You are on page 1of 4

‫س‪.

‬‬
‫القلب طـيِـ ِّبة ُ النف ِ‬
‫ِ‬ ‫إ ََّنــكِ يا ابنتي لَساذِجة ٌ سليمة ُ‬

‫ل بآبائهم وأمهاتِهم ‪ ,‬ويـت َــ ّخِــذ ُونهم‬


‫أنت في التاسعة ِ من عُمرك ‪ ,‬في هذه السِنّ التي يُعْجَبُ فيها الأطفا ُ‬
‫ِ‬

‫م ُثُلا ً عُليَا في الحياة ‪ ,‬يَـتَـأَ َث ّرون بِـهم في القول والعمل ‪ ,‬ويـ ُحاوِلون أن يكونوا مِث ْلَهم في ك ّ‬
‫ل شيء ‪,‬‬

‫الل ّعب ‪ ,‬ويـ ُخ َََّي ُ‬


‫ل إليهم أنّـهم كانوا أثناء َ طُفولتِـهم كَـما‬ ‫ويُفاخِرون بِـهم إذا تَـح َََّدثُوا إلى أق ْرانِـهم أثناء َ‬
‫َ‬

‫حسَنة ً و ُأسْ وة ً صالِـحـة ً ‪.‬‬


‫ه ُم الآن م ُثُلا ً عُل ْيا يصلُحون أن يكونوا قُدْوة ً َ‬

‫ن أنّـه قد كان‬
‫ألست تـريْـ َ‬
‫ِ‬ ‫ل وأَ كْ ـرَم ُـهم ؟‬ ‫ن َّ‬
‫أَن أباك خَـيْـر ُ الرجا ِ‬ ‫ست ت َرَيْـ َ‬
‫ل ؟ أل َ ِ‬
‫ْس الأمـر ُ كـما أقو ُ‬
‫أَ لَي َ‬

‫يعيش كـما تَعيشِينَ أو خُيـرا ً م َِّـَما تعيشين ؟‬


‫ُ‬ ‫ست مُقْتَن ِعة ً أنّـه كان‬
‫ل وأنبـلَهم ؟ أَ ل َ ِ‬
‫كذلك خـير َ الأطفا ِ‬

‫ن‬
‫يعيش أبوك حينَ كان في الثامنة من عمره ؟ ومع ذلك فإ ّ‬
‫ُ‬ ‫ست تُـحبّـين أ ْن تَعيـشي الآن كـما كان‬
‫أَ ل َ ِ‬

‫ق ؛ لِـيَــجْ ـنُـب َكِ حياتَـه ُ حينَ‬


‫ق وما لا يطي ُ‬
‫ل من الجُهد ما يـمل ُك ‪ ,‬ويتكل ُّف من الـمشقّة ما يُطي ُ‬
‫أباك يـَبذ ُ ُ‬

‫كان صَبِـي ّا ً ‪.‬‬

‫الَطورِ من أطْ وار حياته ‪ .‬ولو أِنِّـي حَد َثّــتُـكِ ما كان عليه حينئذٍ ل َّ‬
‫َكَذب ْتُ‬ ‫لقد عرفـت ُه يا ابنتي في هذا َّ‬
‫َ‬

‫كثيرا ً من ظِن ِّك ‪ ,‬ولـ َخ َََّيب ْتُ كثيرا ً من أملِك ‪ ,‬ولَف َت َحْ تُ إلى قلب ِكِ الساذ َِج ونفسِكِ الحلُ ْوة ِ بابا ً م ِن أبواب‬

‫وأنت في هذا الطّور اللّــذيذ من الحياة ‪ ,‬ولكنّـي لَنْ أحَـِدِّثَـكِ بشيْء ٍ م َِّـَما‬
‫ِ‬ ‫ح إليهما‬
‫الحُزن ‪ ,‬حَـرام ٌ أ ْن يُفت َ‬

‫كان عليه أبوك في ذلك الطّور الآنَ ‪.‬‬


‫ُّ‬
‫السُن قليلا ً ‪ ,‬فَت َستطيعي أ ْن تقْرئِـي وتفهمي وتـ َحكُمي ‪,‬‬ ‫حت ّى تَـتَـق َََّدم َ بكِ‬
‫لنْ أحدثَك بشيء من هذا َ‬

‫ق إلى‬
‫بعض التوفي ِ‬
‫ق ُ‬ ‫حقّا ً ‪ ,‬وَج َََّد في إسعادِ ِ‬
‫ك حقا ً ‪ ,‬و وُِفِّـ َ‬ ‫ن أباك أَ ح َََّبكِ َ‬
‫ويـومئِـذٍ تستطيعين أن تعرفي أ َ ّ‬

‫أن يَـجْ ـنُبَـكِ طفولتَــه وصِبَاه ‪.‬‬

‫َأعرف َّ‬
‫أَن في قلبك رِقّـة ً ولَيـ ِّنا ً ‪ ,‬وإِنِّـي‬ ‫ُ‬ ‫نَع َم يا ابنتي ‪ ,‬لقد عرفتُ أباك في هذا الطّور من حياته ‪ ,‬وإنـي ل‬

‫ك الرأفة ُ ‪,‬‬
‫ل َأخْ شى لـ َو ْ حدّثــت ُك بـما عرفتُ م ِن أمْـرِ أبيـكِ حينئذ أن يَـملُكَـكِ الإشفاقُ وتـأخُذ َ ِ‬

‫فـتُــجْ ـه ِــش ِي بالب ُكاء ‪.‬‬

‫لقد رأيت ُكِ ذاتَ يو ٍم جالسة ً على حِـجْ رِ أبيك ‪ ,‬وهو يق ُُُّص عليكِ قصة َ (أوديبُ ملكاً) ‪ ,‬وقد خرج من‬

‫شد َت ْه ُ ‪.‬‬
‫ت اب ْنَـتُـه (أنتيجُون) ف َقاد َتْـه ُ وأر َ‬
‫قصره بعد أن فقأ عَي ْنَيْـه ِ لا يَـدري كيف يسير ُ ‪ ,‬وأَ ق ْبَل َ ْ‬

‫ك اليوم َ تَسمعيـن هذه القصّ ة َ مُب ْتَـه ِجة ً م ِن أوّلـها ‪ ,‬ثم أَ خَذ َ لَونُك َّ‬
‫يــتـَغـيـر قليلا ً قليلا ً ‪,‬‬ ‫رأيتُـكِ ذل َ‬

‫ْت بالبُـكاء ِ ‪ ,‬وانْكَبَب ِ‬


‫ْت على أبيـكِ‬ ‫وأخذت جَبـ ْهت ُكِ السَ ْمحَـة تـَر ْب َ ُّ‬
‫ــُد شيئا ً ف َشيئا ً ‪ ,‬وما هي إلّا أ ْن أَ جْ هَش ِ‬ ‫ْ‬

‫ت ُّأُمكِ فانْـتَــزَعَت ْكِ من بـَيْـن ذِراعَيْـه ِ ‪ ,‬وما زالت بكِ حت ّى هدأ روْع ُكِ ‪ ,‬وفهم ْ‬
‫َت‬ ‫لَثْـما ً وتَقبيلا ً ‪ ,‬وأَ ق ْبـل َ ْ‬

‫ُّأُمكِ وفهم َ أبوك وفهمْتُ أنا أي ْضا ً أ ََّنكِ إ ََّنـما بَكَي ِ‬


‫ْت لِأ ََّنـكِ ر ِ‬
‫َأيت (أوديب الملك) كـأَ بِـيكِ م َكفوفا ً لا‬

‫بكيت لأوديب‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ْت لأبيكِ كـما‬
‫يُبْصِر ُ ‪ ,‬ولا يستطي ُع أ ْن يَه ْتدِيَ وَحْدَه ُ ‪ ,‬فـبَكَي ِ‬

‫ضحِك ‪ ,‬وشيئا ً م ِن قَسْوتِـهـم ‪ ,‬وإِنِّي‬ ‫ل ومَيْلَهم إلى َ‬


‫الل ّهْـوِ وال َ‬ ‫َأعرف َّ‬
‫أَن فـيـكِ ع َب َثَ الأطفا ِ‬ ‫ُ‬ ‫نعم ! وإني ل‬

‫ل َأخْ ش َى يا ابنتي إ ْن حَـ َ ّدثْـتُـكِ بِـما كان عليه أبوك في بَعْض أطوار صِباه أ ْن تَضْ ح َكـي منه قاسية ً‬

‫ل م ِن أبـيـه ‪ ,‬وما أح ُُِّب أن يـَله ُـو َ به أو ي َ ْقس ُو َ عليه ‪.‬‬ ‫لاهية ً ‪ ،‬وما ُأحب أن يضح َ‬
‫ك طف ٌ‬
‫ومع ذلك فَق َ ْد عـرفتُ أباك في طو ٍر من أطوارِ حياته أستطي ُع أن أح َ ّدِثَــكِ به د ُون أ ْن ُأثِـيـر َ في نفسِك‬

‫حُـزنا ً ‪ ,‬ودون أن ُأغـريك بالضحك أو َّ‬


‫الَلــهـو ‪.‬‬

‫عـرفــت ُه ُ في الثالثة َ عشرة َ م ِن عمره حينَ ُأرسل إلى القاهرة لِيختل َِف إلى دروس العلِـم في الأزهر ‪ .‬إ ْن‬

‫الزِي ‪ ,‬أق ْر َبَ إلى الفَقْر‬


‫ِّ‬ ‫ل‬ ‫ل ‪ .‬كان نـحيفا ً شاحِبَ َّ‬
‫الَلون ‪ ,‬مُه ْم َ‬ ‫كان في ذلك الوقت لـ َصَـب ِ َّـَي جٍِدٍّ وع َم َ ٍ‬

‫منه إلى الغ ِن ًى ‪ ,‬تقتحم ُه العينُ اقتحاما ً في ع َباءَت ِه القذرة ‪ ,‬وطاقـ َِيـ ّتِـه التي استحال بَياضُـها إلى سوادٍ‬

‫سق ََط‬ ‫حت عباءت ِه وقد َات ّـخَـذ َ ألوانا ً مـختلفة من َ‬


‫كثْـر َة ما َ‬ ‫ن م ِن ت ِ‬
‫ص الذي يَـبِـيـ ُ‬
‫قات ٍم ‪ ,‬وفي هذا الق َمي ِ‬

‫ن في هذا كـِلِّـه ‪ ,‬ول َكن ََّها تبَتسِم ُ له‬


‫ن الـمرقـعتـيـن ‪ .‬تقتحم ُه العيـ ُ‬ ‫عليه م ِن َّ‬
‫الَطعا ِم ‪ ,‬وم ِنْ نَعْلـَيْــه البالِـيَـتَـيْـ ِ‬

‫ن م ُبتسِم َ الثَغْر م ُسرِعا ً مع‬


‫ح الـجَـبِـيـ ْ ِ‬
‫مكفوف ‪ ,‬واضِـ َ‬
‫ٍ‬ ‫ل ر َ ََّثة ٍ ‪ ,‬وبَصَرٍ‬
‫حينَ تـ َراه ُ على ما هو عليه م ِن حا ٍ‬

‫قائـدِه إلى الأزهر ‪ ,‬لا تـختل ُِف خُطاه ‪ ,‬ولا يـتردد ُ في م ِشيته ‪ ,‬ولا ت َ ْظهُــر ُ على وجْ هِه ِ هذه ال ُ ّ‬
‫ظـلـْـمة ُ التي‬

‫ن‪.‬‬
‫تغْش َى عادة ً وُجُوه َ الـمـكفوفِـيـ َ‬

‫ولكنـ ّها تـبـتسـم له وتـل ْحظ ُـه في شيء ٍ من الرفق حِـينَ تـراه في ح َل ْقة الدرس م ُصْ غ ِيا ً‬
‫َ‬ ‫تـقـتحـمه ُ الـعيْـن‬

‫كـَلَّه إلى الشيخ يلَـ ْتـَهِم ُ كلام َه التهاما ً ‪ ,‬مبتسما ً مع ذلك لا م ُتَـأِلِّـما ً ولا م ُتَـبَـرِّما ً ‪ ,‬ولا م ُظه ِرا ً مَي ْلا ً إلى‬

‫لـ َ ْهوٍ ‪ ,‬على حينَ يلهو الصِ بْـيانُ م ِن حولِه ِ أو يـَشْــر َئ ُُّبِــونَ إلى الل ّهو‬

‫عـرفـته يا ابنتي في هذا الطور ‪ ,‬وكم ُأح ُُِّب لو تـعرفـينَـه كـما عرفت ُه ؛ إذا ً تـقـدريـن ما بينكِ وبين ًه من‬

‫ن الـحـياة َ ك ََّلها نَعيما ً و َ‬


‫صفْوا ً ‪.‬‬ ‫وأنت في التاسعة ِ من عمرك تـري ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ق ‪ ,‬ولكنْ َّأَنى ل ِ‬
‫ك هذا‬ ‫فَر ْ ٍ‬

‫ل إلا لَونا ً واحدا ً ‪ ,‬يأخذ ُ منه َّ‬


‫حَظـه في الصَباح‬ ‫ق اليوم والأسبوع والشهر َّ‬
‫والَسنة لا يأك ُ‬ ‫عـرفـته يُـنـفـ ُ‬
‫كِـرا ً في َّ‬
‫أَن حالَه خليقة ٌ‬ ‫حَظه في الـم َساء ‪ ,‬لا شاكيا ً ولا م ُتَبــرِّما ً ولا م ُت َ َّـَجـلِدا ً ‪ ,‬ولا م ُف ّ‬
‫و يأخذ ُ منه َّ‬

‫بالشكوى ‪.‬‬

‫َت ُّأُمكِ ولق َََّدم ْ‬


‫َت إليكِ قَد َحا ً من‬ ‫أخذت يا ابنتي من هذا اللون حظا ً قليلا ً في يو ٍم واحدٍ لأَ شْ فَق ْ‬
‫ِ‬ ‫ولو‬

‫الـماء ِ الـمَعْدِنِـي ‪ ,‬ولانتظر َْت أ ْن تـَدْعو َ الطبيبَ ‪.‬‬

‫ل لِلأزهـريـيـن م ِن خبز‬
‫لقد كان أبوك ينـفـق الأسبوع والشهر لا يعيش إلا على خُـبْـزِ الأزهر‪ ,‬ووي ٌ‬

‫الأزهر ‪ ,‬إ ْن كانوا لَيَــجـدون فيه ضروبا ً من الق َش وألوانا ً من الحَصى وفُـنونا ً م ِن الـحَش َرات ‪.‬‬

‫ِّس هذا الخبز َ إلا في العَسَل الأسودِ ‪ ,‬وأنت لا تعرفين‬


‫وكان ينفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يُغ َِم ُ‬

‫ك ألا تعرفيه ‪.‬‬


‫ل الأسودِ ‪ ,‬وخَـيـر ٌ ل ِ‬
‫العس َ‬

‫حر ْمان ‪,‬‬ ‫ك جادّا ً مُب ْتسما ً ل َِل ّـحياة والدر ِ‬


‫س ‪ ,‬مـحروما ً لا يكاد يَشع ُر بالـ ِ‬ ‫كذلك كان يعيش أبو ِ‬

You might also like