You are on page 1of 5

‫مادة مفاهيم ونصوص فلسفية‬

‫‪S1‬‬
‫ذ‪.‬محمد مزيان‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية(جامعة ابن طفيل‪/‬القنيطرة)‬
‫مسلك الفلسفة و ع‪.‬ج‬

‫الموسم الجامعي‪2021-2020:‬‬

‫الحصة الثانية‬
‫تتقررالطبيعة الفطرية لحقيقة الكائنات منذ اللحظة التي يقر فيها "اليبنتز" القول‬
‫التالي‪":‬إن حقائق الميتافيزيقا والهندسة األزليتين‪،‬وتبعا لذلك‪ ،‬قواعد الخير والعدل‬
‫والكمال أيضا‪،‬ليست سوى نتائج إلرادة هللا‪...‬هذه الحقائق ليست غير توابع لملكة‬
‫الفهم عند هللا"(‪ .)14‬فحقائق األشياء معطاة بمعزل عن األشياء‪،‬إنها عطاء‬
‫ميتافيزيقي حيث يكون ماهو فيزيائي الحقا ثانويا وليس من ماهية الكائن في شيء‪.‬‬
‫من هنا أهمية العقلي بالنظر إلى الحسي‪،‬بل من هنا أهمية المفاضلة بين الجسد‬
‫والعقل‪.‬‬

‫تسري هذه المفاضلة على مجمل الكائنات باعتبارالمفاضلة آلية لتبين حقيقة‬
‫الكائن‪ .‬هكذا تبدأ أجرأة التذييت عند "اليبنتز" انطالقا من اختزال الحسي في‬
‫الروحي ضمن كل كائن‪ ،‬إال أن األمر اليتوقف عند ذلك بل يتجاوزه إلى مفاضلة‬
‫أخرى تميز بين مستويات الكائنات حيث يمكن إقامة تراتب بين كائنات مؤهلة‬
‫بالرغبة واإلدراك وتشمل النباتات‪،‬ثم الكائنات المؤهلة ‪ -‬باإلضافة إلى الرغبة‬
‫واإلدراك ‪ -‬بالذاكرة وينطبق ذلك على الحيوانات‪،‬وأخيرا الكائنات المؤهلة بالعقل‬
‫والتي لها القدرة على بلوغ حقيقتها الخاصة كما الحقائق الخالدة‪،‬وهذه الكائنات هي‬
‫مايصطلح عليه "اليبنتز" بالموناد العاقل ‪ .‬إال أن ما يهمنا هنا هو طبيعة العالقة بين‬
‫هذه المونادات‪.‬‬

‫إن هذه المونادات العالقة فيما بينها خاصة وأن الموناد العاقل هو بالتعريف‬
‫داخلية مطلقة‪ .‬وإذا كان اإلدراك يشكل قدرة الموناد على تفسيرعموم الكائنات فإن‬
‫هذه القدرة هي محددة سلفا باعتبارها معطى فطريا‪ .‬فدرجة كل موناد على فهم بقية‬
‫المونادات محددة ببرنامج إدراكي فطري اليمكنه أن يتخطى حدوده‪،‬من هنا تكون‬
‫رغبة كل موناد بما هي رغبة إدراكية تكون محدودة بحدود القدرة اإلدراكية‬
‫الطبيعية للكائن‪ .‬إن الكائن إذن‪،‬هوهنا معطى سلفا كشفرة طبيعية ثابتة وقارة‪ .‬واليفيد‬
‫هذا إال بأن المونادات على اختال ف طبقاتها‪ ،‬وإن أقر "اليبنتز" بترابطها على نحو‬
‫منسجم‪،‬إال أن ترابطها ذاك يظل ترابطا خارجيا اليؤثر في الطابع الجوهري الداخلي‬
‫للموناد‪.‬‬

‫هكذا تكون حقيقة األنا بمثابة موناد عاقل مكتف بذاته بما هو عاكس لعموم الكائن‬
‫دون أن يكون لذلك أدنى تأثير على جوهريته‪،‬فاألنا تصير ذاتا من حيث أنه في‬
‫مقدرتها اإلدراكية تفسير جملة الكون دون أن يكون العكس صحيحا؛ومرجع ذلك‬
‫أنها جوهر مغلق كما بقية المونادات‪،‬وهذا ما يفسر قول "اليبنتز"‪":‬يترتب على ما‬
‫تقدم أن التحوالت الطبيعية للمونادات تأتي من مبد أ داخلي"(‪ .)15‬بهذا تكون‬
‫س يرورة تذييت األنا هي سيرورة تأكيد داخليتها المغلقة‪،‬إثبات جوهريتها المكتفية‬
‫بذاتها‪.‬‬
‫الحقيقة أن سيرورة تذويت األنا(أي تحويل األنا إلى ذات متسيّدة على الكون)هي‬
‫سيرورة تأكيد األنا باعتبارها ذاتا‪،‬مع ما يعنيه هذا من تأكيد لها بوصفها علة كافية‬
‫تصيّرعموم الكون إلى مجرد موضوع وذلك ضمن التمثل‪ .‬وحده هذا التّصيير كفيل‬
‫بتعليل وجود الكائن باعتباره مايوجد من أجل الذات‪،‬إنه الموضوع الذي ليس كذلك‬
‫إال من حيث إنه تحت قبضة التمثل الذاتي‪ .‬والجديربنا القول إن هذه األطروحة التي‬
‫تعود إلى "هايدجر" هو ما جعله يولي أهمية قصوى لمفهوم العلة الكافية عند‬
‫"اليبنتز"‪ .‬فمبدأ العلة ليس فقط تحويال نظريا للكائن إلى موضوع ضمن التمثل‪،‬بل‬
‫إن هذا التحويل اليخلو من تبعات عملية السيما وأن ‪ ratio‬التي تشكل الجذر اللغوي‬
‫لكلمة ‪ raison‬الفرنسية و‪ raizon‬األلمانية تعني توفيرعلة للكائن ضمن تصور‬
‫تمثلي يحول الط بيعة إلى شبكة عالقات علية حتمية؛كما تعني في نفس الوقت جعل‬
‫الشيء قابال للحساب‪،‬للمعالجة الرياضية التي أصبحت اليوم معالجة تقنية حيث‬
‫يخضع الكائن لماهية التقنية باعتبارها استفسارا وإخضاعا للكائن بمعزل عن كينونته‬
‫ككائن‪.‬‬

‫إن ما انتهى إليه "ديكارت" و"اليبنتز" من تأسيس دوغمائي للذات عبرخطاب‬


‫فلسفي محتر ف هوما عبّرعنه الفيلسو ف‪-‬الفقيه "مالبرانش" بطريقة متواضعة فلسفيا‪.‬‬
‫فقد عرض بطريقة بسيطة لسيرورة تأسيس الذاتية وذلك من خالل خليط فلسفي‬
‫الهوتي يكشف عن األصول البعيدة للتصورالدوغمائي للذات‪ .‬فلم يتوان "مالبرانش"‬
‫عن عرض األ صول المسيحية للذاتية (فلسفة تمجيد الذات استنادا إلى ملكاتها‬
‫العقلية)‪،‬ذلك أن اإلنسان له طبيعة مزدوجة‪ :‬فـ"من حيث إننا جسم وفكر فإن لدينا‬
‫نوعان من الخيرات لنا أن نبحث عنها‪،‬خيرات الفكر وخيرات الجسد"(‪ .)16‬غاية‬
‫النفس هي المعرفة ذلك أنه "إذا كان من المؤكد أن ملكة التفكير التي لدينا جاءتنا من‬
‫هللا فمن المؤكد أنها وضعت من أجل هللا"(‪)17‬؛هذا في حين أن الجسد يحول‬
‫باستمرار دون معرفتنا باهلل‪ .‬لذلك فـ "إذا كان هللا قد منحنا جسما كما منح ذلك أيضا‬
‫للمسيح فمن أجل أن نفعل به كما المسيح‪،‬أي أن نضحي به كهبة هلل"(‪ .)18‬النتيجة‬
‫أن األنا أفكر ليست جسدا بل إنها طبيعة عقلية منغلقة عما عداها من طبائع أخرى‬
‫فهي عطاء إالهي تام‪،‬إنها قبس روحي من هللا‪ .‬لذلك فهي في نظرية الخلق أسمى من‬
‫أي مخلوق‪،‬فقد خلق هللا الجسد من أجل النفس مثلما خلق بقية المخلوقات من أجل‬
‫"األنا أفكر"‪ .‬فـ"األنا أفكر" هي هنا ذات بما هي أسمى المخلوقات‪،‬لذلك ليس غريبا‬
‫في شيء انتهاء الرجل إلى الخالصة التالية‪" :‬إذن فهذه األنا التي تفكر أي جوهري‬
‫الخالص هي ليست جسما أبدا"(‪.)19‬‬

‫ظل التأسيس الفلسفي للمفهوم الدوغمائي للذات (الدوغمائي أي المتطر ف لجهة‬


‫مبدأ ما‪،‬والمقصود هنا التطر ف لموقف الطابع العاقل للذات مثلما نجد ذلك عند‬
‫ديكارت) إذن حبيسا لنظرية الخلق وهذا ينطبق أيضا على "ديكارت" و"اليبنتز"‪.‬‬
‫لذلك الحظ "ألكيي" أنه "بالرغم من أن المسيحية قد حطّت من قيمة الطبيعة معتبرة‬
‫إياها ساقطة أ ّمارة بالسوء‪،‬فقد أفقدت العالم تماسكة وأدركت الكينونة كإرادة وأكدت‬
‫على القيمة الوحيدة للذات اإلنسانية"(‪.)20‬‬

‫إضافة إلى المنزع الرياضي المنطقي الذي اعتمده "ديكارت" و"اليبنتز" كل‬
‫بطريقته الخاصة كما سنتابع ذلك‪،‬لم تخل أطروحاتهم من منزع الهوتي‪ .‬لذلك ذهب‬
‫"هايدجر" إلى قول إ ن "الميتافيزيقا الحديثة منذ "ديكارت" إلى "كنط" وبعده أي‬
‫ميتافيزيقا المثالية األلمانية(يمثلها الفالسفة‪:‬فيشته‪،‬شيلينغ‪،‬هيجل)اليمكن التفكير فيها‬
‫خارج التمثالت المسيحية األساس‪ ...‬فبالنسبة لبنية هذه الميتافيزيقا هناك لحظتان‬
‫أساسيتان‪ -)1 :‬التمثل المسيحي للكائن من حيث إنه كائن مخلوق ‪ -)2‬السمة‬
‫الرياضية األساس‪ .‬ت تعلق اللحظة األولى بموضوع الميتافيزيقا في حين تتعلق الثانية‬
‫بصورتها"(‪ .)21‬لعل ما ينتهي إليه هذا المشترك هو تأكيد الذات كرغبة على حد‬
‫تعبير"اليبنتز" أو كإرادة على حد تعبير"ديكارت"‪،‬وهما معا مسميات لنفس اآللية‬
‫التي ترتقي باألنا إلى مستوى الذات‪،‬أو كما ذهب "ألكيي"‪":‬بإعالن ديكارت أن الفكر‬
‫هو الذات نفسها يكون قد اختزلها إلى مبدأ شخصي اليمكنه أن يكون غير‬
‫اإلرادة"(‪ )22‬حيث "يبدو مبدأ اإلرادة كعلة كافية لتأسيس األنا"(‪.)23‬‬

‫تستحيل األنا إلى ذات بقدرما يتم تحديدها بوصفها إرادة لكونها جوهرا‪،‬اكتفاءا‬
‫ذاتيا‪"،‬مونادا"عند "اليبنتز" أو"أنا مفكرة" عند "ديكارت"؛وأخيرا باعتبارها مخلوقا‬
‫على صورة هللا عند "مالبرانش"‪ .‬وفي كل األحوال نحن أمام مشهد مولد ذات‪-‬إرادة‬
‫نفي وإقصاء ما عداها كي يمثل أخيرا بوصفه موضوعا‪،‬فموضوعية الموضوع‬
‫التستقيم إال باعتبارها معلوال لذات‪-‬سيد يعبث بطبائع األشياء ومصائرها‪ .‬لعل ذلك‬
‫"ألكيي"ألطروحات"ديكارت"قائال‪":‬تنزع النظرية‬ ‫مانستشفه من توصيف‬
‫الديكارتية كل موضوعية أنطولوجية(أي وجودية‪،‬والمعنى هنا أن الطبيعة تستمد‬
‫حقيقتها من العقل اإلنساني وليس من ذاتها) عن الطبيعة‪،‬كما تنزع عن علم الطبيعة‬
‫كل أهمية ميتافيزيقية"(‪ .)24‬وبهذا يكون "ألكيي" قد حدد الملمح األساس للعقالنية‬
‫الدوغمائية بما هي تخط للمعطى نحو تأسيسه العقلي لتستحيل بذلك الطبيعة إلى‬
‫فكرة‪،‬إلى معادلة رياضية‪ .‬وبهذا نلحظ تزامن تأسيس الذات مع إخضاع الطبيعة‬
‫لمقتضيات العقل‪.‬‬

‫الئحة المراجع‬

‫‪ -)14‬اليبنتز(غوتفريد فيلهلم)‪،‬مقالة في الميتافيزيقا‪،‬ص ‪،91‬ت‪.‬الطاهر بن قيزة‪،‬المنظمة العربية‬


‫للترجمة‪.2006،‬‬
‫‪15)- Leibniz(Gottfried wilhelm),La monadologie,p128, Librairie Générale‬‬
‫‪Française,1990.‬‬
‫‪16)- Malebranche (Nicolas),convèrsations chrétiennes,p36,Gallimard,1979.‬‬
‫‪17)- ibid,p63.‬‬
18)-ibid,p170.
19)- ibid,p224.
20)- Alquié(Ferdinand),la découvèrte métaphysique de l’homme…t
2,p427,ceres,1995.
21)- HeideGGer(Martin), Qu’est-ce qu’une chose,119-120, Gallimard,1971.
22)- Alquié(Ferdinand),la découvèrte metaphysique de l’homme…t
2,p252,ceres,1995.
23)- ibid,p258.
24)- ibid,p162.

You might also like