You are on page 1of 11

‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬

‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬

‫املعرفة واملنهج الجدلي في فلسفة أفالطون‬

‫‪ ‬أ‪ .‬نورالدين هالي‬


‫قسم الفلسفة جامعة قسنطينة ‪2‬‬

‫ال يمكن حصول املعرفة عند أفالطون ( ‪ ) 347 – 427‬ق م بمعزل عن نظرية املثل‪،‬‬
‫كما ال يمكن إدراك املثال دون أن يسلك املرء منهجا جدليا عقليا‪ .‬واملثال حسب أفالطون‬
‫ّ‬
‫ليس فكرة ذهنية مجردة‪ ،‬بل له وجود حقيقي ال يدرك إال بالتعقل‪ ،‬أي رؤية عقلية للمعقوالت‬
‫عن طريق املمارسة العقلية للمنهج الجدلي‪ .‬هذا املنهج الذي رسمه أفالطون في محاورات‬
‫ّ‬
‫عديدة‪ ،‬ورغم اإلشكاالت التي تطرحها نظرية املثل‪ ،‬إال أن هذه النظرية تعد أساس فلسفة‬
‫أفالطون‪ ،‬فهي التي خلدته‪ ،‬وكانت سببا في استمرار فلسفته‪ ،‬فضلت تنبض بالحياة وتتطور‬
‫بشأنها التفسيرات‪ ،‬وتلهفت عقول إلدراك هذه املثل أو االقتراب منها‪ ،‬وتهافتت عقول أخرى‬
‫لتمحيصها ونقدها أو إبطال وجودها أساسا‪ .‬ومن هنا تبرز اإلشكالية اآلتية‪ :‬ما دور املنهج‬
‫الجدلي العقلي في تحقيق املعرفة؟ وكيف دحض أفالطون االعتراضات التي واجهت هذا‬
‫املنهج؟‬

‫‪ -1‬مفهوم املثل‪:‬‬
‫املثال في اللغة العربية هو النموذج‪ ،‬كأن يقال الولد مثال أبيه وقد يصدر عن النموذج‬
‫عدة صور من املثال نفس‪ .‬أما في اللغة اإلنجليزية واللغة الفرنسية فتستخدم لفظ ”‪”IDEA‬‬
‫أو ”‪ .“ FORM‬ولفظ ”‪ ”IDEA‬هو االصطالح اليوناني نفسه‪ .‬لكن حديثا أصبح اللفظ في‬
‫اإلنجليزية يدل على الظن أو الفكرة‪ ،‬لذا كثيرا ما نجد عبارة ”‪ “ FORM‬تعني عندهم الهيئة‬
‫أو الصورة‪ ،‬و ترجمتها إلى الص ـ ـ ــورة يدل على مذهب أرسطو والصورة ال تعني املثال في‬
‫مذهب أفالطون‪.‬‬
‫ويستعمل أفالطون عبارة ”‪ ”IDEA‬أو ”‪“ EIDOS‬بمعنى ينظر أو يرى أي رؤية األشكال الرياضية‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأحيانا يضيف إليها عبارة ‪" “NOETA‬الـمعقول ألال جسماني "‪ .‬كما نجد عبارة "الش يء‬
‫بالذات" “ ‪ “ AUTO TO‬وهي عبارة كان يستعملها في املحاورات السقراطية كذلك عبارة‬
‫"بحسب الكل" “ ‪ (“ KATA OLOU‬أنظر أحمد فؤاد األهواني ‪ ،‬أفالطون ‪ ،1991 ،‬ص ‪110 -109‬‬
‫)‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬
‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬

‫ونجد هذا املعنى لدى املدرسة الذرية من قبل‪ ،‬والتي كانت ترى ‪ »:‬أن الكتلة الالمتناهية‬
‫التي تمتزج فيها بذور كل العوالم تتآلف في جزئيات ال متناهية الصغر ال ترى وال تقبل القسمة‪،‬‬
‫كاملة أزلية ولها نفس الشكل‪ ،‬وتشكل عددا ال متناهيا من األشكال الـمختلف ـة‪ ،‬يطل ـق‬
‫عليها اسم املثل وهو االســم نفسه الذي أطلقه أفالطون فيما بعد على الجواهر األزلية«‬
‫( ‪ ،) Emile Bréhier, Histoire de la philosophie, 1943, p 87.‬وهكذا يعبر أفالطون‬
‫عن املثال بألفــاظ عديدة بحسب موضع املحاورة‪ .‬لكن الش يء املتفق عليه عند أغلب‬
‫شارحي أفالطــون‪ ،‬أنها تملك خصائص عدة‪ :‬فهي منفصلة عن األشياء الحسية‪ ،‬ومنفصلة عن‬
‫بعضها البعض‪ ،‬وأنها مفارقة أي أن لها وجودا حقيقيا خارج الذهن‪ ،‬وأنها كاملة وبسيطة‬
‫ومطلقة وصرفه‪ ،‬وفي مكان ال يضاهيه أي مكان‪ ،‬وأزلية تقع خارج الزمان واملكان ( ‪Voir Marcel‬‬
‫‪.) Renault, Platon, p 46-47‬‬
‫ويعرف مراد وهبة املثال في املوسوعة الفلسفية بقوله » املثال مبدأ الوجود والـمعرفة‪،‬‬
‫أما أنه مبدأ الوجود فألن الجسم يتعين في نوعه بمشاركة جزء من مادته في مثال من‬
‫املثل‪ .‬وأما أنه مبدأ املعرفة‪ ،‬فألن النفس لو لم تكن حاصلة عليه ملا عرفت كيف تسمي‬
‫األشياء وتحكم عليها« (مراد وهبة‪ ،‬املعجم الفلسفي‪ ،1984 ،‬مادة امليم‪ ،‬ص ‪.) 613‬‬
‫إن هذه القداسة التي أعطاها أفالطون للمثل‪ ،‬وكل تلك الخصائص التي تميزها‪ ،‬فتحت‬
‫املجال لتفسيرات مختلفة‪ .‬لكن ما يجدر قوله بحسب فؤاد زكرياء‪ » :‬إن التفسير األقرب‬
‫إلى الواقع هو أن أفالطون أراد من املثل أن تكون أنموذجا من الثبات واألزلية يحتذيه العقل‬
‫في فهمه للواقع املتغير« (فؤاد زكرياء‪ ،‬دراسة لجمهورية أفالطون‪ ،1967 ،‬ص ‪ ،) 146‬فاملثل إضافة‬
‫إلى أنها أنموذجا للمعرفة الصادقة‪ ،‬فهي كذلك أنموذجا للوجود الحقيقي‪ ،‬ألنها تقع خارج‬
‫العالم املنظور‪.‬‬
‫وهنا يجب الفصل بين مثالية أفالطونية و املثالية الحديثة‪ ،‬التي ترون أن أفالطون لجأ‬
‫إلى تجسيم الكيانات الفكرية وأعطاها صبغة أسطورية تماشيا ملا جرت عليه عادة اليونان‪.‬‬
‫وبهذا التفسير ليست املثل سوى املعقولية الكامنة في العالم‪.‬‬
‫وعليه فاملثالية الحديثة ترفض أن تكون حقيقة للمحسوسات خارج الذهن‪ ،‬لكن تكوينها‬
‫يكون بواسطت الذهن ذاته‪ ،‬بخالف أفالطون الذي سلب املحسوسات وجودها الحقيقي‪،‬‬
‫ألنها ال تشكل موضوعا للمعرفة‪ ،‬كما أن املثال األفالطوني ال يشترك مع الفكرة‪ ،‬كما فهمتها‬
‫ّ‬
‫املثالية الحديثة إال في اللفظ ”‪ . ”IDEA‬فالفكرة عند أنصار املثالية الحديثة هي موضوع‬

‫‪179‬‬
‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬
‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬

‫ذهني‪ .‬أما أفالطون فيؤكد استقاللية املثال عن الذهن وعن املحسوسات‪ .‬كما أن واقعية‬
‫أفالطون ليست واقعية وإنما هي واقعية املثل أو املعقوالت (أنظر فؤاد زكرياء‪ ،1967 ،‬ص‪.)144‬‬
‫لقد رسم أفالطون طريقا قائما على أساس الفرضيات والبرهان وهو ما أسماه الجدل‬
‫الصاعد والجدل النازل‪ ،‬وهو املنطق هو الذي تقوم عليه نظرية املثل عند أفالطون‪.‬‬
‫‪ -2‬مشكلة اليقين في فلسفة أفالطون‬
‫من الكهف إلى عالم املثل طريق يكشف فيه أفالطون أنواع املعرفة ومراتب الوجود‪،‬‬
‫ذلك ما يتضح من خالل نهاية الكتاب السادس وكل الكتاب السابع من محاورة الجمهورية‪،‬‬
‫ففي نهاية الكتاب السادس يعرض أفالطون تمثيال للتناسب بين مراتب الوجود من جهة‬
‫والتناسب بين يقين كل نوع من أنواع املعرفة من جهة أخرى‪ ،‬يقول » فلتتصور اآلن خطأ‬
‫مقسما إلى قسمين غير متساويين يمثالن املجال املنظور واملجال املعقول‪ ،‬ولتقسم كل قسم‬
‫بدوره بنفس النسبة لكي ترمز إلى الدرجة النسبية في الوضوح والغموض« (أفالطون‪ ،‬الجمهورية‪،‬‬
‫تعريب فؤاد زكريا‪ ،1968 ،‬ص ‪.) 40‬‬
‫بعد أن عرض أفالطون مراتب الوجود التي تشكل موضوعات الـمعرفة‪ ،‬يبين ما يتطابق‬
‫معها من أحوال الذهن‪ ،‬يقول‪ » :‬فالعقل أرفعها والفهم هو التالي له واالعتقاد هو‬
‫الثالث والتخيل هو األخير« ( أفالطون الجمهورية‪ ،1968 ،‬ص ‪ ،) 43‬فدرجة وضوح ويقين هذه‬
‫املعارف األربع تتناسب مع مقدار الحقيقة التي تمتلكها كل مرتبة من مراتب الوجود ‪.‬‬
‫أما التناسب الثاني في الكتاب السابع فورد التناسب كاآلتي‪ » :‬وإذن فمن رأيي أن نحتفظ‬
‫باألسماء السابقة التي أطلـقناها على األقسام األربعة‪ ،‬فنسمي القسم األول باسم العلم‪،‬‬
‫والقسم الثاني بالفهم‪ ،‬والثالث باالعتقاد‪ ،‬والرابع بالتخيل ونطلق على املجموعتين األخيرتين‬
‫اسم الظن‪ ،‬وموضوعه عالم التحول‪ ،‬وعلى املجموعتين األوليتين اسم العقل‪ ،‬وموضوعه‬
‫الوجود‪ .‬ولنضف إلى ذلك أن الوجود بالنسبة إلى التحول كالعقل بالنسبة إلى الظن‪ ،‬وأن‬
‫العقل بالنسبة إلى الظن كالعلم بالنسبة إلي االعتقاد‪ ،‬وكالفهم بالنسبة إلى التخيل« (أفالطون‪،‬‬
‫الجمهورية‪ ،1968 ،‬ص ‪. )247‬‬
‫بعد أن تناول أفالطون مراحل الـمعرفة في نهاية الكتاب السادس‪ ،‬تناول من خالل‬
‫الكتاب السابع أمثولة الكهف وهو تمثيل يعطي توضيحا أدق لهذه الـمراحل حيث يبين‬
‫أفالطون معاناة النفس البشرية في سجن البدن وفي زيف العالم الحس ي‪ ،‬فكأن الناس‬
‫ّ‬ ‫يمكثون في كهف‪ّ ،‬‬
‫تقيدهم أغالال تمنعهم من رؤية الحقيقة‪ ،‬وال يرون إال ظالل منعكسة‬ ‫ِّ‬

‫‪180‬‬
‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬
‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬

‫على جدار أمامهم‪ ،‬فيتخيلون أن تلك الظالل هي الحقيقة‪ .‬لكن بمجرد تحرر أحدهم من‬
‫تلك القيود‪ ،‬يلتفت وراءه فيرى نورا ينبعث من خالل مدخل الكهف فيتجه إليه‪ ،‬لكن سرعان‬
‫ما يكتشف أن هناك نارا وأنها مصدر النور املنبعث إلى الكهف‪ ،‬وبين الكهف وتلك النار‬
‫رجاال يخفيهم جدارا وال يظهر إال ما يحملون من مصنوعات وأدوات تشمل أشكاال للناس‬
‫وللحيوانات وغيرها‪ .‬ومن جملة هذه األشكال من يتكلم ومن ال يقول شيئا‪ .‬وهكذا يدركون‬
‫أنهم ال يعرفون شيئا سوى ظالل املصنوعات‪ ،‬وهذه املرحلة هي األولى من مراحل املعرفة‪.‬‬
‫(أنظر أفالطون‪ ،‬الجمهورية‪ ،1968 ،‬ص ‪.)247-246‬‬
‫وإذا ما استمر هذا الشخص في الصعود يجد نور الشمس‪ .‬غير أن بصره ال يستطيع إدراكها‬
‫مباشرة‪ ،‬فيرى الشمس منعكسة على سطح املاء‪ ،‬وكذلك بقية األشياء األخرى‪ .‬فإذا ما رآها‬
‫منعكسة أمكنه بعد ذلك تأملها في موضعها‪ .‬ويلخص أفالطـون هذه املرحلة بقوله‪ »:‬ففي‬
‫البداية يكون أسهل األمور أن يرى الظالل‪ ،‬ثم صور الناس وبقية األشياء منعكسة على‬
‫صفحة املاء ثم األشياء ذاتها‪ ،‬وبعد ذلك يستطيع أن يرفع عينيه إلى نور النجوم والقمر‪،‬‬
‫فيكون تأمل األجرام السماوية وقبة السماء ذاتها في الليل أيسر له من تأمل الشمس في وهجها‬
‫في النهار‪ ،‬وآخر ما يستطيع أن يتطلع إليه هو الشمس ال منعكسة على صف ــحة املاء أو على‬
‫جسم آخر‪ ،‬بـل كما هي فــي موضعها الخاص « ( أفالطون الجمهورية‪ ،1968 ،‬ص ‪.)248‬‬
‫طريق الصعود لم ينته بعد‪ ،‬فهناك مرحلة أخرى‪ ،‬ولفهمها ينتقل أفالطون إلى عرض‬
‫العلوم املجردة‪ ،‬كالهندسة وعلم العدد والحجوم وعلم الفلك‪ ،‬إذ يؤكد أن آخر ما تدركه‬
‫النفس في العالم املنظور هو األجرام السماوية‪ ،‬يقول» إن تلك األجرام التي تتألق بها السماء‬
‫إنما هي من العالم املنظور‪ .‬ومن هنا فعلى الرغم من أن كونها أجمل األشياء املادية وأكملها‪،‬‬
‫فإنها أدنى مرتبة بكثير من الـموجودات الحقـيقية‪ .‬أي تلك التي تتحرك حركة حقيقية‪ ،‬بسرعة‬
‫وتحرك على هذا النحو‬ ‫ّ‬
‫حقيقية وببطء حقيقي‪ ،‬وتبعا ألعداد حقيقية وأشكال حقيقية‪ِّ ،‬‬
‫ُ‬
‫كل ما فيها‪ .‬تلك كلها أمور تدرك بالعقل والفـكر وال ترى بالعين « (أفالطون‪ ،‬الجمهورية‪،‬‬
‫‪ ،1968‬ص‪.)268‬‬
‫بعد هاتين املرحلتين يغادر املرء العالم املنظور ليبدأ رحلته في عالم املعقوالت‪ ،‬وأول مرحلة‬
‫في هذا العالم هي مرحلة إدراك العالقات العددية والهندسية‪ ،‬فينطلق العقل عن طريق‬
‫املفاهيم الرياضية بمنهج فرض ي حتى يصل إلى أعلى الفروض‪ ،‬ليؤكد صحة نتائجها عند‬
‫العودة بعيدا عن املسلمات الرياضية‪ ،‬وال يكون هذا إال عن طريق الدياليكتيك ( الجدل)‬
‫دون استعمال أي حاسة من الحواس‪ ،‬فهذا يقول أفالطون‪» :‬كذلك يصل املرء إلى قمة‬
‫‪181‬‬
‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬
‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬

‫العالم املعقول بالدياليكتيك عندما يكف عن االلتجاء إلى أي حاسة من حواسه‪ ،‬ويبلغ‬
‫بالعقل وحده ماهية كل ش يء‪ ،‬وال يكف عن سعيه حتى يدرك بالفكر وحده ماهية الخير«‬
‫( أفالطون‪ ،‬الجمهورية‪ ،1968 ،‬ص ‪ .)272‬هكذا يصل إلى آخر مرحلة من مراحل املعرفة األربع‬
‫وفي قمتها مثال الخير ويقول في ذلك‪ » :‬فآخر ما ُيدرك في العالم املعقول بعد عناء شديد‬
‫هو مثال الخير‪ ،‬لكن املرء ما أن ُيدركه حتى يستنتج حتما أنه علة ما هو خير وجميل في‬
‫األشياء جميعا‪ ،‬وأنه غي العالم املنظور خالق النور وموزعه‪ ،‬وفي العالم املعقول هو مصدر‬
‫الحقيقة والعقل‪ .‬فبدون تأمل هذا املثال ال يستطيع أحد أن يسلك بحكمة في حياته الخاصة‬
‫وال في شؤون الدولة « (أفالطون‪ ،‬الجمهورية‪ ،1968 ،‬ص ‪.) 250‬‬
‫من خالل هذه الفقرة يؤكد أفالطون صعوبة إدراك مثال الخير الذي يعد مصدر كل‬
‫خير وجمال في العالم املحسوس‪ .‬ويظهر هذا في تشبيه أفالطون أن الشمس مصدر النور‬
‫في العالم املنظور وبأنها ابن الخير‪ ،‬ولو ال نور الشمس ما استطاعت العين رؤية ش يء في‬
‫هذا العالم‪ ،‬ففي الكتاب السادس يقول‪ » :‬فلتعلم أن الشمس هي ما كنت أعنيه باالبن الذي‬
‫خلقه الخير‪ ،‬ولقد خلقها في العالم املنظور لكي يكون لها فيه‪ ،‬بالنسبة إلى اإلبصار‬
‫واألشياء املنظورة منزلة الخير في العالم املعقول بالنسبة إلى العقل واملعقوالت « (‬
‫أفالطون‪ ،‬الجمهورية‪ ،1968 ،‬ص ‪.) 268‬‬
‫ّ‬
‫وبهذا يقدم أفالطون أنموذجا محسوسا يمكن من ليس لهم قدرة على إدراك عالم املثل‬
‫أومن يظنون أنها مجرد مفاهيم ذهنية‪ ،‬أن يتصوروا منزلة شمس العالم املنظور بمثابة‬
‫منزلة مثال الخير في العالم املعقول في ذلك يقول‪ » :‬يعد مثال الخير شمس العالم املعقول‪،‬‬
‫وإن كنا ال نستطيع معرفته بـدقة ألنه بعيد عن إدراكنا‪ .‬إنه الضوء الساطع الذي يضفي‬
‫على الجواهر ماهيتها وقدرتها على االستمرار في الوجود واملحافظة عليه « (– ‪Jules Chaix‬‬
‫‪ .)Ruy, La pensée de Platon, 1957, p 174‬وبهذا يمكن القول‪:‬‬
‫‪ -‬إن املثال مصدر الحقيقة والعقل في العالم املعقول‪ ،‬وهذا يعني عدم استقالل املثل‬
‫فيما بينها‪.‬‬
‫‪ -‬أن شؤون الفرد أو الدولة ال تستقيم دون تأمل املثال‪ ،‬الذي يؤدي إلى التشبه به ألنه‬
‫مصدر الخير والجمال و الثبات‪ .‬كما أن الحقيقة ليست في املادة وال املعرفة في املوضوع‬
‫وال في األشياء التي تتشبه بالخير‪ ،‬وإنما في الخير الـمطلق (‪.)Voir Lean Robin, Platon, p 83.‬‬
‫هذا الخير الذي أعطاه أفالطون أسمى املراتب على اإلطالق‪ ،‬يقول‪» :‬فلتعرف أيضا أن‬
‫األشياء املعقولة ال تستمد من الخير قابليتها ألن تعرف فحسب‪ ،‬بل هي تدين له‪ ،‬على‬
‫‪182‬‬
‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬
‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬

‫األصح بوجودها وماهيتها‪ ،‬وإن لم يكن الخير ذاته وجودا‪ ،‬وإنما هو ش يء يفوق الوجود‬
‫ا‬
‫قوة وجالال« (أفالطون‪ ،‬الجمهورية‪ ،1968 ،‬ص ‪.).240‬‬
‫وهذه املكانة الرفيعة جعلت من الخير محل جدل وتأويل فيما إذا كان هو ذاته إله‬
‫أفالطون أم أنه أسمى منه أو أقل مرتبة‪ .‬وهل مثال الخير هو اإلله أم أنه مشابه له؟ ( ‪Voir‬‬
‫‪.)Jules Chaix –Ruy, La pensée de Platon, P 175.‬‬
‫هذه الصبغة الدينية املقدسة تظهر في قمة فلسفة أفالطون وتبدو صورة جديدة‬
‫تدخل العقل اليوناني‪ ،‬فقد ازدرى الحياة الحسية التي كانت قبل ذلك موضوع الحقيقة‬
‫ومصدرها وارتفع إلى ماهيات األشياء‪ ،‬إلى املثل الكائنة خارج هذا العالم مؤكدا على طابعها‬
‫اإللهي في يقول‪» :‬ولكن هل تظن أنه من املستغرب أن تبدو على املرء مظاهر الحيرة ويصبح‬
‫مدعاة للسخرية إذا ما انتقل من تأمل هذه األمور اإللهية إلى بؤس الحياة البشرية «‬
‫(أفالطون ‪ ،‬الجمهورية‪ ،1968 ،‬ص‪.)250‬‬
‫إذا املثل عند أفالطون حقيقة مقدسة ال تقبل اإلنكار مادامت تحمل هذه الصبغة‬
‫الدينية‪ ،‬وقد انصب جل فكر أفالطون إلقامة البراهين العقلية إلثبات هذه الحقيقة‪ .‬وعليه‬
‫هل يمكن القول أن وجود املثل قائم عـلى قوة الـبراهين الدالة عليها؟ وهل إشكالية املشاركة‬
‫تحول دون إثبات وجودها ؟‬

‫‪ -3‬الجدل األفالطوني ومشكلة املشاركة‪:‬‬


‫تظهر املثل األفالطونية في محاورة الجمهورية كفروض يثبتها العقل عن طريق الدياليكتيك‪،‬‬
‫وكذلك الشأن بالنسبة إلى محاورة فيدون‪ .‬لكن املثل بهذا الطرح واجهت اعتراضات لغموضها‬
‫وغموض عالقتها بالعالم املنظور‪ ،‬غير أن محاورة بارمنيدس جاءت الختبار هذه‬
‫الفرضية وعرض االعتراضات التي وجهت إليها‪ .‬إذ كيف يمكن للكثرة أن تشارك في مثال واحد‪،‬‬
‫وإن وجد املثال الواحد في كل ش يء لفارق املثال نفسه‪ ،‬ولو أنه شارك بجزء منه وهو مثال‬
‫الصغر‪ ،‬يكون بالضرورة أكبر من كل جزء من أجزائه‪ ،‬وهذا غير ممكن‪ .‬وكذلك إذا قلنا‬
‫إن مثال الكبر فوق أجزاء كلها كبيرة‪ ،‬يمكننا أن نفترض كمية في ذاتها أكبر من تلك الكميات‬
‫وذلك إلى ما النهاية‪ ،‬وهذا أيضا ال يفسر الـمشاركة‪ ،‬إذن عالقة الـمثال بالش يء ليست‬
‫مثل عالقة الجزء بالكل‪ ،‬وعليه هل يمكن القول إن عالقة الش يء باملثال كعالقة الصورة‬
‫بالنموذج (النسخة باألصل ) وفي هذه الحالة‪ ،‬يجب أن يكون النموذج مشابها للصورة‪،‬‬

‫‪183‬‬
‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬
‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬
‫ّ‬
‫وما تنص عليه النظرية أنه ال تشابه إال في مثال واحد‪ ،‬وعليه البد من وجود مثال ثالث‬
‫أي مثال لكل مثال إلى ما النهاية‪.‬‬
‫إضافة إلى كل هذا من املفروض أن يكون املثال موضوعا للعلم‪ .‬لكن املثال له وجود في‬
‫ذاته ال في عقولنا‪ ،‬فكيف يمكن أن يكون موضوعا للعلم؟‬
‫يقول إميل بريهيية معلقا على هذا النقد‪ » :‬إثر هذا النقد يتالش ى كل ما يعطي فرضية‬
‫املثل قيمتها‪ ،‬فاملثال ليس تفسيرا لألشياء مادامت املشاركة فيه مستحيلة‪ ،‬كما أنه ال يمثل‬
‫وحدة الكثرة مادامت تتوزع على ما النهاية له من املثــل‪ ،‬وليس بموضــوع علم مادام الع ــلم في‬
‫األصـل مفارقا لنا « (‪.)Emile Bréhier, Histoire de la philosophie, 1943, p 122-123‬‬
‫ويتضح بعد كل هذه املناقشات أن املشكلة ليست في إثبات املثال وإنما في إثبات املشاركة‬
‫بين املثل واملحسوسات‪.‬‬
‫يعود أفالطون في محاورة ثياتيتوس إلعادة بناء املنهج املعرفي الذي يقود إلى الحقيقة‬
‫انطالقا من نقد نظرية بروتاغوراس " اإلنسان مقياس كل ش يء " ‪ .‬ويبدأ من وضع األسس‬
‫التي تنبني عليها املعرفة‪ ،‬انطالقا من ادراكات النفس التي تعطي إما ظنا خاطئا وهو الجهل‪،‬‬
‫وإما ظنا صادقا وهو العلم‪ ،‬لكنه يتراجع ليؤكد أن الظن الصــادق ليس بعلم‪ ،‬إذ ال يكفـي‬
‫إلعطاء األحكام‪ ،‬فيضيـف إليه ‪ -‬أي الظن الصادق ‪ -‬أن يكون مصحوبا بالبرهان وسرعان‬
‫ما يكتشف أنه غير كاف أيضا إلقامة العلم‪ ،‬ويمض ي في بحثه ليصل إلى أن العلم هو الظن‬
‫املكون منها أو "الخاصية الـمميزة"‬‫الصادق املصحوب بالبرهان‪ ،‬وكذلك معرفة العناصر َّ‬
‫ويكتشف مرة أخرى أن هذا التعريف غير كــاف‪ ،‬يقول أفالطون على لسان سقراط مخاطبا‬
‫ثياتيتوس‪ » :‬إذن أنه من باب السخف أن يأتي أحدهم ليؤكد لنا نحن الذين نبحث عن‬
‫العلم أن الظن الصادق مع الخاصة املـميزة‪ ،‬أو أي ش يء يرغبون فيه‪ .‬وكذلك يا ثياتيتوس‬
‫لن يكون العلم إحساسا وال ظـنا صادقا وال برهانا منطقيا يضاف إلى هذا الظن الصادق‪« .‬‬
‫(أفالطون‪ ،‬ثياتيتوس‪ ،‬تعريب أميرة حلمي مطر‪ ،1998 ،‬ص ‪.) 163‬‬
‫والخالصة أن هذه املحاورة تعد هجوما عنيفا ضد املعرفة الحسية‪ ،‬وتكريسا لسلطان‬
‫العقل ليؤكد بأنه األداة الوحيدة إلدراك املثل‪ .‬وهذا تأكيد ملا ورد في الجمهورية من خالل‬
‫قوله‪ » :‬أما القسم الثاني من العالم املعقول فإني أعني به ما يدركه العقل وحده بقوة‬
‫الدياليكتيك‪ ،‬بحيث ال ينظر إلى مسلماته على أنها مبادئ‪ ،‬وإنما على أنها مجرد فروض‪،‬‬
‫هي أشبه بدرجات ونقط ارتكاز تمكننا من االرتقاء إلى املبدأ األول لكل ش يء‪ ،‬الذي يعلو‬
‫على كل الفروض‪ ،‬فإذا ما وصل العقل إلى ذلك املبدأ‪ ،‬هبط متمسكا بالنتائج التي تتوقف‬
‫‪184‬‬
‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬
‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬

‫عليه حتى يصل إلى النتيجة األخيرة دون أن تستخدم أي موضوع محسوس‪ ،‬وإنما يقتصر‬
‫على املثل بحيث ينتقل من مثال إلى مثال آخر‪ ،‬وينتهي إلى املثل أيضا « (أفالطون‪ ،‬الجمهورية‪،‬‬
‫‪ ،1968‬ص‪.)242‬‬
‫بعد التشكيك في معارف العالم املنظور‪ ،‬ينقلنا أفالطون من خالل محاورة السفسطائي‬
‫ّ‬
‫إلى بحث الوجود الحقيقي انطالقا من نقد الـمذهب الـمادي‪ ،‬الذي ال يرى الوجود إال في‬
‫املحسوسات ومن نقد أصدقاء املثل الذين يرون أن املثل منعزلة وثابتة‪ ،‬يقــول إميل بريهيية‬
‫معلقا على هذا النقد األخير‪ » :‬فأصدقاء املــثل الذين نعرفهم في ذلك العصر‪ ،‬هم أفالطون‬
‫ومدرسته فقط‪ ،‬أفال يمكن أن نقول إن أفالطون ذاته ينتقد تصــورا للمثل قد قال به‬
‫من قبل‪ ،‬وأختبره في محاورة بارمنيدس‪ ،‬ثم تعداه بعد ذلك« ( ‪Emile Bréhier, Histoire de‬‬
‫‪.) la philosophie, 1943, p 131.‬‬
‫ُ‬
‫وتظهر محاورة السفسطائي تصور أفالطون لحل العالقة بين املثل فيما بينها‪ ،‬إذ كيف يمكن‬
‫للواحد أن يتعدد؟ ذلك أنه يمكن الحديث عن ش يء واحد و في الوقت نفسه يأخذ أشكاال‬
‫متعددة ) ‪ . (Voir Platon, Sophiste, T : Emile Champry, p 75‬لكن تبقى مشكلة طبيعة العالقة‬
‫بين الواحد واملحسوسات املتعددة واملتغيرة معلقة‪.‬‬
‫يقدم أفالطون في محاورة فيالبوس حال رياضيا لهذه الـمشكلة‪ ،‬إذ رأى أن العالقة‬
‫بين والواحد والكثـرة الـمحسوسة في شكل نسب رياضية ثابت ـة‪ ،‬مثلها مثل التناس ـ ـب‬
‫املوجود بين أوتار القيثارة الذي ينتج أصوات مختلفة تعطي تناغما وتالؤما وجماال وطيبة‬
‫) ‪ ،( Voir Platon, Philépe, T : Emile Chambry,1969, p 412-413‬ويعزز هذا االتجاه الدروس‬
‫الشفوية‪ ،‬التي تصف املثل بأنها أعداد مثالية كالنسب املوجودة بين املتتاليات الحسابية‬
‫أو الهندسية ‪.‬‬
‫بعد التفسيرات الفلسفية والرياضية للعالقة بين املثل واملحسوسات‪ ،‬تأتي محاورة‬
‫طيماوس‪ ،‬التي طغى عليها التفسير الديني لنظرية املثل‪ ،‬وقد رتب أفالطون في هذه املحاوراة‬
‫املوجودات ترتيبا تصاعديا‪.‬‬
‫لقد كان الكون فوض ى وبتدخل من اإلله الفاطر أصبح منظما يشير وفق حركة منظمة‬
‫نحو الخير والكمال‪ ،‬وقد اهتدى أفالطون إلى ذلك بتطبيقه للفرضيات الرياضية في مجال‬
‫الطبيعيات بواسطة التناغم والجمال‪ ،‬فالعلة الوحيدة لتكوين العالم هي طيبة اإلله‪،‬‬
‫ويظل الخير مصـدر كل برهان وكل ما هو موجود في العالم املنظور الذي يحاكي قدر اإلمكان‬
‫أزلية النموذج (‪.)Voir Platon, Timée, T Emile Champry, 1969, p 461‬‬
‫‪185‬‬
‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬
‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬

‫إن العالم كله ينبض بالحياة‪ ،‬ألن العالقات التي تحكمه صادرة عن النفس الكلية‪ ،‬ذلك‬
‫أن اإلله بث الروح في هذا الكون فأنتظم واستوى (أنظر أفالطون‪ ،‬القوانين‪ ،‬تعريب حسن ظاظا‪،‬‬
‫مطابع الهيأة املصرية العامة للكتاب‪ ،1969 ،‬ص ‪ ،)240‬وكذلك تأمل األجرام السماوية وحركة‬
‫الكواكب يقود النفس إلى إدراك حقيقة العالم اآلخر كما جاء في محاورة الجمهورية‪.‬‬
‫ويبدو أن هذا الطرح وجها آخر لحل إشكالية مفارقة املثل للعالم املحسوس‪ ،‬حال جاء وفق‬
‫تصور ديني ال ُيدرك إدراكا مباشرة‪ ،‬إنما يدرك عن طريق الحدس العقلي بعد تشبع النفس‬
‫بالجمال في املخلوقات التي تقود إلى جمال الخالق وهو الجمال املطلق‪ .‬ذلك ما كشفت‬
‫عنه محاورة املأدبة فالنفس بعد أن تتشبع من جمال األجساد ترقى إلى جمال النفوس‪،‬‬
‫لتدرك بعد ذلك الجمال الحقيقي والخالد الذي وصفه أفالطون بقوله‪ » :‬جمال ال يظهره‬
‫وجه وال يدين وال كل ما هو جسدي‪ ،‬جمال ال يضاهيه فعل وال يناظره علم وال أسمى‬
‫موجود‪ ،‬جمال ال يظهر في حيوان وال في أرض وال في سماء وال في ما يشبه ذلك من األشياء‪.‬‬
‫لكنه يظـل في ذاته‪ ،‬أزليا يماثل ذاته بما هو جمال يــستمد منه كل جميل جماله « ( ‪Platon,‬‬
‫‪.) Le Banquet, 1992, p 122‬‬
‫لكن ما الذي يقود النفس إلى االرتقاء إلدراك ذلك الجمال ؟ إنه الحب فاإلنسان ال يلد‬
‫ّ‬
‫إال في الجمال تحت تأثير الحب‪ ،‬ثم أن اتحاد النفس بالخير يجعلها تزدري الجماالت الجزئية‬
‫لتبحث عن الجمال الحقيقي‪ ،‬فالنفس تتحد مع الخير للبحث عن اللذة عند تجاوز جميع‬
‫الجزئيات (‪.) Vois Jules Chaix –Ruy, La pensée de Platon, 1957, p 166.‬‬
‫لكن ملاذا تعشق النفس الجمال ؟‬
‫ّ‬
‫إن جمال األجساد جمال حس ي‪ ،‬ولكنه يذكر النفس بالجمال الحقيقي بناء على نظرية‬
‫التذكر عند أفالطون‪ ،‬وهذا ما يبدو جليا في محاورة فايدروس‪ .‬هذه املحاورة تصور عالم‬
‫املثل بأنه ذلك العالم اإللهي الذي كانت تسكنه األنف ــس قبل نزولها إلى العالم األرض ي‪،‬‬
‫والذي يقول عنه أفالطون‪ » :‬هذا املكان يقع فوق السماء‪ ،‬ولن يتغنى بجمـاله شاعر غناء‪،‬‬
‫يتناسب مع روعته« (أفالطون‪ ،‬ثياتيتوس‪ ،1998 ،‬ص ‪ .) .64‬فالنفس تتوق إلى الـمكان الذي‬
‫قدمت منه‪ ،‬وبمجرد أن تتخلص من العالئق الحسية‪ ،‬تدرك الجمال الخالد يقول أفالطون‬
‫في ذلك‪ » :‬أجل الهوس الذي يحدث عند رؤية الجمال األرض ي فيذكر من يراه بالجمال‬
‫تنبت فيه وتتعجل الطيران لكنها ال تستطيع‪ ،‬فتشرئب‬ ‫الحقيقي‪ ،‬وعندئذ يحس املرء بأجنحة ُ‬
‫ببصرها إلى أعلى كما يفعل الطائر‪ ،‬وتهمل موجودات هذه األرض‪ ،‬حتى لتوصف بأن الهوس‬
‫أصابها « (أفالطون‪ ،‬ثياتيتوس‪ ،1998 ،‬ص ‪.) 68‬‬
‫‪186‬‬
‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬
‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬

‫وما يمكن استخالصه‪ ،‬أن التفسير النهائي الذي قدمه أفالطون إلشكالية املشاركة هو الحل‬
‫الرياض ي سواء أكانت مشاركة املثل مع املحسوسات أم مشاركة املثل فيما بينها‪ ،‬فسيظل‬
‫الحب هو ما يدفع النفس إلى تأمل املثال ِّملا يكتسيه من خير وجمال وما يضفيه على العالم‬
‫من تناغم وانســجام يقود النفوس الطيبة إلى محاكاة الكمال ويجذبه إليه‪ ،‬وهكذا يكون‬
‫الحب عند أفالطون طاقة تستمد منه النفس قوتها لبلوغ الحقائق األزلية‪.‬‬
‫هكذا انطلق أفالطون من الكهف إلى املثال كرياض ي بارع‪ ،‬وما إن رأى ذلك العالم‬
‫وأدرك حقائقه حتى عاد كرجل دين متصوف يتسم بالورع والتقوى‪ .‬وفي هذا االتجاه يقول‬
‫جون جيتون " ‪ " Jean Guitton‬أن التصوف ال ينفصــل عن الحياة الفـكرية ألفالطون"‪.‬‬
‫(‪)Jean Guitton, Les pages immortelles de Platon, 1960, p22.‬‬
‫ولقد توصلنا إلى أن املنهج الجدلي األفالطوني واجهته العديد من الصعوبات واالنتقادات‪.‬‬
‫لكن أفالطون عمل على تأكيد صحته من خالل الطرح الديني في "طيماوس " والحدس الصوفي‬
‫في "فايدروس" و"املأدبة"‪ .‬والجدير باملالحظة أيضا أن مجموع تلك املحاورات ال تخرج‬
‫عن اإلتجاه العام الذي رسمته محاورة الجمهورية في الخط الرابط بين الكهف وعالم‬
‫الـمثل وهو " خط املعرفة والوجود"‪.‬‬

‫املصادرواملراجع‪:‬‬
‫املصادر‬
‫‪ -‬أفالطون‪ ،‬ثياتيتوس‪ ،‬تعريب أميرة حلمي مطر ‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع ‪ ،‬القاهرة ‪.1998 ،‬‬
‫‪ -‬أفالطون‪ ،‬الجمهورية‪ ،‬تعريب فؤاد زكريا‪ ،‬دار الكتاب العربي للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.1968،‬‬
‫‪ -‬أفالطون‪ ،‬القوانين‪ ،‬ترجمة حسن ظاظا‪ ،‬مطابع الهيئة املصرية العامة للكتاب‪.1969 ،‬‬
‫‪- Platon, Philépe,T Emile Champry, librairie Garnier frères, Paris.‬‬
‫‪- Platon, Sophiste, T: Emile Champry, librairie Garnier frères, Paris, 1969.‬‬
‫‪- Platon, Timée, T Emile Champry, librairie Garnier frères, Paris, 1969.‬‬
‫املراجع‬
‫‪ -‬أحمد فؤاد األهواني‪ ،‬أفالطون‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1991 ، 4‬‬
‫‪ -‬فؤاد زكرياء‪ ،‬دراسة لجمهورية أفالطون‪ ،‬دار الكتاب العربي القاهرة‪.1967 ،‬‬
‫‪- Emile Bréhier, Histoire de la philosophie, PUF, Paris, 1943.‬‬
‫‪-Jean Guitton, Les pages immortelles de Platon, Edition Bouchet Chastel, Paris, 1960.‬‬
‫‪- Jules Chaix – Ruy, La pensée de Platon, Bordas, 1957.‬‬
‫‪- Lean Robin, Platon, PUF, Paris, sans année.‬‬
‫‪- Marcel Renault, Platon, l' librairie Garnier frères, Paris, sans année.‬‬

‫‪187‬‬
‫‪ISSN :2353 - 0499‬‬ ‫مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية‬
‫‪EISSN :2602 -5264‬‬ ‫املجلد‪ ، 2‬العدد‪( ،3‬جوان ‪)2014‬‬
‫املعاجم‬
‫‪ -‬مراد وهبة ‪ ،‬املعجم الفلسفي ‪ ،‬دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ط‪.1984 ،4‬‬

‫‪188‬‬

You might also like