Professional Documents
Culture Documents
ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
( )1/1
بصفاته أوال قديرا ،وال يزال عالما خبيرا ،استوفى األشياء علمه ،ونفذت فيها إرادته ،فلم
تعزب عليه خفيات األمور ،ولم تغيره سوالف صروف الدهور ،ولم يلحقه في خلق شيء مما
خلق كالل وال تعب ،وال مسه لغوب وال نصب ،خلق األشياء بقدرته ،ودبرها بمشيئته،
وقهرها بجبروته ،وذللها بعزته ،فذل لعظمته المتكبرون ،واستكان لعز ربوبيته المتعظمون،
وانقطع دون الرسوخ في علمه العالمون ،وذلت له الرقاب ،وحارت في ملكوته فطن ذوى
األلباب ،وقامت بكلمته السماوات السبع ،واستقرت األرض المهاد ،وثبتت الجبال
الرواسي ،وجرت الرياح اللواقح ،وسار في جو السماء السحاب ،وقامت على حدودها
البحار ،وهو اهلل الواحد القهار.
-2فنحمده كما حمد نفسه ،وكما هو أهله ومستحقه ،وكما حمده الحامدون من جميع
خلقه ،ونستعينه استعانة من فوض األمر
( )1/8
إليه ،وأقر أنه ال منجى وال ملجأ إال إليه ،ونستغفره استغفار مقر بذنبه ،معترف بخطيئته.
ونشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،إقرارا بوحدانيته ،وإخالصا لربوبيته ،وأنه العالم
بما تظن الضمائر ،وتنطوي عليه السرائر ،وما تخفيه النفوس ،وما تجن البحار ،وما تواريه
األسراب( ،وما تفيض األرحام وما تزداد ،وكل شيء عنده بمقدار) ،ال توارى عنه كلمة،
وال تغيب عنه غائبة( ،وما تسقط من ورقة إال يعلمها ،وال حبة في ظلمات األرض وال رطب
وال يابس إال في كتاب مبين) من اآلية (. )59
ويعلم ما يعمل العاملون وما ينقلب إليه المنقلبون.
- 3ونستهديه بالهدى ،ونسأله التوفيق لمجانبة الردى.
- 4ونشهد أن محمدا صلى اهلل عليه وسلم عبده ورسوله ،ونبيه وأمينه وصفيه ،أرسله إلى
خلقه بالنور الساطع ،والسراج الالمع ،والحجج الظاهرة ،والبراهين واآليات الباهرة،
واألعاجيب القاهرة ،فبّلغ رسالة ربه ،ونصح ألمته ،وجاهد في اهلل حق جهاده ،حتى تمت
كلمة اهلل عز وجل ،وظهر أمره ،وانقاد الناس إلى الحق خاضعين ،حتى أتاه اليقين ،ال وانيا
وال مقصرا،
( )1/9
فصلوات اهلل عليه من قائد إلى هدى مبين ،وعلى أهل بيته الطيبين ،وعلى أصحابه المنتخبين،
وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
عَّر فنا اهلل به الشرائع واألحكام ،والحالل والحرام ،وبَّين لنا به شريعة اإلسالم ،حتى انجلت
عنا طخياء الظالم ،وانحسرت عنا به الشبهات ،وانكشفت عنا به الغيابات ،وظهرت لنا به
البينات.
وجاءنا بـ (كتاب عزيز ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه ،تنزيل من حكيم حميد) من
اآلية ()42- 41
جمع فيه علم األولين واآلخرين ،وأكمل به الفرائض والدين ،فهو صراط اهلل المستقيم،
وحبل اهلل المتين ،فمن تمسك به نجا ،ومن خالفه ضل وغوى ،وفي الجهل تردى ،وحثنا اهلل
في كتابه على التمسك بسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم ،فقال عز وجل( :وما أتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) من اآلية (، )7
( )1/10
وقال عز وجل( :فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) من
اآلية ( ، )63وقال تعالى( :ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى األمر منهم لعلمه الذين
يستنبطونه منهم) من اآلية ( ، )83وقال تعالى( :يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اهلل وأطيعوا
الرسول وأولى األمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اهلل والرسول) من اآلية (، )59
يقول :إلى كتاب اهلل وسنة رسوله( :وما ينطق عن الهوى إن هو إال وحي يوحى) ،وقال
تعالى( :قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ،إن أتبع إال ما يوحى إلي) من اآلية (، )15
( )1/11
وقال( :إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى اهلل ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا
وأطعنا) من اآلية ( )51فأمرهم أن يسمعوا قوله ،ويطيعوا أمره ،ويحذروا مخالفته ،وقال:
(وأطيعوا اهلل وأطيعوا الرسول) من اآلية ( )92فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته،
ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه كما أمرهم بالعمل بكتابه.
- 5فنبذ كثير ممن غلبت عليهم شقوته ،واستحوذ عليهم الشيطان سنن نبي اهلل صلى اهلل
عليه وسلم وراء ظهورهم ،ومالوا إلى أسالف لهم قلدوهم دينهم ،ودانوا بديانتهم ،وأبطلوا
سنن نبي اهلل عليه الصالة والسالم ،ودفعوها وأنكروها وجحدوها افتراء منهم على اهلل( ،قد
ضلوا وما كانوا مهتدين) من اآلية (. )14
أوصيكم عباد اهلل بتقوى اهلل ،وأحذركم الدنيا ،فإنها حلوة خضرة ،تغر أهلها وتخدع
سَّك انها،
( )1/12
قال اهلل تعالى( :واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات
األرض) اآلية من اآلية (. )45
من كان فيها في حيرة أعقبته بعدها عبرة ،ومن أعطته من سرائها بطنا أعقبته من ضرائها
ظهرا ،غرارة غرور ما فيها ،فانية َفاٍن ما فيها ،كما بقوله تعالى( :كل من عليها فان) (، )26
فاعملوا رحمكم اهلل للحياة الدائمة ،ولخلود األبد ،فإن الدنيا تنقضي على أهلها ،وتبقى
األعمال قالئد في رقاب أهلها.
واعلموا أنكم ميتون ،ثم إنكم من بعد موتكم إلى ربكم راجعون( ،ليجزي الذين أساؤوا بما
عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) من اآلية (. )31
فكونوا بطاعة ربكم عاملين ،وعما نهاكم منتهين.
( )1/13
( )1/14
وأنكروا شفاعة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للمذنبين ،ودفعوا الروايات في ذلك عن
السلف المتقدمين.
وجحدوا عذاب القبر ،وأن الكفار في قبورهم يعذبون ،وقد أجمع على ذلك الصحابة
والتابعون رضي اهلل عنهم أجمعين.
ودانوا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين؛ الذين قالوا( :إن هذا إال قول
البشر) (. )25
وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر ،نظيرا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين:
أحدهما الخير ،واآلخر يخلق الشر.
وزعمت القدرية أن اهلل تعالى يخلق الخير ،والشيطان يخلق الشر.
وزعموا أن اهلل تعالى يشاء ما ال يكون ،ويكون ماال يشاء ،خالفا لما أجمع عليه المسلمون
من أن ما شاء اهلل كان ،وما لم يشأ لم يكن ،وردا لقول اهلل تعالى
( )1/15
( )1/16
وجل ،ردا لقول اهلل تعالى لنبيه صلى اهلل عليه وسلم( :قل ال أملك لنفسي نفعا وال ضرا إال ما
شاء اهلل) ( ، )188وإعراضا عن القرآن ،وعما أجمع عليه أهل اإلسالم.
وزعموا أنهم منفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم ،فأثبتوا ألنفسهم الغنى عن اهلل عز
وجل ،ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا اهلل عز وجل بالقدرة عليه ،كما أثبت
المجوس لعنهم اهلل للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوا هلل عز وجل ،فكانوا مجوس
هذه األمة؛ إذ دانوا بديانة المجوس ،وتمسكوا بأقاويلهم ومالوا إلى أضاليلهم.
وقنطوا الناس من رحمة اهلل ،وآيسوهم من روحه ،وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها،
خالفا لقول اهلل تعالى( :ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) من اآلية (. )48
وزعموا أن من دخل النار ال يخرج منها ،خالفا لما جاءت به الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم( :إن اهلل عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن اْمَتَح ُش وا فيها
( )1/17
( )1/18
عز وجل ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا) وغير ذلك مما رواه الثقات عن رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم.
وكذلك جميع أهل البدع من الجهمية والمرجئة والحرورية ،أهل الزيغ فيما ابتدعوا وخالفوا
الكتاب والسنة ،وما كان عليه النبي صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه رضى اهلل عنهم أجمعين،
وأجمعت عليه األمة كفعل المعتزلة والقدرية وأنا ذاكر ذلك بابا بابا ،وشيئا شيئا إن شاء اهلل
تعالى وبه المعونة.
( )1/19
فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة:
فإن قال لنا قائل :قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافعة والمرجئة،
فعرفونا قولكم الذي به تقولون ،وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له:
قولنا الذي نقول به ،وديانتنا التي ندين بها ،التمسك بكتاب اهلل ربنا عز وجل ،وبسنة نبينا
محمد صلى اهلل عليه وسلم ،وما روى عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ،ونحن
بذلك معتصمون ،وبما كان يقول به أبو عبد اهلل أحمد بن محمد بن حنبل -نضر اهلل وجهه
ورفع درجته وأجزل مثوبته -قائلون ،ولما خالف قوله مخالفون؛ ألنه اإلمام الفاضل،
والرئيس الكامل ،الذي
( )1/20
أبان اهلل به الحق ،ودفع به الضالل ،وأوضح به المنهاج ،وقمع به بدع المبتدعين ،وزيع
الزائغين ،وشك الشاكين ،فرحمة اهلل عليه من إمام مقدم ،وجليل معظم ،وكبير مفهم.
وجملة قولنا :أنا نقر باهلل ومالئكته وكتبه ورسله ،وبما جاءوا به من عند اهلل ،وما رواه
الثقات عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ال نرد من ذلك شيئا ،وأن اهلل عز وجل إله واحد
ال إله إال هو ،فرد صمد ،لم يتخذ صاحبة وال ولدا ،وأن محمدا عبده ورسوله ،أرسله
بالهدى ودين الحق.
وأن الجنة والنار حق ،وأن الساعة آتية ال ريب فيها ،وأن اهلل يبعث من في القبور.
وأن اهلل تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله ،وبالمعنى الذي أراده ،استواء منزها
عن الممارسة واالستقرار والتمكن والحلول واالنتقال ،ال يحمله العرش ،بل العرش وحملته
محمولون بلطف قدرته ،ومقهورون في قبضته ،وهو فوق العرش ،وفوق كل شيء ،إلى تخوم
الثرى ،فوقية ال تزيده قربا إلى العرش والسماء ،بل هو رفيع الدرجات عن العرش ،كما أنه
رفيع الدرجات عن الثرى ،وهو مع ذلك قريب من كل موجود ،وهو أقرب إلى العبد من
حبل الوريد ،وهو على كل شيء شهيد.
( )1/21
وأن له سبحانه وجها بال كيف ،كما قال( :ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام) (. )27
وأن له سبحانه يدين بال كيف ،كما قال سبحانه( :خلقت بيدي) من اآلية ( ، )75وكما قال:
(بل يداه مبسوطتان) من اآلية (. )64
وأن له سبحانه عينين بال كيف ،كما قال سبحانه( :تجري بأعيننا) من اآلية (. )14
وأن من زعم أن أسماء اهلل غيره كان ضاال.
وأن هلل علما كما قال( :أنزله بعلمه) من اآلية ( ، )166وكما قال( :وما تحمل من أنثى وال
تضع إال بعلمه) من اآلية (. )11
ونثبت هلل السمع والبصر ،وال ننفى ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج.
( )1/22
ونثبت أن هلل قوة ،كما قال( :أولم يروا أن اهلل الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) من اآلية (
. )15
ونقول :إن كالم اهلل غير مخلوق ،وأنه سبحانه لم يخلق شيئا إال وقد قال له كن ،كما قال:
(إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (. )40
وأنه ال يكون في األرض شيء من خير أو شر إال ما شاء اهلل ،وأن األشياء تكون بمشيئة اهلل
عز وجل ،وأن أحدا ال يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله ،وال يستغني عن اهلل ،وال يقدر
على الخروج من علم اهلل عز وجل.
وأنه ال خالق إال اهلل ،وأن أعمال العباد مخلوقة هلل مقدرة ،كما قال سبحانه( :واهلل خلقكم
وما تعملون) ( ، )96وأن العباد ال يقدرون أن يخلقوا شيئا ،وهم يخلقون،
( )1/23
كما قال( :هل من خالق غير اهلل) من اآلية ( ، )3وكما قال( :ال يخلقون شيئا وهم يخلقون)
من اآلية ( ، )16/ 20وكما قال سبحانه( :أفمن يخلق كمن ال يخلق) ( ، )16/ 17وكما
قال( :أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) ( ، )52/ 35وهذا في كتاب اهلل كثير.
وأن اهلل وفق المؤمنين لطاعته ،ولطف بهم ،ونظر لهم ،وأصلحهم وهداهم ،وأضل الكافرين
ولم يهدهم ،ولم يلطف بهم باإليمان ،كما زعم أهل الزيغ والطغيان ،ولو لطف بهم
وأصلحهم لكانوا صالحين ،ولو هداهم لكانوا مهتدين.
وإن اهلل يقدر أن يصلح الكافرين ،ويلطف بهم حتى
( )1/24
يكونوا مؤمنين ،ولكنه أراد أن يكونوا كافرين ،كما علم وخذلهم وطبع على قلوبهم.
وأن الخير والشر بقضاء اهلل وقدره ،وإنا نؤمن بقضاء اهلل وقدره ،خيره وشره ،حلوه ومره،
ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا ،وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا،
وأن العباد ال يملكون ألنفسهم ضرا وال نفعا إال بإذن اهلل ،كما قال عز وجل( :قل ال أملك
لنفسي نفعا وال ضرا إال ما شاء اهلل) (. )7/ 188
ونلجئ أمورنا إلى اهلل ،ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه سبحانه وتعالى.
ونقول :إن كالم اهلل غير مخلوق ،وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
وندين بأن اهلل ُيرى في اآلخرة باألبصار ،كما ُيرى القمر ليلة البدر ،يراه المؤمنون كما
جاءت الروايات عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
ونقول :إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة ،كما قال
( )1/25
سبحانه( :كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) ( ، )83/ 15وإن موسى صلى اهلل عليه
وسلم سأل اهلل عز وجل الرؤية في الدنيا ،وأن اهلل تعالى تجلى للجبل فجعله دكا ،فأعلم
بذلك موسى أنه ال يراه في الدنيا.
وندين بأن ال نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يستحله ،كالزنا والسرقة وشرب
الخمر ،كما دانت بذلك الخوارج ،وزعمت أنهم كافرون.
ونقول :إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبهها مستحال لها ،غير
معتقد لتحريمها كان كافرا.
ونقول :إن اإلسالم أوسع من اإليمان ،وليس كل إسالم إيمانا.
وندين اهلل عز وجل بأنه يقلب القلوب بين أصبعين من أصابعه ،وأنه سبحانه يضع السماوات
على أصبع ،واألرضين على
( )1/26
أصبع ،كما جاءت الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من غير تكييف.
وندين بأن ال ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين باإليمان جنة وال نارا ،إال من شهد له
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالجنة ،ونرجو الجنة للمذنبين ،ونخاف عليهم أن يكونوا
بالنار معذبين ،أجارنا اهلل منها بشفاعة سيدنا وحبيبنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
ونقول :إن اهلل عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض ،وأن الميزان حق ،والصراط حق ،والبعث بعد الموت حق،
وأن اهلل عز وجل يوقف العباد في الموقف ،ويحاسب المؤمنين.
وأن اإليمان قول وعمل ،يزيد وينقص ،ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل ،حتى تنتهي إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم.
( )1/27
وندين بحب السلف الذين اختارهم اهلل تعالى لصحبة نبيه صلى اهلل عليه وسلم ،ونثني عليهم
بما أثنى اهلل به عليهم ،ونتوالهم أجمعين.
ونقول :إن اإلمام الفاضل بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبو بكر الصديق رضى اهلل عنه،
وأن اهلل سبحانه وتعالى أعز به الدين ،وأظهره على المرتدين ،وقدمه المسلمون باإلمامة ،كما
قدمه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للصالة ،وسموه بأجمعهم خليفة رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،ثم عمر بن الخطاب رضى اهلل عنه ،ثم عثمان بن عفان رضى اهلل عنه ،وأن الذين
قتلوه قتلوه ظلما وعدوانا ،ثم علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه.
فهؤالء األئمة بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وخالفتهم خالفة النبوة
( )1/28
ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بها ،ونتولى سائر
أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ونكف عما شجر بينهم.
وندين بأن األئمة األربعة خلفاء راشدون ،مهديون فضالء ،ال يوازنهم في الفضل غيرهم.
ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل عن النزول إلى سماء الدنيا ،وأن الرب عز
وجل يقول( :هل من سائل ،هل من مستغفر) ،وسائر ما نقلوه وأثبتوه خالفا لما قاله أهل
الزيغ والتضليل.
ونعِّو ل فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا عز وجل ،وسنة نبينا صلى اهلل عليه وسلم ،وإجماع
المسلمين ،وما كان في معناه ،وال نبتدع في دين اهلل
( )1/29
( )1/30
وأن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر ،خالفا لقول من أنكر ذلك.
ونرى الدعاء ألئمة المسلمين بالصالح واإلقرار بإمامتهم ،وتضليل من رأى الخروج عليهم
إذا ظهر منهم ترك االستقامة.
وندين بإنكار الخروج بالسيف ،وترك القتال في الفتنة ،ونقر بخروج الدجال -أعاذنا اهلل من
فتنته -كما جاءت به الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
ونؤمن بعذاب القبر ،ومنكر ونكير عليهما الصالة والسالم ،ومساءلتهما المدفونين في
القبور.
ونصدق بحديث المعراج ،وتصحيح كثير من الرؤيا في المنام ،ونقر أن لذلك تفسيرا.
ونرى الصدقة على موتى المسلمين ،والدعاء لهم ،ونؤمن بأن اهلل ينفعهم بذلك.
ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرا ،وأن السحر كائن موجود في الدنيا.
( )1/31
( )1/32
ونقول :إن الصالحين يجوز أن يخصهم اهلل تعالى بآيات يظهرها عليهم.
وقولنا في أطفال المشركين أن اهلل تعالى يؤجج لهم في اآلخرة نارا ،ثم يقول لهم اقتحموها،
كما جاءت بذلك الرواية.
وندين اهلل عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون ،وإلى ما هم صائرون ،وما كان وما يكون ،وما
ال يكون أن لو كان كيف كان يكون ،وبطاعة األئمة ونصيحة المسلمين.
ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ،ومجانبة أهل األهواء.
وسنحتج لما ذكرناه من قولنا ،وما بقى منه مما لم نذكره بابا بابا ،وشيئا شيئا إن شاء اهلل عز
وجل.
( )1/34
( )1/35
( :وال ينظر إليهم يوم القيامة) من اآلية (. )3/ 77
أو يكون عنى نظر الرؤية.
فال يجوز أن يكون اهلل عز وجل عنى نظر التفكير واالعتبار؛ ألن اآلخرة ليست بدار اعتبار.
وال يجوز أن يكون عنى نظر االنتظار؛ ألن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه نظر العينين
اللتين في الوجه ،كما إذا ذكر أهل اللسان نظر القلب فقالوا " :انظر في هذا األمر بقلبك "،
لم يكن معناه نظر العينين ،وكذلك إذا ذكر النظر مع الوجه لم يكن معناه نظر االنتظار؛ الذي
يكون للقلب ،وأيضا فإن نظر االنتظار ال يكون في الجنة؛ ألن االنتظار معه تنغيص وتكدير،
وأهل الجنة في ما ال عين رأت وال أذن سمعت من العيش السليم والنعيم المقيم.
وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن يكونوا منتظرين؛ ألنهم كلما خطر ببالهم شيء أتوا به مع
خطوره ببالهم،
( )1/36
وإذا كان ذلك كذلك فال يجوز أن يكون اهلل عز وجل أراد نظر التعطف؛ ألن الخلق ال
يجوز أن يتعطفوا على خالقهم.
وإذا فسدت األقسام الثالثة صح القسم الرابع من أقسام النظر ،وهو أن معنى قوله( :إلى ربها
ناظرة) أنها رائية ترى ربها عز وجل.
ومما يبطل قول المعتزلة :أن اهلل عز وجل أراد بقوله( :إلى ربها ناظرة) نظر االنتظار ،أنه قال:
(إلى ربها ناظرة) ونظر االنتظار ال يكون مقرونا بقوله( :إلى) ؛ ألنه ال يجوز عند العرب أن
يقولوا في نظر االنتظار " إلى " ،أال ترى أن اهلل تعالى لما قال( :ما ينظرون إال صيحة واحدة)
من اآلية ( )36/ 49لم يقل " إلى "؛ إذ كان معناه االنتظار.
وقال عز وجل مخبرا عن بلقيس:
( )1/37
(فناظرة بم يرجع المرسلون) من اآلية ( ، )27/ 35فلما أرادت االنتظار لم تقل " إلى ".
وقال امرؤ القيس:
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
فلما أراد االنتظار لم يقل " إلى " ،فلما قال سبحانه
( )1/38
( :إلى ربها ناظرة) ( )75/ 23علمنا أنه لم يرد االنتظار ،وإنما أراد نظر الرؤية.
ولما قرن اهلل عز وجل النظر بذكر الوجه؛ أراد نظر العينين اللتين في الوجه ،كما قال( :قد
نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) ( ، )2/ 144فذكر الوجه ،وإنما أراد
تقلب عينيه نحو السماء ينظر نزول الملك عليه ،يصرف اهلل تعالى له عن قبلة بيت المقدس
إلى القبلة.
فإن قيل :لم قلتم :إن قوله تعالى( :إلى ربها ناظرة) إنما أراد إلى ثواب ربها ناظرة؟
( )1/39
قيل له :ثواب اهلل غيره ،واهلل سبحانه وتعالى قال( :إلى ربها ناظرة) ( )75/ 23ولم يقل :إلى
غيره ناظرة.
والقرآن العزيز على ظاهره ،وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إال بحجة ،وإال فهو على ظاهره.
أال ترى أن اهلل عز وجل لما قال :صلوا لي واعبدوني ،لم يجز أن يقول قائل :إنه أراد غيره،
ويزيل الكالم عن ظاهره؛ فلذلك لما قال( :إلى ربها ناظرة) لم يجز لنا أن نزيل القرآن عن
ظاهره بغير حجة.
ثم يقال للمعتزلة :إن جاز لكم أن تزعموا أن قول اهلل تعالى( :إلى ربها ناظرة) إنما أراد به
أنها إلى غيره ناظرة ،فلم ال جاز لغيركم أن يقول :إن قول اهلل سبحانه وتعالى
( )1/40
( :ال تدركه األبصار) ( )6/ 103أراد بها ال تدرك غيره ،ولم يرد أنها ال تدركه؟ وهذا مما
ال يقدرون على الفرق فيه.
ودليل آخر :ومما يدل على أن اهلل تعالى يرى باألبصار قول موسى صلى اهلل عليه وسلم:
(رب أرني أنظر إليك) من اآلية ( )7/ 143وال يجوز أن يكون موسى صلوات اهلل عليه
وسالمه -وقد ألبسه اهلل جلباب النبيين ،وعصمه بما عصم به المرسلين -قد سأل ربه ما
يستحيل عليه ،فإذا لم يجز ذلك على موسى صلى اهلل عليه وسلم علمنا أنه لم يسأل ربه
مستحيال ،وأن الرؤية جائزة على ربنا تعالى.
ولو كانت الرؤية مستحيلة على ربنا تعالى كما زعمت المعتزلة ،ولم يعلم ذلك موسى صلى
اهلل عليه وسلم وعلموه هم لكانوا على
( )1/41
قولهم أعلم باهلل من موسى صلى اهلل عليه وسلم ،وهذا مما ال يدعيه مسلم.
فإن قال قائل :ألستم تعلمون حكم اهلل في الظهار اليوم ،ولم يكن نبي اهلل صلى اهلل عليه
وسلم يعلم ذلك قبل أن ينزل؟
قيل له :لم يكن يعلم نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذلك قبل أن يلزم اهلل العباد حكم الظهار،
فلما ألزمهم الحكم به أعلم نبيه صلى اهلل عليه وسلم قبلهم ،ثم أعلم نبي اهلل صلى اهلل عليه
وسلم عباد اهلل ذلك ،ولم يأت عليه وقت لزمه حكمه فلم يعلم صلى اهلل عليه وسلم ،وأنتم
زعمتم أن موسى صلى اهلل عليه وسلم وقت لزمه علمه وعلمتموه أنتم اآلن لزمكم بجهلكم
( )1/42
أنكم بما لزمكم العلم به اآلن أعلم من موسى صلى اهلل عليه وسلم بما لزمه العلم به ،وهذا
خروج عن دين المسلمين.
ودليل آخر :مما يدل على جواز رؤية اهلل تعالى باألبصار قوله تعالى لموسى صلى اهلل عليه
وسلم( :فإن استقر مكانه فسوف تراني) من اآلية ()7/ 143
فلما كان اهلل تعالى قادرا على أن يجعل الجبل مستقرا؛ كان قادرا على األمر الذي لو فعله
لرآه موسى صلى اهلل عليه وسلم ،فدل ذلك على أن اهلل تعالى قادر أن ُيري عباده نفسه ،وأنه
جائز رؤيته.
فإن قال قائل :فِلم ال قلتم إن قول اهلل تعالى( :فإن استقر مكانه فسوف تراني) من اآلية (
)7/ 143تبعيد للرؤية؟
( )1/43
قيل له :لو أراد اهلل عز وجل تبعيد الرؤية لقرن الكالم بما يستحيل وقوعه ،ولم يقرنه بما
يجوز وقوعه ،فلما قرنه باستقرار الجبل وذلك أمر مقدور هلل سبحانه وتعالى دل ذلك على
أنه جائز أن يرى اهلل تعالى.
أال ترى أن الخنساء لما أرادت تبعيد صلحها لمن كان حربا ألخيها قرنت الكالم بأمر
مستحيل فقالت:
( )1/44
وال أصالح قوما كنت حربهم حتى تعود بياضا حلكة القارى
واهلل تعالى إنما خاطب العرب بلغتها ،وما نجده مفهوما في كالمها ومعقوال في خطابها.
فلما قرن الرؤية بأمر مقدور جائز علمنا أن رؤية اهلل باألبصار جائزة غير مستحيلة.
دليل آخر :قال اهلل عز وجل( :للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ( ، )10/ 16قال أهل
التأويل :النظر إلى اهلل عز وجل ،ولم ُينعم اهلل تعالى على أهل الجنة بأفضل من نظرهم إليه
ورؤيتهم له.
وقال تعالى( :ولدينا مزيد) من اآلية ( )50/ 35قيل :النظر إلى اهلل عز وجل.
وقال تعالى( :تحيتهم يوم يلقونه سالم) من اآلية (، )33/ 44
( )1/45
وإذا لقيه المؤمنون رأوه.
وقال تعالى( :كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) ( )83/ 15فحجبهم عن رؤيته ،وال
يحجب عنها المؤمنين.
( )1/46
فصل
فإن قال قائل :فما معنى قوله تعالى( :ال تدركه األبصار) من اآلية ( )6/ 103؟
قيل له :يحتمل أن يكون ال تدركه في الدنيا ،وتدركه في اآلخرة؛ ألن رؤية اهلل تعالى أفضل
اللذات ،وأفضل اللذات تكون في أفضل الدارين.
ويحتمل أن يكون اهلل تعالى أراد بقوله( :ال تدركه األبصار) من اآلية ( )6/ 103يعني :ال
تدركه أبصار الكافرين المكذبين ،وذلك أن كتاب اهلل يصدق بعضه بعضا ،فلما قال في آية:
إن الوجوه تنظر إليه يوم القيامة ،وقال في آية أخرى :إن األبصار ال تدركه ،علمنا أنه إنما
أراد أبصار الكافرين ال تدركه.
( )1/47
:
ومما يدل على إثبات رؤية اهلل تعالى باألبصار رواية الجماعات من الجهات المختلفة عن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال( :ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ،ال تضارون
في رؤيته) والرؤية إذا أطلقت إطالقا ومثلت برؤية العيان لم يكن معناها إال رؤية العيان،
ورويت الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من طرق مختلفة عديدة ،عدة رواتها أكثر
من عدة خبر الرجم ،ومن عدة من روى أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال( :ال وصية
لوارث) ،ومن عدة رواة المسح على الخفين ،ومن عدة رواة قول رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم( :ال تنكح المرأة على عمتها وال خالتها) ،وإذا كان الرجم وما ذكرناه سننا عند
المعتزلة كانت الرؤية
( )1/49
أولى أن تكون سنة؛ لكثرة رواتها ونقلتها ،كذا يرويها خلف عن سلف.
والحديث (أَّنى أراه) ال حجة فيه؛ ألنه عندما سأل سائل النبي صلى اهلل عليه وسلم عن رؤية
اهلل عز وجل في الدنيا ،وقال له :هل رأيت ربك؟
فقال( :نوٌر أنى أراه) ؟ ألن العين ال تدرك في الدنيا األنوار المخلوقة على حقائقها؛ ألن
اإلنسان لو حدق ينظر إلى عين الشمس فأدام النظر إلى عينها لذهب أكثر نور بصره ،فإذا
كان اهلل سبحانه حكم في الدنيا بأن ال تقوم العين بالنظر إلى عين الشمس فأحرى أن ال يثبت
البصر للنظر إلى اهلل تعالى في الدنيا ،إال أن يقويه اهلل تعالى ،فرؤية اهلل تعالى في الدنيا قد
اختلف فيها.
( )1/50
وقد روي عن أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن اهلل عز وجل تراه العيون في
اآلخرة ،وما روى عن أحد منهم أن اهلل تعالى ال تراه العيون في اآلخرة ،فلما كانوا على هذا
مجتمعين ،وبه قائلين ،وإن كانوا في رؤيته تعالى في الدنيا مختلفين ،ثبتت في اآلخرة
إجماعا ،وإن كانت في الدنيا مختلفا فيها.
ونحن إنما قصدنا إلى إثبات رؤية اهلل تعالى في اآلخرة ،على أن هذه الرواية على المعتزلة ال
لهم؛ ألنهم ينكرون أن اهلل نور في الحقيقة.
فإذا احتجوا بخبر هم له تاركون وعنه منحرفون ،كانوا محجوجين.
دليل آخر:
ومما يدل على رؤية اهلل تعالى باألبصار؛ أنه ليس موجود إال وجائز أن بريناه اهلل عز وجل،
وإنما ال يجوز أن يرى المعدوم ،فلما
( )1/51
كان اهلل عز وجل موجودا مثبتا ،كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل ،وإنما أراد من
نفى رؤية اهلل عز وجل باألبصار التعطيل ،فلما لم يمكنهم أن يظهروا التعطيل صراحا أظهروا
ما يؤول بهم إلى التعطيل والجحود ،تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا.
دليل آخر:
ومما يدل على رؤية اهلل سبحانه باألبصار أن اهلل تعالى يرى األشياء ،وإذا كان لألشياء رائيا
فال يرى األشياء من ال يرى نفسه ،وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه ،وذلك أن من
لم يعلم نفسه ال يعلم األشياء ،فلما كان اهلل تعالى عالما باألشياء كان عالما بنفسه ،فكذلك
من ال يرى نفسه ال يرى األشياء ،ولما كان اهلل عز وجل رائيا لألشياء كان رائيا لنفسه ،وإذا
كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه ،كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها ،وقد قال
تعالى( :إنني معكما أسمع وأرى) من اآلية ( ، )20/ 46فأخبر أنه يسمع كال منهما ويراهما،
ومن زعم أن اهلل عز وجل ال يجوز أن ُيرى باألبصار يلزمه أن ال يجوز أن يكون اهلل عز وجل
رائيا وال عالما وال قادرا؛ ألن العالم والقادر الرائي جائز أن ُيرى.
مسألة:
فإن قال قائل :قول النبي صلى اهلل عليه وسلم( :ترون ربكم) يعني تعلمون ربكم اضطرارا.
قيل له :إن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ألصحابه هذا على سبيل البشارة ،فقال( :فكيف
بكم إذا رأيتم اهلل سبحانه) ،وال يجوز أن يبشرهم بأمر يشركهم فيه مع الكفار ،على أن النبي
صلى اهلل عليه وسلم قال
( )1/53
( :ترون ربكم) وليس يعني رؤية دون رؤية ،بل ذلك عام في رؤية العين ورؤية القلب.
دليل آخر:
إن المسلمين اتفقوا على أن الجنة فيها ماال عين رأت ،وال أذن سمعت ،وال خطر على قلب
بشر من العيش السليم ،والنعيم المقيم ،وليس نعيم في الجنة أفضل من رؤية اهلل تعالى
باألبصار.
وأكثر َمن َعَبَد اَهلل تعالى َعَبَد ه للنظر إلى وجهه الكريم -أرانا اهلل إياه بفضله -فإذا لم يكن
بعد رؤية اهلل عز وجل أفضل من رؤية نبيه صلى اهلل عليه وسلم ،وكانت رؤية نبي اهلل أفضل
لذات الجنة كانت رؤية اهلل عز وجل أفضل من رؤية نبيه صلى اهلل عليه وسلم.
وإذا كان ذلك كذلك لم يحرم اهلل أنبياءه المرسلين ،ومالئكته
( )1/54
المقربين ،وجماعة المؤمنين ،والصديقين النظر إلى وجهه الكريم ،وذلك أن الرؤية ال تؤثر
في المرئي؛ ألن رؤية الرائي تقوم به ،فإذا كان هذا هكذا ،وكانت الرؤية غير مؤثرة في
المرئي لم توجب تشبيها وال انقالبا عن حقيقة ،ولم يستحل على اهلل عز وجل أن َيري عباده
المؤمنين نفسه في جنانه.
مسألة في الرؤية:
احتجت المعتزلة في أن اهلل عز وجل ال ُيرى باألبصار بقوله تعالى( :ال تدركه األبصار وهو
يدرك األبصار) من اآلية ( ، )6/ 103قالوا :فلما عطف اهلل عز وجل بقوله( :وهو يدرك
األبصار) على قوله (ال تدركه األبصار) ،وكان قوله( :وهو يدرك األبصار) على العموم أنه
يدركها في الدنيا واآلخرة ،وأنه يراها في الدنيا واآلخرة ،كان قوله
( )1/55
( :ال تدركه األبصار) دليال على أنه ال تراه األبصار في الدنيا واآلخرة ،وكان في العموم
كقوله( :وهو يدرك األبصار) ؛ ألن أحد الكالمين معطوف على اآلخر.
قيل لهم :فيجب إذا كان عموم القولين واحدا ،وكانت األبصار أبصار العيون وأبصار
القلوب؛ ألن اهلل تعالى قال( :فإنها ال تعمى األبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (
، )22/ 46وقال( :أولي األيدي واألبصار) ( )38/ 45أي فهي باألبصار ،فأراد أبصار
القلوب وهي التي يفضل بها المؤمنون الكافرين ،ويقول أهل اللغة :فالن بصير بصناعته،
يريدون بصر العلم ،ويقولون :قد أبصرته بقلبي ،كما يقولون قد أبصرته بعيني ،فإذا كان
البصر بصر العين
( )1/56
وبصر القلب ثم أوجبوا علينا أن يكون قوله تعالى( :ال تدركه األبصار) في العموم كقوله:
(وهو يدرك األبصار) ؛ ألن أحد الكالمين معطوف على اآلخر ،وجب عليهم بحجتهم أن اهلل
تعالى ال ُيدرك بأبصار العيون وال بأبصار القلوب؛ ألن قوله( :ال تدركه األبصار) في العموم
كقوله( :وهو يدرك األبصار) وإذا لم يكن عندهم هكذا فقد وجب أن يكون قوله تعالى( :ال
تدركه األبصار) أخص من قوله( :وهو يدرك األبصار) وانتقض احتجاجهم.
وقيل لهم :إنكم زعمتم أنه لو كان قوله( :ال تدركه األبصار) خاصا في وقت دون وقت
لكان قوله( :وهو يدرك األبصار) خاصا في وقت دون وقت
( )1/57
،وكان قوله( :ليس كمثله شيء) من اآلية ( ، )42/ 11وقوله( :ال تأخذه ِس َنة وال نوم) من
اآلية ( ، )2/ 255وقوله( :ال يظلم الناس شيئا) من اآلية ( )10/ 44في وقت دون وقت،
فإن جعلتم قوله تعالى( :ال تدركه األبصار) من اآلية ( )6/ 103خاصا رجع احتجاجكم
عليكم ،وقيل لكم :إذا كان قوله( :ال تدركه األبصار) خاصا ولم يجب خصوص هذه اآليات
فلم أنكرتم أن يكون قوله عز وجل( :ال تدركه األبصار) إنما أراد في الدنيا دون اآلخرة؟
وكما أن قوله( :ال تدركه األبصار) أراد بعض األبصار دون بعض ،وال يوجب ذلك تخصيص
هذه اآليات التي عارضتمونا بها.
( )1/58
فإن قالوا :قوله تعالى( :ال تدركه األبصار) يوجب أن ال يدرك بها في الدنيا واآلخرة ،وليس
ينفي ذلك أن نراه بقلوبنا ،ونبصره بها ،وال ندركه بها.
قيل لهم :فما أنكرتم أن يكون ال تدركه بإبصار العيون ال يوجب إذا لم ندركه بها أن ال نراه،
فرؤيتنا له بالعيون وإبصارنا له بها ليس بإدراك له بها ،كما أن إبصارنا له بالقلوب ورؤيتنا له
بها ليس بإدراك له بها.
فإن قالوا :رؤية البصر هي إدراك البصر.
قيل لهم :ما الفرق بينكم وبين من قال :إن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته ،فإذا
كان علم القلب باهلل عز وجل وإبصار القلب له رؤيته إياه ليس بإحاطة وال إدراك فما أنكرتم
أن يكون رؤية العيون وإبصارها هلل عز وجل ليس بإحاطة وال إدراك.
مسألة:
ويقال لهم :إذا كان قول اهلل سبحانه( :ال تدركه األبصار) في العموم
( )1/59
كقوله( :وهو يدرك األبصار) ؛ ألن أحد الكالمين معطوف على اآلخر ،فخبرونا أليس
األبصار والعيون ال تدركه رؤية وال لمسا وال ذوقا وال على وجه من الوجوه؟
فمن قولهم :نعم ،فيقال لهم :أخبرونا عن قوله تعالى( :وهو يدرك األبصار)
أتزعمون أنه يدركها لمسا وذوقا بأن يلمسها؟ فمن قولهم :ال.
فيقال لهم :فقد انتقض قولكم :إن قوله( :وهو يدرك األبصار) في العموم كقوله( :ال تدركه
األبصار) .
مسألة:
إذا قال قائل منهم :إن البصر في الحقيقة هو بصر العين ال بصر القلب .قيل له:
( )1/60
وِلم زعمت هذا وقد سمى أهل اللغة بصر القلب بصرا ،كما سموا بصر العين بصرا ،وإن
جاز لك ما قلته جاز لغيركم أن يزعم أن البصر في الحقيقة هو بصر القلب دون العين ،وإذا
لم نجز هذا فقد وجب أن البصر بصر العين وبصر القلب.
مسألة:
ويقال لهم :حدثونا عن قول اهلل عز وجل( :وهو يدرك األبصار) ما معناه؟
فإن قالوا :معنى (يدرك األبصار) أنه يعلمها.
قيل لهم :وإذا كان أحد الكالمين معطوفا على اآلخر ،وكان قوله تعالى( :وهو يدرك
األبصار) معناه يعلمها ،فقد وجب أن يكون قوله تعالى( :ال تدركه األبصار) ال تعلمه ،وهذا
نفي للعلم ال لرؤية األبصار.
فإن قالوا :معنى قوله تعالى( :وهو يدرك األبصار) أنه يراها رؤية ليس معناها العلم .قيل لهم
( )1/61
( )1/62
( )1/63
( :أال له الخلق) كان هذا في جميع الخلق ،ولما قال( :واألمر) ذكر أمرا غير جميع الخلق،
فدل ما وصفنا على أن أمر اهلل غير مخلوق.
فإن قال قائل :أليس قد قال اهلل تعالى في كتابه( :من كان عدوا هلل ومالئكته ورسله وجبريل)
من اآلية (. )2/ 98
قيل له :نحن نخص القرآن باإلجماع وبالدليل ،فلما ذكر اهلل عز وجل نفسه ومالئكته ولم
يدخل في ذكر المالئكة جبريل وميكائيل وإن كانا من المالئكة ،ثم ذكرهما بعد ذلك كأنه
قال :المالئكة إال جبريل وميكائيل ،ثم ذكرهم بعد ذكر المالئكة فقال :وجبريل وميكائيل.
ولما قال( :أال له الخلق واألمر) من اآلية ( ، )7/ 54ولم يخص قوله الخلق دليل ،كان قوله
أال له الخلق في جميع
( )1/64
الخلق ،ثم قال بعد ذكره الخلق " واألمر " فأبان األمر من الخلق ،وأمُر اهلل كالمه ،وهذا
يوجب أن كالم اهلل غير مخلوق.
وقال سبحانه( :هلل األمر من قبل ومن بعد) من اآلية ( )30/ 4يعني من قبل أن يخلق الخلق
ومن بعد ذلك ،وهذا يوجب أن األمر غير مخلوق.
دليل آخر:
ومما يدل من كتاب اهلل على أن كالمه غير مخلوق؛ قوله سبحانه( :إنما قولنا لشيء إذا
أردناه أن نقول له كن فيكون) ( )16/ 40فلو كان القرآن مخلوقا لوجب أن يكون مقوال
له( :كن فيكون) .
ولو كان اهلل عز وجل قائال للقول " :كن " لكان للقول قوال ،وهذا يوجب أحد أمرين:
إما أن يؤول األمر إلى أن قوله تعالى غير مخلوق.
أو يكون كل قول واقع بقول ال إلى غاية ،وذلك محال ،وإذا استحال ذلك صح وثبت أن هلل
عز وجل قوال غير مخلوق.
( )1/65
سؤال:
فإن قال قائل :معنى قول اهلل( :أن يقول له كن فيكون) إنما يكون فيكون.
قيل :الظاهر أن يقول له ،وال يجوز أن يكون قول اهلل لألشياء كلها كوني هو األشياء؛ ألن
هذا يوجب أن تكون األشياء كلها كالما هلل عز وجل ،ومن قال ذلك أعظم الفرية؛ ألنه يلزمه
أن يكون كل شيء في العالم من إنسان وفرس وحمار وغير ذلك كالم اهلل ،وفي هذا ما فيه.
فلما استحال ذلك؛ صح أن قول اهلل لألشياء كوني غيرها ،وإذا كان غير المخلوقات فقد
خرج كالم اهلل عز وجل عن أن يكون مخلوقا ،ويلزم من يثبت كالم اهلل مخلوقا أن يثبت اهلل
غير متكلم وال قائل ،وذلك فاسد ،كما يفسد أن يكون علم اهلل مخلوقا ،وأن يكون اهلل غير
عالم.
فلما كان اهلل عز وجل لم يزل عالما؛ إذ لم يجز أن يكون لم يزل بخالف العلم موصوفا،
استحال أن يكون لم يزل بخالف الكالم موصوفا؛ ألن خالف الكالم الذي ال يكون معه
كالم سكوت أو آفة ،كما أن خالف العلم الذي ال يكون معه علم جهل أو شك أو آفة،
ويستحيل أن يوصف ربنا
( )1/66
( )1/67
فصل
وزعمت الجهمية -كما زعمت النصارى -أن كلمة اهلل تعالى حواها بطن مريم رضي اهلل
عنها ،وزادت الجهمية عليهم فزعمت أن كالم اهلل مخلوق حل في شجرة ،وكانت الشجرة
حاوية له؛ فلزمهم أن تكون الشجرة بذلك الكالم متكلمة ،ووجب عليهم أن مخلوقا من
المخلوقين كلم موسى صلى اهلل عليه وسلم ،وأن الشجرة قالت :يا موسى إنني أنا اهلل ال إله
إال أنا فاعبدني.
فلو كان كالم اهلل مخلوقا في شجرة لكان المخلوق قال :يا موسى إنني أنا اهلل ال إله إال أنا
فاعبدني ،وقد قال تعالى( :ولكن حق القول مني ألمألّن جهنم من الجنة والناس
( )1/68
أجمعين) ( )32/ 13وكالم اهلل من اهلل تعالى ،فال يجوز أن يكون كالمه الذي هو منه
مخلوقا في شجرة مخلوقة ،كما ال يجوز أن يكون علمه الذي هو منه مخلوقا في غيره،
تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا.
مسألة:
ويقال لهم :كما ال يجوز أن يخلق اهلل إرادته في بعض المخلوقات ،كذلك ال يجوز أن يخلق
كالمه في بعض المخلوقات ،ولو كانت إرادة اهلل مخلوقة في بعض المخلوقات لكان ذلك
المخلوق هو المريد بها ،وذلك يستحيل ،وكذلك يستحيل أن يخلق اهلل كالمه في مخلوق؛
ألن هذا يوجب أن ذلك المخلوق متكلم به ،ويستحيل أن يكون كالم اهلل كالما للمخلوق.
دليل آخر:
ومما يبطل قولهم إن اهلل قال مخبرا عن المشركين أنهم قالوا( :إن هذا إال قول البشر) (
)74/ 25يعني القرآن
( )1/69
فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد جعله قوال للبشر ،وهذا ما أنكره اهلل على المشركين.
وأيضا فلو لم يكن اهلل متكلما حتى خلق الخلق ثم تكلم بعد ذلك لكانت األشياء قد كانت
ال عن أمره وال عن قوله ،ولم يكن قائال لها كوني.
وهذا رد للقرآن ،والخروج عما عليه جمهور أهل اإلسالم.
( )1/70
فصل
واعلموا -رحمكم اهلل -أن قول الجهمية " :إن كالم اهلل مخلوق " ،يلزمهم به أن يكون
اهلل تعالى لم يزل كاألصنام التي ال تنطق وال تتكلم ،لو كان لم يزل غير متكلم؛ ألن اهلل تعالى
يخبر عن إبراهيم عليه الصالة والسالم أنه قال لقومه لما قالوا له( :أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا
إبراهيم) من اآلية (( )21/ 62قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) (/ 63
، ) 21فاحتج عليهم بأن األصنام إذا لم تكن ناطقة متكلمة لم تكن آلهة ،وأن اإلله ال يكون
غير ناطق وال متكلم ،فلما كانت األصنام التي ال يستحيل أن يحييها اهلل وينطقها ال تكون
آلهة فكيف يجوز أن يكون من يستحيل عليه الكالم في قدمه إلها؟ تعالى اهلل عن ذلك علوا
كبيرا.
( )1/71
وإذا لم يجز أن يكون اهلل سبحانه وتعالى في قدمه بمرتبة دون مرتبة األصنام التي ال تنطق؛
فقد وجب أن يكون اهلل لم يزل متكلما.
دليل آخر:
وقد قال اهلل تعالى مخبرا عن نفسه أنه يقول( :لمن الملك اليوم) من اآلية ()40/ 16
وجاءت الرواية أنه يقول هذا القول وال يرد عليه أحد شيئا ،فيقول( :هلل الواحد القهار) من
اآلية ( ، )40/ 16فإذا كان اهلل قائال مع فناء األشياء؛ إذ ال إنسان وال ملك وال حي وال
جان وال شجر وال مدر ،فقد صح أن كالم اهلل خارج عن الخلق؛ ألنه يوجد وال شيء من
المخلوقات موجود.
دليل آخر:
وقد قال اهلل تعالى( :وكلم اهلل موسى تكليما) ( ، )40/ 164والتكليم هو المشافهة بالكالم،
وال يجوز أن يكون كالم المتكلم حاال في غيره ،مخلوقا في شيء سواه ،كما ال يجوز ذلك
في العلم.
( )1/72
دليل آخر:
وقال اهلل تعالى( :قل هو اهلل أحد اهلل الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) سورة
اإلخالص ورقمها ( ، )112فكيف يكون القرآن مخلوقا وأسماء اهلل في القرآن؟ هذا يوجب
أن تكون أسماء اهلل مخلوقة ،ولو كانت أسماؤه مخلوقة لكانت وحدانيته مخلوقة ،وكذلك
علمه وقدرته .تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا.
دليل آخر:
وقد قال اهلل تعالى( :تبارك اسم ربك) من اآلية ( )55/ 78وال يقال لمخلوق " تبارك " فدل
هذا على أن أسماء اهلل غير مخلوقة ،وقال( :ويبقى وجه ربك) من اآلية ()55/ 27
( )1/73
فكما ال يجوز أن يكون وجه ربنا مخلوقا ،فكذلك ال يجوز أن تكون أسماؤه مخلوقة.
دليل آخر:
وقد قال اهلل تعالى( :شهد اهلل أنه ال إله إال هو والمالئكة وأولوا العلم قائما بالقسط) من اآلية
( )3/ 18وال بد أن يكون شهد بهذه الشهادة ،وسمعها من نفسه؛ ألنه إن كان سمعها من
مخلوق فليست شهادة له ،وإذا كانت شهادة له وقد شهد بها فال يخلو أن يكون شهد بها
قبل كون المخلوقات؛ أو بعد كون المخلوقات.
فإن كان شهد بها بعد كون المخلوقات؛ فلم يسبق شهادته لنفسه بآلهية الخلق ،وكيف
يكون ذلك كذلك؟ وهذا يوجب أن التوحيد لم يكن يشهد به شاهد قبل الخلق ،ولو
استحالت الشهادة بالوحدانية قبل كون الخلق الستحال إثبات التوحيد ووجوده ،وأن يكون
واحدا قبل الخلق؛ ألن ما يستحيل الشهادة عليه فمستحيل.
وإن كانت شهادته لنفسه قبل الخلق بالتوحيد فقد بطل أن يكون كالم اهلل تعالى مخلوقا؛ ألن
كالم اهلل شهادته.
( )1/74
دليل آخر:
ومما يدل عليه بطالن قول الجهمية ،وأن القرآن كالم اهلل غير مخلوق :أن أسماء اهلل من
القرآن ،وقد قال اهلل سبحانه( :سبح اسم ربك األعلى الذي خلق فسوى) ()87/ 2 - 1
وال يجوز أن يكون (اسم ربك األعلى الذي خلق فسوى) مخلوقا ،كما ال يجوز أن يكون
(جد ربنا) من اآلية ( )72/ 3مخلوقا ،قال اهلل تعالى في سورة الجن( :وإنه تعالى جد ربنا)
من اآلية ( ، ) 72/ 3وكما ال يجوز أن تكون عظمته مخلوقة كذلك ال يجوز أن يكون كالمه
مخلوقا.
دليل آخر:
وقد قال اهلل تعالى( :وما كان لبشر أن يكلمه اهلل إال وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل
رسوال فيوحي بإذنه ما يشاء) من اآلية ( )42/ 51فلو كان كالم اهلل ال يوجد إال مخلوقا في
شيء مخلوق؛ لم يكن الشتراط هذه الوجوه معنى؛ ألن الكالم قد سمعه جميع الخلق
ووجدوه -بزعم الجهمّية -مخلوقا في غير اهلل
( )1/75
تعالى ،وهذا يوجب إسقاط مرتبة النبيين صلوات اهلل عليهم أجمعين.
ويجب عليهم إذا زعموا أن كالم اهلل لموسى خلقه في شجرة؛ أن يكون من سمع كالم اهلل
عز وجل من ملك أو من نبي أتى به من عند اهلل أفضل مرتبة من سماع الكالم من موسى؛
ألنهم سمعوه من نبي ولم يسمعه موسى من اهلل عز وجل ،وإنما سمعه من شجرة ،وأن
يزعموا أن اليهودي إذا سمع كالم اهلل من النبي عليه الصالة والسالم أفضل مرتبة في هذا
المعنى من موسى صلى اهلل عليه وسلم؛ ألن اليهودي سمعه من نبي من أنبياء اهلل ،وموسى
سمعه مخلوقا في شجرة ،ولو كان مخلوقا في شجرة لم يكن مكلما لموسى من وراء
حجاب؛ ألن من حضر الشجرة من الجن واإلنس قد سمعوا الكالم من ذلك المكان ،وكان
سبيل موسى وغيره في ذلك سواء في أنه ليس كالم اهلل له من وراء حجاب.
مسألة:
ثم يقال لهم :إذا زعمتم أن معنى أن اهلل عز وجل كلم موسى أنه خلق
( )1/76
كالما كلمه به في الشجرة وقد خلق اهلل عندكم في الذراع كالما؛ ألن الذراع قالت لرسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال تأكلني فإني مسمومة ،فيلزمكم أن ذلك الكالم الذي سمعه النبي
صلى اهلل عليه وسلم كالم اهلل تعالى ،فإن استحال أن يكون اهلل تكلم بذلك الكالم المخلوق
فما أنكرتم من أنه يستحيل أن يخلق اهلل عز وجل كالمه في شجرة؛ ألن الكالم المخلوق ال
يكون كالما هلل ،فإن كان كالم اهلل وكان معنى أن اهلل تكلم عندكم أنه خلق الكالم؛ فيلزمكم
أن يكون اهلل متكلما بالكالم الذي خلقه في الذراع ،فإن أجابوا إلى ذلك؛ قيل لهم :فاهلل
تعالى على قولكم هو القائل ال تأكلني فإني مسمومة .تعالى اهلل عن قولكم وافترائكم عليه
علوا كبيرا.
وإن قالوا :ال يجوز أن يكون كالم اهلل مخلوقا في ذراع
( )1/77
مسألة:
ثم يسألون عن الكالم الذي أنطق اهلل تعالى به الذئب لما أخبر عن نبوة النبي صلى اهلل عليه
وسلم.
فيقال لهم :إذا كان اهلل عز وجل يتكلم بكالم خلقه في غيره ،فما أنكرتم أن يكون الكالم
الذي سمعه من الذئب كالما هلل ،ويكون إعجازه يدل على أنه كالم اهلل ،وفي هذا ما يجب
عليهم أن الذئب لم يتكلم به ،وأنه كالم اهلل تعالى؛ ألن كون الكالم من الذئب معجز ،كما
أن كونه من الشجرة معجز ،فإن كان الذئب متكلما بذلك الكالم المنقول فما أنكرتم أن
الشجرة متكلمة بالكالم إن كان خلق في الشجرة ،وأن يكون المخلوق فيه قال( :يا موسى
إني أنا اهلل) .تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا.
مسألة:
ثم يقال لهم :إذا كان كالم اهلل عز وجل مخلوقا في غيره عندكم
( )1/78
فما يؤمنكم أن يكون كل كالم تسمعونه مخلوقا في شيء ،وهو حق أن يكون كالما هلل
سبحانه؟
فإن قالوا :ال تكون الشجرة متكلمة؛ ألن المتكلم ال يكون إال حيا.
قيل لهم :وال يجوز خلق الكالم في شجرة؛ ألن من خلق الكالم فيه ال يكون إال حيا ،فإن
جاز أن يخلق الكالم فيما ليس بحي فِلَم ال يجوز أن يتكلم من ليس بحي .ويقال لهمِ :لَم ال
قلتم إنه يقول من ليس بحي ،ألن اهلل عز وجل أخبر أن السماوات واألرض( :قالتا أتينا
طائعين) من اآلية (. )41/ 11
مسألة:
ثم يقال لهم :أليس قد قال اهلل عز وجل إلبليس( :وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) (/ 78
)38؟ فال بد من نعم.
قيل لهم :فإذا كان كالم اهلل مخلوقا وكانت المخلوقات فانيات؛ فيلزمكم إذا أفنى اهلل عز
وجل األشياء أن تكون اللعنة على إبليس
( )1/79
قد فنيت ،فيكون إبليس غير ملعون ،وهذا ترك دين المسلمين ،وُر َّد لقوله تعالى( :وإن عليك
لعنتي إلى يوم الدين) ( ، )38/ 78وإذا كانت اللعنة باقية على إبليس إلى يوم الدين؛ وهو
يوم الجزاء ،وهو يوم القيامة؛ ألن اهلل تعالى قال (مالك يوم الدين) ( )1/ 4يعني يوم الجزاء،
ثم هي أبدا في النار واللعنة كالم اهلل وهو قوله (عليك لعنتي) فقد وجب أن يكون اهلل عز
وجل ال يجوز عليه الفناء ،وأنه غير مخلوق؛ ألن المخلوقات يجوز عليها العدم ،فإذا لم يجز
ذلك على كالم اهلل عز وجل فهو غير مخلوق.
مسألة:
ثم يقال لهم :إذا كان غضب اهلل غير مخلوق ،وكذلك رضاه وسخطه ،فِلم ال قلتم إن كالمه
غير مخلوق؟ ومن زعم أن غضب اهلل
( )1/80
مخلوق لزمه أن غضب اهلل وسخطه على الكافرين يفنى ،وأن رضاه عن المالئكة والنبيين
يفنى ،حتى ال يكون راضيا عن أوليائه وال ساخطا عن أعدائه ،وهذا هو الخروج عن اإلسالم.
مسألة:
ويقال :خبرونا عن قول اهلل تعالى( :إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (
)16/ 40
أتزعمون أن قوله للشيء " كن " مخلوق مرادا هلل؟ فإن قالوا :ال ،قيل لهم :فما أنكرتم أن
يكون كالم اهلل الذي هو القرآن غير مخلوق ،كما زعمتم أن قول اهلل للشيء " كن " غير
مخلوق.
وإن زعموا أن قول اهلل للشيء " كن " مخلوق.
قيل لهم :فإذا زعمتم أنه مخلوق مراد فقد قال اهلل عز وجل
( )1/81
( :إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) ( )16/ 40؛ فيلزمكم أن قوله تعالى
للشيء (كن) قد قال له( :كن) .
وفي هذا ما يجب أحد أمرين:
إما أن يكون قول اهلل لغيره كن غير مخلوق ،أو يكون لكل قول ال إلى غاية وذلك محال.
فإن قالوا :إن هلل قوال غير مخلوق.
قيل لهم :فما أنكرتم أن تكون إرادة اهلل لإليمان غير مخلوقة.
ثم يقال لهم ما العلة التي إنما قلتم إن قول اهلل للشيء (كن) غير مخلوق.
فإن قالوا :ألن القول ال يقال له (كن) فيقال لهم القرآن غير مخلوق؛ ألنه قول اهلل ،واهلل ال
يقول لقوله (كن) .
مسألة على الجهمية:
ويقال لهم :أليس لم يزل اهلل عالما بأوليائه وأعدائه
( )1/82
؟
فال بد من نعم.
قيل لهم :فهل تقولون إنه لم يزل مريدا للتفرقة بين أوليائه وأعدائه؟
فإن قالوا نعم ،قيل لهم :فإذا كانت إرادة اهلل لم تزل فهي غير مخلوقة ،وإذا كانت إرادته
غير مخلوقة فِلم ال قلتم إن كالمه غير مخلوق؟
فإن قالوا :ال نقول لم يزل مريدا للتفرقة بين أوليائه وأعدائه ،زعموا أن اهلل ال يريد التفرقة
بين أوليائه وأعدائه ،ونسبوه سبحانه إلى النقص .تعالى عن قول القدرية علوا كبيرا.
مسألة:
ويقال لهم :إن الشيء المخلوق إما أن يكون بدنا من األبدان ،شخصا من األشخاص؛ أو
يكون نعتا من نعوت األشخاص.
فال يجوز أن يكون كالم اهلل شخصا؛ ألن األشخاص يجوز عليها األكل والشرب والنكاح،
وال يجوز ذلك على كالم اهلل تعالى.
وال يجوز أن يكون كالم اهلل نعتا لشخص مخلوق؛ ألن النعوت ال تبقى طرفة عين؛ ألنها ال
تحتمل البقاء ،وهذا يوجب أن يكون كالم اهلل قد فني ومضى.
( )1/83
فلما لم يجز أن يكون شخصا وال نعتا لشخص لم يجز أن يكون مخلوقا ،على أن األشخاص
يجوز أن تموت.
فمن يثبت كالم اهلل شخصا مخلوقا لزمه أن يجوز الموت على كالم اهلل عز وجل ،وذلك ما
ال يجوز.
وأيضا فال يجوز أن يكون كالم اهلل مخلوقا في شخص مخلوق ،كما ال يجوز أن يكون نعتا
لشخص مخلوق ،ولو كان مخلوقا في شخص ،وكالم اإلنسان مفعوال فيه ،كما ال يمكن
التفريق بين كالم اهلل وكالم الخلق إذا كانا مخلوقين في شخص مخلوق ،كما ال يجوز أن
يكون علمه مخلوقا في شخص مخلوق.
مسألة:
ويقال لهم أيضا :لو كان كالم اهلل مخلوقا لكان جسما أو نعتا لجسم ،ولو كان جسما لجاز
أن يكون متكلما ،واهلل قادر على قلبهما ،وفي هذا ما يلزمهم ،ويجب عليهم أن يجوزوا أن
يقلب اهلل القرآن إنسانا أو جنيا
( )1/84
( )1/86
( )1/87
ثم قال :سبحان اهلل ومن يشك في هذا؟ !
ثم تكلم أبو عبد اهلل مستعظما للشك في ذلك ،فقال :سبحان اهلل أفي هذا شك؟ ! قال اهلل
تبارك وتعالى( :أال له الخلق واألمر) من اآلية ( )7/ 54وقال( :الرحمن علم القرآن خلق
اإلنسان) ( )55/ 3 - 1فَفَّر ق بين اإلنسان وبين القرآن ،فقال " :عَّلَم " " خَلَق " فجعل
يعيدها " عَّلم " " خَلَق " أي َفْر ٌق بينهما.
قال أبو عبد اهلل :والقرآن علم اهلل ،أال تراه يقول( :علم القرآن) والقرآن فيه أسماء اهلل عز
وجل ،أي شيء يقولون؟ أال يقولون :إن أسماء اهلل غير مخلوقة ،لم يزل اهلل قديرا عليما
عزيزا حكيما سميعا بصيرا ،لسنا نشك أن أسماء اهلل عز وجل غير مخلوقة ،لسنا نشك أن
علم اهلل عز وجل غير مخلوق ،فالقرآن من علم اهلل وفيه أسماء اهلل ،فال نشك أنه غير
مخلوق ،وهو كالم اهلل عز وجل ،ولم يزل به متكلما ،ثم
( )1/88
( )1/89
وذكر محمد بن الصباح البزار ،قال :حدثنا علي بن الحسين بن شعبان ،قال :سمعت ابن
المبارك يقول :إنا نستطيع أن نحكي كالم اليهود والنصارى ،وال نستطيع أن نحكي كالم
الجهمية.
قال محمد :نقول :نخاف أن نكفر وال نعلم.
وذكر هارون بن إسحاق الهمداني عن أبي نعيم ،عن سليمان بن عيسى القاري ،عن سفيان
الثوري رضي اهلل عنه قال :قال لي حماد بن أبي سليمان :أبلغ أبا حنيفة المشرك أنى منه
بريء؟
قال سليمان :ثم قال سفيان؛ ألنه كان يقول القرآن مخلوق .وحاشى اإلمام األعظم أبو حنيفة
رضي اهلل عنه من هذا القول ،بل هو زور وباطل ،فإن أبا حنيفة من أفضل أهل السنة.
وذكر سفيان بن وكيع قال :سمعت عمر بن حماد بن أبي سليمان قال :أخبرني أبي قال:
الكالم الذي استتاب فيه ابن أبي ليلى أبا حنيفة هو قوله :القرآن مخلوق ،قال :فتاب منه
وطاف به في الخلق ،قال أبى :فقلت له كيف صرت إلى هذا ،قال :خفت واهلل أن يقدم علَّي
فأعطيته التقية.
( )1/90
وذكر هارون بن إسحاق قال :سمعت إسماعيل بن أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد
الطنافسي إن حماد -يعني ابن أبي سليمان -بعث إلى أبي حنيفة :أني بريء مما تقول ،إال
أن تتوب ،وكان عنده ابن أبي عقبة ،قال :فقال :أخبرني جارك أن أبا حنيفة دعاه إلى ما
استتيب منه بعد ما استتيب.
وهذا كذب محض على أبي حنيفة رضي اهلل عنه.
وذكر عن أبي يوسف قال :ناظرت أبا حنيفة رضي اهلل عنه شهرين حتى رجع عن خلق
القرآن.
وقال سليمان بن حرب :القرآن غير مخلوق ،وأخذته من كتاب اهلل تعالى ،قال اهلل تعالى( :ال
يكلمهم اهلل وال ينظر إليهم) من اآلية ( ، )3/ 77وكالم اهلل ونظره واحد ،يعني غير مخلوق.
وذكر الحسين بن عبد األول ،قال :حدثنا محمد بن الحسن ابن أبي يزيد الهمذاني عن عمرو
بن قيس ،عن أبي قيس المديني ،عن عطية ،عن أبي سعيد الخدري قال :قال
( )1/91
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :فضل كالم اهلل عز وجل على سائر الكالم كفضل اهلل على
خلقه) ،فهذا يثبت أن القرآن كالم اهلل عز وجل ،وما كان كالما هلل عز وجل لم يكن خلقا
هلل ،وقد بين اهلل أن القرآن كالمه بقوله عز وجل( :حتى يسمع كالم اهلل) من اآلية (، )9/ 6
ودل على ذلك في مواضع من كتابه العزيز ،وقد قال اهلل تعالى مخبرا أن اهلل كلم موسى
تكليما.
وروى وكيع عن األعمش عن خيثمة ،عن عدى بن حاتم ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم( :ما منكم من أحد إال سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)
ومما يدل أن اهلل عز وجل متكلم ،وأن له كالما ما رواه
( )1/92
عفان ،قال :ثنا حماد بن سلمة عن األشعب الحداني عن شهر ين حوشب قال( :فضل كالم
اهلل عز وجل على سائر الكالم كفضل اهلل على خلقه)
وروى يعلى بن المنهال السعدي ،قال :حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ،قال :ثنا الجراح بن
الضحاك الكندي ،عن علقمة بن مرثل ،عن أبي عبد الرحمن السلمي ،عن عثمان بن عفان
رضي اهلل عنه قال ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه) ،
وقال( :إن فضل القرآن على سائر الكالم كفضل اهلل على خلقه) ،
( )1/93
( )1/94
( )1/95
ابن غياث ،وسعيد بن عامر ،وعبد الرحمن بن مهدي ،وأبو بكر بن عياش ،ووكيع ،وأبو
عاصم النبيل ،ويعلى بن عبيد ،ومحمد بن يوسف ،وبشر ابن الفضل ،وعبد اهلل بن داود،
وسالم بن أبي مطيع ،وابن المبارك ،وعلي بن عاصم ،وأحمد بن يونس ،وأبو نعيم ،وقبيصة
بن عقبة ،وسليمان بن داود ،وأبو عبيد القاسم بن سالم ،ويزيد بن هارون ،وغيرهم.
ولو تتبعنا ذكر من يقول بذلك لطال الكالم ،وفيما ذكرنا من ذلك مقنع ،والحمد هلل رب
العالمين.
وقد احتججنا لصحة قولنا :إن القرآن غير مخلوق من كتاب اهلل عز وجل ،وما تضمنه من
البرهان ،وأوضحه من البيان ،ولم نجد أحدا ممن تحمل عنه اآلثار ،وتنقل عنه األخبار ،ويأتم
به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن ،وإنما قال ذلك رعاع الناس ،وجهال من
جهالهم ،ال موقع لهم.
والحجاج الذي قدمناه في ذلك يأتي على كثير من قولهم ،ودفع باطلهم ،والحمد هلل على
قوة الحق حمدا كثيرا.
( )1/96
الباب الرابع الكالم على من توقف في القرآن وقال ال أقول إنه مخلوق وال أنه غير مخلوق
جواب:
يقال لهمِ :لم زعمتم ذلك وقلتموه؟
فإن قالوا :قلنا ذلك؛ ألن اهلل لم يقل في كتابه إنه مخلوق ،وال قاله رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،وال أجمع المسلمون عليه ،ولم يقل في كتابه إنه غير مخلوق ،وال قال ذلك رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وال أجمع عليه المسلمون ،فتوقفنا لذلك ،ولم نقل إنه مخلوق ،وال
إنه غير مخلوق.
( )1/97
يقال لهم :فهل قال اهلل تعالى لكم في كتابه توقفوا فيه وال تقولوا إنه غير مخلوق ،وقال لكم
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم توقفوا عن أن تقولوا إنه غير مخلوق ،وهل أجمع المسلمون
على التوقف عن القول إنه غير مخلوق؟
فإن قالوا :نعم ،فقد بهتوا.
وإن قالوا :ال ،قيل لهم :فال تقفوا عن أن تقولوا غير مخلوق بمثل الحجة التي بها ألزمتم
أنفسكم التوقف.
ثم يقال لهم :ولم أبيتم أن يكون في كتاب اهلل ما يدل على أن القرآن غير مخلوق؟ فإن
قالوا :لم نجده ،قيل لهم :ولم زعمتم أنكم إذا لم تجدوه في القرآن فليس بموجود
( )1/98
فيه؟ ثم إنا نوجدهم ذلك ،ونتلو عليهم اآليات التي احتججنا بها في كتابنا هذا ،واستدللنا بها
على أن القرآن غير مخلوق ،كقوله تعالى( :أال له الخلق واألمر) من اآلية (، )7/ 54
وكقوله( :إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) من اآلية ( ، )16/ 40وكقوله:
(قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) من اآلية (
، )18/ 109وسائر ما احتججنا في ذلك من آي القرآن.
ويقال لهم :يلزمكم أن تتوقفوا في كل ما اختلف الناس فيه ،وال تقدموا في ذلك على قول،
فإن جاز لكم أن تقولوا ببعض تأويل المسلمين إذا دل على صحتها دليل فلم ال قلتم إن
القرآن غير مخلوق بالحجج التي ذكرناها في كتابنا هذا قبل هذا الموضع؟
( )1/99
مسألة:
فإن قال قائل :حدثونا ،أتقولون :إن كالم اهلل في اللوح المحفوظ.
قيل له :كذلك نقول؛ ألن اهلل تعالى قال( :بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) (- 21
، )85/ 22فالقرآن في اللوح المحفوظ.
وهو في صدور الذين أوتوا العلم ،قال اهلل تعالى( :بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا
العلم) من اآلية (. )29/ 49
وهو متلو باأللسنة ،قال اهلل تبارك وتعالى( :ال تحرك به لسانك لتعجل به) (. )75/ 16
والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة ،محفوظ في صدورنا في الحقيقة ،متلو بألسنتنا
في الحقيقة ،مسموع لنا في الحقيقة ،كما قال تعالى
( )1/100
( :فَأِج ْر ه حتى يسمع كالم اهلل) من اآلية (. )9/ 6
مسألة:
فإن قال قائل :حدثونا عن اللفظ بالقرآن كيف تقولون فيه؟
قيل له :القرآن يقرأ في الحقيقة ،ويتلى ،وال يجوز أن يقال يلفظ به؛ ألن القائل ال يجوز له
أن يقول إن كالم اهلل ملفوظ به؛ ألن العرب إذا قال قائلهم لفظت باللقمة من فمي فمعناه
رميت بها ،وكالم اهلل تعالى ال يقال يلفظ به ،وإنما يقال يقرأ ،ويتلى ،ويكتب ،ويحفظ.
وإنما قال قوم لفظنا بالقرآن ليثبتوا أنه مخلوق ،ويزينوا بدعتهم ،وقولهم بخلقه ،ويدلسوا
كفرهم على من لم يقف على معناهم ،فلما وقفنا على معناهم أنكرنا قولهم ،وكذا ال يجوز
أن يقال إن شيئا من القرآن مخلوق؛ ألن القرآن بكماله غير مخلوق.
( )1/101
مسألة:
إن قال قائل :أليس قد قال اهلل تعالى( :ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إال استمعوه وهم
يلعبون) من اآلية ( )21/ 2؟
قيل له :الذكر الذي عناه اهلل عز وجل ليس هو القرآن ،بل هو كالم الرسول صلى اهلل عليه
وسلم ووعظه إياهم.
وقد قال اهلل تعالى لنبيه( :وذِّك ر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) ( ، )51/ 55وقد قال اهلل
تعالى( :ذكرا رسوال) نهاية آية ( )10وبداية آية ( )65/ 11فسمى الرسول ذكرا ،والرسول
محدث.
وأيضا فإن اهلل تعالى قال
( )1/102
( :ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إال استمعوه وهم يلعبون) من اآلية ( )21/ 2يخبر أنه
ال يأتيهم ذكر محدث إال استمعوه وهم يلعبون ،ولم يقل ال يأتيهم ذكر إال كان محدثا ،وإذا
لم يقل هذا لم يوجب أن يكون القرآن محدثا.
ولو قال قائل :ما يأتيهم رجل من التميميين يدعوهم إلى الحق إال أعرضوا عنه ،لم يوجب
هذا القول أنه ال يأتيهم رجل إال كان تميميا ،فكذلك الحكم فيما سألونا عنه.
مسألة:
فإن سألونا عن قول اهلل تعالى( :قرآنا عربيا) من اآلية (. )12/ 2
قيل لهم :اهلل عز وجل أنزل وليس بمخلوق.
فإن قالوا :فقد قال اهلل تعالى
( )1/103
( :وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) من اآلية ( )57/ 25والحديد مخلوق.
قيل لهم :الحديد جسم موات ،وليس يجب إذا كان القرآن منزال أن يكون جسما مواتا،
فكذلك ال يجب إذا كان القرآن منزال أن يكون مخلوقا ،وإن كان الحديد مخلوقا.
مسألة:
ويقال لهم :قد أمرنا اهلل تعالى أن نستعيذ به وهو غير مخلوق ،وأمر أن نستعيذ بكلمات اهلل
التامات ،وإذا لم نؤمر أن نستعيذ بمخلوق من المخلوقات ،وأمرنا أن نستعيذ بكالم اهلل ،فقد
وجب أن كالم اهلل غير مخلوق.
( )1/104
( )1/105
وقال تعالى( :يدبر األمر من السماء إلى األرض ثم يعرج إليه) من اآلية ( ، )32/ 5وقال
تعالى حاكيا عن فرعون لعنه اهلل( :يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ األسباب أسباب
السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني ألظنه كاذبا) من اآليتين ( ، )40/ 37 - 36كذب
موسى عليه السالم في قوله :إن اهلل سبحانه فوق السماوات.
وقال تعالى( :أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم األرض) من اآلية ()67/ 16
فالسماوات فوقها العرش ،فلما كان العرش فوق السماوات قال( :أأمنتم من في السماء) من
اآلية ( ... )67/ 14ألنه مستو على العرش
( )1/106
الذي فوق السماوات ،وكل ما عال فهو سماء ،والعرش أعلى السماوات ،وليس إذا قال:
(أأمنتم من في السماء) من اآلية ( )67/ 16يعني جميع السماوات ،وإنما أراد العرش الذي
هو أعلى السماوات ،أال ترى اهلل تعالى ذكر السماوات ،فقال تعالى( :وجعل القمر فيهن
نورا) من اآلية ( ، )7/ 16ولم يرد أن القمر يمألهن جميعا ،وأنه فيهن جميعا ،ورأينا
المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ ألن اهلل تعالى مستو على العرش الذي
هو فوق السماوات ،فلوال أن اهلل عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش ،كما ال
يحّطونها إذا دعوا إلى األرض 1
( )1/107
فصل
وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية :إن معنى قول اهلل تعالى( :الرحمن على
العرش استوى) ( )20/ 5أنه استولى وملك وقهر ،وأن اهلل تعالى في كل مكان ،وجحدوا أن
يكون اهلل عز وجل مستو على عرشه ،كما قال أهل الحق ،وذهبوا في االستواء إلى القدرة.
ولو كان هذا كما ذكروه كان ال فرق بين العرش واألرض السابعة؛ ألن اهلل تعالى قادر على
كل شيء واألرض هلل سبحانه
( )1/108
قادر عليها ،وعلى الحشوش ،وعلى كل ما في العالم ،فلو كان اهلل مستويا على العرش بمعنى
االستيالء ،وهو تعالى مستو على األشياء كلها لكان مستويا على العرش ،وعلى األرض،
وعلى السماء ،وعلى الحشوش ،واألقدار؛ ألنه قادر على األشياء مستول عليها ،وإذا كان
قادرا على األشياء كلها لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن اهلل تعالى مستو على
الحشوش واألخلية ،تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا ،لم يجز أن يكون االستواء على العرش
االستيالء الذي هو عام في األشياء كلها ،ووجب أن يكون معنى االستواء يختص بالعرش
دون األشياء كلها.
وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن اهلل تعالى في كل مكان ،فلزمهم أنه في بطن مريم
وفي الحشوش واألخلية ،وهذا خالف الدين .تعالى اهلل عن قولهم علوا كبيرا.
مسألة:
ويقال لهم :إذا لم يكن مستويا على العرش بمعنى يختص العرش
( )1/109
دون غيره ،كما قال ذلك أهل العلم ،ونقله األخبار ،وحملة اآلثار ،وكان اهلل عز وجل في
كل مكان فهو تحت األرض التي السماء فوقها ،وإذا كان تحت األرض واألرض فوقه،
والسماء فوق األرض وفي هذا ما يلزمكم أن تقولوا إن اهلل تحت التحت ،واألشياء فوقه،
وأنه فوق الفوق واألشياء تحته ،وفي هذا ما يجب أنه تحت ما هو فوقه ،وفوق ما هو تحته،
وهذا هو المحال المتناقض ،تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا.
دليل آخر:
ومما يؤكد أن اهلل عز وجل مستو على عرشه دون األشياء كلها ،ما نقله أهل الرواية عن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
روى عفان ،قال :ثنا حماد بن سلمة ،قال :حدثنا
( )1/110
عمرو بن دينار ،عن نافع ،عن جبير ،عن أبيه رضي اهلل عنهم أجمعين ،أن النبي صلى اهلل عليه
وسلم قال( :ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول :هل من سائل فأعطيه؟ هل
من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر) .
روى عبيد اهلل بن بكر قال :ثنا هشام بن أبي عبد اهلل ،عن يحيى بن كثير ،عن أبي جعفر ،أنه
سمع أبا حفص يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم( :إذا بقى ثلث الليل ينزل اهلل تبارك وتعالى فيقول :من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟
من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه؟ من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟ حتى ينفجر الفجر)
.
( )1/111
وروى عبد اهلل بن بكر السهمي ،قال :ثنا هشام بن أبي عبد اهلل عن يحيى بن كثير ،عن هالل
بن أبي ميمونة ،قال :ثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال :فكنا مع رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم حتى إذا كفا بالكديد -أو قال بقديد -حمد اهلل وأثنى عليه ،ثم قال( :إذا
مضى ثلث الليل -أو قال ثلثا الليل -نزل اهلل عز وجل إلى السماء ،فيقول :من ذا الذي
يدعوني أستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني أغفر له؟ من ذا الذي يسألني أعطيه؟ حتى ينفجر
الفجر) نزوال يليق بذاته من غير حركة وانتقال ،تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا.
دليل آخر:
قال اهلل تعالى
( )1/112
( :يخافون ربهم من فوقهم) من اآلية ( ، )16/ 50وقال تعالى( :تعرج المالئكة والروح
إليه) من اآلية ( ، )70/ 4وقال تعالى( :ثم استوى إلى السماء وهي دخان) من اآلية (/ 11
، )41وقال تعالى( :ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا) من اآلية (، )25/ 59
وقال تعالى( :ثم استوى على العرش مالكم من ولي وال شفيع) ( ، )32/ 4فكل ذلك يدل
على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه ،والسماء بإجماع الناس ليست األرض ،فدل على
أنه تعالى منفرد بوحدانيته ،مستو على عرشه استواء منزها عن الحلول واالتحاد.
( )1/113
دليل آخر:
قال اهلل تعالى( :وجاء ربك والملك صفا صفا) ( ، )89/ 22وقال تعالى( :هل ينظرون إال أن
يأتيهم اهلل في ظلل من الغمام والمالئكة) من اآلية ( ، )2/ 210وقال( :ثم دنا فتدلى فكان
قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى
ولقد رآه نزلة أخرى) ( )53/ 13 - 8إلى قوله( :لقد رأى من آيات ربه الكبرى) (/ 18
، )53وقال تعالى لعيسى ابن مريم عليه السالم( :إني متوفيك ورافعك إلّي ) ،وقال تعالى:
(وما قتلوه يقينا بل رفعه اهلل إليه) من اآلية (، )4/ 158
( )1/114
وأجمعت األمة على أن اهلل سبحانه رفع عيسى صلى اهلل عليه وسلم إلى السماء ،ومن دعاء
أهل اإلسالم جميعا إذا هم رغبوا إلى اهلل تعالى في األمر النازل بهم يقولون جميعا :يا ساكن
السماء ،ومن حلفهم جميعا :ال والذي احتجب بسبع سماوات.
دليل آخر:
قال اهلل عز وجل( :وما كان لبشر أن يكلمه اهلل إال وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسوال
فيوحي بإذنه ما يشاء) من اآلية ( ، )42/ 51وقد خصت اآلية الشريفة البشر دون غيرهم
ممن ليس من جنس البشر ،ولو كانت اآلية عامة للبشر وغيرهم ،كان أبعد من الشبهة،
وإدخال الشك على من يسمع اآلية أن يقول :ما كان ألحد أن يكلمه اهلل إال وحيا
( )1/115
،أو من وراء حجاب ،أو يرسل رسوال ،فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول :ما كان لجنس
من األجناس أن أكلمه إال وحيا ،أو من وراء حجاب ،أو أرسل رسوال ،وننزل أجناسا لم
يعمهم باآلية فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم.
دليل آخر:
قال اهلل تعالى( :ثم ردوا إلى اهلل موالهم الحق) من اآلية ( ، )6/ 62وقال( :ولو ترى إذ
وقفوا على ربهم) من اآلية ( ، )6/ 30وقال( :ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند
ربهم) ( ، )32/ 12وقال عز وجل( :وعرضوا على ربك صفا) من اآلية ( ، )18/ 48كل
ذلك يدل على أنه تعالى ليس في خلقه ،وال خلقه فيه ،وأنه مستو
( )1/116
على عرشه سبحانه ،بال كيف وال استقرار ،تعالى اهلل عما يقول الظالمون والجاحدون علوا
كبيرا ،فلم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ،وال أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية؛ إذ كل كالمهم
يؤول إلى التعطيل ،وجميع أوصافهم تدل على النفي ،يريدون بذلك التنزيه ،ونفي التشبيه
على زعمهم ،فنعوذ باهلل من تنزيه يوجب النفي والتعطيل.
دليل آخر:
قال اهلل تعالى (اهلل نور السماوات واألرض) من اآلية ( )24/ 35فسمى نفسه نورا ،والنور
عند األمة ال يخلو من أن يكون أحد معنيين
( )1/117
:
إما أن يكون نورا يسمع ،أو نورا يرى.
فمن زعم أن اهلل يسمع وال يرى فقد أخطأ في نفيه رؤية ربه ،وتكذيبه بكتابه ،وقول نبيه
صلى اهلل عليه وسلم.
وروت العلماء عن عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما أنه قال( :تفكروا في خلق اهلل وال
تفكروا في اهلل عز وجل ،فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام ،واهلل عز وجل فوق ذلك) .
دليل آخر:
وروت العلماء رحمهم اهلل عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال( :إن العبد ال تزول قدماه
من بين يدي اهلل عز وجل حتى يسأله عن عمله) .
وروت العلماء أن رجال أتى النبي صلى اهلل عليه وسلم بأمة
( )1/118
سوداء فقال :يا رسول اهلل إني أريد أن أعتقها في كفارة ،فهل يجوز عتقها؟
فقال لها النبي صلى اهلل عليه وسلم :أين اهلل؟ قالت :في السماء ،قال فمن أنا؟ قالت :أنت
رسول اهلل ،فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم :أعتقها فإنها مؤمنة.
وهذا يدل على أن اهلل تعالى على عرشه فوق السماء فوقية ال تزيده قربا من العرش.
( )1/119
الباب السادس الكالم في الوجه والعينين والبصر واليدين
قال اهلل تبارك وتعالى( :كل شيء هالك إال وجهه) من اآلية ( ، )28/ 88وقال تعالى( :ويبقى
وجه ربك ذو الجالل واإلكرام) ( ، )55/ 27فأخبر أن له سبحانه وجها ال يفنى ،وال يلحقه
الهالك.
وقال تعالى( :تجرى بأعيننا) من اآلية ( ، )54/ 14وقال تعالى( :واصنع الفلك بأعيننا
ووحينا) من اآلية (، )11/ 37
( )1/120
( )1/121
فصل
ونفى الجهمية أن يكون هلل تعالى وجه كما قال ،وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر وعين،
ووافقوا النصارى؛ ألن النصارى لم تثبت اهلل سميعا بصيرا إال على معنى أنه عالم ،وكذلك
قالت الجهمية ،ففي حقيقة قولهم أنهم قالوا :نقول إن اهلل عالم ،وال نقول سميع بصير ،على
غير معنى عالم ،وذلك قول النصارى.
( )1/122
فصل
قالت الجهمية :إن اهلل ال علم له ،وال قدرة ،وال سمع له ،وال بصر ،وإنما قصدوا إلى تعطيل
التوحيد ،والتكذيب بأسماء اهلل تعالى ،فأعطوا ذلك له لفظا ،ولم يحصلوا قولهم في المعنى،
ولوال أنهم خافوا السيف؛ ألفصحوا بأن اهلل غير سميع وال بصير وال عالم ،ولكن خوف
السيف منعهم من إظهار زندقتهم.
( )1/123
فصل
وزعم شيخ منهم نحس مقدم فيهم أن علم اهلل هو اهلل ،وأن اهلل سبحانه علم ،فنفى العلم من
حيث أوهم أنه يثبته ،حتى ألزم أن يقول :يا علم اغفر لي؛ إذ كان علم اهلل عنده هو اهلل،
وكان اهلل -على قياسه الفاسد -علما وقدرة .تعالى اهلل عما يقولون علوا كبيرا.
قال الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل األشعري رحمه اهلل ورضى عنه :باهلل نستهدي ،وإياه
نستكفي ،وال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم ،وهو المستعان أما بعد:
مسألة:
فمن سألنا فقال :أتقولون إن هلل سبحانه وجها؟
قيل له :نقول ذلك ،خالفا لما قاله المبتدعون ،وقد دل على ذلك
( )1/124
قوله تعالى( :ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام) (. )55/ 27
مسألة:
قد سئلنا أتقولون إن هلل يدين؟
قيل :نقول ذلك بال كيف ،وقد دل عليه قوله تعالى( :يد اهلل فوق أيديهم) من اآلية (/ 10
، )48وقوله تعالى( :لما خلقت بيدي) من اآلية (. )38/ 75
وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال( :إن اهلل مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه
ذريته) ،
( )1/125
فثبتت اليد بال كيف.
وجاء في الخبر المأثور عن النبي صلى اهلل عليه وسلم (أن اهلل تعالى خلق آدم بيده ،وخلق
جنة عدن بيده ،وكتب التوراة بيده ،وغرس شجرة طوبى بيده) ،أي بيد قدرته سبحانه.
وقال تعالى( :بل يداه مبسوطتان) من اآلية (. )5/ 64
وجاء عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال( :كلتا يديه يمين) .
وقال تعالى( :ألخذنا منه باليمين) من اآلية (. )69/ 45
وليس يجوز في لسان العرب ،وال في عادة أهل الخطاب ،أن يقول القائل :عملت كذا
بيدي ،ويعني به النعمة ،وإذا كان اهلل عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما
في كالمها ،ومعقوال في خطابها ،وكان ال يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل:
فعلت بيدي،
( )1/126
ويعني النعمة؛ بطل أن يكون معنى قوله تعالى( :بيدي) النعمة ،وذلك أنه ال يجوز أن يقول
القائل :لي عليه يدي ،بمعنى لي عليه نعمتي ،ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى
أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة؛ إذ كان ال يمكنه أن يتعلق في أن اليد
النعمة إال من جهة اللغة ،فإذا دفع اللغة لزمه أن ال يفسر القرآن من جهتها ،وأن ال يثبت اليد
نعمة من قبلها؛ ألنه إن روجع في تفسير قوله تعالى( :بيدي) نعمتي فليس المسلمون على ما
ادعى متفقين ،وإن روجع إلى
( )1/127
اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل :بيدي يعني نعمتي ،وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه،
ولن يجد له سبيال.
مسألة:
ويقال ألهل البدع :وِلم زعمتم أن معنى قوله( :بيدي) نعمتي أزعمتم ذلك إجماعا أو لغة؟
فال يجدون ذلك إجماعا وال في اللغة.
وإن قالوا :قلنا ذلك من القياس.
قيل لهم :ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى( :بيدي) ال يكون معناه إال نعمتي؟ ومن
أين يمكن أن يعلم بالعقل أن تفسير كذا وكذا مع أنا رأينا اهلل عز وجل قد قال في كتابه
العزيز ،الناطق على لسان نبيه الصادق
( )1/128
( :وما أرسلنا من رسول إال بلسان قومه) من اآلية ( ، )14/ 4وقال تعالى( :لسان الذي
يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) من اآلية ( ، )16/ 103وقال تعالى( :إنا
جعلناه قرآنا عربيا) من اآلية ( ، )4/ 3وقال تعالى( :أفال يتدبرون القرآن ولو كان من عند
غير اهلل) من اآلية ( ، )4/ 82ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره ،وال أن
نعرف معانيه إذا سمعناه ،فلما كان من ال يحسن لسان العرب ال يحسنه ،وإنما يعرفه العرب
إذا سمعوه على أنهم إنما علموه؛ ألنه بلسانهم نزل ،وليس في لسانهم ما ادعوه.
مسألة:
وقد اعتل معتل بقول اهلل تعالى
( )1/129
( :والسماء بنيناها بأيد) من اآلية ( )51/ 47قالوا :األيد القوة ،فوجب أن يكون معنى قوله
تعالى( :بيدي) بقدرتي ،قيل لهم :هذا التأويل فاسد من وجوه:
أحدها :أن األيد ليس جمع لليد؛ ألن جمع يد أيدي ،وجمع اليد التي هي نعمة أيادي ،وإنما
قال تعالى( :لما خلقت بيدي) من اآلية ( ، )38/ 75فبطل بذلك أن يكون معنى قوله:
(بيدي) معنى قوله( :بنيناها بأيد) .
وأيضا فلو كان أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتي ،وهذا ناقض لقول مخالفنا ،وكاسر
لمذهبهم؛ ألنهم ال يثبتون قدرة واحدة ،فكيف يثبتون قدرتين.
( )1/130
وأيضا فلو كان اهلل تعالى عنى بقوله( :لما خلقت بيدي) القدرة لم يكن آلدم صلى اهلل عليه
وسلم على إبليس مزية في ذلك ،واهلل تعالى أراد أن يرى فضل آدم صلى اهلل عليه وسلم
عليه؛ إذ خلقه بيديه دونه ،ولو كان خالقا إلبليس بيده كما خلق آدم صلى اهلل عليه وسلم
بيده لم يكن لتفضيله عليه بذلك وجه ،وكان إبليس يقول محتجا على ربه :فقد خلقتني
بيديك كما خلقت آدم صلى اهلل عليه وسلم بهما ،فلما أراد اهلل تعالى تفضيله عليه بذلك،
وقال اهلل تعالى موبخا له على استكباره على آدم صلى اهلل عليه وسلم أن يسجد له( :ما
منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت؟) ( ، )38/ 75دل على أنه ليس معنى اآلية
القدرة؛ إذ كان اهلل تعالى خلق األشياء جميعا بقدرته ،وإنما أراد إثبات يدين ،ولم يشارك
إبليس آدم صلى اهلل عليه وسلم في أن خلق بهما.
( )1/132
فصل
وليس يخلو قوله تعالى( :لما خلقت بيدي) أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين ،أو يكون
معنى ذلك إثبات يدين جارحتين .تعالى اهلل عن ذلك ،أو يكون معنى ذلك إثبات يدين
قدرتين ،أو يكون معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين وال جارحتين وال قدرتين ال توصفان
إال كما وصف اهلل تعالى ،فال يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين؛ ألنه ال يجوز عند أهل
اللسان أن يقول القائل :عملت بيدي وهو نعمتي.
وال يجوز عندنا وال عند خصومنا أن نعني جارحتين ،وال يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين.
( )1/133
وإذا فسدت األقسام الثالثة صح القسم الرابع؛ وهو أن معنى قوله تعالى( :بيدي) إثبات يدين
ليستا جارحتين ،وال قدرتين ،وال نعمتين ال يوصفان إال بأن يقال :إنهما يدان ليستا كاأليدي،
خارجتان عن سائر الوجوه الثالثة التي سلفت.
مسألة:
وأيضا فلو كان معنى قوله تعالى( :بيدي) نعمتي لكان ال فضيلة آلدم صلى اهلل عليه وسلم
على إبليس في ذلك على مذاهب مخالفينا؛ ألن اهلل تعالى قد ابتدأ إبليس على قولهم ،كما
ابتدأ آدم صلى اهلل عليه وسلم ،وليس تخلو النعمتان أن يكونا هما بدن آدم صلى اهلل عليه
وسلم ،أو يكونا عرضين خلقا في بدن آدم عليه الصالة والسالم ،فلو
( )1/134
كان عنى بدن آدم عليه السالم فألبدان عند مخالفينا من المعتزلة جنس واحد ،وإذا كانت
األبدان عندهم جنسا واحدا فقد حصل في جسد إبليس على مذاهبهم من النعمة ما حصل في
جسد آدم صلى اهلل عليه وسلم ،وكذلك إن عنى عرضين فليس من عرض فعله في بدن آدم
صلى اهلل عليه وسلم من لون ،أو حياة ،أو قوة ،أو غير ذلك إال وقد فعل من جنسه عندهم
في بدن إبليس ،وهذا يوجب أنه ال فضيلة آلدم صلى اهلل عليه وسلم على إبليس في ذلك،
واهلل تعالى إنما احتج على إبليس بذلك ليريه أن آلدم صلى اهلل عليه وسلم في ذلك الفضيلة،
فدل ما قلناه على أن اهلل عز وجل لما قال( :خلقت بيدي) لم يعن نعمتي
( )1/135
مسألة:
ويقال لهم :لم أنكرتم أن يكون اهلل تعالى عنى بقوله( :بيدي) يدين ليستا نعمتين؟
فإن قالوا :ألن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إال جارحة.
قيل لهم :ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إال جارحة؟ وإن رجعونا إلى شاهدنا،
أو إلى ما نجده فيما بيننا من الخلق فقالوا :اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إال
جارحة.
قيل لهم :إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على اهلل تعالى فكذلك لم نجد حيا من الخلق إال
جسما لحما ودما فاقضوا بذلك على اهلل -تعالى عن ذلك -وإال كنتم لقولكم تاركين
والعتاللكم ناقضين.
وإن أثبتم حيا ال كاألحياء منا فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر اهلل تعالى عنهما يدين
ليستا نعمتين وال جارحتين ،وال كاأليدي؟
( )1/136
وكذلك يقال لهم :لم تجدوا مدبرا حكيما إال إنسانا ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ليس
كاإلنسان ،وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتاللكم فال تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين وال
جارحتين من أجل أن ذلك خالف الشاهد.
مسألة:
فإن قالوا إذا أثبتم هلل عز وجل يدين لقوله تعالى( :لما خلقت بيدي) فلم ال أثبتم له أيدي
لقوله تعالى( :مما عملت أيدينا) من اآلية ( )36/ 71؟
قيل لهم :قد أجمعوا على بطالن قول من أثبت هلل أيدي ،فلما أجمعوا على بطالن قول من
قال ذلك؛ وجب أن يكون اهلل تعالى
( )1/137
ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين؛ ألن الدليل عنده دل على صحة اإلجماع ،وإذا كان
اإلجماع صحيحا وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين؛ ألن القرآن على ظاهره ،وال يزول
عن ظاهره إال بحجة ،فوجدنا حجة أزلنا بها ذكر األيدي عن الظاهر إلى ظاهر آخر ،ووجب
أن يكون الظاهر اآلخر على حقيقته ال يزول عنها إال بحجة.
مسألة:
فإن قال قائل :إذا ذكر اهلل عز وجل األيدي وأراد يدين ،فما أنكرتم أن يذكر األيدي ويريد
يدا واحدة؟
قيل له :ذكر تعالى أيدي وأراد يدين؛ ألنهم أجمعوا على بطالن قول من قال أيدي كثيرة،
وقول من قال يدا واحدة ،فقلنا يدان؛ ألن القرآن على ظاهره ،إال أن تقوم حجة بأن يكون
على خالف الظاهر.
( )1/138
مسألة:
فإن قال قائل :ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى( :مما عملت أيدينا) من اآلية (، )36/ 71
وقوله تعالى( :لما خلقت بيدي) من اآلية ( )38/ 75على المجاز؟
قيل له :حكم كالم اهلل تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته ،وال يخرج الشيء عن ظاهره إلى
المجاز إال بحجة.
أال ترون أنه إذا كان ظاهر الكالم العموم ،فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس
هو على حقيقة الظاهر ،وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة ،كذلك
قوله تعالى( :لما خلقت بيدي) من اآلية ()38/ 75
( )1/139
على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدين ،وال يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه
خصومنا إال بحجة.
ولو جاز ذلك لجاز لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم فهو على الخصوص ،وما ظاهره
الخصوص فهو على العموم بغير حجة ،وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما
ادعيتموه أنه مجاز أن يكون مجازا بغير حجة ،بل واجب أن يكون قوله تعالى( :لما خلقت
بيدي) من اآلية ( )38/ 75إثبات يدين هلل تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان ال
يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم :فعلت بيدي ،وهو يعني النعمتين
( )1/140
الباب السابع الرد على الجهمية في نفيهم علم اهلل تعالى وقدرته وجميع صفاته
قال اهلل تعالى( :أنزله بعلمه) من اآلية ( ، )4/ 166وقال تعالى( :وما تحمل من أنثى وال
تضع إال بعلمه) من اآلية ( ، )35/ 11وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه العزيز ،وقال
تعالى( :فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم اهلل) من اآلية ( ، )11/ 14وقال تعالى:
(وال يحيطون بشيء من علمه إال بما شاء) من اآلية (. )2/ 255
( )1/141
وذكر القوة فقال( :أولم يرو أن اهلل الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) من اآلية (، )41/ 15
وقال تعالى( :ذو القوة المتين) من اآلية ( ، )51/ 58وقال تعالى( :والسماء بنيناها بأيد) من
اآلية (. )51/ 47
( )1/142
فصل
وزعمت الجهمية أن اهلل تعالى ال علم له ،وال قدرة ،وال حياة ،وال سمع ،وال بصر له،
وأرادوا أن ينفوا أن اهلل تعالى عالم ،قادر ،حي ،سميع ،بصير ،فمنعهم خوف السيف من
إظهارهم نفي ذلك ،فأتوا بمعناه؛ ألنهم إذا قالوا ال علم هلل وال قدرة له ،فقد قالوا إنه ليس
بعالم وال قادر ،ووجب ذلك عليهم ،وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل؛ ألن
الزنادقة قد قال كثير منهم :إن اهلل تعالى ليس بعالم ،وال قادر ،وال حي ،وال سميع ،وال
بصير ،فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه ،وقالت إن اهلل عالم ،قادر ،حي،
سميع ،بصير من طريق التسمية من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم ،والقدرة ،والسمع ،والبصر.
( )1/143
فصل
وقد قال رئيس من رؤسائهم -وهو أبو الهذيل العالف -إن علم اهلل هو اهلل ،فجعل اهلل
تعالى علما.
وُأْلِز م ،فقيل له :إذا قلت إن علم اهلل هو اهلل فقل يا علم اهلل اغفر لي وارحمني ،فأبى ذلك
فلزمه المناقضة.
واعلموا رحمكم اهلل أن من قال عالم وال علم كان مناقضا ،كما أن من قال علم اهلل وال عالم
كان مناقضا ،وكذلك القول في القادر والقدرة ،والحياة والحي ،والسمع والبصر والسميع
والبصير.
مسألة:
ويقال لهم :خبرونا عمن زعم أن اهلل متكلم ،قائل ،آمر
( )1/144
،ناه ،ال قول له ،وال كالم ،وال أمر له ،وال نهى ،أليس هو مناقض خارج عن جملة
المسلمين؟
فال بد من نعم.
يقال لهم :فكذلك من قال :إن اهلل تعالى عالم وال علم له ،كان ذلك مناقضا خارجا عن جملة
المسلمين.
وقد أجمع المسلمون قبل حدوث الجهمية والمعتزلة والحرورية على أن هلل علما لم يزل،
وقد قالوا :علم اهلل لم يزل ،وعلم اهلل سابق في األشياء ،وال يمتنعون أن يقولوا في كل حادثة
تحدث ونازلة تنزل كل هذا سابق في علم اهلل ،فمن جحد أن هلل علما فقد خالف المسلمين
وخرج عن اتفاقهم.
مسألة:
ويقال لهم :إذا كان اهلل مريدا فله إرادة؟ فإن قالوا :ال ،قيل لهم :فإذا أثبتم مريدا ال إرادة له
فأثبتوا أن قائال ال قول له ،وإن
( )1/145
أثبتوا اإلرادة قيل لهم :فإذا كان المريد ال يكون مريدا إال بإرادة ،فما أنكرتم أن ال يكون
العالم عالما إال بعلم ،وأن يكون هلل علم كما أثبتم له اإلرادة.
مسألة:
وقد فرقوا بين العلم والكالم فقالوا :إن اهلل تعالى علم موسى وفرعون ،وكلم موسى ولم
يكلم فرعون ،فكذلك قد يقال علم موسى الحكمة وفصل الخطاب ،وآتاه النبوة ،ولم يعلم
ذلك فرعون فإن كان هلل كالم؛ ألنه كلم موسى ولم يكلم فرعون ،فكذلك هلل علم؛ ألنه علم
موسى ولم يعلم فرعون.
ثم يقال لهم :إذا وجب أن هلل كالما به كلم موسى دون فرعون؛ إذ كلم موسى دونه ،فما
أنكرتم إذا علمهما جميعا أن يكون له علم به علمهما جميعا.
ثم يقال :قد كلم اهلل األشياء بأن قال لها :كوني ،وقد أثبتم هلل قوال ،وإن علم األشياء كلها
فله علم.
( )1/146
مسألة:
ثم يقال لهم :إذا أوجبتم أن هلل كالما وليس له علم؛ ألن الكالم أخص من العلم ،والعلم أعم
منه ،فقولوا :إن هلل قدرة؛ ألن العلم أعم عندكم من القدرة؛ ألن مذاهب القدرية أنهم ال
يقولون أن اهلل ال يقدر أن يخلق الكفر ،فقد أثبتوا القدرة أخص من العلم ،فينبغي لهم أن
يقولوا على اعتاللهم إن هلل قدرة.
مسألة:
ثم يقال لهم :أليس اهلل عالما ،والوصف له بأنه عالم أعم من الوصف له بأنه متكلم مكِّلم؟
ثم لم يجب؛ ألن الكالم أخص من أن يكون اهلل تعالى متكلما غير عالم؟ فلم ال قلتم إن
الكالم -وإن كان أخص من العلم -أن ذلك ال ينفي أن يكون هلل علم ،كما لم ينف
بخصوص الكالم أن يكون اهلل عالما؟
مسألة:
ويقال لهم :من أين علمتم أن اهلل عالم؟
( )1/147
فإن قالوا :يقوله تعالى( :إنه بكل شيء عليم) من اآلية (. )42/ 12
قيل لهم :وكذلك فقولوا :إن هلل علما بقوله( :أنزله بعلمه) من اآلية ( ، )4/ 166وبقوله:
(وما تحمل من أنثى وال تضع إال بعلمه) من اآلية ( ، )35/ 11وكذلك فقولوا إن له قوة
لقوله تعالى( :أولم يروا أن الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) من اآلية (. )41/ 15
فإن قالوا :قلنا :إن اهلل عالم؛ ألنه صنع العالم على ما فيه من آثار الحكمة واتساق التدبير.
قيل لهم :فلم ال قلتم إن هلل علما بما ظهر في العالم من حكمة وآثار تدبيره؟
( )1/148
ألن الصنائع الحكمية ال تظهر إال من ذي علم ،كما ال يظهر إال من عالم ،وكذلك ال تظهر
إال من ذي قوة كما ال تظهر إال من قادر.
مسألة:
ويقال لهم :إذا نفيتم علم اهلل فلم ال نفيتم أسماءه؟
فإن قالوا كيف ننفي أسماءه وقد ذكرها في كتابه؟
قيل لهم :فال تنفوا العلم والقوة؛ ألنه تعالى ذكر ذلك في كتابه العزيز.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :قد عَّلم اهلل تعالى نبيه صلى اهلل عليه وسلم الشرائع واألحكام ،والحالل والحرام،
وال يجوز أن يعلمه ما ال يعلمه ،فكذلك ال يجوز
( )1/149
أن يعلم اهلل نبيه صلى اهلل عليه وسلم ماال علم اهلل به .تعالى اهلل عن قول الجهمية علوا كبيرا.
مسألة:
ويقال لهم :أليس إذا لعن اهلل الكافرين ،فلعنه لهم معنى ،ولعن النبي صلى اهلل عليه وسلم لهم
معنى؟
فمن قولهم نعم.
فيقال لهم :فما أنكرتم من أن اهلل تعالى إذا علم نبيه صلى اهلل عليه وسلم شيئا فكان للنبي
صلى اهلل عليه وسلم علم ،وهلل تعالى علم ،وإذا كنا متى أثبتناه غضبانا على الكافرين فال بد
من إثبات غضب ،وكذلك إذا أثبتناه راضيا عن المؤمنين فال بد من إثبات رضى ،وكذلك إذا
أثبتناه حيا سميعا بصيرا فال بد من إثبات حياة وسمع وبصر.
( )1/150
مسألة:
ويقال لهم :وجدنا اسم عالم اشتق من علم ،واسم قادر اشتق من قدرة ،وكذلك اسم حي
اشتق من حياة ،واسم سميع اشتق من سمع ،واسم بصير اشتق من بصر ،وال تخلو أسماء اهلل
عز وجل من أن تكون مشتقة إما إلفادة معنى ،أو على طريق التلقيب ،فال يجوز أن يسمى اهلل
تعالى على طريق التقليب باسم ليس فيه إفادة معنى ،وليس مشتقا من صفة.
فإذا قلنا :إن اهلل تعالى عالم قادر فليس تلقيبا ،كقولنا زيد وعمر ،وعلى هذا إجماع
المسلمين.
( )1/151
وإذا لم يكن كذلك تلقيبا ،كان مشتقا من علم ،فقد وجب إثبات العلم ،وإن كان ذلك
إلفادة معنى ،فال يختلف ما هو إلفادة معنى واجب إذا كان معنى العالم منا أن له علما أن
يكون كل عالم فهو ذو علم ،كما إذا كان قولي موجود مفيدا فينا اإلثبات كان الباري تعالى
واجبا إثباته؛ ألنه سبحانه وتعالى موجود.
مسألة:
ويقال للمعتزلة والجهمية والحرورية :أتقولون إن هلل علما
( )1/152
( )1/153
يوجب أنه عليم بعلم األشياء ،فكذلك فما أنكرتم أن تكون هذه اآليات نوجب أن هلل علما
باألشياء سبحانه وبحمده.
مسألة:
ويقال لهم :هل هلل عز وجل علم بالتفرقة بين أوليائه وأعدائه؟ وهل هو مريد لذلك؟ وهل له
إرادة لإليمان إذا أراد اإليمان؟
فإن قالوا :نعم ،وافقوا.
وإن قالوا :إذا أراد اإليمان فله إرادة.
قيل لهم :وكذلك إذا فرق بين أوليائه وأعدائه ،فال بد من أن يكون له علم بذلك ،وكيف
يجوز أن يكون للخلق علم بذلك ،وليس للخالق عز وجل علم
( )1/154
بذلك؟ ! وهذا يوجب أن للخلق مزية في العلم وفضال على الخالق .تعالى اهلل عن ذلك علوا
كبيرا.
قيل لهم :إذا كان من له علم من الخلق أولى بالمنزلة الرفيعة ممن ال علم له ،فإذا زعمتم أن
اهلل تعالى ال علم له لزمكم أن الخلق أعلى مرتبة من الخالق .تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا.
مسألة:
ويقال لهم :إذا كان من ال علم له من الخلق يلحقه الجهل والنقصان ،فما أنكرتم من أنه ال
بد من إثبات علم اهلل؟ وإال ألحقتم به النقصان -جل عن قولكم وعال -أال ترون أن من ال
يعلم من الخلق يلحقه الجهل والنقصان،
( )1/155
ومن قال ذلك في اهلل عز وجل وصف اهلل تعالى بما ال يليق به ،فكذلك إذا كان من قيل له
من الخلق ال علم له لحقه الجهل والنقصان ،وجب أن ال ُينفى ذلك عن اهلل تعالى؛ ألنه ال
يلحقه جهل وال نقصان.
مسألة:
ويقال لهم :هل يجوز أن تنسق الصنائع الحكمية ممن ليس بعالم؟
فإن قالوا :ذلك محال ،وال يجوز في وجود الصنائع التي تجري على ترتيب ونظام إال من
عالم قادر حي.
قيل لهم :وكذلك ال يجوز وجود الصنائع الحكمية التي تجري على ترتيب ونظام إال من ذي
علم وقدرة وحياة.
فإن جاز ظهورها ال من ذي علم فما أنكرتم من جواز ظهورها ال من عالم قادر حي.
( )1/156
وكل مسألة سألناهم عنها في العلم فهي داخلة عليهم في القدرة والحياة والسمع والبصر.
مسألة:
وزعمت المعتزلة أن قول اهلل تعالى( :سميع بصير) من اآلية ( )31/ 28إن معناه عليم.
قيل لهم :فإذا قال اهلل تعالى( :إنني معكما أسمع وأرى) من اآلية (، )20/ 46
وقال( :قد سمع اهلل قول التي تجادلك في زوجها) من اآلية ( )58/ 10فمعنى ذلك عندكم
علم.
فإن قالوا :نعم.
قيل لهم :فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله( :إنني معكما أسمع وأرى) من اآلية (/ 46
)20أعلم وأعلم إذا كان معنى ذلك العلم.
( )1/157
فصل
ونفت المعتزلة صفات رب العالمين ،وزعمت أن معنى (سميع بصير) من اآلية ()31/ 28
راء بمعنى عليم ،كما زعمت النصارى أن سمع اهلل هو بصره ،وهو رؤيته ،وهو كالمه ،وهو
علمه ،وهو ابنه .تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا.
فيقال للمعتزلة :إذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى عالم ،فهال زعمتم أن معنى قادر معنى
عالم.
وإذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى قادر ،فهال زعمتم أن معنى قادر معنى عالم.
وإذا زعمتم أن معنى حي معنى قادر ،فلم ال زعمتم أن معنى قادر معنى عالم.
( )1/158
( )1/161
قيل لهم :فلم زعمتم أن اهلل عز وجل مريد بإرادة مخلوقة ،وما الفصل بينكم وبين الجهمية
في زعمهم أن اهلل عالم بعلم مخلوق ،وإذا لم يجز أن يكون علم اهلل مخلوقا ،فما أنكرتم أن
ال تكون إرادة اهلل مخلوقة؟
فإن قالوا :ال يجوز أن يكون علم اهلل محدثا؛ ألن ذلك يقضي أن يكون حدث بعلم آخر
كذلك ال إلى غاية.
قيل لهم :ما أنكرتم أن ال تكون إرادة اهلل محدثة مخلوقة؛ ألن ذلك يقتضي أن تكون حدثت
عن إرادة أخرى ،ثم كذلك ال إلى غاية.
فإن قالوا :ال يجوز أن يكون علم اهلل محدثا؛ ألن من لم يكن عالما ثم علم لحقه النقصان.
( )1/162
قيل لهم :وال يجوز أن تكون إرادة اهلل محدثة مخلوقة؛ ألن من لم يكن مريدا ثم أراد لحقه
النقصان ،وكما ال يجوز أن تكون إرادته تعالى محدثة مخلوقة ،كذلك ال يجوز أن يكون
كالمه محدثا مخلوقا.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :إذا زعمتم أنه قد كان في سلطان اهلل عز وجل الكفر والعصيان ،وهو ال يريده،
وأراد أن يؤمن الخلق أجمعون ،فلم يؤمنوا فقد وجب على قولكم أن أكثر ما شاء اهلل أن
يكون لم يكن ،وأكثر ما شاء اهلل أن ال يكون كان؛ ألن الكفر الذي كان وهو ال يشاؤه
عندكم ،أكثر من اإليمان الذي كان وهو يشاؤه ،وأكثر ما شاء اهلل أن يكون لم يكن.
وهذا جحد لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء اهلل أن يكون كان ،وما ال يشاء ال
يكون.
( )1/163
مسألة أخرى:
ويقال لهم :من قولكم :إن كثيرا ما شاء أن يكون إبليس كان؛ ألن الكفر أكثر من اإليمان،
وأكثر ما كان هو شاءه ،فقد جعلتم مشيئة إبليس أنفذ من مشيئة رب العالمين جل ثناؤه،
وتقدست أسماؤه ،وال إله غيره؛ ألن أكثر ما شاءه كان ،وأكثر ما كان فقد شاءه.
وفي هذا إيجاب أنكم قد جعلتم إلبليس مرتبة في المشيئة ليست لرب العالمين .تعالى اهلل عز
وجل عن قول الظالمين علوا كبيرا.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :أيما أولى بصفة االقتدار :من إذا شاء أن يكون الشيء كان ال محالة ،وإذا لم
يرده لم يكن ،أو من يريد أن يكون ما ال يكون ويكون ماال يريد؟
فإن قالوا :من ال يكون أكثر ما يريده أولى بصفة االقتدار كما يروا.
( )1/164
وقيل لهم :إن جاز لكم ما قلتموه جاز لقائل أن يقول :من يكون ماال يعلمه أولى بالعلم ممن
ال يكون إال ما يعلمه.
وإن رجعوا عن هذه المكابرة ،وزعموا أن من إذا أراد أمرا كان ،وإذا لم يرده ال يكون أولى
بصفة االقتدار لزمهم على مذاهبهم أن يكون إبليس -لعنه اهلل -أولى باالقتدار من اهلل
تعالى؛ ألن أكثر ما أراده كان ،وأكثر ما كان قد أراده.
وقيل لهم :إذا كان من إذا أراد أمرا كان ،وإذا لم يرده لم يكن أولى بصفة االقتدار ،فيلزمكم
أن يكون اهلل تعالى إذا أراد أمرا كان ،وإذا لم يرده لم يكن؛ ألنه أولى بصفة االقتدار.
مسألة:
ويقال لهم :أيما أولى باإللهية والسلطان من ال يكون إال ما يعلمه وال يغيب عن علمه شيء
وال يجوز ذلك عليه ،أو من يكون ماال يعلمه ويعزب عن علمه أكثر األشياء؟
( )1/165
فإن قالوا :من ال يكون إال ما يعلمه وال يعزب عن علمه شيء أولى بصفة اإللهية.
قيل لهم :فكذلك من ال يريد كون شيء إال ما كان ،وال يكون إال ما يريده ،وال يعزب عن
إرادته شيء أولى بصفة اإللهية كما قلتم ذلك في العلم ،وإذا قالوا ذلك تركوا قولهم
ورجعوا عنه ،وأثبتوا اهلل عز وجل مريدا لكل كائن ،وأوجبوا أنه ال يريد أن يكون إال ما
يكون.
مسألة:
ويقال لهم :إذا قلتم أنه يكون في سلطانه تعالى ما ال يريد ،فقد كان إذا في سلطانه ما كرهه.
فال بد من نعم.
يقال لهم :فإذا كان في سلطانه ما يكرهه فما أنكرتم أن يكون في سلطاته ما يأبى كونه.
فإن أجابوا إلى ذلك ،قيل لهم :فقد كانت المعاصي شاء اهلل أم أبى ،وهذه صفة الضعف
والفقر .تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا.
مسألة:
ويقال لهم :أليس لما فعل العباد ما يسخطه تعالى وما
( )1/166
( )1/167
مسألة:
ويقال لهم :أليس من زعم أن اهلل تعالى فعل ماال يعلمه فقد نسب اهلل سبحانه إلى ما ال يليق
به من الجهل؟
فال بد من نعم.
قيل لهم :وكذلك يلزم من زعم أن اهلل فعل ما ال يريده؛ لزمه أن ينسب اهلل تعالى إلى السهو
والتقصير عن بلوغ ما يريده ،فإذا قالوا :نعم.
قيل لهم :وكذلك يلزم من زعم أن العباد يفعلون ماال يعلم اهلل نسب اهلل تعالى إلى الجهل.
فال بد من نعم.
( )1/168
يقال لهم :فكذلك إذا كان في كون فعل فعلة اهلل ،وهو ال يريده إيجاب سهو أو ضعف أو
تقصير عن بلوغ ما يريده.
فكذلك إذا كان من غيره ماال يريده وجب إثبات سهو وغفلة ،أو ضعف وتقصير عن بلوغ ما
يريد ،ال فرق في ذلك بين ما كان منه وما كان من غيره.
مسألة:
ويقال لهم :إذا كان في سلطان اهلل ماال يريده وهو يعلمه ،وال يلحقه الضعف والتقصير عن
بلوغ ما يريده فما أنكرتم أن يكون في سلطانه ماال يعلمه وال يلحقه النقصان ،فإن لم يجز
هذا لم يجز ما قلتموه.
مسألة:
إن قال قائلِ :لم قلتم :إن اهلل مريد لكل كائن أن يكون ،ولكل ماال يكون أن ال يكون؟
قيل له :الدليل على ذلك أن الحجة قد وضحت أن اهلل تعالى
( )1/169
( )1/170
تكون وأبى أن تكون ،وهذا يوجب أن تكون المعاصي كائنة شاء اهلل أم أبى ،وهذا صفة
الضعف .تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا.
وقد أوضحنا أن اهلل سبحانه لم يزل مريدا على حقيقته التي علمه عليها ،فإذا كان الكفر مما
يكون ،وقد علم ذلك فقد أراد أن يكون.
مسألة:
يقال لهم :إذا كان اهلل عز وجل علم أن الكفر يكون ،وأراد أن ال يكون ،فقد أراد أن يكون
ما علم على خالف ما علم ،وإذا لم يجز ذلك فقد أراد أن يكون ما علم كما علم.
مسألة:
ويقال لهم :لم أبيتم أن يريد اهلل الكفر الذي علم
( )1/171
( )1/172
مسألة:
ويقال لهم :قد قال يوسف صلى اهلل عليه وسلم( :رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)
من اآلية ( )12/ 33وكان سجنهم إياه معصية ،فأراد المعصية التي هي سجنهم إياه دون فعل
ما يدعونه إليه ،ولم يكن سفيها فما أنكرتم من أن ال يجب إذا أراد الباري سبحانه سفه العباد
أن يكون قبيحا منهم ،خالفا للطاعة أن يكون سفيها.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :أليس من يرى منا حرم المسلمين كان سفيها ،واهلل تعالى يراهم وال ينسب إلى
السفه؟ فال بد من نعم.
يقال لهم :فيما أنكرتم أن من أراد السفه منا فكان سفيها ،واهلل سبحانه يريد سعة السفهاء وال
ينسب إلى اهلل تعالى سفه تعالى اهلل عن ذلك.
( )1/173
مسألة أخرى:
ويقال لهم :السفيه منا إنما كان سفيها لما أراد السفه؛ ألنه نهى عن ذلك ،وألنه تحت شريعة
من هو فوقه ،ومن يحد له الحدود وترسم له الرسوم فلما أتى ما نهي عنه كان سفيها ،ورب
العالمين جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ليس تحت شريعة ،وال فوقه من يحد له الحدود ويرسم
له الرسوم ،وال فوقه مبيح وال حاظر ،وال آمر وال زاجر ،فلم يجب إذا أراد ذلك أن يكون
قبيحا أن ينسب إلى السفه سبحانه وتعالى.
مسألة:
ويقال لهم :أليس من خلى بين عبيده وبين إمائه منا يزني بعضهم ببعض وهو ال يعجز عن
التفريق بينهم يكون سفيها؟ ورب العالمين عز وجل قد خلى بين عبيده وإمائه يزني بعضهم
ببعض وهو يقدر على التفريق بينهم وليس سفيها ،وكذلك من أراد
( )1/174
السفه منا كان سفيها ،ورب العالمين عز وجل يريد السفه وليس سفيها.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :من أراد طاعة اهلل منا كان مطيعا ،كما أن من أراد السفه كان سفيها ورب
العالمين عز وجل يريد الطاعة وليس مطيعا ،فكذلك يريد السفه وليس سفيها.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :قال اهلل تعالى( :ولو شاء اهلل ما اقتتلوا) من اآلية ( )2/ 253فأخبر أنه لو شاء أن
ال يقتتلوا ما اقتتلوا،
( )1/175
قال( :ولكن اهلل يفعل ما يريد) من آية ( )2/ 253من القتال ،فإذا وقع القتال فقد شاءه،
كما أنه قال( :ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) من اآلية ( )6/ 28فقد أوجب أن الرد لو كان
إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر ،وأنهم إذا لم يرّد هم إلى الدنيا لم يعودوا ،فكذلك لو شاء اهلل أن
ال يقتتلوا لما اقتتلوا ،وإذا اقتتلوا فقد شاء أن يقتتلوا.
مسألة:
ويقال لهم :قال اهلل تعالى( :ولو شئنا آلتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني ألمألن
جهنم من الجنة والناس أجمعين) من اآلية ( )23/ 13وإذا حق القول بذلك فما شاء أن تؤتي
كل نفس هداها؛ ألنه إذا لم يؤتها هداها لما حق القول بتعذيب الكافرين ،وإذا لم يرد ذلك
( )1/176
( )1/177
قيل لهم :فإذا أخبر أنه لو شاء آلتاهم الهدى لوال ما حق منه من القول أنه يمأل جهنم ،وإذا
كان لو ألجأهم لم يكن نافعا لهم وال مزيال للعذاب عنهم ،كما لم ينفع فرعون قوله الذي
قاله عند الغرق واإللجاء ،فال معنى لقولكم ،ألنه لوال ما حق من القول ألوتيت كل نفس
هداها ،وإتيان الهدى على الوجه الذي قلتموه ال يزيل العذاب.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :قال اهلل تعالى( :ولو بسط اهلل الرزق لعباده لبغوا في األرض) من اآلية (/ 27
، )42وقال تعالى( :ولوال أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم
سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون) من اآلية ( )43/ 33مخبرا أنه لوال أن يكون الناس
مجتمعين على الكفر لم يبسط لهم الرزق ولم يجعل للكافرين سقفا من فضة ،فما أنكرتم من
أنه تعالى لو لم يرد أن يكفر الكافرين ما خلقهم مع علمه بأنه إذا خلقهم كانوا
( )1/178
كافرين ،كما أنه لو أراد أن ال يكون الناس على الكفر مجتمعين لم يجعل للكافرين سقفا من
فضة ومعارج عليها يظهرون؛ لئال يكونوا جميعا على الكفر متطابقين ،إذا كان في معلومه أنه
لو لم يفعل ذلك لكانوا جميعا على الكفر مطبقين.
( )1/180
( )1/181
وإذا كان الكفر مما أراد فقد فعله وقدره.
مسألة:
ويرد عليهم في اللطف .يقال لهم :أليس اهلل عز وجل قادر أن يفعل بخلقه من بسط الرزق ما
لو فعله بهم لبغوا في األرض؟ وأن يفعل بهم ما لو فعله بالكفار لكفروا؟ كما قال تعالى( :ولو
بسط اهلل الرزق لعباده لبغوا في األرض) ،وكما قال( :ولوال أن يكون الناس أمة واحدة
لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) من اآلية ( . )43/ 33فال بد من نعم.
( )1/182
يقال لهم :فما أنكرتم من أنه قادر أن يفعل بهم لطفا لو فعله بهم آلمنوا أجمعين ،كما أنه
قادر أن يفعل بهم أمرا لو فعله بهم لكفروا كلهم.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :أليس قد قال اهلل تعالى( :ولوال فضل اهلل عليكم ورحمته التبعتم الشيطان إال
قليال) من اآلية (( ، )4/ 83ولوال فضل اهلل عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) من
اآلية ( ، )24/ 21وقال( :فاطلع فرآه في سواء الجحيم) ( )37/ 55يعني في وسط
الجحيم ،قال( :تاهلل إن كدت لتردين ولوال نعمة ربي لكنت من المحضرين) من اآلية (- 56
. )37/ 57
ما الفضل الذي فعله بالمؤمنين ،الذي لو لم يفعله التبعوا الشيطان ،ولو لم يفعله ما زكى
منهم من أحد أبدا؟ وما النعمة التي لو لم يفعلها لكانوا من
( )1/183
( )1/184
مسألة في االستطاعة:
ويقال لهم :أليست استطاعة اإليمان نعمة من اهلل تعالى وفضال وإحسانا؟
فإذا قالوا :نعم.
قيل لهم :فما أنكرتم أن يكون توفيقا وتسديدا ،فال بد من اإلجابة إلى ذلك.
يقال لهم :فإذا كان الكافرون قادرين على اإليمان ،فما أنكرتم من أن يكونوا موفقين
لإليمان ،ولو كانوا موفقين مسددين لكانوا ممدوحين؛ وإذ لم يجز ذلك لم يجز أن يكونوا
على اإليمان قادرين ،ووجب أن يكون اهلل تعالى اختص بالقدرة على اإليمان للمؤمنين.
( )1/185
مسألة أخرى:
ويقال لهم :لو كانت القدرة على الكفر قدرة على اإليمان ،فقد رغب إليه في أن يقدره على
الكفر ،فلما رأينا المؤمنين يرغبون إلى اهلل تعالى في قدرة اإليمان ،ويزهدون في قدرة الكفر؛
علمنا أن الذي رغبوا فيه غير الذي زهدوا فيه.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :أخبرونا عن قوة اإليمان ،أليست فضال من اهلل تعالى؟
فال بد من نعم.
يقال لهم :فالتفضل ،أليس هو ما للمتفضل أن ال يتفضل به ،وله أن يتفضل به ،فال بد من
اإلجابة إلى ذلك؛ ألن ذلك هو الفرق بين الفضل وبين االستحقاق.
فيقال لهم :وللمتفضل إذا أمر باإليمان أن يرفع التفضل ،وال يتفضل به فيأمرهم بإيمان ،وإن
لم يعطهم قدرة اإليمان وخذلهم ،وهذا هو قولنا ومذهبنا.
( )1/186
مسألة:
ويقال لهم :هل يقدر اهلل على توفيق يوفق به الكافرين حتى يكونوا مؤمنين؟
فإن قالوا :ال .نطقوا بتعجيز اهلل ،تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وإن قالوا :نعم يقدر على ذلك ،ولو فعل بهم التوفيق آلمنوا ،تركوا قولهم ،وقالوا بالحق.
مسألة:
وإن سألوا عن قول اهلل تعالى( :وما اهلل يريد ظلما للعباد) من اآلية ( ، )40/ 31وعن قوله:
(وما اهلل يريد ظلما للعالمين) من اآلية (. )3/ 103
قيل لهم :معنى ذلك أنه ال يريد أن يظلمهم؛ ألنه قال( :وما اهلل يريد ظلما لهم) ولم يقل :ال
يريد ظلم بعضهم لبعض ،فلم يرد أن يظلمهم وإن كان أراد أن يتظالموا.
( )1/187
مسألة:
وإن سألوا عن قول اهلل تعالى( :ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) من اآلية (، )67/ 3
قالوا :والكفر متفاوت ،فكيف يكون من خلق اهلل؟
والجواب عن ذلك :أن اهلل تعالى قال( :خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن
من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا
وهو حسير) من اآلية ( )67/ 4 - 3فإنما عنى ما ترى في السماوات من فطور؛ ألنه ذكر
خلق السماوات ،ولم يذكر الكفر ،وإذا كان هذا على ما قلناه بطل ما قالوه .والحمد هلل رب
العالمين.
مسألة:
ويقال لهم :هل تعرفون هلل عز وجل نعمة على أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه خص بها دون
أبي جهل ابتداء؟
فإن قالوا :ال ،فُح ش قولهم.
وإن قالوا :نعم ،تركوا مذاهبهم،
( )1/188
مسألة:
وإن سألوا عن قوله تعالى( :ما خلقنا السماء واألرض وما بينهما باطال) من اآلية (/ 27
، ) 38فقالوا :هذه اآلية تدل على أن اهلل عز وجل لم يخلق الباطل .والجواب عن ذلك :أن
اهلل عز وجل أراد بذلك المشركين الذين قالوا :ال حشر وال نشور وال إعادة ،فكأنه قال
تعالى :ما خلقت ذلك ،وأنا ال أثيب من أطاعني ،وال أعاقب من عصاني ،كما ظن الكافرون
أنه ال حشر وال نشر وال ثواب وال عقاب ،أال تراه قال
( )1/189
( :ذلك َظُّن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) من اآلية ( ، )38/ 27وبَّين ذلك
بقوله( :أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في األرض أم نجعل المتقين
كالفجار) ( )38/ 28أي ال نسوي بينهم في أن نفنيهم أجمعين وال نعيدهم ،فيكون سبيلهم
سبيال واحدا.
مسألة:
وسألوا عن قوله تعالى( :ما أصابك من حسنة فمن اهلل وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (
)4/ 79
والجواب عن ذلك :أن اهلل تعالى قال( :وإن تصبهم حسنة) من اآلية ( )4/ 78يعني الخصب
والخير( ،يقولون هذا من عند اهلل وإن تصبهم سيئة) من اآلية ()4/ 78
( )1/190
يعني الجدب والقحط والمصائب( ،قالوا هذه من عندك) من اآلية ( )4/ 78أي بشؤمك،
قال اهلل تعالى( :يا محمد قل كل من عند اهلل فمال هؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا) من
اآلية ( )4/ 78في قولهم( :ما أصابك من حسنة فمن اهلل وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (
)4/ 79فحذف " في قولهم " ألن ما تقدم من الكالم يدل عليه؛ ألن القرآن ال يتناقض ،وال
يجوز أن يقول في آية إن الكل من عند اهلل ،ثم يقول في اآلية األخرى التي تليها إن الكل
ليس من عند اهلل ،على أن ما أصاب الناس هو غير ما أصابوه ،وهذا يبين بطالن تعلقهم بهذه
اآلية ،ويوجب عليهم الحجة.
مسألة:
وإن سألوا عن قول اهلل تعالى( :وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون) (. )15/ 56
( )1/191
والجواب عن ذلك :أن اهلل تعالى إنما عنى المؤمنين دون الكافرين؛ ألنه أخبرنا أنه ذرأ لجهنم
كثيرا من خلقه ،فالذين خلقهم لجهنم ،وأحصاهم ،وعدهم ،وكتبهم بأسمائهم وأسماء آبائهم
وأمهاتهم؛ غير الذين خلقهم لعبادته.
مسألة في التكليف:
ويقال لهم :أليس قد كلف اهلل عز وجل الكافرين أن يستمعوا الحق ويقبلوه ويؤمنوا باهلل؟
فال بد من نعم.
فيقال لهم :فقد قال اهلل تعالى( :ما كانوا يستطيعون السمع) من اآلية ( ، )11/ 20وقال:
(وكانوا ال يستطيعون سمعا) من اآلية ( ، )18/ 101وقد كلفهم استماع الحق.
( )1/192
مسألة:
ويقال لهم :أليس قد قال اهلل تعالى( :يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فال
يستطيعون) ( ، )68/ 42أليس قد أمرهم اهلل تعالى بالسجود في اآلخرة؟
وجاء في الخبر( :أن المنافقين يجعل في أصالبهم كالصفائح فال يستطيعون السجود) ،وفي
هذا تثبيت ما نقوله من أنه ال يجب لهم على اهلل تعالى إذا أمرهم أن يقدرهم ،وهو بطالن
قول القدرية.
( )1/193
قيل لهم :فإذا كان هذا عدال فما أنكرتم أن يؤلمهم في اآلخرة ،ويكون ذلك منه عدال.
فإن قالوا :آلمهم في الدنيا ليعتبر بهم اآلباء.
قيل لهم :فإذا فعل بهم ذلك في الدنيا ليعتبر بهم اآلباء ،وكان ذلك منه عدال فلم ال يؤلم
أطفال الكافرين في اآلخرة ليغيظ بذلك آباءهم ،ويكون ذلك منه عدال؟
وقد قيل في الخبر( :إن أطفال المشركين تؤجج لهم نار يوم القيامة ثم يقال لهم اقتحموها،
فمن اقتحمها أدخله الجنة ،ومن لم يقتحمها أدخله النار)
وقد قيل في األطفال ،وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم( :إن شئت أسمعتك ضغاءهم في
النار) .
مسألة:
ويقال لهم :أليس قد قال اهلل تبارك وتعالى
( )1/194
( :تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب) (/ 3 - 1
، )111وأمره مع ذلك باإليمان ،فأوجب عليه أن يعلم أنه ال يؤمن ،وأن اهلل صادق في
إخباره عنه أنه ال يؤمن ،وأمره مع ذلك أن يؤمن وال يجتمع اإليمان والعلم بأنه ال يكون وال
يقدر على أن يؤمن ،وأن يعلم أنه ال يؤمن.
وإذا كان هذا هكذا فقد أمر اهلل سبحانه أبا لهب بما ال يقدر عليه؛ ألنه أمره أن يؤمن ،وأنه
يعلم أنه ال يؤمن.
مسألة:
ويقال لهم :أليس أمر اهلل عز وجل باإليمان من علم أنه ال يؤمن؟
فمن قولهم نعم.
يقال لهم :فأنتم قادرون على اإليمان ،ويتأتى لكم ذلك.
فإن قالوا :ال ،وافقونا.
وإن قالوا :نعم ،زعموا أن العباد يقدرون على الخروج من علم اهلل .تعالى اهلل عن ذلك علوا
كبيرا.
( )1/195
مسألة عن المعتزلة:
قال الشيخ أبو الحسن األشعري رحمة اهلل عليه:
ويقال لهم :أليس المجوس أثبتوا الشيطان يقدر على الشر الذي ال يقدر اهلل عز وجل عليه
فكانوا بقولهم هذا كافرين؟ فال بد من نعم.
يقال لهم :فإذا زعمتم أن الكافرين يقدرون على الكفر ،واهلل تعالى ال يقدر عليه فقد زدتم
على المجوس في قولكم؛ ألنكم تقولون معهم :إن الشيطان يقدر على الشر ،واهلل ال يقدر
عليه ،وهذا ما بينه الخبر عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،وأن القدرية مجوس هذه األمة،
وإنما صاروا مجوس هذه األمة؛ ألنهم قالوا بقول المجوس.
( )1/196
مسألة:
وزعمت القدرية أنا نستحق اسم القدر؛ ألنا نقول إن اهلل تعالى قدر الشر والكفر ،فمن يثبت
القدر كان قدريا دون من لم يثبته.
يقال لهم :القدري هو من يثبت القدر لنفسه دون ربه عز وجل ،وأنه يقدر أفعاله دون خالقه،
وكذلك هو في اللغة؛ ألن الصائغ :هو من زعم أنه يصوغ دون من يزعم أنه يصاغ له،
والنجار :هو من يضيف النجارة إلى نفسه دون أنه ينجر له.
فلما كنتم تزعمون أنكم تقدرون أعمالكم وتفعلونها دون ربكم ،وجب أن تكونوا قدرية،
ولم نكن نحن قدرية؛ ألنا لم نضف األعمال إلى
( )1/197
أنفسنا دون ربنا عز وجل ،ولم نقل إنا نقدرها دونه ،وقلنا :إنها تقدر لنا.
مسألة:
ويقال لهم :إذا كان من أثبت التقدير هلل عز وجل قدريا ،فيلزمكم إذا زعمتم أن اهلل تعالى
قدر السماوات واألرض ،وقدر الطاعات أن تكونوا قدرية ،فإذا لم يلزم هذا فقد بطل قولكم
وانتقض كالمكم.
مسألة في الختم:
يقال لهم :أليس قد قال اهلل تعالى( :ختم اهلل على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم
غشاوة) من اآلية ( ، )2/ 7وقال تعالى( :فمن يرد اهلل أن يهديه يشرح صدره لإلسالم ومن
يرد أن يضله
( )1/198
يجعل صدره ضيقا حرجا) من اآلية ( ، )6/ 125فخبرونا عن الذين ختم اهلل على قلوبهم
وعلى سمعهم ،أتزعمون أنه هداهم وشرح لإلسالم صدورهم وأضلهم.
فإن قالوا :نعم ،تناقض قولهم.
وقيل لهم :كيف تكون الصدور مشروحة لإليمان ،وهي ضيقة حرجة مختوم عليها ،وكيف
يجتمع الفعل الذي قال اهلل عز وجل( :أم على قلوب أقفالها) من اآلية ( )47/ 24مع
الشرح ،والضيق مع السعة ،والهدى مع الضالل ،إن كان هذا جاز أن يجتمع التوحيد
واإللحاد الذي هو ضد التوحيد ،والكفر واإليمان معا في قلب واحد ،وإن لم يجز هذا لم
يجز ما قلتموه.
فإن قالوا :الختم والضيق والضالل ال يجوز أن يجتمع مع شرح اهلل الصدر.
قيل لهم :وكذلك الهدى ال يجتمع مع الضالل ،وإذا كان هذا هكذا
( )1/199
فما شرح اهلل صدور الكافرين لإليمان ،بل ختم اهلل على قلوبهم وأقفلها عن الحق ،وشد
عليها ،كما دعا نبي اهلل موسى صلى اهلل عليه وسلم على قومه فقال( :ربنا اطمس على
أموالهم واشدد على قلوبهم فال يؤمنوا حتى تروا العذاب األليم) من اآلية ( )10/ 88قال اهلل
تعالى( :قد أجبت دعوتكما) من آية ( ، )10/ 89وقال تعالى يخبر عن الكافرين إنهم قالوا:
(قلوبنا في أكَّنة مما تدعوننا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) من اآلية ()41/ 5
،فإذا خلق اهلل األكنة في قلوبهم ،والقفل والزيغ؛ ألن اهلل تعالى قال( :فلما زاغوا أزاغ اهلل
قلوبهم) من اآلية ()16/ 5
( )1/200
والختم وضيق الصدر تم أمرهم باإليمان الذي علم أنه ال يكون ،فقد أمرهم بما ال يقدرون
عليه ،وإذا خلق اهلل في قلوبهم ما ذكرنا من الضيق عن اإليمان ،فهل الضيق عن اإليمان إال
الكفر الذي في قلوبهم؟ وهذا يبين أن اهلل خلق كفرهم ومعاصيهم.
مسألة:
ويقال لهم :قال اهلل تعالى لنبيه صلى اهلل عليه وسلم( :ولوال أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم
شيئا قليال) ( ، )17/ 74وقال تعالى يخبر عن يوسف صلى اهلل عليه وسلم( :ولقد همت به
وهم بها لوال أن رأى برهان ربه) من اآلية ()12/ 24
( )1/201
فحدثونا عن ذلك التثبيت والبرهان ،هل فعله اهلل عز وجل بالكافرين ،أو ما هو مثله؟
فإن قالوا) ال ،تركوا القول بالقدر.
وإن قالوا :نعم.
قيل لهم :فإذا كان لم يركن إليهم من أجل التثبيت فيجب لو كان فعل ذلك بالكافرين أن ال
يثبتوا على الكفر ،وإذا لم يكونوا عن الكفر مفترقين فقد بطل أن يكون فعل بهم مثل ما فعله
بالنبي صلى اهلل عليه وسلم من التثبيت الذي لما فعله به لم يركن إلى الكافرين.
مسألة في االستثناء:
ويقال لهم :خبرونا عن مطالبة رجل بحق ،فقال له :واهلل ألعطينك ذلك غدا إن شاء اهلل
تعالى ،أليس اهلل شائيا أن يعطيه حقه؟
فمن قولهم :نعم.
يقال لهم :أفرأيتم إن جاء الغد فلم يعطه حقه،
( )1/202
مسألة في اآلجال:
يقال لهم :أليس قد قال اهلل تعالى( :فإذا جاء أجلهم فال يستأخرون ساعة وال يستقدمون) من
اآلية ( ، )16/ 61وقال تعالى( :ولن يؤخر اهلل نفسا إذا جاء أجلها) من اآلية ( )63/ 11؟
فال بد من نعم.
يقال لهم :خبرونا عمن قتله قاتله ظلما ،أتزعمون أنه قتل في أجله ،أو بأجله
( )1/203
؟
فإن قالوا :نعم ،وافقوا وقالوا بالحق ،وترك القدر.
وإن قالوا :ال.
قيل لهم :فمتى أجل هذا المقتول؟
فإن قالوا :الوقت الذي علم اهلل أنه لو لم يقتل لتزوج امرأة أنها امرأته ،وإن لم يبلغ إلى أن
يتزوجها ،وإذا كان في معلوم اهلل أنه لو لم يقتل وبقي لكفر أن تكون النار داره.
وإذا لم يجز هذا لم يجز أن يكون الوقت الذي لم يبلغ إليه أجال له ،على أن هذا القول مقيد
لقول اهلل تعالى( :فإذا جاء أجلهم ال يستأخرون ساعة وال يستقدمون) من اآلية (. )16/ 61
مسألة أخرى:
ويقال لهم :إذا كان القاتل عندكم قادرا على أن ال يقتل هذا المقتول فيعيش ،فهو قادر على
قطع أجله وتقديمه قبل أجله ،وهو قادر على تأخيره إلى أجله ،فاإلنسان على قولكم يقدر أن
يقدم آجال العباد ويؤخرها ،ويقدر أن
( )1/204
مسألة في األرزاق:
ويقال لهم :خبرونا عمن اغتصب طعاما فأكله حراما ،هل رزقه اهلل ذلك الحرام؟
فإن قالوا :نعم ،تركوا القدر.
وإن قالوا :ال.
قيل لهم :فمن أكل جميع عمره الحرام ،فما رزقه اهلل شيئا اغتذى به جسمه.
ويقال لهم :فإذا كان غيره يغتصب له ذلك الطعام ويطعمه إياه إلى أن مات ،فرازق هذا
اإلنسان عندكم غير اهلل ،وفي هذا إقرار منهم أن للخلق رازقين:
أحدهما يرزق الحالل ،واآلخر يرزق الحرام ،وأن الناس تنبت لحومهم وتشد عظامهم ،واهلل
غير رازق لهم ما اغتذوا به.
( )1/205
وإذا قلتم :إن اهلل لم يرزقه الحرام ،لزمكم أن اهلل لم يغذه به ،وال جعله قواما لجسمه ،وأن
لحمه وجسمه قام وعظمه اشتد بغير اهلل عز وجل ،وهو ممن رزقه الحرام ،وهذا كفر عظيم
إن احتملوا.
( )1/206
قيل لهم :فلم زعمتم أنه لو رزق الحرام لملك الحرام ،وقد يرزق اهلل الشيء وال ُيَم ِّلُك ه؟
ويقال لهم :هل أقدر اهلل العبد على الحرام ولم يمِّلْكه إياه؟
فمن قولهم :نعم.
يقال لهم :فما أنكرتم أن يرزقه الحرام ،وإن لم يمِّلكه إياه.
مسألة أخرى:
يقال لهم :إذا كان توفيق المؤمنين باهلل ،فما أنكرتم أن يكون خذالن الكافرين من قبل اهلل
تعالى ،وإال فإن زعمتم أن اهلل وفق الكافرين لإليمان فقولوا عصمهم من الكفر ،وكيف
يعصمهم من الكفر وقد وقع الكفر منهم؟
فإن أثبتوا أن اهلل خذلهم ،قيل لهم :فالخذالن من اهلل أليس هو الكفر الذي خلقه فيهم؟
فإن قالوا :نعم ،وافقوا.
وإن قالوا :ال.
قيل لهم :فما ذلك الخذالن الذي خلقه؟
فإن قالوا :تخليته إياهم والكفر.
قيل لهم :أو ليس من قولكم :إن اهلل عز وجل خلى بين المؤمنين وبين الكفر؟
( )1/207
مسألة أخرى:
إن سأل سائل ِم ن أهل القدر ،فقال :هل يخلو العبد من أن يكون بين نعمة يجب عليه أن
يشكر اهلل عليها ،أو بلية يجب عليه الصبر عليها؟
قيل له :العبد ال يخلو من نعمة وبلية ،والنعمة يجب على العبد أن يشكر اهلل عليها ،والباليا
على ضربين:
منها ما يجب الصبر عليها كاألمراض واألسقام وما أشبه ذلك.
ومنها ما يجب عليه اإلقالع عنها كالكفر والمعاصي.
مسألة:
وإن سألوا فقالوا :أيما خير ،الخير أو َم ن الخير منه؟
قيل لهم :من كان الخير متفضال به فهو خير من الخير.
فإن قالوا :فأيما شر ،الشر أو من الشر منه؟
( )1/208
قيل لهم :من كان الشر منه جائزا به فهو أشر من الشر ،واهلل تعالى يكون منه الشر خلقا،
وهو عادل به ،ولذلك ال يلزمنا ما سألتم عنه على أنكم ناقضون ألصولكم؛ ألنه إن كان من
كان الشر منه فهو أشر من الشر ،وقد خلق اهلل تعالى إبليس الذي هو أشر من الشر الذي
يكون منه ،فقد خلق ما هو أشر من الشرور كلها ،وهذا نقض دينكم وفساد مذهبكم.
مسألة في الهدى:
يقال للمعتزلة :أليس قد قال اهلل تعالى( :ألم ذلك الكتاب ال ريب فيه هدى للمتقين)
( )1/209
( )1/3
مسألة أخرى:
ثم يقال لهم :إذا جاز أن يكون دعاء اهلل إلى اإليمان هدى لمن َقِبل ولمن لم يقبل ،فما
أنكرتم دعاء إبليس إلى الكفر إضالال لمن قبل ولمن لم يقبل ،فإن كان دعاء إبليس إلى
الكفر إضالال للكافرين الذين قبلوا عنه ،دون المؤمنين لم يقبلوا عنه ،فما أنكرتم أن دعاء اهلل
تعالى إلى اإليمان هدى للمؤمنين الذين قبلوا عنه ،دون الكافرين الذين لم يقبلوا عنه ،وإال
فما الفرق بين ذلك؟
مسألة أخرى:
ويقال لهم :أليس قال اهلل تعالى
( )1/210
( :يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) من اآلية ( )2/ 26فهل يدل قوله( :يضل به كثيرا) على
أنه لم يضل الكل؛ ألنه لو أراد الكل لقال :يضل به الكل ،فلما قال( :يضل به كثيرا) علمنا
أنه لم يضل الكل؟ فال بد من نعم.
يقال لهم :فما أنكرتم أن قوله تعالى( :ويهدي به كثيرا) دليل على أنه لم يرد الكل؛ ألنه لو
أراد الكل لقال :ويهدي به الكل ،فلما قال تعالى( :ويهدي به كثيرا) علمنا أنه لم يهد الكل،
وفي هذا إبطال قولكم :إن اهلل هدى الخلق أجمعين.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :إذا قلتم إن دعاء اهلل إلى اإليمان هدى للكافرين الذين لم يقبلوا عن اهلل أمره ،فما
أنكرتم أن يكون دعا اهلل إلى اإليمان نفعا وصالحا
( )1/211
وتسديدا للكافرين الذين لم يقبلوا عن اهلل أمره ،وما أنكرتم أن يكون عصمة لهم من الكفر
وإن لم يكونوا من الكفر معتصمين ،وأن يكون توفيقا لإليمان وإن لم يوفقوا لإليمان ،وفي
هذا ما يجب أن اهلل سدد الكافرين وأصلحهم وعصمهم ووفقهم لإليمان وإن كانوا كافرين،
وهذا ما ال يجوز؛ ألن الكافرين مخذولون.
وكيف يكونون موفقين لإليمان وهم مخذولون؟
فإن جاز أن يكون الكافر موفقا لإليمان ،فما أنكرتم أن يكون اإليمان له متفقا ،فإن استحال
هذا ،فما أنكرتم أن يستحيل ما قلتموه.
مسألة في الضالل:
يقال لهم :أضل اهلل تعالى الكافرين عن اإليمان ،أو عن الكفر؟
فإن قالوا :عن الكفر.
( )1/212
قيل لهم :فكيف يكونون ضالين عن الكفر ذاهبين عنه ،وهم كافرون؟
وإن قالوا :أضلهم عن اإليمان ،تركوا قولهم.
وإن قالوا :نقول :إن اهلل أضلهم ،ولم يضلهم عن شيء.
قيل لهم :ما الفرق بينكم وبين من قال :إن اهلل هدى المؤمنين ال إلى شيء؟
فإن استحال أن يهدي المؤمنين ال إلى اإليمان ،فما أنكرتم من أنه محال أن يضل الكافرين ال
إلى اإليمان.
مسألة أخرى:
ويقال لهم :ما معنى قول اهلل تعالى( :ويضل اهلل الظالمين) من اآلية ( )14/ 27؟
فإن قالوا :معنى ذلك أنه يسميهم ضالين ،ويحكم عليهم بالضالل.
قيل لهم :أليس خاطب اهلل العرب بلغتهم فقال( :بلسان عربي مبين) من اآلية (، )26/ 195
( )1/213
وقال( :وما أرسلنا من رسول إال بلسان قومه) من اآلية ( )14/ 4؟ فال بد من نعم.
يقال لهم :وإذا كان اهلل عز وجل أنزل القرآن بلسان العرب ،فمن أين وجدتم في لغة العرب
أن يقال :أضل فالن فالنا أي سماه ضاال؟
فيقال :قالوا وجدنا القائل يقول :إذا قال رجل لرجل ضال قد ضللت.
قيل لهم :قد وجدنا لعمري القائل :ضلل فالن فالنا أنه سماه ضاال ،ولم نجدهم يقولون:
أضل فالن فالنا بهذا المعنى ،فلما قال اهلل تعالى( :ويضل اهلل الظالمين) من اآلية ()14/ 27
لم يجز أن يكون معنى ذلك االسم ،والحكم إذا لم يجز في لغة العرب أن يقال :أضل فالن
فالنا ،بأن سماه ضاال ،بطل تأويلكم إذا كان خالف لسان العرب.
( )1/214
مسألة أخرى:
ويقال لهم :إذا قلتم :إن اهلل أضل الكافرين بأن سماهم ضالين ،وليس ذلك في اللغة على ما
ادعيتموه ،فيلزمكم إذا سمى النبي صلى اهلل عليه وسلم قوما ضالين فاسدين بأن يكون قد
أضلهم وأفسدهم بأن سماهم ضالين فاسدين ،وإذا لم يجز هذا بطل أن يكون معنى (يضل اهلل
الظالمين) االسم والحكم كما ادعيتم.
مسألة:
ويقال لهم :أليس قد قال اهلل تعالى( :من يهد اهلل فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا
مرشدا) من اآلية ( ، )18/ 17وقال تعالى( :كيف يهدي اهلل قوما كفروا بعد إيمانهم) من
اآلية ( )3/ 86فذكر أنه يهديهم ،وقال تعالى
( )1/215
( :واهلل يدعو إلى دار السالم ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) اآلية من ()10/ 25
فجعل الدعاء عاما ،والهدى خاصا ،وقال تعالى( :ال يهدي القوم الكافرين) من اآلية (/ 264
)2فإذا أخبر اهلل عز وجل أنه ال يهدي القوم الكافرين ،فكيف يجوز لقائل أن يقول :إنه
هدى الكافرين مع إخباره أنه ال يهديهم ،ومع قوله تعالى( :إنك ال تهدي من أحببت ولكن
اهلل يهدي من يشاء) من اآلية ( ، )28/ 56ومع قوله تعالى( :ليس عليك هداهم ولكن اهلل
يهدي من يشاء) من اآلية ( ، )2/ 272ومع قوله تعالى( :ولو شئنا آلتينا كل نفس هداها) من
اآلية (، )32/ 13
( )1/216
؟
وإن جاز هذا جاز أن يقال :أضل المؤمنين ،مع قوله تعالى( :ومن يهد اهلل المهتد) من اآلية (
، )17/ 97ومع قوله( :هدى للمتقين) من اآلية ( ، )2/ 2فإن لم يكن ذلك ،فما أنكرتم أنه
ال يجوز أن يهدي الكافرين مع قوله تعالى( :ال يهدي القوم الكافرين) من اآلية ()2/ 264
ومع سائر اآليات التي طالبناكم بها .مسألة:
ويقال لهم :أليس قد قال اهلل تعالى( :أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله اهلل على علم وختم
على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) من اآلية ( )45/ 23؟
( )1/217
فال بد من نعم.
يقال لهم :فأضلهم ليضلوا أو ليهتدوا؟
فإن قالوا :أضلهم ليهتدوا.
قيل لهم :وكيف يجوز أن يضلهم ليهتدوا ،وإن جاز هذا جاز أن يهديهم ليضلوا ،وإذا لم
يجز أن يهدي المؤمنين ليضلوا ،فما أنكرتم من أنه ال يجوز أن يضل الكافرين ليهتدوا.
مسألة:
ويقال لهم :إذا زعمتم أن اهلل هدى الكافرين فلم يهتدوا ،فما أنكرتم أن ينفعهم فال ينتفعون،
وأن يصلحهم فال ينصلحون ،وإذا جاز أن ينفع من ال ينتفع بنفعه فما أنكرتم من أن يضر من
ال تلحقه المضرة ،فإن كان ال يضر إال من يلحقه الضرر فكذلك ال ينفع إال منتفعا ،ولو جاز
أن ينفع من ليس منتفعا ،ويهدي من ليس مهتديا؛ جاز أن يقدر من ليس مقتدرا ،وإذا استحال
ذلك استحال أن ينفع من ليس منتفعا ،ويهدي من ليس مهتديا.
( )1/218
مسألة:
فإن قال قائل :أليس قد قال اهلل تعالى( :إنما تنذر من اتبع الذكر) من اآلية ()36/ 11
( )1/219
،وقال تعالى( :إنما أنت منذر من يخشاها) ( ، )79/ 45وقد أنذر النبي صلى اهلل عليه
وسلم من اتبع الذكر ومن لم يتبع ،ومن خشي ومن لم يخش؟
قيل له :نعم.
فإن قالوا :فما أنكرتم أن يكون قوله تعالى( :هدى للمتقين) من اآلية ( )2/ 2أراد به هدى
لهم ولغيرهم؟
قيل لهم :إن معنى قول اهلل تعالى( :إنما ينذر من اتبع الذكر) من اآلية ( )36/ 11إنما أراد به
ينتفع بإنذارك من اتبع الذكر ،وقوله تعالى( :إنما أنت منذر من يخشاها) ( )79/ 45أراد أن
اإلنذار ينتفع به من يخشى الساعة ،ويخاف العقوبة فيها ،على أن اهلل تعالى قد أخبر في
موضع آخر من القرآن أنه أنذر الكافرين ،فقال
( )1/220
( :إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ال يؤمنون) ( )2/ 6وهذا هو خبر عن
الكافرين ،وقال تعالى( :وأنذر عشيرتك األقربين) ( ، )26/ 214وقال تعالى( :أنذرتكم
صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) من اآلية ( )41/ 13وهذا خطاب للكافرين.
فلما أخبر اهلل تعالى في آيات من القرآن أنه أنذر الكافرين ،كما أخبر في آيات من القرآن أنه
أنذر من يخشاها ،وأنذر من اتبع الذكر؛ وجب بالقرآن أن اهلل قد أنذر المؤمنين والكافرين،
فلما أخبرنا
( )1/221
اهلل أنه هدى للمتقين وعمى على الكافرين ،وخبرنا أنه ال يهدي الكافرين؛ وجب أن يكون
القرآن هدى للمتقين دون الكافرين.
مسألة:
وإن سأل سائل عن قول اهلل تعالى( :وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) من
اآلية ( )41/ 17فقال :أليس ثمود كانوا كافرين وقد أخبر اهلل تعالى أنه هداهم.
قيل له :ليس األمر كما ظننت.
والجواب في هذه اآلية على وجهين:
أحدهما :أن ثمود كانوا فريقين مؤمنين وكافرين ،وهم الذين أخبر اهلل أنه نجاهم مع صالح
صلى اهلل عليه وسلم بقوله تعالى
( )1/222
( :نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا) من اآلية ( )11/ 66فالذين عنى اهلل عز وجل
من ثمود أنه هداهم هم المؤمنون دون الكافرين؛ ألن اهلل تعالى قد بين لنا في القرآن أنه ال
يهدى الكافرين ،والقرآن ال يتناقض ،بل يصدق بعضه بعضا ،فإذا أخبرنا في موضع أنه ال
يهدي الكافرين ،ثم خبر في موضع آخر أنه هدى ثمود ،علمنا أنه إنما أراد المؤمنين من
ثمود دون الكافرين.
والوجه اآلخر :أن اهلل عز وجل عنى قوما من ثمود كانوا مؤمنين ثم ارتدوا ،فأخبر أنه تعالى
هداهم فاستحبوا بعد الهداية الكفر على اإليمان ،وكانوا في حال ما هداهم مؤمنين.
فإن قال قائل معترضا في الجواب األول :كيف يجوز أن يقول( :فهديناهم) ويعني المؤمنين
من ثمود ،ويقول( :فاستحبوا) يعني الكافرين منهم وهم غير مؤمنين؟
يقال له :هذا جائز في اللغة التي ورد بها القرآن أن يقول( :فهديناهم)
( )1/223
ويعني المؤمنين من ثمود ،ويقول( :فاستحبوا) ويعني الكافرين منهم ،وقد ورد القرآن بمثل
هذا ،قال اهلل تعالى( :وما كان اهلل ليعذبهم وأنت فيهم) من اآلية ( )8/ 33يعني الكافرين ،ثم
قال تعالى( :وما كان اهلل معذبهم وهم يستغفرون) من اآلية ( )8/ 33يعني المؤمنين ،ثم قال
تعالى( :وما لهم أال يعذبهم اهلل) من اآلية ( )8/ 34يعني الكافرين ،وال خالف عند أهل اللغة
في جواز الخطاب بهذا أن يكون ظاهره لجنس والمراد به جنسان ،فبطل ما اعترض به ودل
على جهله.
( )1/224
( )1/225
( :إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إال ذراع أو باع ،فيسبق عليه
الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ،وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه
وبينها إال ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) .ال حرمنا اهلل
منها.
وروى معاوية بن عمرو قال :ثنا زائدة ،عن األعمش ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة رضي اهلل
عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال( :احتج آدم وموسى صلوات اهلل وسالمه عليهما فقال
موسى عليه السالم :يا آدم أنت الذي خلقك اهلل بيده ونفخ فيك من روحه ،أغويت الناس
وأخرجتهم من الجنة ،قال :فقال آدم صلى اهلل عليه وسلم
( )1/226
:أنت موسى الذي اصطفاك اهلل بكلماته ،تلومني على عمل كتبه اهلل علي قبل أن يخلق اهلل
السماوات ،قال :فحج آدم موسى) .
وروى حديث (حج آدم موسى) مالك عن أبي الزناد ،عن األعرج ،عن أبي هريرة عن النبي
صلى اهلل عليه وسلم ،وهذا يدل على بطالن قول القدرية الذين يقولون :إن اهلل تعالى ال يعلم
الشيء حتى يكون؛ ألن اهلل تعالى إذا كتب ذلك وأمر بأن يكتب فال يكتب شيء ال يعلمه -
جل عن ذلك وتقدس -وقال تعالى( :وما تسقط من ورقة إال يعلمها وال حبة في ظلمات
األرض وال رطب وال يابس إال في كتاب مبين) من اآلية ( ، )6/ 59وقال تعالى( :وما من
دابة في األرض إال على اهلل رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) من اآلية
(، )11/ 6
( )1/227
وقال تعالى( :أحصاه هلل ونسوه) من اآلية ( ، )58/ 6وقال تعالى( :لقد أحصاهم وعدهم
عدا) ( ، )19/ 94وقال تعالى( :أحاط بكل شيء علما) من اآلية (( ، )25/ 12وأحصى كل
شيء عددا) من اآلية ( ، )72/ 28وقال تعالى (بكل شيء عليم) من اآلية (، )25/ 231
فذلك يبين أنه يعلم األشياء كلها.
وقد أخبر اهلل تعالى أن الخلق يبعثون ويحشرون ،وأن الكافرين في النار يخلدون ،وأن
األنبياء والمؤمنين في الجنان يخلدون ،وأن القيامة تقوم ولم تقم
( )1/228
القيامة ،فذلك يدل على أن اهلل تعالى يعلم ما يكون قبل أن يكون ،وقد قال تعالى في أهل
النار( :ولو ردوا لعادوا) من اآلية ( ، )6/ 28فأخبر عما ال يكون أنه لو كان كيف يكون،
وقال تعالى( :فما بال القرون األولى قال علمها عند ربي في كتاب ال يضل ربي وال ينسى)
من اآلية ( ، )20/ 52 - 51ومن ال يعلم الشيء قبل كونه ال يعلم بعد تقضيه ،تعالى اهلل عن
قول الظالمين علوا كبيرا.
وروى معاوية بن عمرو ،قال :ثنا زائدة ،عن سليمان األعمش ،عن عمرو بن مرة ،عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى ،عن عبد اهلل بن ربيعة ،قال:
( )1/229
كنا عند عبد اهلل ،قال :فذكروا رجال فذكروا من ُخ ُلِق ه ،فقال القوم :أما له من يأخذ على
يديه؟ قال عبد اهلل :أرأيتم لو قطع رأسه كنتم تستطيعون أن تجعلوا له رأسا؟ قالوا :ال.
قال عبد اهلل :إن النطفة إذا وقعت في المرأة مكثت أربعين يوما ،ثم انحدرت دما ،ثم تكون
علقة مثل ذلك ،ثم تكون مضغة مثل ذلك ،ثم يبعث ملك فيقول :اكتب أجله ،وعمله،
ورزقه ،وأثره ،وخلقه ،وشقي أو سعيد ،وأنكم لن تستطيعوا أن تغيروا ُخ ُلقه حتى تغيروا
َخ ْلقه.
وروى معاوية بن عمرو ،قال :ثنا زائدة ،عن سعيد بن عبيدة ،عن أبي عبد الرحمن ،عن علي
رضي اهلل عنه ،قال :كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتى النبي صلى اهلل عليه وسلم فقعد
ونحن
( )1/230
حوله ،ومعه حصير فنكت بها ورفع رأسه ،فقال( :ما منكم من نفس منفوسة إال قد كتب
مكانها من الجنة والنار ،وإال قد كتبت شقية أو سعيدة) ،فقال رجل من القوم :يا رسول اهلل
أفال نمكث على كتابنا وندع العمل ،فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى السعادة،
ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى الشقاوة؟ فقال( :اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما
أهل الشقوة فميسرون لعمل الشقوة ،وأما أهل السعادة فميسرون لعمل السعادة) ،ثم قال:
(فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى
( )1/231
وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) (. )92/ 10 - 5
وروى موسى بن إسماعيل قال :ثنا حماد ،قال :ثنا هشام بن عروة ،عن عروة ،عن عائشة
رضي اهلل عنها ،وعن أبويها أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال( :إن الرجل ليعمل بعمل
أهل الجنة ،وإنه مكتوب في الكتاب من أهل النار ،فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل
النار ،فمات فدخل النار ،وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ،وأنه مكتوب في الكتاب أنه من
أهل الجنة ،فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل الجنة ،فمات فدخل الجنة) .
( )1/232
وهذه األحاديث تدل على أن اهلل تعالى علم ما يكون أنه يكون وكتبه ،وأنه قد كتب أهل
الجنة وأهل النار ،وخلقهم فريقين فريقا في الجنة وفريقا في السعير ،وبذلك نطق كتابه
العزيز؛ إذ يقول( :فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضاللة) من اآلية ( ، )7/ 30وقال تعالى:
(فريق في الجنة وفريق في السعير) من اآلية ( ، )42/ 7وقال تعالى( :فمنهم شقي وسعيد)
من اآلية ( )11/ 105فخلق اهلل األشقياء للشقاء ،والسعداء للسعادة ،وقال تعالى( :ولقد
ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن واإلنس) من اآلية (. )7/ 179
( )1/233
وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم( :أن اهلل عز وجل جعل للجنة أهال وللنار أهال) أعاذنا
اهلل منها.
دليل آخر في القدر:
ومما يدل على بطالن قول القدرية قول اهلل تعالى( :وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذريتهم) اآلية من اآلية (. )7/ 172
وجاءت الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :أن اهلل عز وجل مسح ظهر آدم فأخرج
ذريته من ظهره كأمثال الذر ،ثم قررهم بوحدانيته وأقام الحجة عليهم) ؛ ألنه قال تعالى:
(وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) من آية (، )7/ 172
( )1/234
قال اهلل تعالى( :أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) من اآلية ( )7/ 172فجعل
تقريرهم بوحدانيته لما أخرجهم من ظهر آدم صلى اهلل عليه وسلم حجة عليهم إذا أنكروا في
الدنيا ما كانوا عرفوه في الذر األول ،ثم من بعد اإلقرار جحدوه.
وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال( :أنه سبحانه وتعالى قبض قبضة للجنة ،وقبض
قبضة للنار ،ميز بعضها من بعض ،فقلبت الشقوة على أهل الشقوة ،والسعادة على أهل
السعادة) .
( )1/235
قال اهلل تعالى مخبرا عن أهل النار -أعاذنا اهلل منها -أنهم قالوا( :ربنا غلبت علينا شقوتنا
وكنا قوما ضالين) ،فكل ذلك أمر قد سبق في علم اهلل تعالى ،ونفذت فيه إرادته ،وتقدمت
فيه مشيئته.
وروى معاوية بن عمرو قال :ثنا زائدة ،قال :حدثنا طلحة بن يحيى القرشي ،قال :حدثتني
عائشة بنت طلحة ،عن عائشة أم المؤمنين رضي اهلل عنها وعن أبويها أن النبي صلى اهلل عليه
وسلم دعي إلى جنازة غالم من األنصار ليصلي عليه ،فقالت عائشة رضي اهلل عنها :طوبى
لهذا يا رسول اهلل ،عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا ولم يدركه ،قال( :أو غير ذلك
يا عائشة ،إن اهلل تعالى قد جعل للجنة أهال وهم في أصالب آبائهم ،وللنار أهال جعلهم لها
وهم في أصالب آبائهم) ،
( )1/236
( )1/237
وإذا كان الكفر مما أراده فقد فعله ،وقدره ،وأحدثه ،وأنشأه ،واخترعه ،وقد تبين ذلك بقوله
تعالى( :أتعبدون ما تنحتون واهلل خلقكم وما تعملون) من اآلية ( )37/ 96 - 95فلو كانت
عبادتهم لألصنام من أعمالهم كان ذلك مخلوقا هلل تعالى ،وقد قال اهلل تعالى( :جزاء بما
كانوا يعملون) من اآلية ( )32/ 17يريد أنه تعالى يجازيهم على أعمالهم ،فكذلك إذا ذكر
عبادتهم لألصنام وكفرهم بالرحمن ،ولو كان مما قدروه وفعلوه ألنفسهم لكانوا قد فعلوا
وقدروا ما خرج عن تقدير ربهم وفعله ،وكيف يجوز أن يكون لهم من التقدير والفعل
والقدرة ما ليس لربهم؟ فمن زعم ذلك فقد عَّج ز اهلل .تعالى اهلل عن قول المعجزين له علوا
كبيرا.
أال ترى أن من زعم أن العباد يعلمون ماال يعلمه اهلل عز وجل
( )1/238
لكان قد أعطاهم من العلم ما لم يدخله في علم اهلل ،وجعلهم هلل نظراء ،فكذلك من زعم أن
العباد يفعلون ويقِّدرون ما لم يقِّدره ،ويقدرون على ما لم يقدر عليه ،فقد جعل لهم من
السلطان والقدرة والتمكن ما لم يجعله للرحمن .تعالى عن قول أهل الزور والبهتان ،واإلفك
والطغيان علوا كبيرا.
مسألة:
ويقال لهم :هل فعل الكافر الكفر فاسدا باطال متناقضا؟ فإن قالوا :نعم.
قيل لهم :وكيف يفعله فاسدا متناقضا قبيحا ،وهو يعتقده حسنا صحيحا أفضل األديان؟
وإذا لم يجز ذلك؛ ألن الفعل ال يكون فعال على حقيقته إال ممن علمه على ما هو عليه من
حقيقته ،كما ال يجوز أن يكون فعال ممن لم يعلمه فعال ،فقد وجب أن اهلل تعالى هو الذي
قدر الكفر وخلقه كفرا فاسدا باطال متناقضا ،خالفا للحق والسداد
( )1/240
( )1/241
واستوجبوها عليه سبحانه ،وإذا كان اهلل تعالى ال يظلم مثقال ذرة وكان تأخيرهم عن الجنة
ظلما ،فإنما يشفع الشفعاء إلى اهلل تعالى في أن ال يظلم على مذاهبكم .تعالى اهلل عن
افتراءكم عليه علوا كبيرا.
فإن قالوا :يشفع النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى اهلل تعالى في أن يزيدهم من فضله ،ال في أن
يدخلهم جناته.
قيل لهم :أو ليس قد وعدهم اهلل عز وجل ذلك فقال تعالى( :يوفيهم أجورهم ويزيدهم من
فضله) من اآلية ( )4/ 173واهلل تعالى ال يخلف وعده ،فإنما يشفع إلى اهلل تعالى عندكم من
أن يخلف وعده ،وهذا جهل منكم ،وإنما الشفاعة المعقولة فيمن استحقه عقابا أن يوضع عنه
عقابه ،أو في من لم يعده شيئا أن يتفضل
( )1/242
عليه به ،فأما إذا كان الوعد بالتفضل سابقا فال وجه لهذا.
مسألة:
فإن سألوا عن قول اهلل تعالى( :وال يشفعون إال لمن ارتضى) من اآلية (. )21/ 28
فالجواب عن ذلك :إال لمن ارتضى لمن يشفعون له ،وقد روي أن شفاعة النبي صلى اهلل
عليه وسلم ألهل الكبائر ،وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم( :أن المذنبين يخرجون من
النار) .
( )1/244
( )1/245
قال عبيد اهلل :هل سمعت النبي صلى اهلل عليه وسلم يذكره؟ قال :سمعت النبي صلى اهلل
عليه وسلم أكثر من كذا مرة وكذا مرة يقول( :ما بين طرفيه -يعني الحوض -ما بين أيلة
ومكة ،أو ما بين صنعاء ومكة ،وأن آنيته أكثر من نجوم السماء) اللهم اسقنا منه شربة ال
نظمأ بعدها أبدا.
وروى أحمد بن عبد اهلل بن يونس قال :ثنا ابن زائدة ،عن عبد الملك بن عمير عن جندب بن
سفيان ،قال :سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول( :أنا فرطكم على الحوض) في
أخبار كثيرة.
( )1/246
( )1/247
وروى أحمد بن إسحاق الحضرمي ،قال :ثنا وهيب ،قال :ثنا موسى بن عقبة قال :حدثتني أم
خالد بنت خالد بن سعيد بن القاضي رضي اهلل عنها أنها سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم (يتعوذ من عذاب القبر) أعاذنا اهلل منه.
وروى أنس بن مالك رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال( :لوال أن تدافنوا
لسألت اهلل عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني)
دليل آخر:
ومما يبين عذاب الكافرين في القبور قول اهلل تعالى( :النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم
تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (، )40/ 46
( )1/248
فجعل عذابهم يوم تقوم الساعة بعد عرضهم على النار في الدنيا غدوا وعشيا ،وقال تعالى:
(سنعذبهم مرتين) من اآلية ( )9/ 101مرة بالسيف ،ومرة في قبورهم ،ثم يردون إلى عذاب
غليظ في اآلخرة.
وأخبر اهلل تعالى أن الشهداء في الدنيا يرزقون ويفرحون بفضل اهلل تعالى ،قال اهلل تعالى( :وال
تحسبن الذين قتلوا في سبيل اهلل أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم اهلل من
فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أال خوف عليهم وال هم يحزنون) (169
) 3/ 170 -وهذا ال يكون إال في الدنيا؛ ألن الذين لم يلحقوا بهم أحياء لم يموتوا وال
قتلوا.
( )1/250
الباب الرابع عشر الكالم في إمامة أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه
قال اهلل تبارك وتعالى( :وعد اهلل الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في
األرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من
بعد خوفهم أمنا يعبدونني ال يشركون بي شيئا) من اآلية ( ، )24/ 55وقال تعالى( :الذين إن
مكناهم في األرض أقاموا الصالة وآتو الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) من اآلية (
، )22/ 41وأثنى اهلل تعالى على المهاجرين واألنصار والسابقين إلى اإلسالم ،وعلى أهل
بيعة الرضوان ،ونطق القرآن بمدح المهاجرين واألنصار رضي اهلل عنهم أجمعين في مواضع
كثيرة ،وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال تعالى
( )1/251
( :لقد رضي اهلل عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) من اآلية ( )48/ 18اآلية ،وقد
أجمع هؤالء الذين أثنى اهلل عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه وسموه
خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبايعوه وانقادوا له ،وأقروا له بالفضل ،وكان أفضل
الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها اإلمامة من العلم والزهد وقوة الرأي ،وسياسة
األمة وغير ذلك.
دليل آخر من القرآن على إمامة أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه
دليل آخر من القرآن على إمامة الصديق رضي اهلل عنه:
وقد دل اهلل تعالى على إمامة أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه في سورة براءة فقال تعالى
للقاعدين عن نصرة نبيه صلى اهلل عليه وسلم والمتخلفين عن الخروج معه
( )1/252
( :فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) من اآلية ( ، )9/ 83وقال تعالى في
سورة أخرى( :سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن
يبدلوا كالم اهلل) من اآلية ( )48/ 15يعني قوله( :لن تخرجوا معي أبدا) من اآلية (، )9/ 83
ثم قال تعالى( :كذلكم قال اهلل من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا ال يفقهون إال
قليال) من اآلية ( ، )48/ 15وقال تعالى( :قل للمخلفين من األعراب ستدعون إلى قوم أولى
بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم اهلل أجرا حسنا وإن تتولوا) من اآلية (16
)48/يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم إلى قتالهم (كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا
أليما) من اآلية ()48/ 16
( )1/253
والداعي لهم إلى ذلك غير النبي صلى اهلل عليه وسلم الذي قال اهلل عز وجل له( :قل لن
تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) من اآلية ( ، )9/ 83وقال تعالى في سورة الفتح:
(يريدون أن يبدلوا كالم اهلل) من اآلية ( )48/ 15فمنعهم الخروج مع نبيه صلى اهلل عليه
وسلم وجعل خروجهم معه تبديال لكالمه ،فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال
داع يدعوهم بعد نبيه صلى اهلل عليه وسلم ،وقد قال الناس :هم أهل فارس ،وقالوا :أهل
اليمامة ،فإن كانوا أهل اليمامة فقد قاتلهم بعد نبيه صلى اهلل عليه وسلم أبو بكر الصديق
( )1/254
رضي اهلل عنه ،وإن كانوا الروم فقد قاتلهم الصديق أيضا ،وإن كانوا أهل فارس فقد قوتلوا
في أيام أبي بكر رضي اهلل عنه ،وقاتلهم عمر رضي اهلل عنه من بعده وفرغ منهم.
وإذا وجبت إمامة عمر رضي اهلل عنه وجبت إمامة أبي بكر رضي اهلل عنه ،كما وجبت إمامة
عمر رضي اهلل عنه؛ ألنه العاقد له اإلمامة ،فقد دل القرآن على إمامة الصديق رضي اهلل عنه
والفاروق رضي اهلل عنه.
وإذا وجبت إمامة أبي بكر رضي اهلل عنه بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وجب أنه أفضل
المسلمين.
دليل آخر من اإلجماع على إمامة أبي بكر رضي اهلل عنه:
ومما يدل على إمامة الصديق رضي اهلل عنه أن المسلمين جميعا بايعوه وانقادوا إلمامته،
وقالوا له :يا خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
( )1/255
ورأينا عليا والعباس رضي اهلل عنهما بايعاه رضي اهلل عنه وأقرا له باإلمامة ،وإذا كانت
الرافضة يقولون :إن عليا رضي اهلل عنه هو المنصوص على إمامته ،والراوندية تقول :العباس
هو المنصوص على إمامته ،ولم يكن للناس في اإلمامة إال ثالثة أقوال:
من قال منهم :إن النبي صلى اهلل عليه وسلم نص على إمامة أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه،
وهو اإلمام بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
وقول من قال :نص على إمامة علي رضي اهلل عنه.
وقول من قال :اإلمام بعده العباس.
وقول من قال :هو أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه ،هو بإجماع المسلمين والشهادة له بذلك.
ثم رأينا عليا رضي اهلل عنه والعباس رضي اهلل عنه قد بايعاه
( )1/256
وأجمعا على إمامته ،فوجب أن يكون إماما بعد النبي صلى اهلل عليه وسلم بإجماع المسلمين.
وال يجوز لقائل أن يقول كان باطن علي والعباس خالف ظاهرهما ،ولو جاز هذا لمدعيه لم
يصح إجماع ،وجاز لقائل أن يقول ذلك في كل إجماع للمسلمين.
وهذا يسقط حجة اإلجماع؛ ألن اهلل تعالى لم يتعبدنا في اإلجماع بباطن الناس ،وإنما تعبدنا
بظاهرهم ،وإذا كان كذلك فقد حصل اإلجماع واالتفاق على إمامة أبي بكر الصديق رضي
اهلل عنه.
وإذا ثبتت إمامة الصديق رضي اهلل عنه ،ثبتت إمامة الفاروق رضي اهلل عنه؛ ألن الصديق رضي
اهلل عنه نص عليه وعقد له اإلمامة ،واختاره لها.
وكان أفضلهم بعد أبي بكر رضي اهلل عنه.
وثبتت إمامة عثمان رضي اهلل عنه بعد عمر رضي اهلل عنه بعقد
( )1/257
من عقد له اإلمامة من أصحاب الشورى؛ الذين نص عليهم عمر رضي اهلل عنه ،فاختاروه
ورضوا بإمامته ،وأجمعوا على فضله وعدله.
وتثبت إمامة علي رضي اهلل عنه بعد عثمان رضي اهلل عنه لعقد من عقدها له من الصحابة
رضي اهلل عنهم من أهل الحل والعقد ،وألنه لم يدعها أحد من أهل الشورى غيره في وقته،
وقد اجتمع على فضله وعدله ،وأن امتناعه عن دعوى األمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان
حقا؛ لعلمه أن ذلك ليس بوقت قيامه ،وأنه قلما كان لنفسه في وقت الخلفاء قبله
( )1/258
،ثم لما صار األمر أظهر وأعلن ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد ،كما مضى من
قبله من الخلفاء ،وأئمة العدل من السداد والرشاد متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم.
هؤالء هم األئمة األربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي اهلل عنهم أجمعين.
وقد روى شريح بن النعمان قال :ثنا حشرج بن نباته عن سعيد بن جمهان ،قال ثني سفينة
قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :الخالفة في أمتي ثالثون سنة ،ثم ملك بعد
ذلك) ،ثم قال لي سفينة :أمسك خالفة أبي بكر وخالفة عمر وخالفة عثمان ،ثم أمسك
خالفة علي بن أبي طالب رضي اهلل عنهم أجمعين،
( )1/259
( )1/260
()260 /