You are on page 1of 7

‫أبناؤنا ‪ ...

‬تعلموا منهم وعلموهم‬

‫بقلم محمد عبد الكريم يوسف‬

‫ال يمكن أن أنساها ما حييت ‪ .‬السيدة سلمى عكو رحمها هللا كانت‬
‫معلمتي في الصف الثاني االبتدائي في مدرسة السن ذات الشعبة‬
‫الوحيدة وكانت الداعم الكبير لي في مراحل تعلمي الباكرة ‪ .‬وبعد‬
‫انتهاء ذلك العام الدراسي لم نلتق أنا وإياها إال بعد عشرين عاما على‬
‫مقاعد الدرس في جامعة تشرين وكنت سعيدا عندما تذكرتني بين مئات‬
‫التالميذ‪ .‬للمعلم الجيد في حياتنا ذكرى عطرة ال تمحوها األيام ‪.‬‬
‫األستاذ الفاضل ابراهيم الحكيم مدير مدرستي في المرحلة اإلعدادية‬
‫كان عالمة فارقة في حياتي ألنه كان األب واألخ والصديق والمربي‬
‫والرقيب والمعلم ‪ .‬كان رجال متعدد المهام محيط المعرفة ولشدة خوفه‬
‫علينا كان يحول الدروس األقل أهمية إلى دروس للرياضيات والعلوم‬
‫والفيزياء والكيمياء وكان يقدم لنا معرفته الغزيرة مجانا وطواعية‬
‫مجبولة بحب منقطع النظير ‪ .‬قابلته صدفة بعد مرور ثالثين عاما‬
‫وكنت أسير على الرصيف بجانب طفلي الصغير فقبلني على رأسي‬
‫وأخبرني أنه كان ومازال يعتز بي ‪ .‬سألني طفلي من يكون " جدو"‬
‫فقلت له ‪ :‬للمعلم الجيد في حياتنا ذكرى عبقة تصمد في وجه الريح ‪.‬‬
‫حكاية أستاذتنا حكاية حب وانتماء ال تنتهي ولن تنتهي ألن حكايات‬
‫الحب ال تموت ‪ .‬حكاياتنا مع معلمينا وآبائنا حكاية حوار بين األجيال‬
‫بعضهم يسميه صراع وبعضهم يطلق عليه حوار األجيال وبعضهم‬
‫تالقح الثقافات ‪ .‬المشكلة الكبرى هي أن المسافة الفكرية والحضارية‬
‫بيننا وبين أبائنا كانت تقاس باألمتار أما المسافة بيننا وبين أطفالنا‬
‫فتقاس بآالف األميال الضوئية نظرا للتسارع الكبير في ثورة المعرفة‬
‫والتغير في أسلوب التفكير بين لحظة وأخرى ‪ .‬قال الرئيس الراحل‬
‫حافظ األسد في خطاب للمعلمين في الثمانينات من القرن الماضي‬
‫"تعلموا منهم وعلموهم " وهذا صحيح بل عين الصواب ألن أطفالنا‬
‫يعرفون أشياء ال نعرفها ويقاربون المشكالت في الحياة مقاربة مختلفة‬
‫تتناغم ومعارفهم واهتماماتهم الجديدة والمتطورة دوما ‪ .‬يقول اإلمام‬
‫علي كرم هللا وجهه في هذا السياق ‪ " :‬ال تحملوا أوالدكم على أخالقكم‬
‫فإنهم ُخلقوا لزمن غير زمانكم" ‪ .‬يجب على كل مربي أن يقف عند‬
‫جملة اإلمام علي كرم هللا وجهه ويعيد النظر في أسلوب تربيته ألوالده‬
‫ويقيمها ويقومها إذ أننا جميعا نربي أطفالنا ليعيشوا في زمان غير‬
‫زمانهم ‪ ،‬زمن ال يشبه زماننا في أي مفصل من مفاصل الحياة حيث‬
‫يلتقون بأناس ال يشاركونهم وجهات النظر والمبادئ والرؤى ‪ ،‬عصر‬
‫يعتمد المعرفة السريعة المشوهة في غالب األوقات ‪ .‬علينا أن نؤهلهم‬
‫لمواجهة تحديات العصر المستحدثة وأن نحصنهم ضد األخطار‬
‫المحيطة وأن نفتح عيونهم على كل جديد في عالم المعرفة‬
‫والتكنولوجيا المتطورة ‪ .‬الموازنة بين األخالق والعلم والدين‬
‫والتحديات الكثيرة من أصعب المعادالت التي نسعى لتحقيقها ‪.‬‬
‫يتميز الجيل الجديد بمواصفات ال تتأصل جذورها في األجيال السابقة‬
‫ناحية االهتمامات وطريقة التفكير ويطلق عليه الخبراء " جيل آخر‬
‫موديل ‪ " Gen Z‬وهو جيل مؤهل ومستعد للدخول في صراع األجيال‬
‫مع األهل وعلينا نحن األهل أن ننتبه إليهم ألنهم يختلفون عنا شكال‬
‫ومضمونا واهتماماته تختلف عن اهتماماتنا وما يضحكه يبكينا وما‬
‫يدمينا ال يهمه ‪ .‬لقد فعلت رياح التغيير فعلها وعلينا نحن األهل أن‬
‫نتدبر أمرنا لتقليل الخسائر للحد األدنى ‪ .‬لقد تحول الكون إلى قرية‬
‫صغيرة يسهل التواصل بين أفرادها وتتنوع اهتماماتها ووالء أفرادها‬
‫ويكثر فيها الكذب والزيف واالدعاء ‪ .‬لقد صار االنترنت بأذرعه‬
‫المختلفة بديال عن التربية المنزلية والمدرسية وبدأ من خالله اختراق‬
‫منظومة القيم والعادات والتقاليد لكل المجتمعات دون استثناء ‪ .‬يتميز‬
‫جيل آخر موديل بالخصال التالية ‪:‬‬
‫جيل يهتم بتأمين مستقبله وأمنه االجتماعي والوظيفي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫جيل يهتم بالتنافس ويعمل بجد واجتهاد لتحقيق أهدافه ويتوقع‬ ‫‪‬‬
‫المكافأة لقاء العمل‪.‬‬
‫جيل يهتم باالستقالل عن العائلة ويحب أن يعيش لوحده في شقة‬ ‫‪‬‬
‫منفصلة ‪.‬‬
‫جيل متعدد المهام ال يستطيع الفصل بين منزله ومكان عمله ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫جيل يهتم بالمقاوالت أكثر من المبادئ ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫جيل يهتم بالتواصل وجها لوجه ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫جيل ينتمي للمواطنة الرقمية فهو ينتقل من شبكة إلى أخر‬ ‫‪‬‬
‫بسرعة وعالقته باالنترنت توازي عالقته بأهله ‪.‬‬
‫جيل يفضل التعاقد على الوظيفة الثابتة ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫يتناقض جيل آخر موديل في أسلوب حياته وتفكيره مع أجيال نهاية‬
‫القرن الماضي ويعتبر نفسه األكثر حكمة وعلما ومعرفة واستخداما‬
‫لفنون التكنولوجيا وآلياتها ‪ .‬ومهمتنا كآباء وأمهات هي أن نتعلم منهم‬
‫ونعلمهم ونحن من يجب أن يتكيف مع متطلبات عصر تدفق‬
‫المعلومات وليس هم ‪.‬‬
‫يحكى أنه في يوم من األيام وقفت المعلمة أمام الصف الخامس في أول‬
‫يوم تبدأ فيه الدراسة ‪ .‬وألقت على مسامع التالميذ جملة لطيفة تجاملهم‬
‫بها‪ .‬نظرت نحو تالميذها وقالت لهم ‪ " :‬إنني أحبكم جميعا‪".‬‬
‫هكذا كما يفعل جميع المعلمين والمعلمات في بداية العام ولكنها كانت‬
‫تستثني في نفسها تلميذا يجلس في الصف األمامي اسمه تيدي‬
‫ستودارد‪.‬‬
‫راقبت السيدة تومسون ( المعلمة ) الطفل تيدي خالل العام السابق‬
‫والحظت أنه ال يلعب مع بقية األطفال وأن مالبسه كانت دائما متسخة‬
‫وأنه دائما يحتاج إلى حمام وأنه دائما حزين وقد بلغ األمر من السوء‬
‫أن السيدة تومسون كانت تجد متعة في تصحيح أوراقه بالقلم األحمر‬
‫العريض لتضع عليها عالمات الرسوب ثم تكتب عبارة" راسب " في‬
‫أعلى تلك األوراق‪.‬‬
‫وكان يُطلب من السيدة تومسون مراجعة السجالت الدراسية السابقة لكل‬
‫تلميذ فكانت عن سابق قصد تضع سجل الدرجات الخاص بتيدي في‬
‫النهاية ‪ ،‬لكنها فوجئت بشيء غريب وهي تراجع ملفه الدراسي ‪.‬‬

‫لقد كتب معلم تيدي في الصف األول االبتدائي على سجله ما يلي‪ ":‬تيدي‬
‫طفل ذكي ويتمتع بروح مرحة ‪ .‬يؤدي عمله وواجباته بعناية وكمال‬
‫وبانتظام كما أنه يتمتع بدماثة األخالق العالية ‪".‬‬

‫وكتب عنه معلمه في الصف الثاني‪ " :‬تيدي تلميذ نجيب ومحبوب لدى‬
‫زمالئه في الصف ولكنه منزعج وقلق بسبب إصابة والدته بمرض‬
‫عضال مما جعل الحياة في المنزل تسودها المعاناة والمشقة والتعب‪".‬‬

‫أما معلمه في الصف الثالث فقد كتب عنه ‪ ":‬لقد كان لوفاة أمه وقع‬
‫صعب عليه ‪ .‬لقد حاول االجتهاد وبذل أقصى ما يملك من جهود ولكن‬
‫والده لم يكن مهتما ‪ ،‬و الحياة في منزله سرعان ما ستؤثر عليه إن لم‬
‫تتخذ بعض اإلجراءات‪".‬‬

‫و كتب عنه معلمه في الصف الرابع‪ " :‬تيدي تلميذ منطو على نفسه‬
‫وال يبدي الكثير من الرغبة في الدراسة وليس لديه الكثير من األصدقاء‬
‫وفي بعض األحيان ينام أثناء الدرس‪".‬‬
‫هنا أدركت السيدة تومسون المشكلة فشعرت بالخجل واالستحياء من‬
‫نفسها على ما بدر منها وقد تأزم موقفها إلى األسوأ عندما أحضر لها‬
‫تالميذها هدايا عيد الميالد ملفوفة بأشرطة جميلة وورق براق باستثناء‬
‫تيدي ‪ .‬إذ كانت الهدية التي قدمها لها في ذلك اليوم ملفوفة بسماجة وعدم‬
‫انتظام في ورق داكن اللون مأخوذ من كيس من أكياس ورق الكرافت‬
‫التي توضع فيها األغراض في البقاليات وقد تألمت السيدة تومسون‬
‫وهي تفتح هدية تيدي‪ .‬وانفجر بعض التالميذ بالضحك عندما وجدت في‬
‫داخلها عقدا مؤلفا من ماسات مزيفة ناقصة األحجار وقارورة عطر‬
‫ليس فيها إال ربعها ‪.‬‬
‫ولكن سرعان ما كف أولئك التالميذ عن الضحك عندما عبَّرت السيدة‬
‫تومسون عن إعجابها الشديد بجمال ذلك العقد ثم لبسته على عنقها‬
‫ووضعت قطرات من العطر على معصمها ‪ .‬لم يذهب تيدي بعد الدراسة‬
‫إلى منزله في ذلك اليوم و انتظر قليال من الوقت ليقابل السيدة تومسون‬
‫ويقول لها‪ ":‬إن رائحتك اليوم مثل رائحة أمي !"‬
‫وعندما غادر التالميذ المدرسة انفجرت السيدة تومسون في البكاء لمدة‬
‫ساعة على األقل ‪ ،‬ألن تيدي أحضر لها زجاجة العطر التي كانت والدته‬
‫تستعملها ووجد في معلمته رائحة أمه الراحلة ‪ .‬ومنذ ذلك اليوم توقفت‬
‫المعلمة تومسون عن تدريس القراءة والكتابة والحساب وبدأت‬
‫بتدريس األطفال المواد كافة " معلمة فصل" وقد أولت السيدة تومسون‬
‫اهتماما خاصا لتيدي وحينما بدأت التركيز عليه بدأ عقله يستعيد نشاطه‬
‫وكلما شجعته كانت استجابته أسرع وبنهاية السنة الدراسية أصبح تيدي‬
‫من أكثر التالميذ تميزا في الفصل وأكثرهم ذكاء وأصبح أحد التالميذ‬
‫المدللين عندها‪.‬‬
‫وبعد مضي عام وجدت السيدة تومسون ورقة عند بابها مكتوبة بخط‬
‫التلميذ تيدي يقول فيها‪" :‬إنها أفضل معلمة قابلها في حياته‪".‬‬

‫مضت ست سنوات دون أن تتلقى أي ورقة أخرى منه ‪ .‬ثم بعد ذلك كتب‬
‫لها أنه أكمل المرحلة الثانوية وأحرز المرتبة الثالثة في فصله وأنها‬
‫حتى اآلن مازالت تحتل مكانة أفضل معلمة قابلها طيلة حياته‪.‬‬
‫وبعد انقضاء أربع سنوات على ذلك التاريخ ‪ ،‬تلقت خطابا آخر منه يقول‬
‫فيه ‪ ":‬إن األشياء أصبحت صعبة وإنه مقيم في الكلية ال يبرحها وإنه‬
‫سوف يتخرج قريبا من الجامعة بدرجة الشرف األولى وأكد لها كذلك‬
‫في هذه الرسالة أنها أفضل وأحب معلمة عنده حتى اآلن‪".‬‬

‫وبعد أربع سنوات أخرى تلقت خطابا آخر منه وفي هذه المرة أوضح‬
‫لها أنه بعد أن حصل على درجة البكالوريوس قرر أن يتقدم قليال في‬
‫الدراسة وأكد لها مرة أخرى أنها أفضل وأحب معلمة قابلها طوال حياته‬
‫ولكن هذه المرة كان اسمه طويال بعض الشيء‪ :‬الدكتور ثيودور إف ‪.‬‬
‫ستودارد!‬

‫لم تتوقف القصة عند هذا الحد فقد جاءها منه خطاب آخر في ذلك الربيع‬
‫يقول فيه أنه قابل فتاة حياته وأنه سوف يتزوجها وكما سبق أن أخبرها‬
‫بأن والده قد توفي قبل عامين وطلب منها أن تأتي لتجلس مكان أمه في‬
‫حفل زفافه ‪ ،‬وقد وافقت السيدة تومسون على ذلك والملفت للنظر أنها‬
‫كانت ترتدي العقد نفسه الذي أهداه لها في عيد الميالد منذ سنوات طويلة‬
‫مضت والذي كانت إحدى أحجاره ناقصة‪ .‬واألكثر من ذلك أنه تأكد من‬
‫ّ‬
‫تعطرها بالعطر نفسه الذي َذ ّكرهُ بأمه في آخر عيد ميالد !‬

‫واحتضن كل منهما اآلخر‪ ،‬وهمس الدكتور ستودارد في أذن السيدة‬


‫تومسون قائال ‪ " :‬أشكرك على ثقتك بي وأشكرك ألنك جعلتني أشعر‬
‫بأنني مهم وأنني يمكن أن أكون ناجحا ومتميزا ‪".‬‬
‫ردت عليه السيدة تومسون والدموع تمأل عينيها ‪ " :‬أنت مخطئ‪ .‬لقد‬
‫كنت أنت من علمني كيف أكون معلمة ناجحة ومتميزة ‪ .‬لم أكن أعرف‬
‫كيف أعلّم األطفال حتى قابلتك‪".‬‬

‫تيدي ستودارد هو الطبيب الشهير الذي لديه جناح باسم مركز‬


‫"ستودارد " لعالج السرطان في مستشفى ميثوددست في دي مونتيس‬
‫والية أيوا بالواليات المتحدة األمريكية ‪ ،‬ويعد من أفضل مراكز العالج‬
‫على مستوى الواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬

‫تيدي ستيوارد هو أنا ‪...‬والسيدة توسون هي سلمى عكو الرائعة ‪.‬‬


‫حكايتي حكاية األلم والفرح والحب ‪...‬‬
‫تعلموا منهم وعلموهم ‪...‬‬

You might also like