Professional Documents
Culture Documents
أبناؤنا..تعلموا منهم وعلموهم
أبناؤنا..تعلموا منهم وعلموهم
ال يمكن أن أنساها ما حييت .السيدة سلمى عكو رحمها هللا كانت
معلمتي في الصف الثاني االبتدائي في مدرسة السن ذات الشعبة
الوحيدة وكانت الداعم الكبير لي في مراحل تعلمي الباكرة .وبعد
انتهاء ذلك العام الدراسي لم نلتق أنا وإياها إال بعد عشرين عاما على
مقاعد الدرس في جامعة تشرين وكنت سعيدا عندما تذكرتني بين مئات
التالميذ .للمعلم الجيد في حياتنا ذكرى عطرة ال تمحوها األيام .
األستاذ الفاضل ابراهيم الحكيم مدير مدرستي في المرحلة اإلعدادية
كان عالمة فارقة في حياتي ألنه كان األب واألخ والصديق والمربي
والرقيب والمعلم .كان رجال متعدد المهام محيط المعرفة ولشدة خوفه
علينا كان يحول الدروس األقل أهمية إلى دروس للرياضيات والعلوم
والفيزياء والكيمياء وكان يقدم لنا معرفته الغزيرة مجانا وطواعية
مجبولة بحب منقطع النظير .قابلته صدفة بعد مرور ثالثين عاما
وكنت أسير على الرصيف بجانب طفلي الصغير فقبلني على رأسي
وأخبرني أنه كان ومازال يعتز بي .سألني طفلي من يكون " جدو"
فقلت له :للمعلم الجيد في حياتنا ذكرى عبقة تصمد في وجه الريح .
حكاية أستاذتنا حكاية حب وانتماء ال تنتهي ولن تنتهي ألن حكايات
الحب ال تموت .حكاياتنا مع معلمينا وآبائنا حكاية حوار بين األجيال
بعضهم يسميه صراع وبعضهم يطلق عليه حوار األجيال وبعضهم
تالقح الثقافات .المشكلة الكبرى هي أن المسافة الفكرية والحضارية
بيننا وبين أبائنا كانت تقاس باألمتار أما المسافة بيننا وبين أطفالنا
فتقاس بآالف األميال الضوئية نظرا للتسارع الكبير في ثورة المعرفة
والتغير في أسلوب التفكير بين لحظة وأخرى .قال الرئيس الراحل
حافظ األسد في خطاب للمعلمين في الثمانينات من القرن الماضي
"تعلموا منهم وعلموهم " وهذا صحيح بل عين الصواب ألن أطفالنا
يعرفون أشياء ال نعرفها ويقاربون المشكالت في الحياة مقاربة مختلفة
تتناغم ومعارفهم واهتماماتهم الجديدة والمتطورة دوما .يقول اإلمام
علي كرم هللا وجهه في هذا السياق " :ال تحملوا أوالدكم على أخالقكم
فإنهم ُخلقوا لزمن غير زمانكم" .يجب على كل مربي أن يقف عند
جملة اإلمام علي كرم هللا وجهه ويعيد النظر في أسلوب تربيته ألوالده
ويقيمها ويقومها إذ أننا جميعا نربي أطفالنا ليعيشوا في زمان غير
زمانهم ،زمن ال يشبه زماننا في أي مفصل من مفاصل الحياة حيث
يلتقون بأناس ال يشاركونهم وجهات النظر والمبادئ والرؤى ،عصر
يعتمد المعرفة السريعة المشوهة في غالب األوقات .علينا أن نؤهلهم
لمواجهة تحديات العصر المستحدثة وأن نحصنهم ضد األخطار
المحيطة وأن نفتح عيونهم على كل جديد في عالم المعرفة
والتكنولوجيا المتطورة .الموازنة بين األخالق والعلم والدين
والتحديات الكثيرة من أصعب المعادالت التي نسعى لتحقيقها .
يتميز الجيل الجديد بمواصفات ال تتأصل جذورها في األجيال السابقة
ناحية االهتمامات وطريقة التفكير ويطلق عليه الخبراء " جيل آخر
موديل " Gen Zوهو جيل مؤهل ومستعد للدخول في صراع األجيال
مع األهل وعلينا نحن األهل أن ننتبه إليهم ألنهم يختلفون عنا شكال
ومضمونا واهتماماته تختلف عن اهتماماتنا وما يضحكه يبكينا وما
يدمينا ال يهمه .لقد فعلت رياح التغيير فعلها وعلينا نحن األهل أن
نتدبر أمرنا لتقليل الخسائر للحد األدنى .لقد تحول الكون إلى قرية
صغيرة يسهل التواصل بين أفرادها وتتنوع اهتماماتها ووالء أفرادها
ويكثر فيها الكذب والزيف واالدعاء .لقد صار االنترنت بأذرعه
المختلفة بديال عن التربية المنزلية والمدرسية وبدأ من خالله اختراق
منظومة القيم والعادات والتقاليد لكل المجتمعات دون استثناء .يتميز
جيل آخر موديل بالخصال التالية :
جيل يهتم بتأمين مستقبله وأمنه االجتماعي والوظيفي.
جيل يهتم بالتنافس ويعمل بجد واجتهاد لتحقيق أهدافه ويتوقع
المكافأة لقاء العمل.
جيل يهتم باالستقالل عن العائلة ويحب أن يعيش لوحده في شقة
منفصلة .
جيل متعدد المهام ال يستطيع الفصل بين منزله ومكان عمله .
جيل يهتم بالمقاوالت أكثر من المبادئ .
جيل يهتم بالتواصل وجها لوجه .
جيل ينتمي للمواطنة الرقمية فهو ينتقل من شبكة إلى أخر
بسرعة وعالقته باالنترنت توازي عالقته بأهله .
جيل يفضل التعاقد على الوظيفة الثابتة .
يتناقض جيل آخر موديل في أسلوب حياته وتفكيره مع أجيال نهاية
القرن الماضي ويعتبر نفسه األكثر حكمة وعلما ومعرفة واستخداما
لفنون التكنولوجيا وآلياتها .ومهمتنا كآباء وأمهات هي أن نتعلم منهم
ونعلمهم ونحن من يجب أن يتكيف مع متطلبات عصر تدفق
المعلومات وليس هم .
يحكى أنه في يوم من األيام وقفت المعلمة أمام الصف الخامس في أول
يوم تبدأ فيه الدراسة .وألقت على مسامع التالميذ جملة لطيفة تجاملهم
بها .نظرت نحو تالميذها وقالت لهم " :إنني أحبكم جميعا".
هكذا كما يفعل جميع المعلمين والمعلمات في بداية العام ولكنها كانت
تستثني في نفسها تلميذا يجلس في الصف األمامي اسمه تيدي
ستودارد.
راقبت السيدة تومسون ( المعلمة ) الطفل تيدي خالل العام السابق
والحظت أنه ال يلعب مع بقية األطفال وأن مالبسه كانت دائما متسخة
وأنه دائما يحتاج إلى حمام وأنه دائما حزين وقد بلغ األمر من السوء
أن السيدة تومسون كانت تجد متعة في تصحيح أوراقه بالقلم األحمر
العريض لتضع عليها عالمات الرسوب ثم تكتب عبارة" راسب " في
أعلى تلك األوراق.
وكان يُطلب من السيدة تومسون مراجعة السجالت الدراسية السابقة لكل
تلميذ فكانت عن سابق قصد تضع سجل الدرجات الخاص بتيدي في
النهاية ،لكنها فوجئت بشيء غريب وهي تراجع ملفه الدراسي .
لقد كتب معلم تيدي في الصف األول االبتدائي على سجله ما يلي ":تيدي
طفل ذكي ويتمتع بروح مرحة .يؤدي عمله وواجباته بعناية وكمال
وبانتظام كما أنه يتمتع بدماثة األخالق العالية ".
وكتب عنه معلمه في الصف الثاني " :تيدي تلميذ نجيب ومحبوب لدى
زمالئه في الصف ولكنه منزعج وقلق بسبب إصابة والدته بمرض
عضال مما جعل الحياة في المنزل تسودها المعاناة والمشقة والتعب".
أما معلمه في الصف الثالث فقد كتب عنه ":لقد كان لوفاة أمه وقع
صعب عليه .لقد حاول االجتهاد وبذل أقصى ما يملك من جهود ولكن
والده لم يكن مهتما ،و الحياة في منزله سرعان ما ستؤثر عليه إن لم
تتخذ بعض اإلجراءات".
و كتب عنه معلمه في الصف الرابع " :تيدي تلميذ منطو على نفسه
وال يبدي الكثير من الرغبة في الدراسة وليس لديه الكثير من األصدقاء
وفي بعض األحيان ينام أثناء الدرس".
هنا أدركت السيدة تومسون المشكلة فشعرت بالخجل واالستحياء من
نفسها على ما بدر منها وقد تأزم موقفها إلى األسوأ عندما أحضر لها
تالميذها هدايا عيد الميالد ملفوفة بأشرطة جميلة وورق براق باستثناء
تيدي .إذ كانت الهدية التي قدمها لها في ذلك اليوم ملفوفة بسماجة وعدم
انتظام في ورق داكن اللون مأخوذ من كيس من أكياس ورق الكرافت
التي توضع فيها األغراض في البقاليات وقد تألمت السيدة تومسون
وهي تفتح هدية تيدي .وانفجر بعض التالميذ بالضحك عندما وجدت في
داخلها عقدا مؤلفا من ماسات مزيفة ناقصة األحجار وقارورة عطر
ليس فيها إال ربعها .
ولكن سرعان ما كف أولئك التالميذ عن الضحك عندما عبَّرت السيدة
تومسون عن إعجابها الشديد بجمال ذلك العقد ثم لبسته على عنقها
ووضعت قطرات من العطر على معصمها .لم يذهب تيدي بعد الدراسة
إلى منزله في ذلك اليوم و انتظر قليال من الوقت ليقابل السيدة تومسون
ويقول لها ":إن رائحتك اليوم مثل رائحة أمي !"
وعندما غادر التالميذ المدرسة انفجرت السيدة تومسون في البكاء لمدة
ساعة على األقل ،ألن تيدي أحضر لها زجاجة العطر التي كانت والدته
تستعملها ووجد في معلمته رائحة أمه الراحلة .ومنذ ذلك اليوم توقفت
المعلمة تومسون عن تدريس القراءة والكتابة والحساب وبدأت
بتدريس األطفال المواد كافة " معلمة فصل" وقد أولت السيدة تومسون
اهتماما خاصا لتيدي وحينما بدأت التركيز عليه بدأ عقله يستعيد نشاطه
وكلما شجعته كانت استجابته أسرع وبنهاية السنة الدراسية أصبح تيدي
من أكثر التالميذ تميزا في الفصل وأكثرهم ذكاء وأصبح أحد التالميذ
المدللين عندها.
وبعد مضي عام وجدت السيدة تومسون ورقة عند بابها مكتوبة بخط
التلميذ تيدي يقول فيها" :إنها أفضل معلمة قابلها في حياته".
مضت ست سنوات دون أن تتلقى أي ورقة أخرى منه .ثم بعد ذلك كتب
لها أنه أكمل المرحلة الثانوية وأحرز المرتبة الثالثة في فصله وأنها
حتى اآلن مازالت تحتل مكانة أفضل معلمة قابلها طيلة حياته.
وبعد انقضاء أربع سنوات على ذلك التاريخ ،تلقت خطابا آخر منه يقول
فيه ":إن األشياء أصبحت صعبة وإنه مقيم في الكلية ال يبرحها وإنه
سوف يتخرج قريبا من الجامعة بدرجة الشرف األولى وأكد لها كذلك
في هذه الرسالة أنها أفضل وأحب معلمة عنده حتى اآلن".
وبعد أربع سنوات أخرى تلقت خطابا آخر منه وفي هذه المرة أوضح
لها أنه بعد أن حصل على درجة البكالوريوس قرر أن يتقدم قليال في
الدراسة وأكد لها مرة أخرى أنها أفضل وأحب معلمة قابلها طوال حياته
ولكن هذه المرة كان اسمه طويال بعض الشيء :الدكتور ثيودور إف .
ستودارد!
لم تتوقف القصة عند هذا الحد فقد جاءها منه خطاب آخر في ذلك الربيع
يقول فيه أنه قابل فتاة حياته وأنه سوف يتزوجها وكما سبق أن أخبرها
بأن والده قد توفي قبل عامين وطلب منها أن تأتي لتجلس مكان أمه في
حفل زفافه ،وقد وافقت السيدة تومسون على ذلك والملفت للنظر أنها
كانت ترتدي العقد نفسه الذي أهداه لها في عيد الميالد منذ سنوات طويلة
مضت والذي كانت إحدى أحجاره ناقصة .واألكثر من ذلك أنه تأكد من
ّ
تعطرها بالعطر نفسه الذي َذ ّكرهُ بأمه في آخر عيد ميالد !