Professional Documents
Culture Documents
إنَّــكِ يا ابنتي لَساذِجةٌ سليمةُ القلبِ طـيـِّبةُ النفسِ
إنَّــكِ يا ابنتي لَساذِجةٌ سليمةُ القلبِ طـيـِّبةُ النفسِ
القلب طـيِـ ِّبة ُ النف ِ
ِ إ ََّنــكِ يا ابنتي لَساذِجة ٌ سليمة ُ
م ُثُلا ً عُليَا في الحياة ,يَـتَـأَ َث ّرون بِـهم في القول والعمل ,ويـ ُحاوِلون أن يكونوا مِث ْلَهم في ك ّ
ل شيء ,
ن أنّـه قد كان
ألست تـريْـ َ
ِ ل وأَ كْ ـرَم ُـهم ؟ ن َّ
أَن أباك خَـيْـر ُ الرجا ِ ست ت َرَيْـ َ
ل ؟ أل َ ِ
ْس الأمـر ُ كـما أقو ُ
أَ لَي َ
ن
يعيش أبوك حينَ كان في الثامنة من عمره ؟ ومع ذلك فإ ّ
ُ ست تُـحبّـين أ ْن تَعيـشي الآن كـما كان
أَ ل َ ِ
الَطورِ من أطْ وار حياته .ولو أِنِّـي حَد َثّــتُـكِ ما كان عليه حينئذٍ ل َّ
َكَذب ْتُ لقد عرفـت ُه يا ابنتي في هذا َّ
َ
كثيرا ً من ظِن ِّك ,ولـ َخ َََّيب ْتُ كثيرا ً من أملِك ,ولَف َت َحْ تُ إلى قلب ِكِ الساذ َِج ونفسِكِ الحلُ ْوة ِ بابا ً م ِن أبواب
وأنت في هذا الطّور اللّــذيذ من الحياة ,ولكنّـي لَنْ أحَـِدِّثَـكِ بشيْء ٍ م َِّـَما
ِ ح إليهما
الحُزن ,حَـرام ٌ أ ْن يُفت َ
ق إلى
بعض التوفي ِ
ق ُ حقّا ً ,وَج َََّد في إسعادِ ِ
ك حقا ً ,و وُِفِّـ َ ن أباك أَ ح َََّبكِ َ
ويـومئِـذٍ تستطيعين أن تعرفي أ َ ّ
َأعرف َّ
أَن في قلبك رِقّـة ً ولَيـ ِّنا ً ,وإِنِّـي ُ نَع َم يا ابنتي ,لقد عرفتُ أباك في هذا الطّور من حياته ,وإنـي ل
ك الرأفة ُ ,
ل َأخْ شى لـ َو ْ حدّثــت ُك بـما عرفتُ م ِن أمْـرِ أبيـكِ حينئذ أن يَـملُكَـكِ الإشفاقُ وتـأخُذ َ ِ
لقد رأيت ُكِ ذاتَ يو ٍم جالسة ً على حِـجْ رِ أبيك ,وهو يق ُُُّص عليكِ قصة َ (أوديبُ ملكاً) ,وقد خرج من
شد َت ْه ُ .
ت اب ْنَـتُـه (أنتيجُون) ف َقاد َتْـه ُ وأر َ
قصره بعد أن فقأ عَي ْنَيْـه ِ لا يَـدري كيف يسير ُ ,وأَ ق ْبَل َ ْ
ك اليوم َ تَسمعيـن هذه القصّ ة َ مُب ْتَـه ِجة ً م ِن أوّلـها ,ثم أَ خَذ َ لَونُك َّ
يــتـَغـيـر قليلا ً قليلا ً , رأيتُـكِ ذل َ
ت ُّأُمكِ فانْـتَــزَعَت ْكِ من بـَيْـن ذِراعَيْـه ِ ,وما زالت بكِ حت ّى هدأ روْع ُكِ ,وفهم ْ
َت لَثْـما ً وتَقبيلا ً ,وأَ ق ْبـل َ ْ
بكيت لأوديب.
ِ ْت لأبيكِ كـما
يُبْصِر ُ ,ولا يستطي ُع أ ْن يَه ْتدِيَ وَحْدَه ُ ,فـبَكَي ِ
ل َأخْ ش َى يا ابنتي إ ْن حَـ َ ّدثْـتُـكِ بِـما كان عليه أبوك في بَعْض أطوار صِباه أ ْن تَضْ ح َكـي منه قاسية ً
ل م ِن أبـيـه ,وما أح ُُِّب أن يـَله ُـو َ به أو ي َ ْقس ُو َ عليه . لاهية ً ،وما ُأحب أن يضح َ
ك طف ٌ
ومع ذلك فَق َ ْد عـرفتُ أباك في طو ٍر من أطوارِ حياته أستطي ُع أن أح َ ّدِثَــكِ به د ُون أ ْن ُأثِـيـر َ في نفسِك
عـرفــت ُه ُ في الثالثة َ عشرة َ م ِن عمره حينَ ُأرسل إلى القاهرة لِيختل َِف إلى دروس العلِـم في الأزهر .إ ْن
منه إلى الغ ِن ًى ,تقتحم ُه العينُ اقتحاما ً في ع َباءَت ِه القذرة ,وطاقـ َِيـ ّتِـه التي استحال بَياضُـها إلى سوادٍ
قائـدِه إلى الأزهر ,لا تـختل ُِف خُطاه ,ولا يـتردد ُ في م ِشيته ,ولا ت َ ْظهُــر ُ على وجْ هِه ِ هذه ال ُ ّ
ظـلـْـمة ُ التي
ن.
تغْش َى عادة ً وُجُوه َ الـمـكفوفِـيـ َ
ولكنـ ّها تـبـتسـم له وتـل ْحظ ُـه في شيء ٍ من الرفق حِـينَ تـراه في ح َل ْقة الدرس م ُصْ غ ِيا ً
َ تـقـتحـمه ُ الـعيْـن
كـَلَّه إلى الشيخ يلَـ ْتـَهِم ُ كلام َه التهاما ً ,مبتسما ً مع ذلك لا م ُتَـأِلِّـما ً ولا م ُتَـبَـرِّما ً ,ولا م ُظه ِرا ً مَي ْلا ً إلى
لـ َ ْهوٍ ,على حينَ يلهو الصِ بْـيانُ م ِن حولِه ِ أو يـَشْــر َئ ُُّبِــونَ إلى الل ّهو
عـرفـته يا ابنتي في هذا الطور ,وكم ُأح ُُِّب لو تـعرفـينَـه كـما عرفت ُه ؛ إذا ً تـقـدريـن ما بينكِ وبين ًه من
بالشكوى .
ل لِلأزهـريـيـن م ِن خبز
لقد كان أبوك ينـفـق الأسبوع والشهر لا يعيش إلا على خُـبْـزِ الأزهر ,ووي ٌ
الأزهر ,إ ْن كانوا لَيَــجـدون فيه ضروبا ً من الق َش وألوانا ً من الحَصى وفُـنونا ً م ِن الـحَش َرات .