You are on page 1of 102

‫شخصيات من‬

‫القران الكريم‬
‫د‪ .‬عائض بن عبد الله‬
‫القرني‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫احلمد هلل الواحد األحد ‪ ،‬الصمد ؛ الذي مل يلد ومل يولد ‪ ،‬ومل يكن له كفوا أحد ‪،‬‬
‫والصالة والسالم على معلم الناس اخلري ؛ البشري النذير ‪ ،‬والسراج املنري ‪ ،‬صلى اهلل عليه وعلى‬
‫آله وأصحابه وأتباعه أمجعني ؛ أما بعد‪.‬‬
‫فانه يف خضم أزمات احلياة املادية ‪ ،‬جيب على املسلم أن خيلو بربه تعاىل ‪ ،‬ويتمتع بلذة‬
‫مناجاته ‪ ،‬والتشرف باخللوة به ‪ ،‬والتنعم بتدبر رسالته اخلالدة ؛ اليت أنزهلا لتكون نرباساً‬
‫للعاملني ‪ ،‬القران الكرمي ‪ ،‬وكان من مجلة اهتمامايت هبذه الرسالة اخلالدة ‪ ،‬أن يسر اهلل تعاىل يف‬
‫كتابه بعض الكلمات عن بعض الشخصيات اليت ورد ذكرها يف القران الكرمي ‪ ،‬فكانت هذه‬
‫الرسالة (( شخصيات من القران الكرمي )) سائال اهلل تعاىل أن يتقبلها مين ‪ ،‬وان ينفع هبا‬
‫املسلمني ‪.‬‬
‫وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني ‪.‬‬

‫‪،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،‬‬

‫كتب‬
‫د‪ .‬عائض بن عبد اهلل القرني‬
‫هذه قصة أبينا آدم ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬قصة اخللق وسجود املالئكة له ‪ ،‬وقصة اخلطيئة ‪،‬‬
‫وحنن مثله أو أكثر ‪ ،‬ومن شابه أباه فما ظلم ‪،‬وتلك شنشنة نعرفها من أحزم‪.‬‬
‫آِل‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫اس ُج ُدوا َد َم فَ َس َج ُدوا إِاَّل إبليس أَىَب‬
‫أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم { َوإِ ْذ ُق ْلنَا ل ْل َمالئ َكة ْ‬
‫كافِ ِرين}(البقرة‪)34:‬‬ ‫ِ‬
‫استَ ْكَبَر َو َكا َن م َن الْ َ َ‬ ‫َو ْ‬
‫هنا قضايا هائلة وأحداث عاملية ؛ عاشها آدم ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬ومسعها األنبياء والرسل‬
‫واملأل األعلى ‪.‬‬
‫((وإِ ْذ ُق ْلنَا لِْل َمالئِ َك ِة)) أي ‪ :‬كلفنا وأمرنا وتعبدنا‬ ‫أولها ‪ :‬يقول سبحانه وتعاىل ‪َ :‬‬
‫املالئكة أن يسجدوا آلدم ‪.‬‬
‫اس ُج ُدوا آِل َد َم} ويف هذه الكلمة قضايا ‪:‬‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫{ َوإِ ْذ ُق ْلنَا ل ْل َمالئ َكة ْ‬
‫أولها ‪ :‬ما هو هذا السجود الذي يريده ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬من املالئكة ؟ وهل يصرف‬
‫السجود لغري اهلل ؟‬
‫معاذا أتى من الشام قال ‪ :‬يا رسول اهلل ‪ ،‬رأيت العجم يسجدون‬ ‫يف احلديث ‪ :‬أن ً‬
‫مللوكهم وأنت أوىل أن نسجد لك ‪.‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم (( لو أمرت أحدا أن يسجد ألحد ألمرت املرأة أن تسجد‬
‫لزوجها لعظم حقه عليه ولكن ال يكون إال هلل )) (‪.)1‬‬
‫فال يسجد إال هلل ‪ ،‬وهذه السجدة هي سجدة التشريف ‪ ،‬ويوم تضع جبينك يف‬
‫األرض على الرتاب يرفعك اهلل درجات ‪ ،‬ففي حديث ثوبان قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪(( :‬إنك لن تسجد هلل سجدة إال رفعك هبا درجة))(‪ ، )2‬وعن ربيعة االسلمي قال‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫قلت يا رسول اهلل‪ ،‬أريد مرافقتك يف اجلنة ‪ ،‬فقال ‪(( :‬فأعين على نفسك بكثرة السجود))‬
‫‪.‬‬
‫كلما سجدت كلما رفعك اهلل ‪ ،‬وكلما حتررت من العبادة لغري اهلل ‪ ،‬من عبادة‬
‫الوظائف والطواغيت ‪ ،‬واملناصب ‪ ،‬والدراهم والدنانري ‪ ،‬ارتعت يف مقامات العبودية ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫صحيح ‪.‬‬
‫أخرجه احمد (‪ ، )18913‬وابن ماجه (‪ )1853‬عن عبد هللا بن أبي أوف رضي هللا عنه ‪ ،‬وانظر ‪ (( :‬المشكاة))(‪.)3255‬‬
‫(‪)2‬‬
‫أخرجه مسلم (‪.)488‬‬
‫(‪)3‬‬
‫أخرجه مسلم (‪.)489‬‬
‫فهل هذا السجود الذي أمر اهلل به املالئكة آلدم السجود على األرض مثل ما نسجد‬
‫للصالة ؟‬
‫ألهل العلم رأيان أو قوالن ‪:‬‬
‫يقول األول ‪ :‬معناه ‪ :‬االحنناء واخلضوع ‪ ،‬وهو ‪ :‬أن يهدهد رأسه وان خيضع ‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬معناه ‪ :‬أن يسجد لألرض فالسجود هلل ‪ ،‬ولكن تكرميا آلدم ‪ ،‬وإجابة‬
‫ألمر اهلل سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫والرأي الثاين هو الصحيح ‪ ،‬وكان يف شرع من قبلنا السجود لإلكرام ‪ ،‬قال ‪ ،‬سبحانه‬
‫جداً } (يوسف‪ :‬من اآلية ‪)100‬‬ ‫وتعاىل ‪ ،‬يف قصة يوسف ‪َ { :‬و َرفَ َع أ ََب َويِْه َعلَى الْ َع ْر ِش َو َخُّروا لَهُ ُس َّ‬
‫أما عندنا يف شريعتنا فال يسجد إال هلل ‪ ،‬وال يسجد لعظيم مهما كان ‪،‬وال ينحين له ‪ ،‬فان‬
‫االحنناء حمرم‪.‬‬
‫ويف هذا ‪ :‬قضايا أثارها ابن تيمية وابن القيم ‪،‬وغريمها ‪ ،‬هل املالئكة أفضل أو بين ادم‬
‫أفضل ؟‬
‫قال بعضهم ‪ :‬املالئكة أفضل ؛ ألهنم اقرب إىل اهلل ‪ ،‬والن اهلل رفع أمكنتهم ‪ ،‬والن اهلل ما‬
‫جعل عندهم شهوات ‪ ،‬فأهنم عقول بال شهوات ‪ ،‬وابن آدم شهوة وعقل ‪ ،‬واحليوان شهوة‬
‫بال عقل ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أهنم يسبحون الليل والنهار ال يفرتون ‪ ،‬وكل ما يف السماء من ملك ‪ ،‬كلهم‬
‫سجود إىل قيام الساعة ‪ ،‬وهناك مالئكة هلم اختصاصات عجيبة وجمال التوسع يف بسط الكالم‬
‫عنها يكون يف موضوع احلديث عن املالئكة‪.‬‬
‫واستدلوا بأدلة ‪ :‬منها‪ :‬أهنم يستغفرون ملن يف األرض ‪ ،‬والفضل يستغفر للمفضول ‪،‬‬
‫ليس املفضول يستغفر للفاضل ‪.‬‬
‫وقال قوم ‪ :‬بل بنو آدم أفضل ؛ ألهنم ركبت فيهم الشهوة ‪ ،‬وصارعوا الشهوات ‪،‬‬
‫يعين ‪ :‬الصاحلني ‪ ،‬أما الكفرة فال يوازنون باحلمري وال باخلنازير وال بالكالب { إِ ْن ُه ْم إِاَّل‬
‫َض ُّل َسبِيالً} (الفرقان‪ :‬من اآلية ‪. )44‬‬ ‫َكاأْل َْن َع ِام بَ ْل ُه ْم أ َ‬
‫والصاحلون كما يقول بن تيمية ‪ :‬العربة بكمال النهايات ال بنقص البدايات ‪.‬‬
‫فأما يف الدنيا فاملالئكة أفضل ؛ ألهنا اقرب إىل اهلل ‪ ،‬وألهنم ال يذنبون وال خيطئون وال‬
‫يعصون اهلل ‪،‬وأما يف األرض فإذا قرب اهلل بين آدم ودخلوا اجلنة – نسأل اهلل من فضله ‪،‬‬
‫أصبحوا أفضل من املالئكة‪.‬‬
‫باهلل لفظك هذا سال من عسل *** أم قد صببت على أفواهنا العسل‬
‫{ َوإِ ْذ ُق ْلنَا لِْل َمالئِ َك ِة اسجدوا}‬
‫أوال ‪ :‬خلق اهلل آدم من طني الزب ‪ ،‬ما محأ مسنون ‪،‬قالوا ‪ :‬من فخار ‪ ،‬والطني‬
‫الالزب ‪ ،‬هو ‪ :‬الطينة اللزجة كالغراء ‪ ،‬فلما خلقه اهلل تركه أربعني يوما طينا ‪ ،‬تدخل الرياح‬
‫من فمه وخترج من دبره ‪ ،‬انظر إىل اخللق الضعيف ‪ ،‬وانظر إىل أصل النشأة ‪ ،‬وانظر إىل‬
‫الناس مجيعا ؛ ملوكا ومملوكني ‪ ،‬ورؤساء ومرؤوسني ‪ ،‬وأغنياء وفقراء ‪ ،‬كلهم من هذا الطني‬
‫‪ ،‬مث انظر إىل املتكربين املتجربين يف األرض ‪.‬‬
‫الذي ما ينظر بعني البصرية ‪ ،‬إمنا ينظر بعني البصر يتيه تيهانا ‪ ،‬ويهيج هيجانا ‪ ،‬وميشي‬
‫وكأنه ليس من ذاك األصل ‪.‬‬
‫أحد وزراء بين أمية وزير متكرب متجرب ‪ ،‬عنده بغال ‪ ،‬وعنده خيول وسيوف ‪ ،‬وعنده‬
‫حشم ‪ ،‬مر واحلسن البصري جالس ‪ ،‬فقام له الناس إال احلسن البصري ‪.‬‬
‫فالتفت الوزير قال ‪ :‬ما عرفتين ؟‬
‫قال احلسن البصري ملا عرفتك ما قمت ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬من أنا ؟‬
‫قال ‪ :‬أنت الذي خرج من خمرج البول مرتني ‪،‬أن تتحمل العذرة ‪ ،‬و أصلك تعاد إىل‬
‫جيفة قذرة ‪ ،‬وأتيت من نطفة مذرة ‪ ،‬فسكت ‪ ،‬فكأمنا أغشي على وجهه النار ‪.‬‬
‫دخل املهدي العباس مسجد الرسول صلى اهلل عليه وسلم فقام الناس له مجيعا ‪ ،‬إال ابن‬
‫أيب ذئب احملدث الكبري ما قام ‪ ،‬جلس فسلم على احلضور ‪ ،‬مث التفت إىل ابن ذئب قال ‪ :‬ما‬
‫لك ال تقوم لنا وقد قام لنا الناس ؟ قال ‪ :‬أردت إن أقوم لك فتذكرت قوله تعاىل ‪َ { :‬ي ْو َم‬
‫ني} (املطففني ‪ ) 6 :‬فرتكت القيام لذلك اليوم ‪ ،‬قال ‪ :‬اجلس ‪ ،‬واهلل ‪،‬‬ ‫ي ُقوم النَّاس لِر ِّ ِ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َ ُ ُ َ‬
‫لقد أقمت كل شعرة من رأسي ‪.‬‬
‫عن طاووس بن كيسان العامل الثقة الزاهد العابد احملدث تلمي ابن عباس قال ‪ :‬دخلت‬
‫احلرم فطفت ‪ ،‬مث صليت ركعتني عند املقام ‪ ،‬مث جلست انظر يف الناس أتفكر يف هذه اخلليقة‬
‫‪ ،‬وهي ‪ ،‬واهلل ‪،‬عربة من العرب ‪ ،‬انظر إىل املطارات إذا كنت يف انتظار أو مغادرة ‪ ،‬وانظر إىل‬
‫الصاالت واملستشفيات ‪ ،‬اختالف الصور ‪ ،‬اختالف األبدان ‪ ،‬اللمحات ‪ ،‬النظرات ‪،‬‬
‫السمات ‪ ،‬كل واحد من الناس عامل مستقل يف نفسه ‪ ،‬مهوم وغموم وأحزان وأقطار ‪ ،‬شقي‬
‫وسعيد ‪ ،‬فقري وغين ‪ ،‬سامل من اهلموم ‪ ،‬ومتورط يف املدهلمات ‪ ،‬فسبحان الباري ‪.‬‬
‫ومع ذلك ‪ ،‬فاهلل يراقب كل حركة من الناس ‪ ،‬كل يوم هو يف شأن ‪ ،‬ما تفعل من‬
‫حركة ‪ ،‬وال سكنة وال كلمة وال خطوة إال واهلل معك ‪ ،‬ميوت هذا بعلم من اهلل ‪ ،‬ويولد هذا‬
‫بعلم من اهلل ‪ ،‬وميرض هذا واهلل بعلمه ‪ ،‬ويشفى هذا واهلل يعلمه ‪.‬‬
‫فجلس طاووس ينظر فإذا جبلبة السالح واحلراس والرماح ‪ ،‬فالتفت قال ‪ :‬فإذا هو‬
‫احلجاج ابن يوسف ‪ ،‬قال ‪ :‬فالتفت فإذا جلبة السالح فسكنت مكاين وإذا بأعرايب ‪ ،‬إعرايب‬
‫لكنه مسلم متصل باهلل يطوف بالكعبة ‪ ،‬فلما انتهى من الطواف أتى ليصلي ركعتني ‪،‬فنشبت‬
‫حربة يف ثيابه فارتفعت فوقعت على احلجاج ‪ ،‬فمسكه احلجاج بيده ‪.‬‬
‫فقال له احلجاج ‪ :‬من أين أنت ؟‬
‫قال ‪ :‬من أهل اليمن ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬كيف تركتم أخي ؟ وكان أخوه حممد بن يوسف عامال على اليمن ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬من أخوك ؟‬
‫قال ‪ :‬أنا احلجاج أخي حممد ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬تركته مسينا بطينا – انظر إىل اإلجابة ما أحسنها ‪..‬‬
‫قال ‪ :‬ما سألتك عن حالته ومسنه وبطنته سألتك عن عقله ؟‬
‫قال ‪ :‬تركته غشوما ظلوما ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬أما تدري انه أخي ؟‬
‫قال ‪ :‬أتظن انه يعتز بك أكثر من اعتزازي باهلل ؟‬
‫قال طاووس ‪ :‬واهلل ‪ ،‬ما بقيت يف رأسي شعرة إال قامت ‪.‬‬
‫قال ابن عبد اهلادي ك دخل ابن تيمية اإلسكندرية ‪ ،‬دخل يريدون سجنه ‪ ،‬فأخرجوه‬
‫من سجنه إىل سجن آخر ‪ ،‬ملاذا يسجن ؟ يسجن لتثبت ال اله إال اهلل يف األرض ‪ ،‬يرد على‬
‫املبتدعة واملالحدة والزنادقة واملعتزلة واجلهمية واالشاعرة ‪ ،‬فقال له أحد املبتدعة ‪ :‬يا ابن تيمية‬
‫‪ ،‬واله ‪ ،‬كل هؤالء يطالبون بدمك ‪ ،‬ويريدون قتلك اآلن ‪.‬‬
‫فقال ابن تيمية أختوفين بالناس ‪ ،‬مث نفخ يف كفه قال ‪ :‬واله ‪ ،‬كأهنم ذبان ‪ ،‬لكن من‬
‫مثل ابن تيمية ؟‬
‫قال بعض املفسرين ‪ :‬ملا خلق اله ‪ ،‬سبحانه وتعاىل‪ ،‬آدم تركه أربعني يوما هكذا ‪،‬‬
‫فكان مير به الشيطان فينظر إليه من طني فينخ فيه فيجلجل نفخه فيه فعرف انه ضعيف ال‬
‫يتماسك‪.‬‬
‫ضعِيفاً} (النساء‪ :‬من اآلية ‪)28‬وخلق ظلوما جهوال ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وقال اهلل عز وجل ‪َ {:‬و ُخل َق اإْل نسان َ‬
‫وخلق عجوال ‪ ،‬وهي يف اإلنسان طبعة إال إذا رتبها ونقاها وسريها بالكتاب والسنة فإهنا‬
‫تصلح ‪ ،‬بإذن اهلل ‪.‬‬
‫فلما نفخ اهلل فيه من روحه ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬وهذا شرف ‪ ،‬أحياه اهلل للمالئكة ‪:‬‬
‫اسجدوا آلدم ‪.‬‬
‫ولنا إن نتساءل ‪ ،‬ملاذا أمر اهلل املالئكة بالسجود آلدم ؟‬
‫أوال ‪ :‬ميتحنهم لطاعة هل يطيعونه أم ال ؟‬
‫ثانيا ‪ :‬يرى من يعصي منهم ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬يرى الناس فضل آدم ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬فقاموا فسجدوا مجيعا إال إبليس تكرب ‪،‬‬
‫وملاذا تكرب ؟‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬كان إبليس اعلم املالئكة لكن ما نفعه علمه ‪ ،‬بل زهى وتكرب‬
‫وافتخر‪.‬‬
‫وقال يف بعض الروايات – أوردها ابن كثري وغريه ‪ : -‬كان إبليس ملك السماء الدنيا ‪ ،‬هو‬
‫مسؤول عن السماء الدنيا ‪ ،‬فأىب إن يسجد ملا قال اهلل للمالئكة اسجدوا ‪ ،‬فأتى يعرتض ‪،‬‬
‫ويقول لرب العزة الذي خلق السماوات واألرض ‪ ،‬ويعلم ما حتت الثرى ‪ .‬يقول ‪ :‬خلقتين‬
‫من نار وخلقته من طني ‪ ،‬أأسجد وأنا اشرف العناصر ‪ ،‬عنصري من نار وعنصره من طني ؟‬
‫والنار اشرف من الطني فكيف تسجد النار للطني ؟ هذه الكلمة هي بداية اخلذالن وبداية‬
‫اس ُج ُدوا آِل َد َم فَس َج ُدوا إِاَّل‬ ‫اللعنة وبداية احلرمان ‪ ،‬اعرتاضه هو الكرب {وإِ ْذ ُق ْلنَا لِْلمالئِ َك ِ‬
‫ة‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يس أَىَب } (البقرة‪ :‬من اآلية ‪ )34‬هذه اشد املفرتيات ‪ ،‬رفض إن يسجد وأىب وامتنع ‪ ،‬وما كفى يف‬ ‫ِِ‬
‫إبْل َ‬
‫اللفظ إن يقول ‪ :‬أىب ‪ ،‬بل قال ‪ :‬واستكرب ‪ ،‬ولذلك كانت أركان الكفر ثالثة ‪:‬‬
‫احلسد ‪،‬والكرب ‪ ،‬والكذب ‪.‬‬
‫فمن كان فيه كرب ‪ ،‬فقد اخذ ثلث الكفر ‪ ،‬وما عليه إال الباقي ‪.‬‬
‫الكرب هذا هو شعار إبليس ‪ ،‬نعوذ باهلل ‪.‬‬
‫ومن عالمات املتكرب ‪ :‬انه ال يستفيد من غريه ‪ ،‬وال يرى الفضل لغريه ‪ ،‬وال ينقاد‬
‫للحق إذا عرفه ‪ ،‬ويعرف بلفظه ويعرف مبشيته ‪،‬ويعرف بنحنحته ‪ ،‬ويعرف بسعلته ‪.‬‬
‫قالت العرب ‪ :‬أمحق الناس املتكرب ‪ ،‬ولذلك أمحق الطيور الطاووس ؛ ألهنم متكرب ‪.‬‬
‫ذكروا لبعض احلمقى من السالطني املتكربين ‪ ،‬ما اهلل به عليهم ‪ ،‬سلطان من السالطني‬
‫عزل عن منصبه ‪ ،‬فذهب إىل قرية من قراه ‪ ،‬ففرشوا له مالحفهم وعمائمهم يف الطريق ؛‬
‫ألهنم جاد عليهم مبال وهو يف عمله ‪ ،‬فالتفت إىل الناس وقال ‪ :‬ملثل هذا فليعمل العاملون ‪.‬‬
‫ومر وزير من الوزراء العباسيني على اجلسر – جسر بغداد – وقف قبل اجلسر ‪ ،‬وقال‬
‫‪ :‬واهلل ‪ ،‬إين أخشى إن ال حيمل اجلسر شريف ‪ ،‬وان ينكسر يب يف النهر ‪.‬‬
‫وذكروا عن احلجاج بن أرطأ ‪ :‬أحد احملدثني ‪ ،‬رمحه اهلل ‪ ،‬انه دخل اجمللس فجلس يف‬
‫طرف الناس ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬اجلس يف الصدر ‪ ،‬قال ‪ :‬حيثما جلست فأنا صدر ‪ ،‬يف أي مكان‬
‫اجلس فأنا صدر ‪ ،‬وهذه من عبارات الكرب اليت اكتسبت يف أصل ذاك العنصر أو أخذت‬
‫باالقتباس ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين} (البقرة‪ :‬من اآلية ‪. )34‬‬ ‫استَ ْكَبَر َو َكا َن م َن الْ َكاف ِر َ‬
‫ويف هذه اآلية ‪ { :‬أَىَب َو ْ‬
‫قال املفسرون ‪ :‬كيف يقول ‪ :‬وكان من الكافرين ومل يكن هناك كافر ‪ ،‬بل أول الناس‬
‫آدم ؟‬
‫قالوا ‪ :‬سوف يكون يف علم اهلل انه من الكارين ‪ ،‬وهو الرأي الصحيح ‪.‬‬
‫ث ِشْئتُ َما َوال‬ ‫ك اجْلَنَّةَ َو ُكال ِمْن َها َر َغداً َحْي ُ‬ ‫اس ُك ْن أنت َو َز ْو ُج َ‬ ‫آد ُم ْ‬
‫قال ‪َ { :‬و ُق ْلنَا يَا َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ني} (البقرة‪ )35:‬سجد املالئكة ‪ ،‬و أراد اهلل إكرام آدم‬ ‫َّجَر َة َفتَ ُكونَا م َن الظَّالم َ‬‫َت ْقَربَا َهذه الش َ‬
‫فأسكنه جنة اخللد ‪ ،‬وقد أورد ابن القيم وغريه يف اجلنة اليت أسكنها وزجه أقوال ‪ ،‬هل هي‬
‫جنة يف األرض وبستان يف األرض ‪ ،‬أم هي جنة اخللد؟‬
‫والصحيح ‪ :‬إهنا جنة اخللد ‪ ،‬أدخله اهلل يف جنة اخللد ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬فاستوحش ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬وما كان معه أحد ‪ ،‬فجلس فارغا والتفت يريد إن‬
‫جيلس مع أحد ‪ ،‬لكن من جيلس معه ؟ املالئكة هلم جنس خاص ‪ ،‬اجلن جنس خاص ‪ ،‬وهو‬
‫يريد من جنسه ‪.‬‬
‫وملا استوحش آدم ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬نومه اهلل ‪ ،‬كما يقول أهل التفسري ‪ - ،‬منهم ابن‬
‫كثري ‪ : -‬نومه ‪ ،‬وأخذ من ضلعه األيسر حواء ‪ ،‬ما أضعفنا ‪ ،‬وما أذلنا ‪،‬وما أقلنا ‪ ،‬وما‬
‫أحوجنا إىل رمحة اهلل ‪ ،‬إنسان هذا خلقه ‪ ،‬وهذه أمه ‪ ،‬مث يأيت اإلنسان ‪ ،‬ويظن انه واحد‬
‫العامل ‪ ،‬فريد العصر ‪ ،‬وان الناس ليسوا بشيء ‪ ،‬يركب الكبائر ‪ ،‬ويأيت بكل جرم ‪،‬وكل ما‬
‫خطر له ‪ ،‬ويسىن تلك النشأة‪.‬‬
‫خلق اهلل حواء ‪ ،‬فالتفت آدم إليها بعد إن استيقظ ‪ ،‬فرآها جبانبه فعرف اهنا زوجته‬
‫آياته أَ ْن َخلَ َق لَ ُك ْم ِم ْن أنفس ُك ْم أ َْز َواجاً لِتَ ْس ُكنُوا إِلَْي َها َو َج َع َل َبْينَ ُك ْم َم َو َّد ًة‬
‫فسكن إليها {و ِمن ِ‬
‫َ ْ‬
‫َو َرمْح َةً } (الروم‪ :‬من اآلية ‪ )21‬ملاذا مسيت حواء ؟ قالوا ‪ :‬ألهنا من احلياة ‪ ،‬واهلل اعلم ‪.‬‬
‫قال اهلل هلم ‪ :‬كلوا من اجلنة واسكنوا يف اجلنة ‪،‬ومتتعوا يف اجلنة ‪ ،‬هذه قصورها ‪ ،‬وهذه‬
‫أهنارها‪ ،‬وهذه مثارها ‪ ،‬وهذا كل ما لذ وطاب ‪ ،‬لكن هذه الشجرة ال تأكالن منها ‪ ،‬ملاذا ؟‬
‫امتحان وابتالء من اهلل لريى عودهتم ‪ ،‬ولريى صدقهم ‪ ،‬ولريى إمياهنم ‪.‬‬
‫ما هي هذه الشجرة ؟ اختلف أهل العلم فيها على أقوال ‪.‬‬
‫قيل‪ :‬السنبلة ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬العنب ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬التني ‪.‬‬
‫وذلك كله ال يهم ‪ ،‬يقول ابن جرير ‪ :‬إن اهلل مل حيددها أمسا بعينها ‪ ،‬ومل يسمها لنا ‪،‬‬
‫ومل يأت هبا قران وال سنة فلماذا نتكلم ؟‬
‫فأحب شيء لإلنسان ما منع عنه اآلن ‪ ،‬لو تدخله غرفة مكيفة مفروشة ‪ ،‬عنده ما لذ‬
‫وطاب من الطعام والشراب ومرتاح ‪ ،‬فتقول ‪ :‬أحذر ال خترج من هذه الغرفة ‪ ،‬وإن خرجت‬
‫عاقبناك عقابا أليما ‪ ،‬فيأيت ويقول ‪ :‬منعين من اخلروج ‪ ،‬حبسين يف هذا املكان ‪ ،‬حسنا اهلل‬
‫عليه ‪.‬‬
‫قال علي بن أيب طالب ‪ :‬لو منع الناس من فت البعر لفتوه ‪.‬‬
‫ولذلك انظر إىل اخلمر اآلن ‪ ،‬تذهب العقل واللب وتفسد األسر ‪ ،‬وتسبب املذابح بني‬
‫األهل واألقارب ‪ ،‬وترتكب هبا الطامات‪ ،‬ومع ذلك يسافر هلا بعض الذين ال يرجون هلل وقارا‬
‫‪ ،‬وال خيافون هلل هيبة ‪ ،‬وال رقابة ‪ ،‬يسافرون إىل بالدها ‪ ،‬بل بعض الناس بلغ الثمانني من‬
‫عمره ‪ ،‬وهو يعاقر اخلمر ويشرهبا ‪ ،‬وقد ذهب لبه وعقله وأرادته ‪ ،‬وهو ممنوع منها ‪ ،‬وكذا‬
‫الزنا وكذا النظر إىل احملرمات والربا وغريها ؛ ألنه منع ‪.‬‬
‫وهذه هي التكاليف ‪ ،‬ولو كانت املسالة بال منع وال حظر ‪ ،‬ملا كان هناك ابتالء ‪،‬‬
‫وكان الناس يف اجلنة ‪ ،‬وما عرف الطيب من اخلري واملؤمن من الكافر ‪.‬‬
‫فلما منعه اهلل ‪ ،‬أتى إبليس يوسوس له ‪ ،‬هذه العداوة ‪،‬والسؤال كيف دخل معه إبليس‬
‫اجلنة ؟‬
‫سبق ‪ ،‬وان ذكرنا ‪ ،‬أهنم كانوا يف السماء ‪ ،‬وخلق اهلل آدم يف السماء ‪،‬مث اسجد له‬
‫املالئكة ‪ ،‬ورفض إبليس ‪ ،‬وجعل اهلل عز وجل آدم وحواء يف اجلنة وإبليس مبنأى ‪ ،‬فلما‬
‫حذرهم اهلل من الشجرة أتى إبليس يوسوس آلدم وحواء ‪ ،‬فأين وسوس هلما ؟‬
‫ألهل العلم ثالثة آراء وأقوال ‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬قالوا ‪ :‬هو مطرود حمروم ‪ ،‬لكنه دخل يوسوس وال يتنعم ‪ ،‬فهو مطرود‬
‫من رمحة اهلل ‪ ،‬لكن جعله اهلل يذهب ؛ ألهنم سال اهلل إن ميهله ليغوي آدم وذريته إال قليال ‪،‬‬
‫فأنظره اهلل ‪ ،‬فهو يدخل بال حجاب ‪ ،‬ويدخل بال حرس ‪ ،‬ويدخل عليك وأنت يف فراشك ‪،‬‬
‫وأنت يف السيارة والطائرة ‪ ،‬وهو معك جيري منك جمرى الدم ‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬قالوا ‪ :‬أخذته احلية ‪ ،‬حية شارقة مارقة ابتلعت إبليس ‪،‬مث دخلت اجلنة‬
‫‪ ،‬أوردها أهل التفسري ‪.‬‬
‫والقول الثالث ‪ :‬قالوا ‪ :‬وسوس من بعيد ‪ ،‬ما دخل اجلنة ‪ ،‬لكن اخذ يوسوس‬
‫فوصلت الوسوسة ‪.‬‬
‫والراجح‪ ،‬هو ‪ :‬الرأي األول ‪ ،‬انه دخل مطرودا حمروما لكن أتى يوسوس فانظر إىل‬
‫َّجَر ِة إِاَّل أَ ْن تَ ُكونَا َملَ َكنْي ِ أ َْو تَ ُكونَا ِم َن‬ ‫ِِ‬
‫ال َما َن َها ُك َما َربُّ ُك َما َع ْن َهذه الش َ‬
‫وسوسته { َوقَ َ‬
‫ين} (ألعراف‪ :‬من اآلية ‪ )20‬فصدقه آدم ‪.‬‬ ‫اخْل الِ ِ‬
‫د‬
‫َ َ‬
‫اإلنسان يصدق إبليس ‪ ،‬حىت اآلن ‪ ،‬ولو كان مؤمنا ‪ ،‬يأتيك فيقول مثال ‪ :‬جارك ما‬
‫تكلم عليك بتلك الكلمة إال ملقصد يف نفسه ‪ ،‬ما هو مقصده ؟ قال ‪ :‬امتهانك واحتقارك‬
‫واالزدراء بك ‪ ،‬فيقول ‪ :‬صدقت ‪،‬ويذهب بسيفه وخنجره يقاتل جاره ‪.‬‬
‫يغض طرفه يف السوق ‪،‬قال ‪ :‬أنت ما نظرت إىل السحر احلالل ‪ ،‬لو نظرت إىل اجلمال‬
‫نظرة واحدة فقط ‪ ،‬حىت ترد نفسك بنظرة واحدة ‪ ،‬ينظر النظرة فيكون هالكه فيها ‪.‬‬
‫وتسمع األغنية املاجنة يقول ‪ :‬ما عليك من الغناء ن هذا حالل ‪،‬والعلماء الذين قالوا‬
‫بتحرميه ليس عندهم دليل ثابت ‪ ،‬امسع ومتتع قليال ‪ ،‬وأنت ما ارتكبت جرمية ‪ ،‬ال شربت مخرا‬
‫وال زنيت ‪ ،‬أنت تستمتع إىل أغنية ‪ ،‬فيسمع الذي يقول ‪ :‬هل رأى احلب سكارى مثلنا‬
‫فيسكر ‪ ،‬مث يزين ‪ ،‬مث يرتكب الفواحش يدهده على وجهه يف النار ‪.‬‬
‫فوسوس آلدم ‪ ،‬فاستمع له آدم ‪ ،‬فأكل من الشجرة ‪،‬وأكلت حواء ‪ ،‬فلما أكال سقط‬
‫اللباس الذي يواري عوراهتما ‪ ،‬وعليهما لباس اجلنة وحسن اجلنة وحلي اجلنة ‪ ،‬وهباء اجلنة‬
‫تناثر يف األرض ‪.‬‬
‫ال اله إال اهلل ‪ ،‬ما أشده من موقف ‪ ،‬هذا موقف املسكنة ‪ ،‬موقف الذنب واخلطيئة ‪.‬‬
‫يقولون ‪ :‬إن يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬ملا هم باملرأة ومهت به مسع هاتفا يقول ‪ :‬يا‬
‫يوسف ‪ ،‬ال تزين فان من زىن كالطائر الذي عليه ريش نتف ريشه ‪.‬‬
‫وهذه مغبة املعصية ‪ ،‬انظر كيف سلب احلياء واجلمال واحللي وكل نعمة ‪ ،‬فأصبح يف‬
‫موقف هو وحواء عراة ‪ ،‬فأخذا أوراق الشجر ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬وعليها السالم ‪ ،‬يغطيان‬
‫(طه ‪)123:‬‬ ‫عوراهتما من الناظرين إن كان مالئكة أو غريهم ‪ ،‬فأتاهم اخلطاب مباشرة {اهبطا}‬
‫فالعصارة ال جياورون الواحد األحد ‪ ،‬وهذه ‪ ،‬واهلل ‪ ،‬أعظم مصيبة منينا هبا ‪.‬‬
‫يقول ابن القيم ‪:‬‬
‫ولكننا سيب العدو فهل ترى *** نعود إىل أوطاننا ونسلم‬

‫يقول ‪ :‬حنن سبينا من اجلنة ‪ ،‬سبانا إبليس وأنزلنا يف األرض ‪ ،‬فيا ليت !! مىت نعود‬
‫ألوطاننا ‪ ،‬حنن أهل األوطان أهل األهنار أهل القصور ‪.‬‬
‫يا راقدا يرنو بعيين راق ــد *** ومشاهد ألمر غري مشاهــد‬
‫تصل الذنوب إىل الذنوب وترجتي *** نزل النعيم وفوز خلد واحـد‬
‫ونسيت إن اهلل أهبد آدم ــا *** من جنة املأوى بذنب واحـد‬

‫فكيف بنا حنن وقد أتينا بعشرات من الذنوب ؟‬


‫فحي على جنات عدم فإهنا *** منازلك األوىل وفيها املخيم‬
‫ولكننا سيب العدو فهل ترى *** نعود إىل أوطاننا ونسلــم‬

‫هبط ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬وانظر إىل اهلبوط من علو من جنة اخللد ن هبط ووقع يف األرض‬
‫‪ ،‬ارض يابسة ارض قاحلة ‪.‬‬
‫نقل أهل العلم ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أما آدم فهبط يف اهلند ‪ ،‬وبيده غصن شجرة ‪ ،‬وقالوا‬
‫‪ :‬وأما حواء فهبطت جبدة ‪ ،‬ونقل غريهم ‪ :‬هبط آدم على الصفا وهبطت حواء على املروة‬
‫‪،‬وال يهمنا هبط هنا أو هنا ‪ ،‬فان املقصود ‪ :‬إن اهلل أهبطهم إىل األرض ‪ ،‬أما آدم ‪ ،‬عليه‬
‫السالم ‪ ،‬فهبط بغصن شجرة ‪ ،‬فنزل هذا الغصن فنبت يف اهلند ‪،‬فقالوا ‪ :‬كل خبور ‪ ،‬وكل‬
‫طيب يأيت من اهلند من آثار ذاك العود‪.‬‬
‫ك اجْلَنَّة} (البقرة‪ :‬من اآلية ‪. )35‬‬ ‫اس ُك ْن أَنْ َ‬
‫ت َو َز ْو ُج َ‬ ‫آد ُم ْ‬
‫{ َو ُق ْلنَا يَا َ‬
‫اسكن لفظ فيه حياة ‪ ،‬ما قال ‪ :‬اقعد ‪ ،‬وال قال ‪ :‬اجلس ‪ ،‬بل قال ‪ :‬اسكن ‪ ،‬وهذه‬
‫ك اجْلَنَّةَ‬ ‫اس ُك ْن أَنْ َ‬
‫ت َو َز ْو ُج َ‬ ‫الكلمة فيها من اليقني والطمأنينة والفرح والبشر ما اهلل به عليم{ ْ‬
‫َو ُكال ِمْن َها َر َغداً } (البقرة‪ :‬من اآلية ‪ )35‬هنا ليس الرغد إال يف اجلنة‪ ،‬قد يطلق جمازا على الدنيا ‪:‬‬
‫عيش رغيد ‪ ،‬لكن إذا مسعت اإلنسان يقول ‪ :‬أنا يف عيش رغيد مستمر ‪ ،‬فال تصدقه ‪.‬‬
‫هشام بن عبد امللك قال لوزرائه ‪ :‬تعالوا حنصي األيام اليت أتاين السرور فيها منذ‬
‫توليت اخلالفة ‪ ،‬توىل سنوات اخلالفة ‪ ،‬فحسبها فوجدها ثالثة عشر يوما ‪ ،‬سنوات كلها‬
‫تصفي ‪ 13‬يوما سلم فيها من النكود والزالزل والفنت واحملن ‪ ،‬يعين ‪ 13‬يوما استقر حاله‬
‫فقط ‪.‬‬
‫فقال لوزرائه ‪ :‬ال جرم – يعين ‪ :‬ال جرم ‪ :‬ال ريب ‪ ،‬ال شك – أخلون غدا يف بستاين‬
‫‪ ،‬وعلي احلراسة ألسعد من الصباح إىل املساء ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬فخرج يف بستان له يف روضة دمشق وقال للحرس ‪ :‬ال تستقبلوا رسوال ‪ ،‬يعين‬
‫‪ :‬رسوال موفدا ‪ ،‬وال تأذنوا ألحد ‪ ،‬وال تسمعوين مشكلة واتركوين يف هذا البستان يوما‬
‫كامال ‪.‬‬
‫فجلس يف هذا املكان من الصباح ‪ ،‬فلما قرب الظهر وإذا هو بسهم فيه دم وقع جبانبه‬
‫‪ ،‬فرفع السهم فوجده طار من اثنني تقاتال خارج البستان وأتى إليه السهم ‪ ،‬قال ‪ :‬وال يوم‬
‫واحد – حىت يوم واحد – ما نسلم من املشاكل ‪.‬‬
‫ال دار للمرء بعد املوت يسكنه ــا *** إال اليت كان قبل املوت بانيها‬
‫إن بناها خبري طاب مسكن ـ ــه *** وان بناها بشر خاب بانيهــا‬

‫يقول أبو الفتح البسيت أحد العلماء ‪:‬‬


‫يا عامرا خلراب الدار جمتهدا *** باهلل هل خلراب الدار عمران‬
‫ومن العجيب ‪ ،‬انك جتد الشيخ الكبري ‪ ،‬عمره يناهز الثمانني ‪ ،‬ومع ذلك جتده حريصا‬
‫على طلب الدنيا ولذلك قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان ‪:‬‬
‫احلرص على املال ‪ .‬واحلرص على العمر ))(‪.)4‬‬

‫(‪)4‬‬
‫أخرجه مسلم ( ‪ )1047‬عن انس بن مالك ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫هذا هو اإلنسان وهذه طبيعته ‪ ،‬وال يعرف حقيقة الدنيا إال من عرف اهلل ورسول اهلل‬
‫والدار اآلخرة ‪.‬‬
‫عندما أتت هارون الرشيد سكرات املوت قال ‪ :‬أخرجوين أرى اجليش ‪ ،‬فخرج جيشه‬
‫فإذا هم تسعون ألفا ‪ ،‬فنظر إليهم ‪ ،‬وقال ‪ :‬يا من ال يزول ملكه ارحم من زال ملكه ‪.‬‬
‫الوليد بن عبد امللك بىن قصورا يف دمشق ما يعلمها إال اهلل ‪ ،‬وهو الذي وسع املسجد‬
‫النبوي ووسع املسجد األقصى ‪ ،‬وأتى باملشاريع اهلائلة ‪ ،‬بىن قصورا وحدائق ال يعلمها إال اهلل‬
‫‪ ،‬فلما أتته سكرات املوت لبط وجهه يف األرض وضرب وجهه ‪ ،‬وقال ‪َ { :‬ما أَ ْغىَن َعيِّن‬
‫ك َعيِّن ُس ْلطَانِيَ ْه} (احلاقة‪ )29 - 28:‬وهذا عبد امللك بن مروان عندما حضرته‬ ‫ِ‬
‫َماليَ ْه(‪َ )28‬هلَ َ‬
‫سكرات املوت مسع غساال ‪ ،‬جبانب القصر ‪ ،‬قال ‪ :‬يا ليتين كنت غساال يا ليت أمي مل تلدين‬
‫‪ ،‬قال سعيد بن املسيب ملا مسع الكلمة ‪ :‬احلمد هلل الذي جعلهم يفرون إلينا وقت املوت وال‬
‫نفر إليهم ‪.‬‬
‫أما ميمون بن مهران وهو أحد الصاحلني الكبار ‪ ،‬فقد حفر قربا له يف قعر بيته ‪ ،‬يف‬
‫حوشه يف داره ‪ ،‬فإذا أراد أن ينام توضأ ونزل يف القرب وبكى كثريا ‪ ،‬مث خرج من القرب قال ‪:‬‬
‫يا ميمون ‪ ،‬عدت إىل الدنيا فاعمل صاحلا ‪.‬‬
‫غداً } (البقرة‪ :‬من اآلية‪)35‬‬ ‫ك اجْلَنَّةَ َو ُكال ِمْن َها َر َ‬ ‫اس ُك ْن أَنْ َ‬
‫ت َو َز ْو ُج َ‬ ‫آد ُم ْ‬ ‫{ َو ُق ْلنَا يَا َ‬
‫هذا الرغد ال يكون إال يف اجلنة ؛ رغد ال هم وال غم وال حزن ‪ ،‬فأهلها ال يبولون وال‬
‫يتغوطون وال ميرضون ‪ ،‬ورشحهم املسك ‪ ،‬قلوهبم على قلب امرئ واحد ‪ ،‬خال من كل‬
‫حقد وحسد وغيظ وبغضاء ‪ ،‬ال خيافون موتا وال جوعا وال هرما ‪ ،‬وال يصيبهم سوء أبدا‬
‫ك َعْن َها ُمْب َع ُدو َن (‪ )101‬ال يَسمعُو َن َح ِسيس َها و ُه ْم يِف‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ت هَلُ ْم ِمنَّا احْلُ ْسىَن أُولَئِ َ‬
‫ين َسَب َق ْ‬ ‫{إ َّن الذ َ‬
‫اه ُم الْ َمالئِ َكةُ َه َذا َي ْو ُم ُك ُم‬ ‫ِ‬
‫أنفسه ْم َخال ُدو َن (‪ )102‬ال حَيْ ُزنُ ُه ُم الْ َفَزعُ اأْل كرب َوَتَتلَ َّق ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫َما ا ْشَت َه ْ‬
‫ِ‬
‫وع ُدو َن (‪ } )103‬األنبياء (‪.)103-101‬‬ ‫الَّذي ُكْنتُ ْم تُ َ‬
‫( وقلنا يا آدم اسكن ‪ ...‬فتكونا من الظاملني ‪ .‬قربا من الشجرة فظلما أنفسهما ‪ ،‬فنزال‬
‫إىل األرض ‪.‬‬
‫أولهما ‪ :‬الوضوء دائما إن تكون على طهارة الوضوء هذا حصن حصني ‪.‬‬
‫األمر الثاني ‪ :‬األذكار ‪ ،‬األذكار دائما وأبدا ‪ ،‬خاصة آية الكرسي ‪ ،‬فهي حترق‬
‫الشياطني ‪ ،‬واملعوذات وقل هو اهلل أحد ‪ ،‬وال اله إال اهلل حممد رسول اهلل ‪ ،‬وال اله إال اهلل‬
‫وحده ال شريك له ‪ ،‬له امللك وله احلمد ‪ ،‬وهو على كل شيء قدير ‪ ،‬مائة مرة ‪ ،‬ويف‬
‫احلديث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬من قاهلا يف يوم مائة مرة كتبت له مائة‬
‫حسنة وحميت عنه مائة سيئة ‪ ،‬وكانت له عدل عشر رقاب ‪ ،‬وكانت له حرزا من الشيطان‬
‫يومه ذلك حىت ميسي ‪،‬ومل يأت أحد بأفضل مما جاء به ‪ ،‬إال رجل عمل بعمله أو زاد عليه‬
‫))(‪.)5‬‬
‫ومن احلروز من الشيطان ‪ :‬إن تتبع أمر الرمحن من غض البصر ‪ ،‬وحفظ األذن ‪،‬‬
‫وحفظ اليد ‪ ،‬وحفظ البطن ‪ ،‬وحفظ الفرج ‪ ،‬فهذه من احلروز‪.‬‬
‫ومن احلروز أيضا ‪ :‬إن إذا غضبت فال تتكلم ‪ ،‬وان تسكت ليزيل اهلل عنك سبحانه‬
‫وتعاىل وسوسة الشيطان ‪.‬‬
‫{فَأ ََزهَّلَُما الشَّْيطَا ُن َعْن َها} (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )36‬الشيطان من اجلن على كل حال ‪ ،‬بعضهم‬
‫يكون من املالئكة ‪ ،‬وبعضهم يكون من اجلن ‪ ،‬لكن قال سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬كا َن ِم َن اجْلِ ِّن‬
‫َف َف َس َق َع ْن أ َْم ِر َربِِّه} (الكهف ‪ )50‬هذا الشيطان ‪.‬‬
‫والشيطان ‪ ،‬فيه حجم كبري ‪ ،‬وحجم صغري على كل املستويات ‪ ،‬إذا كان اإلنسان‬
‫ضعيفا يرسل له شيطانا من الدرجة الثالثة ‪ ،‬وإذا كان اإلنسان من الغليظني يرسل له شيطانا‬
‫أقوى ‪ ،‬واملؤمن شيطانه ضعيف ‪ ،‬ضعيف جدا يقول ‪ :‬أهنكه وأضناه كاجلمل الضعيف ؛‬
‫ألهنم كلما حاول الشيطان أن هذا العبد قال ‪ :‬استغفر اهلل ‪ ،‬وعاد إىل اهلل وتاب إىل اهلل ‪ ،‬و‬
‫أهندم املبىن جيره معه ‪ ،‬فإذا أراد أن يدخله بيته ‪ ،‬قطع احلبال وفر ‪ ،‬فهو دائما يف صراع‪.‬‬
‫ومن املؤمنني من مل يستطع هلم إبليس أبدا ‪،‬حاول وحاول مث ترك ‪ ،‬أما بعض الناس‬
‫فيأخذهم ميينا ومشاال ‪.‬‬
‫رسولنا صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪ ( :‬كل منكم له قرين وكل به ) يعين‪ :‬من‬
‫الشياطني ‪.‬‬

‫(‪)5‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، )3293‬ومسلم (‪ )2691‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬حىت أنت ‪ ،‬يا رسول اهلل ‪.‬‬
‫قال ‪ ( :‬حىت أنا ‪ ،‬لكن اهلل أعانين عليه فأسلم ))(‪ ، )6‬أعانه اهلل على شيطانه فأسلم ‪،‬‬
‫أعلن اإلسالم فال يأمره إال خبري ‪ ،‬وأما حنن فالقرين مضاد دائما ‪ ،‬لكن نتحفظ منه باآليات‬
‫واألحاديث ‪.‬‬
‫يقول ابن عباس ‪ :‬الشيطان جامث على قلب ابن آدم يأيت كاحلية ‪ ،‬هكذا جامث على‬
‫القلب ‪ ،‬فإذا سكت وغل اإلنسان وسوس ‪ ،‬وإذا ذكر اهلل خنس ‪ ،‬وهو جيري من اإلنسان‬
‫جمرى الدم ‪.‬‬
‫َخَر َج ُه َما مِم َّا َكانَا فِ ِيه } (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )36‬من النعيم املقيم وقرة‬ ‫{فَأ ََزهَّلَُما الشَّْيطَا ُن َعْن َها فَأ ْ‬
‫العني ‪ ،‬أخرجهما إىل الدنيا ‪.‬‬
‫ني} ‪ ،‬إذن ‪:‬‬ ‫ض ُمسَت َقٌّر و َمتَاعٌ إِىَل ِح ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َر‬ ‫أل‬‫ا‬ ‫يِف‬ ‫م‬‫ك‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ٍ‬
‫ض‬ ‫ع‬ ‫ب‬‫ال اهبِطُواْ بعض ُكم لِ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ُ ْ َ‬ ‫{ قَ َ ْ‬
‫العداوة بني الناس قضاء كوين قدري من الواحد األحد ‪ ،‬ولكن تزول العداوة باإلميان ‪ ،‬واهلل‬
‫ِِ‬
‫ك } [ هود ‪.]118:119 :‬‬ ‫ني (‪ )118‬إِاَّل َم ْن َر ِح َم َربُّ َ‬ ‫عز وجل يقول ‪َ { :‬وال َيَزالُو َن خُمْتَلف َ‬
‫ولكل شيء آفة من ضده *** حىت احلديد سطا عليه املربد‬

‫احلديد ‪ ،‬وهو احلديد ‪ ،‬سلط عليه اهلل املربد ‪ ،‬وهذا يقسمه نصفني‪ ،‬كل شيء له عدو‬
‫‪ ،‬جتد الشاة ما ختاف من احلمار‪ ،‬وال ختاف من اجلمل ‪،‬لكن إذا رأت الذئب خافت وثبتت‬
‫مكاهنا ‪ ،‬وال تأخذ خطوة ألهنم عدوها ‪ ،‬واحلمار له عدو وهو الضبع ‪ ،‬والثعبان لإلنسان ‪،‬‬
‫وهذه املواشي لألسود ولغريها ‪ ،‬لكن هي فصائل ‪.‬‬
‫يقول أهل العلم ‪ :‬من العداء الذي جعله اهلل يف األرض العداء الذي جعله بني‬
‫األجناس ‪ ،‬ولذلك جند بعض احليوانات تتوافق وبعضها تتعادى ‪.‬‬
‫قال ‪ ( :‬بعضكم لبعض عدو ) فاهلل هو الذي جعل هذا العدوان هلذا األمر ‪ ،‬والناس‬
‫كذلك بينهم عداء ‪ ،‬والعداء على قسمني بني الناس ‪:‬‬

‫(‪)6‬‬
‫أخرجه مسلم(‪ ، )2814‬عن عبد هللا بن مسعود ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫ك َج َع ْلنَا لِ ُك ِّل نَيِب ٍّ َع ُد ّواً ِم َن‬ ‫ِ‬
‫قسم حبق ‪ ،‬وهو عداء أهل احلق ألهل الباطل { َو َك َذل َ‬
‫ض ُه ْم بَِب ْع ٍ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض‬ ‫َّاس َب ْع َ‬
‫ك َهادياً َونَصرياً }[ الفرقان‪َ { ] 31 :‬ولَ ْوال َدفْ ُع الله الن َ‬ ‫ني َو َك َفى بَِربِّ َ‬ ‫الْ ُم ْج ِرم َ‬
‫ِ‬ ‫ض َولَ ِك َّن اللَّهَ ذُو فَ ْ‬ ‫ِ‬
‫ني } [ البقرة ‪]251‬‬ ‫ض ٍل َعلَى الْ َعالَم َ‬ ‫لََف َس َدت اأْل َْر ُ‬
‫وأما العداء الباطل ‪ ،‬فعداء املؤمنني بعضهم لبعض وهذا حيصل ‪ ،‬ولكن على املؤمن أن‬
‫ني‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ظ َوالْ َعاف َ‬ ‫ني الْغَْي َ‬‫يصلح ‪ ،‬وان يكظم الغيظ ‪،‬وان حيسن ‪ ،‬وان حيلم ‪،‬وان يصرب ‪َ { ،‬والْ َكاظم َ‬
‫ني } [آل عمران‪] 134 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫َّاس َواللَّهُ حُيِ ُّ‬
‫َع ِن الن ِ‬
‫ب الْ ُم ْحسن َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني} [ األعراف ‪]199‬‬ ‫ض َع ِن اجْلَاهل َ‬ ‫ويقول سبحانه وتعاىل‪ُ { :‬خذ الْ َع ْف َو َوأْ ُم ْر بِالْعُْرف َوأ َْع ِر ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َو َبْينَهُ َع َد َاوةٌ َكأَنَّهُ َويِل ٌّ‬ ‫(ادفَ ْع بِالَّيِت ه َي أ ْ‬
‫َح َس ُن فَِإ َذا الَّذي َبْينَ َ‬ ‫ويقول سبحانه وتعاىل ‪ْ :‬‬
‫مَحِ يم } [فصلت ‪] 34 :‬‬
‫ٌ‬
‫يقول علي ‪ ،‬رضي اهلل تعاىل عنه و أرضاه ‪ ،‬يف معركة اجلمل ملا رأى طلحة مقتوال ‪،‬‬
‫مسح الرتاب عن وجهه ‪،‬وقبله وقال ‪ :‬يعز علي ‪ ،‬يا أبا حممد ‪ ،‬أن أراك جمندال على الرتاب ‪،‬‬
‫ص ُدو ِر ِه ْم ِم ْن‬ ‫ولكن أسال اهلل أن أكون أنا وإياك ممن قال فيهم اهلل عز وجل ‪َ { :‬و َنَز ْعنَا َما يِف ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني } [ احلجر ‪]47 :‬‬ ‫غ ٍّل إِ ْخ َواناً َعلَى ُس ُر ٍر ُمَت َقابِل َ‬
‫يعين ‪ :‬البد من شيء بني املؤمنني ‪ ،‬حىت جند من الدعاة والعلماء من يكون فيه غل‬
‫‪،‬لكنه ينزعه ‪ ،‬سبحانه وتعاىل‪ ،‬يوم القيامة ‪ ،‬فيصبحون أصفياء إخوانا أصدقاء أحباء ‪ ،‬وهذا‬
‫ال يكون إال يف اجلنة ‪ ،‬ولكن يف الدنيا ال بد أن يسود اإلخاء ‪ ،‬يقول أبو متام يف مسالة الدين‬
‫واإلسالم ‪:‬‬
‫إن كيد مطرف اإلخاء فإننـا *** نغدو ونسري يف إخاء تالد‬
‫أو خيتلف ما الغمام فماؤنـا *** عذب حتدر من غمام واحد‬
‫أو يفرتق نسب يؤلف بينـنا *** دين اقمناه مقام الوالد‬

‫هذا هو نسبنا ‪ ،‬نسب الدين ‪.‬‬


‫ني}‬‫ض ُمسَت َقٌّر و َمتَاعٌ إِىَل ِح ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َر‬ ‫أْل‬‫ا‬ ‫ض َع ُد ٌّو ولَ ُك ْم يِف‬ ‫ٍ‬ ‫ع‬ ‫ب‬‫{بعض ُكم لِ‬
‫(البقرة‪ :‬من اآلية‪)36‬‬
‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ ْ‬
‫تستقرون يف األرض ‪ ،‬ومتاع إىل زمن قريب ‪ ،‬وواهلل ‪ ،‬انه زمن قصري ‪ ،‬وانه عيش بسيط‬
‫سهل ‪ ،‬أهنا كلمحة البصر ‪.‬‬
‫عاش نوح ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬ألف سنة ‪ ،‬فلما أتته سكرات املوت قالوا له ‪ :‬كيف‬
‫وجدت احلياة ؟‬
‫قال ‪ :‬وجدت احلياة كأهنا بيت له بابان ‪ ،‬دخلت من هذا وخرجت من هذا ‪.‬‬
‫وقال علي ‪ ،‬وهو يبكي يف ظالم الليل ‪ :‬يا دنيا يا دنية طلقتك ثالثا ‪ ،‬عمرك قصري ‪،‬‬
‫وسفرك طويل ‪ ،‬وزادك حقري ‪ ،‬آه من قلة الزاد ‪ ،‬وبعد السفر ‪،‬ولقاء املوت !!‬
‫ني (‪ )112‬قَالُوا لَبِْثنَا َي ْوماً‬ ‫ِِ‬ ‫ال َك ْم لَبِثْتُ ْم يِف اأْل َْر ِ‬
‫ض َع َد َد سن َ‬ ‫كل الدنيا ليست إال حملة {قَ َ‬
‫ال إِ ْن لَبِثْتُ ْم إِاَّل قَلِيالً لَ ْو إنكم ُكْنتُ ْم َت ْعلَ ُمو َن (‪)114‬‬ ‫ين (‪ )113‬قَ َ‬ ‫اد‬
‫ِّ‬ ‫ع‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫أَو بعض يوٍم فاسأ ِ‬
‫َل‬
‫ْ َ ْ َ َْ ْ َ َ‬
‫ِ‬
‫ك احْلَ ُّق ال إِلَهَ إِاَّل‬‫أَفَ َح ِسْبتُ ْم أَمَّنَا َخلَ ْقنَا ُك ْم َعبَثاً َوأَنَّ ُك ْم إِلَْينَا ال ُت ْر َجعُو َن (‪َ )115‬فَت َعاىَل اللَّهُ الْ َمل ُ‬
‫ك ِر ِمي (‪[ } )116‬املؤمنون ]‬ ‫ب الْ َع ْر ِش الْ َ‬‫ُه َو َر ُّ‬
‫ض ُمسَت َقٌّر و َمتَاعٌ إِىَل ِح ٍ‬ ‫يِف‬
‫ني } هي ‪ :‬الدنيا متاع فقط ‪ ،‬يعين خري متاع‬ ‫{ َولَ ُك ْم األ َْر ِ ْ َ‬
‫ت َس ْكَرةُ‬ ‫تتمتع فيه إىل حني ‪ ،‬إىل أن يرث اهلل األرض ومن عليها ‪ ،‬أو إىل حني املوت { َو َجاءَ ْ‬
‫ِِ‬ ‫يد (‪ )19‬ونُِفخ يِف ُّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الْمو ِ‬
‫ت‬ ‫ك َي ْو ُم الْ َوعيد (‪َ )20‬و َجاءَ ْ‬ ‫الصو ِر َذل َ‬ ‫َ َ‬ ‫ت ِمْنهُ حَتِ ُ‬ ‫ك َما ُكْن َ‬ ‫ت بِاحْلَ ِّق َذل َ‬ ‫َْ‬
‫س َم َع َها َسائِ ٌق َو َش ِهي ٌد (‪ [})21‬ق ] ‪ ،‬فحني تفيض روحك فال عليك من العامل أن‬ ‫ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫يتأخر بعدك ‪ ،‬أو يتقدم إذا قامت قيامتك ‪.‬‬
‫يم} (البقرة‪ )37:‬يا رب ‪،‬‬ ‫ح‬‫الر ِ‬
‫َّ‬ ‫اب‬ ‫َّو‬
‫َّ‬ ‫الت‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ه‬ ‫َّ‬
‫ن‬ ‫اب َعلَْي ِه إِ‬ ‫ت‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ات‬‫{ َفَتلَ َّقى آدم ِمن ربِِّه َكلِم ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ ْ َ‬
‫لك احلمد ‪ ،‬ولك الشكر ‪ ،‬ولك الثناء احلسن ‪.‬‬
‫أذنب آدم وانزل واهبط ‪ ،‬فاخربه اهلل بكلمات يقوهلا ليتوب اهلل عليه ‪ ،‬قال له ‪ :‬قل ‪:‬‬
‫يم (‪[ ))16‬القصص ] ‪ ،‬وقال‬ ‫ب إِيِّن ظَلَمت َن ْف ِسي فَا ْغ ِفر يِل َفغَ َفر لَه إِنَّه هو الْغَ ُفور َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ُ َُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫(ر ِّ‬‫َ‬
‫ين }‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫له وحلواء قوال ‪{ :‬قَاال ربَّنَا ظَلَمنَا أنفسنَا وإِ ْن مَل َت ْغ ِفر لَنَا وَترمَحْنَا لَنَ ُكونَ َّن ِمن اخْل ِ‬
‫اس‬
‫َ َ َ‬ ‫َ ْ ْ َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫[األعراف ‪ ، ]23 :‬فمد يديه ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬وقال ‪ :‬ربنا أننا ظلمنا أنفسنا ‪ ،‬فان مل تغفر لنا‬
‫وترمحنا لنكونن من اخلاسرين ‪ ،‬فتاب اهلل عليهما ‪ ،‬فمن فعل مثل أبيه يف الذنب فليفعل مثله‬
‫يف التوبة ‪.‬‬
‫ات } وقالوا ‪ :‬الكلمات ‪ ،‬هي ‪ :‬ال اله إال اهلل سبحانك أين‬ ‫{ َفَتلَ َّقى آدم ِمن َّربِِّه َكلِم ٍ‬
‫َ‬ ‫َُ‬
‫كنت من الظاملني ‪.‬‬
‫وقولوا ‪ :‬الكلمات ‪ :‬ال اله إال اهلل احلكيم العليم ‪ ،‬ال اله إال اهلل رب العرش العظيم ‪ ،‬ال‬
‫اله إال اهلل رب السماوات واألرض رب العرش الكرمي ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬الكلمات قال ‪ :‬استغفر اهلل الذي ال اله إال هو ‪ ،‬وكلها تدخل يف االستغفار ‪،‬‬
‫إمنا علمه اهلل كلمات فأنقذه بالكلمات ‪ ،‬وهذه هي التوبة ‪ ،‬ويف حديثه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫مرفوعا ‪ (( :‬يا ابن آدم انك ما دعوتين ورجوتين على ما كان منك ‪ ،‬غفرت لك وال أبايل ‪،‬‬
‫يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء مث استغفرتين غفرت لك ‪ ،‬وال أبايل ‪ ،‬يا ابن آدم لو‬
‫(‪)7‬‬
‫أتيتين بقراب األرض خطايا ‪ ،‬مث جئتين ال تشرك يب شيئا ألتيتك بقراهبا مغفرة ))‬
‫إن كان ال يرجوك إال حمسن *** فبمن يلوذ ويستجري اجملرم‬
‫ما يل إليك وسيلة إال الرجـا *** ومجيل عفوك مث إين مسلم‬
‫وقال األول ‪:‬‬
‫سبحان من يعفو وهنفو دائما *** ومل يزل مهما هفا العبد عفا‬
‫يعطي الذي خيطئ وال مينعه *** جالله عن العطا لذي اخلطأ‬
‫انظر ما أكثر املعاصي ‪ :‬زنا ‪ ،‬وربا ‪ ،‬وقطيعة رحم ‪ ،‬وعقوق والدين ‪ ،‬وضياع أوقات‬
‫‪ ،‬وتفلت على أمر اهلل ‪ ،‬وترك للصلوات ‪ ،‬والرزق يأتينا من كل مكان‪.‬‬
‫يعطي الذي خيطئ وال مينعه *** جالله عن العطاء لذي اخلطا‬
‫{ َفَتلَ َّقى آدم ِمن َّربِِّه َكلِم ٍ‬
‫ات } فقالوا آدم وقالتها حواء ‪ ،‬فغفر اهلل هلما وتابا عليهما ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫انه هو التواب الرحيم ‪ ،‬ما أحسن الكلمات ‪.‬‬

‫(‪ )7‬صحيح‬
‫أخرجه الترمذي (‪ )3540‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪ ،‬وصححه ‪ ،‬وانظر تصحيح أهل العلم له في (( جامع‬
‫العلوم والحكم )) البن رجب الحنبلي ‪.‬‬
‫النصرانية تفتك اإلنسان إذا أذنب قالت له ‪ :‬خزيت وبعدت ليست لك توبة ‪،‬‬
‫واليهودية كانت التوبة عندهم قتل أنفسهم ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َعلَْي ُك ْم}‬ ‫قال سبحانه وتعاىل ‪{ :‬فَا ْقُتلُوا أنفس ُك ْم ذَل ُك ْم َخْيٌر لَ ُك ْم عْن َد بَا ِرئ ُك ْم َفتَ َ‬
‫[البقرة ‪ ، ]54:‬واإلسالم يقول لك ‪ :‬إذا أذنبت توضأ وصل ركعتني ‪ ،‬واستغفر اهلل من الذنب ‪،‬‬
‫وتب توبة نصوحا‬
‫ما أسهل اإلسالم وما أيسر اإلسالم ‪،‬وما أوسع باب اهلل ‪ ،‬عطاؤه ممنوح ‪ ،‬فضله يغدو‬
‫ويروح ‪ ،‬وبابه مفتوح ‪ ،‬ولذلك أرهقتنا الذنوب ؛ ألننا ما عرفنا طريق التوبة {فتلقى آدم من‬
‫أنفسه ْم‬ ‫ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم }{والَّ ِذين إِ َذا َفعلُوا فَ ِ‬
‫اح َشةً أ َْو ظَلَ ُموا‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫الذنُوب إِاَّل اللَّه ومَل ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ هِبِ‬
‫صُّروا َعلَى َما َف َعلُوا َو ُه ْم‬ ‫َُ ُْ‬ ‫اسَت ْغ َف ُروا ل ُذنُو ْم َو َم ْن َي ْغف ُر ُّ َ‬‫ذَ َك ُروا اللَّهَ فَ ْ‬
‫َسَرفُوا َعلَى أنفس ِه ْم ال َت ْقنَطُوا ِم ْن َرمْح َِة اللَّ ِه‬ ‫يعلَمو َن }[ آل عمران‪{ ، ]135 :‬قُل يا ِعب ِادي الَّ ِ‬
‫ين أ ْ‬ ‫ذ‬
‫َْ َ َ َ‬ ‫َْ ُ‬
‫الذنُوب مَجِ يعاً إِنَّه هو الْغَ ُفور َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم }[ الزمر ‪ ، ] 53 :‬ويقول تعاىل يف احلديث‬ ‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َُ‬ ‫إِ َّن اللَّهَ َي ْغف ُر ُّ َ‬
‫القدسي ‪ (( :‬يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار ‪ ،‬وأنا أغر الذنوب مجيعا فاستغفروين اغفر‬
‫لكم )) (‪.)8‬‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫اي فَال َخ ْو ٌ‬ ‫دى فَ َم ْن تَب َع ُه َد َ‬ ‫{ ُق ْلنَا ْاهبطُوا مْن َها مَج يعاً فَإ َّما يَأْتَينَّ ُك ْم ميِّن ُه ً‬
‫ُه ْم حَيَْزنُو َن} (البقرة‪ )38:‬قلنا ‪ :‬اهبطوا منها مجيعا من اجلنة ‪ ،‬قيل ‪ :‬هبط آدم وحواء ‪ ،‬وبعضهم‬
‫دى }(البقرة‪ :‬من اآلية‪ )38‬ما هو‬ ‫ه‬ ‫يِّن‬‫م‬‫يقول ‪ :‬مع آدم وحواء احلية والشيطان { فَِإ َّما يأْتِينَّ ُكم ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ‬
‫اهلدى ؟‬
‫الهدى ‪ :‬دين اهلل الذي يبعث به رسله ‪ ،‬كل الرسل اتوا باهلدى وكل له شريعة‪ ،‬وهم‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اي فَال َخ ْو ٌ‬ ‫يتفقون أهنم أتوا باإلسالم { فَإ َّما يَأْتَينَّ ُك ْم ميِّن ُه ً‬
‫دى فَ َم ْن تَب َع ُه َد َ‬
‫حَيَْزنُو َن} (البقرة‪ :‬من اآلية‪. )38‬‬
‫ما الفرق بين الخوف والحزن؟‬

‫(‪)8‬‬
‫أخرجه مسلم (‪ )2577‬عن أبي ذر ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫اخلوف على أمر مستقبل ختاف من أمر يأتيك ‪ ،‬واحلزن على أمر فات ‪ ،‬فال خوف‬
‫ض ُّل َوال يَ ْش َقى (‬ ‫عليهم ‪،‬وال هم حيزنون ‪،‬وهذا كقوله سبحانه وتعاىل {فَم ِن اتَّبع ه َداي فَال ي ِ‬
‫َ ََ ُ َ َ‬
‫ِ‬
‫ضْنكاً } [طه ‪]123،124 :‬‬ ‫يشةً َ‬ ‫ض َع ْن ذ ْك ِري فَِإ َّن لَهُ َمعِ َ‬ ‫‪َ )123‬و َم ْن أ َْعَر َ‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬كتب اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬على نفسه أن من اتبع هذا القران ‪ ،‬فاحل‬
‫ض َع ْن ِذ ْك ِري‬ ‫حالله وحرم حرامه ‪ ،‬أن ال يضل يف الدنيا وال يشقى يف اآلخرة { َو َم ْن أ َْعَر َ‬
‫ضْنكاً}[طه ‪ ]124 :‬معه دراهم ودنانري ودور وقصور وسيارات ‪ ،‬لكن عليه‬ ‫يشةً َ‬‫فَِإ َّن لَهُ َمعِ َ‬
‫ال ر ِّ مِل‬ ‫ِ ِ‬
‫ب َ‬ ‫الضنك ‪ ،‬وعليه اللعنة ‪,‬وعليه الغضب { َوحَنْ ُش ُرهُ َي ْو َم الْقيَ َامة أ َْع َمى (‪ )124‬قَ َ َ‬
‫ِ‬ ‫صرياً (‪ )125‬قَ َ ِ‬
‫ك آياتنَا َفنَ ِس َيت َها َو َك َذل َ‬
‫ك الَْي ْو َم‬ ‫ك أََتْت َ‬‫ال َك َذل َ‬ ‫ح َشرتَيِن أ َْعمى وقَ ْد ُكْنت ب ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ُتْنسى (‪[})126‬طه ]‬
‫َ‬
‫{ ُق ْلنَا ْاهبِطُواْ ِمْن َها مَجِ يعاً فَِإ َّما يَأْتَِينَّ ُكم مِّيِّن ُه ًدى} ‪ ،‬وقد أتى واهلل ‪.‬‬
‫واهلل لقد أمسعت دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم راعي الغنم يف الصحراء ‪.‬‬
‫واهلل ‪ ،‬لقد مسعت بدعوته العجائز يف بيوهتن ‪ ،‬ويف خدورهن‪.‬‬
‫واهلل ‪ ،‬لقد نفذ إىل العاتق من النساء ‪ ،‬إىل البكر من النساء ‪ ،‬إىل العذراء من النساء ‪.‬‬
‫من دعوته ما وصل علماء الصحابة يف مدينة الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫واهلل ‪ ،‬لقد سارت دعوته مسري الشمس ‪ ،‬ومسري الليل والنهار ‪ ،‬فما هو عذرنا إذا قلنا‬
‫ما آتانا ‪ ،‬ما بني لنا ‪ ،‬ما وضحت الطريق ‪،‬وال واهلل قد وضحت كل الوضوح ‪،‬وقد بينت‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين} [يس ‪ ]70 :‬فمن هو احلي ؟؟ أهو‬ ‫كل البيان {لُيْنذ َر َم ْن َكا َن َحيّاً َوحَي َّق الْ َق ْو ُل َعلَى الْ َكاف ِر َ‬
‫الذي يأكل ويشرب ويزمر ويغين لياليه وأيامه ؟ هذا صحيح يسمى حيا جمازا ‪ ،‬حياة الشاة‬
‫َحَيْينَاهُ َو َج َع ْلنَا لَهُ نُوراً مَيْ ِشي بِِه‬
‫ألنه يأكل ويشرب ‪ ،‬لكن قلبه ليس حبي {أ ََو َم ْن َكا َن َمْيتاً فَأ ْ‬
‫ِج ِمْن َها}[األنعام ‪ ]122 :‬ال سواء ‪ ،‬فاحلياة هنا هي‬ ‫س خِب َار ٍ‬ ‫َّاس َكمن مَثلُه يِف الظُّلُم ِ‬
‫َ‬ ‫ي‬
‫ْ‬‫َ‬‫ل‬ ‫ات‬ ‫َ‬ ‫يِف الن ِ َ ْ َ ُ‬
‫حياة اإلميان ‪ ،‬حياة القران ‪ ،‬حياة الذكر ‪ ،‬حياة االتصال باهلل ‪ ،‬حياة حفظ الوقت ‪ ،‬حياة‬
‫طلب العلم ‪ ،‬حضور جمالس اخلري ‪ ،‬واستماع إىل كالم اخلري ‪ ،‬هذه هي احلياة أما غريها فهي‬
‫حياة (اخلواجات ) ‪.‬‬
‫واهلل ‪ ،‬كيف ينعم اإلنسان كيف يهدأ باله وهو ليس مستقيما ؟ واهلل ليس راض عنه ‪،‬‬
‫جتد عنده قصور ‪،‬عنده دور ‪ ،‬عنده مناصب ‪ ،‬لكن اهلل غضبان عليه من فوق سبع مساوات ‪،‬‬
‫كيف يهدأ ؟ كيف يرتاح ؟ وبعد أيام يرحتل إىل اهلل { َولََق ْد ِجْئتُ ُمونَا ُفَر َادى َك َما َخلَ ْقنَا ُك ْم‬
‫ين َز َع ْمتُ ْم أَنَّ ُه ْم‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫أ ََّو َل َمَّرة َوَتَر ْكتُ ْم َما َخ َّولْنَا ُك ْم َو َراءَ ظُ ُهور ُك ْم َو َما َنَرى َم َع ُك ْم ُش َف َعاءَ ُك ُم الذ َ‬
‫ِ‬
‫ض َّل َعْن ُك ْم َما ُكْنتُ ْم َتْزعُ ُمو َن }[األنعام ‪ ]94 :‬أتى صلى اهلل عليه‬ ‫في ُك ْم ُشَر َكاءُ لََق ْد َت َقطَّ َع َبْينَ ُك ْم َو َ‬
‫وسلم خيرج الناس من الظلمات إىل النور ‪ ،‬فمن أطاعه اهتدى ‪ ،‬ومن عصاه تردى ‪.‬‬

‫**************************************‬
‫حوار في السماء‬

‫اسَت َوى إِىَل‬ ‫يقول اهلل تبارك وتعاىل ‪{ :‬هو الَّ ِذي خلَق لَ ُكم ما يِف اأْل َر ِ ِ‬
‫ض مَج يعاً مُثَّ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َُ‬
‫علِيم } [البقرة ‪]29 :‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ ِ‬
‫الس َماء فَ َس َّو ُاه َّن َسْب َع مَسَ َاوات َو ُه َو ب ُك ِّل َش ْيء َ ٌ‬
‫هذه اآلية يستدل هبا أهل العلم على أن كل ما يف األرض فيه اإلباحة ‪،‬وانه مباح ‪،‬‬
‫وهي قاعدة أصولية أخذوها من هذه اآلية ‪.‬‬
‫إن اهلل عز وجل قد احل الطيب املفيد وحرم اخلبيث الضار ‪ ،‬وقوله تعاىل‪َ {:‬خلَ َق لَ ُكم}‬
‫فلكم هنا للملكية أي ‪ :‬مباحا لكم وطيبا لكم ‪ ،‬ومهيئا لكم ؛ بشرط أن يكون هذا الشيء‬
‫نافعا ومفيدا ‪ ،‬أما إذا كان ضارا فال ‪ ،‬بل هو حمرم ‪.‬‬
‫ف‬
‫وإمنا ذكر اهلل هذه اآلية ؛ كما قال أهل التفسري بعد قوله ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬كْي َ‬
‫تَ ْك ُف ُرو َن بِاللَّ ِه} (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )28‬ليذكر منته على اخللق سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫{ ُه َو الَّ ِذي َخلَ َق لَ ُك ْم َما يِف اأْل َْر ِ‬
‫ض مَجِ يعاً} (البقرة‪ :‬من اآلية‪. )29‬‬
‫مجيعا ‪:‬تعود إىل ما يف األرض ‪.‬‬
‫وبعضهم يقول ‪ :‬تعود إىل الناس ‪ :‬لكم أيها الناس مجيعا ‪.‬‬
‫واألقرب ‪ :‬أهنا تعود على ما يف األرض ‪.‬‬
‫ات} (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )29‬فسبحان اخلالق !‬ ‫السم ِاء فَس َّواه َّن سبع مَس او ٍ‬ ‫{ مُثَّ ْ ِ‬
‫اسَت َوى إىَل َّ َ َ ُ َ ْ َ َ َ‬
‫ولكن حنن ال نتدبر وال نتفكر وال نعي ‪.‬‬
‫يقول بعض أهل العمل ‪ :‬إن املساس يبطل اإلحساس ‪ ،‬فمن كثرة تعودنا على رؤية‬
‫السماء ‪ ،‬ورؤية القمر ‪ ،‬ورؤية الشمس ‪ ،‬ورؤية النجم ‪ ،‬أصبحنا ال نتدبر وال نتفكر ‪ ،‬لكن‬
‫إذا خرج مصنوع جديد صنعه اإلنسان تفكرنا فيه وتدبرنا‪.‬‬
‫أعرايب ميشي يف ليلة من الليايل ‪ ،‬ليلة مظلمة ‪ ،‬وفجأة طلع عليه القمر ‪ ،‬والقمر أزهى‬
‫شيء عند العرب ‪ ،‬فدائما يشيدون به يف أشعارهم ‪،‬ودائما يصفون اجلمال بالقمر والبدر ‪،‬‬
‫فنظر يف القمر ‪ ،‬وقال ‪ :‬سبحان من سواك ! سبحان من رفعك ! إن قلت ‪ :‬مجلك اهلل فقد‬
‫مجلك اهلل ‪ ،‬وإن قلت ‪ :‬رفعك اهلل فقد رفعك اهلل ‪،‬وإن قلت ‪ :‬هباك اهلل وحسنك اهلل فقد‬
‫حسنك اهلل ‪ ،‬واملقصود أن ما يعتاده اإلنسان ال يأبه به دائما لطول العهد‪.‬‬
‫الس َم ِاء } (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )29‬رمبا يقول أحدكم ‪ :‬هذه تدل على استواء‬ ‫اسَت َوى إِىَل َّ‬ ‫{مُثَّ ْ‬
‫اهلل على العرش ‪.‬‬
‫فأقول ‪ :‬هذه اآلية ال تدل على ذلك ‪ ،‬بل غريها يدل على ذلك بوضوح ؛ كقوله‬
‫اسَت َوى}[طه ‪ ]5 :‬فهذه هي اليت تدل على ذلك‪.‬‬ ‫‪،‬سبحانه وتعاىل {الرَّمْح َ ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬
‫أما هذه اآلية فقالوا ‪ :‬أي ‪ :‬قصد ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ؛ ألنه عدى ذلك بإىل‪.‬‬
‫وهنا سؤال يطرح بني طلبة العلم ‪ :‬هل خلق اهلل األرض خبل خلق السماء ؟ أم‬
‫العكس ؟ فهو سبحانه يقول ‪ ( :‬هو الذي خلق لكم ما يف األرض مجيعا مث استوى إىل‬
‫السماء فسواهن سبع مساوات ) فكأن األرض خلقت قبل السماء ‪.‬‬
‫الس َم ِاء َو ِه َي ُد َخا ٌن َف َق َ‬
‫ال هَلَا‬ ‫اسَت َوى إِىَل َّ‬ ‫لكن يف آية أخرى يقول سبحانه وتعاىل {مُثَّ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ولِأْل َر ِ ِ‬
‫ني}[فصلت ‪ ، ]11 :‬ويقول سبحانه وتعاىل‬ ‫ض ائْتيَا طَْوعاً أ َْو َك ْرهاً قَالَتَا أََتْينَا طَائع َ‬ ‫َ ْ‬
‫َش ُّد َخ ْلقاً أَِم َّ‬ ‫ِ‬
‫اها‬
‫الس َماءُ َبنَ َ‬ ‫اها}النازعات ‪ ، ]30 :‬وقبلها قوله ‪{ :‬أَأَْنتُ ْم أ َ‬ ‫ك َد َح َ‬ ‫ض َب ْع َد َذل َ‬
‫{ َواأْل َْر َ‬
‫}‪.‬‬
‫فان يف هذه اآلية ‪ :‬داللة على أن األرض خلقت بعد السماء‪.‬‬
‫ويف آية البقرة ‪ :‬داللة على أن السماء خلقت قبل األرض ‪ .‬فما هو اجلواب هلذا‬
‫التساؤل؟‬
‫قد أجاب عن هذا حرب األمة ‪ ،‬وترمجان القران ابن عباس ‪ ،‬رضي اهلل عنهما ‪ :‬بان اهلل‬
‫خلق األرض ‪ ،‬مث استوى إىل السماء ‪ ،‬مث دحا األرض ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬فاألرض أخذت‬
‫مدة يومني ‪ ،‬والسماء أربعة أيام ‪ ،‬فكلها ستة أيام ‪.‬‬
‫ات }(البقرة‪ :‬من اآلية‪ . )29‬هنا مل يذكر ‪،‬‬ ‫السم ِاء فَس َّواه َّن سبع مَس او ٍ‬ ‫قال ‪{ :‬مُثَّ ْ ِ‬
‫اسَت َوى إىَل َّ َ َ ُ َ ْ َ َ َ‬
‫سبحانه وتعاىل ‪ ،‬األرض ‪.‬‬
‫ض ِم ْثلَ ُه َّن}[ الطالق ‪ ]12‬يعين ‪ :‬سبع‬ ‫وذكر ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬يف القران { َو ِم َن اأْل َْر ِ‬
‫أراضني مثلهن ‪ ،‬ومما اكتشف ‪ ،‬كما مسعنا من كثري من الثقات الذين اعتنوا بعلم اهليئة‬
‫واجليولوجيا ‪ ،‬أن األرض سبع طبقات طبقة على طبقة ‪ ،‬وكل طبقة هلا لون آخر ‪ ،‬وهلا مزاج‬
‫آخر ‪ ،‬وهلا تكيف آخر ‪ ،‬وهلا تضاريس ختتلف عن األخرى ‪.‬‬
‫إما السماوات ؛ فهي سبع مرتفعة ‪ ،‬بني السماء والسماء مسرية مخسمائة عام‪.‬‬
‫وبعض أهل العلم يقول ‪ :‬مساء من حديد ‪ ،‬ومساء من حناس ‪ ،‬ومساء من فضة ‪ ،‬لكن ما‬
‫علمت على هذا دليال من املعصوم صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬لكنها كواكب تدور فيها‪.‬‬
‫وقد رأى صلى اهلل عليه وسلم السماوات السبع ‪ ،‬وقابل فيها املالئكة واألنبياء‬
‫السابقني ‪ ،‬كما يف حديث اإلسراء ‪.‬‬
‫أسرى بك اهلل ليال إذ مالئكتــه *** والرسل يف املسجد األقصى على قدم‬
‫كنت اإلمام هلم واجلمع حمتفـل *** أعظم مبثلك من هاد ومؤتــمم‬
‫ملا خطرت به التفوا بسيدهــم *** كالشهد بالدر أو كاجلنـد بالعلم‬
‫حىت بلغت مكانا ال يطار لــه *** على جناح وال يسعى على قـدم‬
‫فبلغ صلى اهلل عليه وسلم منزلة علية ‪.‬‬
‫ات} [البقرة ‪ ]29‬فبعد‬ ‫السم ِاء فَس َّواه َّن سبع مَس او ٍ‬ ‫قال ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪{ :‬مُثَّ ْ ِ‬
‫اسَت َوى إىَل َّ َ َ ُ َ ْ َ َ َ‬
‫أن خلق اهلل األرض أتى إىل السماء ‪ ،‬فسواهن سبع مساوات وخلقها بال عمد تروهنا ‪.‬‬
‫يقول بعض أهل العلم ‪{ :‬بِغَرْيِ َع َم ٍد َتَر ْو َن َها} [ لقمان ‪. ]10‬‬
‫هلا عمد لكن ال تروهنا ‪ ،‬ولكن الصحيح بال عمد ‪ ،‬هكذا قائمة على قبة الفلك‪.‬‬
‫فانظر ‪ :‬هل ترى يف خلق الرمحن من تفاوت ؟‬
‫فانظر ‪ :‬هل ترى فيها من فروج؟‬
‫فانظر ‪ :‬هل ترى فيها من عيب؟‬
‫الن الذي بناها هو اهلل ‪ ،‬ولو كان خملوقا لرأيت النقص ولرأيت العيب‪.‬‬
‫ولذلك يقول بعض العلماء ‪ :‬ال خيلو عمل ابن آدم من نقص {ولَ ْو َكا َن ِم ْن ِعْن ِد َغرْيِ‬
‫َ‬
‫اختِالفاً َكثِرياً } [النساء ‪. ]82 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫اللَّه لََو َج ُدوا فيه ْ‬
‫أتى رسام هندي إىل ملك من ملوك اهلند بلوحة ‪ ،‬قد رسم فيها سنبلة قمح ‪ ،‬مث رسم‬
‫على السنبلة عصفورة ‪ ،‬مث عرضها للناظرين ‪ ،‬فأعجبت املشاهدين فهل امللك من حسن‬
‫الرمسة‪.‬‬
‫فأخذها هذا امللك وعرضها للناس ‪ ،‬وأعطى ذاك الرجل جائزة ‪ ،‬وقال للناس ‪ :‬من‬
‫أراد منكم أن ينظر فلينظر‪.‬‬
‫فامجع أهل اهلند على أن ال عيب فيها ‪.‬‬
‫فأتى رجل من غري اهلند اعور ‪ ،‬فدخل عند امللك وقال ‪ :‬رأيت عيبا باللوحة!‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬ما هو العيب ؟‬
‫قال ‪ :‬العصفور إذا نزل على السنبلة متيل وال تبقى مستقيمة ‪ ،‬وهذا ملا رمسها جعلها‬
‫مستقيمة!‬
‫قال امللك ‪ :‬صدقت وشطب على اللوحة ‪ ،‬واسرتد اجلائزة من الرسام !‬
‫يم} (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )29‬فيها قضايا ‪:‬‬‫قوله ‪ { :‬وهو بِ ُكل شي ٍء علِ‬
‫َ ُ َ ِّ َ ْ َ ٌ‬
‫أولها ‪ :‬أن هذا عام ال خمصص له ؛ فاهلل عليم بكل شيء ‪.‬‬
‫وإذا قلت لإلنسان ‪ :‬انك بكل شيء عليم ‪ ،‬فال بد من خمصص ؛ لقوله تعاىل ‪َ { :‬و َف ْو َق ُك ِّل‬
‫ِ ِ ِ‬
‫ذي ع ْل ٍم َعل ٌ‬
‫يم } [يوسف ‪. ]76 :‬‬
‫ولكن من معتقد أهل السنة واجلماعة ‪ :‬أن اهلل مع علمه بائن عن خلقه ‪ ،‬مستو على‬
‫عرشه‪.‬‬
‫ومن زعم أن اهلل حال مع خلقه ‪ ،‬قد افرتى على اهلل ‪ ،‬وكذب على اهلل ‪.‬‬
‫بل اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬موصوف بصفات الكمال ‪ ،‬مستو على عرشه ‪ ،‬ينزل كل ليلة يف‬
‫ثلث الليل إىل مساء الدنيا ‪ ،‬فينادي فيقول ‪ :‬هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له‬
‫؟ هل من داع فأجيبه ؟ فإذا طلع الفجر عاد سبحانه عودة تليق جبالله ‪ ،‬ونزوال يليق جبالله ‪،‬‬
‫لكن ال يغيب عنه شيء فهو يعلم السر وأخفى ‪.‬‬
‫فما تناجى متناجيات إال علم اهلل ما دار بينهما ‪ ،‬وما فكرت أنت فيه علم ما فكرت‬
‫فيه ‪ ،‬وهو يعلم السر و أخفى‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬ما أخفى من السر ؟‬
‫قيل ‪ :‬الشيء الذي تريد أن تفكر به‪.‬‬
‫وقف صفوان بن أمية عند ميزاب الكعبة مع عمري بن وهب ‪ ،‬وهو حياوره فقال ‪:‬‬
‫أتقتل حممداً؟‬
‫قال ‪ :‬اقتله ‪ ،‬لكن من يل بأطفايل وذرييت وزوجيت‪.‬‬
‫قال ‪ :‬اهلك أهلي ‪ ،‬وأطفالك أطفايل ‪ ،‬اذهب واقتله ‪ ،‬وأنا أكفيك أطفالك‪.‬‬
‫فذه وتسلح بسيفه ‪،‬ولكن غارة اهلل أقوى من عمري بن وهب‪.‬‬
‫يا غارة اهلل جدي السري مسرعــة *** يف سحق أعدائنا يا غارة اهلل‬
‫وصل إىل املدينة ‪ ،‬حيمل قلبا كله حقد ‪ ،‬وكله ضغينة ‪ ،‬وكله بغضاء ‪ ،‬يريد‬
‫االنقضاض على سيد البشر ليقتله ‪ ،‬لريتكب أعظم جرمية ‪ ،‬وأعظم لعنة يف التاريخ ‪ ،‬فدخل‬
‫املدينة ‪ ،‬رآه الرجل املسجد امللهم عمر بن اخلطاب‪.‬‬
‫قد كنت اعدي اعدايها فصرت هلا *** بفضل ربك حصنا من أعاديها‬
‫فانطلق إليه عمر ‪ ،‬وكان رجال سديدا ملهما ‪ ،‬فأخذ بتالبيبه وأتى جيره حىت ادخله‬
‫املسجد‪.‬‬
‫فرآه صلى اهلل عليه وسلم فقال ‪ (( :‬اتق اهلل يا عمري بن وهب ما لك ؟))‬
‫قال ‪ :‬يا رسول اهلل أتيت ألفك االسارى اسارى بدر ‪ ،‬وأفك أصحايب من االسارى‪.‬‬
‫قال ‪ (( :‬كذبت وإمنا جلست أنت وصفوان بن أمية حتت ميزاب الكعبة ‪ ،‬فقال لك ‪:‬‬
‫كيت وكيت ‪ ،‬وقلت له ‪ :‬كيت وكيت ))‪.‬‬
‫قال ‪ :‬اشهد أن ال إله إال اهلل ‪ ،‬واشهد انك رسول اهلل(‪{ ! )9‬يَا أيها النَّيِب ُّ مِلَ حُتَِّر ُم َما‬
‫ت َم ْن‬ ‫ك واللَّه َغ ُفور ر ِ‬ ‫أَح َّل اللَّه لَك َتبتغِي مرضات أ َْزو ِ‬
‫يم }[التحرمي ‪ ]1 :‬إىل قوله ‪{:‬قَالَ ْ‬ ‫ح‬
‫َ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اج‬ ‫َ ُ َ َْ َ ْ َ َ َ‬
‫يم اخْلَبِريُ } [التحرمي ‪ ]3 :‬فقد آخره تعاىل مبا تبيته عائشة وحفصة رضي‬ ‫أَْنبأ ََك ه َذا قَ َ يِن ِ‬
‫ال َنبَّأَ َ الْ َعل ُ‬ ‫َ َ‬
‫اهلل عنهما ‪ ،‬له ‪.‬‬
‫يا من يرى مد البعوض جناحها *** يف ظلمة الليل البهيم االليل‬
‫(‪ )9‬أخرجه ابن هشام في (( السيرة )) (‪ ، )3/212‬والطبري في (( التاريخ )) (‪ ، )2/44‬والطبراني في (( الكبير )) (‪، )118‬‬
‫واألصفهاني في (( الدالئل )) (‪ )1/140‬عن عروة بن الزبير ‪ ،‬وانظر ‪ (( :‬اإلصابة )) (‪ ، )169 ،7/168‬وهو مرسل جيد‪.‬‬
‫ويرى نياط عروقها يف جسمها *** واملخ يف تلك العظام النحل‬
‫اغفر لعبد تاب من زالتــه *** ما كان منه يف الزمان األول‬

‫فعلمه ‪ ،‬تعاىل ‪ ،‬وسع املخلوقات ‪ ،‬وما علم الناس يف علمه ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬إال كما‬
‫يأخذ العصفور من البحر مبنقاره مرة واحدة‪.‬‬
‫ذهب موسى رضى اهلل عنه واخلضر رضى اهلل عنه يف رحلة حبرية ‪ ،‬فأتى عصفور فأخذ‬
‫مبنقاره قطرة ماء ‪.‬‬
‫فقال اخلضر ملوسى ‪ :‬يا موسى أتدري ما مقدار علمي وعلمك يف علم اهلل ؟ قال ‪ :‬اهلل‬
‫اعلم ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬كما أخذ هذا العصفور من هذا املاء(‪. )10‬‬
‫هذا علم املخلوق إىل علم اخلالق ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫خلِي َفةً} (البقرة‪ :‬من‬
‫ض َ‬
‫ك لِْلمالئِ َك ِة إِيِّن ج ِ‬
‫اع ٌل يِف اأْل َْر ِ‬ ‫قال سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫َ‬ ‫ال َربُّ َ َ‬
‫اآلية‪ )30‬اآلن ابتدأت قصة أبينا اجملهود التائب إىل اهلل ‪ ،‬ومن يشابه أباه فما ظلم!‬
‫فما معىن اخلليفة ؟ قالوا ‪ :‬هو آدم ‪.‬‬
‫والصحيح ‪ :‬أن اخلليفة ‪ ،‬يعين ‪ :‬قوما خيلفون قوما ‪ ،‬وهذا الذي رجحه ابن كثري ؛‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض} [األنعام ‪ ]165‬فبعضنا خيلف بعض قرنا بعد‬ ‫كما قال تعاىل{ َو ُه َو الَّذي َج َعلَ ُك ْم َخالئ َ‬
‫ف اأْل َْر ِ‬
‫قرن ‪ ،‬وجيال بعد جيل ‪ ،‬وأمة بعد أمة ‪.‬‬
‫قال الشاعر ‪:‬‬
‫خفف الوطء ما أظن أدمي األرض *** إال من هذه األجساد‬
‫صاح هذه قبورنا متأل الرحب *** فأين القبور من عهد عاد‬

‫يقول ‪ :‬قبورنا مألت الدنيا فكيف بالقبور اليت سلفت وسلفت وسلفت ؟‬
‫وحكمة خلق اخلليفة أن يسكن األرض ملقاصد ‪:‬‬
‫اسَت ْع َمَر ُك ْم فِ َيها} [هود ‪. ]61:‬‬
‫منها ‪ :‬أن يعمر األرض كما قال تعاىل ‪َ { :‬و ْ‬
‫(‪)10‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، )122‬ومسلم (‪ )2380‬عن ابن عباس ‪ ،‬رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن يأيت من ذرتيه األنبياء والرسل صلى اهلل عليه وسلم والشهداء والعلماء‬
‫والصائمون واملصلون ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن يبتليه ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫اج َنبتَلِ ِيه فَجع ْلنَاه مَسِ يعاً ب ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫صرياً} [اإلنسان ‪.]2 :‬‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫كما قال‪{:‬إِنَّا َخلَ ْقنَا اإْل نسان م ْن نُطْ َفة أ َْم َش ٍ ْ‬
‫ومنها ‪ :‬أن يظهر ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬قدرته للعاملني ‪ ،‬ألنه ال يكون امللك وهلل املثل‬
‫األعلى ملكا ‪ ،‬إال إذا كانت له رعية يتصرف فيهم يقتل هذا ويعفو عن هذا ‪ ،‬ويعطي هذا‬
‫ويويل هذا ويعزل هذا ‪.‬‬
‫فاهلل أراد أن يظهر سلطانه يف األرض ‪ ،‬وحكمته البالغة وقدرته النافذة ‪ ،‬ويظهر رمحته‬
‫وعقابه فأتى بآدم‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬انه أراد سبحانه وتعاىل أن يظهر غفرانه ‪ ،‬ويظهر شديد عقابه ‪ ،‬فانه الغفور‬
‫الرحيم شديد العقاب ‪ ،‬فكيف نعرف انه غفور رحيم إذا مل يغفر ؟‬
‫ك لِْل َمالئِ َك ِة } (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )30‬هذا جمتمع من املالئكة األطهار يف السماء‬ ‫ال َربُّ َ‬‫{ َوإِ ْذ قَ َ‬
‫‪ ،‬ومن حكمته سبحانه وتعاىل انه مل جيعل يف األرض من املالئكة ‪ ،‬ومل جيعلهم من اجلن وال‬
‫من احليوانات ؛ الن احليوان شهوة بال عقل ‪ ،‬وامللك عقل بال شهوة ‪ ،‬واإلنسان عقل وشهوة‬
‫‪ ،‬فإذا أطاع ارتقى إىل أفضل من املالئكة ‪ ،‬وإذا عصى احندر حتت البهائم‪.‬‬
‫وذكر عن بعض املفسرين أن املالئكة قالت ‪ :‬يا رب ‪ ،‬لو أنزلتنا يف الدنيا كنا حبسنا‬
‫شهواتنا وما عصيناك أبدا ‪.‬‬
‫فقال ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ( :‬إين اعلم ما ال تعلمون )‪.‬‬
‫فانزل اهلل ملكني ( هاروت وماروت ) وأعطاهم الشهوة مع العقل ‪.‬‬
‫فلما نزال يف األرض جلسا يف احملكمة حيكمان بني الناس ‪ ،‬فأتت امرأة مجيلة ‪ ،‬فتنت‬
‫هاروت وماروت ‪ ،‬فبقيت هبما حىت زنيا هبا‪.‬‬
‫فخريهم اهلل ‪ ،‬عز وجل بني عذاب الدنيا وبني عذاب اآلخرة ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬نريد عذاب الدنيا فنكسهما ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬يف بئر هاروت وماروت يف‬
‫العراق بأرجلهما ‪.‬‬
‫والقصة ذكرها جماهد بسند ضعيف كما يف (( سري أعالم النبالء )) ‪ ،‬وذكرها كثري‬
‫من املفسرين (‪. )11‬‬
‫املقصود‪ :‬أن اهلل علم انه ال يصلح لألرض إال آدم وذرية آدم‪.‬‬
‫والقرطيب يذهب إىل أن إقامة اخلليفة واجب هبذه اآلية ‪ ،‬ويف استدالله نظر ؛ الن‬
‫اخلليفة هنا هو الذي خيلف بعضهم بعضا ‪.‬‬
‫حِب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال إِيِّن‬
‫ك قَ َ‬ ‫ِّس لَ َ‬
‫ِّماءَ َوحَنْ ُن نُ َسبِّ ُح َ ْمد َك َونُ َقد ُ‬
‫ك الد َ‬‫{قَالُوا أَجَتْ َع ُل ف َيها َم ْن يُ ْف ِس ُد ف َيها َويَ ْسف ُ‬
‫أ َْعلَ ُم َما ال َت ْعلَ ُمو َن} (البقرة‪ :‬من اآلية‪0 )30‬‬
‫كيف تعرتض املالئكة على اهلل عز وجل ؟‬
‫صو َن اللَّهَ َما أ ََمَر ُه ْم َو َي ْف َعلُو َن َما‬
‫كيف وقد قال ‪ ،‬تعاىل عنهم يف آية أخرى ‪{ :‬ال َي ْع ُ‬
‫ن } [التحرمي ‪.] 6 :‬‬ ‫يُ ْؤ َم ُرو َ‬
‫والصحيح ‪ :‬أن هذا ليس اعرتاضا ‪ ،‬وإمنا أرادوا أن يظهر اهلل هلم احلكمة ‪.‬‬
‫قم ملاذا قالوا ‪ ( :‬يفسد فيها ) فما هو دليلهم على انه سوف يكون فساد؟‬
‫قال بعضهم ‪ :‬إن اجلن عمرت األرض فرتة من الفرتات ‪ ،‬فتقاتلوا وافسدوا يف األرض ‪،‬‬
‫فظنت املالئكة أن آدم سيكون مثلهم ‪ ،‬ذكر هذا ابن كثري وغريه‪.‬‬
‫واإلفساد يكون باملعاصي والظلم واملنكرات‪.‬‬
‫ِّس} فكأهنم يقولون ‪ :‬حنن أوىل منهم فنحن أهل التسبيح‬ ‫د‬‫ق‬‫َ‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫{وحَن ن نُسبِّح حِب م ِ‬
‫د‬
‫َ ْ ُ َ ُ َْ َ ُ‬
‫والتقديس‪.‬‬
‫قال سبحانه وتعاىل ‪{ :‬إِيِّن أ َْعلَ ُم َما ال َت ْعلَ ُمو َن أي ‪ :‬اعلم حكمة ال تعلموهنا ‪ ،‬واعلم‬
‫سرا ال تدركونه ‪ ،‬واعلم مقصدا ال تصلون إليه ‪.‬‬
‫قال أهل العلم ‪ :‬مما علمه ‪ ،‬سبحانه ‪ ،‬من هذا انه سوف يكون من ذرية آدم ‪ :‬رسل ‪،‬‬
‫وأنبياء ‪ ،‬وشهداء ‪ ،‬وعلماء ‪ ،‬ودعاة ‪ ،‬وصاحلون ‪ ،‬كإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وحممد ‪،‬‬
‫عليهم الصالة والسالم ‪ ،‬وأيب بكر وعمر وعثمان وعلي وأيب ومعاذ وزيد بن ثابت ‪ ،‬ومالك‬
‫والشافعي وأيب حنيفة وأمحد ‪ ،‬وابن تيمية وابن القيم وابن كثري ‪ ،‬وأمثاهلم كثري ‪.‬‬

‫(‪)11‬‬
‫انظر ‪ (( :‬مجمع الزوائد )) (‪ ، )5/68‬و (( تفسير الطبري )) (‪.)1/479‬‬
‫آد َم اأْل مساءَ ُكلَّ َها } (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )31‬أراد اهلل ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬أن‬ ‫قال تعاىل ‪َ { :‬و َعلَّ َم َ‬
‫جيعل خصيصة آلدم ‪ ،‬فعلمه األمساء كلها ‪ :‬أمساء البشر واحليوانات واملخلوقات ‪.‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬علمه اسم كل شيء ‪ :‬البقرة واحلمار والفرس ‪ ،‬فهذا اجلبل امسه جبل‪،‬‬
‫وهذه سارية ‪ ،‬وهذا مسجد ‪ ،‬وهذه شجرة ‪،‬وهذه زهرة ‪ ،‬وهذا ماء ‪ ،‬وهذا رجل ‪ ،‬وهذا‬
‫طري ‪ ،‬وهذه دابة إىل غري ذلك من األمساء ‪.‬‬
‫ففي احلديث عن النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬أن موسى عليه السالم التقى بآدم‬
‫فقال له‪ :‬يا آدم أنت أبونا خلقك اهلل بيده ‪،‬و أسكنك جنته ‪ ،‬وعلمك أمساء كل شيء ))(‪.)12‬‬
‫ألن اخلليفة واملسؤول ال بد أن يكون على علم وبصرية ‪،‬ولذلك ملا اختار اهلل لنيب‬
‫إسرائيل طالوت قالوا ‪ :‬كيف يكون علينا ملكا ‪ ،‬ومل يؤت سعة من املال ؟‬
‫اصطََفاهُ َعلَْي ُك ْم َو َز َادهُ بَ ْسطَةً يِف الْعِْل ِم َواجْلِ ْس ِم} [البقرة ‪ ]247‬ففي‬
‫قال اهلل ‪{ :‬إِ َّن اللَّهَ ْ‬
‫العلم عامل ‪ ،‬ويف اجلسم كذلك طويل يصلح للملك ‪.‬‬
‫واحلسن من كرم الوجود وخريه *** ما أويت القواد والزعماء‬
‫ض ُه ْم َعلَى الْ َمالئِ َك ِة} (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )31‬أتى سبحانه وتعاىل باحليوانات واحلشرات‬ ‫{مُثَّ َعَر َ‬
‫والدواب والعجماوات ‪ ،‬وقال للمالئكة ‪ :‬ما أمساء هؤالء ؟‬
‫أمساء هؤ ِ‬
‫الء إِ ْن ُكْنتُ ْم‬ ‫ال أَنْبِئويِن بِ ِ‬
‫َُ‬ ‫فسكتوا ‪ ،‬مث قالوا ‪ :‬ال ندري ‪ ،‬اله اعلم ‪َ { ،‬ف َق َ ُ‬
‫ني} (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )31‬أي ‪ :‬صادقني يف إنكم أوىل باخلالفة يف األرض ‪ ،‬وسكون األرض‬ ‫ِِ‬
‫صادق َ‬
‫َ‬
‫من آدم ‪.‬‬
‫أو إنكم اعلم من آدم ‪.‬‬
‫ك) تنزيه له تعاىل عن‬ ‫(سْب َحانَ َ‬
‫ك}(البقرة‪ :‬من اآلية‪ )32‬ما أحسن الرد‪ُ ،‬‬ ‫{قَالُوا ُسْب َحانَ َ‬
‫النقص‪.‬‬
‫{ال ِع ْل َم لَنَا إِاَّل َما َعلَّ ْمَتنَا} (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )32‬فهذا أدب طالب العلم أن يقول ‪ :‬ال علم لنا إال‬
‫ما علمنا اهلل ‪ ،‬واهلل اعلم ‪ ،‬وال يتسرب بالفتيا ‪ ،‬وال يفيت جبهل ؛ ألهنم سو خيطئ ‪ ،‬ويصيبه‬

‫(‪)12‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، )7440‬ومسلم(‪ )182‬عن أبي سعيد الخدري ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫من اخلذالن واحلرمان ما اهلل به عليم ‪ ،‬وينطفئ نوره ‪ ،‬ويأخذ ذمم وحجج الناس على كتفه ‪،‬‬
‫ويكون جسرا إىل جهنم للناس ‪.‬‬
‫ولذلك كان الصحابة من اشد الناس حذرا من الفتيا ‪ ،‬فكانوا يتدافعون الفتيا ‪.‬‬
‫ويقولون ‪ :‬كان يتغري وجه الواحد منهم إذا سئل عن مسالة خياف أن يغلط فيها ‪.‬‬
‫قال علي ‪ ،‬رضي اهلل عنه ‪ :‬ما أردها على صدري إذا سئت عن مسالة ال اعرفها ‪،‬‬
‫فقلت ‪ :‬ال ادري ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬نضرب لك أكباد اإلبل من العراق ‪ ،‬وتقول ‪ :‬ال ادري ‪.‬‬
‫ك ال ِع ْل َم‬ ‫قال ‪ :‬اذهبوا إىل الناس ‪،‬وقولوا هلم ‪ :‬مالكا ال يعرف شيئا ! {قَالُوا ُسْب َحانَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم} (البقرة‪ )32:‬فعلم بال حكمة اضطراب ‪ ،‬وحكمة بال‬ ‫يم احْلَك ُ‬ ‫ت الْ َعل ُ‬ ‫ك أَنْ َ‬ ‫لَنَا إِاَّل َما َعلَّ ْمَتنَا إِنَّ َ‬
‫علم جهل ‪ ،‬واإلنسان جيمع يف اصله بني صفتني ‪ :‬ظلوما جهوال ‪.‬‬
‫قال ابن تيمية ‪ :‬ظلوما ‪ :‬حيكم بال عدل ‪،‬وجهوال ‪ :‬حيكم بال علم ‪.‬‬
‫ولذلك يشرتط يف احلاكم أن يكون عاملا عادال ‪ ،‬ومها صفتان مجيلتان جليلتان ‪.‬‬
‫آد ُم أَنْبِْئ ُه ْم بِأمسائِ ِه ْم } (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )33‬أي ‪ :‬بأمساء هؤالء املخلوقات ‪َ {،‬فلَ َّما‬ ‫ال يَا َ‬ ‫{قَ َ‬
‫السماو ِ‬
‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَْنبَأ َُه ْم بِأَمْسَائِ ِه ْم قَ َ‬
‫ض َوأ َْعلَ ُم َما ُتْب ُدو َن َو َما‬ ‫ب َّ َ َ‬ ‫ال أَمَلْ أَقُ ْل لَ ُك ْم إيِّن أ َْعلَ ُم َغْي َ‬
‫ن} (البقرة‪ :‬من اآلية‪)33‬‬ ‫ُكْنتُ ْم تَ ْكتُ ُمو َ‬
‫فالباطن ال يعلمه إال اهلل ‪ ،‬أما الظاهر فيعلمه الناس {يعلَمو َن ظَ ِ‬
‫اهراً ِم َن احْلَيَ ِاة ُّ‬
‫الد ْنيَا‬ ‫َْ ُ‬
‫ك ِمْن َها‬ ‫َو ُه ْم َع ِن اآْل خرة ُه ْم َغافِلُو َن } [الروم ‪{ ]7 :‬بَ ِل َّاد َار َك ِع ْل ُم ُه ْم يِف اآْل خرة بَ ْل ُه ْم يِف َش ٍّ‬
‫بَ ْل ُه ْم ِمْن َها َع ُمو َن }[النمل ‪. ]66 :‬‬
‫ويف هذه اآلية ‪ :‬شرف العلم ‪ ،‬وانه من أعظم املطالب يف احلياة ‪ ،‬وان من جلس يف‬
‫حلقة العلم عند أهل العلم مجيعا هو أفضل ممن تنفل ‪ ،‬ومن يصلي ومن يقرأ القرآن وحده ‪.‬‬
‫وأن من طلب مسالة ليعمل هبا ‪ ،‬ويرفع اجلهل عن نفسه فهو أحسن من أن يركع سبعني‬
‫ركعة‪.‬‬
‫واللم له وسائل ‪ ،‬فال يكفي القراءة وحدها ‪ ،‬وال يكفي اجللوس عند العلماء ‪ ،‬وال‬
‫يكفي حضور الدروس واحملاضرات ‪ ،‬بل جتمع اجلميع ‪ :‬التدبر واحلفظ واجللوس مع العلماء ‪،‬‬
‫ولو كانوا اقل منك علما وبصرية ‪ ،‬فإن اهلل مينحك باجللوس يف جمالس الذكر والعبادة فتحا‬
‫عظيما ‪ ،‬حىت يقول معاذ يف سكرات املوت ‪ :‬ما كنت أحب احلياة إال ملزامحة العلماء بالركب‬
‫يف حلق الذكر ‪.‬‬
‫وكان معاذ جيلس يف حلقة بعض الناس الذين هم اصغر منه علما واقل فقها ؛ ليفتح اهلل‬
‫عليه من املعارف‪.‬‬
‫فعلى املسلم أن حيرص على طلب العلم ‪ ،‬وان يقوي علمه ومطالعته ‪ ،‬وان يكون عنده‬
‫وسائل عديدة يف العلم ‪.‬‬

‫*************************************‬
‫الغريق‬
‫اب يُ َذحِّبُو َن‬ ‫قال سبحانه وتعاىل {وإِ ْذ جَنَّْينَا ُكم ِمن ِآل فِر َعو َن يسومونَ ُكم سوء الْع َذ ِ‬
‫ْ ْ َُ ُ ْ ُ َ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬
‫يم (‪َ )49‬وإِ ْذ َفَر ْقنَا بِ ُك ُم الْبَ ْحَر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ َْبنَاءَ ُك ْم َويَ ْستَ ْحيُو َن ن َساءَ ُك ْم َويِف َذل ُك ْم بَالءٌ م ْن َربِّ ُك ْم َعظ ٌ‬
‫ني لَْيلَةً مُثَّ اخَّتَ ْذمُتُ‬
‫ِ‬ ‫آل فِر َعو َن وأنتم َتْنظُرو َن (‪ )50‬وإِ‬
‫وسى أ َْربَع َ‬
‫ُ َ‬ ‫م‬ ‫ا‬‫َ‬‫ن‬ ‫د‬
‫ْ‬ ‫اع‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ َ‬‫ذ‬
‫ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫فَأَجْنَْينَا ُك ْم َوأَ ْغَر ْقنَا َ ْ ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫ك لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن (‪})52‬‬ ‫وأنتم ظَال ُمو َن (‪ )51‬مُثَّ َع َف ْونَا َعْن ُك ْم ِم ْن َب ْعد َذل َ‬
‫الْع ْج َل م ْن َب ْعده ْ‬
‫[البقرة] ‪.‬‬
‫ال زال احلديث مع بين إسرائيل ‪ ،‬وال زال اخلطاب لبين إسرائيل ‪ ،‬حيث حيدثهم اهلل‬
‫بنعمه عليهم فيناديهم قائال ‪:‬‬
‫أما جنيناكم من آل فرعون ؟‬
‫أما واعدنا موسى وأعطيناه التوراة ملصلحتكم ؟‬
‫أما عفونا عنكم ؟‬
‫أما فرقنا بكم البحر ؟‬
‫أما فعلنا وفعلنا ؟‬
‫فلماذا هذه اجلرائم ؟ وملاذا هذه العظائم ؟‬
‫فهي ‪ -‬وهلل املثل األعلى – كأن تؤدب ابنك ‪ ،‬فتقول ‪ :‬أما علمتك ؟ أما بنيت لك‬
‫بيتا ؟ أما اشرتيت لك سيارة ؟‬
‫وفي هذه دروس أولها ‪:‬‬
‫جممل القصة أن موسى ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬يقاتل قتاال بريا وحبريا ‪ ،‬وصراعا ميدانيا وعلميا‬
‫‪ ،‬يرسله اهلل أي فرعون يف ديوانه ‪ ،‬ويف إيوانه ‪ ،‬ويف قصره‪،‬وجيعل معه أخاه هارون ؛ ألهنم‬
‫أفصح منه لسانا ‪،‬وهو ال شك أفضل من أخيه ‪.‬‬
‫وقال بعض املؤرخني بأن هارون أكرب منه بسنة ‪ ،‬ولكن اهلل اصطفاه دونه ‪.‬‬
‫ص ْد ِري‬
‫ب ا ْشَر ْح يِل َ‬ ‫ب إِىَل فِْر َع ْو َن إِنَّهُ طَغَى (‪ ، })24‬فقال ‪{ :‬قَ َ‬
‫ال َر ِّ‬ ‫فقال له ‪{ :‬ا ْذ َه ْ‬
‫(‪ })25‬ألهنم أمر صعب وتكليف ال حيتمله ‪.‬‬
‫ختيل انك راعي غنم ‪،‬ومعك عصا هتش هبا على غنمك ‪ ،‬مث تكلف بالدخول على‬
‫طاغية من طغاة الدنيا ‪ ،‬هو فرعون حاكم مصر ‪ ،‬وحرسه كما قال أهل العلم ‪ :‬ستة وثالثون‬
‫ألفاً ‪ ،‬منتشرون يف كل مكان ‪،‬جبوار القصر وخارجه وداخله‪.‬‬
‫ص ْد ِري (‪َ )25‬ويَ ِّس ْر يِل أ َْم ِري (‪ })26‬ما أحسن الدعاء !‬ ‫ب ا ْشَر ْح يِل َ‬ ‫ال َر ِّ‬
‫قال ‪{ :‬قَ َ‬
‫احلُ ْل عُ ْق َدةً ِم ْن لِ َسايِن (‪ })27‬يا رب أنت تعلم‬ ‫اهلل هو الذي أهلمه أن يدعو هبذا الدعاء ‪َ { ،‬و ْ‬
‫أن لساين يتلعثم فحله يل ‪.‬‬
‫قال احلسن البصري ‪ :‬رحم اهلل موسى ‪ ،‬ما سأل إال أن حتل عقدة واحدة من لسانه ‪.‬‬
‫وسبب طلبه من اهلل أن حيلل هذه العقدة ؛ كما قال موسى ‪َ { :‬ي ْف َق ُهوا َق ْويِل } ليفهموا‬
‫قوله ويفقهوه ‪ ،‬ومل يقل ‪ :‬اجعلين أعظم خطيب يف مصر ‪ ،‬وال أفضل متحدث يف مصر ‪،‬‬
‫ولكن { َي ْف َق ُهوا َق ْويِل } فقط ألبلغ الرسالة‪.‬‬
‫اج َع ْل يِل َو ِزيراً ِم ْن أ َْهلِي (‪ })29‬يساعدين ‪ ،‬ويكون من أهلي ؛ ألهنم لو كان من‬ ‫{ َو ْ‬
‫غري أهلي رمبا كان حاقدا أو حاسدا ‪.‬‬
‫مث عينه بامسه ؛ الن أهله كثريون ‪ ،‬كبار وصغار وأبناء عمومة وأقارب فقال ‪:‬‬
‫ك َكثِرياً (‬ ‫{ َه ُارو َن أ َِخي(‪ )30‬ا ْش ُد ْد بِِه أ َْز ِري (‪َ )31‬وأَ ْش ِر ْكهُ يِف أ َْم ِري (‪َ )32‬ك ْي نُ َسبِّ َح َ‬
‫ك ُكْنت بِنَا ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صرياً (‪.})35‬‬ ‫‪َ )33‬ونَ ْذ ُكَر َك َكثرياً (‪ )34‬إنَّ َ َ َ‬
‫وسى (‪ ))36‬مل يقل سؤاالتك ‪ ،‬ألهنا‬ ‫ِ‬
‫ك يَا ُم َ‬ ‫يت ُس ْؤلَ َ‬ ‫ال قَ ْد أُوت َ‬ ‫فجاء اجلواب مباشرة (قَ َ‬
‫ن }[يس ‪] 82 :‬‬ ‫ول لَهُ ُك ْن َفيَ ُكو ُ‬ ‫سؤال واحد يف علم اهلل {إِمَّنَا أ َْم ُرهُ إِ َذا أراد َشْيئاً أَ ْن َي ُق َ‬
‫ُخَرى (‪ })37‬فبدأ اله من هذه اآلية يذكره بشريط حياته ‪،‬‬ ‫ك َمَّرةً أ ْ‬ ‫{ َولََق ْد َمَننَّا َعلَْي َ‬
‫وبتلك النعم اليت أسداها له يف املاضي لعله يتذكرها وال ينساها ‪ ،‬فيشكر وال يكفر ‪.‬‬
‫ملا ذهبا واصبحا يف عرض الطريق أوصامها اهلل بأدب الدعوة ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬ف ُقوال لَهُ َق ْوالً‬
‫لَيِّناً لَ َعلَّهُ َيتَ َذ َّك ُر أ َْو خَي ْ َشى (‪ })44‬انتبهوا من اخلبيث لينوا يف اخلطاب ‪ ،‬وعليكم باألسلوب‬
‫السهل ‪ ،‬واهلل يعلم يف علم الغيب أن فرعون ال يؤمن فهو من أهل النار ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ن}[األنفال‪]23:‬‬ ‫ضو َ‬ ‫ملاذا؟ { َولَ ْو َعل َم اللَّهُ في ِه ْم خَرْي اً أَل مْسَ َع ُه ْم َولَ ْو أَمْسَ َع ُه ْم لََت َولَّْوا َو ُه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫فيقول موسى وهو يف الطريق وفرائصه ترتعد ‪ ،‬فهناك أمامه سيوف ورماح وخناجر ‪ ،‬وجيش‬
‫وأسطول ‪ ،‬وفرعون وهامان وقارون ‪،‬فقال هو وأخوه ‪{ :‬قَاال َربَّنَا إِنَّنَا خَنَ ُ‬
‫اف أَ ْن َي ْف ُر َط َعلَْينَا‬
‫أ َْو أَ ْن يَطْغَى} (طـه‪ )45:‬أي ‪ :‬أن يستعجل بالعقوبة أو أن يطغى يف احلكم‪.‬‬
‫قال اهلل – وما احسن العبارة ‪ { : -‬إِنَّيِن َم َع ُك َما أَمْسَ ُع َوأ ََرى} (طـه‪ :‬من اآلية‪. )46‬‬
‫ال إله إال اهلل ! انتم يف اإليوان ‪،‬وعلمي معكم ‪.‬‬
‫أنتم يف الصحراء ‪ ،‬وأنا معكم بعلمي وإحاطيت ‪.‬‬
‫أنتم يف البحر وأنا معكم بعلمي { َما يَ ُكو ُن ِم ْن جَنْ َوى ثَالثٍَة إِاَّل ُه َو َرابِعُ ُه ْم َوال مَخْ َس ٍة إِلَّا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َوال أَ ْكَثَر إِاَّل ُه َو َم َع ُه ْم أَيْ َن َما َكانُوا} [اجملادلة ‪ ]7‬اهلل معكم‬‫ُه َو َساد ُس ُه ْم َوال أ َْدىَن ِم ْن ذَل َ‬
‫بعلمه و إحاطته وشهوده‪.‬‬
‫ألزم يديك حببل اهلل معتصما *** فانه الركن إن خانتك أركان‬

‫مث كان اللقاء التارخيي املشهود بني فرعون رئيس الضاللة ‪ ،‬وبني موسى كليم اهلل ‪،‬‬
‫فكان ما كان من إظهار احلجة أمامه ‪ ،‬ومشاهدته ملعجزة العصا واليد ‪.‬‬
‫ففكر وقدر ‪ ،‬فاختار املبارزة يف امليدان أمام اجلموع اهلائلة واحلشود الضخمة ‪ ،‬لتكون‬
‫النهاية الفاصلة ‪ :‬إما اهلزمية ‪ ،‬وإما الظهور يف األرض ‪.‬‬
‫فتواعدا ضحى يوم الزينة ‪،‬وهو يوم العيد األكرب عندهم ‪.‬‬
‫فجاء السحرة من كل مكان تلبية لسلطان الزمان ‪ ،‬ورهبم األعلى فرعون ‪ ،‬واصطفوا‬
‫متهيئني لالنقضاض بسحرهم على عصا موسى ؛ اليت مسعوا هبا ‪ ،‬وما رأوها ‪ ،‬وظنوها‬
‫كحباهلم اليت معهم ‪.‬‬
‫فاختار موسى أن يلقوا هم باألول لكي تكون اخلامتة له ‪ ،‬وهذا من حكمته أن جيعلهم‬
‫خيرجوا ما يف كيدهم ‪،‬وآخر ما عندهم من حيل ومغالطات‪.‬‬
‫مث يأيت هو فيقصم ظهرهم بعد أن عرف منتهاهم ‪.‬‬
‫فألقوا حباهلم ‪ ،‬فكانت ترتاقص كاحليات ‪ ،‬وهذا أقصى ما لديهم أن جيعلوا احلبال‬
‫ترتاقص ويسحروا أعني الناس هبا ‪.‬‬
‫فألقى موسى عصاه بعد أن داخله شيء من خوف طبيعي ينتاب البشر ملا رأى حياهتم‬
‫الكثرية ‪.‬‬
‫ت اأْل َْعلَى} (طـه‪ :‬من اآلية‪ )68‬األعلى مكانة ‪ ،‬واألعلى‬ ‫ف إِنَّ َ‬
‫ك أَنْ َ‬ ‫فقال له تعاىل ‪{ :‬ال خَتَ ْ‬
‫حجة وغلبة ‪.‬‬
‫فألقى العصا ‪ ،‬فأخذت تلتقم سحرهم وحباهلم واحدة تلو األخرى ‪ ،‬فدهش السحرة ؛‬
‫ألهنم مل يروا يف حياهتم منظرا كهذا ‪ ،‬قد خربوا السحر وعلموه ‪ ،‬ولكنهم يف حياهتم كلها‬
‫اليت ضاعت بني تلكم اخلزعبالت مل يشاهدوا كمثل هذا اليوم ‪.‬‬
‫فعلموا انه ليس بسحر ‪ ،‬وإمنا معجزة من رب األرباب ‪.‬‬
‫فخروا سجدا هلل رب هارون وموسى‪.‬‬
‫فكانت النهاية األليمة لفرعون وحزبه ‪ ،‬عندما اهنارت على رؤوسهم احليل والتدابري ‪.‬‬
‫فلما سقط اخليار اجلديل ‪ ،‬كان ال بد عند فرعون أن خيتار الفصل واحلسم العسكري ‪،‬‬
‫أمر مبطاردة موسى وقومه بعد أن تشاور مع وزرائه ‪ ،‬فأتوه بذلك لكي ال يكسب مزيدا من‬
‫الناس حوله ‪.‬‬
‫فخرج فرعون جبيش قوامه كما يقال ألف ألف ‪ ،‬وأما موسى فلم يكن معه إال بين‬
‫إسرائيل من األطفال والنساء وقليل من الرجال ‪ ،‬ولكن اهلل معه‪.‬‬
‫فلما بلغ موسى وقومه البحر رأوا عجاجة يف السماء ‪ ،‬فالتفتوا فإذا فرعون وجيشه ‪،‬‬
‫وقد اقرتبوا منهم ‪ ،‬فجزعوا وهلعوا من املوقف ‪ ،‬فالبحر أمامهم ‪ ،‬وفرعون وجنوده من‬
‫خلفهم ‪ ..‬فأين املفر ‪.‬‬
‫أما موسى فقد علمه اهلل طيلة تلك السنني انه ناصره يف كل موقف ‪.‬‬
‫ال َكاَّل إِ َّن َمعِ َي َريِّب َسَي ْه ِدي ِن (‪ })62‬أي ‪:‬‬
‫فأصبح هذا عنده عقدية ويقينا فقال ‪{ :‬قَ َ‬
‫لن يضيعين يف آخر اجلولة بعد أن كان معي سابقاً‪.‬‬
‫فاقرتب موسى من البحر وضربه بعصاه انفلق ‪ ،‬وأصبح كاجلبل العظيم ‪ ،‬وحسر عن‬
‫القاع وبنو إسرائيل ينظرون مبهوتني دهشني من هذا املنظر ‪.‬‬
‫فأمرهم موسى بالدخول يف البحر واملضي ‪ ،‬بعد أن جعله اهلل طريقا يابسا ‪ ،‬فسلكوه‬
‫وهم ال زالوا يف عجبهم ‪.‬‬
‫وأما فرعون فانه اقرتب من البحر ومل يعثر على موسى وقومه ‪ ،‬وإمنا شاهد هذا املنظر‬
‫الغريب الذي يشاهده ألول مرة ‪ ،‬فتقهقر يف البداية ‪.‬‬
‫ويف هذا املوضع يورد املفسرون بعض األخبار اإلسرائيلية اليت ال باس باالستئناس هبا؛‬
‫ألهنا ال تعارض نصا عندنا ‪ ،‬وإمنا هي من مجلة األخبار ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬إن فرس فرعون رأى بغلة يف البحر ‪ ،‬قيل ‪ :‬بغلة كان يركبها جربيل فأرادها ‪،‬‬
‫ألن الفرس يهيج عند رؤية البغلة ‪ ،‬فاقتحم بفرعون البحر ‪ ،‬فتبعه اجلنود ألنه قائدهم ‪ ،‬فلما‬
‫اكتملوا يف وسط البحر أنصك عليهم واضطرب ‪ ،‬فقتلوا مجيعا جزاء نكاالً‪.‬‬
‫رائيل}‬ ‫س‬ ‫ت بِِه بنُو إِ‬ ‫ن‬ ‫آم‬ ‫ي‬ ‫فقال فرعون يف اللحظات األخرية ‪{ :‬آمْنت أَنَّه ال إِلَه إِاَّل الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ َ‬
‫[يونس ‪. ]90:‬‬
‫دين (‪[})91‬يونس ‪]91‬‬ ‫ولكن مل ينفعه ذلك {آآْل َن وقَ ْد عصيت َقبل و ُكْنت ِمن الْم ْف ِس ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َْ َ ْ ُ َ َ َ ُ‬
‫فلفظه البحر جثة ميتة لرياها من خلفه ‪ ،‬ويعلموا انه رجل حقري ال يستحق أن جيعل ملكا ‪،‬‬
‫فضال عن أن جيعل ربا أهلاً ‪.‬‬
‫فقال تعاىل مذكرا بين إسرائيل هبذه النعمة العظيمة عندما اهلك عدوهم الطاغية‬
‫اب يُ َذحِّبُو َن أ َْبنَاءَ ُك ْم‬‫فرعون وآله وجنوده {وإِ ْذ جَنَّْينَا ُكم ِمن ِآل فِر َعو َن يسومونَ ُكم سوء الْع َذ ِ‬
‫ْ ْ َُ ُ ْ ُ َ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } [البقرة ‪. ]49 :‬‬ ‫َويَ ْستَ ْحيُو َن ن َساءَ ُك ْم َويِف َذل ُك ْم بَالءٌ م ْن َربِّ ُك ْم َعظ ٌ‬
‫والنجاة معنوية وحسية ‪:‬‬
‫فاحلسية أن تنجو من العذاب ‪ ،‬ومن السجن ‪ ،‬ومن املرض‪.‬‬
‫وأما املعنوية فان تنجو من الفسق ‪ ،‬ومن املعصية ‪ ،‬ومن املعتقدات الباطلة‪.‬‬
‫يقول حسان ن رضي اهلل عنه ‪ ،‬يف هجو احلارث بن هشام ‪ ،‬الذي كان من سادات‬
‫قريش‪:‬‬
‫إن كنت كاذبة الذي حدثتين *** فنجوت منجى احلارث بن هشام‬
‫ترك األحبة أن يقاتل دوهنم *** وجنا بفضل طمرة وجلام‬
‫أي ‪ :‬انه فر يوم بدر على خيل له ‪ ،‬وترك أهل بدر من املشركني يقتلهم املسلمون ‪،‬‬
‫فلم يدافع عنهم ‪.‬‬
‫وقال معاوية ‪،‬رضي اهلل عنه ‪:‬‬
‫جنوت وقد بل املرادي سيفه *** من ابن أيب شيخ األباطح طالب‬

‫أي ‪:‬أن اهلل جناين يوم مقتل علي ‪ ،‬رضي اهلل عنه ؛ ألن اخلوارج كان يف خمططهم أن‬
‫يقتلوا عليا ومعاوية وعمرو بن العاص ‪ ،‬رضي اهلل عنهم مجيعا ‪ ،‬ولكنهم مل يستطيعوا إال قتل‬
‫علي بن أيب طالب ‪ ،‬رضي اهلل عنه ‪ ،‬حلكمة قدرها اهلل ‪.‬‬
‫فقال معاوية هذا ‪.‬‬
‫اب} [ يعين‪ :‬تلقون منهم شدة ومشقة وعنتا ‪ ،‬وهو‬ ‫قوله ‪ {:‬يسومونَ ُكم سوء الْع َذ ِ‬
‫َ ُ ُ ْ َُ َ َ‬
‫اشد العذاب ال اقله ‪.‬‬
‫يقول عمرو بن كلثوم يف (( معلقته )‪:‬‬
‫إذا ما امللك سام الناس خسفا *** أبينا أن نقر اخلسف فينا‬

‫يقول هذا عندما ذهب هو وأمه إىل عمرو بن هند ‪ ،‬فقال أم عمرو بن كلثوم ألم‬
‫عمرو بن هند ‪ :‬ناوليين هذا الطبق ‪ ،‬تريد إذالهلا ‪.‬‬
‫فرفضت ‪ ،‬فضربتها كفا على وجهها ‪،‬فصاحت تنادي ولدها وتولول ‪ ،‬فقام ابنها وقتل‬
‫عمرو بن هند ‪،‬وقال معلقته يف تلك الساعة ‪.‬‬
‫فكان اإلسرائيليون خدما عند أهل مصر يف ذلك الزمان ‪ ،‬يقومون باألعمال احلقرية‬
‫عندهم ؛ من كنس وطبخ وحتضري للطعام وهكذا ‪.‬‬
‫{ي َذحِّبُو َن أ َْبنَاءَ ُك ْم } (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )49‬أي ‪ :‬بعد أن علم فرعون بواسطة السحرة ‪ ،‬انه سيقتل‬
‫يف مصر على يد طفل ذر لبين إسرائيل يولد بعد ذاك الزمان ‪.‬‬
‫فأخذ لغبائه يقتل كل ولد يولد لبين إسرائيل ‪ ،‬ولكن اهلل تعاىل بإرادته غلب إرادة هذا‬
‫السفيه ‪ ،‬فجعل اهلل موسى يرتىب يف قصر فرعون إذالال له وحتقريا ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َويِف ذَل ُك ْم بَالءٌ م ْن َربِّ ُك ْم َعظ ٌ‬
‫يم} (البقرة‪ :‬من اآلية‪ ، )49‬أي ‪ :‬نقمة شديدة حلت بكم ‪،‬‬
‫فال تنسوها وال تنسوا نعمة اهلل إذ جناكم منها‪.‬‬
‫ولكنهم نسوا واعرضوا ‪ ،‬فال زالوا يف سخط من اهلل إىل اليوم‬
‫وفي هذا الدرس دروس وعبر ‪:‬‬
‫أولها ‪ :‬أن اعتصامنا بال اله إال اهلل ‪ ،‬فال اله إال اهلل من اجلها الكتب نزلت ‪،‬ومن‬
‫اجلها الرسل أرسلت ‪ ،‬ومن اجلها الدنيا دمرت مخس مرات ‪ ،‬ومن اجلها أقيمت املعامل ‪،‬‬
‫وبثت ‪.‬‬

‫األجيال ‪،‬وبذلت األموال ‪ ،‬ورفعت السيف ‪ ،‬فال اله إال اهلل ال بد أن تسيطر على كل‬
‫واحد منا ‪ ،‬على امللك ‪ ،‬على األمري‪ ،‬على الوزير ‪ ،‬على العامل ‪ ،‬على القاضي ‪ ،‬على املسؤول‬
‫‪ ،‬ال بد أن يعتقد يف ضمريه أن ال إله إال اهلل على الصحفي يوم يكتب ‪ ،‬على الشاعر ‪ ،‬يوم‬
‫ينظر ‪ ،‬على األديب يوم يتوج أن يكون عبدا هلل ‪ ،‬وإذا مل يفعل ذلك فسوف يكون من أعداء‬
‫اهلل ومن احملادين هلل ‪.‬‬
‫والقضية الثانية ‪ :‬أن الدين يكون بالصالة ‪ ،‬وال صالة إال بدين ‪ ،‬وال دين بغري صالة‪.‬‬
‫والقضية الثالث ‪ :‬أنا إذا مل جنعل يف أذهاننا اإلميان باليوم اآلخر ‪ ،‬فواهلل ال نعيش يف‬
‫سالم وال أمن ‪ ،‬وال يف استقرار وال يف طمأنينة ‪ ،‬ألن الذين نسوا اليوم اآلخر تقاتلوا ودمروا‬
‫بعضهم ‪ ،‬وأطلقوا صوارخيهم وقتلوا اآلمنني والنساء واألطفال ودمروا البيوت ‪ ،‬ألهنم ال‬
‫يؤمنون باهلل واليوم اآلخر ‪.‬‬
‫والقضية الرابعة‪ :‬أن اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬ينصر أولياءه ‪ ،‬ولو ظهروا على الساحة اهنم‬
‫مهزومون ‪ ،‬أو اهنم قليلون ‪ ،‬أو اهنم مضطهدون ‪ ،‬فالنصر معهم والعاقبة هلم ‪.‬‬
‫والقضية الخامسة ‪ :‬أن اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬يطلب من العبد أن حيفظ النعم واأليادي ‪،‬‬
‫وان يتذكر املعروف ‪ ،‬وان يتذكر اجلميل ‪.‬‬
‫والقضية السادسة ‪ :‬أن على الداعية أن يعرف مداخل القلوب ‪ ،‬وان ال يكون عنيفا‬
‫يف أسلوبه جمرحا للشعور منتهكا للقيم‪.‬‬
‫دخل أحد األعراب على هارون الرشيد ‪ ،‬اخلليفة العباسي الكبري ‪ ،‬فقال األعرايب ‪ :‬يا‬
‫هارون ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬إن عندي كالما شديدا قاسيا فامسع له‬
‫قال ‪ :‬واهلل ال امسع له ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ومل‬
‫قال ‪ :‬الن اهلل أرسل من هو خري منك إىل من هو شر مين ‪ ،‬قال ‪َ { :‬ف ُقوال لَهُ َق ْوالً لَيِّناً‬
‫لَ َعلَّهُ َيتَ َذ َّك ُر أ َْو خَي ْ َشى (‪.} )44‬‬
‫فأسلوب األدب ومراعاة الشعور ‪ ،‬و إقامة حقوق الناس مطلوبة يف الدعوة ليصل‬
‫الداعية إىل القلوب ‪.‬‬
‫والقضية السابعة ‪ :‬أن ال خوف على املسلم ‪ ،‬فالنفوس بيد اهلل ‪ ،‬واألرزاق يف خزائن‬
‫اهلل ‪ ،‬فهو الذي حييي ومييت ‪ ،‬وهو الذي يغين ويعدم ‪،‬وبيده مقاليد األمور سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫هذا درس من دروس التوحيد ؛ ألن أغلبية سور القران دائما حتلق بنا مع موسى ‪ ،‬وال‬
‫وسى}[هود ‪ ]96‬فسالم على موسى يف‬ ‫تكاد تقرا سورة يف الغالب إال وتسمع { َولََق ْد أرسلنَا ُم َ‬
‫األولني ‪ ،‬وسالم عليه يف اآلخرين ‪ ،‬وشكر اهلل سعيه يوم رفع ال إله إال اهلل ‪.‬‬
‫ضو َن‬
‫َّار يُ ْعَر ُ‬
‫وأما فرعون ‪ ،‬وآل فرعون ‪ ،‬حاهلم كما ذكر املوىل ‪ ،‬عز وجل ‪{ :‬الن ُ‬
‫اب } [غافر ‪. ]46 :‬‬ ‫َش َّد الْع َذ ِ‬ ‫الساعةُ أَد ِخلُوا َ ِ‬ ‫ِ‬
‫آل ف ْر َع ْو َن أ َ َ‬ ‫وم َّ َ ْ‬
‫َعلَْي َها غُ ُد ّواً َو َعشيّاً َو َي ْو َم َت ُق ُ‬

‫**************************************‬
‫المناظرة‬
‫هِل‬ ‫ِ‬ ‫أِل ِ‬
‫َصنَاماً آ َةً إِيِّن أ ََر َاك َو َق ْو َم َ‬
‫ك يِف‬ ‫ال إبراهيم َبِيه َآز َر أََتتَّخ ُذ أ ْ‬ ‫يقول تعاىل ‪َ { :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ني} [األنعام ‪ ] 74 :‬إمام التوحيد يريد أن يثبت التوحد أوال ‪ ،‬وهو قد أثبته يف نسه قبل‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫َ‬
‫أن يثبته ألبيه مث يثبته للناس ‪.‬‬
‫إمام التوحيد يعيش صراعا رهيبا يف نفسه ‪ ،‬حىت يعلم أن ال إله إال اهلل ‪.‬‬
‫واهلل ‪ ،‬إذا أراد أن يرسل رسوال من الرسل ابتاله باملصائب واألزمات ‪ ،‬حىت يعلم أن‬
‫ال إله إال اهلل ‪ ،‬وال نافع إال اهلل ‪ ،‬وال ضار إال اهلل ‪ ،‬وال حميي وال مميت إال اهلل ‪.‬‬
‫مكث صلى اهلل عليه وسلم يذوق التوحيد ‪ ،‬ويتجرع التوحيد من صغره ‪ ،‬فلما بلغ‬
‫األربعني انزل اهلل عليه {فَاعلَم أَنَّه ال إِلَه إِاَّل اللَّه و ِ ِ‬
‫ك} [حممد ‪. ]19 :‬‬ ‫اسَت ْغف ْر ل َذنْبِ َ‬
‫َُ ْ‬ ‫ْ ْ ُ َ‬
‫يقول أهل التفسري ‪ :‬خرج إبراهيم ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬إىل البحر وجد جيفة حيوان قد‬
‫ألقيت على الشاطئ ‪ ،‬فأتت الذئاب والوحوش والكالب والطيور تفرتسها‪.‬‬
‫فوقف متأمال وقال ‪ :‬سبحان اهلل ‪ ،‬أيعيد هذه اهلل بعد أن تأكلها الطيور والوحوش؟‬
‫ف حُتْيِي الْ َم ْوتَى} [البقرة ‪. ]260 :‬‬ ‫ب أَرِيِن َكْي َ‬
‫مث التفت ورفع يديه وقال ‪َ { :‬ر ِّ‬
‫هل شك يف القدرة ؟ وقدرة الواحد األحد ثابتة وهو يعرف ذلك ‪ ،‬وهو الذي علم‬
‫الناس بان اهلل قدير ‪،‬وهو الذي أتى هبذا العلم( علم التوحيد اخلالص )‪.‬‬
‫عند البخاري أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم قال‪((:‬حنن أحق بالشك من إبراهيم )) (‪.)13‬‬
‫وألهل العلم معنيان في هذا الكالم منه صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫‪ -1‬المعنى األول ‪ :‬لو كان إبراهيم يشك ‪ ،‬لكنا حنن أكثر منه شكا ؛ ألهنم ارفع‬
‫منا إميانا ‪.‬‬
‫‪ -2‬والمعنى اآلخر ‪ :‬انه ال يسلم من الشك أحد حىت حنن ؛ ألن إبراهيم وهو‬
‫أفضلنا قد انتابه شيء منه ‪ ،‬واألول اصح وأوىل ‪.‬‬

‫(‪)13‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، )3372‬ومسلم (‪ )238‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫ف حُتْيِي الْ َم ْوتَى} [البقرة ‪ ]260 :‬بعد أن أصبحت يف بطون‬ ‫ب أَرِيِن َكْي َ‬ ‫قال ‪َ { :‬ر ِّ‬
‫الوحوش والطيور والعجماوات والكالب والزواحف ‪.‬‬
‫قال اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ { :‬أومل تؤمن } ؟‬
‫أفيك شك من ال إله إال اهلل ؟ ومن قدرة القدير ؟ وقدرة الواحد األحد ؟ الذي يقول‬
‫فيها اإلمام مالك ‪ :‬تعدد األصوات والنغمات واختالف اللغات يدل على قدرة اهلل ‪.‬‬
‫وقيل ألحدهم ‪ :‬ما دليل القدرة ؟‬
‫قال ‪ :‬نقض العزائم ‪.‬‬
‫أي ‪ :‬انك تعزم على أمر ‪ ،‬مث ينق عزميتك ‪ .‬مثال ‪ :‬تصمم على السفر مث يلقى سفرك‬
‫لسبب أو آلخر‪.‬‬
‫يقول أبو العالء املعري ‪ ،‬وهو من أحسن أبياته – ولو أن له أبياتا قبيحة ‪:-‬‬
‫تقضون والفلك املسري ضاحكا *** وتقدرون فتضحك األقدار‬
‫يقول ‪ :‬انتم يف األرض خفافيش تقدرون ‪ ،‬وتتوقعون ‪ ،‬ويأيت اهلل فيلغي تقديراتكم‬
‫ك ِص ْدقاً‬ ‫اسبِني }[األنعام ‪{ ] 62 :‬ومَتَّ ِ‬
‫ِ‬
‫ت َربِّ َ‬
‫ت َكل َم ُ‬‫َ ْ‬ ‫َسَرعُ احْلَ َ‬
‫ويفنيها {أَال لَهُ احْلُ ْك ُم َو ُه َو أ ْ‬
‫َو َع ْدالً} [األنعام ‪.]115 :‬‬
‫قال ابن كثري ‪ :‬صدقا يف األخبار ‪ ،‬وعدال يف األحكام‬
‫وهذا التعريف من الدرر ‪ ،‬وهذا هو اإلكسري واملعىن القليل ‪.‬‬
‫(قال أومل تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قليب)‬
‫يعين ‪ :‬أريد أن يطمئن القلب ‪ ،‬وهو دليل على أن درجة اإلحسان أعلى من درجة‬
‫اإلميان ‪ ،‬وان من رأى الشيء كان أكثر يقينا ممن مسع به ‪.‬‬
‫يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي‪:‬‬
‫خذ ما رأيت ودع شيئا مسعت به *** يف طلعة البدر ما يغنيك عن زحل‬
‫وهذا مثل ما يذكر أن علي بن أيب طالب قال ‪ :‬واهلل ‪ ،‬لو كشف يل اهلل الغطاء‪،‬‬
‫فرأيت اجلنة والنار ‪ ،‬ما زاد ما عندي من إميان مثقال ذرة ‪ .‬يعين ‪ :‬انه بلغ درجة اليقني ‪.‬‬
‫يقول حافظ الحكمي عنه ‪:‬‬
‫هو رسوخ القلب يف اإلميان *** حىت يكون الغيب كالعيان‬
‫ما دام بان هناك جنة ‪ ،‬فقد صدقوا بذلك وأيقنوا ‪ ،‬وهذا كحال الصحابة الذي يقول‬
‫أحدهم يف معركة أحد ‪ ( :‬إياك عين يا سعد ‪ ،‬والذي نفسي بيده أين ألجد ريح اجلنة من‬
‫دون أحد )‪.‬‬
‫هذا هو اليقني ‪ ،‬ال علم الدكتوراه اليت جعلت اإلنسان يف القران اخلامس عشر ال‬
‫يعرف يصلي مجاعة يف املسجد ‪ ،‬مث يقول ‪ :‬هذا هو العلم !! {يعلَمو َن ظَ ِ‬
‫اهراً ِم َن احْلَيَ ِاة ُّ‬
‫الد ْنيَا‬ ‫َْ ُ‬
‫َو ُه ْم َع ِن اآْل خرة ُه ْم َغافِلُو َن } [الروم ‪. ]7 :‬‬
‫ِ‬
‫ص ْر ُه َّن إليك}‬ ‫قال ‪ ( :‬ولكن ليطمئن قليب ) فقال له اهلل ‪{ :‬فَ ُخ ْذ أ َْر َب َعةً م َن الطَّرْيِ فَ ُ‬
‫(البقرة‪ :‬من اآلية‪ )260‬وسبق أن قلت ‪ :‬ال يهمنا استطرادات املفسرين يف ذكر نوع الطيور ‪ ،‬هي‬
‫بط أو محام أو إوز ؟ إمنا هو طري ‪ ،‬ولو كان هناك مصلحة ‪ ،‬لكان مسي لنا الطري ‪.‬‬
‫ص ْر ُه َّن} قيل ‪ :‬قطعهن ‪ ،‬فقطعها إبراهيم وخلطها ونثرها على أربعة جبال ونزل يف‬ ‫{فَ ُ‬
‫وسط الوادي ‪.‬‬
‫ك َس ْعياً} (البقرة‪ :‬من اآلية‪ )260‬فنزل فدعاهن ‪،‬‬ ‫قال ‪ {:‬مث ادعهن } {مُثَّ ْادعُ ُه َّن يَأْتِينَ َ‬
‫وأحياها اهلل ورد األرواح فيها ‪ ،‬فكان إبراهيم يقدم الرأس للطائر ال يقبله ؛ ألنه ليس رأسه ‪،‬‬
‫ويقدم الرجل للطائر فال يقبلها ؛ ألنه ليست رجله‪.‬‬
‫َن اللَّه ع ِزيز ح ِ‬
‫يم} (البقرة‪ :‬من اآلية‪. )260‬‬ ‫مث قال ‪َ { :‬و ْاعلَ ْم أ َّ َ َ ٌ َ ٌ‬
‫ك‬
‫ٍ ِ‬
‫دير} (البقرة‪:‬‬
‫َن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْيء قَ ٌ‬ ‫ملاذا قال اهلل قبلها يف قصة صاحب احلمار ‪{ :‬أ َْعلَ ُم أ َّ‬
‫من اآلية‪ ، )259‬وهنا قال ‪ ( :‬عزيز حكيم )‪.‬‬
‫قال أهل العلم ‪ :‬ألن إبراهيم هو أستاذ التوحيد وصاحب العقيدة ‪ ،‬وهو ال يصل إىل‬
‫أن ال يعلم أن اهلل على كل شيء قدير ‪ ،‬ولكنه بعد القصة ازداد علما بعزة اهلل وحكمة اهلل‬
‫ِ‬
‫يم} [البقرة ‪. ]260:‬‬ ‫َن اللَّهَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫فقيل له ‪َ { :‬و ْاعلَ ْم أ َّ‬
‫فذهب إبراهيم إىل أبيه ‪ ،‬وهو أول ما يدعو أباه ‪.‬‬
‫يم أِل َبِ ِيه َآز َر } (األنعام‪ :‬من اآلية‪ )74‬قيل ‪ :‬انه ليس بأيب بالنسب ‪،‬‬ ‫{وإِ ْذ قَ َ ِ ِ‬
‫ال إ ْبَراه ُ‬ ‫َ‬
‫والصحيح انه أبوه بالنسب ‪.‬‬
‫َصنَاماً آهِلَةً} (األنعام‪ :‬من اآلية‪ )74‬هذه القضية الكربى ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قال ‪ { :‬أََتتَّخ ُذ أ ْ‬
‫إن من مبادئ اجلدل ‪ :‬انك إذا أردت أن هتدم شيئا أن تورث الشك يف نفس من‬
‫جتادل‪.‬‬
‫فإذا أردت أن جتادل معتنقي النصرانية مثال ‪ ،‬فتقو هلم ‪ :‬هل اهلل ثالث ثالثة ؟ هل يعقل‬
‫أن الواحد ثالثة ؟ تعالوا بنا إىل احلساب ‪ ،‬هل مسعتم أن الواحد يصبح ثالثة ؟ من هنا هندم‬
‫عقائدهم ‪.‬‬
‫َصنَاماً آهِلَةً} أتتخذ احلجارة آهلة ؟ فهل هي تسمع أو تعقل أو ترى ؟‬ ‫ِ‬
‫قال ‪ { :‬أََتتَّخ ُذ أ ْ‬
‫ني}‪.‬‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ك يِف َ‬ ‫{ إِيِّن أ ََر َاك َو َق ْو َم َ‬
‫نعم ! يطلب من الداعية أن يكون حكيما وال يواجه بعنف ‪ ،‬لكن إبراهيم هنا استخدم‬
‫األسلوب املناسب للموقف املناسب ‪ ،‬وهذا ال ينايف احلكمة ‪ ،‬فان اهلل ملا أرسل موسى‬
‫ِ‬
‫ت َما‬‫وهارون قال ‪َ {:‬ف ُقواَل لَهُ َق ْوالً لَّيِّناً } مع العلم أن موسى يقول لفرعون ‪ {:‬لََق ْد َعل ْم َ‬
‫ُّك يَا فِْر َع ْو ُ‬ ‫السماو ِ‬ ‫أَْنز َل هؤ ِ‬
‫ن َمثْبُوراً } [اإلسراء ‪]102 :‬‬ ‫صائَِر َوإِيِّن أَل َظُن َ‬ ‫ات َواأْل َْر ِ‬
‫ض بَ َ‬ ‫ََ‬ ‫َّ‬ ‫ب‬‫ُّ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫اَّل‬‫الء إِ‬ ‫َ َُ‬
‫‪ ،‬ألنه مسع اليقني والعلم واخلرب ولكنه تكرب ‪ ،‬فاستدعى ذلك اإلغالظ معه‪.‬‬
‫كحال إبراهيم ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬هنا‪.‬‬
‫ني} [األنعام ‪:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ات واأْل َر ِ ِ‬ ‫ك نُِري إبراهيم ملَ ُكوت َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َوليَ ُكو َن م َن الْ ُموقن َ‬ ‫الس َم َاو َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫{ َو َك َذل َ‬
‫‪]75‬‬
‫ما الذي يدل على اهلل ؟ الشجر والزهرة والغدير والسماء واألرض ‪.‬‬
‫ويف كل شيء له آيــة *** تدل على انه واحد‬
‫ض}[يونس ‪ ]101 :‬الرابية‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫كلها تشري على الوحدانية {قُ ِل انْظُروا َما َذا يِف‬
‫َّ َ َ‬ ‫ُ‬
‫‪ :‬اهلضبة ‪ ،‬والتل واملاء كلها تدل على اهلل ‪.‬‬
‫يقول علماء الكالم ‪ :‬ال بد قبل أن تقول اشهد أن ال إله إال اهلل ‪ ،‬واشهد أن حممدا‬
‫رسول اهلل ‪ ،‬فانه عليك أن تتفكر بالنظر واالستدالل حىت تشهد ‪.‬‬
‫وهذا خطأ عند علماء السنة ‪ ،‬ونبه عليه الشيخ عبد العزيز بن باز ‪ ،‬رمحه اهلل ‪ ،‬يف‬
‫تعليقه على (( فتح الباري )) وقال ‪ :‬ال ‪ ،‬بل الواجب أن تشهد أن ال إله إال اهلل ‪ ،‬وتشهد أن‬
‫حممدا رسول اهلل ‪ ،‬ال النظر واالستدالل ‪.‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم (( أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا أن ال إله إال اهلل و‬
‫أين رسول اهلل ))(‪.)14‬‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ‬
‫ض} وهذا دأب‬ ‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫ك نُِري إبراهيم َملَ ُك َ‬
‫وت َّ َ َ‬ ‫وقال سبحانه ‪َ { :‬و َك َذل َ‬
‫األنبياء ‪ ،‬فالرسول صلى اهلل عليه وسلم قبل البعثة ما كان يقرأ ‪ ،‬وال يكتب ‪ ،‬لكنه كان يقرأ‬
‫يف الكون ويف كتاب الكون ‪ ،‬وقيل يف قوله تعاىل ‪{ :‬ا ْقَرأْ} وهي أول سورة نزلت عليه ‪ ،‬أي‬
‫‪ :‬اقرأ يف الكون‪.‬‬
‫ولذلك يكثر القران من التذكري بآيات اهلل يف اآلفاق ويف األرض {أَفَال َيْنظُُرو َن إِىَل‬
‫ت (‪ )18‬وإِىَل اجْلِب ِال َكيف نُ ِ‬ ‫السم ِاء َكي ِ‬ ‫ِ‬
‫ت (‪)19‬‬ ‫صبَ ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ت (‪َ )17‬وإِىَل َّ َ ْ َ‬
‫ف ُرف َع ْ‬ ‫ف ُخل َق ْ‬‫اأْلِ بِ ِل َكْي َ‬
‫ت (‪[ })20‬الغاشية]‬ ‫ِ‬ ‫َوإِىَل اأْل َْر ِ‬
‫ف ُسط َح ْ‬ ‫ض َكْي َ‬
‫( وليكون من املوقنني ) هذه درجة الرسوخ واليقني ‪.‬‬
‫واليقين له شروط‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أن تتدبر آيات الكون ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن تكثر من العبادة ‪،‬وهو طريق أهل السنة ؛ الن املناطقة مل يكونوا متعبدين ‪،‬‬
‫بل كان يهم فجور ‪.‬‬
‫واملعتزلة من افجر الناس ‪ ،‬حىت أن بعضهم كان ممن يشرب اخلمر ‪.‬‬
‫قال ‪َ { :‬فلَ َّما َج َّن َعلَْي ِه اللَّْي ُل َرأى َك ْو َكباً}‪.‬‬
‫جن معناها ‪ :‬سرت ‪ ،‬وإمنا مسي اجلن جنا ؛ ألهنم يسترتون ‪.‬‬
‫وقال عمر بن أيب ربيعة‪:‬‬
‫وكان جمين دون ما كنت اتقي *** ثالث شخوص كأعيان ومعصر‬

‫(‪)14‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، )25‬ومسلم (‪ )22‬من حديث ابن عمر ‪ ،‬رضي هللا عنهما ‪.‬‬
‫قال ‪َ { :‬فلَ َّما َج َّن َعلَْي ِه اللَّْي ُل َرأى َك ْو َكباً} هذا أسلوب القران وهذا إبداع القران ‪ ،‬من‬
‫يستطيع أن يصوغ مثل هذا الكالم ؟‬
‫اهلل وحده جل جالله ‪.‬‬
‫{ َفلَ َّما َج َّن َعلَْي ِه اللَّْي ُل َرأى َك ْو َكباً} فال تظهر الكواكب إال يف الليل ‪ ،‬وإبراهيم أراد‬
‫أن جيري احلوار أمام الناس ‪ ،‬وهو يدري أن اهلل هو الواحد األحد ‪ ،‬وهو النافع الضار ‪ ،‬كان‬
‫يريد أن يلفت أنظارهم إىل أن هذه الكواكب ال تنفع وال تضر وال تدبر أمرا هي ال تستحق‬
‫العبادة‪.‬‬
‫{ َه َذا َريِّب } يقول إبراهيم ‪ :‬الكوكب ريب ‪ ،‬فسمعه قومه سكتوا ما أنكروا ‪ ،‬ألن أمته‬
‫كانت تعبد الكواكب ‪ ،‬وتعبد الشجر واحلجر ‪ ،‬وتعبد صربة التمر ‪.‬‬
‫ني} أفل ‪ :‬أي ‪ :‬غاب ‪.‬‬ ‫ال ال أ ُِح ُّ ِِ‬ ‫{ َفلَ َّما أَفَ َل قَ َ‬
‫ب اآْل فل َ‬
‫ملاذا قال هذا ؟ ألنه يريد أن يثبت هلم أن اهلل حي ال ميوت { َوَت َو َّك ْل َعلَى احْلَ ِّي الَّ ِذي‬
‫وت} [الفرقان‪ ]58 :‬وهذا سر األسرار ‪ ،‬بان احلي الذي ال ميوت هو اهلل ‪.‬‬ ‫ال مَيُ ُ‬
‫أما غريه أحياء ميوتون‪.‬‬
‫ني} فكأن قومه وافقوه وسكتوا ‪ ،‬فما دام إبراهيم ال‬ ‫ال ال أ ُِح ُّ ِِ‬ ‫{ َفلَ َّما أَفَ َل قَ َ‬
‫ب اآْل فل َ‬
‫حيب اآلفلني فقد أصاب إبراهيم ‪.‬‬
‫ال َه َذا َريِّب } [األنعام] هذا يف الليلة الثانية ‪.‬‬ ‫{ َفلَ َّما َرأى الْ َق َمَر بَا ِزغاً قَ َ‬
‫{ َفلَ َّما أَفَ َل} قال ‪ :‬وهذا أيضا ال يصلح للعبادة ؛ ألنه خيتفي فال يراقب عباده ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{قَ َ ِ‬
‫ال لَئ ْن مَلْ َي ْهديِن َريِّب أَل َ ُكونَ َّن م َن الْ َق ْوم الضَّالِّ َ‬
‫ني} ‪.‬‬
‫ال َه َذا َريِّب َه َذا أكرب} ألنه يبحث عن الكبري ‪ ،‬ولذلك‬ ‫س بَا ِز َغةً قَ َ‬
‫َّم َ‬
‫{ َفلَ َّما َرأى الش ْ‬
‫من صفات الواحد األحد انه األكرب ‪.‬‬
‫وكانت العرب تأخذ أكرب احلجارة لعبادهتا!‬
‫ال يَا َق ْوِم إِيِّن بَِريءٌ مِم َّا تُ ْش ِر ُكو َن} ‪.‬‬‫ت قَ َ‬ ‫{ َفلَ َّما أََفلَ ْ‬
‫أخريا قال ‪ :‬هذه كلها خزعبالت ؛ ألن قومه يعبدون الكوكب والشمس والقمر ‪،‬‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ات‬ ‫ت َو ْجه َي للَّذي فَطََر َّ َ َ‬ ‫فلما أفلت مجيعها صرف نفسه عن هذا وقال ‪{ :‬إِيِّن َو َّج ْه ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني (‪ })79‬احلنيف ‪ :‬املائل من الشرك إىل التوحيد‪.‬‬ ‫ض َحنيفاً َو َما أَنَا م َن الْ ُم ْش ِرك َ‬ ‫َواأْل َْر َ‬
‫وهذا هو الذي أتى به صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ولذلك كان صلى اهلل عليه وسلم حيب كل‬
‫ِ‬ ‫األنبياء والرسل ‪،‬كان حيب إبراهيم حبا خاص {إِ َّن أَوىَل الن ِ ِ‬
‫َّاس بإبراهيم لَلَّذ َ‬
‫ين اتََّبعُوهُ َو َه َذا‬ ‫ْ‬
‫النَّيِب ُّ } [آل عمران ‪. ]68 :‬‬
‫ويقول يف حديث اإلسراء ‪ (( :‬ورأيت إبراهيم عليه السالم وكان أشبه الناس به‬
‫صاحبكم ))(‪ )15‬أي ‪ :‬هو صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫اجهُ َق ْو ُمهُ} اآلن بدأت املناظرة ‪.‬‬ ‫{ َو َح َّ‬
‫اجويِّن يِف اللَّ ِه َوقَ ْد َه َد ِان} يقول ‪ :‬أنا اهتديت واحلمد هلل ‪ ،‬ولكنكم تريدون‬ ‫ال أَحُتَ ُّ‬
‫{قَ َ‬
‫أن تزيلوين عن هذا املعتقد احلق ‪ ،‬وهذا من اخلبث بأهنم مل يكتفوا بضالهلم ‪ ،‬بل يريدون أن‬
‫يضلوه معهم كشأن بعض الناس الذين يريدون غواية الصاحلني‪.‬‬
‫اف َما تُ ْش ِر ُكو َن بِِه إِاَّل أَ ْن يَ َشاءَ َريِّب َشْيئاً} سبحان اهلل !‪.‬‬ ‫َخ ُ‬ ‫{ َوال أ َ‬
‫بعض أهل العلم له تعليق على هذه اآلية ؛ بأن إبراهيم يعلم أن اهلل لو شاء جلعله مثلهم‬
‫‪،‬ومل يهده إىل التوحيد ‪،‬ولكنه عصمه سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫معىن ذلك ‪ :‬أن العبد مفتقر إىل اهلل مهما بلغ يف اهلداية ‪.‬‬
‫ض ُل اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم َو َرمْح َتُهُ َما َز َكى ِمْن ُك ْم ِم ْن أحد أبدا َولَ ِك َّن اللَّهَ يَُز ِّكي َم ْن يَ َشاءُ}‬‫{ َولَ ْوال فَ ْ‬
‫[النور ‪. ]21:‬‬
‫واهلل ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬إمنا عصم الرسول صلى اهلل عليه وسلم من القتل بآية يف‬
‫َّاس} [املائدة ‪ ]67 :‬فهو العاصم سبحانه من كل شيء‬ ‫ك ِم َن الن ِ‬ ‫سورة املائدة هي‪{ :‬واللَّه يع ِ‬
‫ص ُم َ‬ ‫َ ُ َْ‬
‫‪.‬‬
‫مث قال إبراهيم ‪َ {:‬و ِس َع َريِّب ُك َّل َش ْي ٍء ِع ْلماً} (األنعام‪ :‬من اآلية‪.)80‬‬

‫(‪)15‬‬
‫أخرجه ملم (‪ )172‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫و أهل السنة واجلماعة يقولون ‪ ( :‬يعلم اهلل ) ‪ ،‬وال يقولون ( يعرف ) ؛ ألنه ليس من‬
‫األلفاظ الشرعية أن تقول ‪ ( :‬عرف اهلل هذه املسالة ) مثال ‪ ،‬بل تقول ‪ ( :‬علم اهلل هذه‬
‫املسالة ؛ الن العرفان يسبقه جهل ‪ ،‬فهو علم نسيب مؤقت ‪،‬أما علم اهلل هو مطلق ال حمدود‪.‬‬
‫السماو ِ‬
‫ات‬ ‫وقد علم اهلل الغيب واختص به سبحانه دون غريه فقال {قُل ال َي ْعلَم َم ْن يِف‬
‫َّ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ب إِاَّل اللَّهُ} [النمل ‪. ]65 :‬‬ ‫ض الْغَْي َ‬ ‫َواأْل َْر ِ‬
‫وقد جاء يف السنة واآلثار عدة حوادث تبني سعة علمه تبارك وتعاىل ‪ ،‬وقد مر بنا‬
‫بعضها يف دروس سابقة ‪ ،‬كقصة عمري بن وهب الذي اجتمع مع صفوان بن أمية عند البيت‬
‫خيططان الغتيال الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬أخرب اهلل رسوله مبخططهم ‪ ،‬فلما جاء عمري‬
‫يف املدينة اخربه صلى اهلل عليه وسلم مبا مت بينهما ومها يف مكة وهو يف املدينة فأسلم عمري‬
‫رضي اهلل عنه ‪.‬‬
‫وهكذا يف قصة خولة بنت ثعلبة اليت اشتكت زوجها ‪ ،‬فان عائشة كانت يف طرف‬
‫البيت ‪ ،‬لكنها مل تعلم حرفا مما كانت تقوله املشتكية للرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فانزل‬
‫ِ‬
‫ك} [اجملادلة ‪. ]1 :‬‬ ‫اهلل {قَ ْد مَسِ َع اللَّهُ َق ْو َل الَّيِت جُتَادلُ َ‬
‫اف َما أَ ْشَر ْكتُ ْم} [األنعام ‪ ]81 :‬أي ‪ :‬أن املؤمن ال خياف هذه‬ ‫َخ ُ‬‫فأَ‬ ‫قال إبراهيم ‪َ { :‬و َكْي َ‬
‫اخلرافات الوثنية يف كل زمان ومكان ‪.‬‬
‫قيل لإلمام امحد ‪ :‬أخياف املؤمن ؟‬
‫قال ‪ :‬لو اخلص ملا خاف ‪.‬‬
‫ولذلك مل نسمع أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم تأخر يف معركة ما ‪-‬وحاشاه ذلك‪-‬‬
‫؛ ألنه أعظم املخلصني واملوحدين‪.‬‬
‫يقول علي ‪ :‬كنا إذا اشتدت احلرب ومحي الوطيس نتقي برسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫قال إبراهيم ‪َ { :‬وال خَتَافُو َن إنكم أَ ْشَر ْكتُ ْم بِاللَّ ِه َما مَلْ يَُنِّز ْل بِِه َعلَْي ُك ْم ُس ْلطَاناً فَأ ُّ‬
‫َي‬
‫َح ُّق بِاأْل َْم ِن إِ ْن ُكْنتُ ْم َت ْعلَ ُمو َن } [األنعام‪ . ] 81 :‬أي ‪ :‬إنكم انتم أوىل باخلوف مين ‪،‬‬ ‫الْ َف ِري َقنْي ِ أ َ‬
‫ألنين أنا موحد وأنتم مشركون ‪.‬‬
‫{الَّ ِ‬
‫ين َآمنُوا َومَلْ َي ْلبِ ُسوا إمياهنُ ْم بِظُْل ٍم أُولَئِ َ‬
‫ك هَلُ ُم اأْل َْم ُن َو ُه ْم ُم ْهتَ ُدو َن }[األنعام ‪ ، ]82 :‬ملا‬ ‫َ‬ ‫ذ‬
‫نزلت هذه اآلية قال الصحابة ‪ :‬اينا مل يظلم نفسه يا رسول اهلل ؟ ‪.‬‬
‫ظيم)}[لقمان ‪:‬‬ ‫قال ‪(( :‬ليس ما تظنون أمل تسمعوا قوله سبحانه ‪{ :‬إِ َّن الشِّر َك لَظُْلم ع ِ‬
‫ٌ َ‬ ‫ْ‬
‫‪ )16( ]13‬؟‬
‫أي ‪ :‬أن الظلم يف هذه اآلية املقصود به الشرك ال املعاصي والكبائر اليت قد يعاقب هبا‬
‫اإلنسان يف اآلخرة ‪ ،‬لكنه يكون من أهل اجلنة أخريا ‪.‬‬
‫وهبذا انتهت مناظرة إبراهيم مع قومه ‪ ،‬حيث أبطل هلم عباداهتم وطقوسهم الوثنية ‪،‬‬
‫وأثبت هلم التوحيد اخلاص ‪ ،‬وأنه مصدر عزة املؤمن وشجاعته ‪.‬‬
‫وأهنم األحق باخلوف منه واحلذر من عذاب اهلل يف اآلخرة أن استمروا على شركهم ‪.‬‬
‫فثبت هبذا أن ( التوحيد أوال ) هو بداية الرسل وانطالقتهم ‪ ،‬ال كما يظن بعض‬
‫اجملتهدين منا ‪ ،‬حيث يقدمون أولويات أخرى غريه ‪ ،‬فلعلهم أن يراجعوا مسلكهم يف قادم‬
‫األيام‪.‬‬

‫الذبيح األول‬
‫عن ابن عباس ‪ ،‬رضي اهلل عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬أول من متنطق من النساء ‪ :‬هاجر ‪ ،‬وذلك‬
‫لتخفي أثرها عن سارة ملا هاجر هبا إبراهيم ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬إىل مكة ‪ ،‬فنزل هبا مكة قريبا من‬
‫رابية وهو مكان البيت اليوم ‪ ،‬فكانت هذه الرابية مرتفعة عن األرض ‪.‬‬
‫فلما أنزهلا ‪ ،‬عليه السالم ‪،‬هناك ‪ ،‬كان معها جراب من متر ‪،‬وسقاء من ماء ‪ ،‬ومعها‬
‫ابنها إمساعيل ‪ ،‬فتوىل وتركهم ‪.‬‬
‫فالتفتت إليه هاجر ‪ ،‬وهي موالة ‪ ،‬وقالت ‪ :‬ملن ترتكنا يا إبراهيم ؟‬
‫فلم جيبها بشيء‪.‬‬
‫فقالت ‪ :‬آهلل أمرك هبذا ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪.‬‬

‫(‪)16‬‬
‫أخرجه البخاري (‪، )32‬ومسلم (‪ )124‬عن عبدهللا بن مسعود ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫قالت ‪ :‬إذا ال يضيعنا ربنا ‪.‬‬
‫فلما اختفى وراء اجلبل التفت ‪ ،‬ودعا اله عز وجل ‪ ،‬ورفع يديه ‪ ،‬وقال ‪َ { :‬ربَّنَا إِيِّن‬
‫اج َع ْل أَفْئِ َدةً ِم َن‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫الصالةَ فَ ْ‬
‫يموا َّ‬ ‫ت ِم ْن ذُِّريَّيِت بَِواد َغرْيِ ذي َز ْر ٍع ِعْن َد َبْيتِ َ‬
‫ك الْ ُم َحَّرم َربَّنَا ليُق ُ‬ ‫َس َكْن ُ‬
‫أْ‬
‫ات لَ َعلَّ ُه ْم يَ ْش ُك ُرو َن} [إبراهيم‪ ]37 :‬مث توىل عنهم وتركهم‬ ‫َّاس َته ِوي إليهم وارز ْقهم ِمن الثَّمر ِ‬
‫َ ْ ُ ُ ْ َ ََ‬ ‫الن ِ ْ‬
‫‪.‬‬
‫فنفد املاء ‪ ،‬ونفد الطعام من التمر ‪ ،‬عن هاجر وابنها ‪ ،‬فذهبت لرتى يف جبال مكة أين‬
‫جتد املاء ‪.‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬لكأين هبا تسعى بني اجلبلني ‪ ،‬يعين ‪ :‬بني الصفا واملروة سبعة أشواط‪.‬‬
‫فطافت سبعة أشواط فهو طوافنا اليوم ‪ ،‬فعادت إىل مكاهنا ‪ ،‬وأخذ ابنها يضرب األرض‬
‫برجله من شدة العطش‪.‬‬
‫فنزل ملك من السماء – قيل ‪ :‬جربيل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬غريه – ففحص جبناحه فخرج املاء ‪،‬‬
‫فأخذت هي تعدل املاء وتقيم الرتاب حول املاء وتقول ‪ :‬زم زم ‪.‬‬
‫وهذا من عادة قبائلهم أهنم إذا اشتغلوا يتسلون بالكالم ‪.‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬رحم اهلل أم إمساعيل لو تركت زمزم لصارت عينا معينا‬
‫(‪)17‬‬
‫))‬
‫مث نزل هناك ركب من جرهم ‪،‬وجرهم قبيلة انتقلت إىل مكة ‪ ،‬وهي من القبائل‬
‫العربية اليت سوف يتزوج منهم إمساعيل ‪.‬‬
‫نزلوا يف طرف مكة ‪ ،‬فرأوا غرابا عائفا فوق ماء زمزم‪.‬‬
‫فقال هؤالء الركب ‪ :‬إن هذا الطائر معه املاء ‪.‬‬
‫فاقرتبوا ‪ ،‬فلما رأوا هاجر ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ننزل حول املاء ‪.‬‬
‫قالت ‪ :‬ال ‪.‬‬
‫فاصطلحوا معها أن ينزلوا على حسن اجلوار ‪.‬‬
‫فنزلوا ‪ ،‬فأعطوها الطعام ‪ ،‬وأعطتهم املاء ‪.‬‬

‫(‪)17‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ )3364 ، 2368‬عن ابن عباس ‪ ،‬رضي هللا عنهما ‪.‬‬
‫فلما شب إمساعيل ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬تزوج منهم ‪.‬‬
‫وكان شابا ظريفا عاقال ‪ ،‬قد آتاه اهلل احلكم صبيا ‪ ،‬فأصبح أرحامه قبيلة جرهم ‪.‬‬
‫فلما شب فيهم ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬أتاه أبوه بعد حني يزوره ‪ ،‬فوجد امرأة إمساعيل ‪ ،‬عليه‬
‫السالم ‪ ،‬وهي يف البيت ‪ ،‬فطرق عليها ‪ ،‬وهو شيخ حسن اهليئة ‪ ،‬عليه هندام الوقار والسكينة‬
‫‪،‬وعليه بشريات التوحيد‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬أين زوجك ؟ وهو ابنه ‪ ،‬ولكن مل تعرفه ‪.‬‬
‫قالت ‪ :‬خرج يطلب لنا صيدا ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬كيف انتم ؟‬
‫قالت ‪ :‬يف حالة ضيقة ويف شر حال ؟‬
‫قال ‪ :‬إذا أتى زوجك فأقرئيه مين السالم ‪ ،‬ومريه أن يغري عتبة بابه أو بيته ‪.‬‬
‫فأتى إمساعيل فسأهلا ‪ :‬هل أتاكم من أحد؟قالت ‪ :‬أتاين شيخ حسن اهليئة ‪ ،‬سألنا عن‬
‫هيئتنا وطعامنا ‪ ،‬وأمرين أن أقرئك منه السلم ‪ ،‬وان تغري عتبة دارك‬
‫قال ‪ :‬ذلك أيب ‪،‬ويأمرين بفراقك ‪ ،‬فاحلقي بأهلك ‪.‬‬
‫مث تزوج زوجة أخرى صاحلة ‪ ،‬فأتاهم إبراهيم يزورهم مرة ثانية ‪.‬‬
‫فخرجت املرأة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬أين زوجك ؟‬
‫قالت‪ :‬خرج يطلب لنا الصيد ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬كيف حالكم ؟‬
‫قالت بأحسن حال ‪ ،‬واحلمد هلل ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬إذا أتى زوجك فأقرئيه مين السالم ‪ ،‬ومريه أن يثبت عتبة داره ‪.‬‬
‫فأتى إمساعيل فأخربته ن وقالت ‪:‬يقرئك السالم ‪ ،‬ويأمرك أن تثبت عتبة دارك‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ذلك أيب وهو يأمرين أن أمسكك فانك زوجة صاحلة(‪. )18‬‬
‫أول مسالة ‪ :‬زواجه ‪،‬علي السالم ‪ ،‬من سارة ‪.‬‬

‫(‪)18‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ )3364‬عن ابن عباس ‪ ،‬رضي هللا عنهما ‪.‬‬
‫كانت سارة امرأة صاحلة مجيلة ‪ ،‬تزوجها إبراهيم ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬وعلمها التوحيد ‪،‬‬
‫وأرضعها لنب ال إله إال اهلل منذ الصغر ‪،‬فنشأت موقرة ‪.‬‬
‫قال ابن كثري ‪ :‬أمجل النساء يف العاملني سارة ومرمي‬
‫وقيل ‪ :‬عائشة بنت الصديق ‪ ،‬رضي اهلل عنها وأرضاها‪.‬‬
‫هاجر إبراهيم ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬بسارة ‪،‬فمر مبلك من ملوك الدنيا جبار عنيد ‪ ،‬كان كل‬
‫ما مسع بفتاة مجيلة اغتصبها من أهلها ‪.‬‬
‫فلما وصل إبراهيم بزوجته هذه ‪ ،‬وهو يف الطريق مسع هبا امللك ‪ ،‬فأرسل جنوده‬
‫فأخذوا هذه املرأة الصاحلة العابدة القوامة الزاهدة‪.‬‬
‫ولكن من يعتمد على اهلل ‪ ،‬ومن استحفظ حبفظ اهلل حفظه ‪.‬‬
‫فتوجه إبراهيم إىل اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬ودعاه أن حيفظ زوجته‪.‬‬
‫فأخذوها من بني يديه ‪ ،‬فقال هلا بينه وبينها ‪ :‬إذا قدمت على امللك وسألك عن نسبك‬
‫‪ ،‬فقويل ‪ :‬أنا أخت إبراهيم ‪.‬‬
‫وصدق ‪ ،‬فإهنا أخته يف العقيدة والدين ‪ ،‬وأخته يف النسب األول ‪ ،‬فكلهم من آدم‬
‫وحواء ‪.‬‬
‫فوصلت إىل هذا اجلبار ‪ ،‬ودخلت عليه ‪ ،‬فاقرتب منها ‪ ،‬وهي متوضئة طاهرة ‪.‬‬
‫فدعت اهلل عليه فجفت يده وجفت رجله ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ادعي اهلل يل أن يطلق يدي ورجلي ‪.‬‬
‫فدعت له ‪.‬‬
‫فأتى يقرتب ‪.‬‬
‫فدعت عليه فجفت يده ورجله ‪.‬‬
‫فاقرتب ثالثة‪.‬‬
‫فدعت عليه فجف الثالثة‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬أتيتموين بشيطانة ‪ ،‬اذهبوا هبا ‪.‬‬
‫فذهبوا هبا أخدمها هاجر اليت هي أم إمساعيل ‪.‬‬
‫فقالت إلبراهيم ‪ :‬منع اهلل الفاجر واخدمنا وليدة (‪. )19‬‬
‫فقال هلا إبراهيم ملا عادت ‪ :‬واهلل ‪ ،‬لقد رأيتك منذ ذهبيت إىل اآلن ‪.‬‬
‫فلما اخذ هاجر أتت بإمساعيل فغارت منها سارة‪ ،‬والغرية يف طبيعة النساء مالحظة ؛‬
‫كأن الغرية ولدت مع النساء منذ خلق اهلل املرأة إىل اليوم ‪.‬‬
‫فذهب إبراهيم هباجر إىل مكة ‪.‬‬
‫وسبحان اهلل ! كيف اختار اهلل مكة من بني بالد األرض وبالد املعمورة لتكون مهبط‬
‫الوحي ‪ ،‬وليكون منها اإلشعاع الرباين والرسالة اخلالدة ‪ ،‬وليتخرج منها أساتذة التوحيد ؛‬
‫الذين رفعوا علم ال إله إال اهلل ‪ ،‬فهي حبق جبال تصهر الرجال حبرارهتا ‪ ،‬وبشظف عيشها ‪،‬‬
‫فتخرجهم رجاال يقودون عجلة التاريخ إىل أن يرث اهلل األرض ومن عليها ‪.‬‬
‫فمكة مسقط رأس رسول اهلدى صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ومكة ولد فيها أبو بكر‬
‫وعمر وعثمان وعلي وخالد ‪ ،‬والصنف املختار من أصحاب رسول اهلدى صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫وصل إبراهيم ‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬إىل مكة ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬كان البيت يف رابية مرتفعة ‪.‬‬
‫وقيل أن يأمره اهلل بالبناء اختار اهلل ذاك املوقع ‪.‬‬
‫قال بعض أهل العلم ‪ :‬ألهنا وسط الدنيا ‪ ،‬وقد اثبت العلم احلديث فيما مسعنا وقرأنا ‪،‬‬
‫أن من صعد على سطح القمر رأى أن وسط الدنيا هو اجلزيرة العربية أو ما يقارهبا ‪ ،‬ووسط‬
‫الدنيا هي الكعبة ‪.‬‬
‫ولذلك مساها اهلل أم القرى ‪ ،‬فهي تبث اإلشعاع يف كل مدينة‪.‬‬
‫فلما وصل إبراهيم هناك وضع األهل واملتاع وتوىل إىل اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪،‬واختفى وراء‬
‫اجلبل ‪ ،‬وابتهل إىل اهلل ‪ ،‬كما سبق ‪.‬‬
‫تزوج إمساعيل ‪ ،‬كما مر ‪ ،‬من جرهم ‪ ،‬وجرهم هؤالء ذكرهم زهري بن أيب سلمى يوم‬
‫يقول ‪:‬‬

‫(‪)19‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، ) 2217‬ومسلم (‪ )2371‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله *** رجال بنوه من قريش وجرهم‬
‫ميينا لنعم السيدان وجدمت ــا *** على كل حال من سحيل ومربم‬

‫ميدح هرم بن سنان ‪ ،‬وقيس بن زهري ملا تداركا عبسا وذبيان يف حروهبم ‪.‬‬
‫ويف أول زيارة من إبراهيم إلمساعيل ‪ ،‬كان قد بلغ إمساعيل مبلغ الصبيان ودرج على‬
‫األرض ‪ ،‬فأحبه إبراهيم وشغف به وأصبح كاخلليل خلليله ‪.‬‬
‫قد ختللت مسلك الروح مين *** ولذا مسي اخلليل خليال‬

‫فأراد اهلل أن خيلص قلب إبراهيم من هذا احلب ‪ ،‬ومن هذا االبن له سبحانه وتعاىل ألنه‬
‫خليل الرمحن ‪.‬‬
‫فلما وصل إىل مكة رأى فيما يرى النائم ا قائال يقول له ‪ :‬اذبح ابنك ‪.‬‬
‫فتعوذ باهلل من الشيطان وتوضأ وصلى‪.‬‬
‫فرأى الرؤيا مرتني ‪.‬‬
‫فعلم إهنا رؤيا حق ‪.‬‬
‫ولذلك قال اإلمام البخاري رمحه اهلل تعاىل ‪ ( :‬باب ) رؤيا األنبياء حق ‪.‬‬
‫ك} [الصافات‪. ]102 :‬‬ ‫فقال إبراهيم إلمساعيل ‪ {:‬إِيِّن أ ََرى يِف الْ َمنَ ِام أَيِّن أَ ْذحَبُ َ‬
‫ويا هلا من مصيبة !‬
‫ويا هلا من مسالة شاقة على األنفس !‬
‫ومثل يف نفسك أن تؤمر أن تذبح بيدك وسكينك أحب أبنائك إليك ‪.‬‬
‫ما هو شعورك ؟‬
‫وما هي عواطفك ؟‬
‫ت ا ْف َع ْل َما ُت ْؤ َم ُر َستَ ِج ُديِن إِ ْن َشاءَ اللَّهُ ِم َن‬ ‫فقال إمساعيل يف هدوء صرب وإيقان ‪{ :‬يا أَب ِ‬
‫َ َ‬
‫َّ ِ‬
‫الصاب ِر َ‬
‫ين } [الصافات ‪. ]102 :‬‬
‫قال أهل التفسري ‪ :‬خاطبه باألبوة يف مقام احلنان حىت وهو يعتدي على روحه بأمر اهلل‬
‫عز وجل ‪.‬‬
‫{ ستَ ِج ُديِن إِ ْن َشاء اللَّهُ ِمن َّ ِ‬
‫ين} (الصافات‪ :‬من اآلية‪ )102‬قالوا ‪ :‬ما أحسن هذا االعرتاض ‪.‬‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مل يقل ‪ :‬ستجدين من الصابرين ‪ ،‬وإمنا قال ‪( :‬إِ ْن َشاءَ اللَّهُ)‪.‬‬
‫فصربي باهلل واتكايل على اهلل ‪.‬‬
‫َسلَ َما} الضمري يعود إىل إبراهيم وإمساعيل ‪،‬اسلم إبراهيم نفسه إىل الواحد‬ ‫{ َفلَ َّما أ ْ‬
‫األحد ‪ ،‬وأسلم إمساعيل نفسه إىل اهلل سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫ني} قال أهل التفسري ‪ :‬ما استطاع أن يبطحه على ظهره فجعله على‬ ‫{وَتلَّهُ لِْل َجبِ ِ‬
‫َ‬
‫وجهه ليذحبه من قفاه ‪.‬‬
‫ملاذا ؟‬
‫خشية أن يرى وجه ابنه فتدركه الرمحة والرأفة فيعصي أمر اهلل ‪.‬‬
‫(وَتلَّهُ) بقوة لريى اهلل‬ ‫إمنا‬ ‫‪،‬‬ ‫وأقعده‬ ‫‪:‬أجلسه‬ ‫يقل‬ ‫ومل‬ ‫‪:‬‬ ‫العلم‬ ‫أهل‬ ‫قال‬ ‫}‬ ‫{وَتلَّهُ لِْل َجبِ ِ‬
‫ني‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫انه ينفذ األمر حبماس وقوة ‪.‬‬
‫وإبراهيم صاحب مواقف خالدة يف القران ‪ ،‬فهو صاحب الروغتني ‪ :‬روغة الكرم‬
‫غ َعلَْي ِه ْم َ‬
‫ض ْرباً‬ ‫ني } [الذاريات ‪َ { ]26 :‬فَرا َ‬ ‫غ إِىَل أ َْهلِ ِه فَ َجاء بِعِ ْج ٍل مَسِ ٍ‬
‫وروغة الشجاعة { َفَرا َ‬
‫َ‬
‫بِالْيَ ِم ِ‬
‫ني }‪.‬‬
‫الن املسلم ينبغي عليه أن يأخذ أحكام اهلل ‪ ،‬وتنفيذ أوامر اهلل بالقوة ‪.‬‬
‫أما الربود ‪ ،‬وأما الكسل ‪ ،‬وأما اخلنوع ‪ ،‬فهو ليس من دين اهلل ‪.‬‬
‫اب بُِق َّو ٍة }‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫ولذلك يقول اهلل ليحىي ‪{ :‬يَا حَيْىَي ُخذ الْكتَ َ‬
‫الصالَِة قَ ُامواْ ُك َساىَل } ‪.‬‬ ‫ويقول اهلل عن املنافقني ‪َ { :‬وإِذَا قَ ُامواْ إِىَل َّ‬
‫فلما أرسل السكني عليه أتى لطف اهلل عز وجل ورمحته ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬فما‬
‫أصبحت السكني تذبح ‪ ،‬ومن عادة السكني أن تذبح ‪،‬ولكن حكمة اهلل عز وجل أن منعها‬
‫من الذبح ‪.‬‬
‫فالبحر يغرق ‪ ،‬ولكن قدرة اهلل منعته أن يغرق موسى عليه السالم ‪.‬‬
‫والنار حترق ‪ ،‬وهذه من سنن اهلل الكونية‪ ،‬ولكنها ال حترق إبراهيم عليه السالم ‪.‬‬
‫والسكني تذبح ‪ ،‬ولكن قدرة اهلل عز وجل جتعلها ال تذبح أبدا ‪.‬‬
‫فمنعتها من عنق إمساعيل ؛ ألنه بريء طاهر عفيف‪.‬‬
‫ظي ٍم} (الصافات‪)107:‬‬ ‫فقال سبحانه ‪ { :‬وفَ َدينَاه بِ ِذب ٍح ع ِ‬
‫َ ْ ُ ْ َ‬
‫( نزل عليهم من اجلنة ‪ ،‬فأخذ السكني وذبح الذبح العظيم ( الكبش ) ورد السكني‬
‫إىل نصاهبا ‪.‬‬
‫ني} (الصافات‪ )106:‬فهو‬ ‫فمدحه اهلل أبد الدهر وأثىن عليه وقال ‪ { :‬إِ َّن َه َذا هَلَُو الْبَالءُ الْ ُمبِ ُ‬
‫ِ ٍ يِف ِ‬
‫خ ِرين} (الشعراء‪)84:‬‬ ‫ِ‬
‫اج َع ْل يِل ل َسا َن ص ْدق اآْل َ‬ ‫بالء خالد ‪ ،‬لكن خلد اهلل ذكره يوم قال ‪َ { :‬و ْ‬
‫فرفع اهلل ذكره ابد الدهر ‪.‬‬
‫فيأيت إبراهيم يف املرة الثانية ليبين بيت اهلل سبحانه وتعاىل ‪،‬وكان إمساعيل قد شب‬
‫وأصبح فىت يستطيع البناء معه ‪.‬‬
‫فقال له إبراهيم ‪ :‬يا إمساعيل إن اهلل يأمرين أن أبين البيت ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وأمرك ربك ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬وتعينين على ذلك ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬أعينك عليه ‪.‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬كأين بإبراهيم ‪ ،‬وقد ارتفع على اجلدار ‪،‬وإمساعيل يناوله احلجارة ‪،‬‬
‫وهو يضعها ويبين ‪.‬‬
‫أتدرون ماذا كان نشيدهم اخلالد؟‬
‫الس ِم ِ‬
‫يم} (البقرة‪ :‬من اآلية‪. )127‬‬ ‫يع الْ َعل ُ‬
‫ت َّ ُ‬ ‫ك أَنْ َ‬‫كانا يقوالن ‪َ { :‬ربَّنَا َت َقبَّ ْل ِمنَّا إِنَّ َ‬
‫والفاجر يفجر ويعصي ويزين ‪ ،‬ويكذب ويغتاب ‪ ،‬ويقول ‪ :‬رمحة اهلل وسعت كل‬
‫شيء !‬
‫فلما بقي مكان احلجر أمر اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬إبراهيم أن يبقي مكانه ‪.‬‬
‫فالتفت إىل احلي القيوم ‪،‬ودعا أن يبارك اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬يف هذا البناء ‪.‬‬
‫فأتاه جربيل باحلجر األسود أبيض كاللنب ‪ ،‬كاجلوهرة البيضاء من اجلنة ‪ ،‬فسلمه إىل‬
‫إبراهيم وقال ‪ :‬ضع هذا احلجر يف هذا املكان ليستلمه الناس ‪.‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ ((:‬نزل احلجر من اجلنة ابيض من اللنب فسودته خطايا بين‬
‫آدم ))(‪.)20‬‬
‫وصح عنه صلى اهلل عليه وسلم يف حديث انه قال ‪ (( :‬إن هلذا حلجر لسانا وشفتني‬
‫يشهد ملن استلمه يوم القيامة حبق ))(‪.)21‬‬
‫فمن استلم احلجر األسود أو قبله ‪ ،‬وهو صادق ومشتاق وخملص ‪ ،‬انطق اهلل احلجر‬
‫األسود يوم القيامة بلسان ناطق يشهد ملن استلمه حبق يف احلياة الدنيا ‪.‬‬
‫واحلجر األسود له قصة يف التاريخ ‪ ،‬فانه اعتدي على عرضه وعلى كرامته يف عصر‬
‫القرامطة ‪،‬يوم أن وفدوا من اإلحساء إىل البيت العتيق ‪ ،‬ووفد معهم الفاجر ( أبو سعيد اجلنايب‬
‫) وأخذ بسيفه يقتل احلجيج ‪ ،‬ويقول ‪ :‬خيلق اخللق وأفنيهم أنا ‪.‬‬
‫يقول ‪ :‬إن اهلل خيلق اخللق وأنا أفنيهم ‪.‬‬
‫مث تقدم بدبوس من حديد يف يد فقال ‪ :‬يا معشر املسلمني ‪ ،‬يا أيها احلمري ‪ ،‬تقولون إن‬
‫اهلل يقول ‪ ( :‬ومن دخله كان آمنا ) ‪ ،‬حنن دخلناه اآلن فأين األمن ؟‬
‫فقال له بعض العلماء ‪ :‬هذا من باب األمر ال من باب اخلرب ‪.‬‬
‫يعين ‪ :‬أن اهلل يأمرنا أن نؤمن البيت ‪ ،‬وأنت قد أخفته ‪.‬‬
‫فتقدم خبنجر فطعم العامل فقتله ‪ ،‬مث أتى إىل احلجر األسود فضربه ثالث ضربات هبذا‬
‫الدبوس ‪ ،‬فانفلق منه ثالث فلق ‪.‬‬
‫وأخذوا احلجر ‪ ،‬واركبوه على سبعمائة مجل ‪ ،‬كلما مشى اجلمل قليال أصابه اجلرب ‪،‬‬
‫وأهلك اهلل اجلمل فسقط احلجر من عليه ‪ ،‬فريكبونه على مجل آخر ‪ ،‬ميوت اجلمل ‪ ،‬اآلخر‬
‫حىت مات سبعمائة مجل ‪.‬‬

‫(‪ )20‬حسن أخرجه احمد (‪ ، )3038 ،2935، 2792‬والترمذي (‪ ، )877‬وحسنه عن ابن عباس ‪ ،‬رضي هللا عنهما ‪ ،‬وانر ‪:‬‬
‫(( المشكاة )) (‪.)2577‬‬
‫(‪ )21‬صحيح ‪ .‬اخرجه احمد (‪ ، )2394‬والترمذي (‪ ، )961‬وصححه ‪ ،‬وابن ماجه (‪ ، )2944‬والدارمي (‪ )1839‬عن ابن عباس ‪،‬‬
‫رضي هللا عنهما ‪ ،‬وانظر‪(( :‬المشكاة )) (‪.)2578‬‬
‫ووصل إىل اإلحساء ‪ ،‬وبقي معهم حىت اجتمع سالطني الدولة اإلسالمية ‪،‬ودفعوا مبلغ‬
‫هائال من الدراهم والدنانري والذهب حىت أعيد احلجر إىل مكانه ‪.‬‬
‫وهلل حكم يف ترك هؤالء الغوغاء يأخذون احلجر‪.‬‬
‫وله حكم يف األحداث اليت وقعت يف التاريخ ‪ ،‬فهو احلكيم سبحانه {ال يُ ْسأ َُل َع َّما‬
‫ن} (األنبياء‪)23:‬‬‫َي ْف َع ُل َو ُه ْم يُ ْسأَلُو َ‬
‫وبني إبراهيم ‪ ،‬عليه السامل ‪ ،‬البيت‪ ،‬ونزل ووقف عند املقام الذي حنن نصلي فيه اليوم‪.‬‬
‫صلّ ًى } (البقرة‪ :‬من اآلية‪. )125‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫خَّتِ ِ‬
‫يم ُم َ‬ ‫فقال اهلل عز وجل ‪َ { :‬وا ُذوا م ْن َم َقام إ ْبَراه َ‬
‫فوقف هناك ودعا اهلل كثريا ‪.‬‬
‫فأمره اهلل أن ينادي يف الناس مجيعا أن حيجوا إىل هذا البيت ‪،‬وان يأتوا إىل بيت الرمحن‬
‫‪ ،‬فبيت الرمحن جل جالله فيه اهلداية والنور ‪،‬ويف السماء الدنيا ببيت آخر كالكعبة يطوف به‬
‫كل يوم سبعون ألف ملك ال يعودون إليه ابد الدهر ‪ ،‬فيأيت غريهم فيطوفون ‪ ...‬وهكذا ‪.‬‬
‫فارتفع إبراهيم على جبل من جبال مكة فنادى يف الناس ‪.‬‬
‫وك ِر َجاالً َو َعلَى‬ ‫َّاس بِاحْلَ ِّج يَأْتُ َ‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬فسمعه الناس يف أصالهبم { َوأَذِّ ْن يِف الن ِ‬
‫يأتني ِم ْن ُك ِّل فَ ٍّج َع ِم ٍيق (‪ )27‬لِيَ ْش َه ُدوا َمنَافِ َع} [احلج ‪.]28-27‬‬
‫ضام ٍر َ‬
‫ُك ِّل ِ‬
‫َ‬
‫وك ِر َجاالً } قالوا ‪ :‬أي أهنم مرتجلني ماشني ‪.‬‬ ‫{يَأْتُ َ‬
‫ض ِام ٍر} أي ‪ :‬على كل بعري ضامر من شدة السفر ‪.‬‬ ‫{ َو َعلَى ُك ِّل َ‬
‫فعاد إبراهيم بعد ذلك إىل فلسطني ألمر يعلمه اهلل ‪.‬‬
‫وأما إمساعيل فأقام هناك ‪ ،‬وتزوج من جرهم ‪ ،‬فهو جد رسولنا صلى اهلل عليه وسلم‬
‫(‪2‬‬
‫‪ ،‬ويف حديث ضعيف يف سنده كالم ‪ ،‬يقول صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬أنا ابن الذبيحني ))‬
‫‪ )2‬فالذبيح األول هو إمساعيل الذي عرضه لذبح إبراهيم ‪ ،‬والذبيح اآلخر هو عبد اهلل أبو‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم مباشرة ‪.‬‬
‫فان عبد املطلب ملا جفت بئر زمزم نذر نذرا إذا اخرج اهلل املاء أن يذبح أحد أبنائه ‪،‬‬
‫وكانوا عشرة منهم ‪ :‬عبد اهلل واحلارث ومحزة وأبو طالب والعباس وأبو هلب ‪.‬‬

‫(‪)22‬‬
‫أخرجه الحاكم في (( المستدرك )) (‪ ، )4048‬وانظر ‪ (( :‬كشف الخفا )) (‪ ، )1/230‬و(( الضعيفة)) لأللباني (‪.)331‬‬
‫فلما خرج املاء اقرع بني العشرة فخرج السهم على عبد اهلل والد رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ففداه ‪.‬‬
‫فأتى السهم اآلخر فوقع على عبد اهلل ‪ ،‬ففداه بعشرين ‪ ،‬حىت وصل مائة ناقة ففداه هبا‪.‬‬
‫فكان الرسول صلى اهلل عليه وسلم ابن الذبيحني ‪.‬‬
‫والذبيح األول على الصحيح هو إمساعيل ن ال إسحاق كما يدعي اليهود حسدا لنبينا‬
‫أن يكون ابنا للذبيح املختار ‪.‬‬
‫هذه حملات عن قصة هذين النبيني اجلليلني ‪ ،‬وبقي يف حياة إبراهيم‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬عرب‬
‫ومواقف ‪ ،‬كمحاجته مع النمرود ‪ ،‬وطلبه أن يرى كيفية أحياء املوتى من اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪،‬‬
‫وقد ذكرت هذا يف مواضع أخرى ‪.‬‬

‫*****************************************‬
‫الكريم ابن الكريم‬

‫قصة يوسف فيها عرب وفوائد مجة ملن تأملها ‪.‬‬


‫وفيها متعة وتشويق للنفس البشرية‬
‫فهي حتكي أطوار حياة نيب من أنبياء اهلل ‪ ،‬منذ الصغر إىل أن تقلد املنصب الكبري يف‬
‫عصره ‪.‬‬
‫ويف هذه الورقات نقوم جبولة عجلى على مقطعني من مقاطع السورة نستلهم منها العرب‬
‫والدروس النافعة لنا ‪.‬‬
‫ت إِ‬‫ال يوسف أَل َبِ ِيه يا أَب ِ‬
‫س‬‫َ‬ ‫َّم‬
‫ْ‬ ‫الش‬ ‫و‬‫َ‬ ‫ً‬‫ا‬ ‫ب‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ش‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫أحد‬ ‫رأيت‬ ‫يِّن‬ ‫َ َ‬ ‫يقول سبحانه ‪{ :‬إِ ْذ قَ َ ُ ُ ُ‬
‫اج ِ‬‫والْ َقمر رأيتهم يِل س ِ‬
‫ك َكْيداً‬ ‫يدوا لَ َ‬‫ك َفيَ ِك ُ‬ ‫ياك َعلَى إِ ْخ َوتِ َ‬
‫ص ُر ْؤ َ‬ ‫ص ْ‬‫ُ‬ ‫ق‬
‫ْ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ال‬ ‫َّ‬ ‫ب‬
‫َ ُيَن‬‫ا‬‫ي‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫َ‬‫ق‬ ‫)‬‫‪4‬‬ ‫(‬ ‫ين‬
‫َ‬ ‫د‬ ‫َ ََ ُ ْ َ‬
‫يث َويُتِ ُّم‬‫ك ِمن تَأْ ِو ِيل اأْل َح ِاد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ك َويُ َعلِّ ُم َ ْ‬
‫يك َربُّ َ‬ ‫ك جَيْتَبِ َ‬‫ني (‪َ )5‬و َك َذل َ‬ ‫إِ َّن الشَّْيطَا َن لإْل نسان َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫يم‬ ‫اق إِ َّن ربَّك علِ‬ ‫ِ‬ ‫ك وعلَى ِآل يع ُقوب َكما أَمَتَّها علَى أَبوي َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ك م ْن َقْب ُل إبراهيم َوإ ْس َح َ َ َ َ ٌ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ ََ ْ‬ ‫ن ْع َمتَهُ َعلَْي َ َ َ‬
‫يم (‪[ })6‬يوسف] ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َحك ٌ‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬الكرمي ابن الكرمي ابن الكرمي ابن الكرمي ‪ :‬يوسف بن‬
‫يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ))(‪.)32‬‬
‫دخل عمر ‪ ،‬رضي اهلل عنه ‪،‬مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فوجد قاصا‬
‫يقص على الناس من أخبار اجلاهلية واألمم السابقة فقال عمر ‪ :‬من هذا ؟‬
‫قالوا ‪ :‬قاص يقص علينا ‪.‬‬
‫َح َس َن‬ ‫كأْ‬ ‫ص َعلَْي َ‬ ‫فعاله عمر بالدرة وقال ‪ :‬أتقص يا عدو نفسك واهلل يقول ‪{ :‬حَنْ ُن َن ُق ُّ‬
‫ص } (يوسف‪ :‬من اآلية‪.)3‬‬ ‫ص ِ‬ ‫الْ َق َ‬
‫ومن أحسن القصص ‪ :‬قصة يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪.‬‬
‫وبطلها هو ‪ :‬يوسف صلى اهلل عليه وسلم الذي مر بأربع مشاهد‪:‬‬
‫‪ -1‬مشهد الفراق ألبيه عندما فارقه أربعني سنة مل يشاهده فيها ‪.‬‬

‫(‪)32‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ )3390،3382،4688‬عن ابن عمر ‪ ،‬رضي هللا عنهما ‪.‬‬
‫‪ -2‬ومشهد الفتنة مع امرأة العزيز اليت تعرضت له ‪ ،‬وهي من أمجل خلق اهلل ‪.‬‬
‫‪ -3‬ومشهد السجن عندما سجن يف ذات اهلل ‪،‬وحمص ليخرج برضوان اهلل ‪.‬‬
‫‪ -4‬ومشهد الوزراة وامللك عندما اعتلى على مناصب القوة ومراكزها يف عصره ‪.‬‬

‫قال تعاىل يف أول السورة ( الر ) فمن هذه احلروف نتكلم ‪.‬‬
‫ومن هذه احلروف نقول كلماتنا‪.‬‬
‫فيا أيها الفصحاء ‪ ..‬يا قريش اللسناء ‪ ..‬يا قريش البليغة ‪ .‬تعالوا فصوغوا من هذه‬
‫احلروف قرانا ‪ ،‬كما صغنا قرآننا ‪.‬‬
‫فاملادة موجودة واخلام معروف‪.‬‬
‫ولكن هل تستطيعون ؟‬
‫ال !!! لن تستطيعوا ‪ { ،‬فَِإ ْن مَلْ َت ْف َعلُوا َولَ ْن َت ْف َعلُوا } (البقرة‪ :‬من اآلية‪. )24‬‬
‫مث قال تعاىل ‪ { :‬تلك آيات الكتاب املبني } كتاب بني واضح ‪ { ،‬إِنَّا أ َ‬
‫َنزلْنَاهُ ُق ْرآناً‬
‫َعَربِيّاً لَّ َعلَّ ُك ْم َت ْع ِقلُو َن } (يوسف‪ )2:‬فيا من نام وما استيقظ ‪ ...‬استيقظ هبذا القران ‪.‬‬
‫ويا من غفل ومل يصح ‪ ...‬اصح هبذا القرن ‪.‬‬
‫ويا من فقد عقله ‪ ...‬أعقل هبذا القران ‪.‬‬
‫ص‬‫مث يقول ‪ ،‬تبارك وتعاىل ‪ ،‬مقدما للقصة املدهشة اليت ما مسع الناس مبثلها{حَنْ ُن َن ُق ُّ‬
‫ص} (يوسف‪ :‬من اآلية‪ ،)3‬فأروع القصص وأصدق القصص هي قصص‬ ‫ص ِ‬‫َح َس َن الْ َق َ‬
‫كأْ‬ ‫َعلَْي َ‬
‫القران‪.‬‬
‫ت ِم ْن َقْبلِ ِه لَ ِم َن‬ ‫ص مِب َا أ َْو َحْينَا إِلَْي َ‬
‫ك َه َذا الْ ُق ْرآ َن َوإِ ْن ُكْن َ‬ ‫ص ِ‬ ‫َح َس َن الْ َق َ‬
‫كأْ‬‫ص َعلَْي َ‬
‫{حَنْ ُن َن ُق ُّ‬
‫ني} (يوسف‪ .)3:‬كنت أميا ال تقرا وال تكتب ‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫الْغَافل َ‬
‫كنت يف صحراء مع أمة أمية جاهلية ليس عندها أي قصص ‪ ،‬وليس عندها علم ‪،‬‬
‫فامسع اآلن القصص ‪.‬‬
‫مث ينتقل بنا القران إىل يوسف صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬واىل أبيه يعقوب ‪ ،‬إىل األنبياء‬
‫املطهرين واألسرة العريقة ذات الكرم واجلود والتقوى ‪.‬‬
‫وما كان من خري آتاه فإمنا *** توارثه آباء آبائهم قبل‬
‫وهل ينبت اخلطى إال وشيجة *** وتغرس إال يف منابتها النخل‬

‫يصحو يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪،‬وهو غالم فيما يقارب العاشرة فيجلس أمام أبيه ‪ ،‬ومن‬
‫أجب األعاجيب عند الطفالن يرى يف النوم رؤيا ليفرح هبا ويقصها على أبيه وأمه ‪ ،‬وبعضهم‬
‫يزيد فيها وينقص ‪.‬‬
‫وأما يوسف صلى اهلل عليه وسلم فما زخرف وما زاد ‪ ،‬بل جلس أمام أبيه ‪ ،‬وقال ‪ :‬يا‬
‫أبتاه !! إين رأيت البارحة أحد عشر كوكبا يف السماء والشمس والقمر ‪.‬‬
‫ولو سكت ملا كان يف القصة عجب ؛ ألن الكل يرى النجوم والكواكب والشمس‬
‫ِِ‬
‫ين} (يوسف‪ :‬من اآلية‪.)4‬‬ ‫رأيته ْم يِل َساجد َ‬
‫والقمر ‪ ،‬ولكن سر الرؤيا كان يف اخلامتة { ُ‬
‫ففزع يعقوب هبذه الرؤيا ‪ ،‬وفطن ألنه من األنبياء ‪ ،‬وعلم أن ابنه هذا سوف يكون له‬
‫شأن أميا شأن ‪ ،‬وسوف يكون وارثه يف النبوة ‪.‬‬
‫فخاف أن خيرب إخوانه هبذه الرؤيا ‪ ،‬فيأيت الشيطان فيفسد ما بينهم وبينه ‪.‬‬
‫ك} (يوسف‪ :‬من اآلية‪ )5‬حذاري‬ ‫ياك َعلَى إِ ْخ َوتِ َ‬
‫ص ُر ْؤ َ‬
‫ص ْ‬‫فقال ‪ ( :‬يا بين ) للتحبيب {ال َت ْق ُ‬
‫حذاري أن يسمعوا هذه القصة ‪ ،‬فال ختربهم أبدا انك رأيت أحد عشر كوكبا والشمس‬
‫والقمر يسجدون لك ‪.‬‬
‫ولكن يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬نسي لصغره الوصية ‪ ،‬فأخرب هبا إخوانه عندما جلس‬
‫معهم ‪.‬‬
‫ولذلك علمنا صلى اهلل عليه وسلم أن أحدنا إذا رأى رؤيا أن ال يقصها إال على من‬
‫حيب (‪.)24‬‬
‫فثار احلقد واحلسد يف قلوب إخوانه ‪ ،‬وبدءوا يدبرون له املكايد ‪.‬‬
‫فعلم يعقوب بأهنم علموا الرؤيا فتضايق وخاف منهم على أخيهم ‪.‬‬

‫(‪)24‬‬
‫كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (‪ ، )7044‬ومسلم (‪ )2261‬عن أبي قتادة ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫ف‬ ‫ِ‬ ‫مث قال تعاىل ‪{ :‬لََق ْد َكا َن يِف يوسف وإِخوتِِه آيات لِ َّ ِِ‬
‫وس ُ‬
‫ني (‪ )7‬إ ْذ قَالُوا لَيُ ُ‬ ‫لسائل َ‬ ‫ُ ُ َ َ َْ‬
‫ض ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني (‪ })8‬فهم إضافة إىل تلك‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫صبَةٌ إِ َّن أَبَانَا لَفي َ‬‫ب إِىَل أَبِينَا منَّا َوحَنْ ُن عُ ْ‬‫َح ُّ‬
‫َخوهُ أ َ‬
‫َوأ ُ‬
‫الرؤيا اليت أثارهتم ‪ ،‬قد ازدادوا بغضا ليوسف عندما رأوا أباهم يقربه وحيبه ويبش له دوهنم ‪.‬‬
‫ويف هذا ‪ :‬تنبيه لآلباء بأن ال يفضلوا أحد أبنائهم على اآلخرين ؛ ألنه يف النهاية إن مل‬
‫يصرفه اهلل عن السوء سيكون مثل إخوة يوسف ‪ ،‬وال شك ‪.‬‬
‫وال تغررك األفعال الظاهرة ‪ ،‬فإن بعض القلوب والنفوس تكتم شعورها لتفرغه يف‬
‫الوقت املناسب ‪.‬‬
‫املهم ‪ :‬أهنم دبروا ألخيهم مكيدة ما مسع التاريخ مبثلها ‪.‬‬
‫فهو طفل صغري عاقل تقي ورع من أبناء النبوة ‪،‬لكنهم قرروا قتله أو إخفاءه ‪.‬‬
‫ف أَ ِو اطَْر ُحوهُ أ َْرضاً}‬ ‫وس َ‬‫{يُ ُ‬
‫ملاذا كل هذا ؟‬
‫{خَي ْ ُل لَ ُك ْم َو ْجهُ أَبِي ُك ْم} أي ‪ :‬سوف ختتلون بأبيكم وينفرد حببكم ‪َ { ،‬وتَ ُكونُوا ِم ْن‬
‫ني} فتتوبون من اخلطأ ‪ ،‬وتستغفرون اهلل من اجلرمية ‪،‬ويتوب اهلل عليكم ‪.‬‬ ‫بع ِد ِه َقوماً حِلِ‬
‫صا َ‬ ‫َْ ْ َ‬
‫قال ابن عباس ‪ ،‬رضي اهلل عنهما ‪ :‬نووا التوبة قبل الذنب ‪.‬‬
‫ب} فالقتل جرمية‬ ‫ت اجْلُ ِّ‬‫{قَائِل ِمْنهم} وهو أكربهم {ال َت ْقُتلُوا يوسف وأَلْ ُقوه يِف َغياب ِ‬
‫ُ ُ َ َ ُ ََ‬ ‫ٌ ُْ‬
‫نكراء عند هذا األخ الذي حتركت غريته على أخيه نوعا ما ‪ ،‬فجعلته خيتار عدم القتل ‪،‬‬
‫ِِ‬ ‫ولكن {وأَلْ ُقوه يِف َغياب ِ‬
‫ني} أي ‪ :‬مصممني‬ ‫ب } ي ‪ :‬يف بئر عميقة ‪{ ،‬إِ ْن ُكْنتُ ْم فَاعل َ‬ ‫ت اجْلُ ِّ‬ ‫َ ُ ََ‬
‫على هذه الفعلة ‪.‬‬
‫فلما اجتمعوا‪ ،‬امجعوا أمرهم على هذه املكيدة‪.‬‬
‫ولكن ‪ ،‬من خيرج يوسف من بيد يدي أبيهم ‪ ،‬عليه السالم ‪:‬‬
‫ف} أحنن خونة ؟ أتشك فينا‬ ‫وس َ‬‫ك ال تَأْ َمنَّا َعلَى يُ ُ‬‫فأتوا يوما وقالوا ‪{ :‬قَالُوا يَا أَبَانَا َما لَ َ‬
‫اص ُحو َن} فنحن حنبه‬ ‫ك ال تَأْمنَّا علَى يوسف وإِنَّا لَه لَنَ ِ‬ ‫؟ هل ضربناه ؟ هل حسدناه ؟ { َما لَ َ‬
‫َ َ ُ ُ َ َ ُ‬
‫واهلل ‪ ،‬وننصح له ‪ ،‬وال نريد إال اخلري له ‪.‬‬
‫مث أكدوا طلبهم وقرنوه ببعض األعذار املغرية والتطمينات فقالوا ‪{ :‬أرسلهُ َم َعنَا َغداً‬
‫ب َوإِنَّا لَهُ حَلَافِظُو َن} أي ‪ :‬يرعى معنا الغنم ‪ ،‬بل ويلعب أيضا ؛ ألن الصغار دائما‬ ‫َيْرتَ ْع َو َي ْل َع ْ‬
‫حيبون اللعب ‪ ،‬وال ختف فنحن سنحفظه من اللصوص ومن الذئاب ألننا عصبة كثريون‪.‬‬
‫فقال ‪ ،‬عليه السالم ‪{ :‬إِيِّن لَيَ ْح ُزنُيِن أَ ْن تَ ْذ َهبُوا بِِه} أجد وحشة واهلل على هذا االبن أن‬
‫ب} ألن‬ ‫ب) ملا كانوا قالوا يف األخري ‪{ :‬أَ َكلَهُ ِّ‬
‫الذئْ ُ‬ ‫اف أَ ْن يَأْ ُكلَهُ ِّ‬
‫الذئْ ُ‬ ‫َخ ُ‬
‫(وأ َ‬
‫يذهب من بييت ‪َ ،‬‬
‫هذا ليس يف أذهاهنم منذ البداية ‪ ،‬فهو ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬قد سهل هلم العذر واملكيدة‪.‬‬
‫فخرجوا به‪ ،‬فلما أصبحوا يف الصحراء ‪ ،‬والغنم ترتع وتأكل وهم يلعبون ‪ ،‬واجلو‬
‫ساكن وهادئ ‪ ،‬والطيور تغرد وتزغرد ‪ ،‬والنسيم يعل وينهل على األعشاب ‪ ،‬ولكن القلوب‬
‫تغلي باحلقد على األخ احلبيب القريب والصغري ‪.‬‬
‫فأخذوه ‪ ،‬وقيدوه حببل ‪ ،‬وأنزلوه يف البئر ‪.‬‬
‫فأخذ يستغيث ويظن أهنم ميزحون ‪ ،‬وقد خريوه بني القتل وبني أن يلقى يف البئر ‪.‬‬
‫كفى بك داءان ترى املوت شافيا *** وحسب املنايا أن يكن امانيا‬
‫متنيتها ملا متنيت أن تـ ــرى *** صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا‬

‫فأنزلوه ‪ ،‬وهو يتشبث باحلبل ‪ ،‬ويبكي ‪.‬‬


‫قال ابن عباس ‪ ،‬وهو يبكي ‪ ،‬حينما قرأ سورة يوسف ‪ :‬هدأت احليتان يف البحر من‬
‫التسبيح ‪ ،‬ومل يهدأ يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬من التسبيح‪.‬‬
‫فلما نزل يف قعر البئر ‪ ،‬قطعوا احلبل ‪ ،‬فبقي يف حفظ اهلل ‪ ،‬ويف رعاية اهلل ‪.‬‬
‫وإذا العناية الحظتك عيوهنــا *** من فاحلوادث كلهن أمان‬

‫قطعوا احلبل ‪ ،‬وتركوه يف البئر ‪ ،‬وهو يلهج بذكر اهلل يف الصحراء ‪ ،‬وحيدا ليس معه‬
‫إال اهلل ‪.‬‬
‫الذئاب حوله ‪ ،‬واجلو مكفهر ‪ ،‬ال خبز وال ماء وال طعام ‪ ،‬وال أهل وال جريان وال‬
‫أحبة وال مؤنس يؤنس ‪ ،‬وإمنا الذئب يعوي يف صحراء مدوية‪.‬‬
‫عوى الذئب استأنست بالذئب إذ عوى *** وصوت إنسان فكدت أطري‬

‫وإخوته بفعلهم هذا قد أخطأوا في ثالث مواطن‪:‬‬


‫األول ‪ :‬أهنم نفذوا جرميتهم يف أول يوم يذهب فيه معهم ‪،‬وهذا دليل على شدة‬
‫تعجلهم باالنتقام منه ‪ ،‬وإزالته من أمام أعينهم ‪.‬‬
‫ولو أعادوه ليطمئن أبوهم ملا شك فيهم ‪ ،‬ولكنها حكمة اهلل اليت فضحتهم ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أهنم خلعوا قميصه ‪،‬ومل ميزقوه ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬أكله الذئب ‪.‬‬
‫وهذه غفلة منهم ؛ ألن الذئب إذا أراد األكل ال خيلع القميص بل ميزقه !!‬
‫ت مِب ُْؤ ِم ٍ‬
‫ن لَنَا}(يوسف‪ :‬من اآلية‪) 17‬‬ ‫الثالث ‪ :‬أهنم عندما عادوا ألبيهم وأخربوه قالوا‪َ :‬و َما أَنْ َ‬
‫أي ‪ :‬مبصدق‪.‬‬
‫وهذا كقوهلم يف املثل ‪ ( :‬كاد املريب أن يقول خذوين )‪.‬‬
‫َّه ْم بِأ َْم ِر ِه ْم َه َذا َو ُه ْم ال يَ ْشعُُرو َن} أي‪ :‬ستمر األيام‬
‫فأوحى اهلل إىل يوسف {لَُتنَبَِّئن ُ‬
‫وختربهم هبذا الصنيع منهم بعد سنني طويلة ‪.‬‬
‫فعاد اإلخوة إىل أبيهم يف العشاء يبكون ‪.‬‬
‫وملاذا العشاء ؟‬
‫ملاذا مل يعودوا يف العصر ؟‬
‫قيل ‪ :‬لئال يرى أبوهم الدم بوضوح ‪،‬فيكتشف انه ليس بدم آدمي‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬ليتوهم أهنم تأخروا يف مطاردة الذئب !‬
‫فسأهلم ‪ :‬ما اخلرب ؟‬
‫ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!)‪.‬‬
‫فسأهلم ‪ :‬ما اخلرب ؟‬
‫ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!)‪.‬‬
‫اعنَا) لكي ال‬‫فقالوا ‪( :‬إِنَّا ذَهبنَا نَستَبِق) أي ‪ :‬نتسابق وجنري (وَتر ْكنَا يوسف ِعْن َد متَ ِ‬
‫َ‬ ‫ََ ُ ُ َ‬ ‫َْ ْ ُ‬
‫ب) أي ‪ :‬جاء الذئب وأكله وحنن الهون يف مسابقتنا‬ ‫يصل أو يبعد عن أعيننا (فَأَ َكلَهُ ِّ‬
‫الذئْ ُ‬
‫ولعبنا ‪.‬‬
‫ني} لكن انظر إىل الدليل ‪:‬‬ ‫مث قالوا ‪ :‬حتما لن تصدقنا {أَنْت مِب ؤ ِم ٍن لَنا ولَو ُكنَّا ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ َ َ ْ‬
‫أخرجوا له القميص وجعلوه قريبا منه ليلمح آثار الدم عليه ‪ .‬لكنه ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬علم‬
‫املكيدة من اللمحات والنظرات والريبة ‪ ،‬و القميص الذي مل ميسسه مزق واحد ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ت لَ ُكم أنفس ُكم أَمراً} لقد كدمت مكيدة {مَجِ يل واللَّه الْمسَتعا ُن علَى ما تَ ِ‬
‫ص ُفو َن} ‪.‬‬ ‫ٌَ ُ ُْ َ َ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫{بَ ْل َس َّولَ ْ ْ‬
‫قال ابن تيمية ‪ ،‬رمحه اهلل ‪ :‬الصرب اجلميل هو الذي ال شكوى فيه ‪.‬‬
‫والصرب اجلميل ‪ :‬هو الذي ال تظهر فيه الفقر واملسكنة إال هلل ‪.‬‬
‫والصرب اجلميل ‪ :‬أن تتجمل أمام خلق اهلل ‪.‬‬
‫قيل ألحد العباد ‪ :‬ما هو الصرب اجلميل ؟‬
‫قال ‪ :‬أن يقطع جسمك قطعة قطعة ‪ ،‬وأنت تبتسم‪.‬‬
‫وقال آخر ‪ :‬الصرب اجلميل أن تبتلى ‪ ،‬وقلبك يقول ‪ :‬احلمد هلل ‪.‬‬
‫مث توىل يبكي حىت ابيضت عيناه‪.‬‬
‫وبالفعل صرب يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬حىت أرسل اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬برمحة منه قافلة متر‬
‫من ذلك املكان ‪،‬وبالقرب من البئر ‪ ،‬فذهب و أردهم وأدىل دلوه يف البئر يستقي املاء ‪ ،‬فتعلق‬
‫يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬بالدلو ‪ ،‬فلما سحب الرجل الدلو رأى غالما مجيال قد أويت شطر‬
‫الم} أي ‪ :‬خادم وعبد يل ‪،‬‬ ‫احلسن ‪ ،‬فقال ألصحابه ‪{ :‬يَا بُ ْشَرى} فانتبهوا ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬ه َذا غُ ٌ‬
‫سوف أبيعه ‪.‬‬
‫اعةً} قيل ‪ :‬أخفاه بعضهم عن بعض وجعلوه‬ ‫ضَ‬ ‫َسُّروهُ بِ َ‬
‫مث يقول عز من قائل ‪َ { :‬وأ َ‬
‫بضاعة ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬أخفوه من الناس ‪ ،‬خوفا أن جيدوا أباه أو أقاربه ‪ ،‬وما علموا أن إخوانه هم‬
‫الذين تركوه وهم الذين طرحوه وهم الذين هجروه و أبعدوه ‪.‬‬
‫يم مِب َا َي ْع َملُو َن} فاهلل يتابع سرية هذا النيب ‪ ،‬وقصة هذا الرسول الكرمي ‪ ،‬عليه‬ ‫ِ‬
‫{ َواللَّهُ َعل ٌ‬
‫الصالة والسالم ‪.‬‬
‫س} وشرى هنا ‪ :‬مبعىن باع ‪.‬‬ ‫وذهبوا به { َو َشَر ْوهُ بِثَ َم ٍن خَب ْ ٍ‬
‫س} ألن الدنيا وما فيها لو دفعت يف مثل يوسف عليه إلسالم ‪ ،‬لكانت‬ ‫{بِثَ َم ٍن خَب ْ ٍ‬
‫خبسا ‪ ،‬ولكانت غبنا ‪ ،‬ولكانت خسارة ‪.‬‬
‫ود ٍة} ومل يقل موزونة ‪ ،‬ألن املعدود دائما اقل من املوزون ‪َ { ،‬و َكانُوا فِ ِيه‬ ‫ِ‬
‫{ َد َراه َم َم ْع ُد َ‬
‫ين} أي ‪ :‬ال يرغبون فيه ‪ ،‬وال يريدون أن يكون معهم ‪.‬‬ ‫ِمن َّ ِ ِ‬
‫الزاهد َ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫صَر} ومل يسمه اهلل بامسه ‪.‬‬ ‫{الَّذي ا ْشَتَراهُ م ْن م ْ‬
‫قيل ‪ :‬ألن القصة ليوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬فما كان ألحد أن يزامحه فيها ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬ألن كلمة العزيز ال يستحقها العزيز ؛ ألن العزيز من اعزه اهلل بطاعته‬
‫‪،‬والشريف من دخل يف عبودية اهلل‪.‬‬
‫ومما زادين شرفا وفخ ــرا *** وكدت بأمخصي أطأ الثريا‬
‫دخويل حتت قولك يا عبادي *** وأن صريت أمحد يل نبيا‬

‫فقال المرأته ‪{ :‬أَ ْك ِر ِمي َم ْث َواهُ} وهذا مبالغة يف اإلكرام ‪ ،‬أي ‪ :‬أحسين طعامه وشرابه‬
‫وكسوته ومنامه ‪َ { ،‬ع َسى أَ ْن َيْن َف َعنَا} فيخدمنا يف أغراضنا ‪ ،‬ويقضي لنا بعض حوائجنا ‪( ،‬أ َْو‬
‫َّخ َذهُ َولَداً) ألن العزيز كان حصورا ال يأيت النساء ‪ ،‬وكانت امرأته عقيما‪.‬‬‫نَت ِ‬
‫فأراد أن يتخذ هذا الغالم ولدا يرتعرع يف بيتهم ‪ ،‬يهدؤون ويرتاحون إليه ‪ ،‬وهم ال‬
‫يشعرون انه لن يكون هلم ولدا ‪ ،‬بل سوف يكون نبيا من األنبياء ‪ ،‬ورسوال حيمل رسالة‬
‫السماء إىل األرض ‪ ،‬وداعية إصالح حيرر الشعوب ويقود األجيال إىل اهلل ‪.‬‬
‫ومكث ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬يف قصر العزيز تقيا عابدا متأهلا متعلقا باحلي القيوم ‪.‬‬
‫ومتر األيام ‪ ،‬ويزداد حسنا إىل حسنه ‪،‬ومجاال إىل مجاله ‪.‬‬
‫فرتاوده املرأة اليت عاش معها تلك السنني الطويلة‪.‬‬
‫فيا للفتنة!‬
‫ويا للمحنة!‬
‫شاب أعزب فيه الشهوة ‪ ،‬وليس له أهل يعود إليهم ‪ ،‬وغريب ال خشى على نفسه من‬
‫السمعة القبيحة ‪ ،‬كما خيشى صاحب الوطن ‪َ { ،‬و َر َاو َدتْهُ الَّيِت ُه َو يِف َبْيتِ َها َع ْن َن ْف ِس ِه}‬
‫تعرضت له كثريا ‪ ،‬وجتملت له دائما ؛ ألهنا ذات منصب وذات مجال ‪ ،‬فهي كملكة يف قصر‬
‫ملك ‪.‬‬
‫ولكن اهلل معه حيفظه ويسدده ‪.‬‬
‫ِ‬
‫اب}‬‫ويف يوم من األيام عملت على إغالق األبواب كما قال تعاىل ‪َ { :‬و َغلَّ َقت اأْل َْب َو َ‬
‫ت} زيادة‬ ‫وكانت سبعة أبواب ‪ ،‬فغلقت كل باب ‪ ،‬ومل يقل سبحانه ‪ :‬أغلقت ‪ ،‬وإمنا {و َغلَّ َق ِ‬
‫َ‬
‫يف املبىن ليزيد املعىن ‪.‬‬
‫ك‬‫وم (‪َ )218‬وَت َقلُّبَ َ‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ني‬ ‫ح‬‫فخلت معه ولكن اهلل سبحانه وتعاىل يرامها {الَّ ِذي ير َاك ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ين (‪[ })219‬الشعراء] ‪.‬‬ ‫يِف َّ ِ ِ‬
‫الساجد َ‬
‫ت بِِه َو َه َّم هِب َا} ‪ ..‬فخال باملعصية ‪ ،‬لكن ما خال عن عني اهلل ‪.‬‬ ‫{مَهَّ ْ‬
‫وإذا خلوت بريبة يف ظلمــة *** والنفس داعية إىل الطغيان‬
‫استحيي من نظر اإلله وقل هلا *** إن الذي خلق الظالم يراين‬

‫{ َو َه َّم هِب َا} أي ‪ :‬هاجت الشهوة يف قلبه ‪ ،‬عليه السالم ‪{ ،‬لَ ْوال أَ ْن َرأى بُْر َها َن َربِِّه}‪.‬‬
‫فما هو برهان ربه يا ترى ؟‬
‫تلك أقوال املفسرين ‪ ،‬أعرضها عليكم ‪ ،‬مث خنرج بالراجح ‪ ،‬إن شاء اهلل ‪:‬‬
‫هاتفا يهتف يقول ‪ :‬يا‬ ‫‪ -1‬قال ابن عباس ‪ ،‬رضي اهلل عنه ‪ :‬ملا هم يوسف هبا مسع ً‬
‫يوسف ‪ ،‬إنين كتبتك يف ديوان األنبياء ن فال تفعل فعل السفهاء‪.‬‬
‫‪ -2‬وقال السدي ‪ :‬مسع هاتفا يهتف ويقول ‪ :‬يا يوسف ‪ ،‬اتق اهلل ‪ ،‬فانك كالطائر‬
‫الذي يزينه ريشه ‪ ،‬فإذا فعلت الفاحشة فقد نتفت ريشك‪.‬‬
‫الزىَن إِنَّهُ‬
‫‪ -3‬وقال بعض املفسرين ‪ :‬رأى لوحة يف القصر مكتوب عليها { َوال َت ْقَربُوا ِّ‬
‫سبِيالً } [اإلسراء ‪]32 :‬‬ ‫ِ‬
‫َكا َن فَاح َشةً َو َساءَ َ‬
‫ِِ‬
‫ني}[االنفطار ‪ ]10 :‬أي ‪:‬‬ ‫‪ -4‬وقال غريهم ‪ :‬رأى كفا مكتوبا عليه { َوإِ َّن َعلَْي ُك ْم حَلَافظ َ‬
‫إننا حنفظ تصرفاتكم وحركاتكم وسكناتكم‪.‬‬
‫‪ -5‬وقيل ‪ :‬بل رأى يعقوب أباه يف طرف الدار قد عض على إصبعه وهو يقول ‪ :‬يا‬
‫يوسف ‪ ،‬اتق اهلل ‪ ،‬أورده ابن جرير وابن كثري ‪.‬‬
‫‪ -6‬وقال بعض أهل العلم من املفسرين أيضا ‪ :‬ملا مهت به وهم هبا قالت ‪ :‬انتظر ‪،‬‬
‫فقامت إىل صنم يف طرف البيت فسرتته جبلباب على وجهه ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ما لك ؟‬
‫قالت ‪ :‬هذا اهلي استحي أن يراين‪.‬‬
‫فدمعت عينا يوسف ‪ ،‬وقال ‪ :‬أتستحني من صنم ال يسمع وال يبصر ‪ ،‬وال ميلك ضرا‬
‫وال نفعا ‪ ،‬وال حياة وال نشورا ‪ ،‬وال أستحي من اهلل الذي بيده مقاليد األمور ‪.‬‬
‫‪ -7‬ويرى ابن تيمية ‪ ،‬شيخ اإلسالم ‪ ،‬وغريه من أهل العلم ‪ :‬أن برهان ربه الذي رآه‬
‫‪ ،‬هو ‪ :‬واعظ اهلل يف قلب كل مؤمن ‪ ،‬فقد حترك واعظ اهلل ‪ ،‬واحلياء من اهلل ‪ ،‬واخلجل من‬
‫احلي القيوم يف قلب يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬فارتدع عن املعصية وعاد منيبا إىل اهلل { َوأ ََّما َم ْن‬
‫س َع ِن اهْلََوى (‪ )40‬فَِإ َّن اجْلَنَّةَ ِه َي الْ َمأْ َوى (‪[ })41‬النازعات] فتذكر‬ ‫اف َم َق َام َربِِّه َو َن َهى َّ‬
‫الن ْف َ‬ ‫َخ َ‬
‫الوقوف بني يدي اهلل فرتاجع‪.‬‬
‫فهل آن لشباب اإلسالم أن يتحرك واعظ اهلل يف قلوهبم ؟‬
‫وهل آن للمسلمني أن جيعلوا من يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬قدوة هلم ؟‬
‫فيا من يتطلع على عورات املسلمني ‪ ،‬أليس لك يف يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬قدوة ؟‬
‫يا من يعامل ربه باملعاصي ! ويرتكب اجلرائم ! وحيرص على الزنا! أما رأيت يوسف؟؟‬
‫وقد خال بامرأة مجيلة ذات منصب ‪ ،‬فتذكر واعظ اهلل يف قلبه ؟‬
‫ويا من دعا إىل التربج والسفور !! أما رأيت ما صنعت اخللطة بالنيب املعصوم الذي‬
‫كان أن يزل وان يهلك ؟ وأنت تنادي املرأة أن تتربج وتسفر عن وجهها وختالط الرجال !!‪.‬‬
‫يقول صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬ال خيلون رجل بامرأة إال كان الشيطان ثالثهما))(‪. )25‬‬
‫(‪ )25‬صحيح ‪ .‬أخرجه احمد (‪ ، )115‬والترمذي (‪ ، )2165‬وصححه ‪ ،‬عن عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪ ،‬وانظر‬
‫(( المشكاة )) (‪.)3118‬‬
‫ويقول صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬ال تتبع النظرة النظرة فإن لك األوىل وليست لك‬
‫اآلخرة ))(‪.)26‬‬
‫السوءَ َوالْ َف ْح َشاءَ} لنعمر مستقبله باليقني ‪،‬‬ ‫ف َعْنهُ ُّ‬ ‫ص ِر َ‬ ‫مث قال اهلل له ‪َ { :‬ك َذلِ ِ‬
‫ك لنَ ْ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ني} ‪ ،‬وإذا‬ ‫ولنجعله من ورثة جنة رب العاملني مع املؤمنني اخلالدين {إِنَّهُ م ْن عبَادنَا الْ ُم ْخلَص َ‬
‫اخلص العبد هلل محاه اهلل من الفنت ‪ ،‬ووقاه احملن ‪ ،‬وجنبه الشرور ‪.‬‬
‫يقول سعيد بن املسيب ‪ ،‬رمحه اهلل ‪ :‬إن الناس يف كنف اهلل وسرته ‪ ،‬فإذا أراد أن‬
‫اب}‬‫استََب َقا الْبَ َ‬
‫يفضح بعضهم رفع سرته ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬عنهم مث قال اهلل عز وجل ‪َ { :‬و ْ‬
‫هو يهرب من الفاحشة وهي تالحقه ‪.‬‬
‫يصهُ ِم ْن‬ ‫يهرب إىل اهلل ‪ ،‬ويفر إىل احلي القيوم وهي تالحقه (واستَب َقا الْباب وقَد ْ ِ‬
‫َّت قَم َ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬
‫ُدبٍُر) شقت قميصه وهي تالحقه وتدعوه إىل نفسها ‪ ،‬وهو يلتجئ إىل اهلل ويصيح بأعلى‬
‫ِ‬
‫اي }قال بعض املفسرين ‪:‬‬ ‫صوته ‪ ،‬وصوته يدوي يف القصر { َم َعا َذ اللّه إِنَّهُ َريِّب أ ْ‬
‫َح َس َن َم ْث َو َ‬
‫يعين بذلك زوجها الذي أحسن مثواه ‪ ،‬وهو يسمي (ربا) عندهم أي ‪ :‬سيدا ‪ ،‬كقولنا ‪:‬‬
‫( رب الناقة ) أي ‪ :‬سيدها‪.‬‬
‫وقال السدي وغريه ‪ :‬إنه اهلي احلي القيوم ‪،‬اجتباين ورباين وعلمين وحفظين ومحاين‬
‫وكفاين وآواين فكيف أخونه يف أرضه ؟‬
‫يا من أراد أن يتجاوز احملرمات ويتعدى احلرمات تذكر معروف اهلل ‪.‬‬
‫اب}إن هذه القصة مذهلة ومدهشة ‪ ،‬فكلها مفاجآت وبغتات‪.‬‬ ‫{وأَلْ َفيا سيِّ َد َها لَ َدى الْب ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫فبينما هي تالحقه ‪ ،‬وإذ بسيدها أو بزوجها عند الباب ‪.‬‬
‫ولكن انظر إىل كيد النساء ومكرهن ‪ ،‬فهي قد سبقت يوسف بالكالم ‪ ،‬واهتمته بأنه‬
‫ِ‬
‫ك ُسوءاً‬ ‫ت َما َجَزاءُ َم ْن أراد بِأ َْهل َ‬ ‫يريدها عن نفسها! مث أصدرت احلكم عليه وقالت ‪{ :‬قَالَ ْ‬
‫يم} ‪.‬‬ ‫إِاَّل أَ ْن يسجن أَو ع َذ ِ‬
‫اب أَل ٌ‬
‫ُْ ََ ْ َ ٌ‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬يضرب بالسياط‪.‬‬

‫(‪ )26‬صحيح ‪ .‬أخرجه احمد (‪، )22465‬وأبو داود (‪ ، )2149‬والترمذي (‪ ، )2777‬وصححه ‪ ،‬عن بريدة بن الحصيب ‪ ،‬رضي هللا‬
‫عنه ‪.‬‬
‫ال ِه َي‬
‫فقال يوسف بلسان الصادق الناصح األمني التقي الورع الزاهد العابد ‪{ :‬قَ َ‬
‫اه ٌد ِم ْن أهلها} قيل ‪ :‬من أبناء عمها ‪،‬‬ ‫راودتْيِن عن َن ْف ِسي} وصدق لعمر اهلل ‪{ ،‬وش ِه َد ش ِ‬
‫ََ َ‬ ‫َ ََ َْ‬
‫وقيل ‪ :‬رجل من اخلدم ‪.‬‬
‫والصحيح الذي عليه اجلمهور ‪ :‬انه طفل صغري ‪ ،‬كان بالغرفة ال يتكلم أنطقه اهلل الذي‬
‫أنطق كل شيء ‪.‬‬
‫ورد أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ (( :‬أربعة تكلموا يف املهد ‪ :‬ماشطة امرأة‬
‫فرعون ‪ ،‬والغالم الذي مع جريج ‪ ،‬وعيسى عليه السالم ‪ ،‬والغالم الذي شهد ليوسف عليه‬
‫السالم ))(‪ )27‬وسنده جيد‪.‬‬
‫وقال هلم ‪ :‬انظروا إن كان القميص قد شق من خلفه فهي الكاذبة ‪ ،‬وهو الصادق ؛‬
‫ألهنا هي اليت مزقته ‪ ،‬فهي اليت جتري خلفه ‪.‬‬
‫وإن كان قد شق من اإلمام فهو الكاذب – وحاشاه – وهي الصادقة ‪ ،‬ألنه سيكون‬
‫هو الذي هامجها ‪.‬‬
‫فوجدوا انه هو الصادق ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬فنصحه زوجها بأن ال خيرب أحدا ‪ ،‬وال يشيع‬
‫ف أ َْع ِر ْ‬
‫ض َع ْن َه َذا} ‪.‬‬ ‫وس ُ‬ ‫اخلرب يف الناس ‪ ،‬فقال ‪{ :‬يُ ُ‬
‫وأما املرأة فنصحها برفق ولني ‪ ،‬على الرغم من جرميتها!!‬
‫ني) فقط استغفري وتويب !‬ ‫ِِ‬ ‫ك إِنَّ ِ ِ ِ‬ ‫فقال ‪( :‬واسَت ْغ ِف ِري لِ َذنْبِ ِ‬
‫ك ُكْنت م َن اخْلَاطئ َ‬ ‫َ ْ‬
‫فأنقذه ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬من البئر عندما كاد له أخوته ‪ ،‬وأنقذه ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪،‬‬
‫من الفتنة عندما كادت له امرأة العزيز ‪.‬‬
‫ولكن بقيت حمنته القادمة اليت سيتعرض هلا يف السجن ‪ ،‬ولعلها تأيت يف موضع آخر ‪.‬‬

‫* فوائد من قصة يوسف ‪:‬‬


‫ولكن نستفيد من هذين املقطعني من قصة يوسف ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬امورا عظيمة ‪ ،‬هتم‬
‫حياتنا يف البيت أو يف اجملتمع ‪.‬‬
‫(‪ )27‬سنده جيد ‪ .‬أخرجه احمد (‪ ، )2817‬والبيهقي (‪ ، )2/389‬عن ابن عباس ‪ ،‬رضي هللا عنهما ‪ ،‬بنحوه ‪ .‬وقال ابن كثير في‬
‫(( التفسير )) (‪ : )3/16‬إسناده ال باس به ‪.‬‬
‫أوال‪ :‬أن هذا القران معجز وبليغ ‪ ،‬وقد حتدى به اهلل العرب الفصحاء فلم يستطيعوا أن يأتوا‬
‫مبثله ‪.‬‬
‫ت اأْلِ نْس واجْلِ ُّن علَى أَ ْن يأْتُوا مِبِثْ ِل ه َذا الْ ُقر ِ‬
‫آن ال يَأْتُو َن‬ ‫قال سبحانه ‪{ :‬قُل لَئِ ِن اجتَمع ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ْ ََ‬ ‫ْ‬
‫ض ظَ ِهرياً } [اإلسراء ‪.]88 :‬‬ ‫ض ُه ْم لَِب ْع ٍ‬ ‫مِبِ ِ ِ‬
‫ثْله َولَ ْو َكا َن َب ْع ُ‬
‫ثانيا ‪ :‬أن الرؤيا منها ما يكون حقا ‪ ،‬ومنها ما يكون باطال ‪ ،‬فإذا كانت من الرجل‬
‫الصاحل ‪ ،‬ومل تكن بأمر مستحيل ‪ ،‬فهي صادقة ‪ ،‬بإذن اهلل ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أن على املسلم إذا رأى رؤيا أن ال خيرب هبا إال من حيب ‪ ،‬وال خيرب هبا كل‬
‫الناس‪.‬‬
‫أما الرؤيا السيئة ‪ ،‬فال خيرب هبا أحدا ؛ ألهنا لن تضره ‪ ،‬بإذن اهلل ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬أن الناس قد فطر كثري من منهم على احلسد‪.‬‬
‫قال احلسن ‪ :‬ما خال جسد من حسد ‪ ،‬ولكن الكرمي خيفيه ‪ ،‬واللئيم يبديه ‪.‬‬
‫وهو من أعظم الذنوب ؛ ألنه يأكل احلسنات ‪ ،‬كما تأكل النار احلطب‪.‬‬
‫َّاس‬
‫وهو يذهب بالتقوى ‪ ،‬ويغضب الرب سبحانه ‪ ،‬قال سبحانه ‪{ :‬أ َْم حَيْ ُس ُدو َن الن َ‬
‫ضلِ ِه} [النساء ‪ ]54 :‬وهو أول أمر عصي به اهلل ‪ ،‬وذلك عندما حسد‬ ‫اه ُم اللَّهُ ِم ْن فَ ْ‬
‫َعلَى َما آتَ ُ‬
‫إبليس آدم‪.‬‬
‫والواجب على احلاسد ‪ :‬أن يتقي اهلل ‪ ،‬وان يعلم أن األمور بيد اهلل ‪ ،‬والفضل له يعطيه‬
‫من شاء ‪ ،‬فانك إذا حسدت أحدا فقد اعرتضت على قضاء اهلل وحكمته ‪.‬‬
‫يقول الشاعر‪:‬‬
‫أال قل ملن ظل يل حاس ــدا *** أتدري على من أسأت األدب‬
‫أسات على اهلل سبحانـ ــه *** ألنك مل تر يل ما وهــب‬

‫وواجب احلاسد ‪ :‬أن يستغفر ويتوب ‪ ،‬ويدعو ألخيه خبري ‪ ،‬وأن ال ينافسه إال على‬
‫أمور اآلخرة املقربة عند اهلل ‪ ،‬أما الدنيا فإهنا تأيت وتذهب‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬عدم تفضيل بعض األبناء على بعض ‪ ،‬كما سبق ؛ ألن هذا يورث احلسد‬
‫والبغضاء بينهم ‪ ،‬وعدم إعطاء أحدهم شيئا دون اآلخر ‪.‬‬
‫ولذلك ملا أتى النعمان بن بشري يشهد الرسول صلى اهلل عليه وسلم على عطيته ألحد‬
‫أبنائه ‪ ،‬قال له صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬أأعطيت كل أبنائك مثله ؟))‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ال‬
‫قال ‪ (( :‬ال تشهدين على جور ))(‪.)28‬‬
‫سادسا ‪ :‬أن احلافظ ‪ ،‬هو ‪ :‬اهلل سبحانه دون غريه ‪ ،‬فاجلأ إليه يف الضوائق والشدائد‬
‫ليحفظك سبحانه ‪ ،‬ومن عرف اهلل يف الرخاء عرفه يف الشدة‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬وجوب الصرب عند الفتنة ‪ ،‬خاصة فتنة النساء ‪ ،‬وااللتجاء إىل اهلل ليصرفها عنك‬
‫‪ ،‬وخري ما يصرفها كما قال سبحانه هو التقوى واإلخالص‪.‬‬

‫هذه أبرز الفوائد من هذين المقطعين من هذه السورة العظيمة‪.‬‬

‫*****************************************‬

‫(‪)28‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، )2650‬ومسلم (‪ )1623‬عن النعمان بن بشير ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫جولة مع بني إسرائيل‬

‫وأنتم ظَالِ ُمو َن‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫خَّت‬


‫ني لَْيلَةً مُثَّ ا َ ْذمُتُ الْع ْج َل م ْن َب ْعده ْ‬
‫ِ‬
‫وسى أ َْربَع َ‬ ‫قال تعاىل ‪َ { :‬وإِ ْذ َو َ‬
‫اع ْدنَا ُم َ‬
‫ِ ِ‬
‫ن (‪[ })52‬البقرة]‪.‬‬ ‫(‪ )51‬مُثَّ َع َف ْونَا َعْن ُك ْم ِم ْن َب ْعد َذل َ‬
‫ك لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َ‬
‫اها بِ َع ْش ٍر}‬ ‫ِ‬
‫ني لَْيلَةً َوأَمْتَ ْمنَ َ‬
‫وسى ثَالث َ‬
‫اع ْدنَا ُم َ‬
‫وقال سبحانه يف سورة األعراف ‪َ { :‬و َو َ‬
‫(ألعراف‪ :‬من اآلية ‪.)142‬‬
‫كيف واعده سبحانه ؟‬
‫يقول الرازي وغريه ‪ :‬إما انه واعده قبل أن يلتقي ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪،‬مبوسى يف اللقاء‬
‫التارخيي ليتلقى كالم اهلل ‪.‬‬
‫وهذا أمر عجيب !‬
‫فقبل أن يكلمه اهلل واعده أن يأيت بعد أربعني‪.‬‬
‫وقيل بل مدة املكاملة أربعني ليلة ‪ ،‬أي ‪ :‬أن الوقت والزمن الذي تستغرقه املكاملة مع‬
‫اهلل هو أربعون ليلة‪.‬‬
‫فلما جنى اهلل موسى ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬قال لبين إسرائيل مكانكم اجلسوا ‪ ،‬وكانوا‬
‫ستمائة ألف ‪ ،‬لكنهم خبثاء حقراء ‪ ،‬أهل مترد على اهلل ‪ ،‬إال من رمحه اهلل ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬أين تذهب‬
‫قال ‪ :‬اذهب آل اهلل ليكلمين‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬ال بد أن تأيت معك بشيء لنعلم هل كلمك أم ال ‪.‬‬
‫فذهب ‪ ،‬عليه السالم ‪.‬‬
‫ويف بعض السري انه مكث ثالثني يوما صائما ‪.‬‬
‫فلما كان يف الطريق وجد ثار الصيام ( اخللوف ) يف فمه ‪.‬‬
‫فأخذ سواكا فتسوك‪.‬‬
‫فلما كله اهلل ‪ ،‬قال يا موسى ‪ ،‬وتستاك ؟‬
‫قال ألكلمك يا ريب ‪ ،‬وأنا طاهر الفم ‪.‬‬
‫ألن يف احلديث الصحيح ‪ (( :‬السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ))(‪.)29‬‬
‫قال ‪ :‬يا موسى ‪ ،‬إما تعلم أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح املسك‪.‬‬
‫عد فصم عشرة أيام مث تعال‬
‫فلما أمت األيام عاد فكلمه ‪ ،‬وأوصى إليه ما أوصى ‪.‬‬
‫ب أَرِيِن أَنْظُْر إليك} (ألعراف‪ :‬من اآلية ‪. )143‬‬ ‫فقال ‪َ { :‬ر ِّ‬
‫لن َتَرايِن } (ألعراف‪ :‬من اآلية ‪. )143‬‬ ‫قال اهلل ‪ْ { :‬‬
‫صعِقاً } (ألعراف‪ :‬من اآلية ‪)143‬‬ ‫ِ‬
‫وسى َ‬ ‫{ َفلَ َّما جَتَلَّى َربُّهُ ل ْل َجبَ ِل َج َعلَهُ َد ّكاً َو َخَّر ُم َ‬
‫ِِ‬
‫ت إليك َوأَنَا أ ََّو ُل الْ ُم ْؤمن َ‬
‫ني} (ألعراف‪ :‬من اآلية ‪.)143‬‬ ‫ك ُتْب ُ‬ ‫فاستفاق وقال ‪ُ { :‬سْب َحانَ َ‬
‫حينها عاد موسى ‪ ،‬وقد أعطاه اهلل األلواح ‪ ،‬وكب اهلل له التوراة بيده كما يف‬
‫((الصحيح ))‪.‬‬
‫أما بنو إسرائيل يف تلك الفرتة ‪ ،‬فقد مجعهم رجل جمرم ‪،‬امسه ‪ ( :‬السامري )‪.‬‬
‫وكان رجال داهية منافقا ‪ ،‬يزعم أن جربيل رباه بالوحي الذي ينزل به من عند اهلل ‪.‬‬
‫وكان امسه احلقيقي ( موسى ) أيضا ‪.‬‬
‫فلذلك يقول الشاعر ‪:‬‬
‫فموسى الذي رباه فرعون مؤمن *** وموسى الذي رباه جربيل كافر‬
‫أتى هذا السامري ‪ ،‬فقال لبين إسرائيل ‪ :‬عندي لكم نبأ عجيب‪.‬‬
‫قالوا ما هو النبأ العجيب ؟‬
‫قال ‪ :‬موسى ذهب يبحث عن إهله ‪ ،‬وإهله هنا ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬أين ؟‬
‫قالوا ‪ :‬هذا العجل ‪.‬‬
‫وكان قد أخذ حلي النساء ‪ ،‬وذهب النساء ‪ ،‬وفضة النساء ‪ ،‬مث سبكها ‪ ،‬مث صور هلم‬
‫عجال ‪ ،‬فكان ينفخ فيه فإذا هو يصلصل ‪.‬‬

‫(‪ )29‬صحيح ‪ ،‬أخرجه البخاري معلقا في كتاب الصوم ‪ ،‬باب سواك الرطب ‪ ،‬ووصله احمد (‪ ، )23683‬والنسائي (‪ ، )5‬عن عائشة‬
‫‪ ،‬رضي هللا عنها ‪ ،‬وانظر ‪ :‬اإلرواء (‪ ، )66‬وهو صحيح ‪.‬‬
‫وسى َفنَ ِس َي} (طـه‪ :‬من اآلية ‪ )88‬أي ‪ :‬نسي موسى أهله وتركه هنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال ‪َ {:‬ه َذا إهَلُ ُك ْم َوإلَهُ ُم َ‬
‫‪.‬‬
‫سبحان اهلل !‬
‫عجل ‪ ،‬ال ميلك هلم ضرا وال نفعا ‪ ،‬وال يرد هلم قوال وال رشدا وال حكمة ‪.‬‬
‫ولكن العقول السخيفة ‪.‬‬
‫فأتى موسى ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬وإذا هم عاكفون على العجل ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا ؟‬
‫قالوا ‪ :‬هذا إهلنا ‪.‬‬
‫فألقى األلواح من الغضب ‪.‬‬
‫انظر إىل الغضب ماذا يفعل ؟‬
‫فكالم اهلل ال يلقى يف األرض ‪.‬‬
‫وعمد إىل هارون أخيه ‪ ،‬وهو أكرب منه سنا ‪ ،‬فأخذه بلحيته أمام الناس ‪ ،‬وأراد أن‬
‫يقتله ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬ال تشمت يب األعداء لقد استضعفوين ؛ ألن موسى كان يرهب بين إسرائيل إذا‬
‫كان فيهم ‪ ،‬فال يستطيعون املخالفة ‪ ،‬خبالف هارون ‪،‬عليهما السالم مجيعا ‪.‬‬
‫ولذلك يقول صلى اهلل عليه وسلم يف عمر بأن فيه شبها من موسى‪.‬‬
‫ولذل فبعض املؤمنني يكون قويا يف احلق ‪ ،‬وبعضهم يكون ضعيفا ال يستطيع قول احلق‬
‫أو إنكار املنكر ‪.‬‬
‫ذكروا يف التاريخ أن اخلليفة املعتضد كان من ابرز خلفاء بين العبا ‪ ،‬فأتى عامل من‬
‫العلماء فوجد اخلمر يباع يف السوق ‪.‬‬
‫فاخذ سكينا وعمد إىل جرار اخلمر فقطع مائة قربة ‪ ،‬مث أتى إىل الطبول فشقها ‪.‬‬
‫فذهبوا إىل اخلليفة ليخربوه فقال ‪ :‬افصلوا رأسه عن جسمه ‪.‬‬
‫فدخل على اخلليفة ‪ ،‬فقال له اخلليفة ‪ :‬ما هبتين ؟‬
‫قال ‪ :‬واهلل ‪ ،‬ما أقدمت عليها إال من بعد ما تصورتك اقل من الذباب ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬أما علمت إين املعتضد؟‬
‫قال ‪ :‬علمت ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ماذا تصورت إين افعل بك ؟‬
‫قال ‪ :‬تصورت انك تفصل رأسي عن جسمي ‪ ،‬واملصري اجلنة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ملاذا شققت مائة قربة ‪ ،‬وتركت قربة واحدة ‪،‬وقطعت الطبول وتركت طبلة ؟‬
‫قال ‪ :‬ملا بدأت أشق القرب والطبول أعجبتين نفسي ‪ ،‬فرفعت السكني خشية من الرياء‬
‫يف إنكار املنكر ‪.‬‬
‫فساحمه اخلليفة ‪ ،‬وقال ‪:‬علمت انك صادق ‪.‬‬
‫ض َع ُفويِن َو َك ُ‬
‫ادوا َي ْقُتلُونَيِن فَال‬ ‫فقال هارون ألخيه موسى ‪ { :‬ابْ َن أ َُّم إِ َّن الْ َق ْو َم ْ‬
‫استَ ْ‬
‫ِ ِِ‬
‫ني} (ألعراف‪ :‬من اآلية ‪. )150‬‬ ‫تُ ْش ِم ْ‬
‫ت يِب َ اأْل َْع َداءَ َوال جَتْ َع ْليِن َم َع الْ َق ْوم الظَّالم َ‬
‫فاستغفر له وألخيه ‪.‬‬
‫فقال موسى هلم ‪ :‬لقد كلمين ريب وهذه األلواح ‪.‬‬
‫وسيأتي إكمال ذلك ‪ ،‬ولكن نعود إلى اآليات ‪.‬‬
‫ِ ِ ِِ‬ ‫خَّت‬ ‫ِ‬
‫وأنتم‬
‫ني لَْيلَةً مُثَّ ا َ ْذمُتُ الْع ْج َل م ْن َب ْعده ْ‬
‫وسى أ َْربَع َ‬ ‫يقول ‪ ،‬سبحانه وتعاىل { َوإِ ْذ َو َ‬
‫اع ْدنَا ُم َ‬
‫ظَالِ ُمو َ‬
‫ن} (البقرة‪)51:‬‬

‫الظلم ظلمات يوم القيامة ‪.‬‬


‫والظلم على قسمين ‪.‬‬
‫‪ -1‬ظلمك لنفسك وهو أن تحرمها طريق السعادة ‪.‬‬
‫فأظلم الناس من ظلم نفسه ‪.‬‬
‫إذا رأيت اإلنسان يشرك باهلل فقد ظلم نفسه ظلما ما بعده ظلم ‪ ،‬وهكذا إذا كان‬
‫يعطل الصالة يف املسجد ‪،‬ويعق والديه ‪ ،‬ويقطع رمحه ‪ ،‬ويرتكب املعاصي ‪.‬‬
‫‪ -2‬وظلم الناس هو النوع الثاني ‪.‬‬
‫والظلم ظلمات يوم القيامة ‪.‬‬
‫واهلل عز وجل ال يفصل يف العرصات يوم العرض األكرب ‪ ،‬حىت يفصل بني الناس يف‬
‫املظامل ‪.‬‬
‫حىت أن الشاة القرناء يقتص منها للشاة اجللجاء اجلماء اليت ال قرون هلا ‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫ن} (البقرة‪)52:‬‬ ‫قوله ‪{ :‬مُثَّ َع َف ْونَا َعْن ُك ْم ِم ْن َب ْعد َذل َ‬
‫ك لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َ‬
‫بعدما عبدوا العجل ‪.‬‬
‫وقد ورد يف القرآن العفو ‪ ،‬وورد الرضا ‪ ،‬وورد املغفرة ‪ .‬فما الفرق بينهما ؟‬
‫الرضا أعظم املنازل ‪ ،‬نسأل اهلل أن يرضى عنا وعنكم ‪.‬‬
‫الرضا أن يعفو عنك ‪ ،‬وال يعاتبك ‪ ،‬وال يقررك بشيء ‪ ،‬بل يعفو عنك أبدا ‪ ،‬ويرضى‬
‫عنك ‪ ،‬وال يعاتبك يف شيء ‪.‬‬
‫وهذا مثل – وهلل املثل األعلى – إنسان أخطأت معه ‪ ،‬فأتيت عنده فرضي عنك رضاء‬
‫تاما ‪ ،‬وقال ‪ :‬إمنا رضيت عنك ألين احبك ‪.‬‬
‫أما املغفرة فيقول ‪ :‬غفرت لك ‪،‬لكن قليب يعلمه اهلل ‪ ،‬لكن ما أجازيك وأتعرض لك ‪،‬‬
‫اذهب ‪.‬‬
‫أما العفو فهو املساحمة مع العتب ‪.‬‬
‫يعفو عنك فيقول ‪ :‬أنا عفوت عنك ‪ ،‬لكن ملاذا فعلت هذا الفعل ؟ فيأخذ يف معاتبتك‪.‬‬
‫قال سبحانه وتعاىل ‪{ :‬مُثَّ َع َف ْونَا َعْن ُك ْم } ملاذا مل يقل ‪ :‬مث رضينا عنكم ‪.‬‬
‫كيف يرضى عن بين إسرائيل أهل الفضائح يف التاريخ ؟‬
‫لكن قيل ‪ :‬بان هؤالء الذين عاشوا مع موسى صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬رضي اهلل عنهم‬
‫وعفا عنهم ‪ ،‬أما غريهم فال ‪ ،‬كما سيأيت ‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫ك لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن} ‪.‬‬ ‫{مُثَّ َع َف ْونَا َعْن ُك ْم ِم ْن َب ْعد ذَل َ‬
‫للشكر أقسام ‪ :‬شكر بالقلب ‪ ،‬وشكر باللسان ‪ ،‬وشكر باجلوارح ‪.‬‬
‫فتشكر اهلل ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬بلسانك فتقول ‪ :‬لقد انعم اهلل علي ‪ ،‬فلله احلمد‬
‫والشكر واملنة والفضل ‪.‬‬
‫وهذا معروف عند العرب ‪ ،‬فإن العريب أو السلطان من العرب ‪ ،‬أو امللك من العرب‬
‫إذا أعطى عطية فإنه يشكر عليها عندهم ‪.‬‬
‫وهكذا غريه من الكرماء ومن الناس املشهورين ‪.‬‬
‫كما فعل زهري بن أيب سلمى مع هرم بن سنان ؛ الذي مدحه بقصائد طويلة شكرا له‬
‫على ما قدم ‪ ،‬وفدى مباله يف احلرب اليت وقعت ‪.‬‬
‫فقال فيه زهري ‪:‬‬
‫ملن الديار بقنة احلجر *** اقوين من حيب ومن هجري‬
‫دع ذا وهات القول يف هرم *** خري البداة وسيد احلضر‬
‫لو مل يكن شخصا سوى رجل *** كان املنور ليلة البــدر‬

‫والشكر بالقلب ‪ :‬أن تعتقد أن هذه النعمة من اهلل ‪.‬‬


‫قال داود ‪ :‬يا رب كيف أشكرك ؟ وقد أنعمت علينا بالنبوة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬يا داود أتعرف أن ذاك مين ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم يا رب ‪.‬‬
‫ن نِ ْعم ٍة فَ ِمن اللَّ ِه} (النحل‪ :‬من اآلية ‪)53‬‬ ‫ِ ِ‬
‫قال ‪ :‬فقد شكرتين ‪َ { ،‬و َما ب ُك ْم م ْ َ َ‬
‫وهذا شكر القلب‬
‫وشكر اجلوارح أن تستعملها يف مرضات اهلل عز وجل ‪.‬‬
‫انعم اهلل عليك بالشباب ‪ ،‬فانك تستخدمه يف طاعته سبحانه ‪ ،‬إما إن استخدمته يف‬
‫معصيته فما شكرته ‪.‬‬
‫{لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن} (املائدة‪ :‬من اآلية ‪ )6‬لكن ما شكروا اهلل ‪.‬‬
‫اب َوالْ ُف ْرقَا َن لَ َعلَّ ُك ْم َت ْهتَ ُدو َ‬
‫ن} (البقرة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسى الْكتَ َ‬
‫مث قال سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬وإ ْذ آَتْينَا ُم َ‬
‫‪)53‬‬
‫هل هناك فرق بني الكتاب والفرقان ؟‬
‫ثالثة أقوال ألهل العلم ‪:‬‬
‫قيل ‪ :‬الفرقان هو جزء من التوراة ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬هو كتاب مستقل ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬هو التوراة ‪ ،‬أي ‪ :‬من باب الرتادف‪.‬‬
‫والصحيح ‪ :‬انه يدخل يف التوراة ‪ ،‬وانه من باب اخلاص بعد العام ‪ ،‬أي ‪ :‬أن الفرقان‬
‫جزء من التوراة ‪.‬‬
‫والفرقان على قسمين ‪:‬‬
‫فرقان ظاهر ‪ ،‬وفرقان باطن ‪.‬‬
‫فالفرقان الظاهر ‪ ،‬هو القرآن ‪ ،‬وهو السنة ‪ ،‬وهو العلم النافع ‪.‬‬
‫وفرقاننا ‪ ،‬يا مسلمون ‪ ،‬هو الكتاب والسنة ؛ نفرق به بني احلق والباطل ‪.‬‬
‫ين َآمنُوا إِ ْن‬ ‫وأما الفرقان الباطل ‪ ،‬فهو فرقان يف القلب يأيت من التقوى {يا أيها الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ظي ِم} (ألنفال‪:‬‬ ‫ض ِل الْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َتَّت ُقوا اللَّهَ جَيْ َع ْل لَ ُك ْم ُف ْرقَاناً َويُ َكف ِّْر َعْن ُك ْم َسيِّئَات ُك ْم َو َي ْغف ْر لَ ُك ْم َواللَّهُ ذُو الْ َف ْ َ‬
‫‪)29‬‬
‫وحيصل الفرقان كلما اتقيت اهلل ‪ ،‬وأكثرت من النوافل ‪ ،‬وصدقت مع اهلل ‪ ،‬وأخلصت‬
‫نيتك ‪ ،‬رزقك اهلل فرقانا به بني اخلري والشر والصادق والكاذب واهلدى والضالل ‪.‬‬
‫ن} (البقرة‪)53:‬‬ ‫اب َوالْ ُف ْرقَا َن لَ َعلَّ ُك ْم َت ْهتَ ُدو َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسى الْكتَ َ‬
‫قال سبحانه وتعاىل { َوإ ْذ آَتْينَا ُم َ‬
‫هداية القرآن وهداية الفرقان‪.‬‬
‫لكن ما اهتدوا ‪.‬‬
‫أتدرون ماذا فعل بنو إسرائيل هبذا املرياث ؟‬
‫اب إِاَّل أ ََمايِن َّ َوإِ ْن ُه ْم إِاَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يقول سبحانه وتعاىل‪َ { :‬ومْن ُه ْم أ ُِّميُّو َن ال َي ْعلَ ُمو َن الْكتَ َ‬
‫يَظُنُّو َن} (البقرة‪ )78:‬أي ‪ :‬يتمتمون بالتوراة ‪ ،‬فحرفوها وبدلوها واشرتوا هبا مثنا قليال ‪ ،‬فغضب‬
‫اهلل عليهم ولعنهم يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫إذا ال يوثق مبعلوماهتم أبدا ؛ ألهنم بدلوا وغريوا ‪.‬‬
‫واملقصد من الكتاب والفرقان ‪ :‬اهلداية ‪.‬‬
‫واهلداية ال حتصل عندنا إال بالقران وبالسنة ‪.‬‬
‫وهنا أقف وقفة بسيطة ‪ ،‬وهي انه وجد من غالة الصوفية من يقول ‪ :‬علمنا علم اخلرق‬
‫‪ ،‬وعلمكم علم الورق ‪ ،‬أي ‪ :‬أن علمهم يأتيهم مباشرة من اهلل دون حاجة إىل تعلم احلديث‬
‫والفقه وغريها‪.‬‬
‫حىت نقل ابن القيم أن أحد علمائهم يقول ‪ :‬أنتم تأخذون علمكم من عبد الرزاق ‪،‬‬
‫وحنن نأخذ علمنا من الرزاق ‪.‬‬
‫أي ‪ :‬عبد الرزاق بن مهام أحد احملدثني الكبار ‪ ،‬وقد جاء عبد الرزاق ‪ ،‬ما عرفتم‬
‫اخلالق ‪.‬‬
‫وسى لَِق ْو ِم ِه يَا َق ْوِم إنكم ظَلَ ْمتُ ْم أنفس ُك ْم بِاخِّتَ ِاذ ُك ُم الْعِ ْج َل‬ ‫ال ُم َ‬ ‫قال سبحانه ‪َ {:‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َعلَْي ُك ْم إِنَّهُ ُه َو الت ََّّو ُ‬
‫اب‬ ‫َفتُوبُوا إِىَل بَا ِرئ ُك ْم فَا ْقُتلُوا أنفس ُك ْم َذل ُك ْم َخْيٌر لَ ُك ْم عْن َد بَا ِرئ ُك ْم َفتَ َ‬
‫حيم} (البقرة‪)54:‬‬ ‫َّ ِ‬
‫الر ُ‬
‫يقول موسى هلم ‪ :‬كفارتكم عند اهلل من الذنوب ‪ :‬أن تقتلوا أنفسكم ‪.‬‬
‫فلله احلمد والشكر أن جعل توبتنا أن نعود إىل اهلل دون حاجة لقتل أنفسنا ‪.‬‬
‫مهم عصى العبد وتاب ‪ ،‬تاب اهلل عليه ‪ ،‬بأن ينزع من الذنب ويستغفر ويصلي‬
‫َسَرفُوا َعلَى أنفس ِه ْم ال َت ْقنَطُوا ِم ْن َرمْح َِة اللَّ ِه إِ َّن اللَّهَ َي ْغ ِف ُر‬ ‫ين أ ْ‬
‫ركعتني {قُل يا ِعب ِاد َّ ِ‬
‫ي الذ َ‬ ‫َْ َ َ‬
‫الذنُوب مَجِ يعاً إِنَّه هو الْغَ ُفور َّ ِ‬
‫حيم} (الزمر‪)53:‬‬
‫الر ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َُ‬ ‫ُّ َ‬
‫لكن بنو إسرائيل توبتهم تكون بقتل النفس ‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬كيف نقتل أنفسنا ؟‬
‫قال ‪ :‬خذوا سكاكني ‪.‬‬
‫فأنزل اهلل عليهم غمامة ‪ ،‬كما قال ابن كثري ‪ :‬حىت مل يعد يعرف الواحد منهم ولده‬
‫من أخيه من خاله ‪.‬‬
‫فأخذوا يتقاتلون بالسكاكني ‪ ،‬مث كشف اهلل عنهم الغمام ‪ ،‬فإذا القتلى سبعون ألف‬
‫قتيل !‬
‫هذه توبتهم ‪.‬‬
‫يم} فتاب عليهم رهبم ‪.‬‬ ‫{ َفتَاب علَي ُكم إِنَّه هو الت ََّّواب َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ْ ْ ُ َُ‬
‫وأن بنو إسرائيل إذا أذنب العبد منهم ذنبا كتبت خطيئته على جبينه ‪ ،‬فيأيت يف الصباح‬
‫أمام الناس ليجلس معهم يف املنتدى ‪ ،‬أو يف اجمللس ‪ ،‬أو يف السوق ‪،‬وإذا مكتوب عليه ‪:‬‬
‫( سرق البارحة ) (سرق عشرة رياالت) ( شرب اخلمر ) (زىن)‪ ...‬اخل ‪.‬‬
‫لكن حنن سرتنا اهلل ‪ ،‬وحفظنا من الفضيحة ‪،‬وآوانا اهلل ‪.‬‬
‫فلله احلمد والشكر ‪.‬‬
‫يذنب العبد فال يعلم بذنبه إال اهلل ‪.‬‬
‫تصور يف نفسك أن عليك رقيبا من الناس ‪ ،‬أو أن والدك دائما يراقب حركاتك‬
‫وسكناتك ‪ ،‬فهل تعصي ؟‬
‫هذا هو بشر ‪ ،‬فما ظنك باحمليط بل شيء سبحانه ؟‬
‫ولذلك صح يف احلديث أن اهلل يقرر العبد بذنبوه فعلها يف الظالم ‪ ،‬وليس عنده إال اهلل‬
‫الذي يشاهده يوم ارتكب ذنبه ‪ ،‬فيغفرها اهلل له ‪.‬‬
‫أما اجملاهر باملعاصي فإنه يهلك عند اهلل ؛ ألنه تبجح مبعصية الرمحن ومل يستح ‪ ،‬قال‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬كل أميت معاىف إال اجملاهرين )) (‪ ،)30‬فالواجب على العبد أن يسرت‬
‫ذنبوه وعيوبه عن الناس ‪ ،‬ويتوب فيما بينه وبني مواله ‪ ،‬قبل أن يفضحه فيفتضح أمامهم‪.‬‬
‫وواجب على املسلم أيضا أن ال حياول نشر وإشاعة املعاصي والنكرات ‪ ،‬بالتحدث‬
‫عنها بان يقول ‪ :‬حدثت جرمية قتل البارحة ‪ ،‬أو زنا أو لواط ‪ ،‬أو غري ذلك من اجلرائم‪.‬‬
‫بل يبلغ اجلهات املختصة دون نشرها على الناس ‪.‬‬
‫ألن مثل هذا الفعل جيعل النفس تستمرئ مساع هذه األخبار فتستهني باملعصية ‪.‬‬
‫وألهنا حتبط بعض النفوس عن اخلري والعمل الصاحل ‪.‬‬
‫ولذلك يف احلديث عنه صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬إذا قال الرجل ‪ :‬هلك الناس ‪ ،‬فهو‬
‫أهلكهم ))(‪ )31‬روي بالنصب (( أهلكهم )) ‪ ،‬ورويت بالرفع (( أهلكهم ))‪.‬‬
‫أما على النصب فمعناه من الفعل املاضي ‪ ،‬أي ‪ :‬هو الذي تسبب يف إهالكهم بكثرة‬
‫نشره للسيئات ‪.‬‬
‫وأما على الرفع فهو أهلكهم ‪ ،‬يعين ‪ :‬أشدهم هالكا ‪ ،‬ألنه أعجب بنفسه ‪.‬‬
‫فكأنه بذلك يزكي نفسه ‪.‬‬
‫فيا من أذنب يف الليايل واأليام ‪.‬‬
‫(‪)30‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، )6069‬ومسلم (‪ )2990‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫(‪)31‬‬
‫أخرجه مسلم (‪ )2623‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫ويا من ترك الصالة والصيام‪.‬‬
‫ويا من هجر البيت احلرام ‪.‬‬
‫ويا من رآه الظالم عاصيا للواحد العالم ‪.‬‬
‫عد إىل اهلل ‪.‬‬
‫إن امللوك إذا شابت عبيدهم *** يف رقهم عتقوهم عتق أبرار‬
‫وأنت يا خالقي أوىل بذا رما *** قد شبت يف الرق فأعتقين من النار‬
‫ك َحىَّت نََرى اللَّهَ َج ْهَرةً فَأخذت ُك ُم‬ ‫وسى لَ ْن نُ ْؤ ِم َن لَ َ‬ ‫ِ‬
‫قال سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬وإ ْذ ُق ْلتُ ْم يَا ُم َ‬
‫وأنتم َتْنظُُرو َن} (البقرة ‪. )55 :‬‬ ‫َّ ِ‬
‫الصاع َقةُ ْ‬
‫دائما بنو إسرائيل مثل األطفال ‪.‬‬
‫طفلك اآلن إذا أجلسته يف حجرك ارتقى إىل كتفك ‪.‬‬
‫فإن أجلسته على كتفيك صعد على رأسك ‪.‬‬
‫لقد آذوا موسى ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬كثريا ‪.‬‬
‫ضرب هلم احلجر ‪ ،‬فتفجرت اثنتا عشرة عينا ‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬أعطنا الطعام ‪.‬‬
‫فدعا اهلل هلم ‪ ،‬فأنزل املن والسلوى فأكلوا ‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬ال نريد املن والسلوى ‪ ،‬أعطنا فوال وبصال وكراثا ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فقال ‪ { :‬أَتَ ْستَْبدلُو َن الَّذي ُه َو أ َْدىَن بِالَّذي ُه َو َخْيٌر ْاهبِطُوا م ْ‬
‫صراً فَِإ َّن لَ ُك ْم َما َسأَلْتُ ْم }‬
‫(البقرة‪ :‬من اآلية ‪. )61‬‬
‫فهبطوا مصر ‪.‬‬
‫فلما أرادوا أن يدخلوا الباب ‪ ،‬طلب منهم أن يقولوا ‪ :‬حطة ‪ ..‬أي ‪ :‬اغفر يا رب‬
‫ذنوبنا وحطها عنا‪.‬‬
‫فدخلوا يزحفون ويقولون ‪ :‬حبة يف شعرية ‪ ،‬استهزاء واستهتارا ‪.‬‬
‫فلما دخلوا قال هلم ‪ :‬هناك عدو نريد أن نقاتله ‪.‬‬
‫اع ُدو َن} (املائدة‪ :‬من اآلية ‪. )24‬‬‫ك َف َقاتِال إِنَّا هاهنَا قَ ِ‬ ‫ب أنت َو َربُّ َ‬
‫َُ‬ ‫قالوا ‪ { :‬فَا ْذ َه ْ‬
‫وهكذا شأهنم يف كل أحواهلم معه ملن تأمل سورة البقرة ‪.‬‬
‫ج ْهر ًة} (البقرة‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ك َحىَّت َنَرى اللهَ َ َ‬ ‫وسى لَ ْن نُ ْؤ ِم َن لَ َ‬ ‫ِ‬
‫قال سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬وإ ْذ ُق ْلتُ ْم يَا ُم َ‬
‫من اآلية ‪ )55‬أتى موسى ‪ :‬بالصحف – كما سبق – وقال ‪ :‬كلمين اهلل وهذه هي الصحف ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬ال ‪ ،‬حىت نرى اهلل ‪.‬‬
‫سبحان اهلل !‬
‫فهذه األمة تتوارث اخلبث صاغرا عن صاغر ‪.‬‬
‫قال بعضهم ‪ :‬معىن جهرة ‪ ،‬أي ‪ :‬عيانا ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬عالنية ‪.‬‬
‫ص ُار َو ُه َو يُ ْد ِر ُك اأْل َبْ َ‬
‫ص َار} (األنعام‪ :‬من اآلية ‪.)103‬‬ ‫فقال اهلل عن نفسه { ال تُ ْد ِر ُكهُ اأْل َبْ َ‬
‫والناس في إثبات الرؤية ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫‪ -1‬املعتزلة قالوا ‪ :‬ال يرى يف الدنيا وال يف اآلخرة وقد كذبوا ‪.‬‬
‫أما يف الدنيا فال يرى ‪ ،‬وأما يف اآلخرة فريى‪ ،‬كما قال سبحانه ‪ُ { :‬و ُجوهٌ َي ْو َمئِ ٍذ‬
‫اظرةٌ } (القيامة‪)23 -22:‬‬ ‫اضرةٌ (‪ )22‬إِىَل ربِّها نَ ِ‬ ‫نَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فنسأل اهلل أن يرينا وجهه ‪.‬‬
‫ن} (املطففني‪)15:‬‬ ‫واستدل الشافعي بقوله تعاىل ‪َ { :‬كاَّل إِنَّ ُه ْم َع ْن َرهِّبِ ْم َي ْو َمئِ ٍذ لَ َم ْح ُجوبُو َ‬
‫فلما حجب أهل املعصية عن النظر إىل وجهه علم أن أهل الطاعة ينظرون إليه ‪ ،‬سبحانه‬
‫وتعاىل ‪.‬‬
‫‪ -2‬والصوفية أو بعض غالة الصوفية قالوا ‪ :‬يرى يف الدنيا واآلخرة ‪.‬‬
‫وقد كذبوا ‪ ،‬أما يف الدنيا فال يرى ‪ ،‬وأما يف اآلخر فريى كما سبق ‪.‬‬
‫‪ -3‬وأما أهل السنة ‪ ،‬فقالوا وقد صدقوا ‪ :‬انه سبحانه ال يرى يف الدنيا لقوله تعاىل ‪:‬‬
‫{لَ ْن َتَرايِن } (ألعراف‪ :‬من اآلية ‪ ، )143‬ولكن يرى يف اآلخرة ‪ ،‬وال يراه إال الصاحلون املؤمنون ‪.‬‬
‫نسأل اهلل من فضله‬
‫وأنتم‬ ‫ك حىَّت َنرى اللَّه جهر ًة فَأخذت ُكم َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصاع َقةُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫وسى لَ ْن نُ ْؤم َن لَ َ َ َ‬ ‫{ َوإ ْذ ُق ْلتُ ْم يَا ُم َ‬
‫ن} (البقرة‪)55:‬‬ ‫َتْنظُُرو َ‬
‫قيل ‪ :‬الصاعقة صوت نزل عليهم من السماء‬
‫وأنتم َتْنظُُرو َن} قال أهل العلم ‪ :‬ينر بعضكم إىل بعض ‪.‬‬ ‫ومعىن ‪ْ {:‬‬
‫وقيل ‪ :‬قتل بعضهم بالصاعقة ‪ ،‬فلما ماتوا أحياهم اهلل ‪ ،‬مث قتل اآلخرين مث أحياهم ‪.‬‬
‫{ مُثَّ َب َع ْثنَا ُك ْم ِم ْن َب ْع ِد َم ْوتِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َ‬
‫ن} (البقرة‪)56:‬‬

‫بعثهم اهلل فأحياهم بعدها أخذهتم الصاعقة ليشكروا ‪.‬‬


‫فما شكروا ‪.‬‬
‫{ َوظَلَّْلنَا َعلَْي ُك ُم الْغَ َم َام} (البقرة‪ )57:‬وهذه من النعم اجلليلة أن يكون اجلو مجيال معتدال ‪.‬‬
‫اهلواء بارد ‪ ،‬والظل وارف ‪ ،‬واملاء سلسال ‪ ،‬واجلمال يف الطبيعة ‪ ،‬والشجر تتظلل به ‪،‬‬
‫وزقزقة العصافري يف كل مكان ‪.‬‬
‫فكن الغمام يسري معهم إذا ارحتلوا وإذا حلوا ‪.‬‬
‫الس ْل َوى}‪.‬‬‫{ َوأَْنَزلْنَا َعلَْي ُك ُم الْ َم َّن َو َّ‬
‫املن ‪ :‬شبه احللوى ‪.‬‬
‫والسلوى ‪ :‬طري يشوى هلم ‪.‬‬
‫فكان يأتيهم رغدا من كل مكان ‪ ،‬جيدونه على الشجر ‪ ،‬ينزل دون عناء أو تعب منهم‬
‫‪.‬‬
‫ات َما َر َز ْقنَا ُك ْم} ومل يقل ‪ :‬كلوا مما رزقناكم ‪ .‬ليبني انه حالل ؛ ألن‬ ‫{ ُكلُوا ِمن طَيِّب ِ‬
‫ْ َ‬
‫الرزق قد يكون حراما ‪ ،‬وقد يكون حالال ‪.‬‬
‫ولكن الطيب هو احلالل ‪.‬‬
‫أنفسه ْم يَظْلِ ُمو َن}‬
‫ُ‬ ‫{ َو َما ظَلَ ُمونَا َولَ ِك ْن َكانُوا‬
‫اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬ال تنفعه طاعة الطائع ‪ ،‬وال تضره معصية العاصي ‪.‬‬
‫قال سبحانه يف احلديث القدسي ‪ (( :‬يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم‬
‫وجنكم كانوا على افجر قلب رجل واحد ما نقص ذلكم مما عندي شيئا ))(‪.)32‬‬
‫وإما اإلنسان هو الذي يظلم نفسه مبعاصيه وذنوبه ‪.‬‬

‫(‪)32‬‬
‫أخرجه مسلم (‪ )2577‬عن أبي ذر ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫نسأل اهلل أن ال جيعلنا من الظاملني ‪.‬‬
‫هذه جولة عجلى على بعض أحداث هؤالء القوم األذالء ؛ لنعرف ماضيهم وتارخيهم‬
‫من قرآننا ؛ الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه ‪.‬‬
‫فنعلم أهنم أمة ظاملة قد غضب اهلل عليها ؛ ألهنا كثريا ما عصت رسله وأنبياءه ‪.‬‬
‫ونعرف شيئا من طباعهم ‪ ،‬وعلى رأسها املكر واخلديعة وعدم الوفاء بالعهود‪.‬‬
‫فال نثق هبم اليوم ‪ ،‬وحناول أن نقيم معهم العهود ؛ اليت هي سرعان ما تنتقض كما‬
‫علمنا ذلك القرآن ‪.‬‬

‫بقرة بني إسرائيل‬

‫سورة البقرة هي أطول سورة يف القرآن ‪ ،‬ويصفها بعض العلماء بأهنا سورة النسف‬
‫واإلبادة لبين إسرائيل ‪ ،‬واحتوت على كثري من أحواهلم مع أنبيائهم ‪.‬‬
‫ومن تلك األحوال ما مسيت السورة بامسها ‪ ،‬أال وهي قصة ( البقرة ) ‪ ،‬فإن بين‬
‫إسرائيل تعنتوا فيها وعقدوا األمور ‪ ،‬وتشددوا فشدد اهلل عليهم ‪.‬‬
‫وملخص القصة ‪ :‬أن أحد بين إسرائيل كان غنيا جدا ‪ ،‬وكان له أبناء أخ حيقدون عليه‬
‫لغناه ‪ ،‬فتآمروا على قتله وسلبه ماله ‪ ،‬فقتلوه يف ظالم الليل دون أن يشعر هبم إال رب‬
‫السماوات ‪.‬‬
‫مث أرادوا أن خيفوا جرميتهم ‪ ،‬فتباكوا يف الصباح على عمهم ‪.‬‬
‫وذهبوا إىل موسى نيب اهلل ‪ ،‬وأخربوه ‪ ،‬وحتاكموا إليه ليبحث هلم عن قاتل عمهم !‬
‫فقام موسى فابتهل إىل اهلل بان خيربه بقاتل الرجل ‪ ،‬فأوحى اهلل إليه بان يأمرهم بقتل‬
‫بقرة ‪ ،‬وأخذ شيء من أعضائها‪ ،‬وضرب امليت هبا ليقوم وخيربهم بقاتله ‪.‬‬
‫ِ ِِ ِ‬ ‫فقال هلم موسى ‪َ { :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫َ‬ ‫وسى ل َق ْومه إ َّن اللَّهَ يَأْ ُم ُر ُ ْ‬
‫كم أَ ْن تَ ْذحَبُوا َب َقر ًة} (البقرة‪)67:‬‬ ‫ال ُم َ‬
‫ولو ذحبوا أي بقرة النتهى األمر ونفذوا الطلب ‪.‬‬
‫َّخ ُذنَا ُه ُزواً}‬ ‫لكنهم تعنتوا وتشددوا مع نبيهم ‪ ،‬وقالوا ‪{ :‬أََتت ِ‬
‫أي ‪ :‬أهنم استغربوا هذا احلكم ‪ ،‬وهذه الطريقة إلظهار القاتل ‪ ،‬وهذا من االعرتاض‬
‫على اهلل ‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني}‪.‬‬ ‫فقال هلم موسى ‪{ :‬أَعُوذُ بِاللَّه أَ ْن أَ ُكو َن م َن اجْلَاهل َ‬
‫فعلموا انه صادق ‪.‬‬
‫ك يَُبنِّي ْ لَنَا َما ِه َي} (البقرة‪. )68:‬‬ ‫مث قالوا ‪{:‬قَالُوا ْادعُ لَنَا َربَّ َ‬
‫ِ‬
‫ض َوال بِ ْكٌر َع َوا ٌن َبنْي َ َذل َ‬
‫ك} ‪.‬‬ ‫ول إِنَّ َها َب َقَرةٌ ال فَا ِر ٌ‬
‫فقال {إِنَّهُ َي ُق ُ‬
‫أي ‪ :‬ليست بالكبرية املسنة ‪ ،‬ولست بالصغرية الرب ‪ ،‬بل بينهما ‪.‬‬
‫ك يَُبنِّي ْ لَنَا َما لَ ْونُ َها} (البقرة‪. )69:‬‬ ‫فتعنتوا أكثر وأكثر ‪ ،‬وقالوا ‪{ :‬قَالُوا ْادعُ لَنَا َربَّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول إِنَّ َها َب َقَرةٌ َ‬
‫ص ْفَراءُ فَاق ٌع لَ ْونُ َها تَ ُسُّر النَّاظ ِر َ‬
‫ين}‬ ‫فقال ‪ { :‬إِنَّهُ َي ُق ُ‬
‫وهذا من أمجل األلوان ‪.‬‬
‫ِ‬
‫ك يَُبنِّي ْ لَنَا َما ه َي إِ َّن الَْب َقَر تَ َشابَهَ‬
‫فذهبوا مث عادوا وقالوا متعنتني ‪{ :‬قَالُوا ْادعُ لَنَا َربَّ َ‬
‫َعلَْينَا} (البقرة‪. )70:‬‬
‫ِ‬ ‫ول إِنَّها ب َقرةٌ ال َذلُ ٌ ِ‬ ‫قال ‪{ :‬قَ َ ِ‬
‫ث} (البقرة‪ )71:‬أي‪:‬‬ ‫ض َوال تَ ْسقي احْلَْر َ‬ ‫ول تُثريُ اأْل َْر َ‬ ‫ال إنَّهُ َي ُق ُ َ َ َ‬
‫ليست مهيئة للزرع وال للحرث ‪ ،‬فهي معززة‪ ،‬أي ‪ :‬ال حترث وال تزرع ‪.‬‬
‫مث قال ‪ُ { :‬م َسلَّ َمةٌ ال ِشيَةَ فِ َيها} أي ‪ :‬ليس فيها عالمات ختالف األصفر الفاقع‪.‬‬
‫ت بِاحْلَ ِّق} أي ‪ :‬كأهنم يقولون أنت يف األول مل تأت باحلق ‪ ،‬سبحان‬ ‫ِ‬
‫{قَالُوا اآْل َن جْئ َ‬
‫اهلل ‪ ،‬فمن يأت باحلق إذا مل يأت به نيب اهلل ؟‬
‫مث ذهبوا فوجدا البقرة عند عجوز يف إحدى النواحي ‪ ،‬ليس هلا إال هي ‪ ،‬فتغالت يف‬
‫مثنها ‪ ،‬حىت ملؤا هلا جلد البقرة ذهبا ‪.‬‬
‫فلما ذحبوها ضربوا ببعضها القتيل ‪ ،‬فقام من ميتته بإذن إله ‪ ،‬واخرب بقاتله ‪ ،‬مث مات‬
‫من جديد ‪.‬‬
‫هذه هي القصة باختصار ‪.‬‬
‫وفعل بين إسرائيل مع نبيهم يف هذه القصة ‪ ،‬هو من التعنت والتشدد واألذى لرسول‬
‫اهلل ‪.‬‬
‫وهم مل يفعلوا كما فعل أصحاب حممد صلى اهلل عليه وسلم ؛ الذين قالوا قبل بدر ‪:‬‬
‫واهلل ‪ ،‬لو سرب بنا إىل برك الغماد ( موضع ) لسرنا مع ‪.‬‬
‫وكان الواحد يسمع كالمه صلى اهلل عليه وسلم فيصدقه ‪ ،‬وينفذه دون أن يراجعه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬أو يكثر عليه ‪.‬‬
‫ومعلومة لديكم ‪ :‬قصة عمري بن احلمام ملا مسع الرسول صلى اهلل عليه وسلم يبشر‬
‫باجلنة ‪ ،‬وأهنم ما بينهم وبينها إال أن يقتلهم املشركون ‪ ،‬فرمى التمرات اليت بيده وقاتل حىت‬
‫قتل تصديقا له صلى اهلل عليه وسلم(‪ ، )33‬ومل يتعنت كما تعنت أحفاد القردة واخلنازير ‪.‬‬
‫وفوائد هذه القصة ( بقرة بني إسرائيل ) عديدة منها ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أن العقل ال حيق له أن يعرتض على الوحي اآليت من السماء ‪ ،‬ويوم يبدأ‬
‫باالعرتاض والتشكيك تبدأ اللعنة وحيل الغضب ‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬أن على املسلم أن يتقلى األوامر والرسالة باستسالم ‪ ،‬وان يسلم وجهه طوعا هلل‬
‫‪ ،‬ويرخي قيادة ملواله ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬فضل أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬حيث مل يتعنتوا كما تعنت بنو إسرائيل‬
‫‪،‬كما سبق ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬انه ال تعايش بني املسلمني ‪ ،‬وبني هؤالء األجناس ‪ ،‬مهما كان األمر ؛ ألننا‬
‫خنتلف عنهم يف مجيع أمورنا ‪.‬‬
‫ال كما يزعم البعض من إمكانية التعايش السلمي معهم ؛ ألن احلية ال تلد إال حية ‪.‬‬
‫فما دام أولئك أجدادهم ‪ ،‬فإن األبناء سيكونون مثلهم ‪ ،‬أو شرا منهم يف التعنت‬
‫واخلبث ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬من فوائد القصة ‪ ،‬كما ذكر اإلمام امحد ‪ ،‬أن البقرة تذبح وال تنحر ‪.‬‬
‫وقد استشهد اإلمام هبذه اآلية {إِ َّن اللَّهَ يَأْ ُم ُر ُك ْم أَ ْن تَ ْذحَبُوا َب َقَر ًة} (البقرة‪ :‬من اآلية ‪ )67‬ومل يقل ‪:‬‬
‫تنحروا ‪.‬‬
‫وهذا من اللطائف ‪.‬‬
‫(‪)33‬‬
‫أخرجه مسلم (‪ )1901‬عن انس ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪ ،‬وانظر (( اإلصابة )) (‪.)7/162‬‬
‫سادسا ‪ :‬استدل هبا اإلمام مالك على جواز بيع ( السلم ) أي ‪ :‬البيع بالصفات دون‬
‫حضور السلعة ؛ ألن اهلل ذكر هلم الصفات فقط ‪ ،‬فاستجابوا بالصفات فأقرهم اهلل ‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬أن على املسلم أن ال يتعنت يف أموره الدينية والدنيوية ‪،‬وال يتشدد ؛ ألن‬
‫التشدد مصريه اهلالك أو التعب يف احلياة ‪.‬‬
‫ثامنا ‪ :‬أن اهلل إذا أمر بأمر فهو على ظاهره ‪ ،‬وال نبحث ونستفسر عن أشياء مل يردها‬
‫اهلل ‪ ،‬فنصرفه عن ظاهره بسببها ‪.‬‬
‫تاسعا ‪ :‬أن من نفذ األمر يف أول وقته فهو املأجور ‪ ،‬مثل الصالة يف أول وقتها ‪.‬‬
‫قال ابن مسعود ‪ :‬يا رسول اهلل ‪ ،‬أي العمل أفضل ؟‬
‫قال ‪ (( :‬الصالة على وقتها ))(‪.)34‬‬
‫وهكذا احلج يف أول العمر أفضل ممن يؤخره إىل ما بعد املشيب ‪.‬‬

‫(‪)34‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، )5970 ،527‬ومسلم (‪.)85‬‬
‫إخوان‬
‫القردة والخنازير‬

‫ك بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه‬


‫يل فَِإنَّهُ َنَّزلَهُ َعلَى َق ْلبِ َ‬ ‫جِلِ ِ‬
‫قال اهلل ‪،‬سبحانه وتعاىل ‪{ :‬قُ ْل َم ْن َكا َن َع ُد ّواً رْب َ‬
‫ني} ( البقرة‪) 97:‬‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫دى َوبُ ْشَرى ل ْل ُم ْؤمن َ‬
‫صدِّقاً ل َما َبنْي َ يَ َديْه َو ُه ً‬
‫ُم َ‬
‫قال انس ‪ ،‬رضي اهلل عنه ‪ :‬أتى عبد اهلل بن سالم اليهودي الذي اسلم آل رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أول ما قدم املدينة فقال ‪ :‬يا رسول اهلل إين أسألك عن ثالث ال يعلمها‬
‫إال نيب‬
‫قال ‪ (( :‬ما هي ؟))‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ما هو أول اشراط الساعة ‪،‬وما هو أول طعام أهل اجلنة ‪،‬وملاذا يشبه الولد أمه أو‬
‫أباه ‪.‬‬
‫فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهو جييب على األسئلة الثالثة العويصة املشكلة ‪ ،‬اليت ال‬
‫تعلم إال بوحي من فوق سبع مساوات ‪ ..‬قال ‪ (( :‬أخربين هبن جربيل آنفا ))‪.‬‬
‫قال ابن سالم ‪ :‬جربيل عدو اليهود من املالئكة ‪.‬‬
‫فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬أما أول اشراط الساعة فنار حتشر الناس من املشرق‬
‫إىل املغرب ))‪.‬‬
‫(( وأما أول طعام أهل اجلنة فزيادة كبد احلوت ))‪.‬‬
‫(( وأما أن االبن يشبه أمه أو أباه ‪ ،‬فإذا سبق ماء الرجل أشبه أباه ‪ ،‬وإذا سبق ماء املرأة‬
‫أشبه أمه ))‪.‬‬
‫قال عبد اهلل ‪ :‬صدقت بايب و أمي‪ ،‬واهلل ما علمها إال نيب ‪ ،‬اشهد أن ال إله إال اهلل ‪،‬‬
‫واشهد أن حممدا رسول اهلل ‪ ،‬يا رسول اهلل إن اليهود قوم هبت يبهتون ( أي ‪ :‬أهل زور‬
‫وافرتاء ) فاسأهلم عين ‪.‬‬
‫فجعله صلى اهلل عليه وسلم يف مشربة ( وهي الغرفة الصغرية ) ‪ ،‬ومجع أحبار اليهود‬
‫وقال ‪ (( :‬كيف ابن سالم فيكم ؟))‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬سيدنا وابن سيدنا ‪،‬فقيهنا وابن فقيهنا ‪ ،‬خرينا وابن خرينا ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬أفرأيتم إن اسلم ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬أعاذه اهلل من ذلك ‪.‬‬
‫فرد عليهم ابن سالم ‪ ،‬وقال ‪ :‬اشهد أن ال إله إال اهلل ‪ ،‬وان حممدا عبده ورسوله ‪.‬‬
‫فاخننسوا ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬شرنا وابن شرنا ‪ ،‬وسيئنا وابن سيئنا ‪ ،‬وخبيثنا وابن خبيثنا (‪. )35‬‬
‫ساق اإلمام البخاري هذا احلديث على هذه اآلية ؛ ألنه يريد أن يفسر كل آية تفسريا‬
‫صحيحا بسنده ؛ ألنه اشرتط الصحة حىت يف التفسري ‪.‬‬
‫والشاهد يف احلديث أن اليهود يعادون جربيل ‪.‬‬
‫فلما قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن جربيل اخربين هبا آنفا ‪ ،‬قال ابن سالم ‪ :‬ذلك‬
‫عدو اليهود من املالئكة‪.‬‬
‫وملاذا عادى اليهود ‪ ،‬عليهم اللعنة ‪ ،‬جربيل ‪ ،‬عليه السالم ‪.‬‬
‫لثالثة أسباب قالها أهل العلم ‪.‬‬
‫األول‪ :‬انه نقل الرسالة منهم إىل غريهم ‪ ،‬فظنوا أن عندهم صكا شرعيا على الرسالة‬
‫ال تنزل إال فيهم ‪ ،‬فغضبوا لذلك وعادوه ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬ألنه ينزل باخلسف والتدمري ‪ ،‬فاهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬إذا أراد أن يدمر أمة أرسل‬
‫إليهم جربيل ‪ ،‬وله ستمائة جناح ‪ ،‬ومن ذلك انه دمر قرى قوم لوط ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬وكانت‬
‫أربع قرى ‪ ،‬وفيها أربعمائة ألف ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مثامنائة ‪،‬فرفعها يف اجلو إىل السماء حىت مسع املالئكة‬
‫نباح كالهبم وصياح ديكهم ‪ ،‬مث أنزهلا على وجهها يف األرض ‪.‬‬
‫فهم يقولون ‪ :‬انه ليس مثل ميكائيل ‪ ،‬يأيت بالنبات واملطر والغيث يف تؤدة وسكينة‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬انه فضح مفرتياهتم واخرب بأباطيلهم ‪ ،‬واخرب الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بأسرارهم من حتريف للكتاب وقتل لألنبياء ‪.‬‬

‫(‪)35‬‬
‫أخرجه البخاري (‪)4480‬‬
‫واآلن لنقرأ القرآن واحلديث النبوي ‪ ،‬ومها يتحدثان عن بين إسرائيل ‪ ،‬و أول سورة يف‬
‫القرآن ذكر فيها هؤالء اخلبثاء هي سورة البقرة اليت من قرأها ظن أهنا عن بين إسرائيل ‪.‬‬
‫وال بد من معرفة صفات هؤالء األعداء املاكرين ؛ ألنه من أعظم األشياء اليت تبصر‬
‫امللم واملؤمن بأالعيبهم احلديثة اليت ال تتبدل عن القدمية ‪ ،‬وتكشف له عن املزيد من خططهم‬
‫وكيدهم ‪.‬‬
‫وهي تزيد املؤمن يقينا باهلل ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬وهبذا الدين ‪.‬‬
‫ِ‬
‫يل الْ ُم ْج ِرم َ‬
‫ني} (األنعام‪)55:‬‬ ‫ني َسبِ‬
‫َ‬ ‫صل اآْل يات ولِتَستَبِ‬‫ِّ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫ك‬
‫َ‬
‫قال تعاىل {و َك َذلِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ولذلك من عرف اجلاهلية ‪ ،‬أو مسالك املفسدين كان اشد متسكا هبذا الدين القومي‬
‫خبالف من مل يعرف إال اإلسالم ‪.‬‬
‫قال عمر ‪ ،‬رضي اهلل عنه ‪ :‬إمنا تنقض عرى اإلسالم عروة عروة إذا نشا يف اإلسالم‬
‫أناس ما عرفوا اجلاهلية ‪.‬‬
‫ولذلك كان الصحابة من اشد الناس إميانا ؛ ألهنم عرفوا مسالك اجلاهلية ومفاسدها ‪.‬‬
‫وقبل أن نتعرف على صفات أحفاد القردة واخلنازير ‪ ،‬ال بد أن نلم بسبب هذا‬
‫احلديث السابق ‪.‬‬
‫لقد هاجر صلى اهلل عليه وسلم من مكة إىل املدينة ‪ ،‬فأمست مكة يف ثوب حزن ويف‬
‫حداد من مفارقة احلبيب ‪ ،‬وبكى عليه الغار الذي صاحبه أيام الشباب ‪.‬‬
‫فانطلق صلى اهلل عليه وسلم إىل املدينة ‪ ،‬وكانت يف جاهلية جهالء ‪ ،‬فلما قدم علها ‪:‬‬
‫استفاقت على أذان جديــد *** ملؤ آذاهنــا أذان بالل‬
‫فكان عبد اهلل بن سالم احلرب اليهودي من الذين أبصروه صلى اهلل عليه وسلم عند جميئه‬
‫َرأيتم إِ ْن َكا َن ِم ْن ِعْن ِد اللَّ ِه‬
‫‪ ،‬وعبد اهلل بن سالم هذا هو الذي نزل يف فيه قوله تعاىل ‪{ :‬قُ ْل أ ْ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ ِ ِ‬
‫استَ ْكَب ْرمُتْ } (االحقاف‪ :‬من اآلية ‪. )10‬‬ ‫آم َن َو ْ‬ ‫َو َك َف ْرمُتْ به َو َشه َد َشاه ٌد م ْن بَيِن إ ْس َ‬
‫رائيل َعلَى مثْله فَ َ‬
‫فذهب عبد اهلل ملا رأى الناس جيتمعون على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فنظرت يف وجهه فإذا هو ليس بوجه كذاب ؛ ألن وجه الكذاب يعرف بالنظر إليه ‪ ،‬وأما‬
‫الصادق فنظراته صادقة وحملاته صادقة ‪.‬‬
‫لو مل تكن فيه آيات مبينة *** لكان منظره ينبيك باخلرب‬

‫قال ابن سالم ‪ ،‬فسمعته يتكلم صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وامسع إىل الكلمات اليت كأهنا‬
‫الدر أو اجلواهر ‪ ،‬بل أغلى من اجلواهر ‪.‬‬
‫باهلل لفظك هذا سال من عسل *** أم قد صببت على أفواهنا العسال‬
‫أم املعاين اللوايت قد أتيت هبـا *** أرى هبا الدر والياقوت متصال‬
‫لو ذاقها مدنف قامت حشاشته *** ولو رآها غريب داره لسال‬

‫قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬أيها الناس أطعموا ‪ ،‬وصلوا األرحام‪ ،‬وصلوا بالليل والناس نيام‬
‫‪،‬وأفشوا السالم تدخلوا اجلنة بسالم ))(‪ ، )36‬فلما مسع عبد اهلل هذا الكالم آمن ‪.‬‬
‫(‪)27‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬لو آمن يب عشرة من أحبار اليهود آلمن يب اليهود))‬
‫‪ ،‬لكنهم مل يكملوا عشرة ألن اهلل كتب عليهم اللعنة ‪.‬‬

‫* مكائد اليهود ومفاسدهم ‪:‬‬


‫اب‬
‫‪ -1‬فمنها دخوهلم مع الباب يزحفون بعد أن قال هلم اهلل عز وجل ‪َ { :‬و ْاد ُخلُوا الْبَ َ‬
‫ُس َّجداً َوقُولُوا ِحطَّةٌ } (البقرة‪ :‬من اآلية ‪ )58‬قال بعض املفسرين ‪ :‬هي بيت املقدس ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل‬
‫أرحيا ‪.‬‬
‫فلما فتح اهلل على موسى ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬تلك البالد ‪ ،‬قال هلم ‪ :‬إن نعمة اهلل عليم يوم‬
‫نصركم ‪ ،‬ويوم أنقذكم من فرعون الطاغي أن تدخلوا متواضعني سجدا من باب املدينة ‪،‬‬
‫كما دخل صلى اهلل عليه وسلم يوم الفتح ‪ ،‬قيل يف بعض الروايات ‪ :‬بان دموعه سالت‬
‫تواضعا هلل فرفعه اهلل ؛ ألن من يتواضع هلل يرفع‪.‬‬
‫فقال هلم موسى ‪ ،‬عليه السالم ‪ :‬ادخلوا هلل متواضعني ملا نصركم وأنقذكم ‪ ،‬فأبوا ‪..‬‬

‫(‪ )36‬صحيح ‪ .‬أخرجه الترمذي (‪ )3485‬وقال ‪ :‬هذا حديث صحيح ‪ ،‬وابن ماجه (‪، )1334،3251‬والدارمي (‪ )1460‬عن عبد هللا‬
‫بن سالم ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫(‪ )27‬أخرجه البخاري (‪ ، )3941‬ومسلم (‪.)2793‬‬
‫وقال اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬هلم ‪َ { :‬وقُولُوا ِحطَّةٌ} أي ‪ :‬يا ريب احطط عنا ذنوبنا‪ ،‬كقولك‪:‬‬
‫(غفرانك)‬
‫فقال هلم موسى ‪ :‬قولوا‪ :‬حطة ‪،‬وهي كلمة خفيفة‪.‬‬
‫يل‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫فدخلوا يزحفون ويقولون ‪ :‬حنطة يف شعرية ! { َفبد َ َّ ِ‬
‫ين ظَلَ ُموا َق ْوالً َغْيَر الذي ق َ‬ ‫َّل الذ َ‬ ‫َ‬
‫هَلُ ْم } (البقرة‪ :‬من اآلية ‪. )59‬‬
‫ملا بدلوا هذا الكالم غضب اهلل عليهم ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬من فوق سبع مساوات ‪،‬‬
‫وأخزاهم وأذهلم ‪.‬‬
‫‪ -2‬ومن جرائمهم وكيدهم ‪ :‬أهنم قتلوا يف غداة واحدة عشرات من األنبياء ؛ ألنه‬
‫كان يبعث هلم مجلة من األنبياء يف زمن واحد ‪.‬‬
‫وأتوا بيحىي ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬فذحبوه وقطعوا رأسه ‪،‬عليه السالم ‪،‬وألقوه يف حضن أبيه‬
‫زكريا ‪ ،‬فانتفض زكريا ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬فطاردوه بالسيف ‪ ،‬ويف (( التفسري ))‪ :‬انه هرب‬
‫منهم ‪ ،‬واختفى يف شجرة يف وسطها معجزة من اهلل ‪.‬‬
‫فلما علموا انه يف الشجرة شقوها نصفني ‪ ،‬وشقوا معها زكريا ‪،‬عليه السالم‪.‬‬
‫ق } (آل‬ ‫فكانوا يقتلون األنبياء ‪ ،‬لذلك قال اهلل ‪ ،‬س ‪ ،‬هلم ‪َ { :‬قْتلَ ُه ُم اأْل نبياء بِغَرْيِ َح ٍّ‬
‫عمران‪ :‬من اآلية ‪ ،)181‬ولكن هل هناك قتل لألنبياء حبق ما دام قد قال سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬قْتلَ ُه ُم‬
‫اأْل نبياء بِغَرْيِ َح ٍّق} !‬
‫ال ‪ ،‬ولكن هذا من ظلمهم وعتوهم فهو سبحانه يقول هلم ‪ :‬ليس عندكم جزء ‪ ،‬ولو‬
‫صغري من احلق لتقتلوهم ‪.‬‬
‫‪ -3‬ومنها ‪ :‬قتلهم النفس يف قصة البقرة‪ ،‬فقد كان هناك أخوة هلم عم غين ‪ ،‬فأتوا إىل‬
‫عمهم فذحبوه ‪ ،‬وأخذوا تركته ‪ ،‬وخافوا أن يكتشف نيب عصرهم اجلرمية‪ ،‬فتباكوا على عمهم‬
‫بأنه قتل وال يدرى من قتله ‪ ،‬فأوحى اهلل للنيب أن يأمرهم بذبح بقرة‪،‬ويأخذوا شيئا من‬
‫أطرافها ويضربوا به على امليت فإنه سوف يتكلم وخيربهم مبن قتله ‪.‬‬
‫‪ -4‬ومنها‪ :‬قصة القرية حاضرة البحر ‪ ،‬وهي قصة حمزنة‪،‬عندما قال اهلل لبين إسرائيل ‪:‬‬
‫السب ِ‬
‫ت} (النساء‪ :‬من اآلية ‪ )154‬يعين ‪ :‬ال تصيدوا السمك يوم السبت ‪ ،‬اصطادوا‬ ‫{ال َت ْع ُدوا يِف َّ ْ‬
‫يف كل األيام ‪ ،‬لكن يوم السبت ال تصطادوا احلوت والسمك ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬مسعنا وعصينا ‪ ،‬وهم‬
‫دائما يقولون مسعنا وعصينا ‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬يا أيها الناس ‪ ،‬خناف أن اهلل خيسف بنا ‪ ،‬إن عصيناه ‪ ،‬فال تصطادوا السمك‬
‫يوم السبت ‪.‬‬
‫فابتالهم اهلل بان كان يوم األحد واالثنني والثالثاء واألربعاء واخلميس واجلمعة ال‬
‫يأتيهم فيه أي مسكة ‪،‬أما يف السبت فتكثر األمساك وتأيت شرعا ‪ ،‬ففكروا طويال يف األمر ‪،‬حىت‬
‫هداهم مكرهم إىل حيلة على اهلل ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ،‬بزعمهم الفاسد‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬هنانا عن الصيد مباشرة يوم السبت ‪ ،‬لكن لو حفرنا أخاديد‬
‫حىت تقع فيها األمساك فال تذهب ‪ ،‬فنأيت يوم األحد ونصيدها لكان أوىل لنا ‪.‬‬
‫فحفروا األخاديد وجماري املياه ‪ ،‬فأخذت األمساك تدخل ‪ ،‬وهم يسدون عليها طريق‬
‫البحر ‪.‬‬
‫ويأتون يوم األحد فيأخذوهنا‪.‬‬
‫فقال هلم الصاحلون منهم ‪ :‬يا أيها الناس ‪ ،‬قد أحلدمت يف دين اهلل ‪ ،‬وعصيتم اهلل ‪،‬‬
‫وجتاوزمت حد اهلل ‪ ،‬فلم يسمعوا منهم ‪ ،‬واستمروا يف غيهم ‪.‬‬
‫فكان هؤالء الصاحلون هم أهل األمر باملعروف والنهي عن املنكر ‪ ،‬وهم حفاظ اجملتمع‬
‫وعباد اهلل ‪ ،‬وأما أولئك فهم أهل الفساد يف اجملتمع ‪.‬‬
‫ولكن قد ظهر فريق ثالث معهم ‪ ،‬هم ‪ :‬أهل السلبية ؛ الذين مل ينكروا ومل يفعلوا ‪،‬‬
‫وإمنا نصحوا أهل اإلنكار بان يرتكوا إنكارهم ‪،‬فقالوا { مِلَ تَعِظُو َن َق ْوماً اللَّهُ ُم ْهلِ ُك ُه ْم أ َْو‬
‫ُم َع ِّذبُ ُه ْم َع َذاباً َش ِديداً} (ألعراف‪ :‬من اآلية ‪ )164‬أتركوهم ‪ ..‬دعوهم ‪،‬اهلل حياسبهم ‪ ،‬فلستم‬
‫املسؤولني عنهم ‪.‬‬
‫فرد عليهم أهل األمر والنهي قائلني ‪ :‬إمنا نفعل هذا { َم ْع ِذ َر ًة إِىَل َربِّ ُك ْم َولَ َعلَّ ُه ْم َيَّت ُقو َن}‬
‫(ألعراف‪ :‬من اآلية ‪. )164‬‬
‫وهذا واجب الداعية أن يأمر وينهى ألمرين ‪:‬‬
‫األمر األول ‪ :‬أن يعذر عند اهلل بان بلغ النصيحة والرسالة ‪.‬‬
‫واألمر الثاني ‪ :‬لعل العصاة أن يتقوا اهلل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬ويعودوا عن معاصيهم ‪.‬‬
‫ويف الصباح الباكر مسع الصاحلون صياحا مثل صياح القردة واخلنازير ‪ ،‬فأشرفوا على‬
‫السور ‪ ،‬فإذا باملفسدين قد انقلبوا إىل قردة وخنازير ! سبحانك ريب ‪.‬‬
‫ويف بعض الروايات من (( التفسري ))‪ :‬أهنم كانوا يعرفون بعضهم من مناظرهم ‪.‬‬
‫والسؤال عند أهل العلم ‪ :‬هل القردة اليت نراها اآلن هي من نسل إخوان القردة اليت‬
‫نراها اآلن فهي من نسل آخر وخلق آخر ‪.‬‬
‫وقد ورد يف احلديث (( إن اهلل إذا مسخ شيئا مل جيعل له نسال وال عقبا ))(‪.)38‬‬
‫وقد ورد يف احلديث ‪ (( :‬إن اهلل إذا مسخ شيئا مل جيعل له نسال وال عقبا ))‪.‬‬
‫‪ -5‬ومن كيدهم وإفسادهم اهنم قالوا ملوسى ‪{ :‬فَا ْذهب أنت وربُّ َ ِ‬
‫ك َف َقاتال إِنَّا َه ُ‬
‫اهنَا‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ‬
‫اع ُدو َن} (املائدة‪ :‬من اآلية ‪ )24‬فنحن ال نريد احلرب والقتل ‪ ،‬فدعا عليهم ‪ ،‬عليه السالم ‪،‬بان يتيهوا‬‫قَ ِ‬
‫يف األرض ‪.‬‬
‫فتاهوا أربعني سنة ‪ ،‬يأتون إىل طرف سيناء يريدون أن خيرجوا ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬أخطأنا‬
‫الطريق فيعودون ‪،‬فإذا وصلوا إىل الناحية األخرى من جديد‪.‬‬
‫أتدرون ماذا فعل اهلل هبم ؟‬
‫لقد تكفل اهلل هبم ‪ ،‬وأنعم عليهم نعمة ما أنعمها على أحد من الناس ‪ ،‬فقد فجر هلم‬
‫من صخرة مربعة اثنيت عشر عينا ؛ ألهنم كانوا اثين عشر سبطا ( أي ‪ :‬قبيلة)‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬أين الطعام يا موسى ؟ هذا ماء بارد يا موسى ‪ ،‬لكن أين الطعام ؟‬
‫قال ‪ :‬ماذا تريدون ؟‬
‫قالوا ‪ :‬نريد أحسن طعام ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬املن والسلوى‪ ،‬فأعطاهم اهلل املن والسلوى‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬هذا املاء وهذا الطعام لكن أين الظل ؟ فظلل اهلل عليهم الغمام‪ ،‬فكان الغمام‬
‫يسري معهم أفواجا‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬ادع لنا ربك خيرج من نبات األرض ‪ ،‬لقد مللنا املن والسلوى ‪.‬‬

‫(‪)38‬‬
‫أخرجه مسلم (‪ )2663‬عن أم حبيبة ‪ ،‬رضي هللا عنها‪.‬‬
‫فقال موسى ‪{ :‬أَتَ ْستَْب ِدلُو َن الَّ ِذي ُه َو أ َْدىَن بِالَّ ِذي ُه َو َخْيٌر} (البقرة‪ :‬من اآلية ‪ ، )61‬فهم أمة‬
‫مل تعتد على اخلري واملعروف ‪ ،‬وإمنا تربت على الفساد والتعنت ‪ .‬فطلب منهم أن يهبطوا‬
‫مصرا فإن هلم ما سألوه ‪.‬‬
‫‪ -6‬ومنها ‪ :‬أهنم آذوا موسى واهتموه مبا برأه اهلل منه ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هو مصاب مبرض يف‬
‫موضع عورته ؛ ألنه ال يتكشف أمامنا ‪ ،‬فموسى كان حييا ستريا ‪ ،‬ال يتكشف إذا أراد‬
‫الغسل ‪ ،‬فظن هؤالء اخلبثاء انه مريض أو به إذ يف موضع من جسمه ‪.‬‬
‫ففي احلديث أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ (( :‬إن موسى عليه السالم اخذ‬
‫عليه إزارا ‪ ،‬فلما نزل يغتسل وضعه على حجر ‪ ،‬ففر احلجر بالثوب ‪ ،‬فخرج على أثره ‪ ،‬فأتى‬
‫احلجر جهة بين إسرائيل ‪ ،‬فأقبل موسى فعلموا انه ليس به داء ‪ .‬فقال موسى ‪ :‬ثوب يا حجر‬
‫وأخذ يضرب احلجر ))(‪. )39‬‬
‫‪ -7‬ومن مفاسدهم ومكايدهم ‪ :‬أهنم كانوا يقيمون احلد على الضعيف ويعطلونه‬
‫عن الشريف ‪.‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم ملن أراد أن يشفع ملن استحق حدا من حدود اهلل ‪ (( :‬إمنا‬
‫هلك الذين من قبلكم بأهنم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف‬
‫أقاموا عليه احلد ‪ ،‬واهلل لو سرقت فاطمة بنت حممد لقطع حممد يدها ))(‪ .)40‬وحاشاها أن‬
‫تسرق ‪.‬‬
‫أما هؤالء فكانوا مثال إذا زىن فيهم الرجل وكان شريفا أخذوه ومحموه بالفحم وطافوا‬
‫به ‪ ،‬أما إذا كان الزاين ضعيفا فأهنم يقيمون عليه احلد فريمجونه حىت ميوت ‪.‬‬
‫‪ -8‬ومن مفاسدهم وكيدهم‪ :‬عبادهتم العجل ‪.‬‬
‫قال يهودي ألمري املؤمنني علي بنايب طالب مستهزئا ‪ :‬كيف تطلبون من رسولكم أن‬
‫جيعل لكم شجرة ذات أنواط كاملشركني؟‬
‫اج َع ْل لَنَا‬
‫فقال علي ‪ ،‬رضي اهلل عنه ‪ :‬وأنتم ما خرجتم من البحر إال وقلتم ملوسى ‪ْ { :‬‬
‫إِهَل اً َك َما هَلُ ْم آهِلَةٌ } (ألعراف‪ :‬من اآلية ‪! )138‬‬
‫(‪)39‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، )278،3404،4799‬ومسلم (‪ )339‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫(‪)40‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، )3475‬ومسلم (‪ )1688‬عن عائشة ‪ ،‬رضي هللا عنها ‪.‬‬
‫الشاهد ‪ :‬أهنم عبدوا العجل بتخطيط ومكر من زعيمهم السامري ؛ الذي كان مرافقا‬
‫ملوسى ‪،‬عليه السالم ‪.‬‬
‫ويف هذا حكمة نستفيدها بأنه ليس من شروط الصالح أن ينشأ املرء يف بيت صاحل ‪،‬‬
‫فهذا السامري نشأ على الوحي مع موسى يسمعه صباحا ومساء ‪ ،‬فكأن جربيل قد رباه ‪،‬‬
‫ولكنه يف هناية األمر يصبح من املشركني امللحدين الذين يصدون عن سبيل اهلل ‪.‬‬
‫فال تدهش إذا رأيت أكرب املفسدين خيرج من بيت أحد املصلحني ‪ ،‬وال يغيب عن‬
‫بالك قصة نوح مع ابنه ‪.‬‬
‫وهكذا العك ‪ ،‬فقد ينشأ الصاحل يف بيت فاسد ‪ ،‬كموسى ‪ ،‬عليه السالم ‪ ،‬الذي ترىب‬
‫عند فرعون يف قصره ‪ ،‬فكان أحد رسل اهلل ‪.‬‬
‫الشاهد ‪ :‬أن السامري خرج مع بين إسرائيل ‪ ،‬وصنع هلم من حلى الذهب الذي‬
‫أخذوه من الفراعنة عجال ذهبيا خيور بسبب الريح ‪ ،‬وخيرج أصواتا توهم السذج بأنه يتكلم ‪.‬‬
‫فعبدوه من دون اهلل ‪.‬‬
‫فلما عاد موسى من خماطبة ربه تعاىل ‪ ،‬غضب عليهم ملا رآهم يسجدون هلذا العجل‬
‫الذي ال ينفع وال يضر ‪.‬‬
‫كيف هذا ؟ وهو قد تعب يف تعليمهم وتوضيح احلق هلم وتربيتهم ‪.‬‬
‫فسبحان اهلل ! هذه هي النهاية مع هؤالء القوم الفسدة ‪.‬‬
‫ويف هذا حكمة لنا ‪ :‬بان ال نيأس إذا رأينا الناس بعد تعبنا يف الدعوة وإلقائنا احملاضرات‬
‫والدروس تلو الدروس ‪ ،‬مث وجدناها مل يستفيدوا شيئا مما قلنا ‪ ،‬ال نيأس ؛ ألن علينا البالغ ‪،‬‬
‫واهلداية منه سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫فنصحهم موسى وغضب على أخيه هارون الذي تركهم يعبدون العجل ‪ ،‬ومل يواجه‬
‫السامري حبزم‪.‬‬
‫فأخربهم ‪ ،‬عليه السالم ‪،‬بان توبتهم أن يقتلوا انفهم ‪ ،‬بان يظلهم اهلل بالغمام حىت ال‬
‫يرى بعضهم بعضا فيتقاتلوا ‪ ،‬ففعلوا ذلك ‪ ،‬وتقاتلوا يف الظالم ‪ ،‬حىت قتل بعضهم بعضا جزاء‬
‫لعبادهتم العجل ‪،‬فتاب اهلل عليهم ‪.‬‬
‫‪ -9‬ومنها ‪ :‬اهنم كانوا يذيبون الشحم ويبيعونه وهو حمرم عليهم ‪ ،‬قال صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ (( :‬قاتل اهلل اليهود ‪ ،‬ملا حرم اهلل عليهم الشحوم أذابوها فجملوها فباعوها ))(‪، )41‬‬
‫ألن الشحوم حمرمة عليهم ‪.‬‬
‫‪ -10‬ومنها ‪ :‬أهنم كانوا ال يتناهون عن منكر فعلوه ‪،‬وهذا ما خنشى الوقوع فيه ‪ .‬قال‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬إمنا اهلك الذين من قبلكم أن الرجل كان يلقي الرجل فيقول ‪ :‬يا‬
‫عبد اهلل‪ ،‬اتق اهلل وال تفعل كذا‪ ،‬مث ال مينعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه من آخر النهار))(‪.)42‬‬
‫أي ‪ :‬أهنم داهنوا أهل املعاصي ‪ ،‬وانساقوا معهم ‪ ،‬فلم ينكروا عليهم ‪ ،‬أو أنكروا‬
‫إنكارا لطيفا جدا مل يصل إىل درجة املواالة واملعاداة اليت أمر اهلل هبا ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫قال اهلل ‪{ :‬لُعِن الَّ ِذين َك َفروا ِمن بيِن إِ‬
‫ك‬‫يسى ابْ ِن َم ْرمَيَ َذل َ‬ ‫رائيل َعلَى ل َسان َد ُاو َد َوع َ‬ ‫َ‬ ‫س‬‫ْ‬ ‫َ َ ُ َْ‬
‫س َما َكانُوا‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫مِب‬
‫اه ْو َن َع ْن ُمْن َكر َف َعلُوهُ لَبْئ َ‬
‫ص ْوا َو َكانُوا َي ْعتَ ُدو َن} (املائدة‪َ {)78:‬كانُوا ال َيَتنَ َ‬ ‫َا َع َ‬
‫َي ْف َعلُو َن} (املائدة‪. )79:‬‬
‫فمن رأى املنكر ‪ ،‬ومل ينه ‪ ،‬ولو بقلبه فهو كبين إسرائيل ‪.‬‬
‫وقد ورد أن اهلل أمر جربيل أن يزلزل قرية عن مكاهنا فقال ‪ :‬يا رب فيها رجل صاحل‬
‫يعبدك ويكرب ويسبح ‪.‬‬
‫فقال سبحانه وتعاىل ‪ :‬فيه فأبدا ‪ ،‬فإنه مل يتمعر وجهه من اجلي(‪.)43‬‬
‫‪ -11‬ومنها ‪ :‬أهنم مل يستفيدوا من علمهم ‪ ،‬يقول عز من قائل ‪َ { :‬ك َمثَ ِل احْلِ َما ِر حَيْ ِم ُل‬
‫َس َفاراً} (اجلمعة‪ :‬من اآلية ‪ )5‬فاحلمار تأيت به ‪ ،‬وتركب عليه اجمللدات العلمية الثمينة ‪(( ،‬كفتح‬ ‫أْ‬
‫الباري )) و (( املغين )) و (( رياض الصاحلني )) ‪ ،‬فهو لن يدري مبا فيها ‪ ،‬ولن يستفيد أي‬
‫فائدة منها ‪ .‬فهو كبين إسرائيل حفظوا التوراة ‪ ،‬لكن ما نفذوا أحكامها {فَبِما َن ْق ِ‬
‫ض ِه ْم‬ ‫َ‬
‫اضعِ ِه} (املائدة‪ :‬من اآلية ‪.)13‬‬ ‫اسيةً حُي ِّرفُو َن الْ َكلِم عن مو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ْ ََ‬ ‫وب ُه ْم قَ َ َ‬
‫َّاه ْم َو َج َع ْلنَا ُقلُ َ‬
‫ميثَا َق ُه ْم لَ َعن ُ‬
‫وهذا تنبيه هلذه األمة اإلسالمية أن ال تكون كبين إسرائيل ‪ ،‬تعلم وال تعمل ‪ ،‬بل ال بد‬
‫من العمل مع العلم ‪ ،‬وإال فما فائدة العلم ؟‬

‫(‪)41‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ،)4633‬ومسلم (‪ )1581‬عن جابر ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫(‪)42‬‬
‫صحيح ‪ .‬اخرجه أبو داود (‪ ، )4336‬والترمذي (‪ ، )3047‬وصححه ‪ ،‬وابن ماجه (‪ )4006‬عن ابن مسعود ‪ ،‬رضي هللا عنه‪.‬‬
‫(‪)43‬‬
‫انظر ‪ (( :‬تفسير القرطبي ) (‪.)6/237‬‬
‫وأنا أعجب من أناس حازوا على الشهادات العالية يف الشريعة‪ ،‬ولكنهم مل ينزلوا إىل‬
‫ساحة امليدان بعد ‪ ،‬وال زالوا حيبسون علمهم عن كثري من الناس اجلهلة ؛ الذين حيتاجون‬
‫لعلمهم يف البوادي والقرى ‪ ،‬وهذا من تثبيط الشيطان هلم ‪ ،‬عافاين اهلل وإياكم ‪.‬‬
‫َحبَّ ُاؤه} (املائدة‪ :‬من اآلية ‪. )18‬‬ ‫‪ -12‬ومنها ‪ :‬أهنم قالوا{ حَنْن أَبنَاء اللَّ ِه وأ ِ‬
‫ُ ْ ُ َ‬
‫وهذا كذب وزور ‪ ،‬فاهلل ليس بينه وبني أحد من خلقه نسب أو صلة‪ ،‬إمنا هو األمر‬
‫والنهي ‪.‬‬
‫فرد اهلل عليهم قائال سبحانه ‪{ :‬قُ ْل فَلِ َم يُ َع ِّذبُ ُك ْم بِ ُذنُوبِ ُك ْم بَ ْل أَْنتُ ْم بَ َشٌر مِم َّْن َخلَ َق}‬
‫(املائدة‪ :‬من اآلية ‪.)18‬‬
‫‪ -13‬ومنها ‪ :‬أهنم قالوا ‪ :‬بان اهلل فقري وحنن أغنياء ‪ ،‬وكذبوا أخزاهم اهلل ‪ ،‬بل اهلل‬
‫أكرم الكرماء و أغىن األغنياء ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َما قَالُوا}‬ ‫ين قَالُوا إ َّن اللَّهَ فَقريٌ َوحَنْ ُن أَ ْغنيَاءُ َسنَ ْكتُ ُ‬
‫قال تعاىل‪{ :‬لََق ْد مَس َع اللَّهُ َق ْو َل الذ َ‬
‫(آل عمران‪ :‬من اآلية ‪. )181‬‬
‫ِ مِب‬ ‫‪ -14‬ومنها ‪ :‬أهنم قالوا ‪ :‬بان يد اهلل مغلولة ‪ُ {،‬غلَّ ِ‬
‫ت أَيْدي ِه ْم َولُعنُوا َا قَالُوا بَ ْل يَ َداهُ‬ ‫ْ‬
‫شاء } (املائدة‪ :‬من اآلية ‪)64‬‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ي‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ق‬ ‫ان يْن ِ‬
‫ف‬ ‫مبسوطَتَ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ ُ‬
‫فليس هناك أكرم منه ‪،‬سبحانه ‪ ،‬ولكنه اخلبث والنفوس الوقحة حىت مع موالها تبارك‬
‫وتعاىل ‪.‬‬
‫َّص َارى َعلَى َش ْي ٍء} (البقرة‪ :‬من اآلية ‪ )113‬وهم‬ ‫ِ‬
‫‪ -15‬ومنها ‪ :‬أهنم قالوا ‪ { :‬لَْي َست الن َ‬
‫أيضا ليسوا على شيء ‪،‬بل كالمها خمرف مبدل ‪ ،‬فهم مغضوب عليهم ‪ ،‬والنصارى ضالون‬
‫ني} (الفاحتة‪ :‬من اآلية ‪.)7‬‬ ‫وب َعلَْي ِه ْم َوال الضَّالِّ َ‬‫ض ِ‬ ‫كما قال تعاىل ‪َ { :‬غرْيِ الْ َم ْغ ُ‬
‫‪ -16‬ومنها ‪ :‬أهنم قالوا ‪{ :‬عَُز ْيٌر ابْ ُن اللَّ ِه} (التوبة‪ :‬من اآلية ‪ )30‬وافرتوا عليه ‪ ،‬سبحانه‬
‫وتعاىل ‪ ،‬فهو { مَلْ يَلِ ْد َومَلْ يُولَ ْد} (اإلخالص ‪. ) 3 :‬‬
‫ِ‬
‫صارى } (البقرة‪ :‬من اآلية‬
‫‪ -17‬ومنها ‪ :‬أهنم قالوا ‪{ :‬لَ ْن يَ ْد ُخ َل اجْلَنَّةَ إاَّل َم ْن َكا َن ُهوداً أ َْو نَ َ َ‬
‫ك أ ََمانُِّي ُه ْم } (البقرة‪ :‬من اآلية ‪.)111‬‬ ‫‪ ،)111‬فقال تعاىل ردا عليهم ‪ { :‬تِْل َ‬
‫أي ‪ :‬أهنا أماين خيالية‪ ،‬ال حقيقة هلا يف الواقع ‪ ،‬إال ملن آمن برسوله صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫‪ -18‬ومنها ‪ :‬أهنم قالوا ‪ُ { :‬قلُوبُنَا غُ ْلف} (البقرة‪ :‬من اآلية ‪ )88‬أي ‪ :‬ال حنتاج إىل علمك‬
‫يا حممد صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال تعاىل ‪ {:‬بَل طَبَ َع اللَّهُ َعلَْي َها بِ ُك ْف ِر ِه ْم فَال يُ ْؤ ِمنُو َن إِاَّل‬
‫ْ‬
‫قَلِيالً} (النساء‪ :‬من اآلية ‪.)155‬‬
‫ودة} (البقرة‪ :‬من اآلية ‪ )80‬فرد‬ ‫َّار إِاَّل أياماً َم ْع ُد َ‬
‫‪ -19‬ومنها ‪ :‬أهنم قالوا ‪ { :‬لَ ْن مَتَ َّسنَا الن ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ف اللَّهُ َع ْه َدهُ أ َْم َت ُقولُو َن َعلَى‬ ‫تعاىل عليهم قائال سبحانه ‪{ :‬قُ ْل أَخَّتَ ْذمُتْ عْن َد اللَّه َع ْهداً َفلَ ْن خُيْل َ‬
‫اللَّ ِه َما ال َت ْعلَ ُمو َن} (البقرة‪ :‬من اآلية ‪.)80‬‬
‫فهم كاذبون يف زعمهم هذا ‪ ،‬بل يدخلون النار ‪ ،‬ويعتق اهلل كل مسلم بواحد من‬
‫هؤالء األجناس ‪.‬‬
‫نسأل اهلل العتق من النار ‪.‬‬
‫وهناك صفات أخرى ومكايد وخمازي يعلمها من تدبر كتاب اهلل الذي فضحهم ‪،‬‬
‫السيما سورة البقرة ‪.‬‬

‫واهلل اعلم ‪ ،‬وصلى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلم ‪.‬‬

‫**********************************‬

You might also like