You are on page 1of 19

‫اإلنساني بين الوحدة والكثرة‬

‫درس‪ :‬لفائدة أساتذة الفلسفة في التعليم الثانوي‬

‫فتحي المسكيني‪ .‬جامعة تونس المنار‪.‬‬

‫إنّ صياغة المسألة على هذا النحو ‪":‬اإلنساني بين الوحدة والكثرة"‪ ،‬إ ّنما تنطوي على‬
‫إشارات إشكالية مخصوصة‪ ،‬علينا البدء بالتقاطها من الجهة المناسبة لها‪ ،‬حتى ال نسيء‬
‫الطريق إلى نمط المعالجة الذي من شأنها‪ .‬من هذه اإلشارات علينا أن نذكر‪:‬‬

‫‪ .1‬لماذا "اإلنساني" وليس "اإلنسان"‪ ،‬كما تعوّ د الفالسفة من دهرهم أن يفعلوا‪ ،‬من‬
‫أفالطون إلى كانط ؟ هل يعني ذلك أنّ التعريفات الفلسفية الكالسيكية لمفهوم "اإلنسان" قد‬
‫صارت غير مناسبة لفهم أنفسنا‪ ،‬ومن ث ّم هي محاولة للبحث عن تعريفات جديدة أكثر‬
‫إيفا ًء بخصائص الظاهرة اإلنسانية ؟ أم أ ّنه اعتراف ضمني بأنّ "مفهوم" اإلنسان هو‬
‫تفي به إلى ح ّد اآلن‪ ،‬ومن ث ّم يجدر بنا نقل المشكل‬
‫ا ّدعاء منهجي لم تستطع الفلسفة أن َ‬
‫من مستوى سؤال الميتافيزيقيين‪ -‬الباحثين في ماهية الموجودات‪" -‬ما هو اإلنسان؟" إلى‬
‫سؤال المؤرّ خين‪ -‬لوضعية النوع اإلنساني‪" -‬من هو اإلنسان؟" ؟‬

‫‪ .2‬من أجل أنّ "اإلنساني" سيظل رغم كل تح ّفظاتنا صفة نشير بها إلى "اإلنسان"‪ ،‬فإنّ‬
‫علينا أن نسأل‪ :‬ما داللة هذا التراجع الفلسفي من موقف "تأسيسي"‪ ،‬كانت غايته العليا‬
‫إرساء "علم اإلنسان"‪ ،‬ومن ث ّم تعيين ماهية اإلنسان‪ ،‬إلى موقف "تاريخي"‪ ،‬ال‪-‬‬
‫تأسيسي‪،‬يكتفي بوصف ظواهر اإلنساني وفهمها‪ ،‬دون أي قرار ميتافيزيقي حول ماهية‬
‫اإلنسان ؟‬

‫‪ .3‬أنّ الشطر الثاني من العنوان أي "بين الوحدة والكثرة" ال يخلو هو أيضا من حيرة‬
‫منهجية‪ ،‬وذلك ليس فقط كما يظهر لنا من حرف "بين"‪ ،‬التي تفيد الوصل والفصل معا‪،‬‬
‫بل في مواصلة التعويل على التقابل الميتافيزيقي التقليدي بين "الواحد" و"الكثير" في‬
‫تقدير الموجود‪ .‬فإنّ هذه الصيغة ليست جديدة تماما في الفلسفة‪ ،‬حيث أ ّننا نعلم أنّ‬
‫أفالطون هو من أدخل "الثنائيات" في ماهية اإلنسان‪ ،‬ومنها على وجه الخصوص وحدة‬
‫وتكثر الجسم –الحسية‪ .‬وهو وضع منهجي بقي سائدا ومعموال به إلى‬ ‫ّ‬ ‫النفس –العقلية‪-‬‬
‫ح ّد كانط‪ .‬ولذلك فإنّ الجديد حقا هو هذا التنصيص الصريح على "البينية"‪ :‬إنّ اإلنساني‬

‫‪1‬‬
‫هو ميدان يتش ّكل "بين" الوحدة والكثرة‪ .‬وهذا الحرص على فهم "البين" ورفعه إلى‬
‫رتبة المقام التأويلي لفهم أنفسنا‪ ،‬ليس مقصدا أفالطونيا وال كانطيا‪ .‬بل هو موقف "ما بعد‬
‫ميتافيزيقي" أصال‪ .‬ونعني بذلك أ ّنه نقل لغة اإلشارة إلى إنسانيتنا‪ ،‬من السؤال‬
‫الميتافيزيقي "ما هو" اإلنسان؟‪ ،‬حيث يغلب منطق "الوحدة"‪ ،‬إلى السؤال التاريخي‬
‫"من؟" يكون الكائن اإلنساني‪ ،‬حيث يحت ّد منطق "الكثرة" ألوّ ل مرة في معنى كينونة هذا‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫‪.4‬رغم القيمة االستكشافية للتساؤالت السابقة‪ ،‬فإ ّنها ستظ ّل إشارات عامة إذا لم نجد لها‬
‫ما يسندها وما يبررها في تاريخ مفهوم اإلنسان نفسه‪ .‬ونحن نقترح أن نبني الفرضية‬
‫التالية‪ :‬إنّ فهم الفالسفة لإلنساني قد م ّر بمرحلتين كبيرتين‪ :‬أوالهما يمت ّد من القرن الرابع‬
‫قبل الميالد‪ ،‬حيث تم بناء التعريف الفلسفي األكبر لإلنسان " ‪zoon logon‬‬
‫‪/"echon‬الحيوان القادر على الكالم‪ ،‬إلى نهاية القرن الثامن عشر‪ ،‬حيث توّ ج كانط هذه‬
‫النظرة الميتافيزيقية العريقة ببناء السؤال الذي تأ ّخر طرحه الصريح‪ ،‬ولم يُطرح إال ّ بعد‬
‫أن أخذ يستنفد فعاليته المنهجية ‪" ،‬ما هو اإلنسان؟" (أوّ ال في رسالة بتاريخ ماي ‪1793‬‬
‫‪ ،‬ثم في دروس في المنطق سنة ‪)1800‬؛ أمّا المرحلة الثانية‪ ،‬فهي قد تش ّكلت في القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬مع أكبر حدث "علمي" حول حيوانيّة اإلنسان‪ ،‬نعني ظهور كتاب داروين‬
‫"في أصل األنواع" سنة ‪ ،1858‬الذي جعل من الممكن ألوّ ل مرة أن ينخرط العلماء‬
‫والفالسفة‪ ،‬ليس فقط في كتابة تاريخ الطبيعة البشرية‪ ،‬على نحو غير مسبوق‪ ،‬بشكل نقل‬
‫مصير الحيوان العاقل من أفق البحث عن "خلود النفس"‪ ،‬إلى سياق التنقيب عن أصله‬
‫الحيواني "المتحوّ ل"‪ ،‬الذي سيقوده إلى ساللة القردة العليا‪،‬وليس إلى المالئكة‪ - ،‬بل على‬
‫وجه الخصوص إلى التفكير في شروط إمكان مراجعة طبيعة النوع اإلنساني هذه‬
‫وإعادة تربيتها وتحريرها ولم ال تحسينها‪ ،‬وهو منحى من البحث ما بعد الميتافيزيقي‬
‫في معنى اإلنساني وجد تعابير شتى عنه في الكتابات المعاصرة امتدت من نيتشه إلى‬
‫ليوتار‪ ،‬ومن التحليل النفسي إلى فلسفات ما بعد الحداثة‪ ،‬ومن "اليوجينيا"‪-‬‬
‫‪( Eugénisme‬وهي "مجموعة األفكار واألنشطة التي تهدف إلى تحسين نوعية جنس‬
‫اإلنسان عن طريق معالجة وراثته البيولوجية"]‪ )[1‬التي نشأت على يدي‬
‫فرنسيس جالتون‪ ،‬ابن خالة تشالرز داروين‪ ،‬في أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬إلى‬
‫التكنولوجيا الوراثية الكتشاف "الجينوم" البشري في التسعينات من القرن العشرين‪.‬‬

‫‪ -‬كيف يجدر بنا اآلن‪ ،‬بعد أن بسطنا مالمح الحقل اإلشكالي الذي تشير إليه عبارة‬
‫"اإلنساني بين الوحدة والكثرة"‪ ،‬أن نبني خطة المعالجة المناسبة للصعوبات التي تكتنف‬

‫‪2‬‬
‫كل مستوى من مستويات تخريج هذه اإلشكالية ؟ من الممكن أن نقسّم المهام التي‬
‫تطرحها خطة المعالجة كما يلي‪:‬‬

‫أ‪ -‬بأيّ معنى يمكن اعتبار السؤال "ما هو اإلنسان؟" هو الصيغة الكالسيكية العامة‪ ،‬من‬
‫أفالطون إلى كانط‪ ،‬التي قامت عليها جهود الفالسفة في تأمين اتساق محمود في معنى‬
‫اإلنساني بين الوحدة والكثرة ؟‬

‫ب‪ -‬إلى أيّ مدى نجح العلماء والفالسفة المعاصرون بعد داروين في إعادة كتابة تاريخ‬
‫الطبيعة البشرية‪ ،‬بوصفها طبيعة "متحوّ لة"‪ ،‬ومن ث ّم في نقل صيغة البحث في اإلنساني‬
‫من صيغة "ما هو؟" إلى صيغة "من هو" اإلنسان ؟‬

‫ج‪ -‬كيف يجدر بالمتفلسف أن يقوّ م جهود البيولوجيين المعاصرين ليس فقط في‬
‫استكشاف البنى الوراثية للجينوم البشري الموحّد بل في العمل صراحة على بلورة‬
‫"يوجينيا" تفضي إلى تحسين جنس اإلنسان من خالل السعي المخبري إلى اقتراح برمجة‬
‫وراثية جديدة ألعضائه ؟‬

‫بأي معنى ُيقال عن اإلنساني إ ّنه "واحد" في ماهيته ؟‬


‫§ ‪" -1‬ما هو اإلنسان؟" أو ّ‬

‫علينا االعتراف بأنّ السؤال الذي طرحه كانط "ما هو اإلنسان؟" واعتبره بمثابة األفق‬
‫الجامع لبقية أسئلته عن المعرفة والفعل والرجاء‪ ،‬هو الصيغة االولى بوجه ما لتفسير‬
‫داللة األطروحة القاضية بأنّ "اإلنساني" هو مكوّ ن في نفس الوقت "بين الوحدة‬
‫والكثرة"‪ .‬إذ ماذا يمكن أن تعني "الوحدة" غير ضرب من "الماهية" التي هي ما يجعل‬
‫من "إنسان" ما إنسانا ؟ وماذا يمكن أن تعني "الكثرة" غير ما يعرض لهذه الماهية‬
‫ويطرأ عليها من خارج صورتها ؟‬

‫فإذا استشرنا حقب تاريخ الفلسفة التي اشتغل فيها سؤال "ما هو؟" وبسط صالحيته‬
‫المنطقية التي ال ُترد باعتبارها تنطوي على صالحية أنطولوجية‪ ،‬أي من أفالطون إلى‬
‫كانط‪ ،‬فإنّ الفلسفة ستقترح علينا نمطا يكاد يكون واحدا من التخريج المنهجي لتلك‬
‫"البينية" التي تفصل وتصل بين الوحدة والكثرة‪ ،‬وإن كان ذلك يتم في الظاهر من خالل‬
‫مصطلحات مختلفة‪ :‬فإنّ تعريف اإلنسان بأ ّنه "نفس" أو "حيوان عاقل" أو "جوهر" أو‬
‫"ذات" أو "أنا" أو "وعي محض" أو "روح" هي كلّها صيغ مختلفة مما سماه اإلغريق "‬
‫‪ "upokeimenon‬أي "الحامل" (‪ )subjectum ،substrat‬الذي يحمل أو ُتح َمل‬
‫عليه صفات أو أعراض شتى‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫كل ما يتعلق بمعاني الوحدة والكثرة متضمّنة في هذا الفهم للوجود‪ .‬وليس اإلنسان غير‬
‫الموجود الذي جعل من فهمه لنفسه دليال على صحة التصور الذي يحمله عن طبيعة‬
‫الموجودات‪ .‬وهذا ‪ ،‬على عكس ما نظن‪ ،‬أمر مشترك بين القدماء والمحدثين‪ .‬والقصد هو‬
‫أ ّنه يوجد ارتباط أساسي بين تصوّ ر الموجودات بوصفها "جواهر"‪ ،‬أي أشياء قائمة‬
‫بنفسها من جهة ما تملك "صورا" ثابتة هي ماهياتها‪ ،‬وبين تصوّ ر اإلنسان بوصفه‬
‫"نفسا" أو "ذاتا" أو "أنا"‪ ،‬حيث أنّ النفس لدى اليونان‪ ،‬مثلها مثل "الذات" أو "األنا" لدى‬
‫المحدثين‪ ،‬هي "جوهر" قائم بنفسه‪ ،‬أي هو "حامل" منطقي وأنطولوجي لصفات أو‬
‫أعراض متعددة ال توجد إال به‪ ،‬في حين أ ّنه هو مستغن عنها في استمرار وجوده ألنها‬
‫ليست من مقومات ذاته‪.‬‬

‫هذا البرنامج العام للتمييز بين "الواحد" و"الكثير" يكاد يكون هوهو من أفالطون إلى‬
‫كانط‪ :‬فالوحدة هي نوع من العناصر أو الخصائص الثابتة التي تقوّ م وجود موجود ما‪،‬‬
‫في حين أنّ الكثرة هي ما يقبل التغير والزوال‪ ،‬ألنها تدخل في باب الممكن والحادث‬
‫والعرضي والمؤقت الخ‪.‬‬

‫كيف ينطبق ذلك على اإلنسان ؟‬

‫إ ّننا بمجرد طرح السؤال "ما هو اإلنسان ؟"‪ ،‬نحن نفترض سلفا أنّ اإلنسان موجود له‬
‫"ماهية"‪ ،‬وما يبقى هو مسألة تمييزها عن "األعراض" التي ال تدخل في تلك الماهية‪ .‬لو‬
‫أخذنا اآلن المسألة من جهة الوحدة والكثرة ماذا تقول الفلسفة؟‬

‫يقول أفالطون في محاورة بارمنيدس‪:‬‬

‫" واآلن إذا كان الواحد غير موجود‪ ،‬فإ ّنه ال يمكن أن نتصوّ ر أيّ شيء من األشياء‬
‫األخرى ال بوصفه واحدا وال بوصفه كثيرا؛ إذ أ ّنه دون الواحد‪ ،‬يستحيل أن نتصوّ ر‬
‫الكثرة"(‪166‬أ)‬

‫حين نطبق هذا الفهم الكالسيكي للوحدة والكثرة على اإلنسان‪ ،‬يتبين سريعا أنّ القصد‬
‫هو أنّ تعريف اإلنسان بأ ّنه "حيوان عاقل" يعني فقط أ ّنه يملك ماهية واحدة هي "عقله"‬
‫وأنّ ما عدا ذلك هي كثرة "حسية" ليست محددة لماهيته‪ .‬إنّ النتيجة الكبرى لهذا الفهم‬
‫مزدوجة‪ :‬من جهة‪ ،‬إقحام "الثنائية" في طبيعة النفس اإلنسانية‪ ،‬ثنائية بين جزء إلهي‬
‫وجزء حيواني في ذاتنا‪ ،‬وهو ما صار خاصية ميتافيزيقية للفكر "الغربي" بعامة منذ‬
‫أفالطون؛ ومن جهة‪ ،‬اكتشاف ما أطلق عليه أفالطون في الجمهورية (‪588 ،IX‬د) اسم‬
‫"اإلنسان الباطني" واعتباره اإلنسان "الحقيقي"‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫بالدفاع عن وحدة‬ ‫ورغم أنّ المجهود الالحق منذ أرسطو هو الح ّد من هذه "الثنائية"‬
‫بحيث أنّ الوحدة‬ ‫اإلنسان من خالل لعبة لغوية جديدة هي لعبة المادة والصورة ‪،‬‬
‫الكالسيكي لمعنى‬ ‫"الصورية" غير ممكنة إال ّ من الكثرة "المادية"‪ ،‬فإنّ الفهم الفلسفي‬
‫الصوري (العقلي‬ ‫اإلنساني قد ظل دوما إلى حد كانط تحت وطأة ثنائية "الواحد"‬
‫والجوهري) و"الكثير" المادي (الحسي والعرضي) دون تغيير أساسي‪.‬‬

‫ونعني بذلك هذا‪ :‬إنّ الكثرة لم تبدأ في الدخول في ماهية اإلنساني إالّ في وقت ج ّد‬
‫ّ‬
‫متأخر‪ .‬وعلينا أن نسأل‪ :‬لماذا ؟‬

‫يبدو أنّ أفضل طريقة المتحان هذا االمتناع الميتافيزيقي لدخول الكثرة إلى الماهية‬
‫النوعية لإلنساني هو تفكيك التعريف اليوناني (األرسطي) لإلنسان بوصفه " ‪zoon‬‬
‫‪ "logon echon‬باعتباره ينطوي بع ُد على شطر من الحلّ‪.‬‬

‫"اإلنسان حيوان عاقل"‪ -‬في هذا التعريف يقابل "اإلنساني" ما هو حيوان ولكنه "غير‬
‫إنساني"؛ ومن ث ّم فمنذ أول تعريف فلسفي له‪ ،‬ارتبط اإلنساني بأمرين‪ :‬أ‪ -‬ما هو حيواني؛‬
‫ب‪ -‬ما يتميّز به نوع حيواني‪ ،‬وهو ما تمّت اإلشارة إليه من خالل متوالية من األلفاظ‬
‫الدالة‪ ،‬من قبيل "العقل"‪" ،‬الذكاء"‪" ،‬الكالم"‪" ،‬الضحك"‪" ،‬الرمز"‪" ،‬السياسة"‪..‬الخ‪.‬‬

‫إنّ تعريف اإلنساني بأنّ "حيوان ‪ "... +‬هو طريقة مشتقة من قرار عميق وأكثر خفاء‬
‫أل ّنه أقدم منه‪ ،‬سماه أغمبن (‪،)Agamben‬أحد الفالسفة اإليطاليين المعاصرين‪ ،‬قرار‬
‫رسم خط فاصل بين اإلنساني والحيواني في فهمنا ألنفسنا‪ .‬وهو أخطر قرار أخالقي‬
‫حول ماهية اإلنسان في تاريخ النوع‪.‬‬

‫من أجل ذلك ال يستطيع المتفلسف أن يفكك هذا المعطى المصاغ بشكل تقريري‬
‫"اإلنساني بين الوحدة والكثرة" إالّ بقدر ما ينقله إلى صيغة إشكالية داخلية‪ .‬وعلينا أن‬
‫نسأل‪ :‬ما هو "اإلنساني" في التعريف المشار إليه ؟ وهو ما يعني‪ :‬إذا كان اإلنسان‬
‫"حيوانا" (وهذا األمر تقرر من اليونان إلى علم الوراثة) فإلى أيّ حد يمكننا أن نعزل‬
‫العنصر "الحيواني" (غير اإلنساني) فينا من تعريفنا ألنفسنا ؟ أين ينتهي انتماؤنا إلى‬
‫مملكة الحيوان بحيث نستطيع أن نمارس االدعاء األدبي الذي يمكننا من أن نسأل عن‬
‫"ماهية" اإلنساني حقا‪ ،‬وليس عن "الحيواني"‪ ،‬خطأ ؟ وإذا كان "الجسم" هو مطية‬
‫اإلنسان الوحيدة لإلقامة في "نفسه" فإنّ علينا أن نفلح في تحديد الخيط الفاصل بين الشكل‬
‫الحيواني ألجسامنا و"الشكل اإلنساني" لما نعتقد أ ّنه نحن ؟‬

‫‪5‬‬
‫إنّ اإلنساني إذن مهمة شائكة وسيرورة عليها قطعها‪ ،‬وليس معطى طبيعيا ننطلق منه‪.‬‬
‫ورأس األمر في فهم طبيعة القرار األخالقي الذي جعل نوعا من الحيوانات يرسم خطا‬
‫فاصال بينه وبين بقية الساللة الواسعة التي ينتمي إليها‪ ،‬هو ظهور اإلنساني وكأ ّنه برنامج‬
‫لفك االرتباط مع "الالّإنساني" على نحو يم ّكن من تسخيره واستعماله كأ ّنه موجود من‬
‫أجله‪ .‬إنّ معنى "وحدة" اإلنساني ال ينفصل عن الفهم "الغائي" لوجوده في العالم‪.‬‬

‫بأي معنى ُيقال عن‬


‫ولذلك علينا أن نصوغ سؤالنا األساسي األول على هذا النحو‪ّ :‬‬
‫"اإلنساني" إ ّنه "واحد" في ماهيته ؟‬

‫إنّ حرص اليونان على حمل إنسانية اإلنسان على حيوانيته‪ ،‬يفضي بنا إلى بعض من‬
‫االضطراب‪ .‬هل غيّر المحمول عليه ؟ من أجل ذلك يبدو لنا السؤال الكانطي‪" :‬ما هو‬
‫مفرغا من الثراء والتعقد الذين‬
‫متأخرا جدا عن النقاش اليوناني‪ ،‬وذلك يعني َ‬‫ّ‬ ‫اإلنسان؟"‬
‫طبعا التعريف الذي يجعل من اإلنسان "حيوانا عاقال"‪.‬‬

‫إنّ كانط لم يخترع سؤال "ما هو؟"‪ .‬وهو‪ ،‬مثل أقطاب فلسفة األنا الحديثة‪ ،‬يقف على‬
‫أرضية السؤال "ما هو؟" دون أن يناقشه‪ .‬ولذلك فسؤال المحدثين "ما هو اإلنسان؟" من‬
‫ديكارت إلى كانط هو سؤال متأ ّخر ومتكلّف‪ ،‬وهذا يعني أ ّنه وريث طريقة في طرح‬
‫األسئلة لم يكن ديكارت وال كانط نفسه مهيّأ للتحرر منها‪.‬‬

‫إنّ أيّ جواب عن معنى "الوحدة" في اإلنساني ال يمكن أن يتفادى السؤال "ما هو‬
‫اإلنسان؟"‪ .‬ومن ث ّم فإنّ معنى "الوحدة" المبحوث عنه ال يمكن انتظاره في أفق فهم آخر‬
‫شنه اليونان‪ ،‬بل حتى في‬‫غير أفق سؤال الماهية‪ ،‬ليس فقط في صيغته األولى‪ ،‬كما د ّ‬
‫صيغته المأزومة منذ نيتشه‪.‬‬

‫لنجازف اآلن‪ ،‬بعد هذه التحفظات التمهيدية‪ ،‬بإجابة مؤقتة عن سؤالنا "بأيّ معنى يُقال‬
‫عن اإلنساني إنه واحد في ماهيته ؟"‪ .‬لنقل‪ :‬إنّ اإلنساني واحد في ماهيته من أجل أنّ‬
‫اإلنسان – كل ّ إنسان بما هو كذلك‪ -‬هو "حيوان عاقل"‪ .‬قد يبدو هذا الجواب مخيبا‬
‫لآلمال‪ .‬وعلى ذلك هو سقف التفكير الغربي في اإلنساني إلى ح ّد كانط‪.‬‬

‫"اإلنسان حيوان عاقل"‪ .‬لو قرأنا هذا التعريف بوصفه جزء من قياس خفي‪ ،‬لتبيّن لنا أنّ‬
‫هذا التعريف لم يكن ممكنا من دون اكتشاف معنى "الكلي" بوصفه األرضية الوحيدة‬
‫لتأمين جواب مناسب عن السؤال "ما هو؟"‪ .‬والكلي في معنى البشر هو "الجنس" ( ‪le‬‬
‫‪.)genre‬‬

‫‪6‬‬
‫يقول أرسطو في مقالة الدال (ما بعد الطبيعة‪ 1024 ،‬أ ‪ ":)33-28‬يعبّر الجنس‬
‫والعرق أوّ ل األمر على التكوّ ن (‪ )génération‬غير المنقطع للموجودات التي لها نفس‬
‫استمر الجنس البشري‪ ،‬بمعنى‪ :‬طالما هناك تكوّ ن غير‬
‫ّ‬ ‫الصورة‪ .‬نحن نقول مثال‪ ،‬طالما‬
‫منقطع للبشر‪ .‬وهو أيضا ما منه ينحدر الموجودات‪ ،‬ما جعلها تم ّر أوّ ل األمر إلى‬
‫الوجود‪".‬‬

‫هذا التعريف للجنس يمدنا باإلطار الذي ينبغي علينا أن نفهم معنى اإلنساني في أفق‬
‫اإلغريق‪ – .‬البشر "كائنات" لها "نفس الصورة"‪ ،‬مستمرة في الوجود وصادرة عن‬
‫"جنس" أول أعطاها الوجود‪ .‬الكون والصورة واالستمرار والجنس‪ :‬أربعة عالمات على‬
‫"ماهية" البشر الموحدة‪ .‬أين نضع قولنا "حيوان عاقل"‪ :‬هو حيوان من حيث هو "كائن"‬
‫كونا غير منقطع؛ وهو عاقل‪ ،‬من حيث له "نفس الصورة"‪ .‬فإذا تكرر ذلك في كل البشر‪،‬‬
‫صار لدينا "جنس بشري" واحد‪.‬‬

‫ولكن ما معنى "واحد" ؟ ‪ -‬تقال "الوحدة" على ما ُتقال عليه "الكثرة" ‪ :‬ينبّه أرسطو (ما‬
‫بعد الطبيعة‪1015 ،‬ب ‪ 1017-17‬أ ‪ )7‬إلى أنّ "الواحد بالماهية" (وليس فقط‬
‫بالعرض) هو واحد إمّا أل ّنه "متصل" وإمّا واحد أل ّنه "غير قابل لالنقسام" وإمّا واحد‬
‫"بالتعريف" وإما واحد بصورته وواحد "بالعدد"‪ ،‬ويُعكس بالنسبة إلى الكثرة‪ :‬الكثير‬
‫بالماهية منفصل‪ ،‬قابل لالنقسام المادي ومتعدد التعريفات‪.‬‬

‫إنّ وحدة اإلنساني هي إذن وحدة "جنسية" تح ّدد ماهية البشر على أساس االشتراك في‬
‫معنى الكلي‪ .‬إنّ اإلنسان حيوان‪ ،‬في معنى أ ّنه ينضوي تحت معنى كلي هو "الجنس"‪،‬‬
‫ومن جهة‪ ،‬هو "عاقل" أي له "صورة" ثابتة هي المعنى الكلي الذي يشترك فيه مع غيره‬
‫من بني البشر ولكن تميزه عن باقي الحيوانات‪.‬‬

‫وهكذا فإنّ بين تعريف اإلنسان بأنه "حيوان عاقل" وبين اكتشاف الكلي‪ ،‬كحدث فلسفي‬
‫فذ في أفق اليونان‪ ،‬ارتباطا سابقا البد من استبصاره‪ .‬ولنسارع بالقول‪ :‬إنّ الكلي في‬ ‫ّ‬
‫التعريف المشار إليه هو "الحيوان"‪ .‬وإ ّنه داخل دائرة الحيوانية "كجنس" يأخذ اإلنسان ‪،‬‬
‫كنوع‪ ،‬أو كأفراد‪ ،‬أي أكان واحدا أم كثيرا‪ ،‬داللته‪ .‬ولذلك فك ّل إنسان هو أوّ ال واحد بنوعه‬
‫الحيواني‪ ،‬أي بقدر ما يدخل في دائرة الكلي الذي يصدق عليه‪.‬‬

‫‪ -‬بيد أنّ الجزء اآلخر من التعريف أي معنى "العقل" ال يق ّل تعبيرا عن معنى الكلي‬
‫أيضا‪ .‬وبرغم أ ّننا صرنا نردد بعد هيدغر أنّ المعنى األصلي للتعريف ليس "الحيوان‬
‫العاقل" بل "الحيوان الذي يملك القدرة على الكالم" (الوجود والزمان‪ ،‬الفقرة ‪ ،)6‬فإنّ‬

‫‪7‬‬
‫الترجمة الالتينية "‪ "animal rationale‬وربيباتها الحديثة لم تكن عبثا بل تعبيرا عن‬
‫فهم معيّن للتداخل العميق بين اللوغوس‪-‬العبارة (الذي استعاده هيدغر) وبين اللوغوس‪-‬‬
‫التصوّ ر (الذي أعرض عنه هيدغر)‪ .‬وفي الحقيقة فإ ّنه قد تبيّن اليوم أنّ أرسطو مثال ليس‬
‫فقط يأخذ اللوغوس على معان عدة‪ ،‬بل هو يردف مثال بين "اللوغوس" و"التعريف"‪،‬‬
‫وبين اللوغوس والتصوّ ر أو المعنى العقلي‪ ،‬وبين اللوغوس والماهية‪.‬‬

‫بذلك تعني صفة "‪" / "logon‬عاقل" في معنى أنّ ماهية "اإلنسان" هو أ ّنه "حيوان –‬
‫عاقل "‪ .‬هذا يسمى لدى أرسطو "لوغوس اإلنسان" أي "ح ّد اإلنسان"و "ماهية اإلنسان"‬
‫و"القول العقلي عن اإلنسان"‪.‬‬

‫بيد أنّ المهم هنا هو أنّ أرسطو ينبّهنا إلى أنّ "اللوغوس" في معنى ما به نح ّد ماهية‬
‫موجود ما‪ ،‬هو كونه ال يُقال إالّ عن "موضوع" أي عن موجود أوّ ل‪ ،‬وليس عن عرض‬
‫أو صفة‪ .‬وال يُقال له ماهية إال ّ عن "صور نوعية داخلة في الجنس الذي تنضوي تحته"‬
‫(ما بعد الطبيعة‪ ،‬الزاي ‪ .)4‬وبالمعنى األنطولوجي ال يُقال "لوغوس" إال ّ عن "جوهر"‬
‫أي موضوع ُتحمل عليه المحموالت وال يُحمل على شيء‪.‬‬

‫إنّ اإلنسان حيوان عاقل في معنى أ ّنه يستم ّد قوامه من صورة نوعية كلية وثابتة فيه‬
‫هي التي تؤمن وحدته مهما كانت الكثرة التي تلحقه‪ .‬وليس اإلنساني واحدا في ماهيته إالّ‬
‫بقدر ما ينضوي تحت جنس كلي يصدق على كثيرين من جهة ما يملكون جميعا صورة‬
‫ثابتة على منوالها يتحقق كل فرد جزئي‪.‬‬

‫إنّ اإلنساني إذن واحد من جهة "النوع"‪ ،‬متكثر من جهة "األفراد"‪ .‬وهكذا ال توجد أي‬
‫كثرة إال ّ في ضوء الوحدة التي جعلتها ممكنة‪.‬‬

‫وعلينا أن نسأل‪ :‬إلى أيّ ح ّد أفلحت "الذات" الحديثة في مختلف صيغها (أنا أفكر‪ ،‬وعي‬
‫محض‪ ،‬عقل متعال‪ ،‬روح مطلق‪ )..‬في أن تؤمّن صالحية معيّنة لمعنى "الكثرة" التي‬
‫أعرض التقليد الميتافيزيقي منذ أفالطون ؟ أليست هي أيضا قوال "هوويا" آخر في تاريخ‬
‫اإلنسان‪-‬الواحد الذي بناه اليونان على أساس الوجود‪-‬الجوهر والكلي‪-‬الجنس الثابت ؟‬

‫§ ‪ -2‬في ضرورة االنتقال من سؤال "ما هو" إلى "من هو " اإلنسان ؟ ومشروع‬
‫متحولة" أو كيف دخلت "الكثرة"‬
‫إعادة كتابة تاريخ الطبيعة البشرية بوصفها طبيعة " ّ‬
‫في ماهية "اإلنساني" ؟‬

‫‪8‬‬
‫نحن نعلم أنّ ديكارت قد اتخذ في الفقرة ‪ 6‬من التأ ّمل الثاني موقفا الفتا من التعريف‬
‫اليوناني لإلنسان بوصفه "حيوانا عاقال"‪ .‬وهو الفت أل ّنه على عكس ما هو منتظر هو قد‬
‫رفض هذا التعريف‪ .‬ما داللة ذلك ؟‬

‫نالحظ أوّ ال أنّ ديكارت قد طرح فعال سؤال "ما هو اإلنسان ؟" ( ‪qu’est-ce‬‬
‫? ‪ )qu’un homme‬أو "ماذا هو الشيء الذي هو إنسان ؟"‪ .‬لك ّنه ننتبه للتوّ بأنّ‬
‫فحصه عن معنى "إنسان" قد عرض له بوصفه أمرا يدخل في باب "ما كنت أعتقد أ ّنني‬
‫هو" (‪ ،)ce que je croyais être‬ومن ث ّم فإنّ طرحه لسؤال "ما اإلنسان؟"‪ ،‬وإن‬
‫كان صريحا‪ ،‬فهو غير مطلوب لذاته‪ ،‬بل هو بوجه ما إنكاري‪ .‬وقد توّ ج هذا الموقف‬
‫بالتن ّكر للتعريف الذي اع ُتبر مكسبا نظريا بديهيا في نصوص القدماء‪ ،‬نعني تعريف‬
‫اإلنسان باعتباره "حيوانا عاقال"‪.‬وعلينا أن نسأل‪ :‬لم رفض اإلجابة اليونانية عن معنى‬
‫"اإلنساني" رغم أ ّنه قرأها في ترجمة التينية تقرأ "‪ "zoon logon echon‬أي‬
‫"الحيوان القادر على الكالم"‪ ،‬باعتبارها تعني " ‪ "animal rationale‬أي "الحيوان‬
‫العاقل"‪ ،‬والحال أنّ هذه الترجمة الالتينية هي تأويل مناسب لفهم ديكارت لماهية اإلنسان‬
‫‪/‬الكوجيطو ؟‬

‫إنّ المثير في حجة ديكارت هي كونها "منهجية" بحتة‪ :‬إنّ القبول بالتعريف اليوناني‬
‫لإلنسان سيجرّ نا حتما إلى "تحليل" مكوناته‪ ،‬ومن ث ّم سيكون علينا أن نحدد معنى‬
‫"حيوان" ثم نحدد معنى "إنسان" تحديدا يستوفي في كل مرة شرط "البداهة" الالزمة‬
‫للمرور من اليقين الخاص إلى رتبة الحقيقة الكلية‪ .‬ولذلك فالحل حسب ديكارت هو أن‬
‫نبحث عن معنى "اإلنساني" في أنفسنا أوّ ال‪ ،‬أي ما نعتبره "عقلنا" و"طبيعتنا"‬
‫و"وجودنا"‪ .‬وهو قرار سيفضي للتو إلى إخراج ك ّل كنت أعتبره جزء من إنسانيتي‬
‫الحسية والخارجية‪ :‬أي "وجهي" و"يديّ " وك ّل "هذه اآللة" (‪)cette machine‬‬
‫المكونة من عظم ولحم التي أسميها الجسم"‪.‬‬

‫ينبغي أن نالحظ هنا أنّ إخراج "الجسم" من تعريف أنفسنا هو نابع من نفس الصعوبة‬
‫الداخلية في تفكير ديكارت التي أملت عليه استبعاد التعريف اليوناني لإلنسان بوصفه‬
‫"حيوانا عاقال" من دائرة الذات‪ .‬ونعني بهذه الصعوبة ما يلي‪ :‬إ ّنه رغم ما حققه ديكارت‬
‫من قفزة واضحة في توجيه السؤال عن اإلنساني نحو ذاته العميقة‪ ،‬من خالل طرح‬
‫خاطف للسؤال "من أنا؟" (? ‪ )qui suis-je‬في الفقرة ‪ 7‬من التأمل الثاني‪،‬فهو سريعا‬
‫ما عاد‪ ،‬على مستوى اإلجابة‪ ،‬إلى الخلط بين "من؟" و "ماذا؟"‪ ،‬حيث هو ال يعني من‬
‫خالل تعريفه لنفسه بوصفه "شيئا مف ّكرا" (‪ )res cogitans‬سوى نوع من "الوحدة"‬

‫‪9‬‬
‫الجوهرية التي ال تتغيّر‪ ،‬والتي واصل تسميتها كما فعل القدماء منذ أفالطون باسم‬
‫"النفس"‪.‬‬

‫إنّ فلسفة األنا الحديثة لم تخرج إذن في استشكالها لمعنى اإلنساني عن أفق السؤال‬
‫اليوناني "ما هو"‪ ،‬رغم الخطوة العمالقة التي حققتها باتجاه مراجعة معنى "النفس" من‬
‫خالل فكرة "األنا أف ّكر" الذي يملك في طبيعته حق التشريع األنطولوجي لتحويل أيّ‬
‫شيء "موضوعا‪ ،‬يبسط عليه سيادته‪.‬‬

‫‪ -‬وإ ّنه ض ّد مشروع اختزال "اإلنساني" في جهاز "األنا أف ّكر" الذي صار يش ّكل‬
‫المعيارية الداخلية للفهم السائد للحداثة‪ ،‬إ ّنما قامت أكثر الطروحات المعاصرة حول معنى‬
‫اإلنسان لدى نقاد الحداثة جيال بعد جيل‪.‬‬

‫ولكن علينا أالّ نرى في نقد المفهوم الحديث لإلنسان مشكال خاصا بالفالسفة دون‬
‫غيرهم‪ .‬إنّ اإلنساني قد انفجر في أفق المحدثين بشكل مذهل‪ ،‬بحيث أنّ الدعوة إلى‬
‫مراجعة المماهاة الصورية بين "النزعة اإلنسانية" (‪ )humanisme‬و"النزعة‬
‫الكونية"(‪ ،)universalisme‬التي أعطاها كانط صيغتها النموذجية من خالل مفهوم‬
‫"اإلنسان ‪/‬مواطن العالم أو الموطن الكسموبوليطيقي"‪ -،‬قد سمع صداها في كل النقاشات‬
‫األساسية حول اإلنسان‪ ،‬من الرومانسيين إلى نيتشه وهيدغر وفالسفة االختالف‬
‫والتأويلية‪ ،‬ومن فلسفة البيولوجيا منذ داروين والتحليل النفسي الفرويدي‪ ،‬إلى علم الوراثة‬
‫والتيارات ما بعد الحديثة‪ ،‬مثل الحركة النسوية ولكن أيضا فنون وآداب األقليات ونزعات‬
‫المثاقفة وحوار الحضارات واألديان‪.‬‬

‫إنّ السؤال الهادي الذي حرّك جيال جديدا من األسئلة حول معنى اإلنساني أخرجه من‬
‫نطاق السؤال الميتافيزيقي "ما هو اإلنسان بإطالق؟"‪ ،‬إلى أفق السؤال ما بعد الميتافيزيقي‬
‫"من هو اإلنسان الذي هو نحن في كل مرة؟" (حسب عبارة هيدغر)‪ -،‬إنّ السؤال الجديد‬
‫لم يعد‪ :‬بأيّ معنى يُقال عن اإلنساني بعامة أ ّنه في ماهيته واحد ؟ بل‪ّ :‬‬
‫بأي وجه يمكننا أن‬
‫نرصد الكثرة الثاوية في ماهية اإلنساني ؟‬

‫علينا أن نبصر بأنّ حركة التنوير هي كلها حركة "توحيد" لمعاني اإلنساني‪ :‬أن يكون‬
‫المتفلسف تنويريا يعني أن يثبت بشكل منهجي "وحدة" النوع البشري و"وحدة"الجسم‬
‫البشري و"وحدة" العقل البشري و "وحدة" العلم البشري ومن ث ّم "وحدة" القانون أو‬
‫المعيار الذي يجب أن يحكم الفعل البشري‪ .‬وهو ما عبّر عن نفسه غالبا من خالل مماهاة‬
‫خفية بين "النزعة اإلنسانية" و"النزعة الكونية"‪ .‬لكنّ ثمن هذا الموقف هو اإلعراض عن‬

‫‪10‬‬
‫ك ّل ما هو معاكس‪ :‬يجب أن نعرض عن ك ّل ما هو "تنوّ ع" قومي أو "فروق" جسدية أو‬
‫"تعدد" فكري أو "تاريخية" في الحقيقة أو "خصوصية" معيارية أو ثقافية‪.‬‬

‫ولذلك فإنّ اإلقرار بأنّ الكثرة مقوّ م أصلي في الظاهرة اإلنسانية هو موقف خطير في‬
‫أفق التنوير أل ّنه يهدد البعد الكوني لإلنسانية‪ .‬ولم يكن من السهل أبدا تحويل الكثرة إلى‬
‫مفهوم موجب‪ ،‬وذلك يعني إلى مفهوم قادر على فهم اإلنساني بشكل مختلف ومستقل عن‬
‫الفهم الميتافيزيقي‪ .‬فما الذي وقع ؟‬

‫يبدو أنّ تغيّرا خطيرا في الفهم الحديث لمعنى اإلنساني قد أخذ في الظهور مع‬
‫الرومانسيين حين تج ّرأ ناقد مثل هردار (‪ )Herder‬على اعتبار النزعة الكونية المهيمنة‬
‫في عصره (وهي نزعة أتت إلى ألمانيا من رواد التنوير‪ :‬من انجليزي مثل هيوم أو‬
‫ّ‬
‫متأت من وهم المتفلسفة القاضي بأن نع ّدل "ك ّل‬ ‫فرنسي مثل فولتير) مجرد "حكم مسبق"‬
‫العصور على منوال الشكل الفريد لعصرنا"‪ .‬وهو لم يصدر هذا الحكم سبهلال بل انطالقا‬
‫من بحث حول األفكار الالزمة من أجل فلسفة في تاريخ اإلنسانية وهو عنوان كتاب‬
‫نشره ور ّد عليه كانط سنة ‪ ،1785‬حيث حاول أن يبيّن بشكل مثير أنّ الميزة الحاسمة‬
‫للحيوان اإلنساني ليس العقل بل "االستقامة" الجسدية (‪،)la situation verticale‬‬
‫و"ليس العقل غير كسب (‪ :)la Raison n’est rien qu’une acquisition‬كسب‬
‫لبعض الخصائص ولوجهة ما مطبَّقة على األفكار والقوى‪ ،‬كان اإلنسان قد أُع ّد لها‬
‫بفضل تركيبته ونمط حياته"‪ .‬فاالستقامة هي ما يوحّد بين البشر وليس العقل‪ :‬إنّ‬
‫االستقامة هي أصل الحرية والعفة واالستقالل والعدل والحقيقة واإليمان‪ .‬لكنّ األخطر‬
‫من ذلك هو االفتراض بأنّ النوع اإلنساني ليس أصل نفسه وال هو غاية نفسه‪ :‬بل هو‬
‫مجرد حلقة في متوالية تذهب من الجماد والنبات إلى الحيوان واإلنسان ثم إلى ما بعد‬
‫اإلنسان‪ .‬بل هو "مختصر الكون"(‪ ،)le compendium de l’univers‬وهو خالد‬
‫ألنّ الحياة السارية في الكون خالدة‪.‬‬

‫لكنّ هذا الموقف ال يأخذ ح ّدته الخاصة إال ّ حين يقع إقحام مسألة "اللغات" كأرضية‬
‫جديدة وكنموذج حاسم بمعرفة البشر والشعوب واألعراق‪ .‬صحيح أنّ هذا االهتمام باللغة‬
‫كمفتاح لمعرفة الكثرة البشرية ليس جديدا‪ ،‬فنحن ينبغي أن نذ ّكر بأنّ ليبنتز قد عقد في‬
‫مفتتح القرن الثامن عشر (‪ )1710‬مقالة يتيمة تحمل عنوانا الفتا هو "محاولة موجزة‬
‫عن أصل الشعوب مستنبطة أساسا من اإلشارات المتأ ّتية من اللغات"‪ .‬لكنّ مقالة هاردار‬
‫سنة ‪" 1772‬رسالة في أصل اللغات" لم تعد يتيمة بل صارت استجابة إلى نظرة جديدة‬
‫إلى اإلنساني من خالل اللغة‪ ،‬يشترك في هردار مع كتاب عصره مثل مقالة روسو "في‬

‫‪11‬‬
‫أصل اللغات"‪ ،‬ولكن خاصة كتابات ولهالم فون هومبولدت حول "ترجمة" النصوص‬
‫األجنبية و"مقارنة اللغات" و "تأثير التنوع في طابع اللغات" على "ثقافة الروح" وعن‬
‫"الطابع القومي للغات"‪.‬‬

‫إنّ الفكرة الهادية في هذا االهتمام الطريف باللغات هو أنّ الظاهرة البشرية هي في‬
‫جانب جوهري منها ظاهرة "لغوية"‪ .‬ومن ث ّم فإنّ تنوّ ع البشر وكثرتهم وتعددهم هو من‬
‫أصل لغوي‪ .‬هذا االعتبار أ ّدى إلى تغيّر خطير في مواصلة القبول بالتقدير الذي أقرّه‬
‫القرن السابع عشر للعالمة الرياضية بوصفها نموذج الحقيقة الكونية‪.‬‬

‫يقول هومبولدت‪ ":‬لقد أرادوا تعويض ألفاظ اللغات المختلفة بعالمات صالحة بشكل‬
‫كوني‪ ،‬مثل تلك التي في الرياضيات بواسطة الخطوط واألعداد والجبر‪ .‬ولكن بذلك نحن‬
‫ال نستطيع أن نعبّر إالّ عن جزء يسير من جملة ما يمكن أن نف ّكر فيه‪ ،‬بما أنّ هذه‬
‫العالمات‪ ،‬بطبيعتها‪ ،‬ليست مناسبة إال ّ لتصوّ رات يمكن أن يقع بناؤها‪ ،‬أو هي مكونة من‬
‫خالل الذهن فحسب" (فقرة‪.)17‬‬

‫ولكن لماذا ؟ ‪ -‬ألنّ "اللغة ليست نتاجا حرا لإلنسان الفردي‪ ،‬بل تنتمي دوما على ك ّل‬
‫األمة"(فقرة ‪ .)19‬ولذلك ليس هناك عبارة أو مفهوم غير مكترث بمضمونه اللغوي الذي‬
‫ينتمي إلى أمة بعينها (الفقرة‪ .)19‬وذلك أنّ اللغات "ليست على وجه الدقة وسائل" ‪ ،‬ذلك‬
‫أنّ "تنوّ عها ليس ناجما عن األصوات والعالمات‪ :‬بل هو تنوع في رؤى العالم نفسه"‬
‫(فقرة ‪.)20‬‬

‫يقول‪ ":‬إنّ جملة ما هو قابل للمعرفة يكمن‪ ،‬كحقل يجب على العقل البشري أن يحرثه‪،‬‬
‫بين جميع اللغات‪ ،‬بشكل مستقل عنها‪ ،‬وفي المركز منها؛ وال يستطيع اإلنسان أن يقترب‬
‫منه بشكل موضوعي إال بحسب نمط المعرفة أو الشعور الذي يخصه‪ ،‬أي بطريقة ذاتية"‬
‫(الفقرة ‪.) 20‬‬

‫ولذلك فالطريقة نحو النوع البشري يمر حتما عبر نمو اللغات نحو خصائص كونية في‬
‫اإلنسان (الفقرة ‪ .)20‬صحيح أنّ "ك ّل لغة هي صدى للطبيعة الكونية لإلنسان‪ ،‬لكنّ‬
‫مجموع كل اللغات لن يعطينا أبدا الصبغة التامة لذاتية اإلنسانية" (الفقرة ‪.)20‬‬

‫‪ -‬هذه األمثلة الطريفة تكفينا القتراح هذا التنبيه‪ :‬إنّ الكثرة قد دخلت إلى ماهية‬
‫يمرون بصمت وبطء من نموذج الوعي‬ ‫اإلنساني من اللحظة التي أخذ فيها المحدثون ّ‬
‫إلى نموذج اللغة‪ .‬وكما كان "العقل" هو باب الوحدة في ماهية اإلنسان فإنّ "اللغة" هي‬

‫‪12‬‬
‫هذه المرة باب الكثرة المتالك مكانتها في فهم معاني الظاهرة اإلنسانية‪ .‬ولكن هل دخلت‬
‫فعال ؟‬

‫ينبغي االعتراف بأنّ دخول الكثرة في ماهية اإلنساني ما يزال يتطلب جهودا وأحداثا‬
‫أكثر خطورة من دعوة الرومانسيين‪ .‬وبعبارة حادة‪ :‬ينبغي انتظار داروين ث ّم كل‬
‫الفلسفات الحيوية الالحقة من نيتشه وفرويد إلى علم الوراثة الحالي‪ ،‬حتى يصيب مفهوم‬
‫"النوع اإلنساني" خلخلة ما تزال مسألة مثيرة للجدل إلى حد اآلن‪.‬‬

‫ونعني بذلك أنّ االكتشاف المعاصر لظاهرة "الحياة" قد ش ّكل‪ ،‬إلى جانب اكتشاف اللغة‬
‫الذي سيأخذ منعرجا كبيرا مع فلسفة اللغة من فيتغنشتاين إلى هابرماس ورورتي‪ ،‬تحوّ ال‬
‫خطيرا في شروط دخول الكثرة في داللة اإلنساني‪ .‬وال نعي بالحياة ‪ ،‬المعطى البيولوجي‬
‫فقط‪ ،‬بل كل المشاكل الحيوية‪ ،‬مثل "الغرائز" (كما ف ّكر بها نيتشه) و"الطاقة الجنسية"‬
‫جذرها هيدغر)‬ ‫(كما تأوّ لها التحليل النفسي) وتجربة الموت ( ‪( )la mortalité‬كما ّ‬
‫وخاصية "الوالدة" (‪( )la natalité‬كما اخترعتها حنا أرندت) و"الحياة البدائيّة" (كما‬
‫كشفت عنها البحوث األمثروبولوجية) واألزمة "اإليكولوجية" (كما استشكلها جوناس)‬
‫و"موت اإلنسان" (كما أرّخ له فوكو) وترحّ ل "الريزوم" (كما رسم خطوطه دولوز‬
‫وغواتاري)‪ ،‬ومراجعة الخط الفاصل بين اإلنساني والحيواني فينا (كما عمد إلى ذلك‬
‫أغمبن) بل واحتراف كلبية جديدة إزاء "حظيرة النوع البشري" (كما تج ّرأ على ذلك‬
‫سلوتردايك)‪ ،‬وذلك إلى حدود النقاشات البيوإيتيقية عن نتائج االستنساخ والتحكم الجيني‬
‫من خالل خارطة الجينوم البشري‪.‬‬

‫وعلينا أن نقبل إشارة رورتي إلى كوننا في فهمنا ألنفسنا قد أصبحنا منذ مدة يسيرة "ما‬
‫بعد داروينيين" (‪ .)post-darwiniens‬وليس هذا مجرد تحقيب‪ ،‬بل هو إقرار بأنّ‬
‫النوع اإلنساني أوالحيوان العاقل لم يعد كما كان‪ .‬إنّ مستقبلنا األخالقي كنوع بشري أو‬
‫كحيوان عاقل لم يعد كانطيا‪ .‬نحن لسنا مواطنيّ العالم بل حيواناته الذكية فقط‪.‬‬

‫ما هي النتائج الحاسمة الكتشاف الحياة كبرنامج أخالقي جذري للبشر بالنظر إلى‬
‫تصوّ رهم ألنفسهم ؟ ‪ -‬يبدو أنّ رورتي على حق حين يفترض التمييز بين ما قبل وما بعد‬
‫داروين مقياسا حاسما لطرح األسئلة عن اإلنساني‪ .‬وذلك يعني أ ّننا صرنا ننتمي بعقولنا‬
‫على ثقافة راجعت تعريف اإلنسان بشكل نهائي‪ .‬ورأس المراجعة هنا هو تجرّؤ داروين‬
‫على إعادة برمجة النوع اإلنساني في الجنس الحيواني الذي طالما ترفّع عن االنتماء‬
‫العضوي إليه‪ .‬هذا الموقف كسّر "الوحدة" األخالقية للنوع وفتح باب "الكثرة" العضوية‬
‫عليه بشكل مريع‪ .‬بعد داروين لم يعد ممكنا أليّ ثقافة أن تزعم أنّ اإلنسان "مخلوق‬
‫‪13‬‬
‫سماوي" نشأ عن "آدم" أصلي واحد ليسنا سوى نسخ الحقة ومتكثرة عنه‪ .‬نحن فعال نسخ‬
‫الحقة ومتكثرة ولكن ليس عن "وحدة" آدمية أصلية‪ ،‬بل عن نسخ "تطوّ رية" سابقة‬
‫ألشكال حيوانية ال نملك تأريخا مناسبا لها إلى ح ّد اآلن‪.‬‬

‫إنّ النتيجة الخطيرة األولى لهذا الوضع الجديد للبحث في تاريخ النوع اإلنساني هي‬
‫بداية تالشي الفاصل األخالقي بين اإلنساني والحيواني في فهم البشر ألنفسهم‪ .‬وهو‬
‫بالنسبة لموضوعنا بداية تالشي الفاصل الميتافيزيقي التقليدي بين "الوحدة" العقلية‬
‫لإلنسان‪ ،‬أي نفسه‪ ،‬وبين "الكثرة" المادية لإلنسان‪ ،‬أي "جسمه"‪ .‬هل من الصدفة أنّ‬
‫القرن التاسع عشر هو في نفس الوقت لحظة اكتشاف "الجسد"‪ ،‬بيولوجيا وأخالقيا في‬
‫آن‪ ،‬بقدر ما هو لحظة انسحاب ك ّل تقاليد األدلة على خلود "النفس" ؟‬

‫وليس أفضل من نيتشه مؤرّ خا جذريا لهذا التحوّ ل الخطير في جوهر اإلنساني‪ .‬ألوّ ل‬
‫يتمثلون أنفسهم بوصفهم رهط "آخر الزمان" (‪ les tard venus‬كما‬ ‫مرة أصبح البشر ّ‬
‫تقول الفقرة ‪ 9‬من كتاب الفجر)؛ وحسب نيتشه صار محكوما على "اإلنسانية الحالية" أن‬
‫تتمثل نفسها منذ داروين بين أصل (يعود بها إلى القردة) وبين مصير (يقودها إلى نمط‬
‫"اإلنسان األخير")‪ .‬إنّ "الشعور الجديد" لإلنسانية هو هذا ‪" :‬أ ّننا زائلون بال رجعة‬
‫(‪( ")nous sommes définitivement éphémères‬نفسه‪ ،‬الفقرة‬
‫‪.)108‬وبالرغم من أنّ شبه البشر بالقردة ليس موضوعة ثقافية جديدة‪ ،‬فنحن ال نستطيع‬
‫أن نقيس حقا درجة الصدمة األخالقية التي طبعت نظرة البشر المعاصرين إلى أنفسهم‬
‫كذب نظرية التطور من الناحية العلمية (الفقرات ‪-322‬‬ ‫منذ داروين‪ .‬وإنّ نيتشه الذي ّ‬
‫‪ 324‬من إرادة القوة) هو أكثر من استخرج ك ّل النتائج األساسية للحدث الميتافيزيقي‬
‫الذي ش ّكله إعادة ز ّج البشر في حظيرة النوع الحيواني‪.‬‬

‫لقد حدث أمر طريف منذ نيتشه‪ :‬إ ّنه الكالم عن اإلنسان في صيغة "األنماط البشرية"‬
‫(‪ .)les types humains‬لقد سحب نيتشه ك ّل إجماع بديهي على "ماهية" اإلنساني‪.‬‬
‫فقد انفجر مفهوم اإلنسان بال رجعة‪ .‬وصار يتعلق في كل مرة بـ"صنف البشر" ( ‪le‬‬
‫‪ )type d’homme‬الذي أمامنا‪ .‬ومن الطريف أن نعرف أنّ نيتشه ال يعترض على‬
‫"تطورية" داروين إال ّ أل ّنها تغالي في تقدير تأثير "الظروف الخارجية" في "تدجين" (‬
‫‪ )domestification‬الحيوان اإلنساني و"االرتقاء" بالنوع ‪ ،‬والحال أنّ "اإلنسان من‬
‫حيث هو نوع ليس في تقدم‪ .‬وبالرغم من إمكانية تحقيق أصناف عليا‪ ،‬فهي ال تبقى‪ .‬إنّ‬
‫مستوى النوع ال يرتفع" (نفسه‪ ،‬الفقرة ‪ )323‬بل هو في الواقع يتغذى من نزعة‬
‫"االنحطاط" الحيوي للكائنات الضعيفة التي هي الوحيدة "بكثرتها" التي تسمح بنمو النوع‬

‫‪14‬‬
‫(الفقرة ‪ 224‬من إنساني مفرط في إنسانيته)‪ .‬ولذلك فإنّ مصطلح "صنف أعلى"‬
‫(‪ )type supérieur‬من البشر ال تعني سوى "أكثر تعقيدا وأكثر ثراء"(الفقرة ‪323‬‬
‫من إرادة القوة) بالمقارنة مع صنف بشري ينتمي إلى حقبة مختلفة‪.‬‬

‫من هنا ينبغي أن نكفّ عن البحث في "ماهية" اإلنسان "الواحد" بإطالق‪ :‬فإنّ "الخطيئة‬
‫األصلية للفالسفة" حسب نيتشه هو أ ّنهم ينظرون إلى "اإلنسان" وكأ ّنه "حقيقة أبدية"‬
‫(‪ )aeterna veritas‬والحال أ ّنهم "يتحدثون عن اإلنسان الحالي" الذي ال يتعدى عمره‬
‫"أربعة آالف سنة"؛ وهكذا فإنّ " ك ّل ما يقوله الفيلسوف عن اإلنسان ليس في عمقه شيئا‬
‫آخر سوى شهادة على اإلنسان الذي يوجد في فضاء زمني محدد"(الفقرة ‪ ،2‬إنساني )‪.‬‬

‫ذلك يعني أنّ النوع اإلنساني ليس برنامجا مغلقا ألنفسنا‪ .‬نحن ال نولد "إنسانيين"‪ ،‬بل‬
‫نصبح كذلك ضمن تاريخ حيوي ما‪ .‬ولذلك علينا أن ننظر بعين االحتراس من انخراط‬
‫اإلنسانية منذ خمسة قرون في "تاريخ واحد"‪.‬‬

‫إنّ األمر المنهجي الجديد‪ :‬لنؤرّخ للنوع البشري من جديد دون أيّ ضبط مسبق لماهيته‪.‬‬

‫‪ -‬يمكن اعتبار جملة الكتابات اإلتنوغرافية واإلتنولوجية واألنثروبولوجية للقرن‬


‫العشرين برنامجا واسعا للمساهمة في إعادة تاريخ النوع البشري بدء من أشكال الحياة‬
‫البدائية إلى الحضارة الصناعية‪ .‬وإنّ فرضية باحث مثل لفي برول (‪)Levy-Bruhl‬‬
‫حول وجود "ذهنية بدائية قبل‪-‬منطقية" من شأنها أن تعطي لك ّل اعتراضات القرن التاسع‬
‫عشر على التعريف التقليدي لإلنسان بوصفه "حيوانا عاقال" إطارا مناسبا للصالحية‪.‬‬
‫وصار علينا أن نسأل‪ :‬هل ثمة تماه بين "العقلي" و"األنثروبولوجي" في فهمنا لإلنساني ؟‬

‫ربما ليس عقل اإلنسان غير طريقة في تأويل نمط حياته‪ .‬وبدال من "حيوان عاقل"‬
‫شن جيال جديدا من تعريفات هذا الصنف المتميّز من الحيوانات‪ .‬ويمكننا أن‬‫علينا أن ند ّ‬
‫نقترح االنطالق من تعريفين يكمّل أحدهما اآلخر‪ :‬تعريف شارل تايلور لإلنسان بأ ّنه "‬
‫حيوان مؤوّ ل لذاته (‪ "self interpreting animal‬وتعريف ديفيدس ‪" :‬حيوان مؤوّ ل‬
‫لغيره (‪.)other interpreting animal‬‬

‫ما ينبغي أن نحتفظ به من هذا النوع من التعريفات هو أمر واحد‪ :‬اللغة‪ .‬لقد ت ّم منعرج‬
‫حاسم في فهم المعاصرين لداللة "اإلنساني"‪ :‬إنّ "وحدة" النوع البشري مثل "كثرة"‬
‫أعضائه التي ال تحصى هما واقعتان لغويان بشكل جذري‪ .‬ومنذ دي سوسور صار‬
‫"الكالم" نموذجا لتخريج كل دالالت النشاط البشري‪ ،‬فرديا كان أم جماعيا‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫إنّ وحدة اإلنساني التي كان يتم تأمينها من خالل مقوالت مطلقة مثل "العقل"‬
‫و"الماهية" و"الجوهر" و"الذات"‪..‬الخ‪ ،‬قد كانت مؤسسة في الواقع على اإلقرار بوجود‬
‫ضرب من "المدلول المتعالي" (‪ )un signifié transcendantal‬الذي ينبغي أن‬
‫ننطلق منه في معرفة أنفسنا كما في معرفة اإلنسانية‪ .‬بعد داروين ونيتشه وفرويد صار‬
‫هذا المدلول المتعالي ألنفسنا ادعاء لغويا ال غير‪ .‬لقد تحوّ ل اإلنسان من "مفهوم" ثابت‬
‫(يشير إلى مضمون أنطولوجي علينا استنباطه من مبدأ أول) إلى "عالمة" (‪)signe‬‬
‫اعتباطية (داخل نسيج بنيوي متعدد المداخل علينا تأويله)‪ .‬وبعبارة حادة‪ ،‬ينبهنا ليوتار‬
‫إلى االحتراس من مفهوم اإلنسان كما نحترس من "الحكم المسبق الذي رسخته قرون من‬
‫النزعة اإلنسانية والعلوم اإلنسانية‪ :‬بأنّ هناك الـ’’إنسان’’ "( ‪Le Différend,‬‬
‫‪ .)1983,11‬فما هو إنساني هو دوما نتيجة معقدة للعب لغوية ال يسيطر أحد على‬
‫معناها "الكلي"‪.‬‬

‫إنّ الفلسفة بالمعنى التقني لم تعد تملك الجواب المناسب عن سؤالها الكبير "ما هو‬
‫اإلنسان؟"‪ ،‬وهي مضطرة هنا لإلنصات بشكل دقيق لما صار يقوله األنثروبولوجي عن‬
‫معنى اإلنساني‪ .‬وإنّ لنا في لفي‪-‬شتروس آية ناصعة عن خوض هذه التجربة الضخمة‬
‫والطريفة في مواصلة الفلسفة بطرق أخرى‪.‬‬

‫إنّ الغرض البعيد ألبحاث لفي‪-‬شتروس هو تقديم معنى جديد لإلنساني‪ .‬وهو يقوم‬
‫باألساس على التحرر من تراث "اإلنسانوية" الذي صار يمنعنا من فهم الثقافات األخرى‪.‬‬
‫وهو ير ّد اإلنسانوية إلى أمرين (يعود بهما إلى الخط اليهودي‪-‬المسيحي من جهة‪ ،‬وإلى‬
‫الديكارتية التي هي نتيجة له ‪،‬من جهة أخرى)‪ :‬أ‪ -‬المنزلة االستثنائية لإلنسان في‬
‫الطبيعة‪ ،‬حيث ت ّم عزله عن بقية المخلوقات ؛ ب‪ -‬وحدة الجنس البشري‪ ،‬ككيان أخالقي‬
‫مجرد‪.‬‬

‫حسب لفي‪-‬شتروس ينبغي البدء بإعادة تعريف اإلنسان أصال‪ :‬فبدال من اعتباره "كائنا‬
‫أخالقيا" (‪ )être moral‬علينا أن نعيد له طابعه األظهر لنا‪ ،‬وهو أ ّنه "كائن حي" ال‬
‫غير (‪ .)Le Regard éloigné, p. 374‬إنّ القصد هو تخليص اإلنسان "الغربي"‬
‫من فهمه التقليدي لنفسه‪ ،‬واالنخراط في استكشاف " أنثروبولوجي" لجملة األعضاء‬
‫المكونين لإلنسانية الحالية باعتبارهم في كل ركن من األرض قد خاضوا التجربة‬
‫اإلنسانية نفسها‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫يقول‪ " :‬إنّ موقفنا مر ّده هو القول بأنّ البشر قد قاموا دوما وفي كل مكان بالمهمة نفسها‬
‫إزاء الموضوع نفسه وأنّ ما اختلفوا فيه طيلة صيرورتهم هي الوسائل فحسب"‬
‫(‪.)Tristes Topiques, p. 354‬‬

‫وعلى ذلك فإنّ القصد ليس تعيين الخصائص الكونية ألجسامهم (فهذا غرض‬
‫البيولوجي) بل تعقب "القرابة البنيوية بين الحضارات" التي طوّ ر فيها البشر أنماط‬
‫عيشهم والطرق المتباينة للتعبير عن تجاربهم‪ .‬ولذلك ينبهنا لفي‪-‬شتروس إلى استحالة‬
‫وجود "حضارة عالمية" للنوع البشري‪ ،‬بل فقط ثقافات "متنوعة"‪ ،‬ال حل لها سوى أن‬
‫تؤمن بضرورة "تعايش الثقافات التي تسمح فيما بينها بالحد األقصى من التنوع بل توجد‬
‫معا بفضل هذا التعايش"(‪.)Anthropologie structurale deux, p. 417‬‬

‫والرهان الخفي هو كيف التغلب على الوضعية التي كانت تحكم نظرة البدائي إلى‬
‫"اإلنساني"‪:‬‬

‫يقول لفي‪-‬شتروس‪ " :‬إنّ المجتمعات البشرية تضع حدود (‪ )frontières‬اإلنسانية‬


‫داخل حدود (‪ )limites‬المجموعة القبلية‪ ،‬التي ال ترى خارجها سوى غرباء‪ ،‬بمعنى‬
‫أناسا ما تحت البشر (‪ )des sous-hommes‬وسخين وأفظاظا‪ ،‬إن لم يكونوا غير‬
‫بشريين (‪ :)des non-humains‬حيوانات خطرة أو أشباحا‪La pensée (".‬‬
‫‪.)Sauvage, p. 201‬‬

‫إن‪ .‬الحل حسب لفي شتروس هو القبول بالتعدد على أ ّنه شرط التعاون بين البشر‪.‬‬
‫ولذلك هو يجرؤ في مقالة العرق والثقافة على اتخاذ موقف رافض للتواصل بين‬
‫الثقافات‪ .‬فهو يعتبر الكوننة خطرا على ثراء النوع اإلنساني‪ .‬فهو ال يقبل بالخصائص‬
‫الكونية الموحدة للبشر إال ّ أصولهم البيولوجية‪ .‬وعلى هذا األساس هو يدعونا إلى إعادة‬
‫اإلنسان إلى الطبيعة وتخليصه من وهم "الذاتية" – "الطفل المدلل" للفالسفة‪ -‬الذي صار‬
‫عائقا أمام فهمنا لداللة اإلنساني (‪ .)L’Homme nu, p. 614-615‬إذ هل تكون‬
‫هناك "ذات" عارفة من دون أن تحوّ ل اإلنسان "اآلخر" إلى "موضوع" تبسط عليه‬
‫سيادتها ؟ ولذلك هو يعتبر أنّ لحظة النضج للعلم الغربي هي حين فهم اإلنسان الغربي‬
‫أ ّنه لن يبدأ في فهم نفسه طالما أنّ هناك "عرقا واحد" على األرض ما يزال يُعامل‬
‫كـ"موضوع" (‪.)Anthropologie Structurale deux , p. 44‬‬

‫‪17‬‬
‫خاتمة‪:‬‬

‫الجينوم اإلنساني ومشروع اليوجينيا‪ :‬تحسين النوع أم استنساخ األفراد ؟‬

‫علينا االعتراف بأنّ النظرة البنيوية لإلنساني قد حررته نهائيا من هيمنة المفهوم‬
‫الميتافيزيقي لإلنسان‪ .‬لكنّ النتيجة الخطرة التي ان ُتبه لها سريعا هي تحويل البشر إلى‬
‫"حوامل" لبنى تحكمهم وال يرونها‪ .‬وهكذا فثمن التحرر من ثقل "الماهية الموحدة" للبشر‬
‫قد حوّ ل البشر إلى "كثرة" بنيوية بال مشروع‪ .‬وهي صعوبة أساسية حاول مف ّكرو ما بعد‬
‫الحداثة التغلب عليها بأشكال متنوعة‪.‬‬

‫وأه ّم محاور يمكننا االستفادة منه هو الفلسفة البيو‪-‬إتيقية والنزعات اإليكولوجية‪.‬‬


‫والفرضية هي‪ :‬إنّ التشتت الذي أصاب ماهية اإلنسان والذي أدى إلى أطروحة "موت‬
‫اإلنسان" ال يمكن الخروج منه إال ّ بإعادة "الوحدة" إلى العنصر اإلنساني‪ .‬وهو أمر‬
‫أصبح ممكنا بعد اهتدى علماء الوراثة الجينية آخر األمر في تسعينات القرن الماضي إلى‬
‫خارطة الجينات البشرية أو "الجينوم"‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬بعد داروين‪ ،‬تفرض البيولوجيا‬
‫تغييرا في داللة اإلنساني‪ ،‬ودائما طبقا لنفس التراوح المتوتر بين وحدة النوع وكثرة‬
‫األفراد‪.‬‬

‫فبعد اكتشاف نظام "الدنا" (‪ )A.D.N.‬عام ‪( 1953‬أنّ الجينات عبارة لولب مزدوج‬
‫من جديلتين من الحمض النووي الديوكسي ريبوزي‪ ،‬تجري فيه الجديلتان في تواز مضاد‬
‫وتتصالن على مسافات دورية بساللم كل يتألف من واحد من زوجين من القواعد‪:‬‬
‫األدنين والثايمين أو السيتوزين والجوانين‪.‬را‪ :‬الشفرة الوراثية لإلنسان‪ ،‬ص‪ ،)27‬أطلق‬
‫العلماء منذ ‪ 1986‬مشروع بحث يهدف إلى معرفة التتابع الكامل للدنا في الجينوم‬
‫البشري كله‪ ،‬واعتبروا إنجازه من حجم البرنامج الذي أدى إلى قهر الفضاء‬
‫(نفسه‪،‬ص‪.)32‬‬

‫فجأة تسقط ك ّل المفاهيم التي أقام عليها البشر هويتهم‪ .‬لقد صارت لهم هوية جديدة‪ :‬إ ّنها‬
‫الجينوم‪ .‬وللتو عادت مسألة "وحدة" النوع اإلنساني إلى الظهور‪ ،‬ولكن مع ميزة ليست‬
‫هينة‪ :‬أنّ النوع الذي نتحدث عنه هو نوع حيواني بال رجعة‪ .‬ولم يعد قادرا على تبرير‬
‫أيّ شرف أخالقي على بقية أعضاء العائلة الحيوانية‪ .‬إنّ حيوانيته‪ ،‬مثل هويته‪ ،‬شفرة‬
‫وراثية ال غير‪ .‬مثله مثل أي حيوان آخر‪ .‬هنا أصبح للكثرة معنى جديد تماما‪ :‬إنّ الكثرة‬
‫لم تعد مشكال متعلقا بالمادة أو بالالمعقول أو بالمتغير‪ ،‬بل هي طاقة تكاثر مفتوحة تحملها‬
‫الجينات في بنيتها‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫لكنّ الصورة ليست ناصعة إلى هذا الحد‪ :‬إذ منذ القرن التاسع عشر أخذت تظهر أيضا‬
‫حركة تحمل اسم "اليوجينيا" ( ‪ eugénisme‬أي تحسين النوع البشري)‪ ،‬يبدو أ ّنها‬
‫نشأت على يدي فرانسيس جالتون‪ ،‬ابن خالة تشارلز داروين‪ ،‬وتطوّ رت بسرعة مذهلة‬
‫طيلة القرن العشرين‪ ،‬وهي ليست دون عالقة مع االستعمال النازي للخبرة الوراثية في‬
‫التطهير العرقي الذي قام به‪ .‬وهنا يقع مشروع الجينوم البشري تحت خطر ساحق‪:‬‬
‫صحيح أنّ بصمة الدنا هي "محقق الهوية األخير" كما صار يُقال‪ ،‬وصحيح أنّ اإلنجاب‬
‫قد صار "خيارا تناسليا" شخصيا ومراقبا ومحسوبا‪ ،‬بحيث يفتح المجال أمام "أخالقيات"‬
‫جديدة للنوع‪ ،‬لكنّ وقوع هذه الشفرة بين أيد قذرة سوف يؤدي ليس فقط إلى "استنساخ"‬
‫البشر وفقا لخطة مخالفة تماما للمثل األخالقية التي بنت عليها اإلنسانية الحالية مغامرتها‬
‫وفهمها لنفسها‪ .‬بل إلى التحكم الوراثي في النسل الموجود وتحويله إلى مخبر ضخم‬
‫للعبث بوحدة النوع أو للتجريب غير األخالقي على الكثرة المخبرية التي‬
‫سيستنسخها‪ .‬والسؤال الذي يالحق دعاة اليوجينيا‪ :‬هو ذاك الذي وضعه هابرماس‬
‫عنوانا ألحد كتبه األخيرة ما هو "مستقبل الطبيعة اإلنسانية" عندئذ ؟ ‪ -‬صحيح أنّ‬
‫هابرماس يدعو إلى "يوجينيا ليبرالية"؛ ولكن ما معنى "ليبرالي" عندئذ ؟‬

‫]‪ -[1‬دانييل كيقلس‪ ،‬الشفرة الوراثية لإلنسان‪.)1992(.‬‬

‫االستاذ فتحي المسكيني‪.‬‬

‫جامعة تونس المنار‬

‫‪ 01/ 24 ،17‬و‪2007 /02/02‬‬

‫‪19‬‬

You might also like