Professional Documents
Culture Documents
ماهي الثورة؟ميشيل فوكو
ماهي الثورة؟ميشيل فوكو
ميشيل فوكو
ترجمة :د .كريم الجاف
قسم الفلسفة /كلية اآلداب /الجامعة المستنصرية
يبــدو لــي ان هــذا النــص الــذي بيــن ايدينــا يكشــف عــن نمــط جديــد مــن
التســاؤل فــي حقــل التأمــل الفلســفي .وبالطبــع ،فهــو ليــس النــص األول فــي
تاريــخ الفلســفة ،كمــا أنــه ليــس النــص الوحيــد لعمانوئيــل كانــط الــذي يقــدم
موضوعــا للس ـؤال فــي مــا يتعلــق بالتاريــخ ،فهــو قــد قــدم نصوص ـاً تتفحــص
أصــول التاريــخ :نــص حــول بدايــة التاريــخ ،ونــص حــول تحديــد مفهــوم
العرق( ،)Raceأي مفهوم الجنس البشري.
وهنــاك ايضــا نصــوص أخــرى تتفحــص التاريــخ فــي هيئتــه المنج ـزة :علــى
ســبيل المثــال فــي عــام( )1784قــدم كانــط نــص بعنوان(افــكار حــول تاريــخ
العالــم مــن منظــور كوني).وأمــا النصــوص األخــرى فقــد كانــت تناقــش الغايــة
الكامنــة التــي تنتظــم بموجبهــا العمليــات التاريخيــة ،كمــا هــو متــداول فــي
المبادىء الالهوتية.
إن جميــع تلــك األســئلة المتصلــة علــى نحــو شــديد فيمــا بينهــا ،تجتــاز علــى
نحــو فعــال تحليــات كانــط حــول موضــوع التاريــخ ،ولكــن يبــدو لــي ان
النــص الخــاص بالتنوير(،)Aufklarungهــو نــص مختلــف علــى نحــو
جــذري ،فهــو ال يطــرح هــذه االســئلة ،أي اســئلة االصــل (،)Originواســئلة
االنجاز(،)Accomplishmentبــل هــو يطــرح علــى نحــو مميــز ونســبي،
واحيانــا علــى نحــو جانبــي كيفيــة طــرح الس ـؤال حــول الغائيــات المحايثــة
لسيرورة التاريخ ذاتها.
إن الس ـؤال الــذي ارى أنــه ظهــر للم ـرة األولــى فــي نــص كانــط هــو س ـؤال ّ
يطــرح عــن اليــوم ،أي الس ـؤال عــن الحاضــر ،الس ـؤال عــن راهننــا الــذي
يخصنــا :مــا الــذي يحــدث اليــوم؟ مــا الــذي حقــا يحــدث اآلن؟ مــا هــو هــذا
الذي يسمى اآلن(،)Nowوما هو هذا اآلن الذي يحدد اللحظة()Moment
التي اكتب فيها؟
ال شــك ،انهــا ليســت الم ـرة االولــى الــذي يجــد فيهــا احــد مــا يشــير الــى
الحاضــر بوصفــه موضوعــا للتأمــل الفلســفي ،الحاضــر بوصفــه وضع ـاً
)(185
تاريخي ـاً ومحــدداً ،إذ نجــد أن قبــل كانــط كان هنــاك رينيــه ديــكارت ،الــذي
اعتبــر فــي بدايــة مســيرته الفلســفية ،الســيما فــي كتابــه (مقــال عــن المنهــج)،
وفــي بقيــة ق ار ارتــه الفلســفية التــي اتخذهــا بحــق ذاتــه .أو بحــق الفلســفة ،فهــو
ايضــا يشــير بوضــوح لشــيء مــا يمكــن أن يعتبــر وضعـاً تاريخيـاً فــي ســياق
انتظام المعرفة والعلوم بالنسبة للعصر الذي يخصه.
ومــع ذلــك ،وفــي مثــل هــذا النــوع مــن االشــارات ،أو المرجعيــات الزمنيــة ،فــأن
التركيــز يجــب ان يكــون دائمــا علــى ايجــاد الحافــز للقـرار الفلســفي فــي ســياق
الشــكل الــذي يشــير الــى الحاضــر بوصفــه حاضـ اًر يخــص الفيلســوف ،لذلــك
فأننــا مــع ديــكارت ســوف ال نجــد سـؤاال مــن قبيــل :مــا هــو علــى وجــه الدقــة
ذلك الحاضر الذي يخصني ،وانتمي اليه؟.
اآلن يبــدو لــي ان السـؤال الــذي اجــاب عنــه كانــط ،والــذي شــجعه لإلجابــة،
هــو س ـؤال مــن نــوع اخر،فهــو ليــس س ـؤاال مــن قبيــل :مــا هــو فــي الوضــع
الحاضر يمكن ان يحدد هذا ،أو ذلك القرار الفلســفي؟ أن السـؤال هو عن
الحاضــر فــي حــد ذاتــه ،وحضــوره بوصفــه حاضـرا ،ال ســيما فــي مــا يتعلــق
بتحديــد عنصــر معيــن لذلــك الحاضــر الــذي يحتــاج ألن يكــون معروفــا،
ومميـزا ،والقــدرة علــى تفكيــك مغاليقــه مــن بيــن كل محدداتــه االخــرى .ان مــا
هو موجود في الحاضر هو (اآلن) الذي يصنع المعنى للتأمل الفلسفي.
يســعى كانط إلعطاء الجواب لهذا الشــكل من التســاؤل ،من خالل عرضه
لكيفيــة أن هــذا العنصــر(أآلن) مــن الحاضــر يتشــكل ليكــون ناقــا وعالمــة
لســيرورة الفكــر ،وق ـوام المعرفــة الفلســفية .وفــوق ذلــك انــه مــن المهــم القيــام
بعــرض علــى نحــو خــاص فيالطريقــة التــي يتكلــم بهــا احــد مــا بوصفــه مفكـ اًر،
وعالمـاً ،وفيلســوفاً وجــزء مــن عمليــة ،فضــا عــن ذلــك الطريقــة التــي يحــدد
بهــا دوره المعيــن للعــب فــي هــذه العمليــة عندمــا يجــد ذاتــه كعنصــر وفاعــل
في آن معا.
باختصــار ،يبــدو لــي مــن هــذا النــص ان احــدا مــا (شــاهد) علــى ظهــور
الحاضــر بوصفــه حدثــا فلســفيا ينتمــي الــى الفيلســوف الــذي يتــم الحديــث
عنــه .فــاذا اتفقنــا فــي النظــر الــى الفلســفة بوصفهــا شــكال مــن الممارســة
الخطابيــة لهــا تاريخهــا الــذي يخصهــا ،فأنــه يبــدو لــي ان فــي ذلــك النــص
الــذي يتكلــم عــن التنويــر ،انــه ألول م ـرة يــرى فيلســوف ،ان الفلســفة تكمــن
)(186
اشــكاليتها فــي ال ارهــن الــذي يخصهــا :ال ارهــن الــذي يتــم مســاءلته بوصفــه
حدثــا ،ألجــل الكشــف عــن معنــاه وقيمتــه ،وتفــرده الفلســفي ،فضــا عــن
ايجــاد عللــه الخــاص بــه لفهــم الوجــود ،واألســس الــذي يتكلــم الفيلســوف مــن
أجله.
وبهــذا الكيفيــة نجــد الفيلســوف يطــرح االســئلة فــي ســياق انتمائــه للحاضــر
الــذي يخصــه ،إذ انــه لــم يعــد يطــرح االســئلة انطالقــا مــن مبــدأ مــا ،او عقيــدة
مــا ،وايضــا انــه لــم يعــد يطــرح االســئلة لمجــرد انتمائــه لمجتمــع بشــري كبيــر،
وعلــى نحــو عــام ،بــل علــى العكــس مــن ذلــك تمامــا ،فإننــا نجــد انــه ســيطرح
الس ـؤال انطالقــا مــن انتمائــه الــى مجموعــة معينــة بوصفها(نحــن) .فالنحــن
يتعلــق بمجموعــة ثقافيــة ممي ـزة بهويتهــا التــي تخصهــا فــي ال ارهــن الخــاص
بالفيلســوف .لذلــك ال يمكــن ألي فيلســوف أن ينشــغل فكريــا مــن دون
مسـ�اءلة انتمائهــ ال�ذـي يخصــه ف��ي ذلـ�ك ]النح��ن[ الــذي ســيكون موضــوع
تأمالته الفلسفية.
لقــد اصبحــت الفلســفة نشــاطاً اشــكالياً عــن ال ارهــن ،واصبــح الفيلســوف يطــرح
االســئلة عــن ذلــك ال ارهــن الــذي يخصــه ،والــذي يتخــذ منــه موقفا(=وضعــا
تاريخيا)،وهــو مــا قــد ميــز الفلســفة الحديثــة التــي اصبحــت خطاب ـاً تفكري ـاً
واشــكالياً عــن الحداثــة .ولذلــك يمكــن توضيــح االمــر علــى نحــو تخطيطــي،
فنقــول ان فــي الثقافــة الكالســيكية نجــد ان قضيــة الحداثــة تعتمــد علــى
قطبيــن :القطــب القديــم والقطــب الحديــث .لقــد تمــت صياغــة السـؤال فــي هــذه
الثقافــة إمــا بلغــة الســلطة التــي ينبغــي قبولهــا أو رفضهــا(أي ســلطة ينبغــي
ألحــد مــا قبولهــا ،وأي نمــوذج ارشــادي يمكــن ألحــد مــا اتباعه؟....الــخ)،أو
البقــاء فــي شــكل يثبــت علــى نحــو مقــارن :هــل أن القدامــى اعظــم مــن
المحدثين؟ أو هل نحن نعيش عصر االنحطاط؟....الخ
وهكــذا نــرى طريقــة جديــدة فــي طــرح اســئلة الحداثــة التــي تظهــر علــى
الســطح ،فلــم يعــد السـؤال يرتبــط بالقدامــى ،بــل يرتبــط بمــا يمكــن أن نطلــق
عليــه عالقــة الســهم بالحاضــر الــذي يخصــه ،فالخطــاب اصبــح يضــع
حاضره(=الراهن)بعيــن االعتبــار ،ألجــل ايجــاد المجــال الــذي يخصــه ،لكــي
يعبــر عــن معنــاه وغائيتــه ،ولكــي يميــز اســلوب الفعــل القــادر علــى القيــام بــه
في نطاق الحاضر.
)(187
لكــن مــا هــو هــذا ال ارهــن الــذي يخصنــي؟ ومــا هــو معنــى هــذا ال ارهــن؟ ومــا
انــا فاعــل عندمــا اتكلــم عــن ال ارهــن؟ ارى انــه السـؤال الجديــد للحداثــة ،وهــذه
هــي كل الحكايــة .يمكــن القــول إن مــا اكتشــفناه ليــس ســوى مســار يقربنــا
قليــا مــن الهــدف ،لــذا ينبغــى الســعي الــى توســيع النشــاط الجينالوجــي
((،Genealogyليــس مــن أجــل االقتـراب مــن فكـرة الحداثــة ،بــل بــدال مــن
ذلك البحث في الحداثة بوصفها سؤاال عن الراهن الذي يخصنا.
وعلــى أيــة حــال ،حتــى لــو اتخذنــا مــن نــص كانــط كنقطــة بدايــة لهــذه
المســألة ،فأننــا ســنفهمه بوصفــه جــزء مــن اعظــم عمليــة تاريخيــة ،والــذي
ينبغــي أن نقيمــه بحجــم ألفهميتــه الفكريــة .وممــا الشــك فيــه ،ان احــدى
المنظورات المهمة في دراسة القرن الثامن عشر على وجه العموم،،وعصر
التنويــر علــى وجــه الخصــوص ،ينبغــي ان تكــون فــي مســاءلة الواقعــة ،أي
حــدث عصــر التنويــر الــذي اطلــق علــى نفســه تســمية عصــر التنويــر ،فهــذا
يعنــي انــه عمليــة ثقافيــة جــد نــادرة عندمــا اصبــح عصــر يعــي ذاتــه بذاتــه،
وعندمــا موضــع ذاتــه بالنســبة لماضيــه ،وبالنســبة لمســتقبله ،واظهــاره الكيفيــة
التي يعمل بها في نطاق الحاضر الذي يخصه.
أو ليــس عصــر التنويــر ،قبــل كل شــيء ،هــو أول عصــر يســمي نفســه
بنفســه ،باإلضافــة المميـزة البســيطة ذاتهــا ،وبحســب العــادة القديمــة ،أنــه لــم
يتميــز بســمة االنحطــاط ،بــل انــه ســمى ذاتــه بعــد حــدث معيــن بــرز للعيــان
في التاريخ العام للفكر ،والعقل ،والمعرفة وفي نطاق عصر بذاته ســيلعب
دوره الخــاص بــه .ان عصــر التنويــر هــو عصــر يظهــر صياغــة شــعاره
الخــاص بــه ،كمــا شــكل ادراكاتــه الخاصــة بــه ،وأعلــن مــا ينبغــي عملــه فــي
عالقــة مــع ماضيــه الــذي يخصــه ،فضــا عــن تشــكيل المعرفــة ،وادراك
الجهــل والوهــم الــذي عــرف كيــف يتجنبهمــا فــي وضعــه التاريخــي الــذي
يخصه.
يبــدو لــي ان مســألة التنويــر جهــزت او لنــوع معيــن مــن التفلســف الــذي لــه
تاريــخ طويــل يمتــد لماضــي قرنيــن .انهــا واحــدة مــن اعظــم المهــام التــي اطلــق
عليهــا بالفلســفة الحديثة(تلــك الفلســفة التــي بــدأت عنــد نهايــة القــرن الثامــن
عشر)،والتي تستفهم ذاتها ،وراهنها الذي يخصها.
إن مســار هــذا الشــكل مــن الفلســفة خــال القــرن التاســع عشــر حتــى يومنــا
)(188
هـ�ذا كان لـ�ه اثـ�ره .فالشـ�يء الوحيـ�د الـ�ذي ارغـ�ب فـ�ي تأكيـ�ده بالنسـ�بة ]
لآلن[،هــو أن السـؤال الــذي بحــث كانــط فيــه عام(،)1784هــو سـؤال طــرح
عليــه مــن الخــارج وهــذا مالــم ينســاه .اال ان هــذا السـؤال ســيطرح عليــه مـرة
اخــرى ،وســيحاول االجابــة عليــه ،باالنتبــاه الــى حــدث اخــر ،ذلــك الحــدث
هــو بالطبــع حــدث (الثــورة الفرنســية).ففي عــام ()1798اعطــى كانــط مــا
يمكــن اعتبــاره اســتكماال لنــص (،)1784اي نــص التنويــر .لقــد حــاول
االجابــة علــى س ـؤال(ما هــو عصــر التنويــر الــذي نحــن جــزء منه)وفــي
عام()1798ســيجيب علــى س ـؤال فــرض عليــه مــن قبــل الحاضــر ،اي
ال ارهــن ،لكــن هــذا الس ـؤال وبســبب النقاشــات الفلســفية فــي المانيــا قــد تــم
صياغته بشكل مختلف :ما هي الثورة؟
وكمــا تعلمــون ان كتــاب كانــط (صـراع الكليــات) هــو كتــاب يتضمــن ثالثــة
ابحــاث حــول العالقــة بيــن مختلــف الكليــات التــي تشــكل الجامعــة .فالبحــث
الثانــي مــن كتــاب (ص ـراع الكليــات) يهتــم بالن ـزاع بيــن مدرســة الفلســفة،
ومدرســة الحقــوق .راهنــا ،ان الحقــل الشــامل بيــن الفلســفة والحقــوق يركــز
علــى فكـرة سـؤال :هــل هنــاك تقــدم دائــم لألنســانية؟ إذن انــه مــن الضــروري
تحديد ان كان وجود علة ممكنة لهذا التقدم.
علــى أيــة حــال ان تأسســت هــذه االمكانــات وجــب علينــا البرهنــة علــى ان
العلــة يتــم ترجمتهــا علــى نحــو فعــال الــى الفعــل ،وألجــل ذلــك العقــل الــذي
يســتنبط حدث ـاً معين ـاً يعــرض علينــا فعــل العلــة فــي الواقــع .ولتلخيــص ذلــك
نقــول :إن الواجــب المحــدد للعلــة ســوف ال يكــون قــاد ار علــى تحديــد اي
شــيء ماعــدا المعل ـوالت الممكنــة ،أو علــى اكثــر دقــة ،امكانيــة حــدوث
المعلوالت بوجود الحدث.
لذلــك فأنــه ال يكفــي متابعــة االطــار الغائــي الــذي يجعــل مــن التقــدم ممكنــا،
بــل البــد ان نحــدد حدثــا فــي التاريــخ تكــون لــه قيمــة العالمــة .عالمــة علــى
مــاذا؟ عالمــة علــى وجــود علــة ،علــة دائمــة ترشــد االنســانية علــى مــر
التاريــخ علــى مســار التقــدم .لذلــك فــأن احــد مــا يجــب أن يعــرض وجــود علــة
دائمــة لهــا قــوة الفعــل فــي الماضــي ،وقــوة الفعــل فــي الحاضــر ،وقــوة الفعــل
في المستقبل.
بنــاء علــى ذلــك ،فالحــدث الــذي يســمح لنــا بتقريــر وجــود تقــدم ،ســيكون
)(189
عالمــة يمكــن اســتحضارها بالذاكـرة واالســتدالل عليــه ،وعلــى توقــع حضــوره
مســتقبال .وبهــذه الطريقــة فأننــا يمكــن ان نتأكــد مــن ان العلــة التــي تصنــع
التقــدم ممكنــة ،وهــي ليســت مجــرد فعــل يحــدث عنــد نقطــة معينــة فــي الزمــن،
بــل انهــا تكمــن فــي نزوعهــا العــام الــذي يضمــن لإلنســانية فــي كليتهــا التحــرك
باتجــاه التقــدم .وبذلــك يغــدو الس ـؤال :هــل يوجــد حولنــا حــدث يمكــن
اســتحضاره ،واالشــارة اليــه ،والتنبــؤ بــه ،ألدراك تقــدم عــام يحمــل علــى
الجنس البشري على نحو كلي؟
يبــدو إنكــم توقعتــم االجابــة المعــدة مــن قبــل كانــط ،لكنــي ارغــب بقـراءة فقـرة
مــن نصــه الــذي قــدم الثــورة بوصفهــا حدثــا يتوفــر علــى قيمــة العالمــة ،فهــو
يكتــب فــي بدايــة الفق ـرة السادســة :ال تتوقــع وجــود جملــة مــن االيمــاءات
العظيمــة فــي هــذا الحدث(=حــدث الثــورة)أو اعمــاال ســيئة الســمعة ترتكــب
مــن قبــل انــاس يحولــون االشــياء العظيمــة الــى اشــياء صغيـرة ،ا و يحولــون
اشــياء صغي ـرة الــى اشــياء عظيمــة ،وحــذاري ان تشــاهدوا االبنيــة القديمــة
الرائعــة والتــي تــم محوهــا بفعــل قــد يكــون عمــا ســحريا،وتظهر مكانهــا ابنيــة
أخــرى وكأنهــا خرجــت مــن اعمــاق االرض .كال ،اليوجــد شــيء مــن هــذا
القبيل.
فــي هــذا النــص ،نــص الثــورة ،يلمــح كانــط بوضــوح الــى التأمــات القديمــة
التــي تبحــث فــي التقــدم ،أو الــا تقــدم فــي الجنــس البشــري منــذ نهايــة
االمبراطوريــات ،وايضــا الك ـوارث العظيمــة التــي تحــدث والتــي تؤثــر فــي
االح ـوال االكثــر رســوخا ،وتســتبدلها بقــوى اخــرى .لذلــك ،حــذاري ،يحــذر
كانــط ق ـراءه مــن انهــم قــد ال يجــدون فــي هــذه االحــداث العظيمــة عالمــة
للتقــدم يمكــن االشــارة اليهــا ،والتنبــؤ بهــا ،بــل علــى العكــس تمامــا ،إذ إننــا
ســنجدها فــي أحــداث اقــل قيمــة ،وعصيــة علــى االدراك .لذلــك إننــا ال يمكــن
تحليــل الحاضــر الــذي يخصنــا بلغــة تلــك القيــم ذات االهميــة الكبــرى ،مــن
دون أن نقع في إعادة تشفيرها( )Decodifyingبطريقة تسمح لنا بالتعبير
عــن المعنــى العظيــم والقيمــة التــي تبحــث عنهــا لمــا هــو ظاهــر وجلــي والــذي
يخلو من المعنى والقيمة.
لكــن مــا هــو هــذا الحــدث الــذي ال يمكــن اعتبــاره بالحــدث (العظيم)؟.توجــد
بالطبــع مفارقــة عندمــا نقــول ان الثــورة هــي ليســت بالحــدث المــدوي .أليســت
)(190
الثــورة هــي مثــال الحــدث الــذي يقلــب االشــياء أرســا علــى عقــب ،ويجعــل كل
مــا هــو كبيــر صغيـرا ،وكل مــا هــو صغيــر كبيـرا ،فضــا عــن ابتالعهــا لبنــى
المجتمع والدول التي تبدو راسخة من الظاهر؟
ومــع ذلــك ،بالنســبة لكانــط ،فــإن هــذا المظهــر مــن الثــورة ال يمكــن تحديــد
دالالتهــا .فالــذي يمكــن ان يشــكل ق ـوام الحــدث علــى مســتوى الحضــور،
واالســتدالل ،والتوقــع ليــس حــدث الثــورة فــي حــد ذاتــه ،وليــس ايضــا مآثرهــا
الثورية ،وااليماءات التي تصاحبها اثناء عملية الثورة.
إن عالمة الثورة وداللتها تكمن في طريقة تحولها الى ]مشهد[،أي الطريقة
التــي يتــم بهــا اســتقبالها(اي اســتقبال حــدث الثــورة) مــن قبــل المشــاهدين
الذيــن لــم يشــاركوا فيهــا وانمــا شــاهدوها ،وحضــروا العــرض ،منزلقيــن فــي
متاهاتها ،سواء كانت تلك المتاهات تسير نحو االفضل ،او نحو األسوء.
إن عصــف الثــورة وغليانهــا ال يشــكالن اي عالمــة مــن عالمــات التقــدم،
ذلــك ألنهــا مجــرد قلــب لألشــياء ،وايضــا لــو ان الــذي اشــترك بالثــورة وطلــب
منــه ان يكــرر اشــتراكه فيهــا ،فأنــه ســوف ال يفعــل ذلــك ابــدا .فهنــاك فق ـرة
جــد مهمــة مــن نــص كانــط ،إذ يقــول :اذا كانــت الثــورة هــي ثــورة شــعب
شــجاع وعــزوم ،كمــا شــاهدناه فــي الــذي حــدث اليــوم (يقصــد حــدث الثــورة
الفرنســية)،فأنه مــن غيــر المهــم معرفــة نتائجهــا ومآالتها(س ـواء كان مــن
جهــة النجــاح ،او مــن جهــة الفشــل)،وليس ايضــا المهــم معرفــة مــا ت اركــم
عنهــا مــن بــؤس وأه ـوال ،إذ ان مــا ت اركــم عنهــا ســيجعل اي انســان ســوي
االمتناع عن المشاركة فيها مرة اخرى ،وتحت اي ثمن.
ان عمليــة الثــورة فــي حــد ذاتهــا ،ليســت هــي العامــل المهــم ،وليــس المهــم مــا
اذا كانــت ناجحــة ام فاشــلة ،فذلــك ليــس لــه ايــة عالقــة بعمليــة التقــدم ،او
علــى االقــل بعالمــة التقــدم التــي نبحــث عنهــا .لكــن يبقــى لــو انــه قــدر ألحــد
مــا ان يتوفــر علــى امــكان لفهــم الثــورة ،ويعــرف ان يكشــف للعيــان بــأدراك
ثاقب ما هو ثمن هذه الثورة ،فأنه سوف ال يقوم بها اطالقا.
لذلــك فــأن الثــورة بوصفهــا مشــروعاً لقلــب االوضــاع ارسـاً علــى عقــب ،سـواء
أكان االنقــاب نحــو االفضــل او نحــو االســوء ،ســيكون ذو ثمــن جــد بالــغ،
فالثــورة فــي حــد ذاتهــا ال يمكــن أن تعــد عالمــة لوجــود علــة قــادرة علــى ادامــة
التقدم الدائم لإلنسانية طوال التاريخ .لكن الذي يصنع ما يمكن
)(191
أن يكــون عالمــة للتقــدم ،ســيكون حــول الثــورة ،وليــس فيهــا فهــو كمــا يصــرح
كانط :تعاطف الطموح الذي يتاخم الحماسة.
اذن فــأن ماهــو مهــم ،ليــس حــدث الثــورة فــي حــد ذاتــه ،وانمــا مــا يحــدث فــي
رؤوس اولئــك الذيــن لــم يشــتركوا فيهــا ،او علــى الفاعليــن مــن اصحــاب
المبــادىء .فهــي اي الثــورة علــى عالقــة بيــن اولئــك الذيــن لــم يشــتركوا فيهــا،
واولئ��ك الفاعلي��ن م��ن اصحـ�اب المبـ�ادئ .ان ]الحماسـ�ة[ للثــورة بحســب كانــط
هــي عالمــة علــى نــزوع اخالقــي فــي االنســانية ،وأن هــذا النــزوع يتمظهــر
فــي حــق النــاس بتأســيس دســتور سياســي يناســبهم ،ويتطابــق مــن حيــث
المبدأ مع الحق واالخالق في دستور سياسي يجنبهم كل حرب عدوانية.
لذلــك فــأن هــذا النــزوع الــذي يحمــل االنســانية نحــو ذلــك الدســتور ،هــو الــذي
يــدل علــى الحماســة مــن اجــل الثــورة .فالثــورة بوصفهــا مشــهدا ،وليــس
كإيمــاءات ،وكمســتودع للحماســة ألولئــك الذيــن يشــاهدونها ،وليــس ألولئــك
الذيــن يشــتركون فيهــا .فالثــورة هــي عالمــة علــى الحاضــر ،ألنهــا تكشــف
عــن النــزوع االخالقــي بوصفــه حضــو ار للحاضــر علــى نحــو اصيــل ،وانهــا
عالمــة لالســتدالل ،ألنهــا تعــرض الحاضــر علــى نحــو فاعــل لذلــك النــزوع،
وانهــا ايضــا ،أي الثــورة عالمــة علــى التوقــع نظ ـ ار ألن نتائجهــا يمكــن ان
تكــون تحديــا ،لذلــك فأنــه ال يمكــن ألحــد نســيان هــذا النــزوع الــذي ينبثــق مــن
خاللها.
كذلــك اننــا نعلــم علــى نحــو جديــد ان الدســتور السياســي الــذي يتــم اختيــاره
بحريــة إرادة الشــعب ،والدســتور السياســي الــذي يجنــب الحــروب العدوانيــة
همــا عنصـران يؤسســان لعمليــة التنويــر ،وبتعبيــر اخــر ان الثــورة هــي علــى
نحــو فاعــل عبــارة عــن عمليــة مســتمرة وتامــة مــن التنويــر ،وبهــذه الطريقــة
يصبح التنوير والثورة حدثان ال يمكن نسيانهما.
وألجــل ذلــك يقــول كانــط :أنــا اؤيــد أنــه مــع االفتقــار لــروح التنبــؤ ،اســتطيع
جعــل ميــول البش ـرية تتأســس علــى مظاهــر وعالمــات تكــون تمهيــدات
لعصرنــا لتحقيــق الوصــول الــى النهايــة(اي بلــوغ الهدف)،وهــذا يعنــي
الوصــول لحالــة تجعــل النــاس قادريــن علــى منــح انفســهم دســتو ار يرغبــون بــه،
ويجنبهــم خــوض حروبــا عدوانيــة ،وبذلــك ســوف ال يكــون اي تحــدي امــام
التقدم.
)(192
إن هكــذا ظاهـرة فــي تاريــخ االنســانية ،لــم يعــد يمكــن نســيانها ،ألنهــا تكشــف
عــن الميــل فــي الطبيعــة البش ـرية ،وهــي ملكــة التقــدم ،التــي هــي ال يمكــن
ألي مكــر سياســي تغييــر مســيرة احداثهــا ،فقــط الطبيعــة والحريــة يعمــان
معــا فــي منظومــة الجنــس البشــري ،وحســب المبــادىء الداخليــة للقانــون،
بوصفه حدثاً ممكناً.
ولكــن اذا كانــت االهــداف المرجــوة وراء ذلــك الحــدث لــم تتحقــق ،حتــى
عندمــا تفشــل الثــورة واالصــاح الدســتوري للوصــول الــى اهدافهــا ،فــأن التنبــؤ
السياســي ســوف ال يفقــد شــيئا مــن قوتــه .ولهــذا فــأن هــذا الحــدث جــد مهــم،
عميــق ومتشــابك مــع المصالــح االنســانية ،ولــه تأثيــر واســع علــى جميــع
انحــاء العالــم ،ليــس ألجــل ان يكــون ضمــن المناســبات المفضلــة فــي ذاكـرة
الشــعب ،أو اســتذكارها واســتدعائها عند االزمات عندما توجد مســاع جديدة
من هذا النوع.
فألجــل قضيــة ذات اهميــة عظمــى للجنــس البشــري ،أنــه مــن الضــروري،
ومــن منظــور زمــن معيــن ،فــإن مســتقبل الدســتور ســيصل فــي النهايــة الــى
ترسيخ تعليم التجارب المتكررة في العقول البشرية.
علــى أيــة حــال ،أن الثــورة دائمــا تتعــرض الــى خطــر الســقوط فــي طريقهــا
القديــم ،لكنهــا كحــدث ذات مضمــون غيــر هــام ،فــأن وجودهــا يشــهد علــى
واقــع دائــم ال يمكــن نســيانه .اال انــه علــى تاريــخ المســتقبل ســتكون ضمانــة
الســتمرار مقاربــة التقــدم .اردت فقــط تحديــد هــذا النــص لكانــط حــول التنوير،
اضافــة الــى انــي ســأحاول قراءتــه عــن كثــب .وأردت أيضــا أن أرى كيــف
اســتعرض كانــط الخمســة عشــر ســنة الالحقــة علــى تأمــل احــداث أكثــر
اثارة ،أي احداث الثورة الفرنسية.
بهذين النصين ،ســنكون بشــكل ما عند االصول ،وعند نقطة بداية لســالة
شــاملة مــن االســئلة الفلســفية .هــذان السـؤاالن (مــا هــو التنويــر؟) و(مــا هــي
الثــورة؟) همــا صيغتــان اعتــاد كانــط ان يطــرح السـؤال بهمــا عــن الحاضــر،
وهمــا ايضــا كمــا ارى سـؤاالن اســتم ار فــي التــداول ،وأن كان ليــس علــى كل
الفلسفة الحديثة ،بل على جزء ال بأس به من تلك الفلسفة.
وبعــد كل هــذا يبــدو لــي ان التنويــر بوصفــه حدثـاً متفــرداً ،قــد افتتــح الحداثــة
االوربيــة ،وبوصفــه ايضــا عمليــة دائمــة يكشــف عــن ذاتــه فــي تاريــخ العقــل،
)(193
وفــي ســياق تطــور وبنــاء اشــكال العقالنيــة والتقنيــة وعبــر ســلطة مســتقلة
للمعرفــة .فالتنويــر بالنســبة لنــا ليــس مجــرد حادثــة عرضيــة فــي تاريــخ
االفــكار ،فمنــذ القــرن الثامــن عشــر والتنويــر عبــارة عــن سـؤال فلســفي يرســم
تفكيرنــا ،لذلــك علينــا مغــادرة التأمــات التــي تقــوم علــى التقــوى والتــي تريــد
االبقاء على تراث التنوير حياً وطاه اًر.
ان هــذه التقــوى بالطبــع يمكــن اعتبارهــا مــن اكبــر الخيانــات .فالحفــاظ علــى
بقايــا التنويــر ليســت هــي القضيــة ،بــل علــى العكــس تمامــا ،فالحفــاظ علــى
ذات المســألة لهــذا الحــدث ومعنــاه (مســألة تاريخيــة التأمــات عــن العالــم)
هو الذي ال بد ان يبقى حاض اًر في العقل بوصفه تأمال فكرياً.
إن مســألة التنويــر ،أو مســألة العقــل كمشــكلة تاريخيــة لهــا كيفيــة خفيــة علــى
نحــو كثيــر ،أو قليــل ينفــذ الــى كل الفكــر الفلســفي مــن كانــط حتــى اآلن .لقــد
كانــت الثــورة هــي الجانــب االخــر مــن جوانــب ال ارهــن التــي واجههــا كانــط:
الثــورة بوصفهــا حدثــا ،والثــورة بوصفهــا قطيعــة وغليانــا فــي التاريــخ ،والثــورة
بوصفهــا فشــا ،وايضــا بوصفهــا قيمــة وعالمــة علــى التأهــب واالســتعداد
يشتغل في التاريخ ،وفي تقدم الجنس البشري.
هنــا ايضــا ،فــأن السـؤال الموجــه للفلســفة ،هــو ليــس لتحديــد ذلــك الجانــب مــن
الثــورة الــذي ينبغــي االحتفــاظ بــه ،او جعلــه نموذجــا .إن الس ـؤال الفلســفي
يتجــه لمعرفــة مــا الــذي ينبغــي عملــه بهــذه االرادة للثــورة ،وبهــذه الحماســة
للثــورة ،التــي هــي علــى العكــس تمامــا مــن المشــروع الثــوري ذاتــه (أي القيــام
بالثورة المسلحة والدموية على غرار الثورة الفرنسية).
ان الس ـؤالين :مــا هــو التنويــر؟ ومــاذا نفعــل بــإرادة الثــورة؟ ســيحددان معــا
حقــل السـؤال الفلســفي الــذي يهتــم بالنحــن فــي عالمنــا ال ارهــن .ويبــدو لــي ان
كانــط قــد اوجــد الشــيئان العظيمــان فــي التـراث النقــدي الــذي تتقاســمه الفلســفة
الحديثــة .لنقــل ان كانــط قــد وضــع فــي عملــه النقــدي العظيــم هــذا الت ـراث
الفلســفي الــذي يطــرح الس ـؤال حــول الشــروط التــي تكــون بموجبهــا المعرفــة
الحقة ممكنة.
لذلــك يمكــن القــول ان جانــب الفلســفة الحديثــة برمتــه ،ومنــذ القــرن التاســع
عشــر قــد تــم تحديــده وتطوي ـره بوصفــه تحليــا للحقيقــة .بيــد انــه يوجــد فــي
الفلسفة الحديثة والمعاصرة نمط اخر من السؤال ،ونوع اخر من االستفهام
)(194
النقدي:انــه علــى وجــه الدقــة قــد تولــد فــي سـؤال التنويــر ،أو فــي نــص عــن
الثــورة .ان هــذا السـؤال النقــدي االخــر يطــرح السـؤال اآلتــي :مــا هــو راهننــا؟
وما هو المجال الحاضر لتجاربنا الممكنة؟
إن هــذه االســئلة ليســت تحليــا للحقيقــة ،بــل ســتكون سـؤاال عــن انطولوجيــا
انفســنا ،انطولوجيــا الحاضر(=ال ارهــن الــذي يخصنــا نحــن) .ويبــدو لــي ان
الخيــار الفلســفي الــذي نواجهــه فــي هــذا الحاضــر هــو :إنــه يمكــن ان نختــار
للنقــد الفلســفي مــا يمكــن ان يقــدم ذاتــه كفلســفة تحليليــة للحقيقــة بكليتهــا ،أو
يمكــن ان نختــار شــكال مــن الفكــر النقــدي ســيكون انطولوجيــا ألنفســنا ،أو
انطولوجيا الحاضر.
إن هــذا الشــكل مــن اشــكال الفلســفة قــد تأســس منــذ هيغــل وحتــى مدرســة
فرانكفورت ،ومن خالل نيتشــة وماكس فايبر ،قد اوجد شــكال من التأمالت
الذي اسعى انا شخصيا العمل في سياقه الفكري ،وعلى غ ارره.
Michel Foucault: What is Revolution: In politics of Truth,
Semio text Offices, U.S.A, pp.83-100
)(195
(196)