبعها قص ٌة أخرى‪ ،‬تأتي في إثرها في سرع ٍة خاطفة‪ ،‬وقو ٍة مذهلة»‪.‬‬
‫شئت ُسورت َْين‪ ،‬كسورة الشعراء‪ ،‬وسورة القصص؛ فستجد السرعة كل‬ ‫إن َ‬ ‫«واقرأْ ْ‬
‫والم َه َل في السورة الثانية‪،‬‬
‫كل القوة في السورة األولى‪ ،‬وستجد األنا َة َ‬‫السرعة‪ ،‬والقو َة َّ‬
‫السورتين جميعاً‪ ،‬تروع أوالهما بما اخ ُت َّص ْت به من هذه‬
‫ْ‬ ‫ولكنك ستجد الروع َة في‬
‫قرأت‬
‫السرعة‪ ،‬وتروع األخرى بما امتازت به من األناة‪ ،‬وذلك في القرآن كثير‪ .‬وسوا ٌء َ‬
‫المتأنية‪ ،‬فسترى من جمال اللفظ وروعة األسلوب‪ ،‬واتساق‬ ‫السور السريعة‪ ،‬أو السور ُ‬
‫خاشع لما تسمع أو تقرأ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أنت‬
‫النظام‪ ،‬ما يسحرك ويبهرك‪ ،‬ويملك عليك أمرك كله؛ فإذا َ‬
‫ستزيد منه‪ ،‬حتى حين يستأثر بك العِنا ُد‪ ،‬وتتكلَّ ُف من إظهار اإلصرار‬‫ٌ‬ ‫عج ٌب به ُم‬
‫ُم َ‬
‫واالستكبار‪ ،‬واإلعراض واإلباء»‪.‬‬
‫أن الذين يقرأونه‪ ،‬أو يسمعونه‪ ،‬دون أن يؤمنوا به يكذبون؛‬ ‫«وأخص مزايا القرآن؛ َّ‬
‫ُّ‬
‫فهم حين يقرأونه أو يسمعونه‪ ،‬يُناقضون أنفسهم‪ :‬يُظ ِهرون اإلبا َء‪ ،‬ويُضمِرون االستجاب َة‪،‬‬
‫قد اختلفت قلوبهم‪ ،‬وألسنتهم‪ ،‬ووجوههم؛ فقلوبهم تُذعِن‪ ،‬وألسنتهم تُنكِر‪ ،‬ووجوههم‬
‫ً (((‬
‫تُع ِرض‪ ،‬إ َّال أن يطبع الله على قلوبهم‪ ،‬ويطمس على عقولهم‪ ،‬ويجعل في آذانهم وقرا)‪.‬‬

‫((( مرآة اإلسالم‪ ،‬طه حسين‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 134 -‬‬


‫عالقة العربية باإلسالم‬
‫كرم الله ـ سبحانه ـ اللغة العربية؛ إ ْذ أنزل بها كتابه العزيز على ٍ‬
‫رجل من‬ ‫لقد َّ‬
‫خير‬
‫قطعي الداللة على أنَّها ُ‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫بحفظ ذلك الكتاب المجيد‪ ،‬وهذا التكريم‬ ‫وكرمها‬
‫أهلها‪َّ ،‬‬
‫اللغات وأشرفها‪.‬‬
‫الشهادتين بلغ ٍة عربية ما اس َتطاع‪َّ ،‬‬
‫وإال‬ ‫ْ‬ ‫نطق‬‫إال إذا َ‬
‫مسلما َّ‬
‫ً‬ ‫وال يكون اإلنسان‬
‫األصلية‪ ،‬لينطق بها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُكتِبت له (الشهادتان) بحروف لغته‬

‫وقد ارتبطت اللغة العربية بشرائع اإلسالم ارتباطاً وثيقاً‪ .‬ومن هذه الشريعة ‪:‬‬

‫(الصـــاة) فمِن ُشروط صحة الصالة قراءة الفاتحة قراءة صحيحة ـ فالفاتحة‬
‫ركن مِن أركان الصالة ـ واألذكار؛ بلغ ٍة عربية صحيحة‪ ،‬وهو قول جمهور العلماء‪،‬‬
‫ٌ‬
‫بوجوب تعلُّم األعجمي ما يُقِيم به صالته‪ ،‬وال ُّ‬
‫تصح الصالة بغير ذلك‪.‬‬

‫القولية المطلوب‬
‫َّ‬ ‫(الحـج) ركن اإلسالم األعظم‪ ،‬وفيه من التلْبية والشعائر‬
‫كل المسلمين‪ ،‬ومن ِّ‬
‫كل اللغات‪.‬‬ ‫العربية على ِّ‬
‫َّ‬ ‫أداؤها باللغة‬
‫جل جالله ـ ُّ‬
‫كل هذا‬ ‫وغير ذلك من الشعائر؛ مثل ‪ :‬قراءة القرآن‪ ،‬و ِذ ْكر الله ـ َّ‬
‫وتصح عباداته‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ليصح إسالم العبد‪،‬‬‫َّ‬ ‫يحتاج إلى تعلُّم شي ٍء من العربية؛‬
‫«إن ُّ‬
‫تمكن لغة األمة‬ ‫وفي هذا المعنى‪ ،‬يقول الفارايب ـ في كتاب (الحروف) ‪َّ :‬‬
‫ألن أصول‬
‫بالعادة واالستعمال»‪ ،‬لذلك كثر الربط في التراث بين العربية والشريعة؛ َّ‬
‫اللغة محمولة على الشريعة‪.‬‬

‫حققها وحاز عليها‪ ،‬نال رتب َة االجتهاد في ِّ‬


‫الدين‪،‬‬ ‫ً‬
‫شروطا َمن َّ‬ ‫وقد َ‬
‫وضع العلماء‬
‫يصح له االجتِهاد َّ‬
‫إال‬ ‫أساس في المج َت ِهد‪ ،‬ال ُّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كشرط‬ ‫منها‪ :‬شرط إتقان اللغة العربية‬
‫سيد ولد عدنان ﷺ فالقرآن‬ ‫تحدث ِّ‬ ‫بإتقان لغة العرب التي بها ن َزل القرآن‪ ،‬وبها َّ‬
‫فوجب على َمن أراد بلوغ رتبة االجتهاد أن‬ ‫والسنة هما مصدر التشريع اإلسالمي‪َ ،‬‬ ‫َّ‬
‫جل وعال ويَف َهم كالم المصطفى ﷺ‪.‬‬ ‫يحوز هذه اللغة؛ ليف َهم مراد الله ـ َّ‬

‫‪- 135 -‬‬


‫قال أبو إسحاق الشريازي في «صفة املفتي»(((‪« :‬ويَع ِرف من اللغة والنحو ما يَع ِرف‬
‫به مراد الله ومراد رسوله ﷺ في خطابهما»‪.‬‬
‫لمسلم أن ينقص‬
‫ٍ‬ ‫كل مسلم بحسبه‪ ،‬فالقدر الذي ال يجوز‬ ‫فالعربية واجب ٌة على ِّ‬
‫عنه هو القدر الذي يُ َم ِّكنه من إقامة الفرائض‪ ،‬وف ْهم كالم الله ورسوله‪ ،‬ففيهما نجاتُه‬
‫مسلم من‬
‫ٍ‬ ‫فرض على ِّ‬
‫كل‬ ‫في الدنيا واآلخرة‪ ،‬قال الماوردي‪« :‬ومعرفة لسان العرب ٌ‬
‫مجتهد وغيره»‪.‬‬
‫كل مسلم أن يتعلَّم من لسان العرب ما يبلغه جهده‬
‫قال الشافعي ‪« :‬يجب على ِّ‬
‫في أداء فرضه»‪.‬‬
‫يتم الواجب َّ‬
‫إال به فهو واجب‪،‬‬ ‫الدين فرض واجب‪ ،‬وما ال ُّ‬ ‫ألن معرفة ِّ‬
‫وذلك َّ‬
‫واإلسالم ال يُفهم َّ‬
‫إال بف ْهم العربية‪.‬‬
‫فرض على‬ ‫وتعليم العربية ٌ‬‫َ‬ ‫تعلم العربية‬
‫أن َ‬ ‫وقال الشيخ ابن تيم َّية ‪« :‬معلو ٌم َّ‬
‫يؤدبون أوال َدهم على اللحن‪ ،‬فنحن مأمورون أن نح َفظ القانون‬ ‫الكفاية‪ ،‬وكان السلف ِّ‬
‫والسنة‪ ،‬واالقتِداء‬
‫َّ‬ ‫العربي‪ ،‬ونُصلِح األلسن المائلة عنه‪ ،‬فيحفظ لنا طريقة ف ْهم الكتاب‬
‫(((‬
‫وعيبا»‪.‬‬
‫نقصا ً‬‫بالعرب في ِخطابها‪ ،‬فلو تُ ِرك الناس على لحنهم كان ً‬
‫عرف ما ّ‬
‫يدل‬ ‫وقال ابن تيمية ـ أيضاً ‪« :‬البُ ّد في تفسير القرآن والحديث من أن يُ َ‬
‫على مراد الله ورسوله من األلفاظ‪ ،‬وكيف يُف َهم كال ُمه‪ ،‬فمعرفة العربية التي ُخوطبنا‬
‫مما يعين على أن نفقه مرا َد الل ِه ورسولِه بكالمِه‪ ،‬وكذلك معرفة داللة األلفاظ على‬ ‫بها ّ‬
‫فإن عا ّمة ضالل أهم البدع كان بهذا السبب ‪ ،‬فإنّهم صاروا يحملون كالم الل ِه‬ ‫المعاني‪ّ ،‬‬
‫(((‬ ‫ورسولِه على ما يَ ّدعون أنّه ٌّ‬
‫دال عليه‪ ،‬وال يكون األمر كذلك»‪.‬‬
‫تعبير عن‬
‫ٌ‬ ‫أي لغة ـ‬
‫إن «العربية» شعار اإلسالم والمسلمين‪ .‬وإذا كانت اللغة ـ ّ‬
‫َّ‬
‫تعبير عن كيان وروح ودين؛ لذلك َك ِر َه العلماء‬‫ٌ‬ ‫فإن «العربية» هي‬
‫كيان وروح‪َّ ،‬‬
‫العربية‬
‫َّ‬ ‫بل قال مالك ‪َ « :‬من تكلَّم في مسجدنا بغير‬‫الرطانة بغير العربية دون حاجة؛ ْ‬
‫َ‬
‫فأخ ِرجوه منه»‪.‬‬

‫((( اللُّمع يف أصول الفقه‪ ،‬ص‪.127‬‬


‫((( ابن تيمية‪« ،‬الفتاوى» ‪.252 /32‬‬
‫(( ( كتاب «اإلميان» البن تيمية ص ‪.111‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫العرب حتى في المعامالت‪ ،‬وهو التكلُّم‬
‫ِ‬ ‫تغيير شعائ ِر‬
‫َ‬ ‫يكرهون‬
‫وقيل ‪ :‬كان السلف َ‬
‫سائر األلسن‬
‫أن َ‬‫نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد‪ .‬مع َّ‬ ‫بغير العربية َّ‬
‫إال لحاجة‪ ،‬كما َّ‬
‫سوغوها للحاجة‪ ،‬وكرهوها لغير الحاجة‪ ،‬ولحفظ‬ ‫يجوز النطق بها ألصحابها‪ ،‬ولكن َّ‬
‫شعائر اإلسالم‪.‬‬
‫ألن هذا‬ ‫البعد عنها؛ َّ‬ ‫التمسك بها‪ ،‬والحذر من ُ‬‫وجب ُّ‬ ‫العربية من اإلسالم؛ لذا َ‬ ‫فاللغة َّ‬
‫حذر الله تعالى من هذا المسلك؛ فقال‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَ ْب َت ِغ‬ ‫البعد عن سبيل المؤمنين‪ ،‬وقد َّ‬ ‫من ُ‬
‫آ‬ ‫ف‬
‫ين ﴾ [آل عمران‪.]85 :‬‬ ‫سالم ِدي ًنا َف َل ْن يُ ْق َب َل ِم ْنهُ َوهُ َو ِ ي� ال ِخ َر ِة ِم َن ا ْلخَ ِ ِ‬
‫اس َ‬ ‫ال ِ‬‫َ� ْ ِإ‬
‫غ يْ َ‬
‫يعتزون بلُغتهم‪،‬‬ ‫للمتمسك بها‪ .‬وهكذا ُّ‬
‫كل قو ٍم ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِز وفخار‬ ‫أيضاً؛ «اللغة العربية» ُ‬
‫مظهر ع ٍّ‬
‫أي‬
‫يتحدثون بغير لغاتهم في ِّ‬
‫َّ‬ ‫الد َول الكبرى ال‬ ‫يقبلون عنها بدي ً‬
‫ال؛ لذا نجد قا َد َة ُّ‬ ‫وال َ‬
‫وإن‬
‫يتحدثون بلغة دينهم‪ْ .‬‬‫مكان كانوا‪َّ .‬أما بعض المسلمين ـ في هذا الزمان ـ فهم ال َّ‬ ‫ٍ‬
‫كانوا في بالدهم‪.‬‬
‫ذهاب‬
‫ٍ‬ ‫انحطت َّ‬
‫إال كان أمره في‬ ‫ذل‪ ،‬وال َّ‬‫إال َّ‬ ‫قال الرافعي (((‪« :‬ما ذلَّت لغ ُة ٍ‬
‫شعب َّ‬
‫المستعم َرة‪ ،‬ويركبهم‬
‫َ‬ ‫األمة‬
‫فرضا على َّ‬ ‫األجنبي المستعمِر لغ َته ً‬
‫ُّ‬ ‫وإدبا ٍر‪ ،‬ومن هذا يفرض‬
‫لحقهم من ناحيتها‪ ،‬فيحكم عليهم أحكا ًما ثالث ًة‬ ‫بها‪ ،‬ويُشعِرهم عظمته فيها‪ ،‬ويس َت ِ‬
‫وأما الثاني ‪ :‬فالحكم‬
‫فح ْبس لغتهم في لغته سج ًنا مؤبَّ ًدا‪َّ ،‬‬ ‫عمل واحدٍ‪َّ :‬أما األول‪َ :‬‬
‫في ٍ‬
‫وأما الثالث‪ :‬فتقييد مستقبلهم في األغالل التي‬ ‫على ماضيهم بالقتل مح ًوا ونِسيانًا‪َّ ،‬‬
‫فأمرهم من بعدها ألمره ت ََب ٌع»‪.‬‬ ‫يصنعها‪ُ ،‬‬
‫نفسيتها‬‫دليل َّ‬‫األمة ُ‬ ‫لشخصية األمة اإلسالمية‪ ،‬فلغة َّ‬‫َّ‬ ‫تعد (اللغة العربية) صور ٌة‬
‫ُّ‬
‫تطورها‬ ‫بل هي أسارير الوجه في كيانها االجتماعي الحاضر‪ ،‬وفي ُّ‬ ‫عقليتها؛ ْ‬
‫وصور َّ‬
‫عاما‪،‬‬
‫شعورا ًّ‬ ‫ً‬ ‫كل لفظ ٍة في المعجم معنى شعرت به َّ‬
‫األمة‬ ‫ألن وراء ِّ‬
‫التاريخي الغابر؛ َّ‬
‫الرضا‪،‬‬ ‫خاص‪ ،‬ف َو َقع ذلك اللفظ في نفوس جمهورها موقع ِّ‬ ‫بلفظ ٍّ‬ ‫دعاها إلى اإلعراب عنه ٍ‬
‫إال مجموعة من المعاني التي احتاجت‬ ‫وكان بذلك من أهل الحياة‪ ،‬وما معجم اللغة َّ‬
‫األمة‬
‫يدل على الجهة التي نظرت َّ‬ ‫لفظا ُّ‬‫لكل معنى ً‬ ‫األمة إلى التعبير عنها‪ ،‬فاختارت ِّ‬ ‫َّ‬
‫تتضمن‬
‫َّ‬ ‫اصطلَحت عليه‪ ،‬فلغة األمة‬ ‫سم ْته باللفظ الذي َ‬ ‫منها إلى ذلك المعنى عندما َّ‬
‫َ‬
‫تاريخ أساليب التفكير عندها من أبسط حاالته إلى أرقاها‪ ،‬يعلَم ذلك البصير بِأبْنِية‬
‫تسلْ ُسلها االشتقاقي‪.‬‬
‫ذوق دقيق في ترتيب َ‬ ‫اللغة وتال ُزمها‪ ،‬و َمن له ٌ‬

‫((( وحي القلم‪ ،‬ج‪ ،3‬مصطفى صادق الرافعي‪.‬‬

‫‪- 137 -‬‬


‫يخضع‬‫تراصا َ‬ ‫األمة الناطقة بها ُك ًّ‬
‫ال ُم ًّ‬ ‫أن اللغة تجعل من َّ‬ ‫ويرى علماء االجتماع‪َّ ،‬‬
‫لقانون واحد‪ ،‬وأنها الرابطة الحقيقية الوحيدة بين عالم األذهان وعالم األبدان‪ ،‬وهي‬ ‫ٍ‬
‫تص ُدق على أيَّة‬
‫مما ْ‬ ‫تصد ُق على العربية ـ كما يقول الدكتور عثمان أمين ـ أكثر َّ‬ ‫نظريَّة ُ‬
‫عقليتنا‪ ،‬وهداية سلوكنا‪ ،‬وتصريف‬ ‫لغة أخرى؛ فاللغة العربية عظيمة األثر في تكوين َّ‬
‫أفعالنا؛ ذلك أنها تمتاز عن اللغات األخرى (بمثالية) عميقة صريحة‪ ،‬تحسب حساب‬
‫أن‬
‫دائما َّ‬
‫أن العربية تفترض ً‬ ‫أي َّ‬‫الصدارة واالعتِبار؛ ْ‬
‫مكان َّ‬
‫َ‬ ‫الفكرة والمثال‪ ،‬وتضعهما‬
‫ذهنية‬
‫الحس‪ ،‬ويَكفِي في التعبير بها إنشاء عالقة َّ‬ ‫ِّ‬ ‫شهادة الفكر أصدق من شهادة‬
‫بين المسند والمسند إليه‪ ،‬دون حاجة إلى فعل الكينونة الذي هو الزمة ضرورية في‬
‫اللغات (الهندو – أوربية) ودون الحاجة إلى التصريح بضمير المتكلم أو المخاطب أو‬
‫دائما بالفعل في تركيبه األصلي نفسه‪.‬‬ ‫ألن الذات ُم َّت ِصلة ً‬
‫الغائب؛ َّ‬
‫أي لغة من اللغات تكون‬ ‫«إن بنية ّ‬
‫وهذا شبيه بما قاله الدكتور عبده بـدوي (((‪َّ :‬‬
‫ذات وثيقة بعقلية المتكلمين بها‪ ،‬وبنظمهم وحضارتهم‪ ،‬فاللغة أعظم القوى التي‬
‫تجعل من الفرد كائناً اجتماعياً‪ ،‬وتجعل نظرته للكون مضبوطة باللغة التي يتكلمها؛‬
‫وإن هذه الحقيقة لم تغب‬ ‫ألنها الرابطة الحقيقية بين عالم األحياء وعالم األذهان‪َّ .‬‬
‫عن ذهن علماء العربية»‪ ،‬ففي كتابه «اقتضاء الرصاط املستقيم» علَّ َق ابن تيميـة على‬
‫الحديث الشريف‪َ « :‬م ْن يُ ِ‬
‫حسن أن يتكلم العربية‪ ،‬فال يتكلم بالعجمة؛ فإنها تُورث النفاق»‪.‬‬
‫«إن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين‪ ،‬كما يؤثر في مشابهة صدر‬ ‫فقال‪َّ :‬‬
‫والدين‪ ،‬فتعلُّم اللغة‬
‫لق ِّ‬ ‫هذه األمة من الصحابة والتابعين‪ ،‬ومشابهتهم تزيد َ‬
‫العقل ُ‬
‫والخ َ‬
‫والسنة ٌ‬
‫فرض‪ ،‬وال يُف َهم‬ ‫َّ‬ ‫فإن فهم الكتاب‬
‫الدين‪ ،‬ومعرفتها فرض واجب‪َّ ،‬‬ ‫العربية من ِّ‬
‫إال به؛ فهو واجب ‪ ..‬وليس هناك سبيل إلى‬ ‫إال بفهم اللغة العربية‪ ،‬وما ال يتم الواجب َّ‬
‫َّ‬
‫الدين ومعرفته َّ‬
‫إال بضبط اللسان»‪.‬‬ ‫حفظ ِّ‬

‫((( أهمية تعلّم اللغة العربية (سابق)‪.‬‬

‫‪- 138 -‬‬


‫تأثري العربية يف اللغات الرشقية‬
‫عاشت العربية عصراً كانت فيه لغة الحضارة‪ ،‬بينما كانت اللغات األخرى‪ ،‬السيما‬
‫األوربية في وضع متخلف جداً‪ ،‬تتلقى فيه عن العربية ثرواتها العلمية واللفظية‪ ،‬وبعبارة‬
‫موجزة‪ :‬ثروتها الحضارية‪ .‬فقد كانت "العربية" هي اللغة الحضارية األولى في العالم‪.‬‬
‫وعن هذه الحقبة يتحدث "بيير جييرو" في كتابه (الكلامت األجنبية ‪Les Mots‬‬
‫مد الخلفاء العرب‬ ‫‪ )Etrangers‬قائ ً‬
‫ال ‪« :‬منذ النصف األول من القرن السابع الميالدي‪َّ ،‬‬
‫سلطانهم إلى مصر وسورية وفارس‪ ،‬وفي القرن الثاني بسط األمويون نفوذهم شرقاً‬
‫حتى الهند‪ ،‬وغرباً حتى المغرب وإسبانيا‪ ،‬وكذلك استقر العرب في سيشل‪ ،‬وبقوا فيها‬
‫إلى القرن الحادي عشر‪ .‬فاإلسالم لم يكن القوة السياسية والعسكرية الكبرى في‬
‫بل كان أيضاً المصدر الثقافي»‪.‬‬
‫العصر الوسيط فحسب‪ْ ،‬‬

‫امتد تأثير اإلسالم في عهد "هارون الرشيد" منذ القرن الثاني الهجري ـ‬ ‫«لقد َّ‬
‫الثامن الميالدي؛ ليصبح مصدراً لالزدهار األدبي والعلمي والتقني‪ ،‬دون أن يكون‬
‫له نظير في الغرب‪ .‬وفي هذا العصر كان الملوك الميروفنجيون يربطون نساءهم إلى‬
‫ذيول أفراسهم‪ ،‬وكانت بيزنطة فريسة التمزق والهرطقة والمجامع الكنسية‪َّ ،‬أما العرب‬
‫فقد أخذوا تراث اإلغريق‪ ،‬فأنشأ العرب عالقات مع فارس والهند ومصر في الشرق‪،‬‬
‫وبدأوا منذ عام ‪773‬م يترجمون النصوص العلمية األولى عن الهندية‪ ،‬فلقد أصبح‬
‫أعظم األسماء في ميادين األدب والفلسفة والعلم عرباً مسلمين؛ كابن سينا‪ ،‬وابن‬
‫رشد‪ ،‬والخوارزمي‪ ،‬والخيام‪ ،‬والب ّتاني‪ .‬والكيميائيين‪ :‬خالد بن يزيد‪ ،‬وجابر بن حيان‪،‬‬
‫والرازي»‪.‬‬
‫«لقد كان العرب أصل العلم الحديث‪ ،‬وبخاصة في علوم الطب والكيمياء‬
‫والرياضيات والفلك‪ ،‬وكانوا هم همزة الوصل مع الشرق‪ ،‬بوساطة فارس والروم‪ .‬وكانوا‬
‫أن ثقافتهم الخاصة قد قدمت موضوعات‬ ‫نقلة علوم المالحة والتجارة إلى الغرب‪ .‬كما َّ‬
‫ونظماً في مجال الفن العسكري‪ ،‬والعمارة والنسيج ‪ ..‬وهذه التأثيرات بارزة فيما نجد‬
‫في لغاتنا من ألفاظ مقترضة»‪.‬‬

‫‪- 139 -‬‬


‫كما تشهد المستشرقة األلمانية "زيجريد هونكه" في كتابها (شمس الله تسطع‬
‫امتد إلى األلمانية‪ ،‬وتمأل كتابها بالكلمات التي ترى‬
‫بأن تأثير العربية قد َّ‬
‫عىل الغرب) َّ‬
‫ضم أكثر من‬
‫أنها عربية األصل في اللغة األلمانية‪ ،‬وتأتي في فهارس الكتاب بملحق َّ‬
‫مائتين وخمسين كلمة‪.‬‬
‫ولم تكن اإلنجليزية بعيدة عن أن ينالها التأثير العربي‪ ،‬ففيها قدر كبير من‬
‫الكلمات ذات األصول العربية‪ ،‬يصل بها بعض الباحثين إلى بضع مئات دخلت‬
‫اإلنجليزية مباشرة أ ْو بالواسطة‪ ،‬ولكن صلة العربية باإلنجليزية بدأت متأخرة في‬
‫منتصف القرن الحادي عشر الميالدي‪ ،‬وكان أغلب ما تسرب إلى اإلنجليزية عن‬
‫اللتين تحتويان عدداً يربو على ألف وخمسمائة‬
‫اللغتين اإلسبانية والبرتغالية‪ْ ،‬‬
‫ْ‬ ‫طريق‬
‫كلمة ذات أصول عربية‪ ،‬على نحو ما قرره َّ‬
‫العالمة دوزي في كتابه (قامئة بالكلامت‬
‫اإلسبانية والربتغالية املشتقة من العربية)‪.‬‬
‫على جانب آخر؛ نجد الكلمات العربية في اللغات الشرقية (الفارسية والتركية‬
‫واألوردية والماالوية والسنغالية) أكثر من أن تحصى‪ .‬والكلمات العربية في اإلسبانية‬
‫والبرتغالية واأللمانية واإليطالية واإلنجليزية والفرنسية ليست قليلة أيضاً‪.‬‬
‫لقد التقت العربية بالفارسية والسريانية والقبطية والبربرية (األمازيغية)‪ .‬وكان‬
‫عندها أسباب القوة‪ ،‬فهي لغة القرآن‪ ،‬وتتميز ببناء قوي محكم‪ ،‬وتملك مادة غزيرة‪.‬‬
‫لقد حملت رسالة اإلسالم؛ فغنيت بألفاظ كثيرة جديدة للتعبير عما جاء به‬
‫اإلسالم من مفاهيم وأفكار ونظم وقواعد سلوك‪ ،‬وأصبحت لغة الدين والثقافة والحضارة‬
‫والحكم في آن واحد‪.‬‬
‫فالعربية غزت اللغات األخرى‪ ،‬فأدخلت إليها حروف الكتابة‪ ،‬وكثيراً من األلفاظ‪ .‬وكان‬
‫تأثيرها في اللغات األخرى عن طريق األصوات والحروف والمفردات والمعاني والتراكيب‪.‬‬
‫وأدى احتكاك العربية باللغات األخرى إلى انقراض بعضها‪ ،‬وحلول العربية‬
‫محلها؛ كما حصل في العراق والشام ومصر‪ ،‬وإلى انزواء بعضها‪ ،‬وانحسار بعضها اآلخر‬
‫كالفارسية‪.‬‬
‫بل أصبحت لغات الترك والفرس والماليو واألوردو تكتب جميعها بالحروف‬ ‫ْ‬
‫العربية‪ ،‬وكان للعربية الحظ األوفر في االنبثاث في اللهجات الصومالية والزنجبارية؛‬
‫لرجوع الصلة بين شرق إفريقيا وجزيرة العرب إلى أقدم عصور التاريخ‪.‬‬

‫‪- 140 -‬‬


‫وحول هذا المعنى؛ يقول سليمان البستاني‪ :‬إن "العربية" أطول اللغات الحية‬
‫عمراً‪ ،‬وأقدمها عهداً‪ ،‬والفضل في ذلك راجع إلى القرآن؛ فاإللياذة وبالغتها وسائر‬
‫منظومات هوميروس‪ ،‬وهسيورس على علو منزلتهما‪ ،‬لم تُقِم للغة اليونانية دعام ًة‬
‫وحد لغة‬ ‫ولم تق َو على مقاومة التيار الطبيعي‪ ،‬ولكن القرآن َّ‬
‫ثابتة حتى في بالدها‪ْ ،‬‬
‫قريش في بالدهم‪ ،‬وأذاعها في جميع البلدان العربية‪ ،‬وفي سائر البالد‪ ،‬أو حيث‬
‫كثرت مخالطة العرب الضاربين في أقطار األرض للجهاد والتجارة‪ .‬وال الماهابهارتا‬
‫السنسكريتية‪ ،‬وال كتاب تاو لألوتسة‪ ،‬وال كتاب كونفوشيوس في اللغة الصينية‪ ،‬وال‬
‫التوراة وال األناجيل‪ ،‬قامت اللغات التي كتبت بها مقام القرآن للغة العربية»‪.‬‬
‫«فلوال (القرآن الكريم) لكان العرب اليوم يتخذون لهجاتهم وسائل إلى التعبير‬
‫عن وجدانهم وأفكارهم ومجتمعاتهم‪ ،‬ولكانت أمتنا العربية أصبحت شعوباً تتكلم‬
‫لغات مستقلة كاأللمانية والفرنسية واإلسبانية والبرتغالية واإليطالية»‪.‬‬
‫إن العربية قد أثرت تأثيراً قوياً‪ ،‬وبعيد المدى في اللغات األخرى التي‬ ‫ثم َّ‬
‫َّ‬
‫عاصرت نزول القرآن‪ ،‬وكان هذا التأثير باإلحياء واالستمرار‪ ،‬كما حدث للغات التركية‬
‫والفارسية والسواحلية‪ ،‬أ ْو باإلفناء واإلبادة كما حدث في اللغات‪ :‬القبطية والسريانية‬
‫والعبرية‪ ،‬أ ْو بدخول مئات من الكلمات إليها‪ ،‬كما حدث للغات الغربية‪ :‬اإلنجليزية‬
‫والفرنسية واإلسبانية»‪.‬‬
‫وفي بحث للبروفيسور (إبيان) أحد أعالم االستشراق‪ ،‬قال‪ :‬إن مجموع ألفاظ اللغة‬
‫األرمنية عشرون ألف كلمة‪ ،‬يوجد بينها (‪ )1500‬كلمة عربية‪ ،‬تستخدم في تلك اللغة‪.‬‬
‫لقد حفلت لغات الشعوب اإلسالمية (الفارسية‪ ،‬والتركية‪ ،‬واألردية‪ ،‬وغيرها) بحظ‬
‫وافر من األلفاظ العربية؛ مما دعا عميد األدب اإلسالمي المقارن الدكتور حسني مجيب‬
‫"إن من نصوص تلك اللغات ما ال وجود فيها منها َّ‬
‫إال الرابطة أو‬ ‫املرصي((( ـ إلى القول ‪َّ :‬‬
‫الفعل‪ ،‬بينما سائر األلفاظ مستعارة من لغة العرب"‪.‬‬
‫فقد نظر أبناء هذه الشعوب عقب الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬إلى العربية نظرة إجالل‬
‫وتقديس؛ ألنها اللغة الشريفة التي نزل بها القرآن الكريم‪ ،‬والتي حملت عوامل القوة‬
‫والبقاء والحيوية دون سائر لغات العالم‪ ،‬فتعلّقوا بها‪ ،‬وأبدعوا بها روائعهم‪ّ ،‬‬
‫وفضلوها على‬
‫لغاتهم المحلية‪.‬‬

‫((( أثر املعجم العريب يف لغات الشعوب اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬حسين مجيب المصري‪.‬‬

‫‪- 141 -‬‬


‫أي لغة ـ إنما تتأثر بحضارة األمة التي تنتسب إليها‪ ،‬وبتقاليدها‬‫أجل‪ .‬فاللغة ـ ّ‬
‫وأعرافها المتوارثة‪ ،‬وعقائدها ونوعية ثقافتها‪ ،‬وكذلك بيئتها الجغرافية‪ .‬وكل تطور‬
‫البد أن تتردد أصداؤه في اللغة؛ ولذلك تُعد اللغات‬
‫يلحق بناحية من هذه النواحي‪َّ ،‬‬
‫أصدق ِسجل لتاريخ الشعوب؛ فمن خالل األطوار التي تجتازها اللغة؛ يمكن الوقوف‬
‫مر بها أهلها على امتداد تاريخهم‪ ،‬وهذا ما يلزم أن تدخل اللغة‬ ‫على المراحل التي ّ‬
‫مفردات جديدة عن طريق‪ :‬الوضع واالشتقاق واالقتباس‪ ،‬وهو ما حدث في اللغات‪:‬‬
‫الفارسية والتركية واألردية والهوسا والسواحلية والبنغالية‪.‬‬
‫إن طبيعة أهل اللغة ـ أية لغة ـ والتي ُجبِلوا عليها‪ ،‬تتجلى في أسلوبهم‪،‬‬
‫ثم َّ‬
‫وطريقة تفكيرهم‪ ،‬وهذا يُذ ّكرنا بما قيل؛ من أن طبيعة الشعوب وأساليبهم في‬
‫التفكير‪ ،‬التي تتباين في وضوح؛ فمما يُقال إن الشعوب السامية كالعرب ‪-‬على سبيل‬
‫المثال‪ -‬يصفون ما يقع تحت أعينهم‪ ،‬كما هو بحذافيره‪ ،‬فال يكادون يُضيفون إليه‬
‫شيئاً بخيالهم‪ ،‬في تعبيرهم عنه‪َّ ،‬‬
‫إال إذا كانوا شعراء‪.‬‬
‫لكن الشأن يختلف عند اآلريين كالفرس‪ ،‬فهم مشغوفون بالتمثيل وال ّت ّخيل‪ ،‬في‬
‫ِشعرهم وكالمهم‪.‬‬
‫لقد احتوت (اللغـة الفارسيــة) على كثير من األلفاظ العربية؛ وقد أحصى أحد‬
‫الباحثين عدد المفردات العربية في بعض نصوص التراث الفارسي؛ فقال‪" :‬إن في‬
‫الصفحة األولى من تاريخ البيهقي‪ ،‬استخدم الكاتب مائة وخمساً من الكلمات العربية‪،‬‬
‫من مائتين وستة وخمسين كلمة فارسية‪.‬‬
‫ويرى الدكتور محمد نور عبد املنعم((( أن مؤلف كتاب "قابوس نامه" أورد ثماني عشرة‬
‫إن منهم من أحصى اثنتين وأربعين‬ ‫كلمة عربية من مائة وعشرين كلمة فارسية‪ْ .‬‬
‫بل َّ‬
‫كلمة عربية في نص واحد‪ ،‬في إحدى ُخطب شاه إيران من مائة وعشرين كلمة فارسية"‪.‬‬
‫أن كثرة األلفاظ العربية في الفارسية شيء‬ ‫ويؤكد الدكتور مجيب المصري ـ َّ‬
‫ُمالحظ في النصوص القديمة والحديثة على حد سواء‪ .‬وأن هذه الكثرة تتفاوت‪ ،‬كما‬
‫أن هذه األلفاظ منها ما َّ‬
‫دل على معنى جديد‪ ،‬لم يكن في العربية‪ ،‬أو منها ما اس ّتخدم‬
‫بمعناه في العربية‪ .‬وفي اإلمكان متابعة هذه األلفاظ العربية في تزايدها في الفارسية‬
‫على امتداد القرون‪.‬‬

‫(( ( د‪ .‬محمد نور عبد المنعم‪.‬‬

‫‪- 142 -‬‬


‫ويضرب أمثلة لِما يقول؛ "ففي ُمستهل العهد الساماني (‪261‬هـ ـ ‪389‬هـ) كان‬
‫عدد األلفاظ العربية في الفارسية محدوداً‪ ،‬وال يتجاوز خمسة أ ْو عشرة ألفاظ في مائة‬
‫لفظ فارسي‪َّ ،‬أما في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري؛ فأصبحت خمسين‬
‫في المائة‪ ،‬وفي القرون‪ :‬السادس والسابع والثامن الهجرية؛ زادت كثيراً ألفاظ العربية‬
‫حتى بلغت ثمانين في المائة"‪.‬‬
‫فكلمة (عورت) بمعنى امرأة وزوجة‪ ،‬وقد انتقلت منها إلى التركية واألردية‪ .‬وهي‬
‫في العربية بمعنى سوءة اإلنسان‪ ،‬وكل ما يستحي منه‪ ،‬ويكره أ ْو يحرم كشفه‪ .‬والحرم‬
‫والحريم‪ ،‬هو كل موضع تلزم حمايته‪" ،‬حريم الرجل" ما يحميه ويُقاتل عنه‪ .‬ويُطلق‬
‫بل من يحل فيه‬ ‫ألن المراد ليس المكان‪ْ ،‬‬
‫هذا االسم في اللغات الشرقية على المجاز؛ َّ‬
‫ويسكنه من النساء‪ .‬وإنما أُطلق هذا االسم ُمبالغة في حجب عيون الغرباء عن النساء‪.‬‬
‫وإن كنا في مصر‬‫ولكننا ال نكاد نقع على هذا االسم بمعنى النساء في كتب العرب؛ ْ‬
‫نذكره توسعاً؛ ولعلنا تلقيناه عن التركية‪ ،‬كما ُس ّميت الزوجة في مصر حرماً بهذا المعنى‪.‬‬
‫وأما كلمة (عيال) في الفارسية؛ فتعني زوجة‪َّ ،‬أما في العربية؛ فهي كل من يعول‬
‫َّ‬
‫الرجل في بيته من زوجة وأوالد وأتباع‪ ،‬وكل من تلزمه نفقة الرجل عليهم‪ .‬ويُفهم من‬
‫هذا أن الرجل ُمل َزم بأن يعول زوجه‪ ،‬قبل غيرها ممن يعول‪ ،‬خاصة أن دخول االسم‬
‫في صيغة الجمع يوحي بأن لها الصدارة قبل غيرها‪ ،‬وأن غيرها تابع لها‪.‬‬
‫وتسمى المرأة "مستوره" في الفارسية واألردية‪ .‬ومن شواعر الفارسية في الهند‪،‬‬
‫في القرن السادس عشر للميالد‪ ،‬اختارت أميرة لنفسها لقباً في ِشعرها هو "مخفي"‬
‫سري وخفي ومستور؛ مما يدل على أن هذا االسم يشهد لصاحبته بالصون‬ ‫بمعنى ّ‬
‫والعفاف واالحتجاب عن العيون‪.‬‬
‫والمالحظ أن المتصوفة من شعراء الفارسية والتركية واألردية‪ ،‬يُطلِقون اسم‬
‫درك من هذا؛ أنها بجمالها تشهد على قدرة الله‬
‫والم َ‬
‫الحسن الف ّتان‪ُ .‬‬
‫"شاهد" على ذات ُ‬
‫ع ّز وجل‪.‬‬
‫وال وجود لمثل هذه المعاني في لغة العرب؛ فمعنى الشاهد في العربية‪ ،‬مختلف‬
‫عن معناها الرمزي في شعر الفرس والترك والهند الصوفي‪.‬‬
‫لقد تأثر الفرس بألفاظ العرب‪ ،‬لحبهم للعربية؛ فأدخلوا تعابيرها في جسد لغتهم؛‬
‫لكي تتطور وتنمو‪ ،‬وتُصبح لغة عالمية‪ ،‬كالعربية؛ لغة دين وأدب وفكر‪ ،‬ومنهج حياة‪.‬‬
‫ْ‬

‫‪- 143 -‬‬


‫وفي ألفاظ لغة الفرس‪ ،‬التي يتألف اللفظ فيها من مقاطع‪ ،‬وهذه المقاطع تؤلف‬
‫عبرون عن أسلوبهم في التفكير وال ّت ّ‬
‫حضر‪.‬‬ ‫صورة بيانية‪ ،‬يُ ّ‬
‫ويسوق الدكتور المصري أمثلة وشواهد وبراهين‪ ،‬من األلفاظ التي استعارها‬
‫الفرس عن العرب‪ ،‬وط ّوروا معناها‪ ،‬في لغتهم؛ مستجيبين لسليقتهم؛ فكلمة (انقالب)‬
‫في الفارسية‪ ،‬بمعنى الثورة‪ ،‬بمعناها المتعارف المألوف‪ ،‬وهي الخروج عن طاعة‬
‫الحاكم‪ ،‬وإعالن العِصيان عليه‪ ،‬والرغبة في خلعه‪ ،‬وتغيير نظام حكمه‪ .‬فالكلمة في‬
‫عل‪ ،‬أ ْو‬
‫الحسي عند العرب‪ ،‬تدل على حركة‪ ،‬قد تكون بمعنى السقوط من ِ‬ ‫معناها ِ‬
‫يتحصل من معناها الحسي‪،‬‬‫ّ‬ ‫تغيير الوضع من جانب إلى جانب ُمضاد‪ ،‬وهذا كل ما‬
‫ولكن معناها في الفارسية‪ ،‬ال يتعلق بمثل تلك الحركة المحسوسة في لغة العرب‪.‬‬
‫ولقد صدق ما قيل عن الفرس؛ من أن الفارسي يتكلم بالمجاز والخيال‪ ،‬ويميل‬
‫إلى التصوير‪ ،‬وذلك في اتصال ودوام‪ ،‬حتى فيما يأخذ بأطرافه من أحاديث بينه وبين‬
‫يحدثه في كل يوم‪.‬‬
‫من ِّ‬
‫كما أن الفارسية تحتوي على كلمات أُ ِخذت عن العربية‪ ،‬وصاغوها صياغة‬
‫خاصة‪ .‬فتدل على معنى جديد‪ ،‬ليس له من وجود في العربية‪ .‬مثال ذلك كلمة "ذو‬
‫حياتني"‪ .‬فالعربي ال يفهم منهما شيئاً‪َّ .‬أما الفارسي فيقصد بهما الحيوان البرمائي‪،‬‬
‫كالتمساح والضفدعة‪.‬‬
‫َّأما عن األلفاظ العربية التي دخلت (اللغـة الرتكيـة) فقد دخلتها عن الفارسية‬
‫المتأثرة أص ً‬
‫ال بالعربية؛ فقد امتزجت العربية بالتركية‪ ،‬كما امتزجت العربية بالفارسية‪.‬‬
‫بالدين لم يتغير معناها في الفارسية والتركية‬ ‫على أن األلفاظ العربية المتعلقة ِّ‬
‫واألردية عن األصل العربي‪ .‬فاألتراك يطلقون كلمة "عالج" على الدواء؛ لقيام الصلة بين‬
‫وإن كانوا ال يقصدون كلمة التداوي العربية‪ ،‬في معناها العربي‪ ،‬على أن‬‫الدواء والداء‪ْ ،‬‬
‫ال؛ فكأنهم استعاروها من العربية‪ ،‬واستخدموها‬ ‫الترك ال يستخدمون كلمة "عالج" أص ً‬
‫على نحو خاص بهم‪ .‬وعندهم كلمة "مدهش" بمعنى " ُمخيف" حيث أخذوا عن الفرس‬
‫كلمة "دهشت" التي ط ّوروها عن العربية‪ ،‬وصاغوها صياغة عربية‪ ،‬بيد أنهم استعاروا‬
‫وغيروا‬
‫هذه الكلمة عن العربية كذلك‪ ،‬بمعناها في لغة الضاد‪ ،‬وهي ال تعني الخوف‪ّ ،‬‬
‫بنيتها وجعلوها تركية؛ فقالوا "دهشتلي" ُمضيفين الالم والياء‪ ،‬وهما عالمة النِسبة‪،‬‬
‫وهم بذلك أميل إلى الواقع من الفرس‪ ،‬واستطاعوا إقامة فارقاً بين المعنيين‪.‬‬
‫فرق الترك كلمة " ِقيمت" عن معناها األصلي؛ فقد استخدموها بمعنى ذي‬
‫كذلك ّ‬
‫القيمة؛ فقالوا "قيمتيل" وجعلوها ِصفة للصديق العزيز الحبيب؛ فخرجت خروجاً بعيداً‬

‫‪- 144 -‬‬


‫عن معناها في العربية‪ .‬وإذا كانت كلمة "نفيس" في اللغة العربية تُرادف كلمة "ذا‬
‫المخلص‬‫القيمة"‪ ،‬فجدير بالمالحظة أنهم يريدون بها "لذيذ الطعم‪ .‬ونوضح أن العزيز ُ‬
‫قيما‪ ،‬ولو على سبيل التشبيه‪.‬‬‫عد شيئاً ّ‬
‫قد يُ ّ‬
‫غير الترك في داللة األلفاظ العربية؛ ولكن على نحو خاص بهم دون غيرهم‪.‬‬
‫وهكذا يُ ّ‬
‫لكن هناك من علماء الترك من يقول‪ :‬إن أخذ التركية عن العربية ألفاظاً انصرفت عن‬
‫عد مشكلة من المشكالت التركية‪ .‬وإن مجموعة من األلفاظ‬ ‫معان أخرى‪ ،‬يُ ّ‬
‫معناها إلى ٍ‬
‫تغير معناها فيها‪ ،‬بل ربما لم تُسمع عند العرب بهذا المعنى‪.‬‬
‫العربية التي دخلت التركية ّ‬
‫فكلمة (إحساس) في العربية‪ ،‬تأتي بهذا المعنى‪ ،‬وتأتي بمعنى (احتساس) في التركية‪.‬‬
‫تغيرت بنيتها‪ ،‬وال وجود لها في‬
‫وكلمة (استمزاج) وكلمة (مدرر) في التركية‪ّ ،‬‬
‫معاجم العربية‪.‬‬
‫ومن اإلنصاف القول ‪ :‬إن النصوص التركية الزاخرة باأللفاظ العربية‪ ،‬هي التي‬
‫ش ّكلت أدب الخواص‪ ،‬ال أدب العوام‪.‬‬
‫كذلك؛ تأثرت (اللغـة األرديــة) بالعربية أوالً‪ ،‬ثم بالفارسية‪ ،‬وهي لغة بالد الهند‬
‫عبرت عن حضارة اإلسالم‬‫اإلسالمية‪ ،‬التي غزاها الفرس في القرن الرابع الهجري‪ ،‬والتي ّ‬
‫أن تتسرب إليها ألفاظ عربية من الفارسية‪.‬‬‫في شبه القارة الهندية‪ ،‬وكان من الطبيعي ْ‬
‫ولقد راعى الهنود المسلمون تطور المعنى لكلمات العربية التي دخلت لغتهم‬
‫الفتية‪ ،‬واندمجت فيها‪ .‬وقد اهتموا أوالً بترجمة معاني القرآن الكريم إلى األردية؛‬
‫فكانت النقلة الكبرى في لغتهم‪ ،‬والتي أمدتهم بزا ٍد وفير من األلفاظ العربية‪.‬‬
‫الخالصـة؛ أن العرب حملوا اإلسالم إلى العالم‪ ،‬وحملوا معه لغة القرآن‪ ،‬واستعربت‬
‫شعوب غرب آسيا وشمال إفريقية باإلسالم‪ ،‬فتركت لغاتها األولى‪ ،‬وآثرت لغة القرآن‪.‬‬
‫أن حبهم لإلسالم هو الذي عربهم‪ ،‬فهجروا ديناً إلى دين‪ ،‬وتركوا لغ ًة إلى أخرى‪.‬‬
‫أي َّ‬
‫ْ‬
‫بل شارك األعاجم ـ الذين دخلوا اإلسالم ـ في عبء شرح قواعد العربية وآدابها‬
‫لآلخرين‪ ،‬فظهر منهم أشهر علماء النحو والصرف والبالغة بفنونها الثالثة‪ :‬المعاني‪،‬‬
‫مألت الدنيا‪،‬‬
‫مصنفاتهم وروائعهم التي ْ‬ ‫والبيان‪ ،‬والبديع‪ .‬والزالت األمة كلها عالة على َّ‬
‫وشغلت الناس‪.‬‬
‫ْ‬

‫‪- 145 -‬‬


‫أثر العربية يف اللغات األجنبية‬
‫في كتابه «إسبانيا يف تاريخها ـ املسيحيون واملسلمون واليهود»‪ ،‬يقول البروفيسور‬
‫«أما القرآن فهو الكتاب الذي يرتله الجميع‪ ،‬وهو مكتوب بنفس اللغة‬ ‫أمريكو كاسرتو ‪َّ :‬‬
‫التي الزال المسلمون يكتبون بها حتى اليوم‪ ،‬وهي العربية‪ .‬وهذا هو السر في عدم‬
‫تحولها إلى لهجات»‪.‬‬
‫ويقول أيضاً ‪« :‬إن اللغة الرومانية اإلسبانية قد اتخذت الكلمات العربية شديدة‬
‫الصلة بالحياة‪ ،‬وكأنها شيء تفرضه الظروف‪ ،‬وليست السلطة الحاكمة‪َّ .‬أما العنصر العربي‬
‫في اللغة الرومانية األيبيرية‪ ،‬فيرجع إلى ضرورة ملحة تتعلق باستيراد الحاجيات التي‬
‫هي ثمرة القدرات اإلنتاجية العربية المتفوقة‪ ،‬وتتعلق بتلك الواردات اللغوية العربية‬
‫بمناحي شتى في الحياة‪ ،‬إ ْذ تشمل الزراعة وتشييد المباني والفنون والحرف المختلفة‬
‫القون والقائمون‬‫والعلوم وشئون الحرب‪ .‬وكان الخياطون من المسلمين‪ ،‬وكذلك الح ّ‬
‫ولما كانت صالت اللغة البرتغالية بباقي أوربا‬
‫على أمور الديوان والحسابات والزراعات‪َّ .‬‬
‫حل محلها‬‫أقل مقارنة باإلسبانية‪ ،‬فقد حافظت على الكثير من الكلمات العربية‪ ،‬والتي َّ‬
‫في اإلسبانية كلمات من أصل روماني»‪.‬‬
‫وفي رسالته عن األلفاظ العربية في اللغة اإلنجليزية‪ ،‬يقول ‪" : Walt taiyllr‬إنه‬
‫في الفترة ما بعد ‪1450‬م كان الداخل إلى اللغة اإلنجليزية من األلفاظ العربية بمعدل‬
‫‪ % 83‬وذلك بعد أن اتسعت آفاق التجارة وأسباب المواصالت بين الشرق والغرب‪ ،‬وقد‬
‫كان للجزيرة األندلسية أعظم أثر فيما قدمته العربية للغات األوربية‪ ،‬فالسيادة العربية‬
‫طعمت لغتها اإلسبانية والبرتغالية بعدد‬‫التي بقيت في تلك الجزيرة بضعة قرون‪ ،‬قد َّ‬
‫كبير من األلفاظ"‪.‬‬
‫إن الذي يفتح كتاب (تكملة املعاجم العربية) للمستشرق (رينهارت دوزي‬ ‫ْ‬
‫بل َّ‬
‫‪ )Douzy Rinhart‬عن األلفاظ العربية في اللغة اإلسبانية؛ يجد فيه نحو (‪ 1500‬كلمة)‬
‫من أصل عربي‪ ،‬يرجع بعضها إلى الحقبة العربية في األندلس‪.‬‬
‫أيضاً؛ دخلت إلى اللغات األوربية مصطلحات كثيرة عن طريق جزيرة صقلية‪.‬‬

‫‪- 146 -‬‬


‫قسم "أنيس املقديس" هذه األلفاظ العربية إلى عدة أنواع ‪:‬‬
‫وقد َّ‬
‫أوالً ‪ :‬أعالم أشخاص وأمكنة وألقاب خاصة‪.‬‬
‫ثانيا ً‪ :‬ألفاظ ومصطلحات مستحدثة‪.‬‬
‫والشعرى‪ ،‬ورأس الثعبان)‪.‬‬
‫ثالثاً ‪ :‬مصطلحات علمية؛ كأسماء النجوم (إبرة العقرب‪ِّ ،‬‬
‫رابعاً‪ :‬ألفاظ عربية تبنتها اإلنجليزية‪ ،‬مثل (منبر‪ ،‬كنيسة‪ ،‬صراط‪ ،‬فردوس‪ ،‬سكر‪،‬‬
‫مسك)‪.‬‬
‫أن كثيراً من هذه الكلمات والمصطلحات؛ اندمجت في اإلنجليزية‪،‬‬ ‫كما لوحظ َّ‬
‫وغيرها من اللغات األوربية‪ ،‬حتى لم تعد أصولها العربية واضحة‪.‬‬
‫ويقول األب رفائيل نخلة اليسوعي في كتابه (غرائب اللغة العربية) ‪" :‬في القاموس‬
‫العربي عجائب وغرائب عديدة‪ ،‬قلما نجد أمثالها في قواميس أشهر اللغات‪ ،‬وأعجب تلك‬
‫رت تأثيراً ذا درجات متباينة من الشدة في‬ ‫المزايا مختص بلغتنا وحدنا‪ ،‬وهو كونها أثّ ْ‬
‫نحو مائة من لغات العالم ولهجاته‪ ،‬ومن جملتها أرقى اللغات األوربية‪ .‬فحسبنا ذلك‬
‫فخراً يدوم إلى منتهى األجيال‪ ،‬ويحثنا على زيادة التعلق بلساننا‪ ،‬وبذل أقصى الجهد‬
‫لتحسينه‪ ،‬ولرفع مستوى أدائه‪ ،‬وتوسيع نطاقه‪ .‬والحمد لله تعالى الينبوع الفياض لكل‬
‫حل به لغة الضاد من المحاسن الرائعة‪ .‬وقد فاقت لغتنا العربية أشهر اللغات‬ ‫الخير‪ ،‬على ما َّ‬
‫وإن هذا‬
‫بكثرة الصيغ والمترادفات‪ ،‬فانتشرت في أقطار عديدة من آسيا وإفريقيا وأوربا‪َّ .‬‬
‫المجد المختص بلغة الضاد لمن العجب العجاب الذي يثير قوى العقل الكتشاف أسبابه‬
‫نابت على لسان شعوبها مناب لغات‬ ‫شرقاً وغرباً‪ .‬ومن العجيب ـ كذلك ـ أن اللغة العربية ْ‬
‫الشعوب األصلية كاآلرامية في سوريا والقبطية في مصر‪ .‬وهناك أكثر من سبع وثالثين‬
‫لغة اقتبست الكثير من كلماتها وألفاظها من اللغة العربية؛ كاإليرانية‪ ،‬والتركية‪ ،‬والهندية‪،‬‬
‫بحيث ال يكاد العثور على جملة في تلك اللغات ليس من بينها ألفاظ عربية‪ ،‬حتى إنه في‬
‫األربع والثالثين آية األولى من إنجيل القديس يوحنا‪ ،‬وجدنا (‪ 111‬كلمة) عربية‪.‬‬
‫وقد دخلت من األلفاظ العربية إلى لغات أوربا المئات‪ ،‬فهناك اثنتا عشرة كلمة‬
‫بالدين اإلسالمي‪ ،‬مثل‪( :‬إسالم‪ ،‬حريم‪ ،‬خليفة‪ ،‬صوفي‪ ،‬قرآن‪ ،‬مؤذن‪ ،‬محمدي‪،‬‬‫مختصة ِّ‬
‫مسجد‪ ،‬مسلمون‪ ،‬مفتي‪ ،‬منارة‪ ،‬هجرة)‪.‬‬
‫وخمس وثالثون كلمة ألسماء نباتات‪ ،‬أو مواد نباتية‪ ،‬مثل (بطيخ‪ ،‬تمر هندي‪،‬‬
‫حشيش‪ ،‬خروب‪ ،‬زعفران‪ ،‬برقوق‪ ،‬سحلب‪ ،‬س ّكر‪ ،‬صندل‪ ،‬عنبر‪ ،‬فستق‪ ،‬قطران‪ ،‬ليمون‪،‬‬
‫كافور‪ ،‬ياسمين‪ ،‬غزال‪ ،‬زعرور)‪.‬‬

‫‪- 147 -‬‬


‫وكلمات عبارة عن أسماء حيوانات أو مواد حيوانية‪ ،‬مثل (ببغاء‪ ،‬جمل‪ ،‬زرافة‪،‬‬
‫صقر‪ ،‬غزال‪ ،‬يربوع‪ ،‬مسك‪ ،‬قرمز)‪.‬‬
‫وهناك ألفاظ متعلقة بالعرب‪ ،‬مثل‪( :‬شيخ‪ ،‬أمير‪ ،‬شرقيون‪ ،‬مستعرب‪ ،‬بدو)‪.‬‬
‫وهناك ألفاظ ذات صلة بالحكومة‪ ،‬مثل‪( :‬أمير البحر‪ ،‬دار الصناعة‪ ،‬ديوان‪ ،‬سلطان‪،‬‬
‫وزير)‪.‬‬
‫وهناك كلمات اختصت بعلم الرياضيات‪ ،‬مثل ‪( :‬جبر‪ ،‬صفر‪ ،‬والخوارزمي)‪.‬‬
‫وكلمات متعلقة بعلم الفلك‪ ،‬مثل ‪( :‬سمت‪ ،‬نظير‪ ،‬سمت الرأس‪ ،‬عضاضة)‪.‬‬
‫وكلمات مختصة بالكيمياء‪ ،‬مثل (إكسير‪ ،‬كيمياء‪ُ ،‬ك ُحل‪ ،‬طلق‪ ،‬إنبيق‪ ،‬وملغَم)‪.‬‬
‫وفي كتابه (تاريخ دراسة اللغة العربية بأوربا) يعلِّل المستشرق النمساوي يوسف‬
‫"إن العربية ذاعت شهرتها ولهجتها العذبة حين‬‫جربا ـ انتشار العربية وسريانها‪ ،‬فيقول‪َّ :‬‬
‫بدأ الرهبان وبعض عظماء المسيحيين ينزلون إلى بالد األندلس وجزيرة صقلية‬
‫وفلسطين‪ ،‬حيث شاهدوا هندسة المباني العربية البديعة الدالة على تمدين عجيب‪،‬‬
‫وحين اطلعوا على النقود اإلسالمية التي ُض ِر ْ‬
‫بت بغاية اإلتقان‪ ،‬بعكس ما كانت عليها‬
‫نقودهم من البساطة‪.‬‬
‫في دراسة لغوية جادة بعنوان (اللغة العربية أصل اللغات) أنجزتها الدكتورة تحية‬
‫عبد العزيز ـ المتخصصة في علم اللغويات ـ في حوالي عشر سنوات من البحث‬
‫والمقارنة؛ قارنت بين الكلمات المشتركة بين (العربية) ونظيراتها في اللغات األخرى؛‬
‫كاإلنجليزية‪ ،‬والالتينية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬واإليطالية‪ ،‬واأللمانية ‪ ...‬وكشفت عن عدد الكلمات‬
‫العربية في اللغات األخرى‪ ،‬وحجم التأثير الذي أحدثته العربية في غيرها‪ ،‬ومدى‬
‫احتياج تلك اللغات للعربية‪.‬‬
‫كما كشفت عن أسباب التشابه بين األلفاظ العربية ونظيراتها في اللغات األخرى‪.‬‬
‫وتوصلت إلى سعة "العربية" وغناها‪ ،‬وضيق اللغات األخرى وفقرها‪ ،‬فـ(الالتينية) بها‬
‫سبعمائة جذر لغوي‪ .‬و(السكسونية) بها ألفا جذر‪ ،‬بينما (العربية) بها ستة عشر ألف‬
‫جذر لغوي‪.‬‬
‫إلى جانب ذلك؛ تتمتع العربية بالتفعيل واالشتقاق والتركيب؛ فكلمة ‪(Tall‬اإلنجليزية)‬
‫بمعنى طويل‪ ،‬والتشابه هنا واضح جداً‪ ،‬ولكن نجد (العربية) تخرج منه مشتقات وتراكيب‬

‫‪- 148 -‬‬


‫ليس لها عدد ‪ :‬يطول‪ ،‬طائل‪ ،‬طائلة‪ ،‬طويل‪ ،‬وغيره بينما لفظ ‪ Tall‬ال يخرج منه شيء‪.‬‬
‫كذلك كلمة ‪ Good‬اإلنجليزية‪ ،‬وهي جيد بالعربي‪ ،‬نجد منها االشتقاق جود‪ ،‬والجودة‪،‬‬
‫أي اشتقاق للفظ ‪.Good‬‬
‫واإلجادة‪ ،‬ويجود‪ ،‬وجواد‪ ،‬وغيره من االشتقاقات‪ .‬لكن؛ ال نجد ّ‬
‫ونجد في "العربية" أن اللفظ الواحد له أكثر من معنى بمجرد تغيير الوزن‪ ،‬فمث ً‬
‫ال ‪:‬‬
‫قاتل وقتيل‪ ،‬وفيض وفيضان؛ اختالفات بالمعنى‪ ،‬ولكن أحياناً تصل إلى العكس مثل‬
‫قاتل وقتيل‪ .‬وهذا اإليقاع الوزني غير معروف في اللغات األخرى‪.‬‬
‫للتعبير عن‬ ‫‪Good، Very Good‬‬ ‫ويضطر اإلنجليزي الستخدام كلمتين‪،‬مثل‪:‬‬
‫الجيد واألجود‪.‬‬
‫وهناك ميزة أخرى ينفرد بها الحرف العربي؛ هي أن لكل حرفداللة ورمزية ومعنى‪،‬‬
‫فحرف (الحاء) يرمز إلى الحدة والسخونة‪ ،‬مثل‪ :‬حمى وحرارة وحر وحب وحريق وحقد‪.‬‬
‫ومنفر‪ ،‬ويدخل في‬‫بينما نجد حرف آخر مثل‪( :‬الخاء) يرمز إلى كل ما هو كريه وسيئ ِّ‬
‫كلمات‪ ،‬مثل‪ :‬خوف وخزي وخجل وخيانة وخالعة وخذالن وخسة وخسيس‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ونرى أيضاً أن الطفل إذا لمس شيئاً حاراً قال أح‪ .‬والكبير إذا نسي شيئاً قال أخ‪.‬‬
‫وهذه الرمزية الخاصة بالحرف‪ ،‬والتي تجعله بمفرده ذا معنى‪ ،‬تنفرد بها اللغة‬
‫العربية‪ ،‬ولذا نجد القرآن المجيد بدأ بعض السور بحرف واحد مثل ‪( :‬ص‪ ،‬ق‪ ،‬ن)‪.‬‬
‫وكأن الحرف بحد ذاته يعني شيئاً‪َّ ،‬‬
‫وألن للحروف العربية معنى ومدلوالً تستطيع‬ ‫َّ‬
‫ال قصيرة جدا‪ ،‬مثل‪( :‬لن أذهب) ومثل هذه الجملة يحتاج االنجليزي‬ ‫أن تؤلِّف جم ً‬
‫إلى جملة طويلة ليترجمها‪ ،‬فيقول ‪I shall not go :‬‬

‫وإذا تتبعنا العربية من ناحية نحوها وصرفها وقواعدها وكلماتها؛ نجد أنها لم تتغير‬
‫على مر آالف السنين‪ .‬وكل ما حدث أنها اتسعت‪ ،‬ولكن لم تحرف مثل باقي اللغات‪.‬‬
‫ففي "اللغة األلمانية القديمة" نجد لغة فصحى خاصة بالشمال تختلف عن التي في الجنوب‪،‬‬
‫ونجد أيضاً أجرومية مختلفة في اللغتين‪ ،‬ونجد التطور يؤدي إلى الدمج واالختصار‪.‬‬
‫وذات الشيء مع الالتينية وأنواعها‪ ،‬وفي اليونانية وفي األنجلو ساكسونية‪.‬‬
‫وحدث وال حرج عن غِنى العربية بمترادفاتها‪ ،‬فاألسد له العديد من األسماء‪،‬‬
‫والضيغم‪ ،‬وغيره من‬
‫ْ‬ ‫فهو‪ :‬الليث‪ ،‬والسبع‪ ،‬والقسورة‪ ،‬والغضنفر‪ ،‬والرئبال‪ ،‬والضرغام‪،‬‬
‫األسماء‪ .‬ولكل اسم داللة معينة‪ ،‬ويعكس صفة بعينها‪ .‬ومن الطبيعي؛ أن يأخذ الفقير‬
‫من الغني‪ ،‬وليس العكس‪.‬‬

‫‪- 149 -‬‬


‫إن "اإلنجليزية" بها قدر كبير من الكلمات ذات األصول العربية‪،‬‬
‫يقول اللغويون ‪َّ :‬‬
‫أحصاها بعض الباحثين في بضع مئات‪ ،‬دخلت اإلنجليزية مباشرة‪ ،‬أ ْو بالواسطة‪ ،‬ولكن‬
‫صلة العربية باإلنجليزية بدأت متأخرة‪ .‬وكان أغلب ما تسرب إلى اإلنجليزية عن‬
‫اللتين تحويان ما يزيد على ألف وخمسمائة‬ ‫طريق اللغتين‪ :‬اإلسبانية والبرتغالية؛ ْ‬
‫كلمة ذات أصول عربية‪ ،‬فيما ما قرره َّ‬
‫العالمة دوزي في كتابه "قامئة الكلامت اإلسبانية‬
‫والربتغالية املشتقة من العربية"‪.‬‬
‫قدمه األستاذ أنيس المقدسي‪ -‬إلى "مجمع اللغة العربية" تعرض‬‫وفي بحث َّ‬
‫لتحقيق مائة وأربعين كلمة عربية واردة في معاجم اللغة اإلنجليزية‪.‬‬
‫وهناك كتاب للدكتور ســليامن أبــو غــوش‪ ،‬بعنوان (عرشة آالف كلمة إنجليزية من‬
‫أصل عريب) طبعة عام ‪1977‬م‪ .‬ودراسة للدكتور محمد عبد العزيز محمد ـ عن (األصل‬
‫العريب ملفردات طب العيون) طبعة عام ‪1975‬م‪ ،‬وغير ذلك من الدراسات المقارنة‪.‬‬
‫أن كثيراً من األلفاظ التي رحلت إلى بالد الغرب‪ ،‬واختلطت بلغاته؛‬ ‫وقد لوحظ َّ‬
‫ألن المرحلة الحضارية‬ ‫رجعت إلينا مرة أخرى في شكل (إعادة اقتراض)‪ .‬ولكن نظراً َّ‬
‫التي نعيشها مرحلة (هزيمة) أمام معطيات الغرب الثقافية والصناعية‪ ،‬فإذا بكلماتنا ال‬
‫بل كما هي في اللغة األجنبية‪.‬‬‫تعود إلى أصلها‪ ،‬وال تنطق كما كانت‪ْ ،‬‬

‫وهذا الجدول يوضح مدى تأثر اللغة اإلنجليزية بالعربية‪ ،‬واقتباسها من ألفاظها ‪:‬‬

‫إنجليزي‬ ‫عربـي‬ ‫إنجليزي‬ ‫عربـي‬


‫‪Able‬‬ ‫قابل‬ ‫‪Vapour‬‬ ‫بخار‬
‫‪Lion‬‬ ‫ليث‬ ‫‪Volcano‬‬ ‫بركان‬
‫‪Neck‬‬ ‫عنق‬ ‫‪Girl‬‬ ‫جارية‬
‫‪Mirror‬‬ ‫مرآه‬ ‫‪Good‬‬ ‫جيد‬
‫‪Hurry‬‬ ‫هرع‬ ‫‪Sherif‬‬ ‫شريف‬
‫‪Hallucinations‬‬ ‫هالوس‬ ‫‪Cat‬‬ ‫قط‬
‫‪Waist‬‬ ‫وسط‬ ‫‪Cave‬‬ ‫كهف‬
‫‪Water‬‬ ‫مطر‬ ‫‪Coffin‬‬ ‫كفن‬
‫‪Loofa‬‬ ‫ليفه‬ ‫‪Wrist‬‬ ‫رسغ‬
‫‪Musk‬‬ ‫مسك‬ ‫‪Jasmine‬‬ ‫ياسمين‬

‫‪- 150 -‬‬


‫إنجليزي‬ ‫عربـي‬ ‫إنجليزي‬ ‫عربـي‬
‫‪mirror‬‬ ‫مرآة‬ ‫‪Mummy‬‬ ‫موميا‬
‫‪Elixir‬‬ ‫األكسير‬ ‫‪Cut‬‬ ‫قطع‬
‫‪Cotton‬‬ ‫قطن‬ ‫‪kill‬‬ ‫قتل‬
‫‪cup‬‬ ‫كوب‬ ‫‪Canon‬‬ ‫قانون‬
‫‪guide‬‬ ‫قائد‬ ‫‪Tail‬‬ ‫ذيل‬
‫بأن تأثير‬
‫وتشهد (زيجريد هونكه) في كتابها (شمس الله تسطع عىل الغرب) َّ‬
‫امتد إلى األلمانية بقوة‪ ،‬وقد مألت كتابها بالكلمات ذات األصل العربي في‬
‫العربية قد َّ‬
‫ضم أكثر من (مائتين وخمسين‬ ‫اللغة األلمانية‪ ،‬وقد أتت في فهارس الكتاب بملحق َّ‬
‫كلمة) بعضها مشترك مع قائمة «بيير جيرو» الفرنسية‪ .‬وهذا نموذج من تأثر اللغتين‪:‬‬
‫(الالتينية) و(األلمانية) بلغة الضاد ‪:‬‬
‫أملانـي‬ ‫عربـي‬ ‫التينـي‬ ‫عربـي‬
‫‪Erd‬‬ ‫أرض‬ ‫‪Allah‬‬ ‫الله‬
‫‪Reise‬‬ ‫أرز‬ ‫‪Auzon‬‬ ‫أذن‬
‫‪Burg‬‬ ‫برج‬ ‫‪Valcan‬‬ ‫بركان‬
‫‪Defence‬‬ ‫دفاع‬ ‫‪Bucula‬‬ ‫بقرة‬
‫‪Assel‬‬ ‫قصر‬ ‫‪Gaballum‬‬ ‫جباية‬
‫‪Katxe‬‬ ‫قط‬ ‫‪Fallita‬‬ ‫فلتة‬
‫‪Lowe‬‬ ‫ليث‬ ‫‪Nafela‬‬ ‫نافلة‬
‫‪Valkan‬‬ ‫بركان‬ ‫‪Cannon‬‬ ‫قانون‬
‫‪Noble‬‬ ‫نبيل‬ ‫‪Nobilis‬‬ ‫نبيل‬
‫‪Jupe‬‬ ‫جبة‬ ‫‪Mameluk‬‬ ‫مملوك‬

‫ولم تكن اللغتان ‪( :‬الفرنسية) و(اإليطالية) في غِنى عن «لغة الضاد» وتأثرهما بها‪،‬‬
‫قدم (بيري جريو) في كتابه (الكلامت األجنبية ‪ )Les mots etrangers‬قائمة من مائتين‬
‫فقد َّ‬
‫وثمانين كلمة من العربية دخلت إلى الفرنسية في العصور المختلفة‪ ،‬وقد وزعها بعناية‬
‫على تواريخ اقتراضها‪ ،‬ومن بينها الكلمات اآلتية‪ ،‬التي يظهر أصلها العربي من أول وهلة ‪:‬‬
‫إيطايل‬ ‫عربـي‬ ‫فرنيس‬ ‫عربـي‬
‫‪Giraffe‬‬ ‫زرافة‬ ‫‪Vapeur‬‬ ‫بخار‬
‫‪Zukora‬‬ ‫سكر‬ ‫‪Serpon‬‬ ‫ثعبان‬
‫‪Goetta‬‬ ‫قطة‬ ‫‪Chagrin‬‬ ‫شجن‬

‫‪- 151 -‬‬


‫إيطايل‬ ‫عربـي‬ ‫فرنيس‬ ‫عربـي‬
‫‪Gazelle‬‬ ‫غزال‬ ‫‪Savon‬‬ ‫صابون‬
‫‪Castello‬‬ ‫قصر‬ ‫‪Nuque‬‬ ‫عنق‬
‫‪Malato‬‬ ‫مريض‬ ‫‪Cave‬‬ ‫كهف‬
‫‪pastèque‬‬ ‫بطيخ‬ ‫‪mosquée‬‬ ‫مسجد‬
‫‪sultan‬‬ ‫سلطان‬ ‫‪Califa‬‬ ‫خليفة‬
‫‪récif‬‬ ‫رصيف‬ ‫‪Emir‬‬ ‫أمير‬

‫وهناك أمثلة أخرى ال حصر لها‪ ،‬أوردتها كتب كثيرة‪ ،‬مثل كتاب «العربية لغة‬
‫العلوم والتقنية» للدكتور عبد الصبور شاهني‪ ،‬وكتاب «لغة آدم عطاء أبدي لبني آدم»‪،‬‬
‫(((‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫إن الحديث في هذا الموضوع قد يحتاج إلى مؤلفات مستقلة‪ ،‬وقد‬ ‫الحـق أقـول ‪َّ :‬‬
‫َّ‬
‫اكتسبت اإلنجليزية من‬
‫ْ‬ ‫تناوله عشرات الباحثين‪ ،‬أمثال‪ Walt taiyllr :‬في كتابه "ما‬
‫العربية"‪ ،‬واألب المنسي‪ ،‬في كتابه "عالقة العربية بالفرنسية"‪ .‬و‪ Douzy‬في كتابه "عالقة‬
‫ال عن قاموس أكسفورد‪ ،‬وقاموس وبستر‪ ،‬ومعجم‬ ‫العربية باإلسبانية والربتغالية"‪ .‬فض ً‬
‫األلفاظ الفلكية ألمين المعلوف‪ ،‬ومعجم ألفاظ النبات للدكتور أحمد عيسى‪ ،‬ومعجم‬
‫األلفاظ الزراعية لمصطفى الشهابي‪ ،‬ومعجم العلوم الطبيعية والطبية للدكتورمحمد‬
‫شرف‪ .‬وهناك أمثلة كثيرة جداً‪ ،‬ربما تفوق الحصر؛ من مختلف اللغات األخرى‪،‬‬
‫كاليونانية‪ ،‬واألنجلو ساكسونية‪ ،‬حتى الهيروغليفية‪ ،‬واآلرامية‪ ،‬تثبت مدى تطابقها مع‬
‫مدكِـر؟‪.‬‬
‫أصلها العربي‪ .‬فهـل من َّ‬

‫((( العربية لغة العلوم والتقنية (سابق)‪.‬‬

‫‪- 152 -‬‬


‫ـهد َ شَ ِ‬
‫ـاهد ٌ من أهلهـا‬ ‫وشَ ِ‬

‫ويتغنون بأمجادها‪ ،‬ومحاسنها‪،‬‬


‫ليس العرب وحدهم الذين يتفاخرون بـ(لغة الضاد) َّ‬
‫فهناك جمهور عريض من الفالسفة والمؤرخين والمفكرين والعلماء واألدباء الغربيين‪،‬‬
‫الذين يتيهون فخراً بالضاد ومزاياها‪ ،‬ويذهبون إلى أبعد ما ذهب إليه العرب أنفسهم‪،‬‬
‫حتى تسابقوا في إنجاز المعاجم والدراسات واألبحاث المستفيضة عن عبقرية العربية‪،‬‬
‫بل وترجموا روائعها إلى لغاتهم المختلفة؛‬ ‫وأصالتها‪ ،‬وتميزها‪ ،‬وكمالها‪ ،‬وجمالها‪ْ ،‬‬
‫بعدما خلبت ألبابهم‪ ،‬وابتلوا بعشقها‪ ،‬وانبهروا بخصائصها‪ ،‬وفاضت ألسنتهم بما أصاب‬
‫شغاف قلوبهم‪.‬‬
‫ال بالحكمة الرفيعة‪« :‬وشهد شاهد من أهلها» نورد طائفة‬ ‫وفي هذا الصدد؛ وعم ً‬
‫بتعليق أ ْو تعقيب‬
‫ٍ‬ ‫من شهادات الغربيين ـ أبناء اللغات األخرى ـ من غير أن نتدخل‬
‫أي شهادة من تلك الشهادات‪ ،‬فهي تتحدث عن نفسها‪ ،‬وتفصح عما بداخلها‪،‬‬ ‫على ّ‬
‫والمبرزين من أبناء الحضارة الغربية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ولن نسوق من الشهادات َّ‬
‫إال ما كان للمشاهير‬
‫فال هم حنابلة وال أحناف‪.‬‬
‫والتغني‬
‫ِّ‬ ‫ِمن هم أحرص على الفخر بحضارتهم‪،‬‬ ‫إنها شهادات اعتراف؛ صدرت م َّ‬
‫متهمين باالنتماء لإلسالم‪ -‬أوقع للحجة‪،‬‬
‫بمواريثهم‪ .‬وهي ‪-‬حين تصدر عمن ليسوا َّ‬
‫وأبلغ في التدليل على عبقرية (لغـة الضـاد) وتميزها بالخصائص التي أوردناها عبر‬
‫صفحات هذا الكتاب‪ ،‬وأدحض لِما يزعمه خصومها األلداء؛ من جمودها وعقمها‬
‫وصعوبتها‪ ،‬وعدم استجابتها لمتطلبات العصر‪.‬‬
‫تتبين غوغائية االتهامات الباطلة‪ ،‬واإلرهاب الفكري‬
‫و«بشهادات شهود من أهلها» َّ‬
‫الذي يمارسه الخصوم‪ ،‬الذين ال يجدون ما ينتصرون به ألكاذيبهم أسهل من وصم‬
‫العرب بالتعصب ألسالفهم ومواريثهم‪.‬‬
‫يقول العالِم اللغوي الفرنسي لويس ماسينيون ‪« :((( Louis Massignon‬استطاعت‬
‫العربية أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر‪ ،‬سوا ًء كان‬

‫((( الفصحى لغة القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪- 153 -‬‬


‫ذلك في االكتشافات العلمية والحسابية أو وصف المشاهدات أو خياالت النفس وأسرارها‪.‬‬
‫تفردت‬ ‫فالعربية من أنقى اللغات‪ ،‬وهي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي‪ْ ،‬‬
‫بل ّ‬
‫وإن التعبير العلمي الذي كان مستعم ً‬
‫ال‬ ‫بتفردها في طرق التعبير العلمي والفني والصوفي‪َّ ،‬‬
‫ّ‬
‫تقدم القوى المادية فلم يتط ّور‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أمام‬ ‫وقف‬ ‫ولكنه‬ ‫القدم‪،‬‬ ‫يتناوله‬ ‫لم‬ ‫الوسطى‪،‬‬ ‫القرون‬ ‫في‬
‫المعبرة عن المعاني الجدلية والنفسانية والصوفية ألنها لم تحتفظ بقيمتها‬ ‫َّأما األلفاظ ّ‬
‫ثم ذلك اإليجاز الذي تتسم به اللغة‬ ‫وتنشطه‪ّ .‬‬
‫لذاتها‪ ،‬بل تستطيع أن تؤثر في الفكر الغربي ّ‬
‫عد معجز ًة لغوي ًة ‪.»..‬‬
‫العربية والذي ال شبيه له في سائر لغات العالم والذي يُ ّ‬
‫وهذا بدوره يتفق تماماً مع رؤية المستشرق وليم ورك ‪ -William-waRk‬التي‬
‫تقول ‪« :‬إن للعربية ليناً ومرون ًة يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر»‪.‬‬
‫ويقول المستشرق الفرنسي (إرنست رينان ‪« : ((()Ernest Rinan‬اللغة العربية‬
‫بدأت فجأة على غاية الكمال‪ ،‬وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر‪ ،‬فليس لها طفولة‬
‫القومية وتصل إلى درجة‬
‫ّ‬ ‫تنبت تلك اللغ ُة‬
‫الم ْدهِشات أن َ‬ ‫وإن من أغرب ُ‬‫وال شيخوخة‪َّ .‬‬
‫الر َّحل‪ ،‬تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثر ِة‬‫الكمال وسط الصحاري عند أ ّمة من ُ‬
‫وحسن نظا ِم مبانيها‪ ،‬ولم يُعرف لها في ّ‬
‫كل أطوار حياتها طفول ٌة‬ ‫ِ‬ ‫مفرداتها ود ّقة معانيها‬
‫وال شيخوخ ٌة‪ ،‬وال نكاد نعلم من شأنها إ ّال فتوحاتها وانتصاراتها التي ال تُبارى‪ ،‬وال‬
‫تدرج‪ ،‬وبقيت محافظ ًة‬‫نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كامل ًة من غير ّ‬
‫على كيانها من ّ‬
‫كل شائبة»‪.‬‬
‫ويرى عالِم االجتماع الفرنسي (جاك بريك ‪« ((() Jak Burke‬إن أقوى القوى التي‬
‫قاومت االستعمار الفرنسي في المغرب هي اللغة العربية‪ ،‬بل العربية الكالسيكية‬
‫الفصحى بالذات‪ ،‬فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا‪ ،‬إن الكالسيكية‬
‫العربية هي التي بلورت األصالة الجزائرية‪ ،‬وقد كانت هذه الكالسيكية العربية عام ً‬
‫ال‬
‫قوياً في بقاء الشعوب العربية»‪.‬‬
‫وقال الكاتب والعالم االسكتلندي جون‪ .‬ج‪ .‬ميليه ‪« : John G. Millais‬إن اللغة‬
‫العربية لم تتراجع عن أرض دخلتها لتأثيرها الناشئ من كونها لغة دين ولغة مدنية‪،‬‬
‫المبشرون‪ ،‬ولمكانة الحضارة التي جاءت بها‬
‫ِّ‬ ‫وعلى الرغم من الجهود التي بذلها‬

‫(( ( مجلة (اللسان العريب) ‪85/ 24‬‬


‫((( الفصحى لغة القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪- 154 -‬‬


‫تبق لغة أوربية‬
‫ولم َ‬
‫الشعوب النصرانية لم يخرج أحد من اإلسالم إلى النصرانية‪ْ ،‬‬
‫واحدة لم يصلها شيء من اللسان العربي المبين‪ ،‬حتى اللغة الالتينية األم الكبرى‪،‬‬
‫فقد صارت وعا ًء لنقل المفردات العربية إلى بناتها»‪.‬‬
‫وفي كتابه «دراسات يف اللغة واللهجات واألساليب» يؤكد المستشرق األلماني‬
‫يوهان فك ‪« : Johann Fuck‬إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها‬
‫العالمي أساسياً لهذه الحقيقة الثابتة‪ ،‬وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية‬
‫واإلسالمية رمزاً لغوياً لوحدة عالم اإلسالم في الثقافة والمدنية‪ ،‬لقد برهن جبروت‬
‫التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى‬
‫عن مقامها المسيطر‪ ،‬وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدالئل؛ فستحتفظ العربية بهذا‬
‫المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية اإلسالمية»(((‪.‬‬
‫وقال غوستاف جرونيباوم ‪« : Gustave E. Grunebaum‬عندما أوحى الله رسالته‬
‫«محمد» أنزلها «قرآناً عربياً»‪ ،‬وما من لغة تستطيع أن تطاول اللغة العربية‬
‫َّ‬ ‫إلى رسوله‬
‫في شرفها‪ ،‬فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية‪ ،‬وليست منزلتها‬
‫الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودع الله في سائر اللغات من قوة وبيان‪،‬‬
‫َّأما السعة فاألمر فيها واضح‪ ،‬ومن ي ّتبع جميع اللغات ال يجد فيها على ما سمعته‬
‫لغة تضاهي اللغة العربية‪ ،‬ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات‪.‬‬
‫وتزيّن دقة التعبير لغة العرب‪ ،‬وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في‬
‫استعمال المجاز‪ ،‬وإن ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيراً فوق كل لغة‬
‫جمة في األسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف‬ ‫بشرية أخرى‪ .‬وللغة خصائص ّ‬
‫له نظائر في أي لغة أخرى‪ ،‬وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال‬
‫أجنبي أقصر في‬
‫ّ‬ ‫ألي مثل‬
‫يبين ذلك أن الصورة العربية ّ‬ ‫المعاني‪ ،‬وفي النقل إليها‪ّ ،‬‬
‫جميع الحاالت‪ ،‬وقد قال الخفاجي عن أبي داود المطران ـ وهو عارف باللغتين العربية‬
‫وخست‪ ،‬وإذا نُقل الكالم‬
‫قبحت ّ‬ ‫والسريانية‪ -‬أنه إذا نقل األلفاظ الحسنة إلى السرياني ُ‬
‫حق حين‬ ‫المختار من السرياني إلى العربي ازداد طالو ًة وحسناً‪ ،‬وإن الفارابي على ّ‬
‫يبرر مدحه العربية بأنها من كالم أهل الج ّنة‪ ،‬وهو المن ّزه بين األلسنة من كل نقيصة‪،‬‬
‫ّ‬
‫ً (((‬ ‫ً‬
‫والمعلى من كل خسيسة ‪ ،‬ولسان العرب أوسط األلسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا» ‪.‬‬ ‫ّ‬

‫((( العربية لغة الوحي والوحدة‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬


‫(( ( (المرجع السابق)‪.‬‬

‫‪- 155 -‬‬


‫ومن جانبه؛ يقول المستشرق األلماني أوجست فيرش ‪« : August Fischer‬وإذا‬
‫كتب علو ِم لغتِه‪ ،‬وبشعو ِره‬ ‫يحق له ال َف ُ‬
‫خار بوفر ِة ِ‬ ‫شعب آخر ّ‬ ‫استثنينا الصين؛ فال يوجد ٌ‬
‫غير العرب» ‪.‬‬
‫(((‬
‫وقواعد َ‬
‫َ‬ ‫أصول‬
‫ٍ‬ ‫ب‬‫بح ْس ِ‬
‫تنسيق مفرداتها‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫المبك ِر بحاجته إلى‬
‫ويرى المستشرق ألفريد غيوم ‪ : Alfred Guillaume‬أنه «يسهل على المرء‪ ،‬أن‬
‫استيعاب اللغ ِة العربي ِة واتساعها للتعبير عن جميع المصطلحات العلمية‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫يدرك مدى‬
‫للعالم القديم بكل يس ٍر وسهولة‪ ،‬بوجود التعدد في تغيير داللة استعمال الفعل واالسم»‪.‬‬
‫ال واضحاً يشرح به وجهة نظره‪ ،‬فيقول‪« :‬إن الجذر الثالثي‬ ‫ويضرب لذلك مث ً‬
‫وكل منها م ّتسق اتساقا صوتياً مع شبيهه‪ ،‬مش ّكال من‬ ‫األلف َع ّدا‪ٌ ،‬‬
‫باشتقاقاته البالغة َ‬
‫أي جذر آخر‪ ،‬يصدر إيقاعاً طبيعياً ال سبيل إلى أن تخطئه األذن‪ ،‬فنحن (اإلنجليز)‬ ‫ّ‬
‫مجردة ال نفكر بالمعنى األصلي للكلمة التي استخدمناها‪ ،‬فكلمة‬ ‫عندما ننطق بفكرة ّ‬
‫ال تبدو منقطعة الصلة بـ (‪ )Socins‬وهي األصل‪ ،‬وال بلفظة (‪،)Ad‬‬ ‫(‪ )Association‬مث ً‬
‫ومن اجتماعهما تتألف لفظة (‪ )Association‬كما هو واضح وتختفي الدالّة مدغمة‬
‫ِق على المرء‬‫لسهولة النطق‪ ،‬ولكن أصل الكلمة بالعربية ال يمكن أن يَ ْس َت ِس ّر ويَ ْس َتد ّ‬
‫يظل بَ ّينا محسوساً على‬ ‫عند تجريد الكلمة المزيدة حتى يضيع تماماً‪ ،‬فوجود األصل ّ‬
‫محسنات بديعي ًة ال طائل تحتها‪ ،‬هو بالغ ٌة غريزي ٌة عند‬ ‫يعد في اإلنجليزية ّ‬ ‫الدوام‪ ،‬وما ّ‬
‫(((‬
‫العربي»‪.‬‬
‫«بأن اللغة العربية لم ت ِ‬
‫َص ْر‬ ‫ويجزم المستشرق األلماني (تيودور نولدكه ‪َّ : )Noldake‬‬
‫ح ّقا عالمي ًة َّ‬
‫إال بسبب القرآن واإلسالم‪ ،‬وقد وضع أمامنا علما ُء اللغة العرب باجتهادهم‬
‫البد أن يزداد‬‫تام‪ ،‬وأنه ّ‬ ‫كمال ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫أبني َة اللغة الكالسيكية‪ ،‬وكذلك مفرداتها في حالة‬
‫تعجب المرء من وفرة مفردات اللغة العربية‪ ،‬عندما يعرف أن عالقات المعيشة لدى‬
‫العرب بسيط ٌة جداً‪ ،‬ولكنهم في داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدقيق في المعنى‬
‫غنية فقط بالمفردات‪ ،‬ولكنها غني ٌة أيضاً‬ ‫خاصة‪ ،‬والعربية الكالسيكية ليست ّ‬ ‫بكلم ٍة ّ‬
‫وتهتم العربية بربط الجمل ببعضها‪ .‬وهكذا أصبحت اللغة (البدويّة)‬ ‫ّ‬ ‫بالصيغ النحوية‪،‬‬
‫للدين والمنتديات وشؤون الحياة الرفيعة‪ ،‬وفي شوارع المدينة‪ ،‬ثم أصبحت لغ َة‬ ‫لغ ًة ِّ‬
‫مؤمن غالباً جداً ما يتلو يومياً في الصالة بعض أجزاء من‬
‫ٍ‬ ‫المعامالت والعلوم‪ ،‬وإن َّ‬
‫كل‬
‫القرآن‪ ،‬ومعظم المسلمين يفهمون بالطبع بعض ما يتلون أو يسمعون‪ ،‬وهكذا كان‬

‫(( ( مقدمة (املعجم اللغوي التاريخي)‪ ،‬أوغست فيشر‪.‬‬


‫مد القاموس– إدوارد لين –ترجمة عبد الوهاب األمير)‪ ،‬بغداد‪.‬‬
‫(( ( مجلة (املورد)‪ ،‬المجلد ‪ 5‬العدد‪« 2‬مقدمة ّ‬

‫‪- 156 -‬‬


‫ألي‬
‫البد أن يكون لهذا الكتاب من التأثير على لغة المنطقة الم ّتسعة ما لم يكن ّ‬‫ّ‬
‫كتاب سواه في العالم‪ ،‬وكذلك يقابل لغة الدين ولغة العلماء والرجل العادي بكثرة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫(((‬
‫الصحة»‪.‬‬
‫ويؤ ّدي إلى تغيير كثير من الكلمات والتعابير في اللغة الشعبية إلى ّ‬
‫وتتساءل المستشرقة األلمانية (زيجريد هونكه‪ )Sigrid Hunke‬في كتابها «شمس‬
‫َ‬
‫جمال العربية ومنط َقها‬ ‫العرب تسطع عىل الغرب» ‪« :‬كيف يستطيع اإلنسان أن يُقاوم‬
‫وسحرها الفريد؟‪ .‬فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا‬ ‫َ‬ ‫السليم‬
‫صرعى سحر تلك اللغة‪ ،‬فلقد اندفع الناس الذين بقوا على دينهم في هذا التيار‬
‫ال ماتت تماماً‪ْ ،‬‬
‫بل إن اللغة اآلرامية‬ ‫بشغف‪ ،‬حتى إن اللغة القبطية مث ً‬
‫ٍ‬ ‫يتكلمون العربية‬
‫محمـد»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫لتحتل مكانها لغة َّ‬ ‫لغة السيد المسيح قد تخلّت إلى األبد عن مركزها‬
‫ويعترف المستشرق األلماني الفذ «كارل بروكلامن ‪َّ »KarlBrockelmann‬‬
‫بأن‬
‫أي لغ ٍة أخرى من لغات‬‫مدى ال تكاد تعرفه ُّ‬
‫«العربية بلغت بفضل القرآن من االتساع ً‬
‫بأن العربية وحدها اللسان الذي أُ ِح ّل لهم أن‬
‫الدنيا‪ ،‬والمسلمون جميعاً مؤمنون َّ‬
‫(((‬
‫يستعملوه في صالتهم ‪»...‬‬
‫«وهب‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫وذهب عالِم اللغويات البلجيكي جورج سارتون ‪ George Sarton‬إلى َّ‬
‫الل ُه اللغة العربية مرون ًة جعلتها قادر ًة على أن تد ّون الوحي أحسن تدوين؛ بجميع‬
‫وإن العربية‬
‫تعبر عنه بعبارات عليها طالوة وفيها متانة‪َّ ،‬‬
‫دقائق معانيه ولغاته‪ ،‬وأن ّ‬
‫أسهل لغات العالم وأوضحها‪ ،‬فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة‬
‫أي خطاب‪ ،‬فلن تجد صعوبة في قراءة‬ ‫لتسهيل السهل وتوضيح الواضح‪ ،‬فإذا فتحت ّ‬
‫أردأ خط به‪ ،‬وهذه هي طبيعة الكتابة العربية التي تتسم بالسهولة والوضوح» ‪.‬‬
‫(((‬

‫"أن اللغة العربية ليست أغنى‬‫بينما المستشرق األلماني فريتاغ ‪ ((( Freitagb‬يرى َّ‬
‫وإن‬
‫بل إن الذين نبغوا في التأليف بها ال يكاد يأتي عليهم العد‪ّ ،‬‬ ‫لغات العالم فحسب‪ْ ،‬‬
‫اختالفنا عنهم في الزمان والسجايا واألخالق‪ ،‬أقام بيننا وبين العربية وبين ما ألَّفوه‬
‫حجاباً ال يتبين ما وراءه َّ‬
‫إال بصعوبة"‪.‬‬

‫(( ( اللغة العربية – نذير حمدان‪.‬‬


‫(( ( من قضايا اللغة العربية املعارصة‪ ،‬المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم‪.‬‬
‫((( المصدر السابق‪.‬‬
‫((( ‬

‫‪- 157 -‬‬


‫إن المستشرق اليهودي ‪ Margoliouth‬مرجليوث (‪ )1940-1858‬يذهب إلى‬ ‫ْ‬
‫بل َّ‬
‫«إن اللغة العربية ال تزال حية حياة حقيقية‪ ،‬وإنها إحدى‬‫أبعد من ذلك‪ ،‬فيقول‪َّ :‬‬
‫ثالث لغات استولت على مكان المعمورة استيالء لم يحصل عليه غيرها (اإلنجليزية‬
‫واألسبانية) وهي تخالف أختيها بأن زمان حدوثها معروف‪ ،‬بينما هما ال يزيد سنهما‬
‫على قرون معدودة‪َّ ،‬أما اللغة العربية فابتداؤها أقدم من كل تاريخ»‪.‬‬
‫إن العالم اللغوي والمفكر اليهودي أفرام نعوم تشومسيك‬
‫بل َّ‬‫ليس هذا فحسب؛ ْ‬
‫‪ Afram Noam Chomsky‬ـ ابن معلم اللغة العبرية‪ ،‬وأحد خريجي جامعة بنسلفانيا‪،‬‬
‫أقر بمكانة العربية‪ ،‬وقد تز ّعم الدراسات اللغوية المعاصرة‬
‫واألستاذ بمعهد ماساشوست ـ ّ‬
‫وك ّون نظرية جديد ًة قلبت الفكر اللغوي رأساً على عقب‪ ،‬أصدر كتابه األول في‬
‫التراكيب النحوية ‪ Syntactic Structure‬في سنة ‪1957‬م‪ ،‬نقد فيه مدرسة علم اللغة‬
‫الوصفي ‪ Descriptive Linguistics‬التي كانت سائد ًة في الغرب حتى عه ٍد ٍ‬
‫قريب‪ ،‬وقد‬
‫ميز بين بنيتين في الجملة‪ ،‬هما البنية العميقة والتركيب السطحي‪ ،‬وأوضح أن البنية‬ ‫ّ‬
‫األولى هي أساس الثانية‪.‬‬
‫وقد ن ّوه تشومسكي في معرض ر ّده على استفسار ُو ّجه إليه في سنة ‪1989‬م‬
‫ِ‬
‫تأثيرات النحو العربي كبير ٌة على نظريته في دراسة اللغة‪ ،‬وأنه قرأ كتاب سيبويه‬ ‫بأن‬
‫(((‬
‫كمرجع له‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وقال الباحث اللغوي الفرنسي وليم مرسيه ‪" :William Marçais‬العبارة العربية‬
‫تحرك اللغة في‬
‫كالعود إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع األوتار وخفقت‪ ،‬ثم ِّ‬
‫أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور"‪.‬‬
‫ويبدي المستشرق اإلسباني فيال سبازا ‪ - Ibiza villas‬إعجابه واستياءه في وقت‬
‫بل هي أرقى من لغات أوروبا؛ ألنها‬ ‫واحد‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‪" :‬اللغة العربية من أغنى لغات العالم‪ْ ،‬‬
‫تتضمن كل أدوات التعبير في أصولها‪ ،‬في حين الفرنسية واإلنجليزية واإليطالية‬
‫وسواها قد تحدرت من لغات ميتة‪ ،‬وإني ألعجب لفئة كثيرة من أبناء الشرق العربي‬
‫يتظاهر أفرادها بتفهم الثقافات الغربية‪ ،‬ويخدعون أنفسهم ليقال عنهم أنهم متمدنون‪.‬‬
‫ويكشف المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس ـ عن أثر العربية في غيرها‬
‫«إن في اإلسالم‬
‫من اللغات من ناحية‪ ،‬وتفوقها على لغات أخرى كاأللمانية‪ ،‬فيقول ‪ّ :‬‬

‫((( فن الرتجمة وعلوم العربية– إبراهيم بدوي الجيالني‪.‬‬

‫‪- 158 -‬‬


‫سنداً ها ّما للغة العربية أبقى على روعتها وخلودها‪ ،‬فلم تنل منها األجيال المتعاقبة‬
‫على نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة‪ ،‬كالالتينية حيث انزوت تماماً بين‬
‫جدران المعابد‪ .‬ولقد كان لإلسالم قوة تحويل كبيرة أثرت في الشعوب‪ ،‬التي اعتنقته‬
‫حديثاً‪ ،‬وكان ألسلوب القرآن الكريم أثر عميق في خيال هذه الشعوب فاقتبست آالفاً‬
‫من الكلمات العربية ازدانت بها لغاتها األصلية فازدادت قو ًة ونما ًء‪ .‬والعنصر الثاني‬
‫الذي أبقى على اللغة العربية هو مرونتها التي ال تُبارى‪ ،‬فاأللماني المعاصر مث ً‬
‫ال ال‬
‫يستطيع أن يفهم كلم ًة واحد ًة من اللهجة التي كان يتحدث بها أجداده منذ ألف‬
‫سنة‪ ،‬بينما العرب المحدثون يستطيعون فهم آداب لغتهم التي كتبت في الجاهلية‬
‫قبل اإلسالم»(((‪.‬‬
‫الهوة السحيقة بينهما من‬ ‫وفي مقارنة عملية بين العربية والالتينية‪ ،‬ومدى َّ‬
‫حيث التدوين والفهم‪ ،‬يقول مؤسس قسم اللغات الشرقية بجامعة استنبول‪« :‬إن‬
‫اللغة العربية أسهل لغات العالم وأوضحها‪ ،‬فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريق ٍة‬
‫جديد ٍة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح‪ ،‬إن الطلبة قبل االنقالب األخير في تركيا‬
‫ـ يقصد الذي أحدثه أتاتورك باستبدال الالتينية بالحروف العربية ـ كانوا يكتبون ما‬
‫–ألن‬
‫أمليه عليهم من المحاضرات بالحروف العربية وبالسرعة التي اعتادوا عليها َّ‬
‫فإن الطلبة يكتبون ما أمليه عليهم‬ ‫الكتابة العربية مختزل ٌة من نفسها ـ َّأما اليوم‪َّ ،‬‬
‫بالحروف الالتينية‪ ،‬ولذلك ال يفتأون يسألون أن أعيد عليهم العبارات مراراً‪ ،‬وهم‬
‫كل‬‫معذورون في ذلك‪ ،‬ألن الكتابة اإلفرنجية مع ّقدة‪ ،‬بينما الكتابة العربية واضح ٌة ّ‬
‫خط به‪ ،‬وهذه هي‬ ‫تجد صعوب ًة في قراء ِة أردأ ٍّ‬
‫خطاب فلن َ‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫فتحت ّ‬
‫َ‬ ‫الوضوح‪ ،‬فإذا ما‬
‫طبيعة الكتابة العربية التي تتسم بالسهولة والوضوح» ‪.‬‬
‫(((‬

‫كما شهد العالِم اللغوي «ماريو ب ِْل» مؤلف كتاب (قصة اللغات ‪The Story of‬‬
‫بأن العربية هي اللغة العالمية في حضارات العصور الوسطى‪ ،‬وكانت رافداً‬
‫‪َّ )Language‬‬
‫عظيماً لإلنجليزية في نهضتها‪ ،‬وقد أورد قاموس ‪ Littre‬قوائم بما اقتبسته هذه اللغات‬
‫ٍ‬
‫مفردات عربيةٍ‪ ،‬وكانت أولها اإلسبانية ثم الفرنسية واإليطالية واليونانية والمجرية‪،‬‬ ‫من‬
‫(((‬
‫وكذلك األرمينية والروسية وغيرها‪ ،‬ومجموعها ‪ 27‬لغة‪ ،‬وتقدر المفردات باآلالف»‪.‬‬

‫((( املؤامرة عىل الفصحى (سابق)‪.‬‬


‫((( ف ّن الرتجمة وعلوم العربية (مرجع سابق)‪.‬‬
‫((( الفصحى لغة القرآن ( سابق)‪.‬‬

‫‪- 159 -‬‬


‫وفي كتابه( (العرب يف التاريخ) يعترف المفكر اليهودي المعاصر برنارد لويس �‪Ber‬‬
‫محمد ﷺ‪ ،‬وإقامة‬
‫النبي َّ‬
‫‪" : nard Lewis‬أن موجات الفتح الكبرى التي تلت وفاة ّ‬
‫الخالفة على رأس األمة اإلسالمية الناشئة؛ قد سطرت بحروف عريضة كلمة (عرب)‬
‫لفصل حاسم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫على خريطة القارات الثالث ‪( :‬آسيا وإفريقيا وأوروبا) وجعلت منها عنواناً‬
‫في تاريخ الفكر واألدب واألعمال البشرية"‪.‬‬
‫نكتفي بهذا القدر من شهادات الغربيين على عبقرية (لغـة الضـاد)‪.‬‬
‫ولو أردنا المزيد؛ ألثقلنا سبعين بعيراً‪ .‬لكن يكفي من القالدة ما أحاط بالعنق‪.‬‬
‫ويظل السـؤال قائماً‪ :‬هل يجرؤ خصوم العربية أن يتهموا هؤالء ـ الذين نقلنا‬
‫شهاداتهم ـ بأنهم متعصبون ألسالفهم ومواريثهم؟‪.‬‬

‫‪- 160 -‬‬


‫أم اصطالح؟‬
‫«اللغة» توقيف ْ‬
‫لعل التفكير في نشأة اإلنسان؛ كان وراء التفكير في نشأة اللغة‪ ،‬عِلماً بأن‬‫َّ‬
‫اإلغريـق هم أول من تعرض لفلسفة اللغة‪َّ .‬أما الهنـود فسبقوهم في التوصل إلى‬
‫(((‬

‫تبويب ٍ‬
‫واف ألجزاء الكالم في لغتهم‪.‬‬
‫لقد تباينت آراء العلماء والفالسفة حول نشأة اللغة وتطورها‪ ،‬وهل هي توقيف‬
‫وإلهام‪ ،‬أ ْم مواضعة واصطالح؟‪.‬‬
‫الرأيين؛ الفريق القائل ‪ :‬بأنها توقيف‪،‬‬
‫ْ‬ ‫حول هذه القضية المتجددة؛ نبسط كال‬
‫الفريقين أبلغ حجة‪ ،‬وأقوم قيال؟‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أي‬
‫والفريق القائل ‪ :‬بأنها اصطالح‪ ،‬لنرى ّ‬
‫(الفريـق األول) يجزم بأن اللغة توقيفية‪ ،‬وال داعي للبحث أ ْو المناقشة في ذلك‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬ال حجة برأي القائلين بغير ذلك‪ ،‬مهما كانت عدتهم وعتادهم‪.‬‬
‫املرصيون القدماء؛ اعتبروا اللغة منحة من السماء من اإلله (توت) إله الحكمة‪ .‬وأن‬
‫اإلنسان كان مجرد مستقبِل لهذه المنحة‪.‬‬
‫أن "اللغة إلها ٌم هابط من السماء أيضاً‪ ،‬وعِلم األسماء‬
‫وعند اليوناين هرقليطس؛ َّ‬
‫يؤدي إلى علم األشياء؛ ألننا حين نعرف حقيقة االسم‪ ،‬نعرف بالضرورة حقيقة‬
‫المسمى"‪.‬‬
‫َّ‬
‫الرأيين‪ ،‬ففي الوقت الذي يرفض أن تكون األسماء‬
‫رأي أفالطون بين ْ‬ ‫لكن تراوح ْ‬
‫"إن األمر إذا كان أمر توقيف من قوة عليا‪ ،‬فكيف يكون هناك‬
‫وليدة االصطالح‪ ،‬يقول‪َّ :‬‬
‫تفسير للخطأ‪ ،‬فبعض األسماء يشير إلى الضديْن‪ ،‬فهل من المعقول أن ننسب الخطأ‬
‫إلى هذه القوة؟‪.‬‬
‫وفي املسيحية وقف رجال الكنيسة إلى جانب التوقيف‪ ،‬فالقديس يوحنا افتتح‬
‫إنجيله بعبارة "في البدء كان الكلمة"‪.‬‬

‫((( أهمية تعلم العربية (سابق)‪.‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫كما جاء في ِسفر التكوين‪" :‬أن َّ‬
‫الرب أحضر الكائنات إلى آدم ليرى ماذا يدعوها‪،‬‬
‫نفس حية فهو اسمها‪ ،‬فدعا آدم بأسماء جميع البهائم‪ ،‬وطيور‬
‫وكل ما دعا به آدم ذات ٍ‬
‫السماء‪ ،‬وجميع حيوانات البرية"‪.‬‬
‫َّأما القديس غرغريوس؛ فموقفه يشبه موقف أفالطون؛ ألنه تعامل مع التوقيف‬
‫أكد أن الله تعالى إذا كان قد أعطى َملَ َكة بناء البيت؛ َّ‬
‫فإن الذي‬ ‫واالصطالح‪ ،‬حين َّ‬
‫بناه هو نحن"‪.‬‬
‫وفي (اإلسالم) نرى الكثرة وراء القول بالتوقيف اعتماداً على قول الله تعالى ﴿ َو َع َّل َم‬
‫ن‬ ‫أ‬
‫الء ِإن كُن ُت ْم َص ِاد ِق ي ن َ‬
‫�‪.‬‬ ‫و� ِبأَ ْس َم ِاء هَ ؤُ ِ‬
‫المال ِئك َِة َفق ََال أَن ِْب ُئ ِ ي‬
‫آ َد َم ال َ ْس َما َء ُك َّل َها ث ُ َّم َع َر َض ُه ْم َع َل َ‬
‫يم‪َ .‬ق َال يَا آ َد ُم أَن ِْب ْئ ُهم ِبأَ ْس َما ِئ ِه ْم‬
‫الح ِك ُ‬
‫يم َ‬ ‫َقا ُلوا ُس ْب َحانَكَ ال َ ِع ْل َم َل َنا ِإال َّ َما َع َّل ْم َت َنا ِإنَّكَ أَن َْت َ‬
‫الع ِل ُ‬
‫َف َل َّما أَنْ َبأَهُ م ِبأَ ْس َما ِئ ِهم ﴾ [البقرة ‪.]33: 31‬‬
‫والرض واختالف‬ ‫باإلضافة‪ ،‬إلى قوله سبحانه ‪ ﴿ :‬ومن آياته خلق السماوات أ‬
‫ألسنتكم‪.﴾ ..‬‬
‫وأول إشارة إلى ذلك؛ ما جاء في تفسير سورة البقرة على لسان ابن عباس‪ ،‬إ ْذ‬
‫وجبل وحمار‪ ،‬وأشباه‬
‫ٍ‬ ‫وسهل‬
‫ٍ‬ ‫وأرض‬ ‫قال‪" :‬وعلَّمه األسما َء التي يتعارفها ُ‬
‫الناس من داب ٍة ٍ‬
‫ذلك من األمم"‪.‬‬
‫وتأكيداً لذلك؛ قال ابن فارس في كتابه (فقه اللغة) ‪ :‬إن لغة العرب توقيف‪ ،‬ودليل‬
‫أ‬
‫ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َع َّل َم آ َد َم ال َ ْس َماء ُك َّل َها ﴾ ْ‬
‫أي األسماء التي يتعارفها الناس من دابة‬
‫وجبل وسهل وأشباه ذلك‪ .‬ويوضح ابن فارس معنى أن اللغة توقيف بقوله ‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫وأرض‬
‫ٍ‬
‫"وليس معنى ذلك أن اللغة كلها جاءت جملة واحدة‪ ،‬وإنما المعنى أن الله علم آدم‬
‫ما شاء‪ ،‬ثم علّم بني آدم بعده ما شاء أيضاً حتى انتهى األمر إلى ِّ‬
‫نبيناﷺ‪ ،‬فآتاه الله‬
‫ما لم يؤت أحداً من قبله"‪.‬‬
‫وقد علَّق اإلمام الباقالين في كتاب "التمهيد" على هذه القضية‪ ،‬فقال‪" :‬فلو كان‬
‫العباد يخلقون كالمهم وحركاتهم وسكناتهم وإرادتهم وعلومهم ‪ ..‬لكانوا قد خلقوا‬
‫الخلْ ِق خلقه وخلقهم"‪.‬‬
‫كخلقه‪ ،‬وصنعوا كصنعته‪ ،‬ولتشاب َه على َ‬
‫وجرى في هذا المضمار كثيرون منهم ‪ :‬ابن حزم الظاهري في كتاب "اإلحكام يف‬
‫أصول األحكام" فقد ربط قضية اللغة بقضية البرهان على وجود الله؛ باعتباره معلِّ َم كل‬
‫شيء‪ ،‬فلو كان الكالم اصطالحاً َ‬
‫لما كان يمكن أن يقوم به َّ‬
‫إال جماعة كاملة األذهان‪،‬‬

‫‪- 162 -‬‬


‫متدربة العقول‪ ،‬تامة العلوم‪ ،‬وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود اإلنسان وبين بلوغه‬
‫هذه الصفة سنين كثيرة جداً"‪.‬‬
‫وقد روى األصمعـي عن أيب عمرو بن العالء أنه يذكر أن قدماء العرب تسع‬
‫قبائل قديمة‪( :‬طسم‪ ،‬وجديس‪ ،‬وجهينة‪ ،‬وخثع‪ ،‬والعماليق‪ ،‬وقحطان‪ ،‬وجرهم‪ ،‬وثمود)‬
‫وهؤالء قدماء العرب الذين فتق الل ُه ألسنتهم بهذه اللغة العربية‪ ،‬وكان أبناؤهم عرباً‪،‬‬
‫وهم‪ :‬هود‪ ،‬وصالح‪ ،‬وشعيب‪ .‬والعرب المستع ِربة أوالد إسماعيل‪ُ ،‬س ُّموا المستع ِربة؛‬
‫ألنهم أخذوا اللغة عن العرب العاربة‪ ،‬وتعلموها عنهم‪ ،‬فالقول أن هؤالء القدامى قد‬
‫فتق الله ألسنتهم بهذه اللغة‪ ،‬والقول بأبوة إسماعيل للعرب‪ ،‬وأنه أول من تكلم‬
‫العربية؛ يؤكد بـ(توقيف اللغة)‪.‬‬
‫ِدت كاملة‪ ،‬وليس لنا أن نخترع‪ ،‬أو‬
‫كذلك؛ يرى أبو عمرو بن العالء أن العربية ول ْ‬
‫نقيس‪ ،‬أو نخرج على ما قيل‪ ،‬ألن في ذلك فساد اللغة‪ ،‬ولكنه في الوقت نفسه يشير‬
‫إلى تطور اللغة‪.‬‬
‫ويقرن (إخوان الصفا) فكرة اإللهام بالتأييد الرباني الذي يتجسد في إعمال الفكرة‪،‬‬
‫وإنتاج القريحة‪ ،‬ووجوب الرويَّة‪.‬‬
‫أن السكَّايك في "مفتاح العلوم"‪ ،‬والخفاجي في "رس الفصاحة"‪ ،‬والغزالي‬
‫والمالحظ َّ‬
‫في "املستصفى" ال يذهبون بعيداً عن هذا‪.‬‬
‫"أن اللغة تنبثق عن النفس‪ ،‬في‬
‫وفي كتابه "ميزان الحروف" يرى جابـر بن حيـان َّ‬
‫ضوء الصلة التي تكون بين طبيعة اللغة وبين طبيعة الجسد‪ ،‬والتي تشبه في الوقت‬
‫نفسه الصلة بين الوتر والنغم"‪.‬‬
‫وبصفة عامة؛ فاألسماء ال تستغرق العموم المطلق للغات جميعاً‪ ،‬كما ال تستغرق‬
‫يسد حاجة اإلنسان إلى الكالم في لحظة‬ ‫مخزون اللغة الواحدة‪ ،‬وإنما تعني ما ّ‬
‫استعمال اللغة‪.‬‬
‫خلق من خلق‬ ‫أن "اللغة أوالً وآخراً؛ هي ٌ‬ ‫ويؤكد الدكتور عبد الصبور شاهني على َّ‬
‫آ‬ ‫ف‬ ‫الله ﴿ ومن آياته خَ ْل ُق السموات و أ‬
‫الف أَ ْل ِس َن ِتك ُْم َوأَ ْل َوا ِنك ُْم ِإ َّن ِ ي� َذ ِلكَ ليَ ٍ‬
‫ات‬ ‫ال َ ْر ِض َواخْ ِت ُ‬ ‫َّ َ َ ِ َ‬ ‫َِ ْ َِِ‬
‫� ﴾ [الروم ‪ .]22 :‬فاللغة تعبير مدهش عن قدرة الله تعالى التي ال تتماهى‪،‬‬ ‫ِّل ْل َعا ِل ِم ي ن َ‬
‫فنواة اللغة هي‪ :‬صوت اإلنسان‪ ،‬وأعضاؤه النطقية‪ ،‬والصوت مساحته محدودة‪ ،‬وإمكانات‬
‫نعبر عنه بالحروف الهجائية‪،‬‬ ‫النطق محدودة أيضاً‪ ،‬فهي تنتج عدداً معيناً من األصوات ّ‬

‫‪- 163 -‬‬


‫وهي في اللغة العربية تسعة وعشرون حرفاً (رمزاً مكتوباً)‪ْ ،‬‬
‫وإن كان واقع النطق ينتج‬
‫في العربية ما يزيد على أربعين صوتاً‪ ،‬وهذا العدد يقل في اللغة االنجليزية والفرنسية‬
‫التي ال تزيد أبجديتها الكتابية على ستة وعشرين رمزاً كتابياً‪ ،‬وأكثر أصواتهما مشترك‬
‫بين لغات أوربية كثيرة‪ ،‬إلى جانب أن أكثر هذه األصوات موجود في األبجدية‬
‫(((‬
‫العربية"‪.‬‬
‫ويرى عبد السالم املسدِّ ي في كتاب "التفكري اللساين يف الحضارة العربية" أن القدامى‬
‫قد احتاطوا حين ر ّكزوا على أن التوقيف وقع على لغة واحدة في أول األمر‪ ،‬ثم كان‬
‫التوقيف بعد الطوفان في أوالد نوح حين تفرقوا في األرض‪.‬‬
‫"إن اللسان الذي نتكلم به ال‬
‫من جانبه؛ قال الشيخ محمد متويل الشعراوي ‪َّ :‬‬
‫ألن اللغة ابنة المحاكاة"‪.‬‬
‫يرتبط بالجنسية‪َّ ،‬‬
‫أن اللغات ترجع إلى األنبياء الذين‬
‫وإذا كان عبـده بـدوي يرى أن "جماع األم ِر؛ َّ‬
‫تلقوها بوحي"‪ .‬لكنه يؤكد أن الرأي الذي كان سائراً في المسيرة العربية؛ هو الرأي‬ ‫َّ‬
‫القائل بـ(التوفيق) بين الرأيين‪ ،‬وأنه كان وراء ذلك النص القرآني‪ .‬فمع إيمانهم بتطور‬
‫الدين‪،‬‬
‫اللغة‪ ،‬كانوا يؤمنون بسماوية النص القرآني‪ ،‬ثم إن اللغة كانت غالبة لغلبة ِّ‬
‫والدين إنما يستفاد من الشريعة‪ ،‬وهي بلسان العرب‪ ،‬على حد تعبير ابن خلدون في‬ ‫ِّ‬
‫(((‬
‫"المقدمة"‪.‬‬
‫أن له ‪-‬أيضاً‪ -‬جذوراً تاريخية‪،‬‬
‫َّأما (الفريـق اآلخـر) القائل باالصطالح؛ فيبدو َّ‬
‫ال نجد (دميقريطس) يرى "أن اللغة ظاهرة يتفق عليها‬‫ومرجعية ضاربة في القِدم؛ فمث ً‬
‫البشر‪ ،‬يعني اجتماعية وليست سماوية‪ ،‬فيصطلحون عليها‪ ،‬وتتطور بتطورهم‪ ،‬وعلى‬
‫هذا؛ فال يقودنا علم األسماء إلى علم األشياء‪.‬‬
‫وقد ذهب بعض المعتزلة‪ ،‬وبعض اللغويين وبعض الفالسفة إلى مثل هذا الرأي‪.‬‬
‫فـ"أبو إسحاق االسفراييني" قال‪" :‬إن االبتداء وقع باالصطالح‪ ،‬وأن التتمة كانت من الله"‪.‬‬
‫صيغ بعينها"‪.‬‬ ‫و"أبو هاشم ال ُج َّبايئ" يرى أن "اإللهام ال يكون َّ‬
‫إال بعد التواضع على َ‬
‫المدبِّرين"‪.‬‬
‫سماه "جماعة ُ‬
‫أن "الفارايب" وصل في هذه المسألة إلى ما ّ‬
‫في حين َّ‬

‫((( العربية لغة العلوم والتقنية (سابق)‪.‬‬


‫((( أهمية تعليم اللغة العربية (سابق)‪.‬‬

‫‪- 164 -‬‬


‫شبه قضية االصطالح بحال الوالدات مع األطفال؛‬
‫وإذا كان "السيوطي" كان قد َّ‬
‫سماه "الملَكة"‪ِّ ،‬‬
‫ليسوغ وجود الفعل وتكراره‪ ،‬حتى‬ ‫فإن "ابن خلدون" َّ‬
‫ركز على ما ّ‬ ‫َّ‬
‫يصبح ملَك ًة راسخة‪.‬‬
‫ِلت من منظور الفكر العربي معاملة الكائن‬
‫أن اللغة ُعوم ْ‬
‫وينتهي آخرون إلى َّ‬
‫الحي‪ ،‬فهي تعيش وتنمو بحكم سلطان القوى الضاغطة على مجالها الحيوي‪ ،‬وبحكم‬
‫األبنية العلوية في حياة الشعوب‪ ،‬كما أنها تخضع لنواميس الحياة‪ ،‬ضعفاً وموتاً‪ ،‬في‬
‫ضوء مقولة ابن حـزم التي ترى "أن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها‪،‬‬
‫ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم‪ ،‬أو بنقلهم عن ديارهم‪ ،‬أو باختالطهم"‪.‬‬
‫أ ْو كما يقول ابن الراوندي "إن اللغة من طبيعة اإلنسان‪ ،‬ولها نظيرها في أصوات‬
‫الحيوان‪ ،‬والطفل يتعلم اللغة من أهل بيئته المحيطة به‪ ،‬وتلك عملية ال مبدأ لها"‪.‬‬
‫ٌ‬
‫توقيف وإلهام‪ ،‬أ ْو مواضعة واصطالح"؟‪،‬‬ ‫ولعل هذا السؤال الذي يقول ‪ :‬هل اللغة‬
‫َّ‬
‫"خلْق القرآن" التي قال بها المعتزلة‪.‬‬
‫كان وراء إشكالية َ‬
‫يستوجب القول بأن األصل في اللغة هو‬
‫ِ‬ ‫فالقول بخلق القرآن ـ وهو كالم ـ‬
‫الميل إلى أن اللغة‬
‫المواضعة واالصطالح‪ ،‬وبالعكس يقتضي القول بعدم خلق القرآن ْ‬
‫السنة واألشاعرة‪.‬‬
‫توقيف وإلهام‪ ،‬وهؤالء يمثلهم أهل َّ‬
‫من هنا نرى أن القول بالمواضعة واالصطالح كان ضارب الجذور في ُصلب‬
‫التفكير العربي‪ .‬لكن الكثرة الكاثرة من المفكرين اإلسالميين قد لجأوا إلى أسلوب‬
‫يسمى بـ(التوفيـق) وقد كان وراء الوقوف إلى جانبي ظاهرة‬‫جديد خاص بهم‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫وحى به‪ ،‬وموثَّقاً في الوقت نفسه‪.‬‬
‫التوفيق؛ وجود القرآن الكريم باعتباره نصاً ُم َ‬
‫البد فيه من المواضعة‪،‬‬ ‫فمث ً‬
‫ال؛ ابن جِ ِّنـي في "الخصائص" يقول ‪( :‬إن أصل اللغة َّ‬
‫بأن يضع حكيمان أو ثالثة لكل واح ٍد من األشياء سم ًة ولفظاً)‪.‬‬
‫وذلك ْ‬
‫سمى (تكافؤ األدلة)‪.‬‬
‫كذلك؛ نجد فخر الدين الرازي انتهى إلى القول بما يمكن أن يُ ّ‬
‫وقد سار على هذا الطريق الغزالـي في "املستصفى"‪ ،‬والطربي في "جامع البيان عن‬
‫تأويل آي القرآن"‪ .‬وحتى القاضي عبد الجبار المعتزلي‪ ،‬بعد أن ألقى على القضية أكثر‬
‫بأن‬
‫من ضوء‪ ،‬فقال‪" :‬ال يمكن القطع"‪ .‬وهناك من قال "بتجويز األمريْن"‪ ،‬ومن قال َّ‬
‫اإلنسان أُل ِهم أصول المواضعة‪ْ ،‬‬
‫ولم يًل َهم أصول اللغة نفسها"‪.‬‬

‫‪- 165 -‬‬


‫ويف العرص الحديث؛ سار التفكير إلى القول باالصطالح؛ ابتدا ًء من القرن التاسع‬
‫عشر‪ ،‬حين خضع علم اللغة للتأثير االجتماعي والنفسي والفلسفي والتاريخي‪.‬‬
‫وفي القرن العشرين؛ ظهر الميل إلى دراسة اللغة على ما هي عليه‪ ،‬حين‬
‫زت على الصوت والشكل والتركيب‪ ،‬ومن الذين‬ ‫وقفت عند حد وصف المظاهر‪َّ ،‬‬
‫فرك ْ‬ ‫ْ‬
‫يسمى بـ"التحالف اللغوي"‪،‬‬
‫دعت إلى ما َّ‬ ‫برزوا في هذا المجال‪" ،‬مدرسة براغ" التي ْ‬
‫باإلضافة إلى دور الماركسيين الذين قالوا ‪ :‬إن اللغة ظاهرة اجتماعية طبقية‪ ،‬ودور‬
‫األمريكيين الذين برزت فيهم مفاهيم "إدوار سابير"‪ ،‬و"ليونارد بلومفيلد"‪ ،‬وال يخفى‬
‫دور "تشومسكي" الذي َّ‬
‫ركز على اإلبداعية اللغوية‪ ،‬و"دوسوسير" الذي قال باستقاللية‬
‫أي‬
‫علم اللغة‪ ،‬ودراسة العناصر والصالت اللغوية‪ ،‬وما بينها من عالقات بمعزل عن ّ‬
‫تأثيرات خارجة عنها‪.‬‬
‫وفي هذا الوقت ما ُس ِّم َي "قحط اللغة" إزاء المشاعر اإلنسانية‪ ،‬فكانت هناك عدة‬
‫وقفات عند صلة الفكر باللغة‪ ،‬في ضوء ما َّ‬
‫ركز عليه األدباء من القول بأزمة اللغة‪ ،‬وقصورها‬
‫إزاء الفكر‪ .‬وكان لهذا صداه في العالم العربي‪ ،‬كما ظهر في مقولة جربان خليل جربان ‪:‬‬
‫ولي لغتي)‪ ،‬وفيما كتبه ميخائيل نعيمة في كتاب "الغربال"‪ ،‬فقال ‪" :‬ولقد‬ ‫(لكم لغتكم َ‬
‫كان كل هذا يدور في إطار التعامل مع اللغة كاصطالح ال توقيف"‪.‬‬
‫ويرى عبده بدوي؛ أنه كان وراء هذه اآلراء والظواهر عوامل كثيرة يجيء في‬
‫أي لغة مترجمة‪َّ ،‬أما القرآن‬ ‫مقدمتها أن التوراة واإلنجيل يعتبران تورا ًة وإنجي ً‬
‫ال في ّ‬
‫فال‪ .‬والله أعلم‪.‬‬

‫‪- 166 -‬‬


‫وظائف اللغـة‬
‫من كمال قدرة الله ومشيئته‪ ،‬وعنايته بعباده ورحمته بهم؛ أن قدر اختالف‬
‫لئال يقع التشابه فيحصل االضطراب وتفوت المقاصد والمطالب؛ وليكون ذلك‬ ‫ألسنتهم َّ‬
‫ِن اخت َِل ِف التفكِي ِر وتنويع التصرف فِي‬ ‫آي ًة دال ًة على ما جعله اللَّ ُه فِي َغ ِري َز ِة َ‬
‫البش ِر م ِ‬
‫وضع اللغات‪ ،‬وفي هذا يقول سبحانه ‪ ﴿ :‬ومن آياته خَ ْل ُق السموات و أ‬
‫ال َ ْر ِض َواخْ ِت ُ‬
‫الف‬ ‫َّ َ َ ِ َ‬ ‫َِ ْ َِِ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫آ‬ ‫ف‬
‫� ﴾ [سورة الروم‪]22 :‬‬ ‫ات ِل ْل َعا ِل ِم ي َ‬ ‫َ‬
‫أَ ْل ِس َن ِتك ُْم َوأ ْل َوا ِنك ُْم ِإ َّن ِ ي� َذ ِلكَ ليَ ٍ‬
‫فاللغة رموز صوتية مكتسب ٌة‪ ،‬بها تستطيع الجماعات أن يتفاهموا ويتفاعلوا اجتماعياً‬
‫يعبروا عن مشاعرهم وأفكارهم وانفعاالتهم المختلفة‪ ،‬وليست اللغة مجرد‬ ‫وثقافياً‪ ،‬وأن ِّ‬
‫يحل فيه الفكر‪ ،‬كما كان يعتقده التص ّور الفلسفي األفالطوني القديم؛ وإنما‬ ‫وعاء لفظي ّ‬
‫الفكر نشاط ذهني غير مستقل عن اللغة‪ ،‬فالفكر هو الوجود الداخلي للغة‪ ،‬واللغة هي‬
‫الوجود الخارجي للفكر‪ ،‬فهما وحدتان متماسكتان بشكل يجعل كال منهما محتوياً لآلخر‬
‫ومالزماً له‪ .‬أ ْو بتعبير آخر‪ :‬الفكر كالم صامت‪ ،‬واللغة تفكير صائت‪ ،‬فال يمكن إدراك الفكر‬
‫بمعزل عن اللغة‪ ،‬وال توجد لغة بدون فكر؛ فهما بمثابة ورقة نقدية‪ِّ ،‬‬
‫يشكل فيها الفكر‬
‫وتشكل اللغة الظهر‪ ،‬فمن المستحيل أن يُ ْق َط َع وجه الورقة دون أن يُ ْقطع ظهرها‪،‬‬
‫الوجه‪ِّ ،‬‬
‫ُوس ‪ Logos‬على اللغة والعقل معاً‪.‬‬
‫فإن اليونان قد أصابوا عندما أطلقوا لفظة اللُّوغ ْ‬
‫ولذلك َّ‬
‫واللغة نافذة مشرعة على تجارب وخبرات األمة الواحدة‪ ،‬وعلى تجارب وخبرات‬
‫األمم األخرى‪ ،‬فهي التي تحفظ لألمة تراثها األدبي والديني والعلمي‪ ،‬وفي الوقت ذاته‬
‫تطلع أبناءها على تراث األمم األخرى‪.‬‬
‫مهمة من أدوات التعلّم والتعليم‪ ،‬وعليها يعول في تعليم التالميذ‬
‫واللغة أداة ّ‬
‫المواد التعليمية المختلفة في جميع مراحل دراسته‪.‬‬
‫واللغة أداة من أدوات التفكير‪ ،‬إ ْذ إن اإلنسان يفكر باللغة‪ ،‬ويتمثل ذلك في نتاج‬
‫ذلك التفكير والذي يكون على صورة تراكيب ملفوظة‪ ،‬أو مكتوبة‪ ،‬وبدونها يعسر على‬
‫يعبر عن األفكار أو عما يشاهده أو يحس به‪ ،‬ويعسر عليه حتى التعبير عن‬ ‫المرء أن ّ‬
‫الحاجات العادية‪.‬‬

‫‪- 167 -‬‬


‫يعبر عن عواطفه من فرح وحزن‬ ‫واللغة وسيلة يستطيع المرء بواسطتها أن ّ‬
‫وإعجاب وغضب وغير ذلك‪ ،‬كما يستطيع أن يجد في اآلثار األدبية التي تعالج العواطف‬
‫إن لم يكن قادراً على تصويرها أو نقلها بطريقة‬ ‫اإلنسانية ما ينفس به عن مشاعره ْ‬
‫وإن أظهر الوظائف التي تؤديها اللغة في حياة الفرد والجماعة‪ ،‬هي‪( :‬الوظيفة‬ ‫مؤثرة‪ِّ ،‬‬
‫االجتماعية‪ ،‬الوظيفة الثقافية‪ ،‬الوظيفة الفكرية‪ ،‬الوظيفة النفسية)‪.‬‬

‫الوظيفة االجتامعيـة‬
‫وتتمثل في الفهم واإلفهام ـ التفاهم ـ وأبرز مظاهرها ‪:‬‬
‫‐التعبير عن اآلراء المختلفة‪ :‬السياسية ‪ ،‬الدينية ‪ ،‬االجتماعية ‪...‬الخ‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐التعبير عن األحاسيس والمشاعر تجاه اآلخرين‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐المجامالت االجتماعية في المواقف المختلفة‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐التعبير عن الحاجات التي يحتاجها اإلنسان في حياته االجتماعية‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐التأثير في عواطف وعقول الجماهير في المواقف واألغراض المختلفة‪.‬‬ ‫‐‬

‫الوظيفة الثقافيـة‬
‫‐وتتمثل في حفظ التراث األدبي والديني والعلمي لألمة‪ ،‬ونقله من جيل إلى‬ ‫‐‬
‫آخر لتتصل حلقاته وتتم معايشة أبناء األمة له‪ ،‬واإلفادة منه‪.‬‬
‫‐نقل أفكار وتجارب األمم األخرى‪ ،‬واالطالع على آثارهم المختلفة وأنماط‬ ‫‐‬
‫تفكيرهم؛ قصد االستفادة منها‪.‬‬
‫‐كون اللغة وسيلة تعلم وتعليم‪ ،‬يتمكن الدارس عن طريقها من تعلم مواد‬ ‫‐‬
‫الدراسة المختلفة‪ ،‬وبها يستطيع المدرسون تعليم الطلبة هذه المواد في‬
‫مختلف مراحل الدراسة‪.‬‬
‫مر‬
‫‐تمرين المرء على أن يتعلم كل جديد لم يخطر في مراحل الدراسة التي َّ‬ ‫‐‬
‫بها‪ ،‬وأن يتزود بمنابع الثقافة والمعرفة ويتصل بالعالم من حوله‪.‬‬

‫الوظيفة الفكريـة‬
‫وتتمثل في الصلة الوثيقة بين اللغة والتفكير‪ ،‬ومن أمثلة ذلك ‪:‬‬
‫‐قدرة المرء على تعليل أمر يطرح عليه‪ ،‬ومكونات التعليل صورة ذهنية ترتب‬ ‫‐‬
‫على شكل ألفاظ وتراكيب تبدو مقنعة‪.‬‬

‫‪- 168 -‬‬


‫‐قدرته على نقض فكرة معينة‪ ،‬مع بيان أسباب هذا النقض‪ ،‬وما يرافق ذلك‬ ‫‐‬
‫من مواكبة األلفاظ لألفكار التي تخرج على شكل لغة‪.‬‬
‫‐القدرة على تسلسل األفكار والتي ترتبط فيها صور األفكار الذهنية بالمفردات‬ ‫‐‬
‫والتراكيب وتترجم في النهاية بهذه المفردات والتراكيب‪.‬‬

‫الوظيفة النفسية‬
‫تعد اللغة وسيلة من وسائل تصوير المشاعر اإلنسانية والعواطف البشرية التي‬‫ّ‬
‫ال تتغير بتغير األزمان؛ فالحب والسرور ونشوة النصر والحزن والشعور بالظلم؛ مشاعر‬
‫تالزم اإلنسان منذ بدء الخليقة‪ ،‬وهي مستمرة ما استمرت حياة على األرض‪.‬‬
‫وعن طريق اللغة استطاعت اآلثار األدبية اإلنسانية أن تنتقل من جيل إلى‬
‫آخر‪ ،‬وأن تنمو نمواً مستمراً بما يضيفه األدباء إليها في العصور الالحقة من لوحات‬
‫إنسانية خالدة‪ .‬وهذه اآلثار تمثل صوامع شعور وهياكل تطهير يلجأ إليها كل ذوي‬
‫اإلحساس والشعور‪ ،‬وفي أفنائها وأروقتها يطلقون العنان لهذه المشاعر المشابهة‬
‫عبر بها‬
‫يعبروا عنها بالطريقة التي َّ‬
‫فيفرغون شحناتهم السالبة‪ ،‬حيث عجزوا عن أن ِّ‬
‫هؤالء األدباء –إ ْذ ال يعقل أن يكون كل إنسان أديباً– مما يشعرهم بالعزاء والسلوان‪.‬‬
‫وهكذا تتمثل الوظيفة النفسية للغة؛ في قدرتها على الوفاء بالتعبير الدقيق‬
‫والحي عن الحاجات النفسية والشعورية‪ ،‬فتسعف من يقدر على التعبير عنها بالصور‬
‫والتراكيب‪ ،‬بحيث يضيف إلى هذه اآلثار الجميلة آثاراً ال تقل عنها روعة في دقة‬
‫تصويرها وصدقها وتأثيرها‪ ،‬فتظل اللغة نبعاً ثراً لعرض العواطف واألحاسيس اإلنسانية‬
‫وتفريغها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في جميع العصور‪.‬‬
‫َواصل‪ ،‬وطريقة تفكير‪ ،‬ورم ُز عزةٍ‪ ،‬وكل‬ ‫ألي َّأمة هي أداة ت ُ‬
‫وإن كانت اللغة بالنسبة ّ‬
‫ْ‬
‫كل هذا‪ ،‬وتَ ِزيد عليه أنها لغ ُة ٍ‬
‫دين‬ ‫(العربيـة) هي بالنسبة للعرب ُّ‬
‫َّ‬ ‫ما ذكرناه آنفاً؛ فإن‬
‫مأجور َمن يتعلَّمها‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وكتاب ُموحى به‪ ،‬وهي لغة عِبادات وشعائر‪ ،‬فهي لغ ٌة ُم َّ‬
‫قد َسة‪،‬‬
‫فإن‬
‫وذكر َّ‬‫ثاب َمن يعلِّمها‪ ،‬ثم هي لغ ٌة محفوظ ٌة بحفظ الله للكتاب الذي نزل بها‪ِّ .‬‬ ‫ُم ٌ‬
‫الذكرى تنفع المؤمنين‪.‬‬

‫‪- 169 -‬‬


‫املجامع اللغوية‬
‫العرب بالخوف على لغتهم‪ ،‬فتسابقوا في إنشاء «املجامع‬
‫ُ‬ ‫أصيب‬
‫َ‬ ‫في هذا العصر؛‬
‫اللغوية» مثل‪( :‬مجمع اللغة العربية بالقاهرة‪ ،‬مجمع اللغة العربية بدمشق‪ ،‬المجمع العلمي‬
‫العراقي‪ ،‬المجمع العلمي اللبناني‪ ،‬مجمع اللغة العربية األردني‪ ،‬مجمع اللغة العربية في‬
‫حيفا‪ ،‬مجمع اللغة العربية السوداني‪ ،‬مجمع اللغة العربية الليبي‪ ،‬المجلس األعلى للغة‬
‫العربية بالجزائر‪ ،‬أكاديمية المملكة المغربية‪ ،‬مؤسسة بيت الحكمة في تونس)‪.‬‬
‫وقد انحصرت أهداف هذه المجامع اللغوية‪ ،‬فيما يلي ‪:‬‬
‫‐إغناء اللغة العربية‪ ،‬بجعلها مواكبة لمتطلبات العصر‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐توحيد المصطلحات العلمية وألفاظ الحضارة‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐تشجيع الترجمة والتعريب؛ لزيادة ثروة اللغة العربية وتنمية طاقاتها التعبيرية‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐وضع المعاجم التي تواجه حاجات العصر‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐تيسير قواعد تعليم العربية‪ ،‬سواء من ناحية النحو أو الصرف أو الكتابة‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐إحياء التراث‪ ،‬وتحقيق أمهات الكتب العربية القديمة في شتى المجاالت‪.‬‬ ‫‐‬

‫ما هـي «املجامـع اللغويـة»؟‬


‫إنها عبارة عن مؤسسات علمية بحثية‪ ،‬تعنى بالمصطلح‪ ،‬وشؤون التعريب في‬
‫تقصي جذور المجامع اللغوية‬‫جميع مجاالت المعرفة اإلنسانية‪ .‬وقد حاول البعض ِّ‬
‫ونشأتها‪ ،‬فرجعوا بها إلى المجامع العلمية في المشرق القديم‪ .‬وذهب آخرون إلى‬
‫مجالس سقراط وأفالطون المعروفة باسم «أكادميوس» نسبة إلى البطل األسطوري‬
‫يعد حامي أثينا‪ .‬وتعكس تلك المجالس القديمة والمجامع العلمية‪،‬‬
‫اليوناني الذي كان ّ‬
‫مظاهر العناية التي توليها الشعوب لنقل العلوم والمعارف والحضارات إلى لغاتها؛‬
‫لتحقيق النهضة‪ ،‬وتشجيع اإلبداع والتأليف‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولعل األقرب إلى الواقع؛ أن ننظر إلى ما حصل بالنسبة للعرب ـ في صدر اإلسالم ـ‬
‫حين خرجوا من جزيرتهم لنشر الدعوة اإلسالمية‪ ،‬فنشأت عن ذلك أوضاع جديدة أمام‬
‫العربية‪ ،‬وكان عليها أن تواجه منذ عه ٍد مبكر‪ ،‬قضايا متعددة‪ ،‬سواء فيما يتصل بتعريب‬

‫‪- 170 -‬‬


‫مؤسسات الدولة‪ ،‬أو نقل العلوم والمعارف‪ ،‬أو حتى تعليم العربية نفسها‪ .‬ويمكن اعتبار‬
‫المحاوالت األولى إلقامة مؤسسات تواجه هذه المتطلبات الجديدة‪ ،‬أقدم نواة لمجامعنا‬
‫اللغوية‪ .‬وأقدم هذه المؤسسات‪ :‬لجنة الترجمة التي أنشأها خالد بن يزيد (‪ 85‬هـ) في‬
‫دمشق‪ ،‬وذلك لترجمة الكتب الكيميائية ونحوها من اليونانية إلى العربية‪.‬‬
‫رواجا في العهود اإلسالمية الالحقة‪ ،‬فإذا بالخلفاء‬
‫وقد القت فكرة تلك المؤسسة ً‬
‫يولون الترجمة عناية فائقة‪ ،‬مثلما فعل الخليفة العباسي المنصور‪ ،‬وهارون الرشيد‬
‫الذي وضع أسس (بيت الحكمة) الذي يمثل أول مجمع للغة العربية وفق المفهوم‬
‫المعاصر للمجامع اللغوية‪ .‬تلك المؤسسة التي وصلت إلى ذروتها في عصر المأمون‪.‬‬
‫وقد أدى احتكاك العربية بلغات وحضارات العالم الحديث‪ ،‬خاصة اإلنجليزية‬
‫والفرنسية واأللمانية‪ ،‬إلى ظهور المجامع اللغوية المعاصرة‪ ،‬رغبة في نقل العلوم‬
‫أي شوائب‬‫والمعارف الغربية إلى الشعوب العربية‪ ،‬وبغية الحفاظ على العربية من ّ‬
‫تغير قواعدها‪.‬‬
‫تشوه مالمحها أ ْو ِّ‬
‫ِّ‬
‫أجل‪ .‬لقد تبين للمجامع اللغوية والعلمية في وقت مبكر‪ ،‬أن الحاجة ماسة لوضع‬
‫مصطلحات للعلوم تحقق ما تتطلبه الدراسات الحديثة في النواحي العلمية‪ ،‬وما تتطلبه‬
‫حاجة الدارسين والباحثين العرب كذلك‪ ،‬وقد كانت اجتماعات تلك المجامع ومؤتمراتها‬
‫ومجالتها وبحوثها العلمية‪ ،‬توجه اهتماماً خاصاً لموضوع التعريب‪ ،‬وصدر عنها العديد‬
‫من المعاجم التي احتوت عشرات اآلالف من المصطلحات العلمية الجديدة‪ ،‬كما أوصت‬
‫بنشر عدد من المعاجم االصطالحية التي وضعها أفراد أ ْو هيئات أخرى‪.‬‬
‫وقد كانت منهجية المجامع في وضع المصطلحات‪ ،‬مبنية على قواعد منهجية‬
‫علماء العربية القدماء‪ ،‬فقد أجمعت عند وضع المصطلح العلمي؛ على ضرورة إحياء‬
‫القديم قبل التعجيل بابتكار الجديد‪ ،‬وعلى ضرورة اللجوء إلى اللغة العربية في مصادرها‬
‫المختلفة قبل اللجوء إلى تعريب المصطلح األجنبي‪ .‬لكن هذه المجامع على الرغم من‬
‫األعمال الكبيرة التي قامت بها في مجال المصطلحات العلمية‪ ،‬إ َّال أنها لم تستطع أن‬
‫تقوم بدور فاعل في إشاعة المصطلح وتوحيده على نطاق األقطار العربية‪.‬‬
‫وإن الجهد الذي تقوم به المجامع اللغوية والعلمية في وضع المصطلحات‬ ‫َّ‬
‫وتعريبها‪ ،‬سيؤول إلى الضياع إذا ظلت هذه المصطلحات حبيسة األوراق والمجلدات‬
‫دون أن تتداولها األلسن واألقالم‪ْ ،‬‬
‫بل حتى لو نقلت تلك الجهود إلى معاجم منظمة‪،‬‬
‫لم توجد وسائل لترويج تلك المصطلحات وشيوعها‪.‬‬‫فإن الحال ستظل كما هي‪ ،‬ما ْ‬ ‫َّ‬

‫‪- 171 -‬‬


‫روعي في وضعه‬
‫ولعل أهم عوامل شيوع المصطلح العلمي ورواجه؛ أن يكون قد َ‬ ‫َّ‬
‫مواصفات المصطلح الجيد‪ ،‬من حيث الدقة والوضوح والسهولة والواقعية‪ ،‬وأن تكون‬
‫المصطلحات المتعددة المتضاربة قد وحدت‪ ،‬أ ْو حصرت أفضل اختياراتها‪.‬‬
‫وقد صدر انتقاد من إحدى المنظمات العلمية نحو أداء «مجامع اللغة العربية»‪،‬‬
‫جاء فيه ‪« :‬إن هذه المجامع تهتم باألمور اللغوية البحتة‪ ،‬وبعيدة عن الواقع الراهن‬
‫فإن وضع المصطلحات من قِبل هذه‬ ‫والمستقبلي والثقافي‪ ،‬وكذلك العلمي‪ .‬لذا َّ‬
‫المجامع غالباً ما يأتي متأخراً‪ ،‬في حين أن مستخدمي المصطلحات يحتاجون إليها‬
‫ثم زيادة‬
‫بسرعة ال تسمح باالنتظار الطويل‪ ،‬وذلك بسبب تسارع التقدم العلمي‪ ،‬ومن َّ‬
‫المفاهيم والمصطلحات المتأتية عنها»‪.‬‬
‫«كما أن هذه المجامع تتسم بطابع اإلقليمية وكذلك المصطلحات الصادرة عنها‪.‬‬
‫وإن التنسيق فيما بين هذه المجامع ضعيف‪ ،‬على الرغم من وجود (اتحاد المجامع‬
‫اللغوية)‪ ،‬وكذلك نجد أن ما يصدر عنها‪ ،‬ويقر بطرق علمية سليمة‪ ،‬ضعيفاً إلى حد ما»‪.‬‬
‫ومع أنها تحاول تحقيق نشر المصطلحات وتوحيدها بالوسائل المختلفة كالترجمة‬
‫والتعريب واالجتهاد أحياناً‪ ،‬فإنها لم تستطع عملياً إغناء اللغة بالمصطلحات المالئمة»‪.‬‬
‫على صعيد آخر؛ يمكن القول –بدون مواربة‪ :-‬إن الجهود العظيمة التي قام بها‬
‫علماء اللغة‪ ،‬بصرفها‪ ،‬ونحوها‪ ،‬وفقهها‪ ،‬وما قام به علماء أصول الفقه‪ ،‬من البحث في‬
‫دالالت األلفاظ‪ ،‬وما قام به علماء اإلعجاز والمفردات القرآنية‪ ،‬لحراسة اللغة وحمايتها‪،‬‬
‫والمحافظة على معهود العرب‪ ،‬وحماية النص اإللهي من التحريف والتأويل الفاسد‪،‬‬
‫تعد ثمرة لخلود اللغة‪ ،‬وحفظها بحفظ الذكر الُ ْم َنزل من الله‬
‫هذه الجهود يمكن أن ّ‬
‫بها‪ ،‬إ ْذ ال يمكن أن يتحقق حفظ النص الذي تعهد الله بحفظه‪ ،‬ويُحمى من التحريف‬
‫والتأويل‪ ،‬بدون حفظ لغته‪.‬‬
‫أن هذا الحفظ بكل مدلوالته الشكلية‪ ،‬والموضوعية‪ ،‬سوف‬ ‫لكن المشكلة؛ َّ‬
‫ينتهي إلى الجمود والتجميد‪ ،‬إذا توقف عن اإلنتاج الحضاري والتقني‪ ،‬واإلبداع‬
‫العلمي‪ ،‬في ضوء المرجعية الشرعية واللغوية‪ ،‬ذلك أن علوم اللغة جميعاً هي‬
‫من علوم اآللة‪ ،‬أ ْو من علوم الوسائل‪ ،‬التي يبذل فيها الجهد لتحقيق المقاصد‬
‫واألهداف ‪ ..‬وكم ستكون المشكلة صعبة‪ ،‬ومعقدة‪ ،‬من الناحية الفكرية والثقافية‪،‬‬
‫إذا انقلبت الوسائل إلى أهداف‪ ،‬وتعطلت اآللة عن التشغيل‪ ،‬ودخلت الجهود‬
‫اللغوية مرحلة التكرار‪ ،‬والشرح‪ ،‬وشرح الشرح‪ ،‬واالختصار‪ ،‬واختصار االختصار‪،‬‬

‫‪- 172 -‬‬


‫واالجترار‪ ،‬وغياب استخدام اللغة لإلبداع واإلنتاج العلمي‪ ،‬والتقني‪ ،‬والحضاري‪.‬‬
‫وإذا كان ما تقوم به المجامع اللغوية‪ ،‬من إصدار معاجم حديثة نسبياً بما تتضمنه‬
‫من مصطلحات منحوتة‪ ،‬حديثة‪ ،‬ومعربة‪ ،‬وإصدار بعض المطبوعات التراثية الجديدة‬
‫والمحققة‪ ،‬وما توصي به سنوياً من ضرورة االهتمام بتعريب التعليم‪ ،‬وتعريب العلوم‪،‬‬
‫فإن ذلك يعني فقط حماية اللغة‪ ،‬والمحافظة عليها‪ ،‬لكن يبقى األمر األهم‪ :‬المحافظة‬‫َّ‬
‫على حياة اللغة‪ ،‬واستمرارها‪ ،‬وتجاوز مسألة الحفاظ على المفردات في التعبير عن‬
‫المعاني والمدلوالت العلمية والتكنولوجية الجديدة‪ ،‬وعدم االقتصار على حمايتها‪ ،‬من‬
‫األمور األساس في البناء الفكري والحضاري لألمة‪ .‬لكن تصبح عملية الحفاظ هذه‬
‫مشكلة‪ ،‬إذا توقفنا عند حدودها‪ ،‬ولم نتجاوزها إلى تذليل وتطوير عملية تعليم اللغة‪،‬‬
‫واإلفادة من التقنيات الحديثة والمعملية في تعليم اللغات‪ ،‬وتقديم اإلبداع العلمي‬
‫والثقافي والحضاري‪ ،‬وتقديم المعالجات الناجعة للمشكالت اإلنسانية‪ ،‬التي تغري‬
‫اآلخرين بتعلم اللغة العربية‪.‬‬
‫إن الكتاب العربي اليوم‪ ،‬بما يقدم من التكرار‪،‬‬‫ونقول ـ مع شديد األسف ـ ‪َّ :‬‬
‫والتقليد‪ ،‬واإلعادة‪ ،‬وغياب اإلبداع واالبتكار‪ ،‬ال يغري بتعلم العربية‪ .‬فما قيمة أن نتكلم‬
‫ونعبر بلسان غيرنا؟‪.‬‬
‫عن قدرة العربية‪ ،‬ونفكر ـ في الوقت نفسه ـ بعقول غيرنا‪َّ ،‬‬
‫لقد انتهى العربي اليوم للجوء إلى تعلم اللغات األخرى‪ ،‬لالطالع على ما وصلت‬
‫إليه الحضارة من اإلبداع واإلنجازـ الذي أصبحت معرفته ضرورة عصرية ـ وذلك بسبب‬
‫التخاذل اللغوي الذي يعيشه‪ ،‬وتوقف لغته عن االستمرار في اإلبداع‪ ،‬واإلنتاج الحضاري‪.‬‬
‫وقد تكون المشكلة الفكرية والثقافية‪ ،‬فيمن يقفون عند حدود علوم اللغة (علوم‬
‫اآللة‪ ،‬وعلوم الوسائل) في أنهم يتعلمون ليقرأوا‪ ،‬ويقفون عند حدود تعلُّم الوسيلة‪،‬‬
‫أن يقرأوا‬
‫دون القدرة على القراءة المبصرة‪ ،‬والعطاء المأمول‪ ،‬بينما قد يكون المطلوب ْ‬
‫ليتعلَّموا‪ ،‬ويبدعوا‪.‬‬
‫يشكل حماية‪ ،‬وحراسة‪ ،‬وحفاظاً على اللغة‪ ،‬لكن إذا‬
‫أن "علم الوسائل"((( ِّ‬
‫ال جرم َّ‬
‫لم يتم تفعيله باإلنتاج واإلبداع‪ ،‬سوف ينقلب إلى قوالب تجميد وجمود للغة‪ ،‬فتنقلب‬
‫األلفاظ‪ ،‬لتصبح قبوراً للمعاني‪ ،‬بدل أن تكن أوعية لحملها ونقلها‪ ،‬وتحقيق االنفعال‬
‫بمعناها‪ ،‬والتنمية إلنسانها‪.‬‬

‫((( يف رشف العربية (مرجع سابق)‪.‬‬

‫‪- 173 -‬‬


‫وفي اعتقادنا؛ لو أننا اجتزأنا قدراً من مواقفنا الدفاعية عن اللغة‪ ،‬وقدرتها‪ ،‬ومرونتها‪،‬‬
‫وخلودها‪ ...‬الخ‪ ،‬إلنجاز بعض البحوث في تطويرها وتذليل تعليمها‪ ،‬لغير الناطقين بها‪،‬‬
‫لتغيرت الحال‪ ،‬ولدبَّت فيها‬ ‫وإبداع بعض العلوم والفنون التي ال تتحصل َّ‬
‫إال بتعلمها‪َّ ،‬‬
‫الحياة‪ .‬وقد ال يكون مستغرباً ونحن على هذه الحال من التخلف والتخاذل الفكري‪،‬‬
‫وبعد مضي عقود على حركة الوعي اإلسالمي الحديثة؛ لم نقدم بعد جهداً مشكوراً‬
‫في تطوير تعليم اللغة‪ ،‬أو تخديم التقنيات الحديثة لمصلحتها‪ ،‬وقد بلغ تطور اللغات‬
‫األخرى شأواً بعيداً‪ ،‬وأصبح لكل فن من فنون القول‪ ،‬وكل علم أ ْو فن من العلوم‬
‫بل طرقاً لتعلمها وتعليمها‪.‬‬
‫والفنون‪ ،‬طريقة‪ْ ،‬‬

‫‪- 174 -‬‬


‫قضية التعريـب‬
‫وتحد‪ ،‬ليس على مستوى‬ ‫ٍّ‬ ‫لقد كان نزول «القرآن الكريم» بالعربية؛ محل إعجاز‬
‫أن «العربية» أ ْو‬
‫األسلوب والصياغة فقط‪ ،‬وإنما على مختلف األصعدة‪ ،‬وهذا يعني َّ‬
‫اللسان العربي‪ ،‬يمتلك من الخصائص والصفات والقدرات التعبيرية‪ ،‬ما ال تمتلكه أية‬
‫أي لسان آخر‪ ،‬فاختيار العربية لغة للتنزيل‪ ،‬هو بال شك تشريف لها من‬‫لغة أخرى‪ ،‬أ ْو ّ‬
‫بين سائر اللغات‪ ،‬وتكليف لها بأداء وتوصيل الخطاب اإللهي للناس بما هي ٌ‬
‫أهل له‪.‬‬
‫فلوال األهلية‪ ،‬لما كان االختيار‪.‬‬
‫وإن اللغة التي وسعت كتاب الله بأحكامه وتشريعاته‪ ،‬وأعجزت األولين واآلخرين؛‬
‫َّ‬
‫أقدر على التعبير من غيرها في مختلف العلوم والفنون واآلداب‪.‬‬
‫أن تتسع اللغة (الصينية) لإلنجاز واإلنتاج الحضاري‪ ،‬على الرغم من‬ ‫العجيب؛ ْ‬
‫وأن تتسع (اليابانية) لكل المنجزات العلمية‪ ،‬على الرغم من عقم أبجديتها‪،‬‬ ‫صعوبتها‪ْ ،‬‬
‫وأن تُحيا (العربية) بعد اختفائها منذ ألفي عام‪ ،‬وتُسترد من‬‫ومحدودية مفرداتها‪ْ ،‬‬
‫بطون المقابر‪ ،‬والمتاحف‪ ،‬وتُن َفخ فيها الروح‪ ،‬لتصبح لغة العلم‪ِّ ،‬‬
‫والدين‪ ،‬والسياسة‪،‬‬
‫والتعبير عن أدق المصطلحات والمبتكرات العلمية‪ ،‬في الفيزياء والرياضيات الحديثة‪،‬‬
‫المعنيون بهذه‬
‫ُّ‬ ‫ُنشر بها البحوث والدراسات‪ ،‬وتصدر المجالت المتخصصة‪ ،‬ويضطر‬ ‫وت َ‬
‫الموضوعات‪ ،‬من أبناء األديان واللغات األخرى‪ ،‬إلى تعلمها لالطالع على إنتاجها‪،‬‬
‫في الوقت الذي تنحسر فيه اللغة (العربيـة) بانحسار أهلها‪ ،‬ونكوصهم الحضاري‪،‬‬
‫إلى درجة يحاول معها بعضهم أن يخرجها من ساحة العلم نهائياً‪ ،‬ويحاصرها‬
‫في المتاحف والمعابد‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‪ .‬فالعربية في رأيهم ال تصلح أن تكون لغة العلم والمعرفة‪،‬‬
‫فليقتصر فيها على الترتيل آليات القرآن‪ .،‬ولتعزل عن الحياة‪ ،‬وتفصل عن الدولة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ومعامالتها الرسمية‪ ،‬ومدارسها‪ ،‬ومعاهدها‪ ،‬وجامعاتها ومناهجها‪ ،‬ألنها ليست لغة‬
‫العلم‪ ،‬وال الحضارة‍‍‍‍‍‍‍‍‪ .‬وشيئاً فشيئاً تصير كالسريانية‪ ،‬وغيرها من اللغات البائدة‪ ،‬بحجة‬
‫أنها لغة متخلِّفة‪.‬‬
‫ألن تكون لغة‬
‫والسؤال الذي يطرح نفسه‪ :‬ما الذي جعل «العربية» باألمس صالحة ْ‬
‫العلوم التي أشرقت شمسها على العالَم حينذاك‪ ،‬وغير صالحة اليوم للقيام بالدور ذاته؟‪.‬‬

‫‪- 175 -‬‬


‫المتقدمة بلُغاتها القومية‪ ،‬إ َّال نحن في جامعاتنا؟‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ولماذا تدرس ُّ‬
‫كل جامعات الدنيا العلوم‬
‫ال ـ أكثر قدرة على استِيعاب مصطلحات الطب والهندسة‬ ‫وهل اللغة البولندية ـ مث ً‬
‫من العربية؟‪ .‬ولماذا ال نس َتفِيد من التجا ِرب الرائعة للجامعات السورية في محافظتها‬
‫على العربية في تدريس الطب‪ ،‬وتخريجها شريح ًة من أفضل َّ‬
‫األطباء العرب وأكثرهم‬
‫نجاحا حتى في المجتمعات الغربية التي يعملون بها؟‪.‬‬ ‫ً‬
‫التقدم العلمي بالدراسة باللغة األجنبية؟‪ ،‬أ ْو بدراسة اللغة األجنبية‬
‫وهل يرتَبِط ُّ‬
‫واالستفادة منها؟‪.‬‬
‫المغفلون من األعراب أنه ال توجد لغة متخلِّفة‪ ،‬ولغة ِّ‬
‫متقدمة ‪..‬‬ ‫نسي هؤالء َّ‬ ‫لقد َ‬
‫أن التعليم باللغة القومية؛ تَوطِين للعلم‬ ‫إنما توجد أُمم متخلِّفة‪ ،‬وأمم ِّ‬
‫متقدمة‪ .‬وتناسوا َّ‬ ‫ُ‬
‫وتأكيد لل ُهويَّة‪.‬‬
‫بأن «العربية غير قادرة‬
‫من هنا؛ فال قيمة للمزاعم التي يرددها قباقيب الغرب َّ‬
‫على مسايرة العلوم الحديثة»‪.‬‬
‫شرعت في عام ‪1994‬م عقوبة للذي يستخدم غير‬ ‫انظر ـ مث ً‬
‫ال ـ إلى (فرنسا) التي َّ‬
‫الفرنسية‪ ،‬في الوثائق والمستندات‪ ،‬واإلعالنات المسموعة‪ ،‬والمرئية‪ ،‬وكافة مكاتبات‬
‫الشركات العاملة على األرض الفرنسية‪ ،‬وبوجه خاص المحالت التجارية‪ ،‬واألفالم‬
‫ونصت على عقوبة السجن أو الغرامة‬ ‫الدعائية‪ ،‬التي تبث عبر اإلذاعة والتلفزيون‪َّ ،‬‬
‫المالية‪ ،‬التي تصل إلى ما يعادل ألفي دوالر‪ .‬وهذا القرار‪ ،‬جاء في مواجهة هجمة اللغة‬
‫اإلنجليزية‪ ،‬التي أوصلتها األقمار الصناعية إلى بيوت الفرنسيين‪ ،‬في محاولة الستنقاذ‬
‫التراث الفرنسي المهدد باإلغراق اللغوي‪.‬‬
‫فأين هذا من معاناتنا اللغوية‪ ،‬أ ْو مأساتنا اللغوية‪ ،‬في مدارسنا‪ ،‬وجامعاتنا‪ ،‬ومحالتنا‬
‫التجارية‪ ،‬والعمالة في بيوتنا‪ ،‬ودوائرنا الرسمية‪ ،‬التي تمارس علينا‪ ،‬أو تفرض علينا‬
‫عملية التعجيم‪ ،‬وتكسير موازين اللغة العربية وقواعدها؟‍‍‍‍‍ إنهم يعجموننا‪ ،‬بدل أن نعربهم‪.‬‬
‫آن واحد‪.‬‬
‫فإن الدعوة إلى (التعريب) باتت ضرورة علمية وإسالمية في ٍ‬
‫من هنا؛ َّ‬
‫أي صبغ الكلمة‬ ‫المقصود بـ(التعـريب) ُ‬
‫النقل إِلى اللغة العربية من لغ ٍة أخرى‪ْ .‬‬
‫صطلح) بصبغة عربية عند نقلها بلفظها األجنبي إلى اللغة العربية‪ .‬وهي سياس ٌة‬ ‫(الم َ‬
‫ُ‬
‫الدول ُة لتشجيع أن تكون «العربية» لغة العلم والعمل والفكر واإلدارة‪.‬‬
‫َتب ُ َ‬
‫ها‬ ‫ع‬ ‫تَ‬

‫‪- 176 -‬‬


‫املعجم الوسيط» التعريب؛ َبأنّه ترجمة النصوص من اللغات األجنبية إلى‬
‫ُ‬ ‫ويعرف «‬
‫ّ‬
‫اللغة العربية‪ ،‬وإِنما يكون التركيز هنا على ترجمة المعاني بما يكفل أن يحافظ النص‬
‫األصلي على خصائصه قدر اإلمكان‪.‬‬
‫«ولما كان كتابنا‬‫وقد عالج «ابن خلدون» هذا الموضوع في مقدمته‪ ،‬فقال ‪َّ :‬‬
‫وبعض العجم‪ ِ،‬وكانت تعرض لنا في أسمائهم أو ِ‬
‫بعض‬ ‫ِ‬ ‫مشتم ً‬
‫ال على أخبا ِر البربر‬
‫حروف ليست من لغ ِة كتابنا وال اصطالح أوضاعنا‪ ،‬اضطررنا إلى بيان ِه ولم‬ ‫ٌ‬ ‫كلماتهم‬
‫فاصطلحت‬
‫ُ‬ ‫واف للدالل ِة عليه‪،‬‬
‫الحرف الذي يليه كما قلنا‪ ،‬ألنّه عندنا غير ٍ‬
‫ِ‬ ‫برسم‬
‫نكتف ِ‬‫ِ‬
‫الذين‬
‫ِ‬ ‫الحرفين‬
‫ِ‬ ‫أضع ذلك الحرف العجمي بما يدل على‬ ‫كتابي هذا على أن َ‬ ‫َ‬ ‫في‬
‫ُ‬
‫فتحصل تأديت ُه»‪.‬‬ ‫الحرفين‬
‫ِ‬ ‫بالنطق بين مخرجي ذينك‬‫ِ‬ ‫يكتنفانه ليتوسط القارئ‬
‫أن (التعريب) ليس نشاطاً حديث العهد‪ ،‬فقد قام العرب منذ فجر‬
‫جدير بالذكر؛ َّ‬
‫الحضارة العربية اإلسالمية بنقل النصوص العلمية إلى العربية‪.‬‬
‫لكن ـ من أسف ـ في أيامنا هذه يجري جدل واسع حول إشكالية (التعريب في‬
‫التعليم الجامعي)‪ .‬وبمجرد أن يطرح هذا الموضوع للبحث والمناقشة؛ ترتفع أصوات‬
‫المعارضين للتعريب‪ ،‬والكارهين للعربية‪ ،‬وإخوانهم من الرضاعة‪.‬‬
‫فام هي حجج املؤيدين‪ ،‬وحجج املعارضني؟‪.‬‬
‫لن يلموا باللغات األجنبية بالقدر الذي يسمح‬‫املؤيدون؛ يرون أن أغلب الطالب‪ْ ،‬‬
‫لهم باالطالع على المراجع األجنبية وفهمها بيسر؛ وأن التعليم باللغات األجنبية‬
‫يمكن أن يخلق عند اإلنسان ازدواجية في الشخصية‪ ،‬ويؤدي إلى انقطاعه عن ثقافته‬
‫هدر على فهم النص‬ ‫األم؛ بينما التعليم بـ«اللغة األم» يوفر الكثير من الجهد الذي يُ َ‬
‫األجنبي بحد ذاته‪ ،‬ويوجه الجهود إلى فهم المادة العلمية نفسها؛ وأن العربية قادرة‬
‫على استيعاب العلوم الحديثة؛ وأن المفاهيم العلمية األساس أكثر ثباتًا‪ ،‬وال ينكرون‬
‫ضرورة اإللمام باللغات األجنبية لالطالع على المستجدات‪.‬‬
‫حاليا ال يسهم في العلوم الحديثة‪ ،‬لذا‬
‫َّأما املعارضون؛ فيرون أن العالم العربي ً‬
‫لكي يعتاد المتعلمون على قراءة أحدث‬ ‫من األفضل أن يتم التدريس باإلنجليزية‪ْ ،‬‬
‫تم نشرها بها؛ وأن سرعة التطور العلمي ال يترك للغة العربية‬
‫المواد العلمية باللغة التي َّ‬
‫مجاالً الستيعاب المصطلحات الحديثة؛ وأن حركة الترجمة ال يمكن أن تلحق بسرعة‬
‫التطور العلمي‪.‬‬
‫ضالل مبين‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫إن المعارضين لفي‬
‫َّ‬

‫‪- 177 -‬‬


‫إ ْذ ال يزالون يرددون مزاعم المستعمرين القدامى‪ ،‬ويحذون حذوهم‪ ،‬ويطالبون‬
‫بمطالبهم‪ ،‬ويصلُّون وراءهم‪ِّ ،‬‬
‫ويؤمنون خلف دعائهم‪.‬‬
‫فقد أجبر (اإلنجليز) المصريين سنة ‪1889‬م بقرار رسمي ينص على‪ :‬أن تكون‬
‫لغة التعليم بمصر في جميع مراحله باإلنجليزية‪.‬‬
‫وفي الجزائر؛ أصدر وزير الداخلية الفرنسي «كامبل شوتو» في ‪1936 /8/3‬م قراراً‬
‫باسم الحكومة الفرنسية باعتبار العربية لغة أجنبية في الجزائر‪ ،‬وال تعامل على قدم‬
‫المساواة مع بقية اللغات األجنبية كاأللمانية واإلنجليزية واإليطالية واإلسبانية‪.‬‬
‫ترى؛ لماذا يعجز أبناء العربية المخلصون عن تعريب العلوم في العصر الحاضر‪،‬‬
‫على الرغم من جهود بعض الجهات العلمية العربية؛ كمجامع اللغة العربية‪ ،‬وغيرها؟‪.‬‬
‫أن سبب العجز؛ راجع إلى أولئك المرجفين‪ ،‬بمعاونة القوى الخفية؛ التي‬‫ال جرم َّ‬
‫تقف حاجزاً منيعاً بين اإلصالحيين الغيورين‪ ،‬وبين بلوغهم الهدف المنشود‪.‬‬
‫لقد تناسى هؤالء َّ‬
‫المغفلون أن العربية انحدرت ـ في العصر الحديث ـ بفعل القوى‬
‫االستعمارية؛ بأجهزتها الثقافية واإلعالمية؛ بسبب جنوح أهلها إلى التخلف‪.‬‬
‫ثم‪:‬‬
‫إن المشكلة ليست في اللغة‪ ،‬إنما هي مشكلة الناطقين بها‪ .‬ومن َّ‬ ‫الحق أقـول ‪َّ :‬‬
‫َّ‬
‫فإن عالج القضية يكمن في عالج أهلها أوالً؛ بإقناعهم َّ‬
‫بأن تعليم «العربية» وتعريب‬ ‫َّ‬
‫العلوم؛ هي قضية الساعة التي يجب أن تحسم بأسرع وقت ممكن؛ وذلك بإقناع‬
‫أهلها بالدور الحضاري لهم كعرب ومسلمين في مسيرة الحضارة المعاصرة‪ ،‬وإقناعهم‬
‫فعال في حياة اللغات‪ .‬عندئذٍ؛ سيعلم أولئك المنبهرون‬ ‫بأن العامل الحضاري عامل َّ‬ ‫َّ‬
‫بالغرب؛ أنهم في ضالل بعيد‪.‬‬
‫أن هذا الوضع المتخلف الذي تعانيه العربية بين أهلها‪ ،‬وداخل أوطانها؛‬
‫ال جرم َّ‬
‫سيستمر طالما بقيت العربية مبعدة عن مجاالت العلم والتكنولوجيا‪ ،‬وطالما اتخذ‬
‫العلماء العرب لغات اآلخرين كوسيلة لتدريس العلوم بجامعاتنا‪ ،‬وسيعلم الذين ظلموا‬
‫منقلب ينقلبون‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أي‬
‫ّ‬
‫إن القضية في حاجة إلى قرار سيادي يل ِزم بتعريب العلوم ‪ ..‬فالتعريب في صدر‬ ‫َّ‬
‫اإلسالم لم يكتمل ويترسخ َّ‬
‫إال بقرارات سياسية‪ ،‬على ما كان للعربية من قوة وسيادة‬
‫ومنعة بفضل انتشار اإلسالم‪ ،‬وشيوع القرآن الكريم في أرجاء الدولة اإلسالمية بلسانه‬
‫العربي المبين‪.‬‬

‫‪- 178 -‬‬


‫َّ‬
‫والحكام األوائل المسألة لهذه االعتبارات وحدها‪ ،‬فقد رأى «عمر‬ ‫لم يترك القادة‬
‫ثم احتاج األمر إلى قرا ٍر جديد‬
‫البد من اتخاذ القرار ببدء التعريب‪َّ ،‬‬
‫بن الخطاب» أنه َّ‬
‫ثم احتاج األمر‬
‫أي تعريب جهاز الدولة‪َّ ،‬‬
‫من عبد الملك بن مروان بتعريب الدواوين‪ْ ،‬‬
‫إلى قرا ٍر ثالث من الرشيد‪ ،‬ومن بعده المأمون؛ بإنشاء (بيت الحكمة) ودفع حركة‬
‫الترجمة‪ ،‬واستحضار كتب المعارف من األمم األخرى‪ ،‬وتعريبها بوزنها ذهباً‪ .‬وهذه‬
‫األمـة‪.‬‬
‫أضخم عملية تعريب شهدتها َّ‬
‫إذن؛ كلها قرارات سياسية متتابعة ومتكاملة‪ ،‬اتخذت على أعلى المستويات‪ ،‬من‬
‫تعريب الحياة العامة‪ ،‬إلى تعريب جهاز الدولة‪ ،‬إلى تعريب المؤسسات العلمية‪ .‬فالقرار‬
‫فإن الله يزع بالسلطان ما ال يزع بالقرآن‪.‬‬
‫السياسي مسألة حتمية في إنجاز التعريب(((‪َّ .‬‬
‫على صعي ٍد آخـر؛ فقد أظهرت الحقبة الماضية؛ َّ‬
‫أن االهتمام العالمي بالعربية‬
‫يتزايد مع تزايد االهتمام السياسي بالمنطقة العربية‪ ،‬على الرغم من حالة التراجع‬
‫التي تشهدها األمة‪ .‬فالعربية تشهد حالة صحوة‪ ،‬وتكتسب مساحات أكبر من التأثير‬
‫والوجود علي ساحات اإلعالم العالمي في مختلف المجاالت‪ ،‬حيث ساهم التعريب في‬
‫اإلعالم الدولي في التأثير المتبادل ونقل المعارف المختلفة‪ ،‬ولم تتوقف الظاهرة عند‬
‫بأن االهتمام العالمي‬ ‫الغرب فقط‪ ،‬وإنما امتدت إلى الشرق اآلسيوي ً‬
‫أيضا‪ .‬مع إيماننا َّ‬
‫بالعربية يأتي ألسباب سياسية وفكرية واقتصادية‪.‬‬
‫وقد تطور استخدام العربية في وسائل اإلعالم عبر عدد من المراحل؛ فبدأ أوالً‬
‫ثم البث‬‫عبر البث اإلذاعي من خالل إذاعات متخصصة بالعربية‪ ،‬مثل ‪ :‬راديو لندن‪َّ ،‬‬
‫المعرب خالل ساعات محددة لراديو مونت كارلو وصوت أمريكا‪.‬‬
‫ثم أعطى "اإلنرتنت" دفعة قوية للعمل اإلذاعي‪ ،‬وزاد من التعريف بالتعريب‬
‫اإلذاعي مما ساهم في توسيع مجال البث؛ إ ْذ لجأت اإلذاعات إلى "اإلنترنت" وأنشأت‬
‫نوافذ إلكترونية معربة تبث من خاللها األخبار بالنص العربي‪ .‬مثل‪ :‬راديو لندن‪ ،‬مونت‬
‫كارلو‪ ،‬راديو كندا‪ ،‬إذاعة الصين‪ ،‬راديو كوريا الدولي‪ ،‬راديو اليابان الدولي‪ ،‬صوت‬
‫ثم توسعت حركة التعريب مع الطفرة التي حدثت في البث‬ ‫روسيا‪ ،‬وإذاعة يوغسالفيا‪َّ .‬‬
‫الفضائي‪ ،‬التي أحدثت نقلة نوعية في انتشار القنوات التي تهتم بالبث باللغة العربية‪.‬‬

‫((( تعريب التعليم الجامعي رضورة‪ ،‬السيد أحمد فرج‪ ،‬رابطة الجامعات اإلسالمية‪1993 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 179 -‬‬


‫أجل‪ .‬إنها ظاهرة جديرة بالرصد؛ وهي تنمو بشكل متسارع‪ ،‬وقد بدأت مؤسسات‬
‫معربة من مطبوعاتها‪ ،‬وصدرت خالل األعوام األخيرة‪،‬‬
‫صحفية دولية كبرى تصدر طبعات َّ‬
‫طبعات عربية لصحف أجنبية‪ ،‬كمجالت‪ :‬نيوزويك‪ ،‬فورين بوليسي‪ ،‬بيزنس ويك‪ ،‬فوربس‪،‬‬
‫لوموند ديبلوماتيك‪ ،‬وإيكونوميست‪ ،‬وغيرها من مجالت ودوريات العالم الغربي‪.‬‬
‫ومع توسع االهتمام بالعربية؛ بدأت دول العالم ترصد المزيد من األموال من أجل‬
‫تعلُّمها‪ ،‬حيث تقرر في الميزانية األمريكية للعام ‪ ،2006‬تخصيص ‪ 114‬مليون دوالراً‬
‫ثم تضاعفت هذه الميزانية مرات ومرات‪ .‬وفي ذات االتجاه شرعت‬ ‫لتعلم العربية‪َّ ،‬‬
‫أخيرا في تدريس العربية لخدمة الطالب الراغبين في الحصول‬ ‫الجامعات األمريكية ً‬
‫إن جامعة "مينيسوتا" األمريكية‬ ‫على وظائف في المجال العسكري والدبلوماسي‪ْ .‬‬
‫بل َّ‬
‫أعلنت عن توسيع مجال تدريس العربية‪ ،‬وسبقتها جامعتا و"يسكونسين"‪ ،‬و"إلينوي"‪.‬‬
‫من هنا؛ يمكن القول ‪ :‬إن (العربيـة) بدأت في العودة إلى خريطة الفكر والثقافة‬
‫العالمية؛ بعز عزيز‪ ،‬أ ْو بذل ذليل‪.‬‬
‫أن سعي اإلعالم الدولي نحو التعريب لنشر ثقافة الدول والشعوب التي‬
‫ال جرم َّ‬
‫ينتمي إليها؛ يفرض على العرب والمسلمين مسئولية مبادلة الرسالة برسالة أخرى‬
‫إيجابية تتناسب والتحديات الحضارية التي تواجهها‪.‬‬
‫يتصدق به اآلخرون‬
‫َّ‬ ‫فلم يعد من المقبول أن ننتظر ما يصل إلينا من أفكار أ ْو ما‬
‫علينا‪ ،‬دون بذل الجهد لدفع حركة التعريب إلى اإلمام‪ ،‬واسترداد عافيتنا الثقافية والفكرية‪.‬‬
‫الخالصـة؛ أن «التعريب» قد فرض نفسه علي الساحة العالمية في مجاالت‬
‫عديدة‪ .‬لذا؛ أصبح ضرورة لنا للتعرف على الثقافات األخرى‪ ،‬ووسيلة لتوفير المعارف‬
‫والعلوم بشكل ميسر لعموم األمة‪.‬‬
‫أن‬
‫فإن االهتمام بالعربية يزيد من اعتزاز األمة بهويتها‪ ،‬كما َّ‬
‫وفوق كل ذلك؛ َّ‬
‫التعريب يساهم في مستقبل أفضل للعربية في ظل الصراع الحضاري المحتدم‪ .‬والله‬
‫غالب على أمره‪.‬‬
‫ٌ‬

‫‪- 180 -‬‬


‫من أخبار العربية‬
‫فلما أكل من الشجرة؛ ُسلِبها‬
‫الجنة العربية‪َّ ،‬‬
‫عن ابن عباس؛ أن آدم كان لغته في َّ‬
‫فتكلَّم بالسريانية‪َ ،‬‬
‫فلما تاب ردها الله تعالى عليه"‪.‬‬
‫(((‬

‫(حكاية) "العربية إحدى اللغات التي علَّمها آدم ‪ ،‬وكان يتكلم بها وبغيرها‪.‬‬
‫وإن كل لغة سواها حدثت بعدها‬ ‫إن العربية هي أولى اللغات التي علَّمها آدم َّ‬ ‫وقيل‪َّ :‬‬
‫(((‬
‫َّإما توفيقاً أ ْو اصطالحاً‪ .‬وقيل‪ :‬نزل القرآن الكريم بالعربية‪ ،‬وهو كالم الله َّ‬
‫عز وجل"‪.‬‬
‫(حكاية) "كان لسان جميع من ركب السفينة مع نوح  سريانياً (وهو منسوب‬
‫إال رجل واحد هو‬ ‫إلى أرض سورية‪ ،‬وهي أرض الجزيرة) يشاكل اللسان العربي َّ‬
‫(((‬
‫(جرهم) فإنه كان لسانه العربي األول"‪.‬‬
‫(حكاية) "كان اللسان العربي في إرم بن سام ـ الذي تزوج من بنات جرهم ـ‬
‫وصار بعد ذلك في ولده عوص أبي عاد وعبيل وجائر أبي ثمود وجديس"‪ (((.‬و"العربي"‬
‫منسوب إلى عربة ‪ ،‬وهي ناحية دار إسماعيل" ‪.‬‬
‫(حكاية) قال ابن دحية ‪ :‬العرب ثالثة أقسام(((‪:‬‬
‫األول ‪ :‬عاربة وعرباء وهم الخلص وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح‪،‬‬
‫وهي عاد وثمود وأميم وعبيل وطسم وجديس وعمليق وجرهم ووبار‬
‫ومنهم تعلم "إسماعيل " العربية‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬المتعربة‪ ،‬قال في الصحاح‪ :‬وهم الذين ليسوا بخلص‪ ،‬وهم بنو قحطان‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬المستعربة وهم الذين ليسوا بخلص أيضاً‪ ،‬وهم بنو إسماعيل  وهم‬
‫ولد معد‪.‬‬

‫((( الدر املنثور‪ ،‬ج‪ ،1‬جالل الدين السيوطي‪.‬‬


‫((( روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين‪ ،‬لإلمام األلوسي‪ ،‬جزء ‪.12‬‬
‫((( روح املعاين‪.‬‬
‫((( روح املعاين ‪.‬‬
‫((( روح املعاين‪.‬‬

‫‪- 181 -‬‬


‫وقال ابن دريد في (الجمهرة) ‪" :‬العرب العاربة‪ ،‬سبع قبائل‪ :‬عاد وثمود وعمليق‬
‫وطسم وجديس وأميم وجاسم"‪.‬‬
‫(حكاية) قال كعب األحبار ‪" :‬أول من نطق بالعربية جبريل عليه السالم‪ ،‬وهو‬
‫الذي ألقاها على لسان نوح ‪ ،‬فألقاها نوح على لسان ابنه سام‪ ،‬وهو أبو العرب‪.‬‬
‫وأول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل ‪ ،‬وهو ابن أربع عشرة سنة‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫إن أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية يعرب بن قحطان"(((‪.‬‬
‫َّ‬
‫(حكاية) قيل‪ :‬إن الفراعنة "المصريين القدماء" من بقايا العمالقة‪ ،‬كانوا يتكلمون‬
‫بالعربية‪ .‬واستدلوا على ذك بقصة سيدنا موسى  مع فرعون"(((‪.‬‬
‫"أحبوا العرب لثالث ألنِّي‬
‫أن رسول الله ﷺ‪ ،‬قال‪ُّ :‬‬
‫(حكاية) عن ابن عباس‪َّ ،‬‬
‫الجنة عربي" ‪.‬‬
‫(((‬
‫عربي‪ ،‬والقرآن عربي‪ ،‬وكالم أهل َّ‬
‫ولم تخرج من بين‬‫(حكاية) عن عمر بن الخطاب‪ ،‬أنه قال ‪ :‬يا رسول الله؛ مالك أفصحنا‪ْ ،‬‬
‫(((‬ ‫ست‪ ،‬فجاء بها جبريل؛ َّ‬
‫فحفظنيها فحفظتها"‪.‬‬ ‫أظهرنا؟‪ .‬قالﷺ ‪ :‬كانت لغة إسماعيل قد ُد ِر ْ‬
‫(حكاية) "كان للعرب في لغتهم بعض مخالطة ألهل سائر األلسنة في أسفارهم‪،‬‬
‫فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها‪ ،‬واستعملتها في أشعارها‬
‫ومحاورتها‪ ،‬حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان"(((‪.‬‬
‫(حكاية) كل األلفاظ عربية صرفة‪ ،‬ولكن لغة العرب متسعة جداً‪ ،‬وال يبعد أن‬
‫تخفى على األكابر األجلَّة‪ ،‬وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح‪ .‬لذا؛ قال اإلمام‬
‫نبي"(((‪.‬‬
‫الشافعـي في الرسالة‪" :‬ال يحيط باللغة إال ّ‬
‫(حكاية) "العربية أوفر اللغات مادة‪ ،‬وأقلها حرو ًفا‪ ،‬وأفصحها لهجة‪ ،‬وأكثرها تصرفاً‬
‫في الداللة على أغراض المتكلم‪ ،‬وأوفرها ألفاظاً‪ ،‬وفيها من الدقائق واللطائف ً‬
‫لفظا‬
‫ومعنى ما يفي بأقصى ما يراد من وجوه البالغة"(((‪.‬‬

‫((( روح املعاين‪.‬‬


‫((( روح املعاين‪.‬‬
‫((( أخرجه الطبراني والحاكم والبيهقي‪ ،‬وآخرون‪.‬‬
‫((( روح املعاين‪.‬‬
‫((( روح املعاين‪.‬‬
‫((( روح املعاين‪.‬‬
‫((( التحرير والتنوير‪ ،‬الطاهر بن عاشور [ جزء ‪.]1‬‬

‫‪- 182 -‬‬


‫(حكاية) حكمة وقوع األلفاظ غير العربية في القرآن الكريم أنه حوى علوم‬
‫فالبد أن تقع فيه اإلشارة إلى أنواع اللغات؛ لتتم‬
‫األولين واآلخرين‪ ،‬ونبأ كل شيء‪َّ ،‬‬
‫إحاطته بكل شيء‪ ،‬فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعماالً للعرب ‪.‬‬
‫(((‬

‫(حكاية) قال المطران أبو داود ـ المتخصص في العربية والسوريانية ـ ‪" :‬إذا‬
‫وخس ْت‪ ،‬وإذا نُقل الكالم المختار من‬
‫حت ّ‬‫قب ْ‬‫نُقلت األلفاظ الحسنة إلى السوريانية ُ‬
‫وحسناً‪ ،‬وهذا ما يخبر به أهل كل لغة عن لغتهم‬
‫السوريانية إلى العربية‪ ،‬ازداد طالو ًة ُ‬
‫حال مقارنتها مع العربية"‪.‬‬
‫(حكاية) كان أبو اسحق الصابي ـ وهو غير مسلم ـ يقرأ سورة من القرآن الكريم‬
‫قبل أن يأخذ نفسه بالنظم واإلنشاء‪.‬‬
‫إلي من أن أُمدح باألعجمية"‪.‬‬
‫أحب َّ‬ ‫"ألن أُ َ‬
‫هجى بالعربية‪ّ ،‬‬ ‫(حكاية) قال البيروني ‪ْ :‬‬
‫(حكاية) قال القاضي أبو بكر العربي ‪" :‬علوم القرآن خمسون وأربعمائة وسبعة‬
‫ألن لكل‬
‫آالف وسبعون ألف عِلم (‪ )77450‬على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة‪َّ ،‬‬
‫كلمة ظهراً وبطناً‪ ،‬وحداً ومطلعاً‪ ،‬وهذا في المفردات‪َّ .‬أما إذا اعتبرنا التراكيب وما بينها‬
‫(((‬
‫من روابط‪ ،‬فإنه يكون ما ال يحصى من العلوم"‪.‬‬
‫ِرت عنده اللغة العربية‪ ،‬وما تمتاز به من‬‫أن يهودياً ُذك ْ‬
‫(حكاية) روى ابن األثير؛ َّ‬
‫وأحسنهن وضعاً‪ ،‬فقال‪" :‬وكيف ال‬
‫َّ‬ ‫أشرفهن مكاناً‪،‬‬
‫َّ‬ ‫جمال‪ ،‬وأنها سيدة اللغات‪ ،‬وأنها‬
‫فنفت القبيح من اللغات التي قبلها‪ ،‬وأخذت الحسن‪،‬‬ ‫تكون كذلك‪ ،‬وقد جاءت آخراً‪ْ ،‬‬
‫ثم إن واضعها تصرف في جميع اللغات السالفة‪ ،‬فاختصر ما اختصر‪ ،‬وخفف ما خفف‪،‬‬
‫فمن ذلك اسم "الجمل" فإنه عندنا في اللسان العبراني " ُكوميل" مماالً على وزن‬
‫ُفوعيل‪ ،‬فجاء واضع اللغة العربية‪ ،‬وحذف منها الثقيل المستبشع‪ ،‬وقال بدالً منها‬
‫"جمل" فصار خفيفاً حسناً"‪.‬‬
‫الخاصة التي تقو ُم بكفاية العامة فيما يحتاجون‬
‫َّ‬ ‫إن على‬ ‫الشافعي ‪ّ :‬‬
‫ّ‬ ‫قال اإلمام‬
‫التوصل إلى‬
‫ُّ‬ ‫إليه لدينهم‪ ،‬االجتهاد في تعلّم لسان العرب ولغاتها‪ ،‬التي بها تمام‬
‫المفسرين من الصحابة والتابعين‪ ،‬من‬
‫ّ‬ ‫والسنن واآلثار‪ ،‬وأقاويل‬
‫معرفة ما في الكتاب ُّ‬

‫((( روح املعاين‪.‬‬


‫((( اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬للسيوطي‪.‬‬

‫‪- 183 -‬‬


‫فإن من َج ِه َل سعة لسان العرب وكثرة ألفاظها‪،‬‬
‫العربية‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫والمخاطبات ّ‬ ‫األلفاظ الغريبة‪،‬‬
‫وافتنانها في مذاهبها‪َ ،‬ج ِه َل ُج َ‬
‫مل علم الكتاب‪ ،‬ومن علمها‪ ،‬ووقف على مذاهبها‪ ،‬و َف ِهم‬
‫الداخل ُة على من َج ِه َل لسانها من ذوي‬
‫ما تأ ّوله أهل التفسير فيها‪ ،‬زالت عنه الشبه َّ‬
‫(((‬
‫األهواء والبدع‪.‬‬
‫قال الزمخرشي في كتابه "الكشَّ اف"‪" :‬إن تنزيل القرآن بالعربية التي هي لسانك‬
‫ُفهمه قومك‪ .‬ول ْو كان أعجمياً لكان‬
‫ولسان قومك‪ ،‬تنزيل له على قلبك‪ ،‬ألنك تفهمه وت ِّ‬
‫نازالً على سمعك دون قلبك‪ ،‬ألنك تسمع أجراس حروف ال تفهم معانيها‪ ،‬وال تعيها"‪.‬‬
‫من عرف كالم العرب‪ ،‬فعرف علم‬
‫قال ابن ق ّيم الجوزيّة‪ ":‬وإنّما يعرف فضل القرآن ْ‬
‫اللغة وعلم العربية‪ ،‬وعلم البيان‪ ،‬ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاوالتها في مواطن‬
‫افتخارها‪ ،‬ورسائلها ‪" ...‬‬
‫«إن هذا الرجل لم يفعل‬
‫قال المؤرخ البريطاني إرنولد توينبي عن أتاتورك ‪َّ :‬‬
‫كما فعل النازيون مع الكتب في الساحات العامة‪ ،‬وذلك في ليلة برلين الشهيرة سنة‬
‫‪1938‬م‪ ،‬أ ْو كما فعل ملك إسبانيا "فيليب" مع الثقافة العربية‪ْ ،‬‬
‫بل قام بما هو أدهى‬
‫وأمر؛ فقتل الحرف العربي دون أن يلمسه‪ ،‬حين قلب الحرف التركي من العربي إلى‬
‫كي تلتهم خمسة قرون من التراث‬ ‫الالتيني‪ ،‬وترك بقية المهمة إلى غبار الرفوف ْ‬
‫العثماني المخطوط بالحرف العربي‪ ،‬الذي يحتوي على آالف المجلدات»‪.‬‬
‫الشاعر والفيلسوف‪ /‬محمد إقبال ‪َ " :‬من أراد أن يكتب وثيقة ويدفنها في‬
‫قال َّ‬
‫األرض فيقرأها الناس بعد ألف جيل‪ ،‬فليكتبها باللغة العربية‪ ،‬فهي لغة الخلود من‬
‫القرآن الخالد"‪.‬‬
‫قال عبد الوهاب عزام ‪" :‬العربية لغة كاملة محببة عجيبة‪ ،‬تكاد تصور ألفاظها‬
‫مشاهد الطبيعة‪ ،‬وتمثل كلماتها خطرات النفوس‪ ،‬وتكاد تتجلى معانيها في أجراس‬
‫األلفاظ‪ ،‬كأنما كلماتها خطوات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة"‪.‬‬
‫"إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة‬
‫قال طه حسني ‪َّ :‬‬
‫بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضاً"‪.‬‬
‫فحسب‪ْ ،‬‬

‫((( التهذيب‪ ،‬لألزهري ‪( 5 /1‬المقدمة)‪.‬‬

‫‪- 184 -‬‬


‫قالت الدتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ‪" :‬حين تمتحن أمة بسرقة‬
‫لسانها‪ ،‬تضيع‪ ،‬وتمسخ شخصيتها القومية‪ ،‬وتبتر من ماضيها وتراثها وتاريخها‪ ،‬ثم‬
‫تظل محكوماً عليها بأن تبقى أبداً تحت الوصاية الفكرية والوجدانية للمستعمر‪ ،‬حتى‬
‫بعد أن يجلو عن أرضها‪ .‬وبمضي الزمن يغدو هذا االستعباد القهري والء فكرياً لمن‬
‫كان لها باألمس عدواً"‪.‬‬
‫دب خلل في التفكير"‪.‬‬
‫دب خلل في اللغة؛ َّ‬
‫قال الدكتور زيك نجيب محمود ‪" :‬إذا َّ‬
‫قال د‪ .‬عبد العزيز بن عثامن التويجري ‪" :‬اللغة العربية قضية وجود‪ ،‬وقاعدة كيان‪،‬‬
‫ودعامة النظام العربي اإلسالمي"‪.‬‬

‫‪- 185 -‬‬


‫علمـاء اللغـة ‪ ..‬ومؤلفاهتـم‬
‫ترى؛ َمن هؤالء (العلماء) الذين تكلمنا عنهم كثيراً َكثيراً في هذا الكتاب؟‪.‬‬
‫ولم نعرف عنهم الكثير؟‪.‬‬
‫َمن هؤالء (األعالم) الذين شغلوا صفحات الكتاب‪ْ ،‬‬
‫َمن هؤالء (األكابر) من اللغويين‪ ،‬والنحاة‪ ،‬والبالغيين‪ ،‬والعروضيين؟‪.‬‬
‫خطاب ومقال؟‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫يؤمن الناس خلفهم‪ ،‬ويقتدون بهم في كل‬
‫َمن هؤالء (األئمة) الذين ِّ‬
‫صوت فوق أصواتهم؟‪.‬‬
‫َمن هؤالء (القدوات) الذين ال يسبقهم أحد في الكالم‪ ،‬وال يرفع ٌ‬
‫من هؤالء (العباقرة) الذين مألوا الدنيا بعلومهم‪ ،‬وشغلوا الناس بآرائهم ومسائلهم؟‪.‬‬
‫من هؤالء (العظماء) الذين أبدعوا‪ ،‬وتألَّقوا‪ ،‬وأتوا بما عجز عنه السابقون والالحقون؟‪.‬‬

‫من هؤالء (األفذاذ) الذين ألَّفوا المعاجم‪َّ ،‬‬


‫وقعدوا القواعد‪ ،‬ووضعوا أصول اللغة‬
‫والبيان؟‪.‬‬
‫من هؤالء (الجهابذة) الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بفنونهم الرفيعة‪ ،‬وآدابهم‬
‫الرفيعة؟‪.‬‬
‫من هؤالء (السابقون السابقون) في نصرة "العربيـة" وآدابها‪ ،‬وفنونها؟‪.‬‬
‫من هؤالء (الرواد) الذين مازالت الدنيا كلها عالة على منجزاتهم اإلبداعية؟‪.‬‬
‫من هؤالء (السادة) الذين تتطامن أمامهم األعناق‪ ،‬وتنحني لهم الهامات؟‪.‬‬
‫عز ْت بهم لغة الضاد وتباهت بهم األيام؟‪.‬‬
‫من هؤالء (األساتذة) الذين َّ‬
‫شرفت بهم األمة‪ ،‬وتفاخرت بهم األجيال؟‪.‬‬
‫ْ‬ ‫من هؤالء (الرجال) الذين‬
‫من هؤالء (الكرام) الذين من ثمرة نبوغهم وعطائهم؛ نشأت الفِرق والمذاهب‬
‫و ُفتِحت المعاهد والجامعات‪ ،‬وأُلِّفت الكتب والقصائد والروايات‪ ،‬و ُعقِدت االمتحانات‪،‬‬
‫عت الجوائز والنياشين؟‪.‬‬ ‫ووز ْ‬
‫و ُمنِحت الدرجات‪ ،‬ونشأت الوظائف والترقيات ِّ‬

‫‪- 186 -‬‬


‫أجل؛ َمن الخليل بن أحمد‪ ،‬وسيبويه‪ ،‬والكسائي‪ ،‬وابن ِج ِّني‪ ،‬وابن فارس‪،‬‬
‫والجوهري‪ ،‬والثعالبي‪ ،‬وابن سيده‪ ،‬وابن منظور‪ ،‬والفيروزآبادي؟‪.‬‬
‫أي حقبة عاشوا؟ وما هي‬‫أي البالد أقاموا؟ وفي ّ‬
‫أي األوطان جاءوا؟ وفي ّ‬
‫من ّ‬
‫أشهر مؤلفاتهم؟ وبماذا تميزوا عن غيرهم؟ وماذا قال عنهم معاصروهم‪ ،‬والذين جاءوا‬
‫من بعدهم؟‪.‬‬
‫هذا الذي سنعرفه ـ بتوفيق الله ـ في الصفحات التالية‪ .‬فإلـى التفاصيـل‪.‬‬

‫‪- 187 -‬‬


‫اخلليل بن أمحد الفراهيدي‬
‫المتم مائة من‬
‫ّ‬ ‫الخليل بن أحمد ال َف َرا ِهيدي (‪ 170-100‬هـ)‪ .‬كان مولده في العام‬
‫الهجرة (‪100‬هـ) في زمن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز‪.‬‬
‫قال ابن أبي خيثمة ‪" :‬أول من ُس ِّمي في اإلسالم أحمد (بعد رسول الله)‪ ،‬الخليل‬
‫بن أحمد"‪.‬‬
‫علي بابي فما يجاوزه‬
‫متعبدا‪ ،‬وكان يقول ‪" :‬إني ألغلق َّ‬
‫ً‬ ‫عاش في البصرة متقش ًفا‬
‫همي"‪.‬‬
‫وليس أدل على ذلك مما حكاه عنه تلميذه النضر بن شميل‪ ،‬قال ‪" :‬أقام الخليل‬
‫يقدر على َفلْ َس ْي ِن‪ ،‬وأصحابه يكسبون بعلمه األموال"‪.‬‬
‫ص من أخصاص البصرة‪ ،‬ال ُ‬ ‫في ُخ ٍّ‬
‫ور ِوي له في الزهد ‪:‬‬
‫ُ‬
‫املريض فعاش املريض ومات الطبيـب‪.‬‬
‫َ‬ ‫الطبيب‬
‫ُ‬ ‫وقبلك داوى‬
‫وفوق زهده وتقواه وعلمه‪ ،‬فقد كان رج ً‬
‫ال ظري ًفا متواض ًعا؛ ومما ُذكر في ذلك أنه‬
‫اشتغل عليه رجل في العروض وكان بعيد الفهم‪ ،‬فأقام مدةً‪ ،‬ولم يعلق على خاطره‬
‫تقطع هذا البيت؟‪.‬‬ ‫شيء منه‪ ،‬قال الخليل‪ :‬فقلت له يو ًما‪ :‬كيف ِّ‬

‫وجاوزه إىل ما تستطيـع‬ ‫إذا مل تستطع شي ًئا فدعـه‬


‫قال الخليل ‪" :‬فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته‪ ،‬ثم إنه نهض من عندي‬
‫إلي‪ ،‬وكأنه فهم ما أشرت إليه"‪ .‬وهنا يتجلَّى أدب الخليل وحسن ُخلُقه مع‬
‫فلم ي ُع ْد َّ‬
‫فريدا في تعليمه إياهم‪.‬‬
‫منهجا تربويًّا ً‬
‫تالمذته‪ ،‬وكيف كان يستعمل ً‬
‫ومن أفضل ما ُعلم عن تواضع الخليل؛ ما حكاه أيوب بن المتوكل‪ ،‬قال‪" :‬كان‬
‫وإن استفاد من أح ٍد شي ًئا أراه بأنه استفاد‬
‫الخليل إذا أفاد إنسانًا شي ًئا لم يُ ِره أنه أفاده‪ْ ،‬‬
‫ال عن احترام المعلم واإلقرار‬ ‫سمو نفسي وإنكا ٍر للذات‪ ،‬فض ً‬
‫منه"‪ .‬وفي ذلك ما فيه من ٍّ‬
‫بفضله على المتعلم‪.‬‬

‫‪- 188 -‬‬


‫تتلمذ "الخليل" على أكثر من شيخ‪ ،‬منهم‪ :‬أيوب البصري‪ ،‬وعاصم األحول‬
‫البصري‪ ،‬والعوام بن حوشب‪ ،‬وغالب القطان البصري‪ ،‬وأبو عمرو بن العالء‪ ،‬وعثمان‬
‫األزدي‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫َّأمـا عن تالميذه؛ فقد كانوا من الكثرة والنجابة بمكان‪ ،‬أبرزهم (سيبويه) ُح َّجة‬
‫العربية‪ ،‬واألصمعي‪ ،‬وحماد بن يزيد‪ ،‬وأيوب بن المتوكل البصري القارئ‪ ،‬وبَ َدل بن‬
‫َرخ‬
‫والمؤ ِّ‬
‫المحبر‪ ،‬وداود بن المحبر‪ ،‬وعلي بن نصر الجهضمي الكبير‪ ،‬وعون بن عمارة‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬
‫بن عمرو السدوسي‪ ،‬وموسى بن أيوب‪ ،‬والنضر بن شميل‪ ،‬وهارون بن موسى النحوي‪،‬‬
‫ووهب بن جرير بن حازم‪ ،‬ويزيد بن مرة َّ‬
‫الذارع‪ ،‬والليث بن المظفر‪.‬‬
‫ولعل من أكبر أسباب شهرة الخليل بن أحمد؛ تلميذه "سيبويـه" في مؤلَّفه‬ ‫َّ‬
‫الشهير (الكتـاب)؛ إ ْذ َّ‬
‫عامة الحكاية فيه عن الخليل‪.‬‬
‫طير اسم "الخليل" وأذاع شهرته في اآلفاق‪ ،‬هو كتابه ومعجمه‬
‫وإن من أهم ما َّ‬ ‫َّ‬
‫ال ِب ْكر من نوعه في مصنفات العربية‪( :‬كتاب العني)‪ ،‬ولم يكن (العين) هو َّ‬
‫مصنفه‬
‫الوحيد‪ ،‬وإنما له كتب أخرى‪ ،‬مثل‪ :‬كتاب (فائت العني)‪ ،‬وكتاب (العروض)‪ ،‬وكتاب‬
‫(الشواهد)‪ ،‬وكتاب (النقط والشكل)‪ ،‬وكتاب (النغم)‪ ،‬وكتاب في (معنى الحروف)‪،‬‬
‫وكتاب في (العوامل)‪ ،‬وكتاب (اإليقاع)‪ ،‬وكتاب(ترصيف الفعل)‪ ،‬وكتاب (التفاحة يف‬
‫النحو)‪ ،‬وكتاب (جملة آالت اإلعراب)‪ ،‬وكتاب (رشح رصف الخليل)‪ ،‬وكتاب (الجمل)‪،‬‬
‫وكتاب (امل ُ َع َّمى)‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫منهج اخلليل يف كتاب العني‬


‫لقد رتَّب الخليل في (العني) الحروف العربية على مخارجها من الحلق على‬
‫النظام التالي‪ ،‬كما جاء في مقدمته لكتاب العين‪ :‬ع‪ ،‬ح‪،‬هـ‪ ،‬خ‪ ،‬غ‪ ،‬ق‪ ،‬ك‪ ،‬ج‪ ،‬ش‪ ،‬ض‪،‬‬
‫ص‪ ،‬س‪ ،‬ز‪ ،‬ط‪ ،‬د‪ ،‬ت‪ ،‬ظ‪ ،‬ث‪ ،‬ذ‪ ،‬ر‪ ،‬ل‪ ،‬ن‪ ،‬ف‪ ،‬ب‪ ،‬م‪ ،‬و‪ ،‬ا‪ ،‬ي‪ ،‬همزة‪.‬‬
‫أن‬
‫فإن سيبويه يذكر َّ‬
‫مخرجا‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫عد العين أقصى الحروف‬ ‫وإذا كان "الخليل" قد َّ‬
‫مخرجا‪ .‬غير أن ابن كيسان يروي أن الخليل‪ ،‬قال‪" :‬لم أبدأ‬ ‫ً‬ ‫الهمزة أقصى الحروف‬
‫بالهمزة؛ ألنها يلحقها النقص والتغيير والحذف‪ ،‬وال باأللف ألنها ال تكون في ابتداء‬
‫الكالم وال في اسم وال فعل إال زائدة أو ُم ْب َدلَ ًة‪ ،‬وال بالهاء ألنها مهموسة َّ‬
‫خفية ال صوت‬
‫فوجدت العين أنصع الحرفين؛ فابتدأت‬
‫ُ‬ ‫فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لها‪،‬‬
‫أحسن في التأليف"‪.‬‬
‫َ‬ ‫به ليكون‬

‫‪- 189 -‬‬


‫فعدها تسعة‬
‫وقد بسط الخليل في (العني) الكالم في هذه الحروف ومخارجها‪َّ ،‬‬
‫صحاحا لها أحياز ومدارج‪ ،‬كما جعل‬
‫ً‬ ‫وعشرين حر ًفا‪ ،‬جعل منها خمسة وعشرين حر ًفا‬
‫منها أربعة هوائية‪ .‬ولقد َو َسم الخليل كتابه المعجم هذا بأول حرف اعتمده‪ ،‬وهو العين‪.‬‬
‫واضع للكلم العربي في صورة معجمية‪ ،‬كان عليه أن‬ ‫ٍ‬ ‫ولما كان الخليل أول‬ ‫َّ‬
‫يستقصي الكلمات بعد أن اختار الترتيب‪ ،‬وكان اعتماده على ما ساقه الصرفيون‬
‫قبله من حص ٍر ألبنية الكلمة‪ ،‬وجعلها َّإما ثنائية أ ْو ثالثية أ ْو رباعية أ ْو خماسية‪ .‬وعلى‬
‫هذا وجد الخليل أن مبلغ عدد أبنية كالم العرب المستعمل والمهمل على مراتبها‪:‬‬
‫الثنائي والثالثي والرباعي والخماسي من دون تكرار‪ ،‬اثنا عشر ألف ألف وثالثمائة ألف‬
‫وخمسمائة آالف وأربعمائة واثنا عشر (‪:)12305412‬‬
‫الثنايئ ‪ :‬سبعمائة وست وخمسون (‪.)756‬‬
‫الثاليث ‪ :‬تسع عشرة أل ًفا وستمائة وست وخمسون (‪.)19656‬‬
‫الرباعي ‪ :‬خمسمائة ألف وأحد وتسعون أل ًفا وأربعمائة (‪.)591400‬‬
‫وثمان وثالثون أل ًفا وستمائة (‪.)11738600‬‬
‫ٍ‬ ‫الخاميس ‪ :‬إحدى عشرة ألف ألف‪ ،‬وسبعمائة‬
‫لقد اعتمد الخليل في هذا اإلحصاء على تن ّقل الحرف في بنيته من الكلمة‪،‬‬
‫فالحرف في الكلمة الثنائية ينتج عن تنقله صورتان يكون أوالً ويكون ً‬
‫ثانيا‪ ،‬والحرف‬
‫في الكلمة الثالثية‪ ،‬ينتج عن تنقله صور ثالث يكون أوالً ً‬
‫وثانيا وثالثًا‪ ،‬والحرف في‬
‫الكلمة الرباعية ينتج عن تنقله صور أربع‪ ،‬وفي الكلمة الخماسية صور خمس‪ .‬وال شك‬
‫كبيرا‪.‬‬
‫وفكرا ً‬
‫جهدا حثيثًا‪ً ،‬‬‫أن هذا االستقصاء ثم االستصفاء اقتضى من الخليل ً‬
‫وقد أثنى العلماء على الخليل‪ ،‬وأنزلوه المكانة الالئقة به‪ ،‬حتى قال عنه حمزة بن‬
‫فإن دولة اإلسالم‬
‫الحسن األصبهاني في كتاب (التنبيه عىل حدوث ال َّتصحيف)‪" :‬وبعد‪َّ ،‬‬
‫لم تخرج أبدع للعلوم التي لم تكن لها أصول عند علماء العرب من الخليل‪ ،‬وليس‬
‫حكيم أخذه‪ ،‬وال على مثال‬
‫ٍ‬ ‫على ذلك برهان أوضح من "علم العروض" الذي ال عن‬
‫بالص َّفارين من وقع مطرقة على طست‪ ،‬ليس‬ ‫ممر له َّ‬
‫تقدمه احتذاه‪ ،‬وإنما اخترعه من ّ‬
‫َّ‬
‫فيهما حجة وال بيان يؤديان إلى غير حليتهما أ ْو يفيدان عين جوهرهما‪ ،‬فلو كانت‬
‫لشك فيه بعض األمم؛ لصنعته ما لم يضعه أحد منذ خلق‬ ‫أيامه قديمة‪ ،‬ورسومه بعيدة َّ‬
‫الله الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره‪ ،‬ومن تأسيسه بناء كتاب (العني) الذي‬
‫يحصر فيه لغة كل أمة من األمم قاطبة‪ ،‬ثم من إمداده سيبويه في علم النحو بما‬
‫صنف كتابه الذي هو زينة لدولة اإلسالم"‪.‬‬
‫َّ‬

‫‪- 190 -‬‬


‫رجل ُخلِق من الذهب‬
‫ينظر إلى ٍ‬
‫أحب أن َ‬
‫وقال عنه سفيان بن ُع َي ْينة ‪" :‬من َّ‬
‫والمسك‪ ،‬فلينظر إلى الخليل بن أحمد"‪.‬‬
‫نقدم‬
‫عون والخليل أيهما ِّ‬ ‫ُم ِّيل بين ابن ٍ‬ ‫ويُروى عن تلميذه النضر‪ ،‬أنه قال ‪" :‬كنا ن َ‬
‫عون من الخليل‬ ‫بالس َّنة بعد ابن ٍ‬
‫ال أعلم ُّ‬ ‫رأيت رج ً‬
‫في الزهد والعبادة؟"‪ .‬ويقول‪" :‬ما ُ‬
‫ص ال يُ ْش َعر به‪.‬‬‫بن أحمد"‪ .‬وكان يقول‪ ":‬أُ ِكلَت الدنيا بأ َدب الخليل و ُك ُتبِه وهو في ُخ ٍّ‬
‫الزهاد العارفين"‪.‬‬
‫وكان من َّ‬
‫وقال السيرافي‪" :‬كان الغاية في تصحيح القياس‪ ،‬واستخراج مسائل النحو وتعليله"‪.‬‬
‫وقال ابن حبان في كتاب (الثقات) ‪" :‬كان الخليل من خيار عباد الله في العبادة"‪..‬‬

‫‪- 191 -‬‬


‫سيبـويــه‬
‫أبو بشر‪ ،‬عمرو بن عثمان بن قمبر‪ ،‬الملقب بـ"سـيبويه" ( ‪140‬هــ‪756 /‬م) إمام‬
‫حجة العرب‪ ،‬وأول من بسط علم النحو‪ ،‬وصاحب "الكتاب" حجة العربية‬ ‫النحاة‪َّ ،‬‬
‫ودستورها‪ْ .‬‬
‫بل هو علم األعالم‪ ،‬إمام كل إمام‪ ،‬مالك أ ِز ِّمة األدب‪ ،‬وملك علوم العرب‪.‬‬
‫لقبه ( ِسي َب َو ْي ِه) الذي اشتهر به حتى غطى على اسمه وكنيته‪ ،‬وهو لقب فارسي‬
‫معناه بالعربية "رائحة التفاح"‪ ،‬ولد "سيبويه" بشيراز‪ ،‬وقدم البصرة وهو غالم صغير؛‬
‫ليقترب من مراكز العلم ومشعل الحضارة‪ ،‬بعد أن أفسحت الدولة العباسية المجال‬
‫للفرس بتولِّي أرفع المناصب‪.‬‬
‫تتلمذ (سيبويه) على عديد من العلماء‪ ،‬منهم أربعة من علماء اللغة‪ ،‬أولهم‪:‬‬
‫عبقري العربية وإمامها الخليل بن أحمد‪ ،‬وهو أكثرهم تأثيراً فيه‪ ،‬فقد روي عنه‬
‫سيبويه في (الكتاب) ‪ 522‬مرة‪ ،‬ثانيهم‪ :‬أبو الخطاب األخفش‪ ،‬ثالثهم عيسى بن عمرو‪،‬‬
‫وج َّل شيوخه على قيد الحياة‪.‬‬
‫ورابعهم‪ :‬أبو زيد النحوي‪ .‬ومات سيبويه رحمه الله‪ُ ،‬‬
‫توجه سيبويه إلى إمام العربية وشيخها "الخليل بن أحمد"‪ ،‬لينهل من علمه‪،‬‬
‫لم‬
‫فصار يالزمه كالظل حتى ظهر تأثره الكبير بشيخه على صفحات كتابه الشهير‪ْ .‬‬
‫كنت عند الخليل؛ فأقبل سيبويه‪،‬‬
‫يمل سيبويه مجالسة الخليل‪ ،‬حتى قال ابن النطاح‪ُ :‬‬‫ّ‬
‫فقال الخليل‪ :‬مرحباً بزائر ال يمل‪ .‬وقال أبو عمر المخزومي ـ وكان كثير المجالسة‬
‫سمعت الخليل يقولها ألحد َّ‬
‫إال لسيبويه‪ .‬وألجل هذا؛ فقد قيل‪ :‬إنه نجم‬ ‫ُ‬ ‫للخليل‪ :‬ما‬
‫من أصحاب الخليل أربعة ‪ :‬سيبويه‪ ،‬والنضر بن شميل‪ ،‬وأبو فيد مؤرج العجلي‪ ،‬وعلي‬
‫بن نصر الجهضمي‪ ،‬وكان أبرعهم في النحو سيبويه‪ ،‬وغلب على النضر بن شميل‬
‫ِ‬
‫يكتف سيبويه بشيخه‬ ‫الشعر‪ ،‬وعلى ابن نصر الحديث‪ .‬ولم‬
‫اللغة‪ ،‬وعلى مؤرج العجلي ِّ‬
‫بل تتلمذ أيضاً على يد أبي الخطاب المعروف باألخفش األكبر‪ ،‬وعيسى بن‬ ‫الخليل‪ْ ،‬‬
‫عمر‪ ،‬ويونس بن حبيب‪ ،‬وأبي زيد النحوي‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫ظهر علم "سيبويه" وطغى على من في البصرة كلهم‪ ،‬حتى كان يستشهد به‬
‫حدث به محمد بن سالم‪،‬‬‫الرجل العادي في شئون حياته‪ ،‬ومما يروى في ذلك؛ ما ّ‬
‫حيث قال‪ :‬كان سيبويه جالساً في حلقته بالبصرة فتذاكرنا شيئاً من حديث قتادة‪،‬‬

‫‪- 192 -‬‬


‫فذكر حديثاً غريباً وقال‪ :‬لم ير ِو هذا إ َّال سعيد بن أبي العروبة‪ ،‬فقال بعض ولد جعفر‬
‫بن سليمان‪ :‬ما هاتان الزائدتان يا سيبويه؟‪ .‬فقال‪ :‬هكذا يقال؛ ألن العروبة هي الجمعة‪،‬‬
‫دره‪.‬‬
‫فذكرت ذلك ليونس فقال‪ :‬أصاب لله ّ‬
‫ُ‬ ‫ومن قال ابن عروبة‪ ،‬فقد أخطأ‪ .‬قال ابن سالم‪:‬‬
‫وقد شهد لسيبويه القاصي والداني‪ ،‬حتى قال معاوية بن بكر العليمي‪ ،‬وقد ذكر‬
‫عنده سيبويه‪ :‬رأيته وكان حديث السن‪ ،‬وكنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل‬
‫ونظرت في كتابه فقلمه أبلغ من لسانه‪ .‬فما‬
‫ُ‬ ‫عن الخليل‪ ،‬وقد سمعته يناظر في النحو‪،‬‬
‫هو كتابه هذا الذي كان قلمه فيه أبلغ من لسانه رغم تفوقه به في مناظراته؟‪.‬‬

‫كتـاب سيبويـه‬
‫أعرف كتاباً‬
‫ذكر صاعد بن أحمد الجياني ـ من أهل األندلس ـ في كتابه قال‪ :‬ال ُ‬
‫ألِّ َف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم‪ ،‬وأحاط بأجزاء‬
‫ذلك الفن‪ ،‬غير ثالثة كتب‪ ،‬أحدها‪ :‬المجسطي لبطليموس في علم هيئة األفالك‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬كتاب أرسطاطليس في علم المنطق‪ ،‬والثالث‪ :‬كتاب سيبويه البصري النحوي؛‬
‫فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فنه شيء َّ‬
‫إال ما ال خطر له‪ .‬فقد كان‬ ‫َّ‬
‫بمثابة خزانة للكتب‪ ،‬وأصبح المصدر الفريد لعلمي النحو والصرف وعلم األصوات‪.‬‬
‫وإن العجب ال يكمن فقط في أنه ـ كما قال الجاحظ ـ كتاب لم يكتب الناس‬ ‫َّ‬
‫إن العجب في اسمه ورسمه؛‬ ‫ْ‬
‫في النحو مثله‪ ،‬وجميع كتب الناس عليه عيال‪ ،‬بل َّ‬
‫فقد درج كل العلماء والمؤلفين على أن يضعوا أسماء لمؤلفاتهم ومصنفاتهم‪َّ ،‬‬
‫إال أن‬
‫لم يضع‬ ‫اسما‪ ،‬بل ْ‬
‫شذ عن تلك القاعدة‪ ،‬ولم يضع لكتابه ً‬ ‫سيبويه في كتابه هذا قد َّ‬
‫حتى مقدمة أ ْو خاتمة‪ ،‬فأطلق عليه العلماء اسم (الكتـاب) حتى صار لشهرته وفضله‬
‫أي وصف‪ ،‬فيعلم أنه‬ ‫علماً عند النحويين‪ ،‬فكان يقال‪ :‬قرأ فالن الكتاب مجر ًدا من ّ‬
‫وقرأت نصف الكتاب وال يشك في أنه كتاب سيبويه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كتاب سيبويه‪،‬‬
‫كي يخرج الكتاب في شكله المتعارف‬
‫أن القدر لم يمهل سيبويه ْ‬
‫وأغلب الظن َّ‬
‫عليه إلى أيامنا هذه؛ حيث توفي ‪ -‬رحمه الله ‪-‬في ريعان شبابه‪ ،‬قبل أن يخرج‬
‫الكتاب إلى النور‪ ،‬فأخرجه تلميذه أبو الحسن األخفش‪ ،‬دون وضع اسم له‪.‬‬

‫مكانة (الكتـاب) وأمهيته‬


‫بلغ كتاب سيبويه القمة فيما وصلت إليه الدراسات النحوية في أواخر القرن‬
‫الثاني الهجري‪ ،‬بعد أن صنع فيه مؤلفه أعظم ما يصنع عالم لموضوعه‪ ،‬إ ْذ آتاه‬

‫‪- 193 -‬‬


‫حقه من التقصي واالستيعاب‪ ،‬ومن الدرس والنقد‪ ،‬وجهد ما أسعفه الجهد الكبير‪،‬‬
‫استحق كتابه في النحو‬
‫َّ‬ ‫والعقل المستنير لتحرير المسائل وترتيب الموضوعات‪ ،‬حتى‬
‫واستحق هو به أن يكون في النحويين "اإلمام"‪.‬‬
‫َّ‬ ‫والصرف أن يكون "الكتاب"‪،‬‬
‫وإن مكانة كتاب سيبويه لتبرز في هذا النص الذي يرويه الجاحظ‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ففكرت في شيء‬
‫ُ‬ ‫«أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك الزيات ‪-‬وزير المعتصم‪-‬‬ ‫ُ‬
‫أهديه له‪ ،‬فلم أجد شيئاً أشرف من كتاب سيبويه‪ ،‬فلما وصلت إليه‪ ،‬قلت له‪ :‬لم أجد‬
‫أهديت‬
‫َ‬ ‫شيئاً أهديه لك مثل هذا الكتاب‪ ،‬وقد اشتريته من ميراث َّ‬
‫الفراء‪ ،‬فقال‪ :‬والله ما‬
‫إلي منه»‪.‬‬ ‫لي شيئاً َّ‬
‫أحب َّ‬
‫المبرد" إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه‪،‬‬
‫وقد كان "محمد بن يزيد ِّ‬
‫صنف‬‫ركبت البحر؟‪ .‬تعظيماً له واستصعاباً لما فيه‪ .‬وقال ابن كثير‪ :‬وقد َّ‬
‫َ‬ ‫يقول له‪ :‬هل‬
‫سيبويه في النحو كتاباً ال يلحق شأوه‪ ،‬وشرحه أئمة النحاة بعده فانغمروا في لجج‬
‫بحره‪ ،‬واستخرجوا من درره‪ ،‬ولم يبلغوا إلى قعره‪ .‬وليس هناك أبلغ من قول المازني‪:‬‬
‫"من أراد أن يعمل كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي"‪.‬‬
‫وعن األمانة العلمية فيه؛ قال أبو عبيدة‪َّ :‬لما مات سيبويه قيل ليونس بن حبيب‪:‬‬
‫إن سيبويه قد ألَّف كتاباً في ألف ورقة من علم الخليل‪ ،‬قال يونس‪ :‬ومتى سمع سيبويه‬
‫َّ‬
‫هذا كله من الخليل؟‪ .‬جيئوني بكتابه‪ ،‬فلما نظر فيه رأى كل ما حكى‪ ،‬فقال‪ :‬يجب أن‬
‫يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل في جميع ما حكاه‪ ،‬كما صدق فيما حكاه عني‪.‬‬

‫منهج سيبويـه يف الكتـاب‬


‫الكتاب مناهجهم في بداية كتبهم‪ ،‬لكن سيبويه لم يتمكن من‬ ‫كثيرا ما يوضح َّ‬
‫ً‬
‫عصيا على اإلدراك‪ ،‬حتى مضى بعض‬ ‫ً ًّ‬ ‫ا‬‫ز‬ ‫لغ‬ ‫الكتاب‬ ‫منهج‬ ‫بقي‬ ‫لذلك‬ ‫لكتابه‪،‬‬ ‫مقدمة‬ ‫وضع‬
‫الباحثين إلى أن سيبويه لم يكن يعرف المنهج‪ ،‬وإنما هو قد أورد مسائل الكتاب متتابعة‬
‫شخصا آخر غير سيبويه‪ ،‬لجاز‬
‫أي نظام أو رباط يربط بينها‪ .‬ولو كان مؤلف الكتاب ً‬ ‫دون ّ‬
‫أن يسلم بهذا الرأي على ضعفه‪ ،‬أ َما والمؤلف سيبويه‪ ،‬فمن الواجب أن ننزهه عن هذا‪.‬‬
‫إن نهج سيبويه في دراسة النحو منهج الفطرة والطبع‪ ،‬يدرس‬ ‫ِّ‬
‫المحققون ‪َّ :‬‬ ‫يقول‬
‫أساليب الكالم في األمثلة والنصوص؛ ليكشف عن الرأي فيها صحة وخطأ‪ ،‬أو حس ًنا‬
‫وقبحا‪ ،‬أو كثرة وقلة‪ ،‬ال يكاد يلتزم بتعريف المصطلحات‪ ،‬وال ترديدها بلفظ واحد‪،‬‬
‫ً‬
‫ً‬
‫شروطا‪ ،‬على نحو ما نرى في الكتب التي صنفت في عهد‬ ‫أو يفرع فرو ًعا‪ ،‬أو يشترط‬
‫ازدهار الفلسفة واستبحار العلوم‪.‬‬

‫‪- 194 -‬‬


‫فهو في جملة األمر؛ يقدم مادة النحو األولى موفورة العناصر‪ ،‬كاملة المشخصات‪،‬‬
‫إال استخالص الضوابط‪ ،‬وتصنيع األصول على ما تقتضي الفلسفة‬ ‫ال يكاد يعوزها َّ‬
‫المدروسة والمنطق الموضوع‪ ،‬وفرق ما بينه وبين الكتب التي جاءت بعد عصره‪ ،‬كفرق‬
‫ما بين كتاب في الفتوى وكتاب في القانون‪ ،‬ذاك يجمع جزئيات يدرسها ويصنفها‬
‫ويصدر أحكا ًما فيها‪ ،‬واآلخر يجمع كليات ينصفها ويشققها لتطبق على الجزئيات‪.‬‬
‫ويمكن أن يقال على اإلجمال ‪ :‬إنه كان في تصنيف الكتاب يتجه إلى فكرة‬
‫الباب كما تتمثل له‪ ،‬فيستحضرها ويضع المعالم لها‪ ،‬ثم يعرضها جملة أو آحا ًدا‪،‬‬
‫وتصويبا‪ ،‬يحلل التراكيب‪ ،‬ويؤول األلفاظ‪ ،‬ويقدر المحذوف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تصعيدا‬
‫ً‬ ‫وينظر فيها‬
‫ويستخلص المعنى المراد‪ ،‬وفي خالل ذلك يوازن ويقيس‪ ،‬ويذكر ويعد‪ ،‬ويستفتي‬
‫الذوق‪ ،‬ويستشهد ويلتمس العلل‪ ،‬ويروي القراءات‪ ،‬وأقوال العلماء‪ِّ ،‬إما لمجرد النص‬
‫وإما للمناقشة وإعالن الرأي‪ ،‬وربما طاب له الحديث وأغراه البحث‪،‬‬ ‫واالستيعاب‪َّ ،‬‬
‫فمضى ممع ًنا متدف ًقا يستكثر من األمثلة والنصوص‪ .‬واللغة عنده وحدة متماسكة‪،‬‬
‫بعضا‪ ،‬ويقاس بعضها على بعض‪ ،‬وهو في كل هذا يتكئ في ترتيب أبواب‬ ‫يفسر بعضها ً‬
‫ِّ‬
‫وأخيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكتاب على فكرة العامل أوال‬
‫وعن "الكتاب" بإجمال؛ قال محمد بن يزيد‏‪:‬‏‏"لم يُعمل كتاب في علم من العلوم‬
‫مثل كتاب سيبويه؛ وذلك أن الكتب المص ّنفة في العلوم مضطرة إلى غيرها‪ ،‬وكتاب‬
‫سيبويه ال يحتاج َم ْن َف ِه َمه إلى غيره‏"‪.‬‬
‫لم يمهل القدر سيبويه‪ ،‬حيث توفي في ريعان شبابه‪ .‬ولم يكن له تالميذ‬ ‫ْ‬
‫كثيرون‪ ،‬وكان من أبرز من تتلمذوا على يديه‪ :‬أبو الحسن األخفش‪ ،‬وهو األخفش‬
‫األوسط‪ ،‬وقطرب المستنير‪.‬‬
‫قال أبو العباس ‪ :‬كان األخفش أكبر سناً من سيبويه‪ ،‬وكانا جميعاً يطلبان‪ .‬قال‪:‬‬
‫فجاءه األخفش يناظره بعد أن برع‪ ،‬فقال له األخفش‪ :‬إنما ناظرتك ألستفيد ال لغيره‪،‬‬
‫أتراني أشك في هذا‪.‬‬
‫وأغلب الظن أن وفاة سيبويه لم تكن طبيعية؛ فإنه حين علم أنهم (بعد مناظرة‬
‫الكسائي) تحاملوا عليه وتعصبوا للكسائي‪ ،‬خرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما‬
‫جرى عليه‪ ،‬وقصد بالد فارس‪ ،‬ولم يعرج على البصرة‪ ،‬وأقام هنالك مد ًة إلى أن مات‬
‫كمداً‪.‬‬

‫‪- 195 -‬‬


‫الك َسـائِـي‬
‫ِ‬

‫عالِم القراءات والنحو‪ ،‬اإلمام ‪ :‬أبو الحسن علي بن حمزة بن فيروز‪ ،‬الكوفي‪،‬‬
‫(الكسايئ) ُس ِّم َي بذلك؛ لكساء كان يلتف فيه أيام تالوته على حمزة‪.‬‬
‫بالري‪ ،‬عن‬
‫ولد في الكوفة‪ ،‬وتعلم بها‪ ،‬وتنقل في البادية‪ ،‬وسكن بغداد‪ ،‬وتوفي ّ‬
‫سبعين عاماً‪.‬‬
‫قال الجاحظ ‪ :‬كان أثيراً عند الرشيد‪ ،‬حتى أخرجه من طبقة المؤدبين إلى‬
‫طبقة الجلساء والمؤانسين‪ .‬أصله من أوالد الفرس‪ .‬وأخباره مع علماء األدب في‬
‫عصره كثيرة‪.‬‬
‫له تصانيف كثيرة‪ ،‬منها «معاين القرآن»‪ ،‬و«املصادر»‪ ،‬و«الحروف»‪ ،‬و«القرآت»‪،‬‬
‫و«النوادر»‪ ،‬و«املتشابه يف القرآن»‪ ،‬و«ما يلحن فيه العوام»‪ ،‬و«ما تشبه من ألفاظ القرآن»‪،‬‬
‫و"مخترص يف النحو»‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫وقد جاء في (مراتب النحويني) ‪« :‬حمل الكسائي إلى أبي الحسن األخفش‬
‫سرا»‪.‬‬
‫خمسين دينارا‪ ،‬وقرأ عليه كتاب سيبويه ً‬
‫حدث عن جعفر الصادق‪ ،‬واألعمش‪ ،‬وسليمان بن أرقم‪ .‬واختار قراءة اشتهرت‪،‬‬ ‫وقد َّ‬
‫وجالَ َ‬
‫س في النحو الخليل‪ ،‬وسافر في بادية الحجاز مد ًة للعربية‪.‬‬ ‫وصارت إحدى السبع‪َ .‬‬
‫قال الشافعي ‪ :‬من أراد أن يتبحر في النحو‪ ،‬فهو عيال على الكسائي‪.‬‬
‫قال ابن األنباري ‪ :‬اجتمع فيه أنه كان أعلم الناس بالنحو‪ ،‬ووأحدهم في الغريب‪،‬‬
‫وأوحد في علم القرآن‪ ،‬كان يجمع الناس‪ ،‬ويتلُو َو ُهم يضبطون عنه حتى الوقوف‪.‬‬
‫كنت أحضر بين يدي الكسائي وهو يتلو‪ ،‬وينقطون على قراءته‬
‫وعن خلف‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫مصاحفهم‪.‬‬
‫تال عليه ‪ :‬أبو عمر الدوري‪ ،‬وأبو الحارث الليث‪ ،‬ونصير الرازي‪ ،‬وقتيبة األصبهاني‪ ،‬وأحمد‬
‫بن أبي سريج‪ ،‬وأحمد بن جبير األنطاكي‪ ،‬ويحيى الفراء‪ ،‬وأبو عبيد‪ ،‬وخلف البزار‪ ،‬وآخرون‪.‬‬

‫‪- 196 -‬‬


‫جاء "الكسايئ" على كبر عند "الهباريين"‪ ،‬وهم أهل فصاحة‪ ،‬فسمع منهم سبب‬
‫اللحن‪ ،‬وطريق النطق الفصيح؛ فتعلم الفصيح من الكالم‪ ،‬وإصالح عجمة اللسان؛ وقد‬
‫الزم "معاذ الهراء"‪ ،‬فتبعه حتى أنفد ما عنده‪ .‬ثم توجه إلى البصرة؛ ليلقى إمامها‬
‫وجئت إلى‬
‫َ‬ ‫"تركت أسد الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة‪،‬‬
‫َ‬ ‫الخليل‪ ،‬فعاتبه رجل قائال‪:‬‬
‫أخذت علمك هذا؟‪ .‬فقال‪ :‬من بوادي الحجاز ونجد‬‫َ‬ ‫البصرة‪ ،‬فقال للخليل‪ :‬من أين‬
‫وتهامة؛ فخرج ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب سوى‬
‫ما حفظ‪.‬‬
‫ِم بموته؛ فجلس يستمع لتلميذه‪:‬‬‫رجع صاحبنا إلى البصرة ثانية يقصد الخليل‪ ،‬فعل َ‬
‫جنبيه عِلم‬
‫ضم بين ْ‬ ‫يونس بن حبيب‪ ،‬لكنه هذه المرة لم يكن مجرد طالب علم؛ فقد َّ‬
‫ونقحه بما أخذ عن الخليل‪ ،‬كما عاشر أعراب البادية؛ فعرف طبائع الفصحاء‬‫"معاذ الهراء"‪َّ ،‬‬
‫ودون عنهم ما دون‪ ،‬فوقف " موقف النظير من يونس‬ ‫في الكالم‪ ،‬وحفظ عنهم ما حفظ‪َّ ،‬‬
‫وصدره موضعه‪.‬‬
‫أقر له يونس فيها‪َّ ،‬‬‫بن حبيب‪ ،‬ودارت بينهما مسائل ومناظرات؛ َّ‬
‫فهيئت له األسباب؛ فقد أتى به الخليفة‬
‫ْ‬ ‫ِب للكسائي أن ينتشر علمه‪،‬‬ ‫وقد ُكت ً‬
‫المهدي (أبو الرشيد) ليعلِّمه‪ ،‬ثم صار مؤدباً ْ‬
‫البني الرشيد ـ بعد ذلك ـ األمين والمأمون‪.‬‬
‫فغلطت في آية ما أخطأ‬
‫ُ‬ ‫يت بهارون الرشيد فأعجبتني قراءتي‬ ‫قال الكسائي ‪« :‬صلَّ ُ‬
‫فيها صبي قط؛ أردت أن أقول (لعلهم يرجعون) فقلت (لعلهم يرجعين)؛ قال‪ :‬فو الله‬
‫أي لغ ٍة‬
‫لما سلمت قال لي‪ :‬يا كسائي ّ‬ ‫ما اجترأ هارون أن يقول لي أخطأت‪ ،‬ولكنه َّ‬
‫هذه‪ ،‬قلت‪ :‬يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد؛ فقال‪َّ :‬أما هذا فنعم‪.‬‬
‫يوجه من الهباريين للفصاحة؛ صار معلماً‬
‫انظر‪ ،‬وتأمل؛ َمن كان باألمس القريب َّ‬
‫للفصاحة‪ ،‬و َمن كان باألمس متهماً باللحن والخطأ؛ صار َّ‬
‫حج ًة على الفصيح والغريب‬
‫والجائز والواجب والممتنع‪ ،‬وهذا هو صنيع العلم بأهله‪.‬‬
‫وقد كان بعضهم يحسد الكسائي على مكانته التي كان يحظى بها عند الرشيد؛‬
‫فيروى أن القاضي أبا يوسف؛ كان يقع في الكسائي‪ ،‬ويقول‪ :‬إنما يحسن شيئاً من‬
‫كالم العرب؛ فبلغ الكسائي ذلك؛ فالتقيا عند الرشيد‪ ،‬فسأله الكسائي‪ :‬ماذا تقول في‬
‫فإن قال لها‪ِ :‬‬
‫أنت طالق‬ ‫رجل قال المرأته ِ‬
‫أنت طالق طالق طالق؟‪ .‬قال‪ :‬واحدة‪ .‬قال‪ْ :‬‬
‫ثم طالق؟ قال‪:‬‬‫ثم طالق َّ‬
‫فإن قال لها‪ :‬أنت طالق َّ‬
‫أ ْو طالق أ ْو طالق؟ قال‪ :‬واحدة‪ .‬قال‪ْ :‬‬
‫فإن قال لها‪ِ :‬‬
‫أنت طالق وطالق وطالق؟ قال‪ :‬واحدة‪ .‬قال الكسائي‪ :‬يا أمير‬ ‫واحدة‪ .‬قال‪ْ :‬‬
‫المؤمنين؛ أخطأ يعقوب في اثنتين‪ ،‬وأصاب اثنتين‪.‬‬

‫‪- 197 -‬‬


‫أن يبرهن للقاضي أبي يوسف أن القضاء الذي هو صنعة أبي‬ ‫أراد "الكسائي" ْ‬
‫يوسف ال يستقيم أمره َّ‬
‫إال بالنحو‪ ،‬فالسؤال الذي وجهه الكسائي في الفقه والقضاء‪ ،‬وال‬
‫إال بالنحو‪ ،‬وكانت هذه عادة صاحبنا في مناظراته مع القاضي أبي يوسف‪،‬‬ ‫جواب له َّ‬
‫إلى أن جعل أبا يوسف يمدح العربية والنحو‪.‬‬
‫طفق الكسائي بعد أن الحظ خطأ أبي يوسف؛ يحلل له المسائل التي سأله فيها‬
‫ألن الثنتين‬
‫«أما قوله‪ :‬أنت طالق طالق طالق فواحدة‪َّ ،‬‬ ‫ال نحوياً داللياً‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬
‫تحلي ً‬
‫وأما قوله‪ :‬أنت‬
‫وأنت كريم كريم كريم‪َّ ،‬‬
‫الباقيتين تأكيد كما يقول‪ :‬أنت قائم قائم قائم‪َ ،‬‬‫ْ‬
‫ثم طالق‬
‫وأما قوله‪ :‬طالق َّ‬
‫طالق أ ْو طالق أ ْو طالق فهذا شك‪ ،‬فوقعت األولى التي تتيقن‪َّ ،‬‬
‫ثم طالق فثالث ألنه نسق‪ ،‬وكذلك طالق وطالق وطالق‪.‬‬ ‫َّ‬
‫حصل "الكسائي" خالل ارتحاله عِلماً كثيراً‪ ،‬وقد كان نقد الهباريين في لحنه؛‬ ‫لقد ّ‬
‫ألم بعلوم شتى‪ ،‬ولم ِ‬
‫يكتف بالوقوف عند حد النحو‪.‬‬ ‫فاتحة خير عليه لم ينقطع‪ ،‬فقد َّ‬
‫ويدلنا على ذلك ما رواه صاحب (وفيات األعيان) عن السجستاني‪ ،‬إ ْذ يقول‪" :‬حدثنا‬
‫ولم َأر في عمال السلطان أبرع منه‪،‬‬
‫أبو حاتم قال‪ :‬وفد علينا عامل من أهل الكوفة ْ‬
‫فدخلت عليه مسلّماً‪ ،‬فقال لي‪ :‬يا سجستاني‪َ ،‬من علماؤكم بالبصرة قلت‪ :‬الزيادي أعلمنا‬
‫ُ‬
‫بعلم األصمعي‪ ،‬والمازني أعلمنا بالنحو‪ ،‬وهالل الرأي أفقهنا‪ ،‬والشاذكوني من أعلمنا‬
‫بالحديث‪ ،‬وأنا ـ رحمك الله ـ أُنسب إلى علم القرآن‪ ،‬وابن الكلبي من أكتبنا للشروط‪.‬‬
‫إلي‪ ،‬قال‪ :‬فجمعنا‪ ،‬وسأل‪ :‬أيكم‬‫غدا فاجمعهم َّ‬ ‫قال ‪ :‬فقال لكاتبه ‪ :‬إذا كان ً‬
‫المازني‪ ،‬فقال أبو عثمان‪ :‬ها أنا ذا‪ ،‬قال‪ :‬هل يجزي في كفارة الطهارة عتق عبد أعور؟‬
‫لست صاحب فقه‪ ،‬أنا صاحب عربية‪ ،‬قال‪ :‬يا زيادي‪ ،‬كيف يكتب بين بعل‬ ‫قال المازني‪ُ :‬‬
‫وامرأة خالعها على الثلث من صداقها؟‪ .‬قال‪ :‬ليس هذا من علمي‪ ،‬هذا من علم هالل‬
‫الرأي‪ ،‬قال‪ :‬يا هالل‪ ،‬كم أسند ابن عون عن الحسن قال‪ :‬ليس هذا من علمي‪ ،‬هذا‬
‫من علم الشاذكوني‪ ،‬قال‪ :‬يا شاذكوني‪ ،‬من قرأ‪( :‬تثنوني صدورهم)‪ .‬قال‪ :‬ليس هذا من‬
‫علمي‪ ،‬هذا من علم أبي حاتم‪ ،‬قال‪ :‬يا أبا حاتم‪ ،‬كيف تكتب كتابًا إلى أمير المؤمنين‬
‫والن ِظرة قلت‪:‬‬
‫تصف خصاصة أهل البصرة‪ ،‬وما أصابهم في الثمرة‪ ،‬وتسأله لهم النظر َّ‬
‫لست صاحب بالغة وكتابة‪ ،‬أنا صاحب قرآن؛ قال‪ :‬ما أقبح الرجل يتعاطى العلم‬ ‫ُ‬
‫يمر‪،‬‬
‫واحدا حتى إذا سئل عن غيره لم يَ ُجل فيه ولم ُ‬‫فنا ً‬ ‫َّ‬
‫خمسين سنة ال يعرف إال ًّ‬
‫لكن عالمنا بالكوفة (الكسائي) ل ْو سئل عن هذا كله ألجاب‪.‬‬
‫لم تقف مناظرات "الكسائي" عند القاضي أبي يوسف أو يونس بن حبيب البصري‪،‬‬ ‫ْ‬
‫إن له مناظرات ممتعة مع كثير من العلماء‪ ،‬منها‪ :‬مناظرته مع سيبويه التي ُع ِر َف ْت‬ ‫ْ‬
‫بل َّ‬

‫‪- 198 -‬‬


‫بالمسألة الزنبورية في النحو‪ .‬كما كانت له مناظرات مع اليزيدي‪ ،‬وصوالت وجوالت‬
‫يؤدب‬
‫أن الكسائي قد آل به األمر إلى أن ِّ‬
‫اتسمت بالتنافس القوي الذي كان مرده إلى َّ‬
‫يؤدب اليزيدي المأمون‪.‬‬
‫األمين‪ ،‬وأن ِّ‬
‫ومن المناظرات التي دارت بينهما ما روي من أن الرشيد جمع بين الكسائي‪،‬‬
‫وأبي محمد اليزيدي‪ ،‬يتناظران في مجلسه‪ ،‬فسألهما الكرماني عن قول الشاعر‪ :‬من‬
‫مجزوء الرمل‪:‬‬
‫يض َص ْق ُر الَ َيكُونُ ال َع ُري ُمه ًرا ال يكون؛ امل ُ ْهر ُمه ُر‬
‫ما رأينا َخ ِر ًبا َينقر عنه ال َب َ‬
‫فقال الكسائي ‪ :‬يجب أن يكون المهر منصوبًا على أنه خبر كان‪ ،‬ففي البيت على‬
‫ثم‬
‫تم عند قوله‪ :‬ال يكون الثانية‪َّ ،‬‬ ‫ألن الكالم قد َّ‬
‫الشعر صواب؛ َّ‬
‫هذا إقواء‪ .‬فقال اليزيدي‪ِّ :‬‬
‫استأنف‪ ،‬فقال‪ :‬المهر مهر‪ ،‬ثم ضرب بقلنسوته على األرض‪ ،‬وقال‪ :‬أنا أبو محمد‪ .‬فقال‬
‫إن َخ َط َأ الكسائي مع‬
‫له يحيى‪ :‬أتكتني بحضرة أمير المؤمنين؟‪ ،‬فقال الرشيد‪ :‬واللّه‪َّ ،‬‬
‫إلي من صوابك مع سوء أدبك؟ ‪.‬‬
‫ألحب َّ‬
‫َّ‬ ‫حسن أدبه‬
‫بل كان يعرف له قدره ويجلُّه‪،‬‬
‫وما كان التنافس ليحمل اليزيدي على بغض الكسائي‪ْ ،‬‬
‫وقد رثاه بعد أن خرج "الكسائي" مع هارون الرشيد إلى الري‪ ،‬وكان بصحبتهما محمد‬
‫بن الحسن القاضي صاحب أبي حنيفة‪ ،‬فمات القاضي‪ ،‬ومات الكسائي في بل ٍد واحد‪ ،‬وهو‬
‫متوجهين مع الرشيد إلى خراسان‪ ،‬سنة ‪189‬هـ‪ ..‬فقال الرشيد‪:‬‬
‫ْ‬ ‫قرية "رنبويه" بالري‪ ،‬وكانا‬
‫(دفنا الفقه والنحو بالري)؛ وباغت الخبر اليزيدي فأحزنه‪ ،‬وحرك أشجانه‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫َّ‬
‫َو َمــا قــد ُيــ َرى مــن بهجــ ٍة ســيبيدُ‬ ‫ــس خلــو ُد‬ ‫رصمــت الدُّ نْ َيــا َف َل ْي َ‬ ‫ت َّ‬
‫فأذريــت دمعــاَ والفــؤا ُد عميــدُ‬
‫ُ‬ ‫ـاض الْقُضَ ــاة محمـ ٍد‬ ‫ـيت عــى َقـ ِ‬ ‫أَ ِسـ ُ‬
‫َ‬
‫بإيضاحــه يومــاً َوأنــت فقيــدُ‬ ‫ـكل َم ْن لنا‬
‫الخطب أشـ َ‬ ‫ُ‬ ‫ـت إِذا َمــا‬
‫وقلـ ُ‬
‫األرض الفضــا ُء تَ يــدُ‬
‫ُ‬ ‫وكادت ِب‬ ‫فأوجعنــي مــوت الْ ِك َســايئ بعــده‬
‫َو َمــا لَهــا ِف العاملــن نَ ِديــدُ‬ ‫هــا عالِــان أوديــا وتخ َّرمــا‬
‫بذكرهــا حتــى املــات جديــدُ‬ ‫فحــزين إنْ تخطــر عــى القلب خطرة‬
‫بصري‪ ،‬ظلمته فِي َح َياته وأنصفته بعد َموته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أحسنت يَا‬
‫َ‬ ‫َق َ‬
‫ال الرشيد ‪:‬‬
‫بهذا نختم هذه الرحلة الممتعة التي تجولنا من خاللها حول الكوفة والبصرة‪،‬‬
‫وبوادي الحجاز ونجد وتهامة وبغداد والري؛ مع عالِم القراءات واللغة والنحو (الكسائي)‬
‫بل عالِم اإلسالم والمسلمين أجمعين‪ ،‬رضي الله عنه‪ ،‬ونفعنا بعلمه وأدبه‪.‬‬‫عالم الكوفة‪ْ ،‬‬

‫‪- 199 -‬‬


‫ابن ِج ِّنــي‬
‫أبو الفتح‪ ،‬عثمان بن ِج ّني الموصلي(‪392-330‬هـ) من أحذق أهل األدب وأعلمهم‬
‫بالنحو والتصريف‪ ،‬وصاحب التصانيف المتداولة في اللغة‪ .‬ولم يتكلم أحد ‪-‬كما قال‬
‫ياقوت‪ -‬في التصريف أدق كال ًما منه‪.‬‬
‫روميا‪ ،‬ولم يُعرف عنه شيء قبل مجيئه الموصل‪ ،‬وإلى هذا‬
‫عبدا ًّ‬
‫أبوه (جِ ِّنـي) كان ً‬
‫أشار ابن جني نفسه‪ ،‬بقوله في جملة أبيات ‪:‬‬
‫فعلمــي يف الــورى نســبي‬ ‫نســب‬
‫ٍ‬ ‫فــإنْ أصبــح بــا‬
‫قــــروم ســـادة نجـــــب‬
‫ٍ‬ ‫فعلمــي يف الــورى نسبـــي‬
‫أ َر ّم الدهـــر ذو الخطـــب‬ ‫قيـاصــــرة إذا نطقـــــوا‬
‫كفــى رشفــاً دعــاء نبـــي‬ ‫النبـــي لهــم‬
‫ُّ‬ ‫أوالك دعــا‬
‫أقام "ابن ج ِّني" بعد الموصل ببغداد‪ ،‬وظل يدرس بها العلم إلى أن توفي‪ ،‬وقد صحب‬
‫جني في مجلسه ببغداد‪.‬‬‫ولما مات شيخه تصدر ابن ِّ‬‫أبا علي الفارسي أربعين سنة‪َّ ،‬‬
‫جني عالقة خاصة بأبي الطيب المتنبي‪ ،‬فقد صحبه دهراً طوي ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫وقد كان البن ِّ‬
‫"ورأيت‬
‫ُ‬ ‫وقرأ عليه ديوانه‪ ،‬ثم شرحه بعد ذلك‪ ،‬ونبه إلى معانيه وإعرابه‪ ،‬قال ابن خلكان‪:‬‬
‫في شرحه قال‪ :‬سأل شخص أبا الطيب المتنبي‪ ،‬عن قوله‪:‬‬
‫با ٍد هواك صربت أ ْم مل تصربا *** ‪...............................‬‬
‫(لـم) الجازمة‪ ،‬وكان من حقه‬‫فقال ‪ :‬كيف أثبت األلف في (تصبرا) مع وجود ْ‬
‫أن يقول "لم تصبر"؟‪ .‬فقال المتنبي‪ :‬لو كان (ابن جني) هنا ألجابك‪ ،‬وهذه األلف هي‬
‫بدل من نون التأكيد الخفيفة‪ ،‬كان في األصل "لم تصبرن"‪ ،‬ونون التأكيد الخفيفة إذا‬
‫وقف اإلنسان عليها أبدل منها أل ًفا‪ .‬كقول األعشى ‪:‬‬
‫وال تعبد الشيطان والله فاعبدا *** ‪...............................‬‬
‫فلما وقف أتى باأللف بدالً"‪ .‬فكان المتنبي يحترم ابن ِّ‬
‫جني‬ ‫وكان األصل "فاعبدن" َّ‬
‫كثيرا‪ ،‬ويجلُّه ِّ‬
‫ويقدره‪ ،‬وكان يقول عنه‪" :‬هذا رجل ال يعرف قدره كثير من الناس"‪.‬‬ ‫ً‬

‫‪- 200 -‬‬


‫جني من ِشعر أبي الطيب‪ ،‬قال عنه أبو الطيب‪" :‬ابن ِّ‬
‫جني أعلم‬ ‫ُّ‬
‫ولتمكن ابن ِّ‬
‫بشعري"‪.‬‬
‫أسوة بأستاذه وشيخه أبي علي الفارسي؛ فقد كان ابن جني بصرياً‪ ،‬يجري في‬
‫كتبه ومباحثه على أصول المدرسة البصرية‪ ،‬وال يألو جهداً في الدفاع عنها‪ ،‬على أنه‬
‫كان يأخذ العلم أياً كان مصدره‪ ،‬وبغض النظر عن مذهب أهله‪ ،‬ولهذا نجده كثير‬
‫النقل عن سيبويه واألخفش واألصمعي والمازني وأبي زيد والفراء والمبرد والخليل‬
‫وثعلب والكسائي وأمثالهم‪ ،‬وهو حين يذكرهم في كتبه يثني عليهم‪ ،‬فيقول مث ً‬
‫ال‪:‬‬
‫"باب في قلب لفظ إلى لفظ بالصنعة والتلطف ال باإلقدام والتعجرف"‪ ،‬وكان هذا الرجل‬
‫كبيرا في السداد والثقة عند أصحابنا"‪ ،‬يعني الكسائي‪.‬‬
‫ً‬
‫خبرا في الكون العام‪،‬‬
‫وإن من آرائه النحوية‪ :‬تجويزه إظهار متعلق الظرف الواقع ً‬
‫َّ‬
‫نحو "زيد عندك"‪ ،‬قال ابن يعيش‪" :‬وقد صرح ابن جني بجواز إظهاره"‪.‬‬
‫عمرا على محل زيد المجرور‬
‫وعمرا‪ ،‬بعطف ً‬
‫مررت بزيد ً‬
‫ُ‬ ‫وهو يُجيز ً‬
‫أيضا أن يقال‪:‬‬
‫ألن شرط العطف على المحل عندهم ظهور‬ ‫بالحرف‪ ،‬وهذا ال يُجيزه النحويون؛ َّ‬
‫اإلعراب المحلي في فصيح الكالم‪.‬‬
‫جني إما ًما في النحو والصرف فحسب‪ ،‬ولم يكن من العلماء الذين‬ ‫لم يكن ابن ِّ‬‫ْ‬
‫يقتصرون على مجالس العلم والتعليم‪ ،‬أو حتى التأليف‪ ،‬إنما كان كمن يريد أن يملك‬
‫نواصي اللغة‪ ،‬وهو األمر الذي جعل "الثعالبـي" ينعته في (يتيمة الدهر) بقوله‪" :‬إليه‬
‫موضحا‪" :‬ليس ألح ٍد من‬
‫ً‬ ‫انتهت الرياسة في األدب"‪ .‬وقال الباخرزي في (دمية القرص)‬
‫أئمة األدب في فتح المقفالت‪ ،‬وشرح المشكالت ما له؛ فقد وقع عليها من ثمرات‬
‫سيما في علم اإلعراب"‪.‬‬
‫األعراب‪ ،‬وال ّ‬
‫يعبر عن حسن تأتِّي ِه في الصنعة على طريقة‬
‫الشعر وينظمه بما ِّ‬‫وكان يقرض ِّ‬
‫شعراء دهره‪ ،‬وقد قال الثعالبي‪" :‬كان الشعر ّ‬
‫أقل خالله لعظم قدره‪ ،‬وارتفاع حاله"‪.‬‬
‫المتنبي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫"فوربي‪ ،‬إنّه كشف الغطاء عن شعر‬
‫ّ‬ ‫وقال الباخرزي في (دمية القرص) ‪:‬‬
‫كنت أعلم به أنّه‬
‫المتنبي‪ ،‬وما ُ‬
‫ّ‬ ‫كنت أعلم به أنّه ينظم القريض‪ ،‬أو يسيغ ذلك‬
‫وما ُ‬
‫المتنبي‪َّ ،‬أولها ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫مرثيته في‬
‫ينظم القريض‪ ،‬ح ّتى قرأت له ّ‬
‫ري دوحة الكتـــب‪.‬‬
‫غاض القريض وأودت نرضة األدب وص ّوحت بعد ٍّ‬

‫‪- 201 -‬‬


‫كتـاب "اخلصائـص"‬
‫إن يذكر "ابن جني" حتى يشرد الذهن إلى كتابه الشهير (الخصائـص)‪ .‬وبالمثل‬ ‫ما ْ‬
‫إذا كان الحديث عن "الخصائص" فإنه يذهب إلى مؤلفه ابن جني‪ ،‬والخصائص هذا‬
‫جني التي أبر بها على المتقدمين وأعجز المتأخرين‪ ،‬والتي عناها‬ ‫هو ّ‬
‫أجل تآليف ابن ِّ‬
‫في بائيته‪ ،‬بقوله ‪:‬‬
‫عــى األجفــان مــن حــدب‬ ‫تنــاقلهــــا الــرواة لهــــا‬
‫ملــوك العجــم والعــــرب‬ ‫فريتــــع يف أزاهـــرهــــا‬
‫مثــــن إىل طـــــرب‬
‫ٍ‬ ‫إىل‬ ‫فمــن مغـــن إىل مــــدنٍ‬
‫وهو كتاب في أصول النحو على مذهب أصول الكالم والفقه‪ ،‬احتذى في مباحثه‬
‫النحوية منهج الحنفية في أصول الفقه‪ ،‬وقد بناه على اثنين وستين ومائة بابا‪ ،‬تبدأ‬
‫بباب "القول على الفصل بين الكالم والقول"‪ ،‬وتنتهي بباب في "المستحيل وصحة‬
‫قياس الفروع على فساد األصول"‪.‬‬
‫وإن كان الكتاب يبحث في خصائص اللغة العربية وفلسفتها ومشكالتها‪َّ ،‬‬
‫إال إنه‬ ‫ْ‬
‫ً‬
‫اشتمل أيضا على أبواب من شأنها أن تخرج عن هذا النطاق‪ ،‬وذلك كبحثه في الفرق‬
‫بين الكالم والقول‪ ،‬وبحثه في أصل اللغة‪ :‬إلهام هي أ ْم اصطالح؟ وغيرها‪ ،‬وفي ذلك‬
‫ذاهبا في جهات النظر؛ إ ْذ ليس غرضنا فيه‬
‫يقول ابن جني‪ ..." :‬وليكون هذا الكتاب ً‬
‫المصنفة فيه‪ ،‬وإنما‬
‫َّ‬ ‫ألن هذا أمر ُف َ‬
‫رغ منه في أكثر الكتب‬ ‫والجر والجزم؛ َّ‬
‫الرفع والنصب ّ‬
‫مبني على إثارة معادن المعاني‪ ،‬وتقرير حال األوضاع والمبادئ‪ ،‬وكيف‬ ‫هذا الكتاب ّ‬
‫سرت أحكامها في األحناء والحواشي‪."...‬‬
‫عد من النوادر في كتابه‪ :‬الباب الخامس واألربعون بعد المائة في "القول على‬
‫ومما يُ ُّ‬
‫فوائت الكتاب لسيبويه"‪ ،‬والباب الحادي والخمسون بعد المائة في "ما يؤمنه علم العربية‬
‫من االعتقادات الدينية"‪ ،‬والباب الثامن والخمسون بعد المائة في "سقطات العلماء"‪.‬‬

‫مؤلفـات ابن ج ِّنـي‬


‫(الخصائص‪ ،‬التامم يف تفسري أشعار هذيل مام أغفله السكري‪ ،‬سر الصناعة‪ ،‬تفسري‬
‫ترصيف املازين‪ ،‬رشح املقصور واملمدود البن السكيت‪ ،‬تعاقب العربية‪ ،‬تفسري ديوان املتنبي‬
‫الكبري‪ ،‬اللمع يف العربية‪ ،‬مخترص الترصيف‪ ،‬مخترص العروض والقوايف‪ ،‬األلفاظ املهموزة‪،‬‬
‫املتقضب‪ ،‬املحتسب يف رشح الشواذ‪ ،‬تفسري أرجوزة أيب نواس‪ ،‬مقدسات أبواب الترصيف‪،‬‬

‫‪- 202 -‬‬


‫النقض عىل ابن وكي ٍع يف شعر املتنبي وتخطئته‪ ،‬املغرب يف رشح القوايف‪ ،‬الفصل بني الكالم‬
‫الخاص والكالم العام‪ ،‬الوقف واالبتداء‪ ،‬الفرق‪ ،‬املعاين املجردة‪ ،‬الفائق‪ ،‬الخطيب‪ ،‬األراجيز‪،‬‬
‫رشح الفصيح‪ ،‬رشح الكايف يف القوايف‪ ،‬رسال ٍة يف مد األصوات ومقادير املدات‪ ،‬املذكر واملؤنث‪،‬‬
‫املنتصف‪ ،‬تفسري "العلويات" وهي أربع قصائد للرشيف الريض‪ ،‬تفسري املذكر واملؤنث‬
‫ليعقوب ‪ )...‬إلخ‪.‬‬

‫‪- 203 -‬‬


‫ابن فـارس‬
‫أبو الحسين؛ أحمد بن فارس‪ ،‬القزويني‪ ،‬المعروف بالرازي المالكي اللغوي‬
‫كريما جوا ًدا ال يُبقِي شي ًئا‪،‬‬
‫(المتوفى سنة ‪395‬هـ) صاحب (املجمل) في اللغة‪ .‬كان ً‬
‫مجيدا؛ من ِشعره يخاطب‬ ‫ً‬ ‫وشاعرا‬
‫ً‬ ‫أديبا بار ًعا‪،‬‬
‫وربما ُسئل فيهب ثيابه وفرش بيته‪ .‬كان ً‬
‫طالب العلم ‪:‬‬
‫وكرب الخريف وبرد الشتا‬ ‫فــإذا كان يؤذيك حر الصيـف‬
‫فأخذك العلم قل يل متـى؟‪.‬‬ ‫ويُلهِيك حسن زمان الربيع‬
‫"الر َّي"؛ انتقل من مذهب اإلمام الشافعي إلى مذهب اإلمام مالك‬ ‫بعد أن استوطن َّ‬
‫الحمية لهذا اإلمام المقبول على جميع‬
‫َّ‬ ‫في الفقه‪ ،‬وحين ُسئل عن ذلك؟ أجاب‪" :‬أخذتني‬
‫"الر َّي" أجمع البالد للمقاالت واالختالف"‪.‬‬
‫فإن َّ‬
‫األلسنة أن يخلو مثل هذا البلد من مذهبه؛ َّ‬
‫يتزمت‬
‫يقول عبد السالم هارون‪" :‬ابن فارس يلم بالحياة األدبية في عصره‪ ،‬وال َّ‬
‫كما يتزمت كثير من اللغويين الذين ينصرفون عن إنتاج معاصريهم‪ ،‬فهو يصغي إلى‬
‫نشيدهم‪ ،‬ويروي لكثير منهم‪ ،‬وينتصر للمحسن منهم"‪.‬‬
‫تتلمذ ابن فارس على كثير من العلماء؛ فقد سمع بقزوين أباه فارس بن زكريا‪،‬‬
‫وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان‪ ،‬وعلي بن مهرويه‪ ،‬وسليمان الفامي‪ ،‬وأحمد بن‬
‫أيضا‪ :‬عبد الرحمن الجالب‪ ،‬وابن حميد الهمذانيين‪ ،‬وأبو‬‫عالن‪ .‬وكان من شيوخه ً‬
‫الحسن صاحب أبي عبيد القاسم بن سالم‪ ،‬وقد روى عنه ابن فارس كتابَ ْي أبي عبيد‪:‬‬
‫غريب الحديث‪ ،‬ومصنف الغريب‪.‬‬
‫كما رحل إلى زنجان فأخذ عن أبي بكر الخطيب راوية ثعلب‪ ،‬وأخذ عن أبي عبد‬
‫الدوري‪ .‬وكان من شيوخه ً‬
‫أيضا‪ :‬أبو‬ ‫الله المنجم‪ ،‬وسمع ببغداد من محمد بن عبد الله ُّ‬
‫بكر األصفهاني‪ ،‬وعلي بن أحمد الساوي‪ ،‬وأبو القاسم سليمان الطبراني‪.‬‬
‫في ذات الوقت؛ تتلمذ على يديه كثير‪ ،‬من أشهرهم‪ :‬بديع الزمان الهمذاني‬
‫عباد‪ .‬كما روى‬
‫الدولة البويهي‪ ،‬والصاحب ابن َّ‬
‫صاحب المقامات‪ .‬وأبو طالب بن فخر َّ‬
‫عنه حمزة بن يوسف الجرجاني‪ ،‬والقاضي الصميري‪ ،‬وأبو سهل بن زيرك‪ ،‬وأبو منصور‬
‫الصوفي‪ ،‬وابن المحتسب‪ ،‬وأبو ذر الهروي‪ ،‬والقاضي أبو زرعة الرازي‪ ،‬وأبو العباس‬

‫‪- 204 -‬‬


‫الغضبان‪ ،‬والقاضي الديباجي‪ ،‬وعلي بن القاسم الخياط المقرئ‪ ،‬وقد قرأ عليه كتابه‬
‫(أوجز السري لخري البرش)‪.‬‬

‫آراء العلامء يف مؤلفات ابن فارس‬


‫قال تلميذه "الصاحب بن ع َّباد" عن مؤلفاته‪" :‬شيخنا أبو الحسني ممن رزق حسن‬
‫التصنيف‪ ،‬وأ ِم َن فيه من التصحيف"‪ .‬وحين كان ياقوت يستعرض مؤلفات ابن فارس في‬
‫يصنف مثله"‪.‬‬
‫معجمه‪ ،‬جاء عند (املقاييس) فقال‪" :‬وهو كتاب جليل‪ ،‬لم َّ‬
‫وعن كتاب (املقاييس) يقول عبد السالم هارون‪" :‬ابن فارس بلغ في كتاب‬
‫مفردات ِّ‬
‫كل‬ ‫ِ‬ ‫وتكنه أسرارها‪ ،‬وفهم أصولها؛ إ ْذ ُّ‬
‫يرد‬ ‫(املقاييس) الغاية في الحذق باللغة‪ُّ ،‬‬
‫مادة من مواد اللغة إلى أصولها المعنوية المشتركة فال يكاد يخطئه التوفيق‪ ،‬وقد‬
‫أحد ولم يخلُ ْفه أحد"‪.‬‬
‫انفرد من بين اللغويين بهذا التأليف‪ ،‬لم يسبقه ٌ‬
‫متكلما على طريقة‬
‫ً‬ ‫مناظرا‬
‫ً‬ ‫بصيرا بفقه مالك‪،‬‬
‫رأسا في األدب‪ً ،‬‬
‫قال الذهبي‪" :‬وكان ً‬
‫أهل الحق‪ ،‬ومذهبه في النحو على طريقة الكوفيين‪ ،‬جمع إتقان العلم إلى ظرف أهل‬
‫مجيدا في ذلك‪ .‬وقد ذكره‬
‫ً‬ ‫شاعرا‬
‫أديبا ً‬
‫الكتابة والشعر"‪ .‬ويقول القاضي عياض‪" :‬وكان ً‬
‫الثعالبي في يتيمته في جملة شعراء أهل الجبل من كتابه"‪.‬‬
‫محتجا به في جميع الجهات‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫وقال الزنجاجي‪" :‬كان ابن فارس من أئمة اللغة‪،‬‬
‫غير منازع"‪.‬‬
‫البن فارس من التصانيف‪ :‬كتاب المجمل‪ ،‬متخير األلفاظ‪ ،‬فقه اللغة‪ ،‬غريب إعراب‬
‫النبي‪ ،‬مقدمة نحو‪ ،‬دارات العرب‪ ،‬حلية الفقهاء‪ ،‬الفرق‪ ،‬مقدمة في‬
‫القرآن‪ ،‬تفسير أسماء ّ‬
‫الفرائض‪ ،‬ذخائر الكلمات‪ ،‬شرح رسالة الزهري إلى عبد الملك بن مروان‪ ،‬كتاب الحجر‪،‬‬
‫النبي‪ ،‬كتاب الليل والنهار‪ ،‬كتاب العم والخال‪ ،‬كتاب أصول الفقه‪ ،‬كتاب أخالق‬
‫سيرة ّ‬
‫صنفه لخزانة الصاحب‪( ،‬جامع التأويل في تفسير القرآن) أربع مجلدات‪،‬‬
‫النبي‪( ،‬الصاحبي) َّ‬
‫ّ‬
‫والحلَى‪ ،‬كتاب خلق اإلنسان‪ ،‬كتاب الحماسة المحدثة‪ ،‬كتاب (مقاييس‬ ‫الشيات ِ‬
‫كتاب ِّ‬
‫يصنف مثله‪ ،‬وكفاية المتعلمين في اختالف النحويين‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫اللغة) وهو جليل لم َّ‬

‫منهج ابن فارس يف املجمل واملقاييس‬


‫معجميه‬
‫ْ‬ ‫من بين كتب المعاجم التي وضعت في اللغة؛ انفرد "ابن فارس" في‬
‫(املجمل) و(املقاييس) بطريقة خاصة‪ .‬يقول عبد السالم هارون‪" :‬جرى ابن فارس‬

‫‪- 205 -‬‬


‫فذ ٍة بين مؤلفي المعجم في وضع معجميه‪ :‬المجمل والمقاييس؛ فهو لم‬ ‫على طريقة َّ‬
‫يرتِّب موادهما على أوائل الحروف وتقليباتها كما صنع ابن دريد في الجمهرة‪ ،‬ولم‬
‫يطردها على أبواب أواخر الكلمات كما ابتدع الجوهري في الصحاح‪ ،‬وكما فعل ابن‬
‫منظور والفيروزآبادي في معجميهما‪ ،‬ولم يَ ْن ُس ْقها على أوائل الحروف فقط كما صنع‬
‫الزمخشري في أساس البالغة‪ ،‬والفيومي في المصباح المنير‪ ،‬ولكنه سلك طري ًقا ًّ‬
‫خاصا‬
‫به‪ ،‬لم يفطن إليه أحد من العلماء وال ن ََّبه عليه"‪.‬‬
‫ظننت أنه لم‬
‫ُ‬ ‫"وكنت قد‬
‫ُ‬ ‫وعن هذا النظام الجديد‪ ،‬يقول عبد السالم هارون‪:‬‬
‫ال على غير‬‫الحروف‪ ،‬وأنه ساقها في أبوابها َه َم ً‬
‫ِ‬ ‫يلتزم نظا ًما في إيراد المواد على أوائل‬
‫بتتبع المجمل والمقاييس أل َف ْيته يلتزم النظام الدقيق التالي‪:‬‬
‫نظام‪ ،‬ولكنه ُّ‬
‫قسم مواد اللغة َّأوالً إلى ُك ُتب‪ ،‬تبدأ بكتاب الهمزة وتنتهي بكتاب الياء‪.‬‬
‫‪1.1‬فهو قد َّ‬
‫قسم كل كتاب إلى أبواب ثالثة‪َّ :‬أولها باب الثنائي المضاعف والمطابق‪،‬‬‫‪2.2‬ثم َّ‬
‫باب ما جاء على أكثر من‬
‫وثانيها أبواب الثالثي األصول من المواد‪ ،‬وثالثها ُ‬
‫ٍ‬
‫أحرف أصلية‪.‬‬ ‫ثالثة‬
‫األولين قد ال ُتزم‬
‫‪3.3‬واألمر الدقيق في هذا التقسيم أن كل قسم من القسمين َّ‬
‫باب‬
‫األول إال بالذي يليه؛ ولذا جاء ُ‬ ‫ِ‬
‫الحرف َّ‬ ‫فيه ترتيب خاص‪ ،‬هو َّ‬
‫أال يبدأ بعد‬
‫ترتيبا‬
‫مرتبا ً‬ ‫المضاعف في كتاب الهمزة‪ ،‬وباب الثالثي مما أوله همزة وباء ً‬
‫ِ‬
‫حروف الهجاءِ‪.‬‬ ‫طبيعيا على نسق‬
‫ًّ‬
‫ولكن في (باب الهمزة والتاء وما يثلثهما) يتوقع القارئ أن يأتي المؤلف بالمواد‬
‫على هذا الترتيب‪( :‬أتب‪ ،‬أتل‪ ،‬أتم‪ ،‬أتن‪ ،‬أته‪ ،‬أتو‪ ،‬أتى)‪ ،‬ولكن الباء في (أتب) ال تلي‬
‫أخرها في الترتيب إلى آخر الباب‪ ،‬فجعلها بعد مادة (أتى)‪.‬‬ ‫التاء بل تسبقها؛ ولذلك َّ‬
‫وفي باب التاء من المضاعف يذكر َّأوالً (تخ) ثم (تر) إلى أن تنتهي الحروف‪ ،‬ثم‬
‫ِ‬
‫الحروف في المواد المستعملة‬ ‫يرجع إلى التاء والباء (تب)؛ ألن أقرب ما يلي التاء من‬
‫هو الخاء‪.‬‬
‫وفي أبواب الثالثي من التاء ال يذكر أوالً التاء والهمزة وما يثلثهما‪ ،‬بل يؤخر‬
‫هذا إلى أواخر األبواب‪ ،‬ويبدأ بباب التاء والجيم وما يثلثهما‪ ،‬ثم باب التاء والحاء وما‬
‫يثلثهما‪ ،‬وهكذا إلى أن ينتهي من الحروف‪ ،‬ثم يرجع أدراجه ويستأنف الترتيب من‬
‫ِ‬
‫الحروف في المواد‬ ‫باب التاء والهمزة وما يثلثهما؛ وذلك ألن أقرب ما يلي التاء من‬

‫‪- 206 -‬‬


‫َ‬
‫الحرف الثالث يراعى فيه هذا الترتيب‪ ،‬ففي باب‬ ‫المستعملة هو الجيم‪ .‬وتجد ً‬
‫أيضا أن‬
‫التاء والواو وما يثلثهما يبدأ بـ (توي) ثم (توب) ثم (توت) إلى آخره؛ وذلك ألن أقرب‬
‫ِ‬
‫الحروف التي تلي الواو هو الياء‪.‬‬
‫وفي باب الثاء من المضاعف ال يبدأ بالثَّاء والهمزة ثم بالثَّاء والباء‪ ،‬بل يُ ْر ِجئ‬
‫ذلك إلى أواخر األبواب‪ ،‬ويبدأ بالثَّاء والجيم (ثج)‪ ،‬ثم بالثَّاء والراء (ثر) إلى أن تنتهي‬
‫والباء (ثب)‪.‬‬‫الحروف‪ ،‬ثم يستأنف الترتيب بالثَّاء الهمزة (ثأ)‪ ،‬ثم بالثَّاء َ‬
‫وفي أبواب الثالثي من الثَّاء ال يبدأ بالثَّاء والهمزة وما يثلثهما ثم ِّ‬
‫يعقب بالثَّاء‬
‫والباء وما يثلثهما‪ ،‬بل يدع ذلك إلى أواخر األبواب؛ فيبدأ بالثَّاء والجيم وما يثلثهما إلى‬
‫أن تنتهي الحروف‪ ،‬ثم يرجع إلى األبواب التي تركها‪ .‬وتجد ً‬
‫أيضا أن الحرف الثَّالث‬
‫يراعى فيه الترتيب‪ ،‬ففي باب الثَّاء والالم وما يثلثهما يكون هذا الترتيب (ثلم‪ ،‬ثلب‪،‬‬
‫ثلث‪ ،‬ثلج‪ )...،‬إلخ‪.‬‬
‫وفي باب الجيم من المضاعف يبدأ بالجيم والحاء (جح) إلى أن تنتهي الحروف‬
‫ينسق بعد ذلك (جأ‪ ،‬جب)‪.‬‬
‫ُ‬ ‫(جو)‪ ،‬ثم‬
‫وفي أبوب الثالثي من الجيم يبدأ بباب الجيم والحاء وما يثلثهما إلى أن تنتهي‬
‫الحروف‪ ،‬ثم يذكر باب الجيم والهمزة وما يثلثهما‪ ،‬ثم باب الجيم والباء‪ ،‬ثم الجيم‬
‫والثاء‪ ،‬مع مراعاة الترتيب في الحرف الثالث‪ ،‬ففي الجيم والنون وما يثلثهما يبدأ أوالً‬
‫بـ (جنه) ثم (جني)‪ ،‬ويعود بعد ذلك إلى (جنأ‪ ،‬جنب‪ ،‬جنث) إلخ"‪.‬‬
‫بيومين ـ قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫تضرع إلى مواله ـ قبل وفاته ْ‬
‫رحم الله "ابن فــارس" الذي َّ‬
‫علم ويب وبإعالين وإسـراري‬‫ً‬ ‫أحطت بها‬
‫َ‬ ‫رب إنَّ ذنويب قد‬
‫يا ِّ‬
‫فهب ذنويب لتوحيدي وإقراري‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أنا املو ِّحـد لكني املقـ ُّر بهـا‬

‫‪- 207 -‬‬


‫اجلوهــري‬
‫حماد الجوهري‪ ،‬أحد أركان اللغة‪ ،‬أخذ العربية عن خاله‬
‫أبو نصر‪ ،‬إسماعيل بن َّ‬
‫إبراهيم بن إسحاق الفارابي‪ ،‬صاحب (ديوان األدب)‪.‬‬
‫العراق‪ ،‬وقرأ‬
‫َ‬ ‫ولد (الجوهري) في فاراب من بالد الترك بآسيا الوسطى‪ ،‬ثم سافر إلى‬
‫علم العربية على َش ْي َخ ْي زمانه‪ :‬أبي علي الفارسي‪ ،‬وأبي سعيد السيرافي‪ .‬بعدها سافر‬
‫مقيما بها على التدريس والتأليف‪ ،‬وكتابة‬
‫إلى الحجاز‪ ،‬ومنها إلى نيسابور‪ ،‬فلم يزل ً‬
‫المصاحف والدفاتر‪ ،‬حتى آخر حياته‪.‬‬
‫وهو من أعاجيب الزمان ذكا ًء وفطن ًة وعل ًما‪ .‬وصفه الذهبي بقوله‪" :‬وكان من أذكياء‬
‫العالم"‪ .‬وقد برع في علم اللغة واألدب‪ ،‬حتى صار أحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة‪.‬‬
‫أيضا إلى‬‫حد علوم اللغة وآدابها فقط‪ ،‬بل إنه تطرق ً‬
‫ولم يقف نبوغ الجوهري عند ِّ‬
‫خطه وحسنه وجماله‪ ،‬حتى ُع َّد في‬ ‫فنون وعلوم أخرى‪ ،‬كان أبرزها ما كان من جودة ِّ‬
‫الخط المنسوب مع ابن ُم ْقلة‪ ،‬وابن َّ‬
‫البواب‪ ،‬ومهلهل‪ ،‬واليزيدي‪.‬‬
‫ذكره أبو الحسين الباخرزي‪ ،‬فقال‪" :‬هو صاحب صحاح اللغة‪ ،‬لم يتأخر فيها عن‬
‫شرط أقرانه‪ ،‬وال انحدر عن درجة أبناء زمانه"‪ .‬وقال ابن بَ ِّري‪" :‬الجوهري أَن َ‬
‫ْحى اللغويين"‪.‬‬
‫وقال الثعالبي في (يتيمة الدهر) ‪" :‬الجوهري من أعاجيب الدنيا‪ ،‬وهو إمام في‬
‫علم لغة العرب‪ ،‬وخطه يضرب به المثل في الحسن‪ ،‬وله كتاب الصحاح"‪.‬‬
‫قال عنه ياقوت الحموي‪" :‬هو إمام في علم اللغة واألدب"‪ .‬كما وصف ‪-‬الحموي‪-‬‬
‫كتابه "الصحاح يف اللغة"‪ ،‬فقال‪" :‬وهذا الكتاب هو الذي بأيدي الناس اليوم‪ ،‬وعليه‬
‫وأبر في ترتيبه على من‬
‫وقرب متناوله‪َّ ،‬‬‫وجود تأليفه‪َّ ،‬‬
‫اعتمادهم‪ ،‬أحسن تصنيفه‪َّ ،‬‬
‫تقدمه‪ ،‬يدل وضعه على قريحة سالمة‪ ،‬ونفس عالمة؛ فهو أحسن من الجمهرة‪ ،‬وأوقع‬ ‫َّ‬
‫عبدوس النيسابوري‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫من تهذيب اللغة‪ ،‬وأقرب متناوالً من مجمل اللغة"‪ .‬وفيه يقول ابن‬
‫األدب‬
‫ِ‬ ‫ُص ِّنف قبل الصحاح يف‬ ‫الصحاح س ِّيدُ ما‬ ‫كتاب ِّ‬
‫ُ‬ ‫هذا‬
‫ـب‪.‬‬‫ُف ِّرق يف غريه مـن الكُ ُت ِ‬ ‫تَشْ َم ُل أبوابـهُ َوتَ ْج َم ُع مـا‬

‫‪- 208 -‬‬


‫منهج اجلوهري يف كتابه (الصحـاح)‬
‫ومطورا في ترتيب المعاجم العربية‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫مبتكرا‬
‫ً‬ ‫يعد "الجوهري" في صحاحه هذا‬‫ُّ‬
‫مبدع من أعالم اللغة‪ ،‬وقد أدرك بوعيه ما يقاسيه الباحث في معجم العين‪ ،‬وكذا في‬
‫جمهرة ابن دريد التي أراد بها صاحبها أن يخفف عن قارئها فأثقل عليه ولم َّ‬
‫يوفق في‬
‫كثيرا عن نهج من سبقه؛ فكانت مسألة اللغة عالقة بين‬
‫يغير ً‬
‫مرماه‪ ،‬وكذلك األزهري لم ِّ‬
‫بسبيل سهل إلى إدراك مبتغاه والوصول إلى ضالته‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫هذه المعاجم‪ ،‬ال يتمكن القارئ‬
‫صب الجوهري جهده في وضع معجمه‪ ،‬بحيث يتمكن َّ‬
‫المطلِع من‬ ‫من هنا‪ ،‬فقد َّ‬
‫الوصول إلى ما يريد بما ال ينقص وال يزيد‪.‬‬
‫مقتصرا عليه‪ ،‬يقول السيوطي‬
‫ً‬ ‫وقد اهتم فيه بإيراد كل صحيح من كالم العرب‬
‫ـ بعد أن قام بسرد طائفة من كتب اللغة المشهورة ـ‪" :‬وغالب هذه الكتب لم يلتزم‬
‫صح و َغ ْي َره‪ ،‬وينبهون على ما لم يثبت ً‬
‫غالبا‪،‬‬ ‫الصحيح‪ ،‬بل جمعوا فيها ما َّ‬
‫َ‬ ‫فيها مؤلفوها‬
‫الج ْو َهري؛‬
‫حماد َ‬
‫مقتصرا عليه اإلما ُم أبو نصر إسماعيل بن َّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وأول َمن التز َم الصحيح‬
‫سمى كتابه بالصحاح"‪.‬‬‫ولهذا َّ‬
‫صح عندي من هذه‬ ‫وفي مقدمته قال الجوهري‪" :‬قد أ ْو َد ْع ُت هذا الكتاب ما َّ‬
‫ترتيب‬
‫ٍ‬ ‫وطا بمعرفتها‪ ،‬على‬ ‫الدين والدنيا َم ُن ً‬‫شرف اللّه منزلتها‪ ،‬وجعل ِعلْم ِّ‬‫اللغة التي َّ‬
‫غلب عليه في ثمانية وعشرين بابًا‪ ،‬وكل باب منها ثمانية‬ ‫ُ‬
‫وتهذيب لم أ ْ‬
‫ٍ‬ ‫لم أُ ْس َبق إليه‪،‬‬
‫ال على عدد حروف المعجم وترتيبها‪ ،‬إال أن يهمل من األبواب جنس‬ ‫وعشرون فص ً‬
‫العرب العاربة‬
‫َ‬ ‫من الفصول‪ ،‬بعد تحصيلها بالعراق رواي ًة‪ ،‬وإتقانها دِراي ًة‪ ،‬و ُمشافهتي بها‬
‫رت وس ًعا"‪.‬‬ ‫ُص ًحا‪ ،‬وال َّاد َخ ُ‬ ‫في ديارهم بالبادية‪ ،‬ولم ُ‬
‫آل في ذلك ن ْ‬
‫قسم كتابه الصحاح إلى ثمانية‬ ‫فإن الجوهري يفيد أنه َّ‬
‫ومن خالل مقدمته تلك‪َّ ،‬‬
‫وعشرين بابًا بحسب أواخر الكلم‪ ،‬ثم نظر َك َّر ًة ثاني ًة إلى أوائل الكلم فجعل في كل‬
‫يجرد المادة من حروف الزيادة في َّأولها وآخرها‪ .‬فمثال المزيد‪:‬‬ ‫باب فصوله‪ ،‬بعد أن ِّ‬
‫ألن الكلمة إذا كان في أولها ألف وبعدها ثالثة أحرف‬ ‫األرنب‪ ،‬واألزيب‪ ،‬واألنبوبة؛ َّ‬
‫فأكثر‪ ،‬تكون زائدة ال تُ َع ّد من األصول‪ ،‬فيقال‪ :‬في أرنب وزنه أفعل‪ ،‬وفي أنبوبة أفعولة‪،‬‬
‫وتأسيسا على هذا الشرح‪ ،‬فإنه‬
‫ً‬ ‫فالحروف المقابلة للفاء والعين والالم هي األصول‪،‬‬
‫يذكر هذه األلفاظ الثالثة في فصل الراء والزاي والنون من باب الباء‪.‬‬
‫وكذلك ما بعد الحرف األول‪ ،‬رتَّبه على ترتيب حروف المعجم‪ ،‬فإذا قال‪ :‬باب الباء‪،‬‬
‫بدأ فيه بفصل األلف‪ ،‬وجاء فيه بحروف الوسط على الترتيب حتى يصل إلى األلف‬

‫‪- 209 -‬‬


‫يقدم فصل الواو‬ ‫فيقدمها على ما تليها الهاء‪ ،‬وهكذا في كل فصل‪ِّ ،‬‬
‫التي تليها الواو‪ِّ ،‬‬
‫من كل باب على فصل الهاء‪ِّ ،‬‬
‫ويؤخر الياء بخالف األبواب‪ ،‬فإنه قدم فيها باب الهاء قبل‬
‫الواو ليجعلها مع الياء في باب واحد‪ ،‬فصارت الحروف التي َّبوب لها سبعة وعشرين‪،‬‬
‫إال أنه لما كانت األلف على قسمين مهموزة ولينة‪ ،‬جعل األولى في أول األبواب‪ ،‬وعقد‬
‫للثانية اللينة غير المنقلبة عن واو أو ياء‪ ،‬فكملت األبواب ثمانية وعشرين بابًا‪.‬‬
‫التبريزي اللغوي‪" :‬كتاب‬‫في وصف عام لكتاب الصحاح‪ ،‬قال أبو زكريا الخطيب ِّ‬
‫المطلب لِما يُراد منه‪ ،‬وقد أتى بأشيا َء‬
‫ِ‬ ‫حسن الترتيب‪َ ،‬س ُ‬
‫هل‬ ‫ُ‬ ‫كتاب‬
‫ٌ‬ ‫الصحاح هذا‬
‫ِّ‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫حسنة‪ ،‬وتفاسير مشكالت من اللغة‪ ،‬إال أنه مع ذلك فيه تصحيف"‪.‬‬
‫وللجوهري مؤلفات أخرى مفيدة غير الصحاح الذي يقع في جزءين‪ ،‬فله كتاب في‬
‫سماه (عروض الورقة)‪ ،‬وله كتاب (املقدمة يف النحو)‪.‬‬
‫(العروض)‪ ،‬وهو كتاب جيد‪َّ ،‬‬
‫عن وفاة الجوهري وردت قصة غريبة‪ ،‬أجمعت عليها مختلف المصادر التاريخية؛‬
‫خشب وربطهما بحبل‪ ،‬ثم انتقل إلى الجامع القديم‬ ‫ٍ‬ ‫جناحين من‬
‫ْ‬ ‫مؤداها‪ :‬أنه صنع‬
‫ُ‬
‫عملت في الدنيا شي ًئا لم أ ْس َبق‬
‫ُ‬ ‫بنيسابور‪ ،‬فصعد إلى سطحه وقال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬إني‬
‫وس َطهما‬ ‫باب َّ‬
‫وضم إلى جنبيه مصراعي ٍ‬ ‫أمرا لم أسبق إليه‪َّ .‬‬‫إليه‪ ،‬فسأعمل لآلخرة ً‬
‫عاليا من الجامع‪ ،‬وزعم أنه يطير‪ ،‬فوقع فمات‪ .‬وكان ذلك في سنة‬ ‫بحبل‪ ،‬وصعد مكانًا ً‬
‫ٍ‬
‫ست وتسعين وثالثمائة من الهجرة‪.‬‬‫ٍّ‬

‫‪- 210 -‬‬


‫الثعالبـي‬
‫عبدالملك بن محمد بن إسماعيل(‪ 429-350‬هـ) يُعرف بأيب منصور الثعالبي‬
‫النيسابوري‪ ،‬أحد أدباء العربية ونوابغها‪ ،‬صاحب الكتاب الشهير (يتيمـة الدهـر)‪.‬‬
‫كان كثير الحفظ‪ ،‬فعرف بحافظ نيسابور‪ ،‬وأوتي حظاً من البيان ب َّز فيه أقرانه‪،‬‬
‫حجة فيما يروي‪ ،‬ثقة فيما يح ِّدث‪ ،‬مكيناً في‬ ‫فلقب بجاحظ زمانه‪ ،‬وعاش بنيسابور َّ‬
‫أن سار‬‫علمه‪ ،‬ضليعاً في فنه‪ ،‬فقصد إليه القاصدون‪ ،‬يضربون إليه آباط اإلبل‪ ،‬بعد ْ‬
‫ذكره في اآلفاق سير المثل‪.‬‬
‫ثم انتقل من‬‫(فراء) يخيط جلود الثعالب؛ ف ُن ِس َب إلى صناعته‪َّ ،‬‬
‫ِل ّ‬ ‫في شبابه؛ عم َ‬
‫حياكة الفراء إلى دراسة اللغة واألدب والتاريخ‪ ،‬فنبغ واشتهر‪ْ .‬‬
‫بل كان قِبلة أنظار المؤلفين‬
‫بعده‪ ،‬فاحتذى حذوه وسار على نهجه كثير من مشرق العالم اإلسالمي ومغربه‪.‬‬
‫والشعر‬
‫خشي (الثعالبي) أن يكون للشعراء السابقين على عصره فضل في األدب ِّ‬
‫وفنونه وال يكون لشعراء عصره مثل ذلك‪ ،‬فندب نفسه لهذا‪ ،‬وظهرت براعته في كتابه‬
‫الشعر الذي يرى‬
‫"يتيمة الدهر"‪ .‬وغايته من هذا الكتاب خدمة اللغة العربية عن طريق ِّ‬
‫وعلما‪ .‬ولم يقتصر فيه على ترجمة خالصة للشعراء واالستشهاد بالنصوص‬ ‫ال ً‬ ‫فيه فض ً‬
‫قيمة‪ ،‬وتعليالت أدبية ممتعة‪ ،‬تنم عن ذوق أدبي رفيع‪،‬‬ ‫الشعرية‪ْ ،‬‬
‫بل أورد آراء نقدية ّ‬
‫كما يعمد في كثير من األحيان إلى المقارنة والموازنة بين من يترجم له وبين غيره‬
‫الشاعر بغيره من السابقين والمعاصرين‪.‬‬
‫من الشعراء‪ ،‬ويكشف ببراعة عن مدى تأثر َّ‬
‫بسام‪" :‬كان في وقته‬ ‫وقد ش ِهد له أعالم األدب وأقطاب البيان‪ ،‬فقد قال ابن َّ‬
‫راعي تلعات العلم‪ ،‬وجامع أشتات النثر والنظم‪ ،‬رأس المؤلفين في زمانه‪ ،‬والمصنفين‬
‫بحكم أقرانه‪ ،‬طلعت دواوينه في المشارق والمغارب‪ ،‬طلوع النجم في الغياهب‪،‬‬
‫حد أ ْو وصف‪ ،‬أ ْو ِّ‬
‫يوفي‬ ‫وتآليفه أشهر مواضع‪ ،‬وأبهر مطالع‪ ،‬وأكثر من أن يستوفيها ٌّ‬
‫حقوقها نظم أ ْو رصف"‪.‬‬
‫تر العيون مثله‪ ،‬وال أنكرت األعيان فضله‪،‬‬
‫لم َ‬
‫وقال الباخرزي‪" :‬هو زبدة األحقاب والدهور‪ْ ،‬‬
‫وكيف ينكر وهو المزن يحمد بكل لسان‪ ،‬وكيف يستر وهو الشمس ال تخفى بكل مكان"‪.‬‬

‫‪- 211 -‬‬


‫«وأما الثعالبي فإنه كان أديباً فاض ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫وقال ابن األنباري في "نزهة األلباب" ‪َّ :‬‬
‫فصيحاً بليغاً»‪.‬‬
‫وقال إبراهيم الحصري في كتابه "زهر اآلداب"‪" :‬أبو منصور فريد دهره‪ ،‬وقريع‬
‫عصره‪ ،‬ونسيج وحده‪ ،‬وله مصنفات في العلم واألدب‪ ،‬تشهد له بأعلى الرتب"‪.‬‬
‫َّ‬
‫ولعل الحكاية التي جرت بينه وبين ابن المرزبان؛ تعطي صورة عن شاعرية الثعالبي‪.‬‬
‫إن من الشعراء من َشلْ َشل‪ ،‬ومنهم من‬
‫قال الثعالبي ‪ :‬قال لي ابن المرزبان يوماً‪َّ :‬‬
‫َسلْ َسل‪ ،‬ومنهم من َقلْ َقل‪ ،‬ومنهم من بَلْ َبل‪{ .‬يريد بمن شلشل‪ :‬األعشـى في قوله ‪:‬‬
‫شا ٍو ِمشَ ٌل شَ ٌ‬
‫لول شُ لْشُ ٌل شَ ـــو ُِل‬ ‫وقد أروح إىل الحانوت يتبعني‬
‫وبمن سلسل‪ :‬مسلم بن الوليد في قوله ‪:‬‬
‫ليل َسليلها َم ْسلــــوال‬
‫فأىت َس ُ‬ ‫وسل َّْت ثم ُس َّل َسليلهــــا‬
‫ُسل َّْت ُ‬
‫المتنبـي في قوله ‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫وبمن قلقل‪:‬‬
‫عيس كلهــن َقال ِق ُ‬
‫ـــــل‬ ‫َقالقــل ٍ‬ ‫بالهم الذي َقلْقَل ال َحشا‬
‫ف َقلْ َقل ُْت ِّ‬
‫فقال الثعالبي ‪:‬‬
‫فاعلمن أربعة‪ :‬فشاعر‬
‫َّ‬ ‫"إنِّي أخاف أن أكون رابع الشعراء؛ أراد قول القائل‪ :‬الشعراء‬
‫أن تسمعه‪ ،‬وشاعر‬ ‫أن ترفعه‪ ،‬وشاعر من حقه ْ‬ ‫يجري وال يُجرى معه‪ ،‬وشاعر من حقه ْ‬
‫ال ‪:‬‬ ‫أن تصفعه‪ .‬مما جعلني أُ ِ‬
‫نش ُد قائ ً‬ ‫من حقه ْ‬
‫ِ‬
‫فانف البالبل باحتساء بَالبِـــــلِ‬ ‫وإذا البالبل أفصحت بلغاتهـــــا‬
‫الشعر‪( :‬األعشى‪ ،‬ومسلم بن‬
‫فكان بهذا رابع فحول أصحاب القدم الثابتة في ِّ‬
‫الوليد‪ ،‬والمتنبي)‪.‬‬
‫وفي هذا الصدد؛ نذكر بعضاً من ِشعر الثعالبي‪ ،‬فقد أنشد األمير أبي الفضل‬
‫الميكالي‪ ،‬قائ ً‬
‫ال ‪:‬‬
‫أبدا لغريك يف الورى مل تُج َمعِ‬ ‫لكَ يف املفاخر معجزات ج َّمة‬
‫ِشعر الوليد وحسن لفظ األصمعي‬ ‫بحران بحر يف البالغة شابه‬
‫خط بن مقلة ذو املقام األرفعِ‬ ‫وتَ َر ُّسل الصايب يزين ُعل َّوه‬
‫كالويش يف برد عليه موشَّ ِع‬ ‫كالنور أ ْو كالسحر أو كالبدر أو‬

‫‪- 212 -‬‬


‫فالحسن بني مرصَّ عٍ و ُم َر َص ِع‬ ‫وإذا تَ َف َت َق نو ُر ِشعرك ِ‬
‫ناضاً‬
‫أفراس البديع وأنت أمجد مبد ِع‬ ‫ضت‬
‫أرجلت أفراس الكالم و ُر َ‬
‫تُــزري بآثــار الربيــع املُمـــرعِ‬ ‫ونقشت يف مغنى الزمان بدائعاً‬
‫ويعد (الثعالبي) ممن أسهموا في ازدهار نهضة القرن الرابع الهجري‪ ،‬حيث‬ ‫ُّ‬
‫ً‬
‫أغراضا مختلفة في اآلداب‪ ،‬واللغة‬ ‫قدم للعربية عد ًدا كبريًا من المؤلفات التي شملت‬
‫كتاب واحد منها؛‬
‫ٍ‬ ‫والفكر‪ ...‬فقد مات تاركاً ما يُربو على ثمانين مؤلفاً‪ ،‬ال غِنى عن‬
‫يتثقف‪ ،‬ويفهم مرامي العربية وأسرارها‪ ،‬منها‪ :‬كتاب أجناس التنجيس‪،‬‬ ‫لمن أراد أن َّ‬
‫أحاسن المحاسن‪ ،‬أحسن ما سمعت‪ ،‬األحاسن من بدائع البلغاء‪ ،‬األدب مما للناس‬
‫فيه من أرب‪ ،‬إعجاز اإليجاز‪ ،‬غرر أخبار ملوك فارس‪ ،‬برد األكباد في األعداد‪ ،‬أفراد‬
‫المعاني‪ ،‬االقتباس‪ ،‬األمثال والتشبيهات‪ ،‬أنس الشعراء‪ ،‬األنيس في غزل التجنيس‪،‬‬
‫بهجة المشتاق‪ ،‬تحفة الوزراء‪ ،‬التحسين والتقبيح‪ ،‬ترجمة الكاتب في آداب الصاحب‪،‬‬
‫تفضل المقتدرين وتنصل المعتذرين‪ ،‬التمثيل والمحاضرة في الحكم والمناظرة‪ ،‬الثلج‬
‫والمطر‪ ،‬ثمار القلوب في المضاف والمنسوب‪ ،‬سحر البيان‪ ،‬لطائف المعارف‪ ،‬المتشابه‬
‫لفظاً وخطا‪ ،‬منادمة الملوك‪ ،‬نسيم السحر‪ ،‬يواقيت المواقيت‪ ،‬مدح الشيء وذمه‪ ،‬مرآة‬
‫الملَح ُ‬
‫والط َرف‪ ،‬النوادر والبوادر‪ِ ،‬سحر البالغة وسر البراعة‪،‬‬ ‫المروآت‪ ،‬مفتاح الفصاحة‪ُ ،‬‬
‫الشعر والنثر‪ ،‬طبقات الملوك‪ ،‬عنوان المعارف‪ ،‬الفرائد والقالئد‪،‬‬
‫خصائص الفضائل‪ ،‬صفة ِّ‬
‫الفصول في الفضول‪ ،‬الكشف والبيان‪ ،‬الشكوى والعتاب وما وقع للخالن واألصحاب‪،‬‬
‫العقد النفيس في نزهة الجليس؛ فقه اللغة وسر العربية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫قدمه‬ ‫رح َم الله «أبا منصور الثعالبي» مفخرة األدباء‪ ،‬وقِبلة البلغاء‪ ،‬وجزاه خيراً َّ‬
‫عما َّ‬ ‫ِ‬
‫ألمته‪.‬‬

‫‪- 213 -‬‬


‫ابن سـيده‬
‫األندلسي ـ المعروف بابن سيده (‪ 458-398‬هـ)‬ ‫ّ‬ ‫أبو الحسن علي بن إسماعيل‪،‬‬
‫إمام اللغة وآدابها‪ ،‬وأحد من يضرب بذكائه المثل‪ .‬كان أبوه من النحاة من أهل‬
‫أيضا (ابن سيده)‬‫إن االبن ً‬ ‫ضريرا‪ْ ،‬‬
‫بل َّ‬ ‫ً‬ ‫المعرفة والذكاء‪ ،‬والعجب ليس في أن أباه كان‬
‫حادا‪.‬‬
‫متوقدا‪ ،‬وذكا ًء ًّ‬
‫ً‬ ‫ضريرا مثل أبيه‪ ،‬ولكنه كان ّنير القلب كأبيه‪ ،‬رزقه الله ذه ًنا‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫الشعر مدة‪ ،‬وتلقى اللغة على يد شيخه‬
‫بعد وفاة والده النحوي الضرير‪ ،‬اشتغل بنظم ِّ‬
‫صاعد بن الحسن اللغوي البغدادي‪ ،‬وكان من الوافدين على األندلس‪ ،‬وقرأ ً‬
‫أيضا على‬
‫(شرقي األندلس)‬
‫ّ‬ ‫أبي عمر الطلمنكي‪ ،‬ثم انقطع لألمير مجاهد العامري صاحب دانية‬
‫وعنده أدرك ابن سيده أمانيه‪ ،‬وألف أعظم كتبه‪ .‬كما يقول صاحب "نفح الطيب"‪.‬‬
‫لم بعلوم العربية‪،‬‬
‫من الله بها عليه؛ استطاع (ابن سيده) أن يُ ّ‬
‫بذاكرته الالقطة التي َّ‬
‫وينبغ في آدابها‪ ،‬فكان ـ كما قال الحميدي ـ إما ًما في العربية حافظاً للغة‪ ،‬وله في‬
‫معاصرا له ـ فقال‪" :‬لم يكن في‬
‫ً‬ ‫الشعر حظ وتصرف‪ ،‬وقد وصفه القاضي الجياني ـ وكان‬ ‫ِّ‬
‫زمنه أعلم منه بالنحو واللغة واألشعار وأيام العرب وما يتعلق بعلومها‪ ،‬وكان ً‬
‫حافظا"‪.‬‬
‫أن (ابن سيده) لم يقتصر في تحصيله للعلوم وتأليفه فيها على علوم العربية‬ ‫يبدو َّ‬
‫متوفرا على علوم الحكمة والمنطق‪ ،‬تلك التي كانت ذائعة الصيت‬ ‫ً‬ ‫وحدها؛ فكان ً‬
‫أيضا‬
‫في ذلك الوقت‪ .‬وقد قال عنه القاضي الجياني في ذلك‪" :‬كان مع إتقانه لعلم األدب‬
‫متوفرا على علوم الحكمة‪ ،‬وألف فيها تأليفات كثيرة"‪ .‬وقد وصفه صاعد‬ ‫ً‬ ‫والعربية‬
‫اللغوي بأنه من ُح ّذاق المنطق‪ .‬وقال ابن قاضي شهبة في طبقاته‪" :‬ومن وقف على‬
‫الم ْح َكم علم أنه من أرباب العلوم العقلية‪ ،‬وكتب خطبة كتاب في اللغة‪،‬‬ ‫خطبة كتاب ُ‬
‫إنما تصلح أن تكون خطبة لكتاب الشفاء البن سينا"‪.‬‬
‫َّأما ما أُثر عنه من مصنفات‪ ،‬فكان منها ‪ :‬كتاب "املحكم واملحيط األعظم"‪ ،‬وكتاب‬
‫طيرا شهرة ابن سيده وأنزاله بين‬‫"املخصص" وسنعرج عليهما بعد قليل؛ إ ْذ هما اللذان ّ‬
‫صانعي المعاجم العربية منزلة رفيعة‪ ،‬باعتباره واحداً من َّ‬
‫صناعها العظام‪.‬‬
‫وله كتاب "رشح إصالح املنطق"‪ ،‬و"األنيق يف رشح الحامسة"‪ ،‬و"رشح ما أُش ِكل من‬
‫شعر املتنبي"‪ ،‬و"العالم يف اللغة عىل األجناس"‪ .‬و"العامل واملتعلم"‪ ،‬و"الوايف يف علم أحكام‬

‫‪- 214 -‬‬


‫القوايف"‪ ،‬و"شاذ اللغة"‪ ،‬ويقع في خمس مجلدات‪ ،‬و"العويص يف رشح إصالح املنطق"‪،‬‬
‫و"رشح كتاب األخفش"‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫على الرغم من كثرة مؤلفاته‪ ،‬وأهمية مواضيعها‪ ،‬فإنه لم يصلنا منها َّ‬
‫إال ثالثة‬
‫منها فقط‪ ،‬هي‪ :‬المشكل من ِشعر المتنبي‪ ،‬والمحكم والمحيط األعظم‪ ،‬والمخصص‪.‬‬
‫َّأما عن باقي تآليفه فهو َّإما أنه فقد مع ما فقد من مخطوطات التراث‪ ،‬أو أنه ما‬
‫زال في غياهب دور الكتب والمحفوظات‪ ،‬ولم تمتد إليه بعد أيدي الباحثين‪.‬‬

‫املحكم واملحيط األعظـم‬


‫ألَّف "ابن سيده" كتاب "املحكم واملحيط األعظم" على نحو ترتيب الخليل في‬
‫معجمه "العني"‪ ،‬وقد زاد فيه التعرض الشتقاقات الكلم وتصاريفها‪ ،‬فجاء من أحسن‬
‫الدواوين‪ .‬وكانت طريقته تقوم على ترتيب الحروف تبعاً لمخارجها مبتعداً باألعمق‬
‫في الحلق‪ ،‬ومنتهياً بما يخرج من الشفتين‪ ،‬فاستقام له الترتيب التالي‪ :‬ع ح هـ خ غ‬
‫ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ذ ث ر ل ن ف ب م و ي ا ء‪ ،‬وسمى كل حرف منها‬
‫كتاباً‪ ،‬مع تقسيم كل كتاب إلى أبواب حسب أبنية األلفاظ من حيث كونها ثنائية أو‬
‫َّ‬
‫استهل‬ ‫ال حرف العين الذي‬ ‫ثالثية أو رباعية أو خماسية‪ ،‬واألخذ بمبدأ التقاليب‪ ،‬فمث ً‬
‫به معجمه‪ ،‬يمكن أن يتغير موضعه في البناء الثنائي مرتين‪ ،‬فيأتي أول البناء الثنائي‬
‫أو ثانيه‪ ،‬وفي البناء الثالثي يمكن أن يكون العين في أوله أو ثانيه أو ثالثه‪ ،‬وفي البناء‬
‫الرباعي يكون أربعاً‪ ،‬وفي الخماسي يكون خمساً‪ ،‬فإذا كان الحرف الثاني مع العين في‬
‫إال صورتان هما عب وبع‪ ،‬فإذا كانت‬ ‫البناء الثنائي باء‪ ،‬فإنه ال يمكن أن يأتي منهما َّ‬
‫العين في البناء الثالثي ومعها حرفان كالباء والدال‪ ،‬أمكن أن يأتي منها ست صور‪،‬‬
‫هي‪ :‬عبد بعد بدع عدب‪ ،‬دعب‪ ،‬دبع‪ ،‬وترتفع هذه الصور في البناء الرباعي إلى أربع‬
‫وعشرين صورة‪ ،‬وفي الخماسي إلى عشرين ومائة صورة‪.‬‬
‫وقد أراد "ابن ِسيده" أن يجمع في كتابه ما تشتت من المواد اللغوية في الكتب‬
‫والرسائل‪ ،‬وتصحيح ما ورد فيها من أخطاء‪ ،‬وربط اللغة بالقرآن والحديث‪ ،‬مع العناية‬
‫بالتنظيم واالختصار في ترتيب المواد‪ ،‬كتقديم المجرد على المزيد والمفرد على‬
‫الجمع وتحاشي التكرار‪ ،‬وبذلك يكون ابن سيده قد خطا بمناهج تأليف المعاجم‬
‫خطوة مفيدة إلى األمام‪ ،‬غير أن طريقة هذه المعاجم في ترتيب موادها كانت تلقى‬
‫صعوبة في الكشف واالستخدام‪ ،‬األمر الذي أدى إلى ظهور مدارس أخرى في المعاجم‬

‫‪- 215 -‬‬


‫لتيسير البحث في الكشف عن المواد اللغوية‪ ،‬حتى استقرت إلى ما هو متبع اآلن في‬
‫المعاجم الحديثة‪ ،‬مثل‪" :‬املعجم الوسيط"‪.‬‬
‫قال ابن منظور عن "املحكم"‪" :‬ولم أجد في كتب اللغة أجمل من تهذيب اللغة‬
‫لألزهري‪ ،‬وال أكمل من المحكم البن سيده‪ ،‬وما عداهما ثنيات الطريق"‪.‬‬

‫(املخصص) أثمن كنوز العربية‬


‫يعد كتاب "املخصص" البن سيده أضخم المعاجم العربية التي تعنى بجمع ألفاظ‬ ‫ّ‬
‫اللغة وتكوينها حسب معانيها‪ ،‬ال تب ًعا لحروفها الهجائية‪ ،‬فلم يكن الغرض من تأليفها‬
‫جمع اللغة واستيعاب مفرداتها شأن المعاجم األخرى‪ ،‬وإنما كان الهدف هو تصنيف‬
‫األلفاظ داخل مجموعات وفق معانيها المتشابهة‪ ،‬بحيث تنضوي تحت موضوع واحد‪.‬‬
‫كتبا تتناول موضو ًعا محد ًدا‪،‬‬
‫قسم "ابن سيده" كتابه إلى أبواب كبيرة‪ ،‬سماها ً‬
‫وقد َّ‬
‫منطقيا‪ ،‬فبدأ باإلنسان ثم الحيوان ثم الطبيعة فالنبات‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫ترتيبا‬
‫ً‬ ‫ورتب هذه الكتب‬
‫خاصا به‪ ،‬مثل ‪ :‬خلق اإلنسان والنساء واللباس والطعام‬ ‫وأعطى كل كتاب عنوانًا ًّ‬
‫واألمراض والسالح والخيل واإلبل والغنم والوحوش والحشرات والطير والسماء والفلك‪.‬‬
‫قسم كل كتاب بدوره إلى أبواب صغيرة‪ ،‬حسبما يقتضيه المقام إمعانًا في‬ ‫ثم َّ‬
‫الدقة‪ ،‬ومبالغة في التقصي والتتبع‪ ،‬فيذكر في باب الحمل والوالدة أسماء ما يخرج مع‬
‫الولد أوالً‪ ،‬ثم يذكر الرضاع والفطام والغذاء وسائر ضروب التربية‪ ،‬ويتحدث عن غذاء‬
‫الولد وأسماء أول أوالد الرجل وآخرهم‪ ،‬ثم أسماء ولد الرجل في الشباب والكبر‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫التزم ابن سيده في شرح األلفاظ ببيان الفروق بين األلفاظ والمترادفات وتفسيرها‬
‫بوضوح‪ ،‬مع اإلكثار من الشواهد‪ ،‬وذكر العلماء الذين استقى عنهم مادته‪.‬‬
‫وقد ُطبع (املخصص) في سنة ست عشرة وثالثمائة وألف من الهجرة في سبعة عشر‬
‫جز ًءا‪ ،‬ونشر معهد المخطوطات العربية معجم (املحكم) بعناية عدد من كبار المحققين‪.‬‬

‫‪- 216 -‬‬


‫ابن منظـور‬
‫مكرم األنصاري الروفعي افريقي‪،‬‬‫القاضي جمال الدين أبو الفضل‪ ،‬محمد بن ّ‬
‫عالما في‬
‫ال في األدب‪ً ،‬‬ ‫رئيسا فاض ً‬
‫المصري المعروف بابن منظور (‪ 711-630‬هـ) كان ً‬
‫الفقه واللغة‪ ،‬عار ًفا بالنحو والتاريخ‪ ،‬وكان مليح اإلنشاء‪ ،‬وقد تفرد بالعوالي‪ .‬وقد أهلته‬
‫صفاته السابقة؛ ألن يعمل في ديوان اإلنشاء بالقاهرة‪ ،‬ثم يتولى بعد ذلك منصب‬
‫القضاء في ليبيا‪.‬‬
‫سمع ابن منظور من شيوخ كثيرين‪ ،‬منهم‪ :‬ابن يوسف بن المخيلي‪ ،‬وعبد‬
‫الرحمن بن الطفيل‪ ،‬ومرتضى بن حاتم‪ ،‬وابن المقير‪ ،‬وطائفة من العلماء‪ ،‬وروى عنه‬
‫حدث بمصر ودمشق‪.‬‬ ‫السبكي والذهبي‪ ،‬وقد َّ‬
‫لقد غلب على ابن منظور في تواليفه عمل اختصارات للكتب السابقة عليه‪ .‬وفي‬
‫هذا يقول ابن حجر‪" :‬كان ابن منظور مغرى باختصار كتب األدب المطولة‪ ،‬وكان ال‬
‫يمل من ذلك"‪ .‬وقال الصفدى‪" :‬ال أعرف في كتب األدب شي ًئا إال وقد اختصره‪ .‬وقد‬
‫أخبرني ولده قطب الدين أنه ترك بخطه خمسمائة مجلدة‪ ،‬قال‪ :‬ولم يزل يكتب إلى‬
‫أن عمي في آخر عمره"‪.‬‬
‫ومن أهم مصنفاته‪ ،‬ما يلي‪ :‬مختار األغاني الكبير‪ ،‬ومختصر زهر اآلداب للحصري‪،‬‬
‫بسام‪،‬‬
‫ومختصر يتيمة الدهر للثعالبي‪ ،‬ولطائف الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة البن َّ‬
‫ومختصر تاريخ دمشق البن عساكر‪ ،‬ومختصر تاريخ بغداد للسمعاني‪ ،‬ومختصر كتاب‬
‫الحيوان للجاحظ‪ ،‬ومختصر أخبار المذاكرة ومشوار المحاضرة للتنوخي‪ ،‬وله نثار‬
‫األزهار في الليل والنهار في األدب‪ ،‬وأخبار أبى نواس‪ ،‬وصفوة الصفوة البن الجوزي‪،‬‬
‫ومفردات ابن البيطار‪ ،‬وكتاب التيفاشي فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس‬
‫أيضا‪ :‬تهذيب الخواص من درة الغواص‬ ‫ألولى األلباب‪ ،‬وسماه‪" :‬سرور النفس"‪ ،‬وله ً‬
‫للحريري‪ ،‬وغيرها‪ .‬وقد جمع بين صحاح الجوهري وبين المحكم البن سيده وبين‬
‫األزهري في سبع وعشرين مجلد‪.‬‬
‫طير اسمه في اآلفاق هو كتابه‬‫ويعد من أهم وأشهر أعماله وأكبرها‪ ،‬والذي ّ‬
‫ّ‬
‫"لسان العرب"‪ ،‬ذلك الذي جمع فيه أمهات كتب اللغة‪ ،‬فكاد يغني عنها جمي ًعا‪.‬‬

‫‪- 217 -‬‬


‫(لسـان العـرب) أشمل معاجم العربية‬
‫يُعد "لسان العرب" البن منظور من أشهر المعاجم العربية وأطولها‪ ،‬كما يُعد‬
‫أشمل معاجم العربية لأللفاظ ومعانيها‪ ،‬وأتم المؤلفات التي صنفت في اللغة بصفة‬
‫عامة‪ ،‬ومرجع العلماء والعمدة المعول عليه بين أهل هذا اللسان‪.‬‬
‫لقد جمع ابن منظور في معجمه الخالد هذا؛ بين أمهات المعجمات العربية‬
‫الخمسة السابقة عليه‪ ،‬فجمع بين "تهذيب اللغة" لألزهري‪ ،‬و"المحكم" البن سيده‪،‬‬
‫و"الصحاح" للجوهري‪ ،‬و"حاشية الصحاح" البن بري‪ ،‬و"النهاية في غريب الحديث" لعز‬
‫الدين بن األثير‪ ،‬ولم يذكر "جمهرة اللغة" البن دريد‪ ،‬مع أنه رجع إليها كثيراً‪.‬‬
‫لقد نهج (ابن منظور) نهج الجوهري في الصحاح‪ ،‬وذلك باعتماد الترتيب الهجائي‬
‫بانيا أبوابه على الحرف األخير من الكلمة‪ ،‬وأول أبوابه ما ينتهي بالهمزة‪ ،‬وقد‬
‫للحروف‪ً ،‬‬
‫فعلت أو‬
‫شافهت أو سمعت‪ ،‬أو ُ‬
‫ُ‬ ‫أدعي فيه دعوى‪ ،‬فأقول‪:‬‬
‫صرح في مقدمته بقوله‪" :‬وال َّ‬
‫نقلت عن العرب العرباء‪ ،‬أو حملت‪ ،‬فكل هذه‬ ‫شددت الرحال‪ ،‬أو رحلت‪ ،‬أو ُ‬‫ُ‬ ‫صنعت‪ ،‬أو‬
‫الدعاوى لم يترك فيها األزهري وابن سيده لقائل مقاالً‪ ،‬ولم يخليا ألحد فيها مجاالً‪،‬‬
‫عينا في كتابهما عمن رويا‪ ،‬وبرهنا عما حويا‪ ،‬ونشرا في خطبهما ما طويا‪،‬‬ ‫فإنهما ّ‬
‫ولعمري لقد جمعا فأوعيا‪ ،‬وأتيا بالمقاصد ووفيا‪ ،‬وليس في هذا الكتاب فضيلة أمت‬
‫بها‪ ،‬وال وسيلة أتمسك بسببها‪ ،‬سوى أني جمعت فيه ما تفرق في هذه الكتب‪ ،‬وأديت‬
‫األمانة في نقل األصول بالفص‪ ،‬وما تصرفت بكالم غير ما فيها من النص‪ ،‬فليعتد من‬
‫ينقل عن كتابي أنه ينقل عن هذه األصول الخمسة"‪.‬‬
‫وقد بلغ عدد المواد اللغوية التي ضمنها لسان العرب ثمانين ألف مادة‪ ،‬وهو‬
‫ضعف ما في الصحاح‪ ،‬وأكثر بحوالي عشرين ألف مادة من المعجم الذي جاء بعده‪،‬‬
‫وهو القاموس المحيط للفيروزآبادي‪.‬‬
‫صدر ابن منظور "اللسان" بمقدمة غير قصيرة‪ ،‬افتتحها بالتحميد والتهليل‪ ،‬ثم‬ ‫وقد ّ‬
‫عرج بعد ذلك على نقد التهذيب‬‫أخذ في ذكر شرف العربية وارتباطها بالقرآن الكريم‪ ،‬ثم ّ‬
‫والمحكم والصحاح‪ ،‬ثم ذكر السبب الدافع إلى تأليف معجمه‪ ،‬والذي يتمثل في أنه وجد‬
‫وإما أحسنوا الوضع ولكنهم‬
‫أن الذين سبقوه َّإما أحسنوا الجمع وأساءوا الوضع والترتيب‪َّ ،‬‬
‫أساءوا الجمع‪ ،‬وقد عنى بذلك؛ أنه أراد الجمع بين صفتي االستقصاء والترتيب‪.‬‬
‫بابين‪ :‬األول؛ في تفسير الحروف المقطعة‬
‫وضع ابن منظور بين المقدمة والمعجم ْ‬
‫وخواصها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في أول سور القرآن الكريم‪ .‬والثاني؛ في ألقاب حروف المعجم وطبائعها‬

‫‪- 218 -‬‬


‫ثم رتَّب معجمه على نظام األبواب والفصول‪ ،‬حيث يعالج كل باب حر ًفا من حروف‬
‫الهجاء‪ ،‬وف ًقا آلخر جذر الكلمة‪ ،‬ثم يورد في كل باب فص ً‬
‫ال لكل حرف وف ًقا ألوائل‬
‫جذور الكلمات‪ ،‬وهي نفسها الطريقة التي عليها معجم الجوهري "الصحاح"‪.‬‬
‫موسوعيا يتسم بغزارة المادة‪ ،‬حيث يستشهد فيه‬
‫ًّ‬ ‫معجما‬
‫ً‬ ‫يُعد "لسان العرب"‬
‫الشعر‬
‫الشعر‪ ،‬وقد بلغ ِّ‬
‫مؤلفه بكثير من اآليات القرآنية واألحاديث النبوية وأبيات ِّ‬
‫الذي استشهد به ابن منظور قرابة اثنين وثالثين ألف بيت‪ ،‬موزعة بين عصور الرواية‬
‫الشعرية من جاهلي ومخضرم وإسالمي وأموي وعباسي‪ ،‬وذلك إضافة إلى روايته‬
‫كثيرا‬
‫آلالف من آراء اللغويين والنحويين‪ ،‬وغير ذلك من األخبار واآلثار‪ ،‬مما يعكس ً‬
‫مفيدا ال في‬
‫من مظاهر حياة اللغة العربية وحياة المجتمع العربي‪ ،‬على نحو يجعله ً‬
‫المجال المعجمي فقط‪ ،‬بل وفي مجاالت علمية أخرى‪.‬‬
‫كبيرا ينيف‬
‫ً‬ ‫وقد طبع الكتاب بالمطبعة األميرية بالقاهرة في عشرين جز ًءا‬
‫كل منها على ثالثمائة صفحة‪ ،‬حظيت بإعجاب العلماء‪ .‬وقد استدرك عليها َّ‬
‫العالمة‬
‫أحمد تيمور بعض األخطاء المطبعية التي نشرها في جزء صغير باسم‪" :‬تصحيح لسان‬
‫العرب"‪ .‬كما استدرك عليها األستاذ عبد السالم هارون أخطاء أخر نشرها في مجلة‬
‫مجمع اللغة العربية بالقاهرة‪.‬‬
‫وقد قامت دار المعارف في مصر بإعادة ترتيب مواد الكتاب تب ًعا ألوائل الجذور ال‬
‫أواخرها‪ ،‬وهو األسلوب الم ّتبع في معظم معاجم اللغة العربية الحديثة‪ ،‬وذلك بخالف‬
‫ترتيبه األصلي الذي كان يلتزم طريقة "الصحاح" بالترتيب وفق الحرف األخير فاألول‬
‫فالثاني‪ ...‬إلخ‪ ،‬وقد قام بتحقيقه ثالثة من الباحثين هم‪ :‬محمد أحمد حسب الله‪،‬‬
‫وعبد الله على الكبير‪ ،‬وهاشم محمد الشاذلي‪ ،‬وخرج الكتاب في ستة أجزاء من القطع‬
‫الكبير المطبوع بحرف صغير‪ ،‬أعقبته ثالثة أجزاء هي الفهارس الفنية للكتاب‪.‬‬

‫‪- 219 -‬‬


‫الفريوز أبادي‬
‫أبو طاهر‪ ،‬محمد بن يعقوب‪ ،‬مجد الدين الشيرازي الفيروزآبادي‪ .‬صاحب التنبيه‬
‫(‪ 817-729‬هـ)‪ُ .‬ولِد بشيراز‪ ،‬وانتقل إلى العراق‪ ،‬وجال في مصر والشام‪ ،‬ودخل بالد‬
‫الروم والهند‪ ،‬واليمن حيث استقر بها العشرين عا ًما األخيرة من عمره‪.‬‬
‫حاد الذهن‪ ،‬شديد الذكاء‪ ،‬سريع البديهة‪ ،‬ذا فطنة عظيمة‪ ،‬وعن ذلك يقول‬ ‫كان َّ‬
‫وحصل دنيا‬
‫ابن حجر في (إنباء الغمر بأبناء العمر) ‪" :‬وقد أكثر المجاورة بالحرمين‪َّ ،‬‬
‫وكتبا نفيسة‪ ،‬وكان ال يسافر إال وصحبته عدة أحمال من الكتب‪ ،‬ويُخ ِرج أكثرها‬
‫طائلة ً‬
‫في كل منزلة ينظر فيها‪ ،‬ويعيدها إذا رحل‪ ،‬وكان ال ينام حتى يحفظ مائتي سطر"‪.‬‬
‫في كل بلد دخلها؛ التقى بعلمائها وشيوخها‪ ،‬وأخذ منهم صفوة العلوم والمعارف‪،‬‬
‫يبرز في علوم كثيرة‪ ،‬كما تتلمذ على يديه كثير من األعالم‪ ،‬أمثال‪ :‬الشاعر‬
‫مما جعله ِّ‬
‫المؤرخ الصالح الصفدي‪ ،‬والبهاء بن عقيل‪ ،‬والجمال األسنوي‪ ،‬وابن هشام النحوي‪،‬‬
‫وابن حجر العسقالني‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫ولعل من أشهر شيوخ الفريوز آبادي‪ :‬السبكي‪ ،‬وأكثر من مائة شيخ التقاهم بالشام؛‬‫َّ‬
‫القيم‪ ،‬وابن الحموي‪ ،‬والمرداوي‪ ،‬والنابلسي‪ ،‬وابن الحداد الحنفي‪،‬‬
‫الخباز‪ ،‬وابن ِّ‬
‫منهم ابن َّ‬
‫وغيرهم ببعلبك وحماة وحلب‪ .‬وبالقدس أخذ من العالئي والبياني والتقي القلقشندي‪.‬‬
‫ثم دخل القاهرة‪ ،‬فكان ممن لقيه بها البهاء بن عقيل‪ ،‬والجمال األسنوي‪ ،‬وابن هشام‬
‫النحوي‪ ،‬والعز بن جماعة‪ ،‬والقالنسي‪ ،‬والمظفر العطار‪ ،‬وناصر الدين التونسي‪ ،‬وناصر‬
‫الدين الفارقي‪ ،‬وابن نباتة‪ ،‬والعرضي‪ ،‬والجزائري‪ .‬وسمع بمكة من الضياء خليل المالكي‪،‬‬
‫واليافعي‪ ،‬والتقي الحرازي‪ ،‬ونور الدين القسطالني‪ ،‬وجماعة‪ .‬وجال في البالد الشمالية‬
‫والمشرقية‪ ،‬ودخل بالد الروم والهند‪ ،‬ولقي جم ًعا من الفضالء وأخذ عنهم العلوم‪.‬‬
‫قال عنه ابن حجر في "تقريب التهذيب" ‪" :‬كان ً‬
‫حافظا للغة‪ ،‬واسع المعرفة بها"‪.‬‬
‫ونثرا بالفارسي‬
‫نظما ً‬
‫ماني‪" :‬كان عديم النظير في زمانه‪ً ،‬‬‫ِر ُّ‬
‫ِي الك ْ‬
‫التق ُّ‬
‫وقال عنه َّ‬
‫علو الجاه‬
‫والعربي"‪ .‬وقال الخزرجي في (تاريخ اليمن) ‪" :‬إنه لم يزل في ازدياد من ِّ‬
‫والمكانة ونفوذ الشفاعات واألوامر على القضاة في األمصار"‪.‬‬

‫‪- 220 -‬‬


‫بفن فاق فيه‬
‫وقال المقري ‪" :‬هو آخر من مات من الرؤساء الذين انفرد كل منهم ٍّ‬
‫أقرانه على رأس القرن الثامن‪ ،‬وهم‪ :‬الشيخ سراج الدين البلقيني في الفقه‪ ،‬والشيخ‬
‫لقن في كثرة التصانيف‬ ‫الم ِّ‬
‫زين الدين العراقي في الحديث‪ ،‬والشيخ سراج الدين ابن ُ‬
‫وفن الفقه والحديث‪ ،‬والشيخ شمس الدين الفناري في ِّ‬
‫االطالع على كل العلوم العقلية‬
‫والنقلية والعربية‪ ،‬والشيخ أبو عبد الله بن عرفة في فقه المالكية بالمغرب‪ ،‬والشيخ‬
‫مجد الدين الشيرازي (الفيروزآبادي) في اللغة‪.‬‬
‫وقال عنه ً‬
‫أيضا ‪" :‬كان كثير العلم واالطالع على المعارف العجيبة‪ ،‬وبالجملة كان‬
‫آية في الحفظ واالطالع والتصنيف"‪.‬‬
‫وقال عنه الزركلي‪" :‬كان مرجع عصره في اللغة والحديث والتفسير"‪.‬‬
‫للفريوزآبادي مؤلفات عديدة‪ ،‬ورائعة‪ ،‬ومهمة للغاية‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫يف التفسري (بصائر ذوي التمييز يف لطائف الكتاب العزيز)‪ ،‬و(تنوير المقياس في‬
‫تفسير ابن عباس)‪ ،‬و(تيسير فاتحة اإلياب في تفسير فاتحة الكتاب)‪ ،‬و(الدر النظيم‬
‫المرشد إلى مقاصد القرآن العظيم)‪ ،‬و(حاصل كورة الخالص في فضائل سورة‬
‫الحساف في شرح خطبة الكشاف)‪.‬‬ ‫اإلخالص)‪ ،‬و(شرح قطبة ُ‬
‫ويف الحديث والتاريخ ‪( :‬شوارق األرسار العلية يف رشح مشارق األنوار النبوية)‪ ،‬و(منح‬
‫الباري بالشيح الفسيح المجاري في شرح صحيح البخاري)‪ ،‬و(عمدة الحكام في‬
‫شرح عمدة األحكام)‪ ،‬و(امتضاض السهاد في افتراض الجهاد)‪ ،‬و(اإلسعاد باإلصعاد‬
‫إلى درجة الجهاد)‪ ،‬و(النفحة العنبرية في مولد خير البرية)‪ ،‬و(الصالة والبشر في‬
‫والم َنى في فضل ِم َنى)‪ ،‬و(المغانم المطابة في‬‫الصالة على خير البشر)‪ ،‬و(الوصل ُ‬
‫معالم طابة)‪ ،‬و(مهيج الغرام إلى البلد الحرام)‪ ،‬و(إثارة الحجون لزيارة الحجون)‪،‬‬
‫و(أحاسن اللطائف في محاسن الطائف)‪ ،‬و(فصل الدرة من الخرزة في فضل السالمة‬
‫على الجنزة)‪ ،‬و(روضة الناظر في ترجمة الشيخ عبد القادر)‪ ،‬و(المرقاة الوفية في‬
‫طبقات الحنفية)‪ ،‬و(البلغة في تراجم أئمة النحاة واللغة)‪ ،‬و(الفضل الوفي في العدل‬
‫األشرفي)‪ ،‬و(نزهة األذهان في تاريخ أصبهان)‪ ،‬و(تعين الغرفات للمعين على عين‬
‫السول في دعوات الرسول)‪ ،‬و(التجاريح في فوائد متعلقة بأحاديث‬ ‫عرفات)‪ ،‬و(منية ُّ‬
‫المصابيح)‪ ،‬و(تسهيل طريق الوصول إلى األحاديث الزائدة على جامع األصول)‪ ،‬و(الدر‬
‫و(سفر السعادة)‪ ،‬و(المتفق وض ًعا والمختلف صن ًعا)‪.‬‬ ‫الغالي في األحاديث العوالي)‪ِ ،‬‬

‫‪- 221 -‬‬


‫ويف اللغـة وغريها ‪( :‬الالمع المعلم العجاب الجامع بين المحكم والعباب)‪،‬‬
‫و(القاموس املحيط والقابوس الوسيط الجامع ملا ذهب من كالم العرب شامطيط) في‬
‫جزءين ضخمين‪ ،‬و(مقصود ذوي األلباب في علم األعراب)‪ ،‬و(تحبير الموشين فيما‬
‫يقال بالسين والشين)‪ ،‬أخذه عنه البرهان الحلبي الحافظ‪ ،‬ونقل عنه أنه تتبع أوهام‬
‫موضع‪ ،‬مع تعظيمه البن فارس وثنائه عليه‪ .‬و(المثلث‬
‫ٍ‬ ‫المجمل البن فارس في ألف‬
‫الكبير) في خمس مجلدات‪ ،‬و(الصغير)‪ ،‬و(الروض المسلوف فيما له اسمان إلى‬
‫ألوف)‪ ،‬و(الدرر المبثثة في الغرر المثلثة)‪ ،‬و(بالغ التلقين في غرائب اللعين)‪ ،‬و(تحفة‬
‫القماعيل فيمن يسمى من المالئكة والناس إسماعيل)‪ ،‬و(أسماء السراح في أسماء‬
‫النكاح)‪ ،‬و(أسماء الغادة في أسماء العادة)‪ ،‬و(الجليس األنيس في أسماء الخندريس)‪،‬‬
‫و(أنواء الغيث في أسماء الليث)‪ ،‬و(أسماء الحمد)‪ ،‬و(ترقيق األسل في تصفيق العسل)‪،‬‬
‫و(مزاد المزاد وزاد المعاد في وزن بانت سعاد)‪ ،‬و(النخب الطرائف في النكت الشرائف)‪،‬‬
‫إلى غيرها من المؤلفات التي الزالت مخطوطة‪.‬‬

‫‪- 222 -‬‬


‫رسـالة إىل األمـة‬
‫مادامت (اللغة) من أهم األركان التي تعتمد عليها الحضارات‪ ،‬ومن أهم عوامل‬
‫تشكيل هويات األمم‪ ،‬وهي لحمة التفاعل بين أهلها‪ ،‬وأساس وحدتهم‪.‬‬
‫ومادامت (اللغة) شعار األمة‪ ،‬ووعاء فكرها‪ ،‬وهي الصلة بين حاضرها وماضيها‪ .‬لذا؛‬
‫فإن الحفاظ عليها يعني ضمان بقاء المجتمع الذي يستخدمها‪ ،‬وإضعافها هو إضعاف‬ ‫َّ‬
‫أن االعتزاز بها ليس اعتزازاً بذات اللغة؛ وإنما هو اعتزاز‬
‫لشخصية الناطقين بها‪ ،‬كما َّ‬
‫بالثقافة التي تحتضنها تلك اللغة وبالحضارة التي تمثّلها‪.‬‬
‫وإنه كلما كانت اللغة أكثر اتصاالً بثقافة الشعوب كانت أقدر على تشكيل هويتها‪،‬‬
‫بل ال يمكن أن تكون هناك خصوصية ثقافية ألية أُ َّمة دون سيادة لغتها الوطنية‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ُ‬
‫وال يمكن أن تحقق أمة تنمية ناجحة بغير لغتها الوطنية‪ ،‬فـ"اليابان" حققت ذلك‬
‫بلغتها ذات العشرة آالف مقطع‪ ،‬و"الصين" بلغتها ذات األربعة واألربعين ألف مقطع؛‬
‫مما يؤ ّكد أن االستقالل الوطني ال يكون من دون سيادة اللغة الوطنية‪ ،‬وهذه حقائق‬
‫ُمسلَّمة بها تاريخياً وعالمياً‪.‬‬
‫وقد تنبه المستعمِر إلى ذلك كله؛ فسارع إلى نشر لغته في كل مستعمراته؛‬
‫ليضمن والء األجيال المتتابعة‪ ،‬حتى بعد خروجه‪ ،‬كما سارع إلى توجيه ضربات قوية‬
‫وحدت األمة اإلسالمية على اختالف أجناسها‪.‬‬
‫نحو "العربية" التي َّ‬
‫ويفرقوا‬
‫لقد فرض المستعمرون لغاتهم على المسلمين ليقطعوا صلتهم بالقرآن‪ِّ ،‬‬
‫بينهم‪ ،‬فعملوا جاهدين على إبعاد المسلمين عن "العربية" ليصعب التفاهم بين البالد‬
‫يعد‬
‫ألن انتشار لغة المستعمر أ ْو الغالِب فـي بالد المغلوب‪ ،‬وحلولها محلها‪ُّ ،‬‬‫اإلسالمية؛ َّ‬
‫بداية انهيار لروح تلك األمة وتراثها‪ ،‬وفقدانها لثقافتها‪ ،‬وزوال لهويتها ـ أ ْو كما قال ابن‬
‫"إن المغلوب مولع أبداً باالقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته‬ ‫خلدون فـي مقدمته‪َّ :‬‬
‫أن ال ّنفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها‬ ‫والسبب في ذلك ّ‬ ‫وسائر أحواله وعوائده‪ّ ،‬‬
‫أن‬
‫وانقادت إليه‪ ،‬إ ّما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه‪ ،‬أو لِما تغالط به من ّ‬
‫طبيعي إنّما هو لكمال الغالب"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫انقيادها ليس لغلب‬

‫‪- 223 -‬‬


‫ِ‬
‫المسيطرة تحرص‬ ‫مهما في حياة األمم‪ ،‬فاللغات‬
‫دورا ًّ‬
‫إننا في عصر تَلعب فيه (اللغـة) ً‬
‫شعبا)‪.‬‬ ‫(محوت لغ ًة‪َ ،‬‬
‫أبدت ً‬ ‫َ‬ ‫المنافِسة لها‪ ،‬أ ْو إضعافها؛ عم ً‬
‫ال بمقولة‪:‬‬ ‫على الْتهام اللغات ُ‬
‫وال ُق َوى الكبرى التي تسعى إلى تحقيق تلك األهداف؛ تَع ِرف أنها ال تُحا ِرب فقط‬
‫كلمات وقواعد وتراكيب‪ ،‬وتراثًا ثقافياً‪ ،‬ولكنها تُحا ِرب ما يَر ُمز إليه ذلك كله‪ ،‬وتسعى‬‫ٍ‬
‫لكي يكونوا لقمة سائغة في خدمة‬ ‫الس ْي َطرة على ُم َق َّدرات أبناء هذه اللغة وثرواتهم؛ ْ‬
‫إلى َّ‬
‫التوسع االستعماري‪ .‬وذلك هدف أصبح ُمعلَ ًنا على ال َمأل ال يخفى على أحد‪.‬‬ ‫مطامِع ُّ‬
‫ضد دولة مغز ّوة‪ ،‬وأكثرها‬‫إن أشرس أنواع الحروب التي تخوضها دولة غازية ّ‬ ‫نعم؛ َّ‬
‫نجاعة‪ ،‬هي (الحرب اللغوية) وأعني بها "تفريغ" اللغة المغز ّوة "وتسريب" اللغة الغازية ‪..‬‬
‫اللغوي الغريب في الذهنية المغز ّوة‪ ،‬و(الفكر) هو المولّد‬
‫ّ‬ ‫ومن نتائجها الخطيرة زرع الفكر‬
‫األساس للغة‪ ،‬وبالتالي فالفكر المتبنى سيولّد لغة متبناة‪ ،‬بعيدة عن البن ّوة الحقيقية‪ ،‬هي‬
‫أشبه بنطق اللغة الغازية بحروف اللغة المغزوة ورموزها إلى حين استبدال هذه الرموز‬
‫أيضاً‪ .‬وقد حاول األتراك على امتداد خمسة قرون "اغتيال" العربية عن طريق تتريكها‪.‬‬
‫كما ترك االستعمار البريطاني والفرنسي األثر البارز على العربية في البلدان التي احتلُّوها‪.‬‬
‫كثير من لغات إفريقيا وآسيا وأمريكا الالتينية لالجتِياح أمام قوة اللغات‬
‫ضت ٌ‬ ‫تعر ْ‬ ‫َّ‬
‫التوسع االستعماري بعد الثورة الصناعية‪ُ ،‬م َمثَّلة في اللغات‬
‫األوروبية الغازية في عصر ُّ‬
‫اإلنجليزية والفرنسية على نحو خاص‪ ،‬ومِن ورائها اإلسبانية والبرتغالية واأللمانية‪،‬‬
‫قد َرتها منظمة اليونسكو بأكثر من (ثالثمائة‬ ‫سقطت لغات كثيرة‪َّ ،‬‬
‫ْ‬ ‫وأمام هذا االجتِياح‬
‫مزيدا من الضعف الذي قد‬ ‫يتوقعون لها ً‬ ‫وتصدعت أركانها‪ ،‬وهم َّ‬
‫َّ‬ ‫وض ُع َف ْت أخرى‬
‫لغة) َ‬
‫يؤدي إلى السقوط‪ ،‬خاصة إذا ساعدهم أبناء هذه اللغات أنفسهم على تحقيق الهدف‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫من هنا نعلـم؛ أن هناك حروباً لغوية مستعرة‪ ،‬وهناك مؤامرات عاتية ضد (العربية)‬
‫أدل على ذلك؛ مما تمارسه فرنسا في إفريقيا؛ فعندما أبدى "السود" تمسكهم‬ ‫بالذات‪ .‬وال ّ‬
‫لجأت فرنسا إلى القوة والقانون معاً‪ ،‬فبدأت حملة سن تشريعات لجعل‬ ‫ْ‬ ‫بـ(العربية)؛‬
‫لت منابر ثقافية (روابط) ظاهرها سياسي‬ ‫شك ْ‬‫سياسة الحصار الثقافي أمراً واقعاً‪ ،‬وكذا َّ‬
‫اقتصادي‪ ،‬وباطنها استعمار فكري ثقافي‪ ،‬ومن أشهر تلك الروابط‪ :‬مجموعة الدول الناطقة‬
‫بالفرنسية (الْ َف َرنْ ُك ُفون ِّية ‪ ) )la Francophonie‬التي أُ ِّس َس ْت مقابل رابطة الدول الناطقة‬
‫باإلنجليزية (الْ ُكو ُم ْن ِولْ َث) وكلتاهما لتثبيت أقدام المستعمرين في مستعمراتهم‪.‬‬
‫فقد اتخذت فرنسا منظمة (الْ َفرانْكُفُونِ ّي َة) نمط استعمار لغوي ثقافي جديد‪ ،‬يربط‬
‫الدول األعضاء بفرنسا سياسياً وثقافياً وفكرياً واقتصادياً‪ ،‬وينشر الفرنسية‪ ،‬ويحارب‬

‫‪- 224 -‬‬


‫اللغات المحلية‪ ،‬وخاصة العربية‪ ،‬ويمارس الغزو الفكري وغسل األدمغة من خالل إنشاء‬
‫جامعات وإذاعات وتِلِفِزيونات فرانكفونية‪ .‬فاالستعمار الغربي‪ ،‬قبل أن يستنزف الثروات‬
‫يغير األلسنة‪ ،‬ويمحو الهوية‪ ،‬ويجعل أع ّزة القوم أذلّة‪.‬‬
‫والخيرات ويَهلك الحرث والنسل؛ ِّ‬
‫وقد نجحت فرنسا في خطتها بشكل منقطع النظير‪ ،‬فال يوجد اليوم مجتمع‬
‫إفريقي ـ من مستعمرات فرنسا ـ َّ‬
‫إال وقد اتخذ الفرنسية «لغته الوطنية»‪.‬‬
‫فإلى متى سنستمر في تعلّم واستعمال لغة المستعمر المتغط ِرس؛ الذي أهلك‬
‫الحرث والنسل‪ ،‬ومشى على تاريخنا مستهزئاً‪ ،‬وأهان تراثنا‪ ،‬ومقدساتنا ‪ ..‬ورفض االعتذار‪.‬‬
‫النصيحـة) فإننا ننادي على‬ ‫ومن باب إبراء الذمة؛ وامتثاالً للهدي النبوي ِّ‬
‫(الدين َّ‬
‫ألن ِّ‬
‫لكل ثقافة‬ ‫جميع المسلمين‪ ،‬باختالف أجناسهم وقومياتهم‪ ،‬أن يتعلموا العربية؛ َّ‬
‫لغة تمثِّلها‪ ،‬ولغة الثقافة اإلسالمية هي "العربية" لغة القرآن المجيد‪ ،‬فهي أداة تثقيف‬
‫تمد المسلم برصيد ضخم من‬ ‫أن العربية ُّ‬
‫الدين‪ .‬كما َّ‬
‫المسلم‪ ،‬وعدته في فهم قواعد ِّ‬
‫اإلمكانات اللسانية وملكات القول البليغ‪ ،‬والخطاب المؤثر في نفوس السامعين‪.‬‬
‫معينين‪ ،‬أ ْو كما قال ابن‬ ‫الدين اإلسالمي ومن يؤمن به‪ ،‬ال لغة قوم َّ‬ ‫فالعربية لغة ِّ‬
‫والسنة فرض‪،‬‬
‫فإن فهم الكتاب َّ‬ ‫الدين‪ ،‬ومعرفتها فرض واجب‪َّ ،‬‬ ‫تيمية‪" :‬اللغة العربية من ِّ‬
‫وال يفهم إ َّال بفهم العربية‪ ،‬وما ال يتم الواجب إ َّال به فهو واجب‪ .‬وهذا معنى ما كتبه عمر‬
‫القرآن‪،‬‬
‫َ‬ ‫وتفقهوا في العربية وأعربوا‬ ‫الس َّنة َّ‬ ‫"أما بعد‪َّ :‬‬
‫فتفقهوا في ُّ‬ ‫إلى أبي موسى األشعري‪َّ :‬‬
‫عربي"‪ .‬وفي حديث آخر عن عمر ابن الخطاب‪ ،‬أنه قال‪" :‬تعلَّ ُموا العربي َة؛ فإنها من‬ ‫فإنه ٌّ‬
‫دينكم‪ ،‬وتعلَّ ُموا الفرائض فإنَّها من دينكم"‪ .‬وهذا الذي أمر به عمر‪ -‬من فقه العربية وفقه‬
‫ألن الدين فيه أقوال وأعمال‪ ،‬ففقه العربية هو الطريق إلى‬ ‫الشريعة‪ ،‬يجمع ما يحتاج إليه؛ َّ‬
‫السنة هو فقه أعماله» [اقتضاء الرصاط املستقيم‪ ،‬البن تيمية‪.]527 /1 ،‬‬ ‫فقه أقواله‪ ،‬وفقه َّ‬
‫من هنا ينبغي أن تكون (العربية) لغ ًة رسمي ًة في جميع الدول التي يُ َك ِّو ُن فيها‬
‫تنص الدساتير الديمقراطية المعاصرة‪.‬‬ ‫الح ْكم لألكثريّة‪ ،‬كما ّ‬‫المسلمون الغالبية العظمى؛ إ ْذ ُ‬
‫أليس من العار على "المسلم" أن يُحسن اللغات األجنبية "لغات المستعم ِرين"‬
‫ـ الذين أذلُّوه واستعبدوا آباءه ـ ْ‬
‫بل ويفاخر بإتقانها‪ ،‬في الوقت الذي ال يتقن لغة دينه‬
‫الحنيف؟‪.‬‬
‫اللهـم فاشهد‬
‫َّ‬ ‫اللهـم قد بلَّغت‪،‬‬
‫َّ‬ ‫اللهـم فاشهد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫اللهـم قد بلَّغت‪،‬‬
‫َّ‬

‫‪- 225 -‬‬


‫فـي عالَـم اجلمـال‬
‫ونصحت لكم ما‬
‫ُ‬ ‫وناديت قومي وأُ َّمتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بذلت قدر جهدي وطاقتي‪،‬‬
‫أخيـرا؛ لقد ُ‬
‫ً‬
‫وأرشدت‬
‫ُ‬ ‫وكشفت لكم عن مواضع الخلل‪ ،‬وأسباب الهزيمة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫استطعت إلى ذلك ً‬
‫سبيل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واحتسبت عملي لله الواحد الديَّان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إلى أسباب النصر والفوز المبين‪،‬‬
‫وجمعت أوائل‬
‫ْ‬ ‫وبعد هذه الرحلة الممتعة؛ التي تجاوزت حدود الزمان والمكان‪،‬‬
‫وكشفت عن همو ٍم لغوية وأدبية وفكرية‬
‫ْ‬ ‫وربطت حاضرها بماضيها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫األ َّمة بأواخرها‪،‬‬
‫ووصفت الدواء‪.‬‬
‫ْ‬ ‫صت الداء‪،‬‬ ‫وعقدية وسياسية أيضاً‪َّ ،‬‬
‫وشخ ْ‬
‫أقـول ‪ :‬ال أجد ما أختم به تلك الرحلة الشاقة؛ أحلى من االستماع واالستمتاع‬
‫وخصصوا له‬‫(الشـعر) الذي أقام العرب من أجله األسواق‪َّ ،‬‬ ‫بباقة من فن العربية األول ِّ‬
‫بل وعلَّقوه‬‫األعياد‪ ،‬ووصلوا في سبيله الليل بالنهار‪ ،‬ومنحوا من أجله الجوائز واألوسمة‪ْ ،‬‬
‫ورصعوا به القصور والمتاحف‪.‬‬‫على المعابد‪َّ ،‬‬
‫الشعراء ـ في القرن العشرين ـ‬‫بل روائع مما جادت به قرائح َّ‬ ‫إنها مختارات‪ْ ،‬‬
‫تغنوا بفضائل الفصحى‪ ،‬وتباهوا بغرائبها‪ ،‬وتدلَّهوا بعجائبها‪ ،‬وتفاخروا بمحاسنها‪،‬‬
‫ممن َّ‬
‫وعددوا مناقبها‪ ،‬ونافحوا عنها بأشعا ٍر تقطر وجداً‪ ،‬وقصائد مغسولة بالدمع‪.‬‬‫َّ‬

‫العربية تنعي حظها بني أهلها ‪.‬‬


‫(*)‬
‫للشَّ اعر الكبري حافـظ إبراهيـم‬
‫فاحتســبت حـيـــايت‬
‫ُ‬ ‫وناديــت قومــي‬
‫ُ‬ ‫ّهمت َحصـــايت‬
‫عــت لنفســـي فـــات ُ‬ ‫ر َج ُ‬
‫عقـــمت فلـــم أجــزع لقــول ُعداتــــــي‬
‫ُ‬ ‫بعقــم فـــي الشــباب ولـيـتـــني‬‫ٍ‬ ‫ر َمــ ْوين‬
‫وأدت بنـاتـــــــــي‬
‫ُ‬ ‫رجــاالً وأكْفــا ًء‬ ‫َولـــدْ ُت ولـمـــا لـــم أجـــدْ لعـرائســـي‬
‫آي بــ ِه و ِعظــات‬ ‫قــت عـــن ٍ‬‫ومــا ِض ُ‬ ‫كتـــاب اللــ ِه لفـــــظًا وغايــ ًة‬
‫َ‬ ‫وســعت‬
‫ُ‬

‫(*) شاعر النيل‪ ،‬وشاعر الوطنية األشهر‪ ،‬صاحب الروائع الشعرية الخالدة‪ ،‬والمراثي الباكية‪.‬‬

‫‪- 226 -‬‬


‫وتـنسـيـــق أسمـــا ٍء لـمختـــرعات‬ ‫ِ‬ ‫ـف آلـ ٍة‬ ‫ـيق الـــيو َم عـــن وصـ ِ‬ ‫فكـــيف أضــ ُ‬
‫اص عـــن َصدَ فـاتـــي‬ ‫فهــل سألـــوا الغَــ ّو َ‬ ‫أنــا الـبحـ ـ ُر فـــي أحشــائه الـــد ُّر كـــام ٌن‬
‫ومـــنكم وإن عــ َّز الــدوا ُء أُســـايت‬ ‫وتبـــى محـاسنـــي‬ ‫َ‬ ‫فـــيا ويحكــم أبـــى‬
‫أخــاف عـلـــيكم أن تحـيـــ َن وفـاتـــي‬ ‫فــا ت ِكلـــوين للزمــان فإننـــــــي‬
‫َوكَــم َعــ َّز أَقــوا ٌم ِب ِعــ ِّز ل ِ‬
‫ُغــات‬ ‫أَرى لِ ِرجــالِ الغَــ ْر ِب ِعــ ّزاً َو َمن َعــ ًة‬
‫ِ‬
‫مــــات‬ ‫فَيــا لَي َتكُــم تَأتـــــــونَ بِالكَلِ‬ ‫ات تَ َف ُّننـــــ�اً‬ ‫أَتَـ�وا أَهلَ ُهـ�م بِامل ُعجِ ـ�ز ِ‬
‫ُينــادي بِــ َوأْ ِدي يف َربيــ ِع َحيــــايت‬ ‫ــــب‬‫ــب الغَــ ْر ِب نا ِع ٌ‬ ‫أَ ُيط ِر ُبكُــم ِمــن جانِ ِ‬
‫ــر ٍة َوشَ ِ‬
‫ــتات‬ ‫بِ ــا تَحتَــهُ ِمــن َع ْ َ‬ ‫َولَــو تَز ُجــرونَ الطَــرَ يَومــاً َعلِم ُت ُ‬
‫ــم‬
‫َي ِعــ ُّز َعلَيهــا أَن تَلــ َن قَنــــــــايت‬ ‫َس��قى اللَ��هُ يف َبط��نِ ال َجزي�� َر ِة أَعظُ�ماً‬
‫ات‬ ‫ــــــم ال َحســــَــر ِ‬ ‫َلــب دائِ ِ‬ ‫لَ ُهــ َّن ِبق ٍ‬ ‫َح ِفظــ َن وِدادي يف البِــى َو َح ِفظتُــهُ‬
‫ات‬ ‫ــم ال َن ِخــــــر ِ‬ ‫َحيــا ًء ِب ِتلــكَ األَعظُ ِ‬ ‫ـر ُق ُمطــــر ٌِق‬ ‫ـرت أَهـ َـل ال َغـ ْر ِب َوالـ َ ْ‬
‫َوفا َخـ ُ‬
‫مـــن القــر يُدنـيـــني بـــغري أنــــــــاة‬ ‫يـــوم بـالجـــــرائد مزلقًــــــا‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬
‫أرى َّ‬
‫َــم أَنَّ الصائِحيـــــ َن نُعـــــــــايت‬ ‫َفأَعل ُ‬ ‫ــر ضَ َّجــــــ ًة‬ ‫ــاب يف ِم ْ َ‬ ‫َوأَ ْســ َم ُع لِلكُ ّت ِ‬
‫لـــــــم ت ّتصــل بـــــــ ُرواة!‬ ‫ْ‬ ‫إىل لغــ ٍة‬ ‫ـم ـ‬ ‫أيهجــرين قـــومي ـ عفــا اللــهُ عـنهـــــ ُ‬
‫ات‬ ‫ــاب األَفاعــي يف َمســيلِ فُــــــر ِ‬ ‫لُ َع ُ‬ ‫ست لوثَــ ُة اإلِفرِنــجِ فيهــا كَــا َسى‬ ‫ََ‬
‫فــات‬ ‫ُمشَ كَّلَــــــــ َة األَلـــــــــوانِ ُمخ َتلِ ِ‬ ‫ــم َســبع َني ُرق َعــ ًة‬ ‫َــوب ضَ َّ‬‫فَجــا َءت كَث ٍ‬
‫ســط شَ كاتـــــــي‬ ‫ــطت َرجــايئ َبعــدَ َب ِ‬ ‫َب َس ُ‬ ‫ــل‬ ‫مــع حا ِف ٌ‬‫ــاب َوال َج ُ‬ ‫عــر الكُ ّت ِ‬ ‫إِىل َم َ ِ‬
‫الرمــوس رفـاتــــــــي‬ ‫ِ‬ ‫وتُنبــت يف تلــك‬ ‫فإ َّمــا حـيـــا ٌة تبعــث الـ ـ َم ْي َت يف البِلـــــى‬
‫َــس بـممـــــات‬ ‫مــات لعمــري ملْ ُيق ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ممـــات ال قـيـــام َة بعـــــده‬ ‫ٌ‬ ‫وإ َّمــا‬

‫حماسن اللغـة العربيــــة‬


‫(*)‬
‫للشاعر يوسف باخوس‬
‫ُ‬
‫وإقبــــــــال‬ ‫اض‬
‫وللقصـائـــــد إعـــــر ٌ‬ ‫ُ‬
‫آمـــــال‬ ‫ات الفكــ ِر‬‫للشّ عـــ ِر فـــي َخطَــر ِ‬
‫طـــ ْو ًرا نداهـــا وطـــو ًرا خـــاب ت َْســآل‬ ‫عـــم طـالبهــــــا‬ ‫َّ‬ ‫ــروض بحـــا ٌر‬
‫ولل َع ُ‬
‫فعـــل وف َّعــال‬
‫ٌ‬ ‫النظـــم ال‬
‫ُ‬ ‫يَزِي ُنهـــا‬ ‫جـــــادت بهــــــا ُد َر ٌر‬
‫ْ‬ ‫وللمعـانـــي إذا‬

‫(*) شاعر لبناني (‪1882-1845‬م) عاش في لبنان واستانبول‪ ،‬وسردينيا وباريس‪ ،‬درس الفلسفة وكثيراً من اللغات‪،‬‬
‫وعمل معلِّماً للبيان والفصاحة في مدرسة الحكمة المارونية‪ ،‬تولى رئاسة تحرير جريدة "املستقبل"‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫تحرير جريدة "البصري" في باريس‪.‬‬

‫‪- 227 -‬‬


‫ـض ال ُحكــ ِـم يــروي َس ْعدَ هـــا الفـــال‬ ‫غوامـ ُ‬ ‫َت‬ ‫السحـــ ُر مـــن أرساره انكشــف ْ‬ ‫بيـانُهـــا ِّ‬
‫والتفريـــق إشكـــال‬
‫ُ‬ ‫والطبــق والجمــع‬ ‫ُ‬ ‫نطـــوي وننشـــ ُر مـــن تدبيجهـــا غُــ َر ًرا‬
‫ـت بهـــا الـــذوق والـتشبيـــهُ َسلْســال‬ ‫حلَّـ ْ‬ ‫حلَّــت عقـــود معاليهـــا بتـــوري ٍة‬
‫يُر َجــى وبـــالفضل لآلمـــال آجـــــــال‬ ‫ــل إال مـــن مكا ِر ِمهـــا‬ ‫وص َ‬ ‫عــ َّز ْت فــا ْ‬
‫وتستقـــل بهـــا فـــي الحـمــــــد أقـــوال‬
‫ّ‬ ‫املدائــح إسنـــادًا بـ ُمس ِندهـــا‬ ‫َ‬ ‫تُلقـــي‬
‫َص إحســانٌ وإجمـــال‬ ‫وصفًــا وبـــالق ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ـر ْت‬ ‫عـــن ُحسنهـــا ُغ ـ َر ُر األشــعار قــد َقـ ُ َ‬
‫فـالسعـــدُ إقبــال‬ ‫ّ‬ ‫واســ َعد بطلعتهـــا‬ ‫ْ‬ ‫ــم بهـــا ف ْهــي إعـرابـــ َّي ٌة ســ َف َر ْت‬ ‫أن ِع ْ‬
‫قـــدْ ًرا وعــ َّزت بهـــا بـــالفخر أجيــال‬ ‫َــت‬ ‫دت بيـــن أبكـــار اللُّغَــى وعل ْ‬ ‫تفــ َّر ْ‬
‫األحكـــام إعـــال‬
‫ِ‬ ‫حكــا وفـــي ِص َّحــة‬ ‫ً‬ ‫ــت‬ ‫واعتص َم ْ‬‫َ‬ ‫ص َّحــت بإعاللِهـــا األفهــا ُم‬
‫منصـــب التفضـــيلِ إبطــال‬ ‫َ‬ ‫ب َن ْصبِهـــا‬ ‫ـت‬ ‫ـت نحـ َوهـــا األفــكار وارتف َعـ ْ‬ ‫وقـــد ن َحـ ْ‬
‫ِ‬
‫املـــوصوف أشــغال‬ ‫ــت عـا ِملهـــا‬ ‫ب َن ْع ِ‬ ‫الوصـــف واشــتغل َْت‬ ‫ِ‬ ‫تناز َع ْتهـــا معـــاين‬
‫برايــة املجـــد فـــي مضامرهـــا جالــوا‬ ‫وكــم رجـــالٍ أفـــاض الدهـــ ُر شهـــرتَهم‬
‫فــدون ذلــك أخطـــا ٌر وأهــــــــــوال‬ ‫هيهـــات إدراكٌ لشوطهـــم‬ ‫َ‬ ‫هيهـــات‬
‫َ‬
‫بـــدائع الشــكر تقـــريظًا ملـــا نالـــوا‬ ‫ظــل ينشــدهم‬ ‫َّ‬ ‫علـــم وفـــ ٍّن‬
‫ٍ‬ ‫وكل‬
‫ُ‬
‫آمــال‬ ‫للشعـــر فـــي خطــرات الفكــر‬ ‫خطــرت‬
‫ْ‬ ‫ال زال يـزهـــو سنـــاهم كلمـــا‬

‫َيـا ُأ َّم ال ُّل ِ‬


‫غــات‬
‫للشَّ اعر الكبري خليـل مطـران‬
‫َلــهُ رقْـــــــ َر ُاق َد ْمــعٍ ُم ْس َت َهـــــــــل‬ ‫ــب‬ ‫َســ ِم ْع ُت بِــأُ ْذنِ َق ْلبِــي َصــ ْو َت ع ْت ٍ‬
‫ــن أَهْـــــــــي‬ ‫ُــم اغ ِ َْتابـــِــي بَ ْ َ‬ ‫لِ َربِّك ُ‬ ‫ُــول ألَ ْهلِ َهــا الفُضْ َحــى أَعَـــــــدْ ٌل‬ ‫تَق ُ‬
‫ُـــــل ِطفْــــــل‬
‫َــت ك َّ‬ ‫ــم َوأَنْ ْ‬‫غَــ َذ ْت ِم ْن ُه ْ‬ ‫ــت أنَــا الَّ ِتــي بدَ ِمــي َو ُروحــي‬ ‫َ‬ ‫أَل َْس ُ‬
‫أَأَ ْغــدُ و الْيــ ْو َم َوامل َ ْغ ُمــو ُر فَضْ لِـــــي؟‬ ‫ــي‬ ‫أَنَــا الْ َع َر ِب َّيــ ُة املشْ ــ ُهو ُد فَضْ ِ‬
‫ــت‪َ ،‬مــا َم ِصــرُ الْقَــ ْو ِم قُــل ِل؟‬ ‫فَضَ ا َع ْ‬ ‫إِ َذا َمــا القَــ ْو ُم بِاللُّغَــ ِة ْاســ َت َخفُّوا‬
‫َو َمــا َد ْعــ َوى ِذ َمــا ٍر ُم ْس َت ِقـــــــــل؟‬ ‫َو َمــا َد ْعـــــوى اتِّحــا ٍد ِف بِــــــــاَ ٍد‬
‫ــل َم َعــهُ يَكُــونُ َصــا َُح ِف ْعــــــلِ ؟‬ ‫َف َه ْ‬ ‫يــل َع ْجـــــ ٍز‬ ‫ف ََســا ُد القَــ ْولِ ِفيــ ِه َدلِ ُ‬
‫فَــإِنْ تَ ْن ِك ْرنَ ِنــي أَتَكُــ َّن ن َْسـلـــــــي؟‬ ‫ْــن ن َْسلِـــــــي‬ ‫ـــــات الْ ِح َمــى أَن ُ َّ‬
‫ِ‬ ‫بُ َن َّي‬
‫ْـــــــل ثَكْلــــِــي‬
‫َ‬ ‫ُــم فَــإِنَّ ال ُّثك‬ ‫َم َ َّبتُك ْ‬ ‫َويَــــــا ِف ْت َيانَـــــهُ إِنْ أَخْطــــَأَتْ ِنـــــي‬
‫َ‬
‫ــــات أ ْصلـــــــي‬ ‫ــم ُح ُر َم ُ‬ ‫َــم تَ ْر َد ْع ُه ُ‬
‫َول ْ‬ ‫يــي‬ ‫ول َج َحــــــدُ وا َج ِم ِ‬ ‫يُ َحا ِربُ ِنــي األُ َ‬
‫ـــــــل‬
‫ِّ‬ ‫ِحــا ََي ِب ُنــورِه أَ ْس َنــــــــى تَ َج‬ ‫َّــــــت‬
‫ْ‬ ‫َو ِف الْقُـــــ ْرآنِ إِ ْع َجــــــا ٌز تَ َجل‬

‫‪- 228 -‬‬


‫َم َّهــدْ ُت ُســ ْب ِل‬ ‫نَــأَت غَا َياتُــهُ‬ ‫َولِلْ ُعلَ َمــــــــا ِء َواألُ َد َبــــــــــا ِء ِفي َمـــــــــا‬
‫َـــــــــل‬
‫ِّ‬ ‫فَــاَ تَأْخُــ ُذ كَ ِثــري بِاألَق‬ ‫إِ َذا َمــا كَانَ ِف كَلِ ِمــي ِص َع ٌ‬
‫ــاب‬
‫ات ِم ِثــي؟‬ ‫تُ َعــد ِب َوفْــ َر ِة ال َحســ َن ِ‬ ‫َــل لُغَــ ٌة َق ِدميــاً أَ ْو َح ِديثـــــــــاً‬ ‫َوه ْ‬
‫قــوق َج ْهــلِ‬ ‫ُــوق َم َســا َء ٍة َو ُع ُ‬ ‫ُعق ُ‬ ‫اك ِمنــا‬ ‫ُّغــات عَــدَ ِ‬ ‫ف َيــا أُ َّم الل ِ‬
‫ــل‬ ‫غــر ِظ ِّ‬
‫ْ‬ ‫جــب شُ ــعا َعك‬ ‫َومل َي ْح ْ‬ ‫نــت شــ ْم ٌس‬ ‫َــك ال َعــ ْو ُد ال َح ِميــدُ فأَ ِ‬ ‫ل ِ‬
‫َم َيا ِمــ ٌن أُولُــو َحــ ْز ٍم َونُ ْبــــــــلِ‬ ‫ــب ِمــن شَ ــ َّتى الن َوا ِحــي‬ ‫َد َعــ ْو ِت ف َه َّ‬
‫حـــــــــل‬
‫ِّ‬ ‫ُمكَ َّر َمــ ًة إِىل أَ ْس َمـــــــى َم‬ ‫ُــل أَنْ تُــ َردِّي‬ ‫يــك َيكْف ُ‬ ‫بِــ َرأْ ٍي ِف ِ‬
‫ُـــــــــل‬‫ِّ‬ ‫ُــــــــم ِف ك‬
‫ْ‬ ‫َويُ ْز ِهــــــــ ُر ن ْ َُثه‬ ‫كــــــــل َوا ٍد‬
‫ِّ‬ ‫ُـــــــم ِف‬
‫ْ‬ ‫يُ َنــــ ِّو ُر ِشع ُره‬

‫فخـــر العــــرب‬
‫(*)‬
‫للشَّ اعر مصطفى صادق الرافعي‬
‫النســـب‬
‫ُ‬ ‫وال نقيصـــ ُة إال مـــا جنـــى‬ ‫أ ٌّم يكيـــد لهـــا مـــن نسلهـــا العقـــب‬
‫وهــم لنكبتهـــا مـــن دهرهـــا سبـــب‬ ‫كانــت لهــم سببـــاً فـــي كـــل مكرمـــة‬
‫بيـــن األعاجـــم إال أنهـــم عــــرب‬ ‫ال عيــب يف العــرب العربــاء إنْ نطقــوا‬
‫عنــد الغــراب يــزىك البلبـــل الطـــرب‬ ‫والطــر تصــدح شتـــى كاألنـــام ومـــا‬
‫كطلعــة الشــمس مل تعلــق بهـــا الريـــب‬ ‫أىت عليهــا طـــوال الدهـــر ناصعـــة‬
‫كالبــدر قــد طمســت مــن نــوره السحـــب‬ ‫ثــم اســتفاضت ديـــاج فـــي جوانبهـــا‬
‫صبــح فــكان ولكـــن فجرهـــا كـــذب‬ ‫ثــم اســتضاءت فقالـــوا الفجـــر يعقبـــه‬
‫كأنهـــا جمـــرة فـــي الجـــو تلتهـــب‬ ‫ثــم اختفــت وعليهــا الشمـــس شاهـــدة‬
‫ات هـــذه الشهـــب‬ ‫ولـــم تـــزل ن ّيـــر ٍ‬ ‫ســلوا الكواكـــب كـــم جيـــل تداولهـــا‬
‫قدميــة جــددت مـــن زهوهـــا الحقـــب‬ ‫وســائلوا النــاس كــم يف األرض مــن لغــة‬
‫نعتــر ولبئـــس الشيمـــة العجـــب‬ ‫ونحــن يف عجــب يلهــو الزمـــان بنـــا مل‬
‫فكيـــف تبقـــى إذا طالبهـــا ذهبـــوا‬ ‫إن األمــور ملـــن قـــد بـــات يطلبهـــا‬
‫فقـــد غدونـــا لـــه واألمـــر ينقلـــب‬ ‫كان الزمــان لهـــا واللســـ ُن جامعـــة‬
‫فاليــوم لــو نظــروا مــن بعدهـــم ندبـــوا‬ ‫وكان مـــن قبلنـــا يرجوننـــا خلفـــاً‬
‫مــرق الشمـــس يبكينـــا وينتحـــب‬ ‫أنتـــرك الغـــرب يلهينـــا بزخرفـــه‬
‫فكيــف نرتكــه فـــي البحـــر ينســـرب‬ ‫وعندنـــا نهـــر عــــذب لشـاربـــه‬

‫(*) أحد أدباء القرن العشرين المشاهير‪ ،‬وواحد من أصحاب األساليب‪ ،‬من أشهر مؤلفاته النثرية «أوراق الورد» و"وحي القلم"‪.‬‬

‫‪- 229 -‬‬


‫فإنهـــا نكبـــ ٌة مـــن فيـــ ِه تنسـكـــب‬ ‫وأميـــا لغـــة تنســـي امـــر ًأ لـغـــ ًة‬
‫أيــام كانـــت خيـــام البيـــد والطنـــب‬
‫ِ‬ ‫لكــم بــى القــول يف ظــل القصــور عــى‬
‫والظـــل يعـــوذه املـــاء والعـشـــــب‬ ‫والشمـــس تلفحـــه والريـــح تنفحـــه‬
‫وننفــض الكــف ال مجـــدٌ وال حســـب‬ ‫فهــل نضيــع مـــا أبقـــى الزمـــان لنـــا‬
‫والشـــرق وإن كنـــا بـــه خـــــــرب‬ ‫إنَّــا إذاً ســ ّبة فـــي الشـــرق فاضحـــ ٌة‬
‫يجــدي الجبــان إذا ر ّوعتـــه الصخَـــب‬ ‫هيهــات ينفعنـــا هـــذا الصيـــاح فمـــا‬
‫فقصـــر ذلـــك أن تلقـــاه يحتـســـب‬ ‫ومــن يكــن عاجــزاً عـــن دفـــع نائبـــة‬
‫أي فخـــا ٍر بينهـــا الكتـــب‬
‫للعـــرب ّ‬ ‫إذا اللغـــات ازدهـــت فقـــد ضمنـــت‬
‫يــد الصــدا غــر أن ال يصـــدأ الذهـــب‬ ‫ويف املعــادنِ مـــا متضـــي برونفـــه‬

‫ِ‬
‫العــرب‬ ‫ابنـــة‬
‫(*)‬
‫للشَّ اعر علـي الجـارم‬
‫هَــاّ شَ ــدَ ْو َت ِبأَ ْمــدَ احِ ابْ َنــ ِة ال َعــ َر ِب؟‬ ‫َمــا َذا طَ َحــا بِــكَ يَــا َص ّنا َجــ َة األَد َِب‬
‫ــم َوالْ َو َص ِ‬
‫ــب‬ ‫ــن ال َه ّ‬ ‫ِــت تَ ْنفُــخُ بَ ْ َ‬ ‫فب َّ‬ ‫ــت لَ َهــا‬ ‫اث َو َج ْم َ‬ ‫أَطَــا َر نَ ْو َمــكَ أ ْحــدَ ٌ‬
‫شَ ـ ْج ًوا ِم ـ َن الْ ُح ـ ْزنِ أَ ْو شَ ــدْ ًوا ِم ـ َن الطّ ـ َر ِب‬ ‫ْــت بــ ِه‬ ‫َوالْ َي ْع ُر ِب َّيــ ُة أَنْــدَ ى َمَــا َب َعث َ‬
‫َســقى ال ُع ُهــو َد الْخَــ َو ِال ك ُُّل ُم ْنســ ِك ِب‬ ‫يَــا جِ ــرَ َة الْ َحــ َر ِم امل َ ْزهُــ ِّو َســا ِك ُنهُ‬
‫ألَنّ َهــــــا ِصلَــــــ ُة القُــرآنِ َوال ّن َس ِ‬
‫ـــــب‬ ‫اصهَــا‬ ‫ُــم ِصلَــ ٌة َعــ ّز ْت أ َو ِ ُ‬ ‫ِل بَ ْينك ْ‬
‫ـــــف الــــــدَّ ر ِِب‬ ‫ــن القائِ ِ‬ ‫وِلل ّت َخ ُّيــلِ َع ْ ُ‬ ‫ُــــــــم‬
‫ْ‬ ‫ــال َجا ِهل َّي َتك‬ ‫ــن َخ َي ِ‬ ‫أ َر َى ِب َع ْ ِ‬
‫ــب‬ ‫َــر ال َوخْــ ِد والْ َخ َب ِ‬‫َــم نَــدْ ِر غ ْ َ‬ ‫َونَ ْحــ ُن ل ْ‬ ‫َ‬
‫ــر ُع َواأليّــا ُم ُم ْعجِ لَــــــــ ٌة‬ ‫الدّ هْــ ُر يُ ْ‬
‫َــب‬ ‫ــم َوالَ لَق ِ‬ ‫َــم تَفُــ ْز ِب َخ َيــالِ ْاس ٍ‬ ‫َول ْ‬ ‫ــات ت َُســدُّ الشَّ ــ ْم َس ك ْ ََثتُ َهـــــــــا‬ ‫َوالُ ْمحدَ ثَ ُ‬
‫ــى الفَصيــحِ َف َيــا لِلْ َويْــلِ والْ َحــ َر ِب‬ ‫َع َ‬ ‫ــا ُت تَشُ ــ ُّن الْ َحــ ْر َب الَ ِق َحــــــ ًة‬ ‫الت َج َ‬‫َو ّ ْ‬
‫َــــــب‬
‫ِ‬ ‫ــى كَث‬ ‫َ‬
‫نَــا ٍء َوأ ْمثالُــهُ م ّنـــــــا َع َ‬ ‫ْــظ ن َْســ َت ْج ِدي ِه ِمــ ْن بَلَـــــــ ٍد‬ ‫ن َِطــرُ للَّف ِ‬
‫لِ َع ْي ِنــ ِه َبــار ٌِق ِمــــــ ْن َعــار ٍِض كَـــــــ ِذ ِب‬ ‫كَ ُم ْهــرقِ املَــا ِء ِف ال َّص ْحــ َرا ِء ِحــ َن َبــدَ ا‬
‫ــن ال ّن ْبــعِ َوالغَــ َر ِب‬ ‫َمــ ْن الَ يُفَــ ّر ُق بَ ْ َ‬ ‫ــم َحاربَ َهــا‬ ‫ــش ثُ ّ‬ ‫ــت ُق َريْ ٍ‬ ‫أَ ْز َرى ِب ِب ْن ِ‬
‫ــنِ‪ :‬الْ َج ْهــلِ والشَّ ــغ َِب‬ ‫ــول بِالْخَائِ َب ْ‬
‫يَ ُص ُ‬ ‫اح ِف َح ْملَــ ٍة َر ْع َنــا َء طَائِشَ ــ ٍة‬ ‫َو َر َ‬
‫ْــر ِِب؟‬‫َــاظ ُمغ َ‬ ‫َإل َد ِخيــلٍ ِمــ َن األَلْف ِ‬ ‫الســ ْم َح َم ْن ِط ُقــهُ‬ ‫ّ‬ ‫َــركُ ال َعــ َر ِ َّب‬ ‫أن ْ ُ‬
‫والســخ ُِب‬ ‫ُّ‬ ‫ــن الــدُّ ِّر‬ ‫لِ َمــ ْن ُيَ ّيــ ُز بَ ْ َ‬ ‫ــم كَ ْنــ ٌز الَ نَفَــا َد لَــهُ‬ ‫َو ِف امل َ َعاجِ ِ‬

‫(*) شاعر مصري كبير‪ ،‬من رواد كلية دار العلوم‪ ،‬هذه القصيدة ألقاها عند إنشاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة‪.‬‬

‫‪- 230 -‬‬


‫َــت ِمــ ْن ِشــدّ ِة ال ّت َع ِ‬
‫ــب‬ ‫َح ّتــى َل َقــدْ لَ َهث ْ‬ ‫نُكَ ّر ُرهَــا‬ ‫َــم لَ ْف َظــ ٍة ُجهِــدَ ْت ِم ّ‬
‫ــا‬ ‫ك ْ‬
‫ــن ُمرتَ ِق ِ‬
‫ــب‬ ‫َــم تَ ْنظُــر الشّ ــ ْم ُس ِم ْن َهــا َع ْ َ‬
‫ل ْ‬ ‫ُمظْل َمــ ٍة‬ ‫َولَ ْفظَــ ٍة ُســجِ َن ْت ِف َجــ ْو ِف‬
‫ــــــب‬
‫ِ‬ ‫ــس َمــا تَ ْب ُنــونَ لِلْ َع ِق‬ ‫ُه َنــا يُؤ َّس ُ‬ ‫ُم َخلّــدَ ٌة‬ ‫يَــا شــي َخ َة الضّ ــا ِد َوال ّذكْــ َرى‬

‫ُ‬
‫الشبيبـة واللغـــــــة‬
‫(*)‬
‫للشَّ اعر يوسف فضل الله سالمة‬
‫ـرب‬
‫ـت الضّ ــاد أو هانــت بهـــا العــ ُ‬ ‫إنْ هانـ ِ‬ ‫الـــتفرنج لألوطــــان مفخــر ًة‬‫ُ‬ ‫لـــيس‬
‫غتصــب؟‬ ‫وحقّنــا فـــي يــد األغيـــار ُي َ‬ ‫حــق يؤ ّيــده‬ ‫ٍّ‬ ‫أنعضــد الغـــر فــــــي‬
‫وقـــد تـوالـــت عـــى إهاملنـــا الحقــب‬ ‫ـاألخالق قـــد فسدت‬‫ُ‬ ‫ذي شـــيم ُة الــ ّ‬
‫ـذل فــ‬
‫أعـــراب يجتاحهـــا اإلهــال وال ُّنــوب‬ ‫وإنَّ أعـــظم عـــا ٍر أن نــرى لغــة الْـــــ‬
‫الســخط والغضــــــب‬ ‫ويســتف ّز حمـانـــا ّ‬ ‫وال نقـيـــم لهـــا الـدنيـــا ونُقعـدهــــا‬
‫ألنهــا فـــي عالهـــا امللجــأ ال ّرحـــــــب‬ ‫ـب‬ ‫تضيــق فـــي وسعهـــا الدنيــا عــى رحــ ٍ‬
‫ونبذهـــا شـــ ُّر عـــا ٍر مـــا بــه ِريَـــــــب‬ ‫فدرسهـــا مفخــ ٌر ال يُستهـــان بــــه‬ ‫ُ‬
‫بفضلهـــا وعالهـــا يـزدهـــــــي األدب‬ ‫ِ‬
‫أ ُّم اللغــات وأعـالهـــا وأفضلهـــــــــا‬
‫ُجـــب َخ َبــب‬
‫را ولبنـــانَ والفيحـــا ت ْ‬ ‫مـــ ً‬ ‫وســل‬
‫ْ‬ ‫ســلِ الجزيــر َة عـنهـــا والعــر َاق‬
‫منكـــم للحــق يـــطّلب‬
‫ُ‬ ‫ولـــيس مـــن‬ ‫ــم‬
‫حــق الضـــاد مهتضَ ٌ‬ ‫يعـــرب ُّ‬‫َ‬ ‫أبنـــا َء‬
‫ـم األمثــال قـــد رضبـــوا‬ ‫فـــي صــون حقّهـ ُ‬ ‫ألستـــم ال ُعــ ْرب أمجـــادًا غطـــارف ًة‬ ‫ُ‬
‫أالَ اربــؤوا إنَّ ِعــرض الضــاد يُســتلَب‬ ‫صــونُ اللغــات ِصيـــان العــرض نحسبـــه‬
‫اإلثــم ُيرتكَــب‬
‫ُ‬ ‫أعاجـــم اللفـــظ بئــس‬ ‫ُ‬ ‫ف ْهــي البتـــول التــي فَضَّ ــت بكـارتَهـــا‬
‫متـــوت قـــوم ّي ُة األعـــراب والحســب‬ ‫ـب ذنــب ِطــاب العلــم حيــث بهـــم‬ ‫الذنـ ُ‬
‫ومـــا ألجدادهـــم عـــابوا ومــا دأبـــوا‬ ‫بـاهـــوا بـــدرس لُغــى األغيــار واجتهــدوا‬
‫ونحــن نهــدم مـــا أجدادنــا نصبـــوا‬ ‫فـــالغريُ يبنــي عـــى أنقـــاض دولتــه‬
‫ونحــن نســعى ملـــا مــن شــأنه العطــب‬ ‫والغـــرُ يســعى ل ُيعلـــي شــأنَ أمتــه‬
‫يـــدكّ مـــن حصنهـــا العالـــي فينقلــب‬ ‫فـــالضا ُد تــرأ ممـــن تحــت رايتهـــــــا‬
‫مــا تســتح ّبون يف «بـــونجو َر» مــن لغــ ٍة‬ ‫ــع دونــه الـبهتــــان والكـــــــذب‬ ‫تَط ّب ٌ‬
‫ـأس مـــن درس مـــا للغـــر مــن لغ ـ ٍة‬ ‫ال بـ َ‬ ‫ره ضـــاقت بـــه الكتــــــب؟‬ ‫كال ِمكــم حـ ُ‬
‫فإنهــا اللغــة الفصحــى فــا شقيـــت‬ ‫ُبعـــ ْيدَ أنْ لغــ َة األعـــراب تكتســبوا‬
‫«أ ُّم اللغــات» وال هـــانت بهـــا العـــــرب‬ ‫«أ ُّم اللغــات» وال هـــانت بـهـــا العــرب‬

‫(*) شاعر من بعلبك (شرقي لبنان) أصدر جريدة «العرص» توفي عام ‪1951‬م‪.‬‬

‫‪- 231 -‬‬


‫وا رمحتـا للضــاد‬
‫(*)‬
‫للشاعر علــي الز ّواق‬
‫أم كـــان فيـــه تف ُّجعـــي وشقـائـــي؟‬ ‫الصــدا ِح عزائـــي‬ ‫قـــل لـــي أفـــي ذاكَ ُ‬
‫سلـــوى إىل الغربــاء والـبؤســـاء؟‬ ‫بـــالله هــل فـــي صـــوتك الف ّتــان مـــن‬
‫فـــيذوق جفـنـــي نشـــو َة اإلغفـــــــاء‬ ‫فعســـى بشــدوكَ أن أهـــ ِّونَ محنتـــي‬
‫ال عـــن غ ًنــى كـــــا وال حسنــــــــاء‬ ‫ــــــم‬
‫ٌ‬ ‫إنـــي كمـــثلك يـــا هَــزا ُر متــ ّي‬
‫نعيـــم فـنـــــــاء‬
‫َ‬ ‫أبـــدً ا وال أهـــوى‬ ‫هيهـــات‪ ،‬ال أهـــوى متـــ ُّو َه دُمــــي ٍة‬
‫سفـــاسف ال ُخلَعـــاء‬
‫َ‬ ‫نبــذت‬
‫ُ‬ ‫ـ ِكنـــي‬ ‫التشبـــيب لَــــ‬
‫َ‬ ‫وأنـــا كمـــثلك أُ ِ‬
‫حســن‬
‫وتش َّبثـــوا مبطـــــــارف األهـــــــواء‬ ‫فتـــركت ذاك ملعـشـــ ٍر قـــد أُولعـــوا‬
‫ــب وفـــي الصهبـــــــاء‬ ‫ٍ‬
‫ومطـــارف قُشْ ٍ‬ ‫هــت‬ ‫حسبـــوا السعـــادة فـــي فتـــا ٍة ُم ِّو ْ‬
‫علقــــم األرزاء‬
‫ِ‬ ‫نُ ورصفــه مـــن‬ ‫يـــا ويــح َنفســـي كــم يجـ ِّرعهـــا الزمــا‬
‫َــت فـــي أعضـــايئ‬ ‫طـــول الليـالـــي ف ّ‬ ‫ِيـــــــت كثــــاكلٍ متف ّجـــــــعٍ‬ ‫ُ‬ ‫أبـــداً أب‬
‫قــي العمـــ َر فـــي بأســـــاء‬ ‫وأنـــا أُ ِّ‬ ‫يـقضـــي األنـــا ُم حيـاتَهـــم يف ِغبطــ ٍة‬
‫أحـــرقت أحشـائـــي‬‫ْ‬ ‫خطبـــي همـــو ٌم‬ ‫حظــي يعاكـــسه الزمـــانُ وضـــاعفت‬
‫مـــا شــاد قـــومي مـــن عظيـــم بـــاء‬ ‫وقعــت حيـــــــال أطــــــالٍ أرى‬ ‫ُ‬ ‫ملـــا‬
‫مـــا إنْ تـــرى فيهـــا ســـوى األصــــــداء‬ ‫أنـــيس حيـالهـــا‬ ‫َ‬ ‫دوارس ال‬
‫َ‬ ‫أمســت‬
‫هـــم آبائــــــي‬ ‫ُ‬ ‫ُشفـــاتِ ِه قـــو ٌم‬ ‫نفســـي مجـــدٌ قـــد بنــى‬ ‫َ‬ ‫ولقـــد شجـــا‬
‫ديـــ َن العـروبــــ ِة صهـــــو َة العليـــاء‬ ‫قـــو ٌم لهـــم دانَ الزمـــانُ فأسكنـــوا‬
‫مـجـــدً ا يطـــاول مفــر َِق الجـــوزاء‬ ‫وب َنــوا عـــى هـــام الخلـــود وأثّلـــوا‬
‫ونــرت عـــن تلــك الطلـــولِ دمائـــي‬ ‫ُ‬ ‫فغــدوت أرثـــي مجـدَ هـــم وفخـــا َرهم‬
‫هـــذي البـــا َد فريســ َة ال ُجشَ عـــاء‬ ‫ويضيـــق بـــي رحــب الوجـــود إذا أرى‬
‫ورجالهــــــا فـــي محنـــــ ٍة وعنــــاء‬ ‫وأرى الصحـــاف َة فـــي حصـــا ٍر دائــم‬
‫تُز َجــى لهـــن معـاشـــ ُر الزعمـــــــاء‬ ‫والضـــاد ُيـــنع والسجـــون تف َّتحــت‬
‫وارحـمتـــــ ًـــا ل ُحمـاتــــــه السجنـــــــاء‬ ‫وســط بــــــــــاده‬ ‫َ‬ ‫وارحمتـــا للضـــاد‬
‫أولـــــو النهــــى وساللـــــ ُة النجبـــــــاء‬ ‫ألنتـــم‬
‫ُ‬ ‫قـومـــي ِفداكـــم مـــا أعــ ّز‬
‫تـــركوا لنـــا مـــن أســـــو ٍة سمحـــــاء‬ ‫آبـاؤنـــا يـزهـــو الزمـــان بذكــر مـــــا‬

‫(*) شاعر جزائري‪ ،‬من مدينة «البليدة‪ ،‬توفي عام ‪1947‬م‪ ،‬نشر أغلب قصائده في مجلة «البصائر» الجزائرية‪.‬‬

‫‪- 232 -‬‬


‫ُأم اللغات هـي امل ُ َنى‬
‫(*)‬
‫للشَّ اعر حليـــم دمــوس‬
‫ْــت مـــــدادي‬ ‫لكــرت أقالمــي و ِعف ُ‬ ‫ُ‬ ‫لــ ْو ملْ تكــن ُأم اللغــات هــي امل ُ َنــى‬
‫كانــت لنــا بــرداً عــى األكبـــــــا ِد‬ ‫وقعــت عــى أسامعنــــــا‬ ‫ْ‬ ‫لغــ ٌة إذا‬
‫لناطـــــق بالضــــــا ِد‬
‫ٍ‬ ‫فهــي الرجـــــا ُء‬ ‫ستظـــــل رابطـــــة تؤلـــــف بيننــــا‬
‫أوحـــــى لهـــــا يقظـــــة األفـــــرا ّد‬ ‫وإذا أراد اللـــــه يقظـــــة أمــــــ ٍة‬
‫بيـــــن الديــــــار تباعـــــد األجســـــا ِد‬ ‫وتقـــــارب األرواح ليــس يضــــــر ُه‬
‫تهــــدي الشعـــــــا َع ألن ُجــ ٍد و َوهــــــا ِد‬ ‫الشــمس وهــي بعيــد ٌة‬‫َ‬ ‫أفــا رأيــت‬
‫والقــوم قومــــي والبـــــاد بــــــادي‬ ‫س ُت أرى األنــا َم أحبتــي‬ ‫أنــا كيــف ِ ْ‬
‫طــي فـــــــؤادي‬ ‫ِّ‬ ‫والنيـــــل كاألردن‬ ‫بــردى كدجلــة‪ ،‬والفــرات محبــة‬
‫كالصالحيــــــــة مرقــــــد ال ُع َّبــــــا ِد‬ ‫وأرى الرصافـــــة يف العــراق وكرخهـــــا‬
‫كنخيــل مصــــــر يف ظــال الــــــــوادي‬ ‫والغوطتــن وكــــــ ْر َم وادي زحلــــــ ٍة‬
‫ِْ‬
‫كحفيــف ذاك النخــــــــل يف بغـــــــدا ِّد‬ ‫وحفيــــف هــــذا األَ ْر ِز يف لبنانــــــه‬

‫أنــا ال أهـــــوى ســـــــواها‬ ‫ال تلمنــــــي يف هواهـــــــا‬


‫كلنــــــا اليـــــوم فداهــــــا‬ ‫ـت وحـــــدي أفتديهــــــا‬ ‫لسـ ُ‬
‫ومتشـــــت يف دماهـــــــا‬ ‫نفــــــس‬
‫ٍ‬ ‫نزلـــت يف كـــــل‬
‫وبهــــــا الوالــــــد فاهـــــــا‬ ‫ــــــت‬
‫ْ‬ ‫فبِهــــــــا األم تغ ّن‬
‫وبهــــا العلــــم تباهـــــى‬ ‫ّ‬
‫تجــــى‬ ‫وبهــــــا الفــــــن‬
‫زادهـــــا مدحــــاً وجاهـــــا‬ ‫كلمـــــــا مــــــ َّر زمــــــان‬
‫رفـــــع اللــــــه لواهــــــا‬ ‫لغـــــة األجـــــداد هــــذي‬
‫نهضــة تحيــي رجاهــــــا‬ ‫فأعيــدوا يــــــا بنيهــــــا‬
‫يف هواهــــا واصطفاهـــــا‬ ‫مل ميــت شعـــــب تفـــــاىن‬

‫الشعر وهو في العاشرة‪ ،‬ومن أعماله‪« :‬ديوانُ حليم»‪ ،‬ومجموعة شعرية مصورة‬
‫(*) شاعر لبناني (‪1957-1888‬م) نظم ِّ‬
‫ضمنها بطوالت العرب‪ .‬وله مؤلفات أخرى مثل‪« :‬قاموس‬
‫«املثالث واملثاين»‪ ،‬ومجموعة «صدى الجنان»‪ .‬وملحمة ّ‬
‫ُ‬ ‫بعنوان‬
‫األعالم»‪ .‬وديوان (يقظة الروح) أهم دواوينه؛ فقد كتب قصائده متضمنة جميع سور القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪- 233 -‬‬


‫للغـــة العربيــــة‬
‫(*)‬
‫للشَّ اعر أبو بكر بن البشري‬
‫بفضـــاء صــــدري حـ ُّبهــــــا يتضـــــ ّر ُم‬ ‫ـــــم‬
‫إنِّـــي أســـر غرامهـــــا ومتـــ ّي ُ‬
‫َ‬
‫العقـــول عيـونُهـــا والـــمبسم‬ ‫تسبـــي‬ ‫سحـــرت فــؤادي يـــا لهـــا ف ّتانــــــ ًة‬ ‫ْ‬
‫يـــتبسم‬
‫َّ‬ ‫فــإذا الـوجـــو ُد بنورهـــــــا‬ ‫ملكــت شعـــوري حيـــن الح جاملُهـــا‬ ‫ْ‬
‫فـــي ليلــ ٍة ظَلْمـــا وقـومـــي نُـــــــ ّوم‬ ‫طلعــت طلـــو َع البـــد ِر لـــيل َة ِتّــ ِه‬ ‫ْ‬
‫والشـــوق ينمـــو والـــوصال يُســلّم‬ ‫ُ‬ ‫فــإذا الســـرو ُر يهـ ّزنـــي فـــي ســـرع ٍة‬
‫والقلـــب يخـــفق والهـــوى يتكلّــــــم‬ ‫ُ‬ ‫قـــمت مســلّامً‬ ‫ُ‬ ‫فـــي خمــرة الـمجنـــونِ‬
‫ُ‬
‫الجمـــال بـوجههـــا يـتبــــــ َّرم‬ ‫فــإذا‬ ‫نـاجي ُتهــــــا بصبـابــــــ ٍة ومح ّبتــــــــــي‬
‫حتــى بـــدت عـــن لـــوع ٍة تتكلّــــــم‬ ‫عـــا بهــــا‬ ‫ّ‬ ‫فسألـ ُتهـــا فـــي دهشــ ٍة‬
‫تشكـــو األســـى فـــي ُحرقــ ٍة تتألّــم‬ ‫وســحائب الـتفكـــرِ فـــوق جبـينهـــا‬ ‫ُ‬
‫ظــل الوجـــو ُد لـبؤسهـــا يرت َّحـــــم‬ ‫ّ‬ ‫عــت قلبـــي الحـزيـــ َن بآهــ ٍة‬ ‫قـــد ر ّو ْ‬
‫ونشيـدهـــم هـــ َّيا بنــا وتقـدّ مـــوا‬ ‫كل الـــورى ِعــ ّزي وفخــري غايــ ٌة‬ ‫ُّ‬
‫بهـزيجــــــه ُمستعـــر ٌِب ُمستعجــــــم‬ ‫صوتـــي جهـــو ٌر فـــي الحيـــاة وقــد شــدا‬
‫آيـــات حســنٍ ِشعـ ُرهـــا يتـرنَّـــــم‬ ‫ِ‬ ‫قلبـــي فخـــو ٌر فـــي الحيـــاة وقـــد حــوى‬
‫عـرب ّيــــــــ ٌة ف ّتانـــــــ ٌة ال تُفــــــح‬ ‫وأنــا أنـــا لغــ ُة الفضـــيل ِة والهــدى‬
‫كـــاد الفــؤا ُد لبؤسهـــا يـتحطَّــــــــم‬ ‫لغــ ُة العروبــ ِة بينهـــم فـــي حســـر ٍة‬
‫لكـــ ّن قلبـــي بـاألســـى ُمتجشِّ ــم‬ ‫قلبـــي وقلـــبكَ بـــالغرام تسـاويـــا‬
‫عـربـــ ّي ٌة ولنـــا ال َفخَــــــا ُر األعظــــــم‬ ‫لغـــــ ٌة بـهـــــا سدنـــــا وعــ َّز ْت أمــــــ ٌة‬
‫سيحـــال لالتـيـــن وهـــو ُمتـر َجـــــــم‬ ‫وكتـابنـــا قـرآنُنـــا يـــا لـوعتـــــــي‬
‫لبنـــاء مجـــــ ٍد بـالخلــــــود يُ َو َّســـــــم‬ ‫ُمــدّ وا اليميـــ َن فـــ َمن ســعى بحمـــاس ٍة‬
‫لحمـايــــــة القـــرآنِ دومـــــاً تخــــــدم‬ ‫ّــاظ مـــن أبنـائنــــــا‬ ‫حتــى نــرى ال ُحف َ‬
‫إين أسـيــــــــ ُر غرامهـــــــا ومتــــ َّيــــــم‬ ‫ونشيـدُ نـــا فـــي غبطـــــ ٍة وسعـــاد ٍة‬

‫(*) شاعر تونسي( ‪1987 - 1918‬م) ولد بمدينة صفاقس‪ ،‬التحق بجامع الزيتونة ونال شهادة التحصيل في العلوم‪ ،‬كما‬
‫ال لجريدة "األخبار" بصفاقس‪ .،‬كان عضواً نشطاً بعدد من الجمعيات‬ ‫زاول التعليم العالي‪ ،‬واشتغل بالصحافة مراس ً‬
‫الثقافية‪ .‬كتب لإلذاعة التونسية الكثير من األعمال الدرامية التاريخية‪.‬‬

‫‪- 234 -‬‬


‫ُأم اللغــــات‬
‫للشَّ اعر اللبناين نجيـب بالوظـــة‬
‫يـــنهل دمعــك بكـــــر ًة وأصـيـــــــا؟‬ ‫ُّ‬ ‫مـــا يل أراكَ أخـــا ال ّنهــى مهــــــزوال‬
‫غــدوت متـ ّيمــــــاً م ْتبـــــــوال‬‫َ‬ ‫فـيهـــــا‬ ‫تعـــشق غــــــاد ًة عـربـــ ّي ًة‬ ‫ُ‬ ‫أفأنـــــت‬
‫َ‬
‫تحسبينـــــي عـاشقــــــاً ُعطْبــــــوال‬ ‫ال َ‬ ‫والدمــع يشبـــهُ خدَّ هــــــا‬ ‫ُ‬ ‫فأجب ُتهـــا‬
‫الفصـــيح وآثــــــروا املبــــــذوال‬
‫َ‬ ‫عـــافُوا‬ ‫بنـــت الضّ ــا ِد ِمــ ْن أبنائِهـــا‬ ‫ِ‬ ‫ويــل‬
‫يـــا َ‬
‫حيــح وواصلـــوا املعلــوال‬ ‫الص َ‬ ‫هجــروا ّ‬ ‫يعـــرب والعروبــ ُة أ ُّم ْ‬
‫هـــم‬ ‫َ‬ ‫أبنـــا ُء‬
‫َ‬
‫املعقـــول واملنقـــــــوال‬ ‫قـــد ض ّيعـــوا‬ ‫ُهـــــــم وكهولُهـــــــم وشيوخُهــــــم‬ ‫ْ‬ ‫ش ّبان‬
‫ّغــات بـديـــــــا‬ ‫يــرض عـــن أ ّم الل ِ‬ ‫َ‬ ‫مل‬ ‫مـــن كانَ ُحــ ّراً للعـروبــــــ ِة ينتمـــي‬
‫ِّلــــــت تذلـيـــــــا‬
‫ْ‬ ‫وقطـوفُــــــه قـــدْ ُذل‬ ‫أيـــنعت مثـراتُــــــهُ‬
‫ْ‬ ‫روض العـــروب ِة‬ ‫ُ‬
‫لـــت تفصـيـــــــا‬ ‫آيـــات أ ِّمــكَ ف ُِّص ْ‬ ‫ُ‬ ‫يعـــرب نــــــاد ًما‬
‫َ‬ ‫ارجــع أل ّمــكَ يـــا بــ َن‬ ‫ْ‬
‫ـمح ال َّزمـــانُ بهــــــا وكـــانَ بخـيـــــــــا‬ ‫سـ َ‬ ‫ســـادت عـــى أقـرانِهــــــا ببـــــــدائعٍ‬ ‫ْ‬
‫عـــرش ال ُعــا إكليــــــا‬‫ِ‬ ‫حملــت عـــى‬ ‫ْ‬ ‫شــئت غـــ َر مدافَــعٍ‬
‫َ‬ ‫فـــاخ ْر بهـــا َمــ ْن‬
‫ِ‬
‫اللغــات ُذيــــــــوال‬ ‫كل‬
‫ســحبت عـــى ِّ‬ ‫ْ‬ ‫النـــاس عـــن تاري ِخهــا‬
‫َ‬ ‫جهلـــت‬
‫َ‬ ‫ــل إنْ‬ ‫َس ْ‬
‫هـــاتوا لنــــــا شَ َبــــ ًها لهـــا ومثـيـــــــا‬ ‫روائــــع آيهــــــا‬
‫َ‬ ‫قـــل لــأىل جحـــــدوا‬ ‫ْ‬

‫لغــــة الفرقـــان‬
‫(*)‬
‫للشَّ اعر إبراهيـم العالف‬
‫إليــك أجــوس العمـــ َر‪ ،‬ظآمنــا‬ ‫ِ‬ ‫شــوقًا‬ ‫ِ‬
‫أحيـــاك إنسانـــا‬ ‫ِ‬
‫أهـــواك يـــا لغتـــي‪،‬‬
‫حــس ســح َر ِك يســـري ِفَّ طوفانــــا‬ ‫أُ ّ‬ ‫منســجم‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫أهـــواك مـــنذ الصبـــا‪ ،‬ألتــ ّذ‬
‫الليــل سهرانــــا‬
‫َ‬ ‫بيـــن الدواويــنِ أطــوي‬ ‫نعمــت بـدنيـــا الشعـــ ِر مندمـــ ًجا‬ ‫ُ‬ ‫فكــم‬
‫ـــــــدت حرمانـــــــا‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫ّقــــــــات‪ ،‬مـ ّج‬ ‫محل‬ ‫سعـــــدت بـــــــآرا ٍء‪ ،‬وأخــــيل ٍة‬
‫ُ‬ ‫وكـــــم‬
‫ـت عـرفانــــــــا‬ ‫وفلسفــ ٍ‬
‫ـات‪ ،‬وكـــــم أثريــ ُ‬ ‫بـــومضات مشعـــشع ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫حظيــت‬
‫ُ‬ ‫وكــم‬
‫ولألساليـــــــب قـــد أعجــزنَ تِبيـانــــــــا‬ ‫رصعــــــ ٍة‬ ‫ٍ‬
‫أللفــــاظ ُم ّ‬ ‫هفـــــوت‬
‫ُ‬ ‫وكــم‬
‫كالهمـــا خلّـــــدا للشعـــــــر بُنيـانـــــــا‬ ‫عـــــت مـــن وزنٍ وقـافــيــــ ٍة‬ ‫ُ‬ ‫وكــم مت ّت‬
‫وأنجبــت مـــن حصيــف الفكــ ِر ألـــوانا‬ ‫ْ‬ ‫ثقافــات ُمرتجمــ ٍة‬
‫ٍ‬ ‫صاهـــرت مـــن‬
‫ْ‬ ‫كــم‬

‫(*) شاعر سعودي (‪1991 - 1931‬م) درس في كلية دار العلوم بالقاهرة‪ ،‬وشغل وظائف مختلفة بالمملكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬له خمسة دواوين‪ ،‬منها ‪« :‬أشواق وآهات»‪ ،‬و«وهج الشباب»‪« ،‬آفاق وأعامق»‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫‪- 235 -‬‬


‫فعــاث ُيوســــع متزيـقًــــــا وإثخانــــــا‬ ‫َ‬ ‫غــر بغفوتهــــا‬‫ــــص ُم َ ٌّ‬
‫وكـــــم تَر ّب َ‬
‫ُمخ َّي ًبــا‪ ،‬سـامـــــــه القـــرآنُ ِخذالنـــــا‬ ‫يــأس وقهقـــر ٍة‬
‫ٍ‬ ‫ثـــم استفـــاق عـــى‬
‫دقيـــق ًة تُبطــــــن اإليحـــا َء ف ّتانــــــــا‬ ‫ِ‬
‫أفديــك يـــا لغتــــي‪ ،‬أفديــك زاخــر ًة‬
‫فـــي فـ ّنانــــــا‬
‫منـــي الصفـــا َء اســتف ّز ْت َّ‬ ‫وجــدت‬
‫ْ‬ ‫تغلغلــت فـــي دمـــي حتــى إذا‬
‫ْ‬
‫ــــل تلقـــــاه َجذالنــــــا‬
‫ونعـــم مستق َب ٌ‬
‫َ‬ ‫رضهــــــا‬ ‫نِعـــم التــــر ُ‬
‫اث وماضيهـــــا وحا ُ‬

‫اللغــة والبلبـل‬
‫(*)‬
‫للدكتور عبــده بدوي‬
‫حولــك يف صمتــي وإنشــادي‬ ‫ِ‬ ‫ُرت‬
‫ود ُ‬ ‫عطــرك يف صحــراء أجــدادي‬ ‫ِ‬ ‫تابعــت‬
‫ُ‬
‫مــن الجِ نــانِ ‪ ،‬ومــن تفاحهــا النــادي‬ ‫مازلــت أذكــ ُر حرفــاً فيــه وسوســ ٌة‬ ‫ُ‬
‫دارت بكلمــ ِة «بســتانِ » عــى الــوادي‬ ‫مســاحات ُمهدَّلــ ٍة‬‫ٍ‬ ‫وفرحــ ًة مــن‬
‫وكيــف أضحــى «نخيـ ٌـل» غُنــو َة الحــادي؟‬ ‫هطلــت‬
‫ْ‬ ‫وكيــف صــارت «غيــو ُم» ِكلْمــ ًة‬
‫الخيــام التــي شُ ــدَّ ْت بأوتــادي‬ ‫ِ‬ ‫ُــرب‬
‫ق َ‬ ‫أنبتــت َر َجــزاً‬
‫ْ‬ ‫كنــت دوحــ َة بــالٍ‬ ‫ِ‬ ‫قــد‬
‫ائــح غـــــــادي‬‫التــأس ر ٌ‬
‫ِّ‬ ‫فالحــب رغــم‬ ‫ُّ‬ ‫هــودج عشــق‪ ،‬فيــه زلزلــ ٌة‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫وكنــت‬
‫وأصبحــوا‪ ،‬واألمــاين عنــد ميعـــــــــا ِد‬ ‫وكنــت قصــة فرســانٍ قــد انهمــروا‬ ‫ِ‬
‫–كل الكــونِ ‪ -‬يف الضــاد‬ ‫فأصبــح الكــون ُّ‬ ‫الوحــي مبتهِجــاً‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫فيــك‬ ‫َّــق‬
‫حتــى تدف َ‬
‫بالنــو ِر يف «كعب ـ ٍة» بالشِّ ــعر يف «النــادي»‬ ‫فاضــت قداســته‬ ‫ْ‬ ‫اللــهَ ! يــا فجرهــا‪،‬‬
‫رق شــادي‬ ‫عــى «القباطــي» بركــنٍ ُمــ ِ‬ ‫ْــت لــ ْو كانــت ٌُمعلَّقتــي‬ ‫لكــم متن ّي ُ‬ ‫ْ‬
‫«قريــش» فــوق آبــــــــا ِد‬ ‫ٌ‬ ‫قــد علَّقتهــا‬ ‫كنــت لؤلــــــــؤ ًة‬ ‫ِ‬ ‫كل مكــــــــانٍ‬ ‫ففــوق ِّ‬
‫وطــارق ُمب ِحــ ٌر يف ُبعــد أبعـــــــــا ِد‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫أناقــــــــات وزركشـــــــ ًة‬ ‫ِ‬
‫غــدوت‬ ‫وقــد‬
‫والشــوكُ غطــى مــع البغضــاء أمجــادي‬ ‫ر عابثـــــــــ ًة‬ ‫رأيتــك بــن العــ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ ..‬ملَّــا‬
‫الشــمس عــن ور ٍد وأحفــادي‬ ‫َ‬ ‫ويجــذب‬
‫ُ‬ ‫ــل يف أعــاق عاملِنــا‬ ‫والصمــت يُو ِغ ُ‬ ‫ُ‬
‫واضــح بــــــــادي‬
‫ٌ‬ ‫وللفجاجــ ِة ُع ٌ‬
‫قــم‬ ‫ــــل‬ ‫ـرس صاخــــــب مثِ ٌ‬ ‫وللركاكــــــ ِة ُعـــــ ٌ‬
‫الخصــب يف خــويف وأورادي‬ ‫َ‬ ‫يُجــدِّ ُد‬ ‫دم‬ ‫قالــت حروفــك‪ :‬لــ ْن أبقــى بغــر ٍ‬
‫َّــت كأعــوا ِد‬
‫عــى الفــروعِ التـــــي جف ْ‬ ‫ـت كـــــ ُّـل أيامــي بــــــا جـــــــزعٍ‬ ‫فه َّومـ ْ‬
‫أنــت عــى وعــ ٍد مبيــــــــا ِد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وكنــت‬ ‫يبســم قلبــي وهـــــــو يف أ ٍمل‬ ‫ُ‬ ‫قــد كان‬
‫ر وارتـــــــادي‬ ‫وغــ ِّردي لألمــانِ الخُــ ِ‬ ‫فهلِّــي مــل َء هــذا الكــونِ ‪ ،‬وابتهجــي‬

‫(*) شاعر مصري‪ ،‬أستاذ األدب والنقد في بعض الجامعات العربية واإلسالمية (‪1927-2007‬م) ومؤسس مجلة «الشِّ عر»‬
‫المصرية ورئيس تحريرها‪.‬‬

‫‪- 236 -‬‬


‫اللغــة الباكيــة‬
‫(*)‬
‫للشاعر جبـران بن محمد قحل‬
‫الصبـــاح وفـــي الـــمسا ِء‬ ‫وأبكـــي فـــي ّ‬ ‫أنـــا الفصحــى أنـــو ُء بـــ ُم ِّر دائــــــي‬
‫مـــن املــرض الخطـــر عـــى بِنائــــــي‬ ‫وأخــى فـــي الحيـــاة عـــى مصـــــري‬
‫وفـــــي داري الحصيـنــــــة بـالفنـــــــاء‬ ‫يُهدِّ دنـــي عـــد ِّوي بيـــن أهلــــــــــي‬
‫فــإنَّ اللحــــــ َن يُفقـدنــــــي ُروائـــــــي‬ ‫عـــد ِّوي اللَّ ْحــ ُن ال أخــى ســــــــــواه‬
‫فـــيغضب سيبـويــــــــ ِه‪ ،‬والكـسائــــــي‬ ‫يـم ّزقنـــي الـــمذيع بفـــــ ِ‬
‫ـرط لحـــــــــنٍ‬
‫بـــا خجـــــلٍ ويطعـــــــن كربيـائــــــي‬ ‫دروس‬
‫ٍ‬ ‫ويفضحنـــي املـــــد ّرس فـــــــي‬
‫ـت مـــن َع َنـ ِ‬
‫ـت الشّ قـــــاء‬ ‫فكــــــم عـانيــ ُ‬ ‫ــرى‬ ‫الحــــــق َح ْ‬
‫ِّ‬ ‫أنـــا الفصحــى وأ ْيــم‬
‫أرونـــي َمــ ْن تســ َّبب فـــــي عنـائــــــي؟‬ ‫أ ُرونـــي َمــ ْن تســ َّبب فـــــي بـالئــــــي؟‬
‫فــزادوا فــــــي بـالئــــــي واستيــــــايئ‬ ‫وأهــل الــدا ِر بـاتـــوا مـــن خصـومــــــي‬
‫كمـــا كـانــــــت تجــــــ ُّر إىل الـــــــوراء‬ ‫حـــروف الجـــ ّر عـنــــــدي ال أراهــــــا‬
‫ويُرفــــــع تـــــــار ًة وبــــــــا حيــــــــاء‬ ‫أرى مـــــا بعـدهــــــا بالنصـــب يُبنــــــى‬
‫ســـــــوى الشكــــــوى إليكـــم والبكـــــاء‬ ‫فيـــا أهـ َـل العـروبــــــة لـــيس عــنــــــدي‬

‫لغــة الضــاد‬
‫(‪)1‬‬
‫للشَّ اعر عثامن قدري مكانيس‬
‫يحــوي مــن األُكُل الف ّيــاض ألوانــا‬ ‫صادفــت بســتانا‬
‫َ‬ ‫ُــل يل بربــك‪ :‬هــل‬ ‫ق ْ‬
‫أو الثمـــــــار تـــــدىل فيــه أفنانـــــــا‬ ‫فيــه الفواكــــه ممــــا طــاب ُمغرســـــها‬
‫كدفقــة الـــروح تزجــي الخــر ر ّيانــــــا‬ ‫جــل اللـــــه باجســــــها‬
‫أو الينابيـــــع‪َّ ،‬‬
‫فيــه‪ ،‬يراقــص غصــ َن الحــور هيامنــا‬ ‫ـال األنــس مائســــ ًة‬
‫يهــوى النســيم ظــــ َ‬
‫بعطــر أنسامهــــــا ينســــــاح نشوانـــــــا‬ ‫أو العصاف ـ ُر ســكرى تنثنـــــي طربــــــ ـاً‬
‫ِ‬
‫آيــات د ٍّر‪ ،‬بهـــــا قــد جـــــدت فنانــــــا‬ ‫تبــارك اللــه‪ ،‬هــذا الفضــــــل ألهمنـــــي‬
‫قلب ـاً تف ّجــر حبـــــ ـاً‪ ،‬فــــــاض تحنانــــــا‬ ‫أُس ِّبـــــح اللـــــه‪ ،‬يحــــــدوين لحرضتـــــــه‬

‫قاضيا بمحكمة‬
‫(*) شاعر سعودي‪ ،‬ولد في جيزان(‪1994-1940‬م) درس بكلية الشريعة بجامعة اإلمام بالرياض‪ ،‬عمل ً‬
‫«صبيا»‪ ،‬ثم انتقل إلى حقل التعليم‪ ،‬وكان عض ًوا بنادي جيزان األدبي‪.‬‬
‫(‪ )1‬شاعر سوري‪ ،‬من مواليد حلب ‪1947‬م‪ .‬دكتوراه في اللغة العربية من معهد االستشراق في باكو‪ ،‬له عديد من‬
‫الدراسات اإلسالمية‪ ،‬واألدبية‪ ،‬وعدة دواوين‪ ،‬منها‪( :‬نبضات قلب‪ ،‬وميض قلب‪ ،‬دفقة قلب)‪.‬‬

‫‪- 237 -‬‬


‫ملّــــــا تشـــــ ّرف بالتنزيــــــل قُرآنـــــــا‬ ‫قــد شــاره مــن لســان الضــاد مفخــر ًة‬
‫دق ِعرفانــــــا‬‫معنــى بديــع‪ ،‬ولفــــــظ ّ‬ ‫لســاننا قــد ســــرى سحــــــراً‪ ،‬يؤلقـــــه‬
‫واللفــظ فيــه اســتوى قيعــاً وشــطآنا‬ ‫ــب‬ ‫أ َّمــا املعــاين فبحــ ٌر زاخــ ٌر َع َب ٌ‬
‫ونصطفــي مــن جميــل الــدر حصبانــا‬ ‫نســعى إليــه نهــاالً مــن مراشــفه‬
‫حــزت ألحانــا‬
‫َ‬ ‫أو ِشــ ْم َت لفظــاً لطيفــاً‬ ‫لــت أوفــره‬ ‫معنــى جليــاً نِ َ‬
‫ً‬ ‫ــت‬
‫إنْ ُر ْم َ‬
‫ـت بوميــض املــــــال دنيانــــــــا‬ ‫فه ّيجـــــ ْ‬ ‫ـت بعســجدها‬ ‫ـي قــد ِصي َغـ ْ‬‫إنْ كانــت ال َحـ ْ ُ‬
‫مــت قبــل أهــل العــن ُعميانــا‬ ‫قــد ت ّي ْ‬ ‫ٍ‬
‫شـــــــرف‬ ‫فــإنَّ أنــوار آي الضــا ِد مــن‬
‫يف كل آنٍ تــرى مــن حســنها شانــــــــا‬ ‫فهــي العرائــس ال تبــى عــى ِقـــــــدَ ٍم‬
‫بــل فاقتــه إحســانا‬ ‫كفلقــة البــدر‪ْ ،‬‬ ‫تهديــك كل جديــ ٍد مــــــن والئدهـــــــا‬
‫فــوق الوضــوح بيانــاً َّ‬
‫جــل تبيانــــــــا‬ ‫وصوغُهــا لصحيــح الفكــر يكسبـــــــها‬
‫نفثــاً يحــرك يف األعمــــاق أشجانــــــا‬ ‫والشِّ ــ ْع ُر أغــرودة اللهفــان يرسلــــــــها‬
‫ويلهــب القــوم إحساســاً ووجدانـــــــا‬ ‫يلقيــه نبضــاً يهيــم الســامعون بـــــــه‬
‫ويدفــع القــوم للميــدان شجعانــــــــــا‬ ‫يثــر فيهــم غــــ ـراس الخـــــر يانعـــــ ـ ًة‬
‫فيــه النســاء‪ ،‬ومــن إســتربقٍ زانــــــا‬ ‫ســندس ألَقَــاً‬
‫ٍ‬ ‫نســج حــوى مــن‬ ‫ٌ‬ ‫والنــرُ‬
‫ُجـ ّـى تســــــاوق يف األمثــــــان ِعقيانــــــــا‬ ‫ســمت يف قلبــه ِفكَــ ٌر‬‫ْ‬ ‫يعلــو بــه َمــ ْن‬
‫فيها الهــدى والنـــدى والعلــــم ما كانـــــا‬ ‫للــه د ُّر لســـــان الضــــــــاد منزلــــــ ًة‬

‫دمــع عبقــــــر‬
‫(*)‬
‫للشَّ اعر مح َّمــد حافـظ‬
‫ـرف دائــــــــم الحســــ ـر ِ‬
‫ات‬ ‫تأســــــى لحــــ ٍ‬ ‫مــن دمــع عبقــر أســتقي عــرايت‬
‫ِ‬
‫الصفحـــــات‬ ‫فبكـــــى وأبكـــــى أســطــــر‬ ‫أوقفتــــــه بــن السطـــــــور محدثــــــا‬
‫ِ‬
‫الطعنـــــات‬ ‫حتــــ��ى يصــــاب بأشـــــــرس‬ ‫مــا إن يــدا ِو الدهــر موضــع طعنــ ٍة‬

‫ِ‬
‫كاآليــــــات‬ ‫وعىل اللســــــان الحـــــر‬ ‫ناديــت‪ :‬إنـــــكَ يف الفــؤاد متـــــــوج‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫للغـــــات‬ ‫رى القــــــوم حـــــول رياد ٍة‬ ‫وبقيــت فخــرا للغــات إذا تبـــــــا‬
‫أو مــا تــــــرى فــوق الســطور بنـــــايت‬ ‫فــإذا النحيــب ينــوب عــن مــردوده‪:‬‬

‫(*) شاعر مصري معاصر‪ ،‬عضو رابطة األدب اإلسالمي العالمية‪ .‬يعمل في حقل التعليم‪.‬‬

‫‪- 238 -‬‬


‫وفنــون نثـــــــر مل تجــــــد قنــــــ ِ‬
‫ـوات‬ ‫درراً مــن الشِّ ــعر البديــع تناثــرت‬
‫مــا تدَّ عيـــــــ ِه �ثُلَّـــــــة لِ ُعــــــــدايت‬ ‫ويزيــد مــن وجــع الفــؤاد لهي َبــهُ‬
‫ِ‬
‫ملخرتعـــــــات‬ ‫م ٌ ‪ ..‬ليــس يل بــا ٌع‬ ‫باألمــس قالــت‪ :‬إننــي لغــة عقيـــ‬
‫ِ‬
‫األمــوات‬ ‫ــس عبــاءة‬ ‫ن يريــد لَ ْب َ‬ ‫هــي أحــرف بــادت ومــا عــاد الزمــا‬
‫دمغــوا املزاعــم ‪ ..‬أظهــروا حسنــــــــايت‬ ‫فــإذا الزمــان يجــود يل بأحبـــــــ ٍة‬
‫للطعــن دون تس ُّتــــــر وتُقـــــــا ِة‬ ‫ويــدور دورتــــه اللئيــــم وينبــــــري‬
‫أحــد يــرد ‪ ..‬عدمــت ر َّد ُحمـــــــا ِة‬ ‫ـم تــكال وليـــــس يل مــن بينكــــــم‬‫تُ َهـ ٌ‬
‫ِ‬
‫واللمحـــــــات ؟‬ ‫عقــل عقيــم الفهــم‬ ‫ذنــب «نــون النســوة» الغــراء يف‬‫َّ‬ ‫مــا‬
‫ـات ؟‬ ‫ـف الجامعــة يف لهيــب شتــــــ ِ‬ ‫كـ ُّ‬ ‫غــدت‬
‫ْ‬ ‫مــا ذنــب «واو للجامعــة» إ ْذ‬

‫فــوق القواعــد محنــــــة السـ ِ‬


‫ـقطات ؟‬ ‫ــم كلــا ســقطوا أراهــم علَّقــوا‬ ‫لِ َ‬
‫خــر الوســائل يف متــون نُحـــــــــا ِة‬ ‫يك يــرى‬‫تخصــص ْ‬
‫ه ـاَّ استشــاروا مــن َّ‬
‫ِ‬
‫لغــات‬ ‫ســمت الشــعوب عــى ســم ِّو‬ ‫إنَّ الشــعوب مــع اللغــات إذا ســمت‬

‫ِ‬
‫ــــــات‬ ‫َحس‬
‫أزمــن ن َ‬
‫ٍ‬ ‫تحســـــراً يف‬
‫ر ُّ‬ ‫يــا أحرفــاً ســالت عــى خــد الســطو‬
‫عهــد التقدم فـــــوق مـتـــن ُهــــــدا ِة‬ ‫ســيجيء دورك يف الحيــاة لتبـــــديئ‬

‫أسمـى اللغـات‬
‫شمس ((((·‬
‫للشَّ اعر جاك صربي َّ‬
‫أســمى اللغـ ِ‬
‫ـات ربيبـــــــة القــــــــرآن‬ ‫ِ‬
‫بروضــك الريَّـــــــــان‬ ‫هــا َم الفــؤا ُد‬
‫أ ْو أستعيـــــــر مرتجمـــــــاً لبيـــــــاين‬ ‫خاطــب بالرطانــة يعربــــــاً‬
‫َ‬ ‫أنــا لــ ْن أُ‬
‫ـت أُمـــــــي والـــــــدي وكيـــــــاين‬
‫وألنـ ِ‬ ‫أودعــت فيــك حشاشــتي ومشــاعري‬ ‫ُ‬

‫(( ( (*) شاعر سوري معاصر‪ ،‬عضو اتحاد الكتّاب العرب‪ ،‬ومن أكثر الشعراء المسيحيين كتاب ًة في «اإلسالميات»‪ ،‬له‬
‫كثير من المدائح النبوية‪ ،‬كما كتب قصائد عن «الحج» و«زمزم» و«رمضان» و«القرآن الكريم»‪.‬‬

‫‪- 239 -‬‬


‫فتضوعــت عبقــاً علـــــى األكــــــوان‬
‫ْ‬ ‫لغــة حباهــا اللــه حرفــاً خالــــــداً‬
‫وتســيل شــهداً يف فــــــم األزمــــــــان‬ ‫وتــأألت بالضــاد تشــمخ عـــــــــزة‬
‫ْ‬
‫واغــرس بــذور الضــا ِد يف الوجــــــدان‬ ‫فاحــذ ْر ‪-‬أخــي العــريب‪ -‬مــن غــدر املدى‬
‫أ ْو كان ِش ـ ْعركَ مــن بنــي «ريغــــــان»‬ ‫مــا كان حرفــكَ مــن فرنســا يقتــدى‬
‫ِ‬
‫اللغــــــات فصاحـــــة القـــــرآن‬ ‫خــر‬ ‫فلتقــــــل‪:‬‬
‫ْ‬ ‫نطقــت أيــا شــقيقي‬
‫َ‬ ‫ولــ ْن‬

‫‪- 240 -‬‬


‫من مصادر البحث‬
‫‐إبراهيم بدوي الجيالني‪ ،‬فن الرتجمة وعلوم العربية‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐إبراهيم السامرائي‪ ،‬يف رشف العربية‪ ،‬كتاب “األمة" الثاني واألربعون‪ ،‬قطر‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐أحمد حسين شرف الدين‪ ،‬اللغة العربية يف عصور ما قبل اإلسالم‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐السيد أحمد فرج‪ ،‬تعريب التعليم الجامعي رضورة‪ ،‬رابطة الجامعات اإلسالمية‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐أنور الجندي‪ ،‬الفصحى لغة القرآن‪ ،‬دار االعتصام‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐أنور الجندي‪ ،‬املؤامرة عىل الفصحى‪ ،‬دار االعتصام‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐تحية عبد العزيز‪ ،‬اللغة العربية أصل اللغات‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐حسين مجيب المصري‪ ،‬أثر املعجم العريب يف لغات الشعوب اإلسالمية‪ .‬‬ ‫‐‬

‫‐جالل الدين السيوطي‪ ،‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐رفائيل نخلة اليسوعي “األب"‪ ،‬غرائب اللغة العربية‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐زيجريد هونكه‪ ،‬شمس الله تسطع عىل الغرب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐عبد الصبور شاهين‪ ،‬العربية لغة العلوم والتقنية‪ ،‬دار االعتصام‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐عبده بدوي‪ ،‬أهمية تعلُّم اللغة العربية‪ ،‬جامعة الكويت‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐عدنان النحوي‪ ،‬دار النحوي‪ ،‬العربية بني مكر األعداء وجفاء األبناء‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐سليمان أبو غوش‪ ،‬عرشة آالف كلمة إنجليزية من أصل عريب‪.‬‬ ‫‐‬
‫‐ماريو ب ْ‬
‫ِل‪ ،‬تاريخ اللغات‪ ،‬ترجمة سامي خليل‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬دمشق‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐محمد عبد الشافي القوصي‪ ،‬العربية لغة الوحي والوحدة‪ ،‬الرياض‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐محمد عبد الشافي القوصي‪ ،‬مح َّمد ُمشت َهى األمم‪ ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‐‬

‫‐محمود األلوسي أبو الفضل‪ ،‬روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين‪.‬‬ ‫‐‬

‫‪- 241 -‬‬

You might also like