You are on page 1of 30

‫رسالة في النـزعة اإلنسانية ـ مارتن هايدغـر ـ ترجمة ‪ :‬عبدالهادي مفتاح‬ ‫‪‬‬

‫إننا ال نفكر بعد في ماهية الممارسة بشــكل حاســم‪ ،‬لــذا فنحن ال ننظــر إليهــا إال باعتبارهــا نتــاج أثــر تكمن حقيقتــه‬
‫الثمينةـ في ما يسديه من خدمات وصالحيات‪ .‬هذا في حين أن ماهية الممارسة تكمن في اإلنجاز‪ ،‬واإلنجاز معنــاه‪:‬‬
‫بسط شيء ما في تمام ماهيته‪ ،‬وبلوغ ذلك التمام‪ ،‬بحيث يكون اإلنجاز هو اإلنتاج بمعناه األصيل‪.‬‬
‫ال يمكننا إذن أن ننجز على الوجه الصحيح إال ما "يوجد" مسبقا‪ .‬والحال أن مـا "يوجـد" مسـبقا هــو الوجـود‪ .‬وإذا‬
‫كانت مهمة الفكر هي أن ينجز العالقة التي للوجود بماهية اإلنسان‪ ،‬فإن هــذه العالقــة ال تنتجـ أبــدا عنــه وال تشــكل‬
‫من طرفه‪ ،‬بل إن الفكر ال يعمل سوى على عرضها عن الوجـود باعتبار مــا من الوجــود يعــود على الفكــر نفســه‪.‬‬
‫هــذا العـــرض يكمن فيمــا يلي‪ :‬في الفكــر على الوجــود أن يــأتي إلى اللغــة‪ .‬واللغــة هي مـــأوى الوجــود‪ ،‬حيث يقيم‬
‫اإلنسان‪ .‬المفكرون والشعراء هم أولئــك الـــذين يســهرون ويحرســون على هــذا المــأوى‪ .‬حراســتهم وعنــايتهم همــا‬
‫اإلنجاز التام لتجلي الوجود‪ ،‬إذ من خالل قولهم وبه يحملون إلى اللغة ذلك التجلـــي ويحتفظــون بــه هنــاك‪ .‬والفكــر‬
‫قبل كل شيء لم يرق إلى مرتبة الفعل لمجرد أن أثرا ما قــد نجم عنــه‪ ،‬أو أنــه قابــل ألن يطبــق على… أو يوظــف‬
‫في… إن الفكر يتصرف ويمارس بقدر ما يفكر‪ .‬هذه الممارسة مــا دامت تخص العـــالقة الــتي للوجــود باإلنســان‪،‬‬
‫فهي على أعظم تقدير األكثر بساطة‪ .‬لكنها ولنفس السبب األكثر رفعة في نفس الوقت‪ .‬وعليه فإن كل فعاليــة إنـــما‬
‫تستقر في الوجود لتتجه من ثم صوب الموجود‪.‬‬
‫بيد أن الفكر على العكس من ذلك يطاوع دعوة الوجود ونشدانه له ليقول حقيقته‪ .‬إنه ينجـز هذه العفوية في التفكير‬
‫في الوجود والتخلي عن الموجود‪ .‬فــالتفكير هــو تـــهيؤ الوجــود لقــول الوجــود ذاتــه‪ .‬ال أعــرف مــا إذا كــانت اللغــة‬
‫تستطيع أن تجمع بين هذه الثنائيــة‪" :‬من" و"ل" في عبــارة واحــدة كهــذه‪" :‬الفكــر هــو تجنيــد الوجــود"‪ .‬إن صــيغة‬
‫اإلضافة هنا "تجنيد الوجود" يجب أن تعبر عن كون المضاف إليه‪ ،‬هو في نفس الوقت الذاتي والموضوعي معــا‪.‬‬
‫(الفاعــل والمفعـــول)‪ .‬لكن مصــطلحي "الــذات" و"الموضــوع" (الفاعــل والمفعــول) همــا بالمقابــل مصــطلحان‬
‫ميتافزيقيان غير بريئين‪ ،‬بقدر عدم براءة هذه الميتافزيقا التي استحوذت باكرا في شـكل الــ "منطـق" والــ "نحـو"‬
‫الغربيين على تأويل اللغة‪ .‬إن ما يختفي في حدث من هذا القبيل‪ ،‬ال يمكننا أن نتبينه اليوم إال بمشقة النفس‪ .‬كمــا أن‬
‫تحرير اللغة من قيود النحو لصالح تـمفصل أكثر أصــالة بين عناصــرها‪ ،‬يظــل رهينــا بــالفكر وبالشــعر‪ .‬إن الفكــر‬
‫أدرك باعتبــاره واقــع الحـال الــراهن‪ .‬بــل إنــه تجنيــد من‬
‫ليس فقط تجنيـدا في الفعل ألجل الموجود ومن طرفه وقد ِ‬
‫طرف حقيقة الوجود لصالح هذه الحقيقة‪ .‬هذا الوجود الذي لم ولن يكتمل تاريخه أبــدا‪ ،‬وإنمــا يظــل دائمــا في حالــة‬
‫ترقب وانتظار لطور االكتمال‪ .‬إن تاريخ الوجود هذا هو الذي يتحمل ويحدد كـل ظرف وشرط إنساني‪ .‬فــإذا كــان‬
‫علينا بادي ذي بدء أن نتعلم كيــف نختــبر بصـفاء ماهيـة الفكـر هــذه الـتي نتحـدث عنهـا‪ ،‬الشـيء الــذي يعـود على‬
‫إنجازها‪ ،‬فإن هذا يقتضي منا أن نتحرر من التأويل التقني للفكر الذي ترجـع أصــوله إلى أفالطــون وأرســطو‪ .‬في‬
‫ذلك العصر كان الفكر نفسه ذا قيمة تخنية (نسبة إلى تخــني‪ .) t c n h :‬لقــد كــان ســيرورة من الفكــر في خدمــة‬
‫العمل واإلنتاج‪ .‬لكن الفكر قد تم تمثله آنذاك من وجهة نظر البراكسيس (( ‪ ) p r a x i V‬الممارسة) والبويسيس‬
‫(الشعر بمعناه األصلي‪ .) p r a x i V ( :‬ولهذا فالفكر إذا ما نظرنا إليه في ذاته ليس ممارسة‪ .‬هذه الكيفيــة في‬
‫النظر إلى الفكر باعتباره "نظرية" (تيوريا ـ ‪ ،) q e w r i c‬وهذا التحديدـ للمعرفة باعتبارها "موقفا نظريــا"‪،‬‬
‫حدثا مسبقا في قلب وبداخل تأويل تقني للفكر‪ .‬إنـها محاولة رجعية وردة فعل استهدفت الحفاظ على ما تبقى للفكــر‬
‫من اســتقاللية في مواجهــة الممارســة والعمــل‪ .‬ومنــذ ذلــك الحين و"الفلســفة" في نـــزاع دائم مــع ضــرورة تــبرير‬
‫وجودها أمام الـ"علوم"‪ .‬ولقد ارتأت أن النجاح المؤكد في هذه المهمة هـو أن تــرتقي بنفســها إلى مرتبـة العلم‪ .‬لكن‬
‫هذا المجهود كان في حقيقة األمر هو التخلي الفعلي عن ماهية الفكر‪ .‬لقد بات يالحقها الخـوف من ضــياع مكانتهــا‬
‫وصالحيتها إذا هي لم تصر علما‪ .‬إننا نقف هنا على ما يشبه نقصا يناط بما ليس ـ علمويــا‪ .‬هكــذا تم تــرك الوجــود‬
‫من حيث هو عنصر الفكر تحت رحمة التأويل الذي أصبح معموال بــه منـذ عصـر السفسـطائيين وأفالطــون‪ .‬ومن‬
‫ثمة أصبحنا نحكم على الفكر حسب قياس ليس من طينته‪ .‬هذه الكيفية في الحكم تشبه إلى حــد بعيــد‪،‬ـ تلــك الطريقــة‬
‫التـي تروم التعرف على ماهية األسماك وأصولـها من خالل القــدرة الــتي لـــها على العيش في اليابســة‪ .‬وقــد أبــان‬
‫الفكر عن فشله في اليابسة هذه منذ زمن بعيدـ وبعيد جدا‪ .‬فهل يجوز لنا اآلن أن ننعث هذا المجهود الذي يسعى إلى‬
‫إرجاع الفكر إلى عنصره‪ ،‬بكونه "نـزعة العقالنية"؟‬
‫إن األسئلة الواردة في رسالتكم تتضح بيسر أكبر من خالل الحوار المباشر‪ .‬أمــا في حالــة الكتابــة فــإن الفكــر يفقــد‬
‫بسهولة حافزه‪ .‬لكنه ال يستطيع على وجه الخصوص الحفاظ على األبعاد الخاصة بمجاله إال بصــعوبة‪ .‬إن نجاعــة‬
‫الفكر ال تكمن فقط‪ ،‬بخالف العلوم‪ ،‬في الدقة المصطنعة (أي التقنية ـ النظرية) للمفاهيم‪ ،‬بل ترجع إلى مــا يلي‪ :‬في‬
‫عنصــر الوجــود على القــول أن يبقى خالصــا‪ ،‬ويســمح بـــهيمنةـ مــا في أبعــاده المتنوعــة من بســاطة‪ .‬لكن الشــيء‬
‫المكتوب يمنحنا من ناحية أخرى الحاجة المالئمة لفهم يقظ من خالل اللغـة‪ .‬وسأكتفي اليوم بعزل ســؤال واحــد من‬
‫بين أســـئلتكم وعرضـــه‪ ،‬لعـــل االختبـــار الـــذي ســـأجريه لـــه يلقي بشـــيء من الضـــوء على األســـئلة األخـــرى‪.‬‬
‫إنكم تسألون‪" :‬كيف يمكننا أن نعطي من جديد معنى لكلمة "النـزعة اإلنســانية؟" هــذا الســؤال يؤشــر على الرغبــة‬
‫في الحفاظ على نفس الكلمة‪ .‬وإني ألتساءل ع َّما إذا كان ذلــك ضــروريا‪ .‬ألم تتجــل بعــد بمــا فيــه الكفايــة‪ ،‬المصــيبة‬
‫الكبرى التي تنجم عن مثل هذه اإلضافات ؟ صحيح أننا بــدأنا منــذ زمن بعيـدـ نحتــاط من إضــافة يــاء النســب وتــاء‬
‫التأنيث "…ية = …‪( "isme‬للداللة على النـزعة إلى…)‪ .‬لكن سوق الرأي العام لم يتوقف عن المطالبة بالمزيد‪.‬‬
‫كما أننا دائما على استعدادـ لتلبية هذا الطلب‪ .‬إن مصطلحات من قبيل "منطــق"‪" ،‬أخالق"‪ ،‬فيزيــاء" لم تظهــر هي‬
‫نفسها إال في اللحظة التي أصبح فيها الفكر األصيل على مشارف غروبه‪ .‬أما اإلغريق إبان عصرهم العظيم‪ ،‬فقــد‬
‫فكروا دونما حاجة إلى مثل هذه اإلضافات إلى حد أنـهم لم يطلقوا على الفكر اسم "فلسفة"‪ .‬لقد كانت هذه األخــيرة‬
‫في طريقها إلى األفول عندما ابتعدت عن عنصرها‪ .‬والعنصر هنا‪ ،‬هــو مــا يســتطيع الفكــر انطالقــا منــه أن يكــون‬
‫فكرا‪ .‬إنه بحق ما ـ له ـ القدرة‪ :‬إنه القدرة ذاتـها أو الســلطة‪ .‬فهــو يتكفــل بــالفكر ليحملــه بــذلك إلى ماهيتــه‪ .‬وبكلمــة‬
‫واحدة نقول‪ :‬إن الفكر هو فكر الوجود‪ .‬واإلضافة هنا‪ ،‬لـها معنيان‪ :‬الفكــر من الوجـود على قــدر حصــوله من هــذا‬
‫األخير وانتمائه إليه ؛ الفكر فـي نفس الوقت تفكير في الوجود مادام إذ ينتمي إلى الوجود فهو يصغـي له‪ .‬إن الفكر‬
‫يكون بما هو عليه تبعا لمصدر حصوله األساسي؛ بحيث بانتمائه للوجود إنما يصغي للوجود‪ .‬الفكر يكــون ‪ :‬وهــذا‬
‫معناه أن الوجود يتكفل في كل مرة تبعا لتجلي عصــوره بماهيتــه‪ .‬أن تتكفــل بـــ"شــيء" مــا أو بـــ"شــخص" مــا في‬
‫ماهيته‪ ،‬معناه أنك تحبه‪ ،‬أي ترغب فيه‪ .‬هذه الرغبة إذا ما فكرنا فيهـا بشــكل أصــيل‪ ،‬تجلت لنـا كهبـة من الماهيـة‪.‬‬
‫ومثل هذه الرغبة هي الماهية الخاصة بالقدرة التي ليس بوسعها فقط أن تحقــق هــذا أو ذاك‪ ،‬وإنمــا أن تعمــل أكــثر‬
‫من ذلــك على بســط شــيء مــا انطالقــا من مصــدر حصــوله‪ ،‬أي أنهــا تســمح بحصــول كينونتــه‪ .‬إن قــدرة الرغبــة‬
‫وسلطتهـا هي هذا الذي "بموجب" ـه تكون لشيء ما بوجه خاص القدرة على االنوجاد(‪ .)1‬هذه القــدرة عينهــا هي‬
‫الـ "ممكن" الذي تستقر ماهيته في الرغبة‪ .‬ما ينشده الوجود ويستطيعه انطالقا من هذه الرغبة فيجعلــه ممكنــا هــو‬
‫الفكر‪ .‬فالوجود من حيث هو رغبة ـ تُـ ْن َج ُز ـ قُـ ْد َرة هو الـ "ممكن"‪ .‬إنــه من حيث هـو العنصـر‪ ،‬الــ "قــوة الهادئــة"‬
‫للقــدرة المحبــة‪ ،‬أي للممكن‪ .‬إن كلمــتي‪" :‬الممكن" و "اإلمكانيــة" لم يفكــر فيهمــا بفعــل هيمنــة الـ ـ "المنطــق" والـ‬
‫"ميتافزيقا" إال في تعارضهما مع مفهوم "الواقع"‪ ،‬أي انطالقا من تأويل ميتافيزيقي معين للوجود باعتباره وجودا‬
‫بالفعل ووجودا بالقوة‪ .‬هذا التعارض هو ما تتم مماهاته مع الوجود (‪ )existentia‬بمعنى العرض ومع الماهيـــة (‬
‫‪ )essentia‬بمعنى الجوهر‪ .‬عندما أتحدث عن "القوة الهادئة" للممكن" فأنا أقصد بـها إمكان إمكانية متمثلــة فقــط‪،‬‬
‫وال أعني بـها الكمون باعتباره جوهر الوجود الفعلي كعرض‪ ،‬بل أقصد بـــها الوجــود ذاتــه‪ .‬هــذا الوجــود الــذي إذ‬
‫يــرغب‪ ،‬يحتفــظ في رغبتــه بالسـلطة وبالقــدرة على الفكــر‪ .‬ومن ثمــة على ماهيــة اإلنســان‪ ،‬أي على العالقــة الــتي‬
‫لإلنســـان بـــالوجود‪ .‬فـــأن تقـــدر على شـــيء مـــا معنـــاه ‪ :‬أن ترعـــاه في ماهيتـــه وتحافـــظ عليـــه في عنصـــره‪.‬‬
‫حينما يكون الفكر على مشارف أفوله مبتعداـ بذلك عن عنصره‪ ،‬يستعيض عن خسارته تلك بأن يضمن لنفسه قيمة‬
‫ذات صبغة تقنية كأداة للتكوين‪ ،‬ليصير عاجال تمرينا مدرسيا وينتهي بالتحول إلى ما يشبه مشروعـا ثقافيا‪ .‬وشــيئا‬
‫فشيئا تصبح الفلسفة تقنية للتفسير من خـالل العلل واألسباب األولى‪ .‬هكذا نكف عن التفكير وننشغل ب "الفلسفة"‪.‬‬
‫وفي لعبة السبق والتنافس هذه‪ ،‬يتم تقــديم مثــل هــذه االنشــغاالت إلى المجــال العمــومي في شــكل نـــزعات… (…‬
‫يــة‪ )isme…/‬تنـــزع إلى المزايــدة والمضــاربة‪ .‬وتفــوق مثــل هــذه الملصــقات وهيمنتهــا ال يرجــع في شــيء إلى‬
‫الصدفة‪ ،‬وإنما يرتكز على ديكتاتورية اإلشهار الخاص‪ ،‬خصوصا في األزمنـــة الحديثــة‪ .‬فمــا نــدعوه بالــ "وجــود‬
‫الخصوصي" ليس بعد هو المهم ذلك الكائن اإلنساني الحر‪ ،‬بــل مجــرد تصــلب لنفي مــا هــو عمــومي‪ .‬ويبقى ذلــك‬
‫المطمور الذي يتوقف على كل هذا‪ ،‬وال يقتات إال من اختفائه في مواجهته‪ ،‬شــاهدا بــذلك رغمــا عنــه على خدمتــه‬
‫لإلشهار‪ .‬والحال أن اإلشهار هو ذلك المجهـود الالمشروط ميتافزيقــا ـــمادام يمتح من هيمنــة الذاتيةــ الــذي يوجــه‬
‫انفتاح الموجود نحو الموضعة الالمشروطة لكل شيء ويدفع به نحو اإلقامة هناك‪ .‬لهذا السبب تســقط اللغــة نفســها‬
‫في خدمة الوظيفة التوسطية لوسائل المبادلة التي تستطيع الموضعة بواسطتها‪ ،‬من حيث هي مــا يجعــل كــل شــيء‬
‫فـي متناول الجميع على نحو متشابه‪ ،‬أن تذهب إلى حد االستهانة بكل الحدود‪ .‬هكذا بصدد تقــع اللغــة تحت رحمــة‬
‫ديكتاتورية اإلشهار‪ .‬هذه األخيرة هي التي تقرر مسبقا بصدد ما هو قابل للفهم وما هو بخالف ذلــك فينبغي التخلي‬
‫عنه وإقصاؤه‪ .‬إن ما قيل في "الوجود والزمان (‪ "1927‬عن الـ"هم" (الفصل ‪ 27 :‬و ‪ )2()35‬لم تكن الغايــة منــه‬
‫أبدا أن يتحول هذا الموضوع إلى مساهمة في السوسيولوجيا‪ .‬كما أن ضــمير الــ "هم" ال يشــير فقــط إلى المطالبــة‬
‫على الصعيد األخالقي‪/‬الوجودي بالكينونة الحقة للشخص‪ .‬إن ما قيل عن ضمير الـ "هم" يحتوي‪ ،‬من حيث انتماء‬
‫الكلمة األصيل للوجود‪ ،‬على إشـارة مفكــر فيهـا انطالقــا من الســؤال عن حقيقــة الوجـود‪ .‬إال أن هـذه الصـلة تظـل‬
‫محتجبة مادامت تقع تحت هيمنة الذاتية التي تعرض نفسها كإشهار‪ .‬ولكن عندما تصبح حقيقة الوجود وقد تــذكرها‬
‫الفكر‪ ،‬جديرة بأن يفكر فيها لذاتـها‪ ،‬آنذاك يصـير التفكـير في ماهيـة اللغـة أيضـا ملزمـا بـأن يضـمن لنفسـه مكانـة‬
‫أخـرى‪ ،‬فال يسـعه أبـدا أن يكـون مجـرد فلسـفة للغـة‪ .‬هــنا يكمن السـبب الوحيـد الـذي من أجلـه يحتـوي "الوجـود‬
‫والزمان" على إشارة إلى البعد الجوهري للغة تالمس هذا السؤال البسيط ‪ :‬على أي نحو من الوجـود توجــد اللغــة‬
‫واقعيا كلغة ؟ إن اجتياح اللغة الذي طال كل األنحاء وبوتيـرة سريعة‪ ،‬ال يتوقف فقـط على المسـؤولية ذات الطـابع‬
‫الجمالي واألخالقي التي نتحملها في استعمالنا للكالم‪ .‬بل يصدر عن وضع ماهية اإلنسان موضع الخطر‪ .‬وليســت‬
‫العناية البالغة التي قد نبديها في استعمالنا للغة‪ ،‬بدليل على أننا تخلصــنا من هــذا الخطــر الجــوهري‪ ،‬بــل قــد يكــون‬
‫اليوم دليال على أننا ال نرى أبدا هذا الخطر‪ ،‬وال يمكننا أن نراه ألننا لسنا بعدـ معرضين لبريقــه‪ .‬إن انحطــاط اللغــة‬
‫الذي أصبحنا نتحدث عنه منذـ وقت قريب وحتى وقت متأخر‪ ،‬ليس في جميع األحــوال ســببا‪ ،‬بــل نتيجــة لســيرورة‬
‫بموجبها خرجت اللغة شبه مرغبة تقريبا من عنصرها تحت سطوة الميتافزيقـا الحديثــة للذاتيــة‪ .‬إن اللغــة من حيث‬
‫هي مأوى حقيقة الوجود‪ ،‬ما تزال تحجب عنا ماهيتها‪ ،‬رغم أنـها تقدم لنا نفسها في محض ما نريد وفي ممارساتنا‬
‫كأداة للسيطرة على الموجود‪ ،‬حيث يتجلى لنا هذا األخير نفسه في نسيج العلل والنتائج باعتباره الــواقعي‪ ،‬فنعالجــه‬
‫من جانبا بـما هو كذلك ليس فقط بمواربة الحساب والممارسة‪ ،‬وإنما أيضا بواســطة علم وفلســفة ينهجــان التفسيـــر‬
‫والتعليل‪ .‬مع أننا نسمح لهما بدون شك‪ ،‬بالتخلي عن جزء مما ليس بقابل للتفسير‪ ،‬ونعتقــد مــع مثــل هــذه العبــارات‬
‫أننا في حضرة الغريب والعجائبي‪ .‬كما لـو كـان من الممكن لحقيقـة الوجـود أال تسـمح لنفسـها أبـدا بـأن تقـوم على‬
‫منــوال العلــل واألســباب المفســرة‪ .‬أو وهــذا نفس الشــيء‪ ،‬على منــوال عــدم قابليتهــا لإلدراك الخاصــة بـــها‪.‬‬
‫ولكن إذا كان على اإلنسان أن يصل في يوم ما إلى اإلقامة بالقرب من الوجود‪ ،‬فإن عليــه قبــل كــل شــيء أن يتعلم‬
‫كيــف يوجــد فيمــا ال اســم لــه‪ .‬وأن يعــرف كيــف يعــترف بواقعــة اإلشــهار على قــدر اعترافــه بضــعف الوجــود‬
‫الخصوصي‪ .‬إن عليه قبل أن ينبس ببنت شفة أن يدع نفسه أوال رهن إشارة دعوة الوجود له‪ ،‬وتحــذيره إيــاه بفعــل‬
‫هذه الدعوة‪ ،‬من خطر عدم وجود ما يقوله سوى النزر اليسير‪ ،‬أو عدم وجود ما يقوله إال نادرا‪ .‬وحينئذـ فقط يعــود‬
‫للكالم غنى ماهيته الالمتوقع‪ ،‬ولإلنسان مسكنه في قلب حقيقة الوجود ليقيم فيه‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬أليس في دعوة الوجود هذه لإلنسان‪ ،‬كمــا في محاولــة إعــداد اإلنســان لـــهذه الــدعوة‪ ،‬مجهــودا يهم اإلنســان‬
‫ذاته ؟ ما هي غاية "الـه ّم" (‪ )le souci‬إذا لم تكن هي إعادة تشييدـ اإلنسان في ماهيته ؟ هل يعني هــذا شــيئا آخــر‬
‫غير جعل اإلنسان إنسانا ؟ هكذا تحظى اإلنسانية بمكانتها في قلب مثل هذا الفكــر‪ ،‬ألن النـــزعة اإلنســانية تقتضــي‬
‫ما يلي ‪ :‬لنفكر ونحرص على أن يكون اإلنسان إنسانا ال "همجيا"‪ ،‬أي خارج ماهيتــه‪ .‬والحــال أين تكمـــن إنســانية‬
‫اإلنسان ؟ إنـها تستقر في ماهيته‪.‬‬
‫كيف وانطالقا مماذا تتحدد ماهية اإلنسان ؟ إن ماركس يلح على أن "اإلنسان اإلنساني" تجب معرفته واالعتراف‬
‫به‪ .‬وقد وجد هذا اإلنسان في الـ "مجتمع"‪ .‬إن اإلنســان "االجتمــاعي" بالنســبة لــه هــو اإلنسـان "الطــبيعي"‪ .‬إذ في‬
‫"المجتمع" تؤمن بشكل منتظم "طبيعة" اإلنسان‪ ،‬أي مجموع "حاجياتـه الطبيعية" (الغذاء ـ اللباس ـ إعادة اإلنتــاج‬
‫ـ والضرورات االقتصادية)‪ .‬أما المسيحي فيرى إنسـانية اإلنسـان في تقاطعهــا مـع الصـفات اإللهيـة‪ .‬فمن منظــور‬
‫تاريخ الخالص‪ ،‬يكون اإلنسان إنسانا باعتباره "ابن هللا" الذي يبصـر نداء األب في المسيح فيستجيب له‪ .‬إنــه ليس‬
‫من هذا العالم مادام الـ"عالم" مفكرا فيه على نحو أفالطوني‪/‬نظري‪ ،‬ليس سوى ممر عابر نحـــو المــاوراء‪ .‬وألول‬
‫مرة تعرف فيه اإلنسانية ويشار إليها صراحة بـــهذا االســـم‪ ،‬كــان ذلــك في عهــد الدولــة الرومانيــة‪ ،‬حيث اإلنســان‬
‫اإلنساني يتعارض مع اإلنسان "البربري"‪ .‬لقد كان اإلنســان اإلنســاني هــو الرومــاني الــذي يعظم ويعلي من شــأن‬
‫المهارة الرومانية من خالل "إدماج" ما كان قد باشره اإلغريق تحت اسم الـ"بيديا" ( ‪( ) p a i d e ß a‬التكوين)‪.‬‬
‫واإلغريق هنـا‪ ،‬هم أناس الهلينستية المتأخرة ذات الثقافة الملقنة في المدارس الفلسفية‪ .‬هذه الثقافة تختص بالتنقيـب‬
‫والتأسيس في الفنون الجملية‪ .‬وقد كانت (البيدييا) مفهومة على هذا النحو تترجم باإلنسانية‪ .‬وفي مثل هذه اإلنسانية‬
‫تكمن بحق رومانية اإلنسان الروماني‪ .‬هكذا انعـثر على أول نزعـة إنسـانية في رومـا‪ ،‬وبهـذا تكـون اإلنسـانية في‬
‫ماهيتها تجليا رومانيا محضا صادرا عن التقاء بين الرومانية والثقافة ذات النـزعة الهلينستية المتأخرة‪ .‬وما ســمي‬
‫بالنهضة في روما إبان القرن الرابع عشر والخامس عشر‪ ،‬إنمــا هي نـــهضة ذات نــزعة رومانيــة‪ .‬ومــادام األمــر‬
‫يتعلق بالنزعة الرومانية‪ ،‬فالمسألة تتعلق باإلنسانية‪ ،‬ومن ثم بالـ"بيدييا" اإلغريقية‪ .‬لكن الهيلنستية المقصودة هنــا‪،‬‬
‫هي دائما تلك المعروفــة في شــكلها المتــأخر ذي الصــبغة الرومانيــة تحديــدا‪.‬ـ فاإلنســان الرومــاني لعصــر النهضــة‬
‫يتعارض بدوره مع اإلنســان الــبربري (الالإنســاني)‪ .‬والمقصــود بالالإنسانـــي هنــا‪ ،‬هــو تلــك البربريــة المزعومــة‬
‫للسكوالئية القوطية في العصر الوسيط‪ .‬لــهذا الســبب نجـد أن النـــزعة اإلنسـانية في تجلياتــها التاريخيــة‪ ،‬تحتــوي‬
‫دائما على دراسة إنسانوية تقترن صراحة بالعهــد القــديم‪ ،‬وتقــدم نفسهـــا كــل مـــرة في شــكل إحيــاء جديــد للنـــزعة‬
‫الـهيلنستية‪ .‬وهـذا هـو الشـيء الـذي يوقـظ فينـا النــزعة اإلنسـانية للقـرن الثـامن عشـر‪ ،‬كمـا جسـدها "وانكلمـان"‬
‫‪ ،Wincklman‬غوته ‪ ،Goethe‬وشلير ‪ .Schillea‬أما هولدرلين “ ‪”Holderlin‬فهو على العكس من هــؤالء ال‬
‫ينتمي إلى النـزعة اإلنسانية‪ ،‬لسبب وجيه وهو أنه يفكر في قدر ماهية اإلنسـان بشـكل أكـثر أصـالة ممـا تسـتطيعه‬
‫هذه "النـزعة اإلنسانية"‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬إذا كنا نفهم من النزعة اإلنسانية بصفة عامة ذلك المجهود الذي يرمي إلى جعل اإلنسـان حـرا في إنسـانية‪،‬‬
‫ويخول له اكتشاف كرامته‪ ،‬فإن النـزعة اإلنسانية سـتختلف والحالـة هـذه حسـب المفهـوم الـذي لنـا عن "الحريـة"‬
‫وعن "طبيعة" اإلنسان‪ .‬كما ستختلف بنفس الكيفية وسائل تحقيقها‪ .‬فالنزعــة اإلنســانية عنــد "مــاركس" ال تقتضــي‬
‫أي رجوع إلى العهد القديم مثلهـا في ذلـك مثـل النــزعة اإلنسـانية الـتي يـدرجها "سـارتر" تحت اسـم‪ :‬الوجوديـة‪.‬‬
‫والمسيحية بدورها إذا ما نظرنا إليها بالمعنى الواسع المشار إليه سابقا‪ ،‬تمثل أيضا نـزعة إنسانية من حيث أن كــل‬
‫شيء في مذهبها رهين بخالص الروح‪ ،‬وإن تاريخ اإلنسانية يندرج في إطار تاريخ الخالص هذا‪ .‬ومهمــا اختلفت‬
‫هذه النـزعات اإلنسانية وتعددت من حيث هــدفها‪ ،‬أساســها‪ ،‬نـــمطها ووســائل تحقيقهــا أو من خالل شــكل مــذهبها‪،‬‬
‫فهي تتفـق مع ذلك حول هذه النقطة الجوهرية ‪ :‬وهي أن إنسانية اإلنسان اإلنساني تكون دائمــا محــددة انطالقــا من‬
‫تأويل معد سلفا للطبيعة والتاريخ والعالم وأساس العالم‪ ،‬أي الموجود في كليته‪.‬‬
‫كل نـزعة إنسـانية تقـوم على أسـاس ميتــافزيقي أو تكــون هي نفســها هــذا األسـاس‪ .‬وكــل تحديــد لـــماهية اإلنسـان‬
‫يفترض مسبقا‪ ،‬بوعي منـه أو بدون وعي‪ ،‬تأويال للموجــود دون أن يطــرح الســؤال بصــدد حقيقــة الوجــود‪ ،‬يكــون‬
‫عبارة عن ميتافزيقا‪ .‬لـهذا السبب نـجد أن كل ميتافزيقـا إذا ما أخذنا بعين االعتبـار الكيفيـة الـتي تحـدد بــها ماهيـة‬
‫اإلنساني‪ ،‬تتجلى في كونـها " تنـزع منـزعا إنسانيا" (إنسانوية)‪ .‬وبنفس الكيفية تظل كل نـزعة إنسانية ميتافزيقية‪.‬‬
‫فالنـزعة اإلنسانية في تحديـدها إلنسانية اإلنسان‪ ،‬ال تكتفي فقط بعدم طرحها للسؤال عن عالقة الوجود بماهية هذا‬
‫األخــير‪ ،‬وإنمــا تحــول أكــثر من ذلــك دون طرحــه متجاهلــة إيــاه‪ .‬والســبب في ذلــك أنـــها تضــرب بجــذورها في‬
‫الميتافزيقا‪ .‬هذا في حين أن الضرورة والشكل الخاص بـهذا السؤال الذي يروم حقيقة الوجود ـ وهو ســؤال منســي‬
‫في الميتافزيقا وبسببها ـ ال يمكنه أن يرى النـور إال إذا طرحنـا في خضـم الميتافزيقـا ذاتــها هـذا السـؤال‪" :‬مـاهي‬
‫الميتافزيقا؟"‪ .‬بل أكثر من ذلك أن على كل سؤال بصدد الـ "وجود"‪ ،‬وحــتى ذلــك الــذي يــروم حقيقــة الوجــود‪ ،‬أن‬
‫يقدم نفسه منذ البداية كسؤال ميتافزيقي‪.‬‬
‫إن أو لنـزعة إنسانية‪ ،‬وأعني بـها تلك الخاصة برومـا‪ ،‬وبـاقي أنـواع النــزعات اإلنسـانية الـتي تالحقت منـذـ ذلـك‬
‫الحين إلى يومنا هذا‪ ،‬يفترضن جميعا الــ "ماهيـة" األكـثر شــمولية لإلنسـانية كبداهــة‪ .‬لقــد اعتــبر اإلنسـان حيوانـا‬
‫عاقال‪ .‬وهذا التحديدـ ليس فقط ترجمة التينية للكلمات اإلغريقية التالية ( ‪ ) x y o n l o g o n x c o n‬بل تأويال‬
‫ميتافزيقيا‪ .‬وكل تحديدـ من هذا القبيل لماهية اإلنسان ال يكون خاطئا بل مشروطا بالميتافزيقا‪ .‬وما اعتبره "الوجــود‬
‫والزمان" جديرا بالسؤال‪ ،‬ليس فقط هو حدود هذا التأويــل وإنمــا مصــدره األساســي كــذلك‪ .‬إن مـا هــو جــدير بــأن‬
‫يوضع موضع سؤال‪ ،‬بـدل تركه تحت رحمة الفعل الهدام لنـزعة فارغة‪ ،‬قد أنيط بالفكر باعتباره ما ينبغي لــه هــو‬
‫نفسه أن يفكر فيه‪ .‬‬
‫صــحيح أن الميتافزيقــا تتمثــل الموجــود في وجــوده‪ ،‬وبــذلك فهي تفكــر في وجــود الموجــود‪ .‬ولكنهــا ال تفكــر في‬
‫االختالف بين الوجــود والموجــود‪( .‬في ماهيــة الســبب ‪ 1929‬ص ‪( )8‬كانــط ومشــكلة الميتافزيقــا‪ ،1929 .‬ص‬
‫‪( :)225‬الوجود والزمان‪ ،‬ص ‪ .)230‬إن الميتافزيقا ال تطرح السؤال بصدد حقيقة الوجود نفسه‪ ،‬لهذا السبب فهي‬
‫ال تتساءل ابــدا عن الكيفيــة الــتي من خاللهــا تنتمي ماهيــة اإلنســان إلى حقيقــة الوجــود‪ .‬فهــذا الســؤال ليس فقــط لم‬
‫تطرحـــه الميتافزيقــا بعــد‪ ،‬وإنمــا ليس في متناولهــا كميتافزيقــا‪ .‬إن الوجــود ينتظـــر دائمــا من اإلنســان أن يتــذكره‬
‫باعتباره ما هو جدير بأن يفكر فيه‪.‬‬
‫بالنظر إلى هذا التحديدـ الماهوي لإلنسان‪ ،‬سواء أحددنا عقالنية الحيوان أو عقل الكائن الحي كـــ"ملكــة مبــادئ" أو‬
‫كـ"ملكة مقوالت" أو بأي كيفية أخرى‪ ،‬فإن ماهية العقل تتأسس دائما وفي كل جوابـــها على مــا يلي‪ :‬بالنســبة لكــل‬
‫إدراك للموجود وفهم له في كينونتــه‪ ،‬يكــون الوجــود نفســه قــد أضـيء مســبقا وحصــل في حقيقتــه‪ .‬وبنفس الكيفيــة‬
‫يقتضي مسبقا مصطلح "حيوان" ( ‪ ) x y o n‬تأويال للـ "حياة" يستند بالضرورة على تأويل للموجود كبدنـ ( ‪x‬‬
‫‪ ) w Þ‬وكفيزيس ( ‪ ) ö ý ü i V‬بداخلهما يظهر الكائن الحي‪ .‬ولكن يبقى علينا من جهة أخرى أن نتساءل قبل‬
‫كل شيء‪ ،‬ومن وجهة نظر أصيلة تقرر مسبقا بصــدد كــل شــيء‪ ،‬هــل مــا إذا كــانت ماهيــة اإلنسـان تكمن في بعــد‬
‫الحيوانية ؟ وبصفة عامة‪ ،‬هل نحن على الطريق الصــحيح عنــدما نحــدد اإلنســان وطالمــا بقينــا نحــدده ككــائن حي‬
‫معارضين إياه بالنبات وبــالحيوان وباهلل ؟ بإمكاننــا أن نســلك هــذا النهج‪ .‬وباســتطاعتنا على هــذا النحــو أن نـــموقع‬
‫اإلنسـان داخـل الموجـود كموجـود بين الموجـودات األخـرى‪ ،‬فيكـون بإمكاننـا دائمـا أن نصـدر في حقـه عبـارات‬
‫صائبة‪ .‬ولكن علينا أن نفهم جيدا أننـا بــهذا نـدفع باإلنسـان إلى المجـال المـاهوي للحيوانيـة حـتى وإن كنـا نخصـه‬
‫باختالف جوهري لنبتعدـ عن مماهاته بالحيوان‪ .‬إذ مبدئيا سنفكر دائما في اإلنسان الحيواني حتى وإن افترضــنا أن‬
‫هذا الحيوان حي وعاقل‪ ،‬واعتبرناه بعد ذلك ذاتا أو شخصا أو روحا‪ .‬ومثل هذا الموقف هو ما تتوخاه الميتافزيقــا‪.‬‬
‫لكنه تقدير فقير جدا لماهية اإلنسان‪ ،‬مادام لم يفكر فيها من خالل مصدر حصولـها؛ ذلك المصــدر المــاهوي الــذي‬
‫يظل باستمرار بالنسبة لإلنسانية التاريخية المستقبل األساسي‪.‬‬
‫إن الميتافزيقا تفكر في اإلنسان انطالقا من الحيوانية‪ ،‬لكنها ال تفكر باتجاه إنسانيته‪ .‬إن الميتافزيقا تصدر عن أبسط‬
‫معطى أساسي‪ ،‬وهو كون اإلنسان ال يبسط في ماهيته إال من حيث هــو مــدعو من طــرف الوجــود‪ .‬إذ انطالقــا من‬
‫دعوة الوجود هذه له ومطالبته به‪ ،‬أنوجد هناك حيث تقيم ماهيته‪ .‬وانطالقا من هذه اإلقامة "كانت له" اللغة كمأوى‬
‫يحرس لماهيته خاصيتها الدهولية اللدنية(‪ .)3‬وما ادعوه باالنوجاد هو المكوث في نور الوجود وانفتاحه‪ .‬إنه كيفية‬
‫تخص اإلنسان وحده‪ .‬ولهذا فاالنوجاد من حيث هو كذلك ليس فقط أســاس إمكانيــة العقــل‪ ،‬بــل هــو الــذي فيــه ومن‬
‫خالله ترعى ماهية اإلنسان مصدر حصولها وتحديدها‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫إن االنوجاد ال يمكنه أن يقــال إال عن ماهيــة اإلنســان‪ ،‬أي عن الكيفيــة اإلنســانية في "الكينونــة"‪.‬ـ ذلــك أن اإلنســان‬
‫وحده يكون وذلك بقـدر ما نمتلك عنه تجربة منخرطة في قدر االنوجاد‪ .‬لهذا السبب فاالنوجــاد إذا مــا افترضــنا أن‬
‫قدر اإلنسان أن يفكر في ماهية كينونته‪،‬ـ وليس فقط أن ينشيء صالت حول بنيتهـ وفعاليته انطالقا من رؤية العلــوم‬
‫الطبيعية والتاريخية‪ ،‬ال يمكن أن يفكر فيه كنمط متميز يخص الكائن الحي من بين أنماط أخرى‪ .‬هكذا يستمد أيضا‬
‫ما نسبناه لإلنسان انطالقا من مقارنته "بالحيوان" كحيوانية‪ ،‬أساســه من ماهيــة االنوجــاد‪ .‬أمــا جســد اإلنســان فهــو‬
‫شيء أخر يختلف ماهويا عن الجهاز العضوي للحيوان‪ .‬وخطــأ النـــزعة البيولوجيــة لم يتم تجــاوزه بمجــرد اقـران‬
‫الواقع الجسدي لإلنسان بالروح والروح بالذهن والذهن بالخاصية الوجوديــة‪ ،‬والتأكيــد بعـدـ ذلــك بقــوة على القيمــة‬
‫العليا للذهن‪ ،‬ومن تم اخنزال كل شيء في التجربة الحياتية غير مدخرين جهدا في التنديدـ بكون الفكر يهدم مجرى‬
‫الحياة بفعل مفاهيمه المتصلبة‪ ،‬وبأن فكر الوجود يشوه الواقع‪ .‬إن قدرة الفيزيولوجيــا وكــذلك الكميــاء الفيزولوجيــة‬
‫على دراسة اإلنسان كجهاز عضوي من وجهة نظر العلوم الطبيعية‪،‬ـ ال يــبرهن في شــيء على أن ماهيــة اإلنســان‬
‫تكمن في هذه "الخاصية العضوية"‪ ،‬أي في الجسد المشرح علميا‪ .‬فهذا يشبه إلى حــد كبــير محاولــة حصــر ماهيــة‬
‫الطبيعة في الطاقة الذرية‪ .‬في حين أن الطبيعة من المحتمـل جدا أن تكون قد اختفت ماهيتهــا بالضــبط في الجــانب‬
‫الذي تقدمه لهيمنه التقنية بواسطة اإلنسان‪ .‬وبالمثل فماهية اإلنسان ال تكمن أبدا في كونـــها مجــرد جهــاز عضــوي‬
‫حيواني‪ .‬وهذا القصور في التحديد المـاهوي إلنسـان ال يمكن اسـتبعاده أو اختزالـه بمجـرد أن نخلـع على اإلنسـان‬
‫روحا خالدة أو ملكة عقلية أو خاصية تجعل منه شخصـا‪ .‬ذلــك أننــا في جميــع هــذه الحـاالت نكــون قــد انحزنـا إلى‬
‫جانب الماهية‪ ،‬ولكن من منطلق نفس المشروع الميتافزيقي‪.‬‬
‫إن ما يكونه اإلنسان‪ ،‬أي "ماهيته" باللسان التقليدي للميتافزيقــا‪ ،‬يكمن في انوجــاده‪ .‬لكن االنوجــاد مفكــر فيــه على‬
‫هذا النحو ال يتطابق مع الوجود (بالمعنى التقليــدي‪ ،‬أي الوجــود بالفعــل) الــذي يشــير إلى الواقــع في تعارضــه مــع‬
‫الماهية‪( .‬بالمعنى التقليـدي أيضـا‪ ،‬أي الوجــود بــالقوة = الجوهــر = الشـيء في ذاتـه) باعتبـاره إمكانيـة‪ .‬نجـد في‬
‫"الوجود والزمان‪ ،‬ص ‪ .)42‬هذه العبارة مكتوبــة بــأحرف بــارزة ‪" :‬إن ماهيــة الــدزاين تكمن في وجــوده"‪ .‬ولكن‬
‫األمر هنا ال يتعلق بتعارض بين الوجود والماهية (بالمعنى المشار إليه سـابقا‪ ،‬ألن هــذين التحديــدين الميتــافزيقيين‬
‫للوجود بصفة عامة وأكثر من ذلك للعالقة بينهما‪،‬ـ ليسا بعد موضع سؤال‪ .‬كمــا أن العبــارة ال تحتــوي على قضـــية‬
‫عامة عن الدزاين ـ هذا إذا ما كان ينبغي لـهذه التسمية (الدزاين= ‪ )Da-sein‬التي ظهرت في القرن الثامن عشــر‬
‫للداللة على "الموضوع"(‪ )4‬أن تعبر عن المفهوم الميتافزيقي الذي يشير إلى واقعية الواقـع ـ بل إنـها تريد القــول‬
‫بأن اإلنسان يبسط ماهيته على نحو يجعله بالضبـط هو هذه الـ "هنا"‪ ،‬أي ضياء الوجود وانفتاحه‪ .‬فـ ـ "كينونــة" الـ‬
‫"هنا" هذه تشــتمل بمفردهــا فقــط على الخاصــية األساســية لالنوجــاد‪ ،‬أي على اإلقامــة اللدنيــة في حقيقــة الوجــود‪.‬‬
‫فالماهية اللدنية لإلنسان تكمن في االنوجاد الذي ال يتطابق بأي حال مع الوجــود الفعلي مفكــر فيــه ميتافزيقيــا‪ .‬هــذا‬
‫الوجود الفعلي (الوجــود بالفعــل‪ )existence :‬تجلى للفلســفة عــبر العصــور باعتبــاره عرضــية‪.)Actualitas( :‬‬
‫وقدمه "كانط" كواقع بمعنى موضوعية التجربة‪ .‬وحدده "هيغل" كفكرة للذاتية المطلقة الــتي تتعــرف على نفســها‪.‬‬
‫وتمثله "نيتشه" كعود أبدي لذات الشيء‪ .‬أمــا فيمــا يتعلــق بمعرفــة هــل مــا إذا كــان مفهــوم الوجــود الفعلي هــذا في‬
‫تأويالته كواقع تــأويالت ال تختلــف إال في الظــاهر‪ ،‬يكفي للتفكــير في كينونــة الحجــر أو حــتى في الحيــاة ككينونــة‬
‫للنبات والحيوان‪ ،‬فإن هذا السـؤال سنتركه معلقا‪ .‬يبقى أن الكائنات الحية تظل بما هي عليـه دون أن يكون بوسعها‬
‫أن تقيم في حقيقة الوجود‪ ،‬أو تحرص في وضعها هذا على ما يجعــل كينونتهــا تبســط ماهيتهــا‪ .‬الظــاهر أن الكــائن‬
‫الحي من اصعب الكائنات الموجودة التي يمكن التفكير فيها‪ ،‬ألن هوة من ماهيتنا االنوجادية تفصلنا عنه وإن كــان‬
‫أكثر قرابة منا بشــكل من األشــكال‪ .‬هــذا في حين أن ماهيــة المقــدس تبــدو أكــثر قربــا منــا من هــذا الواقــع الممتنـعـ‬
‫للكائنات الحية‪ .‬وأعني بالقرب هنا مسافة ماهوية من طبيعة مغلقــة على أســرارها ال يمكن تصــورها إال بصــعوبة‬
‫من حيث هي مسافة أشد حميمية مع ماهيتها االنوجادية من القرابــة الجســدية الــتي لنــا مــع الحيــوان‪ .‬إن مثــل هــذه‬
‫األفكـار والتصـورات تلقي بأضـواء غريبـة على الطريقـة المعتـادة ومن تم المتهافتـة في تحديـد اإلنسـان كحيـوان‬
‫عاقل‪ .‬فإذا كانت النباتات والحيوانات محرومة من اللغة فمــا ذلــك إال ألنـــها تظــل ســجينة مجــال محيطهــا دون أن‬
‫يكون باستطاعتها أبدا أن تقيـم في نــور الوجــود وانفتاحــه‪ .‬والحــال أن نــور الوجــود وانفتاحــه هــذا هــو مــا نــدعوه‬
‫بالـ"عالم"‪ .‬وليس امتناع اللغة عن هذه الكائنات الحية هو ما يجعلها سجينة بيئتها دونـما عالم‪ .‬ففي كلمــة "المحيــط‬
‫البيئوي" يتكاثف بشكل عميق لغـز الكـائن الحي‪ .‬إن اللغـة في ماهيتهـا ليســت وســيلة يتخـارج من خاللهـا الجهـاز‬
‫العضوي‪ .‬كما أنـها ليست تعبير الكائن الحي‪ .‬لـهذا الســبب مــا كـان بوســعنا أبــدا أن نفكــر فيهــا بكيفيــة تنسـجم مــع‬
‫ماهيتها انطالقا من قيمة دوالـها‪ .‬وال ربما حتى انطالقا من قيمتها الداللية‪ .‬فاللغة هي المجيء ـ المضيء ـ المفسح‬
‫ـ المفصح والكاتم في نفس الوقت للوجود ذاته‪.‬‬
‫إن االنوجاد مفكر فيه على نحو لدني (صوفي)‪ ،‬ال يلتقي أبدا سواء من حيث شكله أو محتــواه مــع الوجــود الفعلي‪.‬‬
‫إنه يدل بالنظر إلى حقيقة الوجود على االنخطاف واالنتشــاء‪ .‬أمــا الوجــود بالفعــل ( ‪ )existence‬فيـــدل من جهتــه‬
‫على الراهن‪ ،‬أو الواقع في مقابل اإلمكانية المحضة باعتبارها فكرة‪ .‬فاالنوجاد إذن يدل على ما يكونه اإلنســان في‬
‫قدر الحقيقة‪ .‬أما الوجود بالفعل فهو اإلسم الذي نخص بــه تحقــق مــا يكونــه شــيء مــا عنــدما يتجلى في فكرتــه‪ .‬إن‬
‫عبارة‪" :‬اإلنسان ينوجد (يكون)" ليست جوابا على ســؤال بصــدد "ماهيــة" اإلنســان‪ .‬هــذا الســؤال يظــل مطروحــا‬
‫بشكل سيئ سواء سألنا عما يكونه اإلنسان ؟ أو عمن هو اإلنسان ؟ ألننا مـع هذه الـ "من" أو الـ "مــا"‪ ،‬ننظــر إليــه‬
‫مسبقا باعتبار شخصا أو موضوعا‪ .‬في حين أن مقولة الشخص مثلهــا في ذلــك مقولــة الموضــوع‪ ،‬تســمح في نفس‬
‫الوقت بانفالت وحجب ما يجعل االنوجاد التاريخي‪/‬االنطولوجي يبسط ماهيته‪ .‬لـهذا السبب جــاءت كلمــة "ماهيــة"‬
‫في الجملة الواردة في "الوجود والزمان‪ ،‬ص ‪ "42‬والمــذكورة أعاله‪ ،‬موضــوعة بين قوســين‪ .‬والمــراد بــذلك هــو‬
‫اإلشارة إلى كون الماهية لم تعد تحدد أبدا ال انطالقــا من الموجــود المــاهوي وال انطالقــا من الموجــود الوجــودي‪،‬‬
‫وإنما انطالقا من الخاصية اللدنية للدزاين (الكينونة ـ هنا)‪ .‬فبقدر ما ينوجد اإلنسان يتحمل الكينونة ـ هنا‪ .‬لكن هـذه‬
‫األخـــيرة نفســـها تبســـط ماهيتهــــا في مـــا يبســـطه الوجـــود‪ .‬هـــذا الوجـــود الـــذي هـــو قـــدر وبعث وحصـــول‪.‬‬
‫إن إرادة تفسير هذه القضية حول الماهية المنوجدة لإلنســان‪ ،‬كمــا لــو كــانت نقال وتحريفــا دنيويــا لفكــرة الالهــوت‬
‫المسيحي عن هللا‪" :‬هللا هو موجد الوجود"‪ ،‬وقد تم تطبيقها عن اإلنسان‪ ،‬لهو أكــبر احتقــار‪ .‬ذلــك أن االنوجــاد ليس‬
‫أبدا تحقيقا لماهية حتى ال ينتج أو يضع هو نفسه مقولة الماهيـة‪ ،‬فـأن نفهم "المشـروع" الـذي يتعلـق األمـر بـه في‬
‫"الوجود والزمان" كفعل لحمل شيء ما إلى التمثل‪ ،‬هو أن نعتبره كتحقيـق للذاتيــة‪ ،‬فال نفكـر فيــه مطلقـا باعتبــاره‬
‫الوحيد الذي بإمكانه التفكير في "وعي الوجود" في نطاق "التحليـل الوجودي" للوجود ـ في ـ العـالم كعالقــة لدنيـة‬
‫بنور الوجود وانفتاحه‪ .‬إن االتمام واالكتمال الكافي لـهذا الفكر المغاير الذي يغادر الذاتية‪ ،‬قد أصبح أكـثر صـعوبة‬
‫ما دام الفصل الثالث من الجزء األول من "الوجود والزمان"‪ ،‬لم ينشر غــداة ظهــور هــذا األخــير‪( .‬انظــر الوجــود‬
‫والزمان‪ ،‬ص ‪ .)39‬حيث في هذه النقطة بالذات ينقلب كل شيء رأســا على عقب‪ .‬وإذا كــان هــذا الفصــل لم ينشــر‬
‫فذلك ألن الفكر لم يصل إلى التعبير عن هـذا القلب بطريقة كافية‪ ،‬وما كان له أن يذهب بعيدا في التعبــير عن ذلــك‬
‫بلسان الميتافزيقا‪.‬‬
‫إن المحاضرة التي تحمل عنوان‪" :‬في ماهية الحقيقة"‪ ،‬والتي تم التفكير فيهــا وإلقاؤهــا ســنة ‪ ،1930‬ولم تنشــر إال‬
‫في سنة ‪ ،1943‬تسمح لنا قليال بتبين فكرة قلب الوجــود والزمــان إلى الزمــان والوجــود‪ .‬هــذا القلب لم يكن تعــديال‬
‫لوجهة نظر "الوجود والزمان"‪ ،‬وإنما ما منه فقط أمكن للفكر الـذي يبحث عن نفسه أن يصل إلى منطقــة بعدويــة‪،‬ـ‬
‫انطالقـــا منهـــا احتـــك "الوجـــود والزمـــان‪ :‬واكتملت خبرتـــه من خالل التجربـــة األساســـية لنســـيان الوجـــود‪.‬‬
‫إن "سارتر" يصوغ على العكس من ذلك‪ ،‬مبدأ الوجودية على النحو التالي ‪ :‬الوجود يسبق الماهية‪ .‬وهو هنــا يفهم‬
‫الوجود (‪ = existence‬الوجود بالفعل) والماهية (‪ = essentia‬الوجود بالقوة)‪ ،‬بالمعنى الميتــافزيقي الــذي يــرى‬
‫منذ أفالطون أن الماهية سابقة عن الوجود‪ .‬إنه يقلب حقا هذه القضية‪ .‬لكن أي قلب لقضية ميتافزيقيــة يظــل قضــية‬
‫ميتافزيقية‪ .‬فتظل من حيث هي كذلك استمرارا في نسيان حقيقة الوجود‪ .‬سواء حددت الفلسفة بالفعل عالقة الماهية‬
‫بالوجود بالمعنى المدرسي (الجدالي) للقرون الوسطى‪ ،‬أو بالمعـنى الاليبنيزي أو بأي كيفية أخرى‪ ،‬فــإن علينــا أن‬
‫نتساءل أوال وقبل كل شيء عن قــدر الوجــود الــذي انطالقــا منــه حــدث هــذا التميــيز في قلب الوجــود بين الوجــود‬
‫الماهوي (الوجود بالقوة) والوجود الفعلي (الوجود بالفعل) أمام الفكر؟ وأن نفكر لماذا لم يطرح أبدا السؤال بصـدد‬
‫قدر الوجود‪ ،‬ولماذا لم يكن من الممكن التفكير فيه‪ .‬ولكن أليس مصير هذا التمييز بين الماهية والوجود‪ ،‬دليال على‬
‫نسيان الوجود ؟ لنا كل الحق في افتراض أن هذا القدر ال يرجـع سـببه إلى مجـرد إهمـال الفكـر اإلنسـاني لـه‪ ،‬وال‬
‫حتى إلى ضعف مقدرة الفكر الغربي في بداياته‪ .‬بل إن هذا التمييز المستتر مصدر حصوله المــاهوي بين الماهيــة‬
‫والوجود‪ ،‬يهيمنـ على قدر التاريخ الغربي وعلـى كل التاريخ مثلما حددته أوربا‪.‬‬
‫إن المبدأ األول لوجودية "سارتر" الذي يقول بأسبقية الوجود على الماهية‪ ،‬يبرر بالفعــل إطالق اســم "الوجوديــة"‬
‫على هذه الفلسفة‪ .‬ولكنه ال يمتلك أدنى نقطة اتصال أو تشابه مع الجملة الواردة في "الوجود والزمان"‪ .‬ناهيك عن‬
‫الحديث عن كون أية فرضية حول العالقة بين الوجود والماهيـة‪ ،‬ال يمكنها مطلقا أن تصاغ في هذا الكتاب‪ ،‬مــادام‬
‫األمر فيه يتعـلق فقط بإعداد أرضـية قبليـة ذات أســبقية‪ .‬أرضـية ال يمكن بلوغهـا تبعــا لمـا قلنـاه سـابقا‪ ،‬إال بكيفيـة‬
‫مشوبة بكثير من النقص‪ .‬يبقى أن الذي علينا قوله اليوم وألول مرة‪ ،‬يمكنــه أن يشــكل حــافزا يقــود ماهيــة اإلنســان‬
‫نحو ما من شأنه أن يجعلها ـ وهي تفكر ـ تضع نصب أعينها بُعد حقيقة الوجود المهيمنـ كليا عليها‪ .‬وأي حدث من‬
‫هذا القبيل ال يمكنه أن يحصل في كل مرة إال من أجل كرامة الوجود ولصالح هذه "الكينونة ـ هنــا" الــتي يتحملهــا‬
‫اإلنســــــان في االنوجـــــاد‪ ،‬وليس لحســـــاب اإلنســـــان لكي تلمـــــع بفعـــــل فعاليتـــــه الحضـــــارة والثقافـــــة‪.‬‬
‫إذا كنا نحن اليوم‪ ،‬نريد الوصول إلى هذا البعدـ لحقيقة الوجود حتى نكون ونفكر فيه‪ ،‬فإن علينــا قبــل كــل شــيء أن‬
‫نبين بوضوح‪ ،‬كيف أن الوجود يقتحم اإلنسان‪ ،‬وكيف أنه يطالب به ويدعوه إليه‪ .‬ومثل هذه التجربـة الماهويـة هي‬
‫ما يعطي لنا عندما نبدأ بفهم أن اإلنسان ال يكون إال بقــدر مــا ينوجــد‪ .‬وإذا أردنــا أن نعــبر عن هــذا بلســان الــتراث‬
‫نقول‪" :‬انوجاد اإلنسان "جوهرةُ"‪ .‬لهذا السبب ما فتئت العبارة التالية الواردة في "الوجــود والزمــان"‪ ،‬ص ‪ 177‬ـ‬
‫‪ 212‬ـ ‪"( : 314‬جوهر" اإلنسان وجوده) تتكـــرر في عــدة ســياقات‪ .‬إال أن كلمــة "جــوهر" هــذه‪ ،‬مفكــرا فيهــا في‬
‫إطار تاريخ الوجود‪ ،‬هي ترجمة محرفة سابقا لكلمة "أوسيا" (‪ )ousia‬التي تدل على حضور ما هو حاضر‪ ،‬كمــا‬
‫تشــير في معظم األحيــان‪ ،‬بشــيء من الغمــوض الملغــز‪ ،‬إلى هــذا الــذي هــو نفســه حاضــر‪ .‬أمــا إذا مــا فكرنــا في‬
‫المصــطلح الميتــافزيقي للـــ"جــوهر" بـــهذا المعــنى الــذي ينقــال في الوجــود والزمــان‪ ،‬انســجاما مــع "التقــويض‬
‫الفنومنولوجي" المنجز في هذا الكتاب‪ ،‬فإن معنى العبارة‪"( :‬جوهر" اإلنسان وجوده) هو ما يلي وال شيء غــيره‪:‬‬
‫إن الكيفية التي يكون اإلنسان تبعا لـها حاضرا في ماهيته الخاصة بالنسبة للوجــود‪ ،‬هي اإلقامــة اللدنيــة في حقيقــة‬
‫الوجود‪ .‬وهذا التحديد الماهوي لماهية اإلنسان ال يفترض إن التأويالت اإلنسانوية لـهذا األخــير كحيــوان عاقــل أو‬
‫كـ"شخص" أو ككائن ـ روحاني ـ مزود بروح وجسد‪ ،‬تأويالت خاطئة ومستبعدة من طرفه‪ .‬بل إن قصــده الوحيــد‬
‫هو قبل شيء التأكيد على أن أسمى التحديدات اإلنسانوية لماهية اإلنسان لم تتعرف بعد على الكرامة الخاصــة بــه‪.‬‬
‫بهذا المعنى يكون الفكر الذي يفصح عن نفســه في "الوجــود والزمــان" ضــد النـــزعة اإلنســانية‪ .‬لكن هــذا التضــاد‬
‫واالعتـراض ال يعني بأي حال من األحوال أن مثل هذا الفكر يتجه بخالف ما هو إنساني‪ ،‬داعيـــا إلى الالإنســاني‪،‬‬
‫مدافعا عن الهمجية وحاطا من كرامة اإلنسـان‪ .‬فإذا كنا نفكر ضد النـزعة اإلنسانية فذلك ألن هذه األخيرة ال ترقى‬
‫بإنسانية اإلنسان إلى مرتبة سامية جدا‪ .‬إن السمو المــاهوي لإلنســان ال يكمـــن بكــل تأكيــد في كونــه يشــكل جــوهر‬
‫ّ‬
‫"ذات لـهذا األخير‪ ،‬لينحل في "الموضوعية" المشهورة إلى حد االبتــذال‪ ،‬من حيث هي مســتودع قــوة‬ ‫الموجود كـ‬
‫الوجود‪ ،‬أي موجودية الموجود‪.‬‬
‫إن اإلنسان قد "ألقى ـ به" قبل كل شيء في حقيقة الوجود من طرف الوجود نفســه‪ ،‬حــتى يحــرص بانوجــاده على‬
‫هذا النحو على تلك الحقيقة‪ ،‬وينجلي له الموجود في نور الوجود باعتبــاره الموجــود الــذي يوجــد‪ .‬أمــا فيمــا يتعلــق‬
‫بمعرفة هل ما إذا كان الموجـود يتجلى وبأيـة كيفيـة يتم لـه ذلـك‪ ،‬وهـل مـا إذا كـان اإللـه واإللهـة وكـذلك التـاريخ‬
‫والطبيعة يلجن في نـور الوجــود وانفتاحـه‪ ،‬ومـا هي الكيفيــة الـتي بـــها يلجـــن فيـه‪ ،‬وهـل مـا إذا كن حاضـرين أو‬
‫غائبين‪،‬ـ فإن اإلنسان ليس له أن يقرر بشان ذلك‪ .‬إن قــدوم الموجــود إلى نــور الوجــود يكمن في قــدر الوجــود‪ .‬أمــا‬
‫بالنسبة لإلنسان فالمسألة تبقى رهينة بمعرفة هل ما إذا كان يجد االنسجام الخاص بماهيته للتوافق مــع هــذا القــدر‪،‬‬
‫مادام عليه من حيث هو من ينوجد‪ ،‬أن يحرص تبعا لـهذا القدر على حقيقة الوجود‪ .‬إن اإلنسان هو راعي الوجود‪.‬‬
‫وهذا بالضبط ما حمل "الوجود والزمـان" على عاتقــه مهمـة التفكـير فيــه عنــدما اختبـــر الوجـود اللــدني باعتبـاره‬
‫"هما" (‪ .)SS44, a. p 226 sq‬ولكن‪ ،‬ما هو الوجود يا ترى ؟ ـ إن الوجود هو ما هــو‪ ،‬هــذا مــا يتــوجب على‬
‫الفكر مستقبال أن يتعلم سبر غـوره وقولـه ‪ .‬فالــ "وجـود" ليس إلـه أو أسـاس العـالم‪ .‬إنـه من بين كـل الموجـودات‬
‫األكثر بعدا عن اإلنسان‪ .‬ومع ذلك فهو األقرب إليه من أي موجود آخر سواء كـان صخرة أو حيوانا أو عمال فنيـا‬
‫أو آلة أو مالكا أو اإلله نفسه‪ .‬الوجود هو األقرب إليه‪ .‬لكن اإلنسان‪ ،‬رغم أن هذه القرابة هي أكــثر مــا هــو موغــل‬
‫في التواري عنه‪ ،‬ال يتعلق دائما وقبل كـل شـيء سـوى بـالموجود فقـط‪ .‬صـحيح أن الفكـر عنـدما يتمثـل الموجـود‬
‫كموجود‪ ،‬يحـال إلى الوجـود‪ .‬لكنـه في حقيقــة األمـر ال يفكـر باستمــرار إال في الموجـود كمـا هـو وليس أبـدا في‬
‫الوجود بما هو كذلك‪ .‬وبالتالي يظل "ســؤال الوجـود" هــو دائمــا ذلــك الســؤال الــذي يقصــد الموجــود (يحمــل على‬
‫الموجود)‪ .‬فسؤال الوجود ليس بعد بأي حـال من األحـوال‪ ،‬هـو مـا تــدعي هــذه التمسـية المزيفــة ‪" :‬السـؤال الــذي‬
‫يُـح َمل على الوجود" اإلشارة إليـه‪ .‬والفلسـفة ال تحيـد مطلقـا عن خـط التمثـل الميتـافزيقي هـذا حـتى عنـدما تكـون‬
‫"نقدية" كما عند "ديكارت" و "كانط"‪ .‬إنـها تفكر انطالقا من الموجود باتجـاه هـذا الموجـود نفسـه مـرورا بنظـرة‬
‫وساطة عن الوجود‪ ،‬ألن كل خـروج من الموجود ورجوع إليه يتموقع مسبقا في نور الوجود‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫إن الميتافزيقا ال تعرف نور الوجود وانفتاحه إال باعتباره ذلك النظر المتجه صوبنا من جــانب مــا هــو حاضــر في‬
‫"التجلي" ( ‪ = ß ò Ý á‬أيدينا = فكرة = مثال)‪ .‬أو باعتباره من وجهة نظر نقدية‪ ،‬ما تبلغه الذاتية بواسطة التمثل‬
‫المقوالتي‪ .‬وهذا معناه أن حقيقة الوجود‪ ،‬من حيث هي ذلك النور واالنفتاح نفســه‪ ،‬تظــل متواريــة عن الميتافزيقــا‪.‬‬
‫لكن هذا االختفاء والتواري ليس بأي حال من األحوال نقصا أو قصورا في الميتافزيقا‪ ،‬بل مصدر كنزهــا وغناهــا‬
‫الخاص الذي هو محتجب عنها وإن كان ماثال فيها‪ .‬والحال أن هذا النور واالنفتاح هو الوجود نفسه‪ .‬إنه ما يخــول‬
‫لإلنسان على امتداد قدر الوجود في الميتافزيقا فضاء الرؤية هذا‪ ،‬حيث ما هو حاضر يصيب اإلنسـان الذي يكــون‬
‫بدوره حاضرا بالنسبة له على نحو به فقط يستطيع هذا األخير نفسه أن يالمس الوجود في اإلدراك (نــوين‪í ï å :‬‬
‫‪) é í‬ـ (‪ .)Aristote. Met. T. 10‬وحده فضاء الرؤية هذا يجذب إليه مرمى النظر‪ ،‬ويتفرغ إليـه في اإلدراك‬
‫الذي أصبح تمثال منتجا في الكوجيطو‪ ،‬أي في إدراك ذات التفكير والوعي بـها كذاتية لليقين‪ .‬هل لنا أن نطرح هذا‬
‫السؤال‪ :‬كيف يأتي الوجود إلى االنوجاد؟ إن الوجود نفسه هو العالقة‪ :‬ذلك أنه يحمل االنوجاد إلى ذاته في ماهيتــه‬
‫االنوجادية‪ ،‬أي اللدنية‪ .‬يأتي بـــهذه إلى ذاتــها باعتبارهـا المجـال الـذي تقيم فيــه حقيقــة الوجـود في قلب الموجـود‪.‬‬
‫ومادام اإلنسان يتوصل كمنوجد إلى اإلقامة في هذه العالقة التي فيها ينبعث الوجود ذاتــه ويصــير‪ ،‬مناصــرا إياهــا‬
‫لدنيا‪ ،‬أي محتمال لـها في الـهم‪ ،‬فإنه يجهل هذا الذي هو أكثر قربا منه أوال (الوجود)‪ ،‬ويتعلق فقط بمــا ال يــأتي إال‬
‫الحقا (الموجود) إلى حد االعتقاد أن هذا األخير هو األقرب إليه‪ ،‬هذا في حين أن القــرب ذاتــه (‪La proximite‬‬
‫= حركة االقتراب ومسافة الجوار)‪ ،‬أي حقيقة الوجود‪ ،‬هي األكثر قربا مما هو أقرب إليه‪ ،‬واألكـثر بعـدا في نفس‬
‫الوقت بالنسبة للفكر العادي مما هو أكثر بعدا عنه‪.‬‬
‫أما ما يدعوه "الوجود والزمان" بالـ "سقوط"‪ ،‬هو نسيان حقيقة الوجود بفعل اجتياح للموجــود غــير مفكــر فيــه في‬
‫ماهيته‪ .‬وكلمة "سقوط" هنا ال تشير إلى خطيئة اإلنسان بالمعنى الفلسفي األخالقي وقد جرد من سياقه الــديني‪ ،‬أي‬
‫بالمعنى الوضعي‪ .‬بل إلى صلة ما هوية لإلنسان بالوجود داخل عالقة الوجــود بماهيــة اإلنســان‪ .‬وبنفس الكيفيــة ال‬
‫يقتضــي مصــطلحا ‪" :‬األصــيل" و "الزائــف" اللــذان يـــمهدان لـــهذا التفكــير‪ ،‬أي اختالف أخـــالق‪/‬وجــودي أو‬
‫انتروبولوجي‪ ،‬وإنما يشيران إلى هذه العالقة "اللدنية" لماهية اإلنسان بحقيقة الوجود التي تدعونا للتفكير فيها قبــل‬
‫كل شيء‪ ،‬ألنـها ظلت إلى حــد اآلن مســتترة عن الفلســفة‪ .‬إال أن هــذه العالقــة ال تكــون بمــا هي عليــه على أســاس‬
‫االنوجاد‪ ،‬بل إن ماهية االنوجاد هي التي تكون على العكس من ذلــك وجودويــة ــ لدنيــة انطالقــا من ماهيــة حقيقــة‬
‫الوجود‪ .‬إن هذا وحده هو "الشيء" البسيط الذي أراد الفكر الساعي إلى التعبير عن نفســه ألول مــرة في "الوجــود‬
‫والزمان" بلوغه‪ .‬والوجـود من حيث هو هذا "الشيء" البسيط نفسه يظل ملغزا باستمرار‪ .‬إنه القرب العاري لقــوة‬
‫ال جبرية‪ .‬هذا القرب والجوار يبسط ماهيته باعتبارها هي اللغــة ذاتــها‪ .‬إال أن اللغـة هنـا‪ ،‬ليسـت أبـدا مجـرد لغـة‬
‫بالمعنى الذي نتمثلها به فقط‪ ،‬أي باعتبارها في أحسن األحوال وحدة لعناصــر ثالثــة هي ‪ :‬البنيــة الصــوتية (الخــط‬
‫والرسم)‪ ،‬اللحن واإليقاع ثم الداللة (أو المعنى)‪ ،‬لنرى بعــد ذلــك في البنيــة الصــوتية والخطيــة جســد الكلمــة‪ ،‬وفي‬
‫اللحن واإليقاع روحها‪ ،‬وفي القيمة الدالة فكـر اللغـة‪ .‬فنحن عنـدما نفكـر في ماهيـة اللغـة عـادة مـا نماثلهـا بماهيـة‬
‫اإلنسان‪ ،‬حيث الماهية هنا قد تم تمثلها كحيوان عاقل‪ ،‬أي كوحدة لجسد وروح وفكــر‪ .‬وكمــا أن االنوجــاد‪ ،‬ومن تم‬
‫عالقة حقيقة الوجود باإلنسان‪ ,‬قد ظل محتجبا في إنسانية اإلنسان الحيواني‪ ،‬كذلك يخفي التأويـل الميتــافزيقي للغــة‬
‫على نمط الحيوان‪ ،‬ماهيتها التاريخية‪/‬االنطولوجية التي تكـون اللغة تبعا لـها مسكنا للوجود‪ ،‬بفعلها يحصل وعليها‬
‫يتجمع‪ .‬لـهذا السبب من المفيد أن نفكر في ماهية اللغة في توافقها مع الوجـود من حيث هي هذا التوافق نفســه‪ ،‬أي‬
‫من حيث هي مأوى ماهية اإلنسان‪ .‬لكـن اإلنسان ليس فقط هو ذلك الكائن الحي الــذي يتــوفر على اللغــة باإلضــافة‬
‫إلى مقدورات أخرى‪ .‬بل إن اللغة قبل كل شــيء هي مســكن الوجــود حيث يقيم اإلنســان‪ .‬وعلى هــذا النحــو ينوجــد‬
‫منتميا إلى حقيقة الوجود التي هو حارسها‪.‬‬
‫يترتب إذن عن هذا التحديد إلنسانية اإلنسان كانوجاد‪ ،‬أن المهم ليس هو اإلنسان‪ ،‬بل الوجود كبعد للدنيةـ االنوجاد‪.‬‬
‫والبعـد هنا ليـس هو ما نعرفه كحيز فضائي‪ ،‬بل إن كل حــيز فضــائي وكــل فضــاء‪/‬زمــاني يبســط ماهيتــه في هــذا‬
‫البعدوي الذي هو الوجود نفسه بما هو كذلك‪.‬‬
‫إن الفكر شديد العناية بهذه العالقات البسيطة‪ ،‬إنه يبحث في قلب اللسان التراثي القـديم للميتافزيقـا وفي نحوهـا عن‬
‫الكالم الذي يعبر به عن تلك العالقات‪ .‬بقـي لنا أن نعرف هل ما إذا كان من الممكن لـهذا الفكر أن يتحــدد كنـــزعة‬
‫إنسانية‪ ،‬مع افتراض أن مثل الملصقات يمكنهـا أن تكــون ذات محتـوى‪ .‬بكـل تأكيـد‪ :‬ال‪ ،‬نظـرا إلى كـون النــزعة‬
‫اإلنسانية تفكر من وجهة نظر ميتافزيقية‪ ،‬وال إذا كانت هذه النـزعة نـزعة وجوديــة إليهــا تنتمي عبــارة "ســارتر"‬
‫التاليــة‪" :‬إننــا بالضــبط على تصــميم حيث ال يوجــد إال النــاس فقــط"‪ .‬بحيث لواردنــا أن نفكــر في هــذا انطالقــا من‬
‫"الوجود والزمان" لوجب علينا أن نقول‪" :‬إننا بالضبط على تصــميم حيـــث مبــدئيا هنــاك الوجــود"‪ .‬ولكن مــا هــو‬
‫التصميم؟ وما مصدره؟ إن الوجود والتصــميم يتمــاثالن‪ .‬لــذا قيــل في "الوجــود والزمــان‪ ،‬ص ‪ "212‬بحــذر شــديد‬
‫وبمعرفة تامة باألسباب‪" :‬هناك الوجود"‪ .‬وهذه الــ "هنــاك" (‪ )5()Il y'a‬ال تــترجم بدقــة عبــارة “‪ .”esgibt‬ألن‬
‫الضمير “)‪ es”: (Il‬الذي يعطي (‪ )donne = gibt‬هو الوجود نفسه‪ .‬وكلمة "يعطي" هذه‪ ،‬تعين في كل األحوال‬
‫ماهية الوجود باعتبارها هي من يعطي ويخول ماهيتها‪ ،‬وما ينعطي بذاته لذاته في المنفتح بواسطة هذا المتفتح هو‬
‫الوجود نفسه… إن العبارة‪" :‬هنـاك وجود" قد وظفت كذلك من أجل أن نتجنب مؤقتا قول‪" :‬الوجــود يوجــد"‪ ،‬ألن‬
‫كلمة "يوجد" هذه تقال عادة عن شيء ما كائن ندعوه بالموجود‪ .‬فأن تقول عن الوجود بأنه "يوجد" دون أن ترفــق‬
‫ذلك بأي تعليق معناه أن تتمثله بسهولة كـ "موجود" كائن على نمط الموجود المعروف الــذي منتج باعتبــاره علــة‪،‬‬
‫ومنتوج باعتباره نتيجة‪ .‬ومع ذلك فقد سبق لبارمنيدس أن قال‪" :‬يوجد بالفعــل وجــود" أو "هنــاك في حقيقــة األمــر‬
‫وجودا"‪ .‬في هذا الكالم يختفي األصل العجيب لكل فكر‪ .‬ربما ال يمكن لكلمة "يوجد" "هناك" أن تقال بحق إال عن‬
‫الوجود‪ ،‬بحيث إن كل موجـود ال "يوجد" وال يمكنه أبدا أن "يكون"‪ .‬ولكن على الفكـــر أوال أن يتوصــل إلى قــول‬
‫الوجود في حقيقته‪ ،‬بدل أن يفسره كموجود انطالقا من الموجود ذاته‪ .‬كما ينبغي لـهذا السؤال أن يبقى مفتوحا أمــام‬
‫الحـذر اليقظ للفكر‪ :‬هل يوجد الوجود؟ وكيف؟‪ ‬‬
‫إن عبارة بارمنيدس‪" :‬هنـاك في حقيقــة األمـر وجـود"‪ ،‬لم يتم التفكـير فيهــا اليـوم بعــد‪ .‬وباسـتطاعتنا أن نقيس من‬
‫خالل هذا‪ ،‬مدى التقدم الحاصل في الفلسفة‪ .‬فهذه األخيرة عندما تكون حريصة على ماهيتهــا ال تتقــدم‪ ،‬بــل تــراوح‬
‫مكانـها بوعي منها لتفكر بتبات في ذات الشيء‪ .Le Même :‬أما التقدم‪ ،‬أي االبتعاد عن هذا المكــان فهــو الخطــأ‬
‫الذي يالحق الفكر باعتباره الظل الذي يصدر عنه‪ .‬إن الوجود لم يفكر فيه بعــد‪،‬ـ لــذا قيــل في "الوجــود والزمــان"‪:‬‬
‫"إنه هناك" [أي يوجد في حركة انعطائه الــتي هي ذاتــه باعتبارهـا مــا يعطي ومن يعطي ]‪ .‬ولكننــا ال نســتطيع أن‬
‫نتحدث عن هذه الـ "هنـاك" أو الــ "يوجــد" أو الــ "ينعطي" [وكلهـا عبــارات لـــها نفس المعــنى المضــمر في ‪Il :‬‬
‫‪ )y'a‬أو (‪ ]esgibt‬من غـير اسـتعداد أو سـند‪ .‬إنــها تــهيمن كقـدر للوجـود الـذي يـأتي تاريخـه إلى اللغـة في كالم‬
‫المفكرين األساسيين‪ .‬لـهذا السبب كان الفكر الــذي يفكــر من حيث هــو فكــر باتجــاه حقيقــة الوجــود‪ ،‬فكــرا تاريخيــا‬
‫(بالمعنى األصيل)‪ .‬ال وجود إذن لفكر "نسقـي" تقترن به استوغرافيا اآلراء السابقة على سبيل الشهرة‪ .‬كما ليـــس‬
‫هناك نسق يستطيع‪ ،‬مثلما يعتقد "هيغل"‪ ،‬أن يضع قانون فكره كقـانون للتـاريخ‪ ،‬ليقــوم من تم بتـذويب التـاريخ في‬
‫النسق‪ .‬ولكن هنـاك تاريخ للوجود مفكر فيه على نحو أصيـل‪ ،‬إليه ينتمي الفكر كفكر متـذكر ــ في ــ الوجــود لهــذا‬
‫التاريخ الذي به يكون حصوله‪ .‬وهذا الفكر ــ المتــذكر ــ في ــ الوجـود‪ ،‬يختلـف ماهويـا عن مجـرد إحيــاء لــذكرى‬
‫التاريخ باعتباره ماضيا ينساب‪ .‬فالتاريخ ال يقع باعتباره حدثا‪ .‬والحدث ليس إنسيابا زمنيا‪ .‬بل إنه ما يبسط ماهيتــه‬
‫كقدر لحقيقة الوجود انطالقا من هـذا األخير‪( .‬هولدرلين وماهية الشــعر‪ ،1951 :‬ص ‪ .)47‬إن الوجـــود يــأتي إلى‬
‫قدره من حيث هو هو‪ .‬إنه ينعطي الشيء الذي يعني أن الوجود وقد فكر فيه انسجاما مع هذا القدر‪ ،‬ينعطي ويمتنع‬
‫في نفس الوقت‪[ ،‬يتجلى ويحتجب]‪ .‬هذا في حين أن التحديد الهيغلي للتاريخ كتطــور "للــروح" ليس خاطئــا‪ .‬وهــذا‬
‫ليس معناه أنه مخطئ في جانب ومحق في آخر‪ .‬بل إنه تحديد صحيح صـحة الميتافزيقـا ذاتـــها‪ ،‬الــتي حملت ألول‬
‫مرة عند "هيغل" ماهيتهـا مفكرا فيها على نحو مطلق إلى اللغة في النسق‪ .‬إن الميتافزيقا المطلقة تنتمي شأنـــها في‬
‫ذلك شأن كل أشكال القلب التي ألحقها بـها "ماركس" و"نيتشــه"‪ ،‬إلى تــاريخ حقيقــة الوجــود‪ .‬ومــا تــرتب عنهــا ال‬
‫يمكننا معالجته أو إلغاؤه من خالل دحضه‪ .‬بل ال يسعنا إال اســتقباله من حيث هــو ماهيتهــا وقــد أرجعت على نحــو‬
‫أصيل إلى الوجود نفسه‪ ،‬محتجبة فيه ومنسحبة من دائرة الرأي اإلنســاني المحض‪ .‬إن كــل دحض في حقــل الفكــر‬
‫المــاهوي‪ ،‬هــو بمثابــة ال ــ معــنى‪ .‬ومــا الصــراع بين المفكــرين إال "خصــام عشــاق" مــرده إلى ذات الشــيء‪ .‬إنــه‬
‫يساعدهم تباعا على بلوغ االنتمـاء البسيـــط لـذات الشـيء‪ ،‬حيث يجــدون التوافـق مــع قــدرهم داخــل قـدر الوجــود‪.‬‬
‫إذا قدر لإلنسان مستقبال أن يصل إلى التفكـير في حقيقـة الوجـود فسـيفكر فيهـا انطالقـا من االنوجـاد‪ .‬إنـه يقيم من‬
‫حيث هو منوجد‪ ،‬داخل قدر الوجود‪ .‬وانوجاده هذا ال يكون إال من حيث هو انوجاد تاريخي‪ .‬وهذا ليس مــرده أبــدا‬
‫إلى مجرد كون كل ضروب األشياء تنبثق مع اإلنسان والقضـايا اإلنسـانية في مجـرى الـزمن‪ .‬وألن األمـر يتعلـق‬
‫بالتفكير في انوجاد الكينونةـ ـ هنا (الدزاين)‪ ،‬كان من األهمية بمكان بالنسبة للفكر في "الوجود والزمان" أن يختبر‬
‫تاريخية هذه الكينونة‪.‬‬
‫ولكن ألم نقل في "الوجود والزمان" حيث العبارة "هناك = ينعطي" ترد في اللغة بأنــه "ليس هنــاك من وجــود إال‬
‫بوجود الكينونة ـ هنا ‪ :‬الدزاين ؟"‪ .‬ال شك في ذلك‪ .‬وهذا معناه أن الوجود ال ينتقــل إلى اإلنســان إال بقــدر حصــول‬
‫نور الوجود وانفتاحه‪ .‬إال أن حصول الـ "هنا" باعتبارهـا هي هذا النور واالنفتاح كحقيقة للوجود نفسه‪ ،‬هو بمثابة‬
‫وصف للوجود في حد ذاته‪ .‬ذلك أن الوجود هو قدر النور واالنفتاح‪ .‬وهذه العبارة ال تعني بــأي حــال من األحــوال‬
‫أن كينونة اإلنسان (الدزاين) بالمعنى التقليدي للوجود بالفعل وبالمعنى الحديث لواقــع األنــا ــ أفكــر (الكوجيطـــو)‪،‬‬
‫هي هذا الموجود الذي يُ ْبتَدعـ بواسطته الوجود‪ .‬إنـها ال تقول بأن الوجود من إنتــاج اإلنســان‪ .‬ففي مقدمــة "الوجــود‬
‫والزمان" ص ‪ ،38‬ترد العبارة التالية خالصة واضحة المضمون‪ ،‬وموضوعة بين قوسين ‪" :‬الوجود هــو التعــالي‬
‫المجرد والبسيط"‪ .‬فكما أن مقاربة المكانية تتجاوز كل شيء قــريب أو بعيــد عنــدما نتناولـــها من وجهــة نظــر هــذا‬
‫الشيء‪ ،‬كذلك الوجود يظل ماهويا في منأى عن كل موجود ألنه هو هذا النور واالنفتاح نفســه‪ .‬هنــا الوجــود قــد تم‬
‫التفكير فيه وفق كيفية للرؤية ال يمكن تحاشيها للوهلة األولى في الميتافزيقا التي مــا تــزال مهيمنــة‪.‬ـ ومن مثــل هــذا‬
‫المنظور فقط ينكشف الوجود كمجاوزة ومن حيث هو هذه المجاوزة‪ .‬‬
‫هذا التحديد التمهيدي ‪" :‬الوجــود هــو التعــالي المحض والبســيط" يجمــع في عبــارة بســيطة الكيفيــة الــتي بموجبهــا‬
‫اتضحت واستضاءت ماهية الوجود لإلنسان‪ .‬كما أن هذا التحديدـ المعكوس لماهيــة الوجــود انطالقــا من استضــاءة‬
‫الموجود وانفتاحه كما هو‪ ،‬يظل ال محيد عنه بالنســبة لكـل فكــر يســعى إلى طـرح الســؤال بصــدد حقيقــة الوجــود‪.‬‬
‫هكذا يشهد الفكر على قدر انبعاث ماهيته الخاصة‪ ،‬بعيدا عن الرغبــة في إعــادة تنــاول كــل شــيء من البدايــة تحت‬
‫دريعة عدم صحة الفلسفات السابقة‪ .‬أما فيما يتعلق بمعرفة هـل مـا إذا كـان هـذا التحديـد للوجـود كمتعــال محض‪،‬‬
‫يشير مسبقا إلى الماهية البسيطة لحقيقة الوجود‪ ،‬فهذا هو السؤال الوحيد الذي على كل فكر يســعى إلى التفكــير في‬
‫حقيقة الوجـود أن يطرحه قبل كل شيء‪ .‬لـهذا السبب قيل في "الوجود والزمان" ص ‪ ،230‬بأنه ال يمكننــا أن نفهم‬
‫كيف يكون هناك الوجود‪ ،‬إال انطالقا من "المعـنى" فقـط‪ ،‬أي انطالقـا من حقيقـة الوجـود‪ .‬فـالوجود ينفتح ويسـتتر‬
‫لإلنسان في المشروع اللدني‪ .‬لكن هذا المشروع ال يخلق الوجود‪ .‬يبقى أن هذا المشروع في ماهيتـه مشروع ملقى‬
‫به‪ .‬لكن الذي يلقي فيما هو ملقـى به ليس هو اإلنسان‪ ،‬بل الوجود نفســه الــذي يقــدر على اإلنســان تحمــل انوجــاد ـ‬
‫الكينونةـ ـ هنا (الدزاين)‪ ،‬كما لو يخلع عليه ماهيته‪ .‬هذا القدر يحصل باعتباره نور الوجود وانفتاحه‪ .‬إنه هــو نفســه‬
‫هذا النور واالنفتاح‪ .‬إنه يخول للوجود قربه‪ .‬وفي هذا القـرب‪ ،‬أي في هـذه الــ "هنــا"‪ ،‬يقيم اإلنسـان من حيث هـو‬
‫منوجد دون أن يتمكن إلى يومنا هذا من اختبار هذه اإلقامة بحق‪ ،‬وتحملها بالخصوص‪ .‬هذا القــرب "الـــ" لوجـــود‬
‫"من" الوجود الذي هو نفســه "هنـا" الكينونــة ــ هنــا (الــدزاين)‪ ،‬هــو مــا يســميه الخطــاب في مقالــة حــول (مرثيــة‬
‫"العودة) لهولدرلين ‪ )1943‬وقد فكر فيها انطالقــا من الوجــود والزمــان‪ ،‬بـــ‪" :‬الــوطن"‪ .‬وهي كلمــة مســتعارة من‬
‫شعر الشاعر نفسه وانطالقا من تجربة نسيان الوجـود‪ .‬لـذا فقـد تم التفكـير فيهـا هنـا بمعـنى جـوهري‪ ،‬أي منظـور‬
‫تاريخ الوجود‪ .‬الشيء الذي يعني أنـها ال تحيل إلى أية نـزعة قومية أو وطنية‪ .‬كمــا أن ماهيــة "الوطـــن" هنــا‪ ،‬قــد‬
‫دعيت بـهدف التفكير في معنى غياب الوطن بالنسبة لإلنسان الحديث انطالقا من التفكير في ماهية تاريخ الوجــود‪.‬‬
‫ولقد كان "نيتشه" آخر من اختبر هذا الغياب للوطن‪ ،‬ولم يجد لــه من مخــرج داخــل الميتافزيقـا ســوى القيــام بقلب‬
‫لـها‪ .‬إال أن هذا القلب كان في حقيقة األمر سدا نهائيا لكل المخارج‪ .‬أما "هولدرلين" فقد كان كل همه عنــدما تغــنى‬
‫ب ‪" :‬الرجوع إلى الوطن"‪ ،‬هو أن يحمل "مواطنيـ"ـه على بلوغ ماهيتهم‪ .‬فهو ال يتغنـى أبدا بـــهذه الماهيــة بــدافع‬
‫أنانية وطنية أو قومية‪ ،‬بل ينظر إليها قبل كـل شيء انطالقا من االنتمــاء لقــدر الغـرب‪ .‬والغـرب هنــا لم يفكــر فيــه‬
‫بكيفية جهوية كمقابــل للشــرق‪،‬وال حــتى باعتبــاره أوربــا‪ .‬وإنمــا من منظــور تــاريخ العــالم انطالقــا من القــرب من‬
‫األصل‪ .‬ولم نشرع نحن في التفكير في العالقات العجيبة مع الغرب التي صارت كالمــا في شــعر "هولــدرلين" إال‬
‫مؤخرا‪ .‬إن "الحقيقـة األلمانية" لم يتم قولـها للعالم ليجد هذا األخير شفـاءه في الماهية األلمانيــة‪ ،‬بــل قيلت لأللمــان‬
‫ليصيروا بموجب القدر الذي يربطهم ببقية الشعوب األخرى مساهمين معها في تاريخ العالم‪ .‬والقــرب من الوجــود‬
‫هو موطن هذه اإلقامة التاريخية‪.‬‬
‫في هذا القرب للوجود من الوجود وفيه وحده‪ ،‬يجب أن يتقـرر وإلى األبـد‪ ،‬هـل مـا إذا كـان اإللـه واإللــهة سـتظل‬
‫ممتنعة عن التجلي وكيـف يحصل هذا االمتناع ؛ وهل ما إذا كان الليل سيستمر ؛ وهل مــا إذا كــان نـــهار المقــدس‬
‫سيشرق ؛ وكيـف سيكون ذلك الشروق ؛ وهـل ما إذا كان من الممكن لتجلي اإلله واإللـهة في هذا الفجــر المقـــدس‬
‫أن يبدأ من جديد وكيف‪ .‬والحال أن المقدس الذي هو الفضاء الماهوي الوحيد للقداسة‪ ،‬التي هي بدورها وحدها من‬
‫يخـول لإلله ولإللـهة بعدها‪ ،‬ال يأتي إلى نور التجلي غال عنـدما يكـون الوجـود قـد استضـاء مسـبقا وبعــد اســتعداد‬
‫طويل‪ ،‬وتم اختباره في حقيقته‪ .‬إذ بـهذا وحده‪ ،‬وانطالقا من الوجود‪ ،‬يتم الشروع في مجاوزة غيــاب الــوطن‪ .‬ذلــك‬
‫الغياب الذي ليس الناس وحدهم هم الذين يتيهونـ فيه‪ ،‬بل ماهيتهم كذلك‪.‬‬
‫إن هذا الغياب للوطن الذي مازال ينبغي لنا أن نفكر فيه‪ ،‬يكمن في التخلي عن الوجود لصالح الموجود‪ .‬إنه الــدليل‬
‫على نسيان الوجـود الذي تظل حقيقته بسبب هذا النسيان غير مفكر فيها‪ .‬وهذا ما ينكشف بطريقة غير مباشرة في‬
‫كون اإلنسان ال يهتم أبدا إال بالموجود وال يشتغل إال عليــه‪ .‬ولكن مــادام اإلنســان ال يســتطيع والحالــة هــذه‪ ،‬الكــف‬
‫على أن يجعل من الوجــود تمثال‪،‬ـ فــإن هــذا األخــير ال يحــدد إال باعتبــاره ذلــك الــ "مفهــوم األكثـــر عموميــة" عن‬
‫الموجود‪ ،‬وبالتالي باعتباره ما يشمله ويحيط به‪ ،‬أو باعتبـاره خلقـا للموجـود الالمتنـاهي‪ ،‬أو منتـوج ذات متناهيـة‪.‬‬
‫وفي نفس الوقت يتم النظــر إلى "الوجــود"‪ ،‬وقــد حــدث هــذا منــذ زمن طويــل‪ ،‬على أنــه هــو "الموجــود" والعكس‬
‫صــحيح‪ .‬أي يتم اعتبــار "الموجــود" على أنــه "الوجــود" كمــا لــو أنـــهما يمتزجــان في خليــط عجيب لم نتمكن من‬
‫التفكير فيه بعد‪.‬‬
‫إن الوجود من حيث هو القدر الذي يبعث الحقيقــة يظــل محتجبــا‪ .‬إال أن قــدر العــالم هــذا ينقــال في الشــعر دون أن‬
‫يكون قد تجلى كتاريخ للوجود‪ .‬لـهذا السبب‪ ،‬وبالنظر إلى إبعاد تاريخ العالم‪ ،‬يظل فكر "هولدرلين" الذي يعبر عن‬
‫نفسه في قصيدة "ذاكرة"‪ ،‬أكثر أصالة ماهويا‪ .‬وبالتالي أكثر مستقبلية من نـزعة المواطنــة الكونيــة الخالصــة عنــد‬
‫"غوثه" ‪ .Goethe‬ولـهذا السبب أيضا نجد في عالقة "هولدرلين" بالهيلينستيةـ شيئا آخر يختلف ماهويا عن كونــه‬
‫مجرد نـزعة إنسانية‪ .‬لذلك كان ما فكــر فيــه الشــباب األلمـاني الــذي كــانت لــه معرفــة بهولــدرلين‪ ،‬ومـا عاشــه في‬
‫مواجهة الموت شيئا آخر غير ما ادعى الرأي العام أنه وجهة النظر الخاصة باأللمان‪.‬‬
‫إن غياب الوطن قد أصبح قدرا عالميا‪ .‬لـهذا ينبغي التفكــير في هــذا القــدر بــالنظر إلى تــاريخ الوجــود‪ .‬ومـا أقربــه‬
‫"ماركس" منطلقا من "هيغل" بمعنى جد مهم وجوهري كــاغتراب لإلنســان‪ ،‬شــيء ضـــارب بجــدوره عميقـــا في‬
‫غياب الوطن عند اإلنسان الحديث‪ .‬هذا الغياب للوطن يفصح عن نفسـه انطالقا من قدر الوجود في مختلف أشكال‬
‫الميتافزيقا التي تقويه وتخفيه في نفس الوقت كفقــدان للــوطن‪ .‬وألن مــاركس قــد بلــغ وهــو يختــبر االغــتراب بعــدا‬
‫جوهريا للتاريخ‪ ،‬فقد جاء مفهومه عن هذا األخير أكثـر سموا من بقية أشــكال االســتوغرافيا‪ .‬وبمــا أن "هوســرل"‬
‫و"سارتر" كذلك حسب ما أعلم لم يتمكنا من االعتراف بأن للتـاريخي ‪ L’historique‬ماهويتـه في الوجـود‪ ،‬فـإن‬
‫الفنومنولوجيا وحتى الوجودية ال يمكنهما بلوغ هذا البعد الذي بداخله وحده يصبح من الممكن قيام حـوار بنـاء مـع‬
‫الماركســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــية‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬من أجل هذا ينبغي أوال التخلص من التمثالت الساذجة للنـزعة الماديــة‪ ،‬ومن الدحوضــات الرخيصــة الــتي‬
‫تعتقد بلوغها‪ .‬فماهية النـزعة المادية ال تكمن أبدا في اإلقرار بــأن كــل شــيء ليس إال مــادة‪ .‬بــل تكمن على العكس‬
‫من ذلك في تحديدـ ميتافزيقي يتجلـى تبعا له كل موجود كأداة للعمــل‪ .‬في "فنومنولوجيـا الـروح" كــان "هيغـل" قـد‬
‫فكـر مسبقا في الماهيــة الميتافزيقيــة والحديثــة للعمــل كســيرورة لإلنتــاج الالمشــروط تنتظم تلقائيــا‪ ،‬أي كموضــعه‬
‫للواقعي (‪ )Le reel‬من طرف اإلنسان وقد تعرف على نفسه كذاتيــة ‪ .Subjectivite‬إن ماهيــة النـــزعة الماديــة‬
‫تختفي في ماهية هذه التقنية التي كتب عنها في الحقيقة الشيء الكثير‪ ،‬ولم يفكر فيها إال قليال‪ .‬فالتقنيــة في ماهيتهـــا‬
‫قدر تاريخي‪/‬انطولوجي لحقيقة الوجود من حيث هي كامنة في النسيان‪ .‬وهي ال ترجع إلى كلمة (تخني‪ô Ý ÷ í :‬‬
‫‪ ) ç‬اإلغريقية من حيث االشتقاق فحسب‪ ،‬بل إن جدرها التــاريخي ‪ /‬المــاهوي أيضـا يجب البحث عنــه في التخــني‬
‫كنمط لال ـ تحجب (الال ـ اختفاء ‪ .) Ž ' Ü ë ç q e ý å é í :‬أي كصفة لتجلي الموجود وانكشافه‪ .‬إن التقنية من‬
‫حيث هي شكل للحقيقة لــها أساسـها في تـاريخ الميتافزيقـا‪ .‬هـذه األخـيرة نفسـها تشـكل مرحلـة حاسـمة في تـاريخ‬
‫الوجود‪ .‬إنـها الوحيدة التي يمكننـا أن نحيط بـها علما‪ .‬بإمكاننا أن نتخذ موقفا بكيفيات مختلفــة من تعــاليم الشــيوعية‬
‫ومما يؤسسها‪ .‬لكن من المؤكد أن تجربة أولية لصيرورة العالم التاريخية على صــعيد تــاريخ الوجــود تفصــح فيهــا‬
‫عن نفسها‪ .‬فأن نرى في "الشيوعية" مجرد حزب‪ ،‬أو مجرد "مفهوم عن العالم"‪ ،‬معناه أننا قصــيرو التفكــير أكــثر‬
‫من أولئك الذين ال يعنون من نعثهم ب "النـــزعة األمريكيــة" سـوى نمــط حيــاة خـاص‪ ،‬مســتهينين بــذلك منهــا‪ .‬إن‬
‫الخطر الذي تجد أوربا نفسها اليوم محشورة فيه دائما بوضوح‪ ،‬قد يكمن قبل كل شيء في كون فكرهــا الــذي كــان‬
‫سابقا مصدر سموها وعظمتها‪ ،‬يتراجع عن الطريق الجوهري للقدر العــالمي الــذي يفصــح عن نفســه‪ .‬ذلــك القــدر‬
‫الذي يظل مع ذلك أوربيــا من حيث المالمح األساســية لمصــدر حصــوله المــاهوي‪ .‬ليس باســتطاعة أيــة ميتافزيقــا‬
‫سواء كانت مثالية أو مادية أو مسيحية أن تلحق بقدرها تبعــا لـــماهيتها أو للجهــود الــتي تبــذلها من أجــل االنتشــار‪.‬‬
‫وأعني بذلك أن تبلغ في الفكر ما من الوجود قد أنجز راهنا‪ .‬إن القدر المستقبلي لإلنسان ينبني‪ ،‬بالنظر إلى الغيــاب‬
‫الماهوي للوطن الذي أصاب هذا األخير ومن أجــل الفكــر التــاريخي‪/‬االنطولــوجي كــذلك‪ ،‬على ضــرورة اكتشــافه‬
‫لحقيقة الوجود ووضع نفسه على درب هذا االكتشاف‪ .‬إن كل نـزعة قوميــة هي على الصــعيدـ الميتــافزيقي نـــزعة‬
‫انتروبولوجية‪ .‬ومن ثم فهي نـزعة ذاتية‪ .‬كما أن هذه النـــزعة القوميــة لم يتم تجاوزهــا من خالل النـــزعة العالميــة‬
‫المحضة‪ ،‬بل تم فقط توسيعها وتنظيمها في نسق‪ .‬وبالتالي فهي لم تبلغ مرتبة اإلنسانية وتكتمل فيها إال قليال‪ .‬مثلهـا‬
‫في ذلك مثل النـزعة الفردانية التي لم تبلغ اكتمالها في النـزعة الجماعية إال عبر مراحــل تاريخيــة‪ .‬فالجماعــة هي‬
‫ذاتية اإلنسان على مستوى الكلية‪ .‬إنـها تنجز اإلقرار الخاص والالمشروط بـهذه الذاتية‪ .‬هذا اإلقــرار ال يســمح لنــا‬
‫بتحطيمـه وال حتى باختباره بطريقة كافية من خالل فكر ال يوسط إال جانيا منه‪ .‬ومع ذلك فإن اإلنسان يدور‪ ،‬وقــد‬
‫نفي من حقيقة الوجود‪ ،‬حول محيط ذاته نفسها كحيوان عاقل‪ .‬‬
‫لكن ماهية اإلنسان تكمن في كونه أكثر من مجرد إنسان‪ ،‬مادام قد تم تمثله كحي ينعم بعقل‪ .‬وعبارة "أكــثر من" ال‬
‫يجب فهمها هنا بمعنى اإلضافة كما لو أن التعريف التقليدي لإلنسان وجب أن يظل هو التحديدـ األساسي‪ ،‬ليتم فقــط‬
‫توسيعه بعد ذلك بإضافة الخاصية الوجودية له‪ .‬بل إن معناها‪" ،‬أي أكثر من"‪ ،‬سيكون هو ‪ :‬أكثر أصــالة‪ ،‬ومن تم‬
‫أكثر تجدرا في الماهية‪ .‬وهنا ينبري اللغز ‪ :‬إن اإلنسان يوجــد في وضــعية الملقى بــه‪ .‬الشــيء الــذي يعــني أنــه من‬
‫حيث هو الجواب المنوجد للوجود‪ ،‬يتجاوز بكثير الحيـوان العاقل أكثر مما هو بالضبط على صــلة باإلنســان الــذي‬
‫يعي نفسه بنفسه انطالقا من الذاتية‪ .‬إن اإلنسان ليس سيد الموجود بل هو راعي الوجود فقط‪ .‬وكلمة "فقط" هــذه ال‬
‫يخسر اإلنسان بموجبها شيئا‪ ،‬وإنما يفوز على العكس من ذلـك ببلوغـه حقيقـة الوجـود‪ .‬إنـه ينـال الفقـر الجـوهري‬
‫للراعي الذي تكمن كرامته فيما يلي ‪ :‬إنه من ينادي عليه الوجود نفسه ليتولى حراسة وصــيانة حقيقتــه‪ .‬هــذا النــداء‬
‫يـــأتي كإســقاط للمشـــروع الـــذي يتأصــل فيـــه الكـــائن ـــ الملقى ــــ بـــه للكينونـــة ــــ هنـــا‪ .‬فاإلنســـان في ماهيتـــه‬
‫التاريخية‪/‬االنطولوجية‪ ،‬هو هذا الموجود الذي تكمن كينونته كانوجاد في كونـه يقيم بالقرب من الوجــود‪ .‬إنــه جـار‬
‫الوجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــود‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬هل أنتم حقا على استعدادـ للرد علي منذ وقت طويل‪ ،‬بأن فكرا من هذا القبيــل ال يفكــر بالضــبط في إنســانية‬
‫اإلنسان اإلنساني؟ أال يفكر هذا الفكر في هذه اإلنسانية بمعنى جد حاسم وبشكل لم تقم به أيــة ميتافزيقـــا حــتى اآلن‬
‫وليست بقادرة على القيام به؟ أال ينطوي هذا الفكـر على "نـزعة إنسانية" بالمعنى القــوي للكلمــة؟ بلى‪ ،‬إنــه كــذلك‬
‫بكل تأكيد‪ .‬إنه النـزعة اإلنسانية التي تفكر في إنسانية اإلنســان انطالقــا من عالقـــة القــرب والجــوار مــع الوجــود‪.‬‬
‫ولكنها في نفس الوقت النـــزعة اإلنسـانية الــتي ليس الرهـان فيهــا على اإلنسـان‪ ،‬بــل على ماهيتــه التاريخيــة الــتي‬
‫مصدر حصولها من صميم حقيقة الوجود‪ .‬وهذا معناه بدون شـــك أن األمـر يتعلــق والحالـة هــذه بانوجـاد اإلنسـان‬
‫كـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذلك‪.‬‬
‫لقد قيل في "الوجود والزمان" (ص ‪ )38‬بأن كل سؤال للفلســفة "يحيــل إلى الوجــود"‪ .‬لكن الوجــود الــذي نتحــدث‬
‫عنه هنا ليس هو واقع األنا ـ المفكر (ذات الكوجيطــو)‪ .‬كمــا أنــه ليس أبــدا مجــرد واقــع ذوات ينتج بعضــها بعضــا‬
‫بصفة مشتركة ليقف بذلك كــل منهــا على كنهــه (ذاتــه)‪ .‬إن "االنوجـاد" إذ يختلــف في هــذا جــذريا عن كــل وجــود‬
‫بالفعل‪ ،‬وعن الوجود (بـمعنى واقع الموجود)‪ ،‬هو اإلقامة اللدنية بجوار الوجـود وعلى مقربــة منــه‪ .‬إنــه الرهبانيــة‬
‫واليقظة والتبصر‪ .‬أي ه ّم الوجود‪ .‬وألن األمر يتعلق في هذا الفكر بـالتفكير في شـيء بسـيط‪ ،‬فقـد وجـد فيـه الفكـر‬
‫المعتمد على التمثل والذي انتقل إلينا عبر التراث كفلسفة‪ ،‬صـعوبات جمـة‪ .‬إال أن الصعــب ليس بالخصـوص هـو‬
‫االرتباط بمعنى عميق أو صياغة مفاهيم مركبة‪ .‬بل يكمن قبل كل شيء في طريقة الرجوع إلى الوراء الــتي تمكن‬
‫الفكــر من بلــوغ ســـؤال هــو في حقيقتــه تجربــة واختبــار‪ .‬وتجعــل الــرأي المعتــاد عن الفلســفة تافهــا وبال معــنى‪.‬‬
‫لقد تردد كثيرا أن محاولة "الوجود والزمان" قد انتهت إلى الطريق المسدود‪ .‬لندع هذا الرأي جانبا‪ .‬إن الفكر الذي‬
‫يقوم ببضع خطوات في هذا المؤلف ما يزال معلقا إلى يومنا هذا‪ .‬ولكنه بمرور الوقت ربما يكون قــد اقــترب شــيئا‬
‫ما من موضوعه‪ .‬وطالما أن الفلسفة ال تهتم دائما إال بحرمان نفسها من كــل إمكانيــة لبلــوغ موضــوع الفكــر الــذي‬
‫ليس سوى حقيقة الوجود‪ ،‬فإنـها تنفلت بكل تأكيدـ من خطر القطيعة المطلقة مــع صــالبة موضــوعها‪ .‬لـــهذا الســبب‬
‫نجد أن ثمة هوة تفصل فعل "التفلسف" حول الفشل عن الفكر الذي يجرب الفشل في حد ذاته‪ .‬وإذا ما وجــد إنســان‬
‫ما الفرصة لبلوغ مثل هذا الفكر‪ ،‬فسوف لن يصيبه من ذلك أي شـقاء‪ .‬بـل ســتكون من نصــيبه تلــك الهبـة الوحيــدة‬
‫التي تأتي من الوجود إلى الفكر‪.‬‬
‫علينا أن نضع نصب أعيننا مـا يلي‪ :‬إن موضــوع الفكــر ال يتم بلوغــه بمجــرد الشــروع في الــثرثرة حــول "حقيقــة‬
‫الوجود" وحول "تاريخ الوجود"‪ .‬بل المهم هو أن تأتي حقيقة الوجود إلى اللغــة‪ ،‬ويتوصـــل الفكــر إلى هــذه اللغــة‪.‬‬
‫ولعل اللغة تقتضي منا والحالة هذه‪ ،‬صمتا محقا أكثر بكثير من التهافت في التعبير‪ .‬ولكن من منا اليوم يستطيع أن‬
‫يتخيل بــأن المــوطن األصــيل لـــهذه المحــاوالت في التفكــير هــو درب الصــمت؟ لــو أمكن لفكرنــا أن يــذهب بعيــدا‬
‫الستطاع أن يدل على حقيقة الوجود‪ ،‬وإن يعلن عنها باعتبارها ما يجب التفكــير فيــه‪ .‬وال نســحب بــذلك من دائــرة‬
‫الرأي والمصادفة‪ ،‬وانتقـل إلى هذه الطريقة الفنية في الكتابة التي أصبحت نادرة‪ .‬فاألشياء التي لها وزنــها ولـو لم‬
‫ترسخ إلى الألبد‪،‬ـ تحصل في الوقت المناسب‪ ،‬رغم ما قد يطـرأ على هذا الوقت من تأخر إلى حد كبير‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫أما فيما يتعلق بمعرفة هل ما إذا كان مجال حقيقة الوجود عبارة عن طريق مسدود أو كان هــذا المجــال هــو البع ـدـ‬
‫الحر حيث تضع الحرية ماهيتها‪ ،‬فإن كل واحد يستطيع أن يحكـم على ذلك بنفسه عندما يحـــاول أن يســلك الســبيل‬
‫المشار إليه‪ ،‬أو ـ وهذا أفضل ـ أن يشق لنفسه طريقا آخر أنجع‪ ،‬أي أكثر انسجاما مع السؤال‪ .‬في الصفحة مــا قبــل‬
‫األخيرة من "الوجود والزمان" (ص ‪ )437‬يمكننا أن نقرأ الجمل التالية‪" :‬إن النقاش المتعلق بتأويــل الوجــود (وال‬
‫أقول بالموجود أو أكثر من ذلك بكينونة اإلنسان)‪ ،‬ال يمكنه أن يتوقف ألنــه لم يشــرع فيــه بعــد‪ .‬وفي كــل األحــوال‬
‫ليس لنا أن نفرضه بالقوة‪ ،‬ولكن علينا من أجل خوض غماره أن نستعد له‪ .‬وهــذا هــو الـــهدف الوحيــد الــذي يتجــه‬
‫صوبه البحث الراهن"‪ .‬هذه الجمل ما تزال صالحة إلى يومنا هذا رغم مرور عشرين سنة على كتابتها‪ .‬لنبــق إذن‬
‫في ما سيأتي من األيام على هذا الدرب كمسافرين ماضين باتجاه مجاورة الوجود والتقرب منه‪ .‬وإن السؤال الــذي‬
‫تطرحونه ليساعد على تحديد ما يكونه هذا السبيل بكل دقة‪.‬‬
‫إنكم تسألون‪" :‬كيف يمكننا أن نعطي من جديد معنى لكلمة "النـزعة اإلنسانية؟" وهذا السؤال ال يفترض فقــط أنكم‬
‫ترغبون في اإلبقاء على نفس الكلمة‪ ،‬بل يحتوي كذلك على التصــريح بكونـــها فقــدت معناهــا‪ .‬ولقــد فقــدت معناهــا‬
‫بالفعل ألننا نعي تماما أن النـزعة اإلنسانية ميتافزيقية في ماهيتها‪ .‬وهذا يعني في الــوقت الــراهن أن الميتافزيقــا ال‬
‫تكتفي فقط بعدم طرحها للسؤال بصدد حقيقة الوجود‪ ،‬بل تحول أكثر من ذلك دون طرحـه من فرط استمرارها في‬
‫نسيان الوجود‪ .‬إال أن الفكر الذي قادنا بالضبط إلى اقتحـام ماهيـة النــزعة اإلنسـانية على هـذا النحــو جـاعال منهــا‬
‫سـؤاال‪ ،‬قــد حملنـا في نفس الـوقت على التفكـير بأصـالة أقـوى في ماهيــة اإلنسـان‪ .‬وبـالنظر إلى إنسـانية اإلنسـان‬
‫اإلنساني هذه األكثر عمقا وماهوية‪ ،‬تتاح لنا إمكانية إعطاء من جديد لكلمة النـزعة اإلنسـانية معـنى تاريخيـا أكـثر‬
‫قدما من ذلك الذي يمكننا أن نقيمه كرونولوجيا‪ .‬عندما أقول بأن علينـا أن نعطيها معنى جديــدا‪ ،‬ال أقصــد بــذلك أن‬
‫كلمة "النـزعة اإلنسانيـة" خالية في حد ذاتـها من المعنى‪ ،‬وإنـها هراء‪ .‬بل إن "اإلنسية" في هذه الكلمــة تــدل على‬
‫اإلنسانية من حيث هي ماهية اإلنسان‪ .‬أما "…ية" (ياء النسب وتاء التأنيت التي تدل على النـزعة إلى …) فتشير‬
‫إلى أن ماهية اإلنسان يجب النظر إليها كأساس‪ .‬وهذا هو المعنى الخاص بكلمـة "النـزعة اإلنسانية" من حيث هي‬
‫كلمة‪ .‬وإذا كان علينا أن نعطيها معنى‪ ،‬فهذا يعـني أن علينـا فقـط‪ ،‬أن نحـدد معـنى الكلمـة من جديـد‪،‬ـ الشـيء الـذي‬
‫يتطلب اختبار ماهية اإلنسان‪ ،‬قبل كل شيء بشكل أكثر أصالة‪ ،‬لنبين فيما بعد بـأي مقيـاس توجــد هــذه الماهيـة في‬
‫كيفيتها تبعا لقدر حصولها‪ .‬إن ماهية اإلنسان تكمن في االنوجاد ـ واالنوجاد هــو المهم باألســاس ــ أي انطالقــا من‬
‫الوجود نفسـه من حيث هو الذي يعمل على حصول ماهية اإلنسان باعتباره من ينوجد للسـهر على حقيقـة الوجـود‬
‫داخل هذه الحقيقة نفسها‪ .‬وبناء على هذا ســيكون معــنى "النـــزعة اإلنســانية" ــ هــذا إذا مــا قررنــا االحتفــاظ بنفس‬
‫الكلمة ـ هو أن ماهية اإلنسان أساسية جدا بالنسبة لحقيقة الوجود‪ .‬وإنـــها من األهميــة بحيث لن يكــون اإلنســان من‬
‫اآلن فصاعدا هو بالضبط الوحيد الذي يهمنا أمره‪ .‬هكذا تتجلى الكلمة باعتبارها مصطلحا يتجاوز ما يحيل إليه في‬
‫ذاتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‪.‬‬
‫هذه "النزعة اإلنسانية" التي تقوم ضد كل نـزعة إنسانية سابقة‪ ،‬دون أن تــدعي مــع ذلــك بــأي حــال من األحــوال‪،‬‬
‫أنـها المبشر بالال ـ إنساني‪ ،‬هل يجب أن ننعتها أيضا بالـ "نـزعة اإلنسانية"؟ ربما يكون مكســبنا الوحيــد من هــذا‪،‬‬
‫ونحن نتبنى استعمال هذا الملصق‪ ،‬هـو االنسـياق بـدورنا في التيـارات المهيمنـة الـتي اختنقت في النــزعة الذاتيـة‬
‫للميتافيزيقا‪ ،‬وانتهى بـها األمر إلى الغرق في نسيان الوجـود‪ ،‬ولكن‪ ،‬أليس على الفكـر أن يحـاول مقاومـة مفتوحـة‬
‫للنزعة اإلنسانية المجازفة باندفاع قد يمكـن أخيرا من االعتراف بإنسانية اإلنســان اإلنســاني وبمــا يؤسســها؟ هكــذا‬
‫يـمكن أن يستيقظ ذلك الفكر الذي يضع على عاتقه مهمة التفكير ليس فقط في اإلنسان‪ ،‬بل في "طبيعتـــ"ـــه‪ ،‬وليس‬
‫فقط في الطبيعة‪ ،‬وإنما فيما هو أكثر أصالة‪ ،‬أي في البعد الذي تجد فيه ماهية اإلنسان نفسها ـ وقــد حــددت انطالقــا‬
‫من الوجود ذاته ـ في مسكنها‪ .‬وهذا لن يتأتى بطبيعة الحــال‪ ،‬إال إذا كــان الظــرف الــراهن لتــاريخ العــالم يــدفع من‬
‫تلقاء ذاته إلى مثل هذا التفكير‪ .‬ربما يكــون من األجــدى أن نتحمــل ولــو لبعض الــوقت‪ ،‬األخطــاء المحتومــة لـــهذه‬
‫التأويالت التي يجد مسار الفكر في عنصر الوجود وفي الوجود والزمان‪ ،‬نفسه عرضة لـها‪ .‬ونتركهــا حــتى تنهــك‬
‫وتتالشى من تلقاء ذاتـها‪ .‬فـهذه األخطاء في التأويل هي االنعكاس الطـبيعي لمـا فكرنـا فيــه مباشـرة أثنــاء القـراءة‬
‫وكنا نعتقد قبلها أننا على علم به‪ .‬إنـها تكشف في جملتها عن نفس البنية ونفس األســاس‪ .‬وبمــا أن هــذا الفكــر يقــوم‬
‫ضد "النـزعة اإلنسانية"‪ ،‬فقد ساد االعتقاد بأنه دفاع عن الال ـ إنســاني‪ ،‬وتمجيــد لالنــدفاع المتــوحش‪ .‬إذ أي شــيء‬
‫أكثر "منطقا" من هذا‪ ،‬وهو أن من يفضح النـزعة اإلنسانية ويقوم ضدها‪ ،‬لن يجد له من مخرج سوى الــدعوة إلى‬
‫البربريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪.‬‬
‫وبما أن هذا الفكر يقوم ضد "المنطق"‪ ،‬فقد ساد االعتقاد بأنــه إذ يتنــازل عن نجاعــة التفكــير‪ ،‬فإنــه يســتعيض عنــه‬
‫ضرورة بـهيمنةـ اعتباطية الغرائز واألهواء وبالتالي فهو يطالب بال "نزعة الالعقالنية" كواقـع‪ .‬إذ أي شيء أكثر‬
‫منطقـــــا من هـــــذا وهـــــو أن من يصـــــرح بأنـــــه ضـــــد مـــــاهو منطقي‪ ،‬إنمـــــا يـــــدافع عن الالمنطـــــق‪.‬‬
‫وبما أن هذا الفكر يقوم ضد "القيم" فقد اعتبر بكل برودة أنه فلسفة تتجرأ على جعل القيم العليــا لإلنســانية عرضــة‬
‫لالحتقار‪ .‬إذ أي شـيء أكــثر منطقـا من هــذا‪ ،‬وهــو أن الفكــر الــذي ينفي القيم‪ ،‬وجب بالضـرورة أن يصـرح بعــدم‬
‫وجود قيمة ألي شيء‪ .‬وبما أنه قد قيل عن كينونة اإلنسان بأنـها تكمن في "الوجود ـ في ـ العالم"‪ ،‬فقد اعتــبر ذلــك‬
‫اختزاال لـها في ماهية دنيويةـ محضة‪ .‬الشيء الذي يغرق الفلسفة في النـزعة الوضعية‪ .‬إذ أي شيء أكثر "منطقــا"‬
‫من هذا‪ ،‬وهو أن من يقر بعالمية كينونـة اإلنسان‪ ،‬إنما يقيم وزنا للدنيا نافيا بذلك اآلخرة‪ ،‬ورافضـا لكــل "تعــال"؟!‬
‫وبما أنه قد تمت اإلحالة إلى كلمة "نيتشه" عن "موت اإلله"‪ ،‬فقد اعتبر مثــل هــذا الموقــف نـــزعة الحاديــة‪ .‬إذ أي‬
‫شيء أكثر "منطقا" من هذا‪ ،‬وهو أن من جرب واختبر "موت اإلله" ال بد أن يكون ملحدا ؟!‬
‫وبما أن الفكر يقوم في كل ما أتينا على ذكره ضد كل ما تعتبره اإلنسانية ساميا ومقدسا‪ ،‬فقد ســاد االعتقــاد أن هــذه‬
‫الفلسفة ذات "نـزعة عدمية" هدامة وال مسؤولة‪ .‬إذ أي شيء أكـثر "منطقـا" من هــذا‪ ،‬وهــو أن من ينفي على هــذا‬
‫النحــو الوجــود الحــق من كــل شــيء‪ ،‬إنمــا ينحــاز إلى جــانب الالموجــود ويعلن العــدم المحض كمعــنى للواقــع؟!‬
‫ولكن ما الذي يحدث في حقيقة األمر؟ إن سمعنا يشنف بحــديث عن "نـــزعة إنســانية"‪ ،‬عن "منطــق"‪ ،‬عن "قيم"‪،‬‬
‫عن "عالم" وعن "هللا"‪ ،‬ثم عن نواقض لـهذه الكيانات‪ .‬إننا نتعرف فيهــا على مــا هــو إيجــابي ونأخــذها على أنـــها‬
‫الشيء اإليجابي‪ .‬وما قيل ضدها‪ ،‬أو تم على األقل تبنيهـ بإدعان ساذج ودون تمحيص يذكر‪ ،‬ينظر إليه بعجلــة على‬
‫أنه نفي لـها‪ ،‬منددين في هــذا النفي بالــ "ســلبي" باعتبــاره مــا هــو هــدام‪ .‬هــذا مــع أننــا في مكــان مــا من "الوجــود‬
‫والزمان"‪ ،‬تحدثنا صراحة عن "التقويض الفينومنولوجي"‪ .‬ولقد ساد االعتقاد انطالقا من العقل ومن هــذا المنطــق‬
‫الذي ما فتئ يعتدـ به‪ ،‬بأن ما ليس إيجابيا فهو سلبي يفضي إلى تحجيم العقل‪ .‬وبالتالي فهو يستحق أن يفضح وينــدد‬
‫به كانحالل وفساد‪ .‬هكذا يدفع االعتزاز المفرط بالـ "منطق" إلى التعجيل بضم كل ما يتعارض مــع خمــول الــرأي‬
‫المستقيل إلى خانة األضداد التي ينبغي التخلص منها‪ .‬فكل ما ال يمت بصلة لإليجابي المعـروف والمسـتحب‪ ،‬يلقى‬
‫به في خندق السلب المحض‪ .‬ذلك الخندق المعد سلفا للطعن في كل شيء والزج به في العدم لتكمــل بــذلك النـــزعة‬
‫العدمية‪.‬ـ إذ بـهذه الطريقة المنطقية في "التفكـير" يتم إغـراق كـل شـيء في نــزعة عدميــة بـنيت أساسـا بمسـاعدة‬
‫المنطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــق‪.‬‬
‫ولنا أن نسأل‪ :‬هل تقود المعارضة الــتي يرفعهــا فكــر مــا في وجــه الــرأي المعتــاد إلى النفي المحض وإلى الســلبي‬
‫بالضرورة ؟ إن هذا ال يحدث في حقيقة األمر (وفي هذه الحالة بشكل محتوم وحاسم‪ ،‬أي دونما مفــر باتجــاه شــيء‬
‫آخر)‪ ،‬إال إذا فرضنا مسبقا أن يكون هذا الرأي هو "اإليجابي"‪ ،‬وأنـه انطالقـا من هــذا "اإليـــجابي" يتقــرر مطلقـا‬
‫وبصفة سلبية في نفس الوقت‪ ،‬مجال االعتراضات التي بإمكانها أن تقوم ي مواجهته‪ .‬إن مثل هذا التصـرف يكثـــم‬
‫االمتناع عن تعريض ما قــدرنا مســبقا أنــه "إيجــابي" للنقــد‪ ،‬وكــذا الموقــف والمعارضــة اللــذان يعتقــد أنــه قــد نجـا‬
‫بواسطتهما‪ .‬فمن خالل اإلحالة المستمرة إلى ما هو "منطقي" نعطي االنطباع بأننا نسلك درب الفكـر‪ ،‬بيـد أننـا في‬
‫الحقيقة قد أنكرناه وتخلصنا منه‪ .‬يمكننا بقليل من الكلمات أن نقيم الدليل على أن معارضة الـ "نـزعة اإلنسانية" ال‬
‫تعــني بــأي حــال من األحــوال الــدفاع عمــا هــو ال ـ ـ إنســاني‪ ،‬وإنمــا تفتح على العكس من ذلــك مخــارج أخــرى‪.‬‬
‫إن الـ"منطق" ينظر إلى الفكـر على أنـه تمثـل للموجـود في وجـوده‪ .‬وهـذا الوجـود يعرضـه التمثـل على ذاتـه في‬
‫عمومية المفهوم‪ .‬ولكن‪ ،‬ماذا عن التفكير في الوجود نفسه؟ أي عن الفكر الذي يفكــر في حقيقــة الوجــود؟ لقــد كــان‬
‫هذا الفكر هو أول من أدرك الماهية األصلية للوغوس الذي ولــد ميتــا ومســتهلكا عنــد كــل من أفالطــون وأرســطو‬
‫مؤسس الـ "منطق"‪ .‬فأن نفكـر ضد الـ"منطق" ليس معناه أن نفتح نقاشا لصالح الالمنطـق‪ .‬بــل أن نعــود فقــط إلى‬
‫التفكير في اللوغوس وفي ماهيته كما تجلت للفكر في عصره األول‪ ،‬أي أن نتعاطى أخــيرا لتحمــل مشــقة اإلعــداد‬
‫لمثل هذا التفكير‪ .‬ماذا تجدي كل هذه األنساق المنطقية المهذارة إذا كــانت تنطلــق أوال وقبــل كــل شــيء من العمــل‬
‫على استبعاد طرح السؤال بصدد ماهية اللوغـوس‪ ،‬دون أن تكـون حـتى على علم بمـا تفعــل؟ وإذا شــئنا أن نعكس‬
‫وجهة هذه االنتقادات‪ ،‬وهذا شيء عقيم بكل تأكيد‪،‬ـ أمكننا أن نقول بمزيدـ من السدادة أيضا‪ ،‬بأن النـزعة الالعقالنية‬
‫من حيث هي رفض للعقل‪ ،‬تـهيمن بشـكل خفي ال يمكن الطعن فيـه‪ ،‬في سـيادة الـدفاع عن الــ "منطـق" بالضـبط‪،‬‬
‫مـادام هذا الـدفاع يعتقـد أنـه قـادر على القيـام بتأمـل في اللوغـوس وفي ماهيــة العقـل اللـذين يكمن فيهمـا أساسـه‪.‬‬
‫إن الفكــر الــذي يتعــارض مــع "القيم" ال يــدعي أبــدا بــأن كــل مــا نتحــدث عنــه من "قيم" وثقافــة" و"فن" و "علم‬
‫و"كرامة اإلنسان" و"العالم" و "هللا"‪ ،‬ال قيمة له‪ .‬وإنما األمر يتعلق فيه أوال باالعتراف أخيرا بأن عمليــة إضــفاء‬
‫قيمة على شيء ما هي بالضبط التي تجرد ما اعتقدنا أننا نســمو بــه على هــذا النحــو من كرامتــه‪ .‬وأعــني بــذلك أن‬
‫التقدير الزائد لشيء ما كقيمة له‪ ،‬ال يسمح بتداول مـا تم تقييمــه إال كموضــوع للتقــييم من طــرف اإلنســان‪ .‬لكن مــا‬
‫يكونه شيء ما في كينونته ال يستنفـد في توضيعه‪ ،‬السيما إذا كانت لـهذه الموضعة(‪ )6‬خاصية القيمة‪ .‬فكــل تقــييم‪،‬‬
‫حتى عندما يكون إيجابيا يكون عبارة عن تذويت (نسبة إلى الــذات)‪ .‬إنــه ال يــدع الموجــود يوجــد‪ ،‬بــل يجعــل منــه‬
‫موضوعا لمساوماته فقط‪ .‬وهذا تصرف غريب يسعى إلى إثبات موضــوعية القيم دون أن يكــون على علم بحقيقــة‬
‫ما يفعل‪ .‬فنحن عندما نصرح بأن هللا هو "أسمى قيمة" إنما نحط في الحقيقة من قيمته‪ .‬هنا كما هناك نجد أن الفكــر‬
‫المصوغ في شكل قيم هو أكبر قذف يمكنه أن يقال في حق الوجود‪ .‬أما عندما نفكــر ضــد القيم‪ ،‬فهــذا ال يعــني أننــا‬
‫ندعو بصخب كبير إلى غياب القيم وانتفاء الموجود‪ ،‬بل إلى ما يلي‪ :‬أمـام هـذا التــذويت الــذي يجعـل من الموجـود‬
‫مجرد موضوع‪ ،‬علينا أن نعمل على حمل نور حقيقة الوجود وانفتاحها أمام الفكر‪.‬‬
‫إن اإلحالة إلى "الوجود ـ في ـ العالم" كسمة أساسية إلنسانية اإلنسان اإلنساني ال تزعم أن اإلنـسان مجــرد ماهيــة‬
‫"دنيوية" بالمعنى المسيحي‪ .‬أي أنـها قد صدت عن سبيل هللا وانفصلت نـهائيا عن "التعالي"‪ .‬ونقصد بـهذه الكلمــة‬
‫ما سيكون واضحا عند تسميته ب "المتعـالي"‪ .‬وهذا "المتعالي" هو الموجود ما فــوق المحســوس‪ .‬إنــه هنــا بمثابــة‬
‫الموجود األكثر سموا بمعنى العلة األولى لكل موجود‪ .‬وهللا نفسه هو الذي فكر فيه هنا باعتباره هذه العلــة األولى‪.‬‬
‫أما كلمة "العالم" في عبارة "الوجـود ـ في ـ العالم" فال تشير مطلقا إلى الوجود األرضي في مقابـل الملكـوت‪ ،‬وال‬
‫حتى إلى "الدنيوي" في مقابل "األخروي"‪ .‬إن كلمة "عالم" في هذا التحديدـ ال تشير أبدا إلى موجود ما‪ ،‬وال حــتى‬
‫إلى مجـال معين للموجود‪ ،‬بـل إلى انفتـاح الوجـود‪ .‬فاإلنسـان يكـون‪ ،‬ويكـون إنسـانا بقـدر مـا ينوجـد‪ .‬إنـه يقيم في‬
‫االنخطاف نحو انفتاح الوجود‪ .‬هذا االنفتاح هو الوجود نفسه الذي يســتقبل من حيث هــو من يلقي‪ ،‬ماهيــة اإلنســان‬
‫بإلقاءها في الـ"هم"‪ .‬إن اإلنســان وقــد ألقي بــه على هــذا النحــو يقيم "في" انفتــاح الوجــود‪ .‬ومـــا "العــالم" إال نــور‬
‫الوجود وانفتاحه حيث اإلنسان غارق في قلب ماهيته الملقـاة‪ .‬الـ"وجود ـ في ـ العـالم" إذن يسـمي ماهيـة االنوجـاد‬
‫بالنظـر إلى البعد المنفتح والمستضاء الذي انطالقا منه وفيه تنتشر "أن" الـ (انــ) وجـاد(‪ .)7‬هكـذا يكـون "العـالم"‬
‫بشكل من األشكال‪ ،‬وإذا ما فكرنا فيه انطالقا من االنوجاد‪ ،‬هو بالضبط الماوراء (المفــارق) داخــل االنوجــاد ومن‬
‫أجله‪ .‬فاإلنسان ليس أبدا إنسانا قبـل كـل شـيء من جـانب العـالم كــ "ذات" حـتى نـدرك هـذه الكلمـة كــ "أنـا" وكـ‬
‫"نحن"‪ .‬إنه ليس أبدا مجرد ذات فقط تكون في نفس الوقت على عالقــة ثابتــة بموضوعاتـــها‪ ،‬على نحــو تكــون بــه‬
‫ماهيته مقيمة في العالقة‪ :‬ذات‪/‬موضوع‪ .‬بل إنه في ماهيته يكون منوجـدا أوال وقبل كل شــيء في انفتــاح الوجــود‪.‬‬
‫هذا التفتح وحده يضيء ويفسح ما "بين ـ الثنايا" (الوجود والموجود)‪ ،‬حيث يمكن لعالقــة مــا بين ذات وموضــوع‬
‫أن "تحصل"‪.‬‬
‫إن العبارة التالية‪" :‬ماهية اإلنسان تقوم على أسـاس الوجــود ــ في ــ العــالم"‪ ،‬ال تقــرر أبــدا بشـأن هــل مــا إذا كــان‬
‫اإلنسان بالمعنى الميتافزيقي‪/‬الالهوتي كائنا دنيويا أو ينتمي إلى العالم األخــروي‪ .‬لـــهذا السبـــب لم يتقــرر بعــد من‬
‫خالل هذا التحديد الوجودي لماهية اإلنسان شيئا بصدد "وجود هللا" أو "عدم وجوده"‪ ،‬وال أكثر من ذلــك بإمكانيــة‬
‫اإللـهة أو استحالتها‪ .‬إنه إذن لمن السخافة والتهافت في التحليل االدعاء بأن هذا التأويل لماهية اإلنسان انطالقا من‬
‫عالقتها بحقيقة الوجود‪ ،‬نـزعة الحادية‪ .‬فهذا التصنيف االعتباطي ال يكشف سوى عن نقص في االنتبــاه وضعـــف‬
‫في التركيز أثناء القراءة‪ .‬ولقد ورد "في ماهية السبب" ‪ ،1929‬ص ‪ .28‬ما يلي دون أن يكــثرت أحــد بــذلك ‪" :‬إن‬
‫التأويل االنطولوجي للكينونة ـ هنا (الدزاين) كـ"كينونة ــ في ــ العــالم" ال يقــرر شــيئا ســلبا أو إيجابــا عن إمكانيــة‬
‫وجود هللا‪ .‬لكن عرض التعالي وتوضيحه يمكنه بدون شـك أن يقدم لنا وألول مرة مفهوما كافيا عن الكينونة ــ هنــا‬
‫(الــدزاين)‪ ،‬بنــاء عليــه يمكننــا من اآلن فصــاعدا أن نتســاءل على المســتوى االنطولــوجي عن العالقــة بين اإللــه‬
‫والكينونة ـ هنا"‪ .‬فإذا كان التفكير اآلن في هــذه المســألة ضــيقا وســطحيا للغايــة كمــا العــادة‪ ،‬فــذلك مــا تصــرح بــه‬
‫المالحظة التالية ذاتـها ‪ :‬إن هذه الفلسفة ال تقرر هل ما إذا كانت مع أو ضــد وجــود هللا ؛ إنـــها تظــل مســتغرقة في‬
‫الالـ مباالة ؛ إن المسألة الدينيةـ ليست بالنسبة لـها ذات أهمية‪ ،‬وعليه فإن نـزعة الحياد هذه (والعبثيــة حــتى) تكــون‬
‫طعما للنـزعة العدمية‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬هل تدعو الفقرة الواردة أعاله إلى نـزعة الحياد ؟ لماذا تكون بعض الكلمات والحالة هذه‪ ،‬قد حددت وكتبت‬
‫بمفردها بحروف بارزة في الملحوظة ؟ لقد كانت الغاية من ذلك هي اإلشارة إلى أن الفكر الذي يفكــر انطالقــا من‬
‫السؤال بصدد حقيقة الوجود يتساءل بشكل أكــثر أصــالة ممــا تســتطيع الميتافزيقــا القيــام بــه‪ .‬إذ انطالقــا من حقيقــة‬
‫الوجود هذه تسمح لنا ماهية المقدس بالتفكير فيها‪ .‬كما ال يمكننا التفكــير في ماهيــة األلوهيــة إال انطالقــا من ماهيــة‬
‫المقدس‪ .‬وال يمكننا التفكير والحديث عما تسميه كلمة "هللا" إال انطالقا من ماهية األلوهية (القداسة)‪ .‬أال ينبغي لنــا‬
‫والحالة هذه‪ ،‬أن ندرك بعناية جميع هذه الكلمات ونتمكن من اإلصغاء لـها‪ ،‬إذ أردنا أن نكون من حيث نحن بشــر‪،‬‬
‫أي من حيث نحن كائنات منوجدة‪ ،‬في مسـتوى اختبـار العالقـة بين اإللـه واإلنسـان ؟ كيـف يتمكن إنسـان التـاريخ‬
‫الراهن للعالم ولو من التساؤل عما إذا كان اإلله يقترب منه أو يبتعدـ عنه‪ ،‬مادام يهمل تجنيدـ فكره قبل كل شيء في‬
‫البعدـ الذي بداخله وحده فقط‪ ،‬يمكن لـهذا السؤال أن يطرح ؟ هذا البعد الذي هو بعد المقــدس‪ ،‬يظــل بمــا هــو كــذلك‬
‫منغلقا طالمـا أن تفتح الوجـود لم يســتنر ولم يقــترب في نـوره وانفتاحــه من اإلنسـان‪ .‬ولعـل السـمة المهيمنـةـ لــهذا‬
‫العصر من العالم تكمن في انغالق بعد ما هو حميد‪،‬ـ وفي هذا قد يكمن الضــرر الوحيــد‪ .‬ومــع ذلــك فنحن ال نقصــد‬
‫مطلقا من خالل هذه المالحظة أن الفكـر الذي يؤشر على حقيقة الوجود باعتبارها ما يجب التفكــير فيـــه‪ ،‬قــد قــرر‬
‫االنحياز إلى جانب اإليـمان‪ .‬إنه ال يستطيع أن يكون مؤمنا مثلمـــا ال يسـتطيع أن يكــون ملحــدا‪ .‬وهـذا ليس مـــرده‬
‫إلى موقف الحيــاد‪ ،‬بــل إلى كونــه يأخــذ بعين االعتبــار الحــدود الثابتــة الــتي ال يمكن للفكـــر من حيث هــو فكــر أن‬
‫يتجاوزها‪ .‬وهو ال يستطيع أن يتجاوزها بفعل هذا نفسـه الذي يقدم له باعتباره ما يجب التفكير فيه‪ ،‬أال وهو حقيقــة‬
‫الوجود‪ .‬وعندما يتشبت الفكر بمهمته هذه‪ ،‬فإنه يوجه لإلنسان في هذا اللحظة من القــدر العــالمي‪ ،‬الــدعوة ليقيم في‬
‫البعدـ األصلي إلقامته التاريخية‪ .‬وبقوله لحقيقـة الوجود على هذا النحو‪ ،‬يكون الفكر قد عاد إلى ما هو أكــثر أهميــة‬
‫من كل القيم ومن كل موجود‪ .‬فال يتجاوز الميتافزيقا بالقفز عليها‪ ،‬أي بالصعود عاليــا إلى حيث ال نـدري من أجـل‬
‫إكمالهــا‪ ،‬وإنمــا بــالنزول إلى حــد االقــتراب ممــا هــو أقــرب‪ .‬وإن الــنزول ألصــعب وأشــد خطــورة من الصــعود‪،‬‬
‫خصوصا هناك حيث اإلنسان قدتاه قي ارتقائه إلى الذاتية‪ :‬إنه يقود اإلنسان اإلنساني إلى فقر انوجاده حيث يغــادر‬
‫مجــال اإلنســان الحيــواني للميتافزيقــا‪ .‬وهــذا المجــال هــو الــذي تشــكل ســيادته األســاس البعيـدـ والالمباشــر لعمــاء‬
‫واعتباطية ما نحدده باعتباره نـزعة بيولوجية‪ .‬وأيضا لما نعرفه تحت اسم‪ :‬البراغماتية (النفعية)‪ .‬ذلــك أن التفكــير‬
‫في حقيقة الوجود يعني في نفس الوقت التفكير في إنسانية اإلنسان اإلنساني‪ .‬فالمهم إذن هو أن تكون اإلنســانية في‬
‫خدمة حقيقة الوجود من دون نـزعة إنسانية بالمعنى الميتافيزيقي‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬إذا كانت اإلنسانية تبدو بالنسبة لفكر الوجود ضرورية إلى هذا الحد‪ ،‬أال يجب أن تكتمل "االنطولوجيا" بالـ‬
‫"أخالق"؟ أليس المجهود الذي تعبرون عنه في هذه الجملة والحالة هذه‪ ،‬من األهمية بمكان‪":‬إن ما أسعى للقيام بــه‬
‫منذ زمن بعيد هو التحديد الدقيق للعالقة بين االنطولوجيا وإمكانية األخالق"؟ لقد سبق أن سألني صديق شــاب ولم‬
‫يكن قد مضى عن صدور "الوجود والزمان" إال وقت وجيز‪" :‬مــتى تكتبــون في األخالق" والحــق أن هنــاك حيث‬
‫ماهية اإلنسان قد تم التفكير فيها بشــكل جـوهري جـــدا‪ ،‬أي انطالقــا من الســؤال بصــدد حقيقــة الوجـود‪ ،‬وحيث أن‬
‫اإلنسان لم ينظر إليه مع ذلك كمركز للموجود‪ ،‬تظهــر الحاجــة الملحــة إلى بالغ يتلــوه وإلى قواعـــد توضــح كيــف‬
‫ينبغي لإلنسان المجرب انطالقا من انوجـاد الوجــود أن يعيش انسـجاما مــع قـدره‪ .‬فبقــدر مـا يتنــامى االضـطراب‬
‫الظاهر في اإلنسـان والخفي منـه متجـاوزا كـل المقـاييس‪ ،‬بقـدر مـا تـدعو الحاجـة إلى األخالق ضـرورة تحقيقهـا‬
‫بإلحاح كبير‪ .‬والواجب أن نوجه عنايتنا واهتمامنا لمؤسسة الربط األخالقي هذه‪ ،‬خصوصا في زمن لم يعد فيه من‬
‫الممكن إلنسان التقنية الواقع تحت رحمة الكيان ـ الجماعي‪ ،‬أن يبلغ استقرارا مضمونا إال بتجميع وتنسيق مجموع‬
‫تصاميمه وممارساته انسجاما مع هذه التقنية‪.‬‬
‫كيف لنا أن نتجاهل هذه الفاقة ؟ أال تجب مراعاة وتقويــة الروابــط الموجــودة‪ ،‬حــتى وإن كــانت ال تضــمن تماســك‬
‫ماهية اإلنسان إال بشكل ضئيل جدا وفي الظرف الراهن فقط؟ بلى‪ ،‬هذا ما يجب بكل تأكيد‪ .‬ولكن‪ ،‬هل هذه الحاجة‬
‫رغم كل هذا‪ ،‬تعفي الفكر من استذكار ما بقي له مبدئيا أن يفكر فيه‪ ،‬والذي هو‪ ،‬باعتباره الوجــود وحــتى قبــل كــل‬
‫موجود‪ ،‬الضمانة والحقيقة؟ هل مازال بإمكان الفكر أن يتغاضى عن التفكير في الوجود بعد أن كشف هذا األخــير‬
‫عن نفســه في الــوقت الــراهن للعــالم‪ ،‬عــبر اهــتزاز كــل موجــود‪ ،‬وبعــد أن ظــل طي النســيان لــزمن طويــل ؟‬
‫ولكن‪ ،‬إذا كانت "االنطولوجيا" تفصح‪ ،‬مثلها في ذلك مثل "األخالق" وكل فكر وليــد المــذاهب عن عــدم جــدواها‪،‬‬
‫وترتب عن هذا أن صار فكرنا أكثر مذهبيــة‪ ،‬فمــاذا ســيكون مصــير الســؤال عن العالقـــة بين هــذين الفــرعين في‬
‫الفلســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفة؟‬
‫لقد ظهرت "األخالق" ألول مرة مع بداية ظهور "المنطق" و"الفزياء" في مدرسة أفالطون‪ .‬فكان أن نشــأت هــذه‬
‫الفروع في العصـر الذي أصبح فيه الفكر "فلسفة"‪ ،‬وأصبحت الفلسفة (اإلبيســتيمي) والعلم كــذلك مهمــة للتــدريس‬
‫وعمال مدرســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيا‪.‬‬
‫وقد مكنت هذه السيرورة التي فتحتها الفلسفة بهذا المعنى من نشأة العلم فكانت وباألعلى الفكــر وتقويضــا لــه‪ .‬قبــل‬
‫هذا العصر لم يكن المفكرون يعرفــون الــ "منطــق" أو الــ "أخالق" أو الــ "فزيــاء"‪ .‬ومــع ذلــك لم يكن فكــرهم ال‬
‫منطقيا أو ال أخالقيا‪ ،‬بل فكروا في الفيزيس بعمق وسعة‪ .‬وهـو الشـيء الـذي لم يكن أبــدا في مقـدور أيــة "فزيـاء"‬
‫الحقة أن تقـوم بـه‪ .‬وإذا جـاز لنـا القيــام بـــهذه المقاربـة قلنـا‪ :‬إن مسـرحيات "سـوفوكلس" تتضـمن في نصوصــها‬
‫"االيتوس" بشكل أكثر أصالة من دروس أرسـطو حـول "األخالق"‪ .‬إن عبـارة وجـيزة "لــهرقليطس" مكونـة من‬
‫ثالث كلمات‪ ،‬تعبر عن شيء أكثر بساطة بحيث تتضح من خاللـها ماهية االيتوس (األخالق) مباشرة‪ .‬هذه العبارة‬
‫تقول ما يترجم عادة بما يلي‪" :‬الخاصية األساسية لإلنســان هي شـيطانه" (الشــذرة‪ ،)119 ،‬هـذه الترجمـة تفصـح‬
‫عن طريقة حديثة في التفكير ليست أبدا إغريقيــة‪ ،‬ألن (االيتــوس) تعــني‪ :‬اإلقامــة ومكــان الســكن‪ .‬إنـــها تشــير إلى‬
‫المنطقة المنفتحة حيث يقيم اإلنسان‪ .‬هذا المنفتح الذي يقيـم فيه اإلنسان يعمــل على إظهــار مــا يتقــدم باتجــاه ماهيــة‬
‫هـذا األخير ليقيم في هذا الحصول على مقربة منه‪ .‬إن مأوى اإلنسان يحتوي ويحرس على مجيء مــا عليــه ينتمي‬
‫اإلنسان في ماهيته‪ .‬وتبعا لكلمــة هــيرقلطس (‪ )Demon‬فــإن هــذا الــذي تنتمي إليــه ماهيــة اإلنســان هــو اإللــه‪ .‬إن‬
‫الشذرة تقول‪" :‬اإلنسان يقيم في القرب من هللا بقدر ما يكون إنسانا"‪ .‬والحكاية التالية الــتي أوردهــا "أرســطو"(‪)8‬‬
‫تسير في نفس االتجاه‪" :‬من المأثور عن "هرقليطس" هذه الكلمـة التي قالـها لبعض الغرباء الذين جــاؤوا لزيارتــه‬
‫في محـل إقامته‪ ،‬ولما اقتربوا منه وجدوه يستدفئ بالقرب من فرن لطهي الخبز‪ .‬وقد كانت دهشتهم كبيرة لما رأوه‬
‫على هذا الحال‪ ،‬فتســمروا في مكــانهم مــترددين بين اإلقبــال واألدبــار‪ ،‬لكن هــرقليطس الــذي أدرك مــا ألم بهم من‬
‫دهشــة وحــيرة شــجعهم على اإلقــدام ودعــاهم إلى الــدخول بالكلمــات التاليــة‪" :‬هنــا أيضــا اإللـــهة حاضــرة‪".‬‬
‫هذه النادرة واضحة من تلقاء ذاتـها وال تحتاج إلى تعليق‪ .‬ومع ذلك لنتوقف عنــدها قليال‪ :‬لقــد أصــيب وفــد الــزوار‬
‫الغرباء الذين جاؤوا بدافع حب االستطالع‪ ،‬بالخيبة والحيرة بمجرد أن القـوا نظـرة على محــل إقامـة المفكـر‪ .‬لقـد‬
‫كانوا يعتقدون أنـهم سيجدون هذا األخير في ظروف تتسم‪ ،‬إذ تتعارض مـع مجـرى الحيـاة العـادي للنـاس‪ ،‬بطـابع‬
‫الفرادة والندرة‪ .‬ومن تم بالتشويق‪ .‬الشيء الذي قد يمكنهم من استخالص مادة من هذه الزيـارة لـثرثرة ولـو لبعض‬
‫الوقت‪ .‬لقد كان هؤالء الغـرباء الذين أرادوا زيارة المفكــر في محــل إقامتــه‪ ،‬يعتقــدون أنهم ســيفاجئونه في اللحظــة‬
‫التي يكون فيها بالضبط غارقا في تأمل عميق يفكر‪ .‬إن رغبة الزوار هي أن يعيشوا تلك اللحظــة‪ ،‬ليس ألن الفكــر‬
‫قد استهواهم قليال‪ ،‬ولكن فقط ليستطيعوا القول بأنـهم رأوا وسمعوا شخصا اقل ما يقال عنه إنه مفكر‪ .‬لكن بدل هذا‬
‫وجد هؤالء الفضوليون "هرقليطس" يجلس بالقرب من فرن‪ .‬ها هنــا مكــان عـــادي ال يثــير االنتبــاه‪ .‬إنــه بالضــبط‬
‫المكان الذي يطهى فيه الخبز‪ .‬الشيء الذي لم يكن يقوم به "هرقليطس" لألسف‪ ،‬بل ارتاد المكــان من أجــل التدفئــة‬
‫فقط‪ .‬وبالتالي فقد فضح في هذا المكان العادي جدا كل ما في حياتــه من فاقــة‪ .‬فمشــهد مفكــر أحس بــالبرد ال يــدعو‬
‫لالهتمام إال قليال‪ ،‬بحيث أن الفضوليين المحبطين فقدوا الرغبة في التقدم إلى األمام بمجرد أن شاهـــدوه على ذلــك‬
‫الحال‪ .‬ماذا يصنعون في هذا المكــان مـادام هــذا الحــدث التافــه والــذي ال رونــق فيــه لشـخص أحس بــالبرد وجلس‬
‫يستدفئ بالقرب من فرن‪ ،‬يستطيع كل واحد أن يشهده في أية لحظة عنده في مسكنه الخاص؟ أما "هرقليطس" فقــد‬
‫قرأ في وجودهم هذا الفضول المحبــط‪ .‬إنــه يعــرف أن حرمــان الحشــد من إثــارة منتظــرة كــاف لــرد هــؤالء الــذين‬
‫وصلوا للتو على أعقابـهم‪ .‬لذلك أعاد لهم الشجاعة‪ ،‬ودعاهم صراحة للدخول رغم كل شــيء بهــذه الكلمــات‪" :‬هنــا‬
‫أيضا اآللـهة حاضرة‪".‬‬
‫إن هذا الكالم يلقي بضوء جديد على إقامة (إيتوس) المفكر وعمله‪ .‬أما فيما يتعلق بمعرفة هــل مــا إذا كــان الــزوار‬
‫قد فهموه في الحيـن‪ ،‬أو حتى أدركوه فقط مبصرين كل شيء عندئذ على ضوء هذا النور الجديـد بخالف ما كــانوا‬
‫يعتقدون‪ ،‬فـهذا ماال تقوله الحكاية‪ .‬ولكـن‪ ،‬أن تكون هذه القصة قد رويت إلى حد أنـها انتقلت إلينا نحن اليوم‪ ،‬فـهذا‬
‫يرجع إلى كون ما تحكي عنه يصدر عن االنسجام الخاص الذي يسم هذا المفكر وحياته‪" :‬هنا أيضــا" بــالقرب من‬
‫الفرن‪ ،‬في هذا المكان المتواضـع حيث كل شيء وكل ظرف وكل تصرف وكل فكــرة هـــي بـــمثابة أشــياء مألوفــة‬
‫وعادية‪ ،‬أي معهودة ومعتادة‪" ،‬في هذا المكان نفسـه"‪ ،‬في هذا العالم المعهود‪ ،‬إنه بالضبط المكان الذي تكون "فيه‬
‫اآللـهة حاضرة"‪" .‬إن اإلقامة المعهــودة والمألوفـــة" ــ يقــول "هــيرقليطس" ــ هي المجــال المنفتح لحضــور اإللــه‬
‫(المقدس) والعجائبي بالنسبة لإلنسان"‪.‬‬
‫إذا كان إذن مصطلح "أخالق"‪ ،‬انسجاما مع المعنى األساسي لكلمـة (ايتـوس)‪ ،‬يـدل على أنـه كتخصـص عليـه أن‬
‫يفكر في إقامة اإلنسان‪ ،‬أمكننا القول بأن هذا الفكر الذي يفكر في حقيقة الوجود باعتباره العنصر األصلي لإلنسان‬
‫من حيث هو منوجد‪ ،‬هو بمثابة األخالق األصليـة‪ .‬غير أن هــذا الفكــر ليس مــع ذلــك مجــرد أخـــالق نظــرا لكونــه‬
‫عبـارة عن انطولوجيا في حد ذاته‪ ،‬ذلك أن االنطولوجيا ال تفكر أبدا إال في الموجود في كينونته (وجوده)‪ .‬والحال‬
‫أنـــها تظــل بال أســاس طالمــا ال يتم التفكــير في حقيقــة الوجــود‪ .‬لـــهذا الســبب تعين الفكــر الــذي رام في "الوجــود‬
‫والزمان" التفكير باتجاه حقيقة الوجود كانطولوجيا أساسية‪ .‬فـهذه األخيرة ترقى إلى األساس الجوهري الــذي عنــه‬
‫يصدر التفكير في حقيقة الوجود‪ .‬وقد أمكن لـــهذا الفكــر من خالل تقديمــه لســؤال آخـر أن ينفلت من "انطولوجيـا"‬
‫الميتافزيقا‪( ،‬بما فيها تلك التي شيدها "كانط")‪ .‬لكن "االنطولوجيا" سواء كانت متعاليــة أو قبــل ــ نقديــة‪ ،‬ال تســقط‬
‫تحت ضربات النقد ألنـها ال تفكر في وجود الموجود وبالتالي تختزل الوجـود في المفهوم‪ ،‬بل لكونـها ال تفكــر في‬
‫وجود الموجود وتجهل بذلك أنـها فكر أكثر نجاعة من الفكر المفهومي‪ ،‬إن الفكر الذي يحاول التفكير باتجاه حقيقة‬
‫الوجود ال يحمل إلى اللغة‪ ،‬نظرا لصعوبة مقاربته األولى إال جزءا ضئيال من هــذا البعـــد اآلخــر‪ .‬إن اللغــة نفســها‬
‫تفسد إذا لم ترق إلى دعم مساعدة الرؤية الفنومنولوجية‪ ،‬مع رفضها االدعاء المفـرط للــ "علم" أو الــ "بحث"‪ .‬إال‬
‫أنه لـجعل هذه المحاولة في التفكــير بينــة ومفهومــة في نفس الــوقت داخــل الفلســفة القائمــة‪ ،‬ينبغي أن نتحــدث أوال‬
‫انطالقا من أفق هذه الفلسفة‪ ،‬ونستخدم المصطلحات التي من صلبها‪.‬‬
‫لقد علمتني التجربة مع مرور الزمن أن هذه المصطلحات نفسها تصبح مباشرة وحتما مضـللة‪ .‬ذلــك أن القـارئ ال‬
‫يتجشأ عناء التفكير فيها وفي اللسان المفهومي انطالقا من الواقع الذي ينبغي التفكير فيــه أوال‪ ،‬بـــل إن هــذا الواقــع‬
‫ذاته قد تم تمثله انطالقا من هذه المصطلحات وقـد حـافظت على داللتهــا المألوفــة‪ .‬إن الفكـر الــذي يطـرح السـؤال‬
‫بصدد حقيقة الوجود ليحدد بذلك اإلقامــة الماهويــة لإلنسـان انطالقـا من الوجـود وباتجاهـه‪ ،‬الهــو بـأخالق والهـو‬
‫بانطولوجيا‪ .‬لـهذا السبب لن يكون من اآلن فصاعدا للسؤال عن العالقة بين هذين التخصصين في هذا المجــال أي‬
‫أســاس‪ .‬هــذا في حين أن ســؤالكم ســيظل وقــد فكــر فيــه بأصــالة أكــبر محافظــا على معــنى ووزن أساســيين‪.‬‬
‫يجب علينا بالفعل أن نتساءل‪ :‬هل هذا الفكر الذي إذ يفكر في حقيقة الوجود يحدد ماهية اإلنســان كانوجــاد انطالقــا‬
‫من انتماء هذا األخير للوجود‪ ،‬يظل مجرد تمثل نظري للوجود واإلنسان‪ ،‬أم أن بإمكاننا أن نستخلص من مثل هذه‬
‫المعرفة إشارات صالحة للحياة العملية وقابلة للتوظيف فيها ؟‬
‫الجواب هو كالتالي‪ :‬إن هذا الفكر ليس بنظري وال بعملي‪ ،‬إنــه يحــدث قبــل هــذا التميــيز‪ .‬ومـا دام يوجــد على هــذا‬
‫النحو فهو فكر للوجود في الوجـود وال شـيء غــير ذلــك‪ .‬فهــو إذ ينتمي للوجــود ألنــه من ألقى بــه ألجــل الحراســة‬
‫الصادقة لحقيقتـه ومن طالب به من أجل هذه الحراسة‪ ،‬إنـما يفكر في الوجود‪ .‬ومثل هذا الفكر ال نتيجة له‪ .‬ال ينتج‬
‫أي أثر‪ ،‬بل يكتفـي بماهيته في اللحظة التي هو فيها‪ .‬لكنه ال يكون إال بالقدر الذي يقول فيـه ما عليه قوله‪ .‬وفي كل‬
‫لحظة تاريخية ليست هناك دائما إال عبارة واحدة مما على الفكر قوله تكـون من نفس طبيعـة مـا يجب عليـه قولـه‪.‬‬
‫هذا االقتضاء الذي يربط هذه العبارة بـما لـها وعليها قوله هو باألساس أكثر سموا وتفوقا من صالبة العلوم‪ ،‬ألنــه‬
‫أكثر حرية منها‪ ،‬مادام يدع الوجود يوجد (بما هو عليه في طواعية حصوله)‪.‬‬
‫إن الفكر يعمل على بناء مسكن الوجـود‪ ،‬مسـكن يفـرض الوجـود من خاللــه من حيث هـو من يجمــع‪ ،‬على ماهيــة‬
‫اإلنسان أن تقيم كل مـرة في حقيقة الوجود انسـجاما مـع القـدر‪ .‬هـذا السـكن (المـأوى) أو هـذه اإلقامــة هي ماهيـة‬
‫"الوجــود ــ في ــ العــالم"‪( .‬الوجــود والزمــان‪ ،‬ص ‪ .)54‬فاإلشــارة الــواردة في هــذا المقطــع عن "الوجــود ــ في"‬
‫باعتباره "مأوى" و "إقامة"‪ ،‬ليس لعبة اشتقاقية فارغة‪ .‬وكذلك األمر بالنســبة لإلحالــة في (محاضــرة ‪ )1936‬إلى‬
‫كالم "هولـــــــــدرلين"‪" :‬باســـــــــتحقاق أكـــــــــبر يقيم اإلنســـــــــان شـــــــــعريا على هـــــــــذه األرض"(‪.)9‬‬
‫إن هذه اإلحالة لم تكن أبدا تتويجا لفكر يبحث وقد غادر العلم‪ ،‬عن خالصه في الشعر‪ .‬فالحديث عن مسكن الوجود‬
‫ّ‬
‫"الـبيت‪ .‬ذلــك أن العكس هـو الممكن‪ .‬أي أنــه انطالقـا من ماهيــة الوجـود‬ ‫ال يعني أبدا أننا نستعير للوجـود صـورة‬
‫مفكرا فيها بما هي عليه‪ ،‬يمكننا في يوم من األيام أن نفكـر فيما يكونه "المسكن" واإلقامة"‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫إن الفكر ال يبتدعـ أبدا مسكن الوجود‪ ،‬وإنمـا يقــود انوجـاد اإلنسـان التـاريخي‪ ،‬أي إنسـانية اإلنسـان اإلنسـاني‪ ،‬إلى‬
‫المجال الذي يشرق فيه فجر الحميد‪ .‬لكن الحميد ال يتجلى في نور الوجود وانفتاحه إال وبصحبته الخــبيث‪ .‬وماهيــة‬
‫الخبيث ال تكمن في المكر المحض لممارسة اإلنسان‪ ،‬بل في كيد االندفاع‪ .‬كالهما ‪ :‬الحميد واالندفاع (الخــبيث) ال‬
‫يمكنهما بأي حال أن يبســطا ماهيتهمــا في الوجــود إال من حيث إن هــذا األخــير هــو مجـال الصــراع‪ ،‬فيــه يحتجب‬
‫ويختفي مصـدر الحصول الماهوي لالنعدام‪ .‬وما يُـــع ِدم يتجلى باعتبــاره مــا يشــتمل في ذاتــه على الســلب والنفي ‪:‬‬
‫ليس…(‪ .)10‬هذا السلب والنفي يمكننا أن نستشفه في كلمة "ال"‪ .‬فكل أدوات النفي‪ ،‬أي السلب ال تتأتى من قــول ـ‬
‫الـ النافية‪ .‬ألن كل "ال" ال تتطـابق مع تجلي القدرة التي للذاتية نفسها أن تطرحها وتظل سماحا بوجــود االنوجــاد‪،‬‬
‫هي بمثابة استجابة لمطلب االنعدام الذي اتضح‪ .‬فكل "ال" ليسـت إال إقـرارا وتصـريحا بوجـود السـلب (ليس…)‪.‬‬
‫وكل إقرار هو بمثابة اعـتراف‪ .‬هـذا االعـتراف يسـمح لمـا يتعلـق األمـر بـه [لغـة] بـالمجيء إلى ذاتـه‪ .‬ولقـد سـاد‬
‫االعتقاد بأن االنعدام ال يمكننا العثور عليه في الموجود ذاته‪ .‬وهذا صــحيح طالمــا أننــا نبحث عن المعــدوم كشــيء‬
‫موجود‪ ،‬أي كنمطية لنظام الموجود الذي يؤثر في الموجود‪ .‬لكننا بهذه الطريقــة في البحث ال نكــون حقيقــة بصــدد‬
‫البحث عن المعدوم‪ .‬الوجود نفسه ليس كيفيـة لـهذا النظام الـذي يمكننـا أن نستنتجــه في الموجـود‪ ،‬ومـع ذلـك فهـو‬
‫أكثر وجودا من أي موجـود‪ .‬ومادام االنعدام يبسط ماهيته في الوجود ذاتــه‪ ،‬فليس بإمكاننــا أبــدا أن ندركـــه كشــيء‬
‫موجود يؤثر في الموجود‪ .‬إال أن اإلحالة إلى هذه االستحالة ال تبرهن في شيء وبــأي حــال من األحــوال‪ ،‬على أن‬
‫مـصدر حصول السلب لغة يتأتى من القول ـ ال‪ .‬فمثل هذا البرهــان ال يبــدو أنــه محـــق إال إذا كنــا ننظــر للموجــود‬
‫على أنه الواقع الموضوعي للذاتية‪ .‬يستنبط إذن من هذا الخيــار (الحــيرة) أن كــل أســاليب النفي الــتي تصــاغ لغــة‪،‬‬
‫مادامت ال تتجلـى أبدا كشيء موضوعي‪ ،‬عليها بدون منازع أن تكون من إنتاج فعل الذات‪ ..‬أمــا فيمــا يتعلــق اآلن‬
‫بمعرفة هل ما إذا كان قول ـ الهو الذي يضـع كل صفة للسلب كمجــرد موضــوع للفكــر‪ ،‬أو أن االنعــدام ذاتــه هــو‬
‫الذي يطالب قبل كل شيء بـ‪" :‬ال" باعتبارها ما يمكن قوله في إطار السماح بوجود الموجود‪ ،‬فــإن تــأمال ذاتيــا في‬
‫الفكر الذي وضع نفسه مسبقا كذاتية ال يمكنه بكل تأكيد أن يقـرر بصدد هذا‪ .‬إن مثل هذا التفكير لن يتمكن بعــد من‬
‫الوصول إلى البعد الذي بداخله يمكن لـهذا السؤال أن يطرح كما ينبغي‪ .‬بقي لنا أن نتساءل‪ :‬إذا افترضــنا أن الفكــر‬
‫ينتمي لالنوجاد‪ ،‬أال تكون كل "ال" وكل "نعم" بالنظر إلى حقيقة الوجود منوجدة مسبقا؟ إذا كان األمر كــذلك فهــذا‬
‫معناه أن "نعم" و "ال" هنـا من صميم حقيقة الوجود‪ ،‬إليه يصغيان وإيــاه يخــدمان‪ .‬وبمــا أن وجودهمــا من صـميم‬
‫هذه التبعية‪ ،‬فليس بإمكانـهما أبدا أن يضعا من تلقاء ذاتـهما ما إليه ينتميان‪.‬‬
‫إن االنعدام من صميم ماهية الوجود نفسه‪ ،‬فيها يبســط ماهيتــه ال في كينونــة اإلنســان الــتي هي كينونــة ــ هنــا‪ ،‬أي‬
‫"وجود ـ في ـ العالم"‪ .‬وإذا كنا ننظر إليه خطأ بخالف ذلك فألننا نفكر في هذه الكينونة ـ هنا كذاتيةـ لألنا ـ المفكــرة‬
‫(للكوجيطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــو)‪.‬‬
‫إذا كانت الكينونة ـ هنا تنفي وتسلب وتعدم فهذا ال يرجع أبدا إلى كون اإلنسان هو من ينجز هذا العـدم بفعـل كونـه‬
‫ذاتا‪ ،‬بل ألن ما يخـول لـها القيام بذلك باعتبارها الماهية التي في قلبها ينوجد اإلنسان‪ ،‬هو كونـها من صميم ماهيــة‬
‫الوجود‪ ،‬فالتعديم من فعل الوجود بما هـو كذلك‪ .‬لـهذا السبب تجلى السلب في المثالية المطلقة عند كل من "هيغل"‬
‫و "شيلنج" باعتباره ما يحصـل في ماهيــة الوجــود كنفي للنفي‪ .‬إال أن الوجــود قــد فكــر فيــه آنــذاك بمعــنى الحقيقــة‬
‫المطلقة باعتبارها إرادة ال مشروطة ترغب في ذاتـها‪ ،‬وترغب فيها كإرادة للمعرفة والحب‪ .‬في هذه اإلرادة كـــان‬
‫الوجود من حيث هو إرادة اقتدار ما يزال محتجبا‪ .‬ال يمكننا بأي حال من األحوال أن نفحص هنا لماذا كان الســلب‬
‫في الذاتية المطلقة "جدليا"‪ ،‬ولماذا ظل في نفس الوقت النفي (التعديم) الذي حمله إلينا الجــدل مســتترا في ماهيتــه‪.‬‬
‫إن ما ينفي ويسلب ويعدم في الوجود هو ماهية ما ادعوه بالعدم أو (الالـ شيء)‪ .‬لـهذا السبب كان الفكر الذي يفكــر‬
‫في الوجود يفكر في العدم كذلك‪ .‬وحده الوجود يخول للحميد ارتقاءه للنعمة واللطف‪ ،‬ولالندفاع والتهور (الخــبيث)‬
‫ارتماءه باتجاه اإلفالس والخسران‪.‬‬
‫بقدر ما ينتمي اإلنسان المنوجد في حقيقة الوجود إلى الوجود‪ ،‬بقدر ما يمكن أن يصــدر عن الوجــود ذلــك التكليــف‬
‫بالفرائض التـي ينبغي أن تصبح بالنســبة لإلنسـان ضـوابط وقــوانين‪ .‬والتكليــف باللســان اإلغــريقي هــو (نيمــون)‪.‬‬
‫والناموس ليس فقط مجرد قانون(‪ ،)11‬بل إنه أكثر من ذلك التكليف المتستر في قرار الوجود‪ .‬وحده هــذا التكليــف‬
‫يمكن من حمل اإلنسان إلى الوجود وإلزامه به‪ .‬ووحده هذا اإليعاز واألمر يســمح بالحمــل والربــط‪ .‬في حين تظــل‬
‫كل القوانين مجرد نتاج للعقل البشري‪ .‬إن ما هو أكثر جوهرية من مؤسسة القوانين هو اكتشاف اإلنســان لمــواطن‬
‫اإلقامة بالنظر إلى حقيقـة الوجود‪ .‬وحدها هذه اإلقامة تخول تجربة ما يوثق الروابــط‪ ،‬ذلــك أن حقيقــة الوجــود هي‬
‫التي تصنع هبة التماسك في كل عروة وثقى‪ .‬إن كلمة‪( :‬هالت) (قف) في اللغة األلمانية تعني‪" :‬حراســة" (انتبــاه)‪.‬‬
‫فالوجود هو الحراسة التي تشتمل في حقيقتها على رعاية اإلنسان في ماهيته االنوجادية‪ ،‬بحيث تقود االنوجـاد إلى‬
‫مأواه في اللغة‪ .‬هذا ما يجعل اللغة مسكنا للوجود ومأوى لماهية اإلنسـان في نفس الــوقت‪ .‬ولــو أنـــها لم تكن كــذلك‬
‫لما أمكن للبشر ولإلنسانيات التاريخية أن تغدو بال مأوى في لسانـها الخاص الذي أصبح بالنسبة لـها حجــرة قيــادة‬
‫إلدارة دسائسها‪.‬‬
‫لكن في أية عالقة يتموقع فكر الوجود بالموازاة مع التصرف النظري والعملي؟ إن هذا الفكر يسمو على كل تأمــل‬
‫ألنه يهتم بالنور الذي فيه وحده يمكن لرؤية ما أن تقيم وتتصرف كنظرية‪ .‬إنه يكــون شــديد االهتمــام واالنتبــاه إلى‬
‫نور الوجود وانفتاحه عندما يدرج قوله للوجود في اللغة التي هي لغة مأوى االنوجاد‪ .‬هكذا يكون الفكر ذاتــه عمال‬
‫وممارسة‪ .‬لكنه عمل يتفوق دفعة واحدة عن كل براكسيس‪ .‬إن الفكر أرقى من كل فعل وإنتــاج‪ ،‬وهــذا ليس راجعــا‬
‫إلى عظمة ما يحققه أو إلى النتائج التـي تترتب عنه‪ ،‬وإنما إلى عدم داللة فعل انجازه الذي ال نتيجة له‪ .‬فالفكر فيما‬
‫يقوله‪ ،‬ال يحمل إلى اللغة سوى كالم الوجود الذي لم يقل بعد‪ .‬يجب علينا ابتداء من اآلن أن نأخذ العبارة المستعملة‬
‫هنا "الحمل إلى اللغة" بمعناها الحرفي‪ .‬باستضــاءته وانفتاحــه يــأتي الوجــود إلى اللغــة‪ .‬إنــه في طريقــه إليهــا دون‬
‫انقطاع‪ .‬والفكر المنوجد يحمل من جانبه إلى اللغة فيما يقوله هذا القــدوم والمجيء (الحصــول)‪ .‬هكــذا تكــون اللغــة‬
‫نفسها قد ارتقت إلى نور الوجود وانفتاحه وسمت فيه‪ .‬وحينئذـ فقـط يتجلى لنـا كم أن اللغـة غريبـة وملغـزة‪ .‬وكيـف‬
‫أنـها مع ذلك هي من يوجهنا ويتحكم فينـا باسـتمرار‪ .‬وحينمـا تكـون اللغـة وقـد حُملت إلى سـعة ماهيتهـا على هـذا‬
‫النحو تاريخية‪ ،‬آنـذاك فقط يكون الوجود محروسا في ومن أجل الفكر ـ الذي يفكــر ـ ـ فيــه‪ .‬إن االنوجــاد ال يقيم في‬
‫مسـكن الوجـود إال عنـدما يفكـر‪ .‬وكـل هـذا يحصــل كمـا لـو أن الشـيء مطلقـا يـترتب عن هـذا القـول ــ المفكـر‪.‬‬
‫يخطر لنا في هذه اللحظة نفسها مثال حي عن هذا التصرف للفكر الذي يحدث في صــمت ودونـــها مظهــر ؛ فنحن‬
‫عندما نفكر في هذه الصيغة المرسلة للغة بالخصوص‪" :‬يحمل إلى اللغة"‪،‬وعندما يكون كل همنــا أثنــاء الكالم هــو‬
‫اإلبقاء على ما أتينا على التفكير فيه‪ ،‬باعتباره ما سيكون علينا انطالقا من اآلن أن نفكر فيه دائما‪ ،‬نكون بالفعل قــد‬
‫حملنا إلى اللغـة شيئا ما فيه تنبسط ماهية الوجود ذاته‪ .‬وما يدعو حقا للغرابة والدهشــة في فكــر الوجــود هــذا‪ ،‬هــو‬
‫احتواؤه على شيء بسيط‪ .‬وهذا بالضبط هو ما يبعدنا عنه‪ .‬ذلك أننا تعودنا البحث عن هـذا الفكـر الـذي انتقـل إلينـا‬
‫عبر التاريخ تحت اسم "فلسفة"‪ ،‬باعتباره المخالف للمالوف الذي ال يكون في متناول غير المعنيينـ به‪ .‬إننــا نتمثــل‬
‫الفكر على نمط المعرفة والبحث العلميين‪،‬ـ ونقيس العمل باالنجازات الهامة المتوجة النتصار الممارسة‪ .‬لكن عمل‬
‫الفكر ال هو بنظري وال هو بعملي‪ .‬كما أنه ال يكمن فوق ذلك في الجمع بين هـذين النمطين من التصرف‪ .‬إن هــذا‬
‫الفكر الذي هو تفكير للوجود في الوجود يمنعنا من التعرف عليه بفعل بساطة ماهيته نفسها‪ .‬وحــتى عنــدما نحــاول‬
‫االستئناس بما في ماهيته من شذوذ وغرابة‪ ،‬نجد أن ثمة صعوبة أخرى تترصدنا‪ ،‬فيساورنا الشــك فيمــا إذا لم يكن‬
‫يسقط ضحية االعتباطية مادام ال يستطيع أن يتمسك بالموجود‪ .‬على أي أساس إذن‪ ،‬وبأية معايير وضوابط يهتدي‬
‫الفكر؟ ما هو قانون عمله؟‬
‫هنا بالضبط يجب أن يثار السؤال الثالث الوارد في رسالتكم‪ :‬كيف ننقذ عنصر المغــامرة الــذي يتضــمنه كــل بحث‬
‫دون أن نجعل من الفلسفة مجرد مجازفة ؟‬
‫لنكتف في هذه اللحظة وعلى سبيل اإلشارة فقط‪ ،‬بذكر الشعر‪ .‬فهذا األخير يتموقع أمام نفس السؤال وبنفس الكيفية‬
‫كما الفكـر‪ .‬والكلمة الــتي مــا صــدق أرســطو أن قالهــا في كتــاب "الشــعر"‪ ،‬تظــل دائمــا صــالحة ومحقــة‪ ،‬وهي إن‬
‫اإلبداع الشعري أكثر حقيقة وواقعية من التحري المنهجي للموجود‪.‬‬
‫والحال أن الفكر كبحث وسؤال بصدد الالـ مفكر ـ فيه ليس مغامرة‪ .‬إنه في ماهيته من يطالب به الوجود باعتبــاره‬
‫فكرا للوجود في الوجود‪ .‬فهو باقترابه من الوجود وتعلقه به إنما يتعلق بما يحصــل‪ .‬إنــه يرتبــط من حيث هــو فكــر‬
‫بإقبال الوجود وحصوله‪ .‬أي بالوجود من حيث هو هـذا القدوم واإلقبــال (الحصــول)‪ .‬لقــد أقبــل الوجــود إلى الفكــر‬
‫وانكتب له‪ .‬والوجود ال يكون إال من حيث هو قـدر الفكـر‪ .‬لكن هـذا القـدر تاريخــي في ذاتـه‪ ،‬وقـد حـدث أن اقبـل‬
‫تاريخه إلى اللغة من خالل قول المفكرين الذين حملوه إليها‪.‬‬
‫إن المهمة الوحيدة الملقاة على عاتق الفكر هي أن يحمل في كل مــرة قــدوم الوجــود إلى اللغــة‪ .‬وهــو قــدوم وإقبــال‬
‫مستمر يترقب اإلنسـان على الدوام‪ .‬لـهذا السبب يسعى المفكرون األساســيون بثبــات إلى قــول ذات الشــيء‪ .‬وهــذا‬
‫ليس معناه ‪ :‬المتطابق‪ .‬ومن المؤكد أنـهم ال يتحدثون عنه إال لمن اضـطلع بمهمــة التفكــير اقتفـاء ألثــرهم‪ .‬وعنــدما‬
‫يكون الفكر وهو يفكر تاريخيا في الوجود‪ ،‬شديد االنتباه لـهذا األخير‪ ،‬آنذاك يكون قد اقــترن مســبقا بــالتالؤم الــذي‬
‫ينسجم مع هذا القدر‪ .‬وهذا المالذ المتطابق ليس بالخطير‪ .‬وإنما الخطر كـل الخطـر هــو المجازفــة في هـذا التنــافر‬
‫الحاد لقول ذات الشيء‪ ،‬حيث التهديدـ بالتلعثم والتفكك المحض‪.‬‬
‫إن القانون األول للفكر هو تالؤم وتوافق قول الوجود كقدر للحقيقة‪ ،‬وليس هو قواعد المنطــق الــتي ال تســتطيع أن‬
‫تكون قواعد إال انطالقا من قانون الوجود‪ .‬لكن‪ ،‬أن نكون شديدي االهتمام بالقول ـ المفكــر ال يقتضــي منــا فقــط أن‬
‫نفكر في كل مرة فيما ينبغي قوله عن الوجود وكيف يجب قول ما يجب ـ التفكــير ـ ـ فيــه ؟ وإلى أي حــد ؟ وفي أي‬
‫لحظة من تاريخ الوجود ؟ وأي حوار مــع هــذا التــاريخ ؟ وأخــيرا انطالقــا من أي مطلب؟ هــذه النقــط الثالث الــتي‬
‫أثيرت في رسالة سابقة(‪ )12‬قد حددت في قرابتها انطالقا من قانون توافق الفكر التاريخي‪/‬االنطولوجي‪ :‬أال وهــو‬
‫نجاعة التأمل والتفكير‪ ،‬الحذر اليقظ للقول واالقتصاد في الكالم‪.‬‬
‫لقد حان الوقت للكف عن التقدير الزائد للفلسفة‪ ،‬ومن تم مطالبتها بالشيء الكثير‪ .‬وهذا مــا يلزمنــا لســد الخصــاص‬
‫الحالي للعالم‪ :‬قليل من الفلسفة مع كثير من االهتمام بالفكر؛ قليل من اآلداب وكثـير من العنايـة بالرسـالة كمـا هي‪.‬‬
‫إن الفكر الذي سيأتي لن يكون فلسفة ألنه سيفكر بأصالة أكثر من الميتافزيقــا الــتي هي كلمــة مرادفــة لـــها‪ .‬إنــه لن‬
‫يتمكن أبدا من التخلي عن اسم "محبة الحكمة" كما أراد له "هيغل"‪ ،‬ليصــير هــو الحكمــة عينهــا في شــكل معرفــة‬
‫مطلقة‪ .‬إن الفكر سيهبط من جديد إلى فقر ماهيته العابرة‪ ،‬ويجمع اللغة باتجاه القول البسيط‪ .‬هكذا ستكون اللغة هي‬
‫لغة الوجود‪ ،‬تماما مثلما هي السحب للسماء‪ .‬إن الفكر بقوله يرسم في اللغة ثالما ال مرئية‪ ،‬ثالما أقل تجليا من تلك‬
‫التي يحفرها بخطواته البطيئة على امتداد الحقل‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪LETTRE A JEAN BEAUFRET‬‬
‫رسالة إلى "جان بوفريه"‬
‫لقد جعلتني رسالتك التي نقلها إلي م‪ .‬بالمر ‪ M. Palmer‬منذ بضعة أيام قي غاية السعادة‪.‬‬
‫إني لم أتعــرف على اســمكم إال منــذ فــترة وجــيزة‪ ،‬وذلــك من خالل مقــاالتكم القيمــة الــتي نشــرتموها في مجلــة‬
‫‪ ،Confluences‬والتي ال أتوفر منها لسوء الحظ ســوى على العــدد الثــاني والخــامس‪ .‬ولقــد تــبين لي منــذ المقالــة‬
‫األولى (العدد ‪ )2‬المفهوم الرفيع الذي تخصون بــه "الفلســفة"‪ .‬إنــه هنــا مــا يــزال ذلــك المجــال الخفي الــذي وحــده‬
‫المستقبل كفيل بإضاءته‪ .‬لكن هذا لن يحصل إال إذا لقيت نجاعة الفكر وفطانة القول واقتصاد الكلمات اهتماما غير‬
‫ذلك الـذي حظيت بـها حتى اآلن‪ .‬وإنك لترى أن الهوة التي تفصــل هنــا فكــري عن فلســفة "كــارل ياســبيرس" ‪K.‬‬
‫‪ Japers‬جد شاسعة‪ .‬ناهيك عن الحديث عن كون السؤال الذي يوجــه فكــري مختلفــا تمامــا‪ ،‬وأنــه قــد قوبــل بشــكل‬
‫يدعو للغرابة بتجاهل مطلـق‪ .‬إني أقدر "ياسبرس" حق قدره كشخص وككاتب‪ ..‬فتأثيره على الشباب الجــامعي في‬
‫غاية األهمية‪ .‬لكن المقاربة بين "ياسبرس وهيدغر" التي أصبحت متداولة في فلسفتنا بشكل كالسيكي تقريبــا‪ ،‬هي‬
‫سوء الفهم بامتياز‪ .‬وقد بلغ سوء الفهم هذا أقصى مداه في ذلـك التمثـل الـذي يجعـل من فلسـفتي "نــزعة عدميـة"‪،‬‬
‫رغم أنـها ال تسـأل فقط عن وجود الموجود ككل الفلسفات السابقة‪ ،‬وإنما ماهية النـزعة العدميــة تكمن على العكس‬
‫من هذا في كونـها غير قادرة على التفكير في العـدم‪ .‬إني أتنبأ في فكر فالسفة فرنسا الشــباب بقفــزة رائعـة تكشـف‬
‫بوضـــوح على أن تمـــة ثـــورة تتهيـــأ في هـــذا المجـــال‪ ،‬رغم أني لم أنتبـــه لـــذلك إال منـــذ عـــدة أســـابيع فقـــط‪.‬‬
‫إن ما تقولونه عن ترجمـة (دزاين ‪ )Da-sein :‬بالــ"الواقـع اإلنسـاني" صـحيح كـل الصـحة‪ .‬وممتـازة هي كـذلك‬
‫مالحظتكم ‪" :‬إذا كان للغة األلمانية منابعها فإن للغــة الفرنســية حــدودها"‪ .‬هنــا تكمن اإلشــارة الجوهريــة إلمكانيــة‬
‫المثاقفة بينهما وفق تبادل متكافئ ضمن فكــر منتج‪[ .‬نتمــنى من خالل هــذه الترجمــة أن تنــال العربيــة نصــيبها من‬
‫ذلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك]‪.‬‬
‫إن مصطلح "الكينونة ـ هنا" هي الكلمة المفتاح لتفكيري‪ .‬كما أنـها تفسح المجال أمام أخطاء فادحة في التأويل‪ .‬إن‬
‫"الكينونةـ ـ هنا" (الدزاين) ال تعـني بالنسـبة لي "هـا أنـا ذا"‪ ،‬بـل إذا أمكن لــي أن أعـبر عن ذلـك بفرنسـية الشـك‬
‫مستحيلة ‪( etre-le-la :‬كينونة ـ الـ ـ هنا)‪ .‬والـ "هنا" هي بالضبط انكشاف وال ـ ـ اختفــاء (أليتيــا) أي انفتــاح‪ .‬لكن‬
‫هذا ليس إال إشارة عابرة‪ .‬إن الفكر الخصب يمتح أكثر من حيوية النقـــاش‪ ،‬ومن هــذا العمــل الــذي هــو تعلم وأخــذ‬
‫أكثر مما هو عطاء‪.‬‬
‫مارتن هيدغر‬
‫عن‪:‬‬
‫‪M. Heidegger "Lettre sur l'humanisme" in Questions III T.R. Munier. Ed. Gallimard‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪1966, pp. 73-157‬‬
‫‪ ‬‬
‫الهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوامش‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قد يبدو هذا المصطلح غريبا‪ .‬لكن غرابته تتبدد إذا علمنا أنـه يحيـل إلى معـنى جديـد يسـتمده من الحقيقـة الـتي‬
‫توجد عليها ماهية اإلنسان باعتبارها "وجودا ـ في ـ العالم"‪ .‬بحيث تكون بذلك ماهيتها من صــميم ماهيــة الوجــود‪.‬‬
‫وبما أن ماهية الوجود هي الحقيقة من حيث انكشــاف وانفتــاح وتفتح وتعــال‪ ،‬يحيــل إلى الحضــور كفضــاء زمــاني‬
‫تفاضلي‪ ،‬الشيء الذي يجعل ماهية الوجود والزمان والحقيقة على حد سواء هي الشرط االنطولوجي المســبق لكــل‬
‫كينونة تدرك أبعاد ماهيتها كامتداد لماهية الحقيقة ـ واإلشارة هنا لإلنسان ـ فإن االنوجاد هو طواعية هذا الوجود ‪:‬‬
‫هو الحضور المنفتح على ماهية الحقيقة كنور وانفتاح ؛ هو الحقيقة إذ تحجب وتخفي وتنكشف وتتجلى فتكون بمــا‬
‫هي عليه‪ ،‬مكتفية بذاتها‪ ،‬مضيئة لما يحضر ساترة في غياهبها لما يغيب‪ .‬لـذلك أدرك "هيـدعر" أن الصــواب هـو‬
‫القول بأن الوجود ينوجد‪ ،‬وأن ماهية اإلنسان انوجاد‪ ،‬فكان التغيير في البنيــة الصــوتية للكلمــة (‪ Ek-sister‬بــدل ‪:‬‬
‫‪ Ek-sistences, exister‬بدل ‪ )Existence :‬هو الكيفيــة المثلى لحمــل ماهيــة الوجــود واإلنســان والحقيقــة إلى‬
‫اللغة والتخلص من الحمولة الميتافيزيقية القديمـة للمصـطلح‪ .‬أمـا المصـطلح العـربي ‪" :‬أنوجـاد" فبنيتـه الصـرفية‬
‫(الزيادة باأللف والنون للداللة على المطاوعة) تسهل التفكير باتجاه المعنى المراد‪ .‬ألن المصدر هنا بتسميته للفعل‬
‫في طواعيته يدل على الحصول التلقائي‪ .‬والحصـول من صـميم ماهيـة الوجـود الـتي تجعـل من اإلنسـان موجـودا‬
‫حاضرا متعاليا متفتحا على الحقيقة إلى حد القداسة‪ .‬وهذا هو أقصى غايات االنوجاد كما يـرى "هيـدعر"‪ ،‬وأيضـا‬
‫بماله من قرابة بمعاني الوجد والوجدان والوجود‪ ،‬كما أن الفعل "انوجــد" يتضــمن اقتضــاء معــاني ‪َ :‬و َجــد‪ُ ،‬و ِجــد‪،‬‬
‫أوجد‪ .‬وكلهـا من معاني الوجود منه تمتح إمكانية تحققهـا مــادامت عالقتهــا بالعــدم كــذلك هي ســندها االنطولــوجي‬
‫القـــوي ألن تقـــول مـــا تتضـــمنه من حقـــائق هي بمثابـــة محـــددات أساســـية لماهيـــة الحقيقـــة المشـــار إليهـــا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ لقد احتل هذا الضمير “‪ ”on‬مكانة متميزة في تفكير "هيدغر" خصوصا في كتابــه "الوجــود والزمــان" بحيث‬
‫إن تحليل الكينونة ـ هنا (الدزاين) ينبني في معظمه على تحليل هذا الحضـور الدال لــه في اللغــة‪ ،‬والشــائع أنــه تتم‬
‫مقابلته في العربية ب ضمير ال "هم"‪ .‬هذا في حين أن وظيفته الدالليــة في اللغــات الهنديـةـ ــ األوربيــة الــتي تكــاد‬
‫تنفرد به دون العربية ـ على األقل من حيث هو فاعل مصـرح به ـ هي أنــه يــدل على الجميــع دون أن يعــني أحــدا‬
‫على وجه التحديد‪.‬ـ ومثل هذه الوظيفـة هي ما يتحقق مع ضمير الــ "نحن" و "نــا" الجماعــة في لغتنــا‪ ،‬وكــذلك في‬
‫صيغة المصدر حيث الفعل واالسم مندمجان الشيء الذي يجعل العبــارة صــيغة للفعــل الــذي يمكن أن يقــوم بــه أي‬
‫كـــان‪ .‬لـــذا قـــال هيـــدغر " إن اللغـــة كـــالترام حيث يمكن ألي شـــخص أن يصـــعد إليـــه ويهبـــط منـــه"‪( .‬م)‬
‫‪.M. Heidegger : Introdiction a la metaphysique, ed. Gallimard‬‬
‫‪ 3‬ـ إن ماهية اإلنسان وبحكم عالقتها المتعالية بالوجود وانفتاحها على حقيقته‪ ،‬تنحو بالضرورة منحى صــوفيا‪ .‬أي‬
‫أن كينونتها القائمة ـ في ـ نور ـ الحقيقة تنفتح بمعانقتها للموجود في كليته على ما في الوجود من قدســية (الغــريب‬
‫والعجائبي)‪ .‬هذه األخيرة هي "السر" وقــد تجلى كحضـور وغيـاب‪ ،‬كانكشـاف واحتجـاب‪ .‬وهــذا معنــاه الحضـور‬
‫الدائم للسؤال الذي ال يشفع لـه إال المقـدس الماثـل كـاثر للوجـود وقـد تجلى في نـوره الموجـود‪ ،‬إن هـذا الحضـور‬
‫المسبق للمقدس الذي هو من سمات الوضع االنطولوجي لماهية اإلنسان في عالقتها بحقيقــة الوجــود‪ ،‬هــو الشــرط‬
‫االنطولـوجي المسـبق الـذي يجعــل التصـوف كمـا نعرفــه تجربــة ممكنــة لكنهـا ضـرورية‪ .‬ومـا الوجــود والحلـول‬
‫واإلشــــراق اإلدروة الدهشــــة واالنبهــــار بــــالوجود والتجــــاوز والتعــــالي لمعانقتــــه كليــــة الموجــــودة‪( .‬م)‪ ‬‬
‫‪ 4‬ـ لقد أصبح مضمون هذا المصطلح (الدزاين) أو الكينونة هنا جديدا كل الجدة منذـ أن اسـتعمله "هيــدغر" ‪ :‬فمنـذ‬
‫ظهور كتاب (الوجود والزمـان ‪ )1927‬تأكــد أن الفنومنولوجيــا ليس بوســعها أن ننجــز التصــميم الــذي يعيــد رســم‬
‫المالمح األساسية لماهية اإلنسان وفق تشكلها االنطولــوجي كوجــود ــ في ــ العــالم‪ ،‬إال باالبتعــاد عن مصــطلحات‬
‫ميتافزيقية من قبيل الذات‪ ،‬الماهية‪ ،‬الجوهر‪ ،‬الروح والوعي… التي نحتتهــا فلســفات الــوعي والذاتيــة (ديكــارت ـ‬
‫هيغل…)‪ .‬وهذا االبتعاد هو ما توخاه "الهدم الفنومنولوجي" الذي كان هدفا لالنطولوجيا األساســية‪ ،‬هــذه األخــيرة‬
‫مكنت بحسن استعمالها لمصطلح (الدزاين) من إعادة تأويل ماهية اإلنسان في عالقتها بالوجود‪ ،‬فكانت الـ "هنا" ـ‬
‫الــتي يجب أن تظهــر في الترجمــة نظــرا ألهميتهــا باعتبارهــا بيت القصــيد ــ هي اإلشــارة الواضــحة إلى التعــالي‬
‫واالنفتاح‪ ،‬إلى الخروج من "الذات"‪ ،‬إلى الوجود ـ في ــ العـالم‪ ،‬إلى اللغــة كمــأوى لحقيقــة الوجــود‪ ،‬واألفضــل أن‬
‫نتجنب النقرحة في ترجمتها‪ .‬لذلك عندما نقول الكينونة "هنا" نكون بالفعل قد حققنا هذا المطلب‪ .‬وقد نبتعدـ عنه إذا‬
‫قلنـــا (الحقيقـــة اإلنســـانية) ولم نكلـــف نفســـنا عنـــاء التفكـــير فيمـــا تنطـــوي عليـــه من معـــاني وأبعـــاد‪( .‬م)‬
‫‪ 5‬ـ لمزيد من اإللمام بمقتضيات هـذه العبـارة وبقيمتهـا التعبيريـة عن حقيقـة الوجـود الـتي تمكننـا من التفكـير فيـه‬
‫بـمعزل عن الموجود‪ ،‬بحيث نقر بوجوده دون أن نجعل منه موجودا متعينا على نــمط الكـائن‪ ،‬يستحسـن الرجـوع‬
‫إلى مقالة "هيدغر" "الزمان والوجود" في كتاب‪" :‬التقنية ــ الحقيقـة ــ الوجـود" ترجمــة باالشـتراك مــع د‪ .‬محمــد‬
‫سبيال المركز الثقافي العربي‪ :‬بيروت ‪ /‬الدارالبيضاء ‪.1995‬‬
‫‪ 6‬ـ من الغريب أن ثمة قرابة في اللغة العربية بين كلمة "موضوع" وكلمة "وضــيع"‪ .‬إن هــذا يــدعو إلى التفكــير‪.‬‬
‫ويؤكد ما يقوله هيدغر من أن كل "موضعة" للشيء هي "توضيع" له‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ اإلشارة هنا إلى المطاوعة (األلف والنون)‪ .‬والتي معنـاها في هذا المصطلح ما قيل عن الـ "هنا" في الكينونــة‬
‫ـ هنا‪.‬‬
‫‪.Parties des animaux. A5, 645. a. 17 - 8‬‬
‫‪ 9‬ـ من قصيدة "هولدرلين" "كما لو في يوم عيد" انظر ‪:‬‬
‫‪.Friderich Holderlin : Deuze Poemes. Par : Francois Fedier difference 1989‬‬
‫انظر أيضا ‪" :‬انشاد المنادى" بسام حجار‪ .‬المركز العربي لإلنماء القويم ‪ .1994‬وقــد خص "هيـدغر" هـذا الــبيت‬
‫الشعري بكثير من االهتمام متخذا منه عنوان لمقالة حلل فيهــا معــنى اإلقامــة الشــعرية لإلنســان على هــذه األرض‬
‫انظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر ‪:‬‬
‫‪.M. Heidegger : L’homme habite en poete in : Essais et conferences. Ed: Gallimard‬‬
‫‪ 10‬ـ أدوات النفي كثــيرة منهــا ‪( :‬ليس ــ لم ــ لن ــ ال ــ مـا ــ دون…) إن احتــواء اللغــة على هـذه األدوات يقــول‬
‫"هيدغر"‪ ،‬هو أكبر دليل على كونـها تأوي حقيقة الوجود‪ ،‬وهي هنا كــون العــدم من صــميم ماهيتهــا‪ .‬لــذلك فاللغــة‬
‫بتوظيفها لـهذه األدوات إنما تستجيب في حقيقة األمر لـهذا الـمطلب األصلي‪ ،‬الشيء الذي ال يجعل السلب خاصية‬
‫تضـــــــفيها الـــــــذات على الموجـــــــود كمـــــــا لـــــــو تخلـــــــع عليـــــــه صـــــــفة من نتـــــــاج فكرهـــــــا‪( .‬م) ‪ ‬‬
‫‪ 11‬ـ "الناموس" كلمة عربية تداولت منذـ القـديم‪ .‬وهي ال تتطــابق مـع الكلمــة اإلغريقيـة من حيث البنيــة الصـوتية‬
‫فقط‪ ،‬بل كذلك من حيث المضمون‪ ،‬إنـها تعني التكليف بالفرائض (الشريعة)‪ .‬ما مصدر هذا التكليف؟… هذا ما ال‬
‫يمكن تبينه ألنه "السر" في حد ذاته‪ .‬وهو بالضـبط مـا يسـمح بالحـديث عن النبـوة‪ .‬وعن الرسـالة السـماوية‪ .‬وعن‬
‫الرسل كأشخاص مصطفين لهم حق النطق باسمه‪ .‬وهو هنا "هللا"‪ .‬عندما ذهبت خديجة زوجة الرســول (ص) إلى‬
‫بن عمها "ورقة بن نفيل" الذي كانت له معرفة بـالكتب الســماوية‪ ،‬لتستفســره عمــا ألم بزوجهــا وقـد عـاد من غــار‬
‫حراء يطلب منها أن تدثره (الغار‪ :‬العزلة ‪ :‬السر ‪ :‬االرتباط المباشر بالمقدس)‪ .‬أجابـها بأن زوجها سيكون له شأن‬
‫عظيم‪ ،‬وأن ما أصابه كان "الناموس" األعظم الذي "كلم" موسى‪" .‬الناموس" إذن شريعة‪ ،‬والشريعة هي التكليف‬
‫بالفرائض‪ .‬التـهمنا هنا القرابة التي للسان العربي باإلغريقي (التي كانت وال تزال موضــوع عــدة دراســات شــيقة‬
‫ومثيرة) سوى في التوكيدـ على أن النــاموس (الشــريعة بمعناهــا األصــلي واألصــيل)‪ ،‬كــانت قضــية للفكــر قبــل أن‬
‫تصبح موضوعا ومصدرا للوحي والتنزيل‪ ،‬وبما أن ماهية اإلنسان والفكر من صميم ماهية الوجود حيث القداســة‬
‫واأللوهية من سماتـها وأسمى تجلياتـها فإن التفكير باتجاهها بناء على المواصفات التي يقدمها هيدغر للفكر‪ ،‬كفيل‬
‫بأن يجعل هذا األخير ليس فقط مصدرا لألخالق والقوانين‪ ،‬بل األخالق عينها وقــد تجلت كأســمى قــانون للوجــود‪.‬‬
‫فالناموس األعظم هو الوجود بكل هذه األبعاد‪(.‬م)‪ ‬‬
‫‪ 12‬ـ انظر الرسالة الالحقة التي بعث بـها هيدغر إلى جان بوفريه‪ .‬ت‪ .‬عبد الهادي مفتاح‪.‬‬

You might also like