Professional Documents
Culture Documents
قراءة في كتاب التأسيس الائتماني لعلم المقاصد - 2
قراءة في كتاب التأسيس الائتماني لعلم المقاصد - 2
مبــدأ أن «ال ِّنيــة» محلّهــا «القلــب» ،وجعــل «الـ ُّروح» تقــوم مكانهــا ،وأفــرد ملفهــوم «الــروح» ح ّيـ ًزا
ـر» بوصفــه محـ ّـل «اإلخــاص» الــذي وصفــه بـ«األصليّة» واسـ ًعا مــن البحــث ،ثــم تنــاول مفهــوم «الـ ِّ ّ
و«اللنهائ ّيــة».
ّ
ويف البــاب الثالــث ،يقــوم املؤلــف بتأســيس «التزكيــة» عــى «ميثــاق اإلرســال» ،آخ ـذًا يف بيــان
مفهــوم «التزكيــة» وناقـ ًدا إهــال املَقاصديّــن لــه رغــم تــر ّدده يف «القــرآن الكريــم» ،مـ ّـا يُشــر إىل
إهاملهــم لل ُمكـ ّون األخالقــي مــن «املقاصــد» ،كــا أظهــر ُمفارقـ ًة وقــع فيهــا أهــل املقاصــد ،وهــي
أن «علــم املَقاصــد» يبــدو مــن اســمه أنــه يُضــا ّد مضمونــه ،فاســمه يُفيــد معنــى «علــم األخــاق
اإلســامية» ،يف حــن أن موضوعــه يــدور عــى «األحــكام القانونيــة» مــن الديــن ،وقــد نتجــت عــن
هــذه املفارقــة مفارق ـ ٌة أُخــرى ،وهــي أن «القيــم» ال تُطلَــب لذاتهــا كــا يقتــي الواجــب ،وإنّ ــا
تُطلــب مــن «األحــكام» تعليـ ًـا لهــا ،بحيــث تبــدو «القيــم» خادمــة لـ«األحــكام» ،مـ ّـا يعــود عــى
أصالتهــا بال ّنســيان.
رشع املؤلــف بعــد ذلــك يف بيــان انبنــاء «التزكيــة» عــى خطــاب التبليــغ يف «ميثــاق اإلرســال»
ـص بالوصــل بــن «الحالــة التّواث ُق ّيــة» و«الحالــة التّعا ُمل ّيــة» ،إذ تجلّــت اإلرادة اإللهيــة الــذي يختـ ّ
باملصالــح الدنيويــة واألُخرويــة التــي يُـراد بهــا تزكيــة اإلنســان ،فتنــاول «عامل ّيــة التّزكيــة» ،ومــن هنــا
تنــاول األســتاذ مفهــوم «املصلحــة» متوس ـ ًعا يف التحليــل و ُمج ـ ّد ًدا النظــر يف كثــر مــن موضوعاتهــا،
ي.ُمتحــاو ًرا مــع «الغ ـزايل» و«العــز ابــن عبــد الســام» ،ثــم مــع «ابــن تيميــة» و«الطــويف» الحنب ـ ّ
التوســل باالســتقراء ملعرفــة املصالح
ويف الفصــل العــارش ،عمــل األســتاذ البصــر منطق ًّيــا عــى نقــد ُّ
ـات مثينــة وجوهريــة وهــو مــن أخصــب املواضع واملقاصــد ُمب ّي ًنــا أخطــاره عــى الفقــه ،فجــاء بتحقيقـ ٍ
اإلبداعيــة يف الكتــاب ،ثــم تنــاول تأســيس علــل األحــكام الرشعيــة عــى وجــود الرشيعــة ،فالتوحيــد
اإلشــهادي هــو العلــة العقديــة لوجــود الرشيعــة ،واملســؤولية االئتامنيــة هــي العلــة التكليفيــة لوجود
الرشيعــة ،والتزكيــة العامليــة هــي العلــة التبليغيــة لوجــود الرشيعــة .ويف هــذا الفصــل عمــل املؤلــف
عــى إعــادة النظــر بشــكل جــذري يف التقســيم املعهــود للمصالــح؛ متهي ـ ًدا لوضــع تقســيم ائتــاين
وأيضــا العديــد مــن املفاهيــم، جديــد ،كــا تنــاول فيــه مفهــوم املصلحــة وعالقتــه مبفهــوم القيــمً ،
مثــل اإلحســان عنــد «العــز ابــن عبــد الســام» ،ومفاهيــم الصــاح والنــور واملصلحــة واملفســدة
واللّــذة.
مؤسســا مبــادئ هــذا ً ويف الفصــل الثــاين عــر واألخــر ،تنــاول التقســيم االئتــاين ألصــول القيــم
التقســيم عــى أربعــة أُســس :مبــدأ الفــرق بــن «العبديــة التســخريية» و«العبديــة التخيرييــة» ،ومبدأ
قيم ّيــة كل يشء ،ومبــدأ أخالقيــة كل يشء ،ومبــدأ تقديــم «القيــم الغائ ّيــة» عــى «القيــم ال َو َســل ّية».
وبِنــا ًء عــى هــذه املبــادئ قــام بتقســيم القيــم األخالقيــة إىل «قيــم فطريــة» أو قــل «أســائية»،
مقســا «القيــم الغريزيــة» إىل «قيــم حيويــة» و«قيــم ًّ و«قيــم غريزيــة» أو قــل «أشــيائية»،
ماديــة» ،ومقسـ ًـا «القيــم الفطريــة» إىل «قيــم التوحيــد اإلشــهادي» و«قيــم املســؤولية االئتامنيــة»،
مقسـ ًـا «قيــم التوحيــد اإلشــهادي» إىل «قيــم عقديــة» تشــمل «قيــم اإلميــان» و«قيــم العــزم»، ثــم ّ
ــا
ومقس ً
ّ و«قيــم روحيــة» تشــمل «قيــم النيــة» و«قيــم اإلخــاص» و«قيــم اإلحســان»،
«قيــم املســؤولية االئتامنيــة» إىل «قيــم عقليــة» و«قيــم عمليــة» ،وال يخفــى مت ّيــز هــذا التقســيم
وشــموله ودقتــه .وبـ َّـن املؤلــف فيــا بعــد بعــض االعرتاضــات الســابقة عــى التقســيم املعهــود ،فبــدأ
بـ«ابــن تيميــة» ،ثــم أعقبــه بـ«العــز ابــن عبــد الســام» ،ثــم أورد االعرتاضــات املحتملة عىل التقســيم
االئتــاين وأجــاب عنهــا.
ويف الخامتــة يُعطــي املؤلــف تصــو ًرا جام ًعــا عــن عملــه يف الكتــاب نقـ ًدا وبنــاء .وتبقــى مالحظــة
عامــة ميكــن اإلشــارة إليهــا وهــي أن املؤلــف يف كتابــه هــذا بــدا أقــرب إىل ثالثــة مــن املقاصديّــن
أكــر مــن غريهــم ،وهــم «ابــن تيميــة» و«ابــن القيّــم» و«العــز ابــن عبــد الســام» ،يف حــن ســيلمح
القــارئ أنــه ات ّخــذ مســاف ًة نقديـ ًة مــع «أيب إســحاق الشــاطبي» و«الطاهــر ابــن عاشــور»؛ ولهــذا بـ ّـن
يف نهايــة خامتتــه أنــه يف نقــده لبعــض العلــاء قــد تح ـ ّرى ّأل يتحامــل عــى أحــد منهــم؛ إذ يقــول
عــن كل منقــود« :بــل مل يكــن نق ُدنــا لــه إلّ إبـرازًا لــدوره االجتهــادي الكبــر ،بــل غالبًــا مــا كان نق ُدنــا
لدعــاوى بعضهــم مصحوبًــا بتأييدنــا لدعــاوى أخــرى لــه ،حتــى كأننــا مل نن ُقــده قــط ،بــل كأنّنــا ننحــاز
إليــه ،ومــا ذاك إلّ ألن هدفنــا مــن هــذا العمــل مل يكــن ّإل اإلســهام يف بنــاء «علــم املقاصــد» عــى
أُ ُســس عامليــة ال تتزلــزل ،أُســس تُسـ ِند مرشوعيتــه وتُـرِز معقوليتــه وت ُوطِّــد مقبوليتــه يف العــامل».
وهنــا نجــد مــن املناســب اســتحضار مقولــة املؤلــف يف كتابــه «روح الديــن»« :إن هــذا ال يعنــي
بعضهــم خصـ ًـا لهــم ،مــع أننــاأننــا مل نحفــظ ملــن انتقدناهــم أَقْدا َرهــم وأَفْضالهــم ،حتــى ولــو َع َّدنــا ُ
ال نُخاصــم إلّ الباطــل ولــو التبــس علينــا مــن غفلـ ٍة مــن أمرنــا؛ ال َجـ َر َم أننــا نَ ْكــره الخصومــة ،لكــن
الباطــل أكـ َر ُه إلينــا؛ ويف املقابــل ،فــإ َّن في َمــن انتقدناهــم َمــن يَع ُّدنــا نصـ ًرا لهــم ،مــع أننــا ال ننــارص
ـب إلينــا» .وبــاإال الحــق ولــو ظهــر عــى يــد خصمنــا؛ ال َجـ َر َم أننــا نحــب النــرة ،لكــن الحــق أحـ ّ
ـري سـ ُيلقي بظاللــه عــى حــوارات «املقاصــد» و»األخــاق» كل ْيهــا ،حيــث ريــب ،فهــذا العمــل الفكـ ّ
ورســخها ترســي ًخا مــن خــال اســتبدال وصــف «القيــم» حســم املؤلــف عالقــة األخــاق باملقاصــد ّ
مــكان «املَقاصــد» ،فـ«املَقاصــد» عنــد فيلســوفنا إمنــا هــي «القيــم» و«األخــاق».
هــذا الكتــاب جهــد فلســفي متميــز ،امتــدا ًدا لجهــود كبــار املقاصديــن يف «تخليــق الرشيعــة»
7 وترســيخ «وحدتهــا األخالقيــة واألمريــة» ،يف مخاطبــة وإصــاح اإلنســان ظاه ـ ًرا وباط ًنــا.