Professional Documents
Culture Documents
صدعوا بالحق
ّ
وعذبوا وقتلوا فسجنوا
ُ
1
#
2
علماء
صدعوا بالحق
فسجنوا ّ
وعذبوا وقتلوا ُ
تأليف
د .مشاري سعيد املطرفي
3
حقوق الطبع محفوظة
١٤٤٠هـ ٢٠١٩ -م
4
�إهداء
إل��ى العلماء وال��دع��اة واملصلحني واملفكرين الذين
حملوا هم اإلسالم وهم أمة اإلسالم ..
إل��ى ال��رج��ال ال��ذي��ن ص��دق��وا م��اع��اه��دوا ال�ل��ه عليه
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتضر وما بدلوا
تبديال..
إلى الرجال الذين صدعوا باحلق فسجنوا وعذبوا
وقتلوا ..
5
6
املقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
احلمد لله رب العاملني ،والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني،
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعني ،أما بعد:ّ
فقد أنزل الله الكتب ،وأرسل الرسل باحلق ،قال تعالى:
{ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ}(((.
وأمرهم ببيان احلق ،واجلهر به وإعالنه ،حيث قال تعالى مخاطب ًا خامت
أنبيائه ورسله (وهو خطاب له | وألمته من بعده):
{ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ}(((.
فامتثل | أمر ربه ،وقام مبا أوجب الله عليه من الصدع باحلق واجلهر
به في وجوه املشركني والقى | في سبيل ذلك من صنوف األذية واحملنة ما
يفوق اخليال ،وما ال يخطر على بال.
وقد سبقه | -في بيان احلق والصدع به في وجه الباطل -األنبياء
أذى كثير ًا.
والرسل السابقون ،والقوا من أهل الباطل ً
مبين ًا حال األنبياء والرسل« :الطريق تعب فيه آدم ،وناح
قال ابن القيم ّ
نوح ،ورمي في النار اخلليل ،واضطجع للذبح إسماعيل ،وبيع يوسف ألجله ٌ
بثمن بخس ،ولبث في السجن بضع سنني ،ونشر باملنشار زكريا ،وذبح السيد
الض ّر أيوب ،وزاد على املقدار بكاء داود ،وسار مع
احلصور يحيى ،وقاسى ّ
الوحش عيسى ،وعالج الفقر وأنواع األذى محمد»(((.
أحب
ّ ّ
وجل إذا وإن ال ّله ّ
عز «إن عظم اجلزاء مع عظم البالءّ ،
وقال |ّ :
(((
السخط» الرضا ،ومن سخط فله ّ
قو ًما ابتالهم ،فمن رضي فله ّ
وأكثر الناس بالء هم األنبياء والعلماء والصاحلون ،فيبتلى اإلنسان على
حسب دينه.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال :قلت :يا رسول ال ّلهّ ,
أي
الرجل على حسب ثم األمثل فاألمثل ,فيبتلى ّ
بالء؟ قال« :األنبياءّ ,
أشد ًال ّناس ّ
اشتد بالؤه ,وإن كان في دينه ر ّق ٌة ابتلي على حسب
صلبا ّ دينه ,فإن كان دينه ً
ٌ (((
دينه ,فما يبرح البالء بالعبد ح ّتى يتركه ميشي على األرض ما عليه خطيئة».
11
12
( )1مالك بن �أن�س
اسمه ونسبه:
مالك بن أن��س بن مالك بن أب��ي عامر (نافع) بن عمرو بن احل��ارث،
األصبحي ،املدني.
إمام دار الهجرة ،ومن أبرز سادات أتباع التابعني ،وأحد أصحاب املذاهب
الفقهية املعروفة ،وإليه تنسب املالكية.
وأم���ه :العالية بنت شريك ب��ن عبد الرحمن ب��ن شريك القحطانية ّ
األزدية .
(((
ّ
ويرجع نسب مالك بن أنس إلى قبيلة (ذي أصبح) بن حمير ،وهي إحدى
القبائل اليمنية؛ كما ذكرت ذلك بعض املصادر واملعاجم املتخصصة في تاريخ
اليمن((( ،وعلى وجه التحديد إلى عزلة األصابح باحلجرية(((.
مولده ونشأته:
ولد اإلم��ام مالك بن أنس في خالفة سليمان بن عبد امللك في املدينة
((( ينظر« :منازل األئمة األرب��ع��ة» ،ألبي زكريا األزدي ،ص ،183 :و«تهذيب األسماء
واللغات» ،للنووي ،75/2 :و«التحفة اللطيفة» ،للسخاوي ،399/2 :و«االنتقاء في
فضائل الثالثة األئمة الفقهاء» ،للقرطبي ،ص ،10 :و«ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض:
،107/1و«املنتظم» ،البن اجل��وزي ،42/9 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي،48/8 :
و«النجوم الزاهرة» ،البن تغري بردي ،96/2 :و«األعالم» ،للزركلي257/5 :
((( ينظر« :اإلكليل» ،للهمداني ،203/2 :و«طبقات اخلواص» ،للزبيدي ،ص،10 :
و«معجم املدن والقبائل اليمنية» ،للمقحفي ،ص ،26 ،25 :و«العبر في خبر من غبر»،
للذهبي.210/1 :
((( ينظر« :اإلكليل» ،للهمداني ،162/2 :و«معجم املدن والقبائل اليمنية» ،للمقحفي،
ص ،26 :و«منازل األئمة األربعة» ،ألبي زكريا األزدي ،ص ،183 :و«السلوك في
طبقات العلماء وامللوك» ،ألبي عبد الله اجلندي ،141/1 :و«الديباج املذهب»،
البن فرحون ،ص17 :
13
املنورة ،في منطقة (ذي املروة) ،وكان ينزل أو ً
ال بالعقيق ،ثم نزل باملدينة(((. ّ
ولكن األص��ح :أنّ��ه ولد سنة ثالث
ّ وقد اختلف املؤرخون في مولده،
وتسعني من الهجرة ،عام موت أنس خادم رسول الله |(((.
وأما نشأته فقد نشأ اإلمام مالك في املدينة النبوية ،في دار الهجرة ،ومعدن
الرسالة.
ويبدو أن اإلمام مالك كان يشتغل في صغره بالتجارة مع أخيه النضر
حتمل نفقات البيت ،قال ابن بكير« :كان أخوه النضر يبيع البز ليساعده في ّ
وكان مالك معه بزاز ًا ،ثم طلب العلم»(((.
وجتمل((( في كنف أسرة حريصة وقد نشأ اإلمام مالك في صون ورفاهية ّ
على العلم والفقه واألثر ،فقد كان ألسرته األثر البالغ في حسن تربيته ،وعلى
وجه اخلصوص أمه ،فقد وجهته أمه إلى ك ّتاب بني تيم فحفظ القرآن.
ثم بعد أن حفظ القرآن حثّته أمه على تع ّلم األدب قبل العلم ،فقد كانت
توصيه بالذهاب إلى (ربيعة ال��رأي) ليتع ّلم من أدبه قبل علمه ،قال اإلمام
مالك« :كانت أمي تعممني ،وتقول لي :اذهب إلى ربيعة فتع ّلم من أدبه قبل
علمه»(((.
وملا رغب في العلم أخبر أمه ،فقالت« :تعال فالبس ثياب العلم» كما يقول
مشمرة ،ووضعت الطويلة على رأسي ،وعممتني فوقها، مالك« :فألبستني ثياب ًا ّ
وقال ابن القاسم« :أفضى مبالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع
خشبه ،ثم مالت عليه الدنيا بعد»(((.
مالك على علماء زمانه ،حتى بلغ عدد شيوخه تسعمائة ٌ ثم دار اإلمام
شيخ ،منهم ثالثمائة من التابعني ،وستمائة من تابعيهم ممن اختاره ،وارتضى
دينه ،وفقهه ،وقيامه بحق الرواية وشروطها ،وخلصت الثقة به ،وترك الرواية
((( ينظر« :ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض ،130/1 :و«الديباج املذهب» ،البن فرحون،
ص.20 :
((( «سير أعالم النبالء» ،للذهبي.49/8 :
((( «ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض.133 - 132/1 :
((( ينظر« :ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض ،132 - 131/1 :و«الديباج املذهب» ،البن
فرحون ،ص.20 :
((( «ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض.124/1 :
((( «ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض.130/1 :
15
عن أهل دين وصالح ال يعرفون الرواية(((.
وبعد أن أكمل دراسته لآلثار والفتيا اتخذ له مجلس ًا في املسجد النبوي
لتعليم الناس -وفي بعض الروايات أنّ س ّنه كان ذلك في السابعة عشرة -ولقد
قال في هذا املقام ،وفي بيان حاله عندما نزعت نفسه إلى الدرس واإلفتاء:
«ليس كل من أحب أن يجلس في املسجد للحديث والفتيا جلس حتى يشاور
ال جلس ،وما جلست حتى شهد فيه أهل الصالح والفضل ،فإن رأوه لذلك أه ً
لي سبعون شيخ ًا من أهل العلم أني موضع لذلك»(((.
ثناء العلماء عليه:
شهد له غالب العلماء بأنه كان وحيد دهره في مدينة رسول الله | في
علمه ،واجتهاده ،وحديثه ،وكثير من خصاله ،قال الذهبي« :اتفق ملالك مناقب
ما علمتها اجتمعت لغيره:
أحدها :طول العمر وعلو الرواية.
وثانيتها :الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم.
وثالثتها :اتفاق األئمة على أنه حجة صحيح الرواية.
ورابعتها :جتمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن.
وخامستها :تقدمه في الفقه والفتوى ،وصحة قواعده»(((.
وعده ابن أبي حامت في الطبقة األولى من علماء احلجاز اجلهابذة(((.
ّ
وقال النووي« :أجمعت طوائف العلماء على إمامته ،وجاللته ،وعظم
سيادته ،وتبجيله ،وتوقيره ،واإلذعان له في احلفظ والتثبيت ،وتعظيم حديث
محنته:
لم يكن اإلم��ام مالك ممن يرى اخل��روج على احلكام ،وإن كانوا ظلم ًة
وجائرين ،ولكنه مع ذلك لم يكن يوم ًا مداهن ًا خلليفة أو أمير ،أو يكتم العلم
والعامة ،حتى
ّ اخلاصة
ّ من أجلهم ،لذلك ارتفعت مكانته ،وعلت منزلته عند
جلس اخللفاء بني يديه ،وقرأ األمراء عليه ،وصدع الناس ملا أمرهم به ،فصار
آمر ًا ناهي ًا ،تسري أوامره على اجلميع ،فحسده على تلك املكانة العالية بعض
للدنيا على اآلخرة ،فوشوا به إلى أمير املدينة حينها :جعفر بن سليمان،
املؤثرين ّ
وذلك في عهد اخلليفة أبي جعفر املنصور ،ومفاد هذه الوشاية :أنّ مالك ًا ال يرى
أميان البيعة للخالفة هذه بشيء(((.
((( ينظر« :االنتقاء» ،البن عبد البر ،ص ،43 :و«ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض،130/2 :
و«الديباج املذهب» ،البن فرحون ،ص ،28 - 27 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي:
.79/8
((( رواه ابن أبي شيبة في املصنف ،48/5 :ورجاله ثقات ،وع ّلقه البخاري في صحيحه:
،343/9ولفظه« :طالق السكران واملستكره ليس بجائز».
((( ينظر« :الديباج املذهب» ،ص ،28 :و«االنتقاء» ،البن عبد البر ،ص ،44 :و«ترتيب
املدارك» ،للقاضي عياض ،130/2 :و«حلية األولياء» ،ألبي نعيم.316/6 :
((( ينظر« :االنتقاء» ،البن عبد البر ،ص ،44 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي.80/8 :
((( ينظر« :الديباج املذهب» ،البن فرحون ،ص ،28 :و«االنتقاء» ،البن عبد البر ،ص،44 :
21
هذا مختصر احملنة ،أما تفاصيلها فقد حكاها أبو العرب التميمي بسنده
إلى مطرف بن عبد الله وغيره من أصحاب مالك ،قال :إن هيجاء هاجت
باملدينة في زمان أبي جعفر ،فبعث إليها أبو جعفر ابن عمه جعفر بن سليمان
ويجدد بيعة أهلها ،فقدمها وهو يتو ّقد على أهلّ العباسي ليسكن هيجاءها،
وسطا على كل من أحلد في ً والشدة
ّ اخلالف ألبي جعفر ،فأظهر الغلظة
سلطانهم ،وأخذ الناس بالبيعة ،ومالك بن أنس بالبيعة ،ومالك بن أنس
يومئذ سيد أهل زمانه ،ولم يزل صغير ًا وكبير ًا محسود ًا ،وكذلك من عظمت
نعمة الله عليه في علمه أو عقله أو نبله أو ورعه ،فكيف مبن جمع الله تبارك
وتعالى ذلك له فيه ،ولم يزل مالك منذ نشأ يسلب النباهة والرئاسة من كان
قد سبقه إليها بظهور نعمة الله عليه ،وسموها به على كل سام قبله من أهل
فدسوا إلى جعفر منبلده ،فاشتد لذلك احلسد له ،وأجلأهم ذلك في البغيّ ،
قال له :إن مالك ًا يفتي الناس أن أميان البيعة ال تلزمهم ملخالفتك واستكراهك
فدس عليه جعفر بعض من لم يكن مالك أن يخشى أن يؤتى إياهم عليهاّ ،
من قبله ،ومن مأمنه يؤتى احلذر فسأله عن ذلك سر ًا فأفتاه بذلك طمأنينة إليه
وحسبة منه ،فلم ينشب مالك أن جاء فيه رسول جعفر بن سليمان ،فأتي به
منتهك احلرمة ،مذال الهيبة ،فأمر به جعفر بن سليمان فضرب سبعني سوط ًا،
فلما سكن الهيج و ّمتت البيعة بلغ أبا جعفر ضرب مالك ،فكره ذلك ولم
يرضه ،فبعث إلى مالك يستقدمه على نفسه بالعراق ،فأبى من ذلك ،وكتب
إليه يستعفيه ويعتذر ببعض العذر.(((.
وقد القت هذه احملنة سخط ًا عارم ًا لدى أهل املدينة ،قال محمد أبو زهرة:
«ويظهر أن أهل املدينة عندما رأوا فقيهها وإمامها ينزل به ذلك النكال سخطوا
حرض على فتنة،على بني العباس ووالتهم ،وخصوص ًا أنه كان مظلوم ًا ،فما ّ
و«ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض ،130/2 :و«حلية األولياء» ،ألبي نعيم،316/6 :
و«تاريخ اإلسالم» ،للذهبي.330/11 :
((( «احملن» ،ألبي العرب التميمي ،ص.334 - 333 :
22
وما بغى ،وال جتاوز حد اإلفتاء ،ولم يفارق خطته قبل األذى وال بعده ،فلزم
يحرض وال يدعوأبل من جراحه ورقأت ،واستمر في درسه ال ّ درسه بعد أن ّ
يحسون
إلى فساد ،فكان ذلك مما زادهم نقمة على احلاكمني ،وجعل احلكام ّ
مبرارة ما فعلوا ،وخصوص ًا أبا جعفر الداهية ،والفرصة لديهم سانحة ،فإنه لم
يكن في ظاهر األمر ضارب ًا وال آمر ًا بضرب ،وال راضي ًا عنه ،لذلك عندما جاء
حاج ًا أرسل إلى مالك يعتذر إليه»(((.
إلى احلجاز ّ
وذلك أن أبا جعفر كان قد كتب إلى اإلمام مالك« :أن وافني باملوسم فإني
حاج العام إن شاء الله»(((.
فلما كان موسم احلج التقى اإلمام مالك بأبي جعفر املنصور ،قال اإلمام
مالك حاكي ًا قصة دخوله على أبي جعفر أيام احلج« :ملا دخلت على أبي جعفر،
إلي أن آتيه في املوسم ،قال لي« :والله الذي ال إله إال هو ما أمرت
وقد عهد ّ
بالذي كان ،وال علمته ،إنه ال يزال أهل احلرمني بخير ما كنت بني أظهرهم،
وإني أخالك أمان ًا لهم من عذاب ،ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة ،فإنهم
أسرع الناس إلى الفنت ،ولقد أمرت بعد والله أن يؤتى به من العراق على قتب،
وأمرت بضيق محبسه واالستبالغ في امتهانه ،والبد أن ينزل به من العقوبة
أضعاف ما نالك منه.
فرد عليه اإلم��ام :عافى الله أمير املؤمنني ،وأكرم مثواه ،قد عفوت عنه
لقرابته من رسول الله | وقرابته منك ،فقال :عفا الله عنك ووصلك»(((.
وقال أبو الوليد الباجي :ملا حج املنصور أقاد مالك ًا من جعفر بن سليمان،
وأرسله إليه ليقتص منه ،فقال :أعوذ بالله ،والله ما ارتفع منها سوط عن جسمي
إال وأنا أجعله في حل من ذلك الوقت لقرابته من رسول الله |.
األزدي ،ص ،183 :و«التقييد ملعرفة رواة السنن واملسانيد» ،البن شجاع احلنبلي،
ص ،435 :و«تهذيب األسماء واللغات» ،للنووي ،75/2 :و«وفيات األعيان» ،البن
خلكان ،135/4 :و«التحفة اللطيفة» ،للسخاوي ،399/2 :و«طبقات احل ّفاظ»،
للسيوطي ،ص ،96 :و«الهداية» ،ألبي نصر الكالباذي ،693/2 :و«رجال صحيح
مسلم» ،ألبي بكر ابن منجويه.220/2 :
((( ينظر« :طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي ،27/2 :و«املقصد األرشد» ،البن مفلح،64/1 :
و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،179/11 :و«املنتظم» ،البن اجلوزي ،286/11 :و«حلية
األولياء» ،ألبي نعيم ،162/9 :و«البداية والنهاية» ،البن كثير ،359/10 :و«شذرات
الذهب» ،البن العماد احلنبلي ،186/3 :و«مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي ،ص،16 :
و«سيرة اإلمام أحمد بن حنبل» ،لصالح بن اإلمام أحمد ،ص ،29 :و«منازل األئمة األربعة»،
ألبي بكر بن أبي طاهر األزدي ،ص ،235 :و«وفيات األعيان» ،البن خلكان،64/1 :
و«طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي.27/2 :
((( ينظر« :مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي ،ص.21 :
((( ينظر« :مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي ،ص ،19 - 17 :و«اجلوهرة في نسب النبي
27
مولده ونشاته:
ولد اإلمام أحمد في ربيع األول ،سنة أربع وستني ومائة للهجرة ،في مدينة
بغداد؛ ذلك أن والديه قدما إليها من مرو ،وأمه حامل به(((.
وأما نشأته؛ فقد نشأ يتيم ًا؛ فقد توفي أبوه وعمره ثالث سنني ،فقامت أمه
على كفالته والنفقة عليه من عقار تركه له أبوه ببغداد(((.
اهتمت أمه بتربيته منذ صغره ،فقد دفعته حلفظ القرآن وهو صغير وقد ّ
فحفظه ،قال اإلمام أحمد« :ح ّفظتني أمي القرآن وأنا ابن عشر سنني ،وكانت
توقظني قبل صالة الفجر ،وحتمي لي ماء الوضوء في ليالي بغداد الباردة،
وتتغطى بحجابها ،وتذهب معي إلى املسجد؛ ّ تتخمر
ّ وتلبسني مالبسي ،ثم
لبعد بيتنا عن املسجد ،ولظلمة الطريق».
متورع ًا عن عطايا اخللفاء ،فقد كان لإلمام
وقد نشأ اإلمام أحمد منذ الصغر ّ
أحمد عم اسمه« :إسحاق» على صلة باخللفاء ،فلم يستحسن ذلك اإلمام أحمد
تورع ًا ،وابتعاد ًا عن الريب(((.
اجلم منذ صغره ،قال أبو
وقد ظهرت عليه مخايل العلم وال ّتقى واألدب ّ
سراج« :كنا مع أبي عبد الله في الك ّتاب ،فكان النساء يبعثن إلى املعلم :ابعث
إلينا بابن حنبل ليكتب جواب كتبهم ،فكان إذا دخل إليهن ال يرفع رأسه وال
ينظر إليهن»(((.
وأصحابه العشرة» ،ألبي بكر ال ّتلمساني ،448/1 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي:
.184/11
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،179/11 :و«املنتظم» ،البن اجلوزي،286/11 :
و«حلية األولياء» ،ألبي نعيم ،162/9 :و«البداية والنهاية» ،البن كثير.359/10 :
((( ينظر« :حلية األولياء» ،ألبي نعيم ،163/9 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي.179/11 :
((( ينظر« :طبقات احلنابلة» ،البن أبي يعلى ،111/1 :و«مناقب اإلمام أحمد» ،البن
اجلوزي ،ص.24 :
((( «مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي ،ص.83 ،23 :
28
وقد ظهرت عليه مالمح النجابة والنباهة واألملعية من زمن صغره ،قال أبو
سراج بن خزمية متعجب ًا من أدبه وحسن طريقته« :أنا أنفق على ولدي وأجيئهم
باملؤدبني على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون ،وهذا أحمد بن حنبل غالم يتيم،
انظر كيف يخرج! وجعل يعجب»(((.
وقد كان شيوخه يج ّلونه منذ صغره ،متوسمني فيه علو الشأن في املستقبل،
حجة على أهل زمانه»(((.
قال الهيثم بن جميل« :إن عاش هذا الفتى فسيكون ّ
وقد ابتدأ اإلمام أحد طلب العلم وحضور مجالس العلماء وعمره أربع
عشرة سنة ،قال اإلمام أحمد« :اختلفت إلى الك ّتاب ،ثم اختلفت إلى الديوان،
وأنا ابن أربع عشرة سنة»(((.
وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف ،ثم ترك ذلك
وأقبل على سماع احلديث(((.
وقد كانت بداية طلبه العلم في بغداد ،ثم طاف في البالد واآلفاق ،وسمع
من مشايخ العصر ،وكانوا يج ّلونه ويحترمونه في حال سماعه منهم(((.
((( ورحل إلى الكوفة ،والبصرةّ ،
ومكة ،واملدينة ،واليمن ،والشام ،واجلزيرة
وغيرها من البلدان.
ثناء العلماء عليه:
ليس بحاجة إلى ثناء أحد من العلماء؛ ففعاله العظيمة ،ومواقفه اخلالدة
((( «مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي ،ص ،23 :واملنتظم» ،البن اجلوزي.286/11 :
((( ينظر« :اجلرح والتعديل» ،البن أبي حامت ،295/1 :و«تهذيب األسماء واللغات»،
للنووي ،111/1 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي.195/11 :
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» ،للذهبي.185/11 :
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير.359/10 :
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير ،360/10 :و«تهذيب التهذيب» ،البن حجر.72/1 :
((( «مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي ،ص ،26 :و«ش��ذرات الذهب» ،البن العماد
احلنبلي.186/3 :
29
كافية في الثناء عليه ،ولكن ال بأس من تعطير هذه األسطر ببعض ما قاله
العلماء في الثناء عليه ،ومن ذلك:
قال ابن تيمية« :اإلمام الفاضل ،والرئيس الكامل الذي أبان الله به احلق،
ودفع به الضالل ،وأوضح به املنهاج ،وقمع به بدع املبتدعني ،وزيغ الزائغني،
وشك الشاكني»(((.
وقال ابن تيمية عن ثباته في احملنة« :س ّلط الله تعالى عليهم علم ًا من أعالم
الدين أوتي صبر ًا في قوة اليقني أبا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبلّ ،
فشد
وضن بالدين ،وأعرض عن الغضاضة على ّ املئزر ،وأبى الفتنة ،وجاد بالدنيا،
هد ما
طيب العيش ولم يبال في الله خفة األقران ،ونسي قلة األعوان ،حتى ّ
وقد ما مدوا»(((.
شدواّ ،
وق��ال اب��ن القيم« :إم��ام أه��ل ّ
الس ّنة على اإلط�لاق ال��ذي مأل األرض
علم ًا وحديث ًا وس ّنة ،حتى إن أئمة احلديث ّ
والس ّنة بعده هم أتباعه إلى يوم
القيامة»(((.
وقال السبكي« :اإلم��ام اجلليل ،صاحب املذهب ،الصابر على احملنة،
للس ّنة ،شيخ العصابة ،ومقتدى ّ
الطائفة»(((. ال ّناصر ّ
وق��ال الذهبي« :شيخ اإلس�ل�ام ،وسيد املسلمني ف��ي ع��ص��ره ،احلافظ
احلجة»(((.
وقال النووي« :اإلم��ام البارع ،املجمع على جاللته ،وإمامته ،وورعه،
وزهادته ،وحفظه ،ووفور علمه ،وسيادته»(((.
محنته:
أشد محنة من حيث نوعها (عقدية) ،وزمانها (طويلة) ،ومن حيث فهي ّ
وشدته ،يقول أحد جالديه« :ضربت أحمد بن حنبل ثمانني ّ هول التعذيب
ال لهدمته» ،وأيض ًا من حيث إنها محنة شملت جميع
((( سوط ًا لو ضربته في ً
العلماء والقضاة والصلحاء ،ولكنهم فشلوا جميع ًا في هذه احملنة عدا إمام أهل
احلق أحمد بن حنبل.
العامة لهذه احملنة ،وأن
ّ نعرج على اخليوط
وحسبنا في هذه األسطر أن ّ
((( ينظر« :مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي ،ص ،261 :و«املعرفة» ،للفسوي،49/1 :
و«منازل األئمة األربعة» ،ألبي بكر بن أبي طاهر األزدي ،ص ،239 :و«معجم املؤلفني»،
لعمر بن رضا كحالة ،96/2 :و«طبقات احلنابلة» ،البن أبي يعلى ،143/1 :و«التقييد
ملعرفة رواة السنن واملسانيد» ،البن نقطة ،ص ،161 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي:
،329/11و«طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي ،31/2 :و«املقصد األرشد» ،البن
مفلح366/1 :
((( «طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي37/2 :
((( «املنهج األحمد» ،ألبي اليمن العليمي.36/1 :
34
نشير إلى بعض مواقفها من البداية حتى النهاية ،مراعني في احلديث عنها
الترتيب الزمني للخلفاء الذين تداولوا على تعذيب اإلمام أحمد ،وماهية احملنة
تعرض لها اإلمام أحمد في عهد كل خليفة ،فنقول: التي ّ
أو ًال :املأمون «عبد الله بن هارون الرشيد» (بداية احملنة ثم تقييده بالقيود
والسالسل):
يعتبر املأمون أول خليفة من خلفاء بني أمية وبني العباس يزيغ عن مذهب
السلف ،قال البيهقي« :لم يكن في اخللفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة
إال على مذهب السلف ومنهاجهم»(((.
وقال ابن اجلوزي« :لم يزل الناس على قانون السلف ،وقولهم :إن القرآن
كالم الله غير مخلوق؛ حتى نبغت املعتزلة فقالت بخلق القرآن ،وكانت تستر
ذلك ...فلما توفى الرشيد كان األمر كذلك في زمن األمني»(((.
والسبب في زيغه عن مذهب السلف استحواذ جماعة من املعتزلة عليه،
قال ابن كثير« :استحوذ عليه جماعة من املعتزلة فأزاغوه عن طريق احلق إلى
الباطل ،وزي ّنوا له القول بخلق القرآن ،ونفي الصفات عن الله عز وجل»(((.
وقد كان في بداية األمر متردد ًا في حمل الناس على ذلك ،ثم قوى عزمه
على ذلك في آخر سنة من واليته ،فقد أصدر مرسوم ًا إلى نائبه في بغداد:
«إسحاق بن إبراهيم» يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن ،فمن أجاب شهر
أمره بني الناس ،ومن أبى يرسله إلى املأمون ،وقد جاء في املرسوم الذي
أصدره« :فأجمع من بحضرتك من القضاة واقرأ عليهم كتاب أمير املؤمنني
عما يعتقدون في خلق هذا إليك ،فأبدأ بامتحانهم فيما يقولون ،وتكشيفهم ّ
الله القرآن وإحداثه ،وأعلمهم أن أمير املؤمنني غير مستعني في عمله وال
واثق فيمن ق ّلده واستحفظه من أمور رعيته مبن ال يوثق بدينه ،وخلوص
((( «تاريخ بغداد» ،ألبي الفضل ابن طيفور ،ص ،183 - 182 :و«طبقات الشافعية
الكبرى» ،للسبكي.39/2 :
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير ،366/10 :و«املنتظم في تاريخ امللوك واألمم» ،البن
اجلوزي ،24/11 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،288/10 :و«طبقات الشافعية
الكبرى» ،للسبكي.42/2 :
36
سل سيف ًا لم يس ّله قبل ذلك ،وأنه يقسم بقرابته من رسول الله |
املأمون قد ّ
ألن لم جتبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف؟» .
(((
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير ،348/10 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي- 251/11 :
،252و«مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي ،ص.431 :
((( «سير أعالم النبالء» ،للذهبي.260/11 :
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير.369/10 :
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،264/11 :و«مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي،
ص.472 :
39
رابعا :املتوكل« :جعفر بن املعتصم» (محنة السراء):
بعد موت «الواثق» تو ّلى اخلالفة بعده املتوكل ،فحصل للناس خير ًا كثير ًا؛
فقد انتصر أهل احلق ،واندحر أهل البدع ،حيث «أطفأ املتوكل نيران البدعة،
الس ّنة»(((.
وأوقد مصابيح ّ
وفي عصر املتوكل ازداد اإلمام أحمد رفعة عند العامة واخلاصة ،حيث
أكرم املتوكل اإلمام أحمد ،وأرسل إليه العطايا ،ولكن اإلمام رفض قبول عطايا
تقل خطر ًا عن محنة الضراء التي ّ
تعرض لها اخلليفة ،معتبر ًا أن محنة السراء ال ّ
في عهد اخللفاء السابقني.
وقد عظمت مكانة اإلمام أحمد لدى اخلليفة املتوكل؛ فكان ال يو ّلي أحد ًا
إال مبشورته ،قال ابن كثير« :مكث إلى سنة وفاته وكل يوم إال ويسأل عنه املتوكل
ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها ،ويستشيره في أشياء تقع له»(((.
فهذه خيوط عامة في محنة اإلمام أحمد ،وقد واجه اإلمام أحمد هذه
احملنة بأمور عدة؛ منها:
أوال :الصدع بكلمة احلق ،وعدم األخذ بالرخصة أو التقية ،قال أحمد
شاكر في موقف اإلمام أحمد« :أما أولو العزم من األئمة الهداة فإنهم يأخذون
بالعزمية ،ويحتملون األذى ويثبتون ،وفي سبيل الله ما يلقون ،ولو أنهم أخذوا
لضل ال ّناس من ورائهم يقتدون بهم وال يعلمون بالتقية ،واستساغوا الرخصة ّ
أنّ هذه تقية ،وقد أتي املسلمون من ضعف علمائهم في مواقف احل��ق ..ال
يجاملون امللوك واحلكام فقط ،بل يجاملون كل من طلبوا منه نفع ًا أو خافوا
(((
ضر ًا في احلقير واجلليل من أمر الدنيا».
وقال أبو زهرة« :وألن التقية ال جتوز من األئمة الذين يقتدى بهم ويهتدى
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،334 - 332/11 :و«البداية والنهاية» ،البن كثير:
.356 - 375/10
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير.378 - 376 /10 :
43
وقد رآه بعض العلماء في املنام بعد موته في هيئة حسنة ،ونعيم مقيم ،ومن
ذلك :قال أحمد بن محمد الكندي« :رأيت أحمد بن حنبل في املنام ،فقلت:
في
يا أبا عبد الله ،ما صنع الله بك؟ قال :غفر لي ،وقال لي :يا أحمد ،ضربت ّ
رب ،قال :هذا وجهي فانظر إليه ،فقد أبحتك النظر إليه»(((.
قال :قلت :نعم يا ّ
السمسار البغدادي« :رأيت أحمد بن حنبل في املنام وعلىوقال أبا يحيى ّ
مرصع باجلوهر ،وإذا هو يخطر خطرة لم أعرفها له في دار الدنيا، تاج ّ رأسه ٌ
وتوجني التاج،
فقلت له :يا أبا عبد الله ،ما فعل الله بك؟ قال :غفر لي وأدناني ّ
اخلدام في دار
فقال :هذا بقولك :القرآن كالم الله غير مخلوق ،وهذه مشية ّ
السالم»(((.
((( «سير أعالم النبالء» للذهبي ،59 ،/12 :و«طبقات الفقهاء» ،للشيرازي ،ص،98 :
و«وفيات األعيان» ،البن خلكان ،63/7 :و«طبقات الشافعية» ،البن قاضى شهبة:
،71/1و«مرآة اجلنان» لليافعي ،76/2 :و«حسن احملاضرة» للسيوطي،306/1 :
و«شذرات الذهب» ،البن العماد احلنبلي.143/3 :
((( «وفيات األعيان» ،البن خلكان ،63/7 :و«طبقات الشافعيني» ،البن كثير ،ص،160 :
و«طبقات الشافعية» ،البن قاضى شهبة.71/1 :
((( «طبقات الشافعيني» ،البن كثير ،ص ،161 :وطبقات الشافعية ،البن قاضى شهبة:
،71/1و«سير أعالم النبالء» للذهبي.60/12 :
((( «وفيات األعيان» ،البن خلكان.62/7 :
((( «طبقات الفقهاء» للشيرازي ،ص ،98 :و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي،439/16 :
47
وأما ثناء القارئني لسيرته ّ
واملطلعني على أخباره من العلماء ،فأقوالهم في
ذلك كثيرة جد ًا ،ومنها:
قال الذهبي« :اإلمام ،العالمة ،سيد الفقهاء ،املصري ،البويطي ،صاحب
وتخرج به ،وفاق األقران ...وكان إمام ًا في العلم،
ّ اإلمام الشافعي ،الزمه مدة،
متهجد ًا ،دائم الذكر والعكوف على الفقه»(((.
ّ قدوة في العمل ،زاهد ًا رباني ًا،
متهجد ًا ،دائم الذكر
ّ وقال أيض ًا« :اإلم��ام ...الفقيه ...كان صاحل ًا عابد ًا
والتشاغل بالعلم»(((.
البويطي يصوم ،ويتلو غالب ًا في اليوم والليلة ختمة مع
ّ وقال أيض ًا« :كان
صنائع املعروف إلى الناس»(((.
وقال ابن خلكان« :صاحب الشافعي -رضي الله عنه -كان واسطة عقد
جماعته وأظهرهم جناب ًة ،اختص به في حياته ،وقام مقامه في الدرس والفتوى
بعد وفاته ...وكان صاحل ًا متنسك ًا عابد ًا زاهد ًا»(((.
وقال ابن قاضي شهبة« :الفقيه ،أحد األعالم من أصحاب الشّ افعي ،وأئمة
اإلسالم»(((.
وقال ابن اجلوزي« :ثقة فقيه ،من أهل السنة»(((.
((( «طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي ،163/2 :و«الفهرست» ،البن الندمي ،ص:
،262و«األعالم» ،للزركلي.257/8 :
((( «الفهرست» ،البن الندمي ،ص.262 :
((( «هدية العارفني» ،للباباني البغدادي.549/2 :
50
الثالثة :من حيث املتبنني لها والقائمني عليها :حيث تب ّناها وأشرف
عليها كبار أمراء الدولة آنذاك« :املأمون ،واملعتصم ،والواثق» ،مسخرين في
سبيلها كافة أجهزة الدولة وإمكانياتها ،مستخدمني كافة وسائل الترغيب
واإلغراء والترهيب والتخويف والتعذيب في حق من يرفض القول بخلق
القرآن.
الرابعة :من حيث شموليتها :فقد شملت فئات املجتمع ،وفي مقدمتهم
العلماء والفقهاء ،بل شملت حتى أسرى املسلمني لدى الروم؛ كما حدث ذلك
في والية الواثق؛ فمن قال منهم بخلق القرآن افتكه ،ومن رفض تركه أسير ًا
لدى الروم في سابقة لم يعرف التاريخ مثلها من قبل(((.
ولم تقتصر هذه احملنة على علماء وفقهاء العراق فقط ،بل شملت كافة
املدن التابعة للخالفة العباسية ،ومن املدن التي شملتها احملنة« :مصر» ،حيث
كان لعلمائها وفقهائها نصيب ًا منها ،فمنهم من امتحن في مصر نفسها من قبل
والتها وقضاتها ،ومنهم من حمل إلى الرقة بسوريا ،ومنهم من حمل إلى
بغداد العراق.
ومن أبرز علماء مصر الذين امتحنوا بسبب فتنة القول بخلق القرآن ثم
«البويطي» ،حيث كانت محنته أثناء والية «الواثق» ،ذلك أن
ّ حملوا إلى العراق:
ال للناس على القول بخلق القرآن. الواثق كان أشد أمراء الدولة العباسية حم ً
قال ابن كثير« :وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن ،يدعو
إليه لي ً
ال ونهار ًا ،سر ًا وجهار ًا ،اعتماد ًا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه املأمون،
من غير دليل وال برهان وال حجة وال بيان وال س ّنة وال قرآن»(((.
عدة في سبيل نشر سيـئ ًا ،حيث ا ّتخذ إجراءات ّ بل بلغ األمر بالواثق مبلغ ًا ّ
عقيدة املعتزلة ،ومنها :تعيني قضاة من املعتزلة املعتنقني لعقيدة املعتزلة املنحرفة
((( ينظر« :البداية والنهاية» ،البن كثير ،337 -336/10 :و«اجلوهرة» ،للتلمساني:
،457/1و«تاريخ الرسل وامللوك» ،البن جرير الطبري.139/9 :
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير.334/10 :
51
في كافة األمصار التابعة للخالفة العباسية ،ومنها مصر ،حيث مت تعيني محمد
بن أبي الليث األصم احلنفي املعتزلي قاضي ًا عليها؛ كما ذكر ذلك الكندي بقوله:
«قدم أبو الوزير والي ًا على خراج مصر ،وقدم معه بكتاب والية ابن أبي الليث
على القضاء»(((.
وذكر الذهبي((( أن والية محمد بن أبي الليث األصم لقضاء مصر كانت
أيام املعتصم والواثق.
شدد على الناس وقد كان محمد بن أبي الليث األصم رجل سوء ،حيث ّ
بسبب هذه العقيدة املنحرفة ،فلم يترك فقيه ًا في مصر وال متحدث ًا وال مؤذن ًا
ح ّتى أخذه باحملنة ،ومأل السجون ّممن لم يجب ،وهرب كثير من الناس ،وأمر
ال الله رب القرآن املخلوق ،ومنع الفقهاء من بأن يكتب على املساجد :ال إله إ ّ
أصحاب مالك من اجللوس في املسجد اجلامع(((.
وكان البويطي من أبرز ضحايا :محمد بن أبي الليث األصم ،حيث سعى
به((( (( إلى قاضي احملنة ابن أبي دؤاد ،ملا ما له من املكانة لدى العامة واخلاصة،
البويطي يحول بني نشر العقيدة
ّ فقد كتب إلى ابن أبي دؤاد ما مضمونه :أن
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،60/12 :و«طبقات الشافعيني» ،البن كثير ،ص:
.161
((( «سير أعالم النبالء» للذهبي ،61/12 :و«طبقات الشافعيني» ،البن كثير ،ص،161 :
و«تاريخ اإلسالم» ،للذهبي.423/17 :
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» للذهبي» ،59 /12 :و«مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي،
ص ،535 :و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي ،439/16 :و«وفيات األعيان» ،البن
خلكان.62/7 :
53
في حديدي حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون :أنه مات في هذا الشأن قوم في
البويطي
ّ حديدهم ،ولئن أدخلت عليه ألصدقنه ،يعني الواثق»((( .فلما وصل
بغداد ألقي في السجن مباشرة مكب ً
ال باألغالل والقيود.
وقد جرى للبويطي أثناء محنته مواقف عدة؛ منها:
-1محاولة إغرائه باملال لع ّله يتراجع :قال أبو بكر بن ثابت« :بعث ابن أبى
البويطي بعض أصحابه إلى السجن ،وهو يقول له :إنه يس ّلم عليك - ّ دؤاد إلى
وكانت بينهما صداقة -وإذا كان الغد وأحضرت بني يدى أمير املؤمنني وسألك
محملة ّمما تريد تعود بها إلى
ال ّعن خلق القرآن فقل به ،ولك علي أربعون حم ً
مصر ،فقال للرسول« :نعم في غد نتكلم إن شاء الله تعالى .فلما أحضر جلس
اخلليفة ،وجلس ابن أبى دؤاد ،فقال له البويطى :والله ال أقول بخلق القرآن
ولو أعطيت وزن جبل تهامة ذهب ًا ،فضرب ،فكان إذا شرب املاء خرج من بني
أضالعه»(((.
-2امتحانه وضربه كل يوم :قال مكي بن إبراهيم« :وكان في كل يوم
ربى ليس
يخرج من السجن مع األعيان يرفل في قيده فيسأل ،فيقول :هو كالم ّ
مبخلوق ،فيضرب ويعاد إلى السجن»(((.
واملستحبة :فقد حكى الساجي
ّ قوة تع ّلقه بالله ،وقيامه بالعبادة الواجبة
ّ -3
البويطي ألوامر الله ،وبذله وسعه في االستجابة لنداء
ّ قصة تدل على تعظيم
الله ،قال الساجي« :كان أبو يعقوب إذا سمع املؤذن وهو في السجن يوم اجلمعة
اغتسل ولبس ثيابه ،ومشى حتى يبلغ باب احلبس ،فيقول له السجان :أين تريد؟
فيقول :حيث داعي الله ،فيقول :ارجع عافاك الله ،فيقول أبو يعقوب :اللهم
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،59 /12 :و«مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي،
ص ،535 :و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي ،439/16 :و«وفيات األعيان» ،البن
خلكان.62/7 :
الزوار» ملكي بن عثمان الشارعي.442 -441/1 : ((( «مرشد ّ
الزوار» ملكي بن عثمان الشارعي.441/1 : ((( «مرشد ّ
54
إنك تعلم أني قد أجبت داعيك؛ فمنعوني»(((.
-4تشديد األغالل والقيود عليه حتى وصلت القيود إلى أنصاف ساقيه:
«وذلك بعد أن فشلت جميع محاولتهم في سبيل محاولة كسر إرادته ،وتص ّلبه
في الثبات على مواقفه حيث حاولوا إغرائه باملال ،ثم امتحانه وضربه كل يوم،
ال وسعه في سبيل فوجدوه ثابت ًا ثبوت اجلبال ،قائم ًا بأوامر ربه املتعال ،باذ ً
البويطي أيام احملنة فرأيته
ّ حضور صالة اجلمعة» ،قال الربيع« :دخلت على
مقيد ًا إلى أنصاف ساقيه مغلولة يداه إلى عنقه»(((.
وبتشديد األغالل والقيود عليه حتى وصلت القيود إلى أنصاف ساقيه
والتطهر للصالة إال
ّ البويطي ال يستطيع احلركة ،ودخول اخلالء،
ّ لكثرتها كان
البويطي عن ذلك برسالة بعث بها من محبسه إلى اإلمام
ّ عبر
بصعوبة بالغة ،وقد ّ
الذهلي ،قال أبو عمرو املستملى« :حضرنا مجلس محمد بن يحيى الذهلي فقرأ
البويطي إليه وإذا فيه :والذى أسألك أن تعرض حالي على إخواننا
ّ علينا كتاب
أهل احلديث لعل الله يخ ّلصني بدعائهم فإني في احلديد ،وقد عجزت عن أداء
فضج الناس بالبكاء ،والدعاء له»(((.
ّ الفرائض من الطهارة والصالة؛
قال السبكي معلق ًا« :انظر إلى هذا احلبر -رحمه الله -لم يكن أسفه إال
على أداء الفرائض ،ولم يتأثر بالقيد وال بالسجن ،فرضي الله عنه وجزاه عن
صبره خير ًا»(((.
((( «طبقات الفقهاء» للشيرازي ،ص ،98 :و«طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي:
،165/2و«طبقات الشافعيني» ،البن كثير ،ص ،162 :و«وفيات األعيان» ،البن
خلكان.62/7 :
((( «طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي ،165/2 :و«طبقات الشافعيني» ،البن كثير ،ص:
،161و«وفيات األعيان» ،البن خلكان.63/7 :
((( «طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي ،165/2 :وينظر« :طبقات الشافعيني» ،البن
كثير ،ص ،162 :و«تاريخ اإلسالم» ،للذهبي.424/17 :
((( «طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي.165/2 :
55
-5عناية الله به :فعلى الرغم من كثرة القيود وثقل احلديد إال أنه كانت متر
البويطي)
ّ إلي (أييحس بها ،قال الربيع بن سليمان« :وكتب ّ ّ عليه أوقات ال
متسه
علي أوقات ما أحس باحلديد أنّه على بدني حتى ّ من السجن :أنّه ليأتي ّ
يدي»(((.
مكب ً
ال بالقيود واحلديد ،ثابت ًا على احلق، البويطي لربه في السجن ّ
ّ -6لقاء
بار ًا بقسمه ،ذلك أنه قد قال أثناء حمله من مصر إلى بغداد« :فوالله ألموتن
في حديدي حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون :أنه مات في هذا الشأن قوم في
حديدهم»(((.
تفرس فيه اإلمام الشافعي،
البويطي في حديده يكون قد حتقق فيه ما ّ
ّ ومبوت
حيث قال عنه« :أنت متوت في احلديد» .
(((
((( «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي ،439/16 :و«وفيات األعيان» ،البن خلكان:
،63/7و«املنتظم» ،البن اجل��وزي ،175/11 :و«التاج املكلل» ،للقنوجي ،ص:
.142
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» للذهبي ،59 /12 :و«مناقب اإلمام أحمد» ،البن اجلوزي،
ص ،535 :و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي ،439/16 :و«وفيات األعيان» ،البن
خلكان».62/7 :
((( «حسن احملاضرة» للسيوطي.307/1 :
56
السجان :أين تريد؟ فيقول :حيث داعي الله ،فيقول :ارجع عافاك الله ،فيقول
أبو يعقوب :اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك؛ فمنعوني»(((.
رابع ًا :حزنه وأسفه على عدم ّ
متكنه من القيام بالطهارة والعبادة بيسر
وسهولة؛ كما سبق في رسالته التي وجهها ألبي بكر الذهلي وهو في محبسه،
البويطي
ّ وأيض ًا تعليق السبكي عليها؛ فنتيجة لثقل القيود واحلديد الذي ّ
لف به
وجد صعوبة في احلركة أعاقته عن الطهارة والصالة بيسر وسهولة.
والتضرع إليه ،وطلب الدعاء من العلماء وطلبة
ّ خامس ًا :اللجوء إلى الله
العلم برفع احملنة ،حتى ّ
يتمكن من عبادة ربه بيسر وسهولة ،كما سبق ذلك في
رسالته للذهلي وتعليق السبكي عليها.
سادس ًاّ :
حتمله لثقل احلديد ومشقته ،وما ذلك إال الستشعاره لثقل احلق،
وعظم األمانة امللقاة على عاتقه ،فهان عليه حتمل ثقل احلديد والسجن حتى
مات صابر ًا محتسب ًا.
البويطي على هذه احلال مكب ً
ال بقيوده في السجن ثابت ًا على احلق، ّ ومبوت
صابر ًا على األذى ،محتسب ًا لألجر نرجو من الله سبحانه أن يجعله في جواره
في جنة عرضها السموات واألرض ،ونسأله سبحانه أن ينتقم له من الظاملني.
وفاته:
البويطي في خالفة الواثق مبدينة بغداد في السجن والقيد في رجله،
ّ توفي
يوم اجلمعة قبل صالة اجلمعة ،في شهر رجب ،سنة إحدى وثالثني ومائتني.
وقيل :توفي سنة اثنتني وثالثني ومائتني (((.
((( «طبقات الفقهاء» للشيرازي ،ص ،98 :و«طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي:
،165/2و«طبقات الشافعيني» ،البن كثير ،ص ،162 :و«وفيات األعيان» ،البن
خلكان.62/7 :
((( ينظر« :املنتظم» ،البن اجل��وزي ،175/11 :و«املختصر» ،البن شاهنشاه،36/2 :
و«االنتقاء» ،البن عبد البر ،ص ،110 :و«وفيات األعيان» ،البن خلكان،64/7 :
57
البويطي قبل موته وهو في السجن :طلبة العلم ،وخاصة
ّ وكان مما أوصى به
البويطي أن اصبر نفسك
ّ إلي أبو يعقوب
الغرباء ،قال الربيع بن سليمان« :كتب ّ
للغرباء ،وأحسن خلقك ألهل حلقتك ،فإني لم أزل أسمع الشافعي يكثر أن
يتمثل بهذا البيت:
أه�ي�ن ل��ه��م نفسي ل��ك��ي يكرمونها
ولن تكرم النفس التي ال تهينها
((( ((
و«طبقات الشافعية» ،البن قاضى شهبة ،72/1 :و«طبقات الفقهاء» ،للشيرازي ،ص:
،98و«سير أعالم النبالء» للذهبي.61/12 :
((( «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي ،439/16 :و«وفيات األعيان» ،البن خلكان:
،63/7و«املنتظم» ،البن اجلوزي ،175/11 :و«التاج املكلل» ،للقنوجي ،ص:
.142
((( للمزيد عن سيرة «البويطي» ينظر« :سير أعالم النبالء» للذهبي ،58/12 :و«طبقات
الفقهاء» ،للشيرازي ،ص ،98 :و«االنتقاء» ،البن عبد البر ،ص ،109 :و«تاريخ بغداد»
للخطيب البغدادي ،439/16 :و«طبقات الفقهاء الشافعية» ،البن الصالح،681/2 :
و«وفيات األعيان» ،البن خلكان.61/7 :
58
(� )4أحمد بن ن�صر اخلزاعي
اسمه ونسبه:
أبوعبدالله أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم بن عوف بن وهب بن عميرة
اخلزاعي ،املروزي .اإلمام ،العالم ،الشهيد(((.
أما نسبه :فيعود نسبه األول إلى قبيلة خزاعة ،وهي قبيلة كبيرة جد ًا ،ذات
تاريخ عريق ،وهي من القبائل التي اختلف علماء األنساب فيها ،فمنهم من
النسابني ،ومنهم من نسبها إلى مضر(((.
نسبها إلى األزد ،وهو رأي أكثر ّ
وليس املقام مقام حتقيق نسب قبيلة خزاعة ،وإمنا املقصود اإلشارة إلى أن
أحمد بن نصر يعود نسبه األول إلى هذه القبيلة الكبيرة العريقة.
وأما نسبه الثاني فيعود إلى موطن أجداده الذين استقروا (بعد تفرقهم)
((( ينظر« :املنتظم» ،البن اجلوزي ،165/11 :و«الكامل في التاريخ» ،البن األثير،97/6 :
و«اجلرح والتعديل» ،البن أبي حامت ،79/2 :و«الثقات» ،البن حبان ،14/8 :و«تاريخ
بغداد وذيوله» ،للخطيب البغدادي ،382/5 :و«طبقات احلنابلة» ،البن أبي يعلى:
،80/1و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،166/11 :و«الوافي بالوفيات» ،للصفدي:
،137/8و«املقصد األرشد» ،البن مفلح ،199/1 :و«شذرات الذهب» ،البن العماد
احلنبلي ،140/3 :و«اللباب في تهذيب األنساب» ،البن األثير ،439/1 :و«اجلوهرة»،
للتلمساني ،457/1 :و«األعالم» ،للزركلي.264/1 :
((( ينظر« :اإلنباه على قبائل الرواة» ،البن عبد البر ،ص ،81 :و«جمهرة أنساب العرب»،
البن حزم ،233/1 :و«قالئد اجلمان في التعريف بقبائل عرب الزمان» ،للقلقشندي،
ص ،98 :و«املختصر في أخبار البشر» ،لعماد الدين بن شاهنشاه ،101/1 :و«األنساب»،
للسمعاني ،116/5 :و«اللباب في تهذيب األنساب» ،البن األثير ،439/1 :و«الوافي
بالوفيات» ،للصفدي ،137/8 :و«الكامل في التاريخ» ،البن األثير ،97/6 :و«نهاية
األرب في معرفة أنساب العرب» ،للقلقشندي ،ص ،244 :و«لب اللباب في حترير
األنساب» ،للسيوطي ،ص ،92 :و«شفاء الغرام بأخبار البلد احل��رام» ،ألبي الطيب
املكي ،54/2 :و«معجم قبائل العرب القدمية واحلديثة» ،لعمر رضا كحالة.338/1 :
59
ببالد خرسان ،وعلى وجه التحديد بـ«مرو» ،ثم انتقل أجداده إلى بغداد مع من
انتقل منها كأجداد أحمد بن حنبل الذين انتقلوا من «مرو» إلى بغداد.
مولده ونشأته:
ولد أحمد بن نصر ببغداد ،ولم ّ
اطلع على تاريخ مولده في كتب علماء
التراجم الذين ترجموا له ،بخالف تاريخ وفاته -كما سيأتي ذكر ذلك عند
احلديث عن وفاته.-
أما نشأته ،فقد نشأ أحمد بن نصر في بيت فضل وعلم ورئاسة ،وعالئق
مذكورة بالبيت العباسي ،والدولة العباسية؛ حيث كان أبوه «نصر» من وجهاء
الدولة ومن رجاالتها ،ومن أهل احلديث وسماعه .وكان له رحبة (مكان متسع
يسمى :سويقة نصر بن مالك في بغداد.
يشبه األسواق) ّ
وأما جده «مالك بن الهيثم» فكان أحد نقباء بني العباس في ابتداء الدولة
العباسية ،وكان له عظيم األثر في قيام دولة بني العباس(((.
ففي أسرة عريقة ميسورة ،وفي مدينة العلم والعلماء آنذاك« :بغداد» نشأ
وشب وترعرع؛ حيث أقبل على حفظ القرآن منذ سن مبكرة ّ «أحمد بن نصر»
من عمره ،كما هي عادة أغلب العلماء القدماء.
ثم أقبل أحمد بن نصر على تلقي العلم من كبار العلماء ،وسمع منهم
احلديث وحمله عن كبارهم ،كـ«حماد بن زيد ،وآدم بن أبي إياس ،وإسماعيل
ابن أبي أويس ،وإسماعيل بن علية ،وسفيان بن عيينة ،وسليمان ابن صالح
امل��روزي ،وعبد الله بن املبارك ،وعبد ال��رزاق بن همام ،وعلي ابن املديني،
ووكيع بن اجلراح ،ويزيد بن هارون»((( وغيرهم.
((( ينظر« :تاريخ الرسل وامللوك» ،البن جرير الطبري ،135/9 :و«املنتظم في تاريخ
امللوك واألمم» ،البن اجلوزي ،165/11 :و«الكامل في التاريخ» ،البن األثير،97/6 :
و«البداية والنهاية» ،البن كثير.334/10 :
((( «األنساب» ،للسمعاني.116/5 :
60
ثناء العلماء عليه:
إن عامل ًا مثل «أحمد بن نصر» ليس بحاجة إلى ثناء أحد من العلماء ،فأفعاله
احلميدة ،ومواقفه البطولية اخلالدة أرفع وسام في مدحه ،والثناء عليه.
توج علمه بعمله ،فأنصت التاريخ ملواقفه، وأحمد بن نصر اخلزاعي ممن ّ
ال بعد جيل، ودونها في أنصع صفحاته ،وتناقلت مواقفه أجيال األمة جي ً ّ
وسالت أقالم العلماء بتعطير كتبهم بالثناء عليه ،ومن ذلك ما يلي:
قال أحمد بن حنبل« :ما كان أسخاه بنفسه لله ،لقد جاد بنفسه له»(((.
فترحم عليه ،وق���ال« :ق��د ختم الله له
ّ وذك���ره يحيى ب��ن معني ي��وم�� ًا
بالشهادة»(((.
وقال الذهبي« :اإلم��ام الكبير ،الشهيد ...وكان أحمد ّأم��ار ًا باملعروف،
قوا ً
ال باحلق»(((. ّ
وقال ابن كثير« :كان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل
الس ّنة اآلمرين باملعروف والناهني الصالح واالجتهاد في اخلير ،وكان من أئمة ّ
منزل غير مخلوق، عن املنكر ،وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كالم الله ّ
وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن ،يدعو إليه لي ً
ال ونهار ًا ،سر ًا
وجهار ًا ،اعتماد ًا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه املأمون ،من غير دليل وال
حجة وال بيان ،وال س ّنة وال قرآن؛ فقام أحمد بن نصر هذا يدعو برهان ،وال ّ
إلى الله وإلى األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،والقول بأن القرآن كالم الله
منزل غير مخلوق ،في أشياء كثيرة دعا الناس إليها»(((.
ّ
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير ،336/10 :و «طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي:
.52/2
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير.336/10 :
((( «سير أعالم النبالء» ،للذهبي.166/11 :
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير334/10 :
61
وقال اخلطيب البغدادي« :كان أحمد بن نصر من أهل الفضل والعلم،
قوا ً
ال باحلق»(((. مشهور ًا باخلير ّأمار ًا باملعروفّ ،
وقال احلافظ أبو بكر« :لم يصبر في احملنة إال أربعة كلهم من أهل مرو:
أحمد بن حنبل أبو عبد ال ّله ،وأحمد بن نصر بن مالك اخلزاعي ،ومحمد بن
حماد»(((.
نوح بن ميمون املضروب ،ونعيم بن ّ
وقال السبكي« :األستاذ ...ذو اجلنان واللسان والثبات وإن اضطرب امله ّند
قوا ً
ال ال ّوالسنان والوثبات ،وإن مألت نار الفتنة كل مكان فإنه كان شيخ ًا جلي ً
باحلق ّأمار ًا باملعروف ّنهاء عن املنكر ،وكان من أوالد األمراء»(((.
وقال ابن العماد احلنبلي« :الشهيد ،كان من أوالد األمراء فنشأ في علم
وص�لاح ،وكتب عن مالك وجماعة ،وحمل عن هشيم مصنفاته وما كان
يحدث .وكان يزري على نفسه ...وكان رأس ًا في األمر باملعروف والنهي عنّ
املنكر» .
(((
((( ينظر« :تاريخ الرسل وامللوك» ،البن جرير الطبري ،139/9 :و«البداية والنهاية» ،البن
كثير.335/10 :
((( أي أزال الشعر الذي دعت الفطرة والشرع إلى إزالته.
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير.335/10 :
((( وهذا يدل على أن أحمد بن نصر ال يك ّفر الواثق الذي يقول بخلق القرآن ،بل وامتحن
الناس بذلك.
((( بإثبات رؤية الله في اآلخرة.
65
{ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ }(((.
وقال رسول الله |« :إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر التضامون
في رؤيته»(((.
فنحن على اخلبر.
زاد اخلطيب -البغدادي -قال الواثق :ويحك! أيرى كما يرى احملدود
املتجسم؟ ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته!(((.
ّ
وحدثني سفيان بحديث يرفعه:
ّ وأضاف أحمد بن نصر مخاطب ًا الواثق:
«إن قلب ابن آدم بأصبعني من أصابع الله يق ّلبه كيف شاء»(((.
وكان النبي | يقول« :يا مق ّلب القلوب ّثبت قلبي على دينك»(((.
حينها دخل في احل��وار إسحاق بن إبراهيم -قائد شرطة بغداد -قائ ً
ال
ألحمد بن نصر :ويحك! انظر ما تقول؟
فرد عليه أحمد بن نصر قائ ً
ال :أنت أمرتني بذلك.
فأشفق (خاف) إسحاق من ذلك ،وقال :أنا أمرتك؟!
فرد عليه أحمد بن نصر قائ ً
ال :نعم ،أنت أمرتني أن أنصح له (أي
للواثق).
فقال الواثق ملن حوله :ما تقولون في هذا الرجل؟ أي في أحمد بن نصر.
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير ،336/10 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي،168/11 :
و«طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي.52/2 :
((( «تاريخ بغداد وذيوله» ،للخطيب البغدادي ،387 - 386/5 :و«طبقات احلنابلة»،
البن أبي يعلى ،82/1 :و«تهذيب الكمال» ،للمزي ،511/1 :و«سير أعالم النبالء»،
للذهبي.168/11 :
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير ،336/10 :و«الوافي بالوفيات» ،للصفدي،138/8 :
و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،168/11 :و«الوافي بالوفيات» ،للصفدي،138/8 :
و«تاريخ بغداد وذيوله» ،للخطيب البغدادي ،387/5 :و«صفة الصفوة».492/1 :
((( «الرد على من يقول القرآن مخلوق» ،ألحمد بن سلمان النجاد ،ص.68 :
69
بقرب من الرأس مشرف ًا عليه ،وكان عنده رجال وفرسان يحفظونه ،فلما هدأت
العيون ،سمعت الرأس يقرأ:
(((
{ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ}
فاقشعر جلدي ،ثم رأيته بعد ذلك في املنام وعليه السندس واالستبرق،
وعلى رأسه تاج ،فقلت :ما فعل الله -عز وجل -بك يا خالي؟ قال :غفر لي،
وأدخلني اجلنة؛ إال أني كنت مغموم ًا ثالثة أيام؟ قلت :ولم؟ قال :رأيت رسول
حول وجهه ع ّني ،فقلت له بعد ذلك :يا رسولالله | مر بي ،فلما بلغ خشبتي ّ
الله قتلت على احلق أو على الباطل؟ فقال :أنت على احلق ،ولكن قتلك رجل
من أهل بيتي ،فإذا بلغت إليك ،أستحيى منك»(((.
وحرضوا علىّ وأما الواثق وأعوانه الذين أفتوا بقتل أحمد بن نصر،
وشجعوا الواثق على ارتكاب هذه اجلرمية الشنيعة ،وشاركوه ّ سفك دمه؛
فيها فقد نزلت بهم عقوبة الله في الدنيا قبل اآلخرة أثناء فترة والية حكم
املتوكل ،ومما يدل على ذلك ما ذك��ره علماء التراجم((( :أن عبد العزيز ّ
الكناني دخل على اخلليفة العباسي املتوكل -وكان حسن العقيدة -فجرى
ذكر «أحمد بن نصر» في ثنايا كالمه مع املتوكل ،فكان مما قاله للمتوكل :يا
أمير املؤمنني ما رأيت أعجب من أمر الواثق ،قتل أحمد بن نصر وكان لسانه
يقرأ القرآن إلى أن دفن؟
71
فلما مات حضره ابناه سليمان ،وعبيد الله ،وكانا محبوسني ،وطرح على
الباب في قميصه الذي حبس فيه ،فقاال :احلمد لله الذي أراح من هذا الفاسق!
وغساله على الباب ،ودفناه ،فقيل :إن الكالب نبشته ،وأكلت حلمه»(((.
ّ
وأما هرثمة فإنه هرب خوف ًا من أن يكون مصيره كمصير ابن الزيات ،فلما
اجتاز بقبيلة خزاعة عرفه رجل من احلي ،فقال« :يا معشر خزاعة هذا الذي قتل
ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه ،فقطعوه إرب ًا إرب ًا ،ثم أخرجوا جثته وألقوها
في اخلرابة ،فنهشتها الكالب»(((.
وأما ابن أبي دؤاد (قاضي احملنة) فسجنه الله في جلده (أصابه الله بالفالج)
ضربه الله قبل موته بأربع سنني ،وصودر من صلب ماله مبال جزيل جد ًا(((.
أما الواثق نفسه فقد مات في عنفوان شبابه بال ع ّلة ظاهرة ،فما كان من
أهله إال أن تركوا جثته بال جتهيز ،وانشغلوا بأمور البيعة ألخيه املتوكل ،فدخل
جرذ كبير فنهش حلم خده ،واستل عينه ،ومضى بها ،فلما دخلوا عليه لتجهيزه
املشوهة!(((.
وجدوه بهذه الصورة ّ
((( «الكامل في التاريخ» ،البن األثير ،113/6 :وينظر« :املختصر» ،لعماد الدين بن
شاهنشاه ،37/2 :و«وفيات األعيان» ،البن خلكان ،102/5 :و«طبقات الشافعية
الكبرى» ،للسبكي.53/2 :
((( «املنتظم» ،البن اجلوزي ،169/11 :و«تاريخ بغداد وذيوله ،للخطيب البغدادي:
،386/5و«البداية والنهاية» ،البن كثير ،337/10 :و«طبقات الشافعية الكبرى»،
للسبكي ،53/2 :و«تهذيب الكمال» ،للمزي.511/1 :
((( «املنتظم» ،البن اجل��وزي ،169/11 :و«البداية والنهاية» ،البن كثير،337/10 :
و«تهذيب الكمال» ،للمزي ،511/1 :و«طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي:
.53/2
((( ينظر« :اإلنباء في تاريخ اخللفاء» ،حملمد بن علي املعروف بالعمراني ،ص،114 :
و«الكامل في التاريخ» ،الب��ن األثير ،107/6 :و«البداية والنهاية» ،الب��ن كثير:
.341/10
72
وفاته:
سبق أن ذكرت أن أحمد بن نصر قتله الواثق بيده وشاركه في ذلك بعض
معاونيه.
وكان ذلك مبدينة «سامراء» سنة إحدى وثالثني ومائتني باتفاق العلماء
الذين ترجموا له.
ولكنهم اختلفوا في حتديد اليوم والشهر الذي قتل فيه ،فقيل :يوم اخلميس
(((
ليومني بقني من شهر شعبان.وقيل :في غرة رمضان
وسبق أن ذكرت :أنه بعد قتل أحمد بن نصر حزوا رأسه ،ثم حملوه من
سامراء إلى بغداد حيث نصبوه هناك ،وأما جثته فبقيت بسامراء حيث صلب
على جسر فيها ،حيث بقي مصلوب ًا ست سنني؛ من سنة إحدى وثالثني ومائتني
إلى سنة سبع وثالثني ومائتني.
ثم جمع رأسه مع جثته بأمر من املتوكل يوم الثالثاء بعد عيد الفطر بيوم أو
يومني ،أو ثالث ،ثم دفن باجلانب الشرقي من بغداد باملقبرة املعروفة باملالكية.
وقد حضر جنازته معظم أهل بغداد؛ حيث كانت جنازة مهيبة لكثرة من
شيعها من اخللق(((.
ّ
((( لعل الراجح في ذلك :أنه قتل يوم اخلميس ليومني بقني من شهر شعبان ،وأن نصب
رأسه وصلبه في غرة رمضان ،والله أعلم.
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،169 - 168/11 :و«البداية والنهاية» ،البن كثير:
،336/10و«وفاة الشيوخ الذين أدركهم البغوي» ،للبغوي ،ص ،69 - 58 :و«طبقات
الشافعية الكبرى» ،للسبكي.54/2 :
73
74
( )5القا�ضي عيا�ض
اسمه ونسبه:
أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض
محمد ابن عبد الله بن موسى بن عياض ،اليحصبي ،السبتي ،عالم املغرب،
بن ّ
وأحد أبرز علماء املالكية.
وق��د ع��رف واش��ت��ه��ر ب��ـ«ال��ق��اض��ي ع���ي���اض»((( ،ف�لا ي��ك��اد ي��ذك��ر ب��دون
«القاضي».
وأما نسب القاضي عياض فيعود إلى «يحصب بن مالك» وهي قبيلة
حميرية((( معروفة.
مولده ونشأته:
ولد القاضي عياض سنة ست وسبعني وأربعمائة؛ كما نص على ذلك
أغلب علماء السير والتراجم الذين ترجموا له((( وعلى وجه التحديد مبنتصف
شهر شعبان(((.
((( ينظر« :وفيات األعيان» ،البن خلكان ،483/3 :و«معجم أصحاب القاضي أبي علي
الصدفي» ،البن اآلبار ،ص ،294 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي،213 - 212/20 :
و«البداية والنهاية» ،البن كثير.280/12 :
((( ينظر« :جمهرة أنساب العرب» ،البن حزم ،ص ،435 :و«وفيات األعيان» ،البن
خلكان ،485/3 :و«الديباج املذهب» ،البن فرحون ،ص ،172 :و«لب اللباب»،
للسيوطي ،ص ،283 :و«الرسالة املستطرفة» ،للكتاني ،ص.106 :
((( ينظر« :أزه��ار ال��ري��اض» ،للمقري ،17/3 :و«معجم أصحاب القاضي أبي علي
الصدفي» ،الب��ن اآلب��ار ،ص ،294 :و«البداية والنهاية» ،الب��ن كثير،280/12 :
و«طبقات احل ّفاظ» ،للذهبي.67/4 :
((( ينظر« :النجوم الزاهرة» ،البن تغري بردي.285/5 :
75
وشب
ّ وأما نشأة القاضي عياض فقد ولد ونشأ في مدينة سبتة املغربية،
فيها وترعرع.
وسبتة مدينة عريقة تقع «على زق��اق بحر األندلس ،وهي أحد املعابر
املشهورة»((( حيث كان الوافدون على األندلس والعائدون منها يلتقون في
سبتة ،ويتبادلون اآلراء واألفكار.
محبة للخير ،حيثوأيض ًا نشأ القاضي عياض في أسرة صاحلة مصلحةّ ،
خير ًا صاحل ًا من أهل القرآن، «كان «عمرون» والد جد القاضي عياض رج ً
ال ّ
حج إحدى عشرة حجة ،وغزا مع ابن أبي عامر غزوات كثيرة ...وكان موسر ًا، ّ
فاشترى أرض ًا بسبته ،وهي املعروفة باملنارة ،فبنى في بعضها مسجد ًا ،وفي
بعضها دار ًا حبسها على املسجد ،وهو حتى اآلن منسوب إليه ،وحبس األرض
للدفن ،ولم يزل منقطع ًا في ذلك املسجد إلى أن مات -رحمه الله -سنة سبع
وتسعني وثالثمائة(((.
وقد كفانا عنت البحث عن نشأة القاضي أقرب الناس إليه ،وأكثرهم
معرفة بحاله ،وهو ابن القاضي عياض ،حيث يقول:
«نشأ أبي رحمه الله على ع ّفة وصيانة ،مرضي احلال ،محمود األقوال
واألفعال ،موصوف ًا بالنبل والفهم واحلذق ،طالب ًا للعلم ،حريص ًا عليه ،مجتهد ًا
فيه ،معظم ًا عند األشياخ من أهل العلم ،كثير املجالسة لهم ،واالختالف
إليهم إلى أن برع أهل زمانه ،وساد جملة أقرانه ،فكان من ح ّفاظ كتاب الله
تعالى مع القراءة احلسنة والنغمة العذبة ،والصوت اجلهير ،واحلظ الوافر من
تفسيره ،وجميع علومه ،وكان من أئمة احلديث في وقته ،أصولي ًا متكلم ًا فقيه ًا،
حافظ ًا للمسائل ،عاقد ًا للشروط ،بصير ًا باألحكام ،نحوي ًا ريان من األدب،
شاعر ًا مجيد ًا كاتب ًا خطيب ًا حافظ ًا للغة واألخبار والتواريخ ،حسن املجلس،
(((
{ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ}
قد أحلفته األصالة رداءها ،وسقته أنداءها ،وألقت إليه الرئاسة أقاليدها،
وملكته طريفها وتليدها ،فبذ على فتائه الكهول سكون ًا وحلم ًا ،وسبقهم معرفة
((( ينظر« :الصلة» ،البن بشكوال ،ص ،430 - 429 :و«وفيات األعيان» ،البن خلكان:
،484 – 483/3و«أزهار الرياض» ،للمقري ،17/3 :و«تهذيب األسماء واللغات»،
للنووي.430 - 43/2 :
((( «معجم املؤلفني» ،لعمر رضا كحالة.16/8 :
((( «دولة اإلسالم» ،حملمد عنان.463 - 462/3 :
((( «قالئد العقيان» ،للفتح بن خاقان ،ص.111 :
81
وكتب وزير الدولة املرابطية بشأن هذه الرحلة مشيد ًا بفضل القاضي عياض
ال ...« :وله الفصل مذاهب يبهرج عندها الذهب ،وعنده من النبل ضرائب قائ ً
ال يفارق زندها اللهب ،وستقربه ،فتستغربه ،وتخبره ،فتكبره ،إن شاء الله»(((.
وقال عبد الرحمن بن أحمد الغرناطي املعروف بابن القصير« :ملّا ورد علينا
القاضي عياض غرناطة خرج الناس للقائه ،وبرزوا تبريز ًا ،ما رأيت ألمير مثله،
وحزرت أعيان البلد الذين خرجوا إليه ركاب ًا نيف ًا على مائتي راكب ،ومن سواد
العامة ما ال يحصى كثرة ...وملّا استقر عندنا كان مثل التمرة كلما ليكت زاد
حالوة ،ولفظه عذب في كل ما صرف من الكالم ،للنفس إليه تتوق وله طالوة،
وكان برا بلسانه ،جوادا ببنانه ،كثير التخشع في صالته ،مواصال لصالته...
وكان مع براعته في علوم الشريعة خطيبا في حتبير اخلطب ،وفي لفظه ظاهر
اخلشوع عند التالوة ،وفي حلظه سريع العبرة ،مدمي ًا للتفكير والعبرة ،كاتب ًا إذا
نثر ،ناظم ًا إذا شعر»(((.
وغير ذلك من أقوال العلماء في الثناء عليه.
مؤلفاته:
يعد القاضي عياض من أكثر علماء املغرب تأليف ًا في عصره إن لم يكن ّ
أكثرهم تأليف ًا.
وقد ذكر بعض العلماء أن مؤلفاته تزيد على ثالثني مؤلف ًا في شتى الفنون،
ومن مؤلفاته نذكر ما يلي(((:
البن شاهنشاه ،22/3 :و«النجوم الزاهرة» ،البن تغر ب��ردي ،286/5 :و«فهرس
الفهارس» ،لعبد احلي الكتاني.801/2 :
83
ضد مدينة «سبته» مسقط رأس اإلمام القاضي عياض وموطنه الذي نشأ فيه
وترعرع.
«املوحدين» بزعامة:
ّ فما كان من القاضي عياض إال أن عارض حكام
«محمد بن تومرت» ،و«عبد املؤمن بن علي» لعدة أسباب ذكرها علماء التاريخ،
املوحدين قامت وسارت على منهج منحرف في العقائد ،إضافة ومنها :أن دولة ّ
املوحدين:
ّ إلى انتهاكها للحرمات ،قال ابن القيم واصف ًا حال مؤسس دولة
املوحدين -فإنه رجل «أما مهدي املغاربة «محمد بن تومرت» -مؤسس دولة ّ
والتحيل فقتل النفوس،ّ ّ
كذاب ظالم متغ ّلب بالباطل ،ملك بالظلم والتغ ّلب
وأباح حرمي املسلمني ،وسبى ذراريهم ،وأخذ أموالهم ،وكان شر ًا على امللة من
احلجاج بن يوسف بكثير.
وكان يودع بطن األرض في القبور جماعة من أصحابه أحياء يأمرهم
أن يقولوا للناس :إنه املهدي الذي بشّ ر به النبي | ثم يردم عليهم لي ً
ال لئال
املوحدين ،نفاة صفات الرب ّ وسمي أصحابه اجلهمية
ّ ّ
يكذبوه بعد ذل��ك،
وكالمه وعلوه على خلقه ،واستوائه على عرشه ،ورؤية املؤمنني له باألبصار
وتسمى باملهدي
ّ يوم القيامة ،واستباح قتل من خالفهم من أهل العلم واإلميان
املعصوم»(((.
وقال الذهبي عن «محمد بن تومرت» أيض ًا« :أ ّلف عقيدة لقبها بـ«املرشدة»،
وسماهم املوحدين ،ونبز من فيها توحيد وخير بانحراف ،فحمل عليها أتباعهّ ،
خالف «املرشدة» بالتجسيم ،وأباح دمه نعوذ بالله من الغي والهوى» .
(((
((( ينظر« :تاريخ ابن خلدون» ،306/6 :و«البيان املغرب» ،البن عذاري ،ص،13 - 3 :
و«االستقصاء» ،للسالوي.45/3 :
((( «تاريخ ابن خلدون».307/6 :
((( ينظر« :الكامل في التاريخ» ،البن األثير.664/8 :
((( «أخبار املهدي» ،للبيذق ،ص .68
85
وفي هذه األثناء حاول القاضي عياض مكاتبة يحيى بن علي املسوفي
املعروف بـ «ابن غانية» ليقدم بجيشه إلى «سبتة» إال أنه تباطأ؛ حيث عاود جيش
«عبداملؤمن» الهجوم على «سبتة» مرة ثالثة ،فدمرت املمتلكات ،وارتكبت
جرائم فظيعة بحق أهل «سبتة» فما كان من أهل «سبتة» إال أن خضعوا مرة
أخرى حلكم املوحدين((( ،حفاظ ًا على ما تبقّى من أرواحهم وممتلكاتهم.
��وح��دي��ن م��ن بسط ن��ف��وذه��م على «س��ب��ت��ة» أمر
ومل��ا متكنت ج��ي��وش امل ّ
«عبداملؤمن» بهدم سور «سبتة» ،ومنع القاضي عياض من العودة إليها ،وأمره
مبالزمته( ،ذلك أن القاضي كان قد خرج مع وفد من وجهاء أهل سبته ملفاوضة
عبداملؤمن ليوقف جيشه عن قتال أهل سبتة) ،وسبب منع القاضي عياض من
العودة إلى سبتة؛ حتى ال يقود أهل سبته لثورة جديدة ضد املوحدين ،فأقام
وتعرض لكثير من اإليذاء ّ القاضي عياض مع عبداملؤمن واحلال متغيرة عليه،
النفسي ،فإن املوحدين لم يكونوا لينسوا الضربات املوجعة التي تلقوها على
يديه وعلى أيدي أهل سبتة.
وأيض ًا قام «عبداملؤمن» بنفي وتغريب القاضي عياض إلى قرية نائية تقع
بالبادية املغربية ،وهي قرية« :داي» (((.
وفاته :
أمر أمير املوحدين القاضي عياض باخلروج معه الى غزوة «دكالة» فخرج
معهم ومرض في الطريق فعاد إلى مراكش وتوفي بعدها بأسبوع.
وقد توفي القاضي عياض -رحمه الله -سنة أربع وأربعني وخمسمائة ،يوم
اجلمعة في السابع من جماد اآلخر ،ودفن بباب أيالن داخل مدينة مراكش.
وقد اختلف علماء التراجم في سبب وفاة القاضي عياض على أقوال
((( ينظر« :االستقصاء» ،للسالوي ،59/3 :و«دولة اإلسالم» ،حملمد عنان.273/3 :
((( ينظر« :معجم أصحاب القاضي أبي علي الصدفي» ،البن اآلبار ،ص ،296 :و«الصلة»،
البن بشكوال ،ص ،430 :و«دولة اإلسالم» ،حملمد عنان.275/3 :
86
عدة((( أرجحها :أنه قتل بأمر أمير املوحدين مسموم ًا ،أو مخنوق ًا ،ملعارضته
لهذه الدولة ،وإنكاره عصمة إمامها.
السم أثناء رحلة دكالة ،وذلك سبب مرضه،
دسوا له ّ
ويبدو أن املوحدين قد ّ
السم ،أو يكون خنق أثناء مرضه ذلك،فأعادوه إلى مراكش حيث توفي بسبب ّ
فقد قال صاحب «املرقبة العليا» :فجرت عليهما -يريد عياض ًا وابن العربي-
وأصابتهما فنت ،ومات كل واحد منهما مغرب ًا عن أوطانه ،محمو ً
ال عليه من
سلطانه.
((( وهذه األقوال هي :أنه مات موتة طبيعية ،ولم يذكر أصحاب هذا القول سبب ًا لوفاته،
وقيل :إنه مات فجأة باحلمام يوم دعا عليه اإلمام الغزالي ملا بلغه أنه أفتى بحرق كتابه:
«إحياء علوم الدين» ،وقيل غير ذلك ،وهذه األقوال فيما نعلم ال دليل علمي عليها ،بل
هي ضعيفة ،وإمنا نقلناها لألمانة العلمية.
((( ينظر« :تاريخ ابن خلدون» ،230/6 :و«التعريف بالقاضي عياض» ،حملمد بن القاضي
عياض ،ص ،98 ،13 :و«املعجم في أصحاب الصدفي» ،البن اآلب��ار ،ص،308 :
و«االستقصاء» ،للسالوي ،111/2 :و«الديباج املذهب» ،البن فرحون ،ص- 171 :
،172و«الصلة» ،البن بشكوال.492/2 :
((( للمزيد عن سيرة القاضي عياض ينظر« :وفيات األعيان» ،البن خلكان،483/3 :
و«النجوم الزاهرة» ،البن تغري بردي ،285/5 :و«معجم أصحاب القاضي الصدفي»،
البن اآلبار ،ص ،294 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،213 - 212/20 :و«البداية
والنهاية» ،البن كثير.280/12 :
87
88
الرملي
(� )6أبو بكر ّ
(املعروف بابن النابل�سي)
اسمه ونسبه:
الرملي (امل��ع��روف بابن
أب��و بكر محمد ب��ن أحمد ب��ن سهل ب��ن نصر ّ
النابلسي)(((.
اإلمام ،األمير ،القدوة ،الشهيد(((.
الرملي (املعروف بابن النابلسي) ،فيعود نسبه إلى بلدة
وأما نسب أبي بكر ّ
من بالد فلسطني ،يقال لها« :نابلس»(((.
مولده ونشأته:
تعرضوا لقصة استشهاد أبيلم يذكر علماء التاريخ والسير التراجم الذين ّ
الرملي (املعروف بابن النابلسي) تاريخ والدته ،وال مكانها.
بكر ّ
الرملي (املعروف بابن النابلسي) في مدينة
وأما نشأته ،فقد نشأ أبو بكر ّ
الرملة((( وترعرع ،وطلب العلم على يد شيوخها؛ كأبي جعفر محمد بن أحمد
الرملي ،وسعيد بن هاشم بن مرثد الطبراني ،وعمر بن محمد بن بن شيبان ّ
((( وقيل اسمه :أبوبكر ،محمد بن علي النابلسي [ينظر« :ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض:
.]284/5
((( ينظر« :تاريخ دمشق» ،البن عساكر ،49/51 :و«الوافي بالوفيات» للصفدي،33/2 :
و«تاريخ اإلس�لام» ،للذهبي ،222/26 :و«النجوم ال��زاه��رة» ،البن تغري بردي:
،106/4و«العبر في خبر من غبر» ،للذهبي ،116/2 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي:
،148/16و«األعالم» ،للزركلي.311/5 :
((( ينظر« :األنساب» ،للسمعاني ،3/13 :و«معجم البلدان» لياقوت احلموي،248/5 :
و«طبقات الشافعية ،البن قاضى شهبة.161/3 :
((( مدينة من مدن الشام.
89
سليمان العطار ،وعثمان بن محمد بن علي بن جعفر الذهبي ،ومحمد بن
احلسن بن قتيبة ،وأحمد بن ريحان ،وأبي الفضل العباس ابن الوليد القاضي،
وأبي عبدالله جعفر بن أحمد بن إدريس القزويني ،وإسماعيل بن محمد بن
محفوظ ،وأبي سعيد بن األعرابي ،وأبي منصور محمد بن سعد(((.
حتى صار يقصده طلبة العلم من أبناء تلك املدينة وخارجها ،فقد ذكر ابن
عساكر في تاريخه من جملة من سمع منه بالرملة ،وروى عنه متام بن محمد،
وعبد الوهاب امليداني ،وأبو احلسن الدارقطني ،وأبو مسلم محمد ابن عبد الله
بن محمد بن عمر األصبهاني ،وأبوالقاسم علي بن عمر بن جعفر احللبي،
وبشرى بن عبد الله مولى فلفل(((.
ومما يدل أيض ًا على أنه نشأ في الرملة ،وطلب العلم على يد شويخها،
حتى صار قبلة للطالب العلم؛ ما ذكره علماء التاريخ والسير والتراجم الذين
تعرضوا لقصة استشهاده على يد املدعو املعز في كتبهم؛ حيث ترجموا له ،أو ّ
ذكر العلماء :أنه كان في «الرملة» أثناء استيالء قادة وعساكر املدعو بـ«املعز»،
ثم خرج منها بعد ذلك إلى «دمشق» ،وفيها مت القبض عليه أسير ًا من قبل قادة
وعساكر املدعو «املعز» ،ثم أرسل إلى مصر(((.
ثناء العلماء عليه:
الرملي
مما يحزن فؤاد الباحث في كتب التراجم ندرة الكتابة عن أبي بكر ّ
(املعروف بابن النابلسي) رغم جاللة قدره ،وسمو مكانته ،ونبل أخالقه ،وكثرة
تضحياته في مناصرة احلق وأهله ،ودحض الباطل وبيان أهله ،كما سيأتي ذلك
أثناء احلديث عن محنته.
واالستعانة به تكفي»(((.
((( «سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،149 /16 :و«تاريخ اإلسالم» ،للذهبي.224/26 :
((( «سير أعالم النبالء» ،للذهبي.148/16 :
((( «العبر في خبر من غبر» ،للذهبي.116/2 :
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير.322/11 :
((( «تاريخ اإلسالم» ،للذهبي.222/26 :
((( سورة الفاحتة.5 ،1 :
((( «النجوم الزاهرة» ،البن تغري ب��ردي ،106/4 :وينظر« :املنتظم» ،البن اجلوزي:
.246/14
91
وقال القاضي عياض« :كبير أهل مدينة الرملة ،وفقيه مطاع في بلده،
مسموع ًا فيه ،يتبع الرأي ،وكان فقيه ًا زاهد ًا ،مالكي املذهب ،ذا رئاسة وظهور،
ذام ًا لهم ،من ّفر ًا للعامة
وكان شديد ًا على بني عبيد ،حني ملكوا مصر والشامّ ،
عنهم»(((.
وقال ابن سعدون« :كان شيخ ًا صاحل ًا»(((.
وقال أبو إسحاق الرقيق في تاريخه« :رجل معروف بالعلم»(((.
وقال الزركلي« :شاعر ...له اشتغال في احلديث»(((.
مؤلفاته:
حسب اطالعي على كتب التراجم التي بني أيدينا لم أر أحد ًا من العلماء
الذين ترجموا ألبي بكر الرملي(املعروف بابن النابلسي) ذكر له مؤلفات .ويغنيه
الذب عن احلق ،والوقوف في وجه الباطل. عن ذلك مواقفه الصادقة في ّ
محنته:
قبل احلديث عن محنة أبي بكر الرملي (املعروف بابن النابلسي) ال بد من
إعطاء حملة عن تاريخ أمراء الدولة العبيدية.
فقد تأسست الدولة العبيدية في املغرب العربي سنة 297هـ ،ثم انتقلت
توسعت حتى شملت الشام ،واجلزيرة قيادتها إلى مصر سنة 362هـ ،ثم ّ
العربية ،وسقطت سنة (567هـ)(((.
وقد تعاقب على والية الدولة العبيدية أربعة عشر حاكم ًا :ثالثة باملغرب
((( «عيون الروضتني» ،ألبي شامة ،215/2 :و«تاريخ اخللفاء» ،للسيوطي ،ص،25 :
و«تاريخ اإلسالم» ،للذهبي.275/39 :
((( «تاريخ اإلسالم» ،للذهبي.276/39 :
((( «سير أعالم النبالء» ،للذهبي.149/16 :
((( ينظر« :حسن احملاضرة» ،للسيوطي ،283 - 282/2 :و«النجوم الزاهرة» ،البن تغري
بردي ،230 - 229/4 :و«تاريخ اإلسالم» ،للذهبي ،11/28 :و«البداية والنهاية»،
البن كثير ،398 - 397/11 :و«عيون الروضتني» ،ألبي شامة ،216/2 :و«وفيات
األعيان» ،البن خلكان ،373/5 :و«منهاج السنة النبوية» ،البن تيمية.12/8 :
((( ينظر« :تاريخ اخللفاء» ،للسيوطي ،ص.367 :
((( «تاريخ اإلسالم» ،للذهبي ،512/28 :و«سير أعالم النبالء» ،للذهبي.151/15 :
93
وقال ابن تيمية« :العبيديون كانوا يتظاهرون باإلسالم ،ويقولون :إنهم
شيعة ،فالظاهر عنهم الرفض ،لكن كان باطنهم اإلحلاد والزندقة ،كما قال
أبو حامد الغزالي في كتاب« :املستظهري» :ظاهرهم الرفض ،وباطنهم الكفر
احملض .وهذا الذي قاله أبو حامد فيهم هو متفق عليه بني علماء املسلمني»(((.
وقال ابن تيمية أيض ًا« :العبيديون الذين اتفق املسلمون على أنهم خارجون
عن الشريعة وأنهم كانوا إسماعيلية كما قال الغزالي :ظاهر مذهبهم الرفض
وباطنه الكفر احملض ،واتفقوا على أن قتلهم كان جائز ًا ،وهم الذين أحدثوا
للنصارى هذه الكنائس ،وص ّنف العلماء في كفرهم وزندقتهم ،مثل القدروى
والشيخ أبي حامد اإلسفرائيني والقاضي أبي يعلى وأبي محمد بن أبي زيد وأبي
بكر ابن الطيب الباقالني .والذين يوجدون في بالد اإلسالم من اإلسماعيلية
والنصيرية والدرزية هم من أتباعهم ،وكان وزيرهم بالقاهرة مرة يهودي ًا ،فقويت
اليهودية بسببه ،ومرة نصراني ًا أرمني ًا ،وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني
األرمني ،وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر في دولة أولئك الرافضة املنافقني،
وكانوا ينادون بني القصرين من لعن وسب فله دينار وأردب»(((.
قال ابن تيمية أيض ًا« :بقي والة أمورها (أي القاهرة) نحو مائتي سنة على
غير شريعة اإلسالم؛ وكانوا يظهرون أنهم رافضة وهم في الباطن إسماعيلية
ونصيرية وقرامطة باطنية ،كما قال فيهم الغزالي -رحمه الله تعالى -في
كتابه الذي ص ّنفه في الرد عليهم :ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر احملض.
واتفق طوائف املسلمني ...علماؤهم وملوكهم وعامتهم من احلنفية واملالكية
والشافعية واحلنابلة وغيرهم على أنهم كانوا خارجني عن شريعة اإلسالم ،وأن
ال ،وأن جدهم كان عبيد اللهنصوا على أن نسبهم كان باط ً
قتالهم كان جائز ًا؛ بل ّ
بن ميمون القداح لم يكن من آل بيت رسول الله | .وص ّنف العلماء في ذلك
مصنفات ،وشهد بذلك مثل الشيخ أبي احلسن القدوري إمام احلنفية ،والشيخ
خامس ًا :سب الصحابة :قال الذهبي« :وفي أيامه (العزيز) أظهر ّ
سب
الصحابة على أبواب املساجد والشّ وارع، الصحابة جهار ًا» ،وأمر بكتب ّ
سب ّ
(((
((( ونقل القاضي عياض في [«ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض» ]286 - 285/5 :عن
ابن سعدون :أن أبا بكر الرملي ،الشهير بابن النابلسي :أسر في دمشق معه ابنه ،ثم حمل
معه إلى مصر ،حيث قتل ابنه أمامه ،ثم قتل األب بعده ،وذكر القاضي عياض أن أبا بكر
الشهير بابن النابلسي دعا على املدعو املعز بأن يفجعه الله بابنه ،فقبل الله دعاءه ،وأماته
في حياة أبيه ،وأفجعه به.
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير.322/11 :
98
فما كان من املدعو «املعز» إال أن أمر بقتله قتلة تبكي لهولها احلجارة
الشماء ،ور ّقت لها حتى قلوب األعداء ،حيث «أمر (املعز) ّ الصماء ،واجلبال
ّ
بإشهاره في أول يوم! ثم ضربه في اليوم الثاني بالسياط ضرب ًا شديد ًا مبرح ًا! ثم
أمر في اليوم الثالث بسلخ جلده عن جسده وهو حي (وهذه فعلة رفض القيام
بها أهل اإلسالم آنذاك) ،وإمنا أوكل املعز للقيام بها يهودي ًا ،فجعل اليهودي
الرملي صابر محتسب يذكر الله ،ويقرأ القرآن ،وكان مما قرأه يسلخه ،وأبو بكر ّ
وهو يسلخ:
{ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ}
حتى أن اليهودي لهول هذه احلادثة أخذته ر ّقة (كما حكى ذلك اليهودي
عن نفسه) بقوله« :فأخذتني رقة عليه! فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكني!
فمات.
ومع هذا كله لم يشف ذلك غليل املدعو باملعز ،بل أمر بنفخ جلده كما
تنفخ الشاة ،ثم أمر بحشوه تبنا ،ثم صلب جسده في ناحية ،وجلده بعد أن
حشي في ناحية أخرى(((.
وذكر املقريزي (وهو ممن يرى خالفة أمراء الدولة الفاطمية ،ويثني عليهم):
يسبونه ويشتمونه
مقيد ،والناس ّ أن ابن النابلسي حمل ببرنس على جمل وهو ّ
ويجرون برجله من فوق اجلمل ...ثم سيق إلى املنظر ليسلخ ...فسلخ ،وحشي ّ
ً
جلده تبنا ،ونصبت جثته وجلده على اخلشب عند املنظر .
(((
((( ينظر« :البداية والنهاية» ،البن كثير ،322/11 :و«ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض:
،285/5و«تاريخ دمشق» ،البن عساكر ،50/51 :و«الوافي بالوفيات» ،للصفدي:
،34 - 33/2و«سير أعالم النبالء» للذهبي ،149 -148/16 :و«تاريخ اإلسالم»،
للذهبي ،223/26 :و«املنتظم» ،البن اجلوزي ،245/14 :و«معجم البلدان» ،لياقوت
احلموي ،249/5 :و«األعالم» ،للزركلي.311/5 :
((( ينظر« :اتعاظ احلنفاء» ،للمقريزي 211 – 210/1 :بتصرف.
99
الرملي (املعروف بابن النابلسي) مع املدعو «املعز»
ومن خالل قصة أبي بكر ّ
نستخلص أمور ًا عدة؛ منها:
أو ًال :مدى الوحشية التي وصل إليها أمراء الدولة العبيدية ،وعلى رأسهم
املدعو املعز ضد املسلمني ،قال القاضي عبد اجلبار الهمذاني معلق ًا على قصة
الرملي وسلخه وهي وح��ي« :وه��ذه ع��ادة لهم في سلخ استشهاد أبي بكر ّ
املسلمني أحياء»(((.
قال القاضي عياض أثناء حديثه عن محنة أبي بكر« :حمل (أي أبابكر
الرملي) إلى مصر مع ابنه ،في جملة األسرى الذين قبض عليهم في الهزمية، ّ
فشهروا على اجلمال ،وأمر بضرب أعناقهم على النيل،
ّ ثالثمائة، نحو وكانوا
ورمي جثثهم به ،إال النابلسي؛ فإنه أمر أن يسلخ من جلده» .
(((
ونقل الذهبي عن أبي احلسن القابسي صاحب «امللخص»« :إن الذين قتلهم
عبيد الله وبنوه :أربعة آالف في دار النحر في العذاب؛ من عالم وعابد»(((.
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» ،للذهبي ،149/16 :و«الوافي بالوفيات» ،للصفدي:
،33/2و«تاريخ اإلسالم» ،للذهبي ،224/26 :و«ترتيب املدارك» ،للقاضي عياض:
،285/5و«تاريخ دمشق» ،البن عساكر ،51/51 :و«النجوم الزاهرة» ،البن تغري
ب��ردي ،106/4 :و«العبر في خبر من غبر» ،للذهبي ،116/2 :و«معجم البلدان»
لياقوت احلموي.249 /5 :
((( وشذ ابن قاضي شهبة في حتديد تاريخ وفاته حيث قال« :توفي في شعبان سنة ثالث
وتسعني وسبعمائة» قتي ً
ال بظاهر القاهرة ،ينظر« :طبقات الشافعية» ،البن قاضى شهبة:
.162/3
((( ينظر« :تاريخ دمشق» ،البن عساكر ،51/51 :و«معجم البلدان» ،لياقوت احلموي:
.249/5
102
( )7السرخسي
اسمه ونسبه:
السرخسي ،امللقب بـ«شمس أب��و بكر محمد بن أحمد بن أب��ي سهل ّ
األئمة» .وسبب تلقيبه بذلك أنه تفقّه على «شمس األئمة» عبد العزيز بن أحمد
احللوائي ،فلقّب بلقبه(((.
وأما نسب السرخسي ،فيعود إلى بلدة من بالد خرسان ،يقال لها« :سرخس»،
رخسي نسبة إلى مدينة سرخس من بالد خراسان ...وهى ّ «الس
قال القرشيّ :
محمد بن أحمد بن أبي سهل ،أبوبكر»(((. األئمة ّ
نسبة شمس ّ
السلمي في خالفة عثمان بن
و «سرخس» مدينة افتتحها عبد الله بن حامت ّ
عفان رضي الله عنهما(((.
مولده ونشأته:
حسب اطالعي على كتب تراجم العلماء الذين ترجموا للسرخسي لم أر
أحد ًا منهم نص على تاريخ والدته .غير أنهم ذكروا أنه ولد مبدينة« :سرخس»،
وهي بلدة عظيمة بخراسان .ثم انتقل السرخسي إلى «أوزجند» (أوزكند)،
حالي ًا).
وهي بلدة فيما وراء النهر من نواحي «فرغانة» (في أوزبكستان ّ
((( ينظر« :اجلواهر املضية» للقرشي ،28/2 :و«تاج التراجم» ،البن قطلوبغا السودوني:
،44/2و«معجم املؤلفني» ،لعمر رضا كحالة ،267/8 :و«األع�ل�ام» ،للزركلي:
،315/5و«أسماء الكتب» ،لرياض زاده ،ص.41 :
((( «اجلواهر املضية» ،للقرشي ،315/2 :وينظر« :اللباب في تهذيب األنساب» ،البن
األثير ،112/2 :و»األعالم» ،للزركلي.315/5 :
((( ينظر« :اللباب في تهذيب األنساب» ،البن األثير ،112/2 :و«آث��ار البالد وأخبار
العباد» ،للقزويني ،ص ،390 :و«املسالك واملمالك» ،لالصطخري ،ص،272 :
و»آكام املرجان» ،للشبلي احلنفي ،ص ،76 :و«صورة األرض» ،البن حوقل،445/2 :
و»معجم البلدان» ،لياقوت احلموي.208/3 :
103
وقيل :تقع «أوزجند» في منطقة «أوش» بجمهورية «قيرغيزستان» .وعليه
فقد نشأ السرخسي أو ً
ال في مدينة سرخس ،ثم انتقل إلى «أوزجند».
وقد نشأ نشأة علمية ،حيث تلقّى العلم على عدد من شيوخ عصره ،ساعده
أصولي ًا مناظر ًا.
ّ على ذلك ذكاؤه احلاد ،حتى صار إمام ًا فاض ً
ال ،وفقيه ًا
وقد تتلمذ على يديه كثير من طلبة العلم الذين صاروا فيما بعد من أكابر
علماء زمنهم(((.
ثناء العلماء عليه:
موسعة عن
مما يؤسف له الباحث في كتب التراجم أنه ال يجد كتابة ّ
السرخسي ،رغم جاللة قدره ،وغزارة علمه ،وكثرة مصنفاته .ولكن السرخسي
يكفيه في الثناء عليه مؤلفاته العلمية القيمة ،ومواقفه البطولية اخلالدة التي انتصر
وذب فيها عن حرمات الله ،حتى ألقي في سجن في قاع جب فيها للشريعةّ ،
مظلم خمس عشرة سنة؛ كما سيأتي بيانه في محنته.
ومما قاله العلماء في الثناء عليه ما يلي:
قال السمعاني« :إمام سرخس»(((.
األئمة الكبار
األئمة ...أحد الفحول ّ وقال القرشي« :اإلمام الكبير شمس ّ
حجة متكلم ًا فقيه ًا أصولي ًا مناظر ًا ،لزم اإلمام
أصحاب الفنون ،كان إمام ًا عالمة ّ
تخرج به ،وصار أنظر أهل محمد عبد العزيز احللواني ح ّتى ّ األئمة أبا ّ
شمس ّ
زمانه ،وأخذ في التصنيف وناظر األقران ،فظهر اسمه وشاع خبره»(((.
وقال الزركلي« :قاض ،من كبار األحناف ،مجتهد»(((.
((( ينظر« :اجلواهر املضية» ،للقرشي ،29/2 :و«تاج التراجم» ،البن قطلوبغا،44/2 :
و«املكتبة اإلسالمية» ،لعماد علي جمعة ،ص172 :
((( «األنساب» ،للسمعاني.405/2 :
((( «اجلواهر املضية» ،للقرشي.28/2 :
((( «األعالم» ،للزركلي.315/5 :
104
وقال علي بن سلطان القارئ الهروي« :من كبار علمائنا (أي من كبار
علماء األحناف) مبا وراء النهر ،صاحب األصول والفروع»(((.
مؤلفاته:
((( «اخلاقان» لقب لكل ملك من ملوك ال ّترك [ينظر« :املعجم الوسيط» ،ملجموعة من
الباحثني.]248/1 :
106
السرخسي لذلك ،حيث أفتى بأن زواج اخلاقان بعتيقته
ّ فتصدى
ّ بعد اإلعتاق،
عدتها حرام ،وبينّ للخاقان بحزم وجرأة أن ذلك ال يجوز ،وأن قبل أن متضي ّ
عليه أن ينتظر انتهاء املدة الشرعية ،ولم يقم السرخسي أي اعتبار لبطش امللك
أصر على زجره له وجرأتهوظلمه ،كما لم يخف من تهديده بسفك دمه ،بل ّ
عليه ،فغضب عليه اخلاقان غضب ًا شديد ًا ،وأمر به فألقي في السجن ،سنة 466
هـ1073 /م.
((( (ينظر« :اجلواهر املضية» ،للقرشي ،29 - 28/2 :و«تاج التراجم» ،البن قطلوبغا:
،45 - 44/2و«األعالم» ،للزركلي ،315/5 :و«معجم املطبوعات العربية واملعربة»،
البن إليان سركيس ،1016/2 :و«املكتبة اإلسالمية» ،لعماد علي جمعة ،ص،172 :
و«الفوائد البهية» ،للكنوي ،ص.158 :
((( «املبسوط» ،للسرخسي ،192/4 :وينظر« :اجلواهر املضية» ،للقرشي.29/2 :
((( «املبسوط» للسرخسي ،59/7 :وينظر« :اجلواهر املضية» للقرشي.29/2 :
107
حامد ًا للمهيمن ال��رزّ اق ،ومرجتي ًا إلى لقائه العزيز باألشواق ،ومصلي ًا على
حبيب اخلالق ،وعلى آله وأصحابه خير الصحب والرفاق»(((.
وقال في آخر شرح كتاب املكاتب« :انتهى شرح كتاب املكاتب بإمالء
احملصور املعاتب ،واحملبوس املعاقب وهو منذ حولني على الصبر مواظب
وللنجاة بلطيف صنع الله مراقب ،واحلمد لله وحده وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم»(((.
وقال في آخر شرح كتاب الوالء« :انتهى شرح كتاب الوالء بطريق اإلمالء
من املمتحن بأنواع البالء ،يسأل من الله تعالى تبديل البالء واجل�لاء بالعز
والعالء ،فإن ذلك عليه يسير وهو على ما يشاء قدير»(((.
ضمه إلى «املبسوط»: وقال في آخر شرح« :كتاب السير الصغير» وقد ّ
«انتهى شرح السير الصغير املشتمل على معنى أثير ،بإمالء املتكلم باحلق املنير،
احملصور ألجله شبه األسير ،املنتظر للفرج من العالم القدير ،السميع البصير،
املصلي على البشير الشفيع ألمته النذير ،وعلى كل صاحب له ووزير ،والله هو
اللطيف اخلبير»(((.
وقال في آخر شرح اإلقرار« :انتهى شرح كتاب اإلقرار املشتمل من املعاني
ما هو سر األس��رار ،وأمأل احملبوس في موضع األش��رار ،مصلي ًا على ال ّنبي
املختار»(((.
وقد ذكر محنة السرخسي كل العلماء الذين ترجموا له ،وممن ذكرها
القرشي حيث قال بعد أن نقل مقتطفات من كتابه« :املبسوط» -والتي سبق أن
((( «تاج التراجم» ،البن قطلوبغا ،45/2 :وينظر« :معجم املطبوعات العربية واملعربة»،
البن إليان سركيس.1016/2 :
((( «أدب الدنيا والدين» ،للماوردي ،ص.138 :
111
وأح����ض����روا ل��ل��ع��رض واحل���س���اب
وان���ق���ط���ع���ت ع��ل�ائ����ق األن����س����اب
وارت���ك���م���ت س���ح���ائ���ب األه������وال
وان����ع����ج����م ال���ب���ل���ي���غ ف�����ي امل���ق���ال
وع�����ن�����ت ال�������وج�������وه ل���ل���ق���ي���وم
(((
واق��ت��ص م��ن ذي الظلم للمظلوم
وفاته:
توفي السرخسي مبدينة «فرغانة».
وقد اختلف العلماء في تاريخ وفاته ،فقال بعضهم :توفي في حدود
التسعني واألربعمائة.
وقيل :سنة ثالث وثمانني وأربعمائة.
وقيل :في حدود اخلمسمائة(((.
وقيل غير ذلك.
رحم الله السرخسي وجعله مع النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني،
وحسن أولئك رفيق ًا.
((( ينظر« :طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي ،209/8 :و«م��رآة اجلنان» ،لليافعي:
،116/4و«حسن احملاضرة» ،للسيوطي ،314/1 :و«شذرات الذهب» ،البن العماد
احلنبلي ،522/7 :و«طبقات الشافعيني» ،البن كثير ،ص ،873 :و«طبقات الشافعية»،
البن قاضى شهبة.110 - 109/2 :
((( «طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي ،209/8 :و«حسن احملاضرة» ،للسيوطي:
،314/1و«شذرات الذهب» ،البن العماد احلنبلي ،522/7 :و«طبقات الشافعيني»،
البن كثير ،ص.873 :
113
حيث يقول« :سمعت الشيخ اإلمام يقول :كان الشيخ عزالدين في أول أمره
(((
فقير ًا جد ًا ،ولم يشتغل إال على كبر .وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكالسة
من جامع دمشق ،فبات بها ليلة ذات برد شديد فاحتلم فقام مسرع ًا ونزل في
بركة الكالسة فحصل له ألم شديد من البرد ،وعاد فنام فاحتلم ثاني ًا فعاد إلى
البركة؛ ألن أبواب اجلامع مغلقة وهو الميكنه اخلروج ،فطلع فأغمي عليه من
شدة البرد ...ثم سمع النداء في املرة األخيرة :يا ابن عبد السالم أتريد العلم أم
العمل؟ فقال الشيخ عز الدين :العلم؛ ألنه يهدي إلى العمل.
فأصبح وأخذ التنبيه (في فقه الشافعي) ،فحفظه في مدة يسيرة ،وأقبل
على العلم ،فكان أعلم أهل زمانه ،ومن أعبد خلق الله تعالى(((.
تدل على عبادته لربه منذ نشأته األولى ،وأيض ًا ّ
تدل على فهذه احلادثة ّ
يتفرغ لطلب العلم إال من بعد هذهتأخره في طلب العلم نوع ًا ما ،وأنه لم ّ
ّ
احلادثة؛ حيث جلس إلى علماء دمشق؛ كفخر الدين بن عساكر ،وسيف الدين
اآلمدي ،وغيرهما؛ حتى برع في املذهب الشافعي ،وفاق فيه األقران ،وجمع
من فنون العلوم العجب العجاب ،حتى بلغ رتبة االجتهاد(((.
ثناء العلماء عليه:
عاش العز بن عبد السالم في عصر زاخر بالعلم والعلماء إال أنه كان
شامتهم ورأسهم ومقدمهم في كل فن؛ وقد أثنى عليه العلماء الذين عاصروه،
ومن جاء بعده بإمامته وفضله وعلمه ،ومن ذلك ما يلي:
((( مدينة في جبال عاملة املط ّلة على حمص بالشام ،وهي من جبال لبنان «ينظر« :معجم
البلدان» ،لياقوت احلموي.412/3 :
118
الشقيف((( وبالدها ،ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالهما ،وجبل عاملة، ّ
وسائر بالد الساحل؛ مقابل أن يستعني بهم على قتال ابن أخيه امللك الصالح
جنم الدين أيوب حاكم مصر آنذاك.
فلما حتالف الصالح إسماعيل مع النصارى الصليبيني دخلوا دمشق
فتصدى لذلك العز بن عبدّ الشام لشراء السالح ليقاتلوا به عباد الله املؤمنني،
السالم مفتي ًا بحرمة بيع السالح للصلبيني ،ومما جاء في فتواه (رد ًا على سؤال
وجهه إليه أحد جتار بيع السالح في دمشق الشام ،مفاده :ما حكم بيع السالح
للصليبيني؟
فجاء جواب العز بن عبدالسالم رد ًا على السؤال« :يحرم عليكم مبايعتهم؛
ألنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم املسلمني»(((.
ولم يكتف العز بن عبد السالم بهذه الفتوى ،بل صعد يوم اجلمعة منبر
اجلامع األموي ،فخطب خطبة فريدة بينّ فيها حرمة بيع السالح للصليبيني،
ومشنع ًا فيها ومستنكر ًا على أبي اخليش حتالفه مع الصليبيني ،وتسليمه لهم
بعض املدن واحلصون.
((( قلعة حصينة جد ًا في كهف من اجلبل ،قرب بانياس من أرض دمشق «ينظر« :معجم
البلدان» ،لياقوت احلموي.»356/3 :
((( ينظر« :طبقات الشافعية» ،للسبكي ،243/8 :و«السلوك ملعرفة دول امللوك»،
للمقريزي.407/1 :
((( ينظر« :طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي ،243/8 :و«السلوك ملعرفة دول امللوك»،
للمقريزي.407/1 :
119
(وك��ان حينها غائب ًا عن دمشق) ،فأمر باعتقال العز بن عبدالسالم مدة من
الزمن(((.
وملا عاد امللك الصالح إلى دمشق أفرج عن العز بن عبد السالم ،وجعله
حتت اإلقامة اجلبرية ،ق��ال املقريزي« :وأل��زم (أي امللك الصالح) العز بن
عبدالسالم مبالزمة داره ،وأال يفتي ،وال يجتمع بأحد ألبتة»(((.
فبقي العز بن عبد السالم على هذه احلال مدة ،ثم نزح عنها إلى بيت
املقدس ،وقد صادف ذلك مجيء امللك الصالح إسماعيل إلى بيت املقدس
ال لهّ :
«تلطف به غاية فأرسل إليه امللك الصالح إسماعيل بعض خواصه ،قائ ً
ّ
التلطف ،وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال».
فلما اجتمع الرسول بالعز بن عبد السالم شرع في مسايسته ومالينته،
ثم قال له« :بينك وبني أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر
وتقبل يده ال غير».
للسلطانّ ،
يقبل يدي فض ً
ال أن أقبل يده ،يا ففرد عليه« :والله يا مسكني ما أرضاه أن ّ
قوم أنتم في واد وأنا في واد ،واحلمد لله الذي عافاني مما ابتالكم به».
فقال له« :قد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك وإال اعتقلتك؟».
فقال« :افعلوا ما بدا لكم».
فأخذه واعتقله في خيمة إل��ى جانب خيمة امللك الصالح إسماعيل
(أبواخليش).
فكان العز بن عبد السالم يقرأ القرآن ،وامللك الصالح إسماعيل يسمعه،
فقال امللك يوم ًا مللوك الفرجن (ساخر ًا من العز بن عبد السالم ،ومتودد ًا إلى
الصليبني)« :تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟» قالوا« :نعم» ،قال« :هذا
((( ينظر« :طبقات الشافعية الكبرى» ،للسبكي ،248 ،245 ،215/8 :و«املنهل الصافي»،
البن تغري ب��ردي ،289/7 :و«الوافي بالوفيات» ،للصفدي ،318/18 :و«مرآة
اجلنان» ،لليافعي ،116/4 :و«العبر في خبر من غبر» ،للذهبي.299/3 :
126
( )9ابن تيمية
اسمه ونسبه:
أبو العباس أحمد بن عبد احلليم بن عبد السالم بن عبد الله بن أبي القاسم
بن محمد ،ابن تيمية ،النميري ،احلراني ،احلنبلي ،الدمشقي .اإلمام ،العالمة،
احلافظ ،احلجة ،شيخ اإلسالم(((.
وقد عرف واشتهر بـ «ابن تيمية» ،وهو لقب جده «محمد» ،والسبب في
تسمية جده بذلك عدة أقوال((( ،ومن أشهرها:
-1أن جده «محمد» حج وله امرأة حامل ،وعندما كان على درب تيماء
-مدينة بني املدينة وتبوك -رأى جارية طفلة خرجت من خباء ،فلما رجع إلى
حران وجد امرأته قد ولدت بنت ًا ،فلما رآها قال :يا تيمية يا تيمية( ،يعني :أنها
تشبه الطفلة التي رآها بتيماء) ،فلقّب بذلك.
تسمى« :تيمية» ،وكانت واعظ ًة ،فعرف بها.
جده «محمد» كانت ّأمه ّ
-2أن ّ
فابن تيمية عربي األصل ،حراني املولد ،دمشقي النشأة والوفاة ،حنبلي
املذهب ،ثم املجتهد املطلق فيما بعد.
مولده ونشأته:
ولد ابن تيمية في مدينة حران يوم االثنني العاشر من ربيع األول ،سنة
إحدى وستني وستمائة من الهجرة(((.
((( ينظر« :تاريخ ابن ال��وردي» ،275/2 :و«البداية والنهاية» ،البن كثير،156/14 :
و«طبقات احل ّفاظ» ،للذهبي ،192/4 :و«الوافي بالوفيات» ،للصفدي،11/7 :
و«الدرر الكامنة» ،البن حجر.168/1 :
((( ينظر« :تاريخ اإلسالم» ،للذهبي ،723/13 :و«العقود الدرية» ،البن عبد الهادي،
ص ،18 :و«الوافي بالوفيات» ،للصفدي.11/7 :
((( ينظر« :العقود الدرية» ،البن عبد الهادي ،ص ،18 :و«البداية والنهاية» ،البن كثير:
127
وأما نشأة ابن تيمية ،فقد نشأ نشأته األولى في مدينة «حران» إلى أن بلغ
السابعة من عمره ،وعندما أغار عليها التتار هاجرت عائلته؛ منها سنة 667هـ
إلى دمشق الشام.
حيث نشأ في دمشق الشام في أس��رة علمية حنبلية املذهب ،راسخة
الدعائم ،قوية األركان في الفقه واحلديث ،فوالده الشيخ عبد احلليم كان عامل ًا
وجده مجد الدين أبو البركات صاحب منت «منتقى األخبار» والذي ّ محدث ًا،
ّ
يعتبر كتاب نيل األوطار للشوكاني أحد شروحه وأشهرها ،وهذه البيئة العلمية
ساهمت في نبوغ ابن تيمية؛ حيث أقبل منذ نعومة أظافره على العلم.
((( ينظر« :البداية والنهاية» ،البن كثير ،321/13 :و«العقود الدرية» ،البن عبدالهادي،
ص ،19 :وما بعدها ،و«األعالم العلية» ،للبزار ،ص ،18 :وما بعدها.
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير.156 /14 :
129
وقال ابن عبد الهادي« :الشيخ اإلمام الرباني ،إمام األئمة ،ومفتي ّ
األمة،
وبحر العلوم ،سيد احل ّفاظ ،وف��ارس املعاني واأللفاظ ،فريد العصر ،شيخ
اإلسالم ،بركة األنام ،وعلاّ مة الزمان ،وترجمان القرآن ،علم ّ
الز ّهاد ،وأوحد
العباد ،قامع املبتدعني ،وآخر املجتهدين ،وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى
مثلها»(((.
املفسر ،احملّ��دث ،املجتهد،
ّ وقال الصفدي« :الشيخ ،اإلم��ام ،العالمة،
احلافظ ،شيخ اإلسالم ،نادرة العصر ،فريد الدهر»(((.
الزاهد ...شيخ وقال ابن مفلح« :اإلمام ،الفقيه ،املجتهد ،احلافظّ ،
املفسرّ ،
اإلسالم ،وعلم األعالم»(((.
وقال ابن القيم« :شيخ االسالم واملسلمني ،القائم ببيان احلق ونصر ّ
الدين
الداعي إلى الله ورسوله املجاهد في سبيله ا ّلذي أضحك الله به من ّ
الدين ما ّ
الس ّنة ما كان دارس�� ًا ،والنور ا ّلذي أطلعه الله في ليل
كان عابس ًا ،وأحيا من ّ
الظلمات وفتح به من القلوب مقفلها ،وأزاح به الشّ بهات فكشف به غياهب ّ
عن ال ّنفوس عللها فقمع به زيغ الزائغني ،وشك الشاكني ،وانتحال املبطلني،
وصدقت به بشارة رسول رب العاملني بقوله |( :إن الله يبعث لهذه األمة على
رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) ،وبقوله |( :يحمل هذا العلم من كل
خلف عدوله ينفون عنه حتريف الغالني وانتحال املبطلني)»(((.
وقال ابن تغري ب��ردي« :اإلم��ام ،العالمة ،احلافظ ،احلجة ،فريد دهره،
ووحيد عصره»(((.
((( «شذرات الذهب» ،البن العماد احلنبلي ،146/8 :وينظر« :العقود الدرية» ،البن عبد
الهادي ،ص.328 :
((( «طبقات احلفاظ» ،للسيوطي ،ص.521 - 520 :
((( «الرد الوافر» ،البن ناصر الدين ،ص.66 :
((( «تاريخ ابن الوردي».277/2 :
132
احلجج منه ،وإليه املنتهى في عزوه إلى الكتب الستة واملسند؛ بحيث تصدق
عليه أن يقالّ :
«كل حديث ال يعرفه ابن تيمية ،فليس بحديث» ،ولكن اإلحاطة
لله غير أنه يغترف فيه من بحر ،وغيره من األئمة يغترفون من السواقي.
ٌ
عجيبة، وأما التفسير فسلم إليه ،وله في استحضار اآليات لالستدالل قو ٌة
املفسرين،
اطالعه بينّ خطأ كثير من أقوال ّ ولفرط إمامته في التفسير وعظمة ّ
وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من األصلني ،أو من
نحوا من أربعة كراريس ،وما يبعد أن تصانيفه
الرد على الفالسفة واألوائل ً -
إلى اآلن تبلغ خمسمائة مجلد»(((.
حظا ،وكادوقال ابن سيد الناس« :كان ابن تيمية ّممن أدرك من العلوم ًّ
السنن واآلثار ً
حفظا ،إن تك ّلم في التفسير فهو حامل رايته ،أو أفتى يستوعب ّ
ٌ
مدرك غايته ،أو ذاكر باحلديث فهو صاحب علمه ،وذو روايته ،أو في الفقه فهو
حاضر بال ّنحل وامللل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ،وال أرفع من درايته ،برز
فن على أبناء جنسه ،ولم تر عني من رآه مثله ،وال رأت عينه مثل نفسه،
في كل ّ
كان يتك ّلم في التفسير ،فيحضر مجلسه ّ
اجلم الغفير»(((.
وقال ابن عبد الهادي« :اإلمام ،الربابي ،إمام األئمة ،ومفتي األمة ،وبحر
العلوم ،سيد احلفاظ ،وفارس املعاني واأللفاظ ،فريد العصر ،وقريع الدهر،
شيخ اإلسالم ،بركة األنام ،وعالمة الزمان ،وترجمان القرآن ،علم الزهاد،
وأوحد العباد ،قامع املبتدعني ،وآخر املجتهدين»(((.
135
-26الصفدية.
-27النبوات.
-28مجموع الفتاوى.
-29التحفة العراقية في األعمال القلبية.
-30مقدمة في علم التفسير.
وأغلب مؤلفات ابن تيمية -بحمد الله -مطبوعة متداولة ،وبعضها ما
زال مخطوط ًا لم يطبع ،وبعضها في عداد املفقود.
محنته:
تعرض لها ابن تيمية محنة من طراز خاص ،حيث النظير تعتبر احملنة التي ّ
لها في تاريخ محن علماء األم��ة؛ ذلك أن حياة ابن تيمية بطولها من أولها
آلخرها كانت عبارة عن محنة مستمرة ،فقد ظل طوال حياته ينتقل من محنة
ألخرى ،ومن ابتالء آلخر ،ومن سجن ملعتقل ،ومن الشام ملصر ،ومن سلطان
جائر لفقيه متعصب ،ومن حاسد حلاقد.
وقد شملت محنته كافة صنوف األذى ،حيث منع من اإلفتاء والتدريس،
وعذب ،وسجن؛ حتى وصل األمر بأهل الباطل وشهر به في كل مكان ،ونفيّ ، ّ
إلى تكفيره ،وحبك املؤامرات والدسائس لتصفيته ،وسفك دمه ،ولكن أنّى لهم
ذلك؟ فإن عني الله حترسه ،ومعيته حتوطه.
تعرض لها؛ حيث قال« :ما يصنعوقد أشار ابن تيمية إلى أبرز احملن التي ّ
أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت :فجنتي معي ال تفارقني،
إنّ حبسي خلوة ،وقتلي شهادة ،وإخراجي من بلدي سياحة»(((.
وفيما يلي نلفت نظر القارئ إلى خطوط عريضة عن محنته:
احملنة األولى :كانت في القاهرة :حيث ّ
مت استجوابه من دمشق إلى القاهرة
وكان ابن تيمية يقرأ كل يوم ثالثة أجزاء ،ويختم في عشرة أيام»(((.
((( ينظر« :األعالم العلية» ،للبزار ،ص 81 :وما بعدها ،و«العقود الدرية» ،البن عبدالهادي،
ص ،523 :وما بعدها ،و«الرد الوافر» ،البن ناصر الدين ،ص.66 :
145
146
( )10ابن قيم اجلوزية
اسمه ونسبه:
الزرعي األصل،
أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريزّ ،
ثم الدمشقي ،احلنبلي ،العالمة الكبير ،املجتهد املطلق ،املصنف املشهور ،وقد
(((
اشتهر بني العلماء املتقدمني واملتأخرين بابن ّقيم اجلوزية ،وسبب شهرته بذلك:
الزرعي كان ّقيما((( على املدرسة اجلوزية بدمشق مدةأن أباه أبا بكر بن أيوب ّ
من الزمن ،فقيل له« :قيم اجلوزية»(((.
واشتهرت به ذريته وحفدته من بعده ،فصار الواحد يدعى منهم بابن قيم
سميت هذه املدرسة باجلوزية نسبة إلى واقفها« :ابن اجلوزي»
اجلوزية .وقد ّ
عبدالرحمن بن علي بن محمد بن علي ابن اجلوزي البكري((( ،وتعتبر هذه
املدرسة من أعظم مدارس احلنابلة بدمشق الشام.
مولده ونشأته:
ولد ابن قيم اجلوزية في سنة إحدى وتسعني وستمائة للهجرة((( ،وحدد
((( ينظر« :ش��ذرات الذهب» ،البن العماد احلنبلي ،287/8 :و«ال��واف��ي بالوفيات»،
للصفدي ،195 /2 :و«البداية والنهاية» ،البن كثير ،270/14 :و«البدر الطالع»،
للشوكاني ،143/2 :و«الدرر الكامنة» ،البن حجر ،137/5 :و«الرد الوافر» ،البن
ناصر الدين الدمشقي ،ص ،68 :و«املقصد األرشد» ،البن مفلح،384/2 :
القيم هو الناظر أو الوصي ،وهو ما يشبه املدير في زمننا.
((( ّ
((( ينظر« :البداية والنهاية» ،البن كثير ،95/14 :و«الدرر الكامنة» ،البن حجر.472/1 :
((( ينظر« :سير أعالم النبالء» ،للذهبي.352/22 :
((( ينظر« :البداية والنهاية» ،البن كثير ،270/14 :و«ذيل طبقات احلنابلة» ،البن رجب:
،171/5و«النجوم ال��زاه��رة» ،الب��ن تغري ب��ردي ،249/10 :و«أع��ي��ان العصر»،
للصفدي ،368/4 :و«البدر الطالع» ،للشوكاني ،143/2 :و«شذرات الذهب» ،البن
العماد احلنبلي ،287/8 :و«الوافي بالوفيات» ،للصفدي ،195/2 :و«الدرر الكامنة»،
147
الصفدي اليوم والشهر الذي ولد فيه ابن قيم اجلوزية ،فقال« :مولده سابع
ّ
صفر ،سنة إحدى وتسعني وستمائة» ،وتابعه على ذلك السيوطي .
((( (((
البن حجر ،137/5 :و«الرد الوافر» ،البن ناصر الدين ،ص ،68 :و«بغية الوعاة»،
للسيوطي.62/1 :
((( «الوافي بالوفيات» ،للصفدي.195/2 :
((( «بغية الوعاة» ،للسيوطي.62/1 :
((( ينظر« :األعالم» ،للزركلي ،56/6 :و«معجم املؤلفني» ،لعمر رضا كحالة.106/9 :
((( «البداية والنهاية» ،البن كثير.126/14 :
((( «الوافي بالوفيات» ،للصفدي.195/2 :
((( ينظر« :شذرات الذهب» ،البن العماد احلنبلي.370/8 :
((( ينظر« :ابن قيم اجلوزية» ،لبكر بن عبد الله أبو زيد ،ص.44 :
148
وقد عرف عن ابن قيم اجلوزية الرغبة الصادقة اجلامحة في طلب العلم،
واجللد وال ّتفاني في البحث منذ نعومة أظفاره؛ فقد سمع من الشّ هاب العابر؛
عدة أجزاء ،ولم يتفق لي قراءة هذا
«وسمعت عليه ّ ّ كما حكى ذلك بنفسه فقال:
الس ّن ،واخترام املنية له»(((.
العلم عليه؛ لصغر ّ
بهمة عالية ،وحرص فريد ،وذكاء
وقد أقبل على حتصيل العلم منذ صغره ّ
حاد ،فحصل علم ًا جم ًا في شتى العلوم النافعة.
ثناء العلماء عليه:
تشربت قلوب العلماء الصادقني مبحبة ابن قيم اجلوزية ،بل لقد كان ّ
«محبوب ًا عند الناس» عموم ًا ،وقد فاحت ألسنة العلماء بالثناء عليه ،وسالت
(((
أقالمهم بتدوين ذلك في كتبهم ،وفي هذه األسطر نقتطف شيئ ًا يسير ًا من أقوال
العلماء في الثناء عليه ،ومن ذلك:
قال ابن رجب« :الفقيه األصولي ،املفسر النحوي ،العارف»(((.
وقال أيض ًا« :تفقّه في املذهب ،وبرع وأفتى ،والزم الشيخ تقي الدين ،وأخذ
عنه ،وتفنن في علوم اإلسالم ،وكان عارف ًا بالتفسير ال يجارى فيه ،وبأصول
الدين ،وإليه فيهما املنتهى ،واحلديث ومعانيه وفقهه ،ودقائق االستنباط منه،
ال يلحق في ذلك ،وبالفقه وأصوله وبالعربية ،وله فيها اليد الطولى ،وتع ّلم
الكالم والنحو ،وغير ذلك ،وكان عامل ًا بعلم السلوك ،وكالم أهل التصوف،
وإشاراتهم ،ودقائقهم؛ له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولى»(((.
وتهجد وطول صالة إلى الغاية القصوى ،وتأ ّله
ّ وقال أيض ًا« :كان ذا عبادة
((( ينظر« :الوافي بالوفيات» ،للصفدي ،196 -195/2 :و«أعيان العصر» ،للصفدي:
.366/4
((( «األعالم» ،للزركلي.56/6 :
((( «ذيل طبقات احلنابلة» ،البن رجب.171/5 :
((( «ذيل طبقات احلنابلة» ،البن رجب.172 - 171/5 :
149
ولهج بالذكر ،وشغف باحملبة واإلنابة واالستغفار واالفتقار إلى الله واالنكسار
له ،واإلطراح بني يديه على عتبة عبوديته ،لم أشاهد مثله في ذلك ،وال رأيت
أوسع منه علم ًا ،وال أعرف مبعاني القرآن ّ
والس ّنة وحقائق اإلميان منه ،وليس هو
باملعصوم ،ولكن لم أر في معناه مثله»(((.
وقال الزركلي« :من أركان اإلصالح اإلسالمي ،وأحد كبار العلماء»(((.
املفسر
ّ وق��ال ابن العماد احلنبلي« :الفقيه احلنبلي ،بل املجتهد املطلق،
حوي األصولي ،املتكلم»(((.
ال ّن ّ
وقال عمر رضا كحالة« :فقيه ،أصولي ،مجتهد ،مفسر ،متكلم ،نحوي،
محدث ،مشارك في غير ذلك»(((.
ّ
وقال القاضي الزرعي« :ما حتت أدمي السماء أوسع علم ًا منه»(((.
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي« :الشيخ اإلمام العالمة شمس الدين ،أحد
احملققني علم املصنفني ،نادرة املفسرين ،له التصانيف األنيقة ،والتآليف التي
فيها علوم الشريعة واحلقيقة»(((.
وقال اآللوسي« :النحوي األصولي املتكلم»(((.
ميال ،قد وقال الصفدي« :وكان ذا ذهن ّ
سيال ،وفكر إلى حل الغوامض ّ
أكب على االشتغال ،وطلب من العلوم كل ما هو نفيس غال ،وناظر وجادل
ّ
((( ينظر« :ش��ذرات الذهب» ،البن العماد ،291 - 289/8 :و«الوافي بالوفيات»،
للصفدي ،196/2 :و«ذيل طبقات احلنابلة» ،البن رجب ،176 - 174/5 :و«البدر
الطالع» ،للشوكاني ،144/2 :و«ال��درر الكامنة» ،البن حجر ،139/5 :و«بغية
الوعاة» ،للسيوطي ،63/1 :و«األعالم» ،للزركلي ،56/6 :و«معجم املؤلفني» ،لعمر
رضال كحالة ،107/9 :و«الرد الوافر» ،البن ناصر الدين ،ص ،68 :و«أعيان العصر»،
للصفدي.369/4 :
153
ّ
واملعطلة. -17الصواعق املرسلة على اجلهمية
-18طريق الهجرتني وباب السعادتني.
-19الطرق احلكمية في السياسة الشرعية.
-20عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين.
-21الفروسية.
-22الفوائد.
-23الكافية الشافية في االنتصار للفرقة الناجية «القصيدة النونية».
-24الكالم على مسألة السماع.
-25مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني.
-26مفتاح دار السعادة ومنشور والية أهل العلم واإلرادة.
-27املنار املنيف في الصحيح والضعيف.
-28هداية احليارى في أجوبة اليهود والنصارى.
-29الوابل الصيب في الكلم الطيب.
وغير ذلك من مؤلفاته البديعة.
وقد أعجبت جميع الطوائف مبؤلفاته ،قال ابن حجر« :وكل تصانيفه
مرغوب فيها بني الطوائف»(((.
وتسابق العلماء وطالب العلم القتناء مؤلفاته ،وتدريسها ،وشرحها،
ومطالعتها ،واالستشهاد مبا تضمنته من علوم ومعارف.
وأغلب مؤلفاته مطبوعة (ولله احلمد) متداولة بني الناس.
محنته:
عاش ابن قيم اجلوزية في عصر زاخر بالعلوم واملعارف ،مليء باخلالف
ولم يكتف احلكام والقضاة آنذاك بضربه ،بل أودعوه السجن مدة من الزمن
بسبب ذلك ،قال الذهبي« :حبس مدة إلنكاره شد الرحال إلى قبر اخلليل»(((.
وهذه هي الفترة التي حبس فيها ابن قيم اجلوزية (مع شيخه ابن تيمية)
في سجن القلعة؛ كما بينّ ذلك ابن عبد الهادي بقوله« :أمر القاضي الشافعي
بحبس جماعة من أصحاب الشيخ بسجن احلكم ،وذلك مبرسوم النائب ،وإذنه
له في فعل ...وأوذي جماعة من أصحابه ،واختفى آخرون ،وعزر جماعة،
ونودي عليهم ثم أطلقوا؛ سوى اإلمام شمس الدين محمد ابن أبي بكر إمام
اجلوزية؛ فإنه حبس بالقلعة ،وسكنت القضية»(((.
وهذه احلادثة ّ
تدل على مدى أهمية ابن قيم اجلوزية ،وعظم تأثيره ،وأيض ًا
((( «السلوك ملعرفة دول امللوك» ،للمقريزي ،89/3 :وينظر« :الدرر الكامنة» ،البن حجر:
.138/5
((( «ذيل طبقات احلنابلة» ،البن رجب ،172/5 :و«املعجم املختص باحملدثني» ،للذهبي،
ص ،269 :و«شذرات الذهب» ،البن العماد احلنبلي.287/8 :
((( «العقود الدرية» ،البن عبد الهادي ،ص ،346 :و«البداية والنهاية» ،البن كثير:
،142/14و«تاريخ ابن الوردي».270/2 :
157
تدل على مدى حقد أهل الباطل عليه وعلى شيخه؛ حيث مت إطالق جميع
السجناء من السجن ،وإبقاء ابن قيم اجلوزية في السجن منفرد ًا(((.
وقد ظل ابن قيم اجلوزية محبوس ًا في سجن القلعة منفرد ًا عن شيخه
ابن تيمية ،ولم يفرج عنه إال بعد وفاة شيخه ابن تيمية((( بشهر؛ ذلك أن ابن
تيمية توفي في محبسه بالقلعة في ليلة االثنني لعشرين مضت من ذي القعدة،
سنة ثمان وعشرين وسبعمائة((( ،وأفرج عن ابن قيم اجلوزية في يوم الثالثاء
لعشرين مضت من ذي احلجة(((.
حرف أهل الباطل فتوى ابن قيم اجلوزية (وشيخه) في شد الرحال وقد ّ
لقبر اخلليل ،وسعوا في تأليب احلكام والقضاة عليه (كما سبق أن ّبينا) ،بل
وحاولوا إثارة الرأي العام ضده ،وافتروا عليه زور ًا وبهتان ًا وظلم ًا وعدوان ًا :أنه
يحرم زيارة القبور مطلق ًا! وحاشاه من ذلك ،بل لقد كان ابن قيم اجلوزية« :ال ّ
مينع الزيارة اخلالية عن شد الرحل ،بل يستحبها ويندب إليها ،وكتبه ومناسكه
تشهد بذلك»(((.
وقد واجه ابن قيم اجلوزية (مع شيخه ابن تيمية) هذه احملنة بشجاعة منقطعة
النظير ،ورباطة جأش فريدة ،وطمأنينة عجيبة ،كما حكى ذلك ابن قيم اجلوزية
حاله وحال شيخه أثناء حبسهما في سجن القلعة ،فيقول« :قال لي مرة :ما يصنع
أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري ،إن رحت فهي معي ال تفارقني،
إن حبسي خلوة ،وقتلي شهادة ،وإخراجي من بلدي سياحة» .وكان يقول في
محبسه في القلعة« :لو بذلت ملء هذه القاعة ذهب ًا ما عدل عندي شكر هذه
النعمة ،أو قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من اخلير» ،ونحو هذا.
((( ينظر« :املكتوبات» ،21 :و«سيرة ذاتية مختصرة لبديع الزمان سعيد النورسي» ،إلحسان
قاسم الصاحلي ،ص ،8 :و«رسائل النور في السجن والقيم التربوية واجلمالية دراسة في
حتليل اخلطاب» ،النور للدراسات احلضارية والفكرية ،السنة التاسعة ،يناير،2018 ،
العدد ،17 :ص.11 :
((( ينظر« :سيرة ذاتية مختصرة» ،إلحسان قاسم الصاحلي ،ص ،8 :و«رسائل النور في
السجن والقيم التربوية واجلمالية دراسة في حتليل اخلطاب» ،النور للدراسات احلضارية
والفكرية ،السنة التاسعة ،يناير ،2018 ،العدد ،17 :ص ،11 :و«إخالص اإلمام بديع
الزمان النورسي ودعوة القرآن» ،لعابد توفيق الهاشمي.
162
وشرع باستظهار القرآن الكرمي ،فكان يحفظ في اليوم مقدار جزأين منه،
حتى إذا بلغ أكثره توقف عن حفظه وانصرف إلى درس معانيه ،لئال ّ
تخل سرعة
احلفظ باحترام القرآن ،وألن احلاجة إلى معرفة حقائقه أولى وأهم.
وقد عرف «النورسي» (وهو في سن الثامنة عشر) بالرماية ،واملصارعة،
وركوب اخليل ،والزهد والتقشف»(((.
ثناء العلماء عليه:
أثنى على «النورسي» كثير من العلماء واألدباء والكتاب ،ومن أقوالهم في
ذلك نذكر ما يلي:
قال أبو احلسن الندوي« :كان مرهف احلس وذكي ًا فطن ًاّ ،
فتفرس اخلطر
احمل��دق ببالده ،وس��اءه ذلك الوضع السائد فيها من فشو اجلهل والبطالة،
ووجود األمية في األوساط الشعبية ،وخمود تلك الشعلة اإلميانية ،والغيرة
فشمر عن ساق الدينية التي كانت متأججة في الشعب التركية من ذي قبلّ ،
اجلد حملو األمية ،ونشر العلوم الدينية ،فعكف على دراسة القرآن دراسة عميقة
ككتاب خالد ...كما كانت له اليد الطولى في العلوم اجلديدة من التاريخ
والفلسفة والرياضيات والفلكيات وغيرها؛ حتى أصبح جامع ًا بني العلوم،
بني العلوم القدمية واجلديدة ،يشار إليه بالبنان ،ويج ّله كبار العلماء في عصره،
وكان متصدي ًا للدرس واإلفادة»(((.
وقال عابد توفيق الهاشمي« :ذكاء وقاد ،وعلم نادر ،وخطيب مصقع،
((( ينظر« :بديع الزمان سعيد النورسي ،نظرة عامة عن حياته وآث��اره» ،إلحسان قاسم
الصاحلي ،و«بديع الزمان النورسي» ،لعبد الله الطنطاوي ،مجلة املنار ،العدد،63 :
شوال 1423هـ ،و«املوسوعة امليسرة في األديان واملذاهب واألحزاب املعاصرة»/1 :
.324
((( النور للدراسات احلضارية والفكرية ،السنة الثانية يناير ،العدد الثالث ،ص،8 :
«النورسي ودعوته» ،ألبي احلسن الندوي.
163
ومفسر للقرآن ،ومؤ ّلف جليل ،ومجاهد شجاع ،وداعية على كل أحواله،
ّ
وسياسي مح ّنك»(((.
وقال عبد احلليم عويس« :إن النورسي ّأكد على ضرورة االلتزام بالرؤيا
اإلسالمية لإلنسان؛ ألنها متوازنة بال إف��راط وال تفريط ،بينما أن املذاهب
اجلماعية والفردية وعبادة العقل واحلرية قادت الغرب إلى الدمار»(((.
وق��ال عظمت الله ال��ن��دوي« :أجنبت (أي األم��ة اإلسالمية) مجددين
ومصلحني بذلوا قصارى جهودهم ونذروا نفوسهم ونفائسهم في سبيل إعالء
كلمة الله وإرشاد البشرية على املستوى اإلقليمي والعاملي ،ومن أبرز هؤالء
املجددين واملصلحني :الداعية الشيخ سعيد النورسي امللقب بـ «بديع الزمان»:؛
ألنه كان من بدائع الزمن ونوادره من حيث توفير استجابة إسالمية للتحديات
الغربية وإيجاد الصحوة اإلسالمية في املجتمع اإلسالمي على أساس الكتاب
وقيض الله هذا الداعية في تركيا حينما كانت تئن هذه والس ّنة النبويةّ .
اإللهي ّ
البالد حتت براثن العلمانية الظاملة واحلضارة الغربية اجلالبة لألضرار اجتماعي ًا
وثقافي ًا واقتصادي ًا ،وكانت الظروف واألوضاع القاسية تدفع تركيا إلى التخ ّلي
عن نور اإلسالم وضياء القرآن باسم احلضارة الغربية باعتبارها حاجة الوقت
ونداء الزمان»(((.
وقال عبد الله الطنطاوي« :الشيخ املجاهد العالم العامل بديع الزمان
النورسي»(((.
وقال أيض ًا« :كان النورسي أمة في رجل ،وربى تالميذه بالقدوة ،وحياته
وقال حسني عاشور« :إن الشيخ بديع الزمان سعيد النورسى -ذلك املصلح
الكبير -من أكثر الناس حرص ًا على التح ّلي مبا أمكن من تلك الشمائل»(((.
مؤلفاته:
خ ّلف النورسي مؤلفات وكتب ًا ورسائل عديدة؛ منها:
-1رسائل النور ،وعددها « »130رسالة ،وقد جمعت حتت عنوان:
«كليات رسائل النور» ،وهي تضم أربع مجموعات أساسية ،هي« :الكلمات،
املكتوبات ،اللمعات ،الشعاعات.»...،
-2اخلطوات الست.
169
رابع ًا :االستجواب واملثول أمام «مصطفى كمال» :والسبب في ذلك :أن
النورسي ملا دعي إلى أنقرة سنة 1922م ،واستقبل في احملطة استقبا ً
ال حاف ً
ال،
الحظ النورسي أن أكثر النواب ال يص ّلون ،وأن مصطفى كمال بدأ يسلك
تضمن عشرالنوابّ ،سلوك ًا معادي ًا لإلسالم؛ فأصدر النورسي بيان ًا وجهه إلى ّ
مواد ،استهل النورسي هذا البيان بقوله« :يا أيها املبعوثون ...إنكم ملبعوثون
ليوم عظيم».
وقد القى هذا البيان استجابة لدى بعض النواب بعد إلقاء البيان عليهم
حيث قام ستون نائب ًا بأداء فريضة الصالة ،والتزموا بالدين ،األمر الذي أغضب
«مصطفى كمال» ،فاستدعى النورسي وقال له« :ال شك أننا في حاجة ماسة
إلى أستاذ قدير مثلك ،ولهذا دعوناك إلى هنا لالستفادة من آرائك السديدة!
ولكن أول عمل قمت به هو احلديث عن الصالة ،لقد كان أول جهودك هنا هو
بث الفرقة بني أهل املجلس»!
فأجابه النورسي مشير ًا إليه بإصبعه في ّ
حدة« :باشا ..باشا :إن أعظم حقيقة
تتج ّلى بعد اإلميان هي :الصالة ،وإن الذي ال يصلي خائن ،وحكم اخلائن
مردود».
عينه
حينها قرر مصطفى كمال إبعاد «النورسي» عن العاصمة ،حيث ّ
واعظ ًا عام ًا للواليات الشرقية ،ولكن «النورسي» رفض الوظيفة والراتب على
الرغم من أن الراتب كان مغري ًا.
تعرض لها النورسي أثناء مرحلة حياته األولى «مرحلة
هذه أبرز احملن التي ّ
سعيد القدمي».
((( وأيض ًا في ذلك اليوم داهمت الشرطة منازل مائة وعشرين من طلبة النور في مختلف
املناطق.
172
نفي إلى «قسطموني» في ربيع سنة (1936م) بعد أن قضى في سجن «أسكي
شهر» مدة سجنه البالغة أحد عشر شهر ًا ،حيث اقتيد النورسي إلى مخفر
الشرطة التي قضى فيه مدة ثالثة أشهر ،ثم نقل بعدها إلى بيت صغير يقع أمام
مخفر الشرطة مباشرة ،حتى يكون حتت املراقبة الدائمة من قبل الشرطة.
رابع ًا :السجن (مرة ثانية) في سجن انفرداي والتحقيق معه :حيث سيق
النورسي من «أنقرة» إلى «أسبارطة» ،ومنها إلى مدينة «دينزلي» حيث أودع في
سجنها تسعة أشهر في زنزانة انفرادية.
شكلتوفي مدينة «دينزلي» -التي أودع النورسي في سجنها ّ -
احلكومة جلنة تدقيق في ماهية رسائل النور ،ولكن النورسي اعترض على
هذه اللجنة لعدم أهليتها في ذلك ،حيث جاء في عريضة اعتراضه على
املكونة« :إن هؤالء اخلبراء -الذين ال خبرة لهم على اإلطالق -غير
اللجنة ّ
مؤهلني لتدقيق رسائل النور ،لذلك فإنني أطالب بتأليف جلنة عليا في أنقرة
فليقدم متخصصون وعلماء من أوروبا ّ تتأ ّلف من أهل العلم .وإذا لزم األمر
لتدقيق هذه الرسائل ،فإذا وجدوا فيها أي عنصر يستوجب العقاب فإنني
أرضى بذلك العقاب».
فاستجابت احلكومة لذلك ،وقامت بتشكيل جلنة أخرى من علماء وخبراء
قاموا بدراسة وتدقيق جميع رسائل النور ،وقد خرجت هذه اللجنة بقرار جاء
فيه« :ليس لبديع الزمان فعالية سياسية كما ال يوجد أي دليل كان على أنه
يؤسس طريقة صوفية أو قائم بإنشاء أية جمعية ،وأن مواضيع كتبه تدور كلها
حول املسائل العلمية واإلميانية وهي تفسير القرآن الكرمي».
ثم جرى بعد هذه احملاكمات واملدافعة أن أصدرت محكمة اجلزاء الكبرى
قرار ًا في 1944/6/15ينص على تبرئة النورسي من جميع ال ّتهم املسندة إليه.
سادس ًا :املداهمة والسجن واحملاكمة(مرة ثانية) :حيث داهم البوليس
بيت النورسي في 23كانون الثاني سنة 1948م (وأيض ًا داهمت بيوت
173
بعض طلبة النور) ثم سيق النورسي إلى سجن مدينة «أفيون» (وسيق أيض ًا
مجموعة من طالبه).
وفي سجن مدينة «أفيون» مت محاكمة النورسي في محكمة «أفيون» وقد
دامت جلسات احملكمة مدة طويلة ،انتهت جلسات هذه احملاكمة بإصدار احملكمة
قرارها في 6كانون األول سنة 1948م ينص على احلكم على سجن النورسي
عشرين شهر ًا ،حيث بقي النورسي في سجن مدينة «أفيون» عشرين شهر ًا.
وفي سجن مدينة «أفيون» عومل النورسي معاملة قاسية -على الرغم من
كبر س ّنه ومرضه وشدة البرد القارس -فقد تركوه وحده في زنزانة كبيرة عارية
تسع ًا ستني وحيد ًا؛ دون مدفأة ،بينما كان الثلج يتراكم على زجاج نافذته.
وعلى الرغم من انتهاء مدة احلكم في سجن مدينة «أفيون» إال أن السلطات
لم تفرج عنه في الوقت املعتاد ،إمنا أطلقوه في ( 20أيلول سنة 1949م) في
الفجر ،حيث خرج من السجن بصحبة شرطيني (وعدد من طالبه) إلى بيت
أعد له(((.
قد ّ
وجهت للنورسي أثناء مراحل حياته األولى والثانية وأما أبرز ال ّتهم التي ّ
وبسبهها تعرضه للمحن املختلفة فيمكن إجمالها في النقاط التالية:
-1العمل على هدم الدولة العلمانية ،والثورة الكمالية.
-2إثارة روح التدين في تركيا.
-3تأليف جمعية سرية.
((( ينظر« :بديع الزمان سعيد النورسي ،نظرة عامة عن حياته وآث��اره» ،إلحسان قاسم
الصاحلي ،و«رسائل النور في السجن والقيم التربوية واجلمالية» ،النور للدراسات
احلضارية والفكرية ،السنة التاسعة ،يناير ،2018 ،العدد ،17 :و«إخالص اإلمام بديع
الزمان النورسي ودعوة القرآن» ،لعابد توفيق الهاشمي ،و«بديع الزمان النورسي» ،لعبد
الله الطنطاوي ،مجلة املنار ،العدد ،63 :شوال 1423هـ ،و«موقع بديع الزمان النورسي
على الشبكة العنكبوتية (اإلنترنت).
174
-4التهجم على مصطفى كمال أتاتورك(((.
تعد في نظر الشرع والقانون حق ًا ،إال أن أعداء
وغير ذلك من ال ّتهم التي ّ
اإلسالم ا ّتخذوها ذرائع واهية لقمع احلق وأهله ،ومنع انتشاره ومحاربة حملته.
تعرض لها النورسي ،إال أنه بفضل وعلى الرغم من كثرة احملن التي ّ
الله انقلبت محنه إلى منح ،ويظهر ذلك جلي ًا من خالل األمور التي واجه بها
النورسي هذه احملن ،ومن أبرزها ما يلي:
أو ًال :الصبر والثبات واالحتساب :فعلى الرغم من طول مدة محنته،
وتعدد صنوف األذى التي مورست ضده (ما بني االعتقال واملداهمات والقيود
ّ
واحملاكمات الكثيرة حتى قيل :الدعاوى التي مت محاكمته من أجلها بلغت
2500دعوى ،فض ً
ال عن السجن االنفرادي والنفي والتضييق واإلقامة اجلبرية)
إال أنه على الرغم من كل ذلك ثبت وصبر واحتسب.
ثاني ًا :الشجاعة واجلرأة :كما ّ
تدل على ذلك مواقفه أمام القضاة واحملاكم
العسكرية وكبار رجال الدولة القمعية آنذاك.
ثالث ًا :الدعوة إلى الله :فقد قام النورسي بالدعوة إلى الله أثناء فترة احملنة،
وقد تاب واهتدى على يديه كثير من املجرمني.
رابع ًا :التفاؤل وعدم اليأس أو التشاؤم :فعلى الرغم سوء املرحلة التي ّ
مر
بها املسلمون في تركيا عامة ،وقسوة احملن التي مر بها النورسي خصوص ًا أثناء
تغلغل العلمانية وسيطرتها على مقاليد األمور العامة واخلاصة في تركيا؛ إال أن
النورسي كان في محنته متفائ ً
ال بنصر الله ،مستشعر ًا أن العاقبة للمتقني ،والله
غالب على أمره ولكن أكثر الناس ال يعلمون.
خامس ًا :استغالل الوقت في نشر العلم وتأليف الكتب والرسائل :فقد أ ّلف
أغلب كتبه ورسائله أثناء محنته وعلى وجه اخلصوص محنته في مرحلة حياته
الثانية ،وهي مرحلة «سعيد اجلديد».
((( للمزيد عن سيرة سعيد الزمان النورسي ينظر« :سيرة ذاتية مختصرة لبديع الزمان سعيد
النورسي» ،إحسان قاسم الصاحلي ،و«الصراع بني الفكرة اإلسالمية والفكرة الغربية في
األقطار اإلسالمية» ،ألبي احلسن الندوي ،و«رسائل النور في السجن والقيم التربوية
واجلمالية» ،النور للدراسات احلضارية والفكرية ،السنة التاسعة ،يناير ،2018 ،العدد:
،17ص ،11 :و«بديع الزمان نظرة عامة عن حياته وآثاره» ،ملصطفى عاشور ،و«جوانب
غير معروفة من حياة سعيد النورسي» ،لنجم الدين شاهني ،و«املوسوعة احلركية» لفتحي
يكن ،و«العلمانية وآثارها على األوضاع اإلسالمية في تركيا» ،لعبد الكرمي مشهداني،
و«بديع الزمان سعيد النورسي ق��راءة جديدة في فكره املستنير» ،جلمال الدين فالح
الكيالني باالشتراك مع زياد حمد الصميدعي ،و«بديع الزمان سعيد النورسي» ،حملمد
بن موسى الشريف.
176
(� )12سيد قطب
اسمه ونسبه:
سيد قطب إبراهيم حسني الشاذلي(((.
أما نسب سيد قطب ،فقد اختلف الكتاب الذين كتبوا عن سيد قطب في
حتديد أصله ،فمنهم ذهب إلى أن أصله مصري.
وذهب كثير من الكتاب إلى أن أصله هندي ،مستندين إلى كالم سيد
قطب نفسه الذي نقله عنه أبو احلسن الندوي أثناء مقابلته له في مصر عام
1951م ،حيث أخبر سيد قطب أبا احلسن الندوي أنه يرغب في زيارة
الهند ،ثم نقل الندوي عن سيد قطب قوله« :وأما الباعث الطبعي فألن جدنا
السادس كان هندي ًا (وهو الفقير عبد الله) ،وال تزال السحنة الهندية موروثة
في أسرتنا»(((.
وقد نفى هذه احلكاية محمد قطب حيث قال :إنها مجرد ظن! حام ً
ال كالم
سيد قطب الذي نقله عنه الندوي أن سيد قطب قاله له على سبيل املجاملة
والدعابة فقط.
وقد مال صالح اخلالدي((( إلى رأي من ذهب من الك ّتاب إلى أن
سيد قطب أصله هندي؛ أخذ ًا بكالم سيد قطب الذي نقله عنه أبواحلسن
حدد اسم اجلد القادم من الهند ،ومن حفظ حجة على من لم
الندوي؛ ألنه ّ
يحفظ(((.
((( ينظر« :سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد» ،لصالح اخلالدي ،ص.15 :
((( ينظر« :مذكرات سائح» ،للندوي ،ص.153 :
((( يعد صالح اخلالدي من أبرز الك ّتاب الذين لهم اعتناء بتراث سيد قطب ،والكتابة عنه،
حيث كتب عنه عدة كتب.
((( ينظر« :سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد» ،لصالح اخلالدي ،ص29 :
177
مولده ونشأته:
ولد سيد قطب (1906/10/9م) في قرية« :موشة»((( ،إحدى قرى
محافظة أسيوط في صعيد مصر .وتسمى بلد (الشيخ عبد الفتاح)؛ ألنه أحد
أوليائها ،وله مقام بارز فيها(((.
وأما نشأة سيد قطب فقد نشأ في قرية« :موشة» منذ طفولته ،في بيت أبيه
الواسع الفسيح اجلميل((( .ولكن هذا البيت لم يستمر ملك ًا للعائلة ،فقد اضطر
والد سيد قطب إلى بيعه حتت ضغط الدين واحلاجة(((.
عبر سيد قطب عن حال أسرته املعيشية ونشأته فيها بقوله« :ليست وقد ّ
عظيمة الثراء ،ولكنها ظاهرة االمتياز ،كانت في وقت من األوق��ات عظيمة
الثراء ،ولكنها توزعت وتضاءلت بامليراث ،وبقي لوالده قدر ال بأس به منها،
ولكنه كان يتناقص دائم ًا.
«كان والده قد صار عميد األسرة املك ّلف بحفظ اسمها ومركزها في الوقت
الذي لم ينله من امليراث إال نصيب محدود ،ال ينهض مبا تنهض به ثروة األسرة
مجتمعة ،على حني لم يستطع أن ينقص شيئ ًا من تكاليف املظهر في الريف»(((.
((( كتبها بعضهم هكذا «موشة» ،وبعضهم كتبها« :موشا» ،ومتتاز هذه القرية مبوقعها
اجلغرافي ،حيث تقع بني جبلني صغيرين يحيطان بها ،وبأراضيها الزراعية ،إضافة إلى
أنها تقع على جانب نهر النيل ،ومير النهر من أراضيها الزراعية ،وبها العديد من البساتني
التي تزرع فيها مختلف أنواع اخلضار والفواكه ،وكانت تلك البساتني أكبر من عدد
األيدي العاملة فيها [ينظر :طفل من القرية ،ص.]182 :
((( ينظر« :طفل من القرية» ،ص ،86 :و«سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد» ،لصالح
اخلالدي ،ص.15 :
((( ينظر« :طفل من القرية» ،ص.205 - 204 :
((( ينظر« :األطياف األربعة» ،ص.85 :
((( «طفل من القرية» ،ص.21 :
178
لوالدي سيد قطب األثر البالغ في نشأته على اإلميان واألخالق
ّ وقد كان
الفاضلة منذ صغره ،فقد كانت عالقة والد سيد قطب بالله قوية متينة ،وأيض ًا
كان محافظ ًا على الصالة ،مؤدي ًا لها -في الغالب -في املسجد ،وكان كثير ًا
ما يصطحب طفله «سيد» معه إلى املسجد ،وملا كبر سيد وناهز العاشرة صار
يذهب للمسجد لوحده ،ويحرص على أداء الصالة جماعة فيه(((.
عبر سيد قطب عن عظيم دور والده في حسن تربيته له منذ الصغر في وقد ّ
في وأنا
صفحة إهداء كتابه« :مشاهد القيامة» له حيث قال سيد« :لقد طبعت ّ
طفل صغير مخافة اليوم اآلخر ،ولم تعظني أو تزجرني ،ولكنك كنت تعيش
أمامي ،واليوم اآلخر ذكراه في ضميرك وعلى لسانك ..وإن صورتك املطبوعة
وتتوجه بها
ّ في مخيلتي ونحن نفرغ كل مساء من طعام العشاء ،فتقرأ الفاحتة
إلى روح أبيك في الدار اآلخرة ،ونحن أطفالك الصغار نتمتم مثلك بآيات منها
متفرقات قبل أن جنيد حفظها كامالت»(((.
وأيض ًا كان لوالدة سيد قطب األثر العظيم في نشأته على اإلميان واألخالق
عبر سيد قطب عن ذلك في صفحة إهدائه كتابه: الفاضلة منذ صغره ،وقد ّ
تسمعت من وراء «الشيش» في «التصوير الفني» لها حيث قال سيد« :لطاملا ّ
القرية ،للقراء يرتلون في دارنا القرآن ،طوال شهر رمضان .وأنا معك -أحاول
أن ألغو كاألطفال -فتردني منك إشارة حازمة ،وهمسة حاسمة؛ فأنصت معك
إلى الترتيل ،وتشرب نفسي موسيقاه .وإن لم أفهم بعد معناه.
وحينما نشأت بني يديك بعثت بي إلى املدرسة األولية في القرية ،وأولى
علي ،فأحفظ القرآن؛ وأن يرزقني الصوت الرخيم ،فأرتله
أمانيك أن يفتح الله ّ
لك كل آن .ثم عدلت بي عن هذا الطريق في النهاية إلى الطريق اجلديد الذي
أسلكه اآلن؛ بعد ما حتقق لك شطر من أمانيك ،فحفظت القرآن!
((( ينظر« :طفل من القرية» ،ص ،149 :و«سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد» ،لصالح
اخلالدي ،ص.64 :
((( ينظر« :سيد قطب الشهيد احلي» ،لصالح اخلالدي ،ص.130 :
((( ينظر« :سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد» ،لصالح اخلالدي ،ص.73 :
182
فحسب ،بل إنها خسارة فادحة للدعوة اإلسالمية والعلم واألدب ،والدراسة
والبحث والنقد ،ومأساة علمية ضخمة ،إن سيد قطب من أولئك األفذاذ الذين
يسعد بهم العالم اإلسالمي ،وهو في الطراز األول من صفوة الدعاة ورجال
الفكر واألدب الذين حتظى بهم األمم بعد فترات طويلة».
أتخيل سيد قطب إال مقارع ًا محارب ًا ،ولم أعرفه وقال علي الطنطاوي« :لم ّ
إال مجاد ً
ال مناض ً
ال ،يهاجم مهاجم ًا ،ومدافع ًا محايد ًا»(((.
وقال علي الطنطاوي معلق ًا على كتاب« :التصوير الفني في القرآن»ٌ :
«فتح
والله جديد ،وسيد قطب وقع على كنز من كنوز القرآن ،كأنّ الله ادخره له ،فلم
يعط مفتاحه ألحد قبله ،حتى جاء هو ففتحه».
وقال عبد الله بن جبرين« :إن سيد قطب من علماء املسلمني ،ومن أهل
الدعوة ،وقد نفع الله به ،وهدى بدعوته خلق ًا كثير ًا ،وله جهود ال تنكر ،وألجل
ذلك شفع الشيخ عبد العزيز بن باز في سيد قطب عندما قرر عليه القتلّ ،
وتلطف
في الشفاعة فلم يقبل شفاعته الرئيس جمال -عليه من الله ما يستحق -وملا
قتل (يقصد سيد قطب) أطلق عليه :أنه شهيد؛ ألنه قتل ظلم ًا ،وشهد بذلك
اخلاص والعام ،ونشر ذلك في الصحف والكتب بدون إنكار ،ثم تلقى العلماء
كتبه ،ونفع الله به ،ولم يطعن أحد فيه منذ أكثر من عشرين عام ًا».
وق��ال عبد الله ع��زام« :واحل��ق أنني ما تأثرت بكاتب كتب في الفكر
علي أن
اإلسالمي أكثر مما تأثرت بسيد قطب ،وإني ألشعر بفضل الله العظيم ّ
وجهني سيد قطب شرح صدري ،وفتح قلبي لدراسة كتب سيد قطب ،فقد ّ
فكري ًا ،وابن تيمية عقدي ًا ،وابن القيم روحي ًا ،والنووي فقهي ًا؛ فهؤالء أكثر أربعة
أثروا في حياتي أثر ًا عميق ًا.
لقد كان الستشهاد سيد قطب أثر في إيقاظ العالم اإلسالمي أكثر من
((( الرسالة السنة العاشرة ،السنة الثالثة عشرة ،املجلد الثاني ،عدد ،648 :ديسمبر 1945
م ،ص.1313 :
183
حياته ،ففي السنة التي استشهد فيها يطبع الظالل سبع طبعات ،بينما لم تتم
الطبعة الثانية أثناء حياته ..ولقد مضى سيد قطب إلى ربه رافع الرأس ،ناصع
اجلبني ،عالي الهامة ،وترك التراث الضخم من الفكر اإلسالمي الذي تتوارثه
ال ،ووض��ح معانيوض��ح معاني غابت عن األذه��ان طوي ً األجيال ،بعد أن ّ
ومصطلحات :الطاغوت ،اجلاهلية ،احلاكمية ،العبودية ،واأللوهية ،ووضح
ّ
والتوكل على الله ،واخلشية املشرفة معاني البراء والوالء ،والتوحيد،
ّ بوقفته
منه ،وااللتجاء إليه».
وقال محمد قطب (شقيق سيد قطب)« :ليس في كتابات سيد قطب ما
والس ّنة».
يخالف الكتاب ّ
وقال عمر التلمساني« :الذين يعرفون الشهيد سيد قطب ،ودماثة خلقه،
وجم أدب��ه ،وتواضعه ،ور ّق��ة مشاعره ،يعرفون أنه ال يك ّفر أح��د ًا ،إنه داعية
إسالمي ،من عيون دعاة املسلمني! ظلمه من أخذ كالمه على غير مقاصده،
ومن هاجموه متجنني ،ملا رأوا من عميق تأثير كلماته وكتاباته على الشباب
الطاهر النظيف».
وقال عمر التلمساني أيض ًا عن مؤلفات سيد قطب وفكره« :الشهيد سيد
قطب له مؤلفات عدة وجيدة على مستوى رفيع ،منها« :في ظالل القرآن»،
و«العدالة االجتماعية في اإلسالم» ،و«معالم في الطريق» ،ومتتاز هذه املؤلفات
بالنقمة على الظلم في كل مظاهره ،واحلرص على رفع املعاناة عن كل الطبقات،
ح��رم ،وما وأن تسود مصر احلرية ،التي ليس لها حدود إال فيما ّ
أحل الله و ّ
تواضعت عليه األمم الراقية ذات احلريات الواسعة»(((.
وقال حسن الهضيبي عن كتاب« :معالم في الطريق»« :قد حصر أملي
كله في سيد قطب ،فقد قرأته وأعدت قراءته ،وإن سيد قطب هو األمل املرجتى
للدعوة اآلن -إن شاء الله.»-
185
فاستهداف سيد قطب لم يكن استهداف ًا مجرد ًا لشخصه ،فهو ليس الوحيد
من العلماء الذين وجدت له العثرات ،فعنده أخطاء ال ننكرها ،ولكن الطعن فيه
ليس إلسقاطه هو بذاته ،فقد قدم إلى ربه ،ونسأل الله له الشهادة ،ولكن الذي ال
زال يقلق أعداءه وأتباعهم هو منهجه الذي يخشون أن ينتشر بني أبناء املسلمني.
وإني إذ أسمع الطعن في سيد قطب ألستغرب ذلك؛ لقوله الله تعالى:
{ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ}.
(((
فكل من معه نور من النبوة أيض ًا له أعداء من أهل الباطل بقدر ما معه من
ميراث نبينا محمد عليه الصالة والسالم ،فما يضير سيد ًا طعن الطاعنني ،بل هو
رفعة له وزيادة في حسناته ،ولكن الذي يثير االستغراب هو فعل أولئك األقوام
يدعون اتباع احلق ومع ذلك ينقصون امليزان وال يزنون بالقسطاس الذين ّ
املستقيم ،والله يقول:
{ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ
(((
ﯣﯤﯥ}
فأولئك إذا أرادوا مدح أحد عليه من املآخذ ما يفوق سيد ًا بأضعاف قالوا
كلمتهم املشهورة« :تغمس أخطاؤه في بحر حسناته» ،وقالوا« :إذا بلغ املاء
قلتني لم يحمل اخلبث» ،وغير ذلك ،وإذا أرادوا ذم آخر كسيد قطب الذي يعد
مجدد ًا في باب «إن احلكم إال لله» سلكوا معه طريق اخلوارج وك ّفروه باملعاصي
والزالت.
ندعي له العصمة من اخلطأ ،بل نقول إن له أخطاء وسيد قطب ال ّ
ليس هذا مجال تفصيلها ،ولكنها ال تخل بأصل دعوته ومنهجه ،كما أن
عند غيره من األخطاء التي لم تقدح في منزلتهم ،وعلى سبيل املثال ابن
حجر والنووي وابن اجلوزي وابن حزام ،فهؤالء لهم أخطاء في العقيدة إال
((( ينظر« :سيد قطب الشهيد احلي» ،لصالح اخلالدي ،ص ،315 :و«سيد قطب من امليالد
إلى االستشهاد» ،لصالح اخلالدي ،ص.521 :
189
-20دراسات إسالمية.
-21هذا الدين.
-22املستقبل لهذا الدين.
-23خصائص التصور اإلسالمي.
-24اإلسالم ومشكالت احلضارة.
-25معالم في الطريق.
-26مقومات التصور اإلسالمي.
وقد حاول البعض منع تراث سيد قطب ومؤلفاته ،ولكن أنى لهم ذلك؟
عمد تراثه بدمه ،وهو الذي قال عن قوة الكلمة وحياتها
فإن سيد قطب قد ّ
وحيويتها« :ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب اآلخرين فتحركها ،وجتمعها،
وتدفعها ..إنها الكلمات التي تقطر دماء؛ ألنها تقتات قلب إنسان حي.
كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان ...إن أصحاب األقالم يستطيعون
أن يصنعوا شيئ ًا كثير ًا ،ولكن بشرط واحد :أن ميوتوا لتعيش أفكارهم ،أن
ويقدموا
يطعموا أفكارهم من حلومهم ودمائهم ،أن يقولوا ما يعتقدون أنه حقّ ،
دماءهم فداء لكلمة احلق .إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثث ًا هامدة ،حتى إذا متنا
حية ،وعاشت بني األحياء»(((.في سبيلها أو غذيناها بالدماء ،انتفضت ّ
محنته:
امتحن سيد قطب أكثر من مرة ،وشملت محنته كافة صنوف احملنة؛ محنة
التخويف والترهيب ،والسجن والتعذيب ،واملساومة واإلغ��راء ،واحملاكمة
الهزلية ،ثم اإلعدام شنق ًا.
مرت محنة سيد قطب مبرحلتني:
وقد ّ
ولعل هذا أول اعتقال لسيد قطب ،وأول دخول له السجن أيض ًا(((.
وقد أعقب هذا االعتقال والسجن مظاهرات واحتجاجات حاشدة؛ مت
على إثرها رضوخ عبد الناصر ملطالبهم واإلفراج عن سيد قطب ومن معه من
املعتقلني.
ثم اعتقل سيد قطب مرة ثانية في نهاية أكتوبر 1954م عقب حادث املنشية؛
((( ينظر البيان في كتاب« :اإلخوان املسلمون» ،حملمود عبد احلليم.267 -259/3 :
((( «سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد» ،لصالح اخلالدي ،ص.346 :
191
حيث أذيع في الساعة الثامنة من مساء 1954/10/26م :أن عبدالناصر قد جنا
من محاولة اغتيال ،وهو يخطب في دار هيئة التحرير في املنشية باإلسكندرية.
(املدبرة) قامت احلكومة باعتقال سيد قطب ،وأيض ًا
ّ وعقب هذه احلادثة
والزج بهم في السجون.
ّ ألقت القبض على اآلالف من اإلخوان،
عبر سيد قطب عن هذه احملنة بقوله« :ثم كانت حوادث 1954م وقد ّ
فاعتقلت مع من اعتقلوا في يناير ،وأفرج عنهم في مارس ،ثم اعتقلت بعد
ذلك في حادث املنشية في 26أكتوبر كذلك»(((.
وقد بقي سيد قطب في السجن بعد هذا االعتقال مدة شهر بدون حتقيق
شكلت من ضباط أو محاكمة ،ثم بدأ التحقيق معه من قبل محكمة عسكرية ّ
سميت« :محكمة الثورة»؛ حيث صب على سيد قطب صنوف األذى اجليشّ ،
من التعذيب واالضطهاد (وأيض ًا على من معه من املعتقلني في السجن) ،حتى
إنه أدى ذلك إلى مضاعفة أمراضه التي في بدنه ،وإصابته بأمراض أخرى(((.
شدة التعذيب الرهيب الذي مورس عليه (ومن عبر سيد قطب عن ّ وقد ّ
معه) أثناء إحضاره من السجن إلى قاعة احملكمة في إحدى املرات كشاهد على
محاكمة حسن الهضيبي -مؤسس اجلماعة آنذاك -حيث جرى بني سيد قطب
وبني رئيس احملكمة جمال سالم احلوار التالي:
قال جمال سالم :يبدو عليك التعب يا أستاذ سيد ،فهل أنت تعبان؟
فرد عليه سيد قطب :نعم؛ ألني كنت واقف ًا على قدمي ست ساعات ،قبل
دخولي احملكمة!
فقال جمال سالم :وماذا يعني هذا؟ كلنا نقف مدد ًا طويلة؟!
((( ينظر« :مجلة املجتمع» ،العدد ،539ص ،27 :و«مذابح اإلخوان» ،جلابر رزق ،ص:
113
((( ينظر« :سيد قطب» ،ليوسف العظمة ،ص39 :
193
وملا سمع سيد قطب احلكم بسجنه خمسة عشر عام ًا اعترض عليه مستهزئ ًا:
إنه مدة قليلة! فأين حكم اإلعدام؟!»(((.
وقد حكى سيد قطب في تقريره عن مرضه قبل احملاكمة من أنه كان في
السجن احلربي متهيد ًا حملاكمته ،فلما مرض نقل إلى مستشفى سجن «طرة»،
خف مرضه أعيد إلى السجن احلربي للمحاكمة أمام جمال سالم حيث وملا ّ
علي
ال ،ولم يصدر ّ يقول سيد قطب« :في ذلك الوقت أنا كنت في طرة معتق ً
متزق في الرئتني ونزيف حاد ،اقتضى نقلي من حكم بعد ،ولم أحاكم بسبب ّ
السجن احلربي في 15يناير 1955م إلى مصحة ليمان طرة للعالج ...وفي
حتسنت نوع ًا ما ،وتقرر إعادتي إلى السجن احلربي إبريل كانت حالتي قد ّ
لتقدميي للمحاكمة»(((.
ثم نقل سيد بعد احلكم باألشغال الشاقة خمسة عشر عام ًا إلى ليمان أو
سجن طرة((( لقضاء مدة احلكم.
متكن سيد قطب من حل لغز املنشية -بعد تأمل وتفكير- وفي سجن طرة ّ
حيث يقول سيد قطب« :وأحب أن أقرر هنا :أنه ثبت أن احلادث كان مدبر ًا ،وأن
للمخابرات األمريكية يد ًا في هذا احلادث وتدبيره ،وأن لعبدالناصر وخاصة
رجاله يد ًا مباشرة في هذا احلادث ،وأن الذي أطلق الرصاص ليس محمد عبد
اللطيف ،بل أحد ضباط الشرطة بترتيب من رجال عبد الناصر ،وأن املقصود من
كل هذا البطش باإلخوان املسلمني ،وضربهم والقضاء على دعوتهم .وأن هناك
اتفاق بني عبدالناصر واملخابرات األمريكية على ضرب اإلخوان ،وعلى جتميد
صرح بذلك السفير األمريكي حالة احلرب بينه وبني إسرائيل لعشر سنوات -كما ّ
في السعودية للسفير السوري في السعودية وقتها :عمر بهاء الدين األميري»(((.
((( ينظر« :سراديب الشيطان» ،ألحمد رائف (الفصول من السادس حتى العاشر).
((( ينظر« :ملاذا أعدموني» ،ص.27 :
((( «ملاذا أعدموني» ،ص.37 :
195
«كان قد بلغ الستني من عمره ..ومصاب بالذبحة الصدرية ...باإلضافة إلى
أمراض الكلى ...وأمراض املعدة ...ولم تشفع له س ّنه ..ولم يشفع له مرضه...
بل استغلوا هذه األم��راض جميع ًا في نوع التعذيب الذي ّ
تعرض له ...لقد
ربطوه في كرسي ملدة أربعة أيام ...حرموه فيها من الطعام والشراب ،وحرموه
حتى من املاء ...وكانوا يسكبون املاء أمامه ،ومعروف أن مريض الكلى يحتاج
إلى كميات كبيرة من املاء ...ولقد وصل األمر بالشهيد سيد قطب أنه أوشك
أنه يفقد بصره.(((»...
الثانية :محنة سيد قطب((( في (1965/8/9م 1966/8/29 -م) :وقد
بدأت هذه املرحلة من محنة سيد قطب باعتقاله ليلة اإلثنني (1965/8/9م)
حيث داهمت املباحث منزل سيد قطب في رأس البر قبل الفجر ،وألقت
القبض عليه ،وساقته إلى السجن احلربي ،حيث بقي فيه في التعذيب والتحقيق
واحملاكمة إلى أن مت إعدامه بعد سنة من هذا االعتقال(((.
وفي هذه املرة من احملنة حبس سيد قطب في زنزانة انفرادية في السجن
احلربي ،ومنع من اخلروج منها طيلة مائة وثالثني يوم ًا .وقد قام بالتحقيق مع
سيد في هذه املرة صالح نصار ،حيث استمر التحقيق مع سيد عدة ساعات
خالل ثالثة أيام متوالية بدأت يوم األحد واإلثنني ،والثالثاء(((.
((( من امللهيات املبكيات في احملاكمة هذه :أن رئيس نيابة أمن الدولة «صالح نصار»
ومعه وكالء النيابة كانوا يلقبون سيد قطب بألقاب السخرية واالستهزاء؛ مثل« :القطب
األغر» ،و«القطب الالمع» و«زعيم اإلجرام» [ينظر« :البوابة السوداء» ،ألحمد رائف،
ص .]222 :وأيضا عينت احملكمة احملامي «أحمد مختار قطب» للدفاع عن سيد قطب،
وهو عميل قدمي من عمالء املخابرات ،وليس قريب ًا لسيد قطب كما قد يظنه البعض
[ينظر« :ملاذا أعدم سيد قطب؟» ،ص.]28 :
((( ينظر« :الشهيد سيد قطب» ،ليوسف العظمة ،ص.59 :
((( ينظر« :الشهيد سيد قطب» ،ليوسف العظمة :ص.59 :
197
وقد أذاعت منظمة العفو الدولية بيان ًا للصحف والرأي العام ،وكان مما
جاء فيه« :متسك املتهمون بوقوع تعذيب عليهم ،النتزاع االعتراف منهم ،وقد
وجه هذه االتهام إلى سلطات التحقيق ،من جانب سيد قطب -وهو املتهم ّ
الرئيس في القضية احلالية -ولكن رئيس احملكمة بادر فور ًا إلى إسكات املتهم،
رافض ًا أن يسمع منه األدلة على هذه املسألة ،معلن ًا بأن املتهمني يكذبون»(((.
ومضت أربعة أشهر بعد انتهاء محاكمة سيد قطب كان فيها ينتظر احلكم
عليه باإلعدام؛ كما يروي ذلك إبراهيم املصري في مجلة الشهاب اللبنانية قائ ً
ال:
«وهنا البد من كشف النقاب عن حديث استكتمه سيد قطب أحد إخوانه قبل
اعتقاله بأسابيع كان احلديث يدور حول اليهودية ،وخطرها على العالم أجمع،
وعلى املسلمني خاصة .يقول سيد :لقد وقفت على مدى تغلغل األصابع
اليهودية وخطرها ،بعد بحث وطول عناء ،واليهود إذا علموا أنني أحيط بذلك
فالبد أن أقتل»(((.
وأيض ًا يدل معرفة سيد قطب بأنهم سيعدمونه مقابلة أجراها معه أحمد
رائف في السجن ،ومما جرى في املقابلة قول أحمد رائف لسيد قطب :ماذا
تنتظر؟ فأجاب سيد قطب بابتسامة واثقة نابعة من صدر هادئ مطمئن« :أنتظر
الوفود على ربي»(((.
وبعد أربعة أشهر من محاكمة «سيد قطب» (ومن معه) نطق فؤاد الدجوي
باألحكام التي أصدرها عبد الناصر على سيد قطب (ومن معه) ،حيث كان
سيد قطب أول احملكومني عليهم باإلعدام ،وقد روى محمود الديري إسماع
سيد للحكم وإعدامه ،ومما جاء في روايته قوله« :نادوا على األستاذ سيد...
وأخذوه إلى احلجرة املجاورة حيث نطقوا باحلكم عليه ..فرأينا املهندس الذي
يسجل األحكام بيكي! ..فعرفنا أن احلكم هو :اإلعدام.
((( ينظر البيان في «ملاذا أعدم سيد قطب وإخوانه» ،ص.41 - 35 :
((( «مجلة الشهاب» ،السنة اخلامسة ،العدد احلادي عشر ،أيلول 1971م.
((( «البوابة السوداء» ،ص.223 :
198
ويضيف ممدوح الديري« :لقد سمعت أن الشهيد عندما سمع احلكم
قال :احلمد لله»((( أي بعد سماع سيد قطب للنطق بحكم اإلع��دام عليه
(ومن معه).
وقد حاول الطغاة مساومة سيد قطب قبل إعدامه ليتخلى عن احلق
ال��ذي يحمله ،ويدين الله به ،حيث طلبوا منه كتابة رسالة اعتذار إلى
عبدالناصر مقابل خروجه من السجن ،وإلغاء حكم اإلعدام عليه ،وتوليه
ال ضخمة ،وقد استمرت هذه املساومات مناصب قيادية كبيرة ،ومنحه أموا ً
حتى الليلة األخيرة من حياة سيد قطب ،وقد استخدم الطغاة أخت سيد
قطب «حميدة» لتضغط عليه ليستجيب لهم؛ كما ذكرت تلك املساومات
حميدة قطب ،وقد حاولت حميدة قطب مع أخيها ذلك ،ولكن سيد قطب
أبى كل ذلك(((.
وقد أثارت محاكمة الدجوي -الظاملة لسيد قطب وتعذيب اجلالدين
له -املراقبني لألحداث ،ومعظمهم الذ بالصمت إيثار ًا للسالمة ،وكان ممن
أثارتهم هذه احملاكمة كمال الدين حسني (النائب السابق لعبدالناصر) حيث
بعث برسالة لعبد الناصر ،وصورة منها ملدير املباحث عبداحلكيم عامر ،ولكن
عبد الناصر واجه هذه الرسلة باعتقال كمال الدين حسني(((.
وأيض ًا القت هذه احملاكمة استنكار كثير من الشعوب العربية واإلسالمية،
وخرجت بعض املظاهرات واالحتجاجات املنددة واملستهجنة لهذا احلكم.
وأيض ًا بعث امللك فيصل برسالة إلى عبد الناصر يطلب منه عدم إعدام
أصر على قراره السيئ(((.
سيد قطب ،ولكن عبد الناصر ّ
((( ينظر« :مجلة املجتمع» ،العدد ،539ص ،27 :و«مذابح اإلخوان» ،جلابر رزق،
ص.113 :
((( ينظر نص حوار سيد مع القاضي الدجوي في احملكمة ،في كتاب «املوتى يتكلمون»،
ص.282 - 160 :
((( ينظر« :سيد قطب» ،لعادل حمودة ،ص.131 :
201
-5خصائص التصور اإلسالمي
-6مقومات التصور اإلسالمي.
-7معالم في الطريق((( (ولعله هو الكتاب ال��ذي حوكم سيد قطب
من أجله ،ويعد هذا الكتاب أكثر كتبه تداو ً
ال وانتشار ًا في األوساط الدعوية
والفكرية).
والتدبر في كتاب الله :حيث عاشّ ّ
والتفكر رابع ًا :اخللوة مع الله ،والتأ ّمل
عبر عن ذلك في مقدمة سيد قطب في سجنه نعمة احلياة في ظالل القرآن؛ كما ّ
كتابه« :في ظالل القرآن»« :احلياة في ظالل القرآن نعمة .نعمة ال يعرفها إلاّ من
ذاقها .نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
علي باحلياة في ظالل القرآن فترة من الزمان ،ذقت
من ّواحلمد لله ..لقد ّ
فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي .ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر
وتباركه وتزكيه»(((.
والعزة :حيث قابل سيد قطب األذى والتعذيب
ّ خامس ًا :الصبر واالحتساب
وعزة واحتساب(((.
الذي مورس ضده بإميان وصبر وثبات ّ
سادس ًا :الرضا والسعادة مبا ق ّ��دم (في سبيل احلق والوقوف مع أهله،
ومقارعة الباطل وأهله) ،وأيض ًا رضاه وسعادته مبا سيقدم عليه (وهو املوت)
كما يدل على ذلك عدة أمور:
-1رسالتان بعث بهما سيد قطب أثناء فترة انتظاره لإلعدام إلى صديقه
السعودي أحمد عبدالغفور عطار(((.
205
206
( )13الألباين
اسمه ونسبه:
أبوعبدالرحمن محمد بن نوح بن جناتي بن آدم األشقودري ،األلباني،
األرن��اؤوط��ي ،الشهير بـ«محمد ناصر الدين األلباني» ،اإلم���ام ،العالمة،
���دث((( .وأم��ا نسبه ،فيعود نسبه إلى «أش��ق��ودرة» عاصمة ألبانيا يومئذ.
احمل ّ
مكونات
واشتهر بـ«األلباني» نسبة إلى ألبانيا .وأما «األرناؤوطي» فنسبة إلى ّ
يتكون منهم :األلبانيون ،والبشناق ،وغيرهم ،و«أرناؤوط»
سكان ألبانيا ،حيث ّ
نظيرها قولنا« :العرب» ،حيث يتكون منهم :بنو متيم ،وبنو عدي .
(((
مولده ونشأته:
ولد األلباني في مدينة أشقودرة عاصمة ألبانيا يومئذ ،عام 1332هـ -
1914م(((.
متدينة يغلب عليها ّ
الطابع ّ وأما نشأة األلباني فقد نشأ في أسرة فقيرة
الشرعية في
ّ تخرج والده احلاج نوح جناتي األلباني من املعاهد
العلمي ،فقد ّ
العاصمة العثمانية -األستانة -قدمي ًا التي تعرف اليوم باسطنبول ،ورجع إلى
الدين وتعليم الناس ما درسه وتلقّاه(((.
بالده خلدمة ّ
((( ينظر« :حياة األلباني» ،حملمد الشيباني ،44/1 :و«أح��داث مثيرة» ،حملمد صالح
املنجد ،ص ،8 :و«ترجمة موجزة» لعاصم القريوتي ،ص.4 - 3 :
((( «اإلمام األلباني» ،حملمد بيومي ،ص ،14 :وينظر« :اإلمام األلباني دروس ومواقف»،
لعبد العزيز السدحان ،ص ،272 :و«أحداث مثيرة».
208
وقد حت ّ��دث األلباني عن هجرة أسرته إلى الشام وفضل وال��ده عليه؛
حيث يقول« :جنيت -بفضل الله ورحمته -بسبب هجرته هذه إلى دمشق
لربي بواجب شكره ،ولو عشت عمر نوح -عليه الشّ ام ما ال أستطيع أن أقوم ّ
العربية السورية أولاً ّ ،
ثم اللغة العربية ّ الصالة والسالم -فقد تع ّلمت فيها اللغة
الصحيح الذي يجهله مكنني أن أعرف التوحيد ّ الفصحى ثاني ًا ،األمر الذي ّ
ال منهم،ال عن أهلي وقومي -إلاّ قلي ً أكثر العرب الذين كانوا من حولي -فض ً
ثم وفقني الله -بفضله وكرمه دون توجيه من أحد منهم -إلى دراسة احلديث ّ
ً
والس ّنة أصوال وفقه ًا ،بعد أن درست على والدي وغيره من املشايخ شيئ ًا من ّ
التخرج
ّ الفقه احلنفي ،وما يعرف بعلوم اآللة؛ كال ّنحو والصرف والبالغة ،بعد
من مدرسة اإلسعاف اخليرية االبتدائية»(((.
حتول األلباني من دراسة علم الفقه على املذهب احلنفي (الذي تلقّاه
ثم ّ
عن والده وعلى يد غيره من علماء املذهب احلنفي) إلى دراسة علم احلديث
وهو ابن عشرين سنة.
والسبب في نقطة حتوله -بعد مشيئة الله وفضله -حادثة عجيبة ملخصها:
أن األلباني في صغره كان يبحث لدى أحد باعة الكتب عن كتاب «ألف ليلة
وليلة ،و«عنترة بن شداد» فلفت نظره «مجلة املنار» لرشيد رضا ،وكان عمر
األلباني وقتئذ سبع عشرة سنة ،فأخذ األلباني «مجلة املنار» وفتحها ،فوجد
ال حملمد رشيد يتكلم فيه عن مزايا فيها مقاالت كثيرة ،وفيها قرأ األلباني فص ً
كتاب اإلحياء للغزالي ،وينقده من بعض النواحي كالصوفيات ،واألحاديث
الواهية ،وذكر أن ألبي الفضل زين الدين العراقي كتاب ًا وضعه على اإلحياء
وميز صحيحها من ضعيفها ،اسمه« :املغنى عن خرج فيه أحاديث اإلحياءّ ، ّ
حمل األسفار (الكتب) في األسفار (جمع سفر وهي الرحلة) في تخريج
فتلهف األلباني لكتاب العراقي األصلي (ولعل ما في اإلحياء من األخبار»ّ ،
هذا شيء قذفه الله في قلبه ،ال تستطيع أن تقول إنه أتى بتوجيه بشر إطالق ًا)
((( ينظر« :الروض الداني» ،لعصام هادي ،ص ،.8 ،7 :و«أحداث مثيرة» ،حملمد صالح
املنجد.
210
وجهني منذ أول شبابي إلى تع ّلم
علي أن ّ
بقوله« :من توفيق الله تعالى وفضله ّ
الس ّنة ،فقد أعطيت
هذه املهنة ،ذلك أنها حرة ال تتعارض مع جهودي في علم ّ
لها من وقتي ثالث ساعات زمنية فقط ،ماعدا الثالثاء واجلمعة ،وهذا القدر
ميكنني من احلصول على القوت الضروري لي ولعيالي وأطفالي على طريقة
الكفاف (طبع ًا) فإن من دعائه عليه الصالة والسالم« :اللهم اجعل رزق آل
محمد قوت ًا»(((.
ثم ملا احتاج األلباني إلى مزيد من الكتب ميم وجهه شطر املكتبة الظاهرية
التي كانت خزانة للمخطوطات والكتب ،ومستودع ًا عظيم ًا جد ًا لها ،وفيها
كان ميكث للقراءة ثمان ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة.
وكان يفتح دكانه أحيان ًا يومني فقط في األسبوع لكسب العيش ،والباقي
في املكتبة الظاهرية(((.
ثم استمر األلباني في مرحلته العلمية والعملية والدعوية حتى نفع الله به
أمة اإلسالم ،حيث صار يضرب به املثل في علم احلديث.
ثناء العلماء عليه:
أثنى على األلباني علماء ميثّلون هيئات رسمية حكومية ،ومجامع علمية،
وجامعات إسالمية ،ومؤسسات شرعية ،وأيض ًا أثنى عليه علماء ودعاة وأدباء
وشعراء مبسمياتهم اخلاصة.
وأقوال العلماء في الثناء عليه كثيرة جد ًا ،نذكر منها ما يلي:
-1وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بدولة الكويت :حيث جاء في
بيانها« :وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بدولة الكويت مع إميانها بقضاء الله
محدث العصر ،إمام العلماء،وقدره حتتسب عند الله تعالى العالمة املوهوب ّ
((( «حياة األلباني» ،حملمد الشيباني ،543/2 :و«الروض الداني» ،لعصام هادي ،ص:
.8
((( «حياة األلباني» ،حملمد الشيباني.543/2 :
((( «حياة األلباني» ،حملمد الشيباني.543/2 :
((( شريط «مكاملات هاتفية مع مشايخ الدعوة السلفية» ،رقم - 4 :إصدار :مجالس الهدى
لإلنتاج والتوزيع -اجلزائر ،وكان ذلك بتاريخ2000/6/12 :م.
((( «الردود» ،ص.344 :
214
احملدثني وإمامهم في العصر الراهن»(((.
ّ من أعالم الدعوة إلى الله ،وشيخ
ومحدث مشهور وله عنايةّ -16عبد احملسن العباد حيث قال« :عالم كبير
الس ّنة ،وفي العناية بحديث رسول الله | ،وبيان مصادر عظيمة في خدمة ّ
تلك األحاديث والكتب التي ذكرتها وبيان درجاتها من الصحة والضعف...
للس ّنة مشهورة ،وال يستغني طلبة العلم عن الرجوع فجهوده عظيمة ،وخدمته ّ
إلى كتبه ،وإلى مؤلفاته؛ فإنّ فيها اخلير الكثير وفيها العلم الغزير»(((.
-17محمد إبراهيم شقرة (رئيس املسجد األقصى) حيث قال« :لو أن
الس ّنة وأعالم احلديث واألثر اجتمعت ،فصيغ
شهادات أهل العصر في شيوخ ّ
منها شهادة واحدة ،أو جمعت في ضفث واحد ،ثم وضعت على منضدة تاريخ
العلماء ،فأني أحسب أن تكون شهادة صادقة في علم احلديث األوحد ،أستاذ
العلماء ،وشيخ الفقهاء ،ورأس املجتهدين في هذا الزمان ،الشيخ محمد ناصر
الدين األلباني أكرمه الله في الدارين»(((.
-18محمد األمني الشنقيطي ،حيث يقول عبد العزيز الهده« :كان الشيخ
العالمة البحر محمد األمني الشنقيطي -رحمه الله -الذي ما علم مثله في
يجل الشيخ األلباني إجال ً
ال غريب ًا ،حتى إذا رآه عصره في علم التفسير واللغة ّ
مار ًا وهو في درسه في احلرم املدني يقطع درسه قائم ًا ومس ّلم ًا عليه إجال ً
ال
له»(((.
-19حمود بن عبدالله التويجري حيث قال« :األلباني –اآلن -علم على
الس ّنة».
الس ّنة ،الطعن فيه إعانة على الطعن في ّ
ّ
-20حمدي عبد املجيد السلفي حيث ق��ال« :ف��ي احلقيقة إن مصيبة
مؤلّفاته:
أث��رى األلباني املكتبة اإلسالمية مبؤلفاته النافعة ،وحتقيقاته الرائعة،
وتعليقاته املاتعة (وبعض مؤلفاته وحتقيقاته وتعليقاته ما تزال مخطوطة لم تطبع
بعد) ،ومما طبع منها نذكر ما يلي:
218
ثالث ًا :التخريجات (املطبوعة):
-1صحيح اجلامع الصغير وزيادته.
-2ضعيف اجلامع الصغير وزيادته..
البينات في عدم سماع األموات عند احلنفية السادات حملمود
-3اآليات ّ
اآللوسي.
-4غاية املرام في تخريج أحاديث كتاب احلالل واحلرام.
-5حقيقة الصيام البن تيمية.
-6شرح العقيدة الطحاوية ألبي جعفر الطحاوي.
-7املرأة املسلمة للشيخ حسن البنا.
-8تخريج أحاديث مشكلة الفقر وكيف عاجلها اإلسالم للقرضاوي.
-9ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة اجلديدة القومية البرهان حملمود
اآللوسي.
-10تخريج اإلميان ألبي عبيد القاسم بن سالم.
-11تخريج كتاب الرد على اجلهمية للدارمي.
-12تخريج كلمة اإلخالص وحتقيق معناها البن رجب احلنبلي.
-13تخريج كتاب إصالح املساجد من البدع والعوائد جلمال الدين
القاسمي.
-14إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل البن ضويان.
الس ّنة ألبي عاصم الضحاك.
الس ّنة ومعه ظالل اجلنة في تخريج ّ
-15كتاب ّ
-16تخريج كتاب املصطلحات األربعة في القرآن.
-17تخريج اإلميان البن أبي شيبة.
-18حجاب املرأة املسلمة ولباسها في الصالة لشيخ اإلسالم ابن تيمية.
-19تخريج فضائل الشام للربعي.
219
رابع ًا :اختصار ومراجعة وتعليق (مطبوعة):
-1صحيح ابن خزمية لألعظمي.
-2مختصر كتاب العلو للعلي العظيم للذهبي.
-3مختصر الشمائل احملمدية للترمذي.
-4التعليقات على صفة الفتوى واملفتي واملستفتي البن حمدان.
-5التعليق على كتاب الباعث احلثيث شرح اختصار علوم احلديث
البن كثير.
-6مختصر شرح العقيدة الطحاوية.
محنته:
ملا ذاع صيت األلباني وانتشر بني اخلاصة والعامة إنكاره للمنكرات،
وبيانه للبدع واملخالفات الشرعية؛ وخاصة الشركيات والبدع املتع ّلقة بالقبور؛
احملذرة من ذلك؛ كحديث« :لعن ّ والس ّنة
ال على ذلك بنصوص الكتاب ّ مستد ً
الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(((« ،أال فال تتخذوا القبور
مساجد ،إني أنهاكم عن ذلك»(((.
بل أ ّل��ف في ذلك كتاب« :حتذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد»،
وترك الصالة في املسجد األموي؛ ألن فيه قبر ًا؛ فثار عليه أهل األهواء والبدع
والضالالت من الصوفية والطرقية والقبورية ،وغيرهم من اخلارجني عن منهاج
السلف؛ حيث عملوا على تأجيج عامة الناس ضده ،وسعوا في الوشاية عليه
إلى السلطات السورية؛ حتى أنه صار في أوائل 1960م حتت مرصد احلكومة
والزج به في
ّ السورية (مع أنه كان بعيد ًا عن السياسة) ،وكانت نتيجة ذلك اعتقاله
((( من تسجيل «ترجمة األلباني» ألبي إسحاق احلويني ،وينظر« :اإلمام األلباني» ،حملمد
بيومي ،ص.39 - ٣٨ :
222
تعرض ألصناف ولم تقتصر محنة األلباني على السجن فحسب ،بل ّ
من األذى كالسب والشتم ،والتهديد بالنفي واإلخ��راج ،واالستجواب من
قبل السلطات ،كما حكى ذلك األلباني بقوله« :إنّ جماع ًة من املشايخ -ومن
السلفيةّ -
نظموا عريض ًة يزعمون فيها أنّي أقوم بينهم من كان يتو ّقع منهم نصرة ّ
تشوش على املسلمني! وجعلوا يجمعون لها توقيعات الناس! وهابية ّ بدعوة ّ
ثم رفعوها إلى مفتي الشام ،فأحالها بدوره إلى مدير الشرطة الذي استدعاني ّ
ثم انتهى املوضوع إلى غير شيء» .
(((
وناقشني في األمرّ ،
وقد واجه األلباني هذه احملنة بأمور عدة ،وهي:
أو ًال :الصبر والثبات واالحتساب والرضا بالقدر :فقد كان دائم ًا يردد
مقولة يوسف -عليه السالم -التي حكاها القرآن في قوله تعالى:
(((
{ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ}
حتى أن األلباني قال عن نفسه« :ما أحسست الغربة بالسجن إطالق ًا»(((.
ثاني ًا :العلم والعمل والدعوة إلى الله :حيث قام األلباني أثناء فترة سجنه
والس ّنة ،ونبذ البدع ،وإحياء السنن،
بتعليم املساجني ،ودعوتهم إلى الكتاب ّ
واحملافظة على الفرائض ،وقد استجاب له عامة السجناء؛ حيث أقام األلباني
في السجن صالة اجلماعة واجلمعة في سجن القلعة ،حتى قيل :إن صالة
اجلمعة لم تقم في هذا السجن منذ أقامها ابن تيمية أثناء فترة سجنه فيه إال ملا
دخله األلباني(((.
((( «مختصر صحيح البخاري»/1 :د ،وينظر« :حياة األلباني» ،حملمد الشيباني.774/2 :
((( ينظر« :أحداث مثيرة» ،حملمد صالح املنجد ،ص ،46 :و«صفحات بيضاء» ،لعطية
عودة ،ص« ،100 :اإلمام األلباني» ،لعبد العزيز السدحان ،ص ،292 :و«حصول
التهاني» ،جلمال عزون.23/1 :
224
وصلى عليه قرابة خمسة آالف ،وهذا عدد كبير جد ًا إذا ما قورن بسرعة
جتهيزه ،تنفيذ ًا لوصيته بذلك.
ودف��ن األلباني في أق��رب مقبرة لبيته تنفيذا Wلوصيته ،حيث أوصى
األلباني قبل موته مبا يلي« :أوصي زوجتي وأوالدي وأصدقائي وكل محب لي
علي نياحة ً
إذا بلغه وفاتي :أن يدعو لي باملغفرة والرحمة -أوال -وأال يبكون ّ
أو بصوت مرتفع.
وثاني ًا :أن يعجلوا بدفني ،وال يخبروا من أقاربي وإخواني إال بقدر ما
يحصل منهم واجب جتهيزي ،وأن يتولى غسلي (عزت خضر أبوعبدالله)
جاري وصديقي املخلص ،ومن يختاره -هو -إلعانته على ذلك.
وثالث ًا :أختار الدفن في أقرب مكان ،لكي ال يضطر من يحمل جنازتي إلى
وضعها في السيارة ،وبالتالي يركب املشيعون سياراتهم ،وأن يكون القبر في
مقبره قدمية يغلب على الظن أنها سوف ال تنبش...
وعلى من كان في البلد الذي أموت فيه أال يخبروا من كان خارجها من
ال عن غيرهم -إال بعد تشييعي ،حتى ال تتغ ّلب العواطف، أوالدي -فض ً
وتعمل عملها ،فيكون ذلك سبب ًا لتأخير جنازتي.
أخرت..
قدمت وما ّ سائ ً
ال املولى أن ألقاه وقد غفر لي ذنوبي ما ّ
وأوص��ي مبكتبتي -كلها -س��واء ما كان منها مطبوع ًا ،أو تصوير ًا ،أو
مخطوط ًا -بخطي أو بخط غيري -ملكتبة اجلامعة اإلسالمية في املدينة املنورة؛
والس ّنة ،وعلى منهج السلف ألن لي فيها ذكريات حسنة في الدعوة للكتاب ّ
الصالح -يوم كنت مدرس ًا فيها.-
رحم الله األلباني ،ورفع درجته ،وجزاه الله خير ما جزى عامل ًا عن ّأمته.
225
226
الفهرس
الصفحة املوضوع
5 اإلهداء .......................................................
7 املقدمة ........................................................
13 ( )1مالك بنأنس ..............................................
13 اسمه ونسبه ..................................................
13 مولده ونشأته .................................................
16 ثناء العلماء عليه ..............................................
19 مؤلفاته .......................................................
20 محنته ........................................................
25 وفاته .........................................................
27 ( )2أحمد بن حنبل ............................................
27 اسمه ونسبه ..................................................
28 مولده ونشأته .................................................
29 ثناء العلماء عليه ..............................................
32 مؤلفاته .......................................................
34 محنته ........................................................
42 وفاته .........................................................
45 ( )3البويطي ..................................................
45 اسمه ونسبه ..................................................
45 مولده ونشأته .................................................
46 ثناء العلماء عليه ..............................................
50 مؤلفاته .......................................................
227
50 محنته ........................................................
57 وفاته .........................................................
59 ( )4أحمد بن نصر اخلزاعي .....................................
59 اسمه ونسبه ..................................................
60 مولده ونشأته .................................................
61 ثناء العلماء عليه ..............................................
62 محنته ........................................................
73 وفاته .........................................................
75 ( )5القاضي عياض............................................
75 اسمه ونسبه ..................................................
75 مولده ونشأته .................................................
77 ثناء العلماء عليه ..............................................
82 مؤلفاته .......................................................
83 محنته ........................................................
86 وفاته .........................................................
89 ( )6أبوبكرالرملي(املعروفبابنالنابلسي)......................
89 اسمه ونسبه ..................................................
89 مولده ونشأته .................................................
90 ثناء العلماء عليه ..............................................
92 مؤلفاته .......................................................
92 محنته ........................................................
102 وفاته .........................................................
103 ( )7السرخي ................................................
228
103 اسمه ونسبه ..................................................
103 مولده ونشأته .................................................
104 ثناء العلماء عليه ..............................................
105 مؤلفاته .......................................................
106 محنته ........................................................
112 وفاته .........................................................
113 ( )8العز بن عبدالسالم .....................................
113 اسمه ونسبه ..................................................
113 مولده ونشأته .................................................
114 ثناء العلماء عليه ..............................................
117 مؤلفاته .......................................................
118 محنته ........................................................
126 وفاته .........................................................
127 ( )9ابن تيمية ..................................................
127 اسمه ونسبه ..................................................
127 مولده ونشأته .................................................
129 ثناء العلماء عليه ..............................................
134 مؤلفاته .......................................................
136 محنته ........................................................
143 وفاته .........................................................
147 ( )10ابن قيم اجلوزية ..........................................
147 اسمه ونسبه ..................................................
229
147 مولده ونشأته .................................................
149 ثناء العلماء عليه ..............................................
152 مؤلفاته .......................................................
154 محنته ........................................................
159 وفاته .........................................................
161 ( )11النورسي ................................................
161 اسمه ونسبه ..................................................
162 مولده ونشأته .................................................
163 ثناء العلماء عليه ..............................................
166 مؤلفاته .......................................................
167 محنته ........................................................
176 وفاته .........................................................
177 ( )12سيد قطب ...............................................
177 اسمه ونسبه ..................................................
178 مولده ونشأته .................................................
182 ثناء العلماء عليه ..............................................
188 مؤلفاته .......................................................
190 محنته ........................................................
204 وفاته .........................................................
207 ( )13األلباني .................................................
207 اسمه ونسبه ..................................................
207 مولده ونشأته .................................................
211 ثناء العلماء عليه ..............................................
230
216 مؤلفاته .......................................................
220 محنته ........................................................
224 وفاته .........................................................
231
@
232