Professional Documents
Culture Documents
تمهيد
كان طغيان االتجاه المادي التجريبي مع السيطرة العقلية الصارمة ،سببا في حدوث رد
فعل مضاد تمثل في التيار الروحي المعاصر .وقد تكرر نفس الوضع مرة أخرى عندما اتسع
نطاق التحليل الرياضي والتجريب العلمي ،وامتدت جذورها إلى كافة الميادين الطبيعية
واإلنسانية أيضا ،األمر الذي أدى إلى محو إنسانية االنسان الحي ،والقضاء على طبيعته
الحيوية التي ال يصح اخضاعها للتحليل الرياضي الصوري ،وال يمكن تطويعها للتجريب اآللي،
ألن االنسان في جوهره واقع بشري متطور ،كما أن التجربة اإلنسانية في حقيقتها ليست جامدة
مثل الطبيعة ،وإنما هي تجربة نابضة حية ،لها خصائص مغايرة تماما لغيرها من الظواهر
األخرى ،لهذا فإن استخدام مناهج التحليل الرياضي وطرق البحث العلمي في دراسة االنسان
يعني بالضرورة أن يصبح االنسان مجرد آلة أو شيء دون أن يكون انسانا.
1
ومن جملة العوامل التي أدت إلى ظهور االتجاه اإلنساني الوجودي ،هي ظروف المجتمع
األوروبي من حربين عالميتين وما نتج عنهما من انتصار البعض وانهزام البعض اآلخر،
وأصبحت مشكلة حياة االنسان ومصيره مجاال لتامل الفالسفة ومحاولتهم للبحث عن حلول
لها(.)1
الوجود مفهوم فلسفي يقصد به مطلق الواقع ويقابله العدم ،سواء كان الواقع ماديا ،أو
مجردا ،أو ذوات ،أو حاالت ،وينبغي أال نخلط بين مفهوم الوجود وبين مصادقاته ،فهو يطلق
بمعنى مشترك بين موجودات مختلفة في حقائقها وماهياتها (،)2
نشير إلى أن هذا المفهوم للوجود ،هو المشكل الذي أثاره الفيلسوف األلماني مارتن هيدغر
)1976-1889( Martin Heideggerوانتهى إلى انه مفهوم بالبداهة المطلقة ،وأنه أكثر
المفاهيم بداهة وأوالها وضوحا على االطالق وانه مفهوم رئيسي ترجع إليه كل المفاهيم ،وال
تفهم دونه ،ولكن وضوحه كما يبدو في حياتنا اليومية ليس معناه أنه واضح فلسفيا بالبداهة
على العكس ،فإنه يبقى في الظالم ،وكان هم هيدغر الفلسفي كله هو ان يحمل هذا المفهوم
المظلم الغامض إلى النور والوضوح ،وأن يجلي معناه ولذلك سمي وجوديا (.)3
- 1سماح رافع محمد ،المذاهب الفلسفية المعاصرة ،مكتبة مدبولي ،ط ،1973 ،1ص .116
- 2عمار طالبي ،مدخل إلى عالم الفلسفة ،دار القصبة للنشر ،الجزائر ،ص .298
2
المذهب الوجودي مذهب فلسفي معاصر ( ،)1أو هو تلك النزعة الفكرية التي سيطرت على
الفلسفة الفرنسية خالل الحرب العالمية الثانية وما بعدها ،وقد تحددت معالم تلك الفلسفة بظهور
كتابين األول «الوجود والزمان» للفيلسوف األلماني مارتن هيدغر في عام ،1927
كان الغرض من كتابه هو معالجة معنى الوجود ،وحسب رأيه أن مفهوم الوجود أعمق المفاهيم
على االطالق ،وميز بين الوجود والموجود ،وذهب إلى أن الوجود هو الذي يحدد الموجود
ويعينه ،ولكي نفهم الوجود ال بد أن نبدأ بالموجود في ذاته ،ونقطة البدء عنده إنما هو الموجود،
والموجود االنسان الذي يسميه Daseinالموجود-هناك ،ولم يتجاوز هيدغر مستوى تحليل
الموجود وأنه من العدم يأتي كل موجود (.)2
والثاني «الوجود والعدم» للفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر عام .1943ولقد انتقلت الفلسفة
بفضل هاذين الكتابين من دراسة الوجود المجرد إلى دراسة الوجود اإلنساني المشخص في
وجوده الحسي .يفهم من هذا أن الوجودية تهتم بالوجود المشخص ،فهي بهذا تختلف عن غيرها
من الفلسفات التي تبحث في الماهية.
أوال :الوجود في ذاته ،ويمثل وجود األشياء والعالم المادي والظواهر المرتبطة به ،وهو وجود
مليء غير فارغ ،كما أنه وجود ال تسبقه الماهية دائما.
- 1على الرغم من أن الوجودية من أحدث المذاهب الفلسفية إال أنها في الوقت ذاته أقدمها إذ أنها نشأت مع وجود اإلنسان
وصاحبت إحساسه بالذات) ينظر راوية عبد المنعم وعباس عطيتو ،من قضايا الفلسفة ،دار الوفاء ،ط ،2014 ،1ص
.).22
- 2عمار طالبي ،مدخل إلى عالم الفلسفة ،دار القصبة للنشر ،الجزائر ،ص .320
3
ثانيا :الوجود لذاته ،ويمثل الشعور الحي أو الذات أو االنسان عامة ،وهو شعور بالنقص،
يسعى صاحبه إلكماله دائما وبناء ماهيته بنفسه.
يضيف سارتر نوعا ثالثا وهو الوجود للغير ،وهو نفسه الشعور الذاتي السابق لكن في ارتباطه
باآلخرين ،ألن الذات ليست موجودة وحدها في هذا العالم ،وإنما ترتبط مع اآلخرين بعالقات
متعددة ،وهناك صراع مستمر بين الوجود للذات والوجود للغير ،فالثاني يحاول اجتذاب األول
إلى مجال اآلخرين ،بينما تسعى الذات السترداد ذاتيتها من هذا الجانب اآلخر (.)1
-يبدأ هذا النمط من التفلسف من اإلنسان باعتباره موجودا أكثر من اعتباره مفك ار ومن هنا
يصرح جون بول سارتر أن اإلنسان يوجد أوالً ثم يحدد ماهيته بإرادته فهو بهذا وجود لذاته.
مما يدل أنه من النوع الذي يسبق فيه " الوجود الماهية" على حد تعبير سارتر.
-ناقش فالسفة الوجودية على اختالفهم موضوعات مثل الحرية والمسؤولية القلق االغتراب
...كما اهتموا بالحياة العاطفية لإلنسان الذي لم يناقش بالكيفية الواضحة في الفلسفات السابقة.
-الوجوديون من أشد أعداء المعرفة العقلية إذ العقل عندهم ال يوصل إلى معرفة حقيقية.
فالمعرفة ال تتأتى إال عن طريق ممارسة الواقع والتي تعني عندهم ممارسة تجربة القلق.
-ترفض الفلسفة الوجودية أن يكون للفيلسوف بداية لنسقه الفلسفي ،وتدعو إلى الحرية
المطلقة في إبداء الرأي وما سوف يترتب على ذلك من تحرر فكري يقوم على الحرية المطلقة
التي ترتبط بقيود.
- 1سماح رافع محمد ،المذاهب الفلسفية المعاصرة ،مكتبة مدبولي ،ط ،1973 ،1ص .131-130
4
-يربط الفالسفة الوجوديون القيم والمبادئ بالذات المتشخصة ولهذا فإنهم يرفضون القيم
والمبادئ التي نادى بها الفالسفة ورجال الدين من قبلهم مثل أفالطون وأرسطو.
-الفلسفة الوجودية هي التحام فكر اإلنسان مع الوجود الذي يمثل منبع الحياة فهي فلسفة
يقابل سارتر بين وجود الشيء الفعلي من جهة ،وبين ماهيته أو مجموعة صفاته الجوهرية
من جهة أخرى ،حيث يرتبط كل منهما باآلخر واقعيا ،حيث يرى أن األشياء الجامدة والمصنوعة
تكون ماهيتها أسبق من وجودها ،وضرب مثال لذلك بعملية اخراج سكين أو كتاب إلى الوجود،
فالصانع حدد في ذهنه ماهية هذا الشيء ،كما اتضحت صفاته الجوهرية في عقله ،والتي بناء
عليها تم اخراج هذا الشيء إلى الوجود ،ومن ثم تكون الماهية هنا أسبق من الوجود ،وهي التي
أدت بالشيء إلى الخروج إلى الواقع ،حيث ال يمكن لهذا الشيء بعد ذلك أن يضيف لنفسه
ماهيات أو صفات جديدة .لكن االنسان هو الكائن الوحيد العاقل الذي سبق وجوده ماهيته،
وهو في هذا يخالف نظرية الفالسفة المثاليين في القرون السابقة ،خاصة ديكارت(.)1
يقرر سارتر أن االنسان في أصل وجوده مجرد مشروع ،يحدد هو نفسه خصائصه وصفاته
وماهيته التي يريدها لنفسه ،والتي يعمل على تنفيذها في حياته ،كأن يريد أن يكون شجاعا أو
جبانا ،عالما أو جاهال ،خي ار أو شريرا ،وهكذا.
إذن أسبقية الوجود على الماهية تعني بالضرورة أن االنسان حر في حياته وفي اختيار صفاته،
وهذا االختيار تأكيد إلنسانية االنسان (.)2
يمكن بعد ذلك إيجاز آراء سارتر السابقة في بضع كلمات :بما ان وجود االنسان أسبق
من ماهيته ،إذن فاإلنسان حر في اختيار صفاته وخصائصه ،لكنه يجب أن يلتزم في هذا
5
االختيار الذي سوف يكون اختيا ار لإلنسانية جمعاء ،ومن هنا ارتبط بالخرية واالختيار الشعور
بالمسؤولية وما يترتب عليها من قلق هدفه البناء والعمل .وهكذا أصبح االنسان محكوما عليه
بالحرية وبكل ما يترتب عليها من نتائج ال يستطيع ان يتخلص منها اطالقا.
-جون بول سارتر ،)1980-1905( Jean Paul Sartreفيلسوف وكاتب فرنسي ،أدخل
لفرنسا الوجودية والفينومينولوجية (الظواهرية) بسبب كتبه «التخيل»« ،تعالي األنا»« ،مشروع
نظرية في االنفعاالت» ،من أهم مؤلفاته« ،الوجود والعدم» (« ،)1943نقد العقل الجدلي»
عام (.)1960
يرى الوجوديين األوروبيين أن الوجود متقدم على الماهية ،والماهية الحقة وهي مشروع
وصيرورة يمكن أال تتحقق إذا فشل االنسان في مشروعه وتحقيق ماهيته باختياره وفعله ،يرى
سارتر أن ليس لإلنسان ماهية ،وال طبيعة خاصة معينة كما للصخرة مثال أو للماء أو للتراب،
6
فهو وجود ال ماهية له ،يعطي له الوجود وهو يحقق ماهيته وأساس ذلك حرية االنسان،
واختياره(.)1
االستنتاج:
7