You are on page 1of 232

‫علماء‬

‫صدعوا بالحق‬
‫ّ‬
‫وعذبوا وقتلوا‬ ‫فسجنوا‬
‫ُ‬

‫‪1‬‬
#
2
‫علماء‬
‫صدعوا بالحق‬
‫فسجنوا ّ‬
‫وعذبوا وقتلوا‬ ‫ُ‬

‫تأليف‬
‫د‪ .‬مشاري سعيد املطرفي‬

‫‪3‬‬
‫حقوق الطبع محفوظة‬
‫‪١٤٤٠‬هـ ‪٢٠١٩ -‬م‬

‫‪4‬‬
‫�إهداء‬
‫إل��ى العلماء وال��دع��اة واملصلحني واملفكرين الذين‬
‫حملوا هم اإلسالم وهم أمة اإلسالم ‪..‬‬
‫إل��ى ال��رج��ال ال��ذي��ن ص��دق��وا م��اع��اه��دوا ال�ل��ه عليه‬
‫فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتضر وما بدلوا‬
‫تبديال‪..‬‬
‫إلى الرجال الذين صدعوا باحلق فسجنوا وعذبوا‬
‫وقتلوا ‪..‬‬

‫‪5‬‬
6
‫املقدمة‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫احلمد لله رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني‪،‬‬
‫سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬‫ّ‬
‫فقد أنزل الله الكتب‪ ،‬وأرسل الرسل باحلق‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ}(((‪.‬‬
‫وأمرهم ببيان احلق‪ ،‬واجلهر به وإعالنه‪ ،‬حيث قال تعالى مخاطب ًا خامت‬
‫أنبيائه ورسله (وهو خطاب له | وألمته من بعده)‪:‬‬
‫{ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ}(((‪.‬‬
‫فامتثل | أمر ربه‪ ،‬وقام مبا أوجب الله عليه من الصدع باحلق واجلهر‬
‫به في وجوه املشركني والقى | في سبيل ذلك من صنوف األذية واحملنة ما‬
‫يفوق اخليال‪ ،‬وما ال يخطر على بال‪.‬‬
‫وقد سبقه | ‪ -‬في بيان احلق والصدع به في وجه الباطل ‪ -‬األنبياء‬
‫أذى كثير ًا‪.‬‬
‫والرسل السابقون‪ ،‬والقوا من أهل الباطل ً‬
‫مبين ًا حال األنبياء والرسل‪« :‬الطريق تعب فيه آدم‪ ،‬وناح‬
‫قال ابن القيم ّ‬
‫نوح‪ ،‬ورمي في النار اخلليل‪ ،‬واضطجع للذبح إسماعيل‪ ،‬وبيع يوسف‬ ‫ألجله ٌ‬
‫بثمن بخس‪ ،‬ولبث في السجن بضع سنني‪ ،‬ونشر باملنشار زكريا‪ ،‬وذبح السيد‬
‫الض ّر أيوب‪ ،‬وزاد على املقدار بكاء داود‪ ،‬وسار مع‬
‫احلصور يحيى‪ ،‬وقاسى ّ‬
‫الوحش عيسى‪ ،‬وعالج الفقر وأنواع األذى محمد»(((‪.‬‬

‫((( سورة البقرة‪ ،‬آية‪.213 :‬‬


‫(((سورة احلجر‪ ،‬آية‪.94 :‬‬
‫((( «الفوائد»‪ ،‬البن القيم‪ ،‬ص‪.42 :‬‬
‫‪7‬‬
‫وعلى منهج األنبياء سار أتباعهم‪ ،‬وفي مقدمة أتباع األنبياء أصحاب النبي‬
‫|‪ ،‬ثم من أتى بعدهم من العلماء الصادقني الذين اختارهم الله واصطفاهم‬
‫وكرمهم بحمل احلق‪ ،‬والصدع به‪ ،‬والثبات عليه؛ حتى غادروا الدنيا إلى اآلخرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد القى العلماء الصادقون في سبيل الصدع باحلق والثبات عليه بعض ًا‬
‫مما القاه األنبياء والرسل في سبيل ذلك‪.‬‬
‫وقد قام العلماء بحمل احلق والصدع به ّبر ًا منهم بالعهد وامليثاق الذي‬
‫أخذه الله عليهم في قوله تعالى‪:‬‬
‫{ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ‬
‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ}(((‪.‬‬
‫وحرص ًا منهم على نيل مرضاة الله‪ ،‬والبعد عن غضبه وسخطه في قوله‪:‬‬
‫{ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬
‫ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ}(((‪.‬‬
‫ال منهم ألمر الله ورسوله | في قوله | في إحدى خطبه‪« :‬أال ال‬ ‫وامتثا ً‬
‫اليقرب‬
‫ّ‬ ‫مينعن رج ً‬
‫ال هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه»(((‪ ،‬وزاد أحمد‪« :‬فإنه‬
‫بحق أو ّ‬
‫يذكر بعظيم»(((‪.‬‬ ‫من أجل‪ ،‬وال يباعد من رزق أن يقال ّ‬
‫«إن من أعظم اجلهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»(((‪ ،‬وفي‬
‫وفي قوله |‪ّ :‬‬
‫رواية‪« :‬أفضل اجلهاد»‪.‬‬
‫واملراد بـ «الكلمة» ما أفاد أمر ًا مبعروف أو نهي ًا عن منكر؛ من لفظ‪ ،‬أو ما في‬

‫((( سورة آل عمران‪ ،‬آية‪.187 :‬‬


‫((( سورة البقرة‪ ،‬آية‪.160 ،159 :‬‬
‫((( رواه الترمذي وأحمد‪.‬‬
‫((( رواه أحمد وصحح إسناده األلباني‪.‬‬
‫((( رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه‪ ،‬وصححه لأللباني‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫معناه ككتابة‪ ،‬ونحوها(((‪.‬‬
‫و«إمنا صار ذلك أفضل اجلهاد؛ ألن من جاهد العدو كان متردد ًا بني الرجاء‬
‫واخلوف ال يدري هل يغلب أو يغلب‪ ،‬وصاحب السلطان مقهور في يده‪ ،‬فهو‬
‫تعرض للتلف وأهدف نفسه للهالك‪ ،‬فصار‬ ‫إذا قال احلق وأمره باملعروف فقد ّ‬
‫ذلك أفضل أنواع اجلهاد من أجل غلبة اخلوف»(((‪.‬‬
‫تعرض هؤالء العلماء الربانيون ‪-‬الذين اليخشون في الله‬
‫لذلك‪ ،‬فقد ّ‬
‫لومة الئم‪ -‬لالبتالء بالظلم والسجن والتعذيب والقتل‪ ،‬بسبب صدعهم باحلق‬
‫والثبات عليه‪.‬‬
‫واالبتالء من سنن الله الكونية‪ ،‬فيكون البالء على املخلوقني اختبار ًا لهم‬
‫ومتحيص ًا لذنوبهم‪ ،‬ورفعة لهم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰄ ﰅ ﰆ}‬
‫(((‬

‫أحب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وجل إذا‬ ‫وإن ال ّله ّ‬
‫عز‬ ‫«إن عظم اجلزاء مع عظم البالء‪ّ ،‬‬
‫وقال |‪ّ :‬‬
‫(((‬
‫السخط»‬ ‫الرضا‪ ،‬ومن سخط فله ّ‬
‫قو ًما ابتالهم‪ ،‬فمن رضي فله ّ‬
‫وأكثر الناس بالء هم األنبياء والعلماء والصاحلون‪ ،‬فيبتلى اإلنسان على‬
‫حسب دينه‪.‬‬
‫‪ ‬عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول ال ّله‪ّ ,‬‬
‫أي‬
‫الرجل على حسب‬ ‫ثم األمثل فاألمثل‪ ,‬فيبتلى ّ‬
‫بالء؟ قال‪« :‬األنبياء‪ّ ,‬‬
‫أشد ً‬‫ال ّناس ّ‬
‫اشتد بالؤه‪ ,‬وإن كان في دينه ر ّق ٌة ابتلي على حسب‬
‫صلبا ّ‬ ‫دينه‪ ,‬فإن كان دينه ً‬
‫ٌ (((‬
‫دينه‪ ,‬فما يبرح البالء بالعبد ح ّتى يتركه ميشي على األرض ما عليه خطيئة»‪.‬‬

‫((( ينظر‪ :‬حتفة األحوذي‪ ،‬للمباركفوري‪.24/6 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬معالم السنن»‪ ،‬للخطابي‪.324/4 :‬‬
‫((( سورة األنبياء‪ ،‬آية ‪.35‬‬
‫وحسنه األلباني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫((( رواه الترمذي‬
‫((( صححه األلباني في السلسلة الصحيحة (‪.)143‬‬
‫‪9‬‬
‫وعن أبي سعيد احلدري رضي الله عنه قال‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬من أشد‬
‫الناس بالء؟ قال‪« :‬األنبياء» قلت‪ :‬ثم من؟ قال‪« :‬العلماء» قلت‪ :‬ثم من؟ قال‪:‬‬
‫«ثم الصاحلون‪ ،‬كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إال العباءة يلبسها‪ ،‬ويبتلى‬
‫(((‬
‫بالقمل حتى تقتله‪ ،‬وألحدهم كان أشد فرح ًا بالبالء من أحدكم بالعطاء»‪ .‬‬
‫وبالء العلماء فيه رفعة لهم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ومتحيص ًا لهم‪ ،‬وال ّ‬
‫ميكن‬
‫العالم حتى يبتلى‪.‬‬
‫‪« ‬سأل رجل الشافعي فقال‪ :‬يا أبا عبد الله‪ ،‬أميا أفضل للرجل أن ّ‬
‫ميكن‬
‫ميكن حتى يبتلى‪ ،‬فإن الله ابتلى نوح ًا وإبراهيم‬ ‫أو يبتلى؟ فقال الشافعي‪ :‬ال ّ‬
‫وموسى وعيسى ومحمد ًا صلوات الله وسالمه عليهم أجمعني‪ ،‬فلما صبروا‬
‫مكنهم‪ ،‬فال يظن أحد أن يخلص من األلم ألبتة»‪ .‬‬‫ّ‬
‫وقال الواقدي عن اإلمام مالك بعد ما ضرب وجلد‪« :‬فوالله ما زال مالك‬
‫بعد في رفعة وعلو»‪.‬‬
‫وقال الذهبي مع ّلق ًا‪« :‬هذا والله ثمرة احملنة احملمودة‪ ،‬أنها ترفع العبد عند‬
‫املؤمنني»(((‪.‬‬
‫وقال ابن القيم‪« :‬وإذا ّ‬
‫تأملت حكمته ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فيما ابتلى به عباده‬
‫وصفوته مبا ساقهم به إلى ّ‬
‫أجل الغايات‪ ،‬وأكمل النهايات التي لم يكونوا‬
‫يعبرون إليها إال على جسر من االبتالء واالمتحان‪ ...‬وكان ذلك االبتالء‬
‫واالمتحان عني الكرامة في حقّهم‪ ،‬فصورته صورة ابتالء وامتحان‪ ،‬وباطنه‬
‫فيه الرحمة والنعمة‪ ،‬فكم لله من نعمة جسيمة وم ّنة عظيمة جتنى من قطوف‬
‫(((‬
‫االبتالء واالمتحان»‪.‬‬
‫وهذا كتاب بعنوان‪« :‬علماء صدعوا باحلق فسجنوا ّ‬
‫وعذبوا وقتلوا»‪ ،‬ذكرت‬

‫((( رواه احلاكم في املستدرك‪.‬‬


‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.)81 -80/8( :‬‬
‫((( «مفتاح دار السعادة» (‪.)301–299/1‬‬
‫‪10‬‬
‫فيه قصص علماء ربانيني اليخشون في الله لومة الئم‪ ،‬صدعوا باحلق‪ ،‬ابتغاء ما‬
‫فتعرضوا للظلم واالبتالء بالسجن والتعذيب والقتل‪ ،‬فصبروا وثبتوا‬ ‫عند الله‪ّ ،‬‬
‫على احلق‪ ،‬فزادهم الله رفعة في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وقد ر ّتبت مباحث هذ الكتاب حسب التاريخ الزمني لوفيات العلماء‬
‫الذين صدعوا باحلق‪.‬‬
‫أسأل الله بأسمائه احلسنى‪ ،‬وصفاته العال‪ ،‬قبول هذا العمل‪ ،‬وأن يجعله‬
‫خالص ًا لوجهه الكرمي‪ ،‬وأن يكتب له القبول‪ ،‬وينفع به املسلمني‪.‬‬
‫د‪ .‬مشاري سعيد املطرفي‬
‫الكويت ‪ -‬مدينة سعد العبدالله‬
‫للتواصل واتساب‪0096566783716 :‬‬

‫‪11‬‬
12
‫(‪ )1‬مالك بن �أن�س‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫مالك بن أن��س بن مالك بن أب��ي عامر (نافع) بن عمرو بن احل��ارث‪،‬‬
‫األصبحي‪ ،‬املدني‪.‬‬
‫إمام دار الهجرة‪ ،‬ومن أبرز سادات أتباع التابعني‪ ،‬وأحد أصحاب املذاهب‬
‫الفقهية املعروفة‪ ،‬وإليه تنسب املالكية‪.‬‬
‫وأم���ه‪ :‬العالية بنت شريك ب��ن عبد الرحمن ب��ن شريك القحطانية‬ ‫ّ‬
‫األزدية ‪.‬‬
‫(((‬
‫ّ‬
‫ويرجع نسب مالك بن أنس إلى قبيلة (ذي أصبح) بن حمير‪ ،‬وهي إحدى‬
‫القبائل اليمنية؛ كما ذكرت ذلك بعض املصادر واملعاجم املتخصصة في تاريخ‬
‫اليمن(((‪ ،‬وعلى وجه التحديد إلى عزلة األصابح باحلجرية(((‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫ولد اإلم��ام مالك بن أنس في خالفة سليمان بن عبد امللك في املدينة‬

‫((( ينظر‪« :‬منازل األئمة األرب��ع��ة»‪ ،‬ألبي زكريا األزدي‪ ،‬ص‪ ،183 :‬و«تهذيب األسماء‬
‫واللغات»‪ ،‬للنووي‪ ،75/2 :‬و«التحفة اللطيفة»‪ ،‬للسخاوي‪ ،399/2 :‬و«االنتقاء في‬
‫فضائل الثالثة األئمة الفقهاء»‪ ،‬للقرطبي‪ ،‬ص‪ ،10 :‬و«ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪:‬‬
‫‪ ،107/1‬و«املنتظم»‪ ،‬البن اجل��وزي‪ ،42/9 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪،48/8 :‬‬
‫و«النجوم الزاهرة»‪ ،‬البن تغري بردي‪ ،96/2 :‬و«األعالم»‪ ،‬للزركلي‪257/5 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬اإلكليل»‪ ،‬للهمداني‪ ،203/2 :‬و«طبقات اخلواص»‪ ،‬للزبيدي‪ ،‬ص‪،10 :‬‬
‫و«معجم املدن والقبائل اليمنية»‪ ،‬للمقحفي‪ ،‬ص‪ ،26 ،25 :‬و«العبر في خبر من غبر»‪،‬‬
‫للذهبي‪.210/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬اإلكليل»‪ ،‬للهمداني‪ ،162/2 :‬و«معجم املدن والقبائل اليمنية»‪ ،‬للمقحفي‪،‬‬
‫ص‪ ،26 :‬و«منازل األئمة األربعة»‪ ،‬ألبي زكريا األزدي‪ ،‬ص‪ ،183 :‬و«السلوك في‬
‫طبقات العلماء وامللوك»‪ ،‬ألبي عبد الله اجلندي‪ ،141/1 :‬و«الديباج املذهب»‪،‬‬
‫البن فرحون‪ ،‬ص‪17 :‬‬
‫‪13‬‬
‫املنورة‪ ،‬في منطقة (ذي املروة)‪ ،‬وكان ينزل أو ً‬
‫ال بالعقيق‪ ،‬ثم نزل باملدينة(((‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ولكن األص��ح‪ :‬أنّ��ه ولد سنة ثالث‬
‫ّ‬ ‫وقد اختلف املؤرخون في مولده‪،‬‬
‫وتسعني من الهجرة‪ ،‬عام موت أنس خادم رسول الله |(((‪.‬‬
‫وأما نشأته فقد نشأ اإلمام مالك في املدينة النبوية‪ ،‬في دار الهجرة‪ ،‬ومعدن‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫ويبدو أن اإلمام مالك كان يشتغل في صغره بالتجارة مع أخيه النضر‬
‫حتمل نفقات البيت‪ ،‬قال ابن بكير‪« :‬كان أخوه النضر يبيع البز‬ ‫ليساعده في ّ‬
‫وكان مالك معه بزاز ًا‪ ،‬ثم طلب العلم»(((‪.‬‬
‫وجتمل((( في كنف أسرة حريصة‬ ‫وقد نشأ اإلمام مالك في صون ورفاهية ّ‬
‫على العلم والفقه واألثر‪ ،‬فقد كان ألسرته األثر البالغ في حسن تربيته‪ ،‬وعلى‬
‫وجه اخلصوص أمه‪ ،‬فقد وجهته أمه إلى ك ّتاب بني تيم فحفظ القرآن‪.‬‬
‫ثم بعد أن حفظ القرآن حثّته أمه على تع ّلم األدب قبل العلم‪ ،‬فقد كانت‬
‫توصيه بالذهاب إلى (ربيعة ال��رأي) ليتع ّلم من أدبه قبل علمه‪ ،‬قال اإلمام‬
‫مالك‪« :‬كانت أمي تعممني‪ ،‬وتقول لي‪ :‬اذهب إلى ربيعة فتع ّلم من أدبه قبل‬
‫علمه»(((‪.‬‬
‫وملا رغب في العلم أخبر أمه‪ ،‬فقالت‪« :‬تعال فالبس ثياب العلم» كما يقول‬
‫مشمرة‪ ،‬ووضعت الطويلة على رأسي‪ ،‬وعممتني فوقها‪،‬‬ ‫مالك‪« :‬فألبستني ثياب ًا ّ‬

‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.124/1 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،124 ،118/1 :‬و«تذكرة احل ّفاظ»‪ ،‬للذهبي‪:‬‬
‫‪ ،157/1‬و«التاريخ األوسط»‪ ،‬للبخاري‪ ،151/2 :‬و«الهداية»‪ ،‬ألبي نصر الكالباذي‪:‬‬
‫‪.694/2‬‬
‫((( ينظر‪« :‬ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.124/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.49/8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،130/1 :‬و«الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪،‬‬
‫ص‪.20 :‬‬
‫‪14‬‬
‫ثم قالت‪« :‬اذهب فاكتب اآلن»(((‪.‬‬
‫سن ّ‬
‫مبكرة‪ ،‬قال الذهبي‪« :‬أقبل على طلب‬ ‫وقد أقبل على طلب العلم منذ ّ‬
‫(((‬
‫العلم وهو حدث»‪.‬‬
‫وقال مالك‪« :‬كنت آتي نافع ًا مولى ابن عمر‪ ،‬وأنا يومئذ غالم»‪.‬‬
‫وقال الزبيري‪« :‬رأيت مالك ًا في حلقة ربيعة‪ ،‬وفي أذنه شنف»‪ ،‬وهذا يدل‬
‫على مالزمته لطلبة العلم من صغره(((‪.‬‬
‫تفرغه لطلب العلم على يد شيخه ابن هرمز‪ ،‬فقد الزمه سبع‬
‫وكانت بداية ّ‬
‫سنني لم يخلطه بغيره‪ ،‬قال مالك‪« :‬كنت آتي ابن هرمز من بكرة فما أخرج من‬
‫بيته حتى الليل»(((‪.‬‬
‫وقد نشأ في أسرة قليلة ذات اليد‪ ،‬قال أحمد بن صالح‪« :‬كان مالك قليل‬
‫التجمل‪ ،‬ضيق األمر‪ ،‬لم يكن له منزل‪ ،‬كان يسكن بكراء إلى أن‬
‫ّ‬ ‫املشي يظهر‬
‫مات‪ ،‬وسأله املهدي ألك دار؟ فقال‪ :‬ال» ‪.‬‬
‫(((‬

‫وقال ابن القاسم‪« :‬أفضى مبالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع‬
‫خشبه‪ ،‬ثم مالت عليه الدنيا بعد»(((‪.‬‬
‫مالك على علماء زمانه‪ ،‬حتى بلغ عدد شيوخه تسعمائة‬ ‫ٌ‬ ‫ثم دار اإلمام‬
‫شيخ‪ ،‬منهم ثالثمائة من التابعني‪ ،‬وستمائة من تابعيهم ممن اختاره‪ ،‬وارتضى‬
‫دينه‪ ،‬وفقهه‪ ،‬وقيامه بحق الرواية وشروطها‪ ،‬وخلصت الثقة به‪ ،‬وترك الرواية‬

‫((( ينظر‪« :‬ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،130/1 :‬و«الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪،‬‬
‫ص‪.20 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.49/8 :‬‬
‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.133 - 132/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،132 - 131/1 :‬و«الديباج املذهب»‪ ،‬البن‬
‫فرحون‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.124/1 :‬‬
‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.130/1 :‬‬
‫‪15‬‬
‫عن أهل دين وصالح ال يعرفون الرواية(((‪.‬‬
‫وبعد أن أكمل دراسته لآلثار والفتيا اتخذ له مجلس ًا في املسجد النبوي‬
‫لتعليم الناس ‪-‬وفي بعض الروايات أنّ س ّنه كان ذلك في السابعة عشرة‪ -‬ولقد‬
‫قال في هذا املقام‪ ،‬وفي بيان حاله عندما نزعت نفسه إلى الدرس واإلفتاء‪:‬‬
‫«ليس كل من أحب أن يجلس في املسجد للحديث والفتيا جلس حتى يشاور‬
‫ال جلس‪ ،‬وما جلست حتى شهد‬ ‫فيه أهل الصالح والفضل‪ ،‬فإن رأوه لذلك أه ً‬
‫لي سبعون شيخ ًا من أهل العلم أني موضع لذلك»(((‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫شهد له غالب العلماء بأنه كان وحيد دهره في مدينة رسول الله | في‬
‫علمه‪ ،‬واجتهاده‪ ،‬وحديثه‪ ،‬وكثير من خصاله‪ ،‬قال الذهبي‪« :‬اتفق ملالك مناقب‬
‫ما علمتها اجتمعت لغيره‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬طول العمر وعلو الرواية‪.‬‬
‫وثانيتها‪ :‬الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم‪.‬‬
‫وثالثتها‪ :‬اتفاق األئمة على أنه حجة صحيح الرواية‪.‬‬
‫ورابعتها‪ :‬جتمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن‪.‬‬
‫وخامستها‪ :‬تقدمه في الفقه والفتوى‪ ،‬وصحة قواعده»(((‪.‬‬
‫وعده ابن أبي حامت في الطبقة األولى من علماء احلجاز اجلهابذة(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقال النووي‪« :‬أجمعت طوائف العلماء على إمامته‪ ،‬وجاللته‪ ،‬وعظم‬
‫سيادته‪ ،‬وتبجيله‪ ،‬وتوقيره‪ ،‬واإلذعان له في احلفظ والتثبيت‪ ،‬وتعظيم حديث‬

‫((( ينظر‪« :‬تهذيب األسماء واللغات»‪ ،‬للنووي‪.79 - 78/2 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،142/1 :‬و«الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪،‬‬
‫ص‪.21 :‬‬
‫((( «تذكرة احل ّفاظ»‪ ،‬للذهبي‪.157/1 :‬‬
‫((( «اجلرح والتعديل»‪ ،‬البن أبي حامت‪.10/1 :‬‬
‫‪16‬‬
‫رسول الله |»(((‪.‬‬
‫وقال الدارمي‪« :‬مالك من سادات أتباع التابعني‪ ،‬وجلة الفقهاء والصاحلني‪،‬‬
‫وذبه عن حرميها‪ ،‬وقمعه من خالفها‪ ،‬أو‬‫ممن كثرت عنايته بالسنن‪ ،‬وجمعه لها‪ّ ،‬‬
‫رام مباينتها‪ ،‬مؤثر ًا لس ّنة رسول الله | على غيرها من املخترعات الداحضة‪،‬‬
‫قائ ً‬
‫ال بها دون االعتماد على املقايسات الفاسدة»(((‪.‬‬
‫الرجال من الفقهاء باملدينة‪ ،‬وأعرض‬ ‫وقال ابن منجويه‪« :‬كان أول من انتقى ّ‬
‫يحدث إلاّ عن ثقة‬‫صح‪ ،‬وال ّ‬‫عمن ليس ثقة في احلديث‪ ،‬ولم يكن يروي إلاّ ما ّ‬ ‫ّ‬
‫والدين والعقل والنسك»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفقه‬ ‫مع‬
‫وقال الذهبي‪« :‬لم يكن باملدينة عالم من بعد التابعني يشبه مالك ًا في العلم‪،‬‬
‫والفقه‪ ،‬واجلاللة‪ ،‬واحلفظ‪ ،‬فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن املسيب‪،‬‬
‫والفقهاء السبعة‪ ،‬والقاسم‪ ،‬وسالم‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬ونافع‪ ،‬وطبقتهم‪ ،‬ثم زيد بن‬
‫أسلم‪ ،‬وابن شهاب‪ ،‬وأبي الزناد‪ ،‬ويحيى بن سعيد‪ ،‬وصفوان بن سليم‪ ،‬وربيعة‬
‫بن أبي عبد الرحمن‪ ،‬وطبقتهم‪ ،‬فلما تفانوا‪ ،‬اشتهر ذكر مالك بها‪ ،‬وابن أبي‬
‫ذئ��ب‪ ،‬وعبد العزيز بن املاجشون‪ ،‬وسليمان بن ب�لال‪ ،‬وفليح بن سليمان‪،‬‬
‫املقدم فيهم على اإلطالق‪ ،‬والذي‬ ‫وال��دراوردي‪ ،‬وأقرانهم‪ ،‬فكان مالك هو ّ‬
‫تضرب إليه آباط اإلبل من اآلفاق»(((‪.‬‬
‫وقال أبو نعيم‪« :‬مالك بن أنس إمام احلرمني املشهور في البلدين احلجاز‬
‫والعراقني‪ ،‬املستفيض مذهبه في املغربني واملشرقني‪ .‬كان أحد النبالء‪ ،‬وأكمل‬
‫العقالء‪ ،‬ورث حديث الرسول ونشر في أمته علم األحكام واألصول‪ ،‬حتقق‬
‫بالتقوى‪ ،‬فابتلي بالبلوى»(((‪.‬‬

‫((( «تهذيب األسماء واللغات»‪ ،‬للنووي‪.76 - 75/2 :‬‬


‫((( «مشاهير علماء األمصار»‪ ،‬ألبي حامت الدارمي‪ ،‬ص‪.223 :‬‬
‫((( «رجال صحيح مسلم»‪ ،‬ألبي بكر ابن منجويه‪.220/2 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.58/8 :‬‬
‫((( «حلية األولياء»‪ ،‬ألبي نعيم‪.316/6 :‬‬
‫‪17‬‬
‫وقال السخاوي‪« :‬مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر‪ :‬اإلمام العالم‪ ،‬جنم‬
‫السنن‪ ،‬وعالم املدينة»(((‪.‬‬
‫وقال ابن تغري بردي‪« :‬شيخ اإلسالم‪ ،‬وأحد األعالم‪ ،‬وإمام دار الهجرة‪،‬‬
‫وصاحب املذهب‪ ...‬عظيم اجلاللة‪ ،‬كبير الوقار‪ ،‬غزير العلم»(((‪.‬‬
‫وقال ابن شهاب‪« :‬من أوعية العلم‪ ،‬ولنعم مستودع العلم»(((‪.‬‬
‫وقال ابن عيينة‪« :‬مالك سيد أهل املدينة‪ ،‬وسيد املسلمني‪ ،‬وحجة في زمانه»(((‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪« :‬إذا ذكر العلماء فمالك النجم‪ ،‬ومالك حجة الله على‬
‫خلقه»(((‪.‬‬
‫وقال الشافعي أيض ًا‪« :‬مالك بن أنس معلمي وأستاذي»(((‪.‬‬
‫وقال األوزاعي‪« :‬عالم العلماء‪ ،‬ومفتي احلرمني»(((‪.‬‬
‫وقال يحيى بن معني‪« :‬مالك بن أنس من حجج الله على خلقه»(((‪.‬‬
‫وقال أسد بن الفرات‪« :‬إذا أردت الله والدار اآلخرة‪ ،‬فعليك مبالك»(((‪.‬‬
‫وق��ال عبدالرحمن بن مهدي‪« :‬ال أق ّ��دم على مالك في صحة احلديث‬
‫أحدً ا»(‪.((1‬‬

‫((( «التحفة اللطيفة»‪ ،‬للسخاوي‪.399/2 :‬‬


‫((( «النجوم الزاهرة»‪ ،‬البن تغري بردي‪.96/2 :‬‬
‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.148/1 :‬‬
‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.149/1 :‬‬
‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.149/1 :‬‬
‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.149/1 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.94/8 :‬‬
‫((( «االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪ ،31 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.94/8 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.94/8 :‬‬
‫(‪« ((1‬االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪.25 :‬‬
‫‪18‬‬
‫وقال يحيى بن سعيد القطان‪« :‬كان مالك بن أنس إمام ًا في احلديث»(((‪.‬‬
‫وقال بقية بن الوليد‪« :‬ما بقي على وجه األرض أعلم بس ّنة ماضية وال باقية‬
‫منك يا مالك»(((‪.‬‬
‫وقال عبد الله بن املبارك‪« :‬ما رأيت رج ً‬
‫ال ارتفع مثل مالك بن أنس ليس له‬
‫كثير صالة وال صيام‪ ،‬إال أن تكون له سريرة»(((‪.‬‬
‫وقال ابن عيينة ملا بلغه وفاة مالك‪« :‬ما ترك مثله أو ما ترك على األرض‬
‫مثله»(((‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫لإلمام مالك مرويات كثيرة في غير فن من العلم‪ ،‬قال القاضي عياض‪« :‬إن‬
‫ملالك ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬أوضاع ًا شريفة مروية عنه‪ ،‬أكثرها بأسانيد صحيحة‬
‫في غير فن من العلم‪ ،‬لكنه لم يشتهر عنه منها‪ ،‬وال واظب على إسماعه‪،‬‬
‫وروايته؛ غير املوطأ مع حذفه منه‪ ،‬وتلخيصه له شيئ ًا بعد شيء‪ ،‬وسائر تآليفه‬
‫إمنا رواها عنه من كتب بها إليه‪ ،‬أو سأله إياها أحد من أصحابه‪ ،‬ولم تروها‬
‫الكافة»(((‪.‬‬
‫ومؤلفات اإلمام مالك ميكن تلخيصها فيما يلي‪:‬‬
‫ّ‬
‫وأجل آثاره التي كتبها بيده‪ ،‬حيث اشتغل في‬ ‫‪ -1‬املوطأ‪ :‬وهو أهم مؤلفاته‪،‬‬
‫تأليفه ما يقرب من ‪ 40‬سنة‪ ،‬وهو الكتاب الذي طبقت شهرته اآلفاق‪ ،‬واعترف‬
‫األئمة له بالسبق على كل كتب احلديث في عهده‪ ،‬وبعد عهده إلى عهد االمام‬

‫((( «االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪.26 :‬‬


‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،76/1 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.94/8 :‬‬
‫((( «حلية األولياء»‪ ،‬ألبي نعيم‪.330/6 :‬‬
‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.149/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،90/2 :‬و«الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪،‬‬
‫ص‪.26 :‬‬
‫‪19‬‬
‫البخاري‪ ،‬قال اإلمام الشافعي‪« :‬ما ظهر على األرض كتاب بعد كتاب الله‬
‫أصح من كتاب مالك»(((‪ ،‬وهذا القول قبل ظهور صحيح البخاري‪.‬‬
‫وقد القى قبو ً‬
‫ال واسع ًا لدى العامة واخلاصة‪ ،‬حتى أن العلماء تسابقوا في‬
‫القدمي واحلديث إلى اقتنائه وشرحه وتدريسه‪.‬‬
‫‪ -2‬رسالة في القدر والرد على القدرية‪ ،‬وهي من خيار الكتب في هذا‬
‫الباب الدالة على سعة علمه بهذا الشأن‪.‬‬
‫‪ -3‬رسالة في الفتوى‪ ،‬وهي مشهورة‪.‬‬
‫‪ -4‬التفسير لغريب القرآن‪ ،‬جزء واحد‪.‬‬
‫‪ -5‬كتاب السير‪ ،‬جزء واحد‪.‬‬
‫‪ -6‬رسالة في إجماع أهل املدينة‪ ،‬وهي مشهورة متداولة بني العلماء ‪.‬‬
‫(((‬

‫محنته‪:‬‬
‫لم يكن اإلم��ام مالك ممن يرى اخل��روج على احلكام‪ ،‬وإن كانوا ظلم ًة‬
‫وجائرين‪ ،‬ولكنه مع ذلك لم يكن يوم ًا مداهن ًا خلليفة أو أمير‪ ،‬أو يكتم العلم‬
‫والعامة‪ ،‬حتى‬
‫ّ‬ ‫اخلاصة‬
‫ّ‬ ‫من أجلهم‪ ،‬لذلك ارتفعت مكانته‪ ،‬وعلت منزلته عند‬
‫جلس اخللفاء بني يديه‪ ،‬وقرأ األمراء عليه‪ ،‬وصدع الناس ملا أمرهم به‪ ،‬فصار‬
‫آمر ًا ناهي ًا‪ ،‬تسري أوامره على اجلميع‪ ،‬فحسده على تلك املكانة العالية بعض‬
‫للدنيا على اآلخرة‪ ،‬فوشوا به إلى أمير املدينة حينها‪ :‬جعفر بن سليمان‪،‬‬
‫املؤثرين ّ‬
‫وذلك في عهد اخلليفة أبي جعفر املنصور‪ ،‬ومفاد هذه الوشاية‪ :‬أنّ مالك ًا ال يرى‬
‫أميان البيعة للخالفة هذه بشيء(((‪.‬‬

‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاض عياض‪.70/2 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬ترتيب امل��دارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،94 - 90/2 :‬و«الديباج املذهب»‪ ،‬البن‬
‫فرحون‪ ،‬ص‪ ،27 - 26 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.90 - 88/8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪ ،‬ص‪ ،28 :‬و«االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪،44 :‬‬
‫و«ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،130/2 :‬و«حلية األولياء»‪ ،‬ألبي نعيم‪،316/6 :‬‬
‫و«اجلرح والتعديل»‪ ،‬البن أبي حامت‪.30/1 :‬‬
‫‪20‬‬
‫وقد اختلف علماء السير والتراجم في سبب محنة اإلمام مالك‪ ،‬وعلى يد‬
‫من كانت احملنة‪ ،‬وفي خالفة من وقعت(((‪.‬‬
‫ولعل األصح واألشهر‪ :‬أن سبب احملنة‪ :‬فتواه بعدم وقوع طالق املكره؛‬
‫ال بحديث ابن عباس‪« :‬ليس على مستكره طالق»(((‪.‬‬‫مستد ً‬
‫وأما على يد من كانت احملنة فاألشهر‪ :‬أنها كانت أثناء الوالية الثانية جلعفر‬
‫بن سليمان على املدينة؛ حيث سعى الوشاة إلى جعفر‪ ،‬قائلني له‪ :‬إن مالك ًا ال‬
‫يرى أميان بيعتكم بشيء؛ وأنه يأخذ بحديث ثابت بن األحنف في طالق املكره‪،‬‬
‫وذكروا عنه أنه أفتى بأن بيعة أبي جعفر ال تلزم؛ ألنها على اإلكراه‪ ،‬فغضب‬
‫جعفر بن سليمان فدعا مبالك فاحتج عليه مبا رفع إليه عنه‪ ،‬ثم أمر بتجرده من‬
‫ومدت يده حتى‬ ‫ومده‪ ،‬فضرب بالسياط سبعني سوط ًا (وفي رواية مائة)‪ّ ،‬‬ ‫ثيابه ّ‬
‫انخلعت كتفه‪ ،‬وبقي بعد ذلك مطابق اليدين ال يستطيع أن يرفعهما‪ ،‬وال أن‬
‫يسوي رداءه‪ ،‬ثم حمل مغشي ًا عليه(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫وحكى إبراهيم بن حماد‪ :‬أنه كان ينظر إليه (بعد فترة من الضرب)‪ :‬أنه‬
‫كان إذا أقيم من مجلسه حمل يده اليمنى أو يده اليسرى باألخرى(((‪ ،‬وذلك‬
‫ألنه ضرب حتى انخلعت إحدى يديه‪.‬‬
‫وأما زمن احملنة ففي خالفة أبي جعفر املنصور(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪ ،43 :‬و«ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪،130/2 :‬‬
‫و«الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪ ،‬ص‪ ،28 - 27 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪:‬‬
‫‪.79/8‬‬
‫((( رواه ابن أبي شيبة في املصنف‪ ،48/5 :‬ورجاله ثقات‪ ،‬وع ّلقه البخاري في صحيحه‪:‬‬
‫‪ ،343/9‬ولفظه‪« :‬طالق السكران واملستكره ليس بجائز»‪.‬‬
‫((( ينظر‪« :‬الديباج املذهب»‪ ،‬ص‪ ،28 :‬و«االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪ ،44 :‬و«ترتيب‬
‫املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،130/2 :‬و«حلية األولياء»‪ ،‬ألبي نعيم‪.316/6 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪ ،44 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.80/8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪ ،‬ص‪ ،28 :‬و«االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪،44 :‬‬
‫‪21‬‬
‫هذا مختصر احملنة‪ ،‬أما تفاصيلها فقد حكاها أبو العرب التميمي بسنده‬
‫إلى مطرف بن عبد الله وغيره من أصحاب مالك‪ ،‬قال‪ :‬إن هيجاء هاجت‬
‫باملدينة في زمان أبي جعفر‪ ،‬فبعث إليها أبو جعفر ابن عمه جعفر بن سليمان‬
‫ويجدد بيعة أهلها‪ ،‬فقدمها وهو يتو ّقد على أهل‬‫ّ‬ ‫العباسي ليسكن هيجاءها‪،‬‬
‫وسطا على كل من أحلد في‬ ‫ً‬ ‫والشدة‬
‫ّ‬ ‫اخلالف ألبي جعفر‪ ،‬فأظهر الغلظة‬
‫سلطانهم‪ ،‬وأخذ الناس بالبيعة‪ ،‬ومالك بن أنس بالبيعة‪ ،‬ومالك بن أنس‬
‫يومئذ سيد أهل زمانه‪ ،‬ولم يزل صغير ًا وكبير ًا محسود ًا‪ ،‬وكذلك من عظمت‬
‫نعمة الله عليه في علمه أو عقله أو نبله أو ورعه‪ ،‬فكيف مبن جمع الله تبارك‬
‫وتعالى ذلك له فيه‪ ،‬ولم يزل مالك منذ نشأ يسلب النباهة والرئاسة من كان‬
‫قد سبقه إليها بظهور نعمة الله عليه‪ ،‬وسموها به على كل سام قبله من أهل‬
‫فدسوا إلى جعفر من‬‫بلده‪ ،‬فاشتد لذلك احلسد له‪ ،‬وأجلأهم ذلك في البغي‪ّ ،‬‬
‫قال له‪ :‬إن مالك ًا يفتي الناس أن أميان البيعة ال تلزمهم ملخالفتك واستكراهك‬
‫فدس عليه جعفر بعض من لم يكن مالك أن يخشى أن يؤتى‬ ‫إياهم عليها‪ّ ،‬‬
‫من قبله‪ ،‬ومن مأمنه يؤتى احلذر فسأله عن ذلك سر ًا فأفتاه بذلك طمأنينة إليه‬
‫وحسبة منه‪ ،‬فلم ينشب مالك أن جاء فيه رسول جعفر بن سليمان‪ ،‬فأتي به‬
‫منتهك احلرمة‪ ،‬مذال الهيبة‪ ،‬فأمر به جعفر بن سليمان فضرب سبعني سوط ًا‪،‬‬
‫فلما سكن الهيج و ّمتت البيعة بلغ أبا جعفر ضرب مالك‪ ،‬فكره ذلك ولم‬
‫يرضه‪ ،‬فبعث إلى مالك يستقدمه على نفسه بالعراق‪ ،‬فأبى من ذلك‪ ،‬وكتب‬
‫إليه يستعفيه ويعتذر ببعض العذر‪.(((.‬‬
‫وقد القت هذه احملنة سخط ًا عارم ًا لدى أهل املدينة‪ ،‬قال محمد أبو زهرة‪:‬‬
‫«ويظهر أن أهل املدينة عندما رأوا فقيهها وإمامها ينزل به ذلك النكال سخطوا‬
‫حرض على فتنة‪،‬‬‫على بني العباس ووالتهم‪ ،‬وخصوص ًا أنه كان مظلوم ًا‪ ،‬فما ّ‬

‫و«ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،130/2 :‬و«حلية األولياء»‪ ،‬ألبي نعيم‪،316/6 :‬‬
‫و«تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.330/11 :‬‬
‫((( «احملن»‪ ،‬ألبي العرب التميمي‪ ،‬ص‪.334 - 333 :‬‬
‫‪22‬‬
‫وما بغى‪ ،‬وال جتاوز حد اإلفتاء‪ ،‬ولم يفارق خطته قبل األذى وال بعده‪ ،‬فلزم‬
‫يحرض وال يدعو‬‫أبل من جراحه ورقأت‪ ،‬واستمر في درسه ال ّ‬ ‫درسه بعد أن ّ‬
‫يحسون‬
‫إلى فساد‪ ،‬فكان ذلك مما زادهم نقمة على احلاكمني‪ ،‬وجعل احلكام ّ‬
‫مبرارة ما فعلوا‪ ،‬وخصوص ًا أبا جعفر الداهية‪ ،‬والفرصة لديهم سانحة‪ ،‬فإنه لم‬
‫يكن في ظاهر األمر ضارب ًا وال آمر ًا بضرب‪ ،‬وال راضي ًا عنه‪ ،‬لذلك عندما جاء‬
‫حاج ًا أرسل إلى مالك يعتذر إليه»(((‪.‬‬
‫إلى احلجاز ّ‬
‫وذلك أن أبا جعفر كان قد كتب إلى اإلمام مالك‪« :‬أن وافني باملوسم فإني‬
‫حاج العام إن شاء الله»(((‪.‬‬
‫فلما كان موسم احلج التقى اإلمام مالك بأبي جعفر املنصور‪ ،‬قال اإلمام‬
‫مالك حاكي ًا قصة دخوله على أبي جعفر أيام احلج‪« :‬ملا دخلت على أبي جعفر‪،‬‬
‫إلي أن آتيه في املوسم‪ ،‬قال لي‪« :‬والله الذي ال إله إال هو ما أمرت‬
‫وقد عهد ّ‬
‫بالذي كان‪ ،‬وال علمته‪ ،‬إنه ال يزال أهل احلرمني بخير ما كنت بني أظهرهم‪،‬‬
‫وإني أخالك أمان ًا لهم من عذاب‪ ،‬ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة‪ ،‬فإنهم‬
‫أسرع الناس إلى الفنت‪ ،‬ولقد أمرت بعد والله أن يؤتى به من العراق على قتب‪،‬‬
‫وأمرت بضيق محبسه واالستبالغ في امتهانه‪ ،‬والبد أن ينزل به من العقوبة‬
‫أضعاف ما نالك منه‪.‬‬
‫فرد عليه اإلم��ام‪ :‬عافى الله أمير املؤمنني‪ ،‬وأكرم مثواه‪ ،‬قد عفوت عنه‬
‫لقرابته من رسول الله | وقرابته منك‪ ،‬فقال‪ :‬عفا الله عنك ووصلك»(((‪.‬‬
‫وقال أبو الوليد الباجي‪ :‬ملا حج املنصور أقاد مالك ًا من جعفر بن سليمان‪،‬‬
‫وأرسله إليه ليقتص منه‪ ،‬فقال‪ :‬أعوذ بالله‪ ،‬والله ما ارتفع منها سوط عن جسمي‬
‫إال وأنا أجعله في حل من ذلك الوقت لقرابته من رسول الله |‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬مالك»‪ ،‬حملمد أبو زهرة‪ ،‬ص‪.61 :‬‬


‫((( «احملن»‪ ،‬ألبي العرب التميمي‪ ،‬ص‪.334 - 333 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬مالك»‪ ،‬حملمد أبو زهرة‪ ،‬ص‪.61 :‬‬
‫‪23‬‬
‫بل قال الدراوردي عن مالك‪« :‬سمعته يقول حني ضربه‪ :‬اللهم اغفر لهم‬
‫فإنهم ال يعلمون»(((‪.‬‬
‫وقد قابل اإلمام مالك هذه احملنة (وغيرها) بأمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬الثبات على احلق‪ ،‬وعدم التراجع‪ :‬قال ابن وهب‪« :‬إن مالك ًا ملا‬
‫ضرب وحلق وحمل على بعير‪ ،‬فقيل له‪ :‬ناد على نفسك؟ قال‪ :‬فقال‪ :‬أال من‬
‫عرفني فقد عرفني‪ ،‬ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر األصبحي‪،‬‬
‫وأنا أقول طالق املكره ليس بشيء‪ ،‬قال‪ :‬فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على‬
‫نفسه بذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أدركوه أنزلوه»(((‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬العفو ّ‬
‫عمن تسببوا في محنته وأذيته (كما سبق في قصة عفوه عن‬
‫جعفر بن سليمان)‪.‬‬
‫وقد زاد الله اإلم��ام مالك بعد هذه احملنة (وغيرها) علو ًا ورفعة‪ ،‬قال‬
‫اجلياني‪« :‬ما زال مالك بعد ذلك الضرب في رفعة من الناس وإعظام‪ ،‬حتى‬
‫كأن تلك األسواط حلي ًا حلي به رحمه الله تعالى»(((‪.‬‬
‫وقال الواقدي‪« :‬فو الله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو»‪.‬‬
‫وقال الذهبي مع ّلق ًا‪« :‬هذا والله ثمرة احملنة احملمودة‪ ،‬أنها ترفع العبد عند‬
‫املؤمنني»(((‪.‬‬
‫وقال الليث بن سعد‪« :‬إني ألرجو أن يرفعه الله بكل سوط درجة في‬
‫اجلنة»(((‪.‬‬

‫((( «الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪ ،‬ص‪.28 :‬‬


‫((( «حلية األولياء»‪ ،‬ألبي نعيم‪.316/6 :‬‬
‫((( «الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪ ،‬ص‪.28 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.81 - 80/8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.331/11 :‬‬
‫‪24‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫مرض اإلمام مالك قبل وفاته اثنني وعشرين يوم ًا‪ ،‬ثم توفي باملدينة النبوية في‬
‫صبيحة يوم األحد الرابع عشر من شهر ربيع األول سنة تسع وسبعني ومائة‪.‬‬
‫قال بكر بن سليمان الصواف‪ :‬دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي‬
‫قبض فيها‪ ،‬فقلنا له‪ :‬يا أبا عبدالله كيف جتدك؟ قال‪ :‬ما أدري كيف أقول لكم‬
‫إال أنكم ستعاينون غد ًا من عفو الله ما لم يكن في حساب‪ ،‬ثم ما برحنا حتى‬
‫أغمضناه‪ .‬وكان عمره حني وفاته ست وثمانني عام ًا‪ .‬وقد كانت وفاته في‬
‫خالفة هارون الرشيد‪.‬‬
‫وقد كانت وفاته بعد أن نطق بالشهادتني‪ ،‬ثم قال‪« :‬لله األمر من قبل ومن‬
‫بعد»‪ ،‬قال إسماعيل بن أبي أويس‪« :‬اشتكى مالك بن أنس فسألت بعض أهلنا‬
‫عما قال عند املوت‪ ،‬قالوا‪ :‬تشهد‪ ،‬ثم قال‪ :‬لله األمر من قبل ومن بعد»‪.‬‬
‫يصبان عليه‬‫وغسله ابن كنانة وابن أبي الزبير وابنه يحيى وكاتبه حبيب ّ‬
‫ّ‬
‫املاء‪ .‬وك ّفن في ثياب بيض‪ .‬وص ّلى عليه أمير املدينة حينها‪ :‬عبد الله بن محمد‬
‫بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس‪ ،‬وحضر جنازته ماشي ًا‪،‬‬
‫وكان ممن حمل نعشه‪ .‬ودفن بالبقيع‪.‬‬
‫وقد نقل القاضي عياض عن أسد بن موسى أنه رأى اإلمام مالك بعد‬
‫موته في املنام وعليه طويلة‪ ،‬وثياب خضر‪ ،‬وهو على ناقة يطير بني السماء‬
‫واألرض‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أبا عبد الله! أليس قد مت؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬فقال له‪ :‬فإلى ما‬
‫صرت؟ فقال‪ :‬قدمت على ربي‪ ،‬وكلمني كفاح ًا‪ ،‬وقال‪ :‬سلني أعطك‪ّ ،‬‬
‫ومتن‬
‫علي أرضك؟»((( ((‪.‬‬
‫ّ‬
‫((( ينظر‪« :‬ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،120 - 118/1 :‬و«االنتقاء»‪ ،‬البن عبدالبر‪،‬‬
‫ص‪ ،44 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،130/8 :‬و«تهذيب األسماء واللغات»‪،‬‬
‫للنووي‪ ،79/2 :‬و«تذكرة احلفاظ»‪ ،‬للذهبي‪.157/1 :‬‬
‫((( للمزيد عن سيرة اإلمام مالك ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،48/8 :‬و«مشاهير‬
‫علماء األمصار»‪ ،‬ألبي حامت البستي‪ ،‬ص‪ ،223 :‬و«منازل األئمة األربعة»‪ ،‬ألبي زكريا‬
‫‪25‬‬
26
‫(‪� )2‬أحمد بن حنبل‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫محمد بن حنبل بن هالل بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن‬
‫ّ‬ ‫أحمد بن‬
‫حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن‬
‫ّ‬
‫الذهلي‪ ،‬الشيباني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ثعلبة‬
‫الس ّنة‪ ،‬وأح��د كبار أئمة اإلسالم‪،‬‬
‫احمل��دث‪ ،‬إم��ام أهل ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلم��ام‪ ،‬الفقيه‪،‬‬
‫وصاحب أحد املذاهب الفقهية املعروفة‪ ،‬وإليه ينسب احلنابلة(((‪.‬‬
‫وأمه‪ :‬صفية بنت ميمونة بنت عبد امللك بن سوادة بن هند الشيباني‪ ،‬من‬
‫بني عامر(((‪.‬‬
‫وأما نسب اإلمام أحمد فيرجع إلى بني شيبان بن ذهل بن ثعلبة‪ ،‬وبنو‬
‫شيبان قبيلة عدنانية تلتقي مع النبي | في نزار بن معد بن عدنان(((‪.‬‬

‫األزدي‪ ،‬ص‪ ،183 :‬و«التقييد ملعرفة رواة السنن واملسانيد»‪ ،‬البن شجاع احلنبلي‪،‬‬
‫ص‪ ،435 :‬و«تهذيب األسماء واللغات»‪ ،‬للنووي‪ ،75/2 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن‬
‫خلكان‪ ،135/4 :‬و«التحفة اللطيفة»‪ ،‬للسخاوي‪ ،399/2 :‬و«طبقات احل ّفاظ»‪،‬‬
‫للسيوطي‪ ،‬ص‪ ،96 :‬و«الهداية»‪ ،‬ألبي نصر الكالباذي‪ ،693/2 :‬و«رجال صحيح‬
‫مسلم»‪ ،‬ألبي بكر ابن منجويه‪.220/2 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،27/2 :‬و«املقصد األرشد»‪ ،‬البن مفلح‪،64/1 :‬‬
‫و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،179/11 :‬و«املنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،286/11 :‬و«حلية‬
‫األولياء»‪ ،‬ألبي نعيم‪ ،162/9 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،359/10 :‬و«شذرات‬
‫الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪ ،186/3 :‬و«مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪،16 :‬‬
‫و«سيرة اإلمام أحمد بن حنبل»‪ ،‬لصالح بن اإلمام أحمد‪ ،‬ص‪ ،29 :‬و«منازل األئمة األربعة»‪،‬‬
‫ألبي بكر بن أبي طاهر األزدي‪ ،‬ص‪ ،235 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪،64/1 :‬‬
‫و«طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.27/2 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪ ،19 - 17 :‬و«اجلوهرة في نسب النبي‬
‫‪27‬‬
‫مولده ونشاته‪:‬‬
‫ولد اإلمام أحمد في ربيع األول‪ ،‬سنة أربع وستني ومائة للهجرة‪ ،‬في مدينة‬
‫بغداد؛ ذلك أن والديه قدما إليها من مرو‪ ،‬وأمه حامل به(((‪.‬‬
‫وأما نشأته؛ فقد نشأ يتيم ًا؛ فقد توفي أبوه وعمره ثالث سنني‪ ،‬فقامت أمه‬
‫على كفالته والنفقة عليه من عقار تركه له أبوه ببغداد(((‪.‬‬
‫اهتمت أمه بتربيته منذ صغره‪ ،‬فقد دفعته حلفظ القرآن وهو صغير‬ ‫وقد ّ‬
‫فحفظه‪ ،‬قال اإلمام أحمد‪« :‬ح ّفظتني أمي القرآن وأنا ابن عشر سنني‪ ،‬وكانت‬
‫توقظني قبل صالة الفجر‪ ،‬وحتمي لي ماء الوضوء في ليالي بغداد الباردة‪،‬‬
‫وتتغطى بحجابها‪ ،‬وتذهب معي إلى املسجد؛‬ ‫ّ‬ ‫تتخمر‬
‫ّ‬ ‫وتلبسني مالبسي‪ ،‬ثم‬
‫لبعد بيتنا عن املسجد‪ ،‬ولظلمة الطريق»‪.‬‬
‫متورع ًا عن عطايا اخللفاء‪ ،‬فقد كان لإلمام‬
‫وقد نشأ اإلمام أحمد منذ الصغر ّ‬
‫أحمد عم اسمه‪« :‬إسحاق» على صلة باخللفاء‪ ،‬فلم يستحسن ذلك اإلمام أحمد‬
‫تورع ًا‪ ،‬وابتعاد ًا عن الريب(((‪.‬‬
‫اجلم منذ صغره‪ ،‬قال أبو‬
‫وقد ظهرت عليه مخايل العلم وال ّتقى واألدب ّ‬
‫سراج‪« :‬كنا مع أبي عبد الله في الك ّتاب‪ ،‬فكان النساء يبعثن إلى املعلم‪ :‬ابعث‬
‫إلينا بابن حنبل ليكتب جواب كتبهم‪ ،‬فكان إذا دخل إليهن ال يرفع رأسه وال‬
‫ينظر إليهن»(((‪.‬‬

‫وأصحابه العشرة»‪ ،‬ألبي بكر ال ّتلمساني‪ ،448/1 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪:‬‬
‫‪.184/11‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،179/11 :‬و«املنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪،286/11 :‬‬
‫و«حلية األولياء»‪ ،‬ألبي نعيم‪ ،162/9 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.359/10 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬حلية األولياء»‪ ،‬ألبي نعيم‪ ،163/9 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.179/11 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن أبي يعلى‪ ،111/1 :‬و«مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن‬
‫اجلوزي‪ ،‬ص‪.24 :‬‬
‫((( «مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪.83 ،23 :‬‬
‫‪28‬‬
‫وقد ظهرت عليه مالمح النجابة والنباهة واألملعية من زمن صغره‪ ،‬قال أبو‬
‫سراج بن خزمية متعجب ًا من أدبه وحسن طريقته‪« :‬أنا أنفق على ولدي وأجيئهم‬
‫باملؤدبني على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون‪ ،‬وهذا أحمد بن حنبل غالم يتيم‪،‬‬
‫انظر كيف يخرج! وجعل يعجب»(((‪.‬‬
‫وقد كان شيوخه يج ّلونه منذ صغره‪ ،‬متوسمني فيه علو الشأن في املستقبل‪،‬‬
‫حجة على أهل زمانه»(((‪.‬‬
‫قال الهيثم بن جميل‪« :‬إن عاش هذا الفتى فسيكون ّ‬
‫وقد ابتدأ اإلمام أحد طلب العلم وحضور مجالس العلماء وعمره أربع‬
‫عشرة سنة‪ ،‬قال اإلمام أحمد‪« :‬اختلفت إلى الك ّتاب‪ ،‬ثم اختلفت إلى الديوان‪،‬‬
‫وأنا ابن أربع عشرة سنة»(((‪.‬‬
‫وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف‪ ،‬ثم ترك ذلك‬
‫وأقبل على سماع احلديث(((‪.‬‬
‫وقد كانت بداية طلبه العلم في بغداد‪ ،‬ثم طاف في البالد واآلفاق‪ ،‬وسمع‬
‫من مشايخ العصر‪ ،‬وكانوا يج ّلونه ويحترمونه في حال سماعه منهم(((‪.‬‬
‫(((‬ ‫ورحل إلى الكوفة‪ ،‬والبصرة‪ّ ،‬‬
‫ومكة‪ ،‬واملدينة‪ ،‬واليمن‪ ،‬والشام‪ ،‬واجلزيرة‬
‫وغيرها من البلدان‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫ليس بحاجة إلى ثناء أحد من العلماء؛ ففعاله العظيمة‪ ،‬ومواقفه اخلالدة‬

‫((( «مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪ ،23 :‬واملنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪.286/11 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬اجلرح والتعديل»‪ ،‬البن أبي حامت‪ ،295/1 :‬و«تهذيب األسماء واللغات»‪،‬‬
‫للنووي‪ ،111/1 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.195/11 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.185/11 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.359/10 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،360/10 :‬و«تهذيب التهذيب»‪ ،‬البن حجر‪.72/1 :‬‬
‫((( «مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪ ،26 :‬و«ش��ذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد‬
‫احلنبلي‪.186/3 :‬‬
‫‪29‬‬
‫كافية في الثناء عليه‪ ،‬ولكن ال بأس من تعطير هذه األسطر ببعض ما قاله‬
‫العلماء في الثناء عليه‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫قال ابن تيمية‪« :‬اإلمام الفاضل‪ ،‬والرئيس الكامل الذي أبان الله به احلق‪،‬‬
‫ودفع به الضالل‪ ،‬وأوضح به املنهاج‪ ،‬وقمع به بدع املبتدعني‪ ،‬وزيغ الزائغني‪،‬‬
‫وشك الشاكني»(((‪.‬‬
‫وقال ابن تيمية عن ثباته في احملنة‪« :‬س ّلط الله تعالى عليهم علم ًا من أعالم‬
‫الدين أوتي صبر ًا في قوة اليقني أبا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل‪ّ ،‬‬
‫فشد‬
‫وضن بالدين‪ ،‬وأعرض عن الغضاضة على‬ ‫ّ‬ ‫املئزر‪ ،‬وأبى الفتنة‪ ،‬وجاد بالدنيا‪،‬‬
‫هد ما‬
‫طيب العيش ولم يبال في الله خفة األقران‪ ،‬ونسي قلة األعوان‪ ،‬حتى ّ‬
‫وقد ما مدوا»(((‪.‬‬
‫شدوا‪ّ ،‬‬
‫وق��ال اب��ن القيم‪« :‬إم��ام أه��ل ّ‬
‫الس ّنة على اإلط�لاق ال��ذي مأل األرض‬
‫علم ًا وحديث ًا وس ّنة‪ ،‬حتى إن أئمة احلديث ّ‬
‫والس ّنة بعده هم أتباعه إلى يوم‬
‫القيامة»(((‪.‬‬
‫وقال السبكي‪« :‬اإلم��ام اجلليل‪ ،‬صاحب املذهب‪ ،‬الصابر على احملنة‪،‬‬
‫للس ّنة‪ ،‬شيخ العصابة‪ ،‬ومقتدى ّ‬
‫الطائفة»(((‪.‬‬ ‫ال ّناصر ّ‬
‫وق��ال الذهبي‪« :‬شيخ اإلس�ل�ام‪ ،‬وسيد املسلمني ف��ي ع��ص��ره‪ ،‬احلافظ‬
‫احلجة»(((‪.‬‬
‫وقال النووي‪« :‬اإلم��ام البارع‪ ،‬املجمع على جاللته‪ ،‬وإمامته‪ ،‬وورعه‪،‬‬
‫وزهادته‪ ،‬وحفظه‪ ،‬ووفور علمه‪ ،‬وسيادته»(((‪.‬‬

‫((( «بيان تلبيس اجلهمية»‪ ،‬البن تيمية‪.312/3 :‬‬


‫((( «بيان تلبيس اجلهمية»‪ ،‬البن تيمية‪.233 -232/2 :‬‬
‫((( «إعالم املوقعني»‪ ،‬البن القيم‪.23/1 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.27/2 :‬‬
‫((( «تذكرة احل ّفاظ»‪ ،‬للذهبي‪.15/2 :‬‬
‫((( «تهذيب األسماء واللغات»‪ ،‬للنووي‪.110/1 :‬‬
‫‪30‬‬
‫وقال ابن كثير‪« :‬أطبقت األمة على تعظيمه وتوقيره‪ ،‬وإجالله واحترامه‪ ،‬في‬
‫علمه وزهده‪ ،‬وورعه وسعة فنونه‪ ،‬وصبره على احملنة‪ ،‬وقيامه لله بالسنة‪ ،‬فهو‬
‫خير األمة‪ ،‬وإمام األئمة في زمانه‪ ،‬واملبرز على سائر أهل عصره وأقرانه»(((‪.‬‬
‫وقال ابن أبي يعلى‪« :‬ال يختلف العلماء األوائل واألواخر أنه في السنة‬
‫وجل فصبر‪ ،‬ولكتابه نصر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اإلمام الفاخر‪ ،‬والبحر الزاخر‪ ،‬أوذي في ال ّله ّ‬
‫عز‬
‫ولسنة رسول ال ّله | انتصر‪ ،‬أفصح ال ّله فيها لسانه‪ ،‬وأوضح بيانه‪ ،‬وأرجح‬
‫حذر‪ ،‬وال جنب حني أنذر‪ ،‬أبان حق ًا‪ ،‬وقال صدق ًا‪ ،‬وزان‬ ‫ميزانه‪ ،‬ال رهب ما ّ‬
‫نطق ًا وسبق ًا‪ ،‬ظهر على العلماء‪ ،‬وقهر العظماء‪ ،‬ففي الصادقني ما أوجهه‪،‬‬
‫وبالسابقني ما أشبهه‪ ،‬وعن الدنيا وأسبابها ما كان أنزهه‪ ،‬جزاه ال ّله خير ًا عن‬
‫اإلسالم واملسلمني»(((‪.‬‬
‫وقال يحيى بن معني‪« :‬كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم‬
‫قط‪ :‬كان محدث ًا‪ ،‬وكان حافظ ًا‪ ،‬وكان عامل ًا‪ ،‬وكان ورع ًا‪ ،‬وكان زاهد ًا‪ ،‬وكان‬
‫عاق ً‬
‫ال»(((‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪« :‬أحمد إمام في ثمان خصال‪ :‬إمام في احلديث‪ ،‬إمام في‬
‫الفقه‪ ،‬إمام في اللغة‪ ،‬إمام في القرآن‪ ،‬إمام في الفقر‪ ،‬إمام في الزهد‪ ،‬إمام في‬
‫الس ّنة»(((‪.‬‬
‫الورع‪ ،‬إمام في ّ‬
‫احلربي‪« :‬رأيت أحمد كأن ال ّله جمع له علم ّ‬
‫األولني واآلخرين»(((‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وقال إبراهيم‬
‫وقال يحيى بن سعيد القطان‪« :‬أحمد بن حنبل خير من أخيار هذه األمة‪،‬‬
‫وإمام األئمة في زمانه‪ ،‬واملبرز على سائر أهل عصره»(((‪.‬‬

‫((( «طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪.106 :‬‬


‫((( «طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن أبي يعلى‪.13 - 12/1 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.370/10 :‬‬
‫((( «طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن أبي يعلى‪.5/1 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.28/2 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪.106 :‬‬
‫‪31‬‬
‫(((‬
‫وقال إسحاق بن راهويه‪« :‬أحمد حجة بني الله وبني عبيده في أرضه»‬
‫وق��ال ابن املديني‪« :‬أع��ز الله الدين بالصديق يوم ال��ر ّدة‪ ،‬وبأحمد يوم‬
‫احملنة»(((‪.‬‬
‫وقال إسحاق بن راهويه‪« :‬لوال أحمد بن حنبل وبذل نفسه ملا بذلها لذهب‬
‫اإلسالم»(((‪.‬‬
‫وقال قتيبة بن سعيد‪« :‬أحمد بن حنبل قام في األمة مقام النبوة»(((‪.‬‬
‫وقال يحيى بن معني‪« :‬أراد الناس م ّنا أن نكون مثل أحمد بن حنبل‪ ،‬والله‬
‫ما نقوى أن نكون مثله وال نطيق سلوك طريقه»(((‪.‬‬
‫للحق ونصره‪ ،‬وشدخ رأس أهل البدع وهصره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وقال السفاريني‪« :‬انتصر‬
‫والصدق‬
‫ّ‬ ‫واحلق من الباطل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السمني‪،‬‬
‫والغث من ّ‬
‫ّ‬ ‫الصحيح من الفاسد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وبينّ‬
‫من املني»(((‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫لم يكن اإلمام أحمد يرى كتابة كالمه‪ ،‬عدا كتابة األحاديث واآلثار‪ ،‬قال‬
‫ابن اجلوزي‪« :‬كان اإلمام أحمد رضي الله عنه ال يرى وضع الكتب‪ ،‬وينهى أن‬
‫يكتب عنه كالمه ومسائله‪ ،‬ولو رأى ذلك لكانت تصانيفه كثيرة‪ ،‬ولنقلت عنه‬
‫كتب»(((‪.‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،370/10 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.196/11 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.196/11 :‬‬
‫((( «طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن أبي يعلى‪ ،13/1 :‬و«تاريخ دمشق»‪ ،‬البن عساكر‪،278/5 :‬‬
‫و«تهذيب الكمال»‪ ،‬للمزي‪ ،452/1 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪،196/11 :‬‬
‫و«املقصد األرشد»‪ ،‬البن مفلح‪ ،70/1 :‬و«طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن أبي يعلى‪.13/1 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.370 - 369/10 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،370/10 :‬و«طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن أبي يعلى‪.14/1 :‬‬
‫((( «لوامع األنوار البهية»‪ ،‬للسفاريني‪.66/1 :‬‬
‫((( «مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪.261 :‬‬
‫‪32‬‬
‫دون كالمه‪ ،‬قال‬
‫وملا علم الله حسن ّنيته ألهم الله تعالى من العلماء من ّ‬
‫ابن القيم‪« :‬علم الله حسن نيته وقصده فكتب من كالمه وفتواه أكثر من ثالثني‬
‫سفر ًا‪ّ ،‬‬
‫ومن الله سبحانه علينا بأكثرها‪ ،‬فلم يفتنا منها إال القليل‪ ،‬وجمع اخلالل‬
‫نصوصه في اجلامع الكبير‪ ،‬فبلغ نحو عشرين سفر ًا أو أكثر‪ ،‬ورويت فتاويه‬
‫وحدث بها قرن ًا بعد قرن»(((‪.‬‬
‫ومسائله‪ّ ،‬‬
‫وق��ال اب��ن اجل��وزي‪« :‬نظر الله تعالى إل��ى حسن قصده فنقلت ألفاظه‬
‫وحفظت‪ّ ،‬‬
‫فقل أن تقع مسألة إال وله فيها نص من الفروع واألص��ول‪ ،‬ورمبا‬
‫وجمعوا»(((‪.‬‬
‫عدمت في تلك املسألة نصوص الفقهاء الذين ص ّنفوا ّ‬
‫تعد قليلة‪ ،‬ومن هذه املؤلفات‪:‬‬
‫العلمية فإنها ّ‬
‫ّ‬ ‫وإذا ما قورنت مؤلفاته مبكانته‬
‫‪ -1‬املسند أحمد بن حنبل‪ :‬قال اإلمام أحمد البنه عبد الله‪« :‬احتفظ بهذا‬
‫املسند فإنه سيكون للناس إمام ًا»(((‪ ،‬وقال‪« :‬هذا الكتاب جمعته وانتقيته من‬
‫أكثر من سبعمائة ألف وخمسني ألف ًا»(((‪ ،‬فهو أحد دواوين احلديث العظيمة‪،‬‬
‫وهو أشهر مؤلفات اإلمام أحمد وأنفعها وأكثرها انتشار ًا‪ ،‬قال ّ‬
‫محمد بن أبي‬
‫املديني عن املسند‪« :‬أصل كبير ومرجع وثيق ألصحاب احلديث‪ ،‬انتقي من‬ ‫ّ‬ ‫بكر‬
‫أحاديث كثيرة ومسموعات وافرة‪ ،‬فجعل إمام ًا ومعتمد ًا‪ ،‬وعند ال ّتنازع ملجأ‬
‫ومستند ًا»(((‪.‬‬
‫‪ -2‬الناسخ واملنسوخ‪.‬‬
‫‪ -5‬الفضائل‪.‬‬

‫((( «أعالم املوقعني»‪ ،‬البن القيم‪.23/1 :‬‬


‫((( «مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪.261 :‬‬
‫((( «مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪261 :‬‬
‫((( «طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن أبي يعلى‪ ،143/1 :‬و«التقييد ملعرفة رواة السنن واملسانيد»‪،‬‬
‫البن نقطة‪ ،‬ص‪ ،161 :‬و«مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجل��وزي‪ ،‬ص‪ ،262 :‬و«سير‬
‫أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.329/11 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.31/2 :‬‬
‫‪33‬‬
‫‪ -10‬طاعة الرسول‪.‬‬
‫‪ -11‬الرد على اجلهمية‪.‬‬
‫‪ -14‬جوابات القرآن‪.‬‬
‫‪ -15‬نفي التشبيه‪.‬‬
‫‪ -16‬اإلمامة‪.‬‬
‫‪ -17‬رسالة في الصالة‪.‬‬
‫‪ -21‬رسالة كتبها إلى املتوكل في مسألة خلق القرآن(((‪.‬‬

‫محنته‪:‬‬

‫يتعرض لها العلماء‬


‫أشد محنة ّ‬ ‫تعرض لها اإلمام أحمد ّ‬ ‫تعتبر احملنة التي ّ‬
‫على اإلطالق؛ فقد قال عنها السبكي ‪« :‬الداهية الدهياء‪ ،‬واملصيبة الصماء» ‪.‬‬
‫(((‬

‫أشد محنة من حيث نوعها (عقدية)‪ ،‬وزمانها (طويلة)‪ ،‬ومن حيث‬ ‫فهي ّ‬
‫وشدته‪ ،‬يقول أحد جالديه‪« :‬ضربت أحمد بن حنبل ثمانني‬ ‫ّ‬ ‫هول التعذيب‬
‫ال لهدمته» ‪ ،‬وأيض ًا من حيث إنها محنة شملت جميع‬
‫(((‬ ‫سوط ًا لو ضربته في ً‬
‫العلماء والقضاة والصلحاء‪ ،‬ولكنهم فشلوا جميع ًا في هذه احملنة عدا إمام أهل‬
‫احلق أحمد بن حنبل‪.‬‬
‫العامة لهذه احملنة‪ ،‬وأن‬
‫ّ‬ ‫نعرج على اخليوط‬
‫وحسبنا في هذه األسطر أن ّ‬
‫((( ينظر‪« :‬مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪ ،261 :‬و«املعرفة»‪ ،‬للفسوي‪،49/1 :‬‬
‫و«منازل األئمة األربعة»‪ ،‬ألبي بكر بن أبي طاهر األزدي‪ ،‬ص‪ ،239 :‬و«معجم املؤلفني»‪،‬‬
‫لعمر بن رضا كحالة‪ ،96/2 :‬و«طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن أبي يعلى‪ ،143/1 :‬و«التقييد‬
‫ملعرفة رواة السنن واملسانيد»‪ ،‬البن نقطة‪ ،‬ص‪ ،161 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪:‬‬
‫‪ ،329/11‬و«طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،31/2 :‬و«املقصد األرشد»‪ ،‬البن‬
‫مفلح‪366/1 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪37/2 :‬‬
‫((( «املنهج األحمد»‪ ،‬ألبي اليمن العليمي‪.36/1 :‬‬
‫‪34‬‬
‫نشير إلى بعض مواقفها من البداية حتى النهاية‪ ،‬مراعني في احلديث عنها‬
‫الترتيب الزمني للخلفاء الذين تداولوا على تعذيب اإلمام أحمد‪ ،‬وماهية احملنة‬
‫تعرض لها اإلمام أحمد في عهد كل خليفة‪ ،‬فنقول‪:‬‬ ‫التي ّ‬
‫أو ًال‪ :‬املأمون «عبد الله بن هارون الرشيد» (بداية احملنة ثم تقييده بالقيود‬
‫والسالسل)‪:‬‬
‫يعتبر املأمون أول خليفة من خلفاء بني أمية وبني العباس يزيغ عن مذهب‬
‫السلف‪ ،‬قال البيهقي‪« :‬لم يكن في اخللفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة‬
‫إال على مذهب السلف ومنهاجهم»(((‪.‬‬
‫وقال ابن اجلوزي‪« :‬لم يزل الناس على قانون السلف‪ ،‬وقولهم‪ :‬إن القرآن‬
‫كالم الله غير مخلوق؛ حتى نبغت املعتزلة فقالت بخلق القرآن‪ ،‬وكانت تستر‬
‫ذلك‪ ...‬فلما توفى الرشيد كان األمر كذلك في زمن األمني»(((‪.‬‬
‫والسبب في زيغه عن مذهب السلف استحواذ جماعة من املعتزلة عليه‪،‬‬
‫قال ابن كثير‪« :‬استحوذ عليه جماعة من املعتزلة فأزاغوه عن طريق احلق إلى‬
‫الباطل‪ ،‬وزي ّنوا له القول بخلق القرآن‪ ،‬ونفي الصفات عن الله عز وجل»(((‪.‬‬
‫وقد كان في بداية األمر متردد ًا في حمل الناس على ذلك‪ ،‬ثم قوى عزمه‬
‫على ذلك في آخر سنة من واليته‪ ،‬فقد أصدر مرسوم ًا إلى نائبه في بغداد‪:‬‬
‫«إسحاق بن إبراهيم» يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن‪ ،‬فمن أجاب شهر‬
‫أمره بني الناس‪ ،‬ومن أبى يرسله إلى املأمون‪ ،‬وقد جاء في املرسوم الذي‬
‫أصدره‪« :‬فأجمع من بحضرتك من القضاة واقرأ عليهم كتاب أمير املؤمنني‬
‫عما يعتقدون في خلق‬ ‫هذا إليك‪ ،‬فأبدأ بامتحانهم فيما يقولون‪ ،‬وتكشيفهم ّ‬
‫الله القرآن وإحداثه‪ ،‬وأعلمهم أن أمير املؤمنني غير مستعني في عمله وال‬
‫واثق فيمن ق ّلده واستحفظه من أمور رعيته مبن ال يوثق بدينه‪ ،‬وخلوص‬

‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.365/10 :‬‬


‫((( «مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪.417 - 416 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.365/10 :‬‬
‫‪35‬‬
‫توحيده ويقينه‪ ،‬فإذا أق��روا بذلك ووافقوا أمير املؤمنني فيه‪ ،‬وكانوا على‬
‫سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس‪،‬‬
‫ومساءلتهم عن علمهم في القرآن‪ ،‬وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق‬
‫محدث ولم يره‪ ،‬واالمتناع من توقيعها عنده‪ ،‬واكتب إلى أمير املؤمنني مبا‬
‫يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم‪ ،‬واألمر لهم مبثل ذلك‪ ،‬ثم أشرف‬
‫عليهم وتفقّد آثارهم حتى ال تنفذ أحكام الله إال بشهادة أهل البصائر في‬
‫الدين‪ ،‬واإلخالص للتوحيد»(((‪.‬‬
‫فلما وصل الكتاب إلى نائبه سارع باستدعاء القضاة واحملدثني وكل من‬
‫تصدى للفتوى والتعليم واإلرشاد فاختبرهم وامتحنهم؛ فامتنعوا‪ ،‬فتهددهم‬ ‫ّ‬
‫أصروا على موقفهم‪،‬‬‫بالضرب‪ ،‬وقطع األرزاق‪ ،‬فأجاب أغلبهم‪ ،‬إال أربعة ّ‬
‫وهم‪ :‬أحمد بن حنبل‪ ،‬ومحمد بن نوح‪ ،‬والقواريري‪ ،‬وسجادة‪ ،‬فأمر النائب‬
‫بشد وثاقهم‪ ،‬وتكبيلهم باحلديد‪ ،‬وباتوا ليلتهم مقيدين‪ ،‬فلما كان الغد أجاب‬
‫سجادة إسحاق فيما يدعو إليه‪ ،‬فخ ّلوا عنه ّ‬
‫وفكوا قيوده‪ ،‬واستمر الباقون‬
‫على حالهم‪.‬‬
‫وفي اليوم التالي أعيد السؤال عليهم وطلب اجلواب إليهم‪ ،‬فخارت نفس‬
‫القواريري وأجابهم إلى ما طلبوا ّ‬
‫ففكوا قيوده‪.‬‬
‫وبقي محمد بن نوح وأحمد بن حنبل مصممني‪ ،‬فسيقا في احلديد ليلتقيا‬
‫باملأمون في طرسوس‪ ،‬إال أن محمد بن نوح توفي في الطريق(((‪.‬‬
‫وفي أثناء مسير اإلمام مقيد ًا إلى املأمون في طرسوس جاء الى اإلمام‬
‫«يعز علي يا أبا عبد الله أن‬
‫أحمد رجل وهو ميسح دموعه بطرف ثوبه‪ ،‬ويقول‪ّ :‬‬

‫((( «تاريخ بغداد»‪ ،‬ألبي الفضل ابن طيفور‪ ،‬ص‪ ،183 - 182 :‬و«طبقات الشافعية‬
‫الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.39/2 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،366/10 :‬و«املنتظم في تاريخ امللوك واألمم»‪ ،‬البن‬
‫اجلوزي‪ ،24/11 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،288/10 :‬و«طبقات الشافعية‬
‫الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.42/2 :‬‬
‫‪36‬‬
‫سل سيف ًا لم يس ّله قبل ذلك‪ ،‬وأنه يقسم بقرابته من رسول الله |‬
‫املأمون قد ّ‬
‫ألن لم جتبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف؟» ‪.‬‬
‫(((‬

‫توجه بالدعاء إلى الله تعالى ألاّ‬


‫فلما سمع اإلمام أحمد هذه الكلمات ّ‬
‫يجمع بينه وبينه‪ ،‬فاستجاب الله دعاءه فجاءهم الصارخ مبوت املأمون قبل‬
‫وصول اإلمام أحمد إليه(((‪ ،‬فلله احلمد وامل ّنة‪.‬‬
‫فر ّد اإلمام أحمد إلى بغداد فسجن هناك أكثر من ثمانية وعشرين شهر ًا(((‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬املعتصم «محمد بن هارون الرشيد» (السجن والتعذيب)‪:‬‬
‫لم تنقطع احملنة مبوت املأمون‪ ،‬بل استمرت أشد مما كانت عليه من قبل‪،‬‬
‫ذلك أن املأمون قبل موته كان أوصى املعتصم بإشراك رأس الفتنة ابن أبي دؤاد‬
‫معه في أمره(((‪ ،‬واالستمرار بالقول بخلق القرآن‪ ،‬فن ّفذ املعتصم وصية املأمون‪،‬‬
‫وقام بدوره في احملنة‪ ،‬حيث عقد مجلس ًا حضره ابن أبي دؤاد‪ ،‬ثم استدعى‬
‫اإلمام أحمد من السجن‪ ،‬وأحضر املعتصم له الفقهاء من املتكلمني فناظروه‬
‫بحضرته ملدة ثالثة أيام‪ ،‬وهو يناظرهم‪ ،‬ويظهر عليهم باحلجج القاطعة‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫«أنا رجل علمت علم ًا‪ ،‬ولم أعلم فيه بهذا‪ ،‬أعطوني شيئ ًا من كتاب الله وس ّنة‬
‫رسول الله | حتى أقول به»(((‪.‬‬

‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.366/10 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬سير أع�لام النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،241/11 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪:‬‬
‫‪.366/10‬‬
‫((( ينظر‪« :‬مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪ ،431 - 427 :‬و«البداية والنهاية»‪،‬‬
‫البن كثير‪ ،366/10 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.252/11 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،366/10 :‬و«سيرة اإلمام أحمد بن حنبل»‪ ،‬لصالح‬
‫ابن اإلمام أحمد‪ ،‬ص‪.52 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،48/2 :‬و«سير أع�لام النبالء»‪ ،‬للذهبي‪:‬‬
‫‪ ،246/11‬و«سيرة اإلم��ام أحمد بن حنبل»‪ ،‬لصالح بن اإلم��ام أحمد‪ ،‬ص‪،55 :‬‬
‫و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.367/10 :‬‬
‫‪37‬‬
‫يحرضون املعتصم‬
‫وملا انقطعت حججهم‪ ،‬وأيسوا من إجابته لهم جعلوا ّ‬
‫ّ‬
‫مضل‪.‬‬ ‫عليه‪ ،‬قائلني‪ :‬يا أمير املؤمنني هذا كافر ّ‬
‫ضال‬
‫وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد‪ :‬يا أمير املؤمنني ليس من تدبير‬
‫اخلالفة أن نخلي سبيله ويغلب خليفتني‪.‬‬
‫حينها اشتد غضب املعتصم‪ ،‬وكان ألينهم عريكة‪ ،‬وهو يظن أنهم على‬
‫شيء‪ ،‬قال اإلمام أحمد‪ :‬فعند ذلك قال لي‪ :‬لعنك الله طمعت فيك أن جتيبني‬
‫فلم جتبني‪ ،‬ثم قال‪ :‬خذوه واخلعوه‪ ،‬واسحبوه‪.‬‬
‫قال اإلمام أحمد‪ :‬فأخذت وسحبت‪ ،‬وخلعت وجيء بالعاقبني والسياط‪،‬‬
‫وأنا أنظر‪ ...‬فقلت‪ :‬يا أمير املؤمنني الله الله؛ إن رسول الله | قال‪« :‬ال يحل‬
‫دم امرئ مسلم يشهد أن ال إله إال الله إال بإحدى ثالث»((( وتلوت احلديث‪،‬‬
‫وإن رسول الله | قال‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ال إله إال الله‪ ،‬فإذا‬
‫قالوها عصموا م ّنى دماءهم وأموالهم»(((‪.‬‬
‫تستحل دمي‪ ،‬ولم آت شيئ ًا من هذا؟‬
‫ّ‬ ‫فبم‬
‫يا أمير املؤمنني‪ :‬اذكر وقوفك بني يدي الله كوقوفي بني يديك! فكأنه أمسك‪.‬‬
‫ّ‬
‫مضل كافر!‪...‬‬ ‫ثم لم يزالوا يقولون له‪ :‬يا أمير املؤمنني! إنه ّ‬
‫ضال‬
‫ثم جيء بالضرابني ومعهم السياط فجعل أحدهم يضرب اإلمام أحمد‬
‫شد قطع الله يديك‪ ،‬ثم يجيء اآلخر فيضربه‬ ‫سوطني‪ ،‬واملعتصم يقول للجالد‪ّ :‬‬
‫ثم اآلخر كذلك‪ ،‬فضربوه أسواط ًا حتى أغمي عليه‪ ،‬وذهب عقله(((‪،‬‬ ‫سوطني‪ّ ،‬‬
‫فلما سكن الضرب عاد إليه عقله‪ ،‬فأعادوا عليه الضرب‪ ،‬حتى صار لم يحس‬ ‫ّ‬
‫ال هو‪ :‬لقد جلدت‬‫بالضرب‪ ،‬حتى أن أحد جالديه قال‪« :‬والله الذي ال إله إ ّ‬
‫اإلمام أحمد بن حنبل جلد ًا لو جلدته بعير ًا ملات»‪.‬‬

‫((( رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫((( رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،348/10 :‬و«سير أعالم النبالء»‪.252 - 251/11 :‬‬
‫‪38‬‬
‫شدة الضرب‪ ،‬وسيالن دم اإلمام أحمد على األرض‬ ‫فلما رأى املعتصم ّ‬
‫هاله األمر‪ ،‬وأصيب بالرعب‪ ،‬وخشي أن اإلمام أحمد قد مات فأمر بإطالق‬
‫سراحه‪ ،‬قال اإلمام أحمد‪« :‬لم أشعر إال وأنا في حجرة من بيت‪ ،‬وقد أطلقت‬
‫األقياد من رجلي»(((‪.‬‬
‫عم اإلمام‪ ،‬إسحاق بن حنبل أن يشيع في الناس أن اإلمام‬ ‫وأمر املعتصم ّ‬
‫بخير‪ ،‬قال الذهبي‪« :‬كأنّه خاف أن ميوت من الضرب‪ ،‬فتخرج عليه العامة ولو‬
‫خرج عليه عامة بغداد لرمبا عجز عنهم»(((‪.‬‬
‫وملا رجع اإلم��ام أحمد إلى منزله ج��اءه اجلرايحي فقطع حلم ًا ميت ًا من‬
‫جسده‪ ،‬وجعل يداويه‪ ،‬والنائب في كل وقت يسأل عنه‪ ،‬وذلك أن املعتصم ندم‬
‫على ما كان منه إلى أحمد ندم ًا كثير ًا‪ ،‬وجعل يسأل النائب عنه‪ ،‬والنائب يستعلم‬
‫خبره‪ ،‬فلما عوفي فرح املعتصم واملسلمون بذلك‪ ،‬وملا شفاه الله بالعافية بقي‬
‫مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد(((‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬الواثق «هارون بن املعتصم» (املنع والتضييق)‪:‬‬
‫بعد موت املعتصم تو ّلى اخلالفة بعده ابنه‪« :‬الواثق» (هارون بن املعتصم)‬
‫يتعرض لإلمام‪ ،‬حيث رأى أن التعذيب ال يفيد مع اإلمام أحمد‪ ،‬وأنه‬ ‫إال أنه لم ّ‬
‫عرف فيه أنه عن احلق ال ولن يحيد‪ ،‬ورأى أتباعه في مزيد‪ ،‬فأمر أن يكون اإلمام‬
‫حتت اإلقامة اجلبرية في بيته‪ ،‬وألاّ يجتمع بالناس‪ ،‬وال يساكنه بأرض وال مدينة‬
‫هو فيها(((‪.‬‬
‫فبقي اإلمام أحمد مختفي ًا‪ ،‬حتى مات الواثق‪.‬‬

‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،348/10 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪- 251/11 :‬‬
‫‪ ،252‬و«مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪.431 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.260/11 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.369/10 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،264/11 :‬و«مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪،‬‬
‫ص‪.472 :‬‬
‫‪39‬‬
‫رابعا‪ :‬املتوكل‪« :‬جعفر بن املعتصم» (محنة السراء)‪:‬‬
‫بعد موت «الواثق» تو ّلى اخلالفة بعده املتوكل‪ ،‬فحصل للناس خير ًا كثير ًا؛‬
‫فقد انتصر أهل احلق‪ ،‬واندحر أهل البدع‪ ،‬حيث «أطفأ املتوكل نيران البدعة‪،‬‬
‫الس ّنة»(((‪.‬‬
‫وأوقد مصابيح ّ‬
‫وفي عصر املتوكل ازداد اإلمام أحمد رفعة عند العامة واخلاصة‪ ،‬حيث‬
‫أكرم املتوكل اإلمام أحمد‪ ،‬وأرسل إليه العطايا‪ ،‬ولكن اإلمام رفض قبول عطايا‬
‫تقل خطر ًا عن محنة الضراء التي ّ‬
‫تعرض لها‬ ‫اخلليفة‪ ،‬معتبر ًا أن محنة السراء ال ّ‬
‫في عهد اخللفاء السابقني‪.‬‬
‫وقد عظمت مكانة اإلمام أحمد لدى اخلليفة املتوكل؛ فكان ال يو ّلي أحد ًا‬
‫إال مبشورته‪ ،‬قال ابن كثير‪« :‬مكث إلى سنة وفاته وكل يوم إال ويسأل عنه املتوكل‬
‫ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها‪ ،‬ويستشيره في أشياء تقع له»(((‪.‬‬
‫فهذه خيوط عامة في محنة اإلمام أحمد‪ ،‬وقد واجه اإلمام أحمد هذه‬
‫احملنة بأمور عدة؛ منها‪:‬‬
‫أوال‪ :‬الصدع بكلمة احلق‪ ،‬وعدم األخذ بالرخصة أو التقية‪ ،‬قال أحمد‬
‫شاكر في موقف اإلمام أحمد‪« :‬أما أولو العزم من األئمة الهداة فإنهم يأخذون‬
‫بالعزمية‪ ،‬ويحتملون األذى ويثبتون‪ ،‬وفي سبيل الله ما يلقون‪ ،‬ولو أنهم أخذوا‬
‫لضل ال ّناس من ورائهم يقتدون بهم وال يعلمون‬ ‫بالتقية‪ ،‬واستساغوا الرخصة ّ‬
‫أنّ هذه تقية‪ ،‬وقد أتي املسلمون من ضعف علمائهم في مواقف احل��ق‪ ..‬ال‬
‫يجاملون امللوك واحلكام فقط‪ ،‬بل يجاملون كل من طلبوا منه نفع ًا أو خافوا‬
‫(((‬
‫ضر ًا في احلقير واجلليل من أمر الدنيا»‪.‬‬
‫وقال أبو زهرة‪« :‬وألن التقية ال جتوز من األئمة الذين يقتدى بهم ويهتدى‬

‫((( «مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪.484 - 483 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.374/10 :‬‬
‫((( مقدمة مسند اإلمام أحمد بتحقيق الشيخ أحمد شاكر ‪.13/1‬‬
‫‪40‬‬
‫بهديهم‪ ،‬حتى ال يضل الناس؛ ألنهم إن نطقوا بغير ما يعتقدون وليس للناس‬
‫علم ما في الصدر‪ ،‬اتبعوهم في مظهرهم‪ ،‬وظ ّنوا أنه احلق الذي ارتضوه دين ًا‪،‬‬
‫وحق على اإلمام أن يكون الـممتحن‬ ‫ٌّ‬ ‫يخص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وبذلك يكون الفساد عام ًا وال‬
‫الـمبتلى‪ ،‬فتنشر الفكرة السليمة ويكون االبتالء سبيل نشرها وذيوعها»(((‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬الثبات على احلق في عسره ويسره‪ ،‬ومنشطه مكرهه‪ :‬ذلك أن‬
‫تنوعت عليه احملن‪ ،‬فقد اختبره املأمون بالقيد‪،‬‬‫اإلمام أحمد ‪-‬كما سبق‪ -‬قد ّ‬
‫ال يثقله احلديد‪ ،‬واختبره املعتصم باحلبس والضرب‬ ‫مقيد ًا مغلو ً‬
‫فساقه إليه ّ‬
‫والتعذيب‪ ،‬واختبره الواثق باملنع والتضييق‪ ،‬وابتلي في عهد املتوكل بال ّنعم‪،‬‬
‫وشدة حاجته‪ ،‬قال أبو البركات اآللوسي‪:‬‬ ‫وردها‪ ،‬رغم عوزه وفقره‪ّ ،‬‬ ‫فرفضها ّ‬
‫«وقد تداولته أربعة خلفاء‪ :‬بعضهم بالضراء‪ ،‬وبعضهم بالسراء‪ ،‬فكان فيها‬
‫معتصم ًا بالله عز وجل‪ .‬تداوله املأمون‪ ،‬واملعتصم‪ ،‬والواثق بعضهم بالضرب‬
‫واحلبس‪ ،‬وبعضهم باإلخافة والترهيب‪ ،‬فما كان في هذه احلال إال سليم‬
‫الدين‪ ،‬غير ت��ارك له من أجل ضرب وال حبس‪ .‬ثم امتحن أي��ام املتوكل‬
‫بالتكرمي والتعظيم‪ ،‬وبسطت الدنيا عليه فما ركن إليها‪ ،‬وال انتقل عن حالته‬
‫األولى رغبة في الدنيا»(((‪.‬‬
‫ثم ابتلي بعد كل هذه احملن بأعظم بالء‪ ،‬وهو‪ :‬إعجاب الناس به‪ ،‬فما‬
‫أورثه ذلك عجب ًا وال غرور ًا‪ ،‬فنجح ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في كل هذه االمتحانات‬
‫واالبتالءات‪.‬‬
‫عمن كانوا سبب ًا في تعذيبه مبتغي ًا بذلك وجه الله‪ ،‬قال‬
‫ثالثا‪ :‬العفو والصفح ّ‬
‫حل إال أهل البدعة‪ ،‬وكان يتلو في ذلك قوله‬ ‫ابن كثير‪« :‬وجعل كل من آذاه في ّ‬
‫تعالى‪:‬‬
‫{ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ}‬
‫(((‬

‫((( «أحمد بن حنبل»‪ ،‬ألبي زهرة‪ ،‬ص‪.67 :‬‬


‫((( «جالء العينني»‪ ،‬ألبي البركات خير الدين اآللوسي‪ ،‬ص‪.215 :‬‬
‫((( سورة النور‪ ،‬آية‪.22 :‬‬
‫‪41‬‬
‫وكان يقول‪« :‬ماذا ينفعك أن ّ‬
‫يعذب أخوك املسلم بسببك؟‬
‫وقد قال تعالى‪:‬‬
‫{ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ}((( ((‪.‬‬
‫تسببوا في هذه احملنة فقد عاقبهم الله في الدنيا قبل اآلخرة‪،‬‬
‫وأما من ّ‬
‫فأحمد بن أبي دؤاد الذي أفتى بضرب العلماء وسجنهم وقتلهم‪ ،‬فقد عاقبه‬
‫الله بالفالج (أي الشلل)‪ ،‬فمكث أربع سنوات قبل موته طريح ًا في فراشه‪،‬‬
‫وعزله املتوكل من وظيفته‪ ،‬بل أمر املتوكل مبصادرة جميع أمواله‪.‬‬
‫وأما نهاية اجلالدين‪ ،‬فقد أصيب أبو ذر بالبرص واملرض‪ّ ،‬‬
‫وتقطع جسمه‪،‬‬
‫وأهلكه الله بسوء عمله‪.‬‬
‫وأما أبو العروق فمكث خمسة وأربعني يوم ًا ينبح كما ينبح الكلب‪ ،‬ابتاله‬
‫الله مبرض فصار ينبح كالكالب(((‪.‬‬
‫اليونانية في‬
‫ّ‬ ‫يعد ّأول من أدخل علم املنطق وسائر العلوم‬
‫وأما املأمون الذي ّ‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وكان السبب في هذه احملنة العظيمة‪ ،‬فقد قال ابن تيمية عنه‪:‬‬
‫ّ‬ ‫امل ّلة‬
‫أظن أنّ الله تعالى يغفل املأمون على ما أدخل على املسلمني»‪.‬‬
‫«ما ّ‬
‫وفاته‪:‬‬
‫توفي اإلمام أحمد بن حنبل في وقت الضحى من يوم اجلمعة‪ ،‬في الثاني‬
‫عشر من شهر ربيع األول‪ ،‬سنة ‪241‬هـ‪ ،‬وهو ابن سبع وسبعني سنة‪ ،‬ودفن بعد‬
‫(((‬
‫العصر‬

‫((( سورة الشورى‪ ،‬آية‪.40 :‬‬


‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.369/10 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬املنهج األحمد»‪ ،‬ألبي اليمن العليمي‪40 - 39/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،375/10 :‬و«مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪،‬‬
‫ص‪.549 :‬‬
‫‪42‬‬
‫وقد اجتمع الناس في الشوارع عقب معرفتهم بوفاته‪.‬‬
‫يقبلون‬
‫وحضر غسله نحو من مائة من بيت اخلالفة من بني هاشم‪ ،‬فجعلوا ّ‬
‫ويترحمون عليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بني عينيه‪ ،‬ويدعون له‪،‬‬
‫وخرج الناس بنعشه واخلالئق حوله من الرجال والنساء ما ال يعلم عددهم‬
‫فتقدم‬
‫إال الله‪ ،‬ونائب البلد محمد بن عبدالله بن طاهر واق��ف في الناس‪ّ ،‬‬
‫خطوات‪ ،‬فعزى أوالد اإلمام أحمد فيه‪ ،‬وكان هو الذي ّأم الناس في الصالة‬
‫عليه‪ ،‬وقد أعاد جماعة من الناس الصالة على القبر بعد الدفن من أجل ذلك‪،‬‬
‫ولم يستقر في قبره ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬إال بعد صالة العصر؛ وذلك لكثرة الناس‪.‬‬
‫قال أبو زرعة‪« :‬بلغني أن املتوكل أمر أن ميسح املوضع الذي وقف الناس‬
‫عليه حيث ص ّلي على أحمد بن حنبل‪ ،‬فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف»‪.‬‬
‫قال عبدالوهاب الوراق‪« :‬أظهر الناس في جنازة أحمد بن حنبل ّ‬
‫الس ّنة‬
‫فسر الله املسلمني بذلك على ما عندهم من املصيبة‪ ،‬ملا‬
‫والطعن على أهل البدع‪ّ ،‬‬
‫رأوا من العز وعلو اإلسالم وكبت أهل الزيغ‪ ،‬ولزم بعض الناس القبر‪ ،‬وباتوا‬
‫عنده‪ ،‬وجعل النساء يأتني حتى منعن»‪.‬‬
‫وقال عبدالوهاب الوراق أيض ًا‪« :‬ما بلغنا أن جمع ًا في اجلاهلية واإلسالم‬
‫كان أكثر من اجلمع على جنازة أبي عبدالله»(((‪.‬‬
‫وقد رآه بعضهم بعد موته‪ ،‬قال سلمة بن شبيب‪« :‬كنا عند أحمد بن حنبل‬
‫وجاءه شيخ ومعه عكازة فس ّلم وجلس فقال‪ :‬من منكم أحمد بن حنبل؟ فقال‬
‫أحمد‪ :‬أنا ما حاجتك؟ فقال‪ :‬ضربت إليك من أربعمائة فرسخ‪ ،‬أريت اخلضر‬
‫في املنام فقال لي‪ :‬سر إلى أحمد بن حنبل وسل عنه‪ ،‬وقل له‪ :‬إن ساكن العرش‬
‫واملالئكة راضون مبا صبرت نفسك لله عز وجل»(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،334 - 332/11 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪:‬‬
‫‪.356 - 375/10‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.378 - 376 /10 :‬‬
‫‪43‬‬
‫وقد رآه بعض العلماء في املنام بعد موته في هيئة حسنة‪ ،‬ونعيم مقيم‪ ،‬ومن‬
‫ذلك‪ :‬قال أحمد بن محمد الكندي‪« :‬رأيت أحمد بن حنبل في املنام‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫في‬
‫يا أبا عبد الله‪ ،‬ما صنع الله بك؟ قال‪ :‬غفر لي‪ ،‬وقال لي‪ :‬يا أحمد‪ ،‬ضربت ّ‬
‫رب‪ ،‬قال‪ :‬هذا وجهي فانظر إليه‪ ،‬فقد أبحتك النظر إليه»(((‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم يا ّ‬
‫السمسار البغدادي‪« :‬رأيت أحمد بن حنبل في املنام وعلى‬‫وقال أبا يحيى ّ‬
‫مرصع باجلوهر‪ ،‬وإذا هو يخطر خطرة لم أعرفها له في دار الدنيا‪،‬‬ ‫تاج ّ‬ ‫رأسه ٌ‬
‫وتوجني التاج‪،‬‬
‫فقلت له‪ :‬يا أبا عبد الله‪ ،‬ما فعل الله بك؟ قال‪ :‬غفر لي وأدناني ّ‬
‫اخلدام في دار‬
‫فقال‪ :‬هذا بقولك‪ :‬القرآن كالم الله غير مخلوق‪ ،‬وهذه مشية ّ‬
‫السالم»(((‪.‬‬

‫((( «مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪.593 :‬‬


‫((( «مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،‬ص‪ ،587 - 586 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن‬
‫كثير‪377/10 :‬‬
‫‪44‬‬
‫البويطي‬
‫ّ‬ ‫(‪)3‬‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫البويطي‪ .‬اإلم��ام‪ ،‬العلاّ مة‪ ،‬سيد الفقهاء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ابو يعقوب يوسف بن يحيى‬
‫أخص تالميذ اإلمام الشافعي(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫البويطي فيعود نسبه إلى قرية‪« :‬بويط»‪ ،‬وهي قرية من قرى‬
‫ّ‬ ‫وأما نسب‬
‫الصعيد األدنى في مصر(((‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫للبويطي تاريخ‬
‫ّ‬ ‫لم يذكر علماء التاريخ والسير التراجم الذين ترجموا‬
‫والدته‪ ،‬وأما مكان والدته فقد ولد بقرية‪« :‬بويط» وهي قرية من قرى صعيد‬
‫مصر ‪-‬كما سبق‪.-‬‬
‫البويطي في قريته‪« :‬بويط»‪ ،‬وترعرع فيها‪ ،‬وتلقى العلم‬
‫ّ‬ ‫وأما نشأته فقد نشأ‬
‫على يد شيوخها منذ صغره‪ ،‬ثم انتقل مع والده إلى مدينة‪« :‬الفسطاط» حيث‬
‫البويطي إلى شيخ املالكية عبد‬
‫ّ‬ ‫كانت وقتئذ أحد قالع العلم في العالم‪ ،‬فجلس‬
‫الله بن وهب‪ ،‬وأخذ عنه علم ًا كثير ًا(((‪.‬‬
‫وملا دخل الشافعي مصر سنة ‪198‬هـ في رحلته العلمية الشهيرة جلس إليه‬
‫«البويطي»‪ ،‬ولزم حلقته‪.‬‬
‫ّ‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء» للذهبي‪ ،58/12 :‬و«طبقات الفقهاء»‪ ،‬للشيرازي‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪ ،98‬و«االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪ ،109 :‬و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي‪:‬‬
‫‪.439/16‬‬
‫((( ينظر‪« :‬وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪ ،64/7 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪:‬‬
‫‪ ،164/29‬واألنساب املتفقة‪ ،‬البن القيسراني‪ ،‬ص‪« ،21 :‬األنساب»‪ ،‬للسمعاني‪:‬‬
‫‪ ،366/2‬و«اللباب في تهذيب األنساب» البن األثير‪،189/1 :‬‬
‫((( «سير أع�لام النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،59/12 :‬و«ت��اري��خ بغداد» للخطيب البغدادي‪:‬‬
‫‪ ،439/16‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان»‪ ،63/7 :‬و«معجم البلدان»‪ ،‬لياقوت‬
‫احلموي‪.513/1 :‬‬
‫‪45‬‬
‫البويطي منذ صباه بحرصه على طلب العلم‪ ،‬وذكائه احلاد‪ ،‬وفهمه‬
‫ّ‬ ‫متيز‬
‫وقد ّ‬
‫الثاقب؛ حتى أن الشافعي أعجب به‪ ،‬قال الربيع بن سيلمان (وهو نظيره وقرينه‬
‫في حلقة الشافعي)‪« :‬كان أبو يعقوب من الشافعي مبكان مكني»(((‪.‬‬
‫البويطي للفتوى وهو في شرخ الشباب على مرأى ومسمع من‬
‫ّ‬ ‫تأهل‬
‫وقد ّ‬
‫الشافعي‪ ،‬فقد ذكر علماء التراجم الذين ترجموا للبويطي‪ :‬أن الشافعي رمبا‬
‫سئل عن املسألة‪ ،‬فيقول‪ :‬سل أبا يعقوب‪ ،‬فإذا أجاب أخبره‪ ،‬فيقول‪« :‬هو كما‬
‫قال»(((‪.‬‬
‫البويطي في الفتيا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وقال أبو عاصم‪« :‬كان الشافعي ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬يعتمد‬
‫فتخرجت‬‫ّ‬ ‫ويحيل عليه إذا جاءته مسألة‪ ...‬واستخلفه على أصحابه بعد موته‪،‬‬
‫على يديه أئمة تفرقوا في البالد‪ ،‬ونشروا علم الشافعي في اآلفاق»(((‪.‬‬
‫البويطي الشافعي حتى صار أكبر أصحابه‪ ،‬وأكثرهم فهم ًا لدقائق‬
‫ّ‬ ‫وقد الزم‬
‫مذهبه ومسائله‪ ،‬قال اإلمام الشافعي‪« :‬ليس أحد أحق مبجلسي من يوسف بن‬
‫يحيى‪ ،‬وليس من أصحابي أعلم منه»(((‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫أصدق ثناء على اإلنسان‪ :‬أفعاله ومواقفه وخالله‪.‬‬
‫ثم يأتي بعد ذلك‪ :‬ثناء املالزمني أو املجالسني أو املجاورين له‪.‬‬

‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.163/2 :‬‬


‫((( «طبقات الشافعيني»‪ ،‬الب��ن كثير‪ ،‬ص‪ ،160 :‬و«طبقات الشافعية»‪ ،‬الب��ن قاضى‬
‫شهبة‪ ،71/1 :‬و«مرآة اجلنان» لليافعي‪ ،77/2 :‬و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي‪:‬‬
‫‪ ،439/16‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪ ،63/7 :‬و«تهذيب الكمال»‪ ،‬للمزي‪:‬‬
‫‪ ،474/32‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪.165/29 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.163/2 :‬‬
‫((( «اجلوهرة»‪ ،‬للتلمساني‪ ،456/1 :‬و«تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪ ،423/17 :‬و«حسن‬
‫احملاضرة» للسيوطي‪ ،306/1 :‬و«سير أعالم النبالء» للذهبي‪ ،60/12 :‬و«طبقات‬
‫الفقهاء»‪ ،‬للشيرازي‪ ،‬ص‪ ،98 :‬و«طبقات الشافعية»‪ ،‬البن قاضى شهبة‪.71/1 :‬‬
‫‪46‬‬
‫ثم يأتي بعد ذلك‪ :‬ثناء القارئني لسيرته أو ّ‬
‫املطلعني على أخباره‪.‬‬
‫وللبويطي في كل ما سبق أصدق ثناء وأعظم مدح‪.‬‬
‫أما أصدق األفعال واملواقف التي ّ‬
‫تدل على الثناء عليه فصدعه باحلق‪،‬‬
‫ونصرته له‪ ،‬وثباته عليه‪ ،‬كما سيأتي احلديث عن ذلك في محنته‪.‬‬
‫أم��ا ثناء امل�لازم�ين واملجالسني امل��ج��اوري��ن للبويطي‪ ،‬فقد أثنى عليه‬
‫شيخه اإلم��ام الشافعي‪ ،‬حيث قال عنه‪« :‬ليس في أصحابي أحد أعلم من‬
‫البويطي»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫«البويطي لساني الذي أتكلم به»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وقال أيضا عنه الشافعي‪:‬‬
‫وأثنى عليه قرينه ونظيره في طلب العلم الربيع بن سليمان‪ ،‬قال الربيع ابن‬
‫سليمان‪« :‬كان أبو يعقوب البويطي يصوم ويقرأ القرآن‪ ،‬ال يكاد مير يوم وليلة‬
‫إال ختمه‪ ،‬مع صنائع املعروف إلى الناس»(((‪.‬‬
‫البويطي أبد ًا يحرك شفتيه بذكر الله‪ ،‬وما أبصرت‬
‫ّ‬ ‫وقال الربيع أيض ًا‪« :‬كان‬
‫البويطي»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أحد ًا أنزع (أبرع) ّ‬
‫بحجة من كتاب الله من‬
‫البويطي‬
‫ّ‬ ‫وأثنى على البويطي جيرانه‪ ،‬حيث قال عنه ابن أبي اجلارود‪« :‬كان‬
‫جاري فما كنت أنتبه ساعة من الليل إال سمعته يقرأ ويصلي»(((‪.‬‬

‫((( «سير أعالم النبالء» للذهبي‪ ،59 ،/12 :‬و«طبقات الفقهاء»‪ ،‬للشيرازي‪ ،‬ص‪،98 :‬‬
‫و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪ ،63/7 :‬و«طبقات الشافعية»‪ ،‬البن قاضى شهبة‪:‬‬
‫‪ ،71/1‬و«مرآة اجلنان» لليافعي‪ ،76/2 :‬و«حسن احملاضرة» للسيوطي‪،306/1 :‬‬
‫و«شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪.143/3 :‬‬
‫((( «وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪ ،63/7 :‬و«طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪،160 :‬‬
‫و«طبقات الشافعية»‪ ،‬البن قاضى شهبة‪.71/1 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪ ،161 :‬وطبقات الشافعية‪ ،‬البن قاضى شهبة‪:‬‬
‫‪ ،71/1‬و«سير أعالم النبالء» للذهبي‪.60/12 :‬‬
‫((( «وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪.62/7 :‬‬
‫((( «طبقات الفقهاء» للشيرازي‪ ،‬ص‪ ،98 :‬و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي‪،439/16 :‬‬
‫‪47‬‬
‫وأما ثناء القارئني لسيرته ّ‬
‫واملطلعني على أخباره من العلماء‪ ،‬فأقوالهم في‬
‫ذلك كثيرة جد ًا‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫قال الذهبي‪« :‬اإلمام‪ ،‬العالمة‪ ،‬سيد الفقهاء‪ ،‬املصري‪ ،‬البويطي‪ ،‬صاحب‬
‫وتخرج به‪ ،‬وفاق األقران‪ ...‬وكان إمام ًا في العلم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلمام الشافعي‪ ،‬الزمه مدة‪،‬‬
‫متهجد ًا‪ ،‬دائم الذكر والعكوف على الفقه»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قدوة في العمل‪ ،‬زاهد ًا رباني ًا‪،‬‬
‫متهجد ًا‪ ،‬دائم الذكر‬
‫ّ‬ ‫وقال أيض ًا‪« :‬اإلم��ام‪ ...‬الفقيه‪ ...‬كان صاحل ًا عابد ًا‬
‫والتشاغل بالعلم»(((‪.‬‬
‫البويطي يصوم‪ ،‬ويتلو غالب ًا في اليوم والليلة ختمة مع‬
‫ّ‬ ‫وقال أيض ًا‪« :‬كان‬
‫صنائع املعروف إلى الناس»(((‪.‬‬
‫وقال ابن خلكان‪« :‬صاحب الشافعي ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬كان واسطة عقد‬
‫جماعته وأظهرهم جناب ًة‪ ،‬اختص به في حياته‪ ،‬وقام مقامه في الدرس والفتوى‬
‫بعد وفاته‪ ...‬وكان صاحل ًا متنسك ًا عابد ًا زاهد ًا»(((‪.‬‬
‫وقال ابن قاضي شهبة‪« :‬الفقيه‪ ،‬أحد األعالم من أصحاب الشّ افعي‪ ،‬وأئمة‬
‫اإلسالم»(((‪.‬‬
‫وقال ابن اجلوزي‪« :‬ثقة فقيه‪ ،‬من أهل السنة»(((‪.‬‬

‫و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان»‪ ،62/7 :‬و«تهذيب الكمال» للمزي»‪،474/32 :‬‬


‫و«الوافي بالوفيات» للصفدي»‪ ،165/29 :‬و«طبقات الشافعية»‪ ،‬البن قاضى شهبة‪:‬‬
‫‪ ،72/1‬و«املنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪.174/11 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء» للذهبي‪.59 - 58/12 :‬‬
‫((( «تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪422/17 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء» للذهبي‪60/12 :‬‬
‫((( «وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪62 – 61/7 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية»‪ ،‬البن قاضى شهبة‪70/1 :‬‬
‫((( «صفة الصفوة»‪ ،‬البن اجلوزي‪443/2 :‬‬
‫‪48‬‬
‫وقال ابن اجلوزي أيض ًا‪« :‬جمع بني الفقه والتقوى وامتحن فلم يجب»(((‪.‬‬
‫وقال ابن العماد احلنبلي‪« :‬العلاّ مة‪ ..‬الفقيه‪ ..‬وكان عابد ًا مجتهد ًا‪ ،‬دائم‬
‫ّ‬
‫الذكر‪ ،‬كبير القدر»(((‪.‬‬
‫وقال املزي‪« :‬وكان صاحل ًا‪ّ ،‬‬
‫متعبد ًا‪ ،‬زاهد ًا»(((‪.‬‬
‫وقال السبكي‪« :‬اإلمام اجلليل‪ ...‬كان إمام ًا جلي ً‬
‫ال عابد ًا زاهد ًا فقيه ًا عظيم ًا‬
‫ال من جبال العلم والدين‪ ،‬غالب أوقاته الذكر والتشاغل بالعلم‪،‬‬ ‫مناظر ًا جب ً‬
‫غالب ليله التهجد والتالوة‪ ،‬سريع الدمعة»(((‪.‬‬
‫البويطي من السلطان فمن‬ ‫ّ‬ ‫وقال السبكي أيض ًا‪« :‬وكانت الفتاوى ترد على‬
‫متنوع في صنائع املعروف‪ ،‬كثير التالوة ال مير يوم وليلة غالب ًا حتى‬ ‫دونه‪ ،‬وهو ّ‬
‫يختم»(((‪.‬‬
‫وقال السبكي أيض ًا‪« :‬يرحم الله أبا يعقوب لقد قام مقام الصديقني»(((‪.‬‬
‫وقال ابن عبد البر‪« :‬كان من أهل الدين والعلم والفهم والثقة‪ ،‬صلب ًا في‬
‫الس ّنة‪ ،‬فيرد على أهل البدع‪ ،‬وكان حسن النظر»(((‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وقال ابن عبد البر أيض ًا‪« :‬استخلفه (أي الشافعي مع جاللة قدره وفضله‬
‫ونبله) في حلقته‪ ،‬وكان عامل ًا فقيه ًا لطيف ًا في أسبابه‪ ،‬يدني الغرباء ّ‬
‫ويقربهم إذا‬
‫قدموا للطلب»(((‪.‬‬

‫((( «صفة الصفوة»‪ ،‬البن اجلوزي ‪443/2‬‬


‫((( «شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪143/3 :‬‬
‫((( «تهذيب الكمال»‪ ،‬للمزي‪473/32 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.162/2 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.164/2 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.165/2 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعيني»‪ ،‬الب��ن كثير‪ ،‬ص‪ ،160 :‬و«تهذيب التهذيب»‪ ،‬الب��ن حجر‪:‬‬
‫‪.428/11‬‬
‫((( «االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪.109 :‬‬
‫‪49‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫البويطي مبؤلفات كثيرة‪ ،‬إمنا عرف بعلمه الغزير‪ ،‬وأيض ًا عرف‬
‫ّ‬ ‫لم يعرف‬
‫بأنه من العلماء الذين ترجموا علمهم على أرض الواقع كما سيأتي شاهد ذلك‬
‫عند احلديث عنه محنته‪.‬‬
‫ومن مؤلفات البويطي التي ذكرها أغلب العلماء الذين ترجموا له‪:‬‬
‫‪ -1‬كتاب‪« :‬املختصر» املشهور في الفقه الشافعي‪ ،‬اختصره من كالم الشافعي‪،‬‬
‫قال أبو عاصم عنه‪« :‬هو في غاية احلسن على نظم أبواب املبسوط»(((‪.‬‬
‫وأضاف ابن الندمي((( على ذلك‪:‬‬
‫‪ -2‬كتاب الفرائض‪.‬‬
‫وأضاف البغدادي((( إلى ما سبق‪:‬‬
‫‪ -3‬مختصر في الفروع‪.‬‬
‫‪ -4‬النزهة الزهية‪.‬‬
‫محنته‪:‬‬
‫يتعرض لها العلماء والفقهاء‪،‬‬
‫تعد محنة «القول بخلق القرآن» أشد محنة ّ‬
‫ّ‬
‫وذلك من خالل حيثيات عدة؛ منها‪:‬‬
‫ومتس‬
‫ّ‬ ‫عقدية‪ ،‬تتع ّلق بصفات الله‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األولى‪ :‬من حيث نوعيتها‪ :‬فهي محنة‬
‫أهم مصدر من مصادر التشريع اإلسالمي‪« :‬القرآن»‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬من حيث مدتها‪ :‬حيث طال ليلها حتى جاوز عشرين سنة (‪212‬هـ‬
‫‪232 -‬هـ)‪.‬‬

‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،163/2 :‬و«الفهرست»‪ ،‬البن الندمي‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪ ،262‬و«األعالم»‪ ،‬للزركلي‪.257/8 :‬‬
‫((( «الفهرست»‪ ،‬البن الندمي‪ ،‬ص‪.262 :‬‬
‫((( «هدية العارفني»‪ ،‬للباباني البغدادي‪.549/2 :‬‬
‫‪50‬‬
‫الثالثة‪ :‬من حيث املتبنني لها والقائمني عليها‪ :‬حيث تب ّناها وأشرف‬
‫عليها كبار أمراء الدولة آنذاك‪« :‬املأمون‪ ،‬واملعتصم‪ ،‬والواثق»‪ ،‬مسخرين في‬
‫سبيلها كافة أجهزة الدولة وإمكانياتها‪ ،‬مستخدمني كافة وسائل الترغيب‬
‫واإلغراء والترهيب والتخويف والتعذيب في حق من يرفض القول بخلق‬
‫القرآن‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬من حيث شموليتها‪ :‬فقد شملت فئات املجتمع‪ ،‬وفي مقدمتهم‬
‫العلماء والفقهاء‪ ،‬بل شملت حتى أسرى املسلمني لدى الروم؛ كما حدث ذلك‬
‫في والية الواثق؛ فمن قال منهم بخلق القرآن افتكه‪ ،‬ومن رفض تركه أسير ًا‬
‫لدى الروم في سابقة لم يعرف التاريخ مثلها من قبل(((‪.‬‬
‫ولم تقتصر هذه احملنة على علماء وفقهاء العراق فقط‪ ،‬بل شملت كافة‬
‫املدن التابعة للخالفة العباسية‪ ،‬ومن املدن التي شملتها احملنة‪« :‬مصر»‪ ،‬حيث‬
‫كان لعلمائها وفقهائها نصيب ًا منها‪ ،‬فمنهم من امتحن في مصر نفسها من قبل‬
‫والتها وقضاتها‪ ،‬ومنهم من حمل إلى الرقة بسوريا‪ ،‬ومنهم من حمل إلى‬
‫بغداد العراق‪.‬‬
‫ومن أبرز علماء مصر الذين امتحنوا بسبب فتنة القول بخلق القرآن ثم‬
‫«البويطي»‪ ،‬حيث كانت محنته أثناء والية «الواثق»‪ ،‬ذلك أن‬
‫ّ‬ ‫حملوا إلى العراق‪:‬‬
‫ال للناس على القول بخلق القرآن‪.‬‬ ‫الواثق كان أشد أمراء الدولة العباسية حم ً‬
‫قال ابن كثير‪« :‬وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن‪ ،‬يدعو‬
‫إليه لي ً‬
‫ال ونهار ًا‪ ،‬سر ًا وجهار ًا‪ ،‬اعتماد ًا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه املأمون‪،‬‬
‫من غير دليل وال برهان وال حجة وال بيان وال س ّنة وال قرآن»(((‪.‬‬
‫عدة في سبيل نشر‬ ‫سيـئ ًا‪ ،‬حيث ا ّتخذ إجراءات ّ‬ ‫بل بلغ األمر بالواثق مبلغ ًا ّ‬
‫عقيدة املعتزلة‪ ،‬ومنها‪ :‬تعيني قضاة من املعتزلة املعتنقني لعقيدة املعتزلة املنحرفة‬

‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،337 -336/10 :‬و«اجلوهرة»‪ ،‬للتلمساني‪:‬‬
‫‪ ،457/1‬و«تاريخ الرسل وامللوك»‪ ،‬البن جرير الطبري‪.139/9 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.334/10 :‬‬
‫‪51‬‬
‫في كافة األمصار التابعة للخالفة العباسية‪ ،‬ومنها مصر‪ ،‬حيث مت تعيني محمد‬
‫بن أبي الليث األصم احلنفي املعتزلي قاضي ًا عليها؛ كما ذكر ذلك الكندي بقوله‪:‬‬
‫«قدم أبو الوزير والي ًا على خراج مصر‪ ،‬وقدم معه بكتاب والية ابن أبي الليث‬
‫على القضاء»(((‪.‬‬
‫وذكر الذهبي((( أن والية محمد بن أبي الليث األصم لقضاء مصر كانت‬
‫أيام املعتصم والواثق‪.‬‬
‫شدد على الناس‬ ‫وقد كان محمد بن أبي الليث األصم رجل سوء‪ ،‬حيث ّ‬
‫بسبب هذه العقيدة املنحرفة‪ ،‬فلم يترك فقيه ًا في مصر وال متحدث ًا وال مؤذن ًا‬
‫ح ّتى أخذه باحملنة‪ ،‬ومأل السجون ّممن لم يجب‪ ،‬وهرب كثير من الناس‪ ،‬وأمر‬
‫ال الله رب القرآن املخلوق‪ ،‬ومنع الفقهاء من‬ ‫بأن يكتب على املساجد‪ :‬ال إله إ ّ‬
‫أصحاب مالك من اجللوس في املسجد اجلامع(((‪.‬‬
‫وكان البويطي من أبرز ضحايا‪ :‬محمد بن أبي الليث األصم‪ ،‬حيث سعى‬
‫به((( (( إلى قاضي احملنة ابن أبي دؤاد‪ ،‬ملا ما له من املكانة لدى العامة واخلاصة‪،‬‬
‫البويطي يحول بني نشر العقيدة‬
‫ّ‬ ‫فقد كتب إلى ابن أبي دؤاد ما مضمونه‪ :‬أن‬

‫((( «أخبار القضاة»‪ ،‬للكندي‪.240/3 :‬‬


‫((( «تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪ ،423/18 :‬وينظر‪« :‬احملن»‪ ،‬ألبي العرب التميمي‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪ ،469‬و«ترتيب املدارك»‪ ،‬ألبي الفضل اليحصبي‪.378/3 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬رفع اإلصر»‪ ،‬البن حجر العسقالني‪ ،‬ص‪.404 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء» للذهبي»‪ ،60/12 :‬و«طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪ ،161‬و«تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪ ،423/17 :‬و«االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪،109 :‬‬
‫و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪.62/7 :‬‬
‫((( وقد ذكر بعض علماء التراجم‪ :‬أنه شارك في السعي في محنة البويطي (إضافة إلى أبي‬
‫بكر األصم)‪ :‬ابن الشافعي‪ ،‬وكان مخالف ًا للشافعي ‪-‬لألسف‪ ،-‬ولم يكن على طريقته‪،‬‬
‫وشارك أيض ًا في السعي به‪ :‬املزني‪ ،‬وحرملة [ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء» للذهبي»‪:‬‬
‫‪ ،61/12‬و«طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ]164/2 :‬والله أعلم‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫في الديار املصرية‪ ،‬فكتب أحمد بن أبي دؤاد إلى والي مصر آمر ًا ّإياه بامتحان‬
‫البويطي على خلق القرآن(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫البويطي‬
‫ّ‬ ‫«البويطي» لالمتحان‪ ،‬فلما مثل‬
‫ّ‬ ‫فاستدعى والي مصر آنذاك‪:‬‬
‫البويطي باألمر سر ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حتدث مع‬
‫أمام والي مصر أمر الوالي بإخالء املجلس‪ ،‬ثم ّ‬
‫ذلك أن والي مصر كان محب ًا للبويطي‪ّ ،‬‬
‫معظم ًا لعلمه وورعه‪ ،‬وكاره ًا أن‬
‫البويطي بأي نوع من أنواع األذى‪ ،‬فقال الوالي للبويطي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يكون سبب ًا في أذية‬
‫البويطي‪« :‬إنه يقتدي بي مائة ألف‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫«قل فيما بيني وبينك»‪ ،‬فرد عليه‬
‫يدرون املعنى»(((‪.‬‬
‫البويطي من مصر إلى بغداد‬
‫ّ‬ ‫وكان قاضي الفتنة ابن أبي دؤاد قد أمر بحمل‬
‫إن هو لم يجب‪ ،‬قال الربيع بن سليمان حاكي ًا قصة حمله من مصر إلى بغداد‬
‫البويطي على بغل في عنقه‬
‫ّ‬ ‫(وهي مسافة طويلة تستغرق عدة أسابيع)‪« :‬رأيت‬
‫غل‪ ،‬وفي رجليه قيد‪ ،‬وبني الغل والقيد سلسلة من حديد‪ ،‬فيها طوبة (لبنة)‬
‫وزنها أربعون رط ً‬
‫ال»(((‪.‬‬
‫«البويطي» من مصر إلى بغداد في القيود واألغالل كان آمر ًا‬
‫ّ‬ ‫وأثناء مسير‬
‫باملعروف‪ ،‬ناهي ًا عن املنكر‪ ،‬مرشد ًا واعظ ًا لكل من ّ‬
‫مر عليه من املسلمني‪ ،‬صابر ًا‬
‫محتسب ًا موطن ًا نفسه على الثبات‪ ،‬قال الربيع بن سليمان حاكي ًا ما سمعه من‬
‫البويطي)‪ :‬إمنا خلق الله سبحانه اخللق‬
‫ّ‬ ‫البويطي أثناء حمله‪ ...« :‬وهو يقول (أي‬
‫ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ب«كن»‪ ،‬فإذا كانت «كن» مخلوقة فكأن مخلوقا خلق مخلوقا‪ ،‬فوالله ألموتن‬

‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،60/12 :‬و«طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.161‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء» للذهبي‪ ،61/12 :‬و«طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪،161 :‬‬
‫و«تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.423/17 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء» للذهبي»‪ ،59 /12 :‬و«مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪،‬‬
‫ص‪ ،535 :‬و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي‪ ،439/16 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن‬
‫خلكان‪.62/7 :‬‬
‫‪53‬‬
‫في حديدي حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون‪ :‬أنه مات في هذا الشأن قوم في‬
‫البويطي‬
‫ّ‬ ‫حديدهم‪ ،‬ولئن أدخلت عليه ألصدقنه‪ ،‬يعني الواثق»(((‪ .‬فلما وصل‬
‫بغداد ألقي في السجن مباشرة مكب ً‬
‫ال باألغالل والقيود‪.‬‬
‫وقد جرى للبويطي أثناء محنته مواقف عدة؛ منها‪:‬‬
‫‪ -1‬محاولة إغرائه باملال لع ّله يتراجع‪ :‬قال أبو بكر بن ثابت‪« :‬بعث ابن أبى‬
‫البويطي بعض أصحابه إلى السجن‪ ،‬وهو يقول له‪ :‬إنه يس ّلم عليك ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫دؤاد إلى‬
‫وكانت بينهما صداقة ‪ -‬وإذا كان الغد وأحضرت بني يدى أمير املؤمنني وسألك‬
‫محملة ّمما تريد تعود بها إلى‬
‫ال ّ‬‫عن خلق القرآن فقل به‪ ،‬ولك علي أربعون حم ً‬
‫مصر‪ ،‬فقال للرسول‪« :‬نعم في غد نتكلم إن شاء الله تعالى‪ .‬فلما أحضر جلس‬
‫اخلليفة‪ ،‬وجلس ابن أبى دؤاد‪ ،‬فقال له البويطى‪ :‬والله ال أقول بخلق القرآن‬
‫ولو أعطيت وزن جبل تهامة ذهب ًا‪ ،‬فضرب‪ ،‬فكان إذا شرب املاء خرج من بني‬
‫أضالعه»(((‪.‬‬
‫‪ -2‬امتحانه وضربه كل يوم‪ :‬قال مكي بن إبراهيم‪« :‬وكان في كل يوم‬
‫ربى ليس‬
‫يخرج من السجن مع األعيان يرفل في قيده فيسأل‪ ،‬فيقول‪ :‬هو كالم ّ‬
‫مبخلوق‪ ،‬فيضرب ويعاد إلى السجن»(((‪.‬‬
‫واملستحبة‪ :‬فقد حكى الساجي‬
‫ّ‬ ‫قوة تع ّلقه بالله‪ ،‬وقيامه بالعبادة الواجبة‬
‫‪ّ -3‬‬
‫البويطي ألوامر الله‪ ،‬وبذله وسعه في االستجابة لنداء‬
‫ّ‬ ‫قصة تدل على تعظيم‬
‫الله‪ ،‬قال الساجي‪« :‬كان أبو يعقوب إذا سمع املؤذن وهو في السجن يوم اجلمعة‬
‫اغتسل ولبس ثيابه‪ ،‬ومشى حتى يبلغ باب احلبس‪ ،‬فيقول له السجان‪ :‬أين تريد؟‬
‫فيقول‪ :‬حيث داعي الله‪ ،‬فيقول‪ :‬ارجع عافاك الله‪ ،‬فيقول أبو يعقوب‪ :‬اللهم‬

‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،59 /12 :‬و«مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪،‬‬
‫ص‪ ،535 :‬و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي‪ ،439/16 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن‬
‫خلكان‪.62/7 :‬‬
‫الزوار» ملكي بن عثمان الشارعي‪.442 -441/1 :‬‬ ‫((( «مرشد ّ‬
‫الزوار» ملكي بن عثمان الشارعي‪.441/1 :‬‬ ‫((( «مرشد ّ‬
‫‪54‬‬
‫إنك تعلم أني قد أجبت داعيك؛ فمنعوني»(((‪.‬‬
‫‪ -4‬تشديد األغالل والقيود عليه حتى وصلت القيود إلى أنصاف ساقيه‪:‬‬
‫«وذلك بعد أن فشلت جميع محاولتهم في سبيل محاولة كسر إرادته‪ ،‬وتص ّلبه‬
‫في الثبات على مواقفه حيث حاولوا إغرائه باملال‪ ،‬ثم امتحانه وضربه كل يوم‪،‬‬
‫ال وسعه في سبيل‬ ‫فوجدوه ثابت ًا ثبوت اجلبال‪ ،‬قائم ًا بأوامر ربه املتعال‪ ،‬باذ ً‬
‫البويطي أيام احملنة فرأيته‬
‫ّ‬ ‫حضور صالة اجلمعة»‪ ،‬قال الربيع‪« :‬دخلت على‬
‫مقيد ًا إلى أنصاف ساقيه مغلولة يداه إلى عنقه»(((‪.‬‬
‫وبتشديد األغالل والقيود عليه حتى وصلت القيود إلى أنصاف ساقيه‬
‫والتطهر للصالة إال‬
‫ّ‬ ‫البويطي ال يستطيع احلركة‪ ،‬ودخول اخلالء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لكثرتها كان‬
‫البويطي عن ذلك برسالة بعث بها من محبسه إلى اإلمام‬
‫ّ‬ ‫عبر‬
‫بصعوبة بالغة‪ ،‬وقد ّ‬
‫الذهلي‪ ،‬قال أبو عمرو املستملى‪« :‬حضرنا مجلس محمد بن يحيى الذهلي فقرأ‬
‫البويطي إليه وإذا فيه‪ :‬والذى أسألك أن تعرض حالي على إخواننا‬
‫ّ‬ ‫علينا كتاب‬
‫أهل احلديث لعل الله يخ ّلصني بدعائهم فإني في احلديد‪ ،‬وقد عجزت عن أداء‬
‫فضج الناس بالبكاء‪ ،‬والدعاء له»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفرائض من الطهارة والصالة؛‬
‫قال السبكي معلق ًا‪« :‬انظر إلى هذا احلبر ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬لم يكن أسفه إال‬
‫على أداء الفرائض‪ ،‬ولم يتأثر بالقيد وال بالسجن‪ ،‬فرضي الله عنه وجزاه عن‬
‫صبره خير ًا»(((‪.‬‬

‫((( «طبقات الفقهاء» للشيرازي‪ ،‬ص‪ ،98 :‬و«طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪:‬‬
‫‪ ،165/2‬و«طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪ ،162 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن‬
‫خلكان‪.62/7 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،165/2 :‬و«طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪ ،161‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪.63/7 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،165/2 :‬وينظر‪« :‬طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن‬
‫كثير‪ ،‬ص‪ ،162 :‬و«تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.424/17 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.165/2 :‬‬
‫‪55‬‬
‫‪ -5‬عناية الله به‪ :‬فعلى الرغم من كثرة القيود وثقل احلديد إال أنه كانت متر‬
‫البويطي)‬
‫ّ‬ ‫إلي (أي‬‫يحس بها‪ ،‬قال الربيع بن سليمان‪« :‬وكتب ّ‬ ‫ّ‬ ‫عليه أوقات ال‬
‫متسه‬
‫علي أوقات ما أحس باحلديد أنّه على بدني حتى ّ‬ ‫من السجن‪ :‬أنّه ليأتي ّ‬
‫يدي»(((‪.‬‬
‫مكب ً‬
‫ال بالقيود واحلديد‪ ،‬ثابت ًا على احلق‪،‬‬ ‫البويطي لربه في السجن ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -6‬لقاء‬
‫بار ًا بقسمه‪ ،‬ذلك أنه قد قال أثناء حمله من مصر إلى بغداد‪« :‬فوالله ألموتن‬
‫في حديدي حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون‪ :‬أنه مات في هذا الشأن قوم في‬
‫حديدهم»(((‪.‬‬
‫تفرس فيه اإلمام الشافعي‪،‬‬
‫البويطي في حديده يكون قد حتقق فيه ما ّ‬
‫ّ‬ ‫ومبوت‬
‫حيث قال عنه‪« :‬أنت متوت في احلديد» ‪.‬‬
‫(((‬

‫البويطي هذه احملنة بأمور عدة‪ ،‬منها‪:‬‬


‫ّ‬ ‫وقد واجه‬
‫أو ًال‪ :‬اجلرأة في احلق‪ ،‬واألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬والصبر على‬
‫األذى فيه‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬رفض اإلغراءات املالية وعدم االلتفات إليها ‪-‬كما سبق‪.-‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬التعلق بالله‪ ،‬واحملافظة على فرائضه‪ ،‬وبذل الوسع واالستطاعة‬
‫في إجابة نداء الله‪ ،‬قال الساجي‪« :‬كان أبو يعقوب إذا سمع املؤذن وهو في‬
‫السجن يوم اجلمعة اغتسل ولبس ثيابه‪ ،‬ومشى حتى يبلغ باب احلبس‪ ،‬فيقول له‬

‫((( «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي‪ ،439/16 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪:‬‬
‫‪ ،63/7‬و«املنتظم»‪ ،‬البن اجل��وزي‪ ،175/11 :‬و«التاج املكلل»‪ ،‬للقنوجي‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.142‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء» للذهبي‪ ،59 /12 :‬و«مناقب اإلمام أحمد»‪ ،‬البن اجلوزي‪،‬‬
‫ص‪ ،535 :‬و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي‪ ،439/16 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن‬
‫خلكان»‪.62/7 :‬‬
‫((( «حسن احملاضرة» للسيوطي‪.307/1 :‬‬
‫‪56‬‬
‫السجان‪ :‬أين تريد؟ فيقول‪ :‬حيث داعي الله‪ ،‬فيقول‪ :‬ارجع عافاك الله‪ ،‬فيقول‬
‫أبو يعقوب‪ :‬اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك؛ فمنعوني»(((‪.‬‬
‫رابع ًا‪ :‬حزنه وأسفه على عدم ّ‬
‫متكنه من القيام بالطهارة والعبادة بيسر‬
‫وسهولة؛ كما سبق في رسالته التي وجهها ألبي بكر الذهلي وهو في محبسه‪،‬‬
‫البويطي‬
‫ّ‬ ‫وأيض ًا تعليق السبكي عليها؛ فنتيجة لثقل القيود واحلديد الذي ّ‬
‫لف به‬
‫وجد صعوبة في احلركة أعاقته عن الطهارة والصالة بيسر وسهولة‪.‬‬
‫والتضرع إليه‪ ،‬وطلب الدعاء من العلماء وطلبة‬
‫ّ‬ ‫خامس ًا‪ :‬اللجوء إلى الله‬
‫العلم برفع احملنة‪ ،‬حتى ّ‬
‫يتمكن من عبادة ربه بيسر وسهولة‪ ،‬كما سبق ذلك في‬
‫رسالته للذهلي وتعليق السبكي عليها‪.‬‬
‫سادس ًا‪ّ :‬‬
‫حتمله لثقل احلديد ومشقته‪ ،‬وما ذلك إال الستشعاره لثقل احلق‪،‬‬
‫وعظم األمانة امللقاة على عاتقه‪ ،‬فهان عليه حتمل ثقل احلديد والسجن حتى‬
‫مات صابر ًا محتسب ًا‪.‬‬
‫البويطي على هذه احلال مكب ً‬
‫ال بقيوده في السجن ثابت ًا على احلق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومبوت‬
‫صابر ًا على األذى‪ ،‬محتسب ًا لألجر نرجو من الله سبحانه أن يجعله في جواره‬
‫في جنة عرضها السموات واألرض‪ ،‬ونسأله سبحانه أن ينتقم له من الظاملني‪.‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫البويطي في خالفة الواثق مبدينة بغداد في السجن والقيد في رجله‪،‬‬
‫ّ‬ ‫توفي‬
‫يوم اجلمعة قبل صالة اجلمعة‪ ،‬في شهر رجب‪ ،‬سنة إحدى وثالثني ومائتني‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬توفي سنة اثنتني وثالثني ومائتني (((‪.‬‬

‫((( «طبقات الفقهاء» للشيرازي‪ ،‬ص‪ ،98 :‬و«طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪:‬‬
‫‪ ،165/2‬و«طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪ ،162 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن‬
‫خلكان‪.62/7 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬املنتظم»‪ ،‬البن اجل��وزي‪ ،175/11 :‬و«املختصر»‪ ،‬البن شاهنشاه‪،36/2 :‬‬
‫و«االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪ ،110 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪،64/7 :‬‬
‫‪57‬‬
‫البويطي قبل موته وهو في السجن‪ :‬طلبة العلم‪ ،‬وخاصة‬
‫ّ‬ ‫وكان مما أوصى به‬
‫البويطي أن اصبر نفسك‬
‫ّ‬ ‫إلي أبو يعقوب‬
‫الغرباء‪ ،‬قال الربيع بن سليمان‪« :‬كتب ّ‬
‫للغرباء‪ ،‬وأحسن خلقك ألهل حلقتك‪ ،‬فإني لم أزل أسمع الشافعي يكثر أن‬
‫يتمثل بهذا البيت‪:‬‬
‫أه�ي�ن ل��ه��م نفسي ل��ك��ي يكرمونها‬
‫ولن تكرم النفس التي ال تهينها‬
‫((( ((‬

‫رحمه الله وجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيني والصديقني‬


‫والشهداء والصاحلني وحسن أولئك رفيق ًا‪.‬‬

‫و«طبقات الشافعية»‪ ،‬البن قاضى شهبة‪ ،72/1 :‬و«طبقات الفقهاء»‪ ،‬للشيرازي‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪ ،98‬و«سير أعالم النبالء» للذهبي‪.61/12 :‬‬
‫((( «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي‪ ،439/16 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪:‬‬
‫‪ ،63/7‬و«املنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،175/11 :‬و«التاج املكلل»‪ ،‬للقنوجي‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.142‬‬
‫((( للمزيد عن سيرة «البويطي» ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء» للذهبي‪ ،58/12 :‬و«طبقات‬
‫الفقهاء»‪ ،‬للشيرازي‪ ،‬ص‪ ،98 :‬و«االنتقاء»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪ ،109 :‬و«تاريخ بغداد»‬
‫للخطيب البغدادي‪ ،439/16 :‬و«طبقات الفقهاء الشافعية»‪ ،‬البن الصالح‪،681/2 :‬‬
‫و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪.61/7 :‬‬
‫‪58‬‬
‫(‪� )4‬أحمد بن ن�صر اخلزاعي‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫أبوعبدالله أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم بن عوف بن وهب بن عميرة‬
‫اخلزاعي‪ ،‬املروزي‪ .‬اإلمام‪ ،‬العالم‪ ،‬الشهيد(((‪.‬‬
‫أما نسبه‪ :‬فيعود نسبه األول إلى قبيلة خزاعة‪ ،‬وهي قبيلة كبيرة جد ًا‪ ،‬ذات‬
‫تاريخ عريق‪ ،‬وهي من القبائل التي اختلف علماء األنساب فيها‪ ،‬فمنهم من‬
‫النسابني‪ ،‬ومنهم من نسبها إلى مضر(((‪.‬‬
‫نسبها إلى األزد‪ ،‬وهو رأي أكثر ّ‬
‫وليس املقام مقام حتقيق نسب قبيلة خزاعة‪ ،‬وإمنا املقصود اإلشارة إلى أن‬
‫أحمد بن نصر يعود نسبه األول إلى هذه القبيلة الكبيرة العريقة‪.‬‬
‫وأما نسبه الثاني فيعود إلى موطن أجداده الذين استقروا (بعد تفرقهم)‬

‫((( ينظر‪« :‬املنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،165/11 :‬و«الكامل في التاريخ»‪ ،‬البن األثير‪،97/6 :‬‬
‫و«اجلرح والتعديل»‪ ،‬البن أبي حامت‪ ،79/2 :‬و«الثقات»‪ ،‬البن حبان‪ ،14/8 :‬و«تاريخ‬
‫بغداد وذيوله»‪ ،‬للخطيب البغدادي‪ ،382/5 :‬و«طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن أبي يعلى‪:‬‬
‫‪ ،80/1‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،166/11 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪:‬‬
‫‪ ،137/8‬و«املقصد األرشد»‪ ،‬البن مفلح‪ ،199/1 :‬و«شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد‬
‫احلنبلي‪ ،140/3 :‬و«اللباب في تهذيب األنساب»‪ ،‬البن األثير‪ ،439/1 :‬و«اجلوهرة»‪،‬‬
‫للتلمساني‪ ،457/1 :‬و«األعالم»‪ ،‬للزركلي‪.264/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬اإلنباه على قبائل الرواة»‪ ،‬البن عبد البر‪ ،‬ص‪ ،81 :‬و«جمهرة أنساب العرب»‪،‬‬
‫البن حزم‪ ،233/1 :‬و«قالئد اجلمان في التعريف بقبائل عرب الزمان»‪ ،‬للقلقشندي‪،‬‬
‫ص‪ ،98 :‬و«املختصر في أخبار البشر»‪ ،‬لعماد الدين بن شاهنشاه‪ ،101/1 :‬و«األنساب»‪،‬‬
‫للسمعاني‪ ،116/5 :‬و«اللباب في تهذيب األنساب»‪ ،‬البن األثير‪ ،439/1 :‬و«الوافي‬
‫بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪ ،137/8 :‬و«الكامل في التاريخ»‪ ،‬البن األثير‪ ،97/6 :‬و«نهاية‬
‫األرب في معرفة أنساب العرب»‪ ،‬للقلقشندي‪ ،‬ص‪ ،244 :‬و«لب اللباب في حترير‬
‫األنساب»‪ ،‬للسيوطي‪ ،‬ص‪ ،92 :‬و«شفاء الغرام بأخبار البلد احل��رام»‪ ،‬ألبي الطيب‬
‫املكي‪ ،54/2 :‬و«معجم قبائل العرب القدمية واحلديثة»‪ ،‬لعمر رضا كحالة‪.338/1 :‬‬
‫‪59‬‬
‫ببالد خرسان‪ ،‬وعلى وجه التحديد بـ«مرو»‪ ،‬ثم انتقل أجداده إلى بغداد مع من‬
‫انتقل منها كأجداد أحمد بن حنبل الذين انتقلوا من «مرو» إلى بغداد‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫ولد أحمد بن نصر ببغداد‪ ،‬ولم ّ‬
‫اطلع على تاريخ مولده في كتب علماء‬
‫التراجم الذين ترجموا له‪ ،‬بخالف تاريخ وفاته ‪-‬كما سيأتي ذكر ذلك عند‬
‫احلديث عن وفاته‪.-‬‬
‫أما نشأته‪ ،‬فقد نشأ أحمد بن نصر في بيت فضل وعلم ورئاسة‪ ،‬وعالئق‬
‫مذكورة بالبيت العباسي‪ ،‬والدولة العباسية؛ حيث كان أبوه «نصر» من وجهاء‬
‫الدولة ومن رجاالتها‪ ،‬ومن أهل احلديث وسماعه‪ .‬وكان له رحبة (مكان متسع‬
‫يسمى‪ :‬سويقة نصر بن مالك في بغداد‪.‬‬
‫يشبه األسواق) ّ‬
‫وأما جده «مالك بن الهيثم» فكان أحد نقباء بني العباس في ابتداء الدولة‬
‫العباسية‪ ،‬وكان له عظيم األثر في قيام دولة بني العباس(((‪.‬‬
‫ففي أسرة عريقة ميسورة‪ ،‬وفي مدينة العلم والعلماء آنذاك‪« :‬بغداد» نشأ‬
‫وشب وترعرع؛ حيث أقبل على حفظ القرآن منذ سن مبكرة‬ ‫ّ‬ ‫«أحمد بن نصر»‬
‫من عمره‪ ،‬كما هي عادة أغلب العلماء القدماء‪.‬‬
‫ثم أقبل أحمد بن نصر على تلقي العلم من كبار العلماء‪ ،‬وسمع منهم‬
‫احلديث وحمله عن كبارهم‪ ،‬كـ«حماد بن زيد‪ ،‬وآدم بن أبي إياس‪ ،‬وإسماعيل‬
‫ابن أبي أويس‪ ،‬وإسماعيل بن علية‪ ،‬وسفيان بن عيينة‪ ،‬وسليمان ابن صالح‬
‫امل��روزي‪ ،‬وعبد الله بن املبارك‪ ،‬وعبد ال��رزاق بن همام‪ ،‬وعلي ابن املديني‪،‬‬
‫ووكيع بن اجلراح‪ ،‬ويزيد بن هارون»((( وغيرهم‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬تاريخ الرسل وامللوك»‪ ،‬البن جرير الطبري‪ ،135/9 :‬و«املنتظم في تاريخ‬
‫امللوك واألمم»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،165/11 :‬و«الكامل في التاريخ»‪ ،‬البن األثير‪،97/6 :‬‬
‫و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.334/10 :‬‬
‫((( «األنساب»‪ ،‬للسمعاني‪.116/5 :‬‬
‫‪60‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫إن عامل ًا مثل «أحمد بن نصر» ليس بحاجة إلى ثناء أحد من العلماء‪ ،‬فأفعاله‬
‫احلميدة‪ ،‬ومواقفه البطولية اخلالدة أرفع وسام في مدحه‪ ،‬والثناء عليه‪.‬‬
‫توج علمه بعمله‪ ،‬فأنصت التاريخ ملواقفه‪،‬‬ ‫وأحمد بن نصر اخلزاعي ممن ّ‬
‫ال بعد جيل‪،‬‬ ‫ودونها في أنصع صفحاته‪ ،‬وتناقلت مواقفه أجيال األمة جي ً‬ ‫ّ‬
‫وسالت أقالم العلماء بتعطير كتبهم بالثناء عليه‪ ،‬ومن ذلك ما يلي‪:‬‬
‫قال أحمد بن حنبل‪« :‬ما كان أسخاه بنفسه لله‪ ،‬لقد جاد بنفسه له»(((‪.‬‬
‫فترحم عليه‪ ،‬وق���ال‪« :‬ق��د ختم الله له‬
‫ّ‬ ‫وذك���ره يحيى ب��ن معني ي��وم�� ًا‬
‫بالشهادة»(((‪.‬‬
‫وقال الذهبي‪« :‬اإلم��ام الكبير‪ ،‬الشهيد‪ ...‬وكان أحمد ّأم��ار ًا باملعروف‪،‬‬
‫قوا ً‬
‫ال باحلق»(((‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وقال ابن كثير‪« :‬كان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل‬
‫الس ّنة اآلمرين باملعروف والناهني‬ ‫الصالح واالجتهاد في اخلير‪ ،‬وكان من أئمة ّ‬
‫منزل غير مخلوق‪،‬‬ ‫عن املنكر‪ ،‬وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كالم الله ّ‬
‫وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن‪ ،‬يدعو إليه لي ً‬
‫ال ونهار ًا‪ ،‬سر ًا‬
‫وجهار ًا‪ ،‬اعتماد ًا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه املأمون‪ ،‬من غير دليل وال‬
‫حجة وال بيان‪ ،‬وال س ّنة وال قرآن؛ فقام أحمد بن نصر هذا يدعو‬ ‫برهان‪ ،‬وال ّ‬
‫إلى الله وإلى األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬والقول بأن القرآن كالم الله‬
‫منزل غير مخلوق‪ ،‬في أشياء كثيرة دعا الناس إليها»(((‪.‬‬
‫ّ‬

‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،336/10 :‬و «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪:‬‬
‫‪.52/2‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.336/10 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.166/11 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪334/10 :‬‬
‫‪61‬‬
‫وقال اخلطيب البغدادي‪« :‬كان أحمد بن نصر من أهل الفضل والعلم‪،‬‬
‫قوا ً‬
‫ال باحلق»(((‪.‬‬ ‫مشهور ًا باخلير ّأمار ًا باملعروف‪ّ ،‬‬
‫وقال احلافظ أبو بكر‪« :‬لم يصبر في احملنة إال أربعة كلهم من أهل مرو‪:‬‬
‫أحمد بن حنبل أبو عبد ال ّله‪ ،‬وأحمد بن نصر بن مالك اخلزاعي‪ ،‬ومحمد بن‬
‫حماد»(((‪.‬‬
‫نوح بن ميمون املضروب‪ ،‬ونعيم بن ّ‬
‫وقال السبكي‪« :‬األستاذ‪ ...‬ذو اجلنان واللسان والثبات وإن اضطرب امله ّند‬
‫قوا ً‬
‫ال‬ ‫ال ّ‬‫والسنان والوثبات‪ ،‬وإن مألت نار الفتنة كل مكان فإنه كان شيخ ًا جلي ً‬
‫باحلق ّأمار ًا باملعروف ّنهاء عن املنكر‪ ،‬وكان من أوالد األمراء»(((‪.‬‬
‫وقال ابن العماد احلنبلي‪« :‬الشهيد‪ ،‬كان من أوالد األمراء فنشأ في علم‬
‫وص�لاح‪ ،‬وكتب عن مالك وجماعة‪ ،‬وحمل عن هشيم مصنفاته وما كان‬
‫يحدث‪ .‬وكان يزري على نفسه‪ ...‬وكان رأس ًا في األمر باملعروف والنهي عن‬‫ّ‬
‫املنكر» ‪.‬‬
‫(((‬

‫وق��ال الصفدي‪« :‬ك��ان أحمد شيخ ًا جلي ً‬


‫ال ّأم���ار ًا باملعروف من أوالد‬
‫األمراء»(((‪.‬‬
‫وق��ال ابن اجل��وزي‪« :‬ك��ان من كبار العلماء اآلمرين باملعروف‪ ،‬وسمع‬
‫احلديث من مالك بن أنس وحماد بن زيد وهشيم‪ ،‬وغيرهم»(((‪.‬‬
‫محنته‪:‬‬
‫تعرض لها‬
‫سبق أن ّبينا أثناء ترجمتنا لإلمام أحمد بن حنبل احملنة التي ّ‬

‫((( «تاريخ بغداد وذيوله»‪ ،‬للخطيب البغدادي‪382/5 :‬‬


‫((( «تهذيب الكمال»‪ ،‬للمزي‪ ،510/1 :‬و«طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.52/2 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.51/2 :‬‬
‫((( «شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪.140/3 :‬‬
‫((( «الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪.137/8 :‬‬
‫((( «صفة الصفوة»‪ ،‬البن اجلوزي‪.491/1 :‬‬
‫‪62‬‬
‫اإلمام أحمد‪ ،‬وهي إلزام الناس وامتحانهم بالقول بخلق القرآن‪ ،‬وقد ّبينا أن‬
‫هذه الفتنة بدأت في عهد املأمون‪ ،‬ثم عهد مبواصلة السير على هذه العقيدة‬
‫املنحرفة إلى أخيه املعتصم‪ ،‬فقام املعتصم بتنفيذ وصية أخيه في بداية واليته‪ ،‬ثم‬
‫انشغل عنها باألحداث الكبرى التي وقعت في الدولة اإلسالمية؛ كثورة بابك‬
‫اخلرمي‪ ،‬واعتداء الدولة البيزنطية على حدود الدولة اإلسالمية في الشمال‪،‬‬
‫حيث قام املعتصم باجلهاد ضد أع��داء اإلس�لام‪ ،‬وعمل على تثبيت دعائم‬
‫احلكم‪ ،‬ثم تولى احلكم بعده ابنه‪ :‬الواثق؛ الذي ورث ملك ًا ثابت ًا واستقرار ًا عن‬
‫يتفرغ لكالم املعتزلة بوجوب حمل الناس على القول بخلق القرآن‪،‬‬ ‫أبيه؛ جعله ّ‬
‫قال عبيد الله بن عمر القواريري‪« :‬أقامت البدعة أيام املأمون كلها‪ ،‬ثم أيام أبي‬
‫إسحاق املعتصم‪ ،‬ثم أيام الواثق‪ ،‬قال‪ :‬وكان الواثق عجرفي ًا‪ ،‬قال‪ :‬فكبر عليها‬
‫الصغير‪ ،‬وشاب عليها الكبير»(((‪.‬‬
‫وقال ابن كثير‪« :‬وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن‪ ،‬يدعو‬
‫إليه لي ً‬
‫ال ونهار ًا‪ ،‬سر ًا وجهار ًا‪ ،‬اعتماد ًا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه املأمون‪،‬‬
‫من غير دليل وال برهان وال حجة وال بيان وال س ّنة وال قرآن»(((‪.‬‬
‫بل لقد بلغ األمر بالواثق مبلغ ًا فادح ًا‪ ،‬حيث اتخذ إجراءات عدة في سبيل‬
‫نشر العقيدة املنحرفة للمعتزلة‪ ،‬ومن هذه اإلجراءات ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬عينّ كل قضاة الدولة من املعتزلة‪ ،‬وأبعد أي قاض يقول بأن القرآن‬
‫كالم الله‪.‬‬
‫املدرسني واملع ّلمني في الكتاتيب بتلقني الطلبة واألطفال عقيدة‬
‫‪ -2‬ألزم ّ‬
‫املعتزلة‪.‬‬
‫‪ -3‬اختبار الوالة وموظفي الدولة من محتسبني وأئمة ومؤذنني للتأكد من‬
‫قولهم بخلق القرآن‪.‬‬
‫((( «احملن»‪ ،‬ألبي العرب التميمي‪ ،‬ص‪.270 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.334/10 :‬‬
‫‪63‬‬
‫‪ -4‬قطع أرزاق كل العلماء الرافضني للقول بخلق القرآن‪ ،‬ومنعهم من‬
‫ضيق على اإلمام أحمد بن حنبل‪ ،‬ومنعه من‬ ‫التدريس والتحديث؛ حتى إنه ّ‬
‫االلتقاء بالناس‪ ،‬وهو ما يشبه في الوقت الراهن باإلقامة اجلبرية‪.‬‬
‫‪ -5‬حتى وصل به األمر إلى اختبار أسرى املسلمني لدى ال��روم‪ ،‬فمن‬
‫قال منهم بخلق القرآن فك أسره‪ ،‬ودفع ديته‪ ،‬ومن رفض تركه أسير ًا لدى‬
‫الروم(((‪.‬‬
‫فلما بلغ الواثق إلى هذا احلد انبرى أحمد بن نصر للصدع باحلق؛ معلن ًا‬
‫رفضه إلجراءات الواثق‪ ،‬فما كان من أهل بغداد إال أن اجتمعوا عليه‪ ،‬فبايعوه‬
‫على األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪.‬‬

‫وكان من رؤساء أصحاب أحمد بن نصر رجالن‪« :‬أبو هارون السراج»‬


‫في اجلانب الشرقي من بغداد‪ ،‬و«طالب» في اجلانب الغربي منها‪ ،‬وكانا من‬
‫أنشط وأخلص أتباع أحمد بن نصر‪ ،‬فاجتهدا في الدعوة إلى بيعته‪ ،‬واالنتظام‬
‫في جماعة األمر باملعروف والنهي عن املنكر؛ حيث انتظم مع مرور الوقت عدة‬
‫آالف من أهل احلديث وأهل بغداد في بيعة «أحمد بن نصر» اخلاصة باألمر‬
‫باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬والتصدي لفتنة القول بخلق القرآن‪ ،‬وكان رؤوس‬
‫أصحاب «أحمد بن نصر» يجتمعون عنده بانتظام مما لفت االنتباه لدى شرطة‬
‫دست على مجلس «أحمد بن نصر» من ينقل لها األخبار‪ ،‬وكان‬ ‫بغداد التي ّ‬
‫«أحمد بن نصر» شديد ًا في احلق‪ ،‬ال يخاف من سلطان وال طغيان‪ ،‬حيث‬
‫كان يشتد في انتقاد الواثق‪ ،‬ويصفه بعبارات شديدة؛ فتم رفع األمر إلى رئيس‬
‫شرطة بغداد آن��ذاك‪« :‬إسحاق بن إبراهيم» الذي أسرع بإبالغ الواثق‪ ،‬فأمر‬
‫الواثق بالقبض على «أحمد بن نصر» ورؤوس أصحابه‪ ،‬فتم القبض عليهم‪،‬‬
‫«بسر من رأى» (أي سامراء)‪ ،‬وذلك في‬ ‫ثم كبلوا بالقيود‪ ،‬وأرسلوا إلى الواثق ّ‬
‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،337 -336/10 :‬و«اجلوهرة»‪ ،‬للتلمساني‪:‬‬
‫‪ ،457/1‬و«تاريخ الرسل وامللوك»‪ ،‬البن جرير الطبري‪.139/9 :‬‬
‫‪64‬‬
‫وترخص‬
‫ّ‬ ‫ورى‬
‫آخر شعبان‪ ،‬حيث أودعوا هناك في سجون مظلمة‪ ،‬حتى إن من ّ‬
‫اعتذر عن نفسه بأنه وضع في مكان اليرى فيه شمس ًا وال قمر ًا؛ حتى خشي‬
‫على بصره(((‪.‬‬
‫مكب ً‬
‫ال بالقيود املزدوجة‪ ،‬حيث‬ ‫وأما أحمد بن نصر فقد سيق إلى الواثق ّ‬
‫كان الواثق قد جمع بعض األعيان والقضاة في مجلسه‪ ،‬فلما أحضر أحمد‬
‫يتوجه إليه بسؤال عن سبب إحضاره‪ ،‬وال قصة مبايعة‬
‫ابن نصر أمام الواثق لم ّ‬
‫الناس له على األمر باملعروف والنهي عن املنكر؛ بل أعرض عن ذلك كله‪،‬‬
‫وتوجه إليه بالسؤال التالي‪ :‬ما تقول في القرآن؟‬
‫ّ‬
‫فقال أحمد بن نصر‪ :‬هو كالم الله‪.‬‬
‫قال الواثق‪ :‬أمخلوق هو؟!‬
‫قال‪ :‬هو كالم الله‪.‬‬
‫وكان أحمد بن نصر ‪-‬كما قال ابن كثير‪« :‬قد استقل وباع نفسه وحضر‬
‫وقد حت ّنط وتنور((( وشد على عورته ما يسترها»(((‪.‬‬
‫ثم قال له الواثق‪ :‬فما تقول في ربك‪ ،‬أتراه يوم القيامة؟‬
‫فقال أحمد بن نصر‪ :‬يا أمير املؤمنني((( قد جاء القرآن واألخبار بذلك(((‪،‬‬
‫قال الله تعالى‪:‬‬

‫((( ينظر‪« :‬تاريخ الرسل وامللوك»‪ ،‬البن جرير الطبري‪ ،139/9 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن‬
‫كثير‪.335/10 :‬‬
‫((( أي أزال الشعر الذي دعت الفطرة والشرع إلى إزالته‪.‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.335/10 :‬‬
‫((( وهذا يدل على أن أحمد بن نصر ال يك ّفر الواثق الذي يقول بخلق القرآن‪ ،‬بل وامتحن‬
‫الناس بذلك‪.‬‬
‫((( بإثبات رؤية الله في اآلخرة‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫{ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ }(((‪.‬‬
‫وقال رسول الله |‪« :‬إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر التضامون‬
‫في رؤيته»(((‪.‬‬
‫فنحن على اخلبر‪.‬‬
‫زاد اخلطيب ‪-‬البغدادي‪ -‬قال الواثق‪ :‬ويحك! أيرى كما يرى احملدود‬
‫املتجسم؟ ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته!(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫وحدثني سفيان بحديث يرفعه‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وأضاف أحمد بن نصر مخاطب ًا الواثق‪:‬‬
‫«إن قلب ابن آدم بأصبعني من أصابع الله يق ّلبه كيف شاء»(((‪.‬‬
‫وكان النبي | يقول‪« :‬يا مق ّلب القلوب ّثبت قلبي على دينك»(((‪.‬‬
‫حينها دخل في احل��وار إسحاق بن إبراهيم ‪-‬قائد شرطة بغداد‪ -‬قائ ً‬
‫ال‬
‫ألحمد بن نصر‪ :‬ويحك! انظر ما تقول؟‬
‫فرد عليه أحمد بن نصر قائ ً‬
‫ال‪ :‬أنت أمرتني بذلك‪.‬‬
‫فأشفق (خاف) إسحاق من ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬أنا أمرتك؟!‬
‫فرد عليه أحمد بن نصر قائ ً‬
‫ال‪ :‬نعم‪ ،‬أنت أمرتني أن أنصح له (أي‬
‫للواثق)‪.‬‬
‫فقال الواثق ملن حوله‪ :‬ما تقولون في هذا الرجل؟ أي في أحمد بن نصر‪.‬‬

‫((( سورة القيامة‪ ،‬آية‪.23 ،22 :‬‬


‫((( رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫((( علق ابن كثير على كالم الواثق هذا بقوله‪« :‬وما قاله الواثق ال يجوز وال يلزم وال يرد به‬
‫هذا اخلبر الصحيح» [«البداية والنهاية»‪.]335/10 :‬‬
‫((( رواه الترمذي في سننه‪ ،449/4 :‬وأحمد في مسنده‪ ،160/19 :‬وصححه األلباني‪.‬‬
‫((( رواه الترمذي في سننه‪ ،448/4 :‬وأحمد في مسنده‪ ،160/19 :‬وصححه األلباني‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫فأكثروا القول فيه‪ ،‬وكان مما قالوا فيه؛ ما قاله عبد الرحمن بن إسحاق‬
‫‪-‬وكان قاضي ًا على اجلانب الغربي من بغداد فعزل‪ ،‬وكان موا ّد ًا ألحمد بن نصر‬
‫قبل ذلك‪ :-‬يا أمير املؤمنني هو حالل الدم!‬
‫وقال أبو عبد الله األرمني صاحب أحمد بن أبي دؤاد‪ :‬اسقني دمه يا أمير‬
‫املؤمنني!‬
‫فأعجب الواثق بقول أبي عبد الله األرمني حيث قال له‪« :‬ال بد أن يأتي ما‬
‫تريد!»‪.‬‬
‫وأما ابن أبي دؤاد فقال عن أحمد بن نصر‪« :‬هو كافر يستتاب ّ‬
‫لعل به عاهة‪،‬‬
‫أو نقص عقل»!‬
‫فما كان من الواثق إال أن قال للحاضرين‪ :‬إذا رأيتموني قمت إليه فال‬
‫يقومن أحد معي؛ فإني أحتسب خطاي!‬‫ّ‬
‫ثم نهض الواثق إلى أحمد بن نصر بالصمصامة ‪-‬وكانت سيفا لعمرو‬
‫بن معد يكرب الزبيدي أهديت ملوسى الهادي في أيام خالفته وكانت صفيحة‬
‫مسحورة في أسفلها مسمورة مبسامير‪ -‬فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه‬
‫وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع(((‪ ،‬ثم ضربه أخرى على رأسه‪ ،‬ثم طعنه‬
‫بالصمصامة في بطنه‪ ،‬فسقط صريع ًا ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬على النطع ميت ًا‪ ،‬فإنا لله‬
‫وإنا إليه راجعون(((‪.‬‬
‫ولم يكتف هؤالء الظلمة العتاة بقتل أحمد بن نصر‪ ،‬بل قاموا بحز رأسه‬
‫وفصله عن جسده‪ ،‬ثم حملوا جسده معترض ًا إلى حضيرة بابك اخلرمي‪ ،‬ثم‬
‫صلبوه هناك‪ ،‬وفي رجليه زوج قيود (مضاعفة)‪ ،‬وعليه سراويل وقميص‪،‬‬

‫يلوث املكان بالدم!‬


‫((( النطع اجللد‪ ،‬مت وضعه عليه حتى ال ّ‬
‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،336 - 335/10 :‬و«الكامل في التاريخ»‪ ،‬البن‬
‫األثير‪ ،99/6 :‬و«تاريخ بغداد وذيوله»‪ ،‬للخطيب البغدادي‪ ،385/5 :‬و«املنتظم»‪،‬‬
‫البن اجلوزي‪.166/11 :‬‬
‫‪67‬‬
‫حيث بقي مصلوبا ست سنوات؛ من سنة إحدى وثالثني ومائتني إلى سنة سبع‬
‫وثالثني ومائتني‪.‬‬
‫وأم��ا رأس أحمد بن نصر فحملوه إلى بغداد ثم نصبوه في اجلانب‬
‫الشرقي من املدينة أيام ًا‪ ،‬وفي اجلانب الغربي أيام ًا‪ ،‬ووضعوا عنده احلرس‬
‫لي ً‬
‫ال ونهار ًا‪ ،‬وع ّلقوا في أذنه رقعة((( كتبوا عليها‪« :‬هذا رأس الكافر املشرك‬
‫الضال أحمد بن نصر اخلزاعي‪ ،‬ممن قتل على يدي عبد الله هارون اإلمام‬
‫الواثق بالله أمير املؤمنني‪ ،‬بعد أن أقام عليه احلجة في خلق القرآن‪ ،‬ونفي‬
‫التشبيه‪ ،‬وعرض عليه التوبة‪ّ ،‬‬
‫ومكنه من الرجوع إلى احلق‪ ،‬فأبى إال املعاندة‬
‫عجله إلى ناره‪ ،‬وأليم عقابه بالكفر‪ ،‬فاستحل‬ ‫والتصريح‪ ،‬فاحلمد لله الذي ّ‬
‫بذلك أمير املؤمنني دمه ولعنه»(((‪.‬‬
‫ومن خالل استعراضنا حملنة أحمد بن نصر مع الواثق يتضح لنا مدى‬
‫ضحى بأغلى ما ميلك (نفسه) من أجل‬
‫شجاعة أحمد بن نصر وثباته؛ حيث ّ‬
‫نصرة احلق؛ حتى أقدم الواثق على قتله بيده؛ وشاركه في ذلك بعض معاونيه‪،‬‬
‫فباء الواثق وأعوانه باإلثم واخلسران‪ ،‬وفاء أحمد بن نصر بأجر الشهادة في‬
‫سبيل نصرة العقيدة‪.‬‬
‫وقد أكرم الله أحمد بن نصر بعدة كرامات بلغت من شهرتها حد التواتر‬
‫بني املؤرخني‪ ،‬كلها ّ‬
‫تدل على حسن خامتته‪ ،‬وإكرام الله له‪ ،‬وحفظه إياه‪ ،‬ومن‬
‫أقوالهم في ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬قال جعفر بن محمد الصائغ‏‪« :‬‏بصرت عيناي وإال فقئتا‪ ،‬وسمعت‬

‫تتخيل إمام ًا من أئمة املسلمني أبيض اللحية وال��رأس! ثم يصنع به هذا‬


‫ّ‬ ‫((( ولك أن‬
‫الصنيع؟!!‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،336/10 :‬و«املنتظم»‪ ،‬البن اجل��وزي‪،167/11 :‬‬
‫و«تاريخ الرسل وامللوك»‪ ،‬البن جرير الطبري‪ ،139/9 :‬و«تاريخ اخللفاء»‪ ،‬للسيوطي‪،‬‬
‫ص‪.248 :‬‬
‫‪68‬‬
‫فصمتا؛ أحمد بن نصر اخلزاعي حني ضربت عنقه‪ ،‬يقول رأسه‪« :‬ال‬
‫أذناي وإال ّ‬
‫إله إال الله»(((‏‪.‬‬
‫‪ -2‬وقال أحمد بن كامل‪« :‬حمل أحمد بن نصر بن مالك اخلزاعي من‬
‫بغداد إلى سر من رأى‪ ،‬ونصب رأسه ببغداد‪ ،‬على رأس اجلسر‪ ،‬وأخبرني أبي‬
‫وكل برأسه من يحفظه‬ ‫أنه رآه‪ ،‬وكان شيخ ًا أبيض الرأس واللحية‪ ،‬وأخبرني أنه ّ‬
‫بعد أن نصب برأس اجلسر‪ ،‬وأن ّ‬
‫املوكل به ذكر أنه يراه بالليل يستدير إلى القبلة‬
‫بوجهه‪ ،‬فيقرأ‪« :‬سورة يس»‪ ،‬بلسان طلق‪ ،‬وأنه ملا أخبر بذلك طلب‪ ،‬فخاف‬
‫على نفسه فهرب»(((‪.‬‬
‫‪ -3‬رآه بعضهم في النوم‪ ،‬فقال له‪ :‬ما فعل بك ربك؟ فقال‪« :‬ما كانت إال‬
‫غفوة حتى لقيت الله ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فضحك إلي»(((‪.‬‬
‫‪ -4‬وقال محمد بن عبيد ‪-‬وكان من خيار الناس‪« :-‬رأيت أحمد بن نصر‬
‫في املنام‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أبا عبد الله ما صنع بك ربك جل وعز؟ فقال‪ :‬غضبت له‬
‫فأباحني النظر إلى وجهه»(((‪.‬‬
‫‪ -5‬وقال إبراهيم بن إسماعيل بن خلف‪« :‬كان أحمد بن نصر خالي‪ ،‬فلما‬
‫قتل في احملنة‪ ،‬وصلب رأسه‪ ،‬أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن‪ ،‬فمضيت‪ ،‬فبت‬

‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،336/10 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪،168/11 :‬‬
‫و«طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.52/2 :‬‬
‫((( «تاريخ بغداد وذيوله»‪ ،‬للخطيب البغدادي‪ ،387 - 386/5 :‬و«طبقات احلنابلة»‪،‬‬
‫البن أبي يعلى‪ ،82/1 :‬و«تهذيب الكمال»‪ ،‬للمزي‪ ،511/1 :‬و«سير أعالم النبالء»‪،‬‬
‫للذهبي‪.168/11 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،336/10 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪،138/8 :‬‬
‫و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،168/11 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪،138/8 :‬‬
‫و«تاريخ بغداد وذيوله»‪ ،‬للخطيب البغدادي‪ ،387/5 :‬و«صفة الصفوة»‪.492/1 :‬‬
‫((( «الرد على من يقول القرآن مخلوق»‪ ،‬ألحمد بن سلمان النجاد‪ ،‬ص‪.68 :‬‬
‫‪69‬‬
‫بقرب من الرأس مشرف ًا عليه‪ ،‬وكان عنده رجال وفرسان يحفظونه‪ ،‬فلما هدأت‬
‫العيون‪ ،‬سمعت الرأس يقرأ‪:‬‬
‫(((‬
‫{ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ}‬
‫فاقشعر جلدي‪ ،‬ثم رأيته بعد ذلك في املنام وعليه السندس واالستبرق‪،‬‬
‫وعلى رأسه تاج‪ ،‬فقلت‪ :‬ما فعل الله ‪ -‬عز وجل ‪ -‬بك يا خالي؟ قال‪ :‬غفر لي‪،‬‬
‫وأدخلني اجلنة؛ إال أني كنت مغموم ًا ثالثة أيام؟ قلت‪ :‬ولم؟ قال‪ :‬رأيت رسول‬
‫حول وجهه ع ّني‪ ،‬فقلت له بعد ذلك‪ :‬يا رسول‬‫الله | مر بي‪ ،‬فلما بلغ خشبتي ّ‬
‫الله قتلت على احلق أو على الباطل؟ فقال‪ :‬أنت على احلق‪ ،‬ولكن قتلك رجل‬
‫من أهل بيتي‪ ،‬فإذا بلغت إليك‪ ،‬أستحيى منك»(((‪.‬‬
‫وحرضوا على‬‫ّ‬ ‫وأما الواثق وأعوانه الذين أفتوا بقتل أحمد بن نصر‪،‬‬
‫وشجعوا الواثق على ارتكاب هذه اجلرمية الشنيعة‪ ،‬وشاركوه‬ ‫ّ‬ ‫سفك دمه؛‬
‫فيها فقد نزلت بهم عقوبة الله في الدنيا قبل اآلخرة أثناء فترة والية حكم‬
‫املتوكل‪ ،‬ومما يدل على ذلك ما ذك��ره علماء التراجم‏(((‪ :‬أن عبد العزيز‬ ‫ّ‬
‫الكناني دخل على اخلليفة العباسي املتوكل ‪-‬وكان حسن العقيدة ‪ -‬فجرى‬
‫ذكر «أحمد بن نصر» في ثنايا كالمه مع املتوكل‪ ،‬فكان مما قاله للمتوكل‏‪ :‬يا‬
‫أمير املؤمنني ما رأيت أعجب من أمر الواثق‪ ،‬قتل أحمد بن نصر وكان لسانه‬
‫يقرأ القرآن إلى أن دفن؟‬

‫((( سورة العنكبوت‪ ،‬آية‪2 ،1 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬املنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،169/11 :‬و«تاريخ بغداد وذيوله»‪ ،‬للخطيب البغدادي‪:‬‬
‫‪ ،387/5‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،336/10 :‬و«شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد‬
‫احلنبلي‪ ،140/3 :‬و«تهذيب الكمال»‪ ،‬للمزي‪ ،512/1 :‬و«طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن‬
‫أبي يعلى‪ ،81/1 :‬و«مرآة اجلنان»‪ ،‬لليافعي‪.76/2 :‬‬
‫((( «املنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،168/11 :‬وينظر‪« :‬تهذيب الكمال»‪ ،‬للمزي‪،511/1 :‬‬
‫و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،337/10 :‬و«تاريخ بغداد وذيوله»‪ ،‬للخطيب البغدادي‪:‬‬
‫‪ ،386/5‬و«طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.53/2 :‬‬
‫‪70‬‬
‫فوجل املتوكل من كالمه وساءه ما سمع في أخيه «الواثق»‪.‬‬
‫فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد امللك بن الزيات‪ ،‬قال له املتوكل‪:‬‬
‫«في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر!»‏ فقال‪« :‬يا أمير املؤمنني ‏أحرقني الله‬
‫بالنار إن قتله أمير املؤمنني الواثق إال كافر ًا؟‏»‪.‬‬
‫ودخل عليه هرثمة بن أشرس (من رؤوس املعتزلة) فقال له في ذلك‪،‬‬
‫فقال‪« :‬قطعني الله إرب ًا إرب ًا إن قتله إال كافر ًا!»‏‪.‬‬
‫ودخل عليه قاضي احملنة أحمد بن أبي دؤاد‪ ،‬فقال له مثل ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إال كافر ًا!»‪.‬‬
‫فأنزل الله بهؤالء جميعا عقوبته في الدنيا‪ ،‬ولعذاب اآلخرة أشد وأنكى‪،‬‬
‫أما ابن الزيات فقد كانت نهايته؛ كما ذكر ابن األثير أنه‪« :‬ملا ولي اخلالفة املتوكل‬
‫أمهل حتى كان صفر‪ ،‬فأمر إيتاخ بأخذ ابن الزيات وتعذيبه‪ ،‬فاستحضر‪ ،‬فركب‬
‫يظن أن اخلليفة يستدعيه‪ ،‬فلما حاذى منزل إيتاخ عدل به إليه‪ ،‬فخاف‪ ،‬فأدخله‬
‫حجرة‪ ،‬ووكل عليه‪ ،‬وأرسل إلى منازله من أصحابه من هجم عليها‪ ،‬وأخذ كل‬
‫ما فيها‪ ،‬واستصفى أمواله وأمالكه في جميع البالد‪.‬‬
‫وكان شديد اجلزع‪ ،‬كثير البكاء والفكر‪ ،‬ثم سوهر‪( ،‬وكان ينخس مبسلة‬
‫لئال ينام‪ ،‬ثم ترك فنام يوم ًا وليلة)‪ ،‬ثم جعل في تنور عمله هو‪ّ ،‬‬
‫وعذب به ابن‬
‫أسباط املصري‪ ،‬وأخذ ماله‪ ،‬فكان من خشب فيه مسامير من حديد أطرافها إلى‬
‫داخل التنور‪ ،‬ومتنع من يكون فيه من احلركة‪ ،‬وكان ضيق ًا بحيث إن اإلنسان‬
‫كان ميد يديه إلى فوق رأسه; ليقدر على دخوله لضيقه‪ ،‬وال يقدر من يكون فيه‬
‫يجلس‪ ،‬فبقي أياما‪ ،‬فمات‪.‬‬
‫(وكان حبسه لسبع خلون من صفر)‪ ،‬وموته إحدى عشرة بقيت من ربيع‬
‫األول‪ ،‬واختلف في سبب موته‪ ،‬فقيل كما ذكرناه‪ ،‬وقيل‪ :‬بل ضرب فمات وهو‬
‫يضرب‪ ،‬وقيل‪ :‬مات بغير ضرب‪ ،‬وهو أصح‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫فلما مات حضره ابناه سليمان‪ ،‬وعبيد الله‪ ،‬وكانا محبوسني‪ ،‬وطرح على‬
‫الباب في قميصه الذي حبس فيه‪ ،‬فقاال‪ :‬احلمد لله الذي أراح من هذا الفاسق!‬
‫وغساله على الباب‪ ،‬ودفناه‪ ،‬فقيل‪ :‬إن الكالب نبشته‪ ،‬وأكلت حلمه»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأما هرثمة فإنه هرب خوف ًا من أن يكون مصيره كمصير ابن الزيات‪ ،‬فلما‬
‫اجتاز بقبيلة خزاعة عرفه رجل من احلي‪ ،‬فقال‪« :‬يا معشر خزاعة هذا الذي قتل‬
‫ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه‪ ،‬فقطعوه إرب ًا إرب ًا‪ ،‬ثم أخرجوا جثته وألقوها‬
‫في اخلرابة‪ ،‬فنهشتها الكالب»(((‪.‬‬
‫وأما ابن أبي دؤاد (قاضي احملنة) فسجنه الله في جلده (أصابه الله بالفالج)‬
‫ضربه الله قبل موته بأربع سنني‪ ،‬وصودر من صلب ماله مبال جزيل جد ًا(((‪.‬‬
‫أما الواثق نفسه فقد مات في عنفوان شبابه بال ع ّلة ظاهرة‪ ،‬فما كان من‬
‫أهله إال أن تركوا جثته بال جتهيز‪ ،‬وانشغلوا بأمور البيعة ألخيه املتوكل‪ ،‬فدخل‬
‫جرذ كبير فنهش حلم خده‪ ،‬واستل عينه‪ ،‬ومضى بها‪ ،‬فلما دخلوا عليه لتجهيزه‬
‫املشوهة!(((‪.‬‬
‫وجدوه بهذه الصورة ّ‬

‫((( «الكامل في التاريخ»‪ ،‬البن األثير‪ ،113/6 :‬وينظر‪« :‬املختصر»‪ ،‬لعماد الدين بن‬
‫شاهنشاه‪ ،37/2 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪ ،102/5 :‬و«طبقات الشافعية‬
‫الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.53/2 :‬‬
‫((( «املنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،169/11 :‬و«تاريخ بغداد وذيوله‪ ،‬للخطيب البغدادي‪:‬‬
‫‪ ،386/5‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،337/10 :‬و«طبقات الشافعية الكبرى»‪،‬‬
‫للسبكي‪ ،53/2 :‬و«تهذيب الكمال»‪ ،‬للمزي‪.511/1 :‬‬
‫((( «املنتظم»‪ ،‬البن اجل��وزي‪ ،169/11 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪،337/10 :‬‬
‫و«تهذيب الكمال»‪ ،‬للمزي‪ ،511/1 :‬و«طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪:‬‬
‫‪.53/2‬‬
‫((( ينظر‪« :‬اإلنباء في تاريخ اخللفاء»‪ ،‬حملمد بن علي املعروف بالعمراني‪ ،‬ص‪،114 :‬‬
‫و«الكامل في التاريخ»‪ ،‬الب��ن األثير‪ ،107/6 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬الب��ن كثير‪:‬‬
‫‪.341/10‬‬
‫‪72‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫سبق أن ذكرت أن أحمد بن نصر قتله الواثق بيده وشاركه في ذلك بعض‬
‫معاونيه‪.‬‬
‫وكان ذلك مبدينة «سامراء» سنة إحدى وثالثني ومائتني باتفاق العلماء‬
‫الذين ترجموا له‪.‬‬
‫ولكنهم اختلفوا في حتديد اليوم والشهر الذي قتل فيه‪ ،‬فقيل‪ :‬يوم اخلميس‬
‫(((‬
‫ليومني بقني من شهر شعبان‪.‬وقيل‪ :‬في غرة رمضان‬
‫وسبق أن ذكرت‪ :‬أنه بعد قتل أحمد بن نصر حزوا رأسه‪ ،‬ثم حملوه من‬
‫سامراء إلى بغداد حيث نصبوه هناك‪ ،‬وأما جثته فبقيت بسامراء حيث صلب‬
‫على جسر فيها‪ ،‬حيث بقي مصلوب ًا ست سنني؛ من سنة إحدى وثالثني ومائتني‬
‫إلى سنة سبع وثالثني ومائتني‪.‬‬
‫ثم جمع رأسه مع جثته بأمر من املتوكل يوم الثالثاء بعد عيد الفطر بيوم أو‬
‫يومني‪ ،‬أو ثالث‪ ،‬ثم دفن باجلانب الشرقي من بغداد باملقبرة املعروفة باملالكية‪.‬‬
‫وقد حضر جنازته معظم أهل بغداد؛ حيث كانت جنازة مهيبة لكثرة من‬
‫شيعها من اخللق(((‪.‬‬
‫ّ‬

‫((( لعل الراجح في ذلك‪ :‬أنه قتل يوم اخلميس ليومني بقني من شهر شعبان‪ ،‬وأن نصب‬
‫رأسه وصلبه في غرة رمضان‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،169 - 168/11 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪:‬‬
‫‪ ،336/10‬و«وفاة الشيوخ الذين أدركهم البغوي»‪ ،‬للبغوي‪ ،‬ص‪ ،69 - 58 :‬و«طبقات‬
‫الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.54/2 :‬‬
‫‪73‬‬
74
‫(‪ )5‬القا�ضي عيا�ض‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض‬
‫محمد ابن عبد الله بن موسى بن عياض‪ ،‬اليحصبي‪ ،‬السبتي‪ ،‬عالم املغرب‪،‬‬
‫بن ّ‬
‫وأحد أبرز علماء املالكية‪.‬‬
‫وق��د ع��رف واش��ت��ه��ر ب��ـ«ال��ق��اض��ي ع���ي���اض»(((‪ ،‬ف�لا ي��ك��اد ي��ذك��ر ب��دون‬
‫«القاضي»‪.‬‬
‫وأما نسب القاضي عياض فيعود إلى «يحصب بن مالك» وهي قبيلة‬
‫حميرية((( معروفة‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫ولد القاضي عياض سنة ست وسبعني وأربعمائة؛ كما نص على ذلك‬
‫أغلب علماء السير والتراجم الذين ترجموا له((( وعلى وجه التحديد مبنتصف‬
‫شهر شعبان(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪ ،483/3 :‬و«معجم أصحاب القاضي أبي علي‬
‫الصدفي»‪ ،‬البن اآلبار‪ ،‬ص‪ ،294 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪،213 - 212/20 :‬‬
‫و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.280/12 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬جمهرة أنساب العرب»‪ ،‬البن حزم‪ ،‬ص‪ ،435 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن‬
‫خلكان‪ ،485/3 :‬و«الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪ ،‬ص‪ ،172 :‬و«لب اللباب»‪،‬‬
‫للسيوطي‪ ،‬ص‪ ،283 :‬و«الرسالة املستطرفة»‪ ،‬للكتاني‪ ،‬ص‪.106 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬أزه��ار ال��ري��اض»‪ ،‬للمقري‪ ،17/3 :‬و«معجم أصحاب القاضي أبي علي‬
‫الصدفي»‪ ،‬الب��ن اآلب��ار‪ ،‬ص‪ ،294 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬الب��ن كثير‪،280/12 :‬‬
‫و«طبقات احل ّفاظ»‪ ،‬للذهبي‪.67/4 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬النجوم الزاهرة»‪ ،‬البن تغري بردي‪.285/5 :‬‬
‫‪75‬‬
‫وشب‬
‫ّ‬ ‫وأما نشأة القاضي عياض فقد ولد ونشأ في مدينة سبتة املغربية‪،‬‬
‫فيها وترعرع‪.‬‬
‫وسبتة مدينة عريقة تقع «على زق��اق بحر األندلس‪ ،‬وهي أحد املعابر‬
‫املشهورة»((( حيث كان الوافدون على األندلس والعائدون منها يلتقون في‬
‫سبتة‪ ،‬ويتبادلون اآلراء واألفكار‪.‬‬
‫محبة للخير‪ ،‬حيث‬‫وأيض ًا نشأ القاضي عياض في أسرة صاحلة مصلحة‪ّ ،‬‬
‫خير ًا صاحل ًا من أهل القرآن‪،‬‬ ‫«كان «عمرون» والد جد القاضي عياض رج ً‬
‫ال ّ‬
‫حج إحدى عشرة حجة‪ ،‬وغزا مع ابن أبي عامر غزوات كثيرة‪ ...‬وكان موسر ًا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فاشترى أرض ًا بسبته‪ ،‬وهي املعروفة باملنارة‪ ،‬فبنى في بعضها مسجد ًا‪ ،‬وفي‬
‫بعضها دار ًا حبسها على املسجد‪ ،‬وهو حتى اآلن منسوب إليه‪ ،‬وحبس األرض‬
‫للدفن‪ ،‬ولم يزل منقطع ًا في ذلك املسجد إلى أن مات ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬سنة سبع‬
‫وتسعني وثالثمائة(((‪.‬‬
‫وقد كفانا عنت البحث عن نشأة القاضي أقرب الناس إليه‪ ،‬وأكثرهم‬
‫معرفة بحاله‪ ،‬وهو ابن القاضي عياض‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫«نشأ أبي رحمه الله على ع ّفة وصيانة‪ ،‬مرضي احلال‪ ،‬محمود األقوال‬
‫واألفعال‪ ،‬موصوف ًا بالنبل والفهم واحلذق‪ ،‬طالب ًا للعلم‪ ،‬حريص ًا عليه‪ ،‬مجتهد ًا‬
‫فيه‪ ،‬معظم ًا عند األشياخ من أهل العلم‪ ،‬كثير املجالسة لهم‪ ،‬واالختالف‬
‫إليهم إلى أن برع أهل زمانه‪ ،‬وساد جملة أقرانه‪ ،‬فكان من ح ّفاظ كتاب الله‬
‫تعالى مع القراءة احلسنة والنغمة العذبة‪ ،‬والصوت اجلهير‪ ،‬واحلظ الوافر من‬
‫تفسيره‪ ،‬وجميع علومه‪ ،‬وكان من أئمة احلديث في وقته‪ ،‬أصولي ًا متكلم ًا فقيه ًا‪،‬‬
‫حافظ ًا للمسائل‪ ،‬عاقد ًا للشروط‪ ،‬بصير ًا باألحكام‪ ،‬نحوي ًا ريان من األدب‪،‬‬
‫شاعر ًا مجيد ًا كاتب ًا خطيب ًا حافظ ًا للغة واألخبار والتواريخ‪ ،‬حسن املجلس‪،‬‬

‫((( ينظر‪« :‬أحسن التقاسيم»‪ ،‬حملمد البشاري‪ ،‬ص‪.229 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض»‪ ،‬للمقري‪.28/1 :‬‬
‫‪76‬‬
‫نبيل النادرة‪ ،‬حلو الدعابة‪ ،‬صبور ًا حليم ًا‪ ،‬جميل العشرة‪ ،‬جواد ًا سمح ًا‪ ،‬كثير‬
‫الصداقة‪ ،‬دؤوب ًا على العمل‪ ،‬صلب ًا في احلق‪ ،‬وبلغ في التفنن في العلوم ما هو‬
‫مشهور‪ ،‬وفي العالم معلوم»(((‪.‬‬
‫وأيض ًا يحدثنا عن نشأة القاضي عياض املقري التلمساني حيث يقول‪:‬‬
‫«جاء على القدر‪ ،‬وسبق إلى نيل املعالي وابتدر‪ ،‬فاستيقظ لها والناس نيام‪،‬‬
‫وورد ماءها وهم حيام»(((‪.‬‬
‫وقد ساعد القاضي على التميز والتفوق والنبوغ (إضافة إلى بلدته وأسرته)‬
‫ما منحه الله من الذكاء املفرط‪ ،‬والذهن الو ّقاد‪ ،‬حيث كان كما يقول املقري‪:‬‬
‫«حاضر اجلواب‪ ،‬حاد الذهن‪ ،‬متو ّقد الذكاء‪ ،‬جامع ًا للفنون‪ ،‬آخذ ًا منها باحلظ‬
‫األوفر»(((‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫يعد القاضي عياض أحد كبار مشاهير علماء األمة الذين استفاضت املعرفة‬
‫بعلمهم وفضلهم‪ ،‬واشتهار ذكرهم‪ ،‬وسمو مكانتهم‪ ،‬حتى بلغت شهرته آفاق‬
‫وعم الثناء عليه من كافة العلماء الذين عاصروه‪ ،‬والذين‬
‫بالد املغرب واملشرق‪ّ ،‬‬
‫جاؤوا بعده‪ ،‬وأقوالهم في الثناء عليه كثيرة‪ ،‬منها ما يلي‪:‬‬
‫قال الذهبي‪« :‬اإلمام‪ ،‬الع ّ‬
‫المة‪ ،‬احلافظ‪ ،‬األوحد‪ ،‬شيخ اإلسالم»(((‪.‬‬
‫وقال السيوطي‪« :‬العلاّ مة عالم املغرب‪ ...‬احلافظ‪ ...‬صنف التصانيف التي‬
‫سارت بها الركبان‪ ...‬إمام أهل احلديث في وقته‪ ،‬وأعلم الناس بعلومه وبالنحو‬
‫واللغة وكالم العرب وأيامهم وأنسابهم»(((‪.‬‬

‫((( «أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض»‪ ،‬للمقري‪.8 -7/3 :‬‬


‫((( «أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض»‪ ،‬للمقري‪.18/3 :‬‬
‫((( «أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض»‪ ،‬للمقري‪.21/3 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.212/20 :‬‬
‫((( «طبقات احل ّفاظ»‪ ،‬للسيوطي‪ ،‬ص‪.470 :‬‬
‫‪77‬‬
‫وقال ابن العماد‪« :‬كان عدمي النظير‪ ،‬حسنة من حسنات األي��ام‪ ،‬شديد‬
‫للس ّنة والتمسك بها»(((‪.‬‬
‫التعصب ّ‬
‫ّ‬
‫متمكن في علم احلديث واألصولني‪،‬‬ ‫وقال النووي‪« :‬إمام بارع‪ ،‬متفنن‪،‬‬
‫والفقه‪ ،‬والعربية‪ ،‬وله مصنفات فى كل نوع من العلوم املهمة‪ ،‬وك��ان من‬
‫أصحاب األفهام الثاقبة»(((‪.‬‬
‫وقال ابن خلكان‪« :‬كان إمام وقته في احلديث وعلومه‪ ،‬والنحو واللغة‪،‬‬
‫وكالم العرب وأيامهم وأنسابهم‪ ،‬وص ّنف التصانيف املفيدة»(((‪.‬‬
‫وقال القنوجي‪« :‬كان إمام وقته في احلديث وعلومه والنحو واللغة وكالم‬
‫العرب وأيامهم وأنسابهم له التصانيف املفيدة‪ ...‬وجمع من احلديث كثير ًا‬
‫وكان له عناية كثيرة به واالهتمام بجمعه وتقييده وهو من أهل اليقني في العلم‬
‫والذكاء والفطنة والفهم»(((‪.‬‬
‫وقال احلجوي‪« :‬كان مقدم وقته في احلديث والتفسير واألدب والشعر‬
‫واألصول والفقه والعلوم العربية‪ ،‬مشارك ًا له الرحلة من األقطار‪ ،‬وله الرئاسة‬
‫في بلده فتيا وقضاء‪ ،‬خطيب ًا بليغ ًا شاعر ًا مجيد ًا‪ ،‬كامل األخالق‪ ،‬حليم ًا كرمي ًا‪،‬‬
‫صلب ًا في احلق»(((‪.‬‬
‫قال املقري في مقدمة كتابه‪« :‬أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض»‪:‬‬
‫«وماذا عسى أن أصف من جاللة يتهلل بشرها‪ ،‬وجزالة يتضوع نشرها؛ وبالغة‬
‫تبذ بالغة سحبان‪ ،‬وبراعة تقاعس عن رتبتها الشيب والشبان‪ ،‬وعلم أظهر‬
‫غوامض احلقائق وأبان‪ ،‬وحلم أرسخ من رضوى وأبان‪ .‬ومحاسن ماؤها غير‬

‫((( «شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪.227/6 :‬‬


‫((( «تهذيب األسماء واللغات»‪ ،‬للنووي‪.43/2 :‬‬
‫((( «وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪.483/3 :‬‬
‫((( «أبجد العلوم»‪ ،‬للقنوجي‪ ،‬ص‪.652 - 652 :‬‬
‫((( «الفكر السامي»‪ ،‬للحجوي‪.260/2 :‬‬
‫‪78‬‬
‫آسن‪ ،‬وحلى حازت مراتب العلى‪ ،‬ومصنفات مقرطات مشنفات‪ ،‬أعالق ال‬
‫تعدلها األثمان‪ ،‬وال تشد على مثلها األميان»(((‪.‬‬
‫وقال املقري أيض ًا‪« :‬كان ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬علم الكمال‪ ،‬ورجل احلقيقة‪،‬‬
‫وقار ًا ال يخفي رأسه‪ ،‬وال يعرى كاسيه‪ ،‬وسكون ًا ال يطرق جانبه‪ ،‬وال يرهب‬
‫يتعدى رسمه‪،‬‬ ‫غالبه‪ ،‬وحلم ًا ال يزل حصاته‪ ،‬وال تعمل وصاته‪ ،‬وإقباض ًا ال ّ‬
‫وال يتجاوز حكمه‪ ،‬ونزاهة ال ترخص قيمتها‪ ،‬وال تلني عزميتها‪ ،‬وديانة ال حتسر‬
‫أذيالها‪ ،‬وال يشف سرب ًا لها‪ ،‬وإدراك ًا ال يفل نصله‪ ،‬وال يدرك خصله‪ ،‬وذهن ًا ال‬
‫يخبأ نوره‪ ،‬وال ينبو مطروره‪ ،‬وفهم ًا ال يخفى فلقه‪ ،‬وال يلحق طلقه‪ ،‬وصدق ًا‬
‫ال يخلف موعده‪ ،‬وال يأسن مورده‪ ،‬وحفظ ًا ال يسبر غوره‪ ،‬وال يذبل نوره‪ ،‬بل‬
‫ال يتوق بحره وال يعطل نحره‪ ،‬وحتصيال ال يفك قنيصه وال يسأم حريصه‪ ،‬بل‬
‫ال يحل عقاله‪ ،‬وال يصدأ صقاله‪ ،‬وطلب ًا ال تنحد فنونه‪ ،‬وال تتعني عيونه‪ ،‬بل ال‬
‫حتصر معارفه‪ ،‬وال تقصر مصارفه»(((‪.‬‬
‫وقال الفتح بن خاقان‪« :‬جاء على قدر وسبق إلى نيل املعالي وابتدار‪،‬‬
‫واستيقظ لها والناس نيام‪ ،‬وورد ماؤها وهم حيام‪ ،‬وتال من املعارف ما‬
‫أشكل‪ ،‬وأق��دم على ما أحجم عنه سواه ونكل فتحلت به العلوم نحور‪،‬‬
‫وجتلت له منها حور‪:‬‬
‫{ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ}‬
‫(((‬

‫(((‬
‫{ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ}‬
‫قد أحلفته األصالة رداءها‪ ،‬وسقته أنداءها‪ ،‬وألقت إليه الرئاسة أقاليدها‪،‬‬
‫وملكته طريفها وتليدها‪ ،‬فبذ على فتائه الكهول سكون ًا وحلم ًا‪ ،‬وسبقهم معرفة‬

‫((( «أزهار الرياض»‪ ،‬للمقري‪.12/1 :‬‬


‫((( «أزهار الرياض»‪ ،‬للمقري‪.7 - 6/3 :‬‬
‫((( سورة الرحمن‪ ،‬آية‪.58 :‬‬
‫((( سورة الرحمن‪ ،‬آية‪.56 :‬‬
‫‪79‬‬
‫وعلم ًا‪ ،‬وأزرت محاسنه بالبدر اللياح‪ ،‬وسرت فضائله سري الريا‪ ،‬فتشوفت‬
‫لعاله األقطار‪ ،‬ووكفت حتكي نداه املطار‪ ،‬وهو على اعتنائه بعلوم الشريعة‪،‬‬
‫واختصاصه بهذه الرتبة الرفيعة»(((‪.‬‬
‫وقال ابن خامتة‪« :‬كان ال يبلغ شأوه‪ ،‬وال يدرك مداه‪ ،‬في العناية بصناعة‬
‫احلديث‪ ،‬وتقييد اآلثار‪ ،‬وخدمة العلم‪ ،‬مع حسن التفنن فيه‪ ،‬والتصرف الكامل‬
‫في فهم معانيه‪ ،‬إلى اضطالعه ب��اآلداب‪ ،‬وحتققه بالنظم والنثر‪ ،‬ومهارته في‬
‫الفقه‪ ،‬ومشاركته في اللغة العربية‪ .‬وباجلملة فكان جمال العصر‪ ،‬مفخر‬
‫األفق‪ ،‬وينبوع املعرفة‪ ،‬ومعدن اإلفادة‪ ،‬وإذا عدت رجاالت املغرب‪ ،‬فضال عن‬
‫األندلس‪ ،‬حسب فيهم صدر ًا»(((‪.‬‬
‫وقال محمد بن حماده السبتي‪« :‬كان هين ًا من غير ضعف‪ ،‬صلب ًا في احلق‪،‬‬
‫حاز من الرئاسة في بلده‪ ،‬ومن الرفعة ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده‪،‬‬
‫وما زاده ذلك إال تواضع ًا وخشية لله»(((‪.‬‬
‫وقال ابن فرحون‪« :‬كان القاضي أبو الفضل إمام وقته في احلديث وعلومه‪،‬‬
‫عامل ًا بالتفسير وجميع علومه‪ ،‬فقيه ًا أصوليا‪ ،‬عامل ًا بالنحو واللغة‪ ،‬وكالم العرب‬
‫وأيامهم وأنسابهم‪ ،‬بصير ًا باألحكام‪ ،‬عاقد ًا للشروط‪ ،‬بصير ًا حافظ ًا ملذهب‬
‫ريانا من علم األدب‪ ،‬خطيب ًا بليغ ًا‬
‫مالك رحمه الله تعالى‪ ،‬شاعر ًا مجيد ًا‪ّ ،‬‬
‫صبور ًا حليم ًا‪ ،‬جميل العشرة‪ ،‬جواد ًا سمح ًا كثير الصدقة‪ ،‬دؤوب ًا على العمل‬
‫صلب ًا في احلق»(((‪.‬‬
‫وقال ابن بشكوال‪« :‬جمع من احلديث كثير ًا‪ ،‬له عناية كثيرة به‪ ،‬واهتمام‬
‫بجمعه وتقييده‪ ،‬وهو من أهل اليقني في العلم والذكاء واليقظة والفهم‪،‬‬

‫((( «قالئد العقيان»‪ ،‬للفتح بن خاقان‪ ،‬ص‪.221 :‬‬


‫((( «أزهار الرياض»‪ ،‬للمقري‪.21 - 20/3 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.215/20 :‬‬
‫((( «الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪ ،‬ص‪.169 - 168 :‬‬
‫‪80‬‬
‫واستقضى ببلده مدة طويلة‪ ،‬حمدت سيرته فيها»(((‪.‬‬
‫مفسر‪ ،‬فقيه‪ ،‬أصولي‪،‬‬ ‫مؤرخ‪ ،‬ناقد‪ّ ،‬‬ ‫«محدث‪ ،‬حافظ‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وقال عمر رضا كحالة‪:‬‬
‫عالم بالنحو واللغة وكالم العرب وأيامهم وأنسابهم‪ ،‬شاعر‪ ،‬خطيب»(((‪.‬‬
‫وقال محمد عنان‪« :‬وكان القاضي عياض من أكابر احل ّفاظ‪ ،‬ومن أعظم‬
‫أئمة عصره في احلديث‪ ،‬وفي فهم غريبه ومشكله ومختلفه‪ ،‬بارع ًا في علم‬
‫األصول والكالم‪ ،‬حافظ ًا للمختصر واملدونة‪ ،‬متمك ًنا من الشروط واألحكام‪،‬‬
‫أبرع أهل زمانه في الفتيا‪ ،‬متقن ًا للنحو واللغة‪ ،‬أديب ًا كبير ًا‪ ،‬وشاعر ًا مجيد ًا‪ ،‬حسن‬
‫التصرف في النظم‪ ،‬كاتب ًا بليغ ًا‪ ،‬وخطيب ًا مفوه ًا‪ ،‬عامل ًا بالسير واألخبار‪ ،‬وال سيما‬
‫ّ‬
‫أخبار العرب وأيامها وحروبها‪ ،‬وكان حسن املجلس‪ ،‬ممتع احملاضرة‪ ،‬فصيح‬
‫بسام ًا مشرق ًا‪ ،‬جم التواضع‪ ،‬ميقت اإلطراء وامللق‪ ،‬معتز ًا‬ ‫اللسان‪ ،‬حلو املداعبة‪ّ ،‬‬
‫بنفسه ومكانته‪ ،‬محب ًا ألهل العلم‪ ،‬معاون ًا لهم على طلبه‪ ،‬جواد ًا‪ ،‬سمح ًا‪ ،‬من‬
‫أكرم أهل زمانه‪ ،‬كثير الصدقة واملواساة»(((‪.‬‬
‫وقال أمير دولة املرابطني علي بن تاشفني فيما كتبه إلى قاضي اجلماعة بقرطبة‬
‫في شأن القاضي عياض عندما عزم للرحلة باألندلس‪ ...« :‬وعياض ّ‬
‫أعزه الله‬
‫حظ وافر‪ ،‬وزوجه سافر‪ ،‬وعنده‬ ‫بتقواه‪ ،‬وأعانه على ما نواه‪ ،‬ممن له في العلم ّ‬
‫دواوين إغفال‪ ،‬ولم تفتح لها على الشيوخ إقفال‪ ،‬وقصد تلك احلضرة ليقيم‬
‫أود متونها‪ ،‬ويعاني رمد عيونها‪ ،‬وله إلينا ماتة مرعية أوجبت اإلشادة بذكره‪،‬‬
‫واالعتناء بأمره‪ ،‬وله عندنا مكانة حفية تقضي مخاطبتك بخبره‪ ،‬وإنهاضك إلى‬
‫قضاء وطره‪ ،‬وأنت إن شاء الله تسدد عمله‪ ،‬وتقرب أمله‪ ،‬وتصل أسباب العون‬
‫له‪ ،‬إن شاء الله»(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬الصلة»‪ ،‬البن بشكوال‪ ،‬ص‪ ،430 - 429 :‬و«وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪:‬‬
‫‪ ،484 – 483/3‬و«أزهار الرياض»‪ ،‬للمقري‪ ،17/3 :‬و«تهذيب األسماء واللغات»‪،‬‬
‫للنووي‪.430 - 43/2 :‬‬
‫((( «معجم املؤلفني»‪ ،‬لعمر رضا كحالة‪.16/8 :‬‬
‫((( «دولة اإلسالم»‪ ،‬حملمد عنان‪.463 - 462/3 :‬‬
‫((( «قالئد العقيان»‪ ،‬للفتح بن خاقان‪ ،‬ص‪.111 :‬‬
‫‪81‬‬
‫وكتب وزير الدولة املرابطية بشأن هذه الرحلة مشيد ًا بفضل القاضي عياض‬
‫ال‪ ...« :‬وله الفصل مذاهب يبهرج عندها الذهب‪ ،‬وعنده من النبل ضرائب‬ ‫قائ ً‬
‫ال يفارق زندها اللهب‪ ،‬وستقربه‪ ،‬فتستغربه‪ ،‬وتخبره‪ ،‬فتكبره‪ ،‬إن شاء الله»(((‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن أحمد الغرناطي املعروف بابن القصير‪« :‬ملّا ورد علينا‬
‫القاضي عياض غرناطة خرج الناس للقائه‪ ،‬وبرزوا تبريز ًا‪ ،‬ما رأيت ألمير مثله‪،‬‬
‫وحزرت أعيان البلد الذين خرجوا إليه ركاب ًا نيف ًا على مائتي راكب‪ ،‬ومن سواد‬
‫العامة ما ال يحصى كثرة‪ ...‬وملّا استقر عندنا كان مثل التمرة كلما ليكت زاد‬
‫حالوة‪ ،‬ولفظه عذب في كل ما صرف من الكالم‪ ،‬للنفس إليه تتوق وله طالوة‪،‬‬
‫وكان برا بلسانه‪ ،‬جوادا ببنانه‪ ،‬كثير التخشع في صالته‪ ،‬مواصال لصالته‪...‬‬
‫وكان مع براعته في علوم الشريعة خطيبا في حتبير اخلطب‪ ،‬وفي لفظه ظاهر‬
‫اخلشوع عند التالوة‪ ،‬وفي حلظه سريع العبرة‪ ،‬مدمي ًا للتفكير والعبرة‪ ،‬كاتب ًا إذا‬
‫نثر‪ ،‬ناظم ًا إذا شعر»(((‪.‬‬
‫وغير ذلك من أقوال العلماء في الثناء عليه‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫يعد القاضي عياض من أكثر علماء املغرب تأليف ًا في عصره إن لم يكن‬ ‫ّ‬
‫أكثرهم تأليف ًا‪.‬‬
‫وقد ذكر بعض العلماء أن مؤلفاته تزيد على ثالثني مؤلف ًا في شتى الفنون‪،‬‬
‫ومن مؤلفاته نذكر ما يلي(((‪:‬‬

‫((( «قالئد العقيان»‪ ،‬للفتح بن خاقان‪ ،‬ص‪.111 :‬‬


‫((( «أزهار الرياض»‪ ،‬للمقري‪.12 - 11/3 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪ ،483/3 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪:‬‬
‫‪ ،215 – 214/20‬و«معجم املؤلفني»‪ ،‬لعمر رضا كحالة‪ ،16/8 :‬و«الديباج املذهب»‪،‬‬
‫البن فرحون‪ ،‬ص‪ ،170 :‬و«أبجد العلوم»‪ ،‬للقنوجي‪ ،‬ص‪ ،652 :‬و«دولة اإلسالم»‪،‬‬
‫حملمد عنان‪ ،463/3 :‬و«إنباه الرواة»‪ ،‬جلمال الدين القفطي‪ ،364/2 :‬و«املختصر»‪،‬‬
‫‪82‬‬
‫‪ -1‬الشفا بتعريف حقوق املصطفى‪.‬‬
‫‪ -2‬اإلملاع في ضبط الرواية وتقييد السماع‪.‬‬
‫‪ -3‬مشارق األنوار على صحاح اآلثار‪.‬‬
‫‪ -4‬إكمال املعلم بفوائد مسلم شرح على صحيح اإلمام مسلم‪.‬‬
‫‪ -5‬بغية الرائد على ما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد‪.‬‬
‫‪ -6‬ترتيب املدارك وتقريب املسالك ملعرفة أعالم مذهب مالك‪.‬‬
‫‪ -7‬اإلعالم بحدود قواعد اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -8‬جامع التاريخ‪.‬‬
‫‪ -9‬أخبار العلويني‪ ،‬وأخبار سبتة‪ ،‬وأخبار القرطبيني‪.‬‬
‫‪ -10‬معجم شيوخ ابن سكرة في سفر‪ ،‬وفهرسته املسماة بالغنية‪.‬‬
‫وغير ذلك من مؤلفاته التي أشاد بنفاستها العلماء قدمي ًا وحديث ًا‪.‬‬
‫محنته‪:‬‬
‫عاصر القاضي عياض منذ نشأته دولتني‪ :‬دولة املرابطني وحكامها آل‬
‫املوحدين بقيادة‪« :‬محمد بن تومرت»‪ ،‬و«عبد املؤمن بن‬
‫ّ‬ ‫تاشفني‪ ،‬ودول��ة‬
‫علي»‪.‬‬
‫وقد ذكر علماء التاريخ‪ :‬أن دول��ة املرابطني حتقق فيها ش��روط الوالية‬
‫الشرعية‪ ،‬وا ّتصف قادتها باالنقياد للشرع‪ ،‬والعناية بالعلم‪ ،‬وتقدمي أهله‪ ،‬فكان‬
‫موقف القاضي عياض منها ومن حكامها‪ :‬التأييد والنصرة‪.‬‬
‫إال أن هذه الدولة أصابها الضعف والوهن لعدة أسباب ليس املقام مقام‬
‫املوحدين‪ ،‬بعد حروب طويلة شنها قادة‬
‫ذكرها‪ ،‬حيث قامت على إثرها دولة ّ‬
‫دولة املوحدين ضد املدن املهمة اخلاضعة لسيطرة دولة املرابطني؛ كما سيتضح‬
‫املوحدين‬
‫ذلك من خالل حديثنا عن احلمالت العسكرية التي قادها أمراء دولة ّ‬

‫البن شاهنشاه‪ ،22/3 :‬و«النجوم الزاهرة»‪ ،‬البن تغر ب��ردي‪ ،286/5 :‬و«فهرس‬
‫الفهارس»‪ ،‬لعبد احلي الكتاني‪.801/2 :‬‬
‫‪83‬‬
‫ضد مدينة «سبته» مسقط رأس اإلمام القاضي عياض وموطنه الذي نشأ فيه‬
‫وترعرع‪.‬‬
‫«املوحدين» بزعامة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫فما كان من القاضي عياض إال أن عارض حكام‬
‫«محمد بن تومرت»‪ ،‬و«عبد املؤمن بن علي» لعدة أسباب ذكرها علماء التاريخ‪،‬‬
‫املوحدين قامت وسارت على منهج منحرف في العقائد‪ ،‬إضافة‬ ‫ومنها‪ :‬أن دولة ّ‬
‫املوحدين‪:‬‬
‫ّ‬ ‫إلى انتهاكها للحرمات‪ ،‬قال ابن القيم واصف ًا حال مؤسس دولة‬
‫املوحدين‪ -‬فإنه رجل‬ ‫«أما مهدي املغاربة «محمد بن تومرت» ‪-‬مؤسس دولة ّ‬
‫والتحيل فقتل النفوس‪،‬‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كذاب ظالم متغ ّلب بالباطل‪ ،‬ملك بالظلم والتغ ّلب‬
‫وأباح حرمي املسلمني‪ ،‬وسبى ذراريهم‪ ،‬وأخذ أموالهم‪ ،‬وكان شر ًا على امللة من‬
‫احلجاج بن يوسف بكثير‪.‬‬
‫وكان يودع بطن األرض في القبور جماعة من أصحابه أحياء يأمرهم‬
‫أن يقولوا للناس‪ :‬إنه املهدي الذي بشّ ر به النبي | ثم يردم عليهم لي ً‬
‫ال لئال‬
‫املوحدين‪ ،‬نفاة صفات الرب‬ ‫ّ‬ ‫وسمي أصحابه اجلهمية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يكذبوه بعد ذل��ك‪،‬‬
‫وكالمه وعلوه على خلقه‪ ،‬واستوائه على عرشه‪ ،‬ورؤية املؤمنني له باألبصار‬
‫وتسمى باملهدي‬
‫ّ‬ ‫يوم القيامة‪ ،‬واستباح قتل من خالفهم من أهل العلم واإلميان‬
‫املعصوم»(((‪.‬‬
‫وقال الذهبي عن «محمد بن تومرت» أيض ًا‪« :‬أ ّلف عقيدة لقبها بـ«املرشدة»‪،‬‬
‫وسماهم املوحدين‪ ،‬ونبز من‬ ‫فيها توحيد وخير بانحراف‪ ،‬فحمل عليها أتباعه‪ّ ،‬‬
‫خالف «املرشدة» بالتجسيم‪ ،‬وأباح دمه نعوذ بالله من الغي والهوى» ‪.‬‬
‫(((‬

‫فلهذا (وغيره) كان موقف القاضي عياض من دولة املوحدين‪ :‬رفضها‬


‫ومقاومتها؛ حيث عمل القاضي عياض على صد احلمالت العسكرية التي‬
‫شنها أمراء دولة املوحدين للسيطرة على املدن الهامة التي كانت حتت سيطرة‬

‫((( «املنار املنيف»‪ ،‬البن القيم‪ ،‬ص‪.153 :‬‬


‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.541 - 540/19 :‬‬
‫‪84‬‬
‫دولة املرابطني؛ حيث قد دامت هذه احلمالت العسكرية سبع سنوات‪ ،‬من سنة‬
‫أربع وثالثني وخمسمائة‪ ،‬إلى إحدى وأربعني وخمسمائة(((‪.‬‬
‫وملا بدأت احلمالت العسكرية املوحدية تسيطر على مختلف مدن املغرب‬
‫في غزواتهم الطويلة واملتعددة‪ ،‬حتى وصلت تلك اجليوش الزاحفة إلى‬
‫مشارف مدينة «سبتة» حملاصرتها في بداية األمر حتى تذعن وتدخل حتت طاعة‬
‫املوحدين‪ ،‬فقاومت سبتة اجليوش املوحدية مقاومة ضارية بزعامة القاضي‬
‫عياض‪ ،‬كما ذكر ذلك ابن خلدون حيث يقول‪« :‬واستمر عبداملؤمن على حاله‪،‬‬
‫فنازل سبتة فامتنعت عليه‪ ،‬وتولى كبر دفاعه عنها‪ :‬القاضي أبو الفضل عياض‬
‫بن موسى الشهير الذكر‪ ،‬وكان رئيسها يومئذ بأبوته ومنصبه وعلمه ودينه»(((‪.‬‬
‫وبفضل الله متكن القاضي عياض مع أهل «سبتة» من التغلب على جيوش‬
‫املوحدين ور ّدها على أعقابها خاسئة‪ ،‬إال أن هذه اجليوش عاودت الهجوم على‬
‫املوحدين من القضاء على‬
‫سبتة مرة أخرى‪ ،‬وذلك بعد أن استطاعت جيوش ّ‬
‫معظم مدن املغرب اإلسالمي كـ«فاس» و«تلمسان» وغيرهما‪ ،‬مما أدى إلى‬
‫املوحدين «عبد املؤمن بن علي»‪ ،‬حيث عاود بجيشه‬ ‫ّ‬ ‫ارتفاع شأن أمير جيش‬
‫الهجوم مرة أخرى على «سبتة» (بعد أن استعصت عليهم من قبل) فما كان من‬
‫أهل سبتة إال دخلوا حتت إمرة الدولة املوحدية املتغ ّلبة على احلكم بالقوة(((‪.‬‬
‫ال‪ ،‬حيث انتفضت‬‫إال أن فترة استقرار «سبتة» لـ«عبد املؤمن» لم تدم طوي ً‬
‫ضده‪ ،‬وكان في مقدمة املنتفضني القاضي عياض؛ كما ذكر ذلك البيذق صاحب‬
‫أخبار املهدي حيث قال‪« :‬إن عياض ًا كان من أوائل الثائرين على دولة ّ‬
‫املوحدين‪،‬‬
‫وأن ثورته هي الثورة الثالثون في سلسلة الثورات التي قامت ضدها»(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬تاريخ ابن خلدون»‪ ،306/6 :‬و«البيان املغرب»‪ ،‬البن عذاري‪ ،‬ص‪،13 - 3 :‬‬
‫و«االستقصاء»‪ ،‬للسالوي‪.45/3 :‬‬
‫((( «تاريخ ابن خلدون»‪.307/6 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬الكامل في التاريخ»‪ ،‬البن األثير‪.664/8 :‬‬
‫((( «أخبار املهدي»‪ ،‬للبيذق‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫‪85‬‬
‫وفي هذه األثناء حاول القاضي عياض مكاتبة يحيى بن علي املسوفي‬
‫املعروف بـ «ابن غانية» ليقدم بجيشه إلى «سبتة» إال أنه تباطأ؛ حيث عاود جيش‬
‫«عبداملؤمن» الهجوم على «سبتة» مرة ثالثة‪ ،‬فدمرت املمتلكات‪ ،‬وارتكبت‬
‫جرائم فظيعة بحق أهل «سبتة» فما كان من أهل «سبتة» إال أن خضعوا مرة‬
‫أخرى حلكم املوحدين(((‪ ،‬حفاظ ًا على ما تبقّى من أرواحهم وممتلكاتهم‪.‬‬
‫��وح��دي��ن م��ن بسط ن��ف��وذه��م على «س��ب��ت��ة» أمر‬
‫ومل��ا متكنت ج��ي��وش امل ّ‬
‫«عبداملؤمن» بهدم سور «سبتة»‪ ،‬ومنع القاضي عياض من العودة إليها‪ ،‬وأمره‬
‫مبالزمته‪( ،‬ذلك أن القاضي كان قد خرج مع وفد من وجهاء أهل سبته ملفاوضة‬
‫عبداملؤمن ليوقف جيشه عن قتال أهل سبتة)‪ ،‬وسبب منع القاضي عياض من‬
‫العودة إلى سبتة؛ حتى ال يقود أهل سبته لثورة جديدة ضد املوحدين‪ ،‬فأقام‬
‫وتعرض لكثير من اإليذاء‬ ‫ّ‬ ‫القاضي عياض مع عبداملؤمن واحلال متغيرة عليه‪،‬‬
‫النفسي‪ ،‬فإن املوحدين لم يكونوا لينسوا الضربات املوجعة التي تلقوها على‬
‫يديه وعلى أيدي أهل سبتة‪.‬‬
‫وأيض ًا قام «عبداملؤمن» بنفي وتغريب القاضي عياض إلى قرية نائية تقع‬
‫بالبادية املغربية‪ ،‬وهي قرية‪« :‬داي» (((‪.‬‬
‫وفاته ‪:‬‬
‫أمر أمير املوحدين القاضي عياض باخلروج معه الى غزوة «دكالة» فخرج‬
‫معهم ومرض في الطريق فعاد إلى مراكش وتوفي بعدها بأسبوع‪.‬‬
‫وقد توفي القاضي عياض ‪-‬رحمه الله ‪ -‬سنة أربع وأربعني وخمسمائة‪ ،‬يوم‬
‫اجلمعة في السابع من جماد اآلخر‪ ،‬ودفن بباب أيالن داخل مدينة مراكش‪.‬‬
‫وقد اختلف علماء التراجم في سبب وفاة القاضي عياض على أقوال‬

‫((( ينظر‪« :‬االستقصاء»‪ ،‬للسالوي‪ ،59/3 :‬و«دولة اإلسالم»‪ ،‬حملمد عنان‪.273/3 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬معجم أصحاب القاضي أبي علي الصدفي»‪ ،‬البن اآلبار‪ ،‬ص‪ ،296 :‬و«الصلة»‪،‬‬
‫البن بشكوال‪ ،‬ص‪ ،430 :‬و«دولة اإلسالم»‪ ،‬حملمد عنان‪.275/3 :‬‬
‫‪86‬‬
‫عدة((( أرجحها‪ :‬أنه قتل بأمر أمير املوحدين مسموم ًا‪ ،‬أو مخنوق ًا‪ ،‬ملعارضته‬
‫لهذه الدولة‪ ،‬وإنكاره عصمة إمامها‪.‬‬
‫السم أثناء رحلة دكالة‪ ،‬وذلك سبب مرضه‪،‬‬
‫دسوا له ّ‬
‫ويبدو أن املوحدين قد ّ‬
‫السم‪ ،‬أو يكون خنق أثناء مرضه ذلك‪،‬‬‫فأعادوه إلى مراكش حيث توفي بسبب ّ‬
‫فقد قال صاحب «املرقبة العليا»‪ :‬فجرت عليهما ‪ -‬يريد عياض ًا وابن العربي‪-‬‬
‫وأصابتهما فنت‪ ،‬ومات كل واحد منهما مغرب ًا عن أوطانه‪ ،‬محمو ً‬
‫ال عليه من‬
‫سلطانه‪.‬‬

‫وقال بعضهم‪ّ :‬‬


‫سم ابن العربي‪ ،‬وخنق اليحصبي((( ((‪.‬‬
‫رحم الله القاضي عياض فقد ترجم علمه إلى واقع عملي‪ ،‬حيث قضى‬
‫حياته في العلم والعمل به‪ ،‬والدعوة إليه‪ ،‬والصبر على األذى فيه‪ ،‬ونصرة‬
‫ضحى بنفسه لله؛ حيث رحل إلى ربه شهيد ًا (فيما‬
‫احلق‪ ،‬ومقاومة الباطل‪ ،‬بل ّ‬
‫نحسب)‪.‬‬
‫رفع الله درجته مع النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني‪.‬‬

‫((( وهذه األقوال هي‪ :‬أنه مات موتة طبيعية‪ ،‬ولم يذكر أصحاب هذا القول سبب ًا لوفاته‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه مات فجأة باحلمام يوم دعا عليه اإلمام الغزالي ملا بلغه أنه أفتى بحرق كتابه‪:‬‬
‫«إحياء علوم الدين»‪ ،‬وقيل غير ذلك‪ ،‬وهذه األقوال فيما نعلم ال دليل علمي عليها‪ ،‬بل‬
‫هي ضعيفة‪ ،‬وإمنا نقلناها لألمانة العلمية‪.‬‬
‫((( ينظر‪« :‬تاريخ ابن خلدون»‪ ،230/6 :‬و«التعريف بالقاضي عياض»‪ ،‬حملمد بن القاضي‬
‫عياض‪ ،‬ص‪ ،98 ،13 :‬و«املعجم في أصحاب الصدفي»‪ ،‬البن اآلب��ار‪ ،‬ص‪،308 :‬‬
‫و«االستقصاء»‪ ،‬للسالوي‪ ،111/2 :‬و«الديباج املذهب»‪ ،‬البن فرحون‪ ،‬ص‪- 171 :‬‬
‫‪ ،172‬و«الصلة»‪ ،‬البن بشكوال‪.492/2 :‬‬
‫((( للمزيد عن سيرة القاضي عياض ينظر‪« :‬وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪،483/3 :‬‬
‫و«النجوم الزاهرة»‪ ،‬البن تغري بردي‪ ،285/5 :‬و«معجم أصحاب القاضي الصدفي»‪،‬‬
‫البن اآلبار‪ ،‬ص‪ ،294 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،213 - 212/20 :‬و«البداية‬
‫والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.280/12 :‬‬
‫‪87‬‬
88
‫الرملي‬
‫(‪� )6‬أبو بكر ّ‬
‫(املعروف بابن النابل�سي)‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫الرملي (امل��ع��روف بابن‬
‫أب��و بكر محمد ب��ن أحمد ب��ن سهل ب��ن نصر ّ‬
‫النابلسي)(((‪.‬‬
‫اإلمام‪ ،‬األمير‪ ،‬القدوة‪ ،‬الشهيد(((‪.‬‬
‫الرملي (املعروف بابن النابلسي)‪ ،‬فيعود نسبه إلى بلدة‬
‫وأما نسب أبي بكر ّ‬
‫من بالد فلسطني‪ ،‬يقال لها‪« :‬نابلس»(((‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫تعرضوا لقصة استشهاد أبي‬‫لم يذكر علماء التاريخ والسير التراجم الذين ّ‬
‫الرملي (املعروف بابن النابلسي) تاريخ والدته‪ ،‬وال مكانها‪.‬‬
‫بكر ّ‬
‫الرملي (املعروف بابن النابلسي) في مدينة‬
‫وأما نشأته‪ ،‬فقد نشأ أبو بكر ّ‬
‫الرملة((( وترعرع‪ ،‬وطلب العلم على يد شيوخها؛ كأبي جعفر محمد بن أحمد‬
‫الرملي‪ ،‬وسعيد بن هاشم بن مرثد الطبراني‪ ،‬وعمر بن محمد بن‬ ‫بن شيبان ّ‬
‫((( وقيل اسمه‪ :‬أبوبكر‪ ،‬محمد بن علي النابلسي [ينظر‪« :‬ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪:‬‬
‫‪.]284/5‬‬
‫((( ينظر‪« :‬تاريخ دمشق»‪ ،‬البن عساكر‪ ،49/51 :‬و«الوافي بالوفيات» للصفدي‪،33/2 :‬‬
‫و«تاريخ اإلس�لام»‪ ،‬للذهبي‪ ،222/26 :‬و«النجوم ال��زاه��رة»‪ ،‬البن تغري بردي‪:‬‬
‫‪ ،106/4‬و«العبر في خبر من غبر»‪ ،‬للذهبي‪ ،116/2 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪:‬‬
‫‪ ،148/16‬و«األعالم»‪ ،‬للزركلي‪.311/5 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬األنساب»‪ ،‬للسمعاني‪ ،3/13 :‬و«معجم البلدان» لياقوت احلموي‪،248/5 :‬‬
‫و«طبقات الشافعية‪ ،‬البن قاضى شهبة‪.161/3 :‬‬
‫((( مدينة من مدن الشام‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫سليمان العطار‪ ،‬وعثمان بن محمد بن علي بن جعفر الذهبي‪ ،‬ومحمد بن‬
‫احلسن بن قتيبة‪ ،‬وأحمد بن ريحان‪ ،‬وأبي الفضل العباس ابن الوليد القاضي‪،‬‬
‫وأبي عبدالله جعفر بن أحمد بن إدريس القزويني‪ ،‬وإسماعيل بن محمد بن‬
‫محفوظ‪ ،‬وأبي سعيد بن األعرابي‪ ،‬وأبي منصور محمد بن سعد(((‪.‬‬
‫حتى صار يقصده طلبة العلم من أبناء تلك املدينة وخارجها‪ ،‬فقد ذكر ابن‬
‫عساكر في تاريخه من جملة من سمع منه بالرملة‪ ،‬وروى عنه متام بن محمد‪،‬‬
‫وعبد الوهاب امليداني‪ ،‬وأبو احلسن الدارقطني‪ ،‬وأبو مسلم محمد ابن عبد الله‬
‫بن محمد بن عمر األصبهاني‪ ،‬وأبوالقاسم علي بن عمر بن جعفر احللبي‪،‬‬
‫وبشرى بن عبد الله مولى فلفل(((‪.‬‬
‫ومما يدل أيض ًا على أنه نشأ في الرملة‪ ،‬وطلب العلم على يد شويخها‪،‬‬
‫حتى صار قبلة للطالب العلم؛ ما ذكره علماء التاريخ والسير والتراجم الذين‬
‫تعرضوا لقصة استشهاده على يد املدعو املعز في كتبهم؛ حيث‬ ‫ترجموا له‪ ،‬أو ّ‬
‫ذكر العلماء‪ :‬أنه كان في «الرملة» أثناء استيالء قادة وعساكر املدعو بـ«املعز»‪،‬‬
‫ثم خرج منها بعد ذلك إلى «دمشق»‪ ،‬وفيها مت القبض عليه أسير ًا من قبل قادة‬
‫وعساكر املدعو «املعز»‪ ،‬ثم أرسل إلى مصر(((‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫الرملي‬
‫مما يحزن فؤاد الباحث في كتب التراجم ندرة الكتابة عن أبي بكر ّ‬
‫(املعروف بابن النابلسي) رغم جاللة قدره‪ ،‬وسمو مكانته‪ ،‬ونبل أخالقه‪ ،‬وكثرة‬
‫تضحياته في مناصرة احلق وأهله‪ ،‬ودحض الباطل وبيان أهله‪ ،‬كما سيأتي ذلك‬
‫أثناء احلديث عن محنته‪.‬‬

‫((( «تاريخ دمشق»‪ ،‬البن عساكر‪.50 - 49/51 :‬‬


‫((( «تاريخ دمشق»‪ ،‬البن عساكر‪.50/51 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،285/5 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪:‬‬
‫‪ ،34 - 33/2‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.149/16 :‬‬
‫‪90‬‬
‫الرملي (املعروف بابن النابلسي) إال أننا جند‬ ‫ومع ندرة الكتابة عن أبي ّ‬
‫ّ‬
‫وسطروا شيئ ًا يسير ًا عن حياته‪ ،‬وتعداد مناقبه‬ ‫بعض العلماء الذين كتبوا عنه‪،‬‬
‫وخصاله‪ ،‬ومن أقوالهم في الثناء عليه ما يلي‪:‬‬
‫قال الذهبي‪« :‬كان إمام ًا في احلديث والفقه‪ ،‬صائم الدهر‪ ،‬كبير الصولة‬
‫عند العامة واخلاصة‪ ...‬وكان نبي ً‬
‫ال رئيس الرملة»(((‪.‬‬
‫وقال أيض ًا‪« :‬اإلمام‪ ،‬القدوة‪ ،‬الشهيد»(((‪.‬‬
‫املعز لدين الله‪ ،‬وكان قد قال‪:‬‬‫وقال أيض ًا‪« :‬الشهيد؛ سلخه صاحب مصر‪ّ ،‬‬
‫لو كان معي عشرة أسهم‪ ،‬لرميت الروم سهم ًا‪ ،‬ورميت بني عبيد تسعة‪ ،‬فبلغت‬
‫قرره‪ ،‬اعترف وأغلظ لهم‪ ،‬فقتلوه‪ ،‬وكان عابد ًا صاحل ًا زاهد ًا‪،‬‬
‫القائد جوهر‪ ،‬فلما ّ‬
‫قوا ً‬
‫ال باحلق»(((‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وقال ابن كثير‪« :‬الزاهد‪ ،‬العابد‪ ،‬الورع‪ ،‬الناسك‪ ،‬التقي»(((‪.‬‬
‫وقال هبة الله بن األكفاني‪« :‬العبد‪ ،‬الصالح‪ ،‬الزاهد»(((‪.‬‬
‫وقال ابن تغري بردي‪« :‬الزاهد‪ ...‬بعث (كافور األخشيدي) إليه مبال فرده‪،‬‬
‫وقال للرسول‪ ،‬قل له‪ :‬قال الله‪:‬‬
‫{ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ}‬
‫(((‬

‫واالستعانة به تكفي»(((‪.‬‬

‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،149 /16 :‬و«تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.224/26 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.148/16 :‬‬
‫((( «العبر في خبر من غبر»‪ ،‬للذهبي‪.116/2 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.322/11 :‬‬
‫((( «تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.222/26 :‬‬
‫((( سورة الفاحتة‪.5 ،1 :‬‬
‫((( «النجوم الزاهرة»‪ ،‬البن تغري ب��ردي‪ ،106/4 :‬وينظر‪« :‬املنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪:‬‬
‫‪.246/14‬‬
‫‪91‬‬
‫وقال القاضي عياض‪« :‬كبير أهل مدينة الرملة‪ ،‬وفقيه مطاع في بلده‪،‬‬
‫مسموع ًا فيه‪ ،‬يتبع الرأي‪ ،‬وكان فقيه ًا زاهد ًا‪ ،‬مالكي املذهب‪ ،‬ذا رئاسة وظهور‪،‬‬
‫ذام ًا لهم‪ ،‬من ّفر ًا للعامة‬
‫وكان شديد ًا على بني عبيد‪ ،‬حني ملكوا مصر والشام‪ّ ،‬‬
‫عنهم»(((‪.‬‬
‫وقال ابن سعدون‪« :‬كان شيخ ًا صاحل ًا»(((‪.‬‬
‫وقال أبو إسحاق الرقيق في تاريخه‪« :‬رجل معروف بالعلم»(((‪.‬‬
‫وقال الزركلي‪« :‬شاعر‪ ...‬له اشتغال في احلديث»(((‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫حسب اطالعي على كتب التراجم التي بني أيدينا لم أر أحد ًا من العلماء‬
‫الذين ترجموا ألبي بكر الرملي(املعروف بابن النابلسي) ذكر له مؤلفات‪ .‬ويغنيه‬
‫الذب عن احلق‪ ،‬والوقوف في وجه الباطل‪.‬‬ ‫عن ذلك مواقفه الصادقة في ّ‬
‫محنته‪:‬‬
‫قبل احلديث عن محنة أبي بكر الرملي (املعروف بابن النابلسي) ال بد من‬
‫إعطاء حملة عن تاريخ أمراء الدولة العبيدية‪.‬‬
‫فقد تأسست الدولة العبيدية في املغرب العربي سنة ‪ 297‬هـ‪ ،‬ثم انتقلت‬
‫توسعت حتى شملت الشام‪ ،‬واجلزيرة‬ ‫قيادتها إلى مصر سنة ‪ 362‬هـ‪ ،‬ثم ّ‬
‫العربية‪ ،‬وسقطت سنة (‪567‬هـ)(((‪.‬‬
‫وقد تعاقب على والية الدولة العبيدية أربعة عشر حاكم ًا‪ :‬ثالثة باملغرب‬

‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.284/5 :‬‬


‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.284/5 :‬‬
‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.284/5 :‬‬
‫((( «األعالم»‪ ،‬للزركلي‪.311/5 :‬‬
‫((( «تاريخ اخللفاء»‪ ،‬للسيوطي‪ ،‬ص‪.368 :‬‬
‫‪92‬‬
‫(املهدي‪ ،‬والقائم‪ ،‬واملنصور)‪ ،‬وأحد عشر مبصر‪( :‬املعز‪ ،‬والعزيز‪ ،‬واحلاكم‪ ،‬والظاهر‪،‬‬
‫واملستنصر واملستعلي‪ ،‬واآلمر‪ ،‬واحلافظ‪ ،‬والظافر‪ ،‬والفائز‪ ،‬والعاضد)(((‪.‬‬
‫وقد كانت الدولة العبيدية على املسلمني شر ًا وب�لاء‪ ،‬قال الذهبي عن‬
‫عبيد الله مؤسس الدولة العبيدية‪« :‬كان زنديقًا خبيث ًا‪ّ ،‬‬
‫عدو ًا لإلسالم‪ .‬قتل من‬
‫ذريته على ذلك‪ ،‬وبقي‬ ‫والصاحلني جماعة كبيرة‪ ،‬ونشأت ّ‬ ‫واحملدثني‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الفقهاء‪،‬‬
‫احلجة سنة‬
‫هذا البالء على اإلسالم من ّأول دولتهم إلى آخرها‪ ،‬وذلك في ذي ّ‬
‫تسع وتسعني ومائتني‪ ،‬إلى سنة سبع وس ّتني وخمسمائة»(((‪.‬‬
‫وقال الذهبي أيض ًا‪« :‬ال يوصف ما قلب هؤالء العبيدية الدين ظهر ًا لبطن‪،‬‬
‫وسبوا الصحابة»(((‪.‬‬
‫واستولوا على املغرب‪ ،‬ثم على مصر والشام‪ّ ،‬‬
‫وقد انتسب أمراء الدولة العبيدية إلى فاطمة (زور ًا وبهتان ًا)؛ كما بينّ ذلك‬
‫علماء التاريخ والتراجم واألنساب(((‪.‬‬
‫وأيض ًا أجمع (من ّ‬
‫يعتد به من العلماء) على كفر أمراء الدولة العبيدية‬
‫وزندقتهم(((‪ ،‬وهذه بعض أقوالهم في ذلك‪:‬‬
‫قال أبو يوسف الرعيني‪« :‬أجمع العلماء بالقيروان‪ :‬أن حال بني عبيد حال‬
‫املرتدين والزنادقة»(((‪.‬‬

‫((( «عيون الروضتني»‪ ،‬ألبي شامة‪ ،215/2 :‬و«تاريخ اخللفاء»‪ ،‬للسيوطي‪ ،‬ص‪،25 :‬‬
‫و«تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.275/39 :‬‬
‫((( «تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.276/39 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.149/16 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬حسن احملاضرة»‪ ،‬للسيوطي‪ ،283 - 282/2 :‬و«النجوم الزاهرة»‪ ،‬البن تغري‬
‫بردي‪ ،230 - 229/4 :‬و«تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪ ،11/28 :‬و«البداية والنهاية»‪،‬‬
‫البن كثير‪ ،398 - 397/11 :‬و«عيون الروضتني»‪ ،‬ألبي شامة‪ ،216/2 :‬و«وفيات‬
‫األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪ ،373/5 :‬و«منهاج السنة النبوية»‪ ،‬البن تيمية‪.12/8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬تاريخ اخللفاء»‪ ،‬للسيوطي‪ ،‬ص‪.367 :‬‬
‫((( «تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪ ،512/28 :‬و«سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.151/15 :‬‬
‫‪93‬‬
‫وقال ابن تيمية‪« :‬العبيديون كانوا يتظاهرون باإلسالم‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنهم‬
‫شيعة‪ ،‬فالظاهر عنهم الرفض‪ ،‬لكن كان باطنهم اإلحلاد والزندقة‪ ،‬كما قال‬
‫أبو حامد الغزالي في كتاب‪« :‬املستظهري»‪ :‬ظاهرهم الرفض‪ ،‬وباطنهم الكفر‬
‫احملض‪ .‬وهذا الذي قاله أبو حامد فيهم هو متفق عليه بني علماء املسلمني»(((‪.‬‬
‫وقال ابن تيمية أيض ًا‪« :‬العبيديون الذين اتفق املسلمون على أنهم خارجون‬
‫عن الشريعة وأنهم كانوا إسماعيلية كما قال الغزالي‪ :‬ظاهر مذهبهم الرفض‬
‫وباطنه الكفر احملض‪ ،‬واتفقوا على أن قتلهم كان جائز ًا‪ ،‬وهم الذين أحدثوا‬
‫للنصارى هذه الكنائس‪ ،‬وص ّنف العلماء في كفرهم وزندقتهم‪ ،‬مثل القدروى‬
‫والشيخ أبي حامد اإلسفرائيني والقاضي أبي يعلى وأبي محمد بن أبي زيد وأبي‬
‫بكر ابن الطيب الباقالني‪ .‬والذين يوجدون في بالد اإلسالم من اإلسماعيلية‬
‫والنصيرية والدرزية هم من أتباعهم‪ ،‬وكان وزيرهم بالقاهرة مرة يهودي ًا‪ ،‬فقويت‬
‫اليهودية بسببه‪ ،‬ومرة نصراني ًا أرمني ًا‪ ،‬وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني‬
‫األرمني‪ ،‬وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر في دولة أولئك الرافضة املنافقني‪،‬‬
‫وكانوا ينادون بني القصرين من لعن وسب فله دينار وأردب»(((‪.‬‬
‫قال ابن تيمية أيض ًا‪« :‬بقي والة أمورها (أي القاهرة) نحو مائتي سنة على‬
‫غير شريعة اإلسالم؛ وكانوا يظهرون أنهم رافضة وهم في الباطن إسماعيلية‬
‫ونصيرية وقرامطة باطنية‪ ،‬كما قال فيهم الغزالي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في‬
‫كتابه الذي ص ّنفه في الرد عليهم‪ :‬ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر احملض‪.‬‬
‫واتفق طوائف املسلمني‪ ...‬علماؤهم وملوكهم وعامتهم من احلنفية واملالكية‬
‫والشافعية واحلنابلة وغيرهم على أنهم كانوا خارجني عن شريعة اإلسالم‪ ،‬وأن‬
‫ال‪ ،‬وأن جدهم كان عبيد الله‬‫نصوا على أن نسبهم كان باط ً‬
‫قتالهم كان جائز ًا؛ بل ّ‬
‫بن ميمون القداح لم يكن من آل بيت رسول الله |‪ .‬وص ّنف العلماء في ذلك‬
‫مصنفات‪ ،‬وشهد بذلك مثل الشيخ أبي احلسن القدوري إمام احلنفية‪ ،‬والشيخ‬

‫((( «الرد على املنطقيني»‪ ،‬البن تيمية‪ ،‬ص‪.280 :‬‬


‫((( «مختصر الفتاوى املصرية»‪ ،‬البن تيمية‪ ،‬ص‪.513 :‬‬
‫‪94‬‬
‫أبي حامد اإلسفرائيني إمام الشافعية‪ ،‬ومثل القاضي أبي يعلى إمام احلنبلية‪،‬‬
‫ومثل أبي محمد بن أبي زيد إمام املالكية‪ .‬وصنف القاضي أبو بكر ابن الطيب‬
‫فيهم كتاب ًا في كشف أسرارهم وسماه‪« :‬كشف األسرار وهتك األستار» في‬
‫مذهب القرامطة الباطنية‪ .‬والذين يوجدون في بالد اإلسالم من اإلسماعيلية‬
‫والنصيرية والدرزية وأمثالهم من أتباعهم‪ .‬وهم الذين أعانوا التتار على قتال‬
‫املسلمني‪ ،‬وكان وزير «هوالكو» النصير الطوسي من أئمتهم‪ .‬وهؤالء أعظم‬
‫الناس عداوة للمسلمني وملوكهم‪ ،‬ثم الرافضة بعدهم‪ .‬فالرافضة يوالون من‬
‫الس ّنة واجلماعة ويوالون التتار ويوالون النصارى‪ .‬وقد كان بالساحل‬ ‫حارب أهل ّ‬
‫بني الرافضة وبني الفرجن مهادنة حتى صارت الرافضة حتمل إلى قبرص خيل‬
‫املسلمني وسالحهم وغلمان السلطان وغيرهم من اجلند والصبيان‪ .‬وإذا انتصر‬
‫املسلمون على التتار أقاموا املآمت واحلزن وإذا انتصر التتار على املسلمني أقاموا‬
‫والسرور‪ ،‬وهم الذين أشاروا على التتار بقتل اخلليفة وقتل أهل بغداد»(((‪.‬‬
‫وقد وقع أمراء الدولة العبيدية في أمور مناقضة لإلسالم‪ ،‬ومنها ما يلي‪:‬‬
‫أو ًال‪ :‬ادعاء األلوهية والربوبية‪ :‬كما هو حال احلاكم العبيدي؛ قال الذهبي‬
‫املدعي الربوبية»(((‪.‬‬
‫عنه‪« :‬اإلسماعيلي‪ ،‬الزنديق‪ّ ،‬‬
‫حرضه على ادعاء الربوية‪« :‬حمزة بن علي الزوزني» وهو من دعاة‬ ‫وقد ّ‬
‫تأليه احلاكم‪ ،‬ومؤسس املذهب الدرزي ببالد الشام‪ ،‬قال الذهبي عنه‪« :‬وقد قتل‬
‫الدرزي الزنديق؛ الدعائه ربوبية احلاكم‪ ...‬وكان قوم من اجلهلة الغوغاء إذا‬
‫رأوا «احلاكم» يقولون‪ :‬يا واحد يا أحد‪ ،‬يا محيي يا مميت»(((‪.‬‬
‫وقال الذهبي أيض ًا‪« :‬إن احلاكم قال لداعيه‪ :‬كم في جريدتك؟ قال‪ :‬ستة‬
‫عشر ألف ًا يعتقدون أنّك اإلله! قال شاعرهم‪:‬‬

‫((( «مجموع الفتاوى»‪ ،‬البن تيمية‪.636 - 635/28 :‬‬


‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.173/15 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.181 - 180/15 :‬‬
‫‪95‬‬
‫ف��اح��ك��م ف���أن���ت ال����واح����د ال��ق��ه��ار‬
‫م���ا ش��ئ��ت ال م���ا ش����اءت األق�����دار!‬
‫وقد ع ّلق الذهبي على ذلك بقوله‪« :‬فلعن الله املادح واملمدوح‪ ،‬فليس هذا‬
‫في القبح إال كقول فرعون‪:‬‬
‫{ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ}»(((‪.‬‬
‫املهدي بر ّقادة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وقال بعض شعرائهم في‬
‫ح���������ل ب������ه������ا آدم ون���������وح‬
‫ف����م����ا س�������وى ال����ل����ه ف����ه����و ري����ح‬
‫ّ‬
‫ح�����������ل ب����������رق����������ادة امل����س����ي����ح‬
‫ّ‬
‫ح��������ل ب����ه����ا ال�����ل�����ه ف������ي ع��ل�اه‬
‫قال الذهبي معلق ًا‪« :‬وهذا أعظم كفر ًا من ال ّنصارى؛ ألن ال ّنصارى يزعمون‬
‫حل بناسوت عيسى فقط‪ ،‬وهؤالء يعتقدون حلوله في جسد‬ ‫اإللهي ّ‬
‫ّ‬ ‫أن اجلزء‬
‫آدم‪ ،‬ونوح‪ ،‬واألنبياء‪ ،‬وجميع األئمة‪ ،‬هذا اعتقادهم لعنهم الله» ‪.‬‬
‫(((‬

‫ثاني ًا‪ :‬ادعاء علم الغيب‪ :‬قال ابن خ ّلكان‪« :‬كانوا ّ‬


‫يدعون علم املغيبات‪،‬‬
‫ولهم في ذلك أخبار مشهورة»(((‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬أمر الناس بالسجود لهم‪ :‬قال ابن كثير‪« :‬كان إذا ذكر اخلطيب احلاكم‬
‫ال له‪ ،‬وكذلك فعلوا بديار مصر مع زيادة السجود له‪،‬‬ ‫يقوم الناس كلهم إجال ً‬
‫وكانوا يسجدون عند ذكره‪ ،‬يسجد من هو في الصالة ومن هو في األسواق‬
‫يسجدون لسجودهم‪ ،‬لعنه الله وقبحه»(((‪.‬‬

‫((( سورة النازعات‪ ،‬آية‪.24 :‬‬


‫((( «تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.277 - 276/39 :‬‬
‫((( «وفيات األعيان»‪ ،‬البن خلكان‪.374/5 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.386/11 :‬‬
‫‪96‬‬
‫قال الذهبي‪« :‬في سنة ‪ 396‬هـ خطب باحلرمني لصاحب مصر «احلاكم»‪،‬‬
‫وأمر الناس عند ذكره بالقيام‪ ،‬وأن يسجدوا له‪ ،‬فإنا لله وإنا إليه راجعون»(((‪.‬‬
‫رابع ًا‪ :‬مشاركتهم للقرامطة في جرائمهم‪ :‬قال الذهبي‪« :‬ففي أيام املهدي‬
‫عاثت القرامطة بالبحرين‪ ،‬وأخذوا احلجيج‪ ،‬وقتلوا‪ ،‬وسبوا‪ ،‬واستباحوا حرم‬
‫ويحرضهم‪ ،‬قاتله‬
‫ّ‬ ‫الله‪ ،‬وقلعوا احلجر األس��ود‪ ،‬وك��ان عبيد الله يكاتبهم‪،‬‬
‫الله»(((‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬سب الصحابة‪ :‬قال الذهبي‪« :‬وفي أيامه (العزيز) أظهر ّ‬
‫سب‬
‫الصحابة على أبواب املساجد والشّ وارع‪،‬‬ ‫الصحابة جهار ًا» ‪ ،‬وأمر بكتب ّ‬
‫سب ّ‬
‫(((‬

‫وأمر العمال بالسب في سنة خمس وتسعني وثالث مائة(((‪.‬‬


‫سب الصحابة فاشي ًا في أيامه (أي‪ :‬املستنصر)‪،‬‬
‫وقال الذهبي‪« :‬وك��ان ّ‬
‫والس ّنة غريبة مكتومة»(((‪.‬‬
‫للمحرمات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وغير ذلك من األمور املناقضة لإلسالم‪ ،‬ناهيك عن استحاللهم‬
‫وسفكهم للدماء املعصومة‪ ،‬ونشرهم للفساد واالنحالل األخالقي‪.‬‬
‫فلذلك وقف علماء اإلسالم الذين عاصروا هذه الدولة‪ ،‬وشاهدوا‬
‫انحرافها‪ ،‬وعايشوا جرائمها ضد هذه الدولة‪ ،‬وانبروا لبيان خطرها على‬
‫أمة اإلسالم‪ ،‬وكان ممن وقف ضدها‪ :‬كبير علماء الرملة‪ ،‬وأميرها املطاع‬
‫الرملي‪ ،‬حيث كان يفتي في احملافل العامة بقتالها‪،‬‬
‫فيها أنذاك‪ :‬أبو بكر ّ‬
‫ويح ّفز العامة واخلاصة على ذلك ‪ ،‬حتى ذاع عنه واشتهر قوله عنها‪:‬‬
‫(((‬

‫((( «دول اإلسالم» للذهبي‪.350/1 :‬‬


‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.147/15 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.170/15 :‬‬
‫((( «تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.283/28 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.196/15 :‬‬
‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.284/5 :‬‬
‫‪97‬‬
‫«من كان معه عشرة أسهم يجب عليه أن يرميكم بتسعة‪ ،‬وأن يرميكم بعد‬
‫التسعة بالعاشر أيض ًا»‪.‬‬
‫الرملي من أمراء الدولة العبيدية (القادمني من‬
‫فلما كان موقف أبي بكر ّ‬
‫املغرب إلى مصر والشام) بهذه الصالبة والقوة فإنه وبدون شك سينتقم منه‬
‫قادة هذه الدولة متى ما ظفروا‪ ،‬وهو ما حصل فع ً‬
‫ال على يد األمير الرابع للدولة‬
‫العبيدية (املدعو باملعز)؛ فإنه ملا استولى على حكم مصر بعد معارك طاحنة بقيادة‬
‫قائده جوهر‪ ،‬ثم توسعت دولته حتى شملت مدن الشام؛ كالرملة (مكان إقامة‬
‫الرملي (املعروف بابن النابلسي) بعد معارك شرسة مع أهلها كانت‬ ‫أبي بكر ّ‬
‫الرملي من اخلروج منها إلى دمشق‪،‬‬ ‫نهايتا السيطرة عليها‪ ،‬مما اضطر أبا بكر ّ‬
‫الرملي (املعروف بابن النابلسي) في رمضان سنة‬ ‫وفيها مت القبض على أبي بكر ّ‬
‫كبل ووضع في قفص خشب‪ ،‬وأرسل إلى مصر(((‪.‬‬ ‫ثالث وستني‪ ،‬ثم ّ‬
‫وملا أحضر بني يدي املدعو باملعز (رابع أمراء الدولة العبيدية) واسمه (معد‬
‫بن إسماعيل) قال له املعز‪ :‬بلغني عنك أنك قلت‪ :‬لو أن معي عشرة أسهم‬
‫لرميت الروم بتسعة ورميت املصريني بسهم؟ فقال‪ :‬ما قلت هذا؟ (ظن املعز أنه‬
‫الرملي بلهجة الواثق قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫أصابه الرعب! وأنه قد تراجع)‪ ،‬فرد عليه أبوبكر ّ‬
‫قلت‪« :‬من كان معه عشرة أسهم يجب عليه أن يرميكم بتسعة وأن يرميكم بعد‬
‫التسعة بالعاشر أيض ًا»‪ ،‬فأصيب املدعو باملعز بالدهشة! فسأله عن السبب‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‬
‫غيرمت دين األمة‪ ،‬وقتلتم الصاحلني‪،‬‬ ‫الرملي‪« :‬ألنكم ّ‬‫له‪ :‬ولم؟ فقال أبو بكر ّ‬
‫وأطفأمت نور اإللهية‪ ،‬وا ّدعيتم ما ليس لكم»(((‪.‬‬

‫((( ونقل القاضي عياض في [«ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض»‪ ]286 - 285/5 :‬عن‬
‫ابن سعدون‪ :‬أن أبا بكر الرملي‪ ،‬الشهير بابن النابلسي‪ :‬أسر في دمشق معه ابنه‪ ،‬ثم حمل‬
‫معه إلى مصر‪ ،‬حيث قتل ابنه أمامه‪ ،‬ثم قتل األب بعده‪ ،‬وذكر القاضي عياض أن أبا بكر‬
‫الشهير بابن النابلسي دعا على املدعو املعز بأن يفجعه الله بابنه‪ ،‬فقبل الله دعاءه‪ ،‬وأماته‬
‫في حياة أبيه‪ ،‬وأفجعه به‪.‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.322/11 :‬‬
‫‪98‬‬
‫فما كان من املدعو «املعز» إال أن أمر بقتله قتلة تبكي لهولها احلجارة‬
‫الشماء‪ ،‬ور ّقت لها حتى قلوب األعداء‪ ،‬حيث «أمر (املعز)‬ ‫ّ‬ ‫الصماء‪ ،‬واجلبال‬
‫ّ‬
‫بإشهاره في أول يوم! ثم ضربه في اليوم الثاني بالسياط ضرب ًا شديد ًا مبرح ًا! ثم‬
‫أمر في اليوم الثالث بسلخ جلده عن جسده وهو حي (وهذه فعلة رفض القيام‬
‫بها أهل اإلسالم آنذاك)‪ ،‬وإمنا أوكل املعز للقيام بها يهودي ًا‪ ،‬فجعل اليهودي‬
‫الرملي صابر محتسب يذكر الله‪ ،‬ويقرأ القرآن‪ ،‬وكان مما قرأه‬ ‫يسلخه‪ ،‬وأبو بكر ّ‬
‫وهو يسلخ‪:‬‬
‫{ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ}‬
‫حتى أن اليهودي لهول هذه احلادثة أخذته ر ّقة (كما حكى ذلك اليهودي‬
‫عن نفسه) بقوله‪« :‬فأخذتني رقة عليه! فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكني!‬
‫فمات‪.‬‬
‫ومع هذا كله لم يشف ذلك غليل املدعو باملعز‪ ،‬بل أمر بنفخ جلده كما‬
‫تنفخ الشاة‪ ،‬ثم أمر بحشوه تبنا‪ ،‬ثم صلب جسده في ناحية‪ ،‬وجلده بعد أن‬
‫حشي في ناحية أخرى(((‪.‬‬
‫وذكر املقريزي (وهو ممن يرى خالفة أمراء الدولة الفاطمية‪ ،‬ويثني عليهم)‪:‬‬
‫يسبونه ويشتمونه‬
‫مقيد‪ ،‬والناس ّ‬ ‫أن ابن النابلسي حمل ببرنس على جمل وهو ّ‬
‫ويجرون برجله من فوق اجلمل‪ ...‬ثم سيق إلى املنظر ليسلخ‪ ...‬فسلخ‪ ،‬وحشي‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫جلده تبنا‪ ،‬ونصبت جثته وجلده على اخلشب عند املنظر ‪.‬‬
‫(((‬

‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،322/11 :‬و«ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪:‬‬
‫‪ ،285/5‬و«تاريخ دمشق»‪ ،‬البن عساكر‪ ،50/51 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪:‬‬
‫‪ ،34 - 33/2‬و«سير أعالم النبالء» للذهبي‪ ،149 -148/16 :‬و«تاريخ اإلسالم»‪،‬‬
‫للذهبي‪ ،223/26 :‬و«املنتظم»‪ ،‬البن اجلوزي‪ ،245/14 :‬و«معجم البلدان»‪ ،‬لياقوت‬
‫احلموي‪ ،249/5 :‬و«األعالم»‪ ،‬للزركلي‪.311/5 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬اتعاظ احلنفاء»‪ ،‬للمقريزي‪ 211 – 210/1 :‬بتصرف‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫الرملي (املعروف بابن النابلسي) مع املدعو «املعز»‬
‫ومن خالل قصة أبي بكر ّ‬
‫نستخلص أمور ًا عدة؛ منها‪:‬‬
‫أو ًال‪ :‬مدى الوحشية التي وصل إليها أمراء الدولة العبيدية‪ ،‬وعلى رأسهم‬
‫املدعو املعز ضد املسلمني‪ ،‬قال القاضي عبد اجلبار الهمذاني معلق ًا على قصة‬
‫الرملي وسلخه وهي وح��ي‪« :‬وه��ذه ع��ادة لهم في سلخ‬ ‫استشهاد أبي بكر ّ‬
‫املسلمني أحياء»(((‪.‬‬
‫قال القاضي عياض أثناء حديثه عن محنة أبي بكر‪« :‬حمل (أي أبابكر‬
‫الرملي) إلى مصر مع ابنه‪ ،‬في جملة األسرى الذين قبض عليهم في الهزمية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فشهروا على اجلمال‪ ،‬وأمر بضرب أعناقهم على النيل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثالثمائة‪،‬‬ ‫نحو‬ ‫وكانوا‬
‫ورمي جثثهم به‪ ،‬إال النابلسي؛ فإنه أمر أن يسلخ من جلده» ‪.‬‬
‫(((‬

‫ونقل الذهبي عن أبي احلسن القابسي صاحب «امللخص»‪« :‬إن الذين قتلهم‬
‫عبيد الله وبنوه‪ :‬أربعة آالف في دار النحر في العذاب؛ من عالم وعابد»(((‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬مدى الغربة التي وصل إليها أهل ّ‬


‫الس ّنة أثناء فترة حكم أمراء الدولة‬
‫الس ّنة إلاّ‬ ‫العبيدية‪ :‬قال معمر بن أحمد بن زياد ّ‬
‫الصوفي‪« :‬لو لم يكن من غربة ّ‬
‫املغربي بالشام واستولى عليها‪ ،‬فأظهر‬
‫ّ‬ ‫ما كان من أمر أبي بكر النابلسي ملّا ظهر‬
‫الدعوة إلى نفسه»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫ثالث ًا‪ :‬عالقة أم��راء الدولة العبيدية باليهود‪ ،‬حيث نال اليهود مكانة‬
‫مرموقة أثناء فترة حكم أمراء الدولة العبيدية‪ ،‬وأيض ًا استعانتهم باليهود‪،‬‬
‫الرملي‪ ،‬املعروف‬
‫حتى املدعو باملعز استعان بيهودي ليقوم بسلخ أبي بكر ّ‬
‫بابن النابلسي‪.‬‬

‫((( «تثبيت دالئل النبوة»‪ ،‬للقاضي عبد اجلبار الهمذاني‪.608/2 :‬‬


‫((( «ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪.285/5 :‬‬
‫((( «سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.145/15 :‬‬
‫((( «تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪.223/26 :‬‬
‫‪100‬‬
‫الرملي املعروف بابن النابلسي ي ّتضح لنا‬
‫ومن خالل قصة استشهاد أبي بكر ّ‬
‫عظمته‪ ،‬وذلك من خالل األمور التالية‪:‬‬
‫أو ًال‪ :‬صدعه بكلمة احلق أمام املدعو املعز‪ ،‬حيث قال له مبين ًا له سبب‬
‫غيرمت دين األمة‪ ،‬وقتلتم الصاحلني‪،‬‬
‫وقوفه ضد أمراء الدولة العبيدية‪« :‬ألنكم ّ‬
‫وأطفأمت نور اإللهية‪ ،‬وا ّدعيتم ما ليس لكم»(((‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬ثباته وشجاعته ورباطة جأشه‪ :‬ذلك أن املدعو املعز أمر بإشهاره في‬
‫اليوم األول‪ ،‬ثم أمر بضربه بالسياط في اليوم الثاني فثبت‪ ،‬ثم ملا أمر بسلخ جلده‬
‫في اليوم الثالث فرفض املسلمون فعل ذلك‪ ،‬فعرض املعز األمر على يهودي‬
‫فقبل‪ ،‬فجعل يسلخ جلده عن حلمه وهو صابر محتسب‪ ،‬ثم سلخه من مفرق‬
‫رأسه حتى بلغ الوجه‪ ،‬فجعل النابلسي يذكر الله إلى أن بلغ عضده فرق حلاله‪،‬‬
‫وطعنه في قلبه ففاضت روحه‪ ،‬ولم يكتف املعز بذلك‪ ،‬بل إنه أمر بحشو جسده‬
‫تبن ًا وصلبه‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬أن محنته شملت جميع صنوف األذى‪ :‬ومنها‪ :‬املالحقة واملطاردة‪،‬‬
‫والسجن والتكبيل بالقيود‪ ،‬والتشهير‪ ،‬والضرب والتعذيب‪ ،‬ثم سلخه وهو‬
‫حي‪ ،‬ثم صلبه‪.‬‬
‫رابع ًا‪ :‬تع ّلقه بالله‪ ،‬ورضاه بقدره‪ :‬قال أبو ذر الهروي‪« :‬سمعت الدارقطني‬
‫يذكره ويبكي‪ ،‬ويقول‪ :‬كان يقول وهو يسلخ‪:‬‬
‫{ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ}(((‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬فاضت روحه إلى ربه شهيدا‪ ،‬ودعوات املؤمنني تصله إلى قبره؛‬
‫حتى أنه أطلق عليه لقب‪« :‬الشهيد»‪ ،‬وصار ينسب إليه بنو الشهيد من أهل‬
‫نابلس إلى اليوم؛ كما ذكر ابن كثير(((‪.‬‬

‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.322/11 :‬‬


‫((( سورة اإلسراء‪ ،‬آية‪ ،58 :‬ينظر‪« :‬تاريخ دمشق»‪ ،‬البن عساكر‪.50/51 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.322/11 :‬‬
‫‪101‬‬
‫وأما قاتلوه فقد رحلوا إلى مزبلة التاريخ‪ ،‬ولعنات املؤمنني تالحقهم‪ ،‬وإن‬
‫أفلتوا من العقوبة في الدنيا فإنهم لن يفلتوا من العقوبة في اآلخرة‪.‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫الرملي مبصر سنة ثالثة وستني وثالثمائة((( ((‪ .‬وقد رآه‬‫استشهد أبوبكر ّ‬
‫بعض العلماء بعد وفاته في املنام وهو في حالة حسنة؛ ومنها ما روي عن أبي‬
‫الشعشاع املصري أنه قال‪« :‬رأيت أبا بكر النابلسي في املنام بعد ما قتل وهو في‬
‫أحسن هيئة‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما فعل الله بك؟‬
‫فأنشد يقول‪:‬‬
‫ع����ز‬
‫ح����ب����ان����ي م����ال����ك����ي ب����������دوام ّ‬
‫وأوع������دن������ي ب����ق����رب االن���ت���ص���ار‬
‫وق������رب������ن������ي وأدن��������ان��������ي إل���ي���ه‬
‫ّ‬
‫(((‬
‫وق���ال أن��ع��م بعيش ف��ي ج����واري‬
‫الرملي املعروف بابن النابلسي‪ ،‬وحشره مع النبيني‬‫رحم الله أبا بكر ّ‬
‫والصديقني والشهداء والصاحلني‪ ،‬وحسن أولئك رفيق ًا‪ ،‬آمني‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪ ،149/16 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪:‬‬
‫‪ ،33/2‬و«تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪ ،224/26 :‬و«ترتيب املدارك»‪ ،‬للقاضي عياض‪:‬‬
‫‪ ،285/5‬و«تاريخ دمشق»‪ ،‬البن عساكر‪ ،51/51 :‬و«النجوم الزاهرة»‪ ،‬البن تغري‬
‫ب��ردي‪ ،106/4 :‬و«العبر في خبر من غبر»‪ ،‬للذهبي‪ ،116/2 :‬و«معجم البلدان»‬
‫لياقوت احلموي‪.249 /5 :‬‬
‫((( وشذ ابن قاضي شهبة في حتديد تاريخ وفاته حيث قال‪« :‬توفي في شعبان سنة ثالث‬
‫وتسعني وسبعمائة» قتي ً‬
‫ال بظاهر القاهرة‪ ،‬ينظر‪« :‬طبقات الشافعية»‪ ،‬البن قاضى شهبة‪:‬‬
‫‪.162/3‬‬
‫((( ينظر‪« :‬تاريخ دمشق»‪ ،‬البن عساكر‪ ،51/51 :‬و«معجم البلدان»‪ ،‬لياقوت احلموي‪:‬‬
‫‪.249/5‬‬
‫‪102‬‬
‫(‪ )7‬السرخسي‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫السرخسي‪ ،‬امللقب بـ«شمس‬ ‫أب��و بكر محمد بن أحمد بن أب��ي سهل ّ‬
‫األئمة»‪ .‬وسبب تلقيبه بذلك أنه تفقّه على «شمس األئمة» عبد العزيز بن أحمد‬
‫احللوائي‪ ،‬فلقّب بلقبه(((‪.‬‬
‫وأما نسب السرخسي‪ ،‬فيعود إلى بلدة من بالد خرسان‪ ،‬يقال لها‪« :‬سرخس»‪،‬‬
‫رخسي نسبة إلى مدينة سرخس من بالد خراسان‪ ...‬وهى‬ ‫ّ‬ ‫«الس‬
‫قال القرشي‪ّ :‬‬
‫محمد بن أحمد بن أبي سهل‪ ،‬أبوبكر»(((‪.‬‬ ‫األئمة ّ‬
‫نسبة شمس ّ‬
‫السلمي في خالفة عثمان بن‬
‫و «سرخس» مدينة افتتحها عبد الله بن حامت ّ‬
‫عفان رضي الله عنهما(((‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫حسب اطالعي على كتب تراجم العلماء الذين ترجموا للسرخسي لم أر‬
‫أحد ًا منهم نص على تاريخ والدته‪ .‬غير أنهم ذكروا أنه ولد مبدينة‪« :‬سرخس»‪،‬‬
‫وهي بلدة عظيمة بخراسان‪ .‬ثم انتقل السرخسي إلى «أوزجند» (أوزكند)‪،‬‬
‫حالي ًا)‪.‬‬
‫وهي بلدة فيما وراء النهر من نواحي «فرغانة» (في أوزبكستان ّ‬

‫((( ينظر‪« :‬اجلواهر املضية» للقرشي‪ ،28/2 :‬و«تاج التراجم»‪ ،‬البن قطلوبغا السودوني‪:‬‬
‫‪ ،44/2‬و«معجم املؤلفني»‪ ،‬لعمر رضا كحالة‪ ،267/8 :‬و«األع�ل�ام»‪ ،‬للزركلي‪:‬‬
‫‪ ،315/5‬و«أسماء الكتب»‪ ،‬لرياض زاده‪ ،‬ص‪.41 :‬‬
‫((( «اجلواهر املضية»‪ ،‬للقرشي‪ ،315/2 :‬وينظر‪« :‬اللباب في تهذيب األنساب»‪ ،‬البن‬
‫األثير‪ ،112/2 :‬و»األعالم»‪ ،‬للزركلي‪.315/5 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬اللباب في تهذيب األنساب»‪ ،‬البن األثير‪ ،112/2 :‬و«آث��ار البالد وأخبار‬
‫العباد»‪ ،‬للقزويني‪ ،‬ص‪ ،390 :‬و«املسالك واملمالك»‪ ،‬لالصطخري‪ ،‬ص‪،272 :‬‬
‫و»آكام املرجان»‪ ،‬للشبلي احلنفي‪ ،‬ص‪ ،76 :‬و«صورة األرض»‪ ،‬البن حوقل‪،445/2 :‬‬
‫و»معجم البلدان»‪ ،‬لياقوت احلموي‪.208/3 :‬‬
‫‪103‬‬
‫وقيل‪ :‬تقع «أوزجند» في منطقة «أوش» بجمهورية «قيرغيزستان»‪ .‬وعليه‬
‫فقد نشأ السرخسي أو ً‬
‫ال في مدينة سرخس‪ ،‬ثم انتقل إلى «أوزجند»‪.‬‬
‫وقد نشأ نشأة علمية‪ ،‬حيث تلقّى العلم على عدد من شيوخ عصره‪ ،‬ساعده‬
‫أصولي ًا مناظر ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫على ذلك ذكاؤه احلاد‪ ،‬حتى صار إمام ًا فاض ً‬
‫ال‪ ،‬وفقيه ًا‬
‫وقد تتلمذ على يديه كثير من طلبة العلم الذين صاروا فيما بعد من أكابر‬
‫علماء زمنهم(((‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫موسعة عن‬
‫مما يؤسف له الباحث في كتب التراجم أنه ال يجد كتابة ّ‬
‫السرخسي‪ ،‬رغم جاللة قدره‪ ،‬وغزارة علمه‪ ،‬وكثرة مصنفاته‪ .‬ولكن السرخسي‬
‫يكفيه في الثناء عليه مؤلفاته العلمية القيمة‪ ،‬ومواقفه البطولية اخلالدة التي انتصر‬
‫وذب فيها عن حرمات الله‪ ،‬حتى ألقي في سجن في قاع جب‬ ‫فيها للشريعة‪ّ ،‬‬
‫مظلم خمس عشرة سنة؛ كما سيأتي بيانه في محنته‪.‬‬
‫ومما قاله العلماء في الثناء عليه ما يلي‪:‬‬
‫قال السمعاني‪« :‬إمام سرخس»(((‪.‬‬
‫األئمة الكبار‬
‫األئمة‪ ...‬أحد الفحول ّ‬ ‫وقال القرشي‪« :‬اإلمام الكبير شمس ّ‬
‫حجة متكلم ًا فقيه ًا أصولي ًا مناظر ًا‪ ،‬لزم اإلمام‬
‫أصحاب الفنون‪ ،‬كان إمام ًا عالمة ّ‬
‫تخرج به‪ ،‬وصار أنظر أهل‬ ‫محمد عبد العزيز احللواني ح ّتى ّ‬ ‫األئمة أبا ّ‬
‫شمس ّ‬
‫زمانه‪ ،‬وأخذ في التصنيف وناظر األقران‪ ،‬فظهر اسمه وشاع خبره»(((‪.‬‬
‫وقال الزركلي‪« :‬قاض‪ ،‬من كبار األحناف‪ ،‬مجتهد»(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬اجلواهر املضية»‪ ،‬للقرشي‪ ،29/2 :‬و«تاج التراجم»‪ ،‬البن قطلوبغا‪،44/2 :‬‬
‫و«املكتبة اإلسالمية»‪ ،‬لعماد علي جمعة‪ ،‬ص‪172 :‬‬
‫((( «األنساب»‪ ،‬للسمعاني‪.405/2 :‬‬
‫((( «اجلواهر املضية»‪ ،‬للقرشي‪.28/2 :‬‬
‫((( «األعالم»‪ ،‬للزركلي‪.315/5 :‬‬
‫‪104‬‬
‫وقال علي بن سلطان القارئ الهروي‪« :‬من كبار علمائنا (أي من كبار‬
‫علماء األحناف) مبا وراء النهر‪ ،‬صاحب األصول والفروع»(((‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬

‫أ ّلف السرخسي كتب ًا عدة‪ ،‬في علوم كثيرة ّ‬


‫متنوعة‪ ،‬وغالب مؤلفاته مطبوعة‬
‫متداولة‪ ،‬ومن مؤلفاته ما يلي(((‪:‬‬
‫‪ -1‬املبسوط (في الفقه احلنفي) في نحو خمسة عشر مجلد ًا‪.‬‬
‫‪ -2‬كتاب في أصول الفقه‪ ،‬جزءان‪.‬‬
‫‪ -3‬شرح السير الكبير‪ ،‬في جزءين‪.‬‬
‫‪ -4‬شرح كتاب الكسب‪.‬‬
‫‪ -5‬شرح مختصر الطحاوية‪.‬‬
‫‪ -6‬شرح اجلامع الصغير لإلمام محمد‪.‬‬
‫‪ -7‬شرح اجلامع الكبير لإلمام محمد‪.‬‬
‫‪ -8‬شرح الزيادات له‪.‬‬
‫‪ -9‬شرح زيادات الزيادات له أيض ًا‪.‬‬
‫للخصاف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -10‬شرح كتاب النفقات‬
‫للخصاف‪.‬‬‫ّ‬ ‫‪ -11‬شرح أدب القاضي‬
‫‪ -12‬أشراط الساعة‪.‬‬
‫‪ -13‬الفوائد الفقهية‪.‬‬
‫‪ -14‬كتاب احليض‪.‬‬

‫((( «األثمار اجلنية»‪ ،‬للقاري الهروي‪ ،‬ص‪.269 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬اجلواهر املضية»‪ ،‬للقرشي‪ ،29 - 28/2 :‬و«تاج التراجم»‪ ،‬البن قطلوبغا‪:‬‬
‫‪ ،45/2‬و«هدية العارفني»‪ ،‬للباباني البغدادي‪ ،76/2 :‬و«معجم املطبوعات العربية‬
‫واملعربة»‪ ،‬البن إليان سركيس‪ ،1016/2 :‬و«أسماء الكتب»‪ ،‬لرياض زاده‪ ،‬ص‪،41 :‬‬
‫و«األعالم»‪ ،‬للزركلي‪ ،315/5 :‬و«معجم املؤلفني»‪ ،‬لعمر رضا كحالة‪.268/8 :‬‬
‫‪105‬‬
‫‪ -15‬شرح الغاية‪.‬‬
‫‪ -16‬أصول السرخسي‪.‬‬
‫وغير ذلك‪.‬‬
‫وبعض مؤلفاته (كما سيأتي) أمالها من حفظه وذاكرته من غير نظر أو‬
‫مطالعة في كتاب‪.‬‬
‫وقد القت أغلب كتبه ‪ -‬وعلى وجه اخلصوص كتابه‪« :‬املبسوط» ‪ -‬قبو ً‬
‫ال‬
‫لدى الناس‪ ،‬حتى صار من ّأمهات الكتب املعتمدة في الفقه احلنفي‪.‬‬
‫محنته‪:‬‬
‫تتفق محن العلماء (كما هي العادة) في سببها‪ ،‬وتختلف في ماهيتها‪.‬‬
‫فمحن العلماء كلهم سببها‪ :‬الصدع باحلق‪ ،‬ومواجهة الظلم‪ ،‬ولكنها‬
‫مختلفة في ماهيتها ما بني األذى القولي كالسب والشتم‪ ،‬واإلهانة‪ ،‬والتحقير‪،‬‬
‫واالزدراء‪ ،‬واإلقامة اجلبرية‪ ،‬واألذى الفعلي‪ ،‬كالسجن والقيود‪ ،‬والضرب‬
‫والتعذيب‪ ،‬والقتل والصلب‪.‬‬
‫ورمبا أصيب بعض العلماء بجميع أصناف أنواع األذى القولي والفعلي‪،‬‬
‫كما حصل ألحمد بن نصر املروزي‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬حيث واجه السرخسي‬
‫كافة صنوف األذى‪ ،‬عدا القتل‪.‬‬
‫ومن هؤالء العلماء الذين امتحنوا وأوذوا في سبيل الله‪ :‬السرخسي‪ ،‬فقد‬
‫كان معروف ًا بالقوة في احلق‪ ،‬والثبات عليه‪ ،‬ال يخاف في الله لومة الئم‪.‬‬
‫ومحنة السرخسي حصلت له مع اخل��اق��ان(((‪ ،‬وسببها‪ :‬أن اخلاقان عزم‬
‫على أن يتزوج جارية كانت ملك ًا له فأعتقها‪ ،‬ولم ينتظر حتى تنقضي عدتها‬

‫((( «اخلاقان» لقب لكل ملك من ملوك ال ّترك [ينظر‪« :‬املعجم الوسيط»‪ ،‬ملجموعة من‬
‫الباحثني‪.]248/1 :‬‬
‫‪106‬‬
‫السرخسي لذلك‪ ،‬حيث أفتى بأن زواج اخلاقان بعتيقته‬
‫ّ‬ ‫فتصدى‬
‫ّ‬ ‫بعد اإلعتاق‪،‬‬
‫عدتها حرام‪ ،‬وبينّ للخاقان بحزم وجرأة أن ذلك ال يجوز‪ ،‬وأن‬ ‫قبل أن متضي ّ‬
‫عليه أن ينتظر انتهاء املدة الشرعية‪ ،‬ولم يقم السرخسي أي اعتبار لبطش امللك‬
‫أصر على زجره له وجرأته‬‫وظلمه‪ ،‬كما لم يخف من تهديده بسفك دمه‪ ،‬بل ّ‬
‫عليه‪ ،‬فغضب عليه اخلاقان غضب ًا شديد ًا‪ ،‬وأمر به فألقي في السجن‪ ،‬سنة ‪466‬‬
‫هـ‪1073 /‬م‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إنه سجن في ّ‬


‫جب (بئر)(((‪.‬‬
‫عبر السرخسي عن محنته في أواخر عدد من أبواب كتابه‪« :‬املبسوط»‪،‬‬
‫وقد ّ‬
‫حيث يقول عند فراغه من شرح العبادات‪« :‬هذا آخر شرح العبادات بأوضح‬
‫املعاني‪ ،‬وأوجز العبارات‪ ،‬إمالء احملبوس عن اجلمعة واجلماعات‪ ،‬مصلي ًا‬
‫على سيد ال��س��ادات محمد املبعوث بالرساالت وعلى أهله من املؤمنني‬
‫واملؤمنات»(((‪.‬‬
‫وقال في آخر كتاب الطالق‪« :‬هذا آخر شرح كتاب الطالق باملؤثرة من‬
‫املعاني الدقاق‪ ،‬أماله احملصور عن االنطالق‪ ،‬املبتلى بوحشة الفراق‪ ،‬مصلي ًا‬
‫على صاحب البراق‪ ،‬وآله وصحبه أهل اخلير والسباق‪ ،‬صالة تتضاعف وتدوم‬
‫إلى يوم التالق»(((‪.‬‬
‫وقال في آخر كتاب العتاق‪« :‬انتهى شرح كتاب العتاق من مسائل اخلالف‬
‫والوفاق‪ ،‬أماله املستقبل للمحن باإلعتاق احملصور في طرف من اآلفاق‪،‬‬

‫((( (ينظر‪« :‬اجلواهر املضية»‪ ،‬للقرشي‪ ،29 - 28/2 :‬و«تاج التراجم»‪ ،‬البن قطلوبغا‪:‬‬
‫‪ ،45 - 44/2‬و«األعالم»‪ ،‬للزركلي‪ ،315/5 :‬و«معجم املطبوعات العربية واملعربة»‪،‬‬
‫البن إليان سركيس‪ ،1016/2 :‬و«املكتبة اإلسالمية»‪ ،‬لعماد علي جمعة‪ ،‬ص‪،172 :‬‬
‫و«الفوائد البهية»‪ ،‬للكنوي‪ ،‬ص‪.158 :‬‬
‫((( «املبسوط»‪ ،‬للسرخسي‪ ،192/4 :‬وينظر‪« :‬اجلواهر املضية»‪ ،‬للقرشي‪.29/2 :‬‬
‫((( «املبسوط» للسرخسي‪ ،59/7 :‬وينظر‪« :‬اجلواهر املضية» للقرشي‪.29/2 :‬‬
‫‪107‬‬
‫حامد ًا للمهيمن ال��رزّ اق‪ ،‬ومرجتي ًا إلى لقائه العزيز باألشواق‪ ،‬ومصلي ًا على‬
‫حبيب اخلالق‪ ،‬وعلى آله وأصحابه خير الصحب والرفاق»(((‪.‬‬
‫وقال في آخر شرح كتاب املكاتب‪« :‬انتهى شرح كتاب املكاتب بإمالء‬
‫احملصور املعاتب‪ ،‬واحملبوس املعاقب وهو منذ حولني على الصبر مواظب‬
‫وللنجاة بلطيف صنع الله مراقب‪ ،‬واحلمد لله وحده وصلى الله على سيدنا‬
‫محمد وعلى آله وصحبه وسلم»(((‪.‬‬
‫وقال في آخر شرح كتاب الوالء‪« :‬انتهى شرح كتاب الوالء بطريق اإلمالء‬
‫من املمتحن بأنواع البالء‪ ،‬يسأل من الله تعالى تبديل البالء واجل�لاء بالعز‬
‫والعالء‪ ،‬فإن ذلك عليه يسير وهو على ما يشاء قدير»(((‪.‬‬
‫ضمه إلى «املبسوط»‪:‬‬ ‫وقال في آخر شرح‪« :‬كتاب السير الصغير» وقد ّ‬
‫«انتهى شرح السير الصغير املشتمل على معنى أثير‪ ،‬بإمالء املتكلم باحلق املنير‪،‬‬
‫احملصور ألجله شبه األسير‪ ،‬املنتظر للفرج من العالم القدير‪ ،‬السميع البصير‪،‬‬
‫املصلي على البشير الشفيع ألمته النذير‪ ،‬وعلى كل صاحب له ووزير‪ ،‬والله هو‬
‫اللطيف اخلبير»(((‪.‬‬
‫وقال في آخر شرح اإلقرار‪« :‬انتهى شرح كتاب اإلقرار املشتمل من املعاني‬
‫ما هو سر األس��رار‪ ،‬وأمأل احملبوس في موضع األش��رار‪ ،‬مصلي ًا على ال ّنبي‬
‫املختار»(((‪.‬‬
‫وقد ذكر محنة السرخسي كل العلماء الذين ترجموا له‪ ،‬وممن ذكرها‬
‫القرشي حيث قال بعد أن نقل مقتطفات من كتابه‪« :‬املبسوط» ‪-‬والتي سبق أن‬

‫((( «املبسوط» للسرخسي‪ ،241/7 :‬وينظر‪« :‬اجلواهر املضية» للقرشي‪.29/2 :‬‬


‫((( «املبسوط»‪ ،‬للسرخسي‪.80/8 :‬‬
‫((( «املبسوط» للسرخسي‪.125/8 :‬‬
‫((( «املبسوط»‪ ،‬للسرخسي‪.144/10 :‬‬
‫((( «اجلواهر املضية»‪ ،‬للقرشي‪.29/2 :‬‬
‫‪108‬‬
‫نقلناها من كتاب املبسوط‪ -‬قال القرشي مبين ًا محنته وسببها‪« :‬أملى املبسوط‬
‫نحو خمسة عشر مجلدً ا وهو في السجن بأوزجند محبوس‪ ،‬وعن أسباب‬
‫اخلالص في الدنيا مأيوس؛ بسبب كلمة كان فيها من الناصحني‪ ،‬سالك ًا فيها‬
‫يتقبل الله من املتقني‪،‬‬
‫الدين‪ ،‬وإمنا ّ‬
‫طريق الراسخني‪ ،‬ليكون له ذخيرة إلى يوم ّ‬
‫وهو يتو ّلى ّ‬
‫الصاحلني‪ ،‬وال يهدي كيد اخلائنني‪ ،‬وال يضيع أجر احملسنني»(((‪.‬‬
‫وقد واجه السرخسي هذه احملنة بثبات فريد رغم طول فترة السجن في قاع‬
‫قدره وقضاه وهو سبحانه اللطيف‬ ‫جب مظلم؛ راضي ًا بالله‪ ،‬وحامد ًا له على ما ّ‬
‫يدل على ذلك بعض عباراته التي نقلناها آنف ًا)‪.‬‬ ‫اخلبير (كما ّ‬
‫ولم يواجه السرخسي هذه احملنة باحلزن والعويل‪ ،‬بل واجهها بالصبر‬
‫اجلميل‪ ،‬واالستغالل األمثل لوقته الثمني؛ مقتدي ًا ومتأسي ًا مبن سبقه من األنبياء‬
‫والعلماء‪ ،‬وعلى رأسهم‪ :‬يوسف ‪ -‬عليه وعلى نبينا الصالة السالم ‪ -‬حيث‬
‫قام يوسف ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬أثناء فترة سجنه بالدعوة إلى الله‪ ،‬ونشر العقيدة‬
‫الصحيحة‪ ،‬قال تعالى حاكيا عنه أنه قال‪:‬‬
‫{ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ‬
‫ﭹﭺﭻﭼ ﭽﭾﭿ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅ‬
‫ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ}(((‪.‬‬
‫فلقد قضى يوسف ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬مدة سجنه الطويلة صابر ًا محتسب ًا‪،‬‬
‫دبرت ضده‪،‬‬ ‫قائم ًا بالدعوة إلى الله‪ ،‬حتى ّ‬
‫مت تبرئة ساحته من التهم الزائفة التي ّ‬
‫فلما مت تبرأته خرج من السجن رافع ًا رأسه‪ ،‬بعد أن رفع الله ذكره‪ ،‬وأعلى شأنه‪،‬‬
‫ومكنه من حكم مصر‪ ،‬وجعله على خزائنها‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫ّ‬

‫((( «اجلواهر املضية»‪ ،‬للقرشي‪.28/2 :‬‬


‫((( سورة يوسف‪ ،‬آية‪.41 ،39 :‬‬
‫‪109‬‬
‫{ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ‬
‫ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ‬
‫ﮘ ﮙ}(((‪.‬‬
‫وهكذا جند أيضا السرخسي لغزارة علمه‪ ،‬وحب طالبه له لم ينقطعوا‬
‫عنه‪ ،‬بل أت��وا إل��ى ب��اب سجنه زراف���ات ووح��دان�� ًا ليغترفوا من نبع علمه‬
‫العذب الزالل‪ ،‬بطريقة علمية فريدة‪ ،‬حيث كانوا يقعدون عند بوابة السجن‬
‫والسرخسي يصيح في أسفل اجلب‪ ،‬فيكتبون عنه العلم؛ حتى أملى عليهم‬
‫كتاب‪« :‬املبسوط» في نحو من خمسة عشر مجلد ًا‪ ،‬وأيض ًا أملى عليهم كتاب‪:‬‬
‫«األصول» الذي يعد من أهم الكتب في أصول الفقه‪ ،‬وكذلك أملى كتاب‪:‬‬
‫«زيادة الزيادات» شرح به كتاب «الزيادات» لإلمام محمد الشيباني‪ ،‬صاحب‬
‫اإلمام أبي حنيفة النعمان‪.‬‬
‫ثم شرع في شرح كتاب‪« :‬السير الكبير» لإلمام محمد الشيباني‪ ،‬فلما‬
‫وصل في اإلمالء إلى باب الشروط‪ ،‬جاءه الفرج بإطالق سراحه‪ ،‬وإخالء‬
‫األول سنة ‪ 480‬هـ‪1087 /‬م‪ ،‬وهناك أمت‬ ‫سبيله‪ ،‬فذهب إلى «فرغانة» في ربيع ّ‬
‫«شرح السير الكبير» في جمادى األولى من السنة نفسها(((‪.‬‬
‫فخرج السرخسي من السجن رافع ًا رأسه‪ ،‬قد حباه الله مبحبة في نفوس‬
‫اخللق‪ ،‬حتى أنهم لقّبوه بـ «شمس األئمة»؛ ذلك أنه كان من العلماء العاملني‬
‫بعلمهم السالكني في فتاويهم طريق الراسخني‪ ،‬ليكون لهم ذخيرة إلى يوم‬
‫الصاحلني‪ ،‬وال يهدي كيد اخلائنني‪،‬‬
‫يتقبل الله من املتقني‪ ،‬وهو يتولى ّ‬
‫الدين‪ ،‬وإمنا ّ‬
‫ّ‬
‫وال يضيع أجر احملسنني‪.‬‬

‫((( سورة يوسف‪ ،‬آية‪.57 ،56 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬اجلواهر املضية»‪ ،‬للقرشي‪ ،22 - 28/2 :‬و«تاج التراجم»‪ ،‬البن قطلوبغا‪:‬‬
‫‪ ،44/2‬و«األعالم» للزركلي‪ ،315/5 :‬و«معجم املطبوعات العربية واملعربة»‪ ،‬البن‬
‫إليان سركيس‪ ،1016/2 :‬و«املكتبة اإلسالمية»‪ ،‬لعماد علي جمعة‪ ،‬ص‪،172 :‬‬
‫و«الفوائد البهية»‪ ،‬للكنوي‪ ،‬ص‪.158 :‬‬
‫‪110‬‬
‫من عليه بطالب علم‬ ‫ال لقد تو ّلى الله السرخسي أثناء فترة سجنه‪ ،‬حيث ّ‬
‫وفع ً‬
‫نقلوا عنه العلم‪ ،‬حيث أملى عليهم كتب ًا علمية ّقيمة‪ ،‬صارت شهرتها فيما بعد‬
‫في األقطار‪ ،‬بل إنه ملا أطلق من سجنه «خرج في آخر عمره إلى فرغانة‪ ،‬فأنزله‬
‫األمير حسن مبنزلة‪ ،‬فوصل إليه الطلبة؛ فأكمل اإلمالء في دهليز األمير»(((‪.‬‬
‫فيا لها من مكانة ورفعة أن يصبح دهليز األمير ساحة لنشر العلم فيه‪.‬‬
‫وأما أمير خاقان وحاشيته وأعوانه الظلمة‪ ،‬فقد ذهبوا إلى مزبلة التاريخ‬
‫غير مأسوف عليهم‪ ،‬ومع ذلك لن يفلتوا من عقوبة الله يوم القيامة‪.‬‬
‫وقد حكي أن الرشيد سجن أبي العتاهية‪ ،‬فكتب أبو العتاهية على حائط‬
‫احلبس‪:‬‬
‫أم������ا وال�����ل�����ه إن ال���ظ���ل���م ش���ؤم‬
‫وم�����ا زال امل����س����يء ه����و ال��ظ��ل��وم‬
‫إل�����ى دي�������ان ي�����وم ال����دي����ن من��ض��ي‬
‫وع����ن����د ال����ل����ه جت���ت���م���ع اخل���ص���وم‬
‫س��ت��ع��ل��م ف����ي امل����ع����اد إن ال��ت��ق��ي��ن��ا‬
‫(((‬
‫غ����د ًا ع��ن��د امل��ل��ي��ك م���ن ال��ظ��ل��وم‬
‫والقصاص من الظالم للمظلوم سيكون حتم ًا ال شك وال ريب‪ ،‬وذلك‬
‫عبر عنه حافظ حكمي بقوله‪:‬‬
‫موقف رهيب عصيب ّ‬
‫ّ‬
‫ي���ج���ل ف���ي���ه اخل��ط��ب‬ ‫ف����ي م���وق���ف‬
‫وي���ع���ظ���م ال����ه����ول ب����ه وال����ك����رب‬

‫((( «تاج التراجم»‪ ،‬البن قطلوبغا‪ ،45/2 :‬وينظر‪« :‬معجم املطبوعات العربية واملعربة»‪،‬‬
‫البن إليان سركيس‪.1016/2 :‬‬
‫((( «أدب الدنيا والدين»‪ ،‬للماوردي‪ ،‬ص‪.138 :‬‬
‫‪111‬‬
‫وأح����ض����روا ل��ل��ع��رض واحل���س���اب‬
‫وان���ق���ط���ع���ت ع��ل�ائ����ق األن����س����اب‬
‫وارت���ك���م���ت س���ح���ائ���ب األه������وال‬
‫وان����ع����ج����م ال���ب���ل���ي���غ ف�����ي امل���ق���ال‬
‫وع�����ن�����ت ال�������وج�������وه ل���ل���ق���ي���وم‬
‫(((‬
‫واق��ت��ص م��ن ذي الظلم للمظلوم‬
‫وفاته‪:‬‬
‫توفي السرخسي مبدينة «فرغانة»‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في تاريخ وفاته‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬توفي في حدود‬
‫التسعني واألربعمائة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬سنة ثالث وثمانني وأربعمائة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬في حدود اخلمسمائة(((‪.‬‬
‫وقيل غير ذلك‪.‬‬
‫رحم الله السرخسي وجعله مع النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني‪،‬‬
‫وحسن أولئك رفيق ًا‪.‬‬

‫((( «معارج القبول»‪ ،‬حلافظ حكمي‪.39/1 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬اجلواهر املضية»‪ ،‬للقرشي‪ ،29/2 :‬و«هدية العارفني»‪ ،‬للباباني البغدادي‪:‬‬
‫‪ ،76/2‬و«أسماء الكتب»‪ ،‬لرياض زاده‪ ،‬ص‪ ،41 :‬و«األثمار اجلنية»‪ ،‬للقاري الهروي‪،‬‬
‫ص‪ ،268 :‬و«معجم املؤلفني» لعمر رضا كحالة‪ ،267/8 :‬و«معجم املطبوعات العربية‬
‫واملعربة»‪ ،‬ليوسف بن إليان سركيس‪.1016/2 :‬‬
‫‪112‬‬
‫(‪ )8‬العز بن عبد ال�سالم‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫أبو محمد عبد العزيز بن عبد السالم بن أبي القاسم بن احلسن بن محمد‬
‫بن ّ‬
‫مهذب السلمي‪.‬‬
‫وقد لقّب بعدة ألقاب؛ من أشهرها‪ :‬عز الدين‪ ،‬واإلمام العز‪ ،‬وسلطان‬
‫العلماء(((‪.‬‬
‫فالعز بن عبد السالم‪ ،‬الدمشقي مولد ًا‪ ،‬املصري دار ًا ووفاة‪ ،‬والشافعي‬
‫مذهب ًا‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫ولد العز بن عبد السالم بدمشق؛ سنة سبع وسبعني وخمسمائة‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫سنة ثمان وسبعني وخمسمائة(((‪.‬‬
‫وأما نشأة العز بن عبد السالم فقد نشأ بدمشق (مدينة العلم واملعرفة‬
‫آنذاك) في أسرة فقيرة مغمورة‪ ،‬منشغلة بطلب الرزق عن طلب العلم‪ ،‬إال أن‬
‫العز بن عبد السالم كان على خالف ذلك‪ ،‬فقد نشأ منذ الوهلة األولى (على‬
‫ال على طاعة خالقه‪ ،‬ممتث ً‬
‫ال‬ ‫الرغم من شدة فقره) عفيف ًا‪ ،‬شريف ًا‪ ،‬متعلق ًا بربه‪ ،‬مقب ً‬
‫ألوامره؛ حتى أنه كان يبيت ليال عديدة في املسجد‪ ،‬كما أشار إلى ذلك السبكي‬

‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،209/8 :‬و«م��رآة اجلنان»‪ ،‬لليافعي‪:‬‬
‫‪ ،116/4‬و«حسن احملاضرة»‪ ،‬للسيوطي‪ ،314/1 :‬و«شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد‬
‫احلنبلي‪ ،522/7 :‬و«طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ص‪ ،873 :‬و«طبقات الشافعية»‪،‬‬
‫البن قاضى شهبة‪.110 - 109/2 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،209/8 :‬و«حسن احملاضرة»‪ ،‬للسيوطي‪:‬‬
‫‪ ،314/1‬و«شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪ ،522/7 :‬و«طبقات الشافعيني»‪،‬‬
‫البن كثير‪ ،‬ص‪.873 :‬‬
‫‪113‬‬
‫حيث يقول‪« :‬سمعت الشيخ اإلمام يقول‪ :‬كان الشيخ عزالدين في أول أمره‬
‫(((‬
‫فقير ًا جد ًا‪ ،‬ولم يشتغل إال على كبر‪ .‬وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكالسة‬
‫من جامع دمشق‪ ،‬فبات بها ليلة ذات برد شديد فاحتلم فقام مسرع ًا ونزل في‬
‫بركة الكالسة فحصل له ألم شديد من البرد‪ ،‬وعاد فنام فاحتلم ثاني ًا فعاد إلى‬
‫البركة؛ ألن أبواب اجلامع مغلقة وهو الميكنه اخلروج‪ ،‬فطلع فأغمي عليه من‬
‫شدة البرد‪ ...‬ثم سمع النداء في املرة األخيرة‪ :‬يا ابن عبد السالم أتريد العلم أم‬
‫العمل؟ فقال الشيخ عز الدين‪ :‬العلم؛ ألنه يهدي إلى العمل‪.‬‬
‫فأصبح وأخذ التنبيه (في فقه الشافعي)‪ ،‬فحفظه في مدة يسيرة‪ ،‬وأقبل‬
‫على العلم‪ ،‬فكان أعلم أهل زمانه‪ ،‬ومن أعبد خلق الله تعالى(((‪.‬‬
‫تدل على عبادته لربه منذ نشأته األولى‪ ،‬وأيض ًا ّ‬
‫تدل على‬ ‫فهذه احلادثة ّ‬
‫يتفرغ لطلب العلم إال من بعد هذه‬‫تأخره في طلب العلم نوع ًا ما‪ ،‬وأنه لم ّ‬
‫ّ‬
‫احلادثة؛ حيث جلس إلى علماء دمشق؛ كفخر الدين بن عساكر‪ ،‬وسيف الدين‬
‫اآلمدي‪ ،‬وغيرهما؛ حتى برع في املذهب الشافعي‪ ،‬وفاق فيه األقران‪ ،‬وجمع‬
‫من فنون العلوم العجب العجاب‪ ،‬حتى بلغ رتبة االجتهاد(((‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫عاش العز بن عبد السالم في عصر زاخر بالعلم والعلماء إال أنه كان‬
‫شامتهم ورأسهم ومقدمهم في كل فن؛ وقد أثنى عليه العلماء الذين عاصروه‪،‬‬
‫ومن جاء بعده بإمامته وفضله وعلمه‪ ،‬ومن ذلك ما يلي‪:‬‬

‫((( زاوية في اجلانب الشمالي من جامع دمشق‪.‬‬


‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.213 -212/8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،110 – 209/8 :‬و«رفع اإلصر»‪ ،‬البن‬
‫حجر‪ ،‬ص‪ ،241 :‬و«مرآة اجلنان»‪ ،‬لليافعي‪ ،116/4 :‬و«طبقات الشافعيني»‪ ،‬البن‬
‫كثير‪ ،‬ص‪ ،873 :‬و«طبقات الشافعية»‪ ،‬البن قاضى شهبة‪ ،109/2 :‬و«رفع اإلصر»‪،‬‬
‫البن حجر‪ ،‬ص‪ ،239 :‬و«املنهل الصافي»‪ ،‬البن تغري بردي‪.287/7 :‬‬
‫‪114‬‬
‫قال ابن دقيق العيد‪« :‬كان ابن عبد السالم أحد سالطني العلماء»(((‪.‬‬
‫وقال السبكي‪« :‬شيخ اإلسالم واملسلمني‪ ،‬وأحد األئمة األعالم‪ ،‬سلطان‬
‫العلماء‪ ،‬إمام عصره بال مدافعة‪ ،‬القائم باألمر باملعروف والنهي عن املنكر في‬
‫املطلع على حقائق الشريعة وغوامضها‪ ،‬العارف مبقاصدها»(((‪.‬‬‫زمانه‪ّ ،‬‬
‫وقال الذهبي‪« :‬برع في الفقه واألصول والعربية‪ ،‬ودرس وأفتى وص ّنف‪،‬‬
‫وبلغ رتبة االجتهاد‪ ،‬وانتهت إليه رئاسة املذهب‪ ،‬مع الزهد والورع‪ ،‬واألمر‬
‫باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬والصالبة في الدين»(((‪.‬‬
‫وقال ابن كثير‪« :‬شيخ املذهب‪ ،‬ومفيد أهله‪ ،‬وله مصنفات حسان‪ ،‬وبرع‬
‫في املذهب‪ ،‬وجمع علوم ًا كثيرة‪ ،‬وأفاد الطلبة‪ّ ،‬‬
‫ودرس بعدة مدارس‪ ،‬وانتهت‬
‫إليه رئاسة الشافعية‪ ،‬وقصد بالفتاوى من اآلفاق»(((‪.‬‬
‫وقال اليافعي‪« :‬سلطان العلماء‪ ،‬وفحل النجباء‪ ،‬املقدم في عصره على‬
‫سائر األقران‪ ،‬بحر العلوم واملعارف‪ ،‬واملعظم في البلدان‪ ،‬ذو التحقيق واإلتقان‬
‫والعرفان واإليقان‪ ،‬وهو من الذين قيل فيهم‪ :‬علمهم أكثر من تصانيفهم‪ ،‬ال‬
‫من الذين عبارتهم دون درايتهم‪ ،‬ومرتبته في العلوم الظاهرة مع السابقني من‬
‫الرعيل األول»(((‪.‬‬
‫وقال السيوطي‪« :‬شيخ اإلسالم‪ ،‬سلطان العلماء‪ ،‬أخذ األصول‪ ،‬وسمع‬
‫احلديث‪ ،‬وبرع في الفقه واألص��ول والعربية‪ ،‬وقدم مصر فأقام بها أكثر من‬
‫عشرين عام ًا ناشر ًا للعلم‪ ،‬آمر ًا باملعروف‪ ،‬ناهي ًا عن املنكر‪ ،‬يغلظ على امللوك‬
‫يتقيد‬
‫فمن دونهم‪ ،‬وله من املص ّنفات والكرامات الكثير‪ ،‬ثم كان في آخر عمره ال ّ‬

‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.214/8 :‬‬


‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.209/8 :‬‬
‫((( «العبر في خبر من غبر»‪ ،‬للذهبي‪.299/3 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.273/13 :‬‬
‫((( «مرآة اجلنان»‪ ،‬لليافعي‪.117 - 116/4 :‬‬
‫‪115‬‬
‫باملذهب (يقصد الشافعي) بل اتسع نطاقه‪ ،‬وأفتى مبا أدى إليه اجتهاده»(((‪.‬‬
‫وقال أبو شامة‪« :‬كان أحق الناس باخلطابة واإلمامة‪ ،‬وأزال كثير ًا من البدع‬
‫التي كان اخلطباء يفعلونها؛ من دق السيف على املنبر‪ ،‬وأبطل صالتي الرغائب‪،‬‬
‫ونصف شعبان‪ ،‬ومنع منهما»(((‪.‬‬
‫وقال الصفدي‪« :‬كان ناسك ًا ورع ًا‪ّ ،‬أمار ًا باملعروف‪ّ ،‬نهاء عن املنكر‪ ،‬ال‬
‫يخاف في الله لومة الئم»(((‪.‬‬
‫وق��ال اب��ن شهبة‪« :‬حكاياته ف��ي قيامه على ّ‬
‫الظلمة وردع��ه��م كثيرة‬
‫مشهورة»(((‪.‬‬
‫وقال جمال الدين احلصري (شيخ احلنفية في زمانه مخاطب ًا سلطان دمشق‬
‫عن العز بن عبد السالم)‪« :‬هذا رجل لو كان في الهند‪ ،‬أو في أقصى الدنيا كان‬
‫لتتم بركته عليه وعلى بالده‪،‬‬
‫ينبغي للسلطان أن يسعى في حلوله في بالده؛ ّ‬
‫ويفتخر به على سائر امللوك»(((‪.‬‬
‫ودرس وأفتى‪ ،‬وص ّنف وتو ّلى احلكم‬‫«حدث ّ‬ ‫وقال عز الدين احلسيني‪ّ :‬‬
‫في مصر م ّ��دة‪ ،‬واخلطابة في جامعها العتيق‪ ،‬وك��ان علم عصره في العلم‪،‬‬
‫جامع ًا لفنون متعددة‪ ،‬عارف ًا باألصول والفروع والعربية‪ ،‬مضاف ًا إلى ما جبل‬
‫عليه من ترك التك ّلف مع الصالبة في الدين‪ ،‬وشهرته تغني عن اإلطناب في‬
‫وصفه»(((‪.‬‬

‫((( «حسن احملاضرة»‪ ،‬للسيوطي‪.315/1 :‬‬


‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.210/8 :‬‬
‫((( «الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪.319/18 :‬‬
‫((( «شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪.524/7 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية»‪ ،‬السبكي‪.237/8 :‬‬
‫((( «طبقات الشافعية»‪ ،‬البن قاضى شهبة‪.110/2 :‬‬
‫‪116‬‬
‫وقال الصفدي‪« :‬كان ناسك ًا ورع ًا‪ّ ،‬أمار ًا باملعروف‪ّ ،‬نها ًء عن املنكر‪ ،‬ال‬
‫يخاف في الله لومة الئم»(((‪.‬‬
‫الدين‪« :‬كان علم عصره في العلم‪ ،‬جامع ًا لفنون متعددة‪،‬‬
‫وقال الشريف عز ّ‬
‫الدين‪ ،‬وشهرته تغني‬ ‫مضاف ًا إلى ما جبل عليه من ترك التك ّلف‪ ،‬مع ّ‬
‫الصالبة في ّ‬
‫عن اإلطناب في وصفه»(((‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫العلمية‪ ،‬ومع‬
‫ّ‬ ‫تعد مؤلفات العز بن عبد السالم قليلة إذا ما قورنت مبكانته‬ ‫ّ‬
‫جمة‪ ،‬ونفع عظيم‪ ،‬ومن مؤلفاته ما يلي(((‪:‬‬ ‫ق ّلة مؤ ّلفاته إال أنها ذات فوائد ّ‬
‫‪ -1‬القواعد الكبرى‪ :‬املشهور ب ـ«قواعد األحكام»‪.‬‬
‫‪ -2‬القواعد الصغرى‪.‬‬
‫‪ -3‬تفسير مختصر للقرآن‪.‬‬
‫‪ -4‬مختصر صحيح مسلم‪.‬‬
‫‪ -5‬الغاية في اختصار النهاية‪.‬‬
‫‪ -6‬بداية السول في تفضيل الرسول |‪.‬‬
‫‪ -7‬الفتاوى املوصلية واملصرية‪.‬‬
‫‪ -8‬بيان أحوال الناس يوم القيامة‪.‬‬
‫‪ -9‬شجرة املعارف‪.‬‬
‫‪ -10‬الدالئل املتع ّلقة باملالئكة والنبيني‪.‬‬

‫((( «الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪.318/18 :‬‬


‫((( «شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪.524/7 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،248 - 247/8 :‬و«مرآة اجلنان»‪ ،‬لليافعي‪:‬‬
‫‪ ،119/4‬و«حسن احملاضرة»‪ ،‬للسيوطي‪ ،315/1 :‬و«طبقات الشافعية»‪ ،‬البن قاضى‬
‫شهبة‪ ،111/2 :‬و«رفع اإلص��ر»‪ ،‬البن حجر‪ ،‬ص‪ ،241 :‬و«املنهل الصافي»‪ ،‬البن‬
‫تغري بردي‪ ،288/7 :‬و«األعالم»‪ ،‬للزركلي‪.21/4 :‬‬
‫‪117‬‬
‫‪ -11‬الفرق بني اإلميان واإلسالم‪.‬‬
‫‪ -12‬فوائد البلوى واحملن‪.‬‬
‫‪ -13‬اإلمام في أد ّلة األحكام‪.‬‬
‫‪ -14‬مجاز القرآن‪.‬‬
‫‪ -15‬ترغيب أهل اإلسالم في سكن الشام‪.‬‬
‫‪ -16‬أحكام اجلهاد‪.‬‬
‫‪ -17‬الفوائد في اختصار املقاصد‪.‬‬
‫‪ -18‬رسالة في ذم صالة الرغائب‪.‬‬
‫وغير ذلك من املؤلفات البديعة النافعة‪.‬‬
‫محنته‪:‬‬
‫نشأ العز بن عبد السالم وترعرع في دمشق أيام العزة والكرامة والنصر‪،‬‬
‫واسترجاع بيت املقدس على يد الناصر صالح الدين األيوبي‪ ،‬وشهد العز‬
‫بن عبدالسالم انحسار الوجود الصليبي بالشام‪ ،‬وأيض ًا شهد احلملة الصليبية‬
‫اخلامسة والسادسة على العالم اإلسالمي‪ ،‬والبطوالت العظيمة التي أبداها‬
‫املسلمون في صد تلك احلمالت البربرية‪.‬‬
‫ثم شهد العز بن عبد السالم التراجعات التي حصلت على مستوى القيادة‬
‫في العالم اإلسالمي‪ ،‬والصراع الشرس الذي حدث بني أمراء األسرة األيوبية‬
‫على أماكن النفوذ في مصر والشام‪ ،‬وذلك مما زاد حتفيزه وتشجيعه على نصرة‬
‫احلق‪ ،‬والذود عن حياضه‪ ،‬والوقوف في وجه الظلمة‪ ،‬ومناصرة قضايا األمة‪.‬‬
‫تعرض العز بن عبد السالم حملنة شديدة‪ :‬أثناء فترة‬‫ونتيجة لذلك ّ‬
‫حكم الصالح إسماعيل (املعروف بأبي اخليش)‪ :‬ذلك أن الصالح إسماعيل‬
‫حتالف مع النصارى الصليبيني‪ ،‬وس ّلم لهم قلعة صفد(((‪ ،‬وبالدها‪ ،‬وقلعة‬

‫((( مدينة في جبال عاملة املط ّلة على حمص بالشام‪ ،‬وهي من جبال لبنان «ينظر‪« :‬معجم‬
‫البلدان»‪ ،‬لياقوت احلموي‪.412/3 :‬‬
‫‪118‬‬
‫الشقيف((( وبالدها‪ ،‬ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالهما‪ ،‬وجبل عاملة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وسائر بالد الساحل؛ مقابل أن يستعني بهم على قتال ابن أخيه امللك الصالح‬
‫جنم الدين أيوب حاكم مصر آنذاك‪.‬‬
‫فلما حتالف الصالح إسماعيل مع النصارى الصليبيني دخلوا دمشق‬
‫فتصدى لذلك العز بن عبد‬‫ّ‬ ‫الشام لشراء السالح ليقاتلوا به عباد الله املؤمنني‪،‬‬
‫السالم مفتي ًا بحرمة بيع السالح للصلبيني‪ ،‬ومما جاء في فتواه (رد ًا على سؤال‬
‫وجهه إليه أحد جتار بيع السالح في دمشق الشام‪ ،‬مفاده‪ :‬ما حكم بيع السالح‬
‫للصليبيني؟‬
‫فجاء جواب العز بن عبدالسالم رد ًا على السؤال‪« :‬يحرم عليكم مبايعتهم؛‬
‫ألنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم املسلمني»(((‪.‬‬
‫ولم يكتف العز بن عبد السالم بهذه الفتوى‪ ،‬بل صعد يوم اجلمعة منبر‬
‫اجلامع األموي‪ ،‬فخطب خطبة فريدة بينّ فيها حرمة بيع السالح للصليبيني‪،‬‬
‫ومشنع ًا فيها ومستنكر ًا على أبي اخليش حتالفه مع الصليبيني‪ ،‬وتسليمه لهم‬
‫بعض املدن واحلصون‪.‬‬

‫ثم امتنع عن الدعاء له في اخلطبة‪ ،‬واستبدل ذلك بهذا الدعاء‪« :‬ال ّل ّ‬


‫هم أبرم‬
‫لهذه األمة إبرام رشد تعز فيه أولياءك‪ ،‬وتذل فيه أعداءك‪ ،‬ويعمل فيه بطاعتك‪،‬‬
‫وينهي فيه معصيتك»‪ ،‬وال ّناس يضجون بالتأمني(((‪.‬‬
‫فما كان من أعوان الشيطان إال أن كاتبوا امللك الصالح إسماعيل بذلك‬

‫((( قلعة حصينة جد ًا في كهف من اجلبل‪ ،‬قرب بانياس من أرض دمشق «ينظر‪« :‬معجم‬
‫البلدان»‪ ،‬لياقوت احلموي‪.»356/3 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية»‪ ،‬للسبكي‪ ،243/8 :‬و«السلوك ملعرفة دول امللوك»‪،‬‬
‫للمقريزي‪.407/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،243/8 :‬و«السلوك ملعرفة دول امللوك»‪،‬‬
‫للمقريزي‪.407/1 :‬‬
‫‪119‬‬
‫(وك��ان حينها غائب ًا عن دمشق)‪ ،‬فأمر باعتقال العز بن عبدالسالم مدة من‬
‫الزمن(((‪.‬‬
‫وملا عاد امللك الصالح إلى دمشق أفرج عن العز بن عبد السالم‪ ،‬وجعله‬
‫حتت اإلقامة اجلبرية‪ ،‬ق��ال املقريزي‪« :‬وأل��زم (أي امللك الصالح) العز بن‬
‫عبدالسالم مبالزمة داره‪ ،‬وأال يفتي‪ ،‬وال يجتمع بأحد ألبتة»(((‪.‬‬
‫فبقي العز بن عبد السالم على هذه احلال مدة‪ ،‬ثم نزح عنها إلى بيت‬
‫املقدس‪ ،‬وقد صادف ذلك مجيء امللك الصالح إسماعيل إلى بيت املقدس‬
‫ال له‪ّ :‬‬
‫«تلطف به غاية‬ ‫فأرسل إليه امللك الصالح إسماعيل بعض خواصه‪ ،‬قائ ً‬
‫ّ‬
‫التلطف‪ ،‬وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال»‪.‬‬
‫فلما اجتمع الرسول بالعز بن عبد السالم شرع في مسايسته ومالينته‪،‬‬
‫ثم قال له‪« :‬بينك وبني أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر‬
‫وتقبل يده ال غير»‪.‬‬
‫للسلطان‪ّ ،‬‬
‫يقبل يدي فض ً‬
‫ال أن أقبل يده‪ ،‬يا‬ ‫ففرد عليه‪« :‬والله يا مسكني ما أرضاه أن ّ‬
‫قوم أنتم في واد وأنا في واد‪ ،‬واحلمد لله الذي عافاني مما ابتالكم به»‪.‬‬
‫فقال له‪« :‬قد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك وإال اعتقلتك؟»‪.‬‬
‫فقال‪« :‬افعلوا ما بدا لكم»‪.‬‬
‫فأخذه واعتقله في خيمة إل��ى جانب خيمة امللك الصالح إسماعيل‬
‫(أبواخليش)‪.‬‬
‫فكان العز بن عبد السالم يقرأ القرآن‪ ،‬وامللك الصالح إسماعيل يسمعه‪،‬‬
‫فقال امللك يوم ًا مللوك الفرجن (ساخر ًا من العز بن عبد السالم‪ ،‬ومتودد ًا إلى‬
‫الصليبني)‪« :‬تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟» قالوا‪« :‬نعم»‪ ،‬قال‪« :‬هذا‬

‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.243/8 :‬‬


‫((( «السلوك ملعرفة دول امللوك»‪ ،‬للمقريزي‪.407/1 :‬‬
‫‪120‬‬
‫علي تسليمي لكم حصون املسلمني‬ ‫أكبر قسوس املسلمني وقد حبسته إلنكاره ّ‬
‫وعزلته عن اخلطابة بدمشق وعن مناصبه‪ ،‬ثم أخرجته‪ ،‬فجاء إلى القدس‪ ،‬وقد‬
‫جددت حبسه واعتقاله ألجلكم» فقالت له ملوك الفرجن‪« :‬لو كان هذا قسيسنا‬ ‫ّ‬
‫لغسلنا رجليه‪ ،‬وشربنا مرقتها»(((‪.‬‬
‫بالصغار والهوان ّ‬
‫والذلة‪ ،‬وكانت هذه بداية هزميته‪،‬‬ ‫فأصيب امللك إسماعيل ّ‬
‫حيث جاءت جنود املصريني‪ ،‬وانتصرت عليه‪ ،‬وعلى من كانوا متحالفني معه‬
‫من الصليبيني‪ ،‬وأفرجت عن اإلمام العز بن عبدالسالم(((‪.‬‬
‫وقد واجه العز بن عبد السالم هذه احملنة بشجاعة فريدة‪ ،‬فانقلبت محنته‬
‫توجه بعدها العز بن عبد السالم إلى مصر‪:‬‬‫إلى منحة؛ فإنه بعد هذه املنحة ّ‬
‫«فتلقاه سلطانها امللك الصالح جنم الدين أيوب وأكرمه وولاّ ه خطابة جامع‬
‫عمرو بن العاص مبصر‪ ،‬والقضاء بها»(((‪.‬‬
‫وأيض ًا ملا بنى السلطان مدرسة الصاحلية املعروفة بني القصرين بالقاهرة‬
‫فوض تدريس الشافعية بها إلى العز بن عبد السالم‪.‬‬
‫ّ‬
‫وملا استقر مقام العز بن عبد السالم مبصر أكرمه حافظ الديار املصرية‬
‫وزاهدها‪« :‬عبد العظيم املنذري» وامتنع من الفتيا‪ ،‬وقال‪« :‬كنا نفتي قبل حضور‬
‫الشيخ عز الدين‪ ،‬وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعني فيه»(((‪.‬‬
‫ومما يدل على منزلته الرفيعة عند العامة واخلاصة‪ :‬أن امللك الظاهر بيبرس‬
‫لم يبايع واحد ًا من اخلليفة املستنصر واخلليفة احلاكم العباسيني إال بعد أن ّ‬
‫تقدمه‬
‫الشيخ عز الدين للمبايعة‪ ،‬ثم بعده السلطان‪ ،‬ثم القضاة(((‪.‬‬

‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.244 - 243/8 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.244/8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.210/8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.211/8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.215/8 :‬‬
‫‪121‬‬
‫ومما يدل أيض ًا على رفعة العز بن عبد السالم وعلو مكانته هذه احلادثة التي‬
‫حكاها السبكي بقوله‪« :‬اتفق أن أستاذ داره (أي دار السلطان جنم الدين أيوب)‬
‫فخر الدين عثمان ابن شيخ الشيوخ‪ ،‬وهو الذي كان إليه أمر اململكة عمد إلى‬
‫مسجد مبصر فعمل على ظهره بناء لطبل خانات‪ ،‬وبقيت تضرب هنالك‪ ،‬فلما‬
‫ثبت هذا عند الشيخ عز الدين حكم بهدم ذلك البناء‪ ،‬وأسقط فخر الدين ابن‬
‫الشيخ‪ ،‬وعزل نفسه من القضاء‪ ،‬ولم تسقط بذلك منزلة الشيخ عند السلطان‪،‬‬
‫ولكنه لم يعده إلى الوالية‪.‬‬
‫وظن فخر الدين وغيره أن هذا احلكم ال يتأثر به فخر الدين في اخلارج‪،‬‬
‫ال من عنده إلى اخلليفة املستعصم‬ ‫فاتفق أن جهز السلطان امللك الصالح رسو ً‬
‫ببغداد‪ ،‬فلما وصل الرسول إلى الديوان ووقف بني يدي اخلليفة‪ ،‬وأدى الرسالة؛‬
‫خرج إليه وسأله‪ :‬هل سمعت هذه الرسالة من السلطان (مشافهة مباشرة)؟‬
‫فقال‪ :‬ال‪ ،‬ولكن حملنيها عن السلطان فخر الدين ابن شيخ الشيوخ أستاذ داره‪،‬‬
‫فقال اخلليفة‪« :‬إن املذكور أسقطه ابن عبد السالم فنحن ال نقبل روايته»‪ .‬فرجع‬
‫الرسول إلى السلطان حتى شافهه بالرسالة‪ ،‬ثم عاد إلى بغداد وأداها»((( إلى‬
‫اخلليفة املستعصم‪.‬‬
‫سطر التاريخ مواقف خالدة للعز بن عبد السالم في الصدع بكلمة‬ ‫وقد ّ‬
‫احلق‪ ،‬وقد تناقلت هذه املواقف األجيال جيال بعد جيل‪ ،‬ومنها ما يلي‪:‬‬
‫أو ًال‪ :‬موقفه مع أمراء الدولة (الذين كانوا أر ّقاء عبيد ًا ثم صاروا أمراء‬
‫فتصدى لهم العز بن عبد السالم‪ ،‬مفتي ًا بعدم‬‫ّ‬ ‫يتصرفون في شؤون الدولة)‪:‬‬ ‫ّ‬
‫تعطلت مصاحلهم بسبب موقف العز بن‬ ‫صحة بيعهم وشرائهم‪ ،‬حتى أنها ّ‬
‫عبد السالم من تصرفاتهم‪ ،‬وكان من جملتهم نائب السلطنة‪ ،‬فاستشاط غضب ًا‬
‫فاجتمعوا‪ ،‬وأرسلوا إليه‪ ،‬فقال العز بن عبد السالم‪« :‬نعقد لكم مجلس ًا وينادى‬
‫عليكم لبيت مال املسلمني ويحصل عتقكم بطريق شرعي؟‬
‫فرفعوا األمر إلى السلطان فبعث إليه فلم يرجع‪.‬‬

‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.211 - 210/8 :‬‬


‫‪122‬‬
‫فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة حاصلها اإلنكار على الشيخ في‬
‫دخوله في هذا األمر‪ ،‬وأنه ال يتع ّلق به‪.‬‬
‫فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار‪ ،‬وأركب عائلته على حمار آخر‪،‬‬
‫ومشى خلفهم خارج ًا من القاهرة قاصد ًا نحو الشام‪ ،‬فلم يصل إلى نحو نصف‬
‫بريد إال وقد حلقه غالب املسلمني‪ ،‬لم تكد امرأة وال صبي وال رجل ال يؤبه إليه‬
‫يتخ ّلف‪ ،‬ال سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم‪ ،‬فبلغ السلطان اخلبر‪،‬‬
‫وقيل له‪ :‬متى راح ذهب ملكك؟‬
‫وطيب قلبه‪ ،‬فرجع واتفقوا معهم‬‫فركب السلطان بنفسه وحلقه واسترضاه ّ‬
‫على أنه ينادى على األمراء‪ ،‬فأرسل إليه نائب السلطنة باملالطفة فلم يفد فيه‪،‬‬
‫فانزعج النائب وقال‪ :‬كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك األرض‬
‫والله ألضربنه بسيفي هذا؟‬
‫فركب بنفسه في جماعته وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده‪،‬‬
‫فطرق الباب فخرج ولد الشيخ (عبد اللطيف) فرأى من نائب السلطنة ما رأى‪،‬‬
‫تغير‪ ،‬وقال‪ :‬يا ولدي أبوك‬
‫فعاد إلى أبيه وشرح له احلال‪ ،‬فما اكترث لذلك وال ّ‬
‫أقل من أن يقتل في سبيل الله‪.‬‬
‫ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة‪ ،‬فحني وقع بصره على‬
‫النائب يبست يد النائب‪ ،‬وسقط السيف منها‪ ،‬وأرعدت مفاصله‪ ،‬فبكى‪.‬‬
‫وسأل الشيخ أن يدعو له‪ ،‬وقال‪ :‬يا سيدي خبر أيش تعمل؟ قال‪ :‬أنادي‬
‫عليكم وأبيعكم‪ ،‬قال‪ :‬ففيم تصرف ثمننا؟ قال‪ :‬في مصالح املسلمني‪ ،‬قال‪ :‬من‬
‫يقبضه؟‬
‫قال‪ :‬أنا‪.‬‬
‫فتم له ما أراد ونادى على األمراء واحد ًا واحد ًا وغالى في ثمنهم وقبضه‬
‫وصرفه في وجوه اخلير(((‪.‬‬

‫((( «طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.217 - 216/8 :‬‬


‫‪123‬‬
‫وقد ذكر بعض املؤرخني‪ :‬أنه لم يحدث مثل هذه الواقعة في تاريخ البشرية‬
‫كلها(((‪.‬‬
‫ال عن‬‫ثاني ًا‪ :‬موقفه مع السلطان يوم العيد‪ :‬كما يحكي ذلك السبكي نق ً‬
‫الباجي حيث يقول‪« :‬طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى‬
‫القلعة‪ ،‬فشاهد العساكر مصطفني بني يديه‪ ،‬ومجلس اململكة‪ ،‬وما السلطان فيه‬
‫يوم العيد من األبهة‪ ،‬وقد خرج على قومه في زينته على عادة سالطني الديار‬
‫تقبل األرض بني يدي السلطان‪ ،‬فالتفت الشيخ إلى‬‫املصرية‪ ،‬وأخذت األمراء ّ‬
‫السلطان‪ ،‬وناداه‪ :‬يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملك‬
‫مصر ثم تبيح اخلمور؟‬
‫فقال‪ :‬هل جرى هذا؟‬
‫فقال‪ :‬نعم‪ ،‬احلانة الفالنية يباع فيها اخلمور وغيرها من املنكرات‪ ،‬وأنت‬
‫تتق ّلب في نعمة هذه اململكة‪.‬‬
‫ق��ال السبكي حاكي ًا القصة‪« :‬يناديه كذلك بأعلى صوته‪ ،‬والعساكر‬
‫واقفون! فقال‪ :‬يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من زمان أبي؟ فقال‪ :‬أنت من‬
‫الذين يقولون‪:‬‬
‫{ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ }(((‪.‬‬
‫فرسم السلطان بإبطال تلك احلانة»‪.‬‬
‫وملا عاد العز بن عبدالسالم من عند السلطان سأله أحد تالمذته عن هذا‬
‫املوقف الذي شاع بني الناس‪ ،‬فقال العز بن عبدالسالم‪« :‬يا بني رأيته في تلك‬
‫العظمة فأردت أن أهينه لئال تكبر نفسه فتؤذيه»‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.217/8 :‬‬


‫((( سورة الزخرف‪ ،‬آية‪.22 :‬‬
‫‪124‬‬
‫فقال له‪ :‬أما خفته؟ فقال العز بن عبد السالم‪« :‬والله يا بني استحضرت‬
‫هيبة الله تعالى‪ ،‬فصار السلطان قدامي كالقط»(((‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬موقفه مع الظاهر بيبرس‪ :‬حيث امتنع العز بن عبد السالم عن مبايعته‬
‫بسبب أنه مملوك‪ ،‬ولم يبايعه حتى جاء من شهد له باخلروج من الرق؛ كما حكى‬
‫ذلك الصفدي بقوله‪« :‬ملا حضر بيعة امللك الظاهر قال له‪« :‬يا ركن الدين أنا‬
‫ال للتصرف)‪ ،‬فما‬ ‫أعرفك مملوك البندقدار» (أي ال تصح بيعته؛ ألنه ليس أه ً‬
‫بايعه حتى جاء من شهد له باخلروج عن رقه إلى الصالح وعتقه»(((‪.‬‬
‫يلخص هذا املوقف‬‫رابع ًا‪ :‬موقفه من قتال التتار وما كان منه فيها‪ّ :‬‬
‫السبكي بقوله‪« :‬حاصلها‪ :‬أن التتار ملا دهمت البالد عقيب واقعة بغداد‪،‬‬
‫وجنب أهل مصر عنهم‪ ،‬وضاقت بالسلطان وعساكره األرض؛ استشاروا‬
‫الشيخ عز الدين ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬فقال‪ :‬اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله‬
‫النصر؟ فقال السلطان له‪« :‬إن املال في خزانتي قليل وأنا أريد أن أقترض‬
‫من أموال التجار؟» فقال له الشيخ عز الدين‪« :‬إذا أحضرت ما عندك وعند‬
‫حرميك وأحضر األمراء ما عندهم من احللي احلرام اتخاذه وضربته سكة‬
‫وفرقته في اجليش ولم يقم بكفايتهم ذلك الوقت اطلب القرض‪،‬‬ ‫ونقد ًا‪ّ ،‬‬
‫وأما قبل ذلك فال»‪ ،‬فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك‬
‫بني يدي الشيخ‪ ،‬وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة بحيث ال يستطيعون‬
‫مخالفته‪ ،‬فامتثلوا أمره فانتصروا»(((‪.‬‬
‫وغير ذلك من مواقف العز بن عبد السالم اجلريئة والشجاعة في نصرة‬
‫احلق‪ ،‬والذود عن حياضه‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.212 - 211/8 :‬‬


‫((( «الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪ ،319/18 :‬وينظر‪« :‬املنهل الصافي»‪ ،‬البن تغري بردي‪:‬‬
‫‪.289/7‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪.215/8 :‬‬
‫‪125‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫توفي العز بن عبد السالم مبصر في العاشر من جمادى األولى‪ ،‬سنة ستني‬
‫وستمائة بالقاهرة‪.‬‬
‫والعام من أهل مصر‬
‫ّ‬ ‫اخلاص‬
‫ّ‬ ‫وكان يوم دفنه مشهود ًا‪ ،‬حيث حضر جنازته‬
‫والقاهرة‪ ،‬وشارك في اجلنازة خالئق ال حتصى‪ ،‬ومنهم الظاهر ببيرس فمن‬
‫دونه‪ .‬ودفن العز بن عبد السالم قبيل الظهر‪ ،‬في آخر القرافة‪ ،‬بسفح املقطم من‬
‫ناحية البركة‪.‬‬
‫وقد تأ ّثر الظاهر بيبرس من وفاة العز بن عبد السالم (كما حكى ذلك‬
‫وتأسف على موته أثناء دولته‪ ،‬فقال‪« :‬ال إله إال الله‪ ،‬ما ا ّتفقت وفاة‬
‫السبكي)‪ّ ،‬‬
‫الشيخ إال في دولتي»‪ ،‬وخرج هو وأمراءه وخاصته وأجناده لتشييع جنازته‪،‬‬
‫وحمل نعشه‪ ،‬وحضر دفنه‪.‬‬
‫وقد حكى بعض املؤرخني‪ :‬أن الظاهر ببيرس ملا استقر جسد العز بن عبد‬
‫السالم في قبره تن ّفس الصعداء‪ ،‬وقال لبعض خواصه‪« :‬اليوم استقر أمري في‬
‫امللك؛ ألن هذا الشيخ لو كان يقول للناس‪ :‬اخرجوا عليه النتزع امللك مني»‪.‬‬
‫وكان مما أوصى به العز بن عبد السالم قبل موته‪ :‬تفويض مهمة اإلشراف‬
‫على املدرسة الصاحلية للقاضي تاج الدين(((‪.‬‬
‫رحم الله العز بن عبد السالم ورفع درجته في املهديني‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬طبقات الشافعية الكبرى»‪ ،‬للسبكي‪ ،248 ،245 ،215/8 :‬و«املنهل الصافي»‪،‬‬
‫البن تغري ب��ردي‪ ،289/7 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪ ،318/18 :‬و«مرآة‬
‫اجلنان»‪ ،‬لليافعي‪ ،116/4 :‬و«العبر في خبر من غبر»‪ ،‬للذهبي‪.299/3 :‬‬
‫‪126‬‬
‫(‪ )9‬ابن تيمية‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫أبو العباس أحمد بن عبد احلليم بن عبد السالم بن عبد الله بن أبي القاسم‬
‫بن محمد‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬النميري‪ ،‬احلراني‪ ،‬احلنبلي‪ ،‬الدمشقي‪ .‬اإلمام‪ ،‬العالمة‪،‬‬
‫احلافظ‪ ،‬احلجة‪ ،‬شيخ اإلسالم(((‪.‬‬
‫وقد عرف واشتهر بـ «ابن تيمية»‪ ،‬وهو لقب جده «محمد»‪ ،‬والسبب في‬
‫تسمية جده بذلك عدة أقوال(((‪ ،‬ومن أشهرها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن جده «محمد» حج وله امرأة حامل‪ ،‬وعندما كان على درب‪ ‬تيماء‬
‫‪ -‬مدينة بني املدينة وتبوك ‪ -‬رأى جارية طفلة خرجت من خباء‪ ،‬فلما رجع إلى‬
‫حران‪ ‬وجد امرأته قد ولدت بنت ًا‪ ،‬فلما رآها قال‪ :‬يا تيمية يا تيمية‪( ،‬يعني‪ :‬أنها‬
‫تشبه الطفلة التي رآها بتيماء)‪ ،‬فلقّب بذلك‪.‬‬
‫تسمى‪« :‬تيمية»‪ ،‬وكانت واعظ ًة‪ ،‬فعرف بها‪.‬‬
‫جده «محمد» كانت ّأمه ّ‬
‫‪ -2‬أن ّ‬
‫فابن تيمية عربي األصل‪ ،‬حراني املولد‪ ،‬دمشقي النشأة والوفاة‪ ،‬حنبلي‬
‫املذهب‪ ،‬ثم املجتهد املطلق فيما بعد‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫ولد ابن تيمية في مدينة حران يوم االثنني العاشر من ربيع األول‪ ،‬سنة‬
‫إحدى وستني وستمائة من الهجرة(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬تاريخ ابن ال��وردي»‪ ،275/2 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪،156/14 :‬‬
‫و«طبقات احل ّفاظ»‪ ،‬للذهبي‪ ،192/4 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪،11/7 :‬‬
‫و«الدرر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪.168/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬تاريخ اإلسالم»‪ ،‬للذهبي‪ ،723/13 :‬و«العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪،‬‬
‫ص‪ ،18 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪.11/7 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪ ،18 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪:‬‬
‫‪127‬‬
‫وأما نشأة ابن تيمية‪ ،‬فقد نشأ نشأته األولى في مدينة «حران»‪ ‬إلى أن بلغ‬
‫السابعة من عمره‪ ،‬وعندما أغار عليها التتار هاجرت عائلته؛ منها سنة ‪667‬هـ‬
‫إلى دمشق الشام‪.‬‬
‫حيث نشأ في دمشق الشام في أس��رة علمية حنبلية املذهب‪ ،‬راسخة‬
‫الدعائم‪ ،‬قوية األركان في الفقه واحلديث‪ ،‬فوالده الشيخ عبد احلليم كان عامل ًا‬
‫وجده مجد الدين أبو البركات صاحب منت «منتقى األخبار» والذي‬ ‫ّ‬ ‫محدث ًا‪،‬‬
‫ّ‬
‫يعتبر كتاب نيل األوطار للشوكاني أحد شروحه وأشهرها‪ ،‬وهذه البيئة العلمية‬
‫ساهمت في نبوغ ابن تيمية؛ حيث أقبل منذ نعومة أظافره على العلم‪.‬‬

‫تام وعفاف وتأ ّله ّ‬


‫وتعبد واقتصاد في امللبس‬ ‫وقد نشأ ابن تيمية في تصون ّ‬
‫واملأكل‪ ،‬وكان يحضر امل��دارس واحملافل في صغره ويناظر ويفحم الكبار‪،‬‬
‫ويأتي مبا يتحير منه أعيان البلد في العلم‪ ،‬فأفتى وله تسع عشرة سنة‪ ،‬بل أقل‪.‬‬
‫وتقدم‬
‫ومتهر ّ‬
‫وفي نشأته حفظ املتون وحاز الفنون وحصل األجزاء‪ ،‬وتفقّه ّ‬
‫ومتيز ودرس وأفتى وص ّنف‪ ،‬وفاق األقران‪ ،‬وصار أعجوبة الزمان‪ ،‬في سرعة‬ ‫ّ‬
‫والتبحر في مذاهب‬
‫ّ‬ ‫االستحضار وقوة اجلنان‪ ،‬والتوسع في املنقول واملعقول‪،‬‬
‫السلف واخللف‪ ،‬وصار علم ًا مقدم ًا وإمام ًا فرد ًا في علوم شتى خاصة علم‬
‫التفسير والعقائد واألصول‪ ،‬حتى أنه جلس للتدريس بدار احلديث في دمشق‬
‫سنة ‪683‬هـ‪ ،‬أي وهو في الثانية والعشرين‪.‬‬
‫وكان يحضر درسه قاضي القضاة وشيوخ املذاهب على رأسهم الشيخ تاج‬

‫‪ ،142/14‬و«تاريخ ابن الوردي»‪ ،275/2 :‬و«طبقات احل ّفاظ»‪ ،‬للذهبي‪،192/4 :‬‬


‫و«معجم الشيوخ الكبير»‪ ،‬للذهبي‪ ،56/1 :‬و«ف��وات الوفيات»‪ ،‬حملمد ابن شاكر‪:‬‬
‫‪ ،74/1‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪ ،11/7 :‬و«البدر الطالع»‪ ،‬للشوكاني‪،63/1 :‬‬
‫و«ال��درر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪ ،168/1 :‬و«املنهل الصافي»‪ ،‬البن تغري بردي‪:‬‬
‫‪ ،359/1‬و«السلوك ملعرفة دول امللوك»‪ ،‬للمقريزي‪ ،114/3 :‬و«األعالم»‪ ،‬للزركلي‪:‬‬
‫‪.144/1‬‬
‫‪128‬‬
‫الدين الفزاري شيخ الشافعية‪ ،‬ولبراعة إلقاء ابن تيمية للدرس‪ ،‬جعلوه يجلس‬
‫في اجلامع األموي أكبر مساجد دمشق والشام وأشهرها لشرح التفسير وذلك‬
‫في نفس السنة ‪683‬هـ‪.‬‬
‫ثم لم يبرح ابن تيمية في ازدياد من العلوم ومالزمة االشتغال واإلشغال‬ ‫ّ‬
‫وبث العلم ونشره واالجتهاد في سبل اخلير ح ّتى انتهت إليه اإلمامة في العلم‬
‫والعمل والزهد والورع والشجاعة والكرم والتواضع واحللم واإلنابة واجلاللة‬
‫واملهابة واألمر باملعروف وال ّنهي عن املنكر وسائر أنواع اجلهاد‪ ،‬مع الصدق‬
‫والع ّفة والصيانة وحسن القصد‪ ،‬واإلخالص واالبتهال إلى الله‪ ،‬وكثرة اخلوف‬
‫والدعاء إلى الله‪ ،‬وحسن األخالق‪،‬‬ ‫مسك باألثر‪ّ ،‬‬‫وشدة ال ّت ّ‬
‫منه وكثرة املراقبة له‪ّ ،‬‬
‫والدعاء له‪،‬‬
‫والصبر على من آذاه‪ ،‬والصفح عنه‪ّ ،‬‬ ‫ونفع اخللق واإلحسان إليهم‪ّ ،‬‬
‫وسائر أنواع اخلير(((‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫بتقدمه في العلم والفقه‪ ،‬وق ّ��وة احلجة‪،‬‬
‫أثنى على ابن تيمية مخالفوه ّ‬
‫ال عن علماء عصره ومحبيه‬ ‫والشجاعة والسخاء واجلهاد في سبيل الله‪ ،‬فض ً‬
‫وتالمذته‪.‬‬
‫وهو مع ذلك ليس بحاجة إلى ثناء أحد‪ ،‬فسيرته العلمية والعملية‪ ،‬ومواقفه‬
‫التاريخية؛ أنصع ثناء‪ ،‬وأصدق تزكية‪ ،‬وأرفع وسام في الثناء عليه‪.‬‬
‫ومع ذلك ال بأس من تعطير هذه الصفحات‪ ،‬وتشنيف أذان السامع‪ ،‬ولفت‬
‫وعي القارئ‪ ،‬بذكر بعض أقوال العلماء في الثناء عليه‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫قال ابن كثير‪« :‬الشيخ‪ ،‬اإلمام‪ ،‬العالم‪ ،‬العلم‪ ،‬العلاّ مة‪ ،‬الفقيه‪ ،‬احلافظ‪،‬‬
‫الزاهد‪ ،‬العابد‪ ،‬القدوة‪ ،‬شيخ اإلسالم»(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،321/13 :‬و«العقود الدرية»‪ ،‬البن عبدالهادي‪،‬‬
‫ص‪ ،19 :‬وما بعدها‪ ،‬و«األعالم العلية»‪ ،‬للبزار‪ ،‬ص‪ ،18 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.156 /14 :‬‬
‫‪129‬‬
‫وقال ابن عبد الهادي‪« :‬الشيخ اإلمام الرباني‪ ،‬إمام األئمة‪ ،‬ومفتي ّ‬
‫األمة‪،‬‬
‫وبحر العلوم‪ ،‬سيد احل ّفاظ‪ ،‬وف��ارس املعاني واأللفاظ‪ ،‬فريد العصر‪ ،‬شيخ‬
‫اإلسالم‪ ،‬بركة األنام‪ ،‬وعلاّ مة الزمان‪ ،‬وترجمان القرآن‪ ،‬علم ّ‬
‫الز ّهاد‪ ،‬وأوحد‬
‫العباد‪ ،‬قامع املبتدعني‪ ،‬وآخر املجتهدين‪ ،‬وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى‬
‫مثلها»(((‪.‬‬
‫املفسر‪ ،‬احملّ��دث‪ ،‬املجتهد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وقال الصفدي‪« :‬الشيخ‪ ،‬اإلم��ام‪ ،‬العالمة‪،‬‬
‫احلافظ‪ ،‬شيخ اإلسالم‪ ،‬نادرة العصر‪ ،‬فريد الدهر»(((‪.‬‬
‫الزاهد‪ ...‬شيخ‬ ‫وقال ابن مفلح‪« :‬اإلمام‪ ،‬الفقيه‪ ،‬املجتهد‪ ،‬احلافظ‪ّ ،‬‬
‫املفسر‪ّ ،‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬وعلم األعالم»(((‪.‬‬
‫وقال ابن القيم‪« :‬شيخ االسالم واملسلمني‪ ،‬القائم ببيان احلق ونصر ّ‬
‫الدين‬
‫الداعي إلى الله ورسوله املجاهد في سبيله ا ّلذي أضحك الله به من ّ‬
‫الدين ما‬ ‫ّ‬
‫الس ّنة ما كان دارس�� ًا‪ ،‬والنور ا ّلذي أطلعه الله في ليل‬
‫كان عابس ًا‪ ،‬وأحيا من ّ‬
‫الظلمات وفتح به من القلوب مقفلها‪ ،‬وأزاح به‬ ‫الشّ بهات فكشف به غياهب ّ‬
‫عن ال ّنفوس عللها فقمع به زيغ الزائغني‪ ،‬وشك الشاكني‪ ،‬وانتحال املبطلني‪،‬‬
‫وصدقت به بشارة رسول رب العاملني بقوله |‪( :‬إن الله يبعث لهذه األمة على‬
‫رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)‪ ،‬وبقوله |‪( :‬يحمل هذا العلم من كل‬
‫خلف عدوله ينفون عنه حتريف الغالني وانتحال املبطلني)»(((‪.‬‬
‫وقال ابن تغري ب��ردي‪« :‬اإلم��ام‪ ،‬العالمة‪ ،‬احلافظ‪ ،‬احلجة‪ ،‬فريد دهره‪،‬‬
‫ووحيد عصره»(((‪.‬‬

‫((( «العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.18 :‬‬


‫((( «أعيان العصر»‪ ،‬للصفدي‪.233/1 :‬‬
‫((( «املقصد األرشد»‪ ،‬البن مفلح‪.133/1 :‬‬
‫((( «الرد الوافر»‪ ،‬البن ناصر الدين‪ ،‬ص‪.66 - 67 :‬‬
‫((( «املنهل الصافي»‪ ،‬البن تغري بردي‪.358/1 :‬‬
‫‪130‬‬
‫وقال الشوكاني‪« :‬شيخ اإلسالم‪ ،‬إمام ّ‬
‫األئمة‪ ،‬املجتهد املطلق»(((‪.‬‬
‫وقال ابن الزملكاني (وهو من مخالفيه)‪« :‬اجتمعت فيه شروط االجتهاد‬
‫على وجهها‪ ،‬وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف‪ ،‬وجودة العبارة والترتيب‬
‫والتقسيم والتدين»(((‪.‬‬
‫وقال محمد بن شاكر (امللقب بصالح الدين)‪« :‬الشيخ‪ ،‬اإلمام‪ ،‬العالمة‪،‬‬
‫احملدث‪ ،‬شيخ اإلسالم‪ ،‬نادرة العصر»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفقيه‪ ،‬املفسر‪ ،‬احلافظ‪،‬‬
‫«أمده الله بكثرة الكتب‪ ،‬وسرعة احلفظ‪ ،‬وقوة‬‫وقال ابن العماد احلنبلي‪ّ :‬‬
‫اإلدراك والفهم‪ ،‬وبطء النسيان‪ ،‬ح ّتى قال غير واحد‪ :‬إنه لم يكن يحفظ شيئ ًا‬
‫فينساه»(((‪.‬‬
‫وقال ابن كثير‪« :‬كان ذكيا كثير احملفوظ‪ ،‬فصار إماما في التفسير وما يتعلق‬
‫به عارفا بالفقه‪ ،‬فيقال‪ :‬أنه كان أعرف بفقه املذاهب من أهلها الذي كانوا في‬
‫زمانه وغيره‪ ،‬وكان عاملا باختالف العلماء‪ ،‬عاملا في األصول والفروع والنحو‬
‫واللغة‪ ،‬وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية‪ ،‬وما قطع في مجلس وال تكلم‬
‫معه فاضل في فن من الفنون إال ظن أن ذلك الفن فنه‪ ،‬ورآه عارفا به متقنا له‪.‬‬
‫وأما احلديث فكان حامل رايته حافظا له مميزا بني صحيحه وسقيمه‪ ،‬عارفا‬
‫برجاله متضلعا من ذلك»(((‪.‬‬
‫وقال ابن حجر‪« :‬نظر في الرجال والعلل وتفقه ومتهر ومتيز وتقدم وصنف‬
‫ودرس وأفتى وفاق األقران وصار عجبا في سرعة االستحضار وقوة اجلنان‬
‫والتوسع في املنقول واملعقول واإلطالة على مذاهب السلف واخللف»(((‪.‬‬

‫((( «البدر الطالع»‪ ،‬للشوكاني‪.63/1 :‬‬


‫((( «العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.389 :‬‬
‫((( «فوات الوفيات»‪ ،‬حملمد بن شاكر‪.74/1 :‬‬
‫((( «شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪.143/8 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.157/14 :‬‬
‫((( «الدرر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪.168/1 :‬‬
‫‪131‬‬
‫ثم والله لم ير أدمي حتت‬ ‫وقال عماد الدين الواسطي‪« :‬فوال ّله ّ‬
‫ثم والله ّ‬
‫السماء مثل شيخكم علما وعمال وحاال وخلفا واتباعا وكرما وحلما في حق‬ ‫ّ‬
‫نفسه‪ ،‬وقياما في حق الله عند انتهاك حرماته أصدق ال ّناس عقدا وأصحهم‬
‫علما وعزما وأنفذهم وأعالهم في انتصار احلق وقيامه همة وأسخاهم كفا‬
‫محمد صلى الله عليه وسلمما رأينا في عصرنا هذا من‬ ‫وأكملهم اتباعا لنبيه ّ‬
‫بوة احملمدية وسنتها من أقواله وأفعاله إلاّ هذا الرجل بحيث يشهد‬ ‫تستجلى ال ّن ّ‬
‫الصحيح أن هذا هو اال ّتباع حقيقة»(((‪.‬‬ ‫القلب ّ‬
‫وقال السيوطي‪« :‬كان من بحور العلم ومن األذكياء املعدودين والزهاد‬
‫واألفراد ألف ثالثمائة مجلدة‪ ،‬وامتحن وأوذي مرارا»(((‪.‬‬
‫قال ابن فضل الله العمري‪« :‬كان ابن تيمية ال تأخذه في ّ‬
‫احلق لومة الئم‪،‬‬
‫احلق عنده سواء»(((‪.‬‬
‫وذامه في ّ‬
‫وليس عنده مداهنة‪ ،‬وكان مادحه ّ‬
‫ظن‬
‫فن من العلم‪ّ ،‬‬ ‫وقال ابن الزملكاني‪« :‬كان ابن تيمية إذا سئل عن ّ‬
‫الرائي والسامع أنه ال يعرف غير ذلك الفن‪ ،‬وحكم بألاّ يعرفه أحدٌ مثله‪،‬‬
‫وكانت الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه‬
‫أشياء‪ ،‬قال‪ :‬وال يعرف أنه ناظر أحدً ا فانقطع معه‪ ،‬وال تك ّلم في علم من‬
‫العلوم؛ سواء كان علوم الشرع أو غيرها إال فاق فيه أهله‪ ،‬واجتمعت فيه‬
‫شروط االجتهاد على وجهها»(((‪.‬‬
‫تام ٌة بالرجال‪ ،‬وجرحهم‪،‬‬ ‫وقال ابن ال��وردي‪« :‬كانت البن تيمية خبر ٌة ّ‬
‫ومعرفة بفنون احلديث‪ ،‬وبالعالي والنازل‪ ،‬والصحيح‬ ‫ٌ‬ ‫وتعديلهم‪ ،‬وطبقاتهم‪،‬‬
‫عجيب في استحضاره واستخراج‬ ‫ٌ‬ ‫والسقيم‪ ،‬مع حفظه ملتونه الذي انفرد به‪ ،‬وهو‬

‫((( «شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪ ،146/8 :‬وينظر‪« :‬العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد‬
‫الهادي‪ ،‬ص‪.328 :‬‬
‫((( «طبقات احلفاظ»‪ ،‬للسيوطي‪ ،‬ص‪.521 - 520 :‬‬
‫((( «الرد الوافر»‪ ،‬البن ناصر الدين‪ ،‬ص‪.66 :‬‬
‫((( «تاريخ ابن الوردي»‪.277/2 :‬‬
‫‪132‬‬
‫احلجج منه‪ ،‬وإليه املنتهى في عزوه إلى الكتب الستة واملسند؛ بحيث تصدق‬
‫عليه أن يقال‪ّ :‬‬
‫«كل حديث ال يعرفه ابن تيمية‪ ،‬فليس بحديث»‪ ،‬ولكن اإلحاطة‬
‫لله غير أنه يغترف فيه من بحر‪ ،‬وغيره من األئمة يغترفون من السواقي‪.‬‬
‫ٌ‬
‫عجيبة‪،‬‬ ‫وأما التفسير فسلم إليه‪ ،‬وله في استحضار اآليات لالستدالل قو ٌة‬
‫املفسرين‪،‬‬
‫اطالعه بينّ خطأ كثير من أقوال ّ‬ ‫ولفرط إمامته في التفسير وعظمة ّ‬
‫وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من األصلني‪ ،‬أو من‬
‫نحوا من أربعة كراريس‪ ،‬وما يبعد أن تصانيفه‬
‫الرد على الفالسفة واألوائل ‪ً -‬‬
‫إلى اآلن تبلغ خمسمائة مجلد»(((‪.‬‬
‫حظا‪ ،‬وكاد‬‫وقال ابن سيد الناس‪« :‬كان ابن تيمية ّممن أدرك من العلوم ًّ‬
‫السنن واآلثار ً‬
‫حفظا‪ ،‬إن تك ّلم في التفسير فهو حامل رايته‪ ،‬أو أفتى‬ ‫يستوعب ّ‬
‫ٌ‬
‫مدرك غايته‪ ،‬أو ذاكر باحلديث فهو صاحب علمه‪ ،‬وذو روايته‪ ،‬أو‬ ‫في الفقه فهو‬
‫حاضر بال ّنحل وامللل لم ير أوسع من نحلته في ذلك‪ ،‬وال أرفع من درايته‪ ،‬برز‬
‫فن على أبناء جنسه‪ ،‬ولم تر عني من رآه مثله‪ ،‬وال رأت عينه مثل نفسه‪،‬‬
‫في كل ّ‬
‫كان يتك ّلم في التفسير‪ ،‬فيحضر مجلسه ّ‬
‫اجلم الغفير»(((‪.‬‬

‫وقال املزي‪« :‬الشّ يخ اإلمام العالم ّ‬


‫املفسر الفقيه املجتهد احلافظ‪ ،‬احملدث‬
‫شيخ اإلسالم نادرة العصر ذو التصانيف الباهرة والذكاء املفرط» ‪.‬‬
‫(((‬

‫وقال ابن عبد الهادي‪« :‬اإلمام‪ ،‬الربابي‪ ،‬إمام األئمة‪ ،‬ومفتي األمة‪ ،‬وبحر‬
‫العلوم‪ ،‬سيد احلفاظ‪ ،‬وفارس املعاني واأللفاظ‪ ،‬فريد العصر‪ ،‬وقريع الدهر‪،‬‬
‫شيخ اإلسالم‪ ،‬بركة األنام‪ ،‬وعالمة الزمان‪ ،‬وترجمان القرآن‪ ،‬علم الزهاد‪،‬‬
‫وأوحد العباد‪ ،‬قامع املبتدعني‪ ،‬وآخر املجتهدين»(((‪.‬‬

‫((( «تاريخ ابن الوردي»‪.278/2 :‬‬


‫((( «العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.25 :‬‬
‫((( «ثالث تراجم نفيسة‪ ،‬للمزي‪ ،‬ص‪.22 – 21 :‬‬
‫((( «العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.18 :‬‬
‫‪133‬‬
‫«تصدى لالنتصار ملذهب السلف‪ ،‬وبالغ في الر ّد على‬
‫ّ‬ ‫وقال املقريزي‪:‬‬
‫مذهب األشاعرة‪ ،‬وصدع بالنكير عليهم‪ ،‬وعلى الرافضة‪ ،‬وعلى الصوفية» ‪.‬‬
‫(((‬

‫احملدث‪ ،‬احلافظ املفسر‪ ،‬األصولي‬


‫ّ‬ ‫وقال ابن رجب‪« :‬اإلمام الفقيه‪ ،‬املجتهد‬
‫الزاهد‪ ...،‬شيخ اإلسالم‪ ،‬وعلم األعالم‪ ،‬وشهرته تغني عن اإلطناب في ذكره‪،‬‬
‫واإلسهاب في أمره»(((‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫أثرى ابن تيمية مبؤلفاته ورسائله املكتبة اإلسالمية‪ ،‬وسارت سير الشمس‬
‫في األقطار‪ ،‬وامتألت بها البالد واألمصار‪ ،‬حتى أن ابن عبد الهادي قال عن‬
‫متقدمي األمة وال متأخريها جمع مثل ما جمع وال‬
‫مؤلفاته‪« :‬وال أعلم أحدا من ّ‬
‫صنف نحو ما صنف وال قريبا من ذلك مع أن أكثر تصانيفه»(((‪.‬‬
‫وقال البزار‪« :‬أما مؤلفاته ومصنفاته فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها‬
‫أو يحضرني جملة أسمائها‪ ،‬بل هذا ال يقدر عليه غالب ًا أحد؛ ألنها كثيرة جد ًا‪،‬‬
‫كبار ًا وصغار ًا‪ ،‬أو هي منشورة في البلدان فقل بلد نزلته إال ورأيت فيه من‬
‫تصانيفه»(((‪.‬‬
‫وقد شملت مؤلفات ابن تيمية أغلب الفنون‪ ،‬ومن مؤلفاته نذكر ما‬
‫يلي(((‪:‬‬
‫‪ -1‬اإلميان‪.‬‬
‫‪ -2‬االستقامة‪.‬‬

‫((( «املواعظ واالعتبار»‪ ،‬للمقريزي‪.192/4 :‬‬


‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب احلنبلي‪.493 - 492/4 :‬‬
‫((( «العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.42 :‬‬
‫((( «األعالم العلية» للبزار‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪ ،42 :‬وما بعدها‪ ،‬و«األعالم العلية»‪،‬‬
‫للبزار‪ ،‬ص‪ ،20 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫‪ -3‬تلبيس اجلهمية في تأسيس بدعهم الكالمية‪.‬‬
‫‪ -4‬درء تعارض العقل والنقل‪.‬‬
‫‪ -5‬منهاج السنة النبوية في نقض كالم الشيعة والقدرية‪.‬‬
‫الصحيح ملن بدل دين املسيح‪.‬‬ ‫‪ -6‬اجلواب ّ‬
‫‪ - 7‬شرح أول احملصل‪.‬‬
‫الرد على أهل كسروان الرافضة‪.‬‬ ‫‪ّ -8‬‬
‫‪ -9‬الوسيلة‪.‬‬
‫الرد على البكري في االستغاثة‪.‬‬ ‫‪ّ -10‬‬
‫الدين‪.‬‬
‫‪ -11‬شرح على أول كتاب الغزنوي في أصول ّ‬
‫الرد على املنطق‪.‬‬‫‪ّ -12‬‬
‫‪ -13‬حتقيق اإلثبات في األسماء والصفات‪.‬‬
‫‪ –14‬التدمرية‪.‬‬
‫‪ -15‬الفتيا احلموية‪.‬‬
‫‪ -16‬الواسطية‪.‬‬
‫‪ -17‬الفرقان بيان أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‪.‬‬
‫‪ -18‬شرح العمدة‪.‬‬
‫‪ -19‬شرح احملرر‪.‬‬
‫‪ -20‬الصارم املسلول على شامت الرسول‪.‬‬
‫‪ -21‬اقتضاء الصراط املستقيم في الرد على أصحاب اجلحيم‪.‬‬
‫‪ -22‬التحرير في مسألة اخلضر‪.‬‬
‫‪ -23‬دفع املالم عن األئمة األعالم‪.‬‬
‫‪ -24‬السياسة الشرعية إلصالح الراعي والرعية‪.‬‬
‫‪25‬ـ التوسل والوسيلة‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫‪ -26‬الصفدية‪.‬‬
‫‪ -27‬النبوات‪.‬‬
‫‪ -28‬مجموع الفتاوى‪.‬‬
‫‪ -29‬التحفة العراقية في األعمال القلبية‪.‬‬
‫‪ -30‬مقدمة في علم التفسير‪.‬‬
‫وأغلب مؤلفات ابن تيمية ‪ -‬بحمد الله ‪ -‬مطبوعة متداولة‪ ،‬وبعضها ما‬
‫زال مخطوط ًا لم يطبع‪ ،‬وبعضها في عداد املفقود‪.‬‬
‫محنته‪:‬‬
‫تعرض لها ابن تيمية محنة من طراز خاص‪ ،‬حيث النظير‬ ‫تعتبر احملنة التي ّ‬
‫لها في تاريخ محن علماء األم��ة؛ ذلك أن حياة ابن تيمية بطولها من أولها‬
‫آلخرها كانت عبارة عن محنة مستمرة‪ ،‬فقد ظل طوال حياته ينتقل من محنة‬
‫ألخرى‪ ،‬ومن ابتالء آلخر‪ ،‬ومن سجن ملعتقل‪ ،‬ومن الشام ملصر‪ ،‬ومن سلطان‬
‫جائر لفقيه متعصب‪ ،‬ومن حاسد حلاقد‪.‬‬
‫وقد شملت محنته كافة صنوف األذى‪ ،‬حيث منع من اإلفتاء والتدريس‪،‬‬
‫وعذب‪ ،‬وسجن؛ حتى وصل األمر بأهل الباطل‬ ‫وشهر به في كل مكان‪ ،‬ونفي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫إلى تكفيره‪ ،‬وحبك املؤامرات والدسائس لتصفيته‪ ،‬وسفك دمه‪ ،‬ولكن أنّى لهم‬
‫ذلك؟ فإن عني الله حترسه‪ ،‬ومعيته حتوطه‪.‬‬
‫تعرض لها؛ حيث قال‪« :‬ما يصنع‬‫وقد أشار ابن تيمية إلى أبرز احملن التي ّ‬
‫أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت‪ :‬فجنتي معي ال تفارقني‪،‬‬
‫إنّ حبسي خلوة‪ ،‬وقتلي شهادة‪ ،‬وإخراجي من بلدي سياحة»(((‪.‬‬
‫وفيما يلي نلفت نظر القارئ إلى خطوط عريضة عن محنته‪:‬‬
‫احملنة األولى‪ :‬كانت في القاهرة‪ :‬حيث ّ‬
‫مت استجوابه من دمشق إلى القاهرة‬

‫((( «الوابل الصيب»‪ ،‬البن القيم‪ ،‬ص‪.48 :‬‬


‫‪136‬‬
‫بتآمر من قبل السلطات احلاكمة في الشام ومصر (عام ‪705‬هـ)‪ ،‬ثم سجن في‬
‫القاهرة (سنة ونصف)‪.‬‬
‫والسبب وراء هذه احملنة‪ :‬أهل الباطل من الصوفية اجلهالء؛ كما ذكر‬
‫ذلك ابن كثير في حوادث عام ‪705‬هـ ما معناه‪ :‬أن السلطان بيبرس اجلاشنكير‬
‫توجه‬
‫طلب ابن تيمية إلى مصر يوم اخلامس من رمضان عام ‪705‬هـ‪ ،‬حيث ّ‬
‫إليها ابن تيمية فدخلها يوم ‪ 22‬رمضان‪ ،‬فعقد له مجلس بالقلعة‪ ،‬وقد اجتمع‬
‫فيها القضاة وأكابر الدولة‪ ،‬وفي املجلس أراد ابن تيمية الكالم إال أنه لم‬
‫وادعى عليه ابن مخلوف املالكي (قاضي املالكية وكان من أشد‬ ‫يسمح له‪ّ ،‬‬
‫خصوم ابن تيمية‪ ،‬ونصر املنبجي (الصوفي الضال احللولي االحتادي‪ ،‬وكان‬
‫صاحب حظوة ووجاهة عند أمير مصر بيبرس اجلاشنكير) حيث ّادعى ابن‬
‫مخلوف على ابن تيمية أنه يقول‪« :‬إن الله فوق العرش حقيقة‪ ،‬وأن الله‬
‫يتكلم بحرف وص��وت»‪ ،‬فسأله القاضي عن ذلك‪ ،‬فأخذ ابن تيمية يبدأ‬
‫حديثه في حمد الله والثناء عليه‪ ،‬فقيل له‪ :‬أجب‪ ،‬ما جئنا بك لتخطب‪ ،‬فعلم‬
‫أنها احملاكمة ال املجادلة؟‬
‫فقال‪ :‬ومن احلاكم في؟‬

‫قيل له‪ :‬القاضي املالكي‪ ،‬فقال له الشيخ‪ :‬كيف حتكم ّ‬


‫في وأنت خصمي؟‬
‫فغضب غضب ًا شديد ًا وانزعج‪ ،‬فأصدر حكمه عليه‪ ،‬وحبس ابن تيمية في‬
‫برج أيام ًا‪ ،‬ثم نقل مع أخويه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبدالرحمن إلى‬
‫«اجلب» في ليلة‪ ‬عيد الفطر(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫احلبس املعروف باسم‬
‫وقد حاول بعض العلماء إخراج ابن تيمية من السجن مقابل أن يرجع عن‬
‫بعض النقاط في العقيدة‪ ،‬ولكن ابن تيمية رفض‪ ،‬وآثر السجن على التنازل عما‬
‫يعتقد‪ ،‬حيث بقي في سجن اجلب ثمانية عشر شهر ًا‪ ،‬ثم خرج بشفاعة األمير‬

‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.43/14 :‬‬


‫‪137‬‬
‫حسام الدين مهنا ملك العرب يوم اجلمعة الثالث والعشرين من ربيع األول‪،‬‬
‫سنة سبع وسبعمائة(((‪.‬‬
‫احملنة الثانية‪ :‬كانت في اإلسكندرية‪ :‬حيث مت نفي ابن تيمية من القاهرة‬
‫إلى اإلسكندرية (عام ‪709‬هـ)‪ ،‬ثم سجن اإلسكندرية (سبعة أشهر)‪.‬‬
‫والسبب في ذلك‪ :‬أن أهل الباطل من األشاعرة ومعهم الصوفية أ ّلبوا عليه‬
‫وتقدموا بشكاية ضده فحواها‪ :‬أن ابن تيمية يتناول ابن عربي وغيره‬‫القاضي‪ّ ،‬‬
‫من أعالم التصوف‪ ،‬فقرر القاضي نفي ابن تيمية إلى اإلسكندرية‪ ،‬وفيها سجن‬
‫سبعة أشهر‪ ،‬حيث دخل السجن في شهر صفر عام ‪709‬هـ‪ ،‬وخرج منه يوم عيد‬
‫الفطر عام ‪709‬هـ(((‪.‬‬
‫احملنة الثالثة‪ :‬كانت في دمشق‪ :‬حيث مت سجن ابن تيمية هناك عدة مرات‪:‬‬
‫املرة األولى‪ :‬كانت (عام ‪720‬هـ) (ملدة ستة أشهر)‪.‬‬
‫والسبب في ذلك‪ :‬فتوى ابن تيمية بأن الطالق البدعي ال يقع‪ ،‬وأن الطالق‬
‫بالثالثة إمنا يقع واحدة‪ ،‬وأن احللف بالطالق يقع ميين ًا إذا لم ينو به الطالق‪ ،‬فثارت‬
‫عليه ثورة عنيفة من أهل الباطل‪ ،‬حيث مت جمع علماء املذاهب ملناقشته ومناظرته‪،‬‬
‫إال أنه ألزمهم احلجة‪ ،‬وألزمهم احملجة‪ ،‬فلجأوا إلى تأليب الوالة واحلكام عليه‪،‬‬
‫حيث أمر نائب السلطنة بسجنه بسبب هذه الفتوى‪ ،‬حيث سجن في القلعة‬
‫بدمشق‪ ،‬ولم يخرج منه إال في العاشر من محرم سنة ‪721‬هـ بأمر من السلطان‪.‬‬
‫املرة الثانية‪ :‬كانت عام ‪726‬هـ حيث سجن في دمشق (ملدة سنتني وثالثة‬
‫أشهر)(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.51/14 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.283 :‬‬
‫((( وقد اعتقل وسجن مع ابن تيمية في سجن القلعة في دمشق جماعة من أصحابه‪ ،‬ثم‬
‫أطلقوا عدا ابن قيم اجلوزية؛ فقد بقي محبوس ًا فيها حتى توفي ابن تيمية‪ ،‬ولم يفرج عنه‬
‫إال بعد وفاة ابن تيمية بشهر‪.‬‬
‫‪138‬‬
‫والسبب فتواه في مسألة‪« :‬شد الرحال وإعمال املطي إلى قبور األنبياء‬
‫والصاحلني»‪ ،‬حيث مت العثور على جواب البن تيمية كتبه قبل سبعة عشر عام ًا‪،‬‬
‫يتضمن اجلواب القولني الواردين في املسألة‪ ،‬وترجيحه ألحدهما‪.‬‬
‫ّ‬
‫إال أن أهل الباطل ‪-‬كعادتهم دائم ًا‪ّ -‬‬
‫حرفوا فتواه وسعوا فيه إلى السلطان‪،‬‬
‫حيث مت أمره باعتقاله وسجنه في سجن القلعة في دمشق في يوم ‪ 6‬شعبان سنة‬
‫‪726‬هـ(((‪.‬‬
‫وقال أشار إلى ذلك العلماء الذين ترجموا البن تيمية‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬ابن‬
‫كثير حيث قال في‪« :‬يوم اخلميس دخل القاضي بدر الدين بن جملة وناصر‬
‫الدين مشد األوقاف‪ ،‬وسأاله عن مضمون قوله في مسألة الزيارة‪ ،‬فكتب ذلك‬
‫في درج وكتب حتته قاضي الشافعية بدمشق‪ :‬قابلت اجلواب عن هذا السؤال‬
‫املكتوب على خط ابن تيمية إلى أن قال‪ :‬وإمنا احملز جعله زيارة قبر النبي |‪،‬‬
‫وقبور األنبياء صلوات الله وسالمه عليهم معصية باإلجماع مقطوع ًا بها»(((‪.‬‬
‫قال ابن كثير مع ّلق ًا على ذلك‪« :‬فانظر اآلن هذا التحريف على شيخ اإلسالم‪،‬‬
‫فإن جوابه على هذه املسألة ليس فيه منع زيارة قبور األنبياء والصاحلني‪ ،‬وإمنا‬
‫فيه ذكر قولني في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور‪ ،‬وزيارة القبور من‬
‫غير شد رحل إليها مسألة‪ ،‬وشد الرحل ملجرد الزيارة مسألة أخرى‪ ،‬والشيخ لم‬
‫مينع الزيارة اخلالية عن شد رحل‪ ،‬بل يستحبها ويندب إليها‪ ،‬وكتبه ومناسكه‬
‫يتعرض إلى هذه الزيارة على هذا الوجه في الفتيا‪ ،‬وال قال‪:‬‬‫تشهد بذلك‪ ،‬ولم ّ‬
‫إنها معصية‪ ،‬وال حكى اإلجماع على املنع منها‪ ...‬والله سبحانه ال يخفى عليه‬
‫شيء‪ ،‬وال يخفى عليه خافية‪:‬‬
‫{ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ}(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.345 :‬‬


‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.143/14 :‬‬
‫((( سورة الشعراء‪ ،‬آية‪ ،227 :‬وينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.143/14 :‬‬
‫‪139‬‬
‫تعرض ابن تيمية للمنع من التدريس واإلفتاء والتشهير‬ ‫وقبل السجن ّ‬
‫والضرب والتعذيب‪ ،‬وقد بلغ مجموع سنوات سجنه خالل األربع املرات التي‬
‫سبق ذكرها‪ :‬خمس سنوات تقريب ًا‪.‬‬
‫ضيق على ابن تيمية‪ ،‬ومنع من الكتابة‪ ،‬ولم يترك عنده دواة‬
‫وفي السجن ّ‬
‫وال قلم وال ورق‪.‬‬
‫وقد أراد أهل الباطل من خالل التشهير بابن تيمية ومنعه من التدريس‬
‫واإلفتاء‪ ،‬ونفيه وتعذيبه وسجنه؛ جتحيم علمه‪ ،‬والفتك من إرادت��ه وعزميته‪،‬‬
‫ولكن أنّى لهم ذلك أمام هذا اإلمام الفذ الشجاع املقدام؟ فلقد استطاع ابن تيمية‬
‫‪-‬بفضل الله‪ -‬مواجهة هذه احملنة بوسائل عدة متكن من خاللها حتويل محنته إلى‬
‫منحة‪ ،‬قال البزار‪« :‬ولقد سجن أزمان ًا وأعصار ًا وسنني وشهور ًا ولم يو ّلهم دبره‬
‫فرار ًا‪ ،‬ولقد قصد أعداؤه الفتك به مرار ًا‪ ،‬وأوسعوا حيلهم عليه إعالن ًا وإسرار ًا؛‬
‫فجعل الله حفظه منهم له شعار ًا ودثار ًا‪ ،‬ولقد ظ ّنوا أن في حبسه مشينة فجعله‬
‫أقر به عينيه‪ ،‬فإن الله‬ ‫الله له فضيلة وزينة‪ ،‬وظهر له يوم موته ما لو رآه واده ّ‬
‫تعالى لعلمه بقرب أجله ألبسه الفراغ عن اخللق للقدوم على احلق أجمل حلله‪،‬‬
‫قوة في احلق وعزمية‪ .‬هذا مع ما‬ ‫كونه حبس على غير جريرة وال جرمية‪ ،‬بل على ّ‬
‫نشر الله له من علومه في اآلفاق وبهر بفنونه البصائر واألحداق‪ ،‬ومأل مبحاسن‬
‫الصحف واألوراق كبت ًا ورغم ًا لألعداء أهل البدع املضلة واألهواء‪،‬‬ ‫مؤلفاته ّ‬
‫احملبة والوالء»(((‪.‬‬
‫السماء لعوائده خلاصة األولياء أهل ّ‬ ‫وصنعة عظيمة من رب ّ‬
‫وفيما يلي تلخيص ألبرز السبل التي سلكها ابن تيمية في محنته‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫أو ًال‪ :‬العلم املستمد من الكتاب ّ‬


‫والس ّنة على فهم السلف‪ ،‬قال ابن ّ‬
‫القيم‪« :‬قال‬
‫لي مرة‪ :‬ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي‬
‫ال تفارقني‪ ،‬أنا حبسي خلوة‪ ،‬وقتلي شهادة‪ ،‬وإخراجي من بلدي سياحة»(((‪.‬‬

‫((( «األعالم العلية»‪ ،‬للبزار‪ ،‬ص‪.77 :‬‬


‫((( «الوابل الصيب»‪ ،‬البن القيم‪ ،‬ص‪48. :‬‬
‫‪140‬‬
‫ثانيا‪ :‬الشجاعة‪ ،‬ورباطة اجلأش‪ ،‬قال ابن عبد الهادي مبين ًا حال ابن تيمية‬
‫تعرض لها‪« :‬كان ثابت اجلأش‪ ،‬قوي القلب‪ ،‬وظهر‬ ‫أثناء إحدى احملن التي ّ‬
‫صدق ّ‬
‫توكله‪ ،‬واعتماده على ربه»(((‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬الثناء على الله‪ ،‬وشكره على نعمه‪ ،‬قال ابن القيم‪« :‬وكان في القلعة‬
‫يقول‪ :‬لو بذلت ملء هذه القلعة ذهب ًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة‪ ،‬أو قال ما‬
‫جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من اخلير‪ ..‬ونحو هذا»(((‪.‬‬
‫رابع ًا‪ :‬الرضا والطمأنينة‪ ،‬قال ابن القيم‪« :‬ملا دخل إلى القلعة وصار داخل‬
‫سورها نظر إليه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫(((‬
‫{ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ}‬
‫وعلم الله ما رأيت أحد ًا أطيب عيش ًا منه قط‪ ،‬مع ما كان فيه من ضيق‬
‫العيش وخالف الرفاهية والنعيم بل ضدها‪ ،‬ومع ما كان فيه من احلبس والتهديد‬
‫واإلرهاق‪ ،‬وهو مع ذلك من أطيب الناس عيش ًا‪ ،‬وأشرحهم صدر ًا‪ ،‬وأقواهم‬
‫وأسرهم نفس ًا‪ ،‬تلوح نضرة النعيم على وجهه»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قلب ًا‪،‬‬
‫خامس ًا‪ :‬االنشغال بالقرآن ت��دب��ر ًا وت��أم ً‬
‫�لا وتطبيق ًا‪ ،‬وت�ل�اوة‪ ،‬ق��ال ابن‬
‫عبدالهادي‪« :‬ختم ابن تيمية القرآن مدة إقامته بسجن القلعة ثمانني أو إحدى‬
‫وثمانني ختمة انتهى في آخر ختمة إلى آخر سورة «اقتربت الساعة»‪:‬‬
‫{ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ }‬
‫(((‬

‫وكان ابن تيمية يقرأ كل يوم ثالثة أجزاء‪ ،‬ويختم في عشرة أيام»(((‪.‬‬

‫((( «العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.344 :‬‬


‫((( «الوابل الصيب»‪ ،‬البن القيم‪ ،‬ص‪.48 :‬‬
‫((( سورة احلديد‪ ،‬آية‪.13 :‬‬
‫((( «الوابل الصيب»‪ ،‬البن القيم‪ ،‬ص‪.48 :‬‬
‫((( سورة القمر‪ ،‬آية‪.55 ،54 :‬‬
‫((( «العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.384 :‬‬
‫‪141‬‬
‫سادس ًا‪ :‬الدعوة إلى الله‪ ،‬واألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬قال ابن‬
‫عبدالهادي‪« :‬ملا دخل احلبس (في القاهرة) وجد احملابيس مشتغلني بأنواع‬
‫عما هم فيه‪ ،‬كالشطرجن‪ ،‬والنرد‪ ،‬ونحو ذلك من تضييع‬ ‫من اللعب يلتهون بها ّ‬
‫أشد اإلنكـار‪ ،‬وأمرهم مبالزمة الصالة‬
‫الصلوات‪ ...‬فأنكر الشيخ عليهم ذلك ّ‬
‫والتوجه إلى الله باألعمال الصاحلة والتسبيح‪ ،‬واالستغفار‪ ،‬والدعاء‪ ،‬وع ّلمهم‬
‫ّ‬
‫وحضهم على ذلك؛‬ ‫ّ‬ ‫الس ّنة ما يحتاجون إليه‪ ،‬ورغّ بهم في أعمال اخلير‪،‬‬
‫من ّ‬
‫والربط‬
‫الزوايا ّ‬‫والدين خير ًا من ّ‬
‫حتى صار احلبس مبا فيه من االشتغال بالعلم ّ‬
‫خلق من احملابيس إذا أطلقوا يختارون اإلقامة‬
‫واخلوانق وامل��دارس‪ ،‬وصار ٌ‬
‫عنده‪ ،‬وكثر املتر ّددون إليه؛ حتى كان السجن ميتلئ بهم»(((‪.‬‬
‫وقد ذكر العلماء الذين ترجموا البن تيمية أنه في سجنه‪ ،‬وعلى وجه‬
‫التحديد في سجن القلعة بدمشق أرشد املساجني إلى احملافظة على اجلماعة‬
‫واجلمعة‪ ،‬ورغّ بهم في ذلك‪ ،‬فاستجابوا لذلك‪ ،‬وكان يقيم ابن تيمية مبن معه في‬
‫السجن صالة اجلماعة واجلمعة‪.‬‬
‫سابع ًا‪ :‬كتابة الكتب ونشر الرسائل العلمية‪ ،‬قال البزار‪« :‬في محنته األولى‬
‫مبصر ص ّنف عدة كتب صغار ًا وكبار ًا»(((‪.‬‬
‫ثامن ًا‪ :‬العدل واإلنصاف حتى مع خصومه وأعدائه‪ ،‬قال‪« :‬وأنا في سعة‬
‫في بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو‬
‫تعدى حدود الله ّ‬ ‫صدر ملن يخالفني فإنه وإن ّ‬
‫أتعدى حدود الله فيه»‪.‬‬
‫عصبية جاهلية‪ ،‬فأنا ال ّ‬
‫عمن آذاه‪ ،‬وتسبب في محنته‪ ،‬فقد جاء في آخر‬ ‫تاسع ًا‪ :‬العفو والصفح ّ‬
‫كتاب بعث به ابن تيمية من مصر إلى دمشق‪« :‬ال أحب أن ينتصر من أحد بسبب‬
‫علي أو ظلمه وعدوانه؛ فإني قد أحللت كل مسلم‪ ،‬وأنا أحب اخلير لكل‬
‫كذبه ّ‬
‫املسلمني‪ ،‬وأريد بكل مؤمن من اخلير ما أحبه لنفسي‪ ،‬والذين كذبوا وظلموا‬

‫الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.269 :‬‬


‫((( «العقود ّ‬
‫((( «األعالم العلية»‪ ،‬للبزار‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪142‬‬
‫فهم في حل من جهتي‪ ،‬وأما ما يتع ّلق بحقوق الله فإن تابوا أتاب الله عليهم‬
‫وإال فحكم الله نافذ فيهم»(((‪.‬‬
‫وقال أيض ًا‪« :‬وقد أحللت كل واحد مما كان بيني وبينه إال من كان عدو ًا‬
‫لله ورسوله»(((‪.‬‬
‫وقال ابن مخلوف (وهو ممن كانوا سبب ًا في محنة ابن تيمية)‪« :‬ما رأينا أتقى‬
‫من ابن تيمية‪ ،‬لم نبق ممكنا في السعي فيه‪ ،‬وملا قدر علينا عفا ع ّنا»(((‪.‬‬
‫وقد زاد الله ابن تيمية بهذه احملنة رفعة ومكانة‪ ،‬وخ ّلد ذكره في اخلالدين‬
‫الصادقني‪ ،‬ونفع الله بعلمه ومؤلفاته املسلمني‪ ،‬قال البزار‪« :‬لقد قصد أعداؤه‬
‫الفتك به مرار ًا‪ ،‬وأوسعوا حيلهم عليه إعالن ًا وإسرار ًا؛ فجعل الله حفظه منهم‬
‫له شعار ًا ودثار ًا‪ ،‬ولقد ظ ّنوا أن في حبسه مشينة فجعله الله له فضيلة وزينة‪،‬‬
‫وظهر له يوم موته ما لو رآه واده أقر به عينيه‪ ...‬مع ما نشر الله له من علومه‬
‫الصحف‬ ‫في اآلفاق‪ ،‬وبهر بفنونه البصائر واألحداق‪ ،‬ومأل مبحاسن مؤلفاته ّ‬
‫واألوراق كبت ًا ورغم ًا لألعداء»(((‪.‬‬
‫تسببوا في محنة اب��ن تيمية وأذي��ت��ه فقد نسيهم التاريخ‪،‬‬
‫وأم��ا الذين ّ‬
‫وإن ذك��روا فعلى سبيل التعريف وال��ذم والتوبيخ؛ ج��راء فعائلهم الشنيعة‪،‬‬
‫وعقائدهم املنحرفة‪ ،‬وأخالقهم السافلة‪ ،‬وتشجيعهم للظاملني على ظلم العلماء‬
‫الصادقني‪.‬‬
‫وفاته(((‪:‬‬
‫توفي ابن تيمية في‪ 20 ‬من ذي القعدة ‪ ‬سنة‪ 728 ‬هـ مظلوم ًا مضطهد ًا في‬

‫((( «العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.281 :‬‬


‫((( «األعالم العلية»‪ ،‬للبزار‪ ،‬ص‪.82 :‬‬
‫((( «العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.299 :‬‬
‫((( «األعالم العلية»‪ ،‬للبزار‪ ،‬ص‪.77 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.156/14 :‬‬
‫‪143‬‬
‫سجن القلعة دمشق‪ ،‬وقد بلغ من العمر ‪ 67‬سنة‪ ،‬بعدما استمر به مرضه قرابة‬
‫الثالثة أسابيع‪ .‬وكانت آخر آية قرأها ابن تيمة قوله تعالى‪:‬‬
‫{ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ}‬
‫(((‬

‫ثم فاضت روحه إلى بارئها‪.‬‬


‫وما أن وصل اخلبر إلى أهالي‪ ‬دمشق‪ ،‬حتى اجتمع حشد كبير منهم حول‬
‫القلعة‪ ،‬وفتح باب القلعة ملن يدخل من اخلاصة والعامة‪.‬‬
‫وصلى عليه‪ ‬صالة اجلنازة‪ ‬بالقلعة «الشيخ محمد بن مت��ام»‪ ،‬وأخرجت‬
‫اجلنازة بعد الصالة‪ ،‬وامتألت الطرقات بني القلعة واملسجد بالناس‪ ،‬وحضرت‬
‫اجلنازة قبل‪ ‬الظهر‪ ‬للجامع‪ ،‬وصلي عليه عقب صالة الظهر في‪ ‬اجلامع األموي‪،‬‬
‫وقد صلى عليه «الشيخ عالء الدين اخلراط»‪.‬‬
‫وما وصل خبر موته إلى بلد إال وصلي عليه في جميع جوامعه ومجامعه‪،‬‬
‫خصوص ًا أرض مصر والشّ ام والعراق وتبريز والبصرة وقراها وغيرها‪.‬‬
‫ووضعت اجلنازة وهي في طريقها إلى املقبرة بسوق اخليل بسبب كثرة‬
‫وتقدم للصالة عليه أخوه «زين الدين عبدالرحمن»‪،‬‬
‫الناس فصلي عليه هناك‪ّ ،‬‬
‫ثم حملت اجلنازة إلى «مقبرة الصوفية»‪ ،‬ودفن بجانب أخيه «شرف الدين عبد‬
‫الله»‪ ،‬وكان دفنه قبل‪ ‬العصر‪ ‬بقليل بسبب كثرة من يأتي ويصلي عليه‪.‬‬
‫ويقدر عدد من حضر إلى جنازة ابن تيمية من الرجال من بني ستني ألف ًا‬
‫ّ‬
‫إلى مائة ألف‪ ،‬وقدرت أعداد النساء بخمسة عشر ألف امرأة عدا من كن على‬
‫األسطح‪ ،‬قال البزار‪« :‬ولم ير جلنازة أحد ما رئي جلنازته من الوقار والهيبة‬
‫والعظمة واجلاللة وتعظيم ال ّناس لها وتوقيرهم ّإياها وتفخيمهم أمر صاحبها‬
‫وثنائهم عليه»(((‪.‬‬

‫((( سورة القمر‪ ،‬آية‪.55 ،54 :‬‬


‫((( «األعالم العلية»‪ ،‬للبزار‪ ،‬ص‪.84 :‬‬
‫‪144‬‬
‫وقد بكاه العلماء ورثاه الشعراء بقصائد شعرية تدمي القلوب‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫قصيدة لرجل جندي من أهل مصر أرسلها‪ ،‬وذكر أنه عرضها على اإلمام ابن‬
‫حيان النحوي‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫خ���ط���ب دن�����ا ف��ب��ك��ى ل����ه اإلس��ل��ام‬
‫وب����ك����ت ل���ع���ظ���م ب���ك���ائ���ه األي������ام‬
‫ب��ح��ر ال���ع���ل���وم وك���ن���ز ك���ل فضيلة‬
‫ف���ي ال���ده���ر ف���رد ف���ي ال���زم���ان إم���ام‬
‫ورثاه أبو الثناء الدقوقي بقصيدة مطلعها‪:‬‬
‫ق���ف ب���ال���رب���وع ال���ه���ام���دات وع���دد‬
‫وذر ال����دم����وع اجل����ام����دات وب���دد‬
‫ورثاه الذهبي بقصيدة مطلعها‪:‬‬
‫ي���ا م���وت خ���ذ م���ن أردت أو ف��دع‬
‫(((‬
‫محوت من رس��م العلوم وال���ورع‬
‫رحم الله ابن تيمية وجعله مع النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني‪،‬‬
‫وحسن أولئك رفيق ًا‪.‬‬
‫آمني اللهم آمني‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬األعالم العلية»‪ ،‬للبزار‪ ،‬ص‪ 81 :‬وما بعدها‪ ،‬و«العقود الدرية»‪ ،‬البن عبدالهادي‪،‬‬
‫ص‪ ،523 :‬وما بعدها‪ ،‬و«الرد الوافر»‪ ،‬البن ناصر الدين‪ ،‬ص‪.66 :‬‬
‫‪145‬‬
146
‫(‪ )10‬ابن قيم اجلوزية‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫الزرعي األصل‪،‬‬
‫أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز‪ّ ،‬‬
‫ثم الدمشقي‪ ،‬احلنبلي‪ ،‬العالمة الكبير‪ ،‬املجتهد املطلق‪ ،‬املصنف املشهور ‪ ،‬وقد‬
‫(((‬

‫اشتهر بني العلماء املتقدمني واملتأخرين بابن ّقيم اجلوزية‪ ،‬وسبب شهرته بذلك‪:‬‬
‫الزرعي كان ّقيما((( على املدرسة اجلوزية بدمشق مدة‬‫أن أباه أبا بكر بن أيوب ّ‬
‫من الزمن‪ ،‬فقيل له‪« :‬قيم اجلوزية»(((‪.‬‬
‫واشتهرت به ذريته وحفدته من بعده‪ ،‬فصار الواحد يدعى منهم بابن قيم‬
‫سميت هذه املدرسة باجلوزية نسبة إلى واقفها‪« :‬ابن اجلوزي»‬
‫اجلوزية‪ .‬وقد ّ‬
‫عبدالرحمن بن علي بن محمد بن علي ابن اجلوزي البكري(((‪ ،‬وتعتبر هذه‬
‫املدرسة من أعظم مدارس احلنابلة بدمشق الشام‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫ولد ابن قيم اجلوزية في سنة إحدى وتسعني وستمائة للهجرة(((‪ ،‬وحدد‬

‫((( ينظر‪« :‬ش��ذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪ ،287/8 :‬و«ال��واف��ي بالوفيات»‪،‬‬
‫للصفدي‪ ،195 /2 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،270/14 :‬و«البدر الطالع»‪،‬‬
‫للشوكاني‪ ،143/2 :‬و«الدرر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪ ،137/5 :‬و«الرد الوافر»‪ ،‬البن‬
‫ناصر الدين الدمشقي‪ ،‬ص‪ ،68 :‬و«املقصد األرشد»‪ ،‬البن مفلح‪،384/2 :‬‬
‫القيم هو الناظر أو الوصي‪ ،‬وهو ما يشبه املدير في زمننا‪.‬‬
‫((( ّ‬
‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،95/14 :‬و«الدرر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪.472/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء»‪ ،‬للذهبي‪.352/22 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪ ،270/14 :‬و«ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪:‬‬
‫‪ ،171/5‬و«النجوم ال��زاه��رة»‪ ،‬الب��ن تغري ب��ردي‪ ،249/10 :‬و«أع��ي��ان العصر»‪،‬‬
‫للصفدي‪ ،368/4 :‬و«البدر الطالع»‪ ،‬للشوكاني‪ ،143/2 :‬و«شذرات الذهب»‪ ،‬البن‬
‫العماد احلنبلي‪ ،287/8 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪ ،195/2 :‬و«الدرر الكامنة»‪،‬‬
‫‪147‬‬
‫الصفدي اليوم والشهر الذي ولد فيه ابن قيم اجلوزية‪ ،‬فقال‪« :‬مولده سابع‬
‫ّ‬
‫صفر‪ ،‬سنة إحدى وتسعني وستمائة» ‪ ،‬وتابعه على ذلك السيوطي ‪.‬‬
‫(((‬ ‫(((‬

‫وقد نص الزركلي((( على أنه ولد بدمشق‪.‬‬


‫وأما نشأة ابن قيم اجلوزية‪ ،‬فقد نشأ في بيت علم وصالح وتقى‪ ،‬فوالده أبو‬
‫بكر بن أيوب‪ ،‬عالم جليل‪ ،‬ورجل عابد‪ ،‬وقد كان ّقيما على املدرسة اجلوزية‬
‫بدمشق‪ ،‬قال ابن كثير عنه‪« :‬كان رج ً‬
‫ال صاحل ًا متعبد ًا‪ ،‬قليل التك ّلف‪ ،‬وكان‬
‫ال»(((‪ .‬وكان لديه اليد الطولى في علم الفرائض ‪.‬‬
‫(((‬ ‫فاض ً‬
‫وأخوه زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي بكر؛ إمام عالم‪ ،‬تتلمذ‬
‫على يديه كثير من العلماء منهم‪ :‬احلافظ ابن رجب احلنبلي(((‪.‬‬
‫ففي بيئة علمية خالصة نشأ ابن قيم اجلوزية منذ صغره؛ حيث كان يتق ّلب‬
‫في رحاب العلم من دار أسرته‪ ،‬إلى املدرسة اجلوزية‪ ،‬وبجو دمشق الذي كان‬
‫يعج آنذاك بعشرات امل��دارس واجلوامع‪ ،‬وفيها ال��دروس مفتوحة أمام كل‬ ‫ّ‬
‫طالب وسامع‪.‬‬
‫وقد آتاه الله أملعية نادرة‪ ،‬وذكا ًء مفرط ًا‪ ،‬وأريحية كرمية‪ ،‬حتى العلماء الذين‬
‫ترجموا له أطبقوا على أنه كان حسن اخللق‪ ،‬لطيف املعاشرة‪ ،‬طيب السريرة‪،‬‬
‫عالي الهمة‪ ،‬ثابت اجلنان(((‪.‬‬

‫البن حجر‪ ،137/5 :‬و«الرد الوافر»‪ ،‬البن ناصر الدين‪ ،‬ص‪ ،68 :‬و«بغية الوعاة»‪،‬‬
‫للسيوطي‪.62/1 :‬‬
‫((( «الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪.195/2 :‬‬
‫((( «بغية الوعاة»‪ ،‬للسيوطي‪.62/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬األعالم»‪ ،‬للزركلي‪ ،56/6 :‬و«معجم املؤلفني»‪ ،‬لعمر رضا كحالة‪.106/9 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.126/14 :‬‬
‫((( «الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪.195/2 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪.370/8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬ابن قيم اجلوزية»‪ ،‬لبكر بن عبد الله أبو زيد‪ ،‬ص‪.44 :‬‬
‫‪148‬‬
‫وقد عرف عن ابن قيم اجلوزية الرغبة الصادقة اجلامحة في طلب العلم‪،‬‬
‫واجللد وال ّتفاني في البحث منذ نعومة أظفاره؛ فقد سمع من الشّ هاب العابر؛‬
‫عدة أجزاء‪ ،‬ولم يتفق لي قراءة هذا‬
‫«وسمعت عليه ّ‬ ‫ّ‬ ‫كما حكى ذلك بنفسه فقال‪:‬‬
‫الس ّن‪ ،‬واخترام املنية له»(((‪.‬‬
‫العلم عليه؛ لصغر ّ‬
‫بهمة عالية‪ ،‬وحرص فريد‪ ،‬وذكاء‬
‫وقد أقبل على حتصيل العلم منذ صغره ّ‬
‫حاد‪ ،‬فحصل علم ًا جم ًا في شتى العلوم النافعة‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫تشربت قلوب العلماء الصادقني مبحبة ابن قيم اجلوزية‪ ،‬بل لقد كان‬ ‫ّ‬
‫«محبوب ًا عند الناس» عموم ًا‪ ،‬وقد فاحت ألسنة العلماء بالثناء عليه‪ ،‬وسالت‬
‫(((‬

‫أقالمهم بتدوين ذلك في كتبهم‪ ،‬وفي هذه األسطر نقتطف شيئ ًا يسير ًا من أقوال‬
‫العلماء في الثناء عليه‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫قال ابن رجب‪« :‬الفقيه األصولي‪ ،‬املفسر النحوي‪ ،‬العارف»(((‪.‬‬
‫وقال أيض ًا‪« :‬تفقّه في املذهب‪ ،‬وبرع وأفتى‪ ،‬والزم الشيخ تقي الدين‪ ،‬وأخذ‬
‫عنه‪ ،‬وتفنن في علوم اإلسالم‪ ،‬وكان عارف ًا بالتفسير ال يجارى فيه‪ ،‬وبأصول‬
‫الدين‪ ،‬وإليه فيهما املنتهى‪ ،‬واحلديث ومعانيه وفقهه‪ ،‬ودقائق االستنباط منه‪،‬‬
‫ال يلحق في ذلك‪ ،‬وبالفقه وأصوله وبالعربية‪ ،‬وله فيها اليد الطولى‪ ،‬وتع ّلم‬
‫الكالم والنحو‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬وكان عامل ًا بعلم السلوك‪ ،‬وكالم أهل التصوف‪،‬‬
‫وإشاراتهم‪ ،‬ودقائقهم؛ له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولى»(((‪.‬‬
‫وتهجد وطول صالة إلى الغاية القصوى‪ ،‬وتأ ّله‬
‫ّ‬ ‫وقال أيض ًا‪« :‬كان ذا عبادة‬

‫((( ينظر‪« :‬الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪ ،196 -195/2 :‬و«أعيان العصر»‪ ،‬للصفدي‪:‬‬
‫‪.366/4‬‬
‫((( «األعالم»‪ ،‬للزركلي‪.56/6 :‬‬
‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪.171/5 :‬‬
‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪.172 - 171/5 :‬‬
‫‪149‬‬
‫ولهج بالذكر‪ ،‬وشغف باحملبة واإلنابة واالستغفار واالفتقار إلى الله واالنكسار‬
‫له‪ ،‬واإلطراح بني يديه على عتبة عبوديته‪ ،‬لم أشاهد مثله في ذلك‪ ،‬وال رأيت‬
‫أوسع منه علم ًا‪ ،‬وال أعرف مبعاني القرآن ّ‬
‫والس ّنة وحقائق اإلميان منه‪ ،‬وليس هو‬
‫باملعصوم‪ ،‬ولكن لم أر في معناه مثله»(((‪.‬‬
‫وقال الزركلي‪« :‬من أركان اإلصالح اإلسالمي‪ ،‬وأحد كبار العلماء»(((‪.‬‬
‫املفسر‬
‫ّ‬ ‫وق��ال ابن العماد احلنبلي‪« :‬الفقيه احلنبلي‪ ،‬بل املجتهد املطلق‪،‬‬
‫حوي األصولي‪ ،‬املتكلم»(((‪.‬‬
‫ال ّن ّ‬
‫وقال عمر رضا كحالة‪« :‬فقيه‪ ،‬أصولي‪ ،‬مجتهد‪ ،‬مفسر‪ ،‬متكلم‪ ،‬نحوي‪،‬‬
‫محدث‪ ،‬مشارك في غير ذلك»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقال القاضي الزرعي‪« :‬ما حتت أدمي السماء أوسع علم ًا منه»(((‪.‬‬
‫وقال ابن ناصر الدين الدمشقي‪« :‬الشيخ اإلمام العالمة شمس الدين‪ ،‬أحد‬
‫احملققني علم املصنفني‪ ،‬نادرة املفسرين‪ ،‬له التصانيف األنيقة‪ ،‬والتآليف التي‬
‫فيها علوم الشريعة واحلقيقة»(((‪.‬‬
‫وقال اآللوسي‪« :‬النحوي األصولي املتكلم»(((‪.‬‬
‫ميال‪ ،‬قد‬ ‫وقال الصفدي‪« :‬وكان ذا ذهن ّ‬
‫سيال‪ ،‬وفكر إلى حل الغوامض ّ‬
‫أكب على االشتغال‪ ،‬وطلب من العلوم كل ما هو نفيس غال‪ ،‬وناظر وجادل‬
‫ّ‬

‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪.173 -172/5 :‬‬


‫((( «األعالم»‪ ،‬للزركلي‪.56/6 :‬‬
‫((( «شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪.287/8 :‬‬
‫((( «معجم املؤلفني»‪ ،‬لعمر رضا كحالة‪.106/9 :‬‬
‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪ ،174/5 :‬و«ش��ذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد‬
‫احلنبلي‪ ،288/8 :‬و«املقصد األرشد»‪ ،‬البن مفلح‪.385/2 :‬‬
‫((( «الرد الوافر»‪ ،‬البن ناصر الدين‪ ،‬ص‪.68 :‬‬
‫((( «جالء العينني»‪ ،‬لأللوسي‪ ،‬ص‪.44 :‬‬
‫‪150‬‬
‫وجالد اخلصوم وعادل‪ ،‬قد تبحر في العربية وأتقنها‪ ،‬وحرر قواعدها ومكنها‪،‬‬
‫واستطال باألصول‪ ،‬وأرهف منها األسنة والنصول‪ ،‬وقام باحلديث وروى‬
‫منه‪ ،‬وعرف الرجال وكل من أخذ عنه‪ .‬وأما التفسير فكان يستحضر من بحاره‬
‫السيارة كل نير يجلو حنادس الظلمة‪.‬‬
‫الزخارة كل فائدة مهمة‪ ،‬ومن كواكبه ّ‬‫ّ‬
‫وأما اخلالف ومذاهب السلف فذاك عشه الذي منه درج‪ ،‬وغابه الذي ألفه ليثه‬
‫اخلادر ودخل وخرج‪ .‬وكان جريء اجلنان‪ ،‬ثابت اجلأش‪ ،‬ال يقعقع له بالشنان‪،‬‬
‫وله إقدام ومتكن أقدام‪ ،‬وحظه موفور‪ ،‬وقبوله كل ذنب معه مغفور»(((‪.‬‬
‫عدة علوم‪ ،‬ما بني تفسير وفقه‬ ‫وقال ابن تغري بردي‪« :‬وكان بارعا في ّ‬
‫تيمية‬
‫وعربية ونحو وحديث وأصول وفروع‪ ،‬ولزم شيخ اإلسالم تقي الدين بن ّ‬ ‫ّ‬
‫بعد عودته من القاهرة في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة‪ ،‬وأخذ منه علم ًا كثير ًا‪،‬‬
‫وتصدى لإلقراء واإلفتاء سنني‪ ،‬وانتفع به الناس‬
‫ّ‬ ‫ح ّتى صار أحد أفراد زمانه‪،‬‬
‫قاطبة»(((‪.‬‬
‫وقال ابن كثير»‪« :‬كان حسن القراءة واخللق‪ ،‬كثير التودد‪ ،‬ال يحسد أحد ًا‬
‫وال يؤذيه وال يستعيبه‪ ،‬وال يحقد على أحد‪ .‬وكان قليل النظر في مجموعه‬
‫وأموره وأحواله‪ ،‬والغالب عليه اخلير‪ ،‬واألخالق الفاضلة»(((‪.‬‬
‫وقال أيض ًا‪« :‬ال أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه‪ ،‬وكانت له‬
‫طريقة في الصالة يطيلها جد ًا‪ ،‬وميد ركوعها وسجودها»(((‪.‬‬
‫وق��ال السيوطي‪« :‬ص ّنف وناظر واجتهد‪ ،‬وص��ار من األئمة الكبار في‬
‫التفسير واحلديث والفروع واألصلني‪ ،‬والعربية»(((‪.‬‬

‫((( «أعيان العصر»‪ ،‬للصفدي‪.368 - 367/4 :‬‬


‫((( «النجوم الزاهرة»‪ ،‬البن تغري بردي‪.249/10 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.270/14 :‬‬
‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.270/14 :‬‬
‫((( «بغية الوعاة»‪ ،‬للسيوطي‪.63/1 :‬‬
‫‪151‬‬
‫وقال الشوكاني‪« :‬برع في شتى العلوم‪ ،‬وفاق األقران‪ ،‬واشتهر في اآلفاق‪،‬‬
‫وتبحر في معرفة مذاهب السلف»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقال أيض ًا‪« :‬كان متقيد ًا باألدلة الصحيحة‪ ،‬معجبا بالعمل بها‪ ،‬غير معول‬
‫على الرأي‪ ،‬صادع ًا باحلق ال يحابي فيه أحد ًا‪ ،‬ونعمت اجلرأة»(((‪.‬‬
‫والض ّراء‪،‬‬ ‫وقال أيض ًا‪« :‬سرت إليه بركة مالزمته لشيخه ابن تيمية في ّ‬
‫الس ّراء ّ‬
‫والقيام معه في محنه ومؤاساته بنفسه‪ ،‬وطول تردده إليه»(((‪.‬‬
‫وقال أيض ًا‪« :‬أحد من قام بنشر السنة‪ ،‬وجعلها بينه وبني اآلراء احملدثة‬
‫أعظم ج ّنة‪ ،‬فرحمه الله وجزاه عن املسلمني خير ًا»(((‪.‬‬
‫وقال احلجوي‪« :‬عني باحلديث ورجاله‪ ،‬واشتغل بالفقه‪ ،‬ويجيده‪ ،‬والنحو‬
‫والس ّنة‪ ...‬وكان على‬
‫واألصلني‪ ،‬وكان غاية في التفسير واألصول‪ ،‬نشر العلم ّ‬
‫التعبد‪ ،‬والتأ ّله‪ ،‬ولعظيم رتبته في العلوم وصف بأنه املجتهد‬
‫جانب عظيم في ّ‬
‫املطلق‪ ،‬وأنه حلقيق بذلك‪ ،‬وأن تواليفه لشاهد عدل ال يقبل الرضا على فضله‬
‫وعلمه يطول بنا ذكر أسمائها‪ ...‬وذوقه في االستنباط‪ ،‬وفهم القرآن وحل‬
‫املشكالت عجيب مع حفظ راسخ‪ ،‬ومجد شامخ»(((‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫رزق ابن قيم اجلوزية ذهن ًا سيا ً‬
‫ال‪ ،‬وقلم ًا دفاق ًا؛ كما تشير إلى ذلك مؤلفاته‬
‫في شتى العلوم‪ ،‬والتي أثرى بها املكتبة اإلسالمية‪ ،‬قال ابن رجب‪« :‬ص ّنف‬
‫تصانيف كثيرة جد ًا في أنواع العلم»(((‪.‬‬

‫((( «البدر الطالع»‪ ،‬للشوكاني‪.143/2 :‬‬


‫((( «البدر الطالع»‪ ،‬للشوكاني‪.143/2 :‬‬
‫((( «البدر الطالع»‪ ،‬للشوكاني‪.145 - 144/2 :‬‬
‫((( «البدر الطالع»‪ ،‬للشوكاني‪.145 - 144/2 :‬‬
‫((( «الفكر السامي»‪ ،‬للحجوي‪.436/2 :‬‬
‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪.174/5 :‬‬
‫‪152‬‬
‫ومن مؤلفاته نذكر (على وجه االختصار) ما يلي(((‪:‬‬
‫‪ -1‬اجتماع اجليوش اإلسالمية على غزو ّ‬
‫املعطلة واجلهمية‪.‬‬
‫‪ -2‬أحكام أهل الذمة‪.‬‬
‫‪ -3‬إعالم املوقعني عن رب العاملني‪.‬‬
‫‪ -4‬إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان‪.‬‬
‫‪ -5‬بدائع الفوائد‪.‬‬
‫‪ -6‬حتفة املودود في أحكام املولود‪.‬‬
‫‪ -7‬تهذيب مختصر سنن أبي داود‪.‬‬
‫املسمى‪« :‬الداء والدواء»‪.‬‬
‫‪ -8‬اجلواب الكافي‪ّ ،‬‬
‫‪ -9‬جالء األفهام في الصالة والسالم على محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫خير األنام‪.‬‬
‫‪ -10‬حادي األرواح إلى بالد األفراح‪.‬‬
‫‪ -11‬حكم تارك الصالة‪.‬‬
‫‪ -12‬الرسالة التبوكية‪.‬‬
‫‪ -13‬روضة احملبني ونزهة املشتاقني‪.‬‬
‫‪ -14‬الروح‪.‬‬
‫‪ -15‬زاد املعاد في هدي خير العباد‪.‬‬
‫‪ -16‬شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر واحلكمة والتعليل‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬ش��ذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد‪ ،291 - 289/8 :‬و«الوافي بالوفيات»‪،‬‬
‫للصفدي‪ ،196/2 :‬و«ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪ ،176 - 174/5 :‬و«البدر‬
‫الطالع»‪ ،‬للشوكاني‪ ،144/2 :‬و«ال��درر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪ ،139/5 :‬و«بغية‬
‫الوعاة»‪ ،‬للسيوطي‪ ،63/1 :‬و«األعالم»‪ ،‬للزركلي‪ ،56/6 :‬و«معجم املؤلفني»‪ ،‬لعمر‬
‫رضال كحالة‪ ،107/9 :‬و«الرد الوافر»‪ ،‬البن ناصر الدين‪ ،‬ص‪ ،68 :‬و«أعيان العصر»‪،‬‬
‫للصفدي‪.369/4 :‬‬
‫‪153‬‬
‫ّ‬
‫واملعطلة‪.‬‬ ‫‪ -17‬الصواعق املرسلة على اجلهمية‬
‫‪ -18‬طريق الهجرتني وباب السعادتني‪.‬‬
‫‪ -19‬الطرق احلكمية في السياسة الشرعية‪.‬‬
‫‪ -20‬عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين‪.‬‬
‫‪ -21‬الفروسية‪.‬‬
‫‪ -22‬الفوائد‪.‬‬
‫‪ -23‬الكافية الشافية في االنتصار للفرقة الناجية «القصيدة النونية»‪.‬‬
‫‪ -24‬الكالم على مسألة السماع‪.‬‬
‫‪ -25‬مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني‪.‬‬
‫‪ -26‬مفتاح دار السعادة ومنشور والية أهل العلم واإلرادة‪.‬‬
‫‪ -27‬املنار املنيف في الصحيح والضعيف‪.‬‬
‫‪ -28‬هداية احليارى في أجوبة اليهود والنصارى‪.‬‬
‫‪ -29‬الوابل الصيب في الكلم الطيب‪.‬‬
‫وغير ذلك من مؤلفاته البديعة‪.‬‬
‫وقد أعجبت جميع الطوائف مبؤلفاته‪ ،‬قال ابن حجر‪« :‬وكل تصانيفه‬
‫مرغوب فيها بني الطوائف»(((‪.‬‬
‫وتسابق العلماء وطالب العلم القتناء مؤلفاته‪ ،‬وتدريسها‪ ،‬وشرحها‪،‬‬
‫ومطالعتها‪ ،‬واالستشهاد مبا تضمنته من علوم ومعارف‪.‬‬
‫وأغلب مؤلفاته مطبوعة (ولله احلمد) متداولة بني الناس‪.‬‬
‫محنته‪:‬‬
‫عاش ابن قيم اجلوزية في عصر زاخر بالعلوم واملعارف‪ ،‬مليء باخلالف‬

‫((( «الدرر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪.139/5 :‬‬


‫‪154‬‬
‫العقدي‪ ،‬واالختالف املذهبي‪ ،‬والتعصب املقيت‪ ،‬ولكنه حترر من ذلك الواقع‬
‫املرير منذ أن أخذ عن شيخه ابن تيمية‪ :‬راية النصرة للكتاب والسنة(((‪ ،‬فقام‬
‫هياب وال وج��ل‪ ،‬قال الشوكاني‪« :‬ك��ان متقيد ًا باألدلة‬
‫بالصدع باحلق غير ّ‬
‫صادع باحلق‪ ،‬ال يحابي فيه‬
‫ً‬ ‫الصحيحة معجب ًا بالعمل بها غير ّ‬
‫معول على الرأي‬
‫أحد ًا‪ ،‬ونعمت اجلرأة»(((‪.‬‬
‫وقد ذكر علماء السير والتراجم الذين ترجموا له ثالث فتاوى امتحن‬
‫بسببها‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫األولى‪ :‬املسابقة بغير مح ّلل‪:‬‬
‫حيث أفتى بجواز إجراء السباق بني اخليل بغير مح ّلل‪ ،‬وقد بينّ هذه املسألة‬
‫في كثير من مؤلفاته‪ ،‬بل أ ّلف في هذه املسألة رسائل‪ ،‬ومنها‪« :‬بيان الدليل على‬
‫استغناء املسابقة عن التحليل»‪ ،‬أو «بيان االستدالل على بطالن محلل السباق‬
‫والنضال»‪ ،‬ورسالة‪« :‬الفروسية»(((‪.‬‬
‫وقد أشار ابن حجر إلى محنته هذه بقوله‪« :‬وجرت له محن مع القضاة؛‬
‫منها‪ :‬في ربيع األول (يعني سنة ‪746‬ه��ـ) طلبه السبكي بسبب فتواه بجواز‬
‫املسابقة بغير مح ّلل»(((‪.‬‬
‫وقد حكى ابن حجر أنه رجع عن هذه الفتوى(((‪ ،‬ولكن القول برجوعه‬
‫عن هذه الفتوى محل نظر‪ ،‬بل الثابت عنه عدم رجوعه عنها كما تدل على ذلك‬
‫مؤلفاته التي تطرق فيها لهذه املسألة‪ ،‬ومنها كتاب‪« :‬الفروسية»‪.‬‬

‫((( «البدر الطالع»‪ ،‬للشوكاني‪.145/2 :‬‬


‫((( «البدر الطالع»‪ ،‬للشوكاني‪.144 -143/2 :‬‬
‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪ ،175/5 :‬و«ش��ذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد‬
‫احلنبلي‪ ،289/8 :‬و«الوافي بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪.196/2 :‬‬
‫((( «الدرر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪.140/5 :‬‬
‫((( «الدرر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪.140/5 :‬‬
‫‪155‬‬
‫الثانية‪ :‬طالق الثالث بلفظ واحد‪:‬‬
‫أفتى ابن قيم اجلوزية (تبع ًا لشيخه ابن تيمية)‪ :‬أن طالق الثالث بلفظ‬
‫واحد يعد طلقة واحدة؛ خالف ًا لعامة العلماء الذي يعتبرون طالق الثالث بلفظ‬
‫واحد ثالث ًا ال واحدة‪ ،‬قال ابن كثير‪« :‬كان متصدي ًا لإلفتاء مبسألة الطالق التي‬
‫ٌ‬
‫فصول يطول بسطها مع‬ ‫اختارها الشيخ تقي الدين ابن تيمية‪ ،‬وجرت بسببها‬
‫قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره»(((‪.‬‬
‫وقد حكى ابن كثير أنه حصل صلح بني قاضي القضاة تقي الدين السبكي‬
‫وبني الشيخ شمس الدين ابن قيم اجلوزية‪ ،‬على يدي األمير سيف الدين بن‬
‫فضل ملك العرب‪ ،‬في بستان قاضي القضاة‪ ،‬وكان قد نقم عليه إكثاره من الفتيا‬
‫مبسألة الطالق(((‪.‬‬
‫ولم يبني ابن حجر وال غيره من العلماء املتقدمني الذين ترجموا البن قيم‬
‫تعرض لها بسبب هذه الفتوى‪،‬‬ ‫اجلوزية (حسب اطالعنا) ماهية احملنة التي ّ‬
‫تعرض بسبب هذه الفتاوى‬ ‫وكذلك فتوى‪« :‬املسابقة بغير مح ّلل»‪ ،‬والظاهر أنه ّ‬
‫لالستجواب من قبل القضاة‪ ،‬وأيض ًا جرت بينه وبني القضاة والعلماء آنذاك‬
‫حوارات ومناظرات بسبب هذه الفتاوى‪ ،‬ولكنه لم يضرب ويحبس بسببهما‪،‬‬
‫والله أعلم‪.‬‬
‫تعرض بسببها إلى‬
‫بخالف فتواه بتحرمي شد الرحال إلى قبر اخلليل‪ ،‬فإنه ّ‬
‫الضرب والسجن االنفرادي كما سيأتي بيان ذلك‪.‬‬
‫الرحال إلى قبر اخلليل عليه السالم‪:‬‬
‫شد ّ‬‫الثالثة‪ّ :‬‬
‫يشدون الرحال إلى قبر إبراهيم اخلليل ‪-‬عليه السالم‪-‬‬ ‫كان الناس وقتئذ ّ‬
‫فتصدى ابن قيم اجلوزية لهذه البدعة؛ مبين ًا أنها من البدع املنكرة‬
‫ّ‬ ‫بفلسطني‪،‬‬
‫في الدين‪ ،‬املخالفة للصراط املستقيم‪ ،‬فما كان من أهل الزيغ واالنحراف‬

‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.270/14 :‬‬


‫((( «البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.267/14 :‬‬
‫‪156‬‬
‫والبدع والباطل إال أن وشوا به إلى احلكام والقضاة في ذلك العصر‪ ،‬حيث‬
‫مت استدعاؤه من قبلهم‪ ،‬ثم ضربوه بسبب هذه الفتوى؛ كما حكى ذلك املؤرخ‬
‫محمد بن أبي بكر بن قيم اجلوزية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الدين‬
‫املقريزي بقوله‪« :‬وضرب شمس ّ‬
‫وشهر على حمار بدمشق‪ .‬وسبب ذلك‪ :‬أن ابن قيم اجلوزية تكلم بالقدس‬
‫مجرد القصد للقبر الشريف دون‬
‫في مسألة الشّ فاعة والتوسل باألنبياء‪ ،‬وأنكر ّ‬
‫الزيارة‪ ،‬وكتبوا فيه إلى قاضي جالل‬
‫بوي‪ ،‬فأنكر املقادسة مسألة ّ‬
‫قصد املسجد ال ّن ّ‬
‫فلما وصلت كتب املقادسة‬‫محمد القزويني وغيره من قضاة دمشق‪ّ ...‬‬ ‫الدين ّ‬‫ّ‬
‫السلطان فعرف شمس‬ ‫في ابن القيم كتبوا في ابن تيمية وصاحبه ابن القيم إلى ّ‬
‫احلنفية بديار مصر ذلك؛ فشنع على ابن تيمية‬
‫ّ‬ ‫الدين احلريري قاضي القضاة‬ ‫ّ‬
‫تشنيع ًا فاحش ًا؛ ح ّتى كتب بحبسه‪ ،‬وضرب ابن القيم» ‪.‬‬
‫(((‬

‫ولم يكتف احلكام والقضاة آنذاك بضربه‪ ،‬بل أودعوه السجن مدة من الزمن‬
‫بسبب ذلك‪ ،‬قال الذهبي‪« :‬حبس مدة إلنكاره شد الرحال إلى قبر اخلليل»(((‪.‬‬
‫وهذه هي الفترة التي حبس فيها ابن قيم اجلوزية (مع شيخه ابن تيمية)‬
‫في سجن القلعة؛ كما بينّ ذلك ابن عبد الهادي بقوله‪« :‬أمر القاضي الشافعي‬
‫بحبس جماعة من أصحاب الشيخ بسجن احلكم‪ ،‬وذلك مبرسوم النائب‪ ،‬وإذنه‬
‫له في فعل‪ ...‬وأوذي جماعة من أصحابه‪ ،‬واختفى آخرون‪ ،‬وعزر جماعة‪،‬‬
‫ونودي عليهم ثم أطلقوا؛ سوى اإلمام شمس الدين محمد ابن أبي بكر إمام‬
‫اجلوزية؛ فإنه حبس بالقلعة‪ ،‬وسكنت القضية»(((‪.‬‬
‫وهذه احلادثة ّ‬
‫تدل على مدى أهمية ابن قيم اجلوزية‪ ،‬وعظم تأثيره‪ ،‬وأيض ًا‬

‫((( «السلوك ملعرفة دول امللوك»‪ ،‬للمقريزي‪ ،89/3 :‬وينظر‪« :‬الدرر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪:‬‬
‫‪.138/5‬‬
‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪ ،172/5 :‬و«املعجم املختص باحملدثني»‪ ،‬للذهبي‪،‬‬
‫ص‪ ،269 :‬و«شذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪.287/8 :‬‬
‫((( «العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪ ،346 :‬و«البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪:‬‬
‫‪ ،142/14‬و«تاريخ ابن الوردي»‪.270/2 :‬‬
‫‪157‬‬
‫تدل على مدى حقد أهل الباطل عليه وعلى شيخه؛ حيث مت إطالق جميع‬
‫السجناء من السجن‪ ،‬وإبقاء ابن قيم اجلوزية في السجن منفرد ًا(((‪.‬‬
‫وقد ظل ابن قيم اجلوزية محبوس ًا في سجن القلعة منفرد ًا عن شيخه‬
‫ابن تيمية‪ ،‬ولم يفرج عنه إال بعد وفاة شيخه ابن تيمية((( بشهر؛ ذلك أن ابن‬
‫تيمية توفي في محبسه بالقلعة في ليلة االثنني لعشرين مضت من ذي القعدة‪،‬‬
‫سنة ثمان وعشرين وسبعمائة(((‪ ،‬وأفرج عن ابن قيم اجلوزية في يوم الثالثاء‬
‫لعشرين مضت من ذي احلجة(((‪.‬‬
‫حرف أهل الباطل فتوى ابن قيم اجلوزية (وشيخه) في شد الرحال‬ ‫وقد ّ‬
‫لقبر اخلليل‪ ،‬وسعوا في تأليب احلكام والقضاة عليه (كما سبق أن ّبينا)‪ ،‬بل‬
‫وحاولوا إثارة الرأي العام ضده‪ ،‬وافتروا عليه زور ًا وبهتان ًا وظلم ًا وعدوان ًا‪ :‬أنه‬
‫يحرم زيارة القبور مطلق ًا! وحاشاه من ذلك‪ ،‬بل لقد كان ابن قيم اجلوزية‪« :‬ال‬ ‫ّ‬
‫مينع الزيارة اخلالية عن شد الرحل‪ ،‬بل يستحبها ويندب إليها‪ ،‬وكتبه ومناسكه‬
‫تشهد بذلك»(((‪.‬‬
‫وقد واجه ابن قيم اجلوزية (مع شيخه ابن تيمية) هذه احملنة بشجاعة منقطعة‬
‫النظير‪ ،‬ورباطة جأش فريدة‪ ،‬وطمأنينة عجيبة‪ ،‬كما حكى ذلك ابن قيم اجلوزية‬
‫حاله وحال شيخه أثناء حبسهما في سجن القلعة‪ ،‬فيقول‪« :‬قال لي مرة‪ :‬ما يصنع‬
‫أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري‪ ،‬إن رحت فهي معي ال تفارقني‪،‬‬
‫إن حبسي خلوة‪ ،‬وقتلي شهادة‪ ،‬وإخراجي من بلدي سياحة»‪ .‬وكان يقول في‬
‫محبسه في القلعة‪« :‬لو بذلت ملء هذه القاعة ذهب ًا ما عدل عندي شكر هذه‬
‫النعمة‪ ،‬أو قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من اخلير»‪ ،‬ونحو هذا‪.‬‬

‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪.173/5 :‬‬


‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪.173/5 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬العقود الدرية»‪ ،‬البن عبد الهادي‪ ،‬ص‪.385 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬البداية والنهاية»‪ ،‬البن كثير‪.161/14 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬غاية األماني»‪ ،‬ألبي الثناء اآللوسي‪.251/2 :‬‬
‫‪158‬‬
‫وكان يقول في سجوده وهو محبوس‪« :‬اللهم أعني على ذكرك وشكرك‬
‫وحسن عبادتك» ما شاء الله ( يردد ذلك كثير ًا)‪.‬‬
‫وقال لي مرة‪ :‬احملبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى‪ ،‬واملأسور من أسره‬
‫هواه‪ .‬وملا دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫{ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ}(((‪.‬‬
‫وعلم الله (يقول ابن قيم اجلوزية) ما رأيت أحد ًا أطيب عيش ًا منه قط‪ ،‬مع‬
‫ما كان فيه من ضيق العيش وخالف الرفاهية والنعيم‪ ،‬بل ضدها‪ ،‬ومع ما كان فيه‬
‫من احلبس والتهديد واإلرهاق‪ ،‬وهو مع ذلك من أطيب الناس عيش ًا‪ ،‬وأشرحهم‬
‫وأسرهم نفس ًا‪ ،‬تلوح نضرة النعيم على وجهه»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫صدر ًا‪ ،‬وأقواهم قلب ًا‪،‬‬
‫بل كان ابن قيم اجلوزية مدة سجنه (كما قال ابن رجب) «مشتغ ً‬
‫ال بتالوة‬
‫القرآن بالتدبر والتفكر‪ ،‬ففتح عليه من ذلك خير كثير»(((‪.‬‬
‫فانقلبت محنته إلى منحة‪ ،‬رحمه الله وطيب ثراه‪.‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫توفي ابن قيم اجلوزية ليلة اخلميس في الثالث عشر من رجب سنة ‪751‬هـ‪،‬‬
‫وقت أذان العشاء‪ .‬وصلي عليه من الغد بعد صالة الظهر باجلامع األموي‪ ،‬ثم‬
‫بجامع اجلراح‪ .‬وقد كانت جنازته حافلة شهدها القضاة واألعيان والصاحلون‪،‬‬
‫وتزاحم الناس على حمل نعشه‪ .‬ودفن مبقبرة الباب الصغير بدمشق عند والدته‪.‬‬
‫وقد رؤي ابن قيم اجلوزية بعد مبوته وهو في حالة حسنة(((‪.‬‬

‫((( سورة احلديد‪ ،‬آية‪.13 :‬‬


‫((( «الوابل الصيب»‪ ،‬البن قيم اجلوزية‪ ،‬ص‪48 :‬‬
‫((( «ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪173/5 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬ذيل طبقات احلنابلة»‪ ،‬البن رجب‪ ،176/5 :‬و«النجوم الزاهرة»‪ ،‬البن تغري‬
‫ب��ردي‪ ،249/10 :‬و«العبر في خبر من غبر»‪ ،‬للذهبي‪ ،155/4 :‬و«البدر الطالع»‪،‬‬
‫للشوكاني‪ ،145/2 :‬و«ش��ذرات الذهب»‪ ،‬البن العماد احلنبلي‪ ،291/8 :‬و«الوافي‬
‫‪159‬‬
160
‫(‪ )11‬النور�سي‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫سعيد النورسي‪ ،‬ابن املال ميرزا‪.‬‬
‫ويلقب بـ«بديع الزمان»‪ ،‬و«سعيدي مشهور»(((‪.‬‬
‫وأما نسب «النورسي» فيعود نسبه إلى قرية‪« :‬نورس» القريبة من بحيرة‬
‫«وان» في مقاطعة «هزان» بإقليم «بتلس» شرقي األناضول(تركيا)(((‪.‬‬
‫وسبب تلقيبه بـ«بديع الزمان»‪ ،‬و«سعيدي مشهور» لنجابته وذكائه؛ فقد‬
‫تعمق في دراسة العلوم الكونية حتى وصل في‬
‫قيل‪ :‬إنه من فرط ذكائه وجنابته ّ‬
‫دراسته لها إلى درجة التأليف وهو في سن مبكرة من حياته؛ فلقبه أساتذته‬
‫بذلك(((‪.‬‬

‫بالوفيات»‪ ،‬للصفدي‪ ،197/2 :‬و«ال��درر الكامنة»‪ ،‬البن حجر‪ ،140/5 :‬و«املقصد‬


‫األرشد»‪ ،‬البن مفلح‪ ،385/2 :‬و«بغية الوعاة»‪ ،‬للسيوطي‪ ،63/1 :‬و«البداية والنهاية»‪،‬‬
‫البن كثير‪ ،270/14 :‬و«أعيان العصر»‪ ،‬للصفدي‪.368/4 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬بديع الزمان النورسي» لعبد الله الطنطاوي‪ ،‬مجلة املنار‪ ،‬العدد‪ ،63 :‬شوال‬
‫‪1423‬ه��ـ‪ ،‬و«املوسوعة امليسرة في األدي��ان واملذاهب واألح��زاب املعاصرة»‪/1 :‬‬
‫‪ ،324‬و«بديع الزمان سعيد النورسي‪ ،‬نظرة عامة عن حياته وآثاره»‪ ،‬إلحسان قاسم‬
‫الصاحلي‪.‬‬
‫((( ينظر‪« :‬املوسوعة امليسرة في األديان واملذاهب واألحزاب املعاصرة»‪ ،324 /1 :‬و«سيرة‬
‫ذاتية مختصرة لبديع الزمان سعيد النورسي»‪ ،‬إلحسان قاسم الصاحلي‪ ،‬ص‪.8 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬بديع الزمان النورسي»‪ ،‬لعبد الله الطنطاوي‪ ،‬مجلة املنار‪ ،‬العدد‪،63 :‬‬
‫شوال ‪1423‬هـ‪ ،‬و«املوسوعة امليسرة في األديان واملذاهب واألحزاب املعاصرة»‪:‬‬
‫‪ ،324 /1‬و«سيرة ذاتية مختصرة لبديع الزمان سعيد النورسي»‪ ،‬إلحسان قاسم‬
‫الصاحلي‪ ،‬ص‪.8 :‬‬
‫‪161‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫ولد «النورسي» عام (‪1293‬هـ املوافق ‪1873‬م)(((‪.‬‬
‫وأما نشأة «النورسي»‪ ،‬فقد نشأ في قرية‪« :‬نورس» في بيئة كردية يغلب‬
‫عليها اجلهل والفقر؛ كما هو حال كثير من بالد املسلمني في ذلك الوقت‪،‬‬
‫إال أن «النورسي» نشأ منذ صغره في أسرة صاحلة‪ ،‬فقد كان أبواه يضرب‬
‫بهما املثل في التقوى والورع والصالح؛ فوالده كان مضرب املثل في الورع‪،‬‬
‫ووالدته «نورية» كانت فاضلة‪ ،‬حتى قيل‪ :‬إنها لم تكن ترضع أطفالها إال‬
‫على وضوء(((‪.‬‬
‫سن ّ‬
‫مبكرة‪ ،‬فتر ّدد إلى عدد‬ ‫وقد أقبل النورسي على طلب العلم في ّ‬
‫من حلقات العلم املنتشرة في املناطق واملدن املجاورة‪ ،‬وحضر مجالس أبرز‬
‫همته في طلب العلم‬‫وعلو ّ‬
‫ّ‬ ‫جده‬
‫شيوخها‪ ،‬ففاق بنجابته ونبوغه أقرانه‪ ،‬وكان من ّ‬
‫وحصل من العلم في ثالثة أشهر ما‬
‫ّ‬ ‫أن حفظ تسعني كتاب ًا من أمهات الكتب‪،‬‬
‫يحصله غيره في بضع عشرة سنة‪ ،‬فكان لفرط ذكائه وقوة حافظته وبراعته في‬ ‫ّ‬
‫املناظرة مثار إعجاب شيوخه وأساتذته‪ ،‬وكان ذلك مدعا ًة الشتهاره وهو في‬
‫سن مبكرة من عمره‪ ،‬حتى قيل‪ :‬إنه حفظ كتاب «جمع اجلوامع» في أصول‬
‫الفقه في خالل أسبوع واحد‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬املكتوبات»‪ ،21 :‬و«سيرة ذاتية مختصرة لبديع الزمان سعيد النورسي»‪ ،‬إلحسان‬
‫قاسم الصاحلي‪ ،‬ص‪ ،8 :‬و«رسائل النور في السجن والقيم التربوية واجلمالية دراسة في‬
‫حتليل اخلطاب»‪ ،‬النور للدراسات احلضارية والفكرية‪ ،‬السنة التاسعة‪ ،‬يناير‪،2018 ،‬‬
‫العدد‪ ،17 :‬ص‪.11 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيرة ذاتية مختصرة»‪ ،‬إلحسان قاسم الصاحلي‪ ،‬ص‪ ،8 :‬و«رسائل النور في‬
‫السجن والقيم التربوية واجلمالية دراسة في حتليل اخلطاب»‪ ،‬النور للدراسات احلضارية‬
‫والفكرية‪ ،‬السنة التاسعة‪ ،‬يناير‪ ،2018 ،‬العدد‪ ،17 :‬ص‪ ،11 :‬و«إخالص اإلمام بديع‬
‫الزمان النورسي ودعوة القرآن»‪ ،‬لعابد توفيق الهاشمي‪.‬‬
‫‪162‬‬
‫وشرع باستظهار القرآن الكرمي‪ ،‬فكان يحفظ في اليوم مقدار جزأين منه‪،‬‬
‫حتى إذا بلغ أكثره توقف عن حفظه وانصرف إلى درس معانيه‪ ،‬لئال ّ‬
‫تخل سرعة‬
‫احلفظ باحترام القرآن‪ ،‬وألن احلاجة إلى معرفة حقائقه أولى وأهم‪.‬‬
‫وقد عرف «النورسي» (وهو في سن الثامنة عشر) بالرماية‪ ،‬واملصارعة‪،‬‬
‫وركوب اخليل‪ ،‬والزهد والتقشف»(((‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫أثنى على «النورسي» كثير من العلماء واألدباء والكتاب‪ ،‬ومن أقوالهم في‬
‫ذلك نذكر ما يلي‪:‬‬

‫قال أبو احلسن الندوي‪« :‬كان مرهف احلس وذكي ًا فطن ًا‪ّ ،‬‬
‫فتفرس اخلطر‬
‫احمل��دق ببالده‪ ،‬وس��اءه ذلك الوضع السائد فيها من فشو اجلهل والبطالة‪،‬‬
‫ووجود األمية في األوساط الشعبية‪ ،‬وخمود تلك الشعلة اإلميانية‪ ،‬والغيرة‬
‫فشمر عن ساق‬ ‫الدينية التي كانت متأججة في الشعب التركية من ذي قبل‪ّ ،‬‬
‫اجلد حملو األمية‪ ،‬ونشر العلوم الدينية‪ ،‬فعكف على دراسة القرآن دراسة عميقة‬
‫ككتاب خالد‪ ...‬كما كانت له اليد الطولى في العلوم اجلديدة من التاريخ‬
‫والفلسفة والرياضيات والفلكيات وغيرها؛ حتى أصبح جامع ًا بني العلوم‪،‬‬
‫بني العلوم القدمية واجلديدة‪ ،‬يشار إليه بالبنان‪ ،‬ويج ّله كبار العلماء في عصره‪،‬‬
‫وكان متصدي ًا للدرس واإلفادة»(((‪.‬‬
‫وقال عابد توفيق الهاشمي‪« :‬ذكاء وقاد‪ ،‬وعلم نادر‪ ،‬وخطيب مصقع‪،‬‬

‫((( ينظر‪« :‬بديع الزمان سعيد النورسي‪ ،‬نظرة عامة عن حياته وآث��اره»‪ ،‬إلحسان قاسم‬
‫الصاحلي‪ ،‬و«بديع الزمان النورسي»‪ ،‬لعبد الله الطنطاوي‪ ،‬مجلة املنار‪ ،‬العدد‪،63 :‬‬
‫شوال ‪1423‬هـ‪ ،‬و«املوسوعة امليسرة في األديان واملذاهب واألحزاب املعاصرة»‪/1 :‬‬
‫‪.324‬‬
‫((( النور للدراسات احلضارية والفكرية‪ ،‬السنة الثانية يناير‪ ،‬العدد الثالث‪ ،‬ص‪،8 :‬‬
‫«النورسي ودعوته»‪ ،‬ألبي احلسن الندوي‪.‬‬
‫‪163‬‬
‫ومفسر للقرآن‪ ،‬ومؤ ّلف جليل‪ ،‬ومجاهد شجاع‪ ،‬وداعية على كل أحواله‪،‬‬
‫ّ‬
‫وسياسي مح ّنك»(((‪.‬‬
‫وقال عبد احلليم عويس‪« :‬إن النورسي ّأكد على ضرورة االلتزام بالرؤيا‬
‫اإلسالمية لإلنسان؛ ألنها متوازنة بال إف��راط وال تفريط‪ ،‬بينما أن املذاهب‬
‫اجلماعية والفردية وعبادة العقل واحلرية قادت الغرب إلى الدمار»(((‪.‬‬
‫وق��ال عظمت الله ال��ن��دوي‪« :‬أجنبت (أي األم��ة اإلسالمية) مجددين‬
‫ومصلحني بذلوا قصارى جهودهم ونذروا نفوسهم ونفائسهم في سبيل إعالء‬
‫كلمة الله وإرشاد البشرية على املستوى اإلقليمي والعاملي‪ ،‬ومن أبرز هؤالء‬
‫املجددين واملصلحني‪ :‬الداعية الشيخ سعيد النورسي امللقب بـ «بديع الزمان‪»:‬؛‬
‫ألنه كان من بدائع الزمن ونوادره من حيث توفير استجابة إسالمية للتحديات‬
‫الغربية وإيجاد الصحوة اإلسالمية في املجتمع اإلسالمي على أساس الكتاب‬
‫وقيض الله هذا الداعية في تركيا حينما كانت تئن هذه‬ ‫والس ّنة النبوية‪ّ .‬‬
‫اإللهي ّ‬
‫البالد حتت براثن العلمانية الظاملة واحلضارة الغربية اجلالبة لألضرار اجتماعي ًا‬
‫وثقافي ًا واقتصادي ًا‪ ،‬وكانت الظروف واألوضاع القاسية تدفع تركيا إلى التخ ّلي‬
‫عن نور اإلسالم وضياء القرآن باسم احلضارة الغربية باعتبارها حاجة الوقت‬
‫ونداء الزمان»(((‪.‬‬
‫وقال عبد الله الطنطاوي‪« :‬الشيخ املجاهد العالم العامل بديع الزمان‬
‫النورسي»(((‪.‬‬
‫وقال أيض ًا‪« :‬كان النورسي أمة في رجل‪ ،‬وربى تالميذه بالقدوة‪ ،‬وحياته‬

‫((( من مقال له منشور على شبكة اإلنترنت‪.‬‬


‫((( من مقال له منشور على شبكة اإلنترنت‬
‫((( من مقال له بعنوان‪« :‬الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي والصحوة اإلسالمية في‬
‫تركيا»‪.‬‬
‫((( مجلة املنار‪ ،‬العدد‪ ،63 :‬شوال ‪1423‬هـ‪.‬‬
‫‪164‬‬
‫كانت أكبر كرامة؛ إنه رجل عصر املصائب والباليا واملهالك ‪ -‬كما قال عن‬
‫هيأ األدوي��ة الناجعة للجروح اإلنسانية األبدية‪،‬‬
‫نفسه ‪ -‬وهو عصرنا‪ ،‬وقد ّ‬
‫وقدمها إليها خالل رسائله وكتبه التي هي من نور القرآن العظيم‪ ،‬تدعو إلى‬
‫تطهير النفس‪ ،‬وصقل الروح‪ ،‬وغرس اإلميان واإلخالص في النفوس»(((‪.‬‬
‫«يتقدم «النورسي» في هدوء ذكي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وقال الدكتور محسن عبد احلميد‪:‬‬
‫ليأخذ بيد طالب احلقيقة في جولة رائعة‪ ،‬شاسعة هائلة‪ ،‬كي يفتح له فيها مغاليق‬
‫األخاذ ومظاهرها البديعة‪،‬‬ ‫عقله وقلبه‪ ،‬ويوقفه أمام لوحة الوجود‪ ،‬وجمالها ّ‬
‫بادئ ًا رحلته الكونية من عجائب اآلف��اق العلوية الى مدهشات الكائنات‬
‫السفلية‪ ،‬سابر ًا غورها‪ ،‬واصف ًا اتساقها وتوازنها‪ ،‬ولوحاتها الفنية الرائعة‪ ،‬التي‬
‫(((‬
‫تأخذ باأللباب وتضرب على أوتار القلوب»‬
‫وقال إحسان قاسم الصاحلي‪« :‬بديع الزمان سعيد النورسي أحد العظماء‬
‫الذين ألقى الله تعالى على كاهله مسؤولية النهوض بتجديد احلياة في اإلميان‬
‫التصدي لهذا التيار اجلارف املكتسح الذي كاد‬
‫ّ‬ ‫الراكد في القلوب‪ ،‬وبعبء‬
‫يسلخ الشعب التركي املسلم عن تاريخه ودينه وإسالمه»(((‪.‬‬
‫وقال د‪ .‬محمد أمني اإلسماعيلي(أستاذ العقيدة وتاريخ األدي��ان بكلية‬
‫اآلداب والعلوم اإلنسانية – بالرباط)‪« :‬لقد فتح النورسي عينيه على أحداث‬
‫وتلمس أمة كبيرة لها هويتها اإلسالمية وأصالتها الدينية‪ ،‬فخورة‬
‫تركيا اجلسام‪ّ ،‬‬
‫بوجودها اإلمياني‪ ،‬تزهو به وتفتخر؛ ألنها وصلت باإلسالم إلى قمة احلياة‬
‫واملجد‪ ،‬وسادت على األمم؛ بفضل عقيدتها‪ ،‬وأصالتها‪ ،‬ثم أصابها املرض‬
‫الذي يصيب احلضارات الكبرى»(((‪.‬‬

‫((( مجلة املنار‪ ،‬العدد‪ ،63 :‬شوال ‪1423‬هـ‪.‬‬


‫((( موقع سعيد النورسي على شبكة اإلنترنت‪.‬‬
‫((( موقع سعيد النورسي على شبكة اإلنترنت‪.‬‬
‫((( موقع سعيد النورسي على شبكة اإلنترنت‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫وقال‪ :‬الدكتور سعيد الغزاوي (كلية اآلداب ابن مسيك ‪ -‬الدار البيضاء‪-‬‬
‫املغرب)‪« :‬كنا دائم ًا نشير إلى عبقرية النورسي وإبداعه الذي جعل معاصريه‬
‫يلقبونه بديع ًا‪ ،‬وكنا نشير إلى معادلة يود أن يحقق من خاللها منهجه الصوفي‬
‫الذي ينكر أي انتساب لطريقة إال طريق القرآن واإلميان‪ ،‬ثم يثبت بحياته وفكره‬
‫(((‬
‫ومنهج تعامله مع طالبه معالم طريقة صوفية متميزة»‬
‫ال عن أن يكون‬ ‫عمار جيدل‪« :‬ليس عاملا عادي ًا فض ً‬ ‫وقال األستاذ الدكتور ّ‬
‫ال عادي ًا‪ ،‬والتعامل مع أمثال هذا العالم الفذ يقتضي حضور ًا قلبي ًا وعقلي ًا في‬ ‫رج ً‬
‫يضيع احلقيقة املفردة (غير قابلة‬ ‫تواكب وتناغم‪ ،‬إذ التعامل معه بأحد املنطقني ّ‬
‫ويضيع اخلطوط الرئيسة في‬ ‫ّ‬ ‫املكونة لرسائله املعروفة برسائل النور‬‫ّ‬ ‫للتجزئة)‬
‫فهم شخصيته‪ .‬إنّنا أمام شخصية متكاملة تقطر إخالص ًا وت ّتقد ذكاء ودقة حتليل‬
‫وتنبجس أفكار ًا في حيوية الفتة لالنتباه‪ ،‬إنّنا أمام علم يعتصر قلبه أمل ًا ملا آل إليه‬
‫تلمس مسلك إخراجها من أزمتها‪ ،‬أزمة اختصرها‬ ‫أمر ّأمتنا‪ ،‬ويتدفّق حيوية في ّ‬
‫‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في اخلطر الذي يتهدد اإلميان في العصر الراهن» ‪.‬‬
‫(((‬

‫وقال حسني عاشور‪« :‬إن الشيخ بديع الزمان سعيد النورسى ‪ -‬ذلك املصلح‬
‫الكبير‪ -‬من أكثر الناس حرص ًا على التح ّلي مبا أمكن من تلك الشمائل»(((‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫خ ّلف النورسي مؤلفات وكتب ًا ورسائل عديدة؛ منها‪:‬‬
‫‪ -1‬رسائل النور‪ ،‬وعددها «‪ »130‬رسالة‪ ،‬وقد جمعت حتت عنوان‪:‬‬
‫«كليات رسائل النور»‪ ،‬وهي تضم أربع مجموعات أساسية‪ ،‬هي‪« :‬الكلمات‪،‬‬
‫املكتوبات‪ ،‬اللمعات‪ ،‬الشعاعات‪.»...،‬‬
‫‪ -2‬اخلطوات الست‪.‬‬

‫((( موقع سعيد النورسي على شبكة اإلنترنت‪.‬‬


‫((( موقع سعيد النورسي على شبكة اإلنترنت‪.‬‬
‫((( موقع سعيد النورسي على شبكة اإلنترنت‪.‬‬
‫‪166‬‬
‫‪ -3‬املثنوي العربي النوري‪.‬‬
‫‪ -4‬إشارات اإلعجاز في مظان اإليجاز‪.‬‬
‫‪ -5‬اآلية الكبرى‪.‬‬
‫‪ -6‬صيقل اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -7‬اخلطبة الشامية‪.‬‬
‫وغير ذلك من مؤلفاته ورسائله التي ألف أغلبها أثناء محنته‪.‬‬
‫وبعض مؤلفاته ورسائله كتبها باللغة العربية‪ ،‬ككتاب‪« :‬إشارات اإلعجاز‬
‫في مظان اإليجاز»‪ ،‬وغير ذلك من مؤلفاته التي كتبها باللغة العربية‪.‬‬
‫وقد ترجمت أغلب مؤلفاته ورسائله إلى اللغات العربية واإلجنليزية‪،‬‬
‫واألملانية‪ ،‬واألردية‪ ،‬والفارسية‪ ،‬والكردية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬والروسية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫محنته‪:‬‬
‫عاصر «النورسي» عهد السلطان عبد احلميد الثاني‪ ،‬وفترة االحتاد والترقي‪،‬‬
‫وأحداث احلرب العاملية األولى‪ ،‬وسقوط الدولة العثمانية‪ ،‬ثم العهد اجلمهوري‬
‫واحلزب الواحد احلاكم‪ ،‬ثم فترة تعدد األحزاب وحياة دميقراطية في البالد‪.‬‬
‫وميكننا تقسيم حيات النورسي إلى مرحلتني‪:‬‬
‫املرحلة األولى‪ :‬مرحلة «سعيد القدمي»‪( ،‬بالتركية‪ ،)Said Eski :‬وتبدأ‬
‫من مولده إلى بلوغه من العمر ‪ 45‬عام ًا‪.‬‬
‫املرحلة الثانية‪ :‬مرحلة «سعيد اجلديد» (بالتركية‪ ،)Said Yeni :‬وتبدأ من‬
‫بعد سن اخلامسة واألربعني إلى ‪ 87‬سنة(((‪.‬‬
‫وهذا التقسيم ملراحل حياة النورسي د ّلت عليه عبارات النورسي نفسه‪،‬‬
‫وشهدت بذلك أحواله ومواقفه العلمية والعملية والسلوكية‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬اللمعات»‪ ،‬ص‪.347 :‬‬


‫‪167‬‬
‫تعرض النورسي خالل مرحلة حياته األولى والثانية حملن جسام‪،‬‬‫وقد ّ‬
‫وابتالءات عظام ‪-‬كما سيأتي‪.-‬‬
‫ومن أبرز احملن التي تعرض لها النورسي خالل مرحلة حياته األولى ما يلي‪:‬‬
‫أو ًال‪ :‬التكبيل والنفي‪ :‬حيث مت تكبيله ونفيه عام ‪ 1926‬من «ماردين» إلى‬
‫«بتليس»‪ ،‬وكان عمره حينها ستة عشر عام ًا‪.‬‬
‫والسبب وراء هذه احملنة‪« :‬أنه أبدى نشاط ًا أدبي ًا‪ ،‬ومناصرة للمنادين‬
‫باحلرية‪ ،‬واهتمام ًا باألمور االجتماعية والسياسية‪ ،‬فأصدرت سلطات «ماردين»‬
‫قرار ًا بنفيه مكب ً‬
‫ال باألغالل إلى مدينة «بتليس»(((‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬احملاكمة أمام محكمة عسكرية‪ :‬والسبب في ذلك‪ :‬انتقاد النورسي‬
‫لالستبداد ونظام األمن‪ ،‬واستخبارات القصر «يلدز»؛ مما أثار عليه حاشية‬
‫السلطان‪ ،‬حيث مت إحالته للمحاكمة أمام محكمة عسكرية بأمر من حاشية‬
‫السلطان‪.‬‬
‫وملا مثل النورسي أم��ام القضاة العسكريني تك ّلم النورسي بكل جرأة‬
‫وشجاعة؛ مما دفع برئيس احملكمة إلى إحالة النورسي إلى جلنة من األطباء‬
‫وكونت اللجنة من طبيب تركي‪ ،‬وآخر‬‫النفسانيني في مستشفى «طوب طاش»‪ّ ،‬‬
‫أرمني‪ ،‬وثالث رومي‪ ،‬وطبيبني يهوديني‪ ،‬وملا حضرت اللجنة الطبية لفحص‬
‫قوى النورسي العقلية‪ ،‬بادرها النورسي بحديث عميق وصل إلى لب األطباء‪،‬‬
‫مما أرغمهم على كتابة تقرير عنه جاء فيه‪« :‬لو كانت هناك ذرة واحدة من اجلنون‬
‫عند بديع الزمان ملا وجد عاقل واحد على وجه األرض»!‬
‫ثالثا‪ :‬االستجواب واملثول أمام وزير الداخلية‪ :‬ذلك أن النورسي بعد قرار‬
‫اللجنة الطبية ‪ -‬السابق ‪ -‬مت إحالته إلى وزير الداخلية‪ ،‬وأمام وزير الداخلية‬
‫ال في فرح‬‫جرى بينه وبني النورسي احل��وار التالي؛ حيث ب��ادره الوزير قائ ً‬

‫((( «بديع الزمان‪ ،‬سيرة ذاتية»‪ ،‬ص‪.59 :‬‬


‫‪168‬‬
‫وطمأنينة‪« :‬إن السلطان يخصك بالسالم مع مرتب مببلغ ألف قرش! وعندما‬
‫تعود إلى بلدك سيجعل مرتبك ثالثني ليرة كما أرسل لك ثمانني ليرة هدية‬
‫سلطانية»!‬
‫فرد عليه النورسي بكل شموخ قائ ً‬
‫ال‪« :‬لم أكن أبد ًا متسول مرتب! ولن‬
‫أقبله ولو كان ألف ليرة؛ ألنني لم آت لغرض شخصي‪ ،‬وإمنا ملصلحة البلد‪ ،‬فما‬
‫علي ليس سوى رشوة السكوت»‪.‬‬ ‫تعرضونه ّ‬
‫ف��رد عليه الوزير م��ه��دد ًا‪« :‬إن��ك بهذا ت��رد اإلرادة السلطانية‪ ،‬واإلرادة‬
‫السلطانية ال ترد»‪.‬‬
‫بتحد‪« :‬إنني أر ّدها‪ ،‬لكي يستاء السلطان‪ ،‬ويستدعيني؛‬
‫ّ‬ ‫فرد عليه النورسي‬
‫عند ذلك أستطيع أن أقول له قولة احلق»‪.‬‬
‫فرد عليه الوزير متوعد ًا‪« :‬إن العاقبة ستكون غير سارة»!‬
‫فرد عليه النورسي باستهانة‪« :‬تعددت األسباب واملوت واحد‪ ،‬فإن أعدم‬
‫فسوف أرقد في قلب األمة‪ ،‬علم ًا بأنني عندما جئت إلى إستانبول كنت واضع ًا‬
‫روحي على كفي اعملوا ما شئتم‪ ،‬فإني أعني ما أقول‪ :‬إنني أريد أن أوقظ أبناء‬
‫األمة‪ ،‬وال أقوم بهذا العمل إال ألنني فرد من هذا البلد‪ ،‬ال ألقتطف من ورائه‬
‫مرتب ًا‪ ،‬ألن خدمة رجل مثلي للدولة ال تكون إال بإسداء النصائح‪ ،‬وهذه ال تتم‬
‫إال بحسن تأثيرها‪ ،‬وهذا ال يتم إال بترك املصالح الشخصية فإنني معذور إذن‬
‫عندما أرفض املرتب»‪.‬‬
‫حينها أصيب الوزير بالذعر من كالم النورسي‪ ،‬ومن صرامة موقفه‪ ،‬فقال‬
‫له‪« :‬إن ما ترمي إليه من نشر املعارف في بلدك هو موضع دراسة في مجلس‬
‫الوزراء حالي ًا»!‬
‫فرد عليه النورسي‪« :‬إذن فلم يتأخر نشر املعارف‪ ،‬ويستعجل في أمر‬
‫املرتب؟ ملاذا تؤثرون منفعتي الشخصية على املنفعة العامة»؟‬

‫‪169‬‬
‫رابع ًا‪ :‬االستجواب واملثول أمام «مصطفى كمال»‪ :‬والسبب في ذلك‪ :‬أن‬
‫النورسي ملا دعي إلى أنقرة سنة ‪1922‬م‪ ،‬واستقبل في احملطة استقبا ً‬
‫ال حاف ً‬
‫ال‪،‬‬
‫الحظ النورسي أن أكثر النواب ال يص ّلون‪ ،‬وأن مصطفى كمال بدأ يسلك‬
‫تضمن عشر‬‫النواب‪ّ ،‬‬‫سلوك ًا معادي ًا لإلسالم؛ فأصدر النورسي بيان ًا وجهه إلى ّ‬
‫مواد‪ ،‬استهل النورسي هذا البيان بقوله‪« :‬يا أيها املبعوثون‪ ...‬إنكم ملبعوثون‬
‫ليوم عظيم»‪.‬‬
‫وقد القى هذا البيان استجابة لدى بعض النواب بعد إلقاء البيان عليهم‬
‫حيث قام ستون نائب ًا بأداء فريضة الصالة‪ ،‬والتزموا بالدين‪ ،‬األمر الذي أغضب‬
‫«مصطفى كمال»‪ ،‬فاستدعى النورسي وقال له‪« :‬ال شك أننا في حاجة ماسة‬
‫إلى أستاذ قدير مثلك‪ ،‬ولهذا دعوناك إلى هنا لالستفادة من آرائك السديدة!‬
‫ولكن أول عمل قمت به هو احلديث عن الصالة‪ ،‬لقد كان أول جهودك هنا هو‬
‫بث الفرقة بني أهل املجلس»!‬
‫فأجابه النورسي مشير ًا إليه بإصبعه في ّ‬
‫حدة‪« :‬باشا‪ ..‬باشا‪ :‬إن أعظم حقيقة‬
‫تتج ّلى بعد اإلميان هي‪ :‬الصالة‪ ،‬وإن الذي ال يصلي خائن‪ ،‬وحكم اخلائن‬
‫مردود»‪.‬‬
‫عينه‬
‫حينها قرر مصطفى كمال إبعاد «النورسي» عن العاصمة‪ ،‬حيث ّ‬
‫واعظ ًا عام ًا للواليات الشرقية‪ ،‬ولكن «النورسي» رفض الوظيفة والراتب على‬
‫الرغم من أن الراتب كان مغري ًا‪.‬‬
‫تعرض لها النورسي أثناء مرحلة حياته األولى «مرحلة‬
‫هذه أبرز احملن التي ّ‬
‫سعيد القدمي»‪.‬‬

‫املرحلة الثانية‪ :‬مرحلة «سعيد اجلديد»‪ ،‬وفي هذه املرحلة ّ‬


‫تعرض النورسي‬
‫لعدة محن‪ ،‬ومن أبرزها ما يلي‪.‬‬
‫أوال‪ :‬االعتقال والنفي‪ :‬ذلك أن النورسي في املرحلة الثانية من حياته وهي‬
‫«سعيد اجلديد» انقطع للعبادة والدعوة‪ ،‬وابتعد عن السياسة الظاملة اجلائرة‪،‬‬
‫‪170‬‬
‫عدة؛ ومنها‪:‬‬
‫تعرض حملن ّ‬ ‫إال أنه وعلى رغم من ابتعاده عن السياسة إال أنه ّ‬
‫االعتقال والنفي؛ حيث أمرت حكومة أنقرة العلمانية بالقبض على النورسي‪،‬‬
‫ونقله إلى «إستانبول»؛ حيث بقي في «استانبول» حتت احلراسة مدة عشرين‬
‫يوم ًا‪ ،‬ثم صدر األمر بنقله إلى مدينة «بوردور» حيث بقي فيها منفي ًا سبعة أشهر‪،‬‬
‫ومن ثم نقل إلى «إسبارطة» حيث بقي فيها منفي ًا عدة أشهر‪.‬‬
‫ثم صدرت األوامر بنفيه إلى ناحية «بارال» النائية‪ ،‬حيث نقل على منت‬
‫زورق إلى «بارال» في شتاء شديد البرودة‪ ،‬سنة ‪1926‬م‪.‬‬
‫وكان وصول النورسي إلى منفاه «بارال» من أعمال «إسبارطة» في غرب‬
‫األناضول في شتاء سنة ‪1926‬م‪ ،‬حيث قضى الليلة األولى في مخفر الشرطة‪،‬‬
‫ثم خصص إلقامته بيت صغير يتألف من غرفتني‪ ،‬ويطل على مروج «بارال»‪،‬‬
‫وبساتينها املمتدة إلى بحيرة «أغريدير»‪.‬‬
‫وقد هدفت السلطات احلاكمة آنذاك من نفي النورسي إلى البلدة الصغيرة‬
‫نائية «بارال»؛ حتى يخمل ذكره‪ ،‬ويقل تأثيره‪ ،‬ويطويه النسيان‪ ،‬ويجف هذا‬
‫النبع اإلسالمي‪.‬‬
‫وفي «بارال» بقي النورسي ثمان سنوات ونصف‪.‬‬
‫وفي فترة الثمان السنوات والنصف التي قضاها النورسي في «بارال» منفي ًا‬
‫فيها كانت قد تدهورت حالته الصحية‪ ،‬وكان قليل اإلقبال على الطعام‪ ،‬فقد‬
‫كان يقضي يومه بالكامل على إناء صغير من احلساء مع كسرات من اخلبز‪.‬‬
‫تترصده‬
‫ّ‬ ‫وأثناء بقاء النورسي في «بارال» منفي ًا فيها كانت عيون السلطة‬
‫وتراقب حركاته وسكناته؛ حتى أن األهالي كانوا يتج ّنبون االقتراب منه‪،‬‬
‫والتحدث إليه؛ كما حكى ذلك النورسي بقوله‪« :‬حينما كنت في منفاي ‪ -‬ذلك‬‫ّ‬
‫ال عن الناس على قمة جبل «جام»‬ ‫األسر األليم ‪ -‬بقيت وحدي منفرد ًا منعز ً‬
‫املطلة على مراعي «بارال»‪ ...‬كنت أبحث عن نور في تلك العزلة‪ ...‬وذات ليلة‬
‫في تلك الغرفة الصغيرة غير املسقفة املنصوبة على شجرة صنوبر عالية على‬
‫‪171‬‬
‫قمة ذلك املرتفع إذا بشيخوختي تشعرني بألوان وأنواع من الغربة املتداخلة ‪-‬‬
‫كما جاء ذلك في املكتوب السادس بوضوح ‪ -‬ففي سكون تلك الليلة حيث‬
‫ال أثر وال صوت سوى ذلك الصدى احلزين حلفيف األشجار وهمهمتها‪..‬‬
‫وأحسست بأن ذلك الصدى األليم قد أصاب صميم مشاعري ومس أعماق‬
‫تبدل‬
‫شيخوختي وغربتي‪ ،‬فهمست الشيخوخة في أذني منذرة‪ - :‬أن النهار قد ّ‬
‫إلى هذا القبر احلالك‪ ،‬ولبست الدنيا كفنها األسود‪ ،‬فسوف يتبدل نهار عمرك‬
‫إلى ليل‪ ،‬وسوف ينقلب نهار الدنيا إلى ليل البرزخ‪ ،‬وسوف يتحول نهار صيف‬
‫احلياة إلى ليل شتاء املوت‪ ،‬فأجابتها نفسي على مضض‪ :‬نعم كما أنني غريبة هنا‬
‫عن بلدتي ونائية عن موطني فإن مفارقتي ألحبائي الكثيرين خالل عمري الذي‬
‫ناهز اخلمسني‪ ،‬وال أملك سوي تذارف الدموع وراءهم هي غربة تفوق غربتي‬
‫عن موطني‪ ..‬وأني ألشعر في هذه الليلة غربة أكثر حزن ًا وأشد أمل ًا من غربتي‬
‫على هذا اجلبل الذي توشح بالغربة واحلزن‪ ،‬فشيخوختي تنذر بدنو من موعد‬
‫فراق نهائي عن الدنيا وما فيها»‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬السجن االنفرادي والتحقيق‪ :‬ذلك أن النورسي نقل من «بارال» إلى‬
‫«ارسباطة» سنة (‪1934‬م)‪ ،‬وفي «ارسباطة» داهمت قوة من اجلندرمة بيت‬
‫النورسي((( واعتقلته صبيحة يوم من أيام نيسان سنة (‪1935‬م)‪ ،‬ثم اقتادته‬
‫ال بالقيود إلى سجن مدينة‪« :‬اسكي شهر»‪ ،‬حيث وضع النورسي في‬ ‫مكب ً‬
‫سجن انفرادي‪.‬‬
‫وفي سجن مدينة «اسكي شهر» مت التحقيق الطويل معه (ومع طلبته) ولم‬
‫يسفر التحقيق عن شيء ميكن االستناد إليه في احلكم بإدانته (أو إدانة طالبه)‬
‫إال أن احملكمة حكمت عليه بالسجن أحد عشر شهر ًا؛ بسبب رسالته عن «تستر‬
‫النساء»‪ ،‬وهي اللمعة الرابعة والعشرون‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬النفي (مرة ثانية) والتضيق واملراقبة واالستجواب‪ :‬ذلك أن النورسي‬

‫((( وأيض ًا في ذلك اليوم داهمت الشرطة منازل مائة وعشرين من طلبة النور في مختلف‬
‫املناطق‪.‬‬
‫‪172‬‬
‫نفي إلى «قسطموني» في ربيع سنة (‪1936‬م) بعد أن قضى في سجن «أسكي‬
‫شهر» مدة سجنه البالغة أحد عشر شهر ًا‪ ،‬حيث اقتيد النورسي إلى مخفر‬
‫الشرطة التي قضى فيه مدة ثالثة أشهر‪ ،‬ثم نقل بعدها إلى بيت صغير يقع أمام‬
‫مخفر الشرطة مباشرة‪ ،‬حتى يكون حتت املراقبة الدائمة من قبل الشرطة‪.‬‬
‫رابع ًا‪ :‬السجن (مرة ثانية) في سجن انفرداي والتحقيق معه‪ :‬حيث سيق‬
‫النورسي من «أنقرة» إلى «أسبارطة»‪ ،‬ومنها إلى مدينة «دينزلي» حيث أودع في‬
‫سجنها تسعة أشهر في زنزانة انفرادية‪.‬‬
‫شكلت‬‫وفي مدينة «دينزلي» ‪ -‬التي أودع النورسي في سجنها ‪ّ -‬‬
‫احلكومة جلنة تدقيق في ماهية رسائل النور‪ ،‬ولكن النورسي اعترض على‬
‫هذه اللجنة لعدم أهليتها في ذلك‪ ،‬حيث جاء في عريضة اعتراضه على‬
‫املكونة‪« :‬إن هؤالء اخلبراء ‪ -‬الذين ال خبرة لهم على اإلطالق ‪ -‬غير‬
‫اللجنة ّ‬
‫مؤهلني لتدقيق رسائل النور‪ ،‬لذلك فإنني أطالب بتأليف جلنة عليا في أنقرة‬
‫فليقدم متخصصون وعلماء من أوروبا‬ ‫ّ‬ ‫تتأ ّلف من أهل العلم‪ .‬وإذا لزم األمر‬
‫لتدقيق هذه الرسائل‪ ،‬فإذا وجدوا فيها أي عنصر يستوجب العقاب فإنني‬
‫أرضى بذلك العقاب»‪.‬‬
‫فاستجابت احلكومة لذلك‪ ،‬وقامت بتشكيل جلنة أخرى من علماء وخبراء‬
‫قاموا بدراسة وتدقيق جميع رسائل النور‪ ،‬وقد خرجت هذه اللجنة بقرار جاء‬
‫فيه‪« :‬ليس لبديع الزمان فعالية سياسية كما ال يوجد أي دليل كان على أنه‬
‫يؤسس طريقة صوفية أو قائم بإنشاء أية جمعية‪ ،‬وأن مواضيع كتبه تدور كلها‬
‫حول املسائل العلمية واإلميانية وهي تفسير القرآن الكرمي»‪.‬‬
‫ثم جرى بعد هذه احملاكمات واملدافعة أن أصدرت محكمة اجلزاء الكبرى‬
‫قرار ًا في ‪ 1944/6/15‬ينص على تبرئة النورسي من جميع ال ّتهم املسندة إليه‪.‬‬
‫سادس ًا‪ :‬املداهمة والسجن واحملاكمة(مرة ثانية)‪ :‬حيث داهم البوليس‬
‫بيت النورسي في ‪ 23‬كانون الثاني سنة ‪1948‬م (وأيض ًا داهمت بيوت‬

‫‪173‬‬
‫بعض طلبة النور) ثم سيق النورسي إلى سجن مدينة «أفيون» (وسيق أيض ًا‬
‫مجموعة من طالبه)‪.‬‬
‫وفي سجن مدينة «أفيون» مت محاكمة النورسي في محكمة «أفيون» وقد‬
‫دامت جلسات احملكمة مدة طويلة‪ ،‬انتهت جلسات هذه احملاكمة بإصدار احملكمة‬
‫قرارها في ‪ 6‬كانون األول سنة ‪1948‬م ينص على احلكم على سجن النورسي‬
‫عشرين شهر ًا‪ ،‬حيث بقي النورسي في سجن مدينة «أفيون» عشرين شهر ًا‪.‬‬
‫وفي سجن مدينة «أفيون» عومل النورسي معاملة قاسية ‪ -‬على الرغم من‬
‫كبر س ّنه ومرضه وشدة البرد القارس ‪ -‬فقد تركوه وحده في زنزانة كبيرة عارية‬
‫تسع ًا ستني وحيد ًا؛ دون مدفأة‪ ،‬بينما كان الثلج يتراكم على زجاج نافذته‪.‬‬
‫وعلى الرغم من انتهاء مدة احلكم في سجن مدينة «أفيون» إال أن السلطات‬
‫لم تفرج عنه في الوقت املعتاد‪ ،‬إمنا أطلقوه في (‪ 20‬أيلول سنة ‪1949‬م) في‬
‫الفجر‪ ،‬حيث خرج من السجن بصحبة شرطيني (وعدد من طالبه) إلى بيت‬
‫أعد له(((‪.‬‬
‫قد ّ‬
‫وجهت للنورسي أثناء مراحل حياته األولى والثانية‬ ‫وأما أبرز ال ّتهم التي ّ‬
‫وبسبهها تعرضه للمحن املختلفة فيمكن إجمالها في النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬العمل على هدم الدولة العلمانية‪ ،‬والثورة الكمالية‪.‬‬
‫‪ -2‬إثارة روح التدين في تركيا‪.‬‬
‫‪ -3‬تأليف جمعية سرية‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬بديع الزمان سعيد النورسي‪ ،‬نظرة عامة عن حياته وآث��اره»‪ ،‬إلحسان قاسم‬
‫الصاحلي‪ ،‬و«رسائل النور في السجن والقيم التربوية واجلمالية»‪ ،‬النور للدراسات‬
‫احلضارية والفكرية‪ ،‬السنة التاسعة‪ ،‬يناير‪ ،2018 ،‬العدد‪ ،17 :‬و«إخالص اإلمام بديع‬
‫الزمان النورسي ودعوة القرآن»‪ ،‬لعابد توفيق الهاشمي‪ ،‬و«بديع الزمان النورسي»‪ ،‬لعبد‬
‫الله الطنطاوي‪ ،‬مجلة املنار‪ ،‬العدد‪ ،63 :‬شوال ‪1423‬هـ‪ ،‬و«موقع بديع الزمان النورسي‬
‫على الشبكة العنكبوتية (اإلنترنت)‪.‬‬
‫‪174‬‬
‫‪ -4‬التهجم على مصطفى كمال أتاتورك(((‪.‬‬
‫تعد في نظر الشرع والقانون حق ًا‪ ،‬إال أن أعداء‬
‫وغير ذلك من ال ّتهم التي ّ‬
‫اإلسالم ا ّتخذوها ذرائع واهية لقمع احلق وأهله‪ ،‬ومنع انتشاره ومحاربة حملته‪.‬‬
‫تعرض لها النورسي‪ ،‬إال أنه بفضل‬ ‫وعلى الرغم من كثرة احملن التي ّ‬
‫الله انقلبت محنه إلى منح‪ ،‬ويظهر ذلك جلي ًا من خالل األمور التي واجه بها‬
‫النورسي هذه احملن‪ ،‬ومن أبرزها ما يلي‪:‬‬
‫أو ًال‪ :‬الصبر والثبات واالحتساب‪ :‬فعلى الرغم من طول مدة محنته‪،‬‬
‫وتعدد صنوف األذى التي مورست ضده (ما بني االعتقال واملداهمات والقيود‬
‫ّ‬
‫واحملاكمات الكثيرة حتى قيل‪ :‬الدعاوى التي مت محاكمته من أجلها بلغت‬
‫‪ 2500‬دعوى‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن السجن االنفرادي والنفي والتضييق واإلقامة اجلبرية)‬
‫إال أنه على الرغم من كل ذلك ثبت وصبر واحتسب‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬الشجاعة واجلرأة‪ :‬كما ّ‬
‫تدل على ذلك مواقفه أمام القضاة واحملاكم‬
‫العسكرية وكبار رجال الدولة القمعية آنذاك‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬الدعوة إلى الله‪ :‬فقد قام النورسي بالدعوة إلى الله أثناء فترة احملنة‪،‬‬
‫وقد تاب واهتدى على يديه كثير من املجرمني‪.‬‬
‫رابع ًا‪ :‬التفاؤل وعدم اليأس أو التشاؤم‪ :‬فعلى الرغم سوء املرحلة التي ّ‬
‫مر‬
‫بها املسلمون في تركيا عامة‪ ،‬وقسوة احملن التي مر بها النورسي خصوص ًا أثناء‬
‫تغلغل العلمانية وسيطرتها على مقاليد األمور العامة واخلاصة في تركيا؛ إال أن‬
‫النورسي كان في محنته متفائ ً‬
‫ال بنصر الله‪ ،‬مستشعر ًا أن العاقبة للمتقني‪ ،‬والله‬
‫غالب على أمره ولكن أكثر الناس ال يعلمون‪.‬‬
‫خامس ًا‪ :‬استغالل الوقت في نشر العلم وتأليف الكتب والرسائل‪ :‬فقد أ ّلف‬
‫أغلب كتبه ورسائله أثناء محنته وعلى وجه اخلصوص محنته في مرحلة حياته‬
‫الثانية‪ ،‬وهي مرحلة «سعيد اجلديد»‪.‬‬

‫امليسرة في األديان واملذاهب واألحزاب املعاصرة‪.‬‬


‫((( املوسوعة ّ‬
‫‪175‬‬
‫سادس ًا‪ :‬العبادة واللجوء إلى الله‪ ،‬والقرب منه‪ ،‬واإلخ�لاص له وحده‬
‫ال شريك له؛ كما يدل على ذلك أقواله وأحواله املختلفة أثناء محنته‪ ،‬وأيض ًا‬
‫أحواله وأقواله قبل احملنة وبعدها‪.‬‬
‫سابع ًا‪ :‬رفض كل اإلغ��راءات واملساومات‪ :‬فقد عرضت عليه إغراءات‬
‫مالية ضخمة‪ ،‬ومناصب قيادية مهمة؛ إال أنه رفض كل ذلك‪.‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫توفي النورسي في اخلامس والعشرين من شهر رمضان املبارك سنة‬
‫‪1379‬هـ املوافق ‪ 23‬آذار ‪1960‬م في مدينة «أورفة»‪ ،‬ودفن في مقبرة «أولو‬
‫جامع»‪ ،‬لكن السلطات احلاكمة قامت بنبش قبره بعد خمسة أشهر من وفاته‪،‬‬
‫ونقلت رفاته بالطائرة إلى جهة مجهولة(((‪.‬‬
‫تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته‪.‬‬
‫ّ‬

‫((( للمزيد عن سيرة سعيد الزمان النورسي ينظر‪« :‬سيرة ذاتية مختصرة لبديع الزمان سعيد‬
‫النورسي»‪ ،‬إحسان قاسم الصاحلي‪ ،‬و«الصراع بني الفكرة اإلسالمية والفكرة الغربية في‬
‫األقطار اإلسالمية»‪ ،‬ألبي احلسن الندوي‪ ،‬و«رسائل النور في السجن والقيم التربوية‬
‫واجلمالية»‪ ،‬النور للدراسات احلضارية والفكرية‪ ،‬السنة التاسعة‪ ،‬يناير‪ ،2018 ،‬العدد‪:‬‬
‫‪ ،17‬ص‪ ،11 :‬و«بديع الزمان نظرة عامة عن حياته وآثاره»‪ ،‬ملصطفى عاشور‪ ،‬و«جوانب‬
‫غير معروفة من حياة سعيد النورسي»‪ ،‬لنجم الدين شاهني‪ ،‬و«املوسوعة احلركية» لفتحي‬
‫يكن‪ ،‬و«العلمانية وآثارها على األوضاع اإلسالمية في تركيا»‪ ،‬لعبد الكرمي مشهداني‪،‬‬
‫و«بديع الزمان سعيد النورسي ق��راءة جديدة في فكره املستنير»‪ ،‬جلمال الدين فالح‬
‫الكيالني باالشتراك مع زياد حمد الصميدعي‪ ،‬و«بديع الزمان سعيد النورسي»‪ ،‬حملمد‬
‫بن موسى الشريف‪.‬‬
‫‪176‬‬
‫(‪� )12‬سيد قطب‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫سيد قطب إبراهيم حسني الشاذلي(((‪.‬‬
‫أما نسب سيد قطب‪ ،‬فقد اختلف الكتاب الذين كتبوا عن سيد قطب في‬
‫حتديد أصله‪ ،‬فمنهم ذهب إلى أن أصله مصري‪.‬‬
‫وذهب كثير من الكتاب إلى أن أصله هندي‪ ،‬مستندين إلى كالم سيد‬
‫قطب نفسه الذي نقله عنه أبو احلسن الندوي أثناء مقابلته له في مصر عام‬
‫‪1951‬م‪ ،‬حيث أخبر سيد قطب أبا احلسن الندوي أنه يرغب في زيارة‬
‫الهند‪ ،‬ثم نقل الندوي عن سيد قطب قوله‪« :‬وأما الباعث الطبعي فألن جدنا‬
‫السادس كان هندي ًا (وهو الفقير عبد الله)‪ ،‬وال تزال السحنة الهندية موروثة‬
‫في أسرتنا»(((‪.‬‬
‫وقد نفى هذه احلكاية محمد قطب حيث قال‪ :‬إنها مجرد ظن! حام ً‬
‫ال كالم‬
‫سيد قطب الذي نقله عنه الندوي أن سيد قطب قاله له على سبيل املجاملة‬
‫والدعابة فقط‪.‬‬
‫وقد مال صالح اخلالدي((( إلى رأي من ذهب من الك ّتاب إلى أن‬
‫سيد قطب أصله هندي؛ أخذ ًا بكالم سيد قطب الذي نقله عنه أبواحلسن‬
‫حدد اسم اجلد القادم من الهند‪ ،‬ومن حفظ حجة على من لم‬
‫الندوي؛ ألنه ّ‬
‫يحفظ(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.15 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬مذكرات سائح»‪ ،‬للندوي‪ ،‬ص‪.153 :‬‬
‫((( يعد صالح اخلالدي من أبرز الك ّتاب الذين لهم اعتناء بتراث سيد قطب‪ ،‬والكتابة عنه‪،‬‬
‫حيث كتب عنه عدة كتب‪.‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪29 :‬‬
‫‪177‬‬
‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫ولد سيد قطب (‪1906/10/9‬م) في قرية‪« :‬موشة»(((‪ ،‬إحدى قرى‬
‫محافظة أسيوط في صعيد مصر‪ .‬وتسمى بلد (الشيخ عبد الفتاح)؛ ألنه أحد‬
‫أوليائها‪ ،‬وله مقام بارز فيها(((‪.‬‬
‫وأما نشأة سيد قطب فقد نشأ في قرية‪« :‬موشة» منذ طفولته‪ ،‬في بيت أبيه‬
‫الواسع الفسيح اجلميل(((‪ .‬ولكن هذا البيت لم يستمر ملك ًا للعائلة‪ ،‬فقد اضطر‬
‫والد سيد قطب إلى بيعه حتت ضغط الدين واحلاجة(((‪.‬‬
‫عبر سيد قطب عن حال أسرته املعيشية ونشأته فيها بقوله‪« :‬ليست‬ ‫وقد ّ‬
‫عظيمة الثراء‪ ،‬ولكنها ظاهرة االمتياز‪ ،‬كانت في وقت من األوق��ات عظيمة‬
‫الثراء‪ ،‬ولكنها توزعت وتضاءلت بامليراث‪ ،‬وبقي لوالده قدر ال بأس به منها‪،‬‬
‫ولكنه كان يتناقص دائم ًا‪.‬‬
‫«كان والده قد صار عميد األسرة املك ّلف بحفظ اسمها ومركزها في الوقت‬
‫الذي لم ينله من امليراث إال نصيب محدود‪ ،‬ال ينهض مبا تنهض به ثروة األسرة‬
‫مجتمعة‪ ،‬على حني لم يستطع أن ينقص شيئ ًا من تكاليف املظهر في الريف»(((‪.‬‬

‫((( كتبها بعضهم هكذا «موشة»‪ ،‬وبعضهم كتبها‪« :‬موشا»‪ ،‬ومتتاز هذه القرية مبوقعها‬
‫اجلغرافي‪ ،‬حيث تقع بني جبلني صغيرين يحيطان بها‪ ،‬وبأراضيها الزراعية‪ ،‬إضافة إلى‬
‫أنها تقع على جانب نهر النيل‪ ،‬ومير النهر من أراضيها الزراعية‪ ،‬وبها العديد من البساتني‬
‫التي تزرع فيها مختلف أنواع اخلضار والفواكه‪ ،‬وكانت تلك البساتني أكبر من عدد‬
‫األيدي العاملة فيها [ينظر‪ :‬طفل من القرية‪ ،‬ص‪.]182 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طفل من القرية»‪ ،‬ص‪ ،86 :‬و«سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح‬
‫اخلالدي‪ ،‬ص‪.15 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬طفل من القرية»‪ ،‬ص‪.205 - 204 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬األطياف األربعة»‪ ،‬ص‪.85 :‬‬
‫((( «طفل من القرية»‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫‪178‬‬
‫لوالدي سيد قطب األثر البالغ في نشأته على اإلميان واألخالق‬
‫ّ‬ ‫وقد كان‬
‫الفاضلة منذ صغره‪ ،‬فقد كانت عالقة والد سيد قطب بالله قوية متينة‪ ،‬وأيض ًا‬
‫كان محافظ ًا على الصالة‪ ،‬مؤدي ًا لها ‪ -‬في الغالب ‪ -‬في املسجد‪ ،‬وكان كثير ًا‬
‫ما يصطحب طفله «سيد» معه إلى املسجد‪ ،‬وملا كبر سيد وناهز العاشرة صار‬
‫يذهب للمسجد لوحده‪ ،‬ويحرص على أداء الصالة جماعة فيه(((‪.‬‬
‫عبر سيد قطب عن عظيم دور والده في حسن تربيته له منذ الصغر في‬ ‫وقد ّ‬
‫في وأنا‬
‫صفحة إهداء كتابه‪« :‬مشاهد القيامة» له حيث قال سيد‪« :‬لقد طبعت ّ‬
‫طفل صغير مخافة اليوم اآلخر‪ ،‬ولم تعظني أو تزجرني‪ ،‬ولكنك كنت تعيش‬
‫أمامي‪ ،‬واليوم اآلخر ذكراه في ضميرك وعلى لسانك‪ ..‬وإن صورتك املطبوعة‬
‫وتتوجه بها‬
‫ّ‬ ‫في مخيلتي ونحن نفرغ كل مساء من طعام العشاء‪ ،‬فتقرأ الفاحتة‬
‫إلى روح أبيك في الدار اآلخرة‪ ،‬ونحن أطفالك الصغار نتمتم مثلك بآيات منها‬
‫متفرقات قبل أن جنيد حفظها كامالت»(((‪.‬‬
‫وأيض ًا كان لوالدة سيد قطب األثر العظيم في نشأته على اإلميان واألخالق‬
‫عبر سيد قطب عن ذلك في صفحة إهدائه كتابه‪:‬‬ ‫الفاضلة منذ صغره‪ ،‬وقد ّ‬
‫تسمعت من وراء «الشيش» في‬ ‫«التصوير الفني» لها حيث قال سيد‪« :‬لطاملا ّ‬
‫القرية‪ ،‬للقراء يرتلون في دارنا القرآن‪ ،‬طوال شهر رمضان‪ .‬وأنا معك ‪ -‬أحاول‬
‫أن ألغو كاألطفال ‪ -‬فتردني منك إشارة حازمة‪ ،‬وهمسة حاسمة؛ فأنصت معك‬
‫إلى الترتيل‪ ،‬وتشرب نفسي موسيقاه‪ .‬وإن لم أفهم بعد معناه‪.‬‬
‫وحينما نشأت بني يديك بعثت بي إلى املدرسة األولية في القرية‪ ،‬وأولى‬
‫علي‪ ،‬فأحفظ القرآن؛ وأن يرزقني الصوت الرخيم‪ ،‬فأرتله‬
‫أمانيك أن يفتح الله ّ‬
‫لك كل آن‪ .‬ثم عدلت بي عن هذا الطريق في النهاية إلى الطريق اجلديد الذي‬
‫أسلكه اآلن؛ بعد ما حتقق لك شطر من أمانيك‪ ،‬فحفظت القرآن!‬

‫((( «طفل من القرية»‪ ،‬ص‪ 120 :‬يتصرف‪.‬‬


‫((( «مشاهد القيامة في القرآن»‪ ،‬ص‪ 5 :‬باختصار‪.‬‬
‫‪179‬‬
‫ولقد رحلت عنا ‪ -‬يا أماه ‪ -‬وآخر صورك الشاخصة في خيالي‪ ،‬جلستك‬
‫في الدار أمام املذياع‪ .‬تستمعني للترتيل اجلميل؛ ويبدو في قسمات وجهك‬
‫النبيل أنك تدركني ‪ -‬بقلبك الكبير‪ ،‬وحسك البصير ‪ -‬مراميه وخفاياه»(((‪.‬‬
‫وقد اعتنت به أمه عناية فائقة‪ ،‬حيث جعلته محط آمالها‪ ،‬وبنت شخصيته‬
‫على اإلميان‪ ،‬والعزة والكرامة وحتمل املسؤولية‪ ،‬كانت تريد منه أن يكون رجال‬
‫حتى قبل أوانه(((‪.‬‬
‫لذلك كان سيد قطب يهرب من كل مظاهر الطفولة حتى في طفولته‪،‬‬
‫ويعزو سيد سبب ذلك إلى «الكبرياء التي أودعتنيها منذ الطفولة‪ ،‬فجعلتني‬
‫أهرب من كل مظاهر الطفولة»(((‪.‬‬
‫متيز سيد قطب منذ صغره بعصامية نادرة‪ ،‬وذاكرة فذة؛ جعلته يجمع‬ ‫وقد ّ‬
‫بني دروس املدرسة وواجباتها وبني حفظ القرآن ومراجعته‪ ،‬حيث أقبل سيد‬
‫قطب على حفظ القرآن وهو في السنة الثانية االبتدائية وعمره ثمان سنوات‪:‬‬
‫همه إلى حفظ القرآن‪ ...‬وإنه ليرهق نفسه وصحته املرهقة‪،‬‬ ‫«‪ ...‬فليوجه ّ‬
‫ويسهر إلى منتصف الليل ليعيد في كل ليلة جميع ما سبق له حفظه من‬
‫القرآن‪ ،‬وذلك بجانب الدروس األخرى‪ ،‬فما يكتمل العام وإال وقد حفظ‬
‫ثلث القرآن حفظ ًا جيد ًا»(((‪.‬‬
‫بهمة وتصميم حيث كان يحفظ‬ ‫واستمر سيد قطب على خطته في حفظ ّ‬
‫كل عام عشرة أجزاء من القرآن‪ ،‬وبعد ثالثة أعوام أمت حفظ القرآن كام ً‬
‫ال‪ ،‬وكان‬
‫إمتامه حلفظ القرآن وهو السنة الرابعة االبتدائية‪ ،‬وعمره عشر سنوات(((‪.‬‬

‫((( «التصوير الفني»‪ ،‬ص‪.5 :‬‬


‫((( ينظر‪ :‬حديث أم سيد قطب عنه في «طفل من القرية‪ ،‬ص‪.208 -201 :‬‬
‫((( «األطياف األربعة»‪ ،‬ص‪.166 :‬‬
‫((( «طفل من القرية»‪ ،‬ص‪.41 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.60 :‬‬
‫‪180‬‬
‫وبذلك زاد حب مدرسيه له‪ ،‬وارتفع في أعينهم درجات‪ ،‬وأيض ًا ازداد‬
‫حب أهله له‪ ،‬وخاصة أمه التي كانت هذه أغلى أمانيها(((‪.‬‬
‫وقد كان حلفظ سيد قطب للقرآن وعمره عشر سنوات عظيم األثر عليه‪،‬‬
‫وقوم لسانه‪ ،‬وقوي بيانه‪ ،‬وحسن أسلوبه‪،‬‬
‫حيث اتسعت آفاقه‪ ،‬وازدادت ثقافته‪ّ ،‬‬
‫وشفت روحه‪ ،‬وتفتحت مداركه‪ ،‬وقد ترك ذلك أثر ًا واضح ًا على شخصيته‬
‫ونفسيته وأسلوبه فيما بعد(((‪.‬‬
‫ولم يكتف سيد قطب بحفظه للقرآن ودراسته النظامية في القرية‪ ،‬بل‬
‫أضاف إلى ذلك ثقافته اخلاصة حيث كان محب ًا للقراءة‪ ،‬مهتم ًا بشراء الكتب‪،‬‬
‫وقد احتوت مكتبته كتب ًا عديدة‪ ،‬ذات مواضيع مختلفة‪.‬‬
‫ورمبا استعار سيد قطب بعض الكتب من صاحب املكتبة إذا عجز عن‬
‫شرائها‪ ،‬ودفع لصاحب املكتبة أجرة مالية مقابل االستعارة(((‪.‬‬
‫وبهذا اشتهر سيد قطب في القرية بالكتب والقراءة في أوساط املثقفني في‬
‫القرية فارتفع شأنه عندهم‪ ،‬وأخذ اجلميع يتنبأون له باملستقبل الزاهر(((‪.‬‬
‫قوية وجلد عجيب على القراءة‬ ‫بهمة ّ‬‫وقد مت ّتع سيد قطب منذ صغره ّ‬
‫واملطالعة‪ ،‬سواء كان في كتب املدرسة أم في الكتب الثقافية التي كان يشتريها أو‬
‫يستعيرها‪ ،‬حتى أن معلميه في املدرسة أعجبوا بذكائه وثقافته‪ ،‬وتو ّقعوا نبوغه‪،‬‬
‫ومنهم ناظر املدرسة‪ ،‬حيث أعاره كتاب تاريخ‪ ،‬حملمد اخلضيري‪ ،‬وديون لشاعر‬
‫وطني‪ ،‬يسمى «ثابت اجلرجاوي»‪ ،‬فقرأهما‪ ،‬ومبا أن ناظر املدرسة لن مينحه‬
‫هذين الكتابني فقد قام سيد قطب بحفظهما بصورة عجيبة‪ ،‬حيث‪« :‬أخذ ينقل‬
‫الديوان بيت ًا بيت ًا إلى كراسته‪ ،‬وينقل مقدمة كتاب التاريخ األثرية‪ ...‬وإنه ليعجب‬

‫((( «سيد قطب الشهيد احلي»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.125 :‬‬


‫((( «سيد قطب الشهيد احلي»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.126 :‬‬
‫((( سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪65 :‬‬
‫((( «طفل من القرية»‪ ،‬ص‪.131 :‬‬
‫‪181‬‬
‫اليوم لنفسه كيف استطاع أن ينهض بهذا العمل‪ ،‬ولكن األعجب منه أنه حفظ‬
‫هذا الديوان حفظ ًا جيد ًا‪ ،‬وظل يذكره بعدها سنوات وسنوات»(((‪.‬‬
‫تخرج سيد قطب من مدرسته في القرية عام ‪ 1917‬في سن‬ ‫وبعد أن ّ‬
‫وجهته أمه إلى الدراسة في القاهرة‪ ،‬حيث غادر سيد‬‫احلادية عشرة من عمره‪ّ ،‬‬
‫قطب قريته ودموع والديه تنهمر على خديهما حزن ًا على فراقه‪ ،‬وكانت مغادرته‬
‫لقريته بصحبة أحد أقاربه‪ ،‬حيث نزل سيد قطب في القاهرة في بيت خاله أحمد‬
‫حسني عثمان(((‪.‬‬
‫وفي القاهرة واصل سيد قطب مشواره التعليمي حيث التحق سيد قطب‬
‫تخرج منها‪.‬‬
‫مبدرسة املعلمني األولية في القاهرة‪ ،‬ثم درس فيها حتى ّ‬
‫ثم التحق بعد ذلك بكلية جتهيزية دار العلوم عام ‪1925‬م حيث درس‬
‫بها حتى تخرج منها ع��ام ‪1929‬م‪ .‬وف��ي سنة ‪ 1932‬حصل على شهادة‬
‫البكالوريوس في اآلداب من كلية دار العلوم‪ .‬وعمل مدرسا حوالي ست‬
‫سنوات(((‪ .‬ثم واصل سيد قطب مشواره العلمي واألدبي حتى صار سيد قطب‬
‫رائد الفكر واألدب‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫أثنى على سيد قطب العلماء والدعاة والك ّتاب الذين عرفوه عن قرب‪ ،‬أو‬
‫عاصروه‪ ،‬أو اطلعوا على كتبه‪ ،‬ومن أقوالهم في الثناء عليه نذكر ما يلي‪:‬‬
‫قال أبواحلسن الندوي (عندما سمع خبر إع��دام سيد قطب)‪« :‬إن هذه‬
‫الشهادة ليست شهادة األف��راد‪ ،‬وإنها ليست ه��در ًا للدماء‪ ،‬وعبث ًا باحلقوق‬
‫البشرية والكرامة اإلنسانية فحسب‪ ،‬وإنها ليست همجية وعداء سافر ًا لإلسالم‬

‫((( ينظر‪« :‬طفل من القرية»‪ ،‬ص‪ ،149 :‬و«سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح‬
‫اخلالدي‪ ،‬ص‪.64 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب الشهيد احلي»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.130 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.73 :‬‬
‫‪182‬‬
‫فحسب‪ ،‬بل إنها خسارة فادحة للدعوة اإلسالمية والعلم واألدب‪ ،‬والدراسة‬
‫والبحث والنقد‪ ،‬ومأساة علمية ضخمة‪ ،‬إن سيد قطب من أولئك األفذاذ الذين‬
‫يسعد بهم العالم اإلسالمي‪ ،‬وهو في الطراز األول من صفوة الدعاة ورجال‬
‫الفكر واألدب الذين حتظى بهم األمم بعد فترات طويلة»‪.‬‬
‫أتخيل سيد قطب إال مقارع ًا محارب ًا‪ ،‬ولم أعرفه‬ ‫وقال علي الطنطاوي‪« :‬لم ّ‬
‫إال مجاد ً‬
‫ال مناض ً‬
‫ال‪ ،‬يهاجم مهاجم ًا‪ ،‬ومدافع ًا محايد ًا»(((‪.‬‬
‫وقال علي الطنطاوي معلق ًا على كتاب‪« :‬التصوير الفني في القرآن»‪ٌ :‬‬
‫«فتح‬
‫والله جديد‪ ،‬وسيد قطب وقع على كنز من كنوز القرآن‪ ،‬كأنّ الله ادخره له‪ ،‬فلم‬
‫يعط مفتاحه ألحد قبله‪ ،‬حتى جاء هو ففتحه»‪.‬‬
‫وقال عبد الله بن جبرين‪« :‬إن سيد قطب من علماء املسلمني‪ ،‬ومن أهل‬
‫الدعوة‪ ،‬وقد نفع الله به‪ ،‬وهدى بدعوته خلق ًا كثير ًا‪ ،‬وله جهود ال تنكر‪ ،‬وألجل‬
‫ذلك شفع الشيخ عبد العزيز بن باز في سيد قطب عندما قرر عليه القتل‪ّ ،‬‬
‫وتلطف‬
‫في الشفاعة فلم يقبل شفاعته الرئيس جمال ‪ -‬عليه من الله ما يستحق ‪ -‬وملا‬
‫قتل (يقصد سيد قطب) أطلق عليه‪ :‬أنه شهيد؛ ألنه قتل ظلم ًا‪ ،‬وشهد بذلك‬
‫اخلاص والعام‪ ،‬ونشر ذلك في الصحف والكتب بدون إنكار‪ ،‬ثم تلقى العلماء‬
‫كتبه‪ ،‬ونفع الله به‪ ،‬ولم يطعن أحد فيه منذ أكثر من عشرين عام ًا»‪.‬‬
‫وق��ال عبد الله ع��زام‪« :‬واحل��ق أنني ما تأثرت بكاتب كتب في الفكر‬
‫علي أن‬
‫اإلسالمي أكثر مما تأثرت بسيد قطب‪ ،‬وإني ألشعر بفضل الله العظيم ّ‬
‫وجهني سيد قطب‬ ‫شرح صدري‪ ،‬وفتح قلبي لدراسة كتب سيد قطب‪ ،‬فقد ّ‬
‫فكري ًا‪ ،‬وابن تيمية عقدي ًا‪ ،‬وابن القيم روحي ًا‪ ،‬والنووي فقهي ًا؛ فهؤالء أكثر أربعة‬
‫أثروا في حياتي أثر ًا عميق ًا‪.‬‬
‫لقد كان الستشهاد سيد قطب أثر في إيقاظ العالم اإلسالمي أكثر من‬

‫((( الرسالة السنة العاشرة‪ ،‬السنة الثالثة عشرة‪ ،‬املجلد الثاني‪ ،‬عدد‪ ،648 :‬ديسمبر ‪1945‬‬
‫م‪ ،‬ص‪.1313 :‬‬
‫‪183‬‬
‫حياته‪ ،‬ففي السنة التي استشهد فيها يطبع الظالل سبع طبعات‪ ،‬بينما لم تتم‬
‫الطبعة الثانية أثناء حياته‪ ..‬ولقد مضى سيد قطب إلى ربه رافع الرأس‪ ،‬ناصع‬
‫اجلبني‪ ،‬عالي الهامة‪ ،‬وترك التراث الضخم من الفكر اإلسالمي الذي تتوارثه‬
‫ال‪ ،‬ووض��ح معاني‬‫وض��ح معاني غابت عن األذه��ان طوي ً‬ ‫األجيال‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫ومصطلحات‪ :‬الطاغوت‪ ،‬اجلاهلية‪ ،‬احلاكمية‪ ،‬العبودية‪ ،‬واأللوهية‪ ،‬ووضح‬
‫ّ‬
‫والتوكل على الله‪ ،‬واخلشية‬ ‫املشرفة معاني البراء والوالء‪ ،‬والتوحيد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بوقفته‬
‫منه‪ ،‬وااللتجاء إليه»‪.‬‬
‫وقال محمد قطب (شقيق سيد قطب)‪« :‬ليس في كتابات سيد قطب ما‬
‫والس ّنة»‪.‬‬
‫يخالف الكتاب ّ‬
‫وقال عمر التلمساني‪« :‬الذين يعرفون الشهيد سيد قطب‪ ،‬ودماثة خلقه‪،‬‬
‫وجم أدب��ه‪ ،‬وتواضعه‪ ،‬ور ّق��ة مشاعره‪ ،‬يعرفون أنه ال يك ّفر أح��د ًا‪ ،‬إنه داعية‬
‫إسالمي‪ ،‬من عيون دعاة املسلمني! ظلمه من أخذ كالمه على غير مقاصده‪،‬‬
‫ومن هاجموه متجنني‪ ،‬ملا رأوا من عميق تأثير كلماته وكتاباته على الشباب‬
‫الطاهر النظيف»‪.‬‬
‫وقال عمر التلمساني أيض ًا عن مؤلفات سيد قطب وفكره‪« :‬الشهيد سيد‬
‫قطب له مؤلفات عدة وجيدة على مستوى رفيع‪ ،‬منها‪« :‬في ظالل القرآن»‪،‬‬
‫و«العدالة االجتماعية في اإلسالم»‪ ،‬و«معالم في الطريق»‪ ،‬ومتتاز هذه املؤلفات‬
‫بالنقمة على الظلم في كل مظاهره‪ ،‬واحلرص على رفع املعاناة عن كل الطبقات‪،‬‬
‫ح��رم‪ ،‬وما‬ ‫وأن تسود مصر احلرية‪ ،‬التي ليس لها حدود إال فيما ّ‬
‫أحل الله و ّ‬
‫تواضعت عليه األمم الراقية ذات احلريات الواسعة»(((‪.‬‬
‫وقال حسن الهضيبي عن كتاب‪« :‬معالم في الطريق»‪« :‬قد حصر أملي‬
‫كله في سيد قطب‪ ،‬فقد قرأته وأعدت قراءته‪ ،‬وإن سيد قطب هو األمل املرجتى‬
‫للدعوة اآلن ‪-‬إن شاء الله‪.»-‬‬

‫((( «ذكريات ال مذكرات»‪.‬‬


‫‪184‬‬
‫وقال محب الدين اخلطيب‪« :‬لقد برهن سيد قطب مبواقفه في عهد الطغيان‬
‫يتجهم وجه الباطل القوي للحق‪ ،‬إذا‬
‫ّ‬ ‫على أنه يحسن القول في تأييد احلق يوم‬
‫انصرف عنه جنوده‪ ،‬وهناك كثيرون من حملة األقالم يحسنون تأييد احلق إذا‬
‫يروج فيها‪ ،‬أو دولة تخطب ود مؤيديه ولو إلى حني‪ ،‬وهم على‬ ‫كانت له سوق ّ‬
‫استعداد ألن يقولوا غير ذلك أيض ًا»‪.‬‬
‫وقال بكر بن عبد الله أبو زيد عن كتب سيد قطب‪« :‬وجدت في كتبه خير ًا‬
‫كثير ًا‪ ،‬وإميان ًا مشرق ًا‪ ،‬وحق ًا أبلج‪ ،‬وتشريح ًا فاضح ًا ملخططات العداء لإلسالم‪،‬‬
‫على عثرات في سياقاته‪ ،‬واسترسال بعباراته‪ ،‬ليته لم يفه بها‪ ،‬وكثير منها‬
‫ينقضها قوله احلق في مكان آخر‪ ،‬والكمال عزيز‪ ،‬والرجل كان أدبي ًا نقادة‪ ،‬ثم‬
‫وسخر قلمه‬‫ّ‬ ‫املشرفة‪،‬‬
‫والس ّنة ّ‬
‫اجته إلى خدمة اإلسالم من خالل القرآن العظيم‪ّ ،‬‬
‫ووقته ودمه في سبيلها‪ ،‬فشرق بها طغاة عصره‪ ،‬وأصر على موقفه في سبيل الله‬
‫يسطر بقلمه كلمات اعتذار‪ ،‬وقال‬ ‫تعالى‪ ،‬وكشف عن سالفته‪ ...‬وطلب منه أن ّ‬
‫كلمته اإلميانية املشهورة‪ :‬إن أصبع ًا أرفعه للشهادة لن أكتب كلمة تضارها‪ ،‬أو‬
‫كلمة نحو ذلك‪.‬‬
‫فالواجب على اجلميع الدعاء له باملغفرة‪ ،‬واالستفادة من علمه‪ ،‬وبيان ما‬
‫حتققنا خطأه فيه‪ ،‬وإن خطأه ال يوجب حرماتنا من علمه‪ ،‬وال هجر كتبه»!‬
‫يعد في عصره علم ًا من األعالم‬
‫وقال حمود بن عقالء الشعيبي‪« :‬إن سيد ًا ّ‬
‫أصحاب منهج مقارعة الظاملني والكفر بهم‪ ،‬ومن أفذاذ الدعاة إلى تعبيد الناس‬
‫لربهم والدعوة إلى توحيد التحاكم إلى الله‪ ،‬فلم يقض إال مضاجع أعداء الله‬
‫ورسوله كجمال عبدالناصر وأمثاله‪ ...‬وما فرح أحد بقتله كما فرح أولئك‪،‬‬
‫ولقد ضاق أولئك األذناب بهذا البطل ذرع ًا‪ ،‬فلما ظنوا أنهم قد قتلوه إذا بدمه‬
‫يحيي منهجه‪ ،‬ويشعل كلماته حماس ًا‪ ،‬فزاد قبوله بني املسلمني وزاد انتشار كتبه؛‬
‫ألنه د ّلل بصدقه وإقدامه على قوة منهجه‪ ،‬فسعوا إلى إعادة الطعن فيه رغبة‬
‫منهم لقتل منهجه أيض ًا‪ ،‬وأنى لهم ذلك؟‬

‫‪185‬‬
‫فاستهداف سيد قطب لم يكن استهداف ًا مجرد ًا لشخصه‪ ،‬فهو ليس الوحيد‬
‫من العلماء الذين وجدت له العثرات‪ ،‬فعنده أخطاء ال ننكرها‪ ،‬ولكن الطعن فيه‬
‫ليس إلسقاطه هو بذاته‪ ،‬فقد قدم إلى ربه‪ ،‬ونسأل الله له الشهادة‪ ،‬ولكن الذي ال‬
‫زال يقلق أعداءه وأتباعهم هو منهجه الذي يخشون أن ينتشر بني أبناء املسلمني‪.‬‬
‫وإني إذ أسمع الطعن في سيد قطب ألستغرب ذلك؛ لقوله الله تعالى‪:‬‬
‫{ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ}‪.‬‬
‫(((‬

‫فكل من معه نور من النبوة أيض ًا له أعداء من أهل الباطل بقدر ما معه من‬
‫ميراث نبينا محمد عليه الصالة والسالم‪ ،‬فما يضير سيد ًا طعن الطاعنني‪ ،‬بل هو‬
‫رفعة له وزيادة في حسناته‪ ،‬ولكن الذي يثير االستغراب هو فعل أولئك األقوام‬
‫يدعون اتباع احلق ومع ذلك ينقصون امليزان وال يزنون بالقسطاس‬ ‫الذين ّ‬
‫املستقيم‪ ،‬والله يقول‪:‬‬
‫{ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫(((‬
‫ﯣﯤﯥ}‬
‫فأولئك إذا أرادوا مدح أحد عليه من املآخذ ما يفوق سيد ًا بأضعاف قالوا‬
‫كلمتهم املشهورة‪« :‬تغمس أخطاؤه في بحر حسناته»‪ ،‬وقالوا‪« :‬إذا بلغ املاء‬
‫قلتني لم يحمل اخلبث»‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬وإذا أرادوا ذم آخر كسيد قطب الذي يعد‬
‫مجدد ًا في باب «إن احلكم إال لله» سلكوا معه طريق اخلوارج وك ّفروه باملعاصي‬
‫والزالت‪.‬‬
‫ندعي له العصمة من اخلطأ‪ ،‬بل نقول إن له أخطاء‬ ‫وسيد قطب ال ّ‬
‫ليس هذا مجال تفصيلها‪ ،‬ولكنها ال تخل بأصل دعوته ومنهجه‪ ،‬كما أن‬
‫عند غيره من األخطاء التي لم تقدح في منزلتهم‪ ،‬وعلى سبيل املثال ابن‬
‫حجر والنووي وابن اجلوزي وابن حزام‪ ،‬فهؤالء لهم أخطاء في العقيدة إال‬

‫((( سورة الفرقان‪ ،‬آية‪.31 :‬‬


‫((( سورة املطففني‪ ،‬آية‪. 3 ،2 ،1 :‬‬
‫‪186‬‬
‫أن أخطاءهم لم جتعل أحد ًا من أبناء األمة وال علمائها ميتنع من االستفادة‬
‫منهم‪ ،‬أو يهضمهم حقهم‪ ،‬وينكر فضائلهم‪ ،‬فهم أئمة إال فيما أخطأوا فيه‪،‬‬
‫وهذا احلال مع سيد‪ ،‬فأخطاؤه لم تقدح في أصل منهجه ودعوته لتوحيد‬
‫احلاكمية‪ ،‬وتعبيد الناس لربهم‪ ...‬وله ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬من املواقف واألقوال‬
‫التي ال يشك عارف باحلق أنها صادرة عن قلب قد مليء بحب الله وحب‬
‫رسوله |‪ ،‬وحب التضحية لدينه»‪.‬‬
‫وجه إليه عن كتاب‪« :‬مشاهد القيامة في‬ ‫وقال ابن باز رد ًا على سؤال ّ‬
‫القرآن»‪« :‬لم أقرأه‪ ،‬ولكن بلغني عنه أنه ال بأس به‪ ،‬كتب سيد قطب كتب مفيدة‬
‫ونافعة‪ ،‬وليس معناها أنه ليس فيها خطأ‪ ،‬كل عالم له بعض األخطاء واألغالط‪،‬‬
‫لكن لم أقرأ الكتاب‪ ،‬وهو فيما بلغني كتاب مفيد ومؤثر‪ ،‬رحم الله مؤلفه»‪.‬‬
‫وقال ابن عثيمني عن سيد قطب (عندما سئل عنه)‪« :‬سيد قطب انتقل‬
‫من دار العمل إلى دار اجلزاء‪ ،‬والله تعالى حسيبه‪ ،‬وكذلك غيره من أهل‬
‫العلم‪ .‬أما احلق فيجب قبوله سواء جاء من سيد قطب أو من غيره‪ ،‬والباطل‬
‫يجب رده سواء كان من سيد قطب أو من غيره‪ ،‬ويجب التحذير من أي‬
‫باطل كتب أو سمع سواء من هذا أو من هذا‪ ،‬من أي إنسان‪ ...‬أما سيد قطب‬
‫فرأيي في آثاره أنه مثل غيره‪ ،‬فيه حق وباطل‪ ،‬ليس أحد معصوم ًا‪ ...‬أنا أرى‬
‫أن احلق يؤخذ من كل إنسان‪ ،‬والباطل يرد من كل إنسان‪ ،‬وأنه ال ينبغي لنا‪،‬‬
‫والتفرق واالئتالف هو‬
‫ّ‬ ‫بل وال يجوز لنا أن جنعل مدار اخلصومة والنزاع‬
‫أسماء الرجال»(((‪.‬‬
‫وقال يوسف العظمة‪« :‬وحديثه حني يقابل جمهوره كان يبدأ هادئ ًا‪،‬‬
‫ولكن في ثقة‪ ،‬وبسيط ًا ولكن في عمق‪ ،‬سلس العبارة ولكن في غير سوقية‬
‫وال تبذل‪ ،‬وقد يهاجم األستاذ خصومه‪ّ ،‬‬
‫ويبكت املنحرفني عن احلق‪ ،‬ولكن‬
‫في أدب وع ّفة مقال»(((‪.‬‬
‫((( «لقاء الباب املفتوح»‪.‬‬
‫((( «سيد قطب»‪ ،‬ليوسف العظمة‪ ،‬ص‪.233 :‬‬
‫‪187‬‬
‫ّ‬
‫واملفكر الرائد‪ ،‬والداعية‬ ‫وقال صالح اخلالدي‪« :‬رحم الله اإلمام الشهيد‪،‬‬
‫وتقبل الله جهده وجهاده»(((‪.‬‬
‫املجاهد سيد قطب‪ّ ،‬‬
‫وقال صالح اخلالدي أيض ًا‪« :‬لقد كسب سيد قطب باستشهاده احلياة احلقيقية‪،‬‬
‫فهو الشهيد احلي عند الله ‪ -‬إن شاء الله ‪ -‬كذلك باستشهاده عاشت أفكاره‪،‬‬
‫حية‪ ،‬ومتثّلها مؤمنون دعاة في واقعهم وحياتهم وجهادهم»(((‪.‬‬‫فأصبحت ّ‬
‫وقال عالل الفاسي‪« :‬لقد تعاملت مع سيد قطب فرأيته متواضع ًا‪ ،‬لم يتطلع‬
‫إلى شيء من املناصب أو األلقاب»‪.‬‬
‫وغير ذلك من أقوالهم في الثناء عليه‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫منح الله سيد قطب قلب ًا واعي ًا‪ ،‬وذهن ًا صافي ًا‪ ،‬وعلم ًا وافر ًا‪ ،‬وقلم ًا سيا ً‬
‫ال؛‬
‫أثرى من خالل ذلك املكتبة اإلسالمية واألدبية بتراثه الفكري واألدبي‪.‬‬
‫والتأمل في تراث سيد قطب العلمي واألدبي والفكري‬
‫ّ‬ ‫ومن خالل النظر‬
‫ميكننا تقسيم تراثه إلى قسمني (((‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬مقاالت‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬كتب مطبوعة‪.‬‬
‫هذا من حيث اإلجمال‪ ،‬وأما من حيث التفصيل فيمكننا تفصيل ذلك على‬
‫سبيل االختصار واإليجاز في السطور التالية‪:‬‬
‫أو ًال‪ :‬مقاالت‪ :‬نشرت في الصحف واملجالت‪ ،‬حيث كتب سيد قطب في‬
‫(((‬
‫مجالت عديدة؛ حزبية وإسالمية وأدبية وسياسية واجتماعية‬
‫((( «سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.483 :‬‬
‫((( «سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.482 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.521 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪. 517 :‬‬
‫‪188‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬مؤلفات مطبوعة(((‪ :‬ومن أبرزها ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬في ظالل القرآن (موسوعة في تفسير القرآن العظيم‪ ،‬طبع عدة طبعات)‪.‬‬
‫‪ -2‬مهمة الشاعر في احلياة وشعر اجليل احلاضر‪.‬‬
‫‪ -3‬الشاطئ املجهول‪.‬‬
‫‪ -4‬نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر‪.‬‬
‫‪ -5‬التصوير الفني في القرآن‪.‬‬
‫‪ –6‬مشاهد القيامة في القرآن‪.‬‬
‫‪ –7‬العدالة االجتماعية في اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -8‬األطياف األربعة‪.‬‬
‫‪ -9‬طفل من القرية‪.‬‬
‫‪ -10‬املدينة املسحورة‪.‬‬
‫‪ -11‬كتب وشخصيات‪.‬‬
‫‪ -12‬أشواك‪.‬‬
‫‪ -13‬روضة الطفل‪.‬‬
‫‪ -14‬القصص الديني لألطفال‪.‬‬
‫‪ -15‬اجلدية في اللغة العربية‪.‬‬
‫‪ -16‬اجلدية في احملفوظات‪.‬‬
‫‪ -17‬النقد األدبي أصوله ومناهجه‪.‬‬
‫‪ -18‬معركة اإلسالم والرأسمالية‪.‬‬
‫‪ -19‬السالم العاملي واإلسالم‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب الشهيد احلي»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪ ،315 :‬و«سيد قطب من امليالد‬
‫إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.521 :‬‬
‫‪189‬‬
‫‪ -20‬دراسات إسالمية‪.‬‬
‫‪ -21‬هذا الدين‪.‬‬
‫‪ -22‬املستقبل لهذا الدين‪.‬‬
‫‪ -23‬خصائص التصور اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ -24‬اإلسالم ومشكالت احلضارة‪.‬‬
‫‪ -25‬معالم في الطريق‪.‬‬
‫‪ -26‬مقومات التصور اإلسالمي‪.‬‬
‫وقد حاول البعض منع تراث سيد قطب ومؤلفاته‪ ،‬ولكن أنى لهم ذلك؟‬
‫عمد تراثه بدمه‪ ،‬وهو الذي قال عن قوة الكلمة وحياتها‬
‫فإن سيد قطب قد ّ‬
‫وحيويتها‪« :‬ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب اآلخرين فتحركها‪ ،‬وجتمعها‪،‬‬
‫وتدفعها‪ ..‬إنها الكلمات التي تقطر دماء؛ ألنها تقتات قلب إنسان حي‪.‬‬
‫كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان‪ ...‬إن أصحاب األقالم يستطيعون‬
‫أن يصنعوا شيئ ًا كثير ًا‪ ،‬ولكن بشرط واحد‪ :‬أن ميوتوا لتعيش أفكارهم‪ ،‬أن‬
‫ويقدموا‬
‫يطعموا أفكارهم من حلومهم ودمائهم‪ ،‬أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق‪ّ ،‬‬
‫دماءهم فداء لكلمة احلق‪ .‬إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثث ًا هامدة‪ ،‬حتى إذا متنا‬
‫حية‪ ،‬وعاشت بني األحياء»(((‪.‬‬‫في سبيلها أو غذيناها بالدماء‪ ،‬انتفضت ّ‬
‫محنته‪:‬‬
‫امتحن سيد قطب أكثر من مرة‪ ،‬وشملت محنته كافة صنوف احملنة؛ محنة‬
‫التخويف والترهيب‪ ،‬والسجن والتعذيب‪ ،‬واملساومة واإلغ��راء‪ ،‬واحملاكمة‬
‫الهزلية‪ ،‬ثم اإلعدام شنق ًا‪.‬‬
‫مرت محنة سيد قطب مبرحلتني‪:‬‬
‫وقد ّ‬

‫((( «دراسات إسالمية»‪ ،‬ص‪.139 :‬‬


‫‪190‬‬
‫املرحلة األولى‪( :‬من عام ‪1954‬م إلى عام (‪1964‬م)‪ :‬حيث استمرت ‪10‬‬
‫سنوات تقريب ًا‪ ،‬وشملت هذه املرحلة من احملنة‪ :‬االعتقال والسجن‪ ،‬واحملاكمة‬
‫الهزلية أمام محكمة عسكرية‪ ،‬والتعذيب النفسي واجلسدي الرهيب‪.‬‬
‫املرحلة الثانية‪( :‬من ‪1965/8/9‬م) إلى (‪1966/8/29‬م)‪ ،‬حيث‬
‫استمرت أكثر من سنة‪ ،‬وشملت هذه املرحلة من احملنة‪ :‬االعتقال‪ ،‬والسجن‪،‬‬
‫واحملاكمة الهزلية أمام محكمة عسكرية‪ ،‬ثم محاولة إغرائه مبا شاء من األموال‬
‫واملناصب ‪ -‬كما سيأتي ‪ ،-‬ثم اإلعدام شنق ًا‪.‬‬
‫هذه محنة سيد قطب من حيث اإلجمال‪.‬‬
‫أما محنته من حيث التفصيل (على وجه االختصار واإليجاز) فقد مرت‬
‫مبرحلتني –كما ذكرنا‪:-‬‬
‫األول��ى‪ :‬محنة سيد قطب في السجن (‪1964 - 1954‬م)‪ :‬حيث مت‬
‫اعتقال سيد قطب مطلع عام ‪1954‬م عقب تفاقم اخلالف بني عبدالناصر وبني‬
‫النية لضرب اإلخوان‪ ،‬حيث أصدر مجلس قيادة‬ ‫فبيت عبد الناصر ّ‬
‫اإلخوان‪ّ ،‬‬
‫الثورة أمر ًا بحل جماعة اإلخوان‪ ،‬وأذاع املجلس بيان ًا مطو ً‬
‫ال عبر اإلذاعة‪ ،‬ونشر‬
‫في الصحف؛ ليلة اعتقال سيد قطب‪ :‬اتهم فيه اإلخوان‪ :‬بالقيام بأعمال خطيرة!‬
‫وتهدد األمن! –حسب وصف البيان‪ -‬كما نسب إليهم االتصال‬ ‫ّ‬ ‫تفرق األمة!‬‫ّ‬
‫باإلجنليز‪ ،‬والتآمر معهم ضد الوطن ‪.‬‬
‫(((‬

‫ولعل هذا أول اعتقال لسيد قطب‪ ،‬وأول دخول له السجن أيض ًا(((‪.‬‬
‫وقد أعقب هذا االعتقال والسجن مظاهرات واحتجاجات حاشدة؛ مت‬
‫على إثرها رضوخ عبد الناصر ملطالبهم واإلفراج عن سيد قطب ومن معه من‬
‫املعتقلني‪.‬‬
‫ثم اعتقل سيد قطب مرة ثانية في نهاية أكتوبر ‪1954‬م عقب حادث املنشية؛‬

‫((( ينظر البيان في كتاب‪« :‬اإلخوان املسلمون»‪ ،‬حملمود عبد احلليم‪.267 -259/3 :‬‬
‫((( «سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.346 :‬‬
‫‪191‬‬
‫حيث أذيع في الساعة الثامنة من مساء ‪1954/10/26‬م‪ :‬أن عبدالناصر قد جنا‬
‫من محاولة اغتيال‪ ،‬وهو يخطب في دار هيئة التحرير في املنشية باإلسكندرية‪.‬‬
‫(املدبرة) قامت احلكومة باعتقال سيد قطب‪ ،‬وأيض ًا‬
‫ّ‬ ‫وعقب هذه احلادثة‬
‫والزج بهم في السجون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ألقت القبض على اآلالف من اإلخوان‪،‬‬
‫عبر سيد قطب عن هذه احملنة بقوله‪« :‬ثم كانت حوادث ‪1954‬م‬ ‫وقد ّ‬
‫فاعتقلت مع من اعتقلوا في يناير‪ ،‬وأفرج عنهم في مارس‪ ،‬ثم اعتقلت بعد‬
‫ذلك في حادث املنشية في ‪ 26‬أكتوبر كذلك»(((‪.‬‬
‫وقد بقي سيد قطب في السجن بعد هذا االعتقال مدة شهر بدون حتقيق‬
‫شكلت من ضباط‬ ‫أو محاكمة‪ ،‬ثم بدأ التحقيق معه من قبل محكمة عسكرية ّ‬
‫سميت‪« :‬محكمة الثورة»؛ حيث صب على سيد قطب صنوف األذى‬ ‫اجليش‪ّ ،‬‬
‫من التعذيب واالضطهاد (وأيض ًا على من معه من املعتقلني في السجن)‪ ،‬حتى‬
‫إنه أدى ذلك إلى مضاعفة أمراضه التي في بدنه‪ ،‬وإصابته بأمراض أخرى(((‪.‬‬
‫شدة التعذيب الرهيب الذي مورس عليه (ومن‬ ‫عبر سيد قطب عن ّ‬ ‫وقد ّ‬
‫معه) أثناء إحضاره من السجن إلى قاعة احملكمة في إحدى املرات كشاهد على‬
‫محاكمة حسن الهضيبي ‪ -‬مؤسس اجلماعة آنذاك ‪ -‬حيث جرى بني سيد قطب‬
‫وبني رئيس احملكمة جمال سالم احلوار التالي‪:‬‬
‫قال جمال سالم‪ :‬يبدو عليك التعب يا أستاذ سيد‪ ،‬فهل أنت تعبان؟‬
‫فرد عليه سيد قطب‪ :‬نعم؛ ألني كنت واقف ًا على قدمي ست ساعات‪ ،‬قبل‬
‫دخولي احملكمة!‬
‫فقال جمال سالم‪ :‬وماذا يعني هذا؟ كلنا نقف مدد ًا طويلة؟!‬

‫فرد عليه سيد قطب‪ :‬ولكننا ّ‬


‫تطبق علينا في السجن مبادئ الثورة!‬

‫((( «ملاذا أعدموني»‪ ،‬ص‪.12 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪348 :‬‬
‫‪192‬‬
‫ثم نزع سيد قطب رداءه عن جسمه أمام احلضور‪ ،‬فظهر للحاضرين جميع ًا‬
‫آثار التعذيب الشديد على جسمه فاضطر رئيس احملكمة جمال سالم لرفع‬
‫اجللسة فور ًا(((‪.‬‬
‫وقد تأخرت محاكمة سيد قطب السرية واحلكم عليه بسبب األمراض‬
‫التي أصيب بها‪ ،‬والتي ضاعف منها تعذيبه املتواصل‪ ،‬فقد ذكر يوسف العظمة‬
‫أن سيد قطب نقل «في اليوم الثالث من شهر أيار سنة ‪1955‬م إلى املستشفى‬
‫العسكري للمعاجلة مما أصابه من آثار التعذيب‪ ،‬واألمراض املختلفة التي خ ّلفها‬
‫سجنه الرهيب في جسده الطاهر‪ :‬مرض ًا صدري ًا‪ ،‬وأزمة قلبية‪ ،‬و«روماتيزم» في‬
‫معظم أعضاء جسمه ّ‬
‫املعذب املكدود‪.‬‬
‫وفي الثالث عشر من متوز ‪1955‬م حكمت محكمة الشعب على الرجل‬
‫املبتلى‪ ،‬والعالم الرباني بالسجن ملدة خمسة عشر عام ًا مع األشغال الشاقة‪.‬‬
‫وكان احلكم غيابي ًا؛ لعدم استطاعته حضور اجللسة من جراء ما أصابه من إعياء‬
‫ومرض وتعذيب»(((‪.‬‬
‫والسبب في ك��ون محاكمة سيد قطب سرية؛ ألن القضاة واجلالدين‬
‫يخشون جرأة سيد قطب وشجاعته‪ ،‬وفضحه جلالديه لهم أمام الناس‪ ،‬كما‬
‫روت ذلك مجلة الشهاب حيث جاء فيها‪« :‬إنه في اليوم الذي تقررت فيه‬
‫محاكمة سيد قطب جاءه مدير السجن حمزة البسيوني‪ ،‬وقال له‪ :‬لن نحاكمك‬
‫ألنك مصدور! وعرف السبب بعد ذلك؛ ألنه كان من املقرر في ذلك الوقت‬
‫يتحدث سيد‬
‫ّ‬ ‫حضور مندوب عن جلنة حقوق اإلنسان الدولية‪ ،‬ويخشون أن‬
‫قطب أمامه عن التعذيب‪.‬‬
‫قدم سيد قطب للمحاكمة‪ ،‬وعندما سألوا سيد قطب‬‫وبعدما ذهب املندوب ّ‬
‫خلع قميصه ليري القضاة واحملامون والشهود آثار التعذيب الوحشية!‬

‫((( ينظر‪« :‬مجلة املجتمع»‪ ،‬العدد ‪ ،539‬ص‪ ،27 :‬و«مذابح اإلخوان»‪ ،‬جلابر رزق‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪113‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب»‪ ،‬ليوسف العظمة‪ ،‬ص‪39 :‬‬
‫‪193‬‬
‫وملا سمع سيد قطب احلكم بسجنه خمسة عشر عام ًا اعترض عليه مستهزئ ًا‪:‬‬
‫إنه مدة قليلة! فأين حكم اإلعدام؟!»(((‪.‬‬
‫وقد حكى سيد قطب في تقريره عن مرضه قبل احملاكمة من أنه كان في‬
‫السجن احلربي متهيد ًا حملاكمته‪ ،‬فلما مرض نقل إلى مستشفى سجن «طرة»‪،‬‬
‫خف مرضه أعيد إلى السجن احلربي للمحاكمة أمام جمال سالم حيث‬ ‫وملا ّ‬
‫علي‬
‫ال‪ ،‬ولم يصدر ّ‬ ‫يقول سيد قطب‪« :‬في ذلك الوقت أنا كنت في طرة معتق ً‬
‫متزق في الرئتني ونزيف حاد‪ ،‬اقتضى نقلي من‬ ‫حكم بعد‪ ،‬ولم أحاكم بسبب ّ‬
‫السجن احلربي في ‪ 15‬يناير ‪1955‬م إلى مصحة ليمان طرة للعالج‪ ...‬وفي‬
‫حتسنت نوع ًا ما‪ ،‬وتقرر إعادتي إلى السجن احلربي‬ ‫إبريل كانت حالتي قد ّ‬
‫لتقدميي للمحاكمة»(((‪.‬‬
‫ثم نقل سيد بعد احلكم باألشغال الشاقة خمسة عشر عام ًا إلى ليمان أو‬
‫سجن طرة((( لقضاء مدة احلكم‪.‬‬
‫متكن سيد قطب من حل لغز املنشية ‪ -‬بعد تأمل وتفكير‪-‬‬ ‫وفي سجن طرة ّ‬
‫حيث يقول سيد قطب‪« :‬وأحب أن أقرر هنا‪ :‬أنه ثبت أن احلادث كان مدبر ًا‪ ،‬وأن‬
‫للمخابرات األمريكية يد ًا في هذا احلادث وتدبيره‪ ،‬وأن لعبدالناصر وخاصة‬
‫رجاله يد ًا مباشرة في هذا احلادث‪ ،‬وأن الذي أطلق الرصاص ليس محمد عبد‬
‫اللطيف‪ ،‬بل أحد ضباط الشرطة بترتيب من رجال عبد الناصر‪ ،‬وأن املقصود من‬
‫كل هذا البطش باإلخوان املسلمني‪ ،‬وضربهم والقضاء على دعوتهم‪ .‬وأن هناك‬
‫اتفاق بني عبدالناصر واملخابرات األمريكية على ضرب اإلخوان‪ ،‬وعلى جتميد‬
‫صرح بذلك السفير األمريكي‬ ‫حالة احلرب بينه وبني إسرائيل لعشر سنوات ‪ -‬كما ّ‬
‫في السعودية للسفير السوري في السعودية وقتها‪ :‬عمر بهاء الدين األميري»(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬مجلة الشهاب»‪.‬‬


‫((( «ملاذا اعدموني»‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫((( يعتبر سجن طرة من أسوأ سجون مصر‪ ،‬وأكثرها قذارة وإيذاء‪.‬‬
‫((( ينظر‪« :‬وثيقة عمر األميري في مجلة املجتمع»‪ ،‬عدد‪758 :‬‬
‫‪194‬‬
‫وهذه احلقيقة أكد عليها األستاذ أحمد رائف وجالها باإلثباتات والشهود‬
‫والروايات والتحقيقات واملقابالت في كتابه‪« :‬سراديب الشيطان» الذي طبع‬
‫مؤخر ًا(((‪.‬‬
‫وملا تضاعفت أمراض سيد قطب اجلسمية‪ ،‬وتدهورت حالته الصحية كان‬
‫البد من نقله إلى املستشفى‪ ،‬ومبا أن سيد قطب محكوم عليه بالسجن خمسة‬
‫عشر عام ًا‪ ،‬فقد ر ّتبوا له وضع ًا استثنائي ًا‪ ،‬وهو أن يقيم في مستشفى سجن طرة‪،‬‬
‫أو مصحة طرة ‪-‬كما يسميها سيد‪.-‬‬
‫بل إنه في فترة من الفترات لم يكن في السجن في طرة وال في مستشفاه‬
‫إال سيد قطب واثنان من املرضى(((‪.‬‬
‫وبعد حوالي خمس سنوات من إقامة سيد قطب في مستشفى سجن‬
‫طرة تضاعفت أمراضه‪ ،‬وساءت حالته الصحية‪ ،‬بل تدهورت‪ ،‬حيث نقل إلى‬
‫مستشفى املنيل اجلامعي حيث بقي فيه ستة أشهر ثم أعيد إلى مستشفى طرة‪،‬‬
‫حيث بقي متنق ً‬
‫ال بني هذين املستشفيني عدة مرات في نفس السنة‪.‬‬
‫ثم بعد إصابة سيد قطب بالذبحة الصدرية أفرج عنه إفراج ًا صحي ًا‪ ،‬كما‬
‫أشار إلى ذلك سيد قطب في تقريره حيث يقول‪« :‬وكنت قد خرجت بعفو‬
‫صحي بعد سوء حالتي الصحية بالذبحة الصدرية التي أصبت بها في السجن‪،‬‬
‫مع بقية أمراضي األخرى»(((‪.‬‬
‫ثم ما لبث سيد قطب عدة أشهر قضاها خارج السجن حتى سيق إلى‬
‫التعذيب الرهيب بعد شهور من اإلفراج عنه‪ ،‬وتضاعفت أمراضه مبضاعفة‬
‫تعذيبه وقسوته وشدته‪ ،‬واستغل املجرمون اجلالدون أمراضه لزيادة تعذيبه‬
‫وإيالمه؛ كما يروي ذلك جابر رزق عن جرائمهم مع سيد قطب حيث يقول‪:‬‬

‫((( ينظر‪« :‬سراديب الشيطان»‪ ،‬ألحمد رائف (الفصول من السادس حتى العاشر)‪.‬‬
‫((( ينظر‪« :‬ملاذا أعدموني»‪ ،‬ص‪.27 :‬‬
‫((( «ملاذا أعدموني»‪ ،‬ص‪.37 :‬‬
‫‪195‬‬
‫«كان قد بلغ الستني من عمره‪ ..‬ومصاب بالذبحة الصدرية‪ ...‬باإلضافة إلى‬
‫أمراض الكلى‪ ...‬وأمراض املعدة‪ ...‬ولم تشفع له س ّنه‪ ..‬ولم يشفع له مرضه‪...‬‬
‫بل استغلوا هذه األم��راض جميع ًا في نوع التعذيب الذي ّ‬
‫تعرض له‪ ...‬لقد‬
‫ربطوه في كرسي ملدة أربعة أيام‪ ...‬حرموه فيها من الطعام والشراب‪ ،‬وحرموه‬
‫حتى من املاء‪ ...‬وكانوا يسكبون املاء أمامه‪ ،‬ومعروف أن مريض الكلى يحتاج‬
‫إلى كميات كبيرة من املاء‪ ...‬ولقد وصل األمر بالشهيد سيد قطب أنه أوشك‬
‫أنه يفقد بصره‪.(((»...‬‬
‫الثانية‪ :‬محنة سيد قطب((( في (‪1965/8/9‬م ‪1966/8/29 -‬م)‪ :‬وقد‬
‫بدأت هذه املرحلة من محنة سيد قطب باعتقاله ليلة اإلثنني (‪1965/8/9‬م)‬
‫حيث داهمت املباحث منزل سيد قطب في رأس البر قبل الفجر‪ ،‬وألقت‬
‫القبض عليه‪ ،‬وساقته إلى السجن احلربي‪ ،‬حيث بقي فيه في التعذيب والتحقيق‬
‫واحملاكمة إلى أن مت إعدامه بعد سنة من هذا االعتقال(((‪.‬‬
‫وفي هذه املرة من احملنة حبس سيد قطب في زنزانة انفرادية في السجن‬
‫احلربي‪ ،‬ومنع من اخلروج منها طيلة مائة وثالثني يوم ًا‪ .‬وقد قام بالتحقيق مع‬
‫سيد في هذه املرة صالح نصار‪ ،‬حيث استمر التحقيق مع سيد عدة ساعات‬
‫خالل ثالثة أيام متوالية بدأت يوم األحد واإلثنني‪ ،‬والثالثاء(((‪.‬‬

‫((( «مذابح اإلخوان»‪ ،‬جلابر رزق‪ ،‬ص‪114 :‬‬


‫((( في هذه املرحلة من محنة سيد قطب الثانية اعتقل شقيق «سيد قطب»‪« :‬محمد قطب»‬
‫في ‪ 29‬أو ‪ 30‬يوليو ‪1965‬م‪ ،‬حيث قدّ م سيد قطب رسالة احتجاج للضابط «أحمد‬
‫راسخ» باملباحث العامة حملها ابن أخته «رفعت بكر» للمباحث‪ ،‬احتج فيها سيد قطب‬
‫على طريقة اعتقال شقيقه محمد‪ ،‬وكون أهله ال يعرفون مكان اعتقاله [ينظر‪« :‬سيد‬
‫قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.]418 :‬‬
‫((( «املوتى يتكلمون»‪ ،‬ص‪.121 - 120 :‬‬
‫((( ينظر محاضر التحقيق في اليوم األول والثاني والثالث في كتاب‪« :‬املوتى يتكلمون»‪،‬‬
‫ص‪.146 - 131 :‬‬
‫‪196‬‬
‫شكلت بعد ذلك محاكم حملاكمة سيد (ومن معه) حيث بدأت احملاكمة‬ ‫ثم ّ‬
‫في ‪1966/4/9‬م (أي أن هناك أكثر من أربعة أشهر بني التحقيق مع سيد وبني‬
‫محاكمته)‪.‬‬
‫ولم تبدأ احملاكمة األولى لسيد قطب على يد الدجوي إال يوم الثالثاء‬
‫‪1966/4/12‬م(((‪.‬‬
‫وفي هذه احملاكمة قال سيد قطب للدجوي ما يعتقد‪ ،‬وتك ّلم عن التعذيب‬
‫تعرض له املتهمون(((‪.‬‬
‫الوحشي الذي ّ‬
‫وفي محاكمة سيد قطب ‪ -‬الهزلية ‪ -‬هذه وقعت عدة جتاوزات ومخالفات‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أنها محاكمة عسكرية ملواطنني مدنيني‪ ،‬وأن الدجوي كان يضع يده على‬
‫رقبة سيد قطب‪ ،‬وكأنه يقول له‪« :‬إننا سنعدمك!»‪ ،‬وأن القانون املصري مينع‬
‫إعدام من بلغ الستني‪ ،‬أو مصاب مبرض عضال‪ ،‬وهذ الصفتان تنطبقان على‬
‫سيد قطب‪ ،‬وغير ذلك من املخالفات والتجاوزات‪.‬‬
‫وقد انزعج احملامون العرب من هذه احملاكمة‪ ،‬فتطوعوا للقدوم إلى مصر‬
‫والدفاع عن سيد قطب (ومن معه) ولكن احلكومة منعتهم(((‪.‬‬
‫وحاولت منظمة العفو الدولية إرس��ال أحد أعضائها احملامني حلضور‬
‫احملاكمات بصفة مراقب‪ ،‬ولكن احلكومة املصرية لم توافق‪.‬‬

‫((( من امللهيات املبكيات في احملاكمة هذه‪ :‬أن رئيس نيابة أمن الدولة «صالح نصار»‬
‫ومعه وكالء النيابة كانوا يلقبون سيد قطب بألقاب السخرية واالستهزاء؛ مثل‪« :‬القطب‬
‫األغر»‪ ،‬و«القطب الالمع» و«زعيم اإلجرام» [ينظر‪« :‬البوابة السوداء»‪ ،‬ألحمد رائف‪،‬‬
‫ص‪ .]222 :‬وأيضا عينت احملكمة احملامي «أحمد مختار قطب» للدفاع عن سيد قطب‪،‬‬
‫وهو عميل قدمي من عمالء املخابرات‪ ،‬وليس قريب ًا لسيد قطب كما قد يظنه البعض‬
‫[ينظر‪« :‬ملاذا أعدم سيد قطب؟»‪ ،‬ص‪.]28 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬الشهيد سيد قطب»‪ ،‬ليوسف العظمة‪ ،‬ص‪.59 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬الشهيد سيد قطب»‪ ،‬ليوسف العظمة‪ :‬ص‪.59 :‬‬
‫‪197‬‬
‫وقد أذاعت منظمة العفو الدولية بيان ًا للصحف والرأي العام‪ ،‬وكان مما‬
‫جاء فيه‪« :‬متسك املتهمون بوقوع تعذيب عليهم‪ ،‬النتزاع االعتراف منهم‪ ،‬وقد‬
‫وجه هذه االتهام إلى سلطات التحقيق‪ ،‬من جانب سيد قطب ‪ -‬وهو املتهم‬ ‫ّ‬
‫الرئيس في القضية احلالية ‪ -‬ولكن رئيس احملكمة بادر فور ًا إلى إسكات املتهم‪،‬‬
‫رافض ًا أن يسمع منه األدلة على هذه املسألة‪ ،‬معلن ًا بأن املتهمني يكذبون»(((‪.‬‬
‫ومضت أربعة أشهر بعد انتهاء محاكمة سيد قطب كان فيها ينتظر احلكم‬
‫عليه باإلعدام؛ كما يروي ذلك إبراهيم املصري في مجلة الشهاب اللبنانية قائ ً‬
‫ال‪:‬‬
‫«وهنا البد من كشف النقاب عن حديث استكتمه سيد قطب أحد إخوانه قبل‬
‫اعتقاله بأسابيع كان احلديث يدور حول اليهودية‪ ،‬وخطرها على العالم أجمع‪،‬‬
‫وعلى املسلمني خاصة‪ .‬يقول سيد‪ :‬لقد وقفت على مدى تغلغل األصابع‬
‫اليهودية وخطرها‪ ،‬بعد بحث وطول عناء‪ ،‬واليهود إذا علموا أنني أحيط بذلك‬
‫فالبد أن أقتل»(((‪.‬‬
‫وأيض ًا يدل معرفة سيد قطب بأنهم سيعدمونه مقابلة أجراها معه أحمد‬
‫رائف في السجن‪ ،‬ومما جرى في املقابلة قول أحمد رائف لسيد قطب‪ :‬ماذا‬
‫تنتظر؟ فأجاب سيد قطب بابتسامة واثقة نابعة من صدر هادئ مطمئن‪« :‬أنتظر‬
‫الوفود على ربي»(((‪.‬‬
‫وبعد أربعة أشهر من محاكمة «سيد قطب» (ومن معه) نطق فؤاد الدجوي‬
‫باألحكام التي أصدرها عبد الناصر على سيد قطب (ومن معه)‪ ،‬حيث كان‬
‫سيد قطب أول احملكومني عليهم باإلعدام‪ ،‬وقد روى محمود الديري إسماع‬
‫سيد للحكم وإعدامه‪ ،‬ومما جاء في روايته قوله‪« :‬نادوا على األستاذ سيد‪...‬‬
‫وأخذوه إلى احلجرة املجاورة حيث نطقوا باحلكم عليه‪ ..‬فرأينا املهندس الذي‬
‫يسجل األحكام بيكي!‪ ..‬فعرفنا أن احلكم هو‪ :‬اإلعدام‪.‬‬

‫((( ينظر البيان في «ملاذا أعدم سيد قطب وإخوانه»‪ ،‬ص‪.41 - 35 :‬‬
‫((( «مجلة الشهاب»‪ ،‬السنة اخلامسة‪ ،‬العدد احلادي عشر‪ ،‬أيلول ‪1971‬م‪.‬‬
‫((( «البوابة السوداء»‪ ،‬ص‪.223 :‬‬
‫‪198‬‬
‫ويضيف ممدوح الديري‪« :‬لقد سمعت أن الشهيد عندما سمع احلكم‬
‫قال‪ :‬احلمد لله»((( أي بعد سماع سيد قطب للنطق بحكم اإلع��دام عليه‬
‫(ومن معه)‪.‬‬
‫وقد حاول الطغاة مساومة سيد قطب قبل إعدامه ليتخلى عن احلق‬
‫ال��ذي يحمله‪ ،‬ويدين الله به‪ ،‬حيث طلبوا منه كتابة رسالة اعتذار إلى‬
‫عبدالناصر مقابل خروجه من السجن‪ ،‬وإلغاء حكم اإلعدام عليه‪ ،‬وتوليه‬
‫ال ضخمة‪ ،‬وقد استمرت هذه املساومات‬ ‫مناصب قيادية كبيرة‪ ،‬ومنحه أموا ً‬
‫حتى الليلة األخيرة من حياة سيد قطب‪ ،‬وقد استخدم الطغاة أخت سيد‬
‫قطب «حميدة» لتضغط عليه ليستجيب لهم؛ كما ذكرت تلك املساومات‬
‫حميدة قطب‪ ،‬وقد حاولت حميدة قطب مع أخيها ذلك‪ ،‬ولكن سيد قطب‬
‫أبى كل ذلك(((‪.‬‬
‫وقد أثارت محاكمة الدجوي ‪ -‬الظاملة لسيد قطب وتعذيب اجلالدين‬
‫له ‪ -‬املراقبني لألحداث‪ ،‬ومعظمهم الذ بالصمت إيثار ًا للسالمة‪ ،‬وكان ممن‬
‫أثارتهم هذه احملاكمة كمال الدين حسني (النائب السابق لعبدالناصر) حيث‬
‫بعث برسالة لعبد الناصر‪ ،‬وصورة منها ملدير املباحث عبداحلكيم عامر‪ ،‬ولكن‬
‫عبد الناصر واجه هذه الرسلة باعتقال كمال الدين حسني(((‪.‬‬
‫وأيض ًا القت هذه احملاكمة استنكار كثير من الشعوب العربية واإلسالمية‪،‬‬
‫وخرجت بعض املظاهرات واالحتجاجات املنددة واملستهجنة لهذا احلكم‪.‬‬
‫وأيض ًا بعث امللك فيصل برسالة إلى عبد الناصر يطلب منه عدم إعدام‬
‫أصر على قراره السيئ(((‪.‬‬
‫سيد قطب‪ ،‬ولكن عبد الناصر ّ‬

‫((( «مذابح اإلخوان»‪ ،‬ص‪.118 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬أيام من حياتي»‪ ،‬ص‪.184 -183 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.462 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سراديب الشيطان»‪ ،‬ألحمد رائف‪ ،‬ص‪.152 - 149 :‬‬
‫‪199‬‬
‫بل كان إلعدام سيد قطب (ومن معه) أثر بالغ على املساجني؛ كما تدل‬
‫على ذلك هذه احلادثة التي حكاها أحمد رائف بقوله‪« :‬وعدت بالذكرى‬
‫إلى اليوم الذي جاءنا اخلبر فيها بإعدام الشهيد وكنا أيامها مبعتقل أبي زعبل‬
‫السياسي‪ ...‬وكان الكالم حرام ًا وممنوع ًا‪ ،‬والرعب ّ‬
‫يخيم فيه على العنابر‬
‫والزنازين‪ ،‬وكانت رغم هذا أول صالة في فناء املعتقل‪ ..‬وكانت صالة‬
‫املغرب‪ ،‬وقرأ اإلمام قوله تعالى‪:‬‬
‫{ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬
‫ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ}‬
‫(((‬

‫وضج املعتقل بالبكاء»(((‪.‬‬


‫وقد واجه سيد قطب هذه احملنة عبر مراحلها التي مرت بها بعدة أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أوال‪ :‬الشجاعة والصراحة واجلرأة‪ :‬كما ّ‬
‫يدل على ذلك حادثة إحضاره‬
‫من السجن إلى قاعة احملكمة في إحدى املرات كشاهد على محاكمة حسن‬
‫الهضيبي ‪ -‬مؤسس اجلماعة آنذاك ‪ -‬حيث جرى بني سيد قطب وبني رئيس‬
‫احملكمة جمال سالم احلوار التالي‪:‬‬
‫قال جمال سالم‪ :‬يبدو عليك التعب يا أستاذ سيد‪ ،‬فهل أنت تعبان؟‬
‫فرد عليه سيد قطب‪ :‬نعم؛ ألني كنت واقف ًا على قدمي ست ساعات‪ ،‬قبل‬
‫دخولي احملكمة!‬
‫فقال جمال سالم‪ :‬وماذا يعني هذا؟ كلنا نقف مدد ًا طويلة؟!‬
‫فرد عليه سيد قطب‪ :‬ولكننا تطبق علينا في السجن مبادئ الثورة!‬
‫ثم نزع سيد قطب رداءه عن جسمه أمام احلضور‪ ،‬فظهر للحاضرين جميع ًا‬
‫آثار التعذيب الشديد على جسمه فاضطر رئيس احملكمة جمال سالم لرفع‬

‫((( سورة املائدة‪ ،‬آية‪.27 :‬‬


‫((( «سراديب الشيطان»‪ ،‬ألحمد رائف‪ ،‬ص‪.152 :‬‬
‫‪200‬‬
‫اجللسة فور ًا(((‪ ،‬فهذه احلادثة تدل على جرأة سيد قطب وشجاعته‪ ،‬فلم يخش‬
‫من احملكمة العسكرية وال من قضاتها اجلالدين‪ ،‬وال من زبانية السجن الذين‬
‫قاموا بتعذيبه‪ ،‬وحتم ًا سيقومون بتعذيبه أشد وأنكى من ذي قبل‪ ،‬وذلك عقب‬
‫رفع اجللسة وإرجاع سيد قطب إلى السجن؛ انتقام ًا منه لفضحه ّإياهم‪ ،‬وبيانه‬
‫تعرض له هو ومن معه من التعذيب في السجن‪.‬‬ ‫للرأي العام ما ّ‬
‫وأيضا كان سيد قطب أثناء محاكمة الدجوي له صادق ًا صريح ًا جريئ ًا‪،‬‬
‫شجاع ًا أبي ًا كرمي ًا(((‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬التح ّلي باألخالق احلسنة‪ :‬حيث كان سيد قطب يعامل من معه في‬
‫السجن ‪ -‬ولو كانوا سجانني ‪ -‬بأخالق إسالمية عظيمة‪ ،‬حتى ملك قلوبهم‪،‬‬
‫وجلأوا إليه كثير ًا؛ بل إن احللواني ‪ -‬مدير السجن ‪ -‬قال‪« :‬إن املدير الفعلي‬
‫للسجن هو سيد قطب»‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬استغالل الوقت فيما ينفع‪ :‬حيث أ ّل��ف سيد قطب في مستشفى‬
‫السجن كتب ًا إسالمية ناضجة‪ ،‬خرجت أصولها من السجن إلى املطبعة(((‪.‬‬
‫ومن الكتب التي أ ّلفها سيد قطب في سجنه؛ ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬أكمل تفسير‪« :‬في ظالل القرآن»‪ ،‬ثم أعاده في طبعته املنقحة‪.‬‬
‫‪ -2‬هذا الدين‪.‬‬
‫‪ -3‬املستقبل لهذا الدين‪.‬‬
‫‪ -4‬اإلسالم ومشكالت احلضارة‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬مجلة املجتمع»‪ ،‬العدد ‪ ،539‬ص‪ ،27 :‬و«مذابح اإلخوان»‪ ،‬جلابر رزق‪،‬‬
‫ص‪.113 :‬‬
‫((( ينظر نص حوار سيد مع القاضي الدجوي في احملكمة‪ ،‬في كتاب «املوتى يتكلمون»‪،‬‬
‫ص‪.282 - 160 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب»‪ ،‬لعادل حمودة‪ ،‬ص‪.131 :‬‬
‫‪201‬‬
‫‪ -5‬خصائص التصور اإلسالمي‬
‫‪ -6‬مقومات التصور اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ -7‬معالم في الطريق((( (ولعله هو الكتاب ال��ذي حوكم سيد قطب‬
‫من أجله‪ ،‬ويعد هذا الكتاب أكثر كتبه تداو ً‬
‫ال وانتشار ًا في األوساط الدعوية‬
‫والفكرية)‪.‬‬
‫والتدبر في كتاب الله‪ :‬حيث عاش‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والتفكر‬ ‫رابع ًا‪ :‬اخللوة مع الله‪ ،‬والتأ ّمل‬
‫عبر عن ذلك في مقدمة‬ ‫سيد قطب في سجنه نعمة احلياة في ظالل القرآن؛ كما ّ‬
‫كتابه‪« :‬في ظالل القرآن»‪« :‬احلياة في ظالل القرآن نعمة‪ .‬نعمة ال يعرفها إلاّ من‬
‫ذاقها‪ .‬نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه‪.‬‬
‫علي باحلياة في ظالل القرآن فترة من الزمان‪ ،‬ذقت‬
‫من ّ‬‫واحلمد لله‪ ..‬لقد ّ‬
‫فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي‪ .‬ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر‬
‫وتباركه وتزكيه»(((‪.‬‬
‫والعزة‪ :‬حيث قابل سيد قطب األذى والتعذيب‬
‫ّ‬ ‫خامس ًا‪ :‬الصبر واالحتساب‬
‫وعزة واحتساب(((‪.‬‬
‫الذي مورس ضده بإميان وصبر وثبات ّ‬
‫سادس ًا‪ :‬الرضا والسعادة مبا ق ّ��دم (في سبيل احلق والوقوف مع أهله‪،‬‬
‫ومقارعة الباطل وأهله)‪ ،‬وأيض ًا رضاه وسعادته مبا سيقدم عليه (وهو املوت)‬
‫كما يدل على ذلك عدة أمور‪:‬‬
‫‪ -1‬رسالتان بعث بهما سيد قطب أثناء فترة انتظاره لإلعدام إلى صديقه‬
‫السعودي أحمد عبدالغفور عطار(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪ :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد‪ ،‬ص‪.364 :‬‬


‫((( «في ظالل القرآن» لسيد قطب‪.11/1 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.348 :‬‬
‫((( ينظر الرسالتني في مجلة‪« :‬كلمة حق» السنة األولى‪ ،‬مايو ‪1967‬م‪ ،‬العدد الثاني‪،‬‬
‫ص‪.40 :‬‬
‫‪202‬‬
‫‪ -2‬قال سيد قطب‪« :‬لست نادم ًا لذلك (أي على قتله على يد النظام)‪ ،‬وال‬
‫متأسف ًا لوفاتي‪ ،‬وإمنا أنا سعيد للموت في سبيل دعوتي»(((‪.‬‬
‫‪ -3‬ما قاله «سيد قطب» أثناء زي��ارة ألخته‪« :‬حميدة قطب» بعد حكم‬
‫اإلعدام بخمسة أيام؛ كما روت ذلك «زينب الغزالي» وكانت مع حميدة قطب‬
‫في زنزانة واحدة‪ ،‬وكان برفقة سيد قطب أثناء زيارته ألخته في السجن أركان‬
‫حرب السجن ويدعى إبراهيم وصفوت الروبي‪ ،‬ثم انصرف أركان حرب‪،‬‬
‫وبقي صفوت وسيد‪ ،‬وكان مما حتدث به سيد أثناء زيارته‪ :‬أن اآلجال ومواعيدها‬
‫بيد الله‪ ،‬وأمرنا بالرضا والتسليم‪ ..‬وكان احلديث عن الرضا بقضاء الله‪ ..‬ثم‬
‫أنهى حديثه‪« :‬فلنوطن أنفسنا على الصبر» ثم انصرف(((‪.‬‬
‫‪ -4‬الصورة التي ظهرت لسيد قطب على التلفزيون أثناء النشرة اإلخبارية‬
‫املسائية مساء يوم األحد ‪1966/8/28‬م حلظة خروجه من السجن ليلة تنفيذ‬
‫حكم اإلعدام فيه‪ :‬حيث ظهر سيد قطب في هذه الصورة وهو منتصب القامة‪،‬‬
‫رافع الرأس‪ ،‬مشرق الوجه‪ ،‬منبسط األسارير‪ ...‬ميد يده لكل جندي وحارس‬
‫أمام السجن احلربي‪ ،‬ويس ّلم عليهم مصافح ًا‪ ،‬ويو ّدعهم بابتسامة مشرقة‪،‬‬
‫وصدق الشاعر في قوله عن ابتسامة سيد قطب هذه‪:‬‬
‫ي����ا ش���ه���ي���د ًا رف������ع ال����ل����ه ج��ب��ه��ة‬
‫احل����������ق ع�����ل�����ى ط����������ول امل�������دى‬
‫س����وف ت��ب��ق��ى ف���ي احل���ن���اي���ا ع��ل��م�� ًا‬
‫ح����ادي���� ًا ل���ل���رك���ب رم�������ز ًا ل��ل��ف��دى‬
‫م�����ا ن���س���ي���ن���ا أن������ت ق�����د ع��ل��م��ت��ن��ا‬
‫(((‬
‫ال�����ردى‬
‫ّ‬ ‫ب��س��م��ة امل��ؤم��ن ف��ي وج���ه‬

‫((( «الشهيد قطب»‪ ،‬ص‪.56 :‬‬


‫((( «أيام من حياتي»‪ ،‬ص‪.182 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬ملاذا أعدم سيد قطب»‪ ،‬ص‪.3 :‬‬
‫‪203‬‬
‫سابعا‪ :‬التضحية بنفسه (التي تعد أغلى ما ميلك) في سبيل احلق الذي‬
‫يحمله‪ ،‬كما يدل على ذلك قول سيد قطب في تقريره قبل إعدامه‪« :‬إنه آن أن‬
‫يقدم إنسان مسلم رأسه ثمن ًا إلعالن وجود حركة إسالمية»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫تعرض‬‫ثامن ًا‪ :‬الثبات على احلق إلى آخر حلظة من حياته‪( :‬فعلى الرغم مما ّ‬
‫له من شدة التعذيب‪ ،‬واحلكم عليه باإلعدام شنق ًا‪ ،‬ومحاولة مساومته وإغرائه‬
‫باملناصب واملال مقابل إسقاط حكم اإلعدام عنه أو تخفيفه) فقد رفض كل‬
‫ذلك‪ ،‬كما يدل على ذلك أنه ملا طلب من سيد قطب أن يكتب كلمات اعتذار‬
‫واسترحام لعبد الناصر مقابل إط�لاق سراحه‪ ،‬قال سيد قطب‪« :‬إن أصبع‬
‫السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصالة ليرفض أن يكتب حرف ًا يقر به‬
‫حكم طاغية»(((‪.‬‬
‫فرفض سيد قطب كل ذلك حتى آخر حلظة من حياته‪.‬‬
‫إننا نحسبه ‪-‬والله حسيبه‪ -‬رحل إلى ربه شهيد ًا‪ ،‬وأنه ممن باع حياته لله‬
‫رخيصة‪.‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫توفي سيد قطب (شهيد ًا فيما نرجو من الله) فجر يوم اإلثنني ‪ 13‬جمادى‬
‫تقدم سيد قطب (ومن معه)‬
‫األولى ‪1386‬هـ ‪ -‬املوافق ‪1966/8/29‬م حيث ّ‬
‫إلى حبل املشنقة بخطى وئيدة ثابتة‪.‬‬
‫وبذلك يكون سيد قطب أسدل الستار على آخر صفحة من حياته في هذه‬
‫الدنيا الفانية ليبدأ حياته احلقيقية عند الله(((‪.‬‬
‫وقد رفع الله سيد قطب في حياته وبعد مماته‪ ،‬فصارت ألسنة املؤمنني‬

‫((( «ملاذا أعدموني»‪ ،‬ص‪.7 :‬‬


‫((( ينظر‪« :‬ملاذا أعدم سيد قطب»‪ ،‬ص‪.2 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سيد قطب من امليالد إلى االستشهاد»‪ ،‬لصالح اخلالدي‪ ،‬ص‪.479 :‬‬
‫‪204‬‬
‫الصادقني تلهج بالدعاء له‪ ،‬والثناء عليه‪ ،‬بل تسابق العلماء واألدباء إلى الكتابة‬
‫عنه‪ ،‬ونشر أفكاره وتراثه‪ ،‬وتناقلت األجيال مواقفه الشجاعة‪ ،‬وثباته في وجه‬
‫الباطل وأهله‪.‬‬
‫أما قاتلوه‪ ،‬فقد ذهبوا إلى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليهم‪ ،‬وألسنة‬
‫املؤمنني الصادقني تلهج بالدعاء عليهم‪ ،‬ولعناتهم تصل إليهم أينما كانوا‪ ،‬وعند‬
‫الله في ذلك اليوم العصيب جتتمع اخلصوم‪ ،‬ويقتص من الظالم للمظلوم‪ ،‬وما‬
‫ربك بظالم للعبيد‪.‬‬
‫رحم الله اإلمام األديب سيد قطب‪ ،‬وجعله عنده مع الشهداء والصاحلني‪،‬‬
‫وحسن أولئك رفيق ًا‪ ..‬آمني‪..‬‬

‫‪205‬‬
206
‫(‪ )13‬الألباين‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫أبوعبدالرحمن محمد بن نوح بن جناتي بن آدم األشقودري‪ ،‬األلباني‪،‬‬
‫األرن��اؤوط��ي‪ ،‬الشهير بـ«محمد ناصر الدين األلباني»‪ ،‬اإلم���ام‪ ،‬العالمة‪،‬‬
‫���دث(((‪ .‬وأم��ا نسبه‪ ،‬فيعود نسبه إلى «أش��ق��ودرة» عاصمة ألبانيا يومئذ‪.‬‬
‫احمل ّ‬
‫مكونات‬
‫واشتهر بـ«األلباني» نسبة إلى ألبانيا‪ .‬وأما «األرناؤوطي» فنسبة إلى ّ‬
‫يتكون منهم‪ :‬األلبانيون‪ ،‬والبشناق‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬و«أرناؤوط»‬
‫سكان ألبانيا‪ ،‬حيث ّ‬
‫نظيرها قولنا‪« :‬العرب»‪ ،‬حيث يتكون منهم‪ :‬بنو متيم‪ ،‬وبنو عدي ‪.‬‬
‫(((‬

‫مولده ونشأته‪:‬‬
‫ولد األلباني في مدينة أشقودرة عاصمة ألبانيا يومئذ‪ ،‬عام ‪1332‬هـ ‪-‬‬
‫‪1914‬م(((‪.‬‬
‫متدينة يغلب عليها ّ‬
‫الطابع‬ ‫ّ‬ ‫وأما نشأة األلباني فقد نشأ في أسرة فقيرة‬
‫الشرعية في‬
‫ّ‬ ‫تخرج والده احلاج نوح جناتي األلباني من املعاهد‬
‫العلمي‪ ،‬فقد ّ‬
‫العاصمة العثمانية ‪ -‬األستانة ‪ -‬قدمي ًا التي تعرف اليوم باسطنبول‪ ،‬ورجع إلى‬
‫الدين وتعليم الناس ما درسه وتلقّاه(((‪.‬‬
‫بالده خلدمة ّ‬

‫الس ّنة»‪ ،‬إلبراهيم العلي‪،‬‬


‫((( ينظر‪« :‬محمد ناصر الدين األلباني‪ :‬محدّ ث العصر‪ ،‬وناصر ّ‬
‫ص‪ ،11 :‬و«ترجمة موجزة»‪ ،‬لعاصم القريوتي‪ ،‬ص‪ ،3 :‬و«الروض الداني»؛ لعصام‬
‫هادي‪ ،‬ص‪.7 :‬‬
‫((( من تسجيل «ترجمة األلباني»؛ ألبي إسحاق احلويني‪ .‬وينظر‪« :‬ترجمة األلباني»‪ ،‬حملمد‬
‫بيومي‪ ،‬ص‪ ،8 :‬و«أحداث مثيرة»‪ ،‬حملمد صالح املنجد‪.‬‬
‫((( ينظر‪« :‬حياة األلباني»‪ ،‬حملمد الشيباني‪ ،44/1 :‬و«أح��داث مثيرة»‪ ،‬حملمد صالح‬
‫املنجد‪ ،‬ص‪ ،8 :‬و«صفحات بيضاء»؛ لعطية عودة‪ ،‬ص‪.19 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬حياة األلباني»‪ ،‬حملمد الشيباني‪ ،44/1 :‬و«أح��داث مثيرة»‪ ،‬حملمد صالح‬
‫املنجد‪ ،‬ص‪ ،8 :‬و«ترجمة موجزة»‪ ،‬لعاصم القريوتي‪ ،‬ص‪.4 - 3 :‬‬
‫‪207‬‬
‫ثم بعد أن تو ّلى حكم ألبانيا امللك «أحمد زوغو» سار بها في طريق حتويلها إلى‬
‫علمانـية وق ّلد الغرب في جميع أمناط حياته‪ ،‬وهنا قرر والد األلباني الهجرة‬
‫ّ‬ ‫بالد‬
‫إلى بالد الشام؛ فرار ًا بدينه‪ ،‬وخوف ًا على أوالده من الفنت‪ ،‬فوقع اختياره على مدينة‬
‫احلج(((‪.‬‬
‫تعرف عليها من قبل في طريق ذهابه وإيابه من ّ‬ ‫دمشق التي كان ّ‬
‫وك��ان سن األلباني حني وص��ل دمشق بصحبة وال��ده (وكافة أفراد‬
‫اخليرية‬
‫ّ‬ ‫أسرته) تسع سنني‪ ،‬وفي دمشق التحق األلباني مبدرسة‪« :‬اإلسعاف‬
‫االبتدائية» بدمشق‪.‬‬
‫وقد متيز األلباني منذ صغره بالذكاء احلاد‪ ،‬حيث أخذ املرحلة االبتدائية‬
‫خالل أربع سنوات‪ ،‬وقد حكى األلباني حكاية تدل على ذكائه وتفوقه على‬
‫السن بالنسبة‬
‫ّ‬ ‫جيدً ا يبدو لتقدمي في‬
‫زمالئه في املدرسة حيث يقول‪« :‬وأذكر ّ‬
‫االبتدائيني‪ ،‬فقد ج��اوزت السنة األول��ى والثانية في سنة واحدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫للطلاّ ب‬
‫ولذلك حصلت على الشهادة االبتدائية في أربع سنوات‪ ،‬ويبدو أنّ الله قد‬
‫احلب هو الذي كان سبب ًا كسبب ما ّدي‬
‫حب اللغة العربية‪ ،‬وهذا ّ‬‫فطرني على ّ‬
‫السوريني في علم‬
‫ّ‬ ‫متفوق ًا على زمالئي من‬
‫متميز ًا ّ‬
‫بعد الفضل اإللهي أن أكون ّ‬
‫اللغة العربية ونحوها‪.‬‬
‫جيد ًا‪« :‬أنّ أستاذ اللغة والنحو حينما كان يكتب جمل ًة أو بيت شعر‬
‫وأذكر ّ‬
‫على اللوح‪ ،‬ويسأل الطلاّ ب عن إعراب تلك اجلملة أو ذلك البيت يكون آخر‬
‫من يطلب منه هو األلباني‪ .‬وكنت يومئذ أعرف باألرناؤوط‪ ...‬فكان أستاذ‬
‫النحو يخرجني آخر واحد إذا عجز الطلاّ ب عن اإلع��راب ويناديني‪ :‬إيه يا‬
‫السوريني‬
‫ّ‬ ‫يعير‬
‫أرناؤوط إيش تقول؟ فأصيب الهدف في كلمة واحدة‪ ،‬فيبدأ ّ‬
‫(((‬
‫بي‪ ،‬ويقول‪ :‬مش عيب عليكم؟! هذا أرناؤوطي؟»‬

‫((( ينظر‪« :‬حياة األلباني»‪ ،‬حملمد الشيباني‪ ،44/1 :‬و«أح��داث مثيرة»‪ ،‬حملمد صالح‬
‫املنجد‪ ،‬ص‪ ،8 :‬و«ترجمة موجزة» لعاصم القريوتي‪ ،‬ص‪.4 - 3 :‬‬
‫((( «اإلمام األلباني»‪ ،‬حملمد بيومي‪ ،‬ص‪ ،14 :‬وينظر‪« :‬اإلمام األلباني دروس ومواقف»‪،‬‬
‫لعبد العزيز السدحان‪ ،‬ص‪ ،272 :‬و«أحداث مثيرة»‪.‬‬
‫‪208‬‬
‫وقد حت ّ��دث األلباني عن هجرة أسرته إلى الشام وفضل وال��ده عليه؛‬
‫حيث يقول‪« :‬جنيت ‪ -‬بفضل الله ورحمته ‪ -‬بسبب هجرته هذه إلى دمشق‬
‫لربي بواجب شكره‪ ،‬ولو عشت عمر نوح ‪ -‬عليه‬ ‫الشّ ام ما ال أستطيع أن أقوم ّ‬
‫العربية السورية أولاً ‪ّ ،‬‬
‫ثم اللغة العربية‬ ‫ّ‬ ‫الصالة والسالم ‪ -‬فقد تع ّلمت فيها اللغة‬
‫الصحيح الذي يجهله‬ ‫مكنني أن أعرف التوحيد ّ‬ ‫الفصحى ثاني ًا‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫ال منهم‪،‬‬‫ال عن أهلي وقومي‪ -‬إلاّ قلي ً‬ ‫أكثر العرب الذين كانوا من حولي ‪-‬فض ً‬
‫ثم وفقني الله ‪-‬بفضله وكرمه دون توجيه من أحد منهم‪ -‬إلى دراسة احلديث‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫والس ّنة أصوال وفقه ًا‪ ،‬بعد أن درست على والدي وغيره من املشايخ شيئ ًا من‬ ‫ّ‬
‫التخرج‬
‫ّ‬ ‫الفقه احلنفي‪ ،‬وما يعرف بعلوم اآللة؛ كال ّنحو والصرف والبالغة‪ ،‬بعد‬
‫من مدرسة اإلسعاف اخليرية االبتدائية»(((‪.‬‬
‫حتول األلباني من دراسة علم الفقه على املذهب احلنفي (الذي تلقّاه‬
‫ثم ّ‬
‫عن والده وعلى يد غيره من علماء املذهب احلنفي) إلى دراسة علم احلديث‬
‫وهو ابن عشرين سنة‪.‬‬
‫والسبب في نقطة حتوله ‪-‬بعد مشيئة الله وفضله‪ -‬حادثة عجيبة ملخصها‪:‬‬
‫أن األلباني في صغره كان يبحث لدى أحد باعة الكتب عن كتاب «ألف ليلة‬
‫وليلة‪ ،‬و«عنترة بن شداد» فلفت نظره «مجلة املنار» لرشيد رضا‪ ،‬وكان عمر‬
‫األلباني وقتئذ سبع عشرة سنة‪ ،‬فأخذ األلباني «مجلة املنار» وفتحها‪ ،‬فوجد‬
‫ال حملمد رشيد يتكلم فيه عن مزايا‬ ‫فيها مقاالت كثيرة‪ ،‬وفيها قرأ األلباني فص ً‬
‫كتاب اإلحياء للغزالي‪ ،‬وينقده من بعض النواحي كالصوفيات‪ ،‬واألحاديث‬
‫الواهية‪ ،‬وذكر أن ألبي الفضل زين الدين العراقي كتاب ًا وضعه على اإلحياء‬
‫وميز صحيحها من ضعيفها‪ ،‬اسمه‪« :‬املغنى عن‬ ‫خرج فيه أحاديث اإلحياء‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫حمل األسفار (الكتب) في األسفار (جمع سفر وهي الرحلة) في تخريج‬
‫فتلهف األلباني لكتاب العراقي األصلي (ولعل‬ ‫ما في اإلحياء من األخبار»‪ّ ،‬‬
‫هذا شيء قذفه الله في قلبه‪ ،‬ال تستطيع أن تقول إنه أتى بتوجيه بشر إطالق ًا)‬

‫((( «سلسلة األحاديث الصحيحة»‪.616 - 615/7 :‬‬


‫‪209‬‬
‫حيث سعى األلباني القتناء كتاب العراقي (أربع مجلدات) (وعمره سبع عشرة‬
‫سنة) حيث استعارها من دار احللبي؛ ألنه لم يكن لديه القدرة املالية على شرائه‬
‫حينئذ‪ ،‬فلما حضر وقت إعادتها كان ال بد له من نسخها‪ ،‬فأخذ األلباني ينسخها‬
‫بيده باستخدام مسطرة من كرتون مقوى‪ ،‬وخطوط متوازية؛ حتى نسخ اجلزء‬
‫األول‪ ،‬ثم نسخ الكتاب كله (ألفني واثنتي عشرة صفحة) بخط يده‪.‬‬
‫وهذا أمر فريد يدل على متيز األلباني منذ صغره باجللد‪ ،‬فإننا لم نر ولم‬
‫ال في هذا الزمن أن واحد ًا عمره ثماني عشرة سنة أخذ‬ ‫نسمع ولم نقرأ له مثي ً‬
‫كتاب ًا من أربع مجلدات ونسخ ألفي صفحة بيده‪.‬‬
‫ثم بدأ األلباني يبحث عن معاني الكلمات الغريبة التي متر به (ألن مستوى‬
‫كتاب العراقي أعلى من مستواه بكثير في ذلك الوقت)‪ ،‬حيث بدأ بالرجوع إلى‬
‫مراجع اللغة العربية‪ ،‬ثم بدأ يكتب املعاني‪ ،‬ويضع حواش على هذا الكتاب‬
‫خطه بيده‪ ،‬وال يزال هذا الكتاب املخطوط بخط يده موجود ًا في مكتبة‬ ‫الذي ّ‬
‫األلباني إلى اآلن‪ ،‬مع تعليقاته عليه(((‪.‬‬
‫وكان األلباني في مرحلة طلبه األولى للعلم يجمع بني طلب العلم والعمل‪،‬‬
‫فقد عمل األلباني في البداية في أعمال حرة ال تتعارض مع طلب العلم؛ حيث‬
‫عمل في البداية في النجارة (ملدة سنتني) حيث تع ّلمها في دمشق من خاله‪،‬‬
‫ومن رجل آخر يكنى بأبي محمد‪ ،‬ولكنه لم ينجذب لهذه املهنة (ألنها تهد القوة‬
‫فتحول عنها إلى مهنة إصالح الساعات‪ ،‬حيث تع ّلمها من والده‬ ‫ّ‬ ‫وتشغل كثير ًا)‬
‫(الذي كان له دكان إلصالح الساعات‪ ،‬وهو صاحب صنعة في هذا املجال)‬
‫فلما أخذ األلباني هذه املهنة من والده وأتقنها فتح األلباني دكان ًا خاص ًا به‪.‬‬
‫وفي دكانه اخلاص عمل األلباني في مهنة إصالح الساعات‪ ،‬حتى ّ‬
‫يتمكن‬
‫عبر األلباني عن ذلك‬
‫من احلصول على القوت الضروري له وألسرته؛ كما ّ‬

‫((( ينظر‪« :‬الروض الداني»‪ ،‬لعصام هادي‪ ،‬ص‪ ،.8 ،7 :‬و«أحداث مثيرة»‪ ،‬حملمد صالح‬
‫املنجد‪.‬‬
‫‪210‬‬
‫وجهني منذ أول شبابي إلى تع ّلم‬
‫علي أن ّ‬
‫بقوله‪« :‬من توفيق الله تعالى وفضله ّ‬
‫الس ّنة‪ ،‬فقد أعطيت‬
‫هذه املهنة‪ ،‬ذلك أنها حرة ال تتعارض مع جهودي في علم ّ‬
‫لها من وقتي ثالث ساعات زمنية فقط‪ ،‬ماعدا الثالثاء واجلمعة‪ ،‬وهذا القدر‬
‫ميكنني من احلصول على القوت الضروري لي ولعيالي وأطفالي على طريقة‬
‫الكفاف (طبع ًا) فإن من دعائه عليه الصالة والسالم‪« :‬اللهم اجعل رزق آل‬
‫محمد قوت ًا»(((‪.‬‬
‫ثم ملا احتاج األلباني إلى مزيد من الكتب ميم وجهه شطر املكتبة الظاهرية‬
‫التي كانت خزانة للمخطوطات والكتب‪ ،‬ومستودع ًا عظيم ًا جد ًا لها‪ ،‬وفيها‬
‫كان ميكث للقراءة ثمان ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة‪.‬‬
‫وكان يفتح دكانه أحيان ًا يومني فقط في األسبوع لكسب العيش‪ ،‬والباقي‬
‫في املكتبة الظاهرية(((‪.‬‬
‫ثم استمر األلباني في مرحلته العلمية والعملية والدعوية حتى نفع الله به‬
‫أمة اإلسالم‪ ،‬حيث صار يضرب به املثل في علم احلديث‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫أثنى على األلباني علماء ميثّلون هيئات رسمية حكومية‪ ،‬ومجامع علمية‪،‬‬
‫وجامعات إسالمية‪ ،‬ومؤسسات شرعية‪ ،‬وأيض ًا أثنى عليه علماء ودعاة وأدباء‬
‫وشعراء مبسمياتهم اخلاصة‪.‬‬
‫وأقوال العلماء في الثناء عليه كثيرة جد ًا‪ ،‬نذكر منها ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بدولة الكويت‪ :‬حيث جاء في‬
‫بيانها‪« :‬وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بدولة الكويت مع إميانها بقضاء الله‬
‫محدث العصر‪ ،‬إمام العلماء‪،‬‬‫وقدره حتتسب عند الله تعالى العالمة املوهوب ّ‬

‫((( رواه مسلم‪.‬‬


‫((( ينظر‪« :‬حياة األلباني»‪ ،49 - 48/1 :‬و«أحداث مثيرة»‪ ،‬حملمد صالح املنجد‪.‬‬
‫‪211‬‬
‫وعلم ًا من أعالم أهل احلديث؛ سماحة الشيخ محمد ناصر الدين األلباني غفر‬
‫قدم في دنيا الناس ودينهم من نور وهدى وبيان وصدق حمايته‬ ‫الله له بقدر ما ّ‬
‫املطهرة التي قد وهب حياته للدفاع عنها‪ ،‬ورفع علمها خفاق ًا في كل‬
‫ّ‬ ‫للس ّنة‬
‫ّ‬
‫أطراف األرض‪ ،‬وقد نهلت املجامع العلمية من فيض علمه‪ ،‬وتلقّت بالقبول ما‬
‫اعتمده ‪-‬يرحمه الله تعالى‪ -‬من تصحيح األحاديث النبوية‪ ،‬وشكر الله جهاده‬
‫بكل قوة واقتدار في الدفاع عنها‪ ،‬ورد الشبهات والدس الرخيص من خالل‬
‫األحاديث املوضوعة‪.‬‬
‫لقد كان لسماحة الشيخ الراحل ‪-‬يرحمه الله تعالى‪ -‬منهج فريد في محاربة‬
‫البدع واخلرافات‪ ،‬وجمع املسلمني على كلمة احلق والصراط املستقيم»‪.‬‬
‫‪ -2‬اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واالف��ت��اء (ممثلة برئيسها العام‬
‫عبدالعزيز بن عبد الله بن باز‪ ،‬وعضوية كل من عبد الله بن قعود‪ ،‬عبد الله‬
‫ابن غديان‪ ،‬عبد الرزاق عفيفي) حيث قالت اللجنة‪« :‬الرجل معروف لدينا‬
‫الس ّنة واجلماعة‬
‫الس ّنة وخدمتها‪ ،‬وتأييد مذهب أهل ّ‬‫بالعلم والفضل وتعظيم ّ‬
‫في التحذير من التعصب والتقليد األعمى‪ ،‬وكتبه مفيدة‪ ،‬ولكنه كغيره من‬
‫العلماء ليس مبعصوم‪ ،‬يخطئ ويصيب‪ ،‬ونرجو له في إصابته أجرين‪ ،‬وفي‬
‫(((‬
‫خطئه أجر االجتهاد»‬
‫ال بأمينه العام احلبيب بلخوجة) حيث قال‬‫‪ -3‬مجمع الفقه اإلسالمي (ممث ً‬
‫علماء املجمع‪« :‬إننا فقدنا مبوته رج ً‬
‫ال سباق ًا إلى خدمة العالم اإلسالمي فكان‬
‫بذلك مرجع ًا لعدد كبير من األساتذة والشيوخ»‪.‬‬
‫‪ -4‬رابطة العالم اإلسالمي (ممثلة بأمينها العام عبدالله صالح العبيد) حيث‬
‫قال علماء الرابطة‪« :‬ال شك بأن فقد األمة اإلسالمية بوفاة الشيخ األلباني تعتبر‬
‫خسارة فادحة»‪.‬‬
‫‪ -5‬هيئة جائزة امللك فيصل العاملية‪ ،‬حيث جاء في قرارها في دورتها الثانية‬

‫((( فتاوى اللجنة الدائمة‪ ،225 - 224/12 :‬رقم الفتوى (‪.)5981‬‬


‫‪212‬‬
‫والعشرين بتاريخ ‪ 18 - 15‬رمضان ‪1419‬هـ املوافق ‪ 5 - 2‬يناير ‪1999‬م‪:‬‬
‫«تقرر منح الشيخ محمد ناصر الدين حاج نوح األلباني جائزة امللك فيصل‬ ‫ّ‬
‫العاملية للدراسات اإلسالمية لهذا العام (‪1449‬هـ ‪1999/‬م) وموضوعها‪:‬‬
‫«اجلهود العلمية التي عنيت باحلديث النبوي حتقيق ًا وتخريج ًا ودراسة»‪ ،‬ومما‬
‫جاء في قرارها أيض ًا‪« :‬ويعتبر الشيخ األلباني شخصية علمية رائدة وصاحب‬
‫متميزة»‪.‬‬
‫مدرسة ّ‬
‫‪ -6‬حافظ عبد الرحمن مدني(مدير جامعة الهور اإلسالمية)‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫«إن الشيخ قد ترك لألجيال ذخيرة ال يستغنى عنها»‪.‬‬
‫‪ -7‬محمد بن إبراهيم آل الشيخ (مفتي عام اململكة رئيس القضاة فيها)‬
‫حيث قال‪« :‬صاحب س ّنة‪ ،‬ونصرة للحق‪ ،‬ومصادمة ألهل الباطل»(((‪.‬‬
‫‪ -8‬صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (معالي وزي��ر الشؤون‬
‫اإلسالمية واألوق��اف السعودية) حيث قال‪« :‬الشك أن فقد العالمة الشيخ‬
‫ومحدث من‬
‫ّ‬ ‫علم من أعالم األمة‬
‫محمد ناصر الدين األلباني مصيبة ألنه ٌ‬
‫الس ّنة‪ ...‬إن للفقيد‬
‫محدثيهم وبهم حفظ الله ‪-‬جل وعال‪ -‬هذا الدين ونشر بهم ّ‬
‫عدة في نصرة العقيدة السلفية ومنهج أهل احلديث»‪.‬‬
‫مآثر ّ‬
‫‪ -9‬عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ (مفتي عام اململكة الرئيس العام‬
‫إلدارات البحوث العلمية واإلفتاء الشيخ) حيث قال‪« :‬أحد العلماء في هذا‬
‫للس ّنة ومدافع عنها»‪.‬‬
‫رجل صاحب س ّنة ومحب ّ‬‫العصر‪ ...‬فهو ٌ‬
‫‪ -10‬عبد العزيز بن عبد الله بن باز (مفتي عام اململكة) حيث قال‪« :‬ما‬
‫رأيت حتت أدمي السماء عامل ًا باحلديث في العصر احلديث مثل العالمة محمد‬
‫ناصر الدين األلباني»(((‪.‬‬
‫‪ -11‬محمد بن صالح العثيمني حيث قال‪« :‬ذو علم ّ‬
‫جم في احلديث رواية‬

‫((( «اإلمام األلباني»‪ ،‬لعبد العزيز السدحان‪ ،‬ص‪.217 :‬‬


‫((( «حياة األلباني»‪ ،‬حملمد بن إبراهيم الشيباني‪.66/1 :‬‬
‫‪213‬‬
‫ودراية‪ ،‬وإنّ الله تعالى قد نفع فيما كتبه كثير ًا من الناس؛ من حيث العلم‪ ،‬ومن‬
‫حيث املنهاج واالجتاه إلى علم احلديث»(((‪.‬‬
‫وقال أيض ًا‪« :‬الرجل طويل الباع‪ ،‬واسع االطالع‪ ،‬قوي اإلقناع‪ ،‬وكل واحد‬
‫يؤخذ من قوله ويترك سوى قول الله ورسوله‪ ،‬ونسأل الله تعالى أن يكثر من‬
‫أمثاله في األمة اإلسالمية»(((‪.‬‬
‫وقال أيض ًا‪« :‬الذي عرفته عن الشيخ من خالل اجتماعي به ‪-‬وهو قليل‪-‬‬
‫بالس ّنة‪ ،‬ومحاربة البدعة سواء كانت في العقيدة‬ ‫أنه حريص جد ًا على العمل ّ‬
‫أم في العمل‪ .‬أما من خالل قراءتي ملؤلفاته فقد عرفت عنه ذلك‪ ،‬وأنه ذو علم‬
‫جم في احلديث رواية ودراية‪ ،‬وأن الله تعالى قد نفع فيما كتبه كثير ًا من الناس‬
‫ّ‬
‫من حيث العلم ومن حيث املنهاج واالجتاه إلى علم احلديث‪ ،‬وهو ثمرة كبيرة‬
‫للمسلمني‪ ،‬ولله احلمد(((‪.‬‬

‫وقال أيض ًا‪« :‬األلباني رجل من أهل ّ‬


‫الس ّنة ‪-‬رحمه الله‪ -‬مدافع عنها‪ ،‬إمام‬
‫في احلديث‪ ،‬ال نعلم أن أحد ًا يباريه في عصرنا»(((‪.‬‬
‫‪ -12‬بكر بن عبدالله أبو زيد حيث قال‪« :‬وارتسام علمية األلباني في‬
‫عدو‬
‫أمر ال ينازع فيه إال ٌّ‬
‫للس ّنة وعقيدة السلف ‪ٌ -‬‬
‫نفوس أهل العلم‪ ،‬ونصرته ّ‬
‫للقراء‪ ،‬فال نطيل»(((‪.‬‬
‫جاهل‪ ،‬واحلكم ندعه ّ‬
‫‪ -15‬عبد الرحمن عبد اخلالق حيث قال‪« :‬عالم من علماء املسلمني‪ ،‬وعلم‬

‫((( «حياة األلباني»‪ ،‬حملمد الشيباني‪ ،543/2 :‬و«الروض الداني»‪ ،‬لعصام هادي‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.8‬‬
‫((( «حياة األلباني»‪ ،‬حملمد الشيباني‪.543/2 :‬‬
‫((( «حياة األلباني»‪ ،‬حملمد الشيباني‪.543/2 :‬‬
‫((( شريط «مكاملات هاتفية مع مشايخ الدعوة السلفية»‪ ،‬رقم‪ - 4 :‬إصدار‪ :‬مجالس الهدى‬
‫لإلنتاج والتوزيع ‪ -‬اجلزائر‪ ،‬وكان ذلك بتاريخ‪2000/6/12 :‬م‪.‬‬
‫((( «الردود»‪ ،‬ص‪.344 :‬‬
‫‪214‬‬
‫احملدثني وإمامهم في العصر الراهن»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من أعالم الدعوة إلى الله‪ ،‬وشيخ‬
‫ومحدث مشهور وله عناية‬‫ّ‬ ‫‪ -16‬عبد احملسن العباد حيث قال‪« :‬عالم كبير‬
‫الس ّنة‪ ،‬وفي العناية بحديث رسول الله |‪ ،‬وبيان مصادر‬ ‫عظيمة في خدمة ّ‬
‫تلك األحاديث والكتب التي ذكرتها وبيان درجاتها من الصحة والضعف‪...‬‬
‫للس ّنة مشهورة‪ ،‬وال يستغني طلبة العلم عن الرجوع‬ ‫فجهوده عظيمة‪ ،‬وخدمته ّ‬
‫إلى كتبه‪ ،‬وإلى مؤلفاته؛ فإنّ فيها اخلير الكثير وفيها العلم الغزير»(((‪.‬‬
‫‪ -17‬محمد إبراهيم شقرة (رئيس املسجد األقصى) حيث قال‪« :‬لو أن‬
‫الس ّنة وأعالم احلديث واألثر اجتمعت‪ ،‬فصيغ‬
‫شهادات أهل العصر في شيوخ ّ‬
‫منها شهادة واحدة‪ ،‬أو جمعت في ضفث واحد‪ ،‬ثم وضعت على منضدة تاريخ‬
‫العلماء‪ ،‬فأني أحسب أن تكون شهادة صادقة في علم احلديث األوحد‪ ،‬أستاذ‬
‫العلماء‪ ،‬وشيخ الفقهاء‪ ،‬ورأس املجتهدين في هذا الزمان‪ ،‬الشيخ محمد ناصر‬
‫الدين األلباني أكرمه الله في الدارين»(((‪.‬‬
‫‪ -18‬محمد األمني الشنقيطي‪ ،‬حيث يقول عبد العزيز الهده‪« :‬كان الشيخ‬
‫العالمة البحر محمد األمني الشنقيطي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬الذي ما علم مثله في‬
‫يجل الشيخ األلباني إجال ً‬
‫ال غريب ًا‪ ،‬حتى إذا رآه‬ ‫عصره في علم التفسير واللغة ّ‬
‫مار ًا وهو في درسه في احلرم املدني يقطع درسه قائم ًا ومس ّلم ًا عليه إجال ً‬
‫ال‬
‫له»(((‪.‬‬
‫‪ -19‬حمود بن عبدالله التويجري حيث قال‪« :‬األلباني –اآلن‪ -‬علم على‬
‫الس ّنة»‪.‬‬
‫الس ّنة‪ ،‬الطعن فيه إعانة على الطعن في ّ‬
‫ّ‬
‫‪ -20‬حمدي عبد املجيد السلفي حيث ق��ال‪« :‬ف��ي احلقيقة إن مصيبة‬

‫((( «حياة األلباني»‪ ،‬حملمد الشيباني‪.545/2 :‬‬


‫((( «مجلة األصالة»‪ ،‬عدد‪ ،23 :‬ص‪ 15( ،13 :‬شعبان ‪1420‬هـ)‪.‬‬
‫((( «حياة األلباني»‪ ،‬حملمد الشيباني‪.545/2 :‬‬
‫((( «مجلة األصالة»‪ ،‬عدد (‪.)23‬‬
‫‪215‬‬
‫اإلسالم بوفاته كبيرة‪ ...‬ونبكي على هذا الفراغ الذي تركه شيخنا في خدمة‬
‫الس ّنة والدعوة اإلسالمية»‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -21‬زيد بن فياض‪ ،‬حيث قال‪« :‬إن الشيخ محمد ناصر الدين األلباني من‬
‫األعالم البارزين في هذا العصر‪ ،‬وقد عني باحلديث وطرقه ورجاله ودرجته من‬
‫الصحة أو عدمها‪ ،‬وهذا عمل جليل من خير ما أنفقت فيه الساعات وبذلت فيه‬
‫املجهودات‪ ،‬وهو كغيره من العلماء الذين يصيبون ويخطئون‪ ،‬ولكن انصرافه إلى‬
‫هذا العلم العظيم مما ينبغي أن يعرف له به الفضل‪ ،‬وأن يشكر على اهتمامه به»‪.‬‬

‫‪ -22‬محمد حامد الفقي حيث قال‪« :‬األخ السلفي ّ‬


‫البحاثة الشيخ ناصر‬
‫الدين»‪.‬‬

‫‪ -23‬محب الدين اخلطيب حيث قال‪« :‬من دعاة ّ‬


‫الس ّنة الذين وقفوا حياتهم‬
‫على العمل إلحيائها»‪.‬‬
‫‪ -24‬عبد الله السبت حيث قال‪« :‬ال أعلم على وجه األرض من هو اعلم‬
‫من األلباني»‪.‬‬

‫‪ -24‬علي حسن احللبي حيث ق��ال‪« :‬إنّ إج��م��اع علماء أه��ل ّ‬


‫الس ّنة‬
‫حيهم‪ ،‬ليكاد ‪-‬ولله احلمد‪ -‬ينعقد‬ ‫ميتهم‪ ،‬وحفظ الله ّ‬ ‫املعاصرين‪ ،‬رحم الله ّ‬
‫احملدث أبي عبد الرحمن محمد‬ ‫ّ‬ ‫وأستاذية شيخنا الوالد العلاّ مة‬
‫ّ‬ ‫على إمامة‬
‫‪-‬تغمده الله برحمته‪ ،-‬وكلماتهم‬
‫ّ‬ ‫ناصر الدين األلباني‪ ،‬املتوفّى سنة ‪1420‬هـ‬
‫في ذلك كثيرة منثورة‪ ،‬ومشهورة‪ ،‬ومبرورة» ‪.‬‬
‫(((‬

‫مؤلّفاته‪:‬‬
‫أث��رى األلباني املكتبة اإلسالمية مبؤلفاته النافعة‪ ،‬وحتقيقاته الرائعة‪،‬‬
‫وتعليقاته املاتعة (وبعض مؤلفاته وحتقيقاته وتعليقاته ما تزال مخطوطة لم تطبع‬
‫بعد)‪ ،‬ومما طبع منها نذكر ما يلي‪:‬‬

‫((( «الدرر املتأللئة»‪ ،‬لعلي احللبي‪ ،‬ص‪.6 :‬‬


‫‪216‬‬
‫أو ًال‪ :‬املؤلفات (املطبوعة)‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -1‬صحيح الترغيب والترهيب‪.‬‬
‫‪ -2‬اللحية في نظر الدين‪.‬‬
‫‪ -3‬صالة العيدين في املص ّلى هي ّ‬
‫الس ّنة‪.‬‬
‫‪ -4‬فهرس مسند اإلمام أحمد بن حنبل في مقدمة املسند‪.‬‬
‫‪ -5‬نقد نصوص حديثية في الثقافة العامة‪.‬‬
‫والس ّنة وآثار السلف‬
‫‪ -6‬مناسك احلج والعمرة في الكتاب ّ‬
‫‪ -7‬احلديث حجة بنفسه في العقائد واألحكام‪.‬‬
‫عما في كلمات أبي غدة من األباطيل واالفتراءات‪.‬‬
‫‪ -8‬كشف النقاب ّ‬
‫الس ّنة في اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -9‬منزلة ّ‬
‫‪ -10‬سلسلة األحاديث الضعيفة وأثرها السيئ في األمة‪.‬‬
‫‪ -11‬خطبة احلاجة‪.‬‬
‫‪ -12‬فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية (املنتخب من مخطوطات‬
‫احلديث)‪.‬‬
‫‪ -13‬التعقيب على كتاب احلجاب للمودودي‪.‬‬
‫‪ -14‬الرد على رسالة أرشد السلفي‪.‬‬
‫‪ -15‬سلسلة األحاديث الصحيحة وشيء من فقهها‪.‬‬
‫‪ -16‬تسديد اإلصابة إلى من زعم نصرة اخللفاء الراشدين والصحابة‪.‬‬
‫‪ -17‬مختصر صحيح البخاري‪.‬‬
‫‪ -18‬دفاع عن احلديث النبوي والسيرة‪.‬‬
‫‪ -19‬التوسل‪ :‬أحكامه وأنواعه‪.‬‬
‫والس ّنة‪.‬‬
‫‪ -20‬حجاب املرأة املسلمة في الكتاب ّ‬
‫‪ -21‬وجوب األخذ بحديث اآلحاد في العقيدة‪.‬‬
‫‪217‬‬
‫‪ -22‬صفة صالة النبي من التكبير إلى التسليم كأنك تراها‪.‬‬
‫‪ -23‬تلخيص صفة صالة النبي‪.‬‬
‫‪ -24‬قيام رمضان وبحث عن االعتكاف‪.‬‬
‫‪ -25‬حتذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد‪.‬‬
‫‪ -26‬أحكام اجلنائز‪.‬‬
‫‪ -27‬تلخيص أحكام اجلنائز‪.‬‬
‫املطهرة‪.‬‬
‫الس ّنة ّ‬
‫‪ -28‬آداب الزفاف في ّ‬
‫‪ -29‬نصب املجانيق في نسف قصة الغرانيق‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬التحقيقات العلمية (املطبوعة)‪:‬‬
‫‪ -1‬رياض الصاحلني للنووي‪.‬‬
‫‪ -2‬الكلم الطيب البن تيمية‪.‬‬
‫‪ -3‬صحيح الكلم الطيب البن تيمية‪.‬‬
‫‪ -4‬اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي‪.‬‬
‫‪ -5‬كتاب العلم للحافظ أبي خيثمة‪.‬‬
‫‪ -6‬مختصر صحيح مسلم للمنذري‪.‬‬
‫‪ -7‬فضل الصالة على النبي إلسماعيل بن إسحاق‪.‬‬
‫‪ -8‬لفتة الكبد في تربية الولد البن اجلوزي‪.‬‬
‫‪ -9‬مساجلة علمية بني اإلمامني اجلليلني‪ :‬العز بن عبدالسالم وابن‬
‫الصالح‪.‬‬
‫‪ -10‬تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر‪.‬‬
‫‪ -11‬مشكاة املصابيح للتبريزي‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬التخريجات (املطبوعة)‪:‬‬
‫‪ -1‬صحيح اجلامع الصغير وزيادته‪.‬‬
‫‪ -2‬ضعيف اجلامع الصغير وزيادته‪..‬‬
‫البينات في عدم سماع األموات عند احلنفية السادات حملمود‬
‫‪ -3‬اآليات ّ‬
‫اآللوسي‪.‬‬
‫‪ -4‬غاية املرام في تخريج أحاديث كتاب احلالل واحلرام‪.‬‬
‫‪ -5‬حقيقة الصيام البن تيمية‪.‬‬
‫‪ -6‬شرح العقيدة الطحاوية ألبي جعفر الطحاوي‪.‬‬
‫‪ -7‬املرأة املسلمة للشيخ حسن البنا‪.‬‬
‫‪ -8‬تخريج أحاديث مشكلة الفقر وكيف عاجلها اإلسالم للقرضاوي‪.‬‬
‫‪ -9‬ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة اجلديدة القومية البرهان حملمود‬
‫اآللوسي‪.‬‬
‫‪ -10‬تخريج اإلميان ألبي عبيد القاسم بن سالم‪.‬‬
‫‪ -11‬تخريج كتاب الرد على اجلهمية للدارمي‪.‬‬
‫‪ -12‬تخريج كلمة اإلخالص وحتقيق معناها البن رجب احلنبلي‪.‬‬
‫‪ -13‬تخريج كتاب إصالح املساجد من البدع والعوائد جلمال الدين‬
‫القاسمي‪.‬‬
‫‪ -14‬إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل البن ضويان‪.‬‬
‫الس ّنة ألبي عاصم الضحاك‪.‬‬
‫الس ّنة ومعه ظالل اجلنة في تخريج ّ‬
‫‪ -15‬كتاب ّ‬
‫‪ -16‬تخريج كتاب املصطلحات األربعة في القرآن‪.‬‬
‫‪ -17‬تخريج اإلميان البن أبي شيبة‪.‬‬
‫‪ -18‬حجاب املرأة املسلمة ولباسها في الصالة لشيخ اإلسالم ابن تيمية‪.‬‬
‫‪ -19‬تخريج فضائل الشام للربعي‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫رابع ًا‪ :‬اختصار ومراجعة وتعليق (مطبوعة)‪:‬‬
‫‪ -1‬صحيح ابن خزمية لألعظمي‪.‬‬
‫‪ -2‬مختصر كتاب العلو للعلي العظيم للذهبي‪.‬‬
‫‪ -3‬مختصر الشمائل احملمدية للترمذي‪.‬‬
‫‪ -4‬التعليقات على صفة الفتوى واملفتي واملستفتي البن حمدان‪.‬‬
‫‪ -5‬التعليق على كتاب الباعث احلثيث شرح اختصار علوم احلديث‬
‫البن كثير‪.‬‬
‫‪ -6‬مختصر شرح العقيدة الطحاوية‪.‬‬
‫محنته‪:‬‬
‫ملا ذاع صيت األلباني وانتشر بني اخلاصة والعامة إنكاره للمنكرات‪،‬‬
‫وبيانه للبدع واملخالفات الشرعية؛ وخاصة الشركيات والبدع املتع ّلقة بالقبور؛‬
‫احملذرة من ذلك؛ كحديث‪« :‬لعن‬ ‫ّ‬ ‫والس ّنة‬
‫ال على ذلك بنصوص الكتاب ّ‬ ‫مستد ً‬
‫الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(((‪« ،‬أال فال تتخذوا القبور‬
‫مساجد‪ ،‬إني أنهاكم عن ذلك»(((‪.‬‬
‫بل أ ّل��ف في ذلك كتاب‪« :‬حتذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد»‪،‬‬
‫وترك الصالة في املسجد األموي؛ ألن فيه قبر ًا؛ فثار عليه أهل األهواء والبدع‬
‫والضالالت من الصوفية والطرقية والقبورية‪ ،‬وغيرهم من اخلارجني عن منهاج‬
‫السلف؛ حيث عملوا على تأجيج عامة الناس ضده‪ ،‬وسعوا في الوشاية عليه‬
‫إلى السلطات السورية؛ حتى أنه صار في أوائل ‪1960‬م حتت مرصد احلكومة‬
‫والزج به في‬
‫ّ‬ ‫السورية (مع أنه كان بعيد ًا عن السياسة)‪ ،‬وكانت نتيجة ذلك اعتقاله‬

‫((( رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫((( رواه مسلم‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫السجن مرتني؛ كما حكى ذلك األلباني بقوله‪« :‬ولقيت في سبيل ذلك (أي في‬
‫والس ّنة وإحياء السنن‪ ،‬وحتذيره من الشركيات والبدع)‬
‫سبيل دعوته إلى الكتاب ّ‬
‫من األقارب واألباعد ما يلقاه كل داعية للحق ال تأخذه في الله لومة الئم‪...‬‬
‫وسجنت مرتني بسبب وشاياتهم إلى احلكام الوطنيني والبعثيني‪ ،‬وبتصريحي‬
‫لبعضهم حني سئلت‪ :‬ال أؤيد احلكم القائم؛ ألنه مخالف لإلسالم»(((‪.‬‬
‫وأما تفاصيل محنة األلباني‪ ،‬فقد سجن مرتني‪:‬‬
‫والزج به في سجن قلعة دمشق‬
‫ّ‬ ‫األولى‪ :‬كانت قبل ‪ 67‬حيث مت اعتقاله‪،‬‬
‫ملدة شهر ‪-‬وهي نفس القلعة التي سجن فيها (ابن تيمية)‪ ،-‬كما حكى ذلك‬
‫علي أن أسجن في عام‬ ‫قدر ّ‬ ‫األلباني بقوله‪« :‬وشاء الله تبارك وتعالى حيث ّ‬
‫‪1389‬هـ املوافقة لسنة ‪1969‬م مع عدد من العلماء من غير جريرة اقترفناها‬
‫سوى الدعوة إلى اإلسالم وتعليمه للناس‪ ،‬فأساق إلى سجن القلعة بضعة‬
‫أشهر أحتسبها في سبيل الله عز وجل»(((‪ .‬ثم أفرجت عنه احلكومة عندما قامت‬
‫حرب ‪ 67‬مع جميع املعتقلني السياسيني‪.‬‬
‫والزج به في‬
‫ّ‬ ‫الثانية‪ :‬كانت بعد اشتداد احلرب‪ ،‬حيث مت اعتقاله مرة ثانية‬
‫سجن احلسكة شمال شرق دمشق ملدة ثمانية أشهر؛ كما حكى ذلك األلباني‬
‫سيارة ونقلوني من‬‫بقوله (مبين ًا كيفية اعتقاله وتفاصيل محنته)‪« :‬أخذوني في ّ‬
‫مكان إلى مكان‪ ،‬ووضعوني في مركز شرطة على أساس ينقلوني‪ ،‬وما أدري‬
‫مر بي أحد بني قومي الذين يسمون «باألرناؤوط»‪ ،‬فسألني عن سبب‬ ‫إلى أين؟ ّ‬
‫وجودي في هذا املكان‪ ،‬فأخبرته باألمر‪ ،‬ثم ذهب الرجل وسأل عن املكان‬
‫قرروا نفيك إلى احلسكة‪ ،‬يعني‬ ‫الذي سينقلوني إليه‪ ،‬ثم جاء وقال لي‪ :‬إنهم ّ‬
‫شمال شرق سوريا‪.‬‬
‫فطلبت منه أن يذهب إلى ابني في ّ‬
‫الدكان ويخبره أن يأتي لي بالشنطة‬

‫((( «سلسلة األحاديث الصحيحة»‪.616/7 :‬‬


‫((( «حياة األلباني»‪.28/1 :‬‬
‫‪221‬‬
‫ومحاية‪ ...‬إلخ‪،‬‬
‫ويضع فيها نسخة صحيح مسلم‪ ،‬وب ّ��راي��ة وقلم رص��اص ّ‬
‫ويدركني هنا‪ ،‬وإلاّ فليلحقني إلى منطلق السيارات إلى حلب‪.‬‬
‫وذهب الرجل إلى ابني‪ ،‬وسارع ابني وأتى لي بكل شيء طلبته‪ ،‬وأدركني‬
‫إلي وس ّلم ّ‬
‫علي‬ ‫والسيارة ترجع القهقرى لتنطلق‪ ،‬فصعد ّ‬
‫ّ‬ ‫السيارات‬
‫في منطلق ّ‬
‫وعانقني وو ّدعني‪ ،‬وانطلقت السيارة بنا إلى حلب‪ ،‬ومن حلب إلى احلسكة‪.‬‬
‫واسع جد ًا ومرتفع‪ ،‬فأدخلوني إلى عروش‬ ‫ٌ‬ ‫سجن جديد‬
‫ٌ‬ ‫احلسكة فيها‬
‫طويل‪ ،‬وإذا فيه شباب من املسلمني من حزب التحرير‪ ،‬ورئيسهم كان يحضر‬
‫ثم انحرف فقلنا‪ :‬رب ضارة نافعة‪ ،‬وكنت ليلاً‬ ‫دروسي في حلب‪ ،‬سلفي يعني‪ّ ،‬‬
‫ونهار ًا في نقاش مع اجلماعة‪ ،‬ولكن أنا جاي أريد أن أشتغل‪ ،‬وكانت اللمبة‬
‫ملتصقة بالسقف‪ ،‬والسقف كان عال جد ًا فحكيت مع صاحبنا هذا الذي كان‬
‫سلفي ًا‪ ،‬اسمه الشيخ مصطفى‪ ،‬وقد مضى عليه في السجن مع األسف نحو‬
‫سنتني‪ ،‬وبسبب طول املكث هناك صار بينهم وبني مدير السجن صحبة‪ ،‬ومدير‬
‫شيء من الفطرة ولو أنه بعثي‪ ،‬فكان يتجاوب فع ً‬
‫ال‬ ‫ٌ‬ ‫السجن الظاهر كان عنده‬
‫مع الشيخ مصطفى ومع املسلمني أولئك ويساعدهم بقدر اإلمكان‪ ،‬وكانوا‬
‫فتحدث‬ ‫ّ‬ ‫املهم أنا أريد كهرباء‪...‬‬
‫مشتركني على الطعام‪ ...‬فاشتركت أنا معهم‪ّ ...‬‬
‫الشيخ مصطفى مع مدير السجن وقال له‪ :‬الشيخ األلباني طالب علم ويريد أن‬
‫يشتغل؛ ألنه أتى معه بالكتب‪.‬‬
‫فقال له مدير السجن‪ :‬نأتي له مبا يريد ولكن على حسابه‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا‬
‫سهل‪ ،‬يأتي هو باألغراض ونحن ندفع‪ ...‬فنزلت اللمبة من فوق إلى فوق‬
‫رأسي متام ًا»(((‪.‬‬
‫ثم بعد سجن األلباني في سجن احلسكة شد األلباني رحاله مهاجر ًا إلى‬
‫عمان حتى توفّاه الله‪.‬‬
‫األردن‪ ،‬حيث استقر به املقام في مدينة ّ‬

‫((( من تسجيل «ترجمة األلباني» ألبي إسحاق احلويني‪ ،‬وينظر‪« :‬اإلمام األلباني»‪ ،‬حملمد‬
‫بيومي‪ ،‬ص‪.39 - ٣٨ :‬‬
‫‪222‬‬
‫تعرض ألصناف‬ ‫ولم تقتصر محنة األلباني على السجن فحسب‪ ،‬بل ّ‬
‫من األذى كالسب والشتم‪ ،‬والتهديد بالنفي واإلخ��راج‪ ،‬واالستجواب من‬
‫قبل السلطات‪ ،‬كما حكى ذلك األلباني بقوله‪« :‬إنّ جماع ًة من املشايخ ‪-‬ومن‬
‫السلفية‪ّ -‬‬
‫نظموا عريض ًة يزعمون فيها أنّي أقوم‬ ‫بينهم من كان يتو ّقع منهم نصرة ّ‬
‫تشوش على املسلمني! وجعلوا يجمعون لها توقيعات الناس!‬ ‫وهابية ّ‬ ‫بدعوة ّ‬
‫ثم رفعوها إلى مفتي الشام‪ ،‬فأحالها بدوره إلى مدير الشرطة الذي استدعاني‬ ‫ّ‬
‫ثم انتهى املوضوع إلى غير شيء» ‪.‬‬
‫(((‬
‫وناقشني في األمر‪ّ ،‬‬
‫وقد واجه األلباني هذه احملنة بأمور عدة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫أو ًال‪ :‬الصبر والثبات واالحتساب والرضا بالقدر‪ :‬فقد كان دائم ًا يردد‬
‫مقولة يوسف ‪-‬عليه السالم‪ -‬التي حكاها القرآن في قوله تعالى‪:‬‬
‫(((‬
‫{ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ}‬
‫حتى أن األلباني قال عن نفسه‪« :‬ما أحسست الغربة بالسجن إطالق ًا»(((‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬العلم والعمل والدعوة إلى الله‪ :‬حيث قام األلباني أثناء فترة سجنه‬
‫والس ّنة‪ ،‬ونبذ البدع‪ ،‬وإحياء السنن‪،‬‬
‫بتعليم املساجني‪ ،‬ودعوتهم إلى الكتاب ّ‬
‫واحملافظة على الفرائض‪ ،‬وقد استجاب له عامة السجناء؛ حيث أقام األلباني‬
‫في السجن صالة اجلماعة واجلمعة في سجن القلعة‪ ،‬حتى قيل‪ :‬إن صالة‬
‫اجلمعة لم تقم في هذا السجن منذ أقامها ابن تيمية أثناء فترة سجنه فيه إال ملا‬
‫دخله األلباني(((‪.‬‬

‫((( ينظر‪« :‬علماء ومفكرون عرفتهم»‪ ،‬حملمد املجذوب‪.294/1 :‬‬


‫((( سورة يوسف‪ ،‬آية‪ ،33 :‬وينظر‪« :‬حياة األلباني»‪ ،‬حملمد الشيباني‪ ،28/1 :‬و«أحداث‬
‫مثيرة»‪ ،‬حملمد صالح املنجد‪.‬‬
‫((( من تسجيل «ترجمة األلباني» ألبي إسحاق احلويني‪ ،‬وينظر‪« :‬اإلمام األلباني»‪ ،‬حملمد‬
‫بيومي‪ ،‬ص‪.39 - ٣٨ :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬حياة األلباني» حملمد الشيباني‪ ،29/1 :‬و«أحداث مثيرة»‪ ،‬حملمد صالح املنجد‪.‬‬
‫‪223‬‬
‫رابع ًا‪ :‬استغالل الوقت‪ ،‬حيث قام مبواصلة مسيرة التأليف‪ ،‬حيث أ ّلف أثناء‬
‫فترة سجنه في سجن احلسكة مختصره على صحيح مسلم ‪-‬وهو غير اختصار‬
‫مسلم للمنذري الذي حقق أحاديثه األلباني‪ ،-‬حيث قال األلباني‪« :‬وهناك (أي‬
‫في سجن احلسكة) عكفت على حتقيق أمنيتي في اختصاره وتهذيبه‪ ،‬وفرغت‬
‫من ذلك في نحو ثالثة أشهر كنت أعمل فيه ليل نهار‪ ،‬ودون كلل وال ملل‪،‬‬
‫وبذلك انقلب ما أراده أعداء األمة انتقام ًا م ّنا إلى نعمة لنا‪ ،‬يتفيأ ظاللها طالب‬
‫العلم من املسلمني في كل مكان‪ ،‬فاحلمد لله الذي بنعمته تتم الصاحلات»(((‪.‬‬
‫يحول محنته إلى منحة بفضل الله‪ ،‬ثم بصدقه‬
‫فبذلك استطاع األلباني أن ّ‬
‫وإخالصه‪.‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫توفي األلباني آخر عصر يوم السبت‪ ،‬الثّاني والعشرين (‪ )22‬من شهر‬
‫جمادى اآلخرة‪ ،‬سنة ‪ 1420‬هـ‪ ،‬املوافق للثاني (‪ )2‬من شهر أكتوبر سنة ‪1999‬‬
‫م‪ ،‬عن عمر يناهز (‪ )88‬عام ًا‪.‬‬
‫وص ّلى عليه تلميذه إبراهيم شقرة‪ ،‬واجتمع ساعة دفنه من حضر من‬
‫قدر بخمسة آالف‬
‫إخوانه‪ ،‬وأبنائه‪ ،‬وتالميذه‪ ،‬وأحبابه‪ ،‬وأصحابه‪ ،‬وأقربائه‪ ،‬مما ّ‬
‫(‪ )5000‬نفس أو يزيد‪.‬‬
‫عمان‪ ،‬على جبل يسمى‪« :‬الهمالن»‪،‬‬
‫ودفن في يوم وفاته في العاصمة ّ‬
‫األهلية اخلاصة التي بجانب بيته ‪.‬‬
‫(((‬
‫ّ‬ ‫بجانب املقبرة‬
‫وقد تولى تغسيل األلباني جاره وصديقه (عزت خضر أبو عبدالله)‪ ،‬وساعده‬
‫في ذلك بعض الناس الذين اختارهم عزت خضر‪ ،‬بنا ًء على وصية األلباني‪.‬‬

‫((( «مختصر صحيح البخاري»‪/1 :‬د‪ ،‬وينظر‪« :‬حياة األلباني»‪ ،‬حملمد الشيباني‪.774/2 :‬‬
‫((( ينظر‪« :‬أحداث مثيرة»‪ ،‬حملمد صالح املنجد‪ ،‬ص‪ ،46 :‬و«صفحات بيضاء»‪ ،‬لعطية‬
‫عودة‪ ،‬ص‪« ،100 :‬اإلمام األلباني»‪ ،‬لعبد العزيز السدحان‪ ،‬ص‪ ،292 :‬و«حصول‬
‫التهاني»‪ ،‬جلمال عزون‪.23/1 :‬‬
‫‪224‬‬
‫وصلى عليه قرابة خمسة آالف‪ ،‬وهذا عدد كبير جد ًا إذا ما قورن بسرعة‬
‫جتهيزه‪ ،‬تنفيذ ًا لوصيته بذلك‪.‬‬
‫ودف��ن األلباني في أق��رب مقبرة لبيته تنفيذا‪ W‬لوصيته‪ ،‬حيث أوصى‬
‫األلباني قبل موته مبا يلي‪« :‬أوصي زوجتي وأوالدي وأصدقائي وكل محب لي‬
‫علي نياحة‬ ‫ً‬
‫إذا بلغه وفاتي‪ :‬أن يدعو لي باملغفرة والرحمة ‪-‬أوال‪ -‬وأال يبكون ّ‬
‫أو بصوت مرتفع‪.‬‬
‫وثاني ًا‪ :‬أن يعجلوا بدفني‪ ،‬وال يخبروا من أقاربي وإخواني إال بقدر ما‬
‫يحصل منهم واجب جتهيزي‪ ،‬وأن يتولى غسلي (عزت خضر أبوعبدالله)‬
‫جاري وصديقي املخلص‪ ،‬ومن يختاره ‪ -‬هو‪ -‬إلعانته على ذلك‪.‬‬
‫وثالث ًا‪ :‬أختار الدفن في أقرب مكان‪ ،‬لكي ال يضطر من يحمل جنازتي إلى‬
‫وضعها في السيارة‪ ،‬وبالتالي يركب املشيعون سياراتهم‪ ،‬وأن يكون القبر في‬
‫مقبره قدمية يغلب على الظن أنها سوف ال تنبش‪...‬‬
‫وعلى من كان في البلد الذي أموت فيه أال يخبروا من كان خارجها من‬
‫ال عن غيرهم‪ -‬إال بعد تشييعي‪ ،‬حتى ال تتغ ّلب العواطف‪،‬‬ ‫أوالدي ‪ -‬فض ً‬
‫وتعمل عملها‪ ،‬فيكون ذلك سبب ًا لتأخير جنازتي‪.‬‬
‫أخرت‪..‬‬
‫قدمت وما ّ‬ ‫سائ ً‬
‫ال املولى أن ألقاه وقد غفر لي ذنوبي ما ّ‬
‫وأوص��ي مبكتبتي ‪-‬كلها‪ -‬س��واء ما كان منها مطبوع ًا‪ ،‬أو تصوير ًا‪ ،‬أو‬
‫مخطوط ًا‪ -‬بخطي أو بخط غيري‪ -‬ملكتبة اجلامعة اإلسالمية في املدينة املنورة؛‬
‫والس ّنة‪ ،‬وعلى منهج السلف‬ ‫ألن لي فيها ذكريات حسنة في الدعوة للكتاب ّ‬
‫الصالح ‪-‬يوم كنت مدرس ًا فيها‪.-‬‬
‫رحم الله األلباني‪ ،‬ورفع درجته‪ ،‬وجزاه الله خير ما جزى عامل ًا عن ّأمته‪.‬‬

‫‪225‬‬
226
‫الفهرس‬
‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬
‫‪5‬‬ ‫اإلهداء ‪.......................................................‬‬
‫‪7‬‬ ‫املقدمة ‪........................................................‬‬
‫‪13‬‬ ‫(‪ )1‬مالك بنأنس ‪..............................................‬‬
‫‪13‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪13‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪16‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪19‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪20‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪25‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪27‬‬ ‫(‪ )2‬أحمد بن حنبل ‪............................................‬‬
‫‪27‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪28‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪29‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪32‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪34‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪42‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪45‬‬ ‫(‪ )3‬البويطي ‪..................................................‬‬
‫‪45‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪45‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪46‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪50‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬

‫‪227‬‬
‫‪50‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪57‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪59‬‬ ‫(‪ )4‬أحمد بن نصر اخلزاعي ‪.....................................‬‬
‫‪59‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪60‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪61‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪62‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪73‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪75‬‬ ‫(‪ )5‬القاضي عياض‪............................................‬‬
‫‪75‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪75‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪77‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪82‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪83‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪86‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪89‬‬ ‫(‪ )6‬أبوبكرالرملي(املعروفبابنالنابلسي)‪......................‬‬
‫‪89‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪89‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪90‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪92‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪92‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪102‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪103‬‬ ‫(‪ )7‬السرخي ‪................................................‬‬

‫‪228‬‬
‫‪103‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪103‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪104‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪105‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪106‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪112‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪113‬‬ ‫(‪ )8‬العز بن عبدالسالم ‪.....................................‬‬
‫‪113‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪113‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪114‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪117‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪118‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪126‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪127‬‬ ‫(‪ )9‬ابن تيمية ‪..................................................‬‬
‫‪127‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪127‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪129‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪134‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪136‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪143‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪147‬‬ ‫(‪ )10‬ابن قيم اجلوزية ‪..........................................‬‬
‫‪147‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬

‫‪229‬‬
‫‪147‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪149‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪152‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪154‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪159‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪161‬‬ ‫(‪ )11‬النورسي ‪................................................‬‬
‫‪161‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪162‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪163‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪166‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪167‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪176‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪177‬‬ ‫(‪ )12‬سيد قطب ‪...............................................‬‬
‫‪177‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪178‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪182‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬
‫‪188‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪190‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪204‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬
‫‪207‬‬ ‫(‪ )13‬األلباني ‪.................................................‬‬
‫‪207‬‬ ‫اسمه ونسبه ‪..................................................‬‬
‫‪207‬‬ ‫مولده ونشأته ‪.................................................‬‬
‫‪211‬‬ ‫ثناء العلماء عليه ‪..............................................‬‬

‫‪230‬‬
‫‪216‬‬ ‫مؤلفاته ‪.......................................................‬‬
‫‪220‬‬ ‫محنته ‪........................................................‬‬
‫‪224‬‬ ‫وفاته ‪.........................................................‬‬

‫‪231‬‬
@

232

You might also like