You are on page 1of 5

‫الفلس فة الحديث ة‪ :‬ديك ارت‪ :‬اإلني ة بم ا هي أنان ة‪ :‬األن ا‬

‫وحدي‪.‬‬
‫"وعندما نرفض على هذا النحو كّل ما يمكن أن يناله أق ّل‬
‫شّك ‪ ،‬بل نعتبره كاذبا‪ ،‬فإّنه من الس هل علين ا‪ ،‬أن نف ترض‬
‫أّنه ليس هناك إله وال س ماء وال أرض وأّنن ا ب دون جس م‬
‫ولكّننا ال نستطيع أن نفترض أّنن ا غ ير موج ودين عن دما‬
‫نشّك في صّحة هذه األشياء كّله ا‪ ،‬إذ من غ ير المس تطاع‬
‫لنا أن نفترض أّن ما يفّك ر غ ير موج ود بينم ا ه و يفّك ر‪،‬‬
‫بحيث أّنن ا مهم ا نب الغ في افتراض اتنا ال نس تطيع تجّنب‬
‫الحكم بص دق النتيج ة اآلتي ة‪ :‬أفّك ر إذن أن ا موج ود‪.‬‬
‫وبالتالي فهي أولى وأيقن القضايا التي تمثل إلنس ان يق ود‬
‫فكره بنظام‪".‬‬

‫ديكارت ـ مبادئ الفلسفة‪.‬‬

‫لم يكن اكتشاف اإلنية ثم إثباتها باألمر اليس ير أو الهين‬


‫بالنسبةِ لـ ”أب العقالنية“ ديكارت‪ ،‬نظرا ألن هذا األخ ير‬
‫ال يقب ل بالب ديهي والع ادي والم ألوف إال بع د التثبت من‬
‫صحته وتبرئته عقالنيا من ك ل إلتب اس; ألنن ا إذا اعتق دنا‬
‫في ك ل ش يء على ان ه يقين يمكن على ض وء ذل ك أن‬
‫نؤسس معارف أخرى مرتبطة بالمعرف ة الس ابقة ال تي لم‬
‫نتثبت من يقينيته ا بع د؛ فنق ع ب ذلك في وهم أض خم من‬
‫األوهام السابقة ألن ما يبنى على باٍط ل باطٌل بالض رورة;‬
‫لق د كتب ديك ارت في التأم ل األول من ”الت أمالت‬
‫الميتافيزيقية“ [ص‪ ]p.u.f 25 ,1968‬ق ائال‪« :‬تفطنت‪،‬‬
‫منذ مدة‪ ،‬أنني تلقيت من ذ كنت ص غيرا‪ ،‬جمل ة من اآلراء‬
‫الخاطئة‪ ،‬كنت أظن أنها صادقة وإلى أَّن ما أقمته بعد ذلك‬
‫على مب ادئ ه ذه حاله ا من االض طراب‪ ،‬ال يمكن إال أن‬
‫يكون مشكوكا فيه جدا ومفتق را إلى اليقين‪ .‬فك ان الب د لي‬
‫أن اع زم‪ ،‬م رة في حي اتي‪ ،‬على التح رر ج ديا من ك ل‬
‫اآلراء ال تي اعتبرته ا ص ادقة إلى ح د اآلن وأن أب دأ ك ل‬
‫شيء من جديد من األسس»‪.‬‬
‫كلن ا يع رف أّن الت أمالت يحم ل عنوان ا يتض ّم ن‬
‫ضرورة الّتم يز بين النفس والجس د فه دف ديك ارت من ذ‬
‫البداية هو الّتمي يز بينهم ا‪ .‬لكن ديك ارت ال ذي ح اول في‬
‫الت أمالت ق در االس تطاعة أن يمّي ز بين النفس والجس د‬
‫أدرك أّنه ينبغي عليه أن يبّين عالقتهم ا‪ ،‬أي ت داخلهما في‬
‫اإلنس ان‪ .‬فه و في الت أّم الت على األق ل يح اول التمي يز‬
‫ولكن في االنفع االت يض ع ه ذه المس ألة بص فة جدي دة‬
‫إليجاد حّل لعالقة النفس بالجسد‪.‬‬
‫في التأّم الت يقّر ديكارت أن الشيء الذي يبقى قاّرا‬
‫وال يمكن للشك أن يضعه محل ريب هو الفك ر كفك ر أي‬
‫بقطع النظر عن كونه صحيحا أو خاطئا‪ ،‬وهذا الفكر ه و‬
‫فك ر محض أي مس تقل ومتمّي ز عن الخي ال وعن‬
‫اإلحساس ات وعن ك ل م ا ق د يوج د في النفس من أش ياء‬
‫أخرى‪ ،‬فديكارت يميز الفك ر في النفس عم ا ه و مخ الف‬
‫له ذا الفك ر‪ .‬وعن دما يتس اءل عن أهمّي ة ه ذا الفك ر يج د‬
‫ديك ارت أّن ه ج وهر مفّك ر‪ ،‬وكلم ة ج وهر هن ا تؤخ ذ‬
‫بالمعنى األرسطي‪ ،‬إذ نتبّين أّن الفكر عند ديكارت مستقّل‬
‫بذاته أي ال يحتاج إلى شيء آخر‪ ،‬أي ال يحتاج إلى جسد ليوجد ه و كفك ر ب ل على‬
‫العكس إّنه األوضح واألك ثر تم يز ووح دة وثب ات من الجس د‪ .‬وله ذا نكتش فه قب ل‬
‫الجسد ونميزه عنه‪.‬‬
‫هذا هو الجوهر الذي يعترف به ديكارت باإلضافة إلى الج وهر الم اّد ي أي‬
‫أّن ديك ارت ال ذي نق د الس بب الغ ائي والص ور الجوهري ة لكونه ا أش ياء غامض ة‬
‫وخاطئ ة وجب التخلي عنه ا موّجه ا نق ده في ذات الحين إلى المدرس ة ال تي يعيب‬
‫عليها إثبات الصور الجوهرية‪ ،‬يق ر بوج ود ج وهر الفك ر‪ .‬ذاك أن المث ال الش هير‬
‫الذي يورده ديكارت في التأّم ل الثاني [مث ال قطع ة الش مع] ه و مث ال ال غ ير‪ ،‬أي‬
‫عندما نقرأ التأمالت يجب أن نعتبر أن هذا المثال خارج عن التأمل الثاني خاّص ة و‬
‫أن الفيلس وف يلح على نظ ام األفك ار‪ ،‬في حين أن قطع ة الش مع تف ترض وج ود‬
‫الجوهر المادي ونحن ال نعرف أو ال نستطيع أن نعرف منطقّيا الجوهر الم اّد ي إّال‬
‫في التأّم لين الخامس والسادس لذلك فهو مثال يقتلع اقتالعا من العالم الماّد ي خ ارج‬
‫الّتسلسل المنطقي‪ ،‬وهذا بسبب خشية ديكارت من االعتراض عليه‪ ،‬وه ذا يع ني أن‬
‫غاية إيراد مثال قطعة الشمع‪ ،‬هي غاية جدالية ال برهانية منطقية‪ .‬وهذا االعتراض‬
‫قد يتأتى عن الحّسيين ال ذين كم ا يتص ّو رهم ديك ارت يتش بثون ب القول إن األفك ار‬
‫ناتجة عن اإلحساس خاّص ة حسب م ا نعرف ه من ذ أرس طو وخاص ة حس ب م ا ب دأ‬
‫يظهر في الفلسفة اإلنجليزية في ذلك الحين وهي فلسفة حّسية تجريبية‪.‬‬
‫االعتراض يق ول‪ :‬إّن األفك ار ال ب ّد أن تك ون ناتج ة عن اإلحس اس فكي ف‬
‫تستطيع يا ديكارت أن تبرهن بأّن الفكر مستقل عن الجسد ومتعالي عليه‪.‬‬
‫عندما يحّلل ديكارت مثال قطعة الّش مع يستنتج في نهاية األمر أّن ما تبّقى من‬
‫هذا الجسم عن دما نح ذف عن الص فات الحّس ية المتع ّد دة‪ ،‬ه و االمت داد‪ ،‬واالمت داد‬
‫مفهوم رياض ي أي عقلي نج ده في الفك ر وال حاج ة لن ا إلى اس تنتاجه خاّص ة من‬
‫اإلحساس والتجربة بل هو مفهوم فكري محض يمكن للفكر أن يقّره بمج ّرد إثبات ه‪.‬‬
‫وبهذا يتحّصل ديكارت على نتيجتين ضد الحّسيين‪:‬‬
‫‪-1‬ال يستطيع الم ذهب الحّس ي أن ي بّين ظه ور األفك ار الحّس ية حس ب م ا‬
‫يعتقده‪.‬‬
‫‪ -2‬وك ذلك فإّن ه ال يس تطيع أن ي برهن أّن األفك ار المج ّردة مث ل األفك ار‬
‫تنتجة من الحّس ‪.‬‬ ‫ية مس‬ ‫الرياض‬
‫وعندما نقارن هاتين النتيجتين نحصل على ثالث ة‪ :‬إن الحّس يين ينهزم ون في عق ر‬
‫دارهم ألّن الحقل الحّسي نفسه ي برهن أن م ا نج ده في نهاي ة األم ر ه و مجموع ة‬
‫أفكار‪ .‬فالحّس ينهزم على مستوى تفسير األفكار الناتج ة عن األفك ار وينه زم حّتى‬
‫على مستوى األفكار التي نعتقد أّنها ناتجة عن اإلحساس‪ .‬ويغلق ديك ارت القوس ين‬
‫أي يبّين أّن مثال قطعة الّش مع ال يمكن أن يعطي أّي قيم ة لالع تراض الموّج ه من‬
‫ط رف الحس يين‪ .‬لكن التأّم ل الخ امس بع د البرهن ة على وج ود الفك ر في التأّم ل‬
‫األّو ل‪ ،‬وماهية الفكر في التأمل الثاني‪ ،‬ووجود هللا في التأّم ل الثالث والراب ع‪[ ،‬ه ذا‬
‫التأمل الخامس] ينبغي أن يبرهن على وجود العالم الم اّد ي ألّن ه ذا الع الم موج ود‬
‫والبرهنة عليه تكون برهنة من نوع خ اّص أي تحت اج إلى قن وات اإلحس اس ال تي‬
‫تبين لديكارت أنه يشعر بوجود العالم الم اّد ي‪ ،‬برهن ة أك ثر قيم ة عقلي ا ونفس يا أي‬
‫تلك التي نجدها في التأّم ل الّسادس عندما يفكر ديكارت في الفيزي اء والّرياض يات‪.‬‬
‫إذ نجد أن الفيزياء رياضية قبل كل شيء ولكّنها مرتبط ة ب الجوهر الم اّد ي‪ .‬وي بّين‬
‫صاحب كتاب التأمالت الميتافيزيقية أّن هذا الجوهر الماّد ي – ه و أساس ا – امت داد‬
‫يتمّيز عن ج واهر ماّد ي ة مختلف ة التعّق د وال تي تعطين ا مجموع ة األجس ام الماّد ي ة‬
‫المعروفة‪ ،‬إذن هناك جوهر فكري واحد ومجموعة ال متناهية من الجواهر الماّد ي ة‬
‫التي تخضع كّلها إلى نفس المفهوم الرياضي وهو مفهوم االمتداد‪.‬‬
‫وال يض ع ديك ارت مس ألة عالق ة النفس بالجس د في الت أمالت‪ ،‬ب ل إّنه ا‬
‫[التأّم الت] تنتهي بعد أن اكتشف ديكارت أوال أّن ه موج ود كفك ر‪ ،‬ثاني ا أّن ماهيت ه‬
‫فكرية‪ ،‬ثالثا أنه جوهر مستقل‪ ،‬رابعا جوهر مستقل لكن متناهي‪ ،‬خامسا أنه متناهي‬
‫ألّنه وجد من ط رف فك ر ال متن اهي وسادس ا أن ه ذا الج وهر المتن اهي المس تقل‬
‫البسيط موجود في عالق ة م ا م ع الجس د وذل ك عن طري ق الش عور بالجس م‪ ،‬لكن‬
‫ديكارت ال يضع بصفة مباشرة هذا المشكل على مس توى الت أّم الت ل ذلك يمكن أن‬
‫نعتبر أّن الت أّم الت هي كت اب التمي يز بين الجس د والنفس في حين االنفع االت ه و‬
‫كتاب العالقة والوحدة بينهما‪ .‬ولكن لماذا لم تعتبر "التأّم الت" ه ذه العالق ة واكتفت‬
‫بمسألة التمييز؟‬
‫إّن هدف ديكارت في التأمالت حسبما يعلن عنه في "التأمل األول" هو ه دف‬
‫علمي إبستيمي‪ ،‬أي وضع أسس واضحة للعلم ترتك ز على الفك ر ال ذي يع ني عن د‬
‫ديكارت دائما فكر واضح ومتميز أي الصحيح ويفرض نفسه على العقل‪ .‬فديكارت‬
‫إذن ال يريد تفسير اإلنسان‪ ،‬فهو ال يهتّم باألخالق وال بالطّب وإّنما بالمبادئ األولى‬
‫الواضحة لكّل فكر علمي ممكن‪ .‬وهذه المبادئ هي‪ ،‬أّو ال‪ ،‬الّتمييز بين األفك ار حّتى‬
‫نتحّصل في نهاية األمر على أبسطها وال نق ر بص حتها إّال إذا أقررن ا أّنه ا بس يطة‬
‫وواضحة‪ ،‬ثانيا" ربط هذه األفكار البسيطة مع بعضها ومحاولة التثّبت في كّل م رة‬
‫عن طريق اإلرادة من صحة هذه األفكار البس يطة وتسلس لها‪" ،‬ثالث ا" إرج اع ك ل‬
‫األشياء إلى مبدأ واحد (إرجاع كل الجواهر الماّد ي ة إلى مفه وم االمت داد) وبطبيع ة‬
‫الح ال ال يمكن للت أّم الت إال أن ت ؤّد ي إلى الّتمي يز الكلي بين الفك ر والجس م و في‬
‫الفكر نفسه بين األفكار البسيطة واألفكار المركب ة ال إلى وج ود عالق ة بين الجس م‬
‫والنفس‪ .‬لكن ديكارت يعتقد أن أجزاء الفلسفة متكامل ة وأّنه ا تش كل وح دة‪ ،‬وينبغي‬
‫أن تؤّد ي إلى سلوك فردي واجتماعي معين ولذا ينبغي عليه أن يضع مسألة عالق ة‬
‫النفس بالجسد على مستوى آخر ال يكون متناقضا مع نتائج الت أمالت ولكن ه يك ون‬
‫مكمال له‪ .‬وهذا ما نجده أساسا ال في كتاب التأّم الت بل في كتاب االنفعاالت‪.‬‬
‫عملية توحيد الجسد والنفس في كتاب "االنفعاالت" متأتية من ض رورة فهم‬
‫فردية اإلنسان أي كيف يستطيع ديك ارت انطالق ا من تمي يز الج واهر وتع ّد دها أن‬
‫يفّس ر فردي ة اإلنس ان‪ ،‬أي أن ي بّين تعام ل االمت داد م ع الفك ر في اإلنس ان فق ط‪.‬‬
‫فديكارت إذن ال يبحث في وحدة عالقة الجسم بالنفس لفهم كائنات أخرى مثلما نجد‬
‫ذلك عند أرسطو أو فيما بعد عند "س بينوزا" و"ليبن يز" وإّنم ا عن د اإلنس ان فق ط‪،‬‬
‫فاإلنس ان من حيث ه و جس د يخض ع للّتحدي د الع ام ال ذي يعطي ه ديك ارت للجس م‬
‫كامتداد‪ ،‬ومن حيث ه و روح يخض ع لتحدي د الّنفس كفك ر محض وخ الص‪ .‬كي ف‬
‫يتفاعل إذن‪ ،‬هذان الّنوعان من الجواهر في اإلنسان بالذات؟‬

You might also like