Professional Documents
Culture Documents
مقدِّمة عامة
املبكر لكنيسة اإلسكندريَّة حىت بدايات القرن الثَّالث امليالدي ميثِّل حتدياًإن الغموض الذي يكتنف التَّاريخ ِّ
َّ
أن مدينة اإلسكندريَّة كانت أكرب مدينة واضحاً للباحثني والدَّارسني .وتتَّضح طبيعة هذا التَّحدي ،إذا َّ
تذكرنا َّ
يونانيَّة يف العامل آنئذ ،بل ومركز العلم فيه ،فضالً عن أهنا كانت تضم أكرب جالية يهوديَّة خارج فلسطني ،ومن
واضح لرسالة املسيحيَّة.
ٌ هدف
مثَّ كان من الالزم أن يكون هلا ٌ
ويف مقابل هذه االعتبارات نُفاجأ مبصادر شحيحة نادرة ملصادر ووثائق كنيسة اإلسكندريَّة يف هذه الفرتة
الرابع
املؤرخ يوسابيوس القيصري (340-260م) يف القرن َّ ِّ
املبكرة من تارخيها ،وهي املصادر اليت فحصها ِّ
املؤرخني،
مؤرخون عظماء ال ميكن نسيان فضلهم ،وكان من أهم هؤالء ِّ امليالدي ،وأعاد فحصها ودرسها ِّ
()
العامل أدولف هارناك 1851-1930( Adolf Harnackم) .
1
مؤخراً يف مصر ،وتعود وإذا نظرنا نظرة فاحصة إىل الوثائق والربديَّات اليت توفَّرت لدينا ،واليت اكتُشفت َّ
تعجب من قلَّتها ونُدرهتاَّ .
فالرسائل والوثائق القليلة اليت نتعجب أمَّيا ُّ
إىل الثَّالثة قرون األوىل للمسيحيَّة ،فسوف َّ
() ()
مجعها العامل بيل H.I. Bellونشرها سنة 1944م ،وتلك اليت حصرها العامل األبهولست J. Van. Haelst
3 2
السنوات منسنة 270م إىل سنة 350م ،مع القليل الذيميكن ونشرها سنة 1970م وهياليت تغطي َّ
السنوات األخرية فحسب. إضافته ،قد جاء إىل النُّور يف َّ
والدِّراسة اليت بني يديك ،هي حماولة تأريخ لكنيسة اإلسكندريَّة يف هذا العصر ِّ
املبكر من تارخيها ،وذلك
من خالل شهادة األدب املسيحي احملفوظ يف املخطوطات القدمية املكتشفة يف مصر ،سواء كانت خمطوطات
ختتص باألسفار الكتابيَّة ،أو بأية كتابات أخرى .فهو إذاً تأريخ ال يعتمد على روايات ،بل يعتمد أساساً على
الرقوق . parchment
وثائق قدمية وصلت إلينا ،سواء كانت من الربديَّات papyrusأو اجللد املدبوغ leatherأو ُّ
الرسول إليها&
المسيحيَّة في مصر& قبل وصول القدِّيس& مرقس َّ
األول والثَّاين للميالد، إن الغموض الذي يكتنف التَّاريخ ِّ
املبكر للكنيسة املسيحيَّة يف مصر يف القرنني َّ َّ
يشكل أمامنا حتدياً واضحاً .ولكن بدراسة والذي ال تنقشع غمامته إالَّ مع بداية القرن الثَّالث امليالديِّ ،
السائدة ،اليت عرفتها املسيحيَّة املصريَّة ِّ
املبكرة ،ميكن أن ينفتح املخطوطات الربديَّة ،وحالة اجملتمع ،والعقائد َّ
َّعرف على بواكري احلياة املسيحيَّة يف مصر .هذا ما يقوله العامل كولني روبرتس Colin H. أمامنا جمال خصب للت ُّ
()
Robertsأحد أبرز علماء الربديَّات يف عاملنا املعاصر .
4
فإن الوثائق الربديَّة ال تستطيع أن مت ّدنا بأي أحداث مفيدة عن تلك الفرتة ِّ
املبكرة لكنيسة مصر، ويف احلقيقة َّ
أي فيما قبل القرن الثَّالث امليالدي .ومبعىن آخر َّ
فإن األحداث الوثائقيَّة للمسيحيَّة يف مصر تبدأ مع بدايات القرن
األول
الثَّالث امليالدي فحسب .وجتدر اإلشارة هنا إىل أنه ليست هناك أيَّة برديَّات على اإلطالق تعود إىل القرن َّ
امليالدي.
ولقد أوىل العامل روبرتس ُ Colin H. Robertsج َّل اهتمامه بأقدم الربديَّات املصريَّة اليت أشارت إىل املسيحيَّة
توصل إليها يف هذا اجملال هي ذات أمهيَّة بالغة .فلقد استطاع أن يغرِّي نظريَّة
وإن النَّتائج اليت َّ ِّ
املبكرة يف مصرَّ .
العامل والرت بوير Walter Bauerتغيرياً ُكلياً بعد فحصها ونقدها ،وهي النَّظريَّة اليت انتشرت يف األوساط العلميَّة
املبكرة يف مصر كان هرطوقياً ،وبالتَّحديد غنوسياً. بأن نوع املسيحيَّة ِّ
الدِّينيَّة انتشاراً واسعاً ،واليت كانت تقول َّ
وهو ما سأشرحه بالتَّفصيل فيما بعد.
العشر سوى برديَّة واحدة هبا ميل حنو الغنوسيَّة ،وهي ”إجنيل توما“ ،وحىت هذا امليل الغنوسي ُمبهم
()
الربديَّات
وغري واضح . 7
4- Birger A. Pearson, Earliest Christianity in Egypt, Some Observations, in The Roots of Egyptian Christianity, Editors,
Birger A. Pearson ; James E. Goehring, U.S.A., 1986, p. 132 ; Colin H. Roberts, Manuscript, Society and Belief in Early
Christian Egypt, Oxford University Press, 1979, p. 1.
الرسول إىل تيطس. 5
-سبع برديَّات منها من العهد القدمي ،وثالث من العهد اجلديد ،وهي إجنيل يوحنا ،وإجنيل مىت ،ورسالة بولس َّ
(وجد يف برديَّة يف مدينة أكسريينخوس 6
-وهي )1( :إجنيل إجيريتون ) Egerton Gospel ، (2إجنيل توما ُ Gospel of Thomas
’البهنسا احلاليَّة‘ )3( ،)P. Oxy. 1, 26-28كتاب ضد اهلرطقات إليريناؤس . Irenaeus, Adversus Haerses
7- Birger A. Pearson, op. cit., p. 132, 133 ; Colin H. Roberts, op. cit., p. 52.
3 مقدِّمة عامة
لقد ألقت دراسات روبرتس Colin H. Robertsضوءاً جديداً على أصول املسيحيَّة يف مصر .وهو خيلُص
أن كنيسة أورشليم هي أقدم مصدر للكنيسة املسيحيَّة يف مصرَّ .
وأن بأن الدَّالئل الكثرية تشري إىل َّ
إىل القول َّ
املبكرة يف مصر كانت يهوديَّة .وفضالً عن ذلك َّ
فإن املسيحينِّي األوائل يف مصر نُظر إليهم كيهود أو املسيحيَّة ِّ
ألن اإلسكندريَّة كانت موطن أكرب جالية كجماعة متميِّزة مستقلَّة ،ذات عقائد خاصة .وهذا واضح بالطبَّع َّ
يهوديَّة يف العامل القدمي ،ومن هذه اجلالية خرج املبشرون املسيحيُّون األوائل ليكرزوا باملسيحيَّة يف مصر.
أن تاريخ املسيحيَّة يف مصر قبل زمنواحلقيقة اليت يلزم أن تبقى ماثلة أمام أذهاننا -وحىت اليَوم -هي َّ
كان) العامل روبرتس Colin H. Robertsعلى حق(
اإلمرباطور هدريان (138 -117م)ُ ،مبهم للغاية .ولقد
أن معرفتنا بالغنوسيَّة يف مصر قبل زمن هدريان ،هي أكثر غموضاً من املسيحيَّة غري الغنوسيَّة
8
حينما) يذكر َّ
(
فيها . 9
أن مجاعة من اليهود يف اإلسكندريَّة يوضح لنا َّ وهذه النُّقطة ال ميكن أن نعرب عليها بسهولةَّ ،
ألن هذا األمر ِّ
الروح ال ُق ُدس
أن يسوع هو املسيح ،بعد أن فحصوا ال ُكتُب ،لكن بدون أن يعرفوا شيئاً عن ُّ كانوا قد أيقنوا َّ
أناس منهم ليكرزوا هبذا اإلميان خارج وطنهم وحلوله يوم اخلمسني .إذ آمنوا باملسيح أنه املسيَّا ،بل وخرج ٌ
يهود من
الروح ال ُق ُدس يوم اخلمسني قد شهده ٌ كما فعل أبولوس يف أفسس .فكيف حيدث هذا وحلول ُّ
كل
انتشر يف ِّ
( )
الروح ال ُق ُدس قد اإلسكندريَّة وعادوا إىل وطنهم خيربون مبا رأوه ومسعوه؟ بل َّ
إن خرب حلول ُّ
كل أحناء األرض تتكلَّم مخس عشرة لغة على األقل .
15
العامل ،إذ عاينه جاليات يهوديَّة منتشرة يف ِّ
الروح ال ُق ُدس .والغريب أيضاً َّ
أن بالروح ،وهو مل يقبل بعد ُّ
حار ُّ
رجل ٌ
والعجيب حقاً أن يكون أبولوس ٌ
جمئ أبولوس إىل أفسس كان حوايل سنة 55ميالديَّة أو قبلها بقليل ،أي بعد مضي أكثر من عشرين سنة على
الرجال الذين بشَّرهم باملسيح ،وآمنوا به
الروح ال ُق ُدس يف يوم اخلمسني ،ومل يعلم هبا أبولوس وال ِّ
حلول ُّ
( )
حادثة
على يديه . 16
سر الكهنوت ليؤسس كنيستها ،ولينقلإليها َّ الرسول قد وفد إىل اإلسكندريَّة ِّ
حيثمل يكن القدِّيس مرقس َّ
املقدَّس بوضع اليد ،إلقامة أساقفة يعاوهنم القسوس والشَّمامسة ،حيملون األمانة املقدَّسة املسلَّمة إليهم عرب
زمان غربة الكنيسة على األرض.
ولقد كان هلذه اجلماعة املسيحيَّة األوىل ذات األصول اليهوديَّة تأثريٌ يف تشكيل جانب من احلياة اللِّيتورجيَّة
فإن تأثري أفكار فيلو – وهو أحد الشَّخصيَّات العاملَّ .
ِّ ( )
لكنيسة اإلسكندريَّة ،بل وعلى الكنيسة املسيحيَّة يف كل
الرمزييف تفسري ال ُكتُباملقدَّسة،
وأن أسلوبه َّاملعتربة بينهم – كان قوياً يف مدرسة اإلسكندريَّة الالهوتيَّة َّ ،
20
كل أحناء العامل املسيحي السيَّما يف كنيسةوالبحثعناملعىن املختبئ وراء الكلمات،قد انتشر يف ِّ
اإلسكندريَّة عرب العالَّمة كليمندس اإلسكندري( 215-150م) ،ومنبعده العالَّمة أورجيانوس (-185
254م) ،وغريمها .وقد تأثَّروا كثرياً مبنهج فيلو يف البحثوالدِّراسة.
( )
الصلة بني
ومن جهة أخرى ،كان ليهود اإلسكندريَّة والقريوان جممع خاص هبم يف أورشليم .وكانت ِّ
21
وتنصروا ،مل
اإلسكندريَّة وأورشليم متَّصلة على الدَّوام .ألنه بعد أن آمن بعض من هؤالء اليهود باملسيحيَّة َّ
أن هذه هي الصلة بني عوائدهم اليهوديَّة القدمية وديانتهم اجلديدة ،بل إننا نرى َّ
السهل أن تنقطع ِّ
يكن من َّ
اجلذور األوىل اليت ربطت بني كنيسة اإلسكندريَّة وكنيسة أورشليم ،حىت أصبحت كنيسة اإلسكندريَّة هي
احلارس األمني لكثري من الطُّقوس القدمية لكنيسة أورشليم ،وحىت اليَوم.
وهناك وثيقة قدمية جداً ،تُعد أحد أهم الوثائق اليت تلقي ضوءاً ولو قليالً على وجود مسيحيِّني يف مصر
الرسالة الشَّهرية
السماء مبا ال يتعدى عشر سنوات فقط .ونقصد هبذه الوثيقة تلك ِّ
بعد صعود السيِّد املسيح إىل َّ
واملؤرخة بتاريخ 10نوفمرب سنة 41م،
اليت أرسلها اإلمرباطور كلوديوس (54 -41م) إىل اإلسكندريِّنيَّ ،
ونعين هبا الفقرة اليت تقول:
” ...وال أن يستقدموا (أي اليهود الذين يعيشون يف اإلسكندريَّة) أو يزوروا يهوداً قادمني من سوريا أو
كل مكان كمثريي شك أكرب من جهتهم .وإذا مل يطيعوا فسوف أتعقَّبهم يف ِّمصر ،وإالَّ فسأكون مدفوعاً إىل ٍّ
إزعاج لكل العامل“ .فاالحتمال القائم هنا يف عبارة ”يهوداً قادمني من سوريا“ هو أهنا إرساليَّات مسيحيَّة
يهوديَّة وفدت من فلسطني إىل مصر .وبرغم ذلك فليس لدينا تأكيدات ميكن أن نقطع هبا يف هذا الشَّأن.
أن اإلرساليَّات املسيحيَّة ِّ
املبكرة وعلى أي حال مهما كان معىن خطاب اإلمرباطور كلوديوس ،فمن الواضح فيه َّ
وفدت) إىل اإلسكندريَّة رمبا كانت يهوداً متنصرين قادمني من سوريا ،أي من فلسطني ،وخصوصاً من (
اليت
أورشليم .
22
إسطفانوس – اهلليين – َّأول شهداء املسيحيَّة ،كانوا هم أيضاً يهوداً من سريين Cyreneواإلسكندريَّة .وإن
24
كان املوطن األصلي للشَّهيد إسطفانوس ومخسة من مساعديه مل يُفصح عنه ،لكنَّهم كلّهم كانوا يهوداً حيملون
20- ODCC, 2nd edition, p. 1083.
-21انظر :أعمال 9:6
22- Birger A. Pearson, op. cit., p. 134.
-23انظر :أعمال 10:2
-24انظر :أعمال 9:6
املالمح الوثائقيَّة والليتورجيَّة لكنيسة اإلسكندريَّة يف الثَّالثة قرون األوىل 6
( ) ( )
أمساء يونانيَّة ،ورمبا جاء بعضهم من اإلسكندريَّة .
26 25
مصر ،كما وردت يف كتاب إالَّ أننا نتقابل مع وصف لشكل ومضمون املسيحيَّة يف نشأهتا ِّ
املبكرة يف
( ) ( )
عما يصفه فيلو& Philoالفيلسوف اليهودي
32
ً َّ ال نق م)340 - 260 ( ”تاريخ الكنيسة“ ليوسابيوس القيصري
31
املتضرعني“ عن املسيحينِّي األوائل يف كنيسة اإلسكندريَّة التأمل“ ،أو ”يف ِّ (13ق.م50-ب.م) يف كتابه ”حياة ُّ
كل
نساك مصر“ أو ”عبَّاد مصر“ .ويقول بأهنم قد انتشروا يف ِّ -وهم من أصل يهودي – والذين يدعوهم ” َّ
خصصوا فيها
مديريَّاهتا ،والسيَّما يف نواحي اإلسكندريَّة .وبعد أن يصف لنا حياهتم النُّسكيَّة وبيوهتم اليت َّ
مقدساً“ ،يتحدَّث عن كنائسهم اليت انتشرت هنا وهناك ،وعن األغاين والرَّت انيم للصالة دعوه ” ِ
مكاناً مقدَّساً َّ
اليت ألَّفوها لريتِّلوها هلل يف كنائسهم بكل أنواع األوزان.
جتسد الكلمة وحىت سنة 324م وهو العمل الذي ألجله نال 31
-كتب يوسابيوس القيصري تارخياً للكنيسة يف عشرة كتب ،بدءًا من ُّ
لقب ”أبو التَّاريخ الكنسي“.
َّ
املؤرخ والفيلسوف اليهودي اإلسكندري (13ق.م50 -ب.م) يف عهد اإلمرباطور كاليجوال (41-37م) ،حيث ألف -32اشتهر فيلو ِّ
تفاسري كثرية على األسفار املقدَّسة ،باإلضافة إىل مؤلََّفات فلسفيَّة وتارخييَّة ودينيَّة.
7 مقدِّمة عامة
كل
كل ممتلكاهتم ألقارهبم .وبعد أن ينبذوا َّ ويقول :إهنم عندما يبدأون طريقة احلياة الفلسفيَّة يتنازلون عن ِّ
أن االختالط مبن خيتلفوناهتمامات احلياة خيرجون من امل ُدن ،ويقطنون احلقول املوحشة واحلدائق ،عاملني متاماً َّ
الوقت حتت تأثري إميان ملتهب بسرية ُ
واملرجح أهنم فعلوا هذا يف ذلك َ
ومضرَّ . عنهم يف املشارب عدمي اجلدوى ُ
األنبياء ...
كل مكان يف العامل يوجد هذا اجلنس ...على َّ
أن هذا اجلنس وبعد ذلك يضيف الوصف التَّايل’ :ويف ( ) ِّ
كل
كل مديريَّاهتا ،السيَّما نواحي اإلسكندريَّة .وأصبح أفاضل النَّاس من ِّيكثر يف مصر بنوع أخص ،يف ِّ
35
تل منخفض
ناحية يهاجرون كما إىل مستعمرة األطباء ،إىل موقع مناسب جداً يشرف على حبرية مريوط ،فوق ٍّ
ممتاز املوقع ،بسبب توفُّر األمن فيه وجودة مناخه‘.
وبعد ذلك بقليل ،بعد أن يصف نوع بيوهتم ،يتحدَّث كما يلي عن كنائسهم اليت كانت منتشرة هنا
يؤدون أسرار احلياة الدِّينيَّة يف عُزلة تامة.
كل بيت يوجد مكان مقدَّس يدعى قُدساً وديراً ،حيث ُّ وهناك’ .يف ِّ
أي شئ يتَّصل حباجيَّات اجلسد ،بل الشَّرائع فقط أي شئ ،ال طعام وال شراب ،وال َّ وهم ال يُدخلون إليه َّ
الصباح إىلوكل الفرتة من َّ وأقوال األنبياء احليَّة والرَّت انيم وغريها ممَّا يساعد على كمال معرفتهم وتقواهم ُّ ...
ويفسرون فلسفة آبائهم بطريقة رمزيَّة، املساء هي وقت رياضة (روحيَّة) هلم ،ألهنم يقرأون ال ُكتُب املقدَّسة ِّ
معتربين الكلمات املكتوبة رموزاً حلقائق خفيَّة أُعطيت يف صورة غامضة .ولديهم أيضاً كتابات من القدماء
مؤسسي مجاعتهم الذين تركوا آثاراً كثرية رمزيَّة .وهؤالء يتَّخذوهنم قدوة هلم ويقلِّدون مبادئهم‘. ِّ
أن مؤلَّفات ال ُقدماء – اليت يقول إهنا كانت عندهم – هي األناجيل وكتابات ُّ
الر ُسل ،ورمبا واملرجح جداً َّ
َّ
الرسول.
الرسالة إىل العربانيني ،والكثري من رسائل القديس بولس َّ
تتضمنه ِّ
ُّبوات القدمية ،كما َّ تفسري بعض الن َّ
َّأمالت فحسب ،بل وأيضاً يكتب ما يلي عن املزامري اجلديدة اليت صنَّفوها’ :وهكذا ال يقضون وقتهم يف الت ُّ
أيضاً يؤلِّفون األغاين والرَّت انيم هلل بكل أنواع األوزان واألحلان .ولو أهنم ِّ
يقسموهنا بطبيعة احلال إىل مقاييس خمتلفة
...
َّفلسف كعمل خليق بالنُّورَّ ،أما وال يتناول أحدهم طعاماً أو شراباً قبل غروب الشَّمس ،ألهنم يعتربون الت ُ
فيخصصون جزءاً ِّ لألولَّ ،أما الثَّاين االهتمام حباجيَّات اجلسد ،فال يتَّفق إالَّ مع الظَّالم ،ولذلك ِّ
خيصصون النَّهار َّ
قليالً من اللَّيل ...
الوقت احملدَّد ،كان اآلخرون يصغون يف صمت وال يشرتكون يف الرَّت انيم كيف أنه عندما كان الواحد يرمِّن يف َ
إالَّ يف آخرها ...وعالوة على هذه يصف فيلو ُرتَب الشَّرف الكائنة بني الذين ميارسون خدمات الكنيسة،
أن فيلو عندما كتب هذه األمور
( )
كل ما عداها َّ ...أما َّذاكراً رتبة الشَّماسيَّة ،ورتبة األسقفيَّة اليت تتقدَّم على ِّ
لكل أحد“ .
38
واضح ِّ
ٌ أمر
الر ُسل ،فهذا ٌ كان واضعاً نصب عينيه سفراء اإلجنيل واألوائل املسلَّمة منذ البدء من ُّ
املبكرة عن وجود مجاعات مسيحيَّة يف مصر من أصل يهودي ،وكان من هذه واحدة من أهم اإلشارات ِّ
حتول أعضاؤها من اليهوديَّة أشهر هذه اجلماعات هي جماعة الثيرابيوتا اليت عاشت حول حبرية مريوط بعد أن َّ
الرسول فيه .فعادوا إىل وطنهم الثَّاين إىل املسيحيَّة إثر أحداث يوم اخلمسني يف أورشليم ،وعظة القدِّيس بطرس َّ
مصر ،حيث كانت اجلالية اليهوديَّة يف اإلسكندريَّة من أكرب اجلاليات اليهوديَّة يف العامل آنذاك ،ليدينوا بدينهم
أن املسيَّا الذي ظلُّوا ينتظرونه هذه القرون الطَّويلة هو يسوع املسيح ابن اهلل ،الذي دخل اجلديد بعد أن أيقنوا َّ
حل
إىل العامل وأكمل اخلالص الذي كان يف فكر أبيه منذ األزل .وهو ما استُعلن يف يوم اخلمسني عندما َّ
الر ُسل مع آخرين من رجال ونساء ،ليعلن االبن خملِّصاً الروح ال ُق ُدس على الكنيسة يف العُليَّة اليت اجتمع فيها ُّ
ُّ
الصليب عن حياة العامل ،تلك احلياةورباً ،جاء ليعلن حمبَّة اهلل اآلب للعامل ،حىت إىل حد بذل ابنه وحيده على َّ
األول.
اليت فقدها بعصيان اإلنسان َّ
األول امليالدي كانت قليلة العدد. فبادئ ذي بدء جيب علينا أالَّ ننكر َّ
أن كنيسة اإلسكندريَّة يف القرن َّ
فإن تفسري ذلك يكمن يف عالقتها باليهوديَّة. وهي وإن كانت غري ذي شأن يف هذا الوقتَّ ،
لقد كان صعباً يف البداية أن ينتقل اإلميان املسيحي من اليهود الذين آمنوا باملسيح إىل األممينِّي أي الوثنيني
السيئة
ألن العالقات َّ األول امليالدي أو بعده بقليل ،ذلك َّاحمليطني هبم يف هذه البالد ،على األقل خالل القرن َّ
بني اليهود وجرياهنم من الوثنيني خارج فلسطني ،أي يف الشَّتات ،كانت أمراً شائعاً يف العامل القدمي.
إن اليهود كانوا يتحفَّظون حتفُّظ اخلوف من الوثنيني ،ولذا فقد نالوا احتقارهم فيقول شاف َّ Schaff
بكفاحهم )وحصافتهم أن جيمعوا ثروات طائلة ،وأن
(
كأعداء للجنس البشري .ومع ذلك فقد استطاع اليهود
الرومانيَّة .لقد كان ناموسهم مينعهم من التَّعامل أو
40
تكون هلم مكانة يف بعض املدن ال ُكربى يف اإلمرباطوريَّة ُّ
االتصال باألمم األخرى.
َّأما يف مصر ويف اإلسكندريَّة بالتَّحديد فقد حدثت مصادمات بني اليهود واليونانينِّي ،وسنعدِّد هنا تلك
األول امليالدي.
املصادمات اليت حدثت بينهما يف القرن َّ
ففي سنة 38م أثناء زيارة هريودس أغريباس لإلسكندريَّة ،حدث شغب من اليهود ،انتهى إىل مذابح
الروماين
دمويَّة رهيبة بني اليهود واليونانينِّي .وكان رد الفعل من اليهود لالنتقام سنة 41م ما اضطر الوايل ُّ
الستخدام َّقواته لردع اليهود ،ممَّا تسبَّب بالتَّايل يف إراقة دماء يهوديَّة كثرية.
وعند بدء قيام ثورة يهود فلسطني سنة 66م ،ثار معهم أيضاً يهود اإلسكندريَّة متضامنني مع إخوهتم،
ف ُقتل منهم – طبقاً لقول يوسيفوس 50-ألف يهودي.
وأخريا كانت هناك ثورة اليهود املشئومة يف عهد اإلمرباطور تراجان (117 -98م) واليت امتدت من
( )
الوسطى ،حىت بلغت إىل صعيد مصر ،كما ختربنا الوثائق الربديَّة .
41
القريوان Cyrenaicaإىل اإلسكندريَّة ومصر ُ
الصعب على مؤمين كنيسة اإلسكندريَّة وهم من اليهود املستوطنني فيها ،أن متتد كرازهتم إذاً فقد كان من َّ
باملسيح خارج وسطهم اليهودي بسبب بُغضة اليونانيني هلم .فقد كان املسيحيُّون األوائل معتربين أهنم يهوداً يف
متطرفة أو خارجه عن اليهوديَّة .وكما رأينا َّ
وتأكدنا نظر الوثنيِّني ،ويف أحسن احلاالت نُظر إىل املسيحيَّة كشيعة ِّ
أن املسيحيَّة اليت وصلت إىل اإلسكندريَّة كانت متأثِّرة باليهوديَّة ،أو كانت ذات صبغة يهوديَّة ،لذلك يصبح من َّ
العسري أن متتد الكرازة املسيحيَّة إىل الوثنيِّني أو خارجاً عن نطاقها اليهودي ،يف هذه الفرتة ِّ
املبكرة من تاريخ ( )
الكنيسة .
42
يتبع