Professional Documents
Culture Documents
لتندرج بذلك مسالة اإلنية والغيرية في مسألة أشمل هي مسألة "اإلنساني بين الكثرة والوحدة" .وهذه المسألة
تتحرك في سياق مطلب الكونية .ذلك أن اإلنسان قد كّف على صنع صور أو ماهّيات وتعريفات متعالية تنتزع
الّصور عن ماّد تها وتحّو لها إلى تجريدات ،ولعّل ذلك ما استجابت إليه التصّورات الفلسفّية بأن تخّلت عن سؤال
"ما اإلنسان؟" ( وهو سؤال ماهوي يبحث في حقيقة اإلنسان و جوهره و أصله يتطلب تحديد الماهية الوحدة
والثبات و الشمولية و اإلطالقية و الكليّة لذلك فهو يفترض إجابة واحدة وثابتة مما يؤدي إلى اختزال اإلنسان في
بعد واحد وتجريده من جوانبه المتعددة التي قد يجد فيها السبيل إلثبات وجوده لذلك هو سؤال سيئ الطرح ) نحو
سؤال أكثر تجذيرا في خصوصّيته وأكثر تطّلعا لتحديد "اإلنساني فينا" ألّنه وحده سيسمح بمشروع لقاء اإلنسان
باإلنسان ممكنا وهو سؤال من هو اإلنسان ؟ ( سؤال تاريخي تتطلب مقاربته العودة للخصائص الوجودية لإلنسان
فهو أكثر واقعية ) .وال يتحقق ذلك إّال بتجاوز األوهام الميتافيزيقّية القديمة التي رّسختها الفلسفة الكالسيكّية نحو
حاالت وجود واقعّية تعّين وضعّية النوع اإلنساني.
الفلسفة بالتالي ستحّو ل وجهتها من البحث عن سؤال ما اإلنسان ؟ إلى البحث في أشّد الصفات التي تحّقق
إنسانّية اإلنسان.وهو ما يتجلى في إشكالية اإلنية و الغيرّية.
يقّر أفالطون أن كمال الوجود اإلنساني أي إنية اإلنسان تتحقق بالنفس وحدها ذلك أن أفالطون يتبنى موقفا ثنائيا إذ
يفسر اإلنسان بإرجاعه إلى مبدأين مختلفين:
* مبدأ روحاني هو النفس التي تتحدد تماما مثلما سيكون األمرعند أرسطو باعتبارها مبدأ حركة.
* مبدأ مـــادي هو الجسد.
ويختزل اإلنسان في بعده الواعي و يقر بأن النفس تتحكم كليا في الجسد.
وخصوصية أفالطون تتمثل في إقراره بأن النفس جوهر في حين يمثل الجسد عرض .لذلك يختزل أفالطون
اإلنسان في بعده الواعي ويقصي الجسد من ماهية اإلنسان ،إذ أن الجسد بالنسبة إليه عاطل عطالة كاملة فالنفس
هي التي تحّر كه وهو مصدر رذيلة ويمثل عائقا يعوق النفس في عملية صعودها نحو المثل
★★★ديكارت Descartes
إلثبات الذات موجودة ينطلق ديكارت من تجربة الشك .إذ أن ديكارت يشك في كّل شيء يجد فيه مجّرد ترّد د وهكذا
ال يترك الشك مجاال دون أن يطاله .إال أن هذا الشك الذي طال كّل شيء ال يستطيع أن يخامر الحالة التي أكون
فيها بصدد الشّك .فديكارت يستطيع أن يشك في كّل شيء إال في كونه يشك ألن الشك في الشك ال يقوم إال بتدعيم
الشك .و هكذا يأتي الشك على كّل شيء إال على اليقين الذي يتضمنه ،يقين الذات بذاتها موجودة كفكر أي يقين
الكوجيتو.وخصوصية ديكارت تتمثل في كونه على خالف أفالطون وأرسطو يحدد النفس كفكر ال كمبدأ حركة
وبالتالي تماما مثل أرسطو وأفالطون يعتبر أن النفس جوهر ولكنه على خالف أرسطو وأفالطون يعتبر أيضا أن
الجسد جوهرا من جهة كونه مستقل بذاته إذ أن حركة الجسد ال تفسرها النفس وإنما هي حركة آلية ميكانيكية نابعة
من طبيعة الجسد ذاته كامتداد مادي
يمثل موقف سبينوزا أول موقف فلسفي يرد االعتبار للجسد في تحديد اإلنية ولكن أيضا موقف يسعى إلى إقحام
اإلنسان في الطبيعة و في العالم عبر سلب االمتيازات الميتافيزيقية التي أضفاها التصور الثنائي على اإلنسان.
ذلك أن سبينوزا على خالف أرسطو و ديكارت يحدد الجوهر ال باعتباره المتصل بذاته ولكن باعتباره المسبب
لذاته وهو ما يعني أنه ال يوجد إال جوهر واحد هو هللا أو الطبيعة ،و أّن هذا الجوهر يتكون من عدد ال متناهي من
الصفات وأن كّل صفة من هذه الصفات تتكّو ن من عدد ال متناهي من الضروب أو األحوال .Modes
وهذا يعني أن كّل ما يوجد هو إما ضرب من ضروب صفة االمتداد و إما ضرب من ضروب صفة الفكر و إما
ضرب من ضروب أحد الصفات األخرى التي ال يعرفها اإلنسان و إما عالقة ضريبة بين ضربين و هو حال
اإلنسان .و هذا يعني أن الوحدة بالنسبة لسبينوزا تتمثل في الجوهر الواحد في حين تمثل الصفات الالمتناهية
وضروبها الكثرة .و الضروب بما فيها اإلنسان تتحدد كانفعال أي كرغبة في المحافظة على البقاء (كوناتوس) .و
الصراع الذي كان يتحدث عنه ديكارت داخل اإلنسان ،بين العقل واالنفعاالت ،أصبح مع سبينوزا صراعا خارج
اإلنسان ،صراع كّل الضروب من أجل المحافظة على البقاء.
الجسد مع سبينوزا يتماهى مع النفس في مستوى الماهية بما أن النفس والجسد شيء واحد تارة ننظر إليه من جهة
صفة الفكر وطورا ننظر إليه من جهة صفة االمتداد ،و يتماهي معها في المستوى االنطولوجي بما أن كّل من
النفس والجسد يمثل ضربا أو حال ،و يتماهى معها في مستوى القوة والفعل بما أّن فعل النفس هو فعل الجسد وهو
الفعل الذي ينحو إلى المحافظة على البقاء.
مع سبينوزا إذا ال أنية دون الغيرية الداخلية والخارجية معا ،فاإلنسان يتحدد بوعيه وجسده ويتحدد كرغبة
تتطّو ر في العالم أو الطبيعة
على عكس الوعي الديكارتي الذي يحّد د طبيعة الذات اإلنسانية وعالقاتها االجتماعية المختلفة ،فإن ماركس
يرى أنه ال وعي دون شروطه االجتماعية" فليس وعي البشر هو الذي يحدد وجودهم وإنما على العكس من
ذلك وجودهم االجتماعي المادي هو الذي يحدد وعيهم" .ويستحضر ماركس الغيرية من زاوية
تاريخية ،فالوعي ليس متعاليا وليس مستقال بذاته بما أنه انعكاس للواقع االجتماعي التاريخي وهو مكتسب
ومتطور :مكتسب ألنه يعكس عالقة مع الواقع الطبيعي.
إن تحديد بنية الوعي في إطار تركيبته االجتماعية والتاريخية هو ما يبرز حدود الوعي من خالل ربطه بذلك
الكائن المنتج واالقتصادي ،وهو بالتالي ظاهرة من الظواهر االجتماعية وليس فطري في اإلنسان ،بل كما
يقول ماركس "الوعي نتاج اجتماعي "وأيضا" الوعي هو أوال نتاج اجتماعي ويظل كذلك طالما وجد بشر".
الوعي هو نتيجة وعي محدود بشروط اقتصادية واجتماعية وهذا ما دعا ماركس إلى نقد جميع المقاربات
الفلسفية المثالية(هيقل أساسا) التي جعلت الوعي منفصال عن شروطه وبيئته وأكدت على استقالليته يقول
ماركس" على عكس الفالسفة األلمان الذين ينزلون من السماء إلى األرض نحن نصعد من األرض إلى
السماء".
الوعي إذن ليس مبدأ بل نتيجة ومكتسب ينمو بنمو اإلنتاجية والحاجيات ويعكس بالضرورة واقع اجتماعي
واقتصادي فتبدو بذلك العالقة جدلية( تأثر وتأثير) بين الواقع المادي للمجتمع( البنية التحتية) وأشكال الوعي
اإليديولوجي( البنية الفوقية :التصورات واألفكار السياسية والعلمية والميتافيزيقية والدينية واألخالقية ..الخ).
إن الشروط المادية هي المحدد األصلي والفاعل الحقيقي والمكّو ن الرئيسي لبنية الوعي .وهذا اإلقرار هو نفي
كلي للتصور الذي يقر بمركزية الوعي وثباته واستقالله عن الوجود المادي.
4 Page الياس بومنيجل :تلخيص ":اإلنية والغيرية"
استنتاج - :اإلنسان لم يعد كائن الوعي بامتياز( "حيوان ناطق" أرسطو"-كوجيطو" ديكارت "-كوناتوس"
سبينوزا " -فرنونفت" هيقل" -كوجيتاطوم" هوسرل" -كوجيطو متجسد" مارلوبونتي..-وإنما أصبح حيوان
عامل أو منتج أو صانع أو فاعل HOMO FABERفي مقابل HOMO SAPIENS
المكاسب:
تجاوز الماركسية لمعنى الوعي المتعالي والمستقل لتجعل منه بنية ناتجة عن عوامل اجتماعية
بتفاعالتها المختلفة ،ولعل هذا ما ثمنه "بول ريكور" حينما اعتبر ماركس قطبا من أقطاب فالسفة
الظنة وكاشفي األقنعة ألنه كشف عن أوهام الوعي الزائفة( الوعي الزائف والقطيعي)
الحدود:
بالرغم من جدية أطروحة ماركس في كشفه عن حدود الوعي وزيفه ،فإنه لم يقم بتحطيم الوعي نهائيا
واكتفى بالتظنن عليه(دون إلغائه) ولعل هذا ما تفّطنت إليه جينيالوجيا نيتشة حيث ال يمّثل الوعي عنده
جوهرا وأساسا ،بل إن كينونة اإلنسان متعّينة في حقيقة الحسد وقواه ورغباته وغرائزه الحيوية...
الهو الُم ندفع محكوم بمبدأ اللذة ( أي جملة الدوافع الجنسية والعدوانية التي تحكم رغبات الهو و ميوالته لتجعل منها
رغبات تنتظر اإلشباع ) في عالقة صراعء مع األنا األعلى المحكوم بمبدأ الواقع و الذي يلعب دور الضمير و
الرقيب ،ليمارس عليه جملة األوامر و النواهي الُم لزمة التي تجعل من رغباته مكبوتة.
هو تصور ظاهراتي يتجاوز اإلقرار بعزلة الذات و بانغالقها على ذاتها ( تجاوز التصور الميتافيزيقي )
و يتجاوز تطابق الذات مع ذاتها و عزلتها عن العالم الخرجي و يتجاوز التحديدات التي تربط االنسان بمقومات
جوهرية ثابتة ومطلقة كما ينفي عن االنسان الوحدة والثبات من جهة و التعالي و االنفصال عن العالم من جهة
ثانية مؤكدا على ضرورة تخارج الذات وانفتاحها على العالم الخارجي و االعتراف به يما يحويه من ذوات أخرى
وموضوعات أخرى لها تلك القيمة الُعظمى في تحديد إنسانية اإلنسان ،إذ أن إدراك اإلنساني يستوجب االنتفتاح
على الغيرية ( فاالنساني يتحدد في اطار عالقات متشابكة ،واالوجود االنساني ال يمكن مقاربته اال من جهة
الكثرة )
بذلك يبدو التصور الفينومينولوجي تصورا تجاوزيا نقديا يهدف إلى تأسيس منظور تأليفي يأخذ بعين االعتبار كل
أبعاد االنسان و ال يختزلها في بعد واعد كما فعلت الفلسفة المادية او الميتافيزيقية .
يقول هوسرل مؤسس هذا التصور ":أنا أفكر في موضوع ما /شيئ ما إذن أنا موجود" وهو ما يخلق الزما بين
الوعي باعتباره وعيا بشيئ ما ( بالعالم الخارجي ) وبين الوجود.
لسائل أن يسأل عن السبيل لهذا التخارج الذي تحول إلى ضرورة ال مناص منها على الذات توفيرها في سياق
بحثها عن وجودها األصلي ،يستوجب ذلك فهم قيمة الجسد الخاص في تحديد هذه الرؤية التأليفية:
الموقف الميتافيزيقي :اإلنسان هو عقل ،ذات تحدد ذاتها بذاتها ،مْو َض َع ُة كل ما هو متخارج عن الذات بما في
ذلك :الجسد وبقية الذوات األخرى ( اآلخر ) ،أي إستبعاد الجسد من مجال تحديد اإلنساني و إلحاقه بمجال
الغيرّية الُم هّم شة ،هذا الموقف في الحقيقة يتقابل مع تجربتنا المعيشة في اليومي ،إذ ُتبت هذه التجربة كثافة و
أهمّي ’ حضور الجسد وتثبت أيضا تعلّق وجودنا مباشرة بالجسد.
يصبح التخارج و االنفتاح ضرورة أنطولوجية في مسيرة الذات إلثبات وجودها.
"الوسيلة" في ذلك هي الجسد الخاّص ( اإلقرار بالجسد في هذا السياق ال يعني العودة إلى التصورات الفرويدية و
النيتشوية ألن هذه التصورات ُتهمّش الوعي الذي هو ضرورة أنطولوجية في تحديد ماهية اإلنسان .وهي
تصورات منقوصة ألنها تختزل الغيّر ية في ما يكون ُقبالة الذات فقط)
العالم ال يمكن أن نتحرر منه ألنه الموطن األصلي للجسد باعتباره جسدا معيشا و خاصا ،ننتقل بذلك من :وعي
مكتف بذاته /منغلق على ذاته /وعي في ذاته ولذاته إلى وعي قصدي ( يقصد شيئا ما /يتوجه إلى شيئ ما /
يستهدفه ( /تفيد القصدية كل فعل معيش نتوجه به إلى شيئ ما )) وهو وعي يقصد األشياء و الذوات األخرى
( العالم الخارجي ) من خالل فعل التمعين ( القدرة على خلق المعنى و الداللة ) ،وهذه القدرة مرتبطة أساسا
باللغة التي ال يمكن أن تجد داللتها إال في سياق عالقتها بالجسد الخاّص .
نحن بذلك إزاء اإلنتقال من جسد موضوع :هو الجسد المقابل للذات بما يجعل منه موضوعا لالستكشاف و
المعرفة /مستقل عن الذات وعن الوعي القصدي ..إلى الجسد الخاص /المعيش :هو ما ُندرك بواسطته ( فهو
اإلنسان مشروع ذاته وأّنه حّر ية مفتوحة على إمكانيات ال نهائية وأّن إّنيته تتحّد د بالمشروع الذي يختاره لنفسه،
فهو دائم التجاوز لوضعيته األصلية بواسطة ممارساته .ويعتبر سارتر أّن اإلنسان بما هو شخص هو مشروع
مستقبلي ،يعمل على تجاوز ذاته ووضعيته وواقعه باستمرار من خالل اختياره ألفعاله بكّل إرادة وحّرية
ومسؤولية ،ومن خالل انفتاحه على اآلخرين.
ونحن نقول إّن اإلنسان حّر باعتباره إّنية ال تزال في طور الغيرية ،والعدم الذي يوجد في قلب اإلّنية هو الذي
يجعله حّرا ،إذ اإلّنية ال توجد مع اإلنسان وإّنما هي ما يصنعه اإلنسان ،فما يوجد هو العدم أّم ا اإلّنية فهي اإلمكان،
وألّنها ما يمكن فهي ليست كائنة بل ما يكون؛ وعلى اإلنسان أن يختار اإلّنية التي يرتضيها لوجوده.
وفي النهاية نقول :عّلمتنا الفلسفة أّن اإلنسان ال يولد إنسانا ،وإّنما يصير كذلك ،وهذا يعني أّن اإلنسان حّرية وأّن
للحّرية ثمن ،وثمن الحّر ية هو بناء إّنية تكون جديرة باإلنسانية ،إنية تطلب الكوني وال تقتصر على األنا أو
اآلن،إنية تنتصر للوحدة اإلنسانية .فعلى اإلنسان أن يختار بين اإلّنية والغيرية الصورة التي يرتضيها لذاته ،أي أن
يتحّم ل مهّم ة بناء ماهيته ،إذ اإلنسانّي مهّم ة اإلنسان ،حيث تكون حقيقته ما يحّققه أو ما يكون جديرا به.