You are on page 1of 8

‫قـراءة فـي كـتاب‬

‫التأسيس االئتماني لعلم المقاصد‬

‫أ‪ .‬ســليمان الناصر‬


‫كتــاب الدكتــور طــه عبــد الرحمــن الجديــد «التأســيس االئتــاين لعلــم املقاصــد» الــذي صــدر‬
‫عــن مركــز نهــوض للدراســات والبحــوث عــام ‪2022‬م‪ ،‬كتــاب غزيــر ومتدفّــق ال يــكاد القــارئ يلتقــط‬
‫أنفاســه وهــو يتتبــع بنــاءه املدهــش‪ ،‬إنــه تواشــج ِقيمــي إميــاين لُغــوي أصــويل منطقــي فلســفي‬
‫ـدل عــى مضمونــه إلّ مــن خــال دراســته بتــأ ٍّن وطــول‬ ‫فريــد‪ ،‬وهــو ‪-‬ككل أعــال املؤلــف‪ -‬لــن يُـ ّ‬
‫تأمــل‪ ،‬وقــد قــرأتُ هــذا الكتــاب أ ّول صــدوره قُبيــل رمضــان‪ ،‬ثــم قـ َّررتُ إعــادة قراءتــه ألكتــب عنــه‬
‫هــذا التقديــم املتواضــع‪ ،‬لكــن ضيــق وقــت رمضــان مل يســمح يل ّإل مبراجعــة عاجلــة‪.‬‬
‫افتتــح املؤلِّــف كتابَــه بســؤال تجديــدي الفــت أســاه (ســؤال املرشوعيــة‪ :‬هــل علــم املقاصــد‬
‫علــم مــروع؟)‪ ،‬إذ مل يكــن ليخطــر عــى بــال الباحــث املقاصــدي الشــك يف مرشوعيــة عملــه‪ ،‬لكــن‬
‫الفيلســوف املنطقــي يــأىب ّإل تتميــم عملــه وإغــاق كل منافــذ التشــكك التــي قــد تتطــرق إليــه‪ .‬وال‬
‫يخفــى عــى القـ ّراء أن املؤلــف يرفــع مســتوى البحــث ليُالمــس البعــد التأســييس‪ُ ،‬متعاليًــا عــى أزمــة‬
‫األســس التــي رضبــت بعمــق يف أنحــاء األفــق املعــريف الغــريب الحديــث‪ .‬وســؤال املرشوعيــة هــو‬
‫مســاءلة ألســاس حــق الفقيــه املقاصــدي يف الحديــث عــن املقاصــد الرشعيــة‪ ،‬فتقريــر املقاصــدي‬
‫لـ« ُمـراد الشــارع» «ينــزل ُرتبـ ًة غــر رتبــة حكــم الشــارع‪ ،‬أمـ ًرا أو نه ًيــا أو إباحــة‪ ،‬إذ هــو حكــم عــى‬
‫حكــم الشــارع»‪ ،‬وإذا كان املقاصــدي يُعلِّــل حكــم الشــارع‪ ،‬فحاجــة حكــم املقاصــدي إىل التعليــل‬
‫تصــر مــن بــاب األَ ْوىل‪.‬‬
‫يذهــب املؤلــف يف بنائــه لإلجابــة عــن معضلــة األســس املقاصديــة إىل التفرقــة بــن‬
‫ـوي» (الــذي تتأســس عليــه األحــكام املُنزلــة) و«الخطــاب اإللهــي قبــل و ُرود التبليــغ»‪،‬‬ ‫«البــاغ النبـ ّ‬
‫فيجعــل لصلــة اإلنســان باإللــه بهــذه التفرقــة طَ ْو َريْــن ُمتعاق َبـ ْـن‪ ،‬حيــث يكــون التبليــغ النبــوي عبــارة‬
‫عــن تذكــر بالخطــاب اإللهــي الســابق‪ .‬ويبنــي املؤلــف كتابَــه عــى ثــاث ِصــات بــن «الرشيعــة»‬
‫(التبليــغ النبــوي) و«الخطــاب اإللهــي» (صلــة الرشيعــة بالفطــرة‪ :‬ميثــاق اإلشــهاد) و(صلــة الرشيعــة‬
‫بــاإلرادة‪ :‬ميثــاق االســتئامن) و(صلــة الرشيعــة بال ّتزكيــة‪ :‬ميثــاق اإلرســال)‪ .‬فـ«الفطــرة» و«اإلرادة»‬
‫و«التزكيــة» هــي أركان حاكميــة الفقيــه املقاصــدي‪ ،‬وهــي مؤسســة عــى املَواثيــق الثالثــة املذكــورة‪.‬‬
‫يف الفصــل األول‪ ،‬اشــتغل املؤلــف بتأســيس «الفطــرة» عــى «ميثــاق اإلشــهاد»‪ ،‬ويف طريقــه‬
‫والعلمــة‬
‫العلمــة «ابــن عاشــور» ّ‬ ‫إليــه ميّــز بــن مفهــوم «الفطــرة» ومفهــوم «الغريــزة»‪ ،‬مناقشً ــا ّ‬
‫«عــال الفــايس» يف تأويلهــا ملفهــوم «الفطــرة» ومتييــزه عــن مفهــوم «الغريــزة»‪ .‬وقــد بـ ّـن املؤلــف‬
‫بعــض األصــول الفلســفية التــي دخلــت عــى منظــور «الطاهــر ابــن عاشــور» (وســنجد صــدى‬
‫هــذا التفريــق بــن «الفطــرة» و«الغريــزة» يــر ّدد طــوال الكتــاب)‪ .‬ويف تبيينــه للمضمــون القيمــي‬
‫‪3‬‬ ‫الفطري‪َّ ،‬بي األساس األسام ّيئ لهذه «القيم» و«املعاين» (صلتها باألسامء الحسنى)‪ .‬‬
‫ّ‬
‫قراءة في كتاب التأسيس االئتماني لعلم المقاصد‬ ‫‪4‬‬

‫تأسيســا الفتًــا‪ ،‬حيــث بـ ّـن أنــه مفهــوم‬


‫ً‬ ‫وتقـ ّدم املؤلِّــف يف الفصــل الثــاين بتأســيس مفهــوم «القيمــة»‬
‫ألي علـ ٍـم رشعــي فضـ ًـا عــن علــم املقاصــد‪ُ ،‬مؤاخـذًا املَقاصديّــن بكونهــم‬
‫رضوري ّ‬
‫ّ‬ ‫قــرآين أصيــل‪ ،‬وأنــه‬
‫مل يجــدوا حاجـ ًة إىل اســتثامر مفهــوم «القيمــة» واالرتقــاء بــه إىل أفــق «الحكمــة» و«املعنــى»‪ ،‬وقــد‬
‫أىت هذا الفصل متمي ًزا بتحريره وإبداعه‪ .‬‬
‫يف الفصــل الثالــث‪ ،‬يُحلِّــل املؤلــف تأســيس «االئتــار» عــى «اإلشــهاد»‪ ،‬فلــن كانــت «الفطــرة»‬
‫أســاس «االئتــار»‪ ،‬فــإن «اإلشــهاد» هــو األســاس االئتــاين لـ«الفطــرة»؛ إذ «الفطــرة ميثاق ّيــة» فيكــون‬
‫تأسيســا ل َو ْجههــا االئتــاري‪ .‬وبظ ّنــي أن املؤلــف يفتــح‬ ‫ً‬ ‫تأســيس الرشيعــة عــى «ميثــاق اإلشــهاد»‬
‫آفاقًــا بحث ّيــة بالغــة األهميــة يف التأســيس الرشعــي‪ ،‬ســيكون لهــا أث ُرهــا يف التفكــر الدينــي االئتــاين‪.‬‬
‫وكعــادة املؤلــف يف االعـراض عــى نفســه‪ ،‬واإلجابــة عــن االعرتاضــات املُحتملــة‪ ،‬أورد اعرتاضــات‬
‫وبـ َّـن إجابتــه عنهــا‪ ،‬وقــد قـ ّرر هنــا أمـ ًرا جليـ ًـا حيــث اعتــر الفطــرة مبنزلــة «املَحـ ّـل الــذي يُواصــل‬
‫فيــه اإلنســان ت َل ّقــي الســؤال األول وشُ ــهود االتّصــال األ ّول» (كأ ّن أخــذ «ميثــاق اإلشــهاد» مــا ي ـزال‬
‫ُمســتم ًّرا و ُمالز ًمــا لــه عــى مــدى حياتــه)‪ .‬وهكــذا‪ ،‬فحقيقــة «الفطــرة» هــي أنهــا خطــاب اللــه يف‬
‫ـؤال واتّصــاال‪ ،‬وذلــك يف مقابــل «الرشيعــة» التــي هــي بال ُغــه إلينــا بيانًــا وب ْي ًنــا‪،‬‬
‫وجــدان اإلنســان سـ ً‬
‫بالشعــة املُنزلــة»‪.‬‬
‫ـتدل بقــول «ابــن تيميــة»‪« :‬الكــال يحصــل بالفطــرة املُك َّملــة ِّ‬
‫وهــو هنــا يسـ ّ‬
‫وبعــد هــذا‪ ،‬ســيتعمق املؤلــف يف بيــان كيــف تســتم ّد «الفطرة» مــن «ميثاق اإلشــهاد»؟ وسـيُت ّمم‬
‫هــذا ‪-‬الح ًقــا‪ -‬ببحــث كيــف تُ ـ ّد الفطــر ُة الرشيعـ َة؟ ولــذا ســيتوغّل الفيلســوف يف تحليلــه ُمســتثم ًرا‬
‫فكرتــه املدهشــة عــن أن «الســؤال اإلشــهادي مــا يـزال يــر ّدد يف الفطــرة بغــر انقطــاع»‪ ،‬وكذلــك أن‬
‫«االتصــال اإلشــهادي قائـ ٌم بغــر انفصــال»‪ .‬وال ميكــن اإلتيــان هنــا عــى الخيــط الدقيــق الــذي تت ّبعــه‬
‫املؤلــف بحذاقــة مت َّيــز بهــا قل ُمــه املبــدع‪ ،‬وال بُـ َّد للقــارئ املهتـ ّم أن يأخــذ بتتبــع هــذا الخيــط بانتبــا ٍه‬
‫تسلســل املعنــى املســتم ّد وترابطــه‪.‬‬‫عــا ٍل‪ ،‬لئـ ّـا تفوتــه فقــرة قــد تقطــع ُ‬
‫خصــص املؤلــف الفصــل الرابــع لألســاء الحســنى والقيــم األســائية‪ ،‬وبتحليــل متسلســل يصــل‬
‫املؤلــف إىل نتيج َتـ ْـن‪:‬‬
‫ ‪1.‬أن «القيــم» عبــارة عــن اآلثــار التــي أحدثتهــا «األســاء الحســنى» يف «الفطــرة»‪ ،‬هــذه‬
‫الــرب بهــا إىل ُذ ّريــة آدم عنــد إشــهادهم عــى ُربوب ّيتــه‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫األســاء التــي ت َعــ َّرف‬
‫أن هــذه اآلثــار ُمؤثِّــرة وليســت مجــرد انفعــاالت معنويــة؛ ألن االنفعــال باألســاء يعنــي تل ّقــي‬
‫هــذه الفاعليــة عنهــا‪ ،‬ومــن هنــا تنكشــف لنــا فاعليــة القيــم عــى اإلنســان‪.‬‬
‫خصص املؤلــف عديــد الصفحــات لتحريـرات مهمــة ومثينــة حــول وظيفــة «القيــم» وأثرهــا‬ ‫وسـ ُي ّ‬
‫يف املعرفــة واإلدراك والتجربــة لــدى اإلنســان‪ ،‬ثــم أنــواع العالقــات بــن «القيــم األســائية»‪ ،‬ليصــل إىل‬
‫منــاذج تطبيقيــة للعالقــات األســائية عــى «املقاصــد»‪ ،‬حيــث ســيتّضح يف تحليلــه لهــذه املوضوعــات‬
‫الســامية أن «ميثــاق اإلشــهاد» هــو الــذي علَّــم اإلنســان كيــف يتوســط بالقيــم األســائية يف تكويــن‬ ‫ّ‬
‫عقلــه‪ ،‬يف حــن أن «ميثــاق االســتئامن» سـ ُيعلّم اإلنســان قــدر ًة أخــرى غــر «العقــل»‪ ،‬وهــي «اإلرادة»‬
‫(«العقــل» و«اإلرادة» هــا الخاص ّيتــان اللّتــان بهــا ِقــوام اإلنســانية)‪.‬‬
‫فخصصــه املؤلــف لبنــاء «اإلرادة» عــى «االســتئامن»‪ ،‬واشــتبك ُمط ـ ّو ًل مــع‬ ‫أمــا البــاب الثــاين‪ّ ،‬‬
‫«ابــن عاشــور» يف عـ ّدة نقــاط تتعلّــق بـ«ميثــاق االســتئامن»‪ ،‬ثــم إن تأســيس مفهــوم «اإلرادة» عــى‬
‫«ميثــاق االســتئامن» أفــى إىل تنــاول مفهــوم «اإلرادة» مــن خــال «القصــد» ‪-‬موضــوع الفصــل‬
‫الســادس‪ -‬الــذي ينقســم إىل لغــوي وشــعوري‪ ،‬وفيــه نــازع املؤلــف موقــف «الشــاطبي» مــن تفريــق‬
‫«اإلرادة اإللهيــة»‪ ،‬وأورد عليــه اعرتاضــات ُمتعـ ِّددة‪ُ ،‬مم ِّيـ ًزا بــن «األمــر يف عــامل التواثُــق» و«األمــر يف‬
‫عــامل التّعا ُمــل»‪ ،‬ثــم يُــورد اعرتاضــات عــى اســتعامل مفهــوم «القصــد» بوصفــه عنوانًــا لهــذا العلــم‬
‫ـح «الفهــم»‪ ،‬وهنا تظهــر مراجعة‬ ‫املســمى بـ«علــم املقاصــد»‪ ،‬فـراه يســتبدل مــكان «القصــد» مصطلـ َ‬
‫املؤلــف الجتهاداتــه الســابقة املنشــورة يف كتــاب «ســؤال املنهــج» بخصــوص التقســيم املعــروف عنــه‬
‫الــذي ف ـ ّرق فيــه بــن «القُصــود» و«املقصــودات» و«املقاصــد»‪ ،‬وقــد حافــظ املؤلــف عــى القضايــا‬
‫األساســية نفســها وأجــرى تغيـ ًرا يف األســاء‪ ،‬فحافــظ عــى مصطلــح «القصــد» (وجم ُعــه «القُصــود»)‬
‫ـعوري‪ ،‬وأمــا مصطلــح «املقصــود» (وجم ُعــه «املقصــودات») وهــو املعنــى‬ ‫للداللــة عــى املعنــى الشـ ّ‬
‫الــداليل‪ ،‬فقــد ارتــأى أن مصطلــح «املفهــوم» (وهــو مــن «الفهــم» أو «امل ُـراد») أنســب وأقــرب لعــدم‬
‫أيضــا‬
‫وأيضــا ملــا تتض ّمنــه عبــارة «مقصــود اإللــه» مــن تشــبيه‪( ،‬وميكــن ً‬ ‫ال َج ـ ْزم بـ«امل ُـراد اإللهــي»‪ً ،‬‬
‫مراجعــة مــا و ّجهــه املؤلــف يف كتابــه «املفاهيــم األخالقيــة» مــن نقــد للنظريــة القصديــة للفيلســوف‬
‫األمريــي فيليــب كويــن‪ ،‬فقــد تنــاول وقــوع نظريــة هــذه املدرســة األخالقيــة يف آفــة التشــبيه‬
‫النفــي)‪ ،‬وأمــا مصطلــح «املقصــد» (وجم ُعــه «املَقاصــد») فهــو يــدل عــى «املضمــون ال ِقيمــي»‪،‬‬
‫وأيضــا اســتبدل بــه املؤلــف مصطلــح «القيمــة»‪ ،‬بحيــث يكــون «علــم املقاصــد» هــو «علــم ال ِقيــم»‪.‬‬ ‫ً‬
‫ويف الفصــل الســابع‪ ،‬يدخــل املؤلــف يف القســم الثــاين مــن معــاين «القصــد» (الــذي يُجمــع‬
‫عــى «القُصــود») وهــو «املعنــى الشــعوري»‪ ،‬وقــد احتفــظ األســتاذ بهــذه التســمية خالفًــا ملــا فعــل‬
‫مــع االس ـ َم ْي اآلخ َريْــن‪ ،‬فتنــاول بالتحليــل مفاهيــم «الباعــث» و«العــزم» و«النيــة» و«اإلخــاص»‪،‬‬
‫وافتتــح هــذا الفصــل بتحليــل خصائــص «القصــد الشــعوري»‪ ،‬ثــم تنــاول خاصيــة «الوجــدان»‬
‫‪5‬‬ ‫وخاصيــة «التَّ ْغ ِييَــة» التــي هــي «إنشــاء الغايــات»‪ ،‬كــا تنــاول مفهــوم «القلــب» فاعــرض عــى‬
‫قراءة في كتاب التأسيس االئتماني لعلم المقاصد‬ ‫‪6‬‬

‫مبــدأ أن «ال ِّنيــة» محلّهــا «القلــب»‪ ،‬وجعــل «الـ ُّروح» تقــوم مكانهــا‪ ،‬وأفــرد ملفهــوم «الــروح» ح ّيـ ًزا‬
‫ـر» بوصفــه محـ ّـل «اإلخــاص» الــذي وصفــه بـ«األصليّة»‬ ‫واسـ ًعا مــن البحــث‪ ،‬ثــم تنــاول مفهــوم «الـ ِّ ّ‬
‫و«اللنهائ ّيــة»‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويف البــاب الثالــث‪ ،‬يقــوم املؤلــف بتأســيس «التزكيــة» عــى «ميثــاق اإلرســال»‪ ،‬آخ ـذًا يف بيــان‬
‫مفهــوم «التزكيــة» وناقـ ًدا إهــال املَقاصديّــن لــه رغــم تــر ّدده يف «القــرآن الكريــم»‪ ،‬مـ ّـا يُشــر إىل‬
‫إهاملهــم لل ُمكـ ّون األخالقــي مــن «املقاصــد»‪ ،‬كــا أظهــر ُمفارقـ ًة وقــع فيهــا أهــل املقاصــد‪ ،‬وهــي‬
‫أن «علــم املَقاصــد» يبــدو مــن اســمه أنــه يُضــا ّد مضمونــه‪ ،‬فاســمه يُفيــد معنــى «علــم األخــاق‬
‫اإلســامية»‪ ،‬يف حــن أن موضوعــه يــدور عــى «األحــكام القانونيــة» مــن الديــن‪ ،‬وقــد نتجــت عــن‬
‫هــذه املفارقــة مفارق ـ ٌة أُخــرى‪ ،‬وهــي أن «القيــم» ال تُطلَــب لذاتهــا كــا يقتــي الواجــب‪ ،‬وإنّ ــا‬
‫تُطلــب مــن «األحــكام» تعليـ ًـا لهــا‪ ،‬بحيــث تبــدو «القيــم» خادمــة لـ«األحــكام»‪ ،‬مـ ّـا يعــود عــى‬
‫أصالتهــا بال ّنســيان‪.‬‬
‫رشع املؤلــف بعــد ذلــك يف بيــان انبنــاء «التزكيــة» عــى خطــاب التبليــغ يف «ميثــاق اإلرســال»‬
‫ـص بالوصــل بــن «الحالــة التّواث ُق ّيــة» و«الحالــة التّعا ُمل ّيــة»‪ ،‬إذ تجلّــت اإلرادة اإللهيــة‬ ‫الــذي يختـ ّ‬
‫باملصالــح الدنيويــة واألُخرويــة التــي يُـراد بهــا تزكيــة اإلنســان‪ ،‬فتنــاول «عامل ّيــة التّزكيــة»‪ ،‬ومــن هنــا‬
‫تنــاول األســتاذ مفهــوم «املصلحــة» متوس ـ ًعا يف التحليــل و ُمج ـ ّد ًدا النظــر يف كثــر مــن موضوعاتهــا‪،‬‬
‫ي‪.‬‬‫ُمتحــاو ًرا مــع «الغ ـزايل» و«العــز ابــن عبــد الســام»‪ ،‬ثــم مــع «ابــن تيميــة» و«الطــويف» الحنب ـ ّ‬
‫التوســل باالســتقراء ملعرفــة املصالح‬
‫ويف الفصــل العــارش‪ ،‬عمــل األســتاذ البصــر منطق ًّيــا عــى نقــد ُّ‬
‫ـات مثينــة وجوهريــة وهــو مــن أخصــب املواضع‬ ‫واملقاصــد ُمب ّي ًنــا أخطــاره عــى الفقــه‪ ،‬فجــاء بتحقيقـ ٍ‬
‫اإلبداعيــة يف الكتــاب‪ ،‬ثــم تنــاول تأســيس علــل األحــكام الرشعيــة عــى وجــود الرشيعــة‪ ،‬فالتوحيــد‬
‫اإلشــهادي هــو العلــة العقديــة لوجــود الرشيعــة‪ ،‬واملســؤولية االئتامنيــة هــي العلــة التكليفيــة لوجود‬
‫الرشيعــة‪ ،‬والتزكيــة العامليــة هــي العلــة التبليغيــة لوجــود الرشيعــة‪ .‬ويف هــذا الفصــل عمــل املؤلــف‬
‫عــى إعــادة النظــر بشــكل جــذري يف التقســيم املعهــود للمصالــح؛ متهي ـ ًدا لوضــع تقســيم ائتــاين‬
‫وأيضــا العديــد مــن املفاهيــم‪،‬‬ ‫جديــد‪ ،‬كــا تنــاول فيــه مفهــوم املصلحــة وعالقتــه مبفهــوم القيــم‪ً ،‬‬
‫مثــل اإلحســان عنــد «العــز ابــن عبــد الســام»‪ ،‬ومفاهيــم الصــاح والنــور واملصلحــة واملفســدة‬
‫واللّــذة‪.‬‬
‫مؤسســا مبــادئ هــذا‬ ‫ً‬ ‫ويف الفصــل الثــاين عــر واألخــر‪ ،‬تنــاول التقســيم االئتــاين ألصــول القيــم‬
‫التقســيم عــى أربعــة أُســس‪ :‬مبــدأ الفــرق بــن «العبديــة التســخريية» و«العبديــة التخيرييــة»‪ ،‬ومبدأ‬
‫قيم ّيــة كل يشء‪ ،‬ومبــدأ أخالقيــة كل يشء‪ ،‬ومبــدأ تقديــم «القيــم الغائ ّيــة» عــى «القيــم ال َو َســل ّية»‪.‬‬
‫وبِنــا ًء عــى هــذه املبــادئ قــام بتقســيم القيــم األخالقيــة إىل «قيــم فطريــة» أو قــل «أســائية»‪،‬‬
‫مقســا «القيــم الغريزيــة» إىل «قيــم حيويــة» و«قيــم‬ ‫ًّ‬ ‫و«قيــم غريزيــة» أو قــل «أشــيائية»‪،‬‬
‫ماديــة»‪ ،‬ومقسـ ًـا «القيــم الفطريــة» إىل «قيــم التوحيــد اإلشــهادي» و«قيــم املســؤولية االئتامنيــة»‪،‬‬
‫مقسـ ًـا «قيــم التوحيــد اإلشــهادي» إىل «قيــم عقديــة» تشــمل «قيــم اإلميــان» و«قيــم العــزم»‪،‬‬ ‫ثــم ّ‬
‫ــا‬
‫ومقس ً‬
‫ّ‬ ‫و«قيــم روحيــة» تشــمل «قيــم النيــة» و«قيــم اإلخــاص» و«قيــم اإلحســان»‪،‬‬
‫«قيــم املســؤولية االئتامنيــة» إىل «قيــم عقليــة» و«قيــم عمليــة»‪ ،‬وال يخفــى مت ّيــز هــذا التقســيم‬
‫وشــموله ودقتــه‪ .‬وبـ َّـن املؤلــف فيــا بعــد بعــض االعرتاضــات الســابقة عــى التقســيم املعهــود‪ ،‬فبــدأ‬
‫بـ«ابــن تيميــة»‪ ،‬ثــم أعقبــه بـ«العــز ابــن عبــد الســام»‪ ،‬ثــم أورد االعرتاضــات املحتملة عىل التقســيم‬
‫االئتــاين وأجــاب عنهــا‪.‬‬
‫ويف الخامتــة يُعطــي املؤلــف تصــو ًرا جام ًعــا عــن عملــه يف الكتــاب نقـ ًدا وبنــاء‪ .‬وتبقــى مالحظــة‬
‫عامــة ميكــن اإلشــارة إليهــا وهــي أن املؤلــف يف كتابــه هــذا بــدا أقــرب إىل ثالثــة مــن املقاصديّــن‬
‫أكــر مــن غريهــم‪ ،‬وهــم «ابــن تيميــة» و«ابــن القيّــم» و«العــز ابــن عبــد الســام»‪ ،‬يف حــن ســيلمح‬
‫القــارئ أنــه ات ّخــذ مســاف ًة نقديـ ًة مــع «أيب إســحاق الشــاطبي» و«الطاهــر ابــن عاشــور»؛ ولهــذا بـ ّـن‬
‫يف نهايــة خامتتــه أنــه يف نقــده لبعــض العلــاء قــد تح ـ ّرى ّأل يتحامــل عــى أحــد منهــم؛ إذ يقــول‬
‫عــن كل منقــود‪« :‬بــل مل يكــن نق ُدنــا لــه إلّ إبـرازًا لــدوره االجتهــادي الكبــر‪ ،‬بــل غالبًــا مــا كان نق ُدنــا‬
‫لدعــاوى بعضهــم مصحوبًــا بتأييدنــا لدعــاوى أخــرى لــه‪ ،‬حتــى كأننــا مل نن ُقــده قــط‪ ،‬بــل كأنّنــا ننحــاز‬
‫إليــه‪ ،‬ومــا ذاك إلّ ألن هدفنــا مــن هــذا العمــل مل يكــن ّإل اإلســهام يف بنــاء «علــم املقاصــد» عــى‬
‫أُ ُســس عامليــة ال تتزلــزل‪ ،‬أُســس تُسـ ِند مرشوعيتــه وتُـرِز معقوليتــه وت ُوطِّــد مقبوليتــه يف العــامل»‪.‬‬
‫وهنــا نجــد مــن املناســب اســتحضار مقولــة املؤلــف يف كتابــه «روح الديــن»‪« :‬إن هــذا ال يعنــي‬
‫بعضهــم خصـ ًـا لهــم‪ ،‬مــع أننــا‬‫أننــا مل نحفــظ ملــن انتقدناهــم أَقْدا َرهــم وأَفْضالهــم‪ ،‬حتــى ولــو َع َّدنــا ُ‬
‫ال نُخاصــم إلّ الباطــل ولــو التبــس علينــا مــن غفلـ ٍة مــن أمرنــا؛ ال َجـ َر َم أننــا نَ ْكــره الخصومــة‪ ،‬لكــن‬
‫الباطــل أكـ َر ُه إلينــا؛ ويف املقابــل‪ ،‬فــإ َّن في َمــن انتقدناهــم َمــن يَع ُّدنــا نصـ ًرا لهــم‪ ،‬مــع أننــا ال ننــارص‬
‫ـب إلينــا» ‪.‬وبــا‬‫إال الحــق ولــو ظهــر عــى يــد خصمنــا؛ ال َجـ َر َم أننــا نحــب النــرة‪ ،‬لكــن الحــق أحـ ّ‬
‫ـري سـ ُيلقي بظاللــه عــى حــوارات «املقاصــد» و»األخــاق» كل ْيهــا‪ ،‬حيــث‬ ‫ريــب‪ ،‬فهــذا العمــل الفكـ ّ‬
‫ورســخها ترســي ًخا مــن خــال اســتبدال وصــف «القيــم»‬ ‫حســم املؤلــف عالقــة األخــاق باملقاصــد ّ‬
‫مــكان «املَقاصــد»‪ ،‬فـ«املَقاصــد» عنــد فيلســوفنا إمنــا هــي «القيــم» و«األخــاق»‪.‬‬
‫هــذا الكتــاب جهــد فلســفي متميــز‪ ،‬امتــدا ًدا لجهــود كبــار املقاصديــن يف «تخليــق الرشيعــة»‬
‫‪7‬‬ ‫وترســيخ «وحدتهــا األخالقيــة واألمريــة»‪ ،‬يف مخاطبــة وإصــاح اإلنســان ظاه ـ ًرا وباط ًنــا‪.‬‬

You might also like