You are on page 1of 104

‫‪http://www.shamela.

ws‬‬
‫تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة‬

‫الكتاب‪ :‬اإلبانة عن أصول الديانة‬


‫المؤلف‪ :‬أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل‬
‫بن عبد اهلل بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى األشعري (المتوفى‪:‬‬
‫‪324‬هـ)‬
‫المحقق‪ :‬د‪ .‬فوقية حسين محمود‬
‫الناشر‪ :‬دار األنصار ‪ -‬القاهرة‬
‫الطبعة‪ :‬األولى‪1397 ،‬‬
‫عدد األجزاء‪1 :‬‬
‫[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬


‫وهو حسبي ونعم الوكيل‬
‫وصلى اهلل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‬
‫قال الشيخ اإلمام العالم أبو الحسن علي بن إسماعيل بن علي بن أبي بشر األشعري البصري‬
‫رحمه اهلل‪:‬‬
‫‪ -1‬الحمد هلل الواحد األحد‪ ،‬العزيز الماجد‪ ،‬المتفرد بالتوحيد‪ ،‬والمنفرد بالتمجيد‪ ،‬الذي ال‬
‫تبلغه صفات العبيد‪ ،‬ليس له مثل وال نديد‪ ،‬وهو المبدئ المعيد‪ ،‬الفعال لما يريد‪ ،‬جل عن‬
‫اتخاذ الصواحب واألوالد‪ ،‬وتقدس عن مالبسة األجناس واألرجاس‪ ،‬ليست له عثرة تقال‪،‬‬
‫وال حد يضرب له مثال‪ ،‬لم يزل‬

‫( ‪)1/1‬‬

‫بصفاته أوال قديرا‪ ،‬وال يزال عالما خبيرا‪ ،‬استوفى األشياء علمه‪ ،‬ونفذت فيها إرادته‪ ،‬فلم‬
‫تعزب عليه خفيات األمور‪ ،‬ولم تغيره سوالف صروف الدهور‪ ،‬ولم يلحقه في خلق شيء مما‬
‫خلق كالل وال تعب‪ ،‬وال مسه لغوب وال نصب‪ ،‬خلق األشياء بقدرته‪ ،‬ودبرها بمشيئته‪،‬‬
‫وقهرها بجبروته‪ ،‬وذللها بعزته‪ ،‬فذل لعظمته المتكبرون‪ ،‬واستكان لعز ربوبيته المتعظمون‪،‬‬
‫وانقطع دون الرسوخ في علمه العالمون‪ ،‬وذلت له الرقاب‪ ،‬وحارت في ملكوته فطن ذوى‬
‫األلباب‪ ،‬وقامت بكلمته السماوات السبع‪ ،‬واستقرت األرض المهاد‪ ،‬وثبتت الجبال‬
‫الرواسي‪ ،‬وجرت الرياح اللواقح‪ ،‬وسار في جو السماء السحاب‪ ،‬وقامت على حدودها‬
‫البحار‪ ،‬وهو اهلل الواحد القهار‪.‬‬
‫‪ -2‬فنحمده كما حمد نفسه‪ ،‬وكما هو أهله ومستحقه‪ ،‬وكما حمده الحامدون من جميع‬
‫خلقه‪ ،‬ونستعينه استعانة من فوض األمر‬

‫( ‪)1/8‬‬

‫إليه‪ ،‬وأقر أنه ال منجى وال ملجأ إال إليه‪ ،‬ونستغفره استغفار مقر بذنبه‪ ،‬معترف بخطيئته‪.‬‬
‫ونشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬إقرارا بوحدانيته‪ ،‬وإخالصا لربوبيته‪ ،‬وأنه العالم‬
‫بما تظن الضمائر‪ ،‬وتنطوي عليه السرائر‪ ،‬وما تخفيه النفوس‪ ،‬وما تجن البحار‪ ،‬وما تواريه‬
‫األسراب‪( ،‬وما تفيض األرحام وما تزداد‪ ،‬وكل شيء عنده بمقدار) ‪ ،‬ال توارى عنه كلمة‪،‬‬
‫وال تغيب عنه غائبة‪( ،‬وما تسقط من ورقة إال يعلمها‪ ،‬وال حبة في ظلمات األرض وال رطب‬
‫وال يابس إال في كتاب مبين) من اآلية (‪. )59‬‬
‫ويعلم ما يعمل العاملون وما ينقلب إليه المنقلبون‪.‬‬
‫‪ - 3‬ونستهديه بالهدى‪ ،‬ونسأله التوفيق لمجانبة الردى‪.‬‬
‫‪ - 4‬ونشهد أن محمدا صلى اهلل عليه وسلم عبده ورسوله‪ ،‬ونبيه وأمينه وصفيه‪ ،‬أرسله إلى‬
‫خلقه بالنور الساطع‪ ،‬والسراج الالمع‪ ،‬والحجج الظاهرة‪ ،‬والبراهين واآليات الباهرة‪،‬‬
‫واألعاجيب القاهرة‪ ،‬فبّلغ رسالة ربه‪ ،‬ونصح ألمته‪ ،‬وجاهد في اهلل حق جهاده‪ ،‬حتى تمت‬
‫كلمة اهلل عز وجل‪ ،‬وظهر أمره‪ ،‬وانقاد الناس إلى الحق خاضعين‪ ،‬حتى أتاه اليقين‪ ،‬ال وانيا‬
‫وال مقصرا‪،‬‬

‫( ‪)1/9‬‬

‫فصلوات اهلل عليه من قائد إلى هدى مبين‪ ،‬وعلى أهل بيته الطيبين‪ ،‬وعلى أصحابه المنتخبين‪،‬‬
‫وعلى أزواجه أمهات المؤمنين‪.‬‬
‫عَّر فنا اهلل به الشرائع واألحكام‪ ،‬والحالل والحرام‪ ،‬وبَّين لنا به شريعة اإلسالم‪ ،‬حتى انجلت‬
‫عنا طخياء الظالم‪ ،‬وانحسرت عنا به الشبهات‪ ،‬وانكشفت عنا به الغيابات‪ ،‬وظهرت لنا به‬
‫البينات‪.‬‬
‫وجاءنا بـ (كتاب عزيز ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم حميد) من‬
‫اآلية (‪)42- 41‬‬
‫جمع فيه علم األولين واآلخرين‪ ،‬وأكمل به الفرائض والدين‪ ،‬فهو صراط اهلل المستقيم‪،‬‬
‫وحبل اهلل المتين‪ ،‬فمن تمسك به نجا‪ ،‬ومن خالفه ضل وغوى‪ ،‬وفي الجهل تردى‪ ،‬وحثنا اهلل‬
‫في كتابه على التمسك بسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال عز وجل‪( :‬وما أتاكم الرسول‬
‫فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) من اآلية (‪، )7‬‬

‫( ‪)1/10‬‬

‫وقال عز وجل‪( :‬فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) من‬
‫اآلية (‪ ، )63‬وقال تعالى‪( :‬ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى األمر منهم لعلمه الذين‬
‫يستنبطونه منهم) من اآلية (‪ ، )83‬وقال تعالى‪( :‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اهلل وأطيعوا‬
‫الرسول وأولى األمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اهلل والرسول) من اآلية (‪، )59‬‬
‫يقول‪ :‬إلى كتاب اهلل وسنة رسوله‪( :‬وما ينطق عن الهوى إن هو إال وحي يوحى) ‪ ،‬وقال‬
‫تعالى‪( :‬قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي‪ ،‬إن أتبع إال ما يوحى إلي) من اآلية (‪، )15‬‬

‫( ‪)1/11‬‬

‫وقال‪( :‬إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى اهلل ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا‬
‫وأطعنا) من اآلية (‪ )51‬فأمرهم أن يسمعوا قوله‪ ،‬ويطيعوا أمره‪ ،‬ويحذروا مخالفته‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫(وأطيعوا اهلل وأطيعوا الرسول) من اآلية (‪ )92‬فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته‪،‬‬
‫ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه كما أمرهم بالعمل بكتابه‪.‬‬
‫‪ - 5‬فنبذ كثير ممن غلبت عليهم شقوته‪ ،‬واستحوذ عليهم الشيطان سنن نبي اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وراء ظهورهم‪ ،‬ومالوا إلى أسالف لهم قلدوهم دينهم‪ ،‬ودانوا بديانتهم‪ ،‬وأبطلوا‬
‫سنن نبي اهلل عليه الصالة والسالم‪ ،‬ودفعوها وأنكروها وجحدوها افتراء منهم على اهلل‪( ،‬قد‬
‫ضلوا وما كانوا مهتدين) من اآلية (‪. )14‬‬
‫أوصيكم عباد اهلل بتقوى اهلل‪ ،‬وأحذركم الدنيا‪ ،‬فإنها حلوة خضرة‪ ،‬تغر أهلها وتخدع‬
‫سَّك انها‪،‬‬

‫( ‪)1/12‬‬

‫قال اهلل تعالى‪( :‬واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات‬
‫األرض) اآلية من اآلية (‪. )45‬‬
‫من كان فيها في حيرة أعقبته بعدها عبرة‪ ،‬ومن أعطته من سرائها بطنا أعقبته من ضرائها‬
‫ظهرا‪ ،‬غرارة غرور ما فيها‪ ،‬فانية َفاٍن ما فيها‪ ،‬كما بقوله تعالى‪( :‬كل من عليها فان) (‪، )26‬‬
‫فاعملوا رحمكم اهلل للحياة الدائمة‪ ،‬ولخلود األبد‪ ،‬فإن الدنيا تنقضي على أهلها‪ ،‬وتبقى‬
‫األعمال قالئد في رقاب أهلها‪.‬‬
‫واعلموا أنكم ميتون‪ ،‬ثم إنكم من بعد موتكم إلى ربكم راجعون‪( ،‬ليجزي الذين أساؤوا بما‬
‫عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) من اآلية (‪. )31‬‬
‫فكونوا بطاعة ربكم عاملين‪ ،‬وعما نهاكم منتهين‪.‬‬

‫( ‪)1/13‬‬

‫فصل في قول أهل الزيغ والبدع‪:‬‬


‫أما بعد‪ :‬فإن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى‬
‫تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسالفهم‪ ،‬فتأولوا القرآن على آرائهم تأويال لم ينزل به اهلل‬
‫سلطانا‪ ،‬وال أوضح به برهانا‪ ،‬وال نقلوه عن رسول رب العالمين‪ ،‬وال عن السلف المتقدمين‪.‬‬
‫وخالفوا روايات الصحابة رضي اهلل عنهم عن نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم في رؤية اهلل عز‬
‫وجل باألبصار‪ ،‬وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات‪ ،‬وتواترت بها اآلثار‬
‫وتتابعت بها األخبار‪.‬‬

‫( ‪)1/14‬‬

‫وأنكروا شفاعة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للمذنبين‪ ،‬ودفعوا الروايات في ذلك عن‬
‫السلف المتقدمين‪.‬‬
‫وجحدوا عذاب القبر‪ ،‬وأن الكفار في قبورهم يعذبون‪ ،‬وقد أجمع على ذلك الصحابة‬
‫والتابعون رضي اهلل عنهم أجمعين‪.‬‬
‫ودانوا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين؛ الذين قالوا‪( :‬إن هذا إال قول‬
‫البشر) (‪. )25‬‬
‫وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر‪ ،‬نظيرا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين‪:‬‬
‫أحدهما الخير‪ ،‬واآلخر يخلق الشر‪.‬‬
‫وزعمت القدرية أن اهلل تعالى يخلق الخير‪ ،‬والشيطان يخلق الشر‪.‬‬
‫وزعموا أن اهلل تعالى يشاء ما ال يكون‪ ،‬ويكون ماال يشاء‪ ،‬خالفا لما أجمع عليه المسلمون‬
‫من أن ما شاء اهلل كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬وردا لقول اهلل تعالى‬

‫( ‪)1/15‬‬

‫‪( :‬وما تشاؤون إال أن يشاء اهلل) من اآلية (‪)30‬‬


‫فأخبر تعالى أنا ال نشاء شيئا إال وقد شاء اهلل أن نشاءه‪.‬‬
‫ولقوله‪( :‬ولو شاء اهلل ما اقتتلوا) من اآلية (‪ ، )253‬ولقوله تعالى‪( :‬ولو شئنا آلتينا كل نفس‬
‫هداها) من اآلية (‪ ، )13‬ولقوله تعالى‪( :‬فعال لما يريد) من اآلية (‪ ، )107‬ولقوله تعالى‬
‫مخبرا عن نبيه شعيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪( :‬وما يكون لنا أن نعود فيها إال أن يشاء‬
‫اهلل ربنا‪ ،‬وسع ربنا كل شيء علما) من اآلية (‪. )89‬‬
‫ولهذا سماهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مجوس هذه األمة؛ ألنهم دانوا بديانة المجوس‪،‬‬
‫وضاهوا أقاويلهم‪.‬‬
‫وزعموا أن للخير والشر خالقين‪ ،‬كما زعمت المجوس ذلك‪ ،‬وأنه يكون من الشرور ما ال‬
‫يشاء اهلل كما قالت المجوس‪.‬‬
‫وأنهم يملكون الضر والنفع ألنفسهم من دون اهلل عز‬

‫( ‪)1/16‬‬

‫وجل‪ ،‬ردا لقول اهلل تعالى لنبيه صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬قل ال أملك لنفسي نفعا وال ضرا إال ما‬
‫شاء اهلل) (‪ ، )188‬وإعراضا عن القرآن‪ ،‬وعما أجمع عليه أهل اإلسالم‪.‬‬
‫وزعموا أنهم منفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم‪ ،‬فأثبتوا ألنفسهم الغنى عن اهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا اهلل عز وجل بالقدرة عليه‪ ،‬كما أثبت‬
‫المجوس لعنهم اهلل للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوا هلل عز وجل‪ ،‬فكانوا مجوس‬
‫هذه األمة؛ إذ دانوا بديانة المجوس‪ ،‬وتمسكوا بأقاويلهم ومالوا إلى أضاليلهم‪.‬‬
‫وقنطوا الناس من رحمة اهلل‪ ،‬وآيسوهم من روحه‪ ،‬وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها‪،‬‬
‫خالفا لقول اهلل تعالى‪( :‬ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) من اآلية (‪. )48‬‬
‫وزعموا أن من دخل النار ال يخرج منها‪ ،‬خالفا لما جاءت به الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪( :‬إن اهلل عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن اْمَتَح ُش وا فيها‬

‫( ‪)1/17‬‬

‫وصاروا حمما) ‪.‬‬


‫ودفعوا أن يكون هلل وجه مع قوله عز وجل‪( :‬ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام) (‪)27‬‬
‫وأنكروا أن له يدان مع قوله سبحانه‪( :‬لما خلقت بيدي) من اآلية (‪. )75‬‬
‫وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله سبحانه‪( :‬تجري بأعيننا) من اآلية (‪ ، )14‬وقوله‪:‬‬
‫(ولتصنع على عيني) (‪. )39‬‬
‫وأنكروا أن يكون له سبحانه علم مع قوله‪( :‬أنزله بعلمه) من اآلية (‪. )166‬‬
‫وأنكروا أن يكون له قوة مع قوله سبحانه‪( :‬ذو القوة المتين) من اآلية (‪. )58‬‬
‫ونفوا ما روي عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم (أن اهلل‬

‫( ‪)1/18‬‬

‫عز وجل ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا) وغير ذلك مما رواه الثقات عن رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وكذلك جميع أهل البدع من الجهمية والمرجئة والحرورية‪ ،‬أهل الزيغ فيما ابتدعوا وخالفوا‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬وما كان عليه النبي صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه رضى اهلل عنهم أجمعين‪،‬‬
‫وأجمعت عليه األمة كفعل المعتزلة والقدرية وأنا ذاكر ذلك بابا بابا‪ ،‬وشيئا شيئا إن شاء اهلل‬
‫تعالى وبه المعونة‪.‬‬

‫( ‪)1/19‬‬
‫فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة‪:‬‬
‫فإن قال لنا قائل‪ :‬قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافعة والمرجئة‪،‬‬
‫فعرفونا قولكم الذي به تقولون‪ ،‬وديانتكم التي بها تدينون‪.‬‬
‫قيل له‪:‬‬
‫قولنا الذي نقول به‪ ،‬وديانتنا التي ندين بها‪ ،‬التمسك بكتاب اهلل ربنا عز وجل‪ ،‬وبسنة نبينا‬
‫محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وما روى عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث‪ ،‬ونحن‬
‫بذلك معتصمون‪ ،‬وبما كان يقول به أبو عبد اهلل أحمد بن محمد بن حنبل ‪ -‬نضر اهلل وجهه‬
‫ورفع درجته وأجزل مثوبته ‪ -‬قائلون‪ ،‬ولما خالف قوله مخالفون؛ ألنه اإلمام الفاضل‪،‬‬
‫والرئيس الكامل‪ ،‬الذي‬

‫( ‪)1/20‬‬

‫أبان اهلل به الحق‪ ،‬ودفع به الضالل‪ ،‬وأوضح به المنهاج‪ ،‬وقمع به بدع المبتدعين‪ ،‬وزيع‬
‫الزائغين‪ ،‬وشك الشاكين‪ ،‬فرحمة اهلل عليه من إمام مقدم‪ ،‬وجليل معظم‪ ،‬وكبير مفهم‪.‬‬
‫وجملة قولنا‪ :‬أنا نقر باهلل ومالئكته وكتبه ورسله‪ ،‬وبما جاءوا به من عند اهلل‪ ،‬وما رواه‬
‫الثقات عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ال نرد من ذلك شيئا‪ ،‬وأن اهلل عز وجل إله واحد‬
‫ال إله إال هو‪ ،‬فرد صمد‪ ،‬لم يتخذ صاحبة وال ولدا‪ ،‬وأن محمدا عبده ورسوله‪ ،‬أرسله‬
‫بالهدى ودين الحق‪.‬‬
‫وأن الجنة والنار حق‪ ،‬وأن الساعة آتية ال ريب فيها‪ ،‬وأن اهلل يبعث من في القبور‪.‬‬
‫وأن اهلل تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله‪ ،‬وبالمعنى الذي أراده‪ ،‬استواء منزها‬
‫عن الممارسة واالستقرار والتمكن والحلول واالنتقال‪ ،‬ال يحمله العرش‪ ،‬بل العرش وحملته‬
‫محمولون بلطف قدرته‪ ،‬ومقهورون في قبضته‪ ،‬وهو فوق العرش‪ ،‬وفوق كل شيء‪ ،‬إلى تخوم‬
‫الثرى‪ ،‬فوقية ال تزيده قربا إلى العرش والسماء‪ ،‬بل هو رفيع الدرجات عن العرش‪ ،‬كما أنه‬
‫رفيع الدرجات عن الثرى‪ ،‬وهو مع ذلك قريب من كل موجود‪ ،‬وهو أقرب إلى العبد من‬
‫حبل الوريد‪ ،‬وهو على كل شيء شهيد‪.‬‬

‫( ‪)1/21‬‬
‫وأن له سبحانه وجها بال كيف‪ ،‬كما قال‪( :‬ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام) (‪. )27‬‬
‫وأن له سبحانه يدين بال كيف‪ ،‬كما قال سبحانه‪( :‬خلقت بيدي) من اآلية (‪ ، )75‬وكما قال‪:‬‬
‫(بل يداه مبسوطتان) من اآلية (‪. )64‬‬
‫وأن له سبحانه عينين بال كيف‪ ،‬كما قال سبحانه‪( :‬تجري بأعيننا) من اآلية (‪. )14‬‬
‫وأن من زعم أن أسماء اهلل غيره كان ضاال‪.‬‬
‫وأن هلل علما كما قال‪( :‬أنزله بعلمه) من اآلية (‪ ، )166‬وكما قال‪( :‬وما تحمل من أنثى وال‬
‫تضع إال بعلمه) من اآلية (‪. )11‬‬
‫ونثبت هلل السمع والبصر‪ ،‬وال ننفى ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج‪.‬‬

‫( ‪)1/22‬‬

‫ونثبت أن هلل قوة‪ ،‬كما قال‪( :‬أولم يروا أن اهلل الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) من اآلية (‬
‫‪. )15‬‬
‫ونقول‪ :‬إن كالم اهلل غير مخلوق‪ ،‬وأنه سبحانه لم يخلق شيئا إال وقد قال له كن‪ ،‬كما قال‪:‬‬
‫(إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (‪. )40‬‬
‫وأنه ال يكون في األرض شيء من خير أو شر إال ما شاء اهلل‪ ،‬وأن األشياء تكون بمشيئة اهلل‬
‫عز وجل‪ ،‬وأن أحدا ال يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله‪ ،‬وال يستغني عن اهلل‪ ،‬وال يقدر‬
‫على الخروج من علم اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وأنه ال خالق إال اهلل‪ ،‬وأن أعمال العباد مخلوقة هلل مقدرة‪ ،‬كما قال سبحانه‪( :‬واهلل خلقكم‬
‫وما تعملون) (‪ ، )96‬وأن العباد ال يقدرون أن يخلقوا شيئا‪ ،‬وهم يخلقون‪،‬‬

‫( ‪)1/23‬‬

‫كما قال‪( :‬هل من خالق غير اهلل) من اآلية (‪ ، )3‬وكما قال‪( :‬ال يخلقون شيئا وهم يخلقون)‬
‫من اآلية (‪ ، )16/ 20‬وكما قال سبحانه‪( :‬أفمن يخلق كمن ال يخلق) (‪ ، )16/ 17‬وكما‬
‫قال‪( :‬أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) (‪ ، )52/ 35‬وهذا في كتاب اهلل كثير‪.‬‬
‫وأن اهلل وفق المؤمنين لطاعته‪ ،‬ولطف بهم‪ ،‬ونظر لهم‪ ،‬وأصلحهم وهداهم‪ ،‬وأضل الكافرين‬
‫ولم يهدهم‪ ،‬ولم يلطف بهم باإليمان‪ ،‬كما زعم أهل الزيغ والطغيان‪ ،‬ولو لطف بهم‬
‫وأصلحهم لكانوا صالحين‪ ،‬ولو هداهم لكانوا مهتدين‪.‬‬
‫وإن اهلل يقدر أن يصلح الكافرين‪ ،‬ويلطف بهم حتى‬

‫( ‪)1/24‬‬

‫يكونوا مؤمنين‪ ،‬ولكنه أراد أن يكونوا كافرين‪ ،‬كما علم وخذلهم وطبع على قلوبهم‪.‬‬
‫وأن الخير والشر بقضاء اهلل وقدره‪ ،‬وإنا نؤمن بقضاء اهلل وقدره‪ ،‬خيره وشره‪ ،‬حلوه ومره‪،‬‬
‫ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا‪ ،‬وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا‪،‬‬
‫وأن العباد ال يملكون ألنفسهم ضرا وال نفعا إال بإذن اهلل‪ ،‬كما قال عز وجل‪( :‬قل ال أملك‬
‫لنفسي نفعا وال ضرا إال ما شاء اهلل) (‪. )7/ 188‬‬
‫ونلجئ أمورنا إلى اهلل‪ ،‬ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن كالم اهلل غير مخلوق‪ ،‬وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر‪.‬‬
‫وندين بأن اهلل ُيرى في اآلخرة باألبصار‪ ،‬كما ُيرى القمر ليلة البدر‪ ،‬يراه المؤمنون كما‬
‫جاءت الروايات عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة‪ ،‬كما قال‬

‫( ‪)1/25‬‬

‫سبحانه‪( :‬كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) (‪ ، )83/ 15‬وإن موسى صلى اهلل عليه‬
‫وسلم سأل اهلل عز وجل الرؤية في الدنيا‪ ،‬وأن اهلل تعالى تجلى للجبل فجعله دكا‪ ،‬فأعلم‬
‫بذلك موسى أنه ال يراه في الدنيا‪.‬‬
‫وندين بأن ال نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يستحله‪ ،‬كالزنا والسرقة وشرب‬
‫الخمر‪ ،‬كما دانت بذلك الخوارج‪ ،‬وزعمت أنهم كافرون‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبهها مستحال لها‪ ،‬غير‬
‫معتقد لتحريمها كان كافرا‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن اإلسالم أوسع من اإليمان‪ ،‬وليس كل إسالم إيمانا‪.‬‬
‫وندين اهلل عز وجل بأنه يقلب القلوب بين أصبعين من أصابعه‪ ،‬وأنه سبحانه يضع السماوات‬
‫على أصبع‪ ،‬واألرضين على‬
‫( ‪)1/26‬‬

‫أصبع‪ ،‬كما جاءت الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من غير تكييف‪.‬‬
‫وندين بأن ال ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين باإليمان جنة وال نارا‪ ،‬إال من شهد له‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالجنة‪ ،‬ونرجو الجنة للمذنبين‪ ،‬ونخاف عليهم أن يكونوا‬
‫بالنار معذبين‪ ،‬أجارنا اهلل منها بشفاعة سيدنا وحبيبنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن اهلل عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض‪ ،‬وأن الميزان حق‪ ،‬والصراط حق‪ ،‬والبعث بعد الموت حق‪،‬‬
‫وأن اهلل عز وجل يوقف العباد في الموقف‪ ،‬ويحاسب المؤمنين‪.‬‬
‫وأن اإليمان قول وعمل‪ ،‬يزيد وينقص‪ ،‬ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل‪ ،‬حتى تنتهي إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/27‬‬

‫وندين بحب السلف الذين اختارهم اهلل تعالى لصحبة نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ونثني عليهم‬
‫بما أثنى اهلل به عليهم‪ ،‬ونتوالهم أجمعين‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن اإلمام الفاضل بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبو بكر الصديق رضى اهلل عنه‪،‬‬
‫وأن اهلل سبحانه وتعالى أعز به الدين‪ ،‬وأظهره على المرتدين‪ ،‬وقدمه المسلمون باإلمامة‪ ،‬كما‬
‫قدمه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للصالة‪ ،‬وسموه بأجمعهم خليفة رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ثم عمر بن الخطاب رضى اهلل عنه‪ ،‬ثم عثمان بن عفان رضى اهلل عنه‪ ،‬وأن الذين‬
‫قتلوه قتلوه ظلما وعدوانا‪ ،‬ثم علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫فهؤالء األئمة بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وخالفتهم خالفة النبوة‬

‫( ‪)1/28‬‬
‫ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بها‪ ،‬ونتولى سائر‬
‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ونكف عما شجر بينهم‪.‬‬
‫وندين بأن األئمة األربعة خلفاء راشدون‪ ،‬مهديون فضالء‪ ،‬ال يوازنهم في الفضل غيرهم‪.‬‬
‫ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل عن النزول إلى سماء الدنيا‪ ،‬وأن الرب عز‬
‫وجل يقول‪( :‬هل من سائل‪ ،‬هل من مستغفر) ‪ ،‬وسائر ما نقلوه وأثبتوه خالفا لما قاله أهل‬
‫الزيغ والتضليل‪.‬‬
‫ونعِّو ل فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا عز وجل‪ ،‬وسنة نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإجماع‬
‫المسلمين‪ ،‬وما كان في معناه‪ ،‬وال نبتدع في دين اهلل‬

‫( ‪)1/29‬‬

‫ما لم يأذن لنا‪ ،‬وال نقول على اهلل ماال نعلم‪.‬‬


‫ونقول‪ :‬إن اهلل عز وجل يجيء يوم القيامة‪ ،‬كما قال سبحانه‪( :‬وجاء ربك والملك صفا صفا)‬
‫(‪. )89/ 22‬‬
‫وأن اهلل مقرب من عباده كيف شاء بال كيف‪ ،‬كما قال تعالى‪( :‬ونحن أقرب إليه من حبل‬
‫الوريد) من اآلية (‪ ، )50/ 16‬وكما قال سبحانه‪( :‬ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)‬
‫(‪. )53 / 9 - 8‬‬
‫ومن ديننا أن نصلي الجمعة واألعياد‪ ،‬وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وفاجر‪ ،‬كما‬
‫روى أن عبد اهلل بن عمر رضى اهلل عنهم كان يصلي خلف الحجاج‪.‬‬

‫( ‪)1/30‬‬

‫وأن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر‪ ،‬خالفا لقول من أنكر ذلك‪.‬‬
‫ونرى الدعاء ألئمة المسلمين بالصالح واإلقرار بإمامتهم‪ ،‬وتضليل من رأى الخروج عليهم‬
‫إذا ظهر منهم ترك االستقامة‪.‬‬
‫وندين بإنكار الخروج بالسيف‪ ،‬وترك القتال في الفتنة‪ ،‬ونقر بخروج الدجال ‪-‬أعاذنا اهلل من‬
‫فتنته ‪ -‬كما جاءت به الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ونؤمن بعذاب القبر‪ ،‬ومنكر ونكير عليهما الصالة والسالم‪ ،‬ومساءلتهما المدفونين في‬
‫القبور‪.‬‬
‫ونصدق بحديث المعراج‪ ،‬وتصحيح كثير من الرؤيا في المنام‪ ،‬ونقر أن لذلك تفسيرا‪.‬‬
‫ونرى الصدقة على موتى المسلمين‪ ،‬والدعاء لهم‪ ،‬ونؤمن بأن اهلل ينفعهم بذلك‪.‬‬
‫ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرا‪ ،‬وأن السحر كائن موجود في الدنيا‪.‬‬

‫( ‪)1/31‬‬

‫وندين بالصالة على من مات من أهل القبلة‪ ،‬برهم وفاجرهم‪ ،‬وتوارثهم‪.‬‬


‫ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان‪ ،‬وأن من مات وقتل فبأجله مات وقتل‪.‬‬
‫وأن األرزاق من قبل اهلل سبحانه‪ ،‬يرزقها عباده حالال وحراما‪ ،‬وأن الشيطان يوسوس‬
‫اإلنسان‪ ،‬ويشككه ويخبطه‪ ،‬خالفا للمعتزلة والجهمية‪ ،‬كما قال تعالى‪( :‬الذين يأكلون الربا ال‬
‫يقومون إال كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) من اآلية (‪ ، )2/ 275‬وكما قال‪:‬‬
‫(من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) (‪/ 6 - 4‬‬
‫‪. )114‬‬

‫( ‪)1/32‬‬

‫ونقول‪ :‬إن الصالحين يجوز أن يخصهم اهلل تعالى بآيات يظهرها عليهم‪.‬‬
‫وقولنا في أطفال المشركين أن اهلل تعالى يؤجج لهم في اآلخرة نارا‪ ،‬ثم يقول لهم اقتحموها‪،‬‬
‫كما جاءت بذلك الرواية‪.‬‬
‫وندين اهلل عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون‪ ،‬وإلى ما هم صائرون‪ ،‬وما كان وما يكون‪ ،‬وما‬
‫ال يكون أن لو كان كيف كان يكون‪ ،‬وبطاعة األئمة ونصيحة المسلمين‪.‬‬
‫ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة‪ ،‬ومجانبة أهل األهواء‪.‬‬
‫وسنحتج لما ذكرناه من قولنا‪ ،‬وما بقى منه مما لم نذكره بابا بابا‪ ،‬وشيئا شيئا إن شاء اهلل عز‬
‫وجل‪.‬‬

‫( ‪)1/34‬‬

‫الباب األول الكالم في إثبات رؤية اهلل سبحانه باألبصار في اآلخرة‬


‫قال اهلل تعالى‪( :‬وجوه يومئذ ناضرة) (‪ )75/ 22‬يعني مشرقة‪( ،‬إلى ربها ناظرة) (‪)75/ 23‬‬
‫يعني رائية‪ ،‬وليس يخلو النظر من وجوه نحن ذاكروها‪:‬‬
‫إما أن يكون اهلل سبحانه عنى نظر االعتبار‪ ،‬كقوله تعالى‪( :‬أفال ينظرون إلى اإلبل كيف‬
‫خلقت) (‪. )88/ 17‬‬
‫أو يكون عنى نظر االنتظار‪ ،‬كقوله تعالى‪( :‬ما ينظرون إال صيحة واحدة) من اآلية (‪)36/ 49‬‬
‫أو يكون عنى نظر التعطف‪ ،‬كقوله تعالى‬

‫( ‪)1/35‬‬

‫‪( :‬وال ينظر إليهم يوم القيامة) من اآلية (‪. )3/ 77‬‬
‫أو يكون عنى نظر الرؤية‪.‬‬
‫فال يجوز أن يكون اهلل عز وجل عنى نظر التفكير واالعتبار؛ ألن اآلخرة ليست بدار اعتبار‪.‬‬
‫وال يجوز أن يكون عنى نظر االنتظار؛ ألن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه نظر العينين‬
‫اللتين في الوجه‪ ،‬كما إذا ذكر أهل اللسان نظر القلب فقالوا‪ " :‬انظر في هذا األمر بقلبك "‪،‬‬
‫لم يكن معناه نظر العينين‪ ،‬وكذلك إذا ذكر النظر مع الوجه لم يكن معناه نظر االنتظار؛ الذي‬
‫يكون للقلب‪ ،‬وأيضا فإن نظر االنتظار ال يكون في الجنة؛ ألن االنتظار معه تنغيص وتكدير‪،‬‬
‫وأهل الجنة في ما ال عين رأت وال أذن سمعت من العيش السليم والنعيم المقيم‪.‬‬
‫وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن يكونوا منتظرين؛ ألنهم كلما خطر ببالهم شيء أتوا به مع‬
‫خطوره ببالهم‪،‬‬

‫( ‪)1/36‬‬

‫وإذا كان ذلك كذلك فال يجوز أن يكون اهلل عز وجل أراد نظر التعطف؛ ألن الخلق ال‬
‫يجوز أن يتعطفوا على خالقهم‪.‬‬
‫وإذا فسدت األقسام الثالثة صح القسم الرابع من أقسام النظر‪ ،‬وهو أن معنى قوله‪( :‬إلى ربها‬
‫ناظرة) أنها رائية ترى ربها عز وجل‪.‬‬
‫ومما يبطل قول المعتزلة‪ :‬أن اهلل عز وجل أراد بقوله‪( :‬إلى ربها ناظرة) نظر االنتظار‪ ،‬أنه قال‪:‬‬
‫(إلى ربها ناظرة) ونظر االنتظار ال يكون مقرونا بقوله‪( :‬إلى) ؛ ألنه ال يجوز عند العرب أن‬
‫يقولوا في نظر االنتظار " إلى "‪ ،‬أال ترى أن اهلل تعالى لما قال‪( :‬ما ينظرون إال صيحة واحدة)‬
‫من اآلية (‪ )36/ 49‬لم يقل " إلى "؛ إذ كان معناه االنتظار‪.‬‬
‫وقال عز وجل مخبرا عن بلقيس‪:‬‬

‫( ‪)1/37‬‬

‫(فناظرة بم يرجع المرسلون) من اآلية (‪ ، )27/ 35‬فلما أرادت االنتظار لم تقل " إلى "‪.‬‬
‫وقال امرؤ القيس‪:‬‬
‫فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب‬
‫فلما أراد االنتظار لم يقل " إلى "‪ ،‬فلما قال سبحانه‬

‫( ‪)1/38‬‬

‫‪( :‬إلى ربها ناظرة) (‪ )75/ 23‬علمنا أنه لم يرد االنتظار‪ ،‬وإنما أراد نظر الرؤية‪.‬‬
‫ولما قرن اهلل عز وجل النظر بذكر الوجه؛ أراد نظر العينين اللتين في الوجه‪ ،‬كما قال‪( :‬قد‬
‫نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) (‪ ، )2/ 144‬فذكر الوجه‪ ،‬وإنما أراد‬
‫تقلب عينيه نحو السماء ينظر نزول الملك عليه‪ ،‬يصرف اهلل تعالى له عن قبلة بيت المقدس‬
‫إلى القبلة‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬لم قلتم‪ :‬إن قوله تعالى‪( :‬إلى ربها ناظرة) إنما أراد إلى ثواب ربها ناظرة؟‬

‫( ‪)1/39‬‬

‫قيل له‪ :‬ثواب اهلل غيره‪ ،‬واهلل سبحانه وتعالى قال‪( :‬إلى ربها ناظرة) (‪ )75/ 23‬ولم يقل‪ :‬إلى‬
‫غيره ناظرة‪.‬‬
‫والقرآن العزيز على ظاهره‪ ،‬وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إال بحجة‪ ،‬وإال فهو على ظاهره‪.‬‬
‫أال ترى أن اهلل عز وجل لما قال‪ :‬صلوا لي واعبدوني‪ ،‬لم يجز أن يقول قائل‪ :‬إنه أراد غيره‪،‬‬
‫ويزيل الكالم عن ظاهره؛ فلذلك لما قال‪( :‬إلى ربها ناظرة) لم يجز لنا أن نزيل القرآن عن‬
‫ظاهره بغير حجة‪.‬‬
‫ثم يقال للمعتزلة‪ :‬إن جاز لكم أن تزعموا أن قول اهلل تعالى‪( :‬إلى ربها ناظرة) إنما أراد به‬
‫أنها إلى غيره ناظرة‪ ،‬فلم ال جاز لغيركم أن يقول‪ :‬إن قول اهلل سبحانه وتعالى‬
‫( ‪)1/40‬‬

‫‪( :‬ال تدركه األبصار) (‪ )6/ 103‬أراد بها ال تدرك غيره‪ ،‬ولم يرد أنها ال تدركه؟ وهذا مما‬
‫ال يقدرون على الفرق فيه‪.‬‬
‫ودليل آخر‪ :‬ومما يدل على أن اهلل تعالى يرى باألبصار قول موسى صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫(رب أرني أنظر إليك) من اآلية (‪ )7/ 143‬وال يجوز أن يكون موسى صلوات اهلل عليه‬
‫وسالمه ‪ -‬وقد ألبسه اهلل جلباب النبيين‪ ،‬وعصمه بما عصم به المرسلين ‪ -‬قد سأل ربه ما‬
‫يستحيل عليه‪ ،‬فإذا لم يجز ذلك على موسى صلى اهلل عليه وسلم علمنا أنه لم يسأل ربه‬
‫مستحيال‪ ،‬وأن الرؤية جائزة على ربنا تعالى‪.‬‬
‫ولو كانت الرؤية مستحيلة على ربنا تعالى كما زعمت المعتزلة‪ ،‬ولم يعلم ذلك موسى صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وعلموه هم لكانوا على‬

‫( ‪)1/41‬‬

‫قولهم أعلم باهلل من موسى صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهذا مما ال يدعيه مسلم‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬ألستم تعلمون حكم اهلل في الظهار اليوم‪ ،‬ولم يكن نبي اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يعلم ذلك قبل أن ينزل؟‬
‫قيل له‪ :‬لم يكن يعلم نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذلك قبل أن يلزم اهلل العباد حكم الظهار‪،‬‬
‫فلما ألزمهم الحكم به أعلم نبيه صلى اهلل عليه وسلم قبلهم‪ ،‬ثم أعلم نبي اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم عباد اهلل ذلك‪ ،‬ولم يأت عليه وقت لزمه حكمه فلم يعلم صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأنتم‬
‫زعمتم أن موسى صلى اهلل عليه وسلم وقت لزمه علمه وعلمتموه أنتم اآلن لزمكم بجهلكم‬

‫( ‪)1/42‬‬

‫أنكم بما لزمكم العلم به اآلن أعلم من موسى صلى اهلل عليه وسلم بما لزمه العلم به‪ ،‬وهذا‬
‫خروج عن دين المسلمين‪.‬‬
‫ودليل آخر‪ :‬مما يدل على جواز رؤية اهلل تعالى باألبصار قوله تعالى لموسى صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪( :‬فإن استقر مكانه فسوف تراني) من اآلية (‪)7/ 143‬‬
‫فلما كان اهلل تعالى قادرا على أن يجعل الجبل مستقرا؛ كان قادرا على األمر الذي لو فعله‬
‫لرآه موسى صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فدل ذلك على أن اهلل تعالى قادر أن ُيري عباده نفسه‪ ،‬وأنه‬
‫جائز رؤيته‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬فِلم ال قلتم إن قول اهلل تعالى‪( :‬فإن استقر مكانه فسوف تراني) من اآلية (‬
‫‪ )7/ 143‬تبعيد للرؤية؟‬

‫( ‪)1/43‬‬

‫قيل له‪ :‬لو أراد اهلل عز وجل تبعيد الرؤية لقرن الكالم بما يستحيل وقوعه‪ ،‬ولم يقرنه بما‬
‫يجوز وقوعه‪ ،‬فلما قرنه باستقرار الجبل وذلك أمر مقدور هلل سبحانه وتعالى دل ذلك على‬
‫أنه جائز أن يرى اهلل تعالى‪.‬‬
‫أال ترى أن الخنساء لما أرادت تبعيد صلحها لمن كان حربا ألخيها قرنت الكالم بأمر‬
‫مستحيل فقالت‪:‬‬

‫( ‪)1/44‬‬

‫وال أصالح قوما كنت حربهم حتى تعود بياضا حلكة القارى‬
‫واهلل تعالى إنما خاطب العرب بلغتها‪ ،‬وما نجده مفهوما في كالمها ومعقوال في خطابها‪.‬‬
‫فلما قرن الرؤية بأمر مقدور جائز علمنا أن رؤية اهلل باألبصار جائزة غير مستحيلة‪.‬‬
‫دليل آخر‪ :‬قال اهلل عز وجل‪( :‬للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) (‪ ، )10/ 16‬قال أهل‬
‫التأويل‪ :‬النظر إلى اهلل عز وجل‪ ،‬ولم ُينعم اهلل تعالى على أهل الجنة بأفضل من نظرهم إليه‬
‫ورؤيتهم له‪.‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬ولدينا مزيد) من اآلية (‪ )50/ 35‬قيل‪ :‬النظر إلى اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬تحيتهم يوم يلقونه سالم) من اآلية (‪، )33/ 44‬‬

‫( ‪)1/45‬‬
‫وإذا لقيه المؤمنون رأوه‪.‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) (‪ )83/ 15‬فحجبهم عن رؤيته‪ ،‬وال‬
‫يحجب عنها المؤمنين‪.‬‬

‫( ‪)1/46‬‬

‫فصل‬
‫فإن قال قائل‪ :‬فما معنى قوله تعالى‪( :‬ال تدركه األبصار) من اآلية (‪ )6/ 103‬؟‬
‫قيل له‪ :‬يحتمل أن يكون ال تدركه في الدنيا‪ ،‬وتدركه في اآلخرة؛ ألن رؤية اهلل تعالى أفضل‬
‫اللذات‪ ،‬وأفضل اللذات تكون في أفضل الدارين‪.‬‬
‫ويحتمل أن يكون اهلل تعالى أراد بقوله‪( :‬ال تدركه األبصار) من اآلية (‪ )6/ 103‬يعني‪ :‬ال‬
‫تدركه أبصار الكافرين المكذبين‪ ،‬وذلك أن كتاب اهلل يصدق بعضه بعضا‪ ،‬فلما قال في آية‪:‬‬
‫إن الوجوه تنظر إليه يوم القيامة‪ ،‬وقال في آية أخرى‪ :‬إن األبصار ال تدركه‪ ،‬علمنا أنه إنما‬
‫أراد أبصار الكافرين ال تدركه‪.‬‬

‫( ‪)1/47‬‬

‫مسألة والجواب عنها‪:‬‬


‫فإن قال قائل‪ :‬قد استكبر اهلل تعالى سؤال السائلين له أن ُيرى باألبصار‪ ،‬فقال‪( :‬يسألك أهل‬
‫الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء‪ ،‬فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا‪ :‬أرنا اهلل‬
‫جهرة) من اآلية (‪)4/ 153‬‬
‫فيقال لهم‪ :‬إن بني إسرائيل سألوا رؤية اهلل عز وجل على طريق اإلنكار لنبوة موسى صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وترك اإليمان به حتى يروا اهلل؛ ألنهم قالوا‪( :‬لن نؤمن لك حتى نرى اهلل جهرة)‬
‫فلما سألوه الرؤية على طريق ترك اإليمان بموسى صلى اهلل عليه وسلم حتى يريهم اهلل نفسه؛‬
‫استعظم اهلل سؤالهم من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليهم‪ ،‬كما استعظم سؤال أهل‬
‫الكتاب أن ينزل عليهم كتابا من السماء من غير أن يكون ذلك مستحيال‪ ،‬ولكن ألنهم أبوا‬
‫أن يؤمنوا بنبي اهلل حتى ينزل عليهم من السماء كتابا‪.‬‬
‫دليل آخر‬
‫( ‪)1/48‬‬

‫‪:‬‬
‫ومما يدل على إثبات رؤية اهلل تعالى باألبصار رواية الجماعات من الجهات المختلفة عن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪( :‬ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر‪ ،‬ال تضارون‬
‫في رؤيته) والرؤية إذا أطلقت إطالقا ومثلت برؤية العيان لم يكن معناها إال رؤية العيان‪،‬‬
‫ورويت الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من طرق مختلفة عديدة‪ ،‬عدة رواتها أكثر‬
‫من عدة خبر الرجم‪ ،‬ومن عدة من روى أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪( :‬ال وصية‬
‫لوارث) ‪ ،‬ومن عدة رواة المسح على الخفين‪ ،‬ومن عدة رواة قول رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪( :‬ال تنكح المرأة على عمتها وال خالتها) ‪ ،‬وإذا كان الرجم وما ذكرناه سننا عند‬
‫المعتزلة كانت الرؤية‬

‫( ‪)1/49‬‬

‫أولى أن تكون سنة؛ لكثرة رواتها ونقلتها‪ ،‬كذا يرويها خلف عن سلف‪.‬‬
‫والحديث (أَّنى أراه) ال حجة فيه؛ ألنه عندما سأل سائل النبي صلى اهلل عليه وسلم عن رؤية‬
‫اهلل عز وجل في الدنيا‪ ،‬وقال له‪ :‬هل رأيت ربك؟‬
‫فقال‪( :‬نوٌر أنى أراه) ؟ ألن العين ال تدرك في الدنيا األنوار المخلوقة على حقائقها؛ ألن‬
‫اإلنسان لو حدق ينظر إلى عين الشمس فأدام النظر إلى عينها لذهب أكثر نور بصره‪ ،‬فإذا‬
‫كان اهلل سبحانه حكم في الدنيا بأن ال تقوم العين بالنظر إلى عين الشمس فأحرى أن ال يثبت‬
‫البصر للنظر إلى اهلل تعالى في الدنيا‪ ،‬إال أن يقويه اهلل تعالى‪ ،‬فرؤية اهلل تعالى في الدنيا قد‬
‫اختلف فيها‪.‬‬

‫( ‪)1/50‬‬

‫وقد روي عن أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن اهلل عز وجل تراه العيون في‬
‫اآلخرة‪ ،‬وما روى عن أحد منهم أن اهلل تعالى ال تراه العيون في اآلخرة‪ ،‬فلما كانوا على هذا‬
‫مجتمعين‪ ،‬وبه قائلين‪ ،‬وإن كانوا في رؤيته تعالى في الدنيا مختلفين‪ ،‬ثبتت في اآلخرة‬
‫إجماعا‪ ،‬وإن كانت في الدنيا مختلفا فيها‪.‬‬
‫ونحن إنما قصدنا إلى إثبات رؤية اهلل تعالى في اآلخرة‪ ،‬على أن هذه الرواية على المعتزلة ال‬
‫لهم؛ ألنهم ينكرون أن اهلل نور في الحقيقة‪.‬‬
‫فإذا احتجوا بخبر هم له تاركون وعنه منحرفون‪ ،‬كانوا محجوجين‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫ومما يدل على رؤية اهلل تعالى باألبصار؛ أنه ليس موجود إال وجائز أن بريناه اهلل عز وجل‪،‬‬
‫وإنما ال يجوز أن يرى المعدوم‪ ،‬فلما‬

‫( ‪)1/51‬‬

‫كان اهلل عز وجل موجودا مثبتا‪ ،‬كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل‪ ،‬وإنما أراد من‬
‫نفى رؤية اهلل عز وجل باألبصار التعطيل‪ ،‬فلما لم يمكنهم أن يظهروا التعطيل صراحا أظهروا‬
‫ما يؤول بهم إلى التعطيل والجحود‪ ،‬تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫ومما يدل على رؤية اهلل سبحانه باألبصار أن اهلل تعالى يرى األشياء‪ ،‬وإذا كان لألشياء رائيا‬
‫فال يرى األشياء من ال يرى نفسه‪ ،‬وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه‪ ،‬وذلك أن من‬
‫لم يعلم نفسه ال يعلم األشياء‪ ،‬فلما كان اهلل تعالى عالما باألشياء كان عالما بنفسه‪ ،‬فكذلك‬
‫من ال يرى نفسه ال يرى األشياء‪ ،‬ولما كان اهلل عز وجل رائيا لألشياء كان رائيا لنفسه‪ ،‬وإذا‬
‫كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه‪ ،‬كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها‪ ،‬وقد قال‬
‫تعالى‪( :‬إنني معكما أسمع وأرى) من اآلية (‪ ، )20/ 46‬فأخبر أنه يسمع كال منهما ويراهما‪،‬‬
‫ومن زعم أن اهلل عز وجل ال يجوز أن ُيرى باألبصار يلزمه أن ال يجوز أن يكون اهلل عز وجل‬
‫رائيا وال عالما وال قادرا؛ ألن العالم والقادر الرائي جائز أن ُيرى‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬ترون ربكم) يعني تعلمون ربكم اضطرارا‪.‬‬
‫قيل له‪ :‬إن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ألصحابه هذا على سبيل البشارة‪ ،‬فقال‪( :‬فكيف‬
‫بكم إذا رأيتم اهلل سبحانه) ‪ ،‬وال يجوز أن يبشرهم بأمر يشركهم فيه مع الكفار‪ ،‬على أن النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قال‬

‫( ‪)1/53‬‬
‫‪( :‬ترون ربكم) وليس يعني رؤية دون رؤية‪ ،‬بل ذلك عام في رؤية العين ورؤية القلب‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫إن المسلمين اتفقوا على أن الجنة فيها ماال عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب‬
‫بشر من العيش السليم‪ ،‬والنعيم المقيم‪ ،‬وليس نعيم في الجنة أفضل من رؤية اهلل تعالى‬
‫باألبصار‪.‬‬
‫وأكثر َمن َعَبَد اَهلل تعالى َعَبَد ه للنظر إلى وجهه الكريم ‪ -‬أرانا اهلل إياه بفضله ‪ -‬فإذا لم يكن‬
‫بعد رؤية اهلل عز وجل أفضل من رؤية نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكانت رؤية نبي اهلل أفضل‬
‫لذات الجنة كانت رؤية اهلل عز وجل أفضل من رؤية نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وإذا كان ذلك كذلك لم يحرم اهلل أنبياءه المرسلين‪ ،‬ومالئكته‬

‫( ‪)1/54‬‬

‫المقربين‪ ،‬وجماعة المؤمنين‪ ،‬والصديقين النظر إلى وجهه الكريم‪ ،‬وذلك أن الرؤية ال تؤثر‬
‫في المرئي؛ ألن رؤية الرائي تقوم به‪ ،‬فإذا كان هذا هكذا‪ ،‬وكانت الرؤية غير مؤثرة في‬
‫المرئي لم توجب تشبيها وال انقالبا عن حقيقة‪ ،‬ولم يستحل على اهلل عز وجل أن َيري عباده‬
‫المؤمنين نفسه في جنانه‪.‬‬

‫مسألة في الرؤية‪:‬‬
‫احتجت المعتزلة في أن اهلل عز وجل ال ُيرى باألبصار بقوله تعالى‪( :‬ال تدركه األبصار وهو‬
‫يدرك األبصار) من اآلية (‪ ، )6/ 103‬قالوا‪ :‬فلما عطف اهلل عز وجل بقوله‪( :‬وهو يدرك‬
‫األبصار) على قوله (ال تدركه األبصار) ‪ ،‬وكان قوله‪( :‬وهو يدرك األبصار) على العموم أنه‬
‫يدركها في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وأنه يراها في الدنيا واآلخرة‪ ،‬كان قوله‬

‫( ‪)1/55‬‬

‫‪( :‬ال تدركه األبصار) دليال على أنه ال تراه األبصار في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وكان في العموم‬
‫كقوله‪( :‬وهو يدرك األبصار) ؛ ألن أحد الكالمين معطوف على اآلخر‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فيجب إذا كان عموم القولين واحدا‪ ،‬وكانت األبصار أبصار العيون وأبصار‬
‫القلوب؛ ألن اهلل تعالى قال‪( :‬فإنها ال تعمى األبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (‬
‫‪ ، )22/ 46‬وقال‪( :‬أولي األيدي واألبصار) (‪ )38/ 45‬أي فهي باألبصار‪ ،‬فأراد أبصار‬
‫القلوب وهي التي يفضل بها المؤمنون الكافرين‪ ،‬ويقول أهل اللغة‪ :‬فالن بصير بصناعته‪،‬‬
‫يريدون بصر العلم‪ ،‬ويقولون‪ :‬قد أبصرته بقلبي‪ ،‬كما يقولون قد أبصرته بعيني‪ ،‬فإذا كان‬
‫البصر بصر العين‬

‫( ‪)1/56‬‬

‫وبصر القلب ثم أوجبوا علينا أن يكون قوله تعالى‪( :‬ال تدركه األبصار) في العموم كقوله‪:‬‬
‫(وهو يدرك األبصار) ؛ ألن أحد الكالمين معطوف على اآلخر‪ ،‬وجب عليهم بحجتهم أن اهلل‬
‫تعالى ال ُيدرك بأبصار العيون وال بأبصار القلوب؛ ألن قوله‪( :‬ال تدركه األبصار) في العموم‬
‫كقوله‪( :‬وهو يدرك األبصار) وإذا لم يكن عندهم هكذا فقد وجب أن يكون قوله تعالى‪( :‬ال‬
‫تدركه األبصار) أخص من قوله‪( :‬وهو يدرك األبصار) وانتقض احتجاجهم‪.‬‬
‫وقيل لهم‪ :‬إنكم زعمتم أنه لو كان قوله‪( :‬ال تدركه األبصار) خاصا في وقت دون وقت‬
‫لكان قوله‪( :‬وهو يدرك األبصار) خاصا في وقت دون وقت‬

‫( ‪)1/57‬‬

‫‪ ،‬وكان قوله‪( :‬ليس كمثله شيء) من اآلية (‪ ، )42/ 11‬وقوله‪( :‬ال تأخذه ِس َنة وال نوم) من‬
‫اآلية (‪ ، )2/ 255‬وقوله‪( :‬ال يظلم الناس شيئا) من اآلية (‪ )10/ 44‬في وقت دون وقت‪،‬‬
‫فإن جعلتم قوله تعالى‪( :‬ال تدركه األبصار) من اآلية (‪ )6/ 103‬خاصا رجع احتجاجكم‬
‫عليكم‪ ،‬وقيل لكم‪ :‬إذا كان قوله‪( :‬ال تدركه األبصار) خاصا ولم يجب خصوص هذه اآليات‬
‫فلم أنكرتم أن يكون قوله عز وجل‪( :‬ال تدركه األبصار) إنما أراد في الدنيا دون اآلخرة؟‬
‫وكما أن قوله‪( :‬ال تدركه األبصار) أراد بعض األبصار دون بعض‪ ،‬وال يوجب ذلك تخصيص‬
‫هذه اآليات التي عارضتمونا بها‪.‬‬

‫( ‪)1/58‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬قوله تعالى‪( :‬ال تدركه األبصار) يوجب أن ال يدرك بها في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وليس‬
‫ينفي ذلك أن نراه بقلوبنا‪ ،‬ونبصره بها‪ ،‬وال ندركه بها‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فما أنكرتم أن يكون ال تدركه بإبصار العيون ال يوجب إذا لم ندركه بها أن ال نراه‪،‬‬
‫فرؤيتنا له بالعيون وإبصارنا له بها ليس بإدراك له بها‪ ،‬كما أن إبصارنا له بالقلوب ورؤيتنا له‬
‫بها ليس بإدراك له بها‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬رؤية البصر هي إدراك البصر‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬ما الفرق بينكم وبين من قال‪ :‬إن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته‪ ،‬فإذا‬
‫كان علم القلب باهلل عز وجل وإبصار القلب له رؤيته إياه ليس بإحاطة وال إدراك فما أنكرتم‬
‫أن يكون رؤية العيون وإبصارها هلل عز وجل ليس بإحاطة وال إدراك‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا كان قول اهلل سبحانه‪( :‬ال تدركه األبصار) في العموم‬

‫( ‪)1/59‬‬

‫كقوله‪( :‬وهو يدرك األبصار) ؛ ألن أحد الكالمين معطوف على اآلخر‪ ،‬فخبرونا أليس‬
‫األبصار والعيون ال تدركه رؤية وال لمسا وال ذوقا وال على وجه من الوجوه؟‬
‫فمن قولهم‪ :‬نعم‪ ،‬فيقال لهم‪ :‬أخبرونا عن قوله تعالى‪( :‬وهو يدرك األبصار)‬
‫أتزعمون أنه يدركها لمسا وذوقا بأن يلمسها؟ فمن قولهم‪ :‬ال‪.‬‬
‫فيقال لهم‪ :‬فقد انتقض قولكم‪ :‬إن قوله‪( :‬وهو يدرك األبصار) في العموم كقوله‪( :‬ال تدركه‬
‫األبصار) ‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫إذا قال قائل منهم‪ :‬إن البصر في الحقيقة هو بصر العين ال بصر القلب‪ .‬قيل له‪:‬‬

‫( ‪)1/60‬‬

‫وِلم زعمت هذا وقد سمى أهل اللغة بصر القلب بصرا‪ ،‬كما سموا بصر العين بصرا‪ ،‬وإن‬
‫جاز لك ما قلته جاز لغيركم أن يزعم أن البصر في الحقيقة هو بصر القلب دون العين‪ ،‬وإذا‬
‫لم نجز هذا فقد وجب أن البصر بصر العين وبصر القلب‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬حدثونا عن قول اهلل عز وجل‪( :‬وهو يدرك األبصار) ما معناه؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬معنى (يدرك األبصار) أنه يعلمها‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وإذا كان أحد الكالمين معطوفا على اآلخر‪ ،‬وكان قوله تعالى‪( :‬وهو يدرك‬
‫األبصار) معناه يعلمها‪ ،‬فقد وجب أن يكون قوله تعالى‪( :‬ال تدركه األبصار) ال تعلمه‪ ،‬وهذا‬
‫نفي للعلم ال لرؤية األبصار‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬معنى قوله تعالى‪( :‬وهو يدرك األبصار) أنه يراها رؤية ليس معناها العلم‪ .‬قيل لهم‬

‫( ‪)1/61‬‬

‫‪ :‬فاألبصار التي في العيون يجوز أن ترى؟‬


‫فإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬نقضوا قولهم‪ :‬إنا ال نرى بالبصر إال من جنس ما نرى الساعة‪ ،‬فإن جاز أن‬
‫يرى اهلل وكل ما ليس من جنس المرئيات وهو اإلبصار الذي في العين‪ ،‬فِلم ال يجوز أن يرى‬
‫نفسه وإن لم يكن من جنس المرئيات؟ وِلم ال يجوز أن يرينا نفسه وإن لم يكن من جنس‬
‫المرئيات؟‬
‫ويقال لهم‪ :‬حدثونا إذا رأينا شيئا فبصرنا يراه أو إنما يراه الرائي دون البصر؟‬
‫فمن قولهم‪ :‬إنه محال أن يرى البصر الذي في العين‪.‬‬
‫فيقال لهم‪ :‬اآلية تنفي أن تراه األبصار‪ ،‬وال تنفي أن يراه المبصرون‪.‬‬
‫وإنما قال اهلل‪( :‬ال تدركه األبصار) فهذا يدل على أن المبصرين ال يرونه على ظاهر اآلية‬
‫الشريفة‪.‬‬

‫( ‪)1/62‬‬

‫الباب الثاني الكالم في أن القرآن كالم اهلل تعالى غير مخلوق‬


‫إن سأل سائل عن الدليل على أن القرآن كالم اهلل غير مخلوق‪.‬‬
‫قيل له الدليل على ذلك قوله تعالى‪( :‬ومن آياته أن تقوم السماء واألرض بأمره) من اآلية (‬
‫‪ )30/ 25‬وأمر اهلل كالمه‪ ،‬فلما أمرهما بالقيام فقامتا ال يهويان؟ كان قيامهما بأمره‪.‬‬
‫وقال عز وجل‪( :‬أال له الخلق واألمر) من اآلية (‪ ، )7/ 54‬فالخلق جميع ما خلق داخل فيه؛‬
‫ألن الكالم إذا كان لفظه عاما فحقيقته أنه عام‪ ،‬وال يجوز لنا أن نزيل الكالم عن حقيقته بغير‬
‫حجة وال برهان‪ ،‬فلما قال‬

‫( ‪)1/63‬‬

‫‪( :‬أال له الخلق) كان هذا في جميع الخلق‪ ،‬ولما قال‪( :‬واألمر) ذكر أمرا غير جميع الخلق‪،‬‬
‫فدل ما وصفنا على أن أمر اهلل غير مخلوق‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى في كتابه‪( :‬من كان عدوا هلل ومالئكته ورسله وجبريل)‬
‫من اآلية (‪. )2/ 98‬‬
‫قيل له‪ :‬نحن نخص القرآن باإلجماع وبالدليل‪ ،‬فلما ذكر اهلل عز وجل نفسه ومالئكته ولم‬
‫يدخل في ذكر المالئكة جبريل وميكائيل وإن كانا من المالئكة‪ ،‬ثم ذكرهما بعد ذلك كأنه‬
‫قال‪ :‬المالئكة إال جبريل وميكائيل‪ ،‬ثم ذكرهم بعد ذكر المالئكة فقال‪ :‬وجبريل وميكائيل‪.‬‬
‫ولما قال‪( :‬أال له الخلق واألمر) من اآلية (‪ ، )7/ 54‬ولم يخص قوله الخلق دليل‪ ،‬كان قوله‬
‫أال له الخلق في جميع‬

‫( ‪)1/64‬‬

‫الخلق‪ ،‬ثم قال بعد ذكره الخلق " واألمر " فأبان األمر من الخلق‪ ،‬وأمُر اهلل كالمه‪ ،‬وهذا‬
‫يوجب أن كالم اهلل غير مخلوق‪.‬‬
‫وقال سبحانه‪( :‬هلل األمر من قبل ومن بعد) من اآلية (‪ )30/ 4‬يعني من قبل أن يخلق الخلق‬
‫ومن بعد ذلك‪ ،‬وهذا يوجب أن األمر غير مخلوق‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫ومما يدل من كتاب اهلل على أن كالمه غير مخلوق؛ قوله سبحانه‪( :‬إنما قولنا لشيء إذا‬
‫أردناه أن نقول له كن فيكون) (‪ )16/ 40‬فلو كان القرآن مخلوقا لوجب أن يكون مقوال‬
‫له‪( :‬كن فيكون) ‪.‬‬
‫ولو كان اهلل عز وجل قائال للقول‪ " :‬كن " لكان للقول قوال‪ ،‬وهذا يوجب أحد أمرين‪:‬‬
‫إما أن يؤول األمر إلى أن قوله تعالى غير مخلوق‪.‬‬
‫أو يكون كل قول واقع بقول ال إلى غاية‪ ،‬وذلك محال‪ ،‬وإذا استحال ذلك صح وثبت أن هلل‬
‫عز وجل قوال غير مخلوق‪.‬‬

‫( ‪)1/65‬‬

‫سؤال‪:‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬معنى قول اهلل‪( :‬أن يقول له كن فيكون) إنما يكون فيكون‪.‬‬
‫قيل‪ :‬الظاهر أن يقول له‪ ،‬وال يجوز أن يكون قول اهلل لألشياء كلها كوني هو األشياء؛ ألن‬
‫هذا يوجب أن تكون األشياء كلها كالما هلل عز وجل‪ ،‬ومن قال ذلك أعظم الفرية؛ ألنه يلزمه‬
‫أن يكون كل شيء في العالم من إنسان وفرس وحمار وغير ذلك كالم اهلل‪ ،‬وفي هذا ما فيه‪.‬‬
‫فلما استحال ذلك؛ صح أن قول اهلل لألشياء كوني غيرها‪ ،‬وإذا كان غير المخلوقات فقد‬
‫خرج كالم اهلل عز وجل عن أن يكون مخلوقا‪ ،‬ويلزم من يثبت كالم اهلل مخلوقا أن يثبت اهلل‬
‫غير متكلم وال قائل‪ ،‬وذلك فاسد‪ ،‬كما يفسد أن يكون علم اهلل مخلوقا‪ ،‬وأن يكون اهلل غير‬
‫عالم‪.‬‬
‫فلما كان اهلل عز وجل لم يزل عالما؛ إذ لم يجز أن يكون لم يزل بخالف العلم موصوفا‪،‬‬
‫استحال أن يكون لم يزل بخالف الكالم موصوفا؛ ألن خالف الكالم الذي ال يكون معه‬
‫كالم سكوت أو آفة‪ ،‬كما أن خالف العلم الذي ال يكون معه علم جهل أو شك أو آفة‪،‬‬
‫ويستحيل أن يوصف ربنا‬

‫( ‪)1/66‬‬

‫جل وعال بخالف العلم‪.‬‬


‫وكذلك يستحيل أن يوصف بخالف الكالم من السكوت واآلفات‪ ،‬فوجب لذلك أن يكون‬
‫لم يزل متكلما‪ ،‬كما وجب أن يكون لم يزل عالما‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫وقال اهلل تعالى‪( :‬قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي)‬
‫من اآلية (‪ ، )18/ 109‬فلو كانت البحار مدادا للكتبة لنفدت البحار وتكسرت األقالم ولم‬
‫يلحق الفناء كلمات ربي‪ ،‬كما ال يلحق الفناء علم اهلل تعالى‪ ،‬ومن فني كالمه لحقته اآلفات‬
‫وجرى عليه السكوت‪ ،‬فلما لم يجز ذلك على ربنا سبحانه صح أنه لم يزل متكلما؛ ألنه لو‬
‫لم يكن متكلما وجب السكوت واآلفات‪ ،‬تعالى ربنا عن قول الجهمية علوا كبيرا‪.‬‬

‫( ‪)1/67‬‬

‫فصل‬
‫وزعمت الجهمية ‪ -‬كما زعمت النصارى ‪ -‬أن كلمة اهلل تعالى حواها بطن مريم رضي اهلل‬
‫عنها‪ ،‬وزادت الجهمية عليهم فزعمت أن كالم اهلل مخلوق حل في شجرة‪ ،‬وكانت الشجرة‬
‫حاوية له؛ فلزمهم أن تكون الشجرة بذلك الكالم متكلمة‪ ،‬ووجب عليهم أن مخلوقا من‬
‫المخلوقين كلم موسى صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأن الشجرة قالت‪ :‬يا موسى إنني أنا اهلل ال إله‬
‫إال أنا فاعبدني‪.‬‬
‫فلو كان كالم اهلل مخلوقا في شجرة لكان المخلوق قال‪ :‬يا موسى إنني أنا اهلل ال إله إال أنا‬
‫فاعبدني‪ ،‬وقد قال تعالى‪( :‬ولكن حق القول مني ألمألّن جهنم من الجنة والناس‬

‫( ‪)1/68‬‬

‫أجمعين) (‪ )32/ 13‬وكالم اهلل من اهلل تعالى‪ ،‬فال يجوز أن يكون كالمه الذي هو منه‬
‫مخلوقا في شجرة مخلوقة‪ ،‬كما ال يجوز أن يكون علمه الذي هو منه مخلوقا في غيره‪،‬‬
‫تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬كما ال يجوز أن يخلق اهلل إرادته في بعض المخلوقات‪ ،‬كذلك ال يجوز أن يخلق‬
‫كالمه في بعض المخلوقات‪ ،‬ولو كانت إرادة اهلل مخلوقة في بعض المخلوقات لكان ذلك‬
‫المخلوق هو المريد بها‪ ،‬وذلك يستحيل‪ ،‬وكذلك يستحيل أن يخلق اهلل كالمه في مخلوق؛‬
‫ألن هذا يوجب أن ذلك المخلوق متكلم به‪ ،‬ويستحيل أن يكون كالم اهلل كالما للمخلوق‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫ومما يبطل قولهم إن اهلل قال مخبرا عن المشركين أنهم قالوا‪( :‬إن هذا إال قول البشر) (‬
‫‪ )74/ 25‬يعني القرآن‬
‫( ‪)1/69‬‬

‫فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد جعله قوال للبشر‪ ،‬وهذا ما أنكره اهلل على المشركين‪.‬‬
‫وأيضا فلو لم يكن اهلل متكلما حتى خلق الخلق ثم تكلم بعد ذلك لكانت األشياء قد كانت‬
‫ال عن أمره وال عن قوله‪ ،‬ولم يكن قائال لها كوني‪.‬‬
‫وهذا رد للقرآن‪ ،‬والخروج عما عليه جمهور أهل اإلسالم‪.‬‬

‫( ‪)1/70‬‬

‫فصل‬
‫واعلموا ‪ -‬رحمكم اهلل ‪ -‬أن قول الجهمية‪ " :‬إن كالم اهلل مخلوق "‪ ،‬يلزمهم به أن يكون‬
‫اهلل تعالى لم يزل كاألصنام التي ال تنطق وال تتكلم‪ ،‬لو كان لم يزل غير متكلم؛ ألن اهلل تعالى‬
‫يخبر عن إبراهيم عليه الصالة والسالم أنه قال لقومه لما قالوا له‪( :‬أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا‬
‫إبراهيم) من اآلية (‪( )21/ 62‬قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) (‪/ 63‬‬
‫‪ ، ) 21‬فاحتج عليهم بأن األصنام إذا لم تكن ناطقة متكلمة لم تكن آلهة‪ ،‬وأن اإلله ال يكون‬
‫غير ناطق وال متكلم‪ ،‬فلما كانت األصنام التي ال يستحيل أن يحييها اهلل وينطقها ال تكون‬
‫آلهة فكيف يجوز أن يكون من يستحيل عليه الكالم في قدمه إلها؟ تعالى اهلل عن ذلك علوا‬
‫كبيرا‪.‬‬

‫( ‪)1/71‬‬

‫وإذا لم يجز أن يكون اهلل سبحانه وتعالى في قدمه بمرتبة دون مرتبة األصنام التي ال تنطق؛‬
‫فقد وجب أن يكون اهلل لم يزل متكلما‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫وقد قال اهلل تعالى مخبرا عن نفسه أنه يقول‪( :‬لمن الملك اليوم) من اآلية (‪)40/ 16‬‬
‫وجاءت الرواية أنه يقول هذا القول وال يرد عليه أحد شيئا‪ ،‬فيقول‪( :‬هلل الواحد القهار) من‬
‫اآلية (‪ ، )40/ 16‬فإذا كان اهلل قائال مع فناء األشياء؛ إذ ال إنسان وال ملك وال حي وال‬
‫جان وال شجر وال مدر‪ ،‬فقد صح أن كالم اهلل خارج عن الخلق؛ ألنه يوجد وال شيء من‬
‫المخلوقات موجود‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫وقد قال اهلل تعالى‪( :‬وكلم اهلل موسى تكليما) (‪ ، )40/ 164‬والتكليم هو المشافهة بالكالم‪،‬‬
‫وال يجوز أن يكون كالم المتكلم حاال في غيره‪ ،‬مخلوقا في شيء سواه‪ ،‬كما ال يجوز ذلك‬
‫في العلم‪.‬‬

‫( ‪)1/72‬‬

‫دليل آخر‪:‬‬
‫وقال اهلل تعالى‪( :‬قل هو اهلل أحد اهلل الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) سورة‬
‫اإلخالص ورقمها (‪ ، )112‬فكيف يكون القرآن مخلوقا وأسماء اهلل في القرآن؟ هذا يوجب‬
‫أن تكون أسماء اهلل مخلوقة‪ ،‬ولو كانت أسماؤه مخلوقة لكانت وحدانيته مخلوقة‪ ،‬وكذلك‬
‫علمه وقدرته‪ .‬تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫وقد قال اهلل تعالى‪( :‬تبارك اسم ربك) من اآلية (‪ )55/ 78‬وال يقال لمخلوق " تبارك " فدل‬
‫هذا على أن أسماء اهلل غير مخلوقة‪ ،‬وقال‪( :‬ويبقى وجه ربك) من اآلية (‪)55/ 27‬‬

‫( ‪)1/73‬‬

‫فكما ال يجوز أن يكون وجه ربنا مخلوقا‪ ،‬فكذلك ال يجوز أن تكون أسماؤه مخلوقة‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫وقد قال اهلل تعالى‪( :‬شهد اهلل أنه ال إله إال هو والمالئكة وأولوا العلم قائما بالقسط) من اآلية‬
‫(‪ )3/ 18‬وال بد أن يكون شهد بهذه الشهادة‪ ،‬وسمعها من نفسه؛ ألنه إن كان سمعها من‬
‫مخلوق فليست شهادة له‪ ،‬وإذا كانت شهادة له وقد شهد بها فال يخلو أن يكون شهد بها‬
‫قبل كون المخلوقات؛ أو بعد كون المخلوقات‪.‬‬
‫فإن كان شهد بها بعد كون المخلوقات؛ فلم يسبق شهادته لنفسه بآلهية الخلق‪ ،‬وكيف‬
‫يكون ذلك كذلك؟ وهذا يوجب أن التوحيد لم يكن يشهد به شاهد قبل الخلق‪ ،‬ولو‬
‫استحالت الشهادة بالوحدانية قبل كون الخلق الستحال إثبات التوحيد ووجوده‪ ،‬وأن يكون‬
‫واحدا قبل الخلق؛ ألن ما يستحيل الشهادة عليه فمستحيل‪.‬‬
‫وإن كانت شهادته لنفسه قبل الخلق بالتوحيد فقد بطل أن يكون كالم اهلل تعالى مخلوقا؛ ألن‬
‫كالم اهلل شهادته‪.‬‬

‫( ‪)1/74‬‬

‫دليل آخر‪:‬‬
‫ومما يدل عليه بطالن قول الجهمية‪ ،‬وأن القرآن كالم اهلل غير مخلوق‪ :‬أن أسماء اهلل من‬
‫القرآن‪ ،‬وقد قال اهلل سبحانه‪( :‬سبح اسم ربك األعلى الذي خلق فسوى) (‪)87/ 2 - 1‬‬
‫وال يجوز أن يكون (اسم ربك األعلى الذي خلق فسوى) مخلوقا‪ ،‬كما ال يجوز أن يكون‬
‫(جد ربنا) من اآلية (‪ )72/ 3‬مخلوقا‪ ،‬قال اهلل تعالى في سورة الجن‪( :‬وإنه تعالى جد ربنا)‬
‫من اآلية (‪ ، ) 72/ 3‬وكما ال يجوز أن تكون عظمته مخلوقة كذلك ال يجوز أن يكون كالمه‬
‫مخلوقا‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫وقد قال اهلل تعالى‪( :‬وما كان لبشر أن يكلمه اهلل إال وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل‬
‫رسوال فيوحي بإذنه ما يشاء) من اآلية (‪ )42/ 51‬فلو كان كالم اهلل ال يوجد إال مخلوقا في‬
‫شيء مخلوق؛ لم يكن الشتراط هذه الوجوه معنى؛ ألن الكالم قد سمعه جميع الخلق‬
‫ووجدوه ‪ -‬بزعم الجهمّية ‪ -‬مخلوقا في غير اهلل‬

‫( ‪)1/75‬‬

‫تعالى‪ ،‬وهذا يوجب إسقاط مرتبة النبيين صلوات اهلل عليهم أجمعين‪.‬‬
‫ويجب عليهم إذا زعموا أن كالم اهلل لموسى خلقه في شجرة؛ أن يكون من سمع كالم اهلل‬
‫عز وجل من ملك أو من نبي أتى به من عند اهلل أفضل مرتبة من سماع الكالم من موسى؛‬
‫ألنهم سمعوه من نبي ولم يسمعه موسى من اهلل عز وجل‪ ،‬وإنما سمعه من شجرة‪ ،‬وأن‬
‫يزعموا أن اليهودي إذا سمع كالم اهلل من النبي عليه الصالة والسالم أفضل مرتبة في هذا‬
‫المعنى من موسى صلى اهلل عليه وسلم؛ ألن اليهودي سمعه من نبي من أنبياء اهلل‪ ،‬وموسى‬
‫سمعه مخلوقا في شجرة‪ ،‬ولو كان مخلوقا في شجرة لم يكن مكلما لموسى من وراء‬
‫حجاب؛ ألن من حضر الشجرة من الجن واإلنس قد سمعوا الكالم من ذلك المكان‪ ،‬وكان‬
‫سبيل موسى وغيره في ذلك سواء في أنه ليس كالم اهلل له من وراء حجاب‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ثم يقال لهم‪ :‬إذا زعمتم أن معنى أن اهلل عز وجل كلم موسى أنه خلق‬

‫( ‪)1/76‬‬

‫كالما كلمه به في الشجرة وقد خلق اهلل عندكم في الذراع كالما؛ ألن الذراع قالت لرسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال تأكلني فإني مسمومة‪ ،‬فيلزمكم أن ذلك الكالم الذي سمعه النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم كالم اهلل تعالى‪ ،‬فإن استحال أن يكون اهلل تكلم بذلك الكالم المخلوق‬
‫فما أنكرتم من أنه يستحيل أن يخلق اهلل عز وجل كالمه في شجرة؛ ألن الكالم المخلوق ال‬
‫يكون كالما هلل‪ ،‬فإن كان كالم اهلل وكان معنى أن اهلل تكلم عندكم أنه خلق الكالم؛ فيلزمكم‬
‫أن يكون اهلل متكلما بالكالم الذي خلقه في الذراع‪ ،‬فإن أجابوا إلى ذلك؛ قيل لهم‪ :‬فاهلل‬
‫تعالى على قولكم هو القائل ال تأكلني فإني مسمومة‪ .‬تعالى اهلل عن قولكم وافترائكم عليه‬
‫علوا كبيرا‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬ال يجوز أن يكون كالم اهلل مخلوقا في ذراع‬

‫( ‪)1/77‬‬

‫قيل لهم‪ :‬وكذلك ال يجوز أن يكون كالم اهلل مخلوقا في شجرة‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ثم يسألون عن الكالم الذي أنطق اهلل تعالى به الذئب لما أخبر عن نبوة النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫فيقال لهم‪ :‬إذا كان اهلل عز وجل يتكلم بكالم خلقه في غيره‪ ،‬فما أنكرتم أن يكون الكالم‬
‫الذي سمعه من الذئب كالما هلل‪ ،‬ويكون إعجازه يدل على أنه كالم اهلل‪ ،‬وفي هذا ما يجب‬
‫عليهم أن الذئب لم يتكلم به‪ ،‬وأنه كالم اهلل تعالى؛ ألن كون الكالم من الذئب معجز‪ ،‬كما‬
‫أن كونه من الشجرة معجز‪ ،‬فإن كان الذئب متكلما بذلك الكالم المنقول فما أنكرتم أن‬
‫الشجرة متكلمة بالكالم إن كان خلق في الشجرة‪ ،‬وأن يكون المخلوق فيه قال‪( :‬يا موسى‬
‫إني أنا اهلل) ‪ .‬تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ثم يقال لهم‪ :‬إذا كان كالم اهلل عز وجل مخلوقا في غيره عندكم‬

‫( ‪)1/78‬‬

‫فما يؤمنكم أن يكون كل كالم تسمعونه مخلوقا في شيء‪ ،‬وهو حق أن يكون كالما هلل‬
‫سبحانه؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال تكون الشجرة متكلمة؛ ألن المتكلم ال يكون إال حيا‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وال يجوز خلق الكالم في شجرة؛ ألن من خلق الكالم فيه ال يكون إال حيا‪ ،‬فإن‬
‫جاز أن يخلق الكالم فيما ليس بحي فِلَم ال يجوز أن يتكلم من ليس بحي‪ .‬ويقال لهم‪ِ :‬لَم ال‬
‫قلتم إنه يقول من ليس بحي‪ ،‬ألن اهلل عز وجل أخبر أن السماوات واألرض‪( :‬قالتا أتينا‬
‫طائعين) من اآلية (‪. )41/ 11‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ثم يقال لهم‪ :‬أليس قد قال اهلل عز وجل إلبليس‪( :‬وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) (‪/ 78‬‬
‫‪ )38‬؟ فال بد من نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فإذا كان كالم اهلل مخلوقا وكانت المخلوقات فانيات؛ فيلزمكم إذا أفنى اهلل عز‬
‫وجل األشياء أن تكون اللعنة على إبليس‬

‫( ‪)1/79‬‬

‫قد فنيت‪ ،‬فيكون إبليس غير ملعون‪ ،‬وهذا ترك دين المسلمين‪ ،‬وُر َّد لقوله تعالى‪( :‬وإن عليك‬
‫لعنتي إلى يوم الدين) (‪ ، )38/ 78‬وإذا كانت اللعنة باقية على إبليس إلى يوم الدين؛ وهو‬
‫يوم الجزاء‪ ،‬وهو يوم القيامة؛ ألن اهلل تعالى قال (مالك يوم الدين) (‪ )1/ 4‬يعني يوم الجزاء‪،‬‬
‫ثم هي أبدا في النار واللعنة كالم اهلل وهو قوله (عليك لعنتي) فقد وجب أن يكون اهلل عز‬
‫وجل ال يجوز عليه الفناء‪ ،‬وأنه غير مخلوق؛ ألن المخلوقات يجوز عليها العدم‪ ،‬فإذا لم يجز‬
‫ذلك على كالم اهلل عز وجل فهو غير مخلوق‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ثم يقال لهم‪ :‬إذا كان غضب اهلل غير مخلوق‪ ،‬وكذلك رضاه وسخطه‪ ،‬فِلم ال قلتم إن كالمه‬
‫غير مخلوق؟ ومن زعم أن غضب اهلل‬

‫( ‪)1/80‬‬

‫مخلوق لزمه أن غضب اهلل وسخطه على الكافرين يفنى‪ ،‬وأن رضاه عن المالئكة والنبيين‬
‫يفنى‪ ،‬حتى ال يكون راضيا عن أوليائه وال ساخطا عن أعدائه‪ ،‬وهذا هو الخروج عن اإلسالم‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال‪ :‬خبرونا عن قول اهلل تعالى‪( :‬إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (‬
‫‪)16/ 40‬‬
‫أتزعمون أن قوله للشيء " كن " مخلوق مرادا هلل؟ فإن قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قيل لهم‪ :‬فما أنكرتم أن‬
‫يكون كالم اهلل الذي هو القرآن غير مخلوق‪ ،‬كما زعمتم أن قول اهلل للشيء " كن " غير‬
‫مخلوق‪.‬‬
‫وإن زعموا أن قول اهلل للشيء " كن " مخلوق‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فإذا زعمتم أنه مخلوق مراد فقد قال اهلل عز وجل‬

‫( ‪)1/81‬‬

‫‪( :‬إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (‪ )16/ 40‬؛ فيلزمكم أن قوله تعالى‬
‫للشيء (كن) قد قال له‪( :‬كن) ‪.‬‬
‫وفي هذا ما يجب أحد أمرين‪:‬‬
‫إما أن يكون قول اهلل لغيره كن غير مخلوق‪ ،‬أو يكون لكل قول ال إلى غاية وذلك محال‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬إن هلل قوال غير مخلوق‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فما أنكرتم أن تكون إرادة اهلل لإليمان غير مخلوقة‪.‬‬
‫ثم يقال لهم ما العلة التي إنما قلتم إن قول اهلل للشيء (كن) غير مخلوق‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬ألن القول ال يقال له (كن) فيقال لهم القرآن غير مخلوق؛ ألنه قول اهلل‪ ،‬واهلل ال‬
‫يقول لقوله (كن) ‪.‬‬
‫مسألة على الجهمية‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس لم يزل اهلل عالما بأوليائه وأعدائه‬

‫( ‪)1/82‬‬

‫؟‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فهل تقولون إنه لم يزل مريدا للتفرقة بين أوليائه وأعدائه؟‬
‫فإن قالوا نعم‪ ،‬قيل لهم‪ :‬فإذا كانت إرادة اهلل لم تزل فهي غير مخلوقة‪ ،‬وإذا كانت إرادته‬
‫غير مخلوقة فِلم ال قلتم إن كالمه غير مخلوق؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال نقول لم يزل مريدا للتفرقة بين أوليائه وأعدائه‪ ،‬زعموا أن اهلل ال يريد التفرقة‬
‫بين أوليائه وأعدائه‪ ،‬ونسبوه سبحانه إلى النقص‪ .‬تعالى عن قول القدرية علوا كبيرا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إن الشيء المخلوق إما أن يكون بدنا من األبدان‪ ،‬شخصا من األشخاص؛ أو‬
‫يكون نعتا من نعوت األشخاص‪.‬‬
‫فال يجوز أن يكون كالم اهلل شخصا؛ ألن األشخاص يجوز عليها األكل والشرب والنكاح‪،‬‬
‫وال يجوز ذلك على كالم اهلل تعالى‪.‬‬
‫وال يجوز أن يكون كالم اهلل نعتا لشخص مخلوق؛ ألن النعوت ال تبقى طرفة عين؛ ألنها ال‬
‫تحتمل البقاء‪ ،‬وهذا يوجب أن يكون كالم اهلل قد فني ومضى‪.‬‬

‫( ‪)1/83‬‬

‫فلما لم يجز أن يكون شخصا وال نعتا لشخص لم يجز أن يكون مخلوقا‪ ،‬على أن األشخاص‬
‫يجوز أن تموت‪.‬‬
‫فمن يثبت كالم اهلل شخصا مخلوقا لزمه أن يجوز الموت على كالم اهلل عز وجل‪ ،‬وذلك ما‬
‫ال يجوز‪.‬‬
‫وأيضا فال يجوز أن يكون كالم اهلل مخلوقا في شخص مخلوق‪ ،‬كما ال يجوز أن يكون نعتا‬
‫لشخص مخلوق‪ ،‬ولو كان مخلوقا في شخص‪ ،‬وكالم اإلنسان مفعوال فيه‪ ،‬كما ال يمكن‬
‫التفريق بين كالم اهلل وكالم الخلق إذا كانا مخلوقين في شخص مخلوق‪ ،‬كما ال يجوز أن‬
‫يكون علمه مخلوقا في شخص مخلوق‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم أيضا‪ :‬لو كان كالم اهلل مخلوقا لكان جسما أو نعتا لجسم‪ ،‬ولو كان جسما لجاز‬
‫أن يكون متكلما‪ ،‬واهلل قادر على قلبهما‪ ،‬وفي هذا ما يلزمهم‪ ،‬ويجب عليهم أن يجوزوا أن‬
‫يقلب اهلل القرآن إنسانا أو جنيا‬

‫( ‪)1/84‬‬

‫أو شيطانا‪ .‬تعالى اهلل عز وجل أن يكون كالمه كذلك‪.‬‬


‫ولو كان نعتا لجسم كالنعوت؛ فاهلل قادر على أن يجعلها أجساما‪ ،‬لكان يجد على الجهمية‬
‫أن يجوزوا أن يجعل اهلل القرآن جسما متجسدا‪ ،‬يأكل ويشرب‪ ،‬وأن يجعله إنسانا ويميته‪،‬‬
‫وهذا ما ال يجوز على كالم اهلل‪ ،‬تعالى عن ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/86‬‬

‫الباب الثالث في ذكر الرواية في القرآن‬


‫قال أبو بكر‪ :‬أتيت أنا والعباس بن عبد العظيم العنبري أبا عبد اهلل أحمد بن حنبل‪ ،‬فسأل‬
‫العباُس أبا عبد اهلل ‪ -‬رحمه اهلل‪ ،‬ورضي عنه ‪ -‬فقال له‪ :‬قوم ههنا قد حدثوا يقولون‪ :‬القرآن‬
‫ال مخلوق وال غير مخلوق‪.‬‬
‫فقال‪ :‬هؤالء أضر من الجهمية على الناس‪ ،‬ويلكم فإن لم تقولوا ليس بمخلوق فقولوا‬
‫مخلوق‪.‬‬
‫قال أبو عبد اهلل‪ :‬هؤالء قوم سوء‪.‬‬
‫فقال العباس‪ :‬ما تقول يا أبا عبد اهلل؟‬
‫فقال‪ :‬الذي أعتقد وأذهب إليه وال أشك فيه أن القرآن غير مخلوق‪.‬‬

‫( ‪)1/87‬‬
‫ثم قال‪ :‬سبحان اهلل ومن يشك في هذا؟ !‬
‫ثم تكلم أبو عبد اهلل مستعظما للشك في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬سبحان اهلل أفي هذا شك؟ ! قال اهلل‬
‫تبارك وتعالى‪( :‬أال له الخلق واألمر) من اآلية (‪ )7/ 54‬وقال‪( :‬الرحمن علم القرآن خلق‬
‫اإلنسان) (‪ )55/ 3 - 1‬فَفَّر ق بين اإلنسان وبين القرآن‪ ،‬فقال‪ " :‬عَّلَم " " خَلَق " فجعل‬
‫يعيدها " عَّلم " " خَلَق " أي َفْر ٌق بينهما‪.‬‬
‫قال أبو عبد اهلل‪ :‬والقرآن علم اهلل‪ ،‬أال تراه يقول‪( :‬علم القرآن) والقرآن فيه أسماء اهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬أي شيء يقولون؟ أال يقولون‪ :‬إن أسماء اهلل غير مخلوقة‪ ،‬لم يزل اهلل قديرا عليما‬
‫عزيزا حكيما سميعا بصيرا‪ ،‬لسنا نشك أن أسماء اهلل عز وجل غير مخلوقة‪ ،‬لسنا نشك أن‬
‫علم اهلل عز وجل غير مخلوق‪ ،‬فالقرآن من علم اهلل وفيه أسماء اهلل‪ ،‬فال نشك أنه غير‬
‫مخلوق‪ ،‬وهو كالم اهلل عز وجل‪ ،‬ولم يزل به متكلما‪ ،‬ثم‬

‫( ‪)1/88‬‬

‫قال‪ :‬وأي كفر من هذا؟ وأي كفر أشر من هذا؟‬


‫إذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء اهلل مخلوقة‪ ،‬وأن علم اهلل مخلوق‪ ،‬ولكن‬
‫الناس يتهاونون بهذا ويقولون‪ ،‬إنما يقولون القرآن مخلوق ويتهاونون به ويظنون أنه هين‪،‬‬
‫وال يدرون ما فيه وهو الكفر‪ ،‬وأنا أكره أن أبوح بهذا لكل أحد‪ ،‬وهم يسألون وأنا أكره‬
‫الكالم في هذا‪ ،‬فبلغني أنهم يدعون أني أمسك‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬فمن قال القرآن مخلوق وال يقول إن أسماء اهلل مخلوقة وال علمه لم يزد على‬
‫هذا‪ ،‬أقول‪ :‬هو كافر؟‬
‫فقال‪ :‬هكذا هو عندنا‪.‬‬
‫ثم قال أبو عبد اهلل‪ :‬نحن نحتاج أن نشك في هذا القرآن عندنا فيه أسماء اهلل وهو من علم‬
‫اهلل‪ ،‬فمن قال‪ :‬إنه مخلوق فهو عندنا كافر‪.‬‬
‫فجعلت أردد عليه‪ ،‬فقال لي العباس ‪ -‬وهو يسمع ‪ -‬سبحان اهلل أما يكفيك دون هذا‪.‬‬
‫فقال أبو عبد اهلل‪ :‬بلى‪.‬‬
‫وذكر الحسين بن عبد األول‪ ،‬قال‪ :‬سمعت وكيعا يقول‪ :‬من قال‪ :‬القرآن مخلوق فهو مرتد‬
‫يستتاب‪ ،‬فإن تاب وإال قتل‪.‬‬

‫( ‪)1/89‬‬
‫وذكر محمد بن الصباح البزار‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا علي بن الحسين بن شعبان‪ ،‬قال‪ :‬سمعت ابن‬
‫المبارك يقول‪ :‬إنا نستطيع أن نحكي كالم اليهود والنصارى‪ ،‬وال نستطيع أن نحكي كالم‬
‫الجهمية‪.‬‬
‫قال محمد‪ :‬نقول‪ :‬نخاف أن نكفر وال نعلم‪.‬‬
‫وذكر هارون بن إسحاق الهمداني عن أبي نعيم‪ ،‬عن سليمان بن عيسى القاري‪ ،‬عن سفيان‬
‫الثوري رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال لي حماد بن أبي سليمان‪ :‬أبلغ أبا حنيفة المشرك أنى منه‬
‫بريء؟‬
‫قال سليمان‪ :‬ثم قال سفيان؛ ألنه كان يقول القرآن مخلوق‪ .‬وحاشى اإلمام األعظم أبو حنيفة‬
‫رضي اهلل عنه من هذا القول‪ ،‬بل هو زور وباطل‪ ،‬فإن أبا حنيفة من أفضل أهل السنة‪.‬‬
‫وذكر سفيان بن وكيع قال‪ :‬سمعت عمر بن حماد بن أبي سليمان قال‪ :‬أخبرني أبي قال‪:‬‬
‫الكالم الذي استتاب فيه ابن أبي ليلى أبا حنيفة هو قوله‪ :‬القرآن مخلوق‪ ،‬قال‪ :‬فتاب منه‬
‫وطاف به في الخلق‪ ،‬قال أبى‪ :‬فقلت له كيف صرت إلى هذا‪ ،‬قال‪ :‬خفت واهلل أن يقدم علَّي‬
‫فأعطيته التقية‪.‬‬

‫( ‪)1/90‬‬

‫وذكر هارون بن إسحاق قال‪ :‬سمعت إسماعيل بن أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد‬
‫الطنافسي إن حماد ‪ -‬يعني ابن أبي سليمان ‪ -‬بعث إلى أبي حنيفة‪ :‬أني بريء مما تقول‪ ،‬إال‬
‫أن تتوب‪ ،‬وكان عنده ابن أبي عقبة‪ ،‬قال‪ :‬فقال‪ :‬أخبرني جارك أن أبا حنيفة دعاه إلى ما‬
‫استتيب منه بعد ما استتيب‪.‬‬
‫وهذا كذب محض على أبي حنيفة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وذكر عن أبي يوسف قال‪ :‬ناظرت أبا حنيفة رضي اهلل عنه شهرين حتى رجع عن خلق‬
‫القرآن‪.‬‬
‫وقال سليمان بن حرب‪ :‬القرآن غير مخلوق‪ ،‬وأخذته من كتاب اهلل تعالى‪ ،‬قال اهلل تعالى‪( :‬ال‬
‫يكلمهم اهلل وال ينظر إليهم) من اآلية (‪ ، )3/ 77‬وكالم اهلل ونظره واحد‪ ،‬يعني غير مخلوق‪.‬‬
‫وذكر الحسين بن عبد األول‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا محمد بن الحسن ابن أبي يزيد الهمذاني عن عمرو‬
‫بن قيس‪ ،‬عن أبي قيس المديني‪ ،‬عن عطية‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬قال‬

‫( ‪)1/91‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬فضل كالم اهلل عز وجل على سائر الكالم كفضل اهلل على‬
‫خلقه) ‪ ،‬فهذا يثبت أن القرآن كالم اهلل عز وجل‪ ،‬وما كان كالما هلل عز وجل لم يكن خلقا‬
‫هلل‪ ،‬وقد بين اهلل أن القرآن كالمه بقوله عز وجل‪( :‬حتى يسمع كالم اهلل) من اآلية (‪، )9/ 6‬‬
‫ودل على ذلك في مواضع من كتابه العزيز‪ ،‬وقد قال اهلل تعالى مخبرا أن اهلل كلم موسى‬
‫تكليما‪.‬‬
‫وروى وكيع عن األعمش عن خيثمة‪ ،‬عن عدى بن حاتم‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪( :‬ما منكم من أحد إال سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)‬
‫ومما يدل أن اهلل عز وجل متكلم‪ ،‬وأن له كالما ما رواه‬

‫( ‪)1/92‬‬

‫عفان‪ ،‬قال‪ :‬ثنا حماد بن سلمة عن األشعب الحداني عن شهر ين حوشب قال‪( :‬فضل كالم‬
‫اهلل عز وجل على سائر الكالم كفضل اهلل على خلقه)‬
‫وروى يعلى بن المنهال السعدي‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي‪ ،‬قال‪ :‬ثنا الجراح بن‬
‫الضحاك الكندي‪ ،‬عن علقمة بن مرثل‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن السلمي‪ ،‬عن عثمان بن عفان‬
‫رضي اهلل عنه قال‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه) ‪،‬‬
‫وقال‪( :‬إن فضل القرآن على سائر الكالم كفضل اهلل على خلقه) ‪،‬‬

‫( ‪)1/93‬‬

‫وذلك أنه منه‪.‬‬


‫وروى سعيد بن داود‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا أبو سفيان‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن قتادة قوله تعالى‪( :‬ولو أن ما في‬
‫األرض من شجرة أقالم والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اهلل) اآلية‪ ،‬من‬
‫اآلية (‪. )31/ 27‬‬
‫وذكر هارون بن معروف قال‪ :‬حدثنا جرير‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن هالل بن أساف‪ ،‬عن فروة بن‬
‫نوفل وقال‪ :‬كنت جارا لخباب بن األرت‪ ،‬فقال لي‪ :‬يا هذا تقرب إلى اهلل عز وجل بما‬
‫استطعت فإنك لن تتقرب إلى اهلل بشيء أحب إليه من كالمه‪.‬‬
‫وروى عن ابن عباس رضي اهلل عنهما في قوله تعالى‪( :‬قرآنا عربيا غير ذي عوج) من اآلية (‬
‫‪، )39/ 28‬‬

‫( ‪)1/94‬‬

‫قال‪ :‬غير مخلوق‪.‬‬


‫وروى الليث بن يحيى‪ ،‬قال‪ :‬حدثني إبراهيم بن أبي األشعث‪ ،‬قال‪ :‬سمعت مؤمل ابن‬
‫إسماعيل يحدث عن الثوري‪ ،‬قال‪ :‬من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر‪.‬‬
‫وصحت الرواية عن جعفر بن محمد أن القرآن ال خالق وال مخلوق‪.‬‬
‫وروي ذلك عن عمه زيد بن علي‪ ،‬وعن جده علي بن الحسين رضي اهلل عنهم أجمعين‪.‬‬
‫ومن قال‪ :‬إن القرآن غير مخلوق‪ ،‬وإن من قال بخلقه كافر من العلماء‪ ،‬وحملة اآلثار‪ ،‬ونقلة‬
‫األخبار‪ ،‬وهم ال يحصون كثرة‪ ،‬ومنهم‪ :‬حماد‪ ،‬والثوري وعبد العزيز بن أبي سلمة‪ ،‬ومالك‬
‫بن أنس رضي اهلل عنه‪ ،‬والشافعي رضي اهلل عنه وأصحابه‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪،‬‬
‫ومالك رضي اهلل عنهم‪ ،‬والليث بن سعد رضي اهلل عنه‪ ،‬وسفيان بن عيينة‪ ،‬وهشام‪ ،‬وعيسى‬
‫بن يونس‪ ،‬وجعفر‬

‫( ‪)1/95‬‬

‫ابن غياث‪ ،‬وسعيد بن عامر‪ ،‬وعبد الرحمن بن مهدي‪ ،‬وأبو بكر بن عياش‪ ،‬ووكيع‪ ،‬وأبو‬
‫عاصم النبيل‪ ،‬ويعلى بن عبيد‪ ،‬ومحمد بن يوسف‪ ،‬وبشر ابن الفضل‪ ،‬وعبد اهلل بن داود‪،‬‬
‫وسالم بن أبي مطيع‪ ،‬وابن المبارك‪ ،‬وعلي بن عاصم‪ ،‬وأحمد بن يونس‪ ،‬وأبو نعيم‪ ،‬وقبيصة‬
‫بن عقبة‪ ،‬وسليمان بن داود‪ ،‬وأبو عبيد القاسم بن سالم‪ ،‬ويزيد بن هارون‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫ولو تتبعنا ذكر من يقول بذلك لطال الكالم‪ ،‬وفيما ذكرنا من ذلك مقنع‪ ،‬والحمد هلل رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫وقد احتججنا لصحة قولنا‪ :‬إن القرآن غير مخلوق من كتاب اهلل عز وجل‪ ،‬وما تضمنه من‬
‫البرهان‪ ،‬وأوضحه من البيان‪ ،‬ولم نجد أحدا ممن تحمل عنه اآلثار‪ ،‬وتنقل عنه األخبار‪ ،‬ويأتم‬
‫به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن‪ ،‬وإنما قال ذلك رعاع الناس‪ ،‬وجهال من‬
‫جهالهم‪ ،‬ال موقع لهم‪.‬‬
‫والحجاج الذي قدمناه في ذلك يأتي على كثير من قولهم‪ ،‬ودفع باطلهم‪ ،‬والحمد هلل على‬
‫قوة الحق حمدا كثيرا‪.‬‬

‫( ‪)1/96‬‬

‫الباب الرابع الكالم على من توقف في القرآن وقال ال أقول إنه مخلوق وال أنه غير مخلوق‬
‫جواب‪:‬‬
‫يقال لهم‪ِ :‬لم زعمتم ذلك وقلتموه؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬قلنا ذلك؛ ألن اهلل لم يقل في كتابه إنه مخلوق‪ ،‬وال قاله رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وال أجمع المسلمون عليه‪ ،‬ولم يقل في كتابه إنه غير مخلوق‪ ،‬وال قال ذلك رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وال أجمع عليه المسلمون‪ ،‬فتوقفنا لذلك‪ ،‬ولم نقل إنه مخلوق‪ ،‬وال‬
‫إنه غير مخلوق‪.‬‬

‫( ‪)1/97‬‬

‫يقال لهم‪ :‬فهل قال اهلل تعالى لكم في كتابه توقفوا فيه وال تقولوا إنه غير مخلوق‪ ،‬وقال لكم‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم توقفوا عن أن تقولوا إنه غير مخلوق‪ ،‬وهل أجمع المسلمون‬
‫على التوقف عن القول إنه غير مخلوق؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فقد بهتوا‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قيل لهم‪ :‬فال تقفوا عن أن تقولوا غير مخلوق بمثل الحجة التي بها ألزمتم‬
‫أنفسكم التوقف‪.‬‬
‫ثم يقال لهم‪ :‬ولم أبيتم أن يكون في كتاب اهلل ما يدل على أن القرآن غير مخلوق؟ فإن‬
‫قالوا‪ :‬لم نجده‪ ،‬قيل لهم‪ :‬ولم زعمتم أنكم إذا لم تجدوه في القرآن فليس بموجود‬

‫( ‪)1/98‬‬

‫فيه؟ ثم إنا نوجدهم ذلك‪ ،‬ونتلو عليهم اآليات التي احتججنا بها في كتابنا هذا‪ ،‬واستدللنا بها‬
‫على أن القرآن غير مخلوق‪ ،‬كقوله تعالى‪( :‬أال له الخلق واألمر) من اآلية (‪، )7/ 54‬‬
‫وكقوله‪( :‬إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) من اآلية (‪ ، )16/ 40‬وكقوله‪:‬‬
‫(قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) من اآلية (‬
‫‪ ، )18/ 109‬وسائر ما احتججنا في ذلك من آي القرآن‪.‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬يلزمكم أن تتوقفوا في كل ما اختلف الناس فيه‪ ،‬وال تقدموا في ذلك على قول‪،‬‬
‫فإن جاز لكم أن تقولوا ببعض تأويل المسلمين إذا دل على صحتها دليل فلم ال قلتم إن‬
‫القرآن غير مخلوق بالحجج التي ذكرناها في كتابنا هذا قبل هذا الموضع؟‬

‫( ‪)1/99‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬حدثونا‪ ،‬أتقولون‪ :‬إن كالم اهلل في اللوح المحفوظ‪.‬‬
‫قيل له‪ :‬كذلك نقول؛ ألن اهلل تعالى قال‪( :‬بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) (‪- 21‬‬
‫‪ ، )85/ 22‬فالقرآن في اللوح المحفوظ‪.‬‬
‫وهو في صدور الذين أوتوا العلم‪ ،‬قال اهلل تعالى‪( :‬بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا‬
‫العلم) من اآلية (‪. )29/ 49‬‬
‫وهو متلو باأللسنة‪ ،‬قال اهلل تبارك وتعالى‪( :‬ال تحرك به لسانك لتعجل به) (‪. )75/ 16‬‬
‫والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة‪ ،‬محفوظ في صدورنا في الحقيقة‪ ،‬متلو بألسنتنا‬
‫في الحقيقة‪ ،‬مسموع لنا في الحقيقة‪ ،‬كما قال تعالى‬

‫( ‪)1/100‬‬

‫‪( :‬فَأِج ْر ه حتى يسمع كالم اهلل) من اآلية (‪. )9/ 6‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬حدثونا عن اللفظ بالقرآن كيف تقولون فيه؟‬
‫قيل له‪ :‬القرآن يقرأ في الحقيقة‪ ،‬ويتلى‪ ،‬وال يجوز أن يقال يلفظ به؛ ألن القائل ال يجوز له‬
‫أن يقول إن كالم اهلل ملفوظ به؛ ألن العرب إذا قال قائلهم لفظت باللقمة من فمي فمعناه‬
‫رميت بها‪ ،‬وكالم اهلل تعالى ال يقال يلفظ به‪ ،‬وإنما يقال يقرأ‪ ،‬ويتلى‪ ،‬ويكتب‪ ،‬ويحفظ‪.‬‬
‫وإنما قال قوم لفظنا بالقرآن ليثبتوا أنه مخلوق‪ ،‬ويزينوا بدعتهم‪ ،‬وقولهم بخلقه‪ ،‬ويدلسوا‬
‫كفرهم على من لم يقف على معناهم‪ ،‬فلما وقفنا على معناهم أنكرنا قولهم‪ ،‬وكذا ال يجوز‬
‫أن يقال إن شيئا من القرآن مخلوق؛ ألن القرآن بكماله غير مخلوق‪.‬‬

‫( ‪)1/101‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫إن قال قائل‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إال استمعوه وهم‬
‫يلعبون) من اآلية (‪ )21/ 2‬؟‬
‫قيل له‪ :‬الذكر الذي عناه اهلل عز وجل ليس هو القرآن‪ ،‬بل هو كالم الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ووعظه إياهم‪.‬‬
‫وقد قال اهلل تعالى لنبيه‪( :‬وذِّك ر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) (‪ ، )51/ 55‬وقد قال اهلل‬
‫تعالى‪( :‬ذكرا رسوال) نهاية آية (‪ )10‬وبداية آية (‪ )65/ 11‬فسمى الرسول ذكرا‪ ،‬والرسول‬
‫محدث‪.‬‬
‫وأيضا فإن اهلل تعالى قال‬

‫( ‪)1/102‬‬

‫‪( :‬ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إال استمعوه وهم يلعبون) من اآلية (‪ )21/ 2‬يخبر أنه‬
‫ال يأتيهم ذكر محدث إال استمعوه وهم يلعبون‪ ،‬ولم يقل ال يأتيهم ذكر إال كان محدثا‪ ،‬وإذا‬
‫لم يقل هذا لم يوجب أن يكون القرآن محدثا‪.‬‬
‫ولو قال قائل‪ :‬ما يأتيهم رجل من التميميين يدعوهم إلى الحق إال أعرضوا عنه‪ ،‬لم يوجب‬
‫هذا القول أنه ال يأتيهم رجل إال كان تميميا‪ ،‬فكذلك الحكم فيما سألونا عنه‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫فإن سألونا عن قول اهلل تعالى‪( :‬قرآنا عربيا) من اآلية (‪. )12/ 2‬‬
‫قيل لهم‪ :‬اهلل عز وجل أنزل وليس بمخلوق‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬فقد قال اهلل تعالى‬

‫( ‪)1/103‬‬
‫‪( :‬وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) من اآلية (‪ )57/ 25‬والحديد مخلوق‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬الحديد جسم موات‪ ،‬وليس يجب إذا كان القرآن منزال أن يكون جسما مواتا‪،‬‬
‫فكذلك ال يجب إذا كان القرآن منزال أن يكون مخلوقا‪ ،‬وإن كان الحديد مخلوقا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬قد أمرنا اهلل تعالى أن نستعيذ به وهو غير مخلوق‪ ،‬وأمر أن نستعيذ بكلمات اهلل‬
‫التامات‪ ،‬وإذا لم نؤمر أن نستعيذ بمخلوق من المخلوقات‪ ،‬وأمرنا أن نستعيذ بكالم اهلل‪ ،‬فقد‬
‫وجب أن كالم اهلل غير مخلوق‪.‬‬

‫( ‪)1/104‬‬

‫الباب الخامس ذكر االستواء على العرش‬


‫إن قال قائل‪ :‬ما تقولون في االستواء؟‬
‫قيل له‪ :‬نقول‪ :‬إن اهلل عز وجل يستوي على عرشه استواء يليق به من غير طول استقرار‪ ،‬كما‬
‫قال‪( :‬الرحمن على العرش استوى) (‪ ، )20/ 5‬وقد قال تعالى‪( :‬إليه يصعد الكلم الطيب‬
‫والعمل الصالح يرفعه) من اآلية (‪ ، )35/ 10‬وقال تعالى‪( :‬بل رفعه اهلل إليه) من اآلية (‪158‬‬
‫‪، )4/‬‬

‫( ‪)1/105‬‬

‫وقال تعالى‪( :‬يدبر األمر من السماء إلى األرض ثم يعرج إليه) من اآلية (‪ ، )32/ 5‬وقال‬
‫تعالى حاكيا عن فرعون لعنه اهلل‪( :‬يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ األسباب أسباب‬
‫السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني ألظنه كاذبا) من اآليتين (‪ ، )40/ 37 - 36‬كذب‬
‫موسى عليه السالم في قوله‪ :‬إن اهلل سبحانه فوق السماوات‪.‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم األرض) من اآلية (‪)67/ 16‬‬
‫فالسماوات فوقها العرش‪ ،‬فلما كان العرش فوق السماوات قال‪( :‬أأمنتم من في السماء) من‬
‫اآلية (‪ ... )67/ 14‬ألنه مستو على العرش‬
‫( ‪)1/106‬‬

‫الذي فوق السماوات‪ ،‬وكل ما عال فهو سماء‪ ،‬والعرش أعلى السماوات‪ ،‬وليس إذا قال‪:‬‬
‫(أأمنتم من في السماء) من اآلية (‪ )67/ 16‬يعني جميع السماوات‪ ،‬وإنما أراد العرش الذي‬
‫هو أعلى السماوات‪ ،‬أال ترى اهلل تعالى ذكر السماوات‪ ،‬فقال تعالى‪( :‬وجعل القمر فيهن‬
‫نورا) من اآلية (‪ ، )7/ 16‬ولم يرد أن القمر يمألهن جميعا‪ ،‬وأنه فيهن جميعا‪ ،‬ورأينا‬
‫المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ ألن اهلل تعالى مستو على العرش الذي‬
‫هو فوق السماوات‪ ،‬فلوال أن اهلل عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش‪ ،‬كما ال‬
‫يحّطونها إذا دعوا إلى األرض ‪1‬‬

‫( ‪)1/107‬‬

‫فصل‬
‫وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية‪ :‬إن معنى قول اهلل تعالى‪( :‬الرحمن على‬
‫العرش استوى) (‪ )20/ 5‬أنه استولى وملك وقهر‪ ،‬وأن اهلل تعالى في كل مكان‪ ،‬وجحدوا أن‬
‫يكون اهلل عز وجل مستو على عرشه‪ ،‬كما قال أهل الحق‪ ،‬وذهبوا في االستواء إلى القدرة‪.‬‬
‫ولو كان هذا كما ذكروه كان ال فرق بين العرش واألرض السابعة؛ ألن اهلل تعالى قادر على‬
‫كل شيء واألرض هلل سبحانه‬

‫( ‪)1/108‬‬

‫قادر عليها‪ ،‬وعلى الحشوش‪ ،‬وعلى كل ما في العالم‪ ،‬فلو كان اهلل مستويا على العرش بمعنى‬
‫االستيالء‪ ،‬وهو تعالى مستو على األشياء كلها لكان مستويا على العرش‪ ،‬وعلى األرض‪،‬‬
‫وعلى السماء‪ ،‬وعلى الحشوش‪ ،‬واألقدار؛ ألنه قادر على األشياء مستول عليها‪ ،‬وإذا كان‬
‫قادرا على األشياء كلها لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن اهلل تعالى مستو على‬
‫الحشوش واألخلية‪ ،‬تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪ ،‬لم يجز أن يكون االستواء على العرش‬
‫االستيالء الذي هو عام في األشياء كلها‪ ،‬ووجب أن يكون معنى االستواء يختص بالعرش‬
‫دون األشياء كلها‪.‬‬
‫وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن اهلل تعالى في كل مكان‪ ،‬فلزمهم أنه في بطن مريم‬
‫وفي الحشوش واألخلية‪ ،‬وهذا خالف الدين‪ .‬تعالى اهلل عن قولهم علوا كبيرا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا لم يكن مستويا على العرش بمعنى يختص العرش‬

‫( ‪)1/109‬‬

‫دون غيره‪ ،‬كما قال ذلك أهل العلم‪ ،‬ونقله األخبار‪ ،‬وحملة اآلثار‪ ،‬وكان اهلل عز وجل في‬
‫كل مكان فهو تحت األرض التي السماء فوقها‪ ،‬وإذا كان تحت األرض واألرض فوقه‪،‬‬
‫والسماء فوق األرض وفي هذا ما يلزمكم أن تقولوا إن اهلل تحت التحت‪ ،‬واألشياء فوقه‪،‬‬
‫وأنه فوق الفوق واألشياء تحته‪ ،‬وفي هذا ما يجب أنه تحت ما هو فوقه‪ ،‬وفوق ما هو تحته‪،‬‬
‫وهذا هو المحال المتناقض‪ ،‬تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫ومما يؤكد أن اهلل عز وجل مستو على عرشه دون األشياء كلها‪ ،‬ما نقله أهل الرواية عن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫روى عفان‪ ،‬قال‪ :‬ثنا حماد بن سلمة‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا‬

‫( ‪)1/110‬‬

‫عمرو بن دينار‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن جبير‪ ،‬عن أبيه رضي اهلل عنهم أجمعين‪ ،‬أن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪( :‬ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول‪ :‬هل من سائل فأعطيه؟ هل‬
‫من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر) ‪.‬‬
‫روى عبيد اهلل بن بكر قال‪ :‬ثنا هشام بن أبي عبد اهلل‪ ،‬عن يحيى بن كثير‪ ،‬عن أبي جعفر‪ ،‬أنه‬
‫سمع أبا حفص يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪( :‬إذا بقى ثلث الليل ينزل اهلل تبارك وتعالى فيقول‪ :‬من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟‬
‫من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه؟ من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟ حتى ينفجر الفجر)‬
‫‪.‬‬
‫( ‪)1/111‬‬

‫وروى عبد اهلل بن بكر السهمي‪ ،‬قال‪ :‬ثنا هشام بن أبي عبد اهلل عن يحيى بن كثير‪ ،‬عن هالل‬
‫بن أبي ميمونة‪ ،‬قال‪ :‬ثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال‪ :‬فكنا مع رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم حتى إذا كفا بالكديد ‪ -‬أو قال بقديد ‪ -‬حمد اهلل وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪( :‬إذا‬
‫مضى ثلث الليل ‪ -‬أو قال ثلثا الليل ‪ -‬نزل اهلل عز وجل إلى السماء‪ ،‬فيقول‪ :‬من ذا الذي‬
‫يدعوني أستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني أغفر له؟ من ذا الذي يسألني أعطيه؟ حتى ينفجر‬
‫الفجر) نزوال يليق بذاته من غير حركة وانتقال‪ ،‬تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫قال اهلل تعالى‬

‫( ‪)1/112‬‬

‫‪( :‬يخافون ربهم من فوقهم) من اآلية (‪ ، )16/ 50‬وقال تعالى‪( :‬تعرج المالئكة والروح‬
‫إليه) من اآلية (‪ ، )70/ 4‬وقال تعالى‪( :‬ثم استوى إلى السماء وهي دخان) من اآلية (‪/ 11‬‬
‫‪ ، )41‬وقال تعالى‪( :‬ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا) من اآلية (‪، )25/ 59‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬ثم استوى على العرش مالكم من ولي وال شفيع) (‪ ، )32/ 4‬فكل ذلك يدل‬
‫على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه‪ ،‬والسماء بإجماع الناس ليست األرض‪ ،‬فدل على‬
‫أنه تعالى منفرد بوحدانيته‪ ،‬مستو على عرشه استواء منزها عن الحلول واالتحاد‪.‬‬

‫( ‪)1/113‬‬

‫دليل آخر‪:‬‬
‫قال اهلل تعالى‪( :‬وجاء ربك والملك صفا صفا) (‪ ، )89/ 22‬وقال تعالى‪( :‬هل ينظرون إال أن‬
‫يأتيهم اهلل في ظلل من الغمام والمالئكة) من اآلية (‪ ، )2/ 210‬وقال‪( :‬ثم دنا فتدلى فكان‬
‫قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى‬
‫ولقد رآه نزلة أخرى) (‪ )53/ 13 - 8‬إلى قوله‪( :‬لقد رأى من آيات ربه الكبرى) (‪/ 18‬‬
‫‪ ، )53‬وقال تعالى لعيسى ابن مريم عليه السالم‪( :‬إني متوفيك ورافعك إلّي ) ‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬
‫(وما قتلوه يقينا بل رفعه اهلل إليه) من اآلية (‪، )4/ 158‬‬

‫( ‪)1/114‬‬

‫وأجمعت األمة على أن اهلل سبحانه رفع عيسى صلى اهلل عليه وسلم إلى السماء‪ ،‬ومن دعاء‬
‫أهل اإلسالم جميعا إذا هم رغبوا إلى اهلل تعالى في األمر النازل بهم يقولون جميعا‪ :‬يا ساكن‬
‫السماء‪ ،‬ومن حلفهم جميعا‪ :‬ال والذي احتجب بسبع سماوات‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫قال اهلل عز وجل‪( :‬وما كان لبشر أن يكلمه اهلل إال وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسوال‬
‫فيوحي بإذنه ما يشاء) من اآلية (‪ ، )42/ 51‬وقد خصت اآلية الشريفة البشر دون غيرهم‬
‫ممن ليس من جنس البشر‪ ،‬ولو كانت اآلية عامة للبشر وغيرهم‪ ،‬كان أبعد من الشبهة‪،‬‬
‫وإدخال الشك على من يسمع اآلية أن يقول‪ :‬ما كان ألحد أن يكلمه اهلل إال وحيا‬

‫( ‪)1/115‬‬

‫‪ ،‬أو من وراء حجاب‪ ،‬أو يرسل رسوال‪ ،‬فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول‪ :‬ما كان لجنس‬
‫من األجناس أن أكلمه إال وحيا‪ ،‬أو من وراء حجاب‪ ،‬أو أرسل رسوال‪ ،‬وننزل أجناسا لم‬
‫يعمهم باآلية فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫قال اهلل تعالى‪( :‬ثم ردوا إلى اهلل موالهم الحق) من اآلية (‪ ، )6/ 62‬وقال‪( :‬ولو ترى إذ‬
‫وقفوا على ربهم) من اآلية (‪ ، )6/ 30‬وقال‪( :‬ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند‬
‫ربهم) (‪ ، )32/ 12‬وقال عز وجل‪( :‬وعرضوا على ربك صفا) من اآلية (‪ ، )18/ 48‬كل‬
‫ذلك يدل على أنه تعالى ليس في خلقه‪ ،‬وال خلقه فيه‪ ،‬وأنه مستو‬

‫( ‪)1/116‬‬

‫على عرشه سبحانه‪ ،‬بال كيف وال استقرار‪ ،‬تعالى اهلل عما يقول الظالمون والجاحدون علوا‬
‫كبيرا‪ ،‬فلم يثبتوا له في وصفهم حقيقة‪ ،‬وال أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية؛ إذ كل كالمهم‬
‫يؤول إلى التعطيل‪ ،‬وجميع أوصافهم تدل على النفي‪ ،‬يريدون بذلك التنزيه‪ ،‬ونفي التشبيه‬
‫على زعمهم‪ ،‬فنعوذ باهلل من تنزيه يوجب النفي والتعطيل‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫قال اهلل تعالى (اهلل نور السماوات واألرض) من اآلية (‪ )24/ 35‬فسمى نفسه نورا‪ ،‬والنور‬
‫عند األمة ال يخلو من أن يكون أحد معنيين‬

‫( ‪)1/117‬‬

‫‪:‬‬
‫إما أن يكون نورا يسمع‪ ،‬أو نورا يرى‪.‬‬
‫فمن زعم أن اهلل يسمع وال يرى فقد أخطأ في نفيه رؤية ربه‪ ،‬وتكذيبه بكتابه‪ ،‬وقول نبيه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وروت العلماء عن عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما أنه قال‪( :‬تفكروا في خلق اهلل وال‬
‫تفكروا في اهلل عز وجل‪ ،‬فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام‪ ،‬واهلل عز وجل فوق ذلك) ‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫وروت العلماء رحمهم اهلل عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪( :‬إن العبد ال تزول قدماه‬
‫من بين يدي اهلل عز وجل حتى يسأله عن عمله) ‪.‬‬
‫وروت العلماء أن رجال أتى النبي صلى اهلل عليه وسلم بأمة‬

‫( ‪)1/118‬‬

‫سوداء فقال‪ :‬يا رسول اهلل إني أريد أن أعتقها في كفارة‪ ،‬فهل يجوز عتقها؟‬
‫فقال لها النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أين اهلل؟ قالت‪ :‬في السماء‪ ،‬قال فمن أنا؟ قالت‪ :‬أنت‬
‫رسول اهلل‪ ،‬فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أعتقها فإنها مؤمنة‪.‬‬
‫وهذا يدل على أن اهلل تعالى على عرشه فوق السماء فوقية ال تزيده قربا من العرش‪.‬‬

‫( ‪)1/119‬‬
‫الباب السادس الكالم في الوجه والعينين والبصر واليدين‬
‫قال اهلل تبارك وتعالى‪( :‬كل شيء هالك إال وجهه) من اآلية (‪ ، )28/ 88‬وقال تعالى‪( :‬ويبقى‬
‫وجه ربك ذو الجالل واإلكرام) (‪ ، )55/ 27‬فأخبر أن له سبحانه وجها ال يفنى‪ ،‬وال يلحقه‬
‫الهالك‪.‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬تجرى بأعيننا) من اآلية (‪ ، )54/ 14‬وقال تعالى‪( :‬واصنع الفلك بأعيننا‬
‫ووحينا) من اآلية (‪، )11/ 37‬‬

‫( ‪)1/120‬‬

‫فأخبر تعالى أن له وجها وعينا وال تكَّيف وال تحد‪.‬‬


‫وقال تعالى‪( :‬واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) من اآلية (‪ ، )52/ 48‬وقال تعالى‪( :‬ولتصنع‬
‫على عيني) من اآلية (‪ ، )20/ 39‬وقال تعالى‪( :‬وكان اهلل سميعا بصيرا) من اآلية (‪)4/ 134‬‬
‫‪ ،‬وقال لموسى وهارون عليهما أفضل الصالة والسالم‪( :‬إنني معكما أسمع وأرى) من اآلية (‬
‫‪ )20/ 46‬فأخبر تعالى عن سمعه وبصره ورؤيته‪.‬‬

‫( ‪)1/121‬‬

‫فصل‬
‫ونفى الجهمية أن يكون هلل تعالى وجه كما قال‪ ،‬وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر وعين‪،‬‬
‫ووافقوا النصارى؛ ألن النصارى لم تثبت اهلل سميعا بصيرا إال على معنى أنه عالم‪ ،‬وكذلك‬
‫قالت الجهمية‪ ،‬ففي حقيقة قولهم أنهم قالوا‪ :‬نقول إن اهلل عالم‪ ،‬وال نقول سميع بصير‪ ،‬على‬
‫غير معنى عالم‪ ،‬وذلك قول النصارى‪.‬‬

‫( ‪)1/122‬‬

‫فصل‬
‫قالت الجهمية‪ :‬إن اهلل ال علم له‪ ،‬وال قدرة‪ ،‬وال سمع له‪ ،‬وال بصر‪ ،‬وإنما قصدوا إلى تعطيل‬
‫التوحيد‪ ،‬والتكذيب بأسماء اهلل تعالى‪ ،‬فأعطوا ذلك له لفظا‪ ،‬ولم يحصلوا قولهم في المعنى‪،‬‬
‫ولوال أنهم خافوا السيف؛ ألفصحوا بأن اهلل غير سميع وال بصير وال عالم‪ ،‬ولكن خوف‬
‫السيف منعهم من إظهار زندقتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/123‬‬

‫فصل‬
‫وزعم شيخ منهم نحس مقدم فيهم أن علم اهلل هو اهلل‪ ،‬وأن اهلل سبحانه علم‪ ،‬فنفى العلم من‬
‫حيث أوهم أنه يثبته‪ ،‬حتى ألزم أن يقول‪ :‬يا علم اغفر لي؛ إذ كان علم اهلل عنده هو اهلل‪،‬‬
‫وكان اهلل ‪ -‬على قياسه الفاسد ‪ -‬علما وقدرة‪ .‬تعالى اهلل عما يقولون علوا كبيرا‪.‬‬
‫قال الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل األشعري رحمه اهلل ورضى عنه‪ :‬باهلل نستهدي‪ ،‬وإياه‬
‫نستكفي‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم‪ ،‬وهو المستعان أما بعد‪:‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫فمن سألنا فقال‪ :‬أتقولون إن هلل سبحانه وجها؟‬
‫قيل له‪ :‬نقول ذلك‪ ،‬خالفا لما قاله المبتدعون‪ ،‬وقد دل على ذلك‬

‫( ‪)1/124‬‬

‫قوله تعالى‪( :‬ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام) (‪. )55/ 27‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫قد سئلنا أتقولون إن هلل يدين؟‬
‫قيل‪ :‬نقول ذلك بال كيف‪ ،‬وقد دل عليه قوله تعالى‪( :‬يد اهلل فوق أيديهم) من اآلية (‪/ 10‬‬
‫‪ ، )48‬وقوله تعالى‪( :‬لما خلقت بيدي) من اآلية (‪. )38/ 75‬‬
‫وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪( :‬إن اهلل مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه‬
‫ذريته) ‪،‬‬

‫( ‪)1/125‬‬
‫فثبتت اليد بال كيف‪.‬‬
‫وجاء في الخبر المأثور عن النبي صلى اهلل عليه وسلم (أن اهلل تعالى خلق آدم بيده‪ ،‬وخلق‬
‫جنة عدن بيده‪ ،‬وكتب التوراة بيده‪ ،‬وغرس شجرة طوبى بيده) ‪ ،‬أي بيد قدرته سبحانه‪.‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬بل يداه مبسوطتان) من اآلية (‪. )5/ 64‬‬
‫وجاء عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪( :‬كلتا يديه يمين) ‪.‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬ألخذنا منه باليمين) من اآلية (‪. )69/ 45‬‬
‫وليس يجوز في لسان العرب‪ ،‬وال في عادة أهل الخطاب‪ ،‬أن يقول القائل‪ :‬عملت كذا‬
‫بيدي‪ ،‬ويعني به النعمة‪ ،‬وإذا كان اهلل عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما‬
‫في كالمها‪ ،‬ومعقوال في خطابها‪ ،‬وكان ال يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل‪:‬‬
‫فعلت بيدي‪،‬‬

‫( ‪)1/126‬‬

‫ويعني النعمة؛ بطل أن يكون معنى قوله تعالى‪( :‬بيدي) النعمة‪ ،‬وذلك أنه ال يجوز أن يقول‬
‫القائل‪ :‬لي عليه يدي‪ ،‬بمعنى لي عليه نعمتي‪ ،‬ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى‬
‫أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة؛ إذ كان ال يمكنه أن يتعلق في أن اليد‬
‫النعمة إال من جهة اللغة‪ ،‬فإذا دفع اللغة لزمه أن ال يفسر القرآن من جهتها‪ ،‬وأن ال يثبت اليد‬
‫نعمة من قبلها؛ ألنه إن روجع في تفسير قوله تعالى‪( :‬بيدي) نعمتي فليس المسلمون على ما‬
‫ادعى متفقين‪ ،‬وإن روجع إلى‬

‫( ‪)1/127‬‬

‫اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل‪ :‬بيدي يعني نعمتي‪ ،‬وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه‪،‬‬
‫ولن يجد له سبيال‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال ألهل البدع‪ :‬وِلم زعمتم أن معنى قوله‪( :‬بيدي) نعمتي أزعمتم ذلك إجماعا أو لغة؟‬
‫فال يجدون ذلك إجماعا وال في اللغة‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬قلنا ذلك من القياس‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى‪( :‬بيدي) ال يكون معناه إال نعمتي؟ ومن‬
‫أين يمكن أن يعلم بالعقل أن تفسير كذا وكذا مع أنا رأينا اهلل عز وجل قد قال في كتابه‬
‫العزيز‪ ،‬الناطق على لسان نبيه الصادق‬

‫( ‪)1/128‬‬

‫‪( :‬وما أرسلنا من رسول إال بلسان قومه) من اآلية (‪ ، )14/ 4‬وقال تعالى‪( :‬لسان الذي‬
‫يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) من اآلية (‪ ، )16/ 103‬وقال تعالى‪( :‬إنا‬
‫جعلناه قرآنا عربيا) من اآلية (‪ ، )4/ 3‬وقال تعالى‪( :‬أفال يتدبرون القرآن ولو كان من عند‬
‫غير اهلل) من اآلية (‪ ، )4/ 82‬ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره‪ ،‬وال أن‬
‫نعرف معانيه إذا سمعناه‪ ،‬فلما كان من ال يحسن لسان العرب ال يحسنه‪ ،‬وإنما يعرفه العرب‬
‫إذا سمعوه على أنهم إنما علموه؛ ألنه بلسانهم نزل‪ ،‬وليس في لسانهم ما ادعوه‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫وقد اعتل معتل بقول اهلل تعالى‬

‫( ‪)1/129‬‬

‫‪( :‬والسماء بنيناها بأيد) من اآلية (‪ )51/ 47‬قالوا‪ :‬األيد القوة‪ ،‬فوجب أن يكون معنى قوله‬
‫تعالى‪( :‬بيدي) بقدرتي‪ ،‬قيل لهم‪ :‬هذا التأويل فاسد من وجوه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن األيد ليس جمع لليد؛ ألن جمع يد أيدي‪ ،‬وجمع اليد التي هي نعمة أيادي‪ ،‬وإنما‬
‫قال تعالى‪( :‬لما خلقت بيدي) من اآلية (‪ ، )38/ 75‬فبطل بذلك أن يكون معنى قوله‪:‬‬
‫(بيدي) معنى قوله‪( :‬بنيناها بأيد) ‪.‬‬
‫وأيضا فلو كان أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتي‪ ،‬وهذا ناقض لقول مخالفنا‪ ،‬وكاسر‬
‫لمذهبهم؛ ألنهم ال يثبتون قدرة واحدة‪ ،‬فكيف يثبتون قدرتين‪.‬‬

‫( ‪)1/130‬‬
‫وأيضا فلو كان اهلل تعالى عنى بقوله‪( :‬لما خلقت بيدي) القدرة لم يكن آلدم صلى اهلل عليه‬
‫وسلم على إبليس مزية في ذلك‪ ،‬واهلل تعالى أراد أن يرى فضل آدم صلى اهلل عليه وسلم‬
‫عليه؛ إذ خلقه بيديه دونه‪ ،‬ولو كان خالقا إلبليس بيده كما خلق آدم صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بيده لم يكن لتفضيله عليه بذلك وجه‪ ،‬وكان إبليس يقول محتجا على ربه‪ :‬فقد خلقتني‬
‫بيديك كما خلقت آدم صلى اهلل عليه وسلم بهما‪ ،‬فلما أراد اهلل تعالى تفضيله عليه بذلك‪،‬‬
‫وقال اهلل تعالى موبخا له على استكباره على آدم صلى اهلل عليه وسلم أن يسجد له‪( :‬ما‬
‫منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت؟) (‪ ، )38/ 75‬دل على أنه ليس معنى اآلية‬
‫القدرة؛ إذ كان اهلل تعالى خلق األشياء جميعا بقدرته‪ ،‬وإنما أراد إثبات يدين‪ ،‬ولم يشارك‬
‫إبليس آدم صلى اهلل عليه وسلم في أن خلق بهما‪.‬‬

‫( ‪)1/132‬‬

‫فصل‬
‫وليس يخلو قوله تعالى‪( :‬لما خلقت بيدي) أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين‪ ،‬أو يكون‬
‫معنى ذلك إثبات يدين جارحتين‪ .‬تعالى اهلل عن ذلك‪ ،‬أو يكون معنى ذلك إثبات يدين‬
‫قدرتين‪ ،‬أو يكون معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين وال جارحتين وال قدرتين ال توصفان‬
‫إال كما وصف اهلل تعالى‪ ،‬فال يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين؛ ألنه ال يجوز عند أهل‬
‫اللسان أن يقول القائل‪ :‬عملت بيدي وهو نعمتي‪.‬‬
‫وال يجوز عندنا وال عند خصومنا أن نعني جارحتين‪ ،‬وال يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين‪.‬‬

‫( ‪)1/133‬‬

‫وإذا فسدت األقسام الثالثة صح القسم الرابع؛ وهو أن معنى قوله تعالى‪( :‬بيدي) إثبات يدين‬
‫ليستا جارحتين‪ ،‬وال قدرتين‪ ،‬وال نعمتين ال يوصفان إال بأن يقال‪ :‬إنهما يدان ليستا كاأليدي‪،‬‬
‫خارجتان عن سائر الوجوه الثالثة التي سلفت‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫وأيضا فلو كان معنى قوله تعالى‪( :‬بيدي) نعمتي لكان ال فضيلة آلدم صلى اهلل عليه وسلم‬
‫على إبليس في ذلك على مذاهب مخالفينا؛ ألن اهلل تعالى قد ابتدأ إبليس على قولهم‪ ،‬كما‬
‫ابتدأ آدم صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وليس تخلو النعمتان أن يكونا هما بدن آدم صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬أو يكونا عرضين خلقا في بدن آدم عليه الصالة والسالم‪ ،‬فلو‬

‫( ‪)1/134‬‬

‫كان عنى بدن آدم عليه السالم فألبدان عند مخالفينا من المعتزلة جنس واحد‪ ،‬وإذا كانت‬
‫األبدان عندهم جنسا واحدا فقد حصل في جسد إبليس على مذاهبهم من النعمة ما حصل في‬
‫جسد آدم صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكذلك إن عنى عرضين فليس من عرض فعله في بدن آدم‬
‫صلى اهلل عليه وسلم من لون‪ ،‬أو حياة‪ ،‬أو قوة‪ ،‬أو غير ذلك إال وقد فعل من جنسه عندهم‬
‫في بدن إبليس‪ ،‬وهذا يوجب أنه ال فضيلة آلدم صلى اهلل عليه وسلم على إبليس في ذلك‪،‬‬
‫واهلل تعالى إنما احتج على إبليس بذلك ليريه أن آلدم صلى اهلل عليه وسلم في ذلك الفضيلة‪،‬‬
‫فدل ما قلناه على أن اهلل عز وجل لما قال‪( :‬خلقت بيدي) لم يعن نعمتي‬

‫( ‪)1/135‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬لم أنكرتم أن يكون اهلل تعالى عنى بقوله‪( :‬بيدي) يدين ليستا نعمتين؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ألن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إال جارحة‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إال جارحة؟ وإن رجعونا إلى شاهدنا‪،‬‬
‫أو إلى ما نجده فيما بيننا من الخلق فقالوا‪ :‬اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إال‬
‫جارحة‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على اهلل تعالى فكذلك لم نجد حيا من الخلق إال‬
‫جسما لحما ودما فاقضوا بذلك على اهلل ‪ -‬تعالى عن ذلك ‪ -‬وإال كنتم لقولكم تاركين‬
‫والعتاللكم ناقضين‪.‬‬
‫وإن أثبتم حيا ال كاألحياء منا فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر اهلل تعالى عنهما يدين‬
‫ليستا نعمتين وال جارحتين‪ ،‬وال كاأليدي؟‬

‫( ‪)1/136‬‬
‫وكذلك يقال لهم‪ :‬لم تجدوا مدبرا حكيما إال إنسانا ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ليس‬
‫كاإلنسان‪ ،‬وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتاللكم فال تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين وال‬
‫جارحتين من أجل أن ذلك خالف الشاهد‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫فإن قالوا إذا أثبتم هلل عز وجل يدين لقوله تعالى‪( :‬لما خلقت بيدي) فلم ال أثبتم له أيدي‬
‫لقوله تعالى‪( :‬مما عملت أيدينا) من اآلية (‪ )36/ 71‬؟‬
‫قيل لهم‪ :‬قد أجمعوا على بطالن قول من أثبت هلل أيدي‪ ،‬فلما أجمعوا على بطالن قول من‬
‫قال ذلك؛ وجب أن يكون اهلل تعالى‬

‫( ‪)1/137‬‬

‫ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين؛ ألن الدليل عنده دل على صحة اإلجماع‪ ،‬وإذا كان‬
‫اإلجماع صحيحا وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين؛ ألن القرآن على ظاهره‪ ،‬وال يزول‬
‫عن ظاهره إال بحجة‪ ،‬فوجدنا حجة أزلنا بها ذكر األيدي عن الظاهر إلى ظاهر آخر‪ ،‬ووجب‬
‫أن يكون الظاهر اآلخر على حقيقته ال يزول عنها إال بحجة‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬إذا ذكر اهلل عز وجل األيدي وأراد يدين‪ ،‬فما أنكرتم أن يذكر األيدي ويريد‬
‫يدا واحدة؟‬
‫قيل له‪ :‬ذكر تعالى أيدي وأراد يدين؛ ألنهم أجمعوا على بطالن قول من قال أيدي كثيرة‪،‬‬
‫وقول من قال يدا واحدة‪ ،‬فقلنا يدان؛ ألن القرآن على ظاهره‪ ،‬إال أن تقوم حجة بأن يكون‬
‫على خالف الظاهر‪.‬‬

‫( ‪)1/138‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى‪( :‬مما عملت أيدينا) من اآلية (‪، )36/ 71‬‬
‫وقوله تعالى‪( :‬لما خلقت بيدي) من اآلية (‪ )38/ 75‬على المجاز؟‬
‫قيل له‪ :‬حكم كالم اهلل تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته‪ ،‬وال يخرج الشيء عن ظاهره إلى‬
‫المجاز إال بحجة‪.‬‬
‫أال ترون أنه إذا كان ظاهر الكالم العموم‪ ،‬فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس‬
‫هو على حقيقة الظاهر‪ ،‬وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة‪ ،‬كذلك‬
‫قوله تعالى‪( :‬لما خلقت بيدي) من اآلية (‪)38/ 75‬‬

‫( ‪)1/139‬‬

‫على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدين‪ ،‬وال يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه‬
‫خصومنا إال بحجة‪.‬‬
‫ولو جاز ذلك لجاز لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم فهو على الخصوص‪ ،‬وما ظاهره‬
‫الخصوص فهو على العموم بغير حجة‪ ،‬وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما‬
‫ادعيتموه أنه مجاز أن يكون مجازا بغير حجة‪ ،‬بل واجب أن يكون قوله تعالى‪( :‬لما خلقت‬
‫بيدي) من اآلية (‪ )38/ 75‬إثبات يدين هلل تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان ال‬
‫يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم‪ :‬فعلت بيدي‪ ،‬وهو يعني النعمتين‬

‫( ‪)1/140‬‬

‫الباب السابع الرد على الجهمية في نفيهم علم اهلل تعالى وقدرته وجميع صفاته‬
‫قال اهلل تعالى‪( :‬أنزله بعلمه) من اآلية (‪ ، )4/ 166‬وقال تعالى‪( :‬وما تحمل من أنثى وال‬
‫تضع إال بعلمه) من اآلية (‪ ، )35/ 11‬وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه العزيز‪ ،‬وقال‬
‫تعالى‪( :‬فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم اهلل) من اآلية (‪ ، )11/ 14‬وقال تعالى‪:‬‬
‫(وال يحيطون بشيء من علمه إال بما شاء) من اآلية (‪. )2/ 255‬‬

‫( ‪)1/141‬‬

‫وذكر القوة فقال‪( :‬أولم يرو أن اهلل الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) من اآلية (‪، )41/ 15‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬ذو القوة المتين) من اآلية (‪ ، )51/ 58‬وقال تعالى‪( :‬والسماء بنيناها بأيد) من‬
‫اآلية (‪. )51/ 47‬‬
‫( ‪)1/142‬‬

‫فصل‬
‫وزعمت الجهمية أن اهلل تعالى ال علم له‪ ،‬وال قدرة‪ ،‬وال حياة‪ ،‬وال سمع‪ ،‬وال بصر له‪،‬‬
‫وأرادوا أن ينفوا أن اهلل تعالى عالم‪ ،‬قادر‪ ،‬حي‪ ،‬سميع‪ ،‬بصير‪ ،‬فمنعهم خوف السيف من‬
‫إظهارهم نفي ذلك‪ ،‬فأتوا بمعناه؛ ألنهم إذا قالوا ال علم هلل وال قدرة له‪ ،‬فقد قالوا إنه ليس‬
‫بعالم وال قادر‪ ،‬ووجب ذلك عليهم‪ ،‬وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل؛ ألن‬
‫الزنادقة قد قال كثير منهم‪ :‬إن اهلل تعالى ليس بعالم‪ ،‬وال قادر‪ ،‬وال حي‪ ،‬وال سميع‪ ،‬وال‬
‫بصير‪ ،‬فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه‪ ،‬وقالت إن اهلل عالم‪ ،‬قادر‪ ،‬حي‪،‬‬
‫سميع‪ ،‬بصير من طريق التسمية من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والسمع‪ ،‬والبصر‪.‬‬

‫( ‪)1/143‬‬

‫فصل‬
‫وقد قال رئيس من رؤسائهم ‪ -‬وهو أبو الهذيل العالف ‪ -‬إن علم اهلل هو اهلل‪ ،‬فجعل اهلل‬
‫تعالى علما‪.‬‬
‫وُأْلِز م‪ ،‬فقيل له‪ :‬إذا قلت إن علم اهلل هو اهلل فقل يا علم اهلل اغفر لي وارحمني‪ ،‬فأبى ذلك‬
‫فلزمه المناقضة‪.‬‬
‫واعلموا رحمكم اهلل أن من قال عالم وال علم كان مناقضا‪ ،‬كما أن من قال علم اهلل وال عالم‬
‫كان مناقضا‪ ،‬وكذلك القول في القادر والقدرة‪ ،‬والحياة والحي‪ ،‬والسمع والبصر والسميع‬
‫والبصير‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬خبرونا عمن زعم أن اهلل متكلم‪ ،‬قائل‪ ،‬آمر‬

‫( ‪)1/144‬‬
‫‪ ،‬ناه‪ ،‬ال قول له‪ ،‬وال كالم‪ ،‬وال أمر له‪ ،‬وال نهى‪ ،‬أليس هو مناقض خارج عن جملة‬
‫المسلمين؟‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فكذلك من قال‪ :‬إن اهلل تعالى عالم وال علم له‪ ،‬كان ذلك مناقضا خارجا عن جملة‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫وقد أجمع المسلمون قبل حدوث الجهمية والمعتزلة والحرورية على أن هلل علما لم يزل‪،‬‬
‫وقد قالوا‪ :‬علم اهلل لم يزل‪ ،‬وعلم اهلل سابق في األشياء‪ ،‬وال يمتنعون أن يقولوا في كل حادثة‬
‫تحدث ونازلة تنزل كل هذا سابق في علم اهلل‪ ،‬فمن جحد أن هلل علما فقد خالف المسلمين‬
‫وخرج عن اتفاقهم‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا كان اهلل مريدا فله إرادة؟ فإن قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قيل لهم‪ :‬فإذا أثبتم مريدا ال إرادة له‬
‫فأثبتوا أن قائال ال قول له‪ ،‬وإن‬

‫( ‪)1/145‬‬

‫أثبتوا اإلرادة قيل لهم‪ :‬فإذا كان المريد ال يكون مريدا إال بإرادة‪ ،‬فما أنكرتم أن ال يكون‬
‫العالم عالما إال بعلم‪ ،‬وأن يكون هلل علم كما أثبتم له اإلرادة‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫وقد فرقوا بين العلم والكالم فقالوا‪ :‬إن اهلل تعالى علم موسى وفرعون‪ ،‬وكلم موسى ولم‬
‫يكلم فرعون‪ ،‬فكذلك قد يقال علم موسى الحكمة وفصل الخطاب‪ ،‬وآتاه النبوة‪ ،‬ولم يعلم‬
‫ذلك فرعون فإن كان هلل كالم؛ ألنه كلم موسى ولم يكلم فرعون‪ ،‬فكذلك هلل علم؛ ألنه علم‬
‫موسى ولم يعلم فرعون‪.‬‬
‫ثم يقال لهم‪ :‬إذا وجب أن هلل كالما به كلم موسى دون فرعون؛ إذ كلم موسى دونه‪ ،‬فما‬
‫أنكرتم إذا علمهما جميعا أن يكون له علم به علمهما جميعا‪.‬‬
‫ثم يقال‪ :‬قد كلم اهلل األشياء بأن قال لها‪ :‬كوني‪ ،‬وقد أثبتم هلل قوال‪ ،‬وإن علم األشياء كلها‬
‫فله علم‪.‬‬

‫( ‪)1/146‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ثم يقال لهم‪ :‬إذا أوجبتم أن هلل كالما وليس له علم؛ ألن الكالم أخص من العلم‪ ،‬والعلم أعم‬
‫منه‪ ،‬فقولوا‪ :‬إن هلل قدرة؛ ألن العلم أعم عندكم من القدرة؛ ألن مذاهب القدرية أنهم ال‬
‫يقولون أن اهلل ال يقدر أن يخلق الكفر‪ ،‬فقد أثبتوا القدرة أخص من العلم‪ ،‬فينبغي لهم أن‬
‫يقولوا على اعتاللهم إن هلل قدرة‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ثم يقال لهم‪ :‬أليس اهلل عالما‪ ،‬والوصف له بأنه عالم أعم من الوصف له بأنه متكلم مكِّلم؟‬
‫ثم لم يجب؛ ألن الكالم أخص من أن يكون اهلل تعالى متكلما غير عالم؟ فلم ال قلتم إن‬
‫الكالم ‪ -‬وإن كان أخص من العلم ‪ -‬أن ذلك ال ينفي أن يكون هلل علم‪ ،‬كما لم ينف‬
‫بخصوص الكالم أن يكون اهلل عالما؟‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬من أين علمتم أن اهلل عالم؟‬

‫( ‪)1/147‬‬

‫فإن قالوا‪ :‬يقوله تعالى‪( :‬إنه بكل شيء عليم) من اآلية (‪. )42/ 12‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وكذلك فقولوا‪ :‬إن هلل علما بقوله‪( :‬أنزله بعلمه) من اآلية (‪ ، )4/ 166‬وبقوله‪:‬‬
‫(وما تحمل من أنثى وال تضع إال بعلمه) من اآلية (‪ ، )35/ 11‬وكذلك فقولوا إن له قوة‬
‫لقوله تعالى‪( :‬أولم يروا أن الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) من اآلية (‪. )41/ 15‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬قلنا‪ :‬إن اهلل عالم؛ ألنه صنع العالم على ما فيه من آثار الحكمة واتساق التدبير‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فلم ال قلتم إن هلل علما بما ظهر في العالم من حكمة وآثار تدبيره؟‬

‫( ‪)1/148‬‬

‫ألن الصنائع الحكمية ال تظهر إال من ذي علم‪ ،‬كما ال يظهر إال من عالم‪ ،‬وكذلك ال تظهر‬
‫إال من ذي قوة كما ال تظهر إال من قادر‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا نفيتم علم اهلل فلم ال نفيتم أسماءه؟‬
‫فإن قالوا كيف ننفي أسماءه وقد ذكرها في كتابه؟‬
‫قيل لهم‪ :‬فال تنفوا العلم والقوة؛ ألنه تعالى ذكر ذلك في كتابه العزيز‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬قد عَّلم اهلل تعالى نبيه صلى اهلل عليه وسلم الشرائع واألحكام‪ ،‬والحالل والحرام‪،‬‬
‫وال يجوز أن يعلمه ما ال يعلمه‪ ،‬فكذلك ال يجوز‬

‫( ‪)1/149‬‬

‫أن يعلم اهلل نبيه صلى اهلل عليه وسلم ماال علم اهلل به‪ .‬تعالى اهلل عن قول الجهمية علوا كبيرا‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس إذا لعن اهلل الكافرين‪ ،‬فلعنه لهم معنى‪ ،‬ولعن النبي صلى اهلل عليه وسلم لهم‬
‫معنى؟‬
‫فمن قولهم نعم‪.‬‬
‫فيقال لهم‪ :‬فما أنكرتم من أن اهلل تعالى إذا علم نبيه صلى اهلل عليه وسلم شيئا فكان للنبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم علم‪ ،‬وهلل تعالى علم‪ ،‬وإذا كنا متى أثبتناه غضبانا على الكافرين فال بد‬
‫من إثبات غضب‪ ،‬وكذلك إذا أثبتناه راضيا عن المؤمنين فال بد من إثبات رضى‪ ،‬وكذلك إذا‬
‫أثبتناه حيا سميعا بصيرا فال بد من إثبات حياة وسمع وبصر‪.‬‬

‫( ‪)1/150‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬وجدنا اسم عالم اشتق من علم‪ ،‬واسم قادر اشتق من قدرة‪ ،‬وكذلك اسم حي‬
‫اشتق من حياة‪ ،‬واسم سميع اشتق من سمع‪ ،‬واسم بصير اشتق من بصر‪ ،‬وال تخلو أسماء اهلل‬
‫عز وجل من أن تكون مشتقة إما إلفادة معنى‪ ،‬أو على طريق التلقيب‪ ،‬فال يجوز أن يسمى اهلل‬
‫تعالى على طريق التقليب باسم ليس فيه إفادة معنى‪ ،‬وليس مشتقا من صفة‪.‬‬
‫فإذا قلنا‪ :‬إن اهلل تعالى عالم قادر فليس تلقيبا‪ ،‬كقولنا زيد وعمر‪ ،‬وعلى هذا إجماع‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫( ‪)1/151‬‬

‫وإذا لم يكن كذلك تلقيبا‪ ،‬كان مشتقا من علم‪ ،‬فقد وجب إثبات العلم‪ ،‬وإن كان ذلك‬
‫إلفادة معنى‪ ،‬فال يختلف ما هو إلفادة معنى واجب إذا كان معنى العالم منا أن له علما أن‬
‫يكون كل عالم فهو ذو علم‪ ،‬كما إذا كان قولي موجود مفيدا فينا اإلثبات كان الباري تعالى‬
‫واجبا إثباته؛ ألنه سبحانه وتعالى موجود‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال للمعتزلة والجهمية والحرورية‪ :‬أتقولون إن هلل علما‬

‫( ‪)1/152‬‬

‫باألشياء سابقا فيها‪ ،‬وبوضع كل حامل‪ ،‬وحمل كل أنثى‪ ،‬وبإنزال كل ما أنزله؟‬


‫فإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬أثبتوا العلم ووافقوا‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قيل لهم‪ :‬جحد منكم؛ لقوله تعالى‪( :‬أنزله بعلمه) من اآلية (‪، )4/ 166‬‬
‫ولقوله‪( :‬وما تحمل من أنثى وال تضع إال بعلمه) من آية (‪ ، )35/ 11‬ولقوله تعالى‪( :‬فإن لم‬
‫يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم اهلل) من اآلية (‪. )11/ 14‬‬
‫وإذا كان قول اهلل تعالى‪( :‬بكل شيء عليم) من اآلية (‪( ، )42/ 12‬وما تسقط من ورقة إال‬
‫يعلمها) من اآلية (‪)6/ 59‬‬

‫( ‪)1/153‬‬

‫يوجب أنه عليم بعلم األشياء‪ ،‬فكذلك فما أنكرتم أن تكون هذه اآليات نوجب أن هلل علما‬
‫باألشياء سبحانه وبحمده‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬هل هلل عز وجل علم بالتفرقة بين أوليائه وأعدائه؟ وهل هو مريد لذلك؟ وهل له‬
‫إرادة لإليمان إذا أراد اإليمان؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬وافقوا‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬إذا أراد اإليمان فله إرادة‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وكذلك إذا فرق بين أوليائه وأعدائه‪ ،‬فال بد من أن يكون له علم بذلك‪ ،‬وكيف‬
‫يجوز أن يكون للخلق علم بذلك‪ ،‬وليس للخالق عز وجل علم‬

‫( ‪)1/154‬‬

‫بذلك؟ ! وهذا يوجب أن للخلق مزية في العلم وفضال على الخالق‪ .‬تعالى اهلل عن ذلك علوا‬
‫كبيرا‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬إذا كان من له علم من الخلق أولى بالمنزلة الرفيعة ممن ال علم له‪ ،‬فإذا زعمتم أن‬
‫اهلل تعالى ال علم له لزمكم أن الخلق أعلى مرتبة من الخالق‪ .‬تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا كان من ال علم له من الخلق يلحقه الجهل والنقصان‪ ،‬فما أنكرتم من أنه ال‬
‫بد من إثبات علم اهلل؟ وإال ألحقتم به النقصان ‪ -‬جل عن قولكم وعال ‪ -‬أال ترون أن من ال‬
‫يعلم من الخلق يلحقه الجهل والنقصان‪،‬‬

‫( ‪)1/155‬‬

‫ومن قال ذلك في اهلل عز وجل وصف اهلل تعالى بما ال يليق به‪ ،‬فكذلك إذا كان من قيل له‬
‫من الخلق ال علم له لحقه الجهل والنقصان‪ ،‬وجب أن ال ُينفى ذلك عن اهلل تعالى؛ ألنه ال‬
‫يلحقه جهل وال نقصان‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬هل يجوز أن تنسق الصنائع الحكمية ممن ليس بعالم؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ذلك محال‪ ،‬وال يجوز في وجود الصنائع التي تجري على ترتيب ونظام إال من‬
‫عالم قادر حي‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وكذلك ال يجوز وجود الصنائع الحكمية التي تجري على ترتيب ونظام إال من ذي‬
‫علم وقدرة وحياة‪.‬‬
‫فإن جاز ظهورها ال من ذي علم فما أنكرتم من جواز ظهورها ال من عالم قادر حي‪.‬‬
‫( ‪)1/156‬‬

‫وكل مسألة سألناهم عنها في العلم فهي داخلة عليهم في القدرة والحياة والسمع والبصر‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫وزعمت المعتزلة أن قول اهلل تعالى‪( :‬سميع بصير) من اآلية (‪ )31/ 28‬إن معناه عليم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فإذا قال اهلل تعالى‪( :‬إنني معكما أسمع وأرى) من اآلية (‪، )20/ 46‬‬
‫وقال‪( :‬قد سمع اهلل قول التي تجادلك في زوجها) من اآلية (‪ )58/ 10‬فمعنى ذلك عندكم‬
‫علم‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله‪( :‬إنني معكما أسمع وأرى) من اآلية (‪/ 46‬‬
‫‪ )20‬أعلم وأعلم إذا كان معنى ذلك العلم‪.‬‬

‫( ‪)1/157‬‬

‫فصل‬
‫ونفت المعتزلة صفات رب العالمين‪ ،‬وزعمت أن معنى (سميع بصير) من اآلية (‪)31/ 28‬‬
‫راء بمعنى عليم‪ ،‬كما زعمت النصارى أن سمع اهلل هو بصره‪ ،‬وهو رؤيته‪ ،‬وهو كالمه‪ ،‬وهو‬
‫علمه‪ ،‬وهو ابنه‪ .‬تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫فيقال للمعتزلة‪ :‬إذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى عالم‪ ،‬فهال زعمتم أن معنى قادر معنى‬
‫عالم‪.‬‬
‫وإذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى قادر‪ ،‬فهال زعمتم أن معنى قادر معنى عالم‪.‬‬
‫وإذا زعمتم أن معنى حي معنى قادر‪ ،‬فلم ال زعمتم أن معنى قادر معنى عالم‪.‬‬

‫( ‪)1/158‬‬

‫فإن قالوا‪ :‬هذا يوجب أن يكون كل معلوم مقدورا‪.‬‬


‫قيل لهم‪ :‬ولو كان معنى سميع بصير معنى عالم لكان كل معلوم مسموعا‪ ،‬وإذا لم يجز ذلك‬
‫بطل قولكم‪.‬‬
‫( ‪)1/160‬‬

‫الباب الثامن الكالم في اإلرادة والرد على المعتزلة في ذلك‬


‫مسألة‪:‬‬
‫يقال لهم‪ :‬ألستم تزعمون أن اهلل تعالى لم يزل عالما؟ فمن قولهم‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فلم ال قلتم إن ما لم يزل عالما أنه يكون في وقت من األوقات لم يزل مريدا أن‬
‫يكون في ذلك الوقت‪ ،‬وما لم يزل عالما أنه ال يكون فلم يزل مريدا أن ال يكون‪ ،‬وأنه لم‬
‫يزل مريدا أن يكون ما علم كما علم؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال نقول إن اهلل لم يزل مريدا؛ ألن اهلل تعالى مريد بإرادة مخلوقة‪.‬‬

‫( ‪)1/161‬‬

‫قيل لهم‪ :‬فلم زعمتم أن اهلل عز وجل مريد بإرادة مخلوقة‪ ،‬وما الفصل بينكم وبين الجهمية‬
‫في زعمهم أن اهلل عالم بعلم مخلوق‪ ،‬وإذا لم يجز أن يكون علم اهلل مخلوقا‪ ،‬فما أنكرتم أن‬
‫ال تكون إرادة اهلل مخلوقة؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال يجوز أن يكون علم اهلل محدثا؛ ألن ذلك يقضي أن يكون حدث بعلم آخر‬
‫كذلك ال إلى غاية‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬ما أنكرتم أن ال تكون إرادة اهلل محدثة مخلوقة؛ ألن ذلك يقتضي أن تكون حدثت‬
‫عن إرادة أخرى‪ ،‬ثم كذلك ال إلى غاية‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال يجوز أن يكون علم اهلل محدثا؛ ألن من لم يكن عالما ثم علم لحقه النقصان‪.‬‬

‫( ‪)1/162‬‬

‫قيل لهم‪ :‬وال يجوز أن تكون إرادة اهلل محدثة مخلوقة؛ ألن من لم يكن مريدا ثم أراد لحقه‬
‫النقصان‪ ،‬وكما ال يجوز أن تكون إرادته تعالى محدثة مخلوقة‪ ،‬كذلك ال يجوز أن يكون‬
‫كالمه محدثا مخلوقا‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا زعمتم أنه قد كان في سلطان اهلل عز وجل الكفر والعصيان‪ ،‬وهو ال يريده‪،‬‬
‫وأراد أن يؤمن الخلق أجمعون‪ ،‬فلم يؤمنوا فقد وجب على قولكم أن أكثر ما شاء اهلل أن‬
‫يكون لم يكن‪ ،‬وأكثر ما شاء اهلل أن ال يكون كان؛ ألن الكفر الذي كان وهو ال يشاؤه‬
‫عندكم‪ ،‬أكثر من اإليمان الذي كان وهو يشاؤه‪ ،‬وأكثر ما شاء اهلل أن يكون لم يكن‪.‬‬
‫وهذا جحد لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء اهلل أن يكون كان‪ ،‬وما ال يشاء ال‬
‫يكون‪.‬‬

‫( ‪)1/163‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬من قولكم‪ :‬إن كثيرا ما شاء أن يكون إبليس كان؛ ألن الكفر أكثر من اإليمان‪،‬‬
‫وأكثر ما كان هو شاءه‪ ،‬فقد جعلتم مشيئة إبليس أنفذ من مشيئة رب العالمين جل ثناؤه‪،‬‬
‫وتقدست أسماؤه‪ ،‬وال إله غيره؛ ألن أكثر ما شاءه كان‪ ،‬وأكثر ما كان فقد شاءه‪.‬‬
‫وفي هذا إيجاب أنكم قد جعلتم إلبليس مرتبة في المشيئة ليست لرب العالمين‪ .‬تعالى اهلل عز‬
‫وجل عن قول الظالمين علوا كبيرا‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أيما أولى بصفة االقتدار‪ :‬من إذا شاء أن يكون الشيء كان ال محالة‪ ،‬وإذا لم‬
‫يرده لم يكن‪ ،‬أو من يريد أن يكون ما ال يكون ويكون ماال يريد؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬من ال يكون أكثر ما يريده أولى بصفة االقتدار كما يروا‪.‬‬

‫( ‪)1/164‬‬

‫وقيل لهم‪ :‬إن جاز لكم ما قلتموه جاز لقائل أن يقول‪ :‬من يكون ماال يعلمه أولى بالعلم ممن‬
‫ال يكون إال ما يعلمه‪.‬‬
‫وإن رجعوا عن هذه المكابرة‪ ،‬وزعموا أن من إذا أراد أمرا كان‪ ،‬وإذا لم يرده ال يكون أولى‬
‫بصفة االقتدار لزمهم على مذاهبهم أن يكون إبليس ‪ -‬لعنه اهلل ‪ -‬أولى باالقتدار من اهلل‬
‫تعالى؛ ألن أكثر ما أراده كان‪ ،‬وأكثر ما كان قد أراده‪.‬‬
‫وقيل لهم‪ :‬إذا كان من إذا أراد أمرا كان‪ ،‬وإذا لم يرده لم يكن أولى بصفة االقتدار‪ ،‬فيلزمكم‬
‫أن يكون اهلل تعالى إذا أراد أمرا كان‪ ،‬وإذا لم يرده لم يكن؛ ألنه أولى بصفة االقتدار‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أيما أولى باإللهية والسلطان من ال يكون إال ما يعلمه وال يغيب عن علمه شيء‬
‫وال يجوز ذلك عليه‪ ،‬أو من يكون ماال يعلمه ويعزب عن علمه أكثر األشياء؟‬

‫( ‪)1/165‬‬

‫فإن قالوا‪ :‬من ال يكون إال ما يعلمه وال يعزب عن علمه شيء أولى بصفة اإللهية‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فكذلك من ال يريد كون شيء إال ما كان‪ ،‬وال يكون إال ما يريده‪ ،‬وال يعزب عن‬
‫إرادته شيء أولى بصفة اإللهية كما قلتم ذلك في العلم‪ ،‬وإذا قالوا ذلك تركوا قولهم‬
‫ورجعوا عنه‪ ،‬وأثبتوا اهلل عز وجل مريدا لكل كائن‪ ،‬وأوجبوا أنه ال يريد أن يكون إال ما‬
‫يكون‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا قلتم أنه يكون في سلطانه تعالى ما ال يريد‪ ،‬فقد كان إذا في سلطانه ما كرهه‪.‬‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فإذا كان في سلطانه ما يكرهه فما أنكرتم أن يكون في سلطاته ما يأبى كونه‪.‬‬
‫فإن أجابوا إلى ذلك‪ ،‬قيل لهم‪ :‬فقد كانت المعاصي شاء اهلل أم أبى‪ ،‬وهذه صفة الضعف‬
‫والفقر‪ .‬تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس لما فعل العباد ما يسخطه تعالى وما‬

‫( ‪)1/166‬‬

‫يغضب عليهم إذا فعلوه فقد أغضبوه وأسخطوه؟ فال بد من نعم‪.‬‬


‫يقال لهم‪ :‬فلو فعل العباد ما ال يريد وما يكرهه لكانوا أكرهوه‪ ،‬وهذه صفة القهر‪ .‬تعالى عن‬
‫ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬فعال لما يريد) من اآلية (‪ )11/ 107‬؟‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فمن زعم أن اهلل تعالى فعل ما ال يريد‪ ،‬وأراد أن يكون من فعلة ما ال يكون‪ ،‬لزمه‬
‫أن يكون قد وقع ذلك وهو ساه غافل عنه‪ ،‬أو أن الضعف والتقصير عن بلوغ ما يريده لحقه‪.‬‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فكذلك من زعم أنه يكون في سلطان اهلل تعالى‬

‫( ‪)1/167‬‬

‫ماال يريده من عبيده؛ لزمه أحد أمرين‪:‬‬


‫إما أن يزعم أن ذلك كان عن سهو وغفلة‪.‬‬
‫أو أن يزعم أن الضعف والتقصير عن بلوغ ما يريده لحقه‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس من زعم أن اهلل تعالى فعل ماال يعلمه فقد نسب اهلل سبحانه إلى ما ال يليق‬
‫به من الجهل؟‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وكذلك يلزم من زعم أن اهلل فعل ما ال يريده؛ لزمه أن ينسب اهلل تعالى إلى السهو‬
‫والتقصير عن بلوغ ما يريده‪ ،‬فإذا قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وكذلك يلزم من زعم أن العباد يفعلون ماال يعلم اهلل نسب اهلل تعالى إلى الجهل‪.‬‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬

‫( ‪)1/168‬‬

‫يقال لهم‪ :‬فكذلك إذا كان في كون فعل فعلة اهلل‪ ،‬وهو ال يريده إيجاب سهو أو ضعف أو‬
‫تقصير عن بلوغ ما يريده‪.‬‬
‫فكذلك إذا كان من غيره ماال يريده وجب إثبات سهو وغفلة‪ ،‬أو ضعف وتقصير عن بلوغ ما‬
‫يريد‪ ،‬ال فرق في ذلك بين ما كان منه وما كان من غيره‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا كان في سلطان اهلل ماال يريده وهو يعلمه‪ ،‬وال يلحقه الضعف والتقصير عن‬
‫بلوغ ما يريده فما أنكرتم أن يكون في سلطانه ماال يعلمه وال يلحقه النقصان‪ ،‬فإن لم يجز‬
‫هذا لم يجز ما قلتموه‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫إن قال قائل‪ِ :‬لم قلتم‪ :‬إن اهلل مريد لكل كائن أن يكون‪ ،‬ولكل ماال يكون أن ال يكون؟‬
‫قيل له‪ :‬الدليل على ذلك أن الحجة قد وضحت أن اهلل تعالى‬

‫( ‪)1/169‬‬

‫خلق الكفر والمعاصي‪ ،‬وسنبين ذلك بعد هذا الموضع من كتابنا‪.‬‬


‫وإذا وجب أن اهلل سبحانه خالق لذلك‪ ،‬فقد وجب أنه مريد له؛ ألنه ال يجوز أن يخلق ماال‬
‫يريده‪.‬‬
‫وجواب آخر‪:‬‬
‫أنه ال يجوز أن يكون في سلطان اهلل تعالى من اكتساب العباد ماال يريده‪ ،‬كما ال يجوز أن‬
‫يكون من فعله المجتمع على أنه فعل ماال يريده؛ ألنه لو وقع من فعله ماال يعلمه‪ ،‬لكان في‬
‫ذلك إثبات النقصان‪ ،‬وكذلك القصد لو وقع من عباده ماال يعلمه فكذلك ال يجوز أن يقع‬
‫من عباده ماال يريده؛ ألن ذلك يوجب أن يقع عن سهو وغفلة‪ ،‬أو عن ضعف وتقصير عن‬
‫بلوغ ما يريده‪ ،‬كما يجب ذلك لو وقع من فعله المجتمع على أنه فعل ماال يريده‪.‬‬
‫وأيضا فلو كانت المعاصي وهو ال يشاء أن تكون لكان قد كره أن‬

‫( ‪)1/170‬‬

‫تكون وأبى أن تكون‪ ،‬وهذا يوجب أن تكون المعاصي كائنة شاء اهلل أم أبى‪ ،‬وهذا صفة‬
‫الضعف‪ .‬تعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫وقد أوضحنا أن اهلل سبحانه لم يزل مريدا على حقيقته التي علمه عليها‪ ،‬فإذا كان الكفر مما‬
‫يكون‪ ،‬وقد علم ذلك فقد أراد أن يكون‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫يقال لهم‪ :‬إذا كان اهلل عز وجل علم أن الكفر يكون‪ ،‬وأراد أن ال يكون‪ ،‬فقد أراد أن يكون‬
‫ما علم على خالف ما علم‪ ،‬وإذا لم يجز ذلك فقد أراد أن يكون ما علم كما علم‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬لم أبيتم أن يريد اهلل الكفر الذي علم‬

‫( ‪)1/171‬‬

‫أنه يكون أن يكون قبيحا فاسدا متناقضا خالفا لإليمان؟‬


‫فإن قالوا‪ :‬ألن مريد السفه سفيه‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬ولم قلتم ذلك‪ ،‬أو ليس قد أخبر اهلل تعالى عن ابن آدم أنه قال ألخيه‪( :‬لئن بسطت‬
‫إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك ألقتلك إني أخاف اهلل رب العالمين إني أريد أن تبوء‬
‫بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) من اآلية (‪، )5/ 29 - 28‬‬
‫فأراد أن ال يقتل أخاه لئال يعذب‪ ،‬وأن يقتله أخوه حتى يبوء بإثم قتله له‪ ،‬وسائر آثامه التي‬
‫كانت عليه فيكون من أصحاب النار‪ ،‬فأراد قتل أخيه الذي هو سفه‪ ،‬ولم يكن بذلك سفيها‪،‬‬
‫فلم زعمتم أن اهلل تعالى إذا أراد سفه العباد وجب أن ينسب ذلك إليه؟‬

‫( ‪)1/172‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬قد قال يوسف صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)‬
‫من اآلية (‪ )12/ 33‬وكان سجنهم إياه معصية‪ ،‬فأراد المعصية التي هي سجنهم إياه دون فعل‬
‫ما يدعونه إليه‪ ،‬ولم يكن سفيها فما أنكرتم من أن ال يجب إذا أراد الباري سبحانه سفه العباد‬
‫أن يكون قبيحا منهم‪ ،‬خالفا للطاعة أن يكون سفيها‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس من يرى منا حرم المسلمين كان سفيها‪ ،‬واهلل تعالى يراهم وال ينسب إلى‬
‫السفه؟ فال بد من نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فيما أنكرتم أن من أراد السفه منا فكان سفيها‪ ،‬واهلل سبحانه يريد سعة السفهاء وال‬
‫ينسب إلى اهلل تعالى سفه تعالى اهلل عن ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/173‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬السفيه منا إنما كان سفيها لما أراد السفه؛ ألنه نهى عن ذلك‪ ،‬وألنه تحت شريعة‬
‫من هو فوقه‪ ،‬ومن يحد له الحدود وترسم له الرسوم فلما أتى ما نهي عنه كان سفيها‪ ،‬ورب‬
‫العالمين جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ليس تحت شريعة‪ ،‬وال فوقه من يحد له الحدود ويرسم‬
‫له الرسوم‪ ،‬وال فوقه مبيح وال حاظر‪ ،‬وال آمر وال زاجر‪ ،‬فلم يجب إذا أراد ذلك أن يكون‬
‫قبيحا أن ينسب إلى السفه سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس من خلى بين عبيده وبين إمائه منا يزني بعضهم ببعض وهو ال يعجز عن‬
‫التفريق بينهم يكون سفيها؟ ورب العالمين عز وجل قد خلى بين عبيده وإمائه يزني بعضهم‬
‫ببعض وهو يقدر على التفريق بينهم وليس سفيها‪ ،‬وكذلك من أراد‬

‫( ‪)1/174‬‬

‫السفه منا كان سفيها‪ ،‬ورب العالمين عز وجل يريد السفه وليس سفيها‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬من أراد طاعة اهلل منا كان مطيعا‪ ،‬كما أن من أراد السفه كان سفيها ورب‬
‫العالمين عز وجل يريد الطاعة وليس مطيعا‪ ،‬فكذلك يريد السفه وليس سفيها‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬قال اهلل تعالى‪( :‬ولو شاء اهلل ما اقتتلوا) من اآلية (‪ )2/ 253‬فأخبر أنه لو شاء أن‬
‫ال يقتتلوا ما اقتتلوا‪،‬‬

‫( ‪)1/175‬‬

‫قال‪( :‬ولكن اهلل يفعل ما يريد) من آية (‪ )2/ 253‬من القتال‪ ،‬فإذا وقع القتال فقد شاءه‪،‬‬
‫كما أنه قال‪( :‬ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) من اآلية (‪ )6/ 28‬فقد أوجب أن الرد لو كان‬
‫إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر‪ ،‬وأنهم إذا لم يرّد هم إلى الدنيا لم يعودوا‪ ،‬فكذلك لو شاء اهلل أن‬
‫ال يقتتلوا لما اقتتلوا‪ ،‬وإذا اقتتلوا فقد شاء أن يقتتلوا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬قال اهلل تعالى‪( :‬ولو شئنا آلتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني ألمألن‬
‫جهنم من الجنة والناس أجمعين) من اآلية (‪ )23/ 13‬وإذا حق القول بذلك فما شاء أن تؤتي‬
‫كل نفس هداها؛ ألنه إذا لم يؤتها هداها لما حق القول بتعذيب الكافرين‪ ،‬وإذا لم يرد ذلك‬

‫( ‪)1/176‬‬

‫فقد شاء ضاللتها‪.‬‬


‫فإن قالوا‪ :‬معنى ذلك لو شئنا جبرناهم على الهدى واضطررناهم إليه‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فإذا أجبرهم على الهدى واضطرهم إليه ليكونوا مهتدين‪ ،‬فإن قالوا‪ :‬نعم‪ .‬قيل لهم‪:‬‬
‫فإذا كان إذا فعل الهدى كانوا مهتدين‪ ،‬فما أنكرتم لو فعل كفر الكافرين فكانوا كافرين‪،‬‬
‫وهذا هدم قولهم؛ ألنهم زعموا أنه ال يفعل الكفر إال كافر‪.‬‬
‫ويقال لهم أيضا‪ :‬على أي وجه يؤتيهم الهدى لو آتاهم إياه‪ ،‬وشاء ذلك لهم‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬على اإللجاء‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وإذا ألجأهم إلى ذلك هل ينفعهم ما يفعلونه على طريق اإللجاء؟ فمن قولهم‪ :‬ال‪.‬‬

‫( ‪)1/177‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فإذا أخبر أنه لو شاء آلتاهم الهدى لوال ما حق منه من القول أنه يمأل جهنم‪ ،‬وإذا‬
‫كان لو ألجأهم لم يكن نافعا لهم وال مزيال للعذاب عنهم‪ ،‬كما لم ينفع فرعون قوله الذي‬
‫قاله عند الغرق واإللجاء‪ ،‬فال معنى لقولكم‪ ،‬ألنه لوال ما حق من القول ألوتيت كل نفس‬
‫هداها‪ ،‬وإتيان الهدى على الوجه الذي قلتموه ال يزيل العذاب‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬قال اهلل تعالى‪( :‬ولو بسط اهلل الرزق لعباده لبغوا في األرض) من اآلية (‪/ 27‬‬
‫‪ ، )42‬وقال تعالى‪( :‬ولوال أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم‬
‫سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون) من اآلية (‪ )43/ 33‬مخبرا أنه لوال أن يكون الناس‬
‫مجتمعين على الكفر لم يبسط لهم الرزق ولم يجعل للكافرين سقفا من فضة‪ ،‬فما أنكرتم من‬
‫أنه تعالى لو لم يرد أن يكفر الكافرين ما خلقهم مع علمه بأنه إذا خلقهم كانوا‬

‫( ‪)1/178‬‬

‫كافرين‪ ،‬كما أنه لو أراد أن ال يكون الناس على الكفر مجتمعين لم يجعل للكافرين سقفا من‬
‫فضة ومعارج عليها يظهرون؛ لئال يكونوا جميعا على الكفر متطابقين‪ ،‬إذا كان في معلومه أنه‬
‫لو لم يفعل ذلك لكانوا جميعا على الكفر مطبقين‪.‬‬

‫( ‪)1/180‬‬

‫الباب التاسع الكالم في تقدير أعمال العباد واالستطاعة والتعديل والتجوير‬


‫يقال للقدرية‪ :‬هل يجوز أن يعلم اهلل عز وجل عباده شيئا ال يعلمه؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال يعلم اهلل عباده شيئا إال وهو به عالم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فكذلك ال يقدرهم على شيء إال وهو عليه قادر‪ ،‬فال بد من اإلجابة إلى ذلك‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فإذا قدرهم على الكفر‪ ،‬فهو قادر أن يخلق الكفر لهم‪ ،‬وإذا قدر على خلق الكفر‬
‫لهم فلم أبيتم أن يخلق كفرهم فاسدا متناقضا باطال‪ ،‬وقد قال تعالى‪( :‬فعال لما يريد) من‬
‫اآلية (‪)11/ 107‬‬

‫( ‪)1/181‬‬
‫وإذا كان الكفر مما أراد فقد فعله وقدره‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويرد عليهم في اللطف‪ .‬يقال لهم‪ :‬أليس اهلل عز وجل قادر أن يفعل بخلقه من بسط الرزق ما‬
‫لو فعله بهم لبغوا في األرض؟ وأن يفعل بهم ما لو فعله بالكفار لكفروا؟ كما قال تعالى‪( :‬ولو‬
‫بسط اهلل الرزق لعباده لبغوا في األرض) ‪ ،‬وكما قال‪( :‬ولوال أن يكون الناس أمة واحدة‬
‫لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) من اآلية (‪ . )43/ 33‬فال بد من نعم‪.‬‬

‫( ‪)1/182‬‬

‫يقال لهم‪ :‬فما أنكرتم من أنه قادر أن يفعل بهم لطفا لو فعله بهم آلمنوا أجمعين‪ ،‬كما أنه‬
‫قادر أن يفعل بهم أمرا لو فعله بهم لكفروا كلهم‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬ولوال فضل اهلل عليكم ورحمته التبعتم الشيطان إال‬
‫قليال) من اآلية (‪( ، )4/ 83‬ولوال فضل اهلل عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) من‬
‫اآلية (‪ ، )24/ 21‬وقال‪( :‬فاطلع فرآه في سواء الجحيم) (‪ )37/ 55‬يعني في وسط‬
‫الجحيم‪ ،‬قال‪( :‬تاهلل إن كدت لتردين ولوال نعمة ربي لكنت من المحضرين) من اآلية (‪- 56‬‬
‫‪. )37/ 57‬‬
‫ما الفضل الذي فعله بالمؤمنين‪ ،‬الذي لو لم يفعله التبعوا الشيطان‪ ،‬ولو لم يفعله ما زكى‬
‫منهم من أحد أبدا؟ وما النعمة التي لو لم يفعلها لكانوا من‬

‫( ‪)1/183‬‬

‫المحضرين؟ وهل ذلك شيء لم يفعله بالكافرين وخص به المؤمنين؟‬


‫فإن قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فقد تركوا قولهم‪ ،‬وأثبتوا هلل تعالى نعما وفضال على المؤمنين ابتدأهم بجميعه‪ ،‬ولم ينعم بمثله‬
‫على الكافرين‪ ،‬وصاروا إلى القول بالحق‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬قد فعل اهلل ذلك أجمع بالكافرين لما فعله بالمؤمنين‪ ،‬فقل لهم‪ :‬فإذا كان اهلل تعالى‬
‫قد فعل ذلك أجمع بالكافرين فلم يكونوا زاكين‪ ،‬وكانوا للشيطان متبعين‪ ،‬وفي النار‬
‫محضرين‪.‬‬
‫وهل يجوز أن يقول للمؤمنين‪ :‬لوال أني خلقت لكم أيدي وأرجل لكنتم للشيطان متبعين‪،‬‬
‫وهو قد خلق األيدي واألرجل للكافرين وكانوا للشيطان متبعين؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال يجوز ذلك‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وكذلك ال يجوز ما قلتموه‪.‬‬
‫وهذا يبين أن اهلل تعالى اختص المؤمنين من النعم والتوفيق والتسديد‬

‫( ‪)1/184‬‬

‫بما لم يعط الكافرين‪ ،‬وفضل عليهم المؤمنين‪.‬‬

‫مسألة في االستطاعة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليست استطاعة اإليمان نعمة من اهلل تعالى وفضال وإحسانا؟‬
‫فإذا قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فما أنكرتم أن يكون توفيقا وتسديدا‪ ،‬فال بد من اإلجابة إلى ذلك‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فإذا كان الكافرون قادرين على اإليمان‪ ،‬فما أنكرتم من أن يكونوا موفقين‬
‫لإليمان‪ ،‬ولو كانوا موفقين مسددين لكانوا ممدوحين؛ وإذ لم يجز ذلك لم يجز أن يكونوا‬
‫على اإليمان قادرين‪ ،‬ووجب أن يكون اهلل تعالى اختص بالقدرة على اإليمان للمؤمنين‪.‬‬

‫( ‪)1/185‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬لو كانت القدرة على الكفر قدرة على اإليمان‪ ،‬فقد رغب إليه في أن يقدره على‬
‫الكفر‪ ،‬فلما رأينا المؤمنين يرغبون إلى اهلل تعالى في قدرة اإليمان‪ ،‬ويزهدون في قدرة الكفر؛‬
‫علمنا أن الذي رغبوا فيه غير الذي زهدوا فيه‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أخبرونا عن قوة اإليمان‪ ،‬أليست فضال من اهلل تعالى؟‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فالتفضل‪ ،‬أليس هو ما للمتفضل أن ال يتفضل به‪ ،‬وله أن يتفضل به‪ ،‬فال بد من‬
‫اإلجابة إلى ذلك؛ ألن ذلك هو الفرق بين الفضل وبين االستحقاق‪.‬‬
‫فيقال لهم‪ :‬وللمتفضل إذا أمر باإليمان أن يرفع التفضل‪ ،‬وال يتفضل به فيأمرهم بإيمان‪ ،‬وإن‬
‫لم يعطهم قدرة اإليمان وخذلهم‪ ،‬وهذا هو قولنا ومذهبنا‪.‬‬

‫( ‪)1/186‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬هل يقدر اهلل على توفيق يوفق به الكافرين حتى يكونوا مؤمنين؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال‪ .‬نطقوا بتعجيز اهلل‪ ،‬تعالى عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬نعم يقدر على ذلك‪ ،‬ولو فعل بهم التوفيق آلمنوا‪ ،‬تركوا قولهم‪ ،‬وقالوا بالحق‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫وإن سألوا عن قول اهلل تعالى‪( :‬وما اهلل يريد ظلما للعباد) من اآلية (‪ ، )40/ 31‬وعن قوله‪:‬‬
‫(وما اهلل يريد ظلما للعالمين) من اآلية (‪. )3/ 103‬‬
‫قيل لهم‪ :‬معنى ذلك أنه ال يريد أن يظلمهم؛ ألنه قال‪( :‬وما اهلل يريد ظلما لهم) ولم يقل‪ :‬ال‬
‫يريد ظلم بعضهم لبعض‪ ،‬فلم يرد أن يظلمهم وإن كان أراد أن يتظالموا‪.‬‬

‫( ‪)1/187‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫وإن سألوا عن قول اهلل تعالى‪( :‬ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) من اآلية (‪، )67/ 3‬‬
‫قالوا‪ :‬والكفر متفاوت‪ ،‬فكيف يكون من خلق اهلل؟‬
‫والجواب عن ذلك‪ :‬أن اهلل تعالى قال‪( :‬خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن‬
‫من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا‬
‫وهو حسير) من اآلية (‪ )67/ 4 - 3‬فإنما عنى ما ترى في السماوات من فطور؛ ألنه ذكر‬
‫خلق السماوات‪ ،‬ولم يذكر الكفر‪ ،‬وإذا كان هذا على ما قلناه بطل ما قالوه‪ .‬والحمد هلل رب‬
‫العالمين‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬هل تعرفون هلل عز وجل نعمة على أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه خص بها دون‬
‫أبي جهل ابتداء؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال‪ ،‬فُح ش قولهم‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬تركوا مذاهبهم‪،‬‬

‫( ‪)1/188‬‬

‫ألنهم ال يقولون إن اهلل خص المؤمنين في االبتداء بما لم يخص به الكافرين‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫وإن سألوا عن قوله تعالى‪( :‬ما خلقنا السماء واألرض وما بينهما باطال) من اآلية (‪/ 27‬‬
‫‪ ، ) 38‬فقالوا‪ :‬هذه اآلية تدل على أن اهلل عز وجل لم يخلق الباطل‪ .‬والجواب عن ذلك‪ :‬أن‬
‫اهلل عز وجل أراد بذلك المشركين الذين قالوا‪ :‬ال حشر وال نشور وال إعادة‪ ،‬فكأنه قال‬
‫تعالى‪ :‬ما خلقت ذلك‪ ،‬وأنا ال أثيب من أطاعني‪ ،‬وال أعاقب من عصاني‪ ،‬كما ظن الكافرون‬
‫أنه ال حشر وال نشر وال ثواب وال عقاب‪ ،‬أال تراه قال‬

‫( ‪)1/189‬‬

‫‪( :‬ذلك َظُّن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) من اآلية (‪ ، )38/ 27‬وبَّين ذلك‬
‫بقوله‪( :‬أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في األرض أم نجعل المتقين‬
‫كالفجار) (‪ )38/ 28‬أي ال نسوي بينهم في أن نفنيهم أجمعين وال نعيدهم‪ ،‬فيكون سبيلهم‬
‫سبيال واحدا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫وسألوا عن قوله تعالى‪( :‬ما أصابك من حسنة فمن اهلل وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (‬
‫‪)4/ 79‬‬
‫والجواب عن ذلك‪ :‬أن اهلل تعالى قال‪( :‬وإن تصبهم حسنة) من اآلية (‪ )4/ 78‬يعني الخصب‬
‫والخير‪( ،‬يقولون هذا من عند اهلل وإن تصبهم سيئة) من اآلية (‪)4/ 78‬‬

‫( ‪)1/190‬‬

‫يعني الجدب والقحط والمصائب‪( ،‬قالوا هذه من عندك) من اآلية (‪ )4/ 78‬أي بشؤمك‪،‬‬
‫قال اهلل تعالى‪( :‬يا محمد قل كل من عند اهلل فمال هؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا) من‬
‫اآلية (‪ )4/ 78‬في قولهم‪( :‬ما أصابك من حسنة فمن اهلل وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (‬
‫‪ )4/ 79‬فحذف " في قولهم " ألن ما تقدم من الكالم يدل عليه؛ ألن القرآن ال يتناقض‪ ،‬وال‬
‫يجوز أن يقول في آية إن الكل من عند اهلل‪ ،‬ثم يقول في اآلية األخرى التي تليها إن الكل‬
‫ليس من عند اهلل‪ ،‬على أن ما أصاب الناس هو غير ما أصابوه‪ ،‬وهذا يبين بطالن تعلقهم بهذه‬
‫اآلية‪ ،‬ويوجب عليهم الحجة‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫وإن سألوا عن قول اهلل تعالى‪( :‬وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون) (‪. )15/ 56‬‬

‫( ‪)1/191‬‬

‫والجواب عن ذلك‪ :‬أن اهلل تعالى إنما عنى المؤمنين دون الكافرين؛ ألنه أخبرنا أنه ذرأ لجهنم‬
‫كثيرا من خلقه‪ ،‬فالذين خلقهم لجهنم‪ ،‬وأحصاهم‪ ،‬وعدهم‪ ،‬وكتبهم بأسمائهم وأسماء آبائهم‬
‫وأمهاتهم؛ غير الذين خلقهم لعبادته‪.‬‬

‫مسألة في التكليف‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس قد كلف اهلل عز وجل الكافرين أن يستمعوا الحق ويقبلوه ويؤمنوا باهلل؟‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬
‫فيقال لهم‪ :‬فقد قال اهلل تعالى‪( :‬ما كانوا يستطيعون السمع) من اآلية (‪ ، )11/ 20‬وقال‪:‬‬
‫(وكانوا ال يستطيعون سمعا) من اآلية (‪ ، )18/ 101‬وقد كلفهم استماع الحق‪.‬‬

‫( ‪)1/192‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فال‬
‫يستطيعون) (‪ ، )68/ 42‬أليس قد أمرهم اهلل تعالى بالسجود في اآلخرة؟‬
‫وجاء في الخبر‪( :‬أن المنافقين يجعل في أصالبهم كالصفائح فال يستطيعون السجود) ‪ ،‬وفي‬
‫هذا تثبيت ما نقوله من أنه ال يجب لهم على اهلل تعالى إذا أمرهم أن يقدرهم‪ ،‬وهو بطالن‬
‫قول القدرية‪.‬‬

‫مسألة في إيالم األطفال‪:‬‬


‫ويقال لهم‪ :‬أليس قد آلم اهلل تعالى األطفال في الدنيا بآالم أوصلها إليهم‪ ،‬كنحو الجذام الذي‬
‫يقطع أيديهم وأرجلهم وغير ذلك ‪ -‬أعاذنا اهلل من ذلك ‪ -‬كما يؤلمهم به‪ ،‬وكان ذلك سائغا‬
‫جائزا؟‬
‫فإذا قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬

‫( ‪)1/193‬‬

‫قيل لهم‪ :‬فإذا كان هذا عدال فما أنكرتم أن يؤلمهم في اآلخرة‪ ،‬ويكون ذلك منه عدال‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬آلمهم في الدنيا ليعتبر بهم اآلباء‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فإذا فعل بهم ذلك في الدنيا ليعتبر بهم اآلباء‪ ،‬وكان ذلك منه عدال فلم ال يؤلم‬
‫أطفال الكافرين في اآلخرة ليغيظ بذلك آباءهم‪ ،‬ويكون ذلك منه عدال؟‬
‫وقد قيل في الخبر‪( :‬إن أطفال المشركين تؤجج لهم نار يوم القيامة ثم يقال لهم اقتحموها‪،‬‬
‫فمن اقتحمها أدخله الجنة‪ ،‬ومن لم يقتحمها أدخله النار)‬
‫وقد قيل في األطفال‪ ،‬وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬إن شئت أسمعتك ضغاءهم في‬
‫النار) ‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس قد قال اهلل تبارك وتعالى‬

‫( ‪)1/194‬‬
‫‪( :‬تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب) (‪/ 3 - 1‬‬
‫‪ ، )111‬وأمره مع ذلك باإليمان‪ ،‬فأوجب عليه أن يعلم أنه ال يؤمن‪ ،‬وأن اهلل صادق في‬
‫إخباره عنه أنه ال يؤمن‪ ،‬وأمره مع ذلك أن يؤمن وال يجتمع اإليمان والعلم بأنه ال يكون وال‬
‫يقدر على أن يؤمن‪ ،‬وأن يعلم أنه ال يؤمن‪.‬‬
‫وإذا كان هذا هكذا فقد أمر اهلل سبحانه أبا لهب بما ال يقدر عليه؛ ألنه أمره أن يؤمن‪ ،‬وأنه‬
‫يعلم أنه ال يؤمن‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس أمر اهلل عز وجل باإليمان من علم أنه ال يؤمن؟‬
‫فمن قولهم نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فأنتم قادرون على اإليمان‪ ،‬ويتأتى لكم ذلك‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال‪ ،‬وافقونا‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬زعموا أن العباد يقدرون على الخروج من علم اهلل‪ .‬تعالى اهلل عن ذلك علوا‬
‫كبيرا‪.‬‬

‫( ‪)1/195‬‬

‫مسألة عن المعتزلة‪:‬‬
‫قال الشيخ أبو الحسن األشعري رحمة اهلل عليه‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس المجوس أثبتوا الشيطان يقدر على الشر الذي ال يقدر اهلل عز وجل عليه‬
‫فكانوا بقولهم هذا كافرين؟ فال بد من نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فإذا زعمتم أن الكافرين يقدرون على الكفر‪ ،‬واهلل تعالى ال يقدر عليه فقد زدتم‬
‫على المجوس في قولكم؛ ألنكم تقولون معهم‪ :‬إن الشيطان يقدر على الشر‪ ،‬واهلل ال يقدر‬
‫عليه‪ ،‬وهذا ما بينه الخبر عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأن القدرية مجوس هذه األمة‪،‬‬
‫وإنما صاروا مجوس هذه األمة؛ ألنهم قالوا بقول المجوس‪.‬‬

‫( ‪)1/196‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫وزعمت القدرية أنا نستحق اسم القدر؛ ألنا نقول إن اهلل تعالى قدر الشر والكفر‪ ،‬فمن يثبت‬
‫القدر كان قدريا دون من لم يثبته‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬القدري هو من يثبت القدر لنفسه دون ربه عز وجل‪ ،‬وأنه يقدر أفعاله دون خالقه‪،‬‬
‫وكذلك هو في اللغة؛ ألن الصائغ‪ :‬هو من زعم أنه يصوغ دون من يزعم أنه يصاغ له‪،‬‬
‫والنجار‪ :‬هو من يضيف النجارة إلى نفسه دون أنه ينجر له‪.‬‬
‫فلما كنتم تزعمون أنكم تقدرون أعمالكم وتفعلونها دون ربكم‪ ،‬وجب أن تكونوا قدرية‪،‬‬
‫ولم نكن نحن قدرية؛ ألنا لم نضف األعمال إلى‬

‫( ‪)1/197‬‬

‫أنفسنا دون ربنا عز وجل‪ ،‬ولم نقل إنا نقدرها دونه‪ ،‬وقلنا‪ :‬إنها تقدر لنا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا كان من أثبت التقدير هلل عز وجل قدريا‪ ،‬فيلزمكم إذا زعمتم أن اهلل تعالى‬
‫قدر السماوات واألرض‪ ،‬وقدر الطاعات أن تكونوا قدرية‪ ،‬فإذا لم يلزم هذا فقد بطل قولكم‬
‫وانتقض كالمكم‪.‬‬

‫مسألة في الختم‪:‬‬
‫يقال لهم‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬ختم اهلل على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم‬
‫غشاوة) من اآلية (‪ ، )2/ 7‬وقال تعالى‪( :‬فمن يرد اهلل أن يهديه يشرح صدره لإلسالم ومن‬
‫يرد أن يضله‬

‫( ‪)1/198‬‬

‫يجعل صدره ضيقا حرجا) من اآلية (‪ ، )6/ 125‬فخبرونا عن الذين ختم اهلل على قلوبهم‬
‫وعلى سمعهم‪ ،‬أتزعمون أنه هداهم وشرح لإلسالم صدورهم وأضلهم‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬تناقض قولهم‪.‬‬
‫وقيل لهم‪ :‬كيف تكون الصدور مشروحة لإليمان‪ ،‬وهي ضيقة حرجة مختوم عليها‪ ،‬وكيف‬
‫يجتمع الفعل الذي قال اهلل عز وجل‪( :‬أم على قلوب أقفالها) من اآلية (‪ )47/ 24‬مع‬
‫الشرح‪ ،‬والضيق مع السعة‪ ،‬والهدى مع الضالل‪ ،‬إن كان هذا جاز أن يجتمع التوحيد‬
‫واإللحاد الذي هو ضد التوحيد‪ ،‬والكفر واإليمان معا في قلب واحد‪ ،‬وإن لم يجز هذا لم‬
‫يجز ما قلتموه‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬الختم والضيق والضالل ال يجوز أن يجتمع مع شرح اهلل الصدر‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وكذلك الهدى ال يجتمع مع الضالل‪ ،‬وإذا كان هذا هكذا‬

‫( ‪)1/199‬‬

‫فما شرح اهلل صدور الكافرين لإليمان‪ ،‬بل ختم اهلل على قلوبهم وأقفلها عن الحق‪ ،‬وشد‬
‫عليها‪ ،‬كما دعا نبي اهلل موسى صلى اهلل عليه وسلم على قومه فقال‪( :‬ربنا اطمس على‬
‫أموالهم واشدد على قلوبهم فال يؤمنوا حتى تروا العذاب األليم) من اآلية (‪ )10/ 88‬قال اهلل‬
‫تعالى‪( :‬قد أجبت دعوتكما) من آية (‪ ، )10/ 89‬وقال تعالى يخبر عن الكافرين إنهم قالوا‪:‬‬
‫(قلوبنا في أكَّنة مما تدعوننا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) من اآلية (‪)41/ 5‬‬
‫‪ ،‬فإذا خلق اهلل األكنة في قلوبهم‪ ،‬والقفل والزيغ؛ ألن اهلل تعالى قال‪( :‬فلما زاغوا أزاغ اهلل‬
‫قلوبهم) من اآلية (‪)16/ 5‬‬

‫( ‪)1/200‬‬

‫والختم وضيق الصدر تم أمرهم باإليمان الذي علم أنه ال يكون‪ ،‬فقد أمرهم بما ال يقدرون‬
‫عليه‪ ،‬وإذا خلق اهلل في قلوبهم ما ذكرنا من الضيق عن اإليمان‪ ،‬فهل الضيق عن اإليمان إال‬
‫الكفر الذي في قلوبهم؟ وهذا يبين أن اهلل خلق كفرهم ومعاصيهم‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬قال اهلل تعالى لنبيه صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬ولوال أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم‬
‫شيئا قليال) (‪ ، )17/ 74‬وقال تعالى يخبر عن يوسف صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬ولقد همت به‬
‫وهم بها لوال أن رأى برهان ربه) من اآلية (‪)12/ 24‬‬

‫( ‪)1/201‬‬
‫فحدثونا عن ذلك التثبيت والبرهان‪ ،‬هل فعله اهلل عز وجل بالكافرين‪ ،‬أو ما هو مثله؟‬
‫فإن قالوا) ال‪ ،‬تركوا القول بالقدر‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فإذا كان لم يركن إليهم من أجل التثبيت فيجب لو كان فعل ذلك بالكافرين أن ال‬
‫يثبتوا على الكفر‪ ،‬وإذا لم يكونوا عن الكفر مفترقين فقد بطل أن يكون فعل بهم مثل ما فعله‬
‫بالنبي صلى اهلل عليه وسلم من التثبيت الذي لما فعله به لم يركن إلى الكافرين‪.‬‬

‫مسألة في االستثناء‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬خبرونا عن مطالبة رجل بحق‪ ،‬فقال له‪ :‬واهلل ألعطينك ذلك غدا إن شاء اهلل‬
‫تعالى‪ ،‬أليس اهلل شائيا أن يعطيه حقه؟‬
‫فمن قولهم‪ :‬نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬أفرأيتم إن جاء الغد فلم يعطه حقه‪،‬‬

‫( ‪)1/202‬‬

‫أليس ال يحنث؟ فال بد من نعم‪.‬‬


‫يقال لهم‪ :‬فلو كان اهلل شاء أن يعطيه حقه لحنث إذا لم يعطه‪ ،‬كما لو قال‪ :‬واهلل ألعطينك‬
‫حقك إذا طلع الفجر غدا‪ ،‬ثم طلع ولم يعطه أنه يكون حانثا‪.‬‬

‫مسألة في اآلجال‪:‬‬
‫يقال لهم‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬فإذا جاء أجلهم فال يستأخرون ساعة وال يستقدمون) من‬
‫اآلية (‪ ، )16/ 61‬وقال تعالى‪( :‬ولن يؤخر اهلل نفسا إذا جاء أجلها) من اآلية (‪ )63/ 11‬؟‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬خبرونا عمن قتله قاتله ظلما‪ ،‬أتزعمون أنه قتل في أجله‪ ،‬أو بأجله‬

‫( ‪)1/203‬‬
‫؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬وافقوا وقالوا بالحق‪ ،‬وترك القدر‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬ال‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فمتى أجل هذا المقتول؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬الوقت الذي علم اهلل أنه لو لم يقتل لتزوج امرأة أنها امرأته‪ ،‬وإن لم يبلغ إلى أن‬
‫يتزوجها‪ ،‬وإذا كان في معلوم اهلل أنه لو لم يقتل وبقي لكفر أن تكون النار داره‪.‬‬
‫وإذا لم يجز هذا لم يجز أن يكون الوقت الذي لم يبلغ إليه أجال له‪ ،‬على أن هذا القول مقيد‬
‫لقول اهلل تعالى‪( :‬فإذا جاء أجلهم ال يستأخرون ساعة وال يستقدمون) من اآلية (‪. )16/ 61‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا كان القاتل عندكم قادرا على أن ال يقتل هذا المقتول فيعيش‪ ،‬فهو قادر على‬
‫قطع أجله وتقديمه قبل أجله‪ ،‬وهو قادر على تأخيره إلى أجله‪ ،‬فاإلنسان على قولكم يقدر أن‬
‫يقدم آجال العباد ويؤخرها‪ ،‬ويقدر أن‬

‫( ‪)1/204‬‬

‫يبقي العباد ويبلغهم ويخرج أرواحهم‪ ،‬وهذا إلحاد في الدين‪.‬‬

‫مسألة في األرزاق‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬خبرونا عمن اغتصب طعاما فأكله حراما‪ ،‬هل رزقه اهلل ذلك الحرام؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬تركوا القدر‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬ال‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فمن أكل جميع عمره الحرام‪ ،‬فما رزقه اهلل شيئا اغتذى به جسمه‪.‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬فإذا كان غيره يغتصب له ذلك الطعام ويطعمه إياه إلى أن مات‪ ،‬فرازق هذا‬
‫اإلنسان عندكم غير اهلل‪ ،‬وفي هذا إقرار منهم أن للخلق رازقين‪:‬‬
‫أحدهما يرزق الحالل‪ ،‬واآلخر يرزق الحرام‪ ،‬وأن الناس تنبت لحومهم وتشد عظامهم‪ ،‬واهلل‬
‫غير رازق لهم ما اغتذوا به‪.‬‬

‫( ‪)1/205‬‬
‫وإذا قلتم‪ :‬إن اهلل لم يرزقه الحرام‪ ،‬لزمكم أن اهلل لم يغذه به‪ ،‬وال جعله قواما لجسمه‪ ،‬وأن‬
‫لحمه وجسمه قام وعظمه اشتد بغير اهلل عز وجل‪ ،‬وهو ممن رزقه الحرام‪ ،‬وهذا كفر عظيم‬
‫إن احتملوا‪.‬‬

‫مسألة أخرى في األرزاق‪:‬‬


‫ويقال لهم‪ :‬لم أبيتم أن يرزق اهلل الحرام؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ألنه لو رزق الحرام لملك الحرام‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬خبرونا عن الطفل الذي يتغذى من لبن أمه‪ ،‬وعن البهيمة التي ترعى الحشيش‪ ،‬من‬
‫يرزقهما ذلك؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬اهلل تعالى‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فمن مَّلكهما؟ وهل للبهيمة ِم لك؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬ال‪.‬‬

‫( ‪)1/206‬‬

‫قيل لهم‪ :‬فلم زعمتم أنه لو رزق الحرام لملك الحرام‪ ،‬وقد يرزق اهلل الشيء وال ُيَم ِّلُك ه؟‬
‫ويقال لهم‪ :‬هل أقدر اهلل العبد على الحرام ولم يمِّلْكه إياه؟‬
‫فمن قولهم‪ :‬نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فما أنكرتم أن يرزقه الحرام‪ ،‬وإن لم يمِّلكه إياه‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫يقال لهم‪ :‬إذا كان توفيق المؤمنين باهلل‪ ،‬فما أنكرتم أن يكون خذالن الكافرين من قبل اهلل‬
‫تعالى‪ ،‬وإال فإن زعمتم أن اهلل وفق الكافرين لإليمان فقولوا عصمهم من الكفر‪ ،‬وكيف‬
‫يعصمهم من الكفر وقد وقع الكفر منهم؟‬
‫فإن أثبتوا أن اهلل خذلهم‪ ،‬قيل لهم‪ :‬فالخذالن من اهلل أليس هو الكفر الذي خلقه فيهم؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬وافقوا‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬ال‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فما ذلك الخذالن الذي خلقه؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬تخليته إياهم والكفر‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬أو ليس من قولكم‪ :‬إن اهلل عز وجل خلى بين المؤمنين وبين الكفر؟‬

‫( ‪)1/207‬‬

‫فمن قولهم‪ :‬نعم‪.‬‬


‫قيل لهم‪ :‬فإذا كان الخذالن التخلية بينهم وبين الكفر‪ ،‬فقد لزمكم أن يكون خذل المؤمنين؛‬
‫ألنه خلى بينهم وبين الكفر‪ ،‬وهذا خروج عن الدين‪ ،‬فال بد لهم أن يثبتوا لهم الخذالن الكفر‬
‫الذي خلقه فيتركوا القول بالقدر‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫إن سأل سائل ِم ن أهل القدر‪ ،‬فقال‪ :‬هل يخلو العبد من أن يكون بين نعمة يجب عليه أن‬
‫يشكر اهلل عليها‪ ،‬أو بلية يجب عليه الصبر عليها؟‬
‫قيل له‪ :‬العبد ال يخلو من نعمة وبلية‪ ،‬والنعمة يجب على العبد أن يشكر اهلل عليها‪ ،‬والباليا‬
‫على ضربين‪:‬‬
‫منها ما يجب الصبر عليها كاألمراض واألسقام وما أشبه ذلك‪.‬‬
‫ومنها ما يجب عليه اإلقالع عنها كالكفر والمعاصي‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫وإن سألوا فقالوا‪ :‬أيما خير‪ ،‬الخير أو َم ن الخير منه؟‬
‫قيل لهم‪ :‬من كان الخير متفضال به فهو خير من الخير‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬فأيما شر‪ ،‬الشر أو من الشر منه؟‬

‫( ‪)1/208‬‬

‫قيل لهم‪ :‬من كان الشر منه جائزا به فهو أشر من الشر‪ ،‬واهلل تعالى يكون منه الشر خلقا‪،‬‬
‫وهو عادل به‪ ،‬ولذلك ال يلزمنا ما سألتم عنه على أنكم ناقضون ألصولكم؛ ألنه إن كان من‬
‫كان الشر منه فهو أشر من الشر‪ ،‬وقد خلق اهلل تعالى إبليس الذي هو أشر من الشر الذي‬
‫يكون منه‪ ،‬فقد خلق ما هو أشر من الشرور كلها‪ ،‬وهذا نقض دينكم وفساد مذهبكم‪.‬‬
‫مسألة في الهدى‪:‬‬
‫يقال للمعتزلة‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬ألم ذلك الكتاب ال ريب فيه هدى للمتقين)‬

‫( ‪)1/209‬‬

‫فأخبر أن القرآن هدى للمتقين؟ فال بد من نعم‪.‬‬


‫يقال لهم‪ :‬أو ليس قد ذكر اهلل عز وجل القرآن فقال‪( :‬والذين ال يؤمنون باآلخرة في آذانهم‬
‫وقر وهو عليهم عمى) من اآلية (‪ )41/ 44‬فخبر أن القرآن على الكافرين عمى؟ فال بد من‬
‫نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فهل يجوز أن يكون من خبر اهلل عز وجل أن‬

‫( ‪)1/3‬‬

‫القرآن له هدى وهو عليه عمى؟ فال بد من ال‪.‬‬


‫يقال لهم‪ :‬فكما ال يجوز أن يكون القرآن عمى على من أخبر اهلل تعالى أنه له هدى‪ ،‬كذلك‬
‫ال يجوز أن يكون القرآن هدى لمن أخبر اهلل أنه عليه عمى‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ثم يقال لهم‪ :‬إذا جاز أن يكون دعاء اهلل إلى اإليمان هدى لمن َقِبل ولمن لم يقبل‪ ،‬فما‬
‫أنكرتم دعاء إبليس إلى الكفر إضالال لمن قبل ولمن لم يقبل‪ ،‬فإن كان دعاء إبليس إلى‬
‫الكفر إضالال للكافرين الذين قبلوا عنه‪ ،‬دون المؤمنين لم يقبلوا عنه‪ ،‬فما أنكرتم أن دعاء اهلل‬
‫تعالى إلى اإليمان هدى للمؤمنين الذين قبلوا عنه‪ ،‬دون الكافرين الذين لم يقبلوا عنه‪ ،‬وإال‬
‫فما الفرق بين ذلك؟‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس قال اهلل تعالى‬

‫( ‪)1/210‬‬
‫‪( :‬يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) من اآلية (‪ )2/ 26‬فهل يدل قوله‪( :‬يضل به كثيرا) على‬
‫أنه لم يضل الكل؛ ألنه لو أراد الكل لقال‪ :‬يضل به الكل‪ ،‬فلما قال‪( :‬يضل به كثيرا) علمنا‬
‫أنه لم يضل الكل؟ فال بد من نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فما أنكرتم أن قوله تعالى‪( :‬ويهدي به كثيرا) دليل على أنه لم يرد الكل؛ ألنه لو‬
‫أراد الكل لقال‪ :‬ويهدي به الكل‪ ،‬فلما قال تعالى‪( :‬ويهدي به كثيرا) علمنا أنه لم يهد الكل‪،‬‬
‫وفي هذا إبطال قولكم‪ :‬إن اهلل هدى الخلق أجمعين‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا قلتم إن دعاء اهلل إلى اإليمان هدى للكافرين الذين لم يقبلوا عن اهلل أمره‪ ،‬فما‬
‫أنكرتم أن يكون دعا اهلل إلى اإليمان نفعا وصالحا‬

‫( ‪)1/211‬‬

‫وتسديدا للكافرين الذين لم يقبلوا عن اهلل أمره‪ ،‬وما أنكرتم أن يكون عصمة لهم من الكفر‬
‫وإن لم يكونوا من الكفر معتصمين‪ ،‬وأن يكون توفيقا لإليمان وإن لم يوفقوا لإليمان‪ ،‬وفي‬
‫هذا ما يجب أن اهلل سدد الكافرين وأصلحهم وعصمهم ووفقهم لإليمان وإن كانوا كافرين‪،‬‬
‫وهذا ما ال يجوز؛ ألن الكافرين مخذولون‪.‬‬
‫وكيف يكونون موفقين لإليمان وهم مخذولون؟‬
‫فإن جاز أن يكون الكافر موفقا لإليمان‪ ،‬فما أنكرتم أن يكون اإليمان له متفقا‪ ،‬فإن استحال‬
‫هذا‪ ،‬فما أنكرتم أن يستحيل ما قلتموه‪.‬‬

‫مسألة في الضالل‪:‬‬
‫يقال لهم‪ :‬أضل اهلل تعالى الكافرين عن اإليمان‪ ،‬أو عن الكفر؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬عن الكفر‪.‬‬

‫( ‪)1/212‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فكيف يكونون ضالين عن الكفر ذاهبين عنه‪ ،‬وهم كافرون؟‬
‫وإن قالوا‪ :‬أضلهم عن اإليمان‪ ،‬تركوا قولهم‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬نقول‪ :‬إن اهلل أضلهم‪ ،‬ولم يضلهم عن شيء‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬ما الفرق بينكم وبين من قال‪ :‬إن اهلل هدى المؤمنين ال إلى شيء؟‬
‫فإن استحال أن يهدي المؤمنين ال إلى اإليمان‪ ،‬فما أنكرتم من أنه محال أن يضل الكافرين ال‬
‫إلى اإليمان‪.‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬ما معنى قول اهلل تعالى‪( :‬ويضل اهلل الظالمين) من اآلية (‪ )14/ 27‬؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬معنى ذلك أنه يسميهم ضالين‪ ،‬ويحكم عليهم بالضالل‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬أليس خاطب اهلل العرب بلغتهم فقال‪( :‬بلسان عربي مبين) من اآلية (‪، )26/ 195‬‬

‫( ‪)1/213‬‬

‫وقال‪( :‬وما أرسلنا من رسول إال بلسان قومه) من اآلية (‪ )14/ 4‬؟ فال بد من نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬وإذا كان اهلل عز وجل أنزل القرآن بلسان العرب‪ ،‬فمن أين وجدتم في لغة العرب‬
‫أن يقال‪ :‬أضل فالن فالنا أي سماه ضاال؟‬
‫فيقال‪ :‬قالوا وجدنا القائل يقول‪ :‬إذا قال رجل لرجل ضال قد ضللت‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬قد وجدنا لعمري القائل‪ :‬ضلل فالن فالنا أنه سماه ضاال‪ ،‬ولم نجدهم يقولون‪:‬‬
‫أضل فالن فالنا بهذا المعنى‪ ،‬فلما قال اهلل تعالى‪( :‬ويضل اهلل الظالمين) من اآلية (‪)14/ 27‬‬
‫لم يجز أن يكون معنى ذلك االسم‪ ،‬والحكم إذا لم يجز في لغة العرب أن يقال‪ :‬أضل فالن‬
‫فالنا‪ ،‬بأن سماه ضاال‪ ،‬بطل تأويلكم إذا كان خالف لسان العرب‪.‬‬

‫( ‪)1/214‬‬

‫مسألة أخرى‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا قلتم‪ :‬إن اهلل أضل الكافرين بأن سماهم ضالين‪ ،‬وليس ذلك في اللغة على ما‬
‫ادعيتموه‪ ،‬فيلزمكم إذا سمى النبي صلى اهلل عليه وسلم قوما ضالين فاسدين بأن يكون قد‬
‫أضلهم وأفسدهم بأن سماهم ضالين فاسدين‪ ،‬وإذا لم يجز هذا بطل أن يكون معنى (يضل اهلل‬
‫الظالمين) االسم والحكم كما ادعيتم‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬من يهد اهلل فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا‬
‫مرشدا) من اآلية (‪ ، )18/ 17‬وقال تعالى‪( :‬كيف يهدي اهلل قوما كفروا بعد إيمانهم) من‬
‫اآلية (‪ )3/ 86‬فذكر أنه يهديهم‪ ،‬وقال تعالى‬

‫( ‪)1/215‬‬

‫‪( :‬واهلل يدعو إلى دار السالم ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) اآلية من (‪)10/ 25‬‬
‫فجعل الدعاء عاما‪ ،‬والهدى خاصا‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬ال يهدي القوم الكافرين) من اآلية (‪/ 264‬‬
‫‪ )2‬فإذا أخبر اهلل عز وجل أنه ال يهدي القوم الكافرين‪ ،‬فكيف يجوز لقائل أن يقول‪ :‬إنه‬
‫هدى الكافرين مع إخباره أنه ال يهديهم‪ ،‬ومع قوله تعالى‪( :‬إنك ال تهدي من أحببت ولكن‬
‫اهلل يهدي من يشاء) من اآلية (‪ ، )28/ 56‬ومع قوله تعالى‪( :‬ليس عليك هداهم ولكن اهلل‬
‫يهدي من يشاء) من اآلية (‪ ، )2/ 272‬ومع قوله تعالى‪( :‬ولو شئنا آلتينا كل نفس هداها) من‬
‫اآلية (‪، )32/ 13‬‬

‫( ‪)1/216‬‬

‫؟‬
‫وإن جاز هذا جاز أن يقال‪ :‬أضل المؤمنين‪ ،‬مع قوله تعالى‪( :‬ومن يهد اهلل المهتد) من اآلية (‬
‫‪ ، )17/ 97‬ومع قوله‪( :‬هدى للمتقين) من اآلية (‪ ، )2/ 2‬فإن لم يكن ذلك‪ ،‬فما أنكرتم أنه‬
‫ال يجوز أن يهدي الكافرين مع قوله تعالى‪( :‬ال يهدي القوم الكافرين) من اآلية (‪)2/ 264‬‬
‫ومع سائر اآليات التي طالبناكم بها‪ .‬مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله اهلل على علم وختم‬
‫على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) من اآلية (‪ )45/ 23‬؟‬

‫( ‪)1/217‬‬
‫فال بد من نعم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬فأضلهم ليضلوا أو ليهتدوا؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬أضلهم ليهتدوا‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وكيف يجوز أن يضلهم ليهتدوا‪ ،‬وإن جاز هذا جاز أن يهديهم ليضلوا‪ ،‬وإذا لم‬
‫يجز أن يهدي المؤمنين ليضلوا‪ ،‬فما أنكرتم من أنه ال يجوز أن يضل الكافرين ليهتدوا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬إذا زعمتم أن اهلل هدى الكافرين فلم يهتدوا‪ ،‬فما أنكرتم أن ينفعهم فال ينتفعون‪،‬‬
‫وأن يصلحهم فال ينصلحون‪ ،‬وإذا جاز أن ينفع من ال ينتفع بنفعه فما أنكرتم من أن يضر من‬
‫ال تلحقه المضرة‪ ،‬فإن كان ال يضر إال من يلحقه الضرر فكذلك ال ينفع إال منتفعا‪ ،‬ولو جاز‬
‫أن ينفع من ليس منتفعا‪ ،‬ويهدي من ليس مهتديا؛ جاز أن يقدر من ليس مقتدرا‪ ،‬وإذا استحال‬
‫ذلك استحال أن ينفع من ليس منتفعا‪ ،‬ويهدي من ليس مهتديا‪.‬‬

‫( ‪)1/218‬‬

‫مسألة يسألون عنها‪:‬‬


‫يقولون‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات)‬
‫من اآلية (‪ )2/ 185‬فما أنكرتم أن يكون القرآن هدى للكافرين والمؤمنين‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬اآلية خاصة؛ ألن اهلل تعالى قد بين لنا أنه هدى للمتقين‪ ،‬وخبرنا أنه ال يهدي‬
‫الكافرين‪ ،‬والقرآن ال يتناقض‪ ،‬فوجب أن يكون قوله‪( :‬هدى للناس) أراد المؤمنين دون‬
‫الكافرين‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى‪( :‬إنما تنذر من اتبع الذكر) من اآلية (‪)36/ 11‬‬

‫( ‪)1/219‬‬

‫‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬إنما أنت منذر من يخشاها) (‪ ، )79/ 45‬وقد أنذر النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم من اتبع الذكر ومن لم يتبع‪ ،‬ومن خشي ومن لم يخش؟‬
‫قيل له‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬فما أنكرتم أن يكون قوله تعالى‪( :‬هدى للمتقين) من اآلية (‪ )2/ 2‬أراد به هدى‬
‫لهم ولغيرهم؟‬
‫قيل لهم‪ :‬إن معنى قول اهلل تعالى‪( :‬إنما ينذر من اتبع الذكر) من اآلية (‪ )36/ 11‬إنما أراد به‬
‫ينتفع بإنذارك من اتبع الذكر‪ ،‬وقوله تعالى‪( :‬إنما أنت منذر من يخشاها) (‪ )79/ 45‬أراد أن‬
‫اإلنذار ينتفع به من يخشى الساعة‪ ،‬ويخاف العقوبة فيها‪ ،‬على أن اهلل تعالى قد أخبر في‬
‫موضع آخر من القرآن أنه أنذر الكافرين‪ ،‬فقال‬

‫( ‪)1/220‬‬

‫‪( :‬إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ال يؤمنون) (‪ )2/ 6‬وهذا هو خبر عن‬
‫الكافرين‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬وأنذر عشيرتك األقربين) (‪ ، )26/ 214‬وقال تعالى‪( :‬أنذرتكم‬
‫صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) من اآلية (‪ )41/ 13‬وهذا خطاب للكافرين‪.‬‬
‫فلما أخبر اهلل تعالى في آيات من القرآن أنه أنذر الكافرين‪ ،‬كما أخبر في آيات من القرآن أنه‬
‫أنذر من يخشاها‪ ،‬وأنذر من اتبع الذكر؛ وجب بالقرآن أن اهلل قد أنذر المؤمنين والكافرين‪،‬‬
‫فلما أخبرنا‬

‫( ‪)1/221‬‬

‫اهلل أنه هدى للمتقين وعمى على الكافرين‪ ،‬وخبرنا أنه ال يهدي الكافرين؛ وجب أن يكون‬
‫القرآن هدى للمتقين دون الكافرين‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫وإن سأل سائل عن قول اهلل تعالى‪( :‬وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) من‬
‫اآلية (‪ )41/ 17‬فقال‪ :‬أليس ثمود كانوا كافرين وقد أخبر اهلل تعالى أنه هداهم‪.‬‬
‫قيل له‪ :‬ليس األمر كما ظننت‪.‬‬
‫والجواب في هذه اآلية على وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن ثمود كانوا فريقين مؤمنين وكافرين‪ ،‬وهم الذين أخبر اهلل أنه نجاهم مع صالح‬
‫صلى اهلل عليه وسلم بقوله تعالى‬
‫( ‪)1/222‬‬

‫‪( :‬نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا) من اآلية (‪ )11/ 66‬فالذين عنى اهلل عز وجل‬
‫من ثمود أنه هداهم هم المؤمنون دون الكافرين؛ ألن اهلل تعالى قد بين لنا في القرآن أنه ال‬
‫يهدى الكافرين‪ ،‬والقرآن ال يتناقض‪ ،‬بل يصدق بعضه بعضا‪ ،‬فإذا أخبرنا في موضع أنه ال‬
‫يهدي الكافرين‪ ،‬ثم خبر في موضع آخر أنه هدى ثمود‪ ،‬علمنا أنه إنما أراد المؤمنين من‬
‫ثمود دون الكافرين‪.‬‬
‫والوجه اآلخر‪ :‬أن اهلل عز وجل عنى قوما من ثمود كانوا مؤمنين ثم ارتدوا‪ ،‬فأخبر أنه تعالى‬
‫هداهم فاستحبوا بعد الهداية الكفر على اإليمان‪ ،‬وكانوا في حال ما هداهم مؤمنين‪.‬‬
‫فإن قال قائل معترضا في الجواب األول‪ :‬كيف يجوز أن يقول‪( :‬فهديناهم) ويعني المؤمنين‬
‫من ثمود‪ ،‬ويقول‪( :‬فاستحبوا) يعني الكافرين منهم وهم غير مؤمنين؟‬
‫يقال له‪ :‬هذا جائز في اللغة التي ورد بها القرآن أن يقول‪( :‬فهديناهم)‬

‫( ‪)1/223‬‬

‫ويعني المؤمنين من ثمود‪ ،‬ويقول‪( :‬فاستحبوا) ويعني الكافرين منهم‪ ،‬وقد ورد القرآن بمثل‬
‫هذا‪ ،‬قال اهلل تعالى‪( :‬وما كان اهلل ليعذبهم وأنت فيهم) من اآلية (‪ )8/ 33‬يعني الكافرين‪ ،‬ثم‬
‫قال تعالى‪( :‬وما كان اهلل معذبهم وهم يستغفرون) من اآلية (‪ )8/ 33‬يعني المؤمنين‪ ،‬ثم قال‬
‫تعالى‪( :‬وما لهم أال يعذبهم اهلل) من اآلية (‪ )8/ 34‬يعني الكافرين‪ ،‬وال خالف عند أهل اللغة‬
‫في جواز الخطاب بهذا أن يكون ظاهره لجنس والمراد به جنسان‪ ،‬فبطل ما اعترض به ودل‬
‫على جهله‪.‬‬

‫( ‪)1/224‬‬

‫الباب العاشر ذكر الروايات في القدر‬


‫روى معاوية بن عمرو‪ ،‬ثنا زائدة‪ ،‬قال‪ :‬ثنا سليمان األعمش‪ ،‬عن زيد بن وهب‪ ،‬عن عبد اهلل‬
‫بن مسعود رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬وهو الصادق‬
‫المصدوق ‪( :-‬أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة‪ ،‬ثم يكون علقة مثل ذلك‪ ،‬ثم‬
‫يكون مضغة مثل ذلك‪ ،‬ثم يبعث اهلل الملك‪ ،‬قال‪ :‬فيؤمر بأربع كلمات‪ ،‬يقال‪ :‬اكتب أجله‪،‬‬
‫ورزقه‪ ،‬وعمله‪ ،‬وشقي أو سعيد‪ ،‬ثم ينفخ فيه الروح) ‪.‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‬

‫( ‪)1/225‬‬

‫‪( :‬إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إال ذراع أو باع‪ ،‬فيسبق عليه‬
‫الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‪ ،‬وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه‬
‫وبينها إال ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ‪ .‬ال حرمنا اهلل‬
‫منها‪.‬‬
‫وروى معاوية بن عمرو قال‪ :‬ثنا زائدة‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة رضي اهلل‬
‫عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪( :‬احتج آدم وموسى صلوات اهلل وسالمه عليهما فقال‬
‫موسى عليه السالم‪ :‬يا آدم أنت الذي خلقك اهلل بيده ونفخ فيك من روحه‪ ،‬أغويت الناس‬
‫وأخرجتهم من الجنة‪ ،‬قال‪ :‬فقال آدم صلى اهلل عليه وسلم‬

‫( ‪)1/226‬‬

‫‪ :‬أنت موسى الذي اصطفاك اهلل بكلماته‪ ،‬تلومني على عمل كتبه اهلل علي قبل أن يخلق اهلل‬
‫السماوات‪ ،‬قال‪ :‬فحج آدم موسى) ‪.‬‬
‫وروى حديث (حج آدم موسى) مالك عن أبي الزناد‪ ،‬عن األعرج‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهذا يدل على بطالن قول القدرية الذين يقولون‪ :‬إن اهلل تعالى ال يعلم‬
‫الشيء حتى يكون؛ ألن اهلل تعالى إذا كتب ذلك وأمر بأن يكتب فال يكتب شيء ال يعلمه ‪-‬‬
‫جل عن ذلك وتقدس ‪ -‬وقال تعالى‪( :‬وما تسقط من ورقة إال يعلمها وال حبة في ظلمات‬
‫األرض وال رطب وال يابس إال في كتاب مبين) من اآلية (‪ ، )6/ 59‬وقال تعالى‪( :‬وما من‬
‫دابة في األرض إال على اهلل رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) من اآلية‬
‫(‪، )11/ 6‬‬

‫( ‪)1/227‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬أحصاه هلل ونسوه) من اآلية (‪ ، )58/ 6‬وقال تعالى‪( :‬لقد أحصاهم وعدهم‬
‫عدا) (‪ ، )19/ 94‬وقال تعالى‪( :‬أحاط بكل شيء علما) من اآلية (‪( ، )25/ 12‬وأحصى كل‬
‫شيء عددا) من اآلية (‪ ، )72/ 28‬وقال تعالى (بكل شيء عليم) من اآلية (‪، )25/ 231‬‬
‫فذلك يبين أنه يعلم األشياء كلها‪.‬‬
‫وقد أخبر اهلل تعالى أن الخلق يبعثون ويحشرون‪ ،‬وأن الكافرين في النار يخلدون‪ ،‬وأن‬
‫األنبياء والمؤمنين في الجنان يخلدون‪ ،‬وأن القيامة تقوم ولم تقم‬

‫( ‪)1/228‬‬

‫القيامة‪ ،‬فذلك يدل على أن اهلل تعالى يعلم ما يكون قبل أن يكون‪ ،‬وقد قال تعالى في أهل‬
‫النار‪( :‬ولو ردوا لعادوا) من اآلية (‪ ، )6/ 28‬فأخبر عما ال يكون أنه لو كان كيف يكون‪،‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬فما بال القرون األولى قال علمها عند ربي في كتاب ال يضل ربي وال ينسى)‬
‫من اآلية (‪ ، )20/ 52 - 51‬ومن ال يعلم الشيء قبل كونه ال يعلم بعد تقضيه‪ ،‬تعالى اهلل عن‬
‫قول الظالمين علوا كبيرا‪.‬‬
‫وروى معاوية بن عمرو‪ ،‬قال‪ :‬ثنا زائدة‪ ،‬عن سليمان األعمش‪ ،‬عن عمرو بن مرة‪ ،‬عن عبد‬
‫الرحمن بن أبي ليلى‪ ،‬عن عبد اهلل بن ربيعة‪ ،‬قال‪:‬‬

‫( ‪)1/229‬‬

‫كنا عند عبد اهلل‪ ،‬قال‪ :‬فذكروا رجال فذكروا من ُخ ُلِق ه‪ ،‬فقال القوم‪ :‬أما له من يأخذ على‬
‫يديه؟ قال عبد اهلل‪ :‬أرأيتم لو قطع رأسه كنتم تستطيعون أن تجعلوا له رأسا؟ قالوا‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال عبد اهلل‪ :‬إن النطفة إذا وقعت في المرأة مكثت أربعين يوما‪ ،‬ثم انحدرت دما‪ ،‬ثم تكون‬
‫علقة مثل ذلك‪ ،‬ثم تكون مضغة مثل ذلك‪ ،‬ثم يبعث ملك فيقول‪ :‬اكتب أجله‪ ،‬وعمله‪،‬‬
‫ورزقه‪ ،‬وأثره‪ ،‬وخلقه‪ ،‬وشقي أو سعيد‪ ،‬وأنكم لن تستطيعوا أن تغيروا ُخ ُلقه حتى تغيروا‬
‫َخ ْلقه‪.‬‬
‫وروى معاوية بن عمرو‪ ،‬قال‪ :‬ثنا زائدة‪ ،‬عن سعيد بن عبيدة‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن‪ ،‬عن علي‬
‫رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتى النبي صلى اهلل عليه وسلم فقعد‬
‫ونحن‬
‫( ‪)1/230‬‬

‫حوله‪ ،‬ومعه حصير فنكت بها ورفع رأسه‪ ،‬فقال‪( :‬ما منكم من نفس منفوسة إال قد كتب‬
‫مكانها من الجنة والنار‪ ،‬وإال قد كتبت شقية أو سعيدة) ‪ ،‬فقال رجل من القوم‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫أفال نمكث على كتابنا وندع العمل‪ ،‬فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى السعادة‪،‬‬
‫ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى الشقاوة؟ فقال‪( :‬اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما‬
‫أهل الشقوة فميسرون لعمل الشقوة‪ ،‬وأما أهل السعادة فميسرون لعمل السعادة) ‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫(فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى‬

‫( ‪)1/231‬‬

‫وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) (‪. )92/ 10 - 5‬‬
‫وروى موسى بن إسماعيل قال‪ :‬ثنا حماد‪ ،‬قال‪ :‬ثنا هشام بن عروة‪ ،‬عن عروة‪ ،‬عن عائشة‬
‫رضي اهلل عنها‪ ،‬وعن أبويها أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪( :‬إن الرجل ليعمل بعمل‬
‫أهل الجنة‪ ،‬وإنه مكتوب في الكتاب من أهل النار‪ ،‬فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل‬
‫النار‪ ،‬فمات فدخل النار‪ ،‬وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار‪ ،‬وأنه مكتوب في الكتاب أنه من‬
‫أهل الجنة‪ ،‬فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل الجنة‪ ،‬فمات فدخل الجنة) ‪.‬‬

‫( ‪)1/232‬‬

‫وهذه األحاديث تدل على أن اهلل تعالى علم ما يكون أنه يكون وكتبه‪ ،‬وأنه قد كتب أهل‬
‫الجنة وأهل النار‪ ،‬وخلقهم فريقين فريقا في الجنة وفريقا في السعير‪ ،‬وبذلك نطق كتابه‬
‫العزيز؛ إذ يقول‪( :‬فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضاللة) من اآلية (‪ ، )7/ 30‬وقال تعالى‪:‬‬
‫(فريق في الجنة وفريق في السعير) من اآلية (‪ ، )42/ 7‬وقال تعالى‪( :‬فمنهم شقي وسعيد)‬
‫من اآلية (‪ )11/ 105‬فخلق اهلل األشقياء للشقاء‪ ،‬والسعداء للسعادة‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬ولقد‬
‫ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن واإلنس) من اآلية (‪. )7/ 179‬‬

‫( ‪)1/233‬‬
‫وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬أن اهلل عز وجل جعل للجنة أهال وللنار أهال) أعاذنا‬
‫اهلل منها‪.‬‬
‫دليل آخر في القدر‪:‬‬
‫ومما يدل على بطالن قول القدرية قول اهلل تعالى‪( :‬وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم‬
‫ذريتهم) اآلية من اآلية (‪. )7/ 172‬‬
‫وجاءت الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬أن اهلل عز وجل مسح ظهر آدم فأخرج‬
‫ذريته من ظهره كأمثال الذر‪ ،‬ثم قررهم بوحدانيته وأقام الحجة عليهم) ؛ ألنه قال تعالى‪:‬‬
‫(وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) من آية (‪، )7/ 172‬‬

‫( ‪)1/234‬‬

‫قال اهلل تعالى‪( :‬أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) من اآلية (‪ )7/ 172‬فجعل‬
‫تقريرهم بوحدانيته لما أخرجهم من ظهر آدم صلى اهلل عليه وسلم حجة عليهم إذا أنكروا في‬
‫الدنيا ما كانوا عرفوه في الذر األول‪ ،‬ثم من بعد اإلقرار جحدوه‪.‬‬
‫وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪( :‬أنه سبحانه وتعالى قبض قبضة للجنة‪ ،‬وقبض‬
‫قبضة للنار‪ ،‬ميز بعضها من بعض‪ ،‬فقلبت الشقوة على أهل الشقوة‪ ،‬والسعادة على أهل‬
‫السعادة) ‪.‬‬

‫( ‪)1/235‬‬

‫قال اهلل تعالى مخبرا عن أهل النار ‪ -‬أعاذنا اهلل منها ‪ -‬أنهم قالوا‪( :‬ربنا غلبت علينا شقوتنا‬
‫وكنا قوما ضالين) ‪ ،‬فكل ذلك أمر قد سبق في علم اهلل تعالى‪ ،‬ونفذت فيه إرادته‪ ،‬وتقدمت‬
‫فيه مشيئته‪.‬‬
‫وروى معاوية بن عمرو قال‪ :‬ثنا زائدة‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا طلحة بن يحيى القرشي‪ ،‬قال‪ :‬حدثتني‬
‫عائشة بنت طلحة‪ ،‬عن عائشة أم المؤمنين رضي اهلل عنها وعن أبويها أن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم دعي إلى جنازة غالم من األنصار ليصلي عليه‪ ،‬فقالت عائشة رضي اهلل عنها‪ :‬طوبى‬
‫لهذا يا رسول اهلل‪ ،‬عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا ولم يدركه‪ ،‬قال‪( :‬أو غير ذلك‬
‫يا عائشة‪ ،‬إن اهلل تعالى قد جعل للجنة أهال وهم في أصالب آبائهم‪ ،‬وللنار أهال جعلهم لها‬
‫وهم في أصالب آبائهم) ‪،‬‬

‫( ‪)1/236‬‬

‫وهذا يبين أن السعادة قد سبقت ألهلها‪ ،‬والشقاء قد سبق ألهله‪.‬‬


‫وقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ‪.‬‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫وقد قال اهلل تعالى‪( :‬من يهد اهلل فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) من اآلية (‬
‫‪ ، )18/ 17‬وقال تعالى‪( :‬يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) من اآلية (‪ ، )12/ 26‬فأخبر‬
‫تعالى أنه يضل ويهدي‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬ويضل اهلل الظالمين ويفعل اهلل ما يشاء) من اآلية (‪/ 27‬‬
‫‪ ، )14‬فأخبرنا أنه (فعال لما يريد) من اآلية (‪)11/ 107‬‬

‫( ‪)1/237‬‬

‫وإذا كان الكفر مما أراده فقد فعله‪ ،‬وقدره‪ ،‬وأحدثه‪ ،‬وأنشأه‪ ،‬واخترعه‪ ،‬وقد تبين ذلك بقوله‬
‫تعالى‪( :‬أتعبدون ما تنحتون واهلل خلقكم وما تعملون) من اآلية (‪ )37/ 96 - 95‬فلو كانت‬
‫عبادتهم لألصنام من أعمالهم كان ذلك مخلوقا هلل تعالى‪ ،‬وقد قال اهلل تعالى‪( :‬جزاء بما‬
‫كانوا يعملون) من اآلية (‪ )32/ 17‬يريد أنه تعالى يجازيهم على أعمالهم‪ ،‬فكذلك إذا ذكر‬
‫عبادتهم لألصنام وكفرهم بالرحمن‪ ،‬ولو كان مما قدروه وفعلوه ألنفسهم لكانوا قد فعلوا‬
‫وقدروا ما خرج عن تقدير ربهم وفعله‪ ،‬وكيف يجوز أن يكون لهم من التقدير والفعل‬
‫والقدرة ما ليس لربهم؟ فمن زعم ذلك فقد عَّج ز اهلل‪ .‬تعالى اهلل عن قول المعجزين له علوا‬
‫كبيرا‪.‬‬
‫أال ترى أن من زعم أن العباد يعلمون ماال يعلمه اهلل عز وجل‬

‫( ‪)1/238‬‬

‫لكان قد أعطاهم من العلم ما لم يدخله في علم اهلل‪ ،‬وجعلهم هلل نظراء‪ ،‬فكذلك من زعم أن‬
‫العباد يفعلون ويقِّدرون ما لم يقِّدره‪ ،‬ويقدرون على ما لم يقدر عليه‪ ،‬فقد جعل لهم من‬
‫السلطان والقدرة والتمكن ما لم يجعله للرحمن‪ .‬تعالى عن قول أهل الزور والبهتان‪ ،‬واإلفك‬
‫والطغيان علوا كبيرا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬هل فعل الكافر الكفر فاسدا باطال متناقضا؟ فإن قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬وكيف يفعله فاسدا متناقضا قبيحا‪ ،‬وهو يعتقده حسنا صحيحا أفضل األديان؟‬
‫وإذا لم يجز ذلك؛ ألن الفعل ال يكون فعال على حقيقته إال ممن علمه على ما هو عليه من‬
‫حقيقته‪ ،‬كما ال يجوز أن يكون فعال ممن لم يعلمه فعال‪ ،‬فقد وجب أن اهلل تعالى هو الذي‬
‫قدر الكفر وخلقه كفرا فاسدا باطال متناقضا‪ ،‬خالفا للحق والسداد‬

‫( ‪)1/240‬‬

‫الباب الحادي عشر الكالم في الشفاعة والخروج من النار‪:‬‬


‫مسألة‪:‬‬
‫ويقال لهم‪ :‬قد أجمع المسلمون أن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شفاعة‪ ،‬فلمن الشفاعة‬
‫أهي للمذنبين المرتكبين للكبائر‪ ،‬أم للمؤمنين المخلصين؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬للمذنبين المرتكبين للكبائر وافقوا‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬للمؤمنين المبشرين بالجنة الموعودين بها‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬فإذا كانوا موعودين بالجنة وبها مبشرين‪ ،‬واهلل تعالى ال يخلف وعده فما معنى‬
‫الشفاعة لقوم ال يجوز عندكم أن ال يدخلهم اهلل جناته؟ ومن قولكم أنهم قد استحقوها على‬
‫اهلل عز وجل‬

‫( ‪)1/241‬‬

‫واستوجبوها عليه سبحانه‪ ،‬وإذا كان اهلل تعالى ال يظلم مثقال ذرة وكان تأخيرهم عن الجنة‬
‫ظلما‪ ،‬فإنما يشفع الشفعاء إلى اهلل تعالى في أن ال يظلم على مذاهبكم‪ .‬تعالى اهلل عن‬
‫افتراءكم عليه علوا كبيرا‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬يشفع النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى اهلل تعالى في أن يزيدهم من فضله‪ ،‬ال في أن‬
‫يدخلهم جناته‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬أو ليس قد وعدهم اهلل عز وجل ذلك فقال تعالى‪( :‬يوفيهم أجورهم ويزيدهم من‬
‫فضله) من اآلية (‪ )4/ 173‬واهلل تعالى ال يخلف وعده‪ ،‬فإنما يشفع إلى اهلل تعالى عندكم من‬
‫أن يخلف وعده‪ ،‬وهذا جهل منكم‪ ،‬وإنما الشفاعة المعقولة فيمن استحقه عقابا أن يوضع عنه‬
‫عقابه‪ ،‬أو في من لم يعده شيئا أن يتفضل‬

‫( ‪)1/242‬‬

‫عليه به‪ ،‬فأما إذا كان الوعد بالتفضل سابقا فال وجه لهذا‪.‬‬

‫مسألة‪:‬‬
‫فإن سألوا عن قول اهلل تعالى‪( :‬وال يشفعون إال لمن ارتضى) من اآلية (‪. )21/ 28‬‬
‫فالجواب عن ذلك‪ :‬إال لمن ارتضى لمن يشفعون له‪ ،‬وقد روي أن شفاعة النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ألهل الكبائر‪ ،‬وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬أن المذنبين يخرجون من‬
‫النار) ‪.‬‬

‫( ‪)1/244‬‬

‫الباب الثاني عشر الكالم في الحوض‬


‫وأنكرت المعتزلة الحوض‪ ،‬وقد روي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم من وجوه كثيرة‪ ،‬وروي‬
‫عن أصحابه رضي اهلل عنهم أجمعين بال خالف‪.‬‬
‫وروي عن عفان‪ ،‬قال‪ :‬ثنا حماد بن مسلمة‪ ،‬عن علي بن زيد‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬عن أنس بن مالك‬
‫رضي اهلل عنه أنه ُذكر الحوض عند عبيد اهلل بن زياد فأنكره‪ ،‬فبلغ أنسا رضي اهلل عنه فقال‪:‬‬
‫ال جرم واهلل ألفعلن به‪ ،‬قال‪ :‬فأتاه فقال‪ :‬ما ذكرتم من الحوض‪ ،‬ما أنكرتم من الحوض‪،‬‬

‫( ‪)1/245‬‬

‫قال عبيد اهلل‪ :‬هل سمعت النبي صلى اهلل عليه وسلم يذكره؟ قال‪ :‬سمعت النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أكثر من كذا مرة وكذا مرة يقول‪( :‬ما بين طرفيه ‪ -‬يعني الحوض ‪ -‬ما بين أيلة‬
‫ومكة‪ ،‬أو ما بين صنعاء ومكة‪ ،‬وأن آنيته أكثر من نجوم السماء) اللهم اسقنا منه شربة ال‬
‫نظمأ بعدها أبدا‪.‬‬
‫وروى أحمد بن عبد اهلل بن يونس قال‪ :‬ثنا ابن زائدة‪ ،‬عن عبد الملك بن عمير عن جندب بن‬
‫سفيان‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪( :‬أنا فرطكم على الحوض) في‬
‫أخبار كثيرة‪.‬‬

‫( ‪)1/246‬‬

‫الباب الثالث عشر الكالم في عذاب القبر‬


‫وأنكرت المعتزلة عذاب القبر أعاذنا منه‪.‬‬
‫وقد روي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم من وجوه كثيرة‪ ،‬وروي عن أصحابه رضي اهلل عنهم‬
‫أجمعين‪ ،‬وما روي عن أحد منهم أنه أنكره ونفاه وجحده‪ ،‬فوجب أن يكون إجماعا من‬
‫أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وروى أبو بكر بن أبي شيبة قال‪ :‬ثنا أبو معاوية عن األعمش‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬تعوذوا باهلل من عذاب القبر) ‪.‬‬

‫( ‪)1/247‬‬

‫وروى أحمد بن إسحاق الحضرمي‪ ،‬قال‪ :‬ثنا وهيب‪ ،‬قال‪ :‬ثنا موسى بن عقبة قال‪ :‬حدثتني أم‬
‫خالد بنت خالد بن سعيد بن القاضي رضي اهلل عنها أنها سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم (يتعوذ من عذاب القبر) أعاذنا اهلل منه‪.‬‬
‫وروى أنس بن مالك رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪( :‬لوال أن تدافنوا‬
‫لسألت اهلل عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني)‬
‫دليل آخر‪:‬‬
‫ومما يبين عذاب الكافرين في القبور قول اهلل تعالى‪( :‬النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم‬
‫تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (‪، )40/ 46‬‬

‫( ‪)1/248‬‬
‫فجعل عذابهم يوم تقوم الساعة بعد عرضهم على النار في الدنيا غدوا وعشيا‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬
‫(سنعذبهم مرتين) من اآلية (‪ )9/ 101‬مرة بالسيف‪ ،‬ومرة في قبورهم‪ ،‬ثم يردون إلى عذاب‬
‫غليظ في اآلخرة‪.‬‬
‫وأخبر اهلل تعالى أن الشهداء في الدنيا يرزقون ويفرحون بفضل اهلل تعالى‪ ،‬قال اهلل تعالى‪( :‬وال‬
‫تحسبن الذين قتلوا في سبيل اهلل أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم اهلل من‬
‫فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أال خوف عليهم وال هم يحزنون) (‪169‬‬
‫‪ ) 3/ 170 -‬وهذا ال يكون إال في الدنيا؛ ألن الذين لم يلحقوا بهم أحياء لم يموتوا وال‬
‫قتلوا‪.‬‬

‫( ‪)1/250‬‬

‫الباب الرابع عشر الكالم في إمامة أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه‬
‫قال اهلل تبارك وتعالى‪( :‬وعد اهلل الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في‬
‫األرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من‬
‫بعد خوفهم أمنا يعبدونني ال يشركون بي شيئا) من اآلية (‪ ، )24/ 55‬وقال تعالى‪( :‬الذين إن‬
‫مكناهم في األرض أقاموا الصالة وآتو الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) من اآلية (‬
‫‪ ، )22/ 41‬وأثنى اهلل تعالى على المهاجرين واألنصار والسابقين إلى اإلسالم‪ ،‬وعلى أهل‬
‫بيعة الرضوان‪ ،‬ونطق القرآن بمدح المهاجرين واألنصار رضي اهلل عنهم أجمعين في مواضع‬
‫كثيرة‪ ،‬وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال تعالى‬

‫( ‪)1/251‬‬

‫‪( :‬لقد رضي اهلل عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) من اآلية (‪ )48/ 18‬اآلية‪ ،‬وقد‬
‫أجمع هؤالء الذين أثنى اهلل عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه وسموه‬
‫خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبايعوه وانقادوا له‪ ،‬وأقروا له بالفضل‪ ،‬وكان أفضل‬
‫الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها اإلمامة من العلم والزهد وقوة الرأي‪ ،‬وسياسة‬
‫األمة وغير ذلك‪.‬‬
‫دليل آخر من القرآن على إمامة أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه‬
‫دليل آخر من القرآن على إمامة الصديق رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫وقد دل اهلل تعالى على إمامة أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه في سورة براءة فقال تعالى‬
‫للقاعدين عن نصرة نبيه صلى اهلل عليه وسلم والمتخلفين عن الخروج معه‬

‫( ‪)1/252‬‬

‫‪( :‬فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) من اآلية (‪ ، )9/ 83‬وقال تعالى في‬
‫سورة أخرى‪( :‬سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن‬
‫يبدلوا كالم اهلل) من اآلية (‪ )48/ 15‬يعني قوله‪( :‬لن تخرجوا معي أبدا) من اآلية (‪، )9/ 83‬‬
‫ثم قال تعالى‪( :‬كذلكم قال اهلل من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا ال يفقهون إال‬
‫قليال) من اآلية (‪ ، )48/ 15‬وقال تعالى‪( :‬قل للمخلفين من األعراب ستدعون إلى قوم أولى‬
‫بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم اهلل أجرا حسنا وإن تتولوا) من اآلية (‪16‬‬
‫‪ )48/‬يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم إلى قتالهم (كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا‬
‫أليما) من اآلية (‪)48/ 16‬‬

‫( ‪)1/253‬‬

‫والداعي لهم إلى ذلك غير النبي صلى اهلل عليه وسلم الذي قال اهلل عز وجل له‪( :‬قل لن‬
‫تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) من اآلية (‪ ، )9/ 83‬وقال تعالى في سورة الفتح‪:‬‬
‫(يريدون أن يبدلوا كالم اهلل) من اآلية (‪ )48/ 15‬فمنعهم الخروج مع نبيه صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وجعل خروجهم معه تبديال لكالمه‪ ،‬فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال‬
‫داع يدعوهم بعد نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد قال الناس‪ :‬هم أهل فارس‪ ،‬وقالوا‪ :‬أهل‬
‫اليمامة‪ ،‬فإن كانوا أهل اليمامة فقد قاتلهم بعد نبيه صلى اهلل عليه وسلم أبو بكر الصديق‬

‫( ‪)1/254‬‬

‫رضي اهلل عنه‪ ،‬وإن كانوا الروم فقد قاتلهم الصديق أيضا‪ ،‬وإن كانوا أهل فارس فقد قوتلوا‬
‫في أيام أبي بكر رضي اهلل عنه‪ ،‬وقاتلهم عمر رضي اهلل عنه من بعده وفرغ منهم‪.‬‬
‫وإذا وجبت إمامة عمر رضي اهلل عنه وجبت إمامة أبي بكر رضي اهلل عنه‪ ،‬كما وجبت إمامة‬
‫عمر رضي اهلل عنه؛ ألنه العاقد له اإلمامة‪ ،‬فقد دل القرآن على إمامة الصديق رضي اهلل عنه‬
‫والفاروق رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وإذا وجبت إمامة أبي بكر رضي اهلل عنه بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وجب أنه أفضل‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫دليل آخر من اإلجماع على إمامة أبي بكر رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫ومما يدل على إمامة الصديق رضي اهلل عنه أن المسلمين جميعا بايعوه وانقادوا إلمامته‪،‬‬
‫وقالوا له‪ :‬يا خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/255‬‬

‫ورأينا عليا والعباس رضي اهلل عنهما بايعاه رضي اهلل عنه وأقرا له باإلمامة‪ ،‬وإذا كانت‬
‫الرافضة يقولون‪ :‬إن عليا رضي اهلل عنه هو المنصوص على إمامته‪ ،‬والراوندية تقول‪ :‬العباس‬
‫هو المنصوص على إمامته‪ ،‬ولم يكن للناس في اإلمامة إال ثالثة أقوال‪:‬‬
‫من قال منهم‪ :‬إن النبي صلى اهلل عليه وسلم نص على إمامة أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫وهو اإلمام بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وقول من قال‪ :‬نص على إمامة علي رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وقول من قال‪ :‬اإلمام بعده العباس‪.‬‬
‫وقول من قال‪ :‬هو أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬هو بإجماع المسلمين والشهادة له بذلك‪.‬‬
‫ثم رأينا عليا رضي اهلل عنه والعباس رضي اهلل عنه قد بايعاه‬

‫( ‪)1/256‬‬

‫وأجمعا على إمامته‪ ،‬فوجب أن يكون إماما بعد النبي صلى اهلل عليه وسلم بإجماع المسلمين‪.‬‬
‫وال يجوز لقائل أن يقول كان باطن علي والعباس خالف ظاهرهما‪ ،‬ولو جاز هذا لمدعيه لم‬
‫يصح إجماع‪ ،‬وجاز لقائل أن يقول ذلك في كل إجماع للمسلمين‪.‬‬
‫وهذا يسقط حجة اإلجماع؛ ألن اهلل تعالى لم يتعبدنا في اإلجماع بباطن الناس‪ ،‬وإنما تعبدنا‬
‫بظاهرهم‪ ،‬وإذا كان كذلك فقد حصل اإلجماع واالتفاق على إمامة أبي بكر الصديق رضي‬
‫اهلل عنه‪.‬‬
‫وإذا ثبتت إمامة الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬ثبتت إمامة الفاروق رضي اهلل عنه؛ ألن الصديق رضي‬
‫اهلل عنه نص عليه وعقد له اإلمامة‪ ،‬واختاره لها‪.‬‬
‫وكان أفضلهم بعد أبي بكر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وثبتت إمامة عثمان رضي اهلل عنه بعد عمر رضي اهلل عنه بعقد‬

‫( ‪)1/257‬‬

‫من عقد له اإلمامة من أصحاب الشورى؛ الذين نص عليهم عمر رضي اهلل عنه‪ ،‬فاختاروه‬
‫ورضوا بإمامته‪ ،‬وأجمعوا على فضله وعدله‪.‬‬
‫وتثبت إمامة علي رضي اهلل عنه بعد عثمان رضي اهلل عنه لعقد من عقدها له من الصحابة‬
‫رضي اهلل عنهم من أهل الحل والعقد‪ ،‬وألنه لم يدعها أحد من أهل الشورى غيره في وقته‪،‬‬
‫وقد اجتمع على فضله وعدله‪ ،‬وأن امتناعه عن دعوى األمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان‬
‫حقا؛ لعلمه أن ذلك ليس بوقت قيامه‪ ،‬وأنه قلما كان لنفسه في وقت الخلفاء قبله‬

‫( ‪)1/258‬‬

‫‪ ،‬ثم لما صار األمر أظهر وأعلن ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد‪ ،‬كما مضى من‬
‫قبله من الخلفاء‪ ،‬وأئمة العدل من السداد والرشاد متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم‪.‬‬
‫هؤالء هم األئمة األربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي اهلل عنهم أجمعين‪.‬‬
‫وقد روى شريح بن النعمان قال‪ :‬ثنا حشرج بن نباته عن سعيد بن جمهان‪ ،‬قال ثني سفينة‬
‫قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬الخالفة في أمتي ثالثون سنة‪ ،‬ثم ملك بعد‬
‫ذلك) ‪ ،‬ثم قال لي سفينة‪ :‬أمسك خالفة أبي بكر وخالفة عمر وخالفة عثمان‪ ،‬ثم أمسك‬
‫خالفة علي بن أبي طالب رضي اهلل عنهم أجمعين‪،‬‬

‫( ‪)1/259‬‬

‫قال فوجدتها ثالثين سنة‪.‬‬


‫فدل ذلك على إمامة األئمة األربعة رضي اهلل عنهم أجمعين‪.‬‬
‫فأما ما جرى من علي والزبير وعائشة رضي اهلل عنهم أجمعين‪ ،‬فإنما كان على تأويل‬
‫واجتهاد‪ ،‬وعلي اإلمام‪ ،‬وكلهم من أهل االجتهاد‪ ،‬وقد شهد لهم النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بالجنة والشهادة‪ ،‬فدل على أنهم كلهم كانوا على حق في اجتهادهم‪ ،‬وكذلك ما جرى بين‬
‫سيدنا علي ومعاوية رضي اهلل عنهما‪ ،‬فدل على تأويل واجتهاد‪.‬‬
‫وكل الصحابة أئمة مأمونون غير متهمين في الدين‪ ،‬وقد أثنى اهلل ورسوله على جميعهم‪،‬‬
‫وتعبدنا بتوقيرهم وتعظيمهم ومواالتهم‪ ،‬والتبري من كل من ينقص أحدا منهم رضي اهلل عنهم‬
‫أجمعين‪.‬‬

‫( ‪)1/260‬‬

‫وقد قلنا في األبرار قوال وجيزا‪ ،‬والحمد اهلل أوال وآخرا‪.‬‬

‫تم كتاب اإلبانة عن أصول الديانة‪ ،‬وهلل الحمد‬

‫(‪)260 /‬‬

You might also like