Professional Documents
Culture Documents
سنتناول في هذا المقال المقتضب بعض التحديدات الخاصة بمفهومين مركزيين في التلقي والتأويل؛ يخص
األمر في البداية مفهوم السميوزيس كما ورد في السميائيات ،والسميائيات البورسية تحديدا .وسنتناول هذا
المفهوم من زاوية مردوديته في تحديد أسس التأويل وتعدديته وكذا ميكانيزماته في االنطالق والنمو
واالضمحالل .ويتعلق األمر في مرحلة ثانية بمفهوم الطوبيك (الفرضية أوالفرضيات األولى التي يكونها القارئ
عن المعنى) كما ورد عند إمبرتو إيكو في كتابات متعددة .وسنحاول تحديد موقعه من استراتيجية فعل القراءة من
جهة ،فكل قراءة يحكمها تصور مسبق -على شكل إرهاصات أولية ومبهمة -يحدد التحيينات المقبلة ،وتحكمها
من جهة ثانية ،غاية تأويلية تهدف إلى الوصول إلى نقطة داللية بعينها ضمن سيرورة تأويلية محددة بسياق
خاص.
السميوزيس :سيرورة إلنتاج الداللة
إن العالم الذي تحيل عليه النصوص -ما يتصل بالكائنات واألشياء واألهواء والرغبات واألحالم -عالم
ينمو ويكبر ويضمحل داخل نسيج السميوزيس ( .)1فهو ،اعتبارا لهذا ،محكوم بسلسة من اإلحاالت الذاتية التي
توضح نفسها بنفسها اعتمادا على قوانينها الداخلية فقط ،واستنادا إلى منطق اإلحاالت ذاتها .فما نطلق عليه
"الواقع" و"المرجع" و"الموضوع" و"الشيء في العالم الخارجي"" ،كيانات" ال يمكنها أن تلج عالم التدليل،
أي عالم النصوص ،إال من خالل بوابة اإلحاالت الرمزية التي تقود إلى خلق تصورات متنوعة تتكفل السميوزيس
(السيرورة المؤدية إلى إنتاج داللة ما) بصياغة حدودها القصوى والدنيا ،الحقيقية منها والوهمية.
فكل شيء يوجد داخل النص :فالنص بؤرة التمثيل وسند لمنطق اإلحالة وانسجام العناصر وتناظرها .وكل
شيء يوجد خارجه ،فعناصر النص تهاجر نحو أقاليم أخرى بحكم التجاور واإلحالة الرمزية والتذكر والتلميح :ال
يمكن صياغة خطاب عن "األبيض" دون إسقاط آخر يخص "األسود" ،وال يمكن الحديث عن "األفراح" دون
أن يلوح في األفق ما يحيل على "األحزان" .من هنا ،فإن الضمانة الوحيدة على تماسك النص وانسجامه هي
بالضبط هذا الفصل بين المتحقق والضمني ،بين المعطى المباشر وبين ما يتسرب -في غفلة عن الكلمات -إلى
النص ليشكل ذاكرة الخطاب وذاكرة القارئ ويرسي قاعدة الحوار بينهما.
ولهذا ،فإن األصل في التمثيل (بناء نص روائي أو صياغة قصيدة شعرية أو رسم معالم نص مسرحي )...
هو القيام باقتطاع ما يصلح لبناء كون مستقل بذاته ،يظل إدراكه وفهمه وتأويله مع ذلك مشروطا باستحضار
ذاكرته الكبرى ،أي محيطه المباشر و غير المباشر.
وهكذا عوض البحث عن معادل "موضوعي" في عالم غير عالم النص بوجوهه المتحققة والضمنية
أوالمشار إليها ،وجب البحث في أشكال اشتغال نسيج السميوزيس ودورها في نسج خيوط عوالم نطمئن إليها
ونتعامل معها باعتبارها جزءا من عالمنا الخاص .فما هو مضمون مقولة السميوزيس وما هو موقعها ضمن
الفعل اإلنساني المتميز بقدرته على اإلنتاج الدائم للمعاني؟ .وما الرابط بين هذه السيرورة التدليلية وبين ما نطلق
عليه "فرضيات القراءة" (ما يطلق عليه إيكو الطوبيك )topicمن جهة ،وبينها وبين القارئ الذي يستدعيه
بناء معنى أو معاني نص ما.
تعد السميوزيس في معناها "العامي" والمباشر سيرورة متحركة إلنتاج الداللة وتداولها واستهالكها،
سيرورة ستنتهي إلى الذوبان في فعل يتقمص مظهرالعادة والقيم والتقاليد وكل أشكال السلوك التي تتحول مع
الزمن إلى معيار يبنى على أساسه العنصر المتحقق .ويعد هذا الفعل من زاوية السميوزيس >عادة داخل اإلنسان
وقانونا داخل المجتمع< (.)2
ولقد كان شارل سندرس بورس ( )C. S. Peirceأول من أدخل مفهوم السميوزيس إلى ميدان
السميائيات .بل لقد كان أول من أرسى دعائم نظام للتدليل وإنتاج الدالالت يمر عبر ميكانيزم خاص أطلق عليه
اسم السميوزيس .والسميوزيس في نظره "سيرورة يشتغل من خاللها شيء ما كعالمة" وتستدعي ،من أجل بناء
1
نظامها الداخلي ،ثالثة عناصر هي ما يكون العالمة ويضمن استمرارها في الوجود :ما يقوم بالتمثيل (ماثول)
وما يشكل موضوع التمثيل (موضوع) وما يشتغل كمفهمة تقود إلى االمتالك الفكري " للتجربة الصافية "
( مؤول).
استنادا إلى هذا التصور يقتضي إنتاج داللة ما استحضار سيرورة تدليلية تقود من أول عنصر إلى آخر
عنصر داخل سلسلة من اإلحاالت التي ال يمكن اإلخالل بتتابعها وانتظامها دون اإلخالل بنظام التدليل ذاته :فكلمة
" شجرة " تدل إلنني أستطيع التمييز داخلها بين :
- 1أداة للتمثيل ( يتعلق األمر بالمتوالية الصوتية التي نستعين بها من أجل استحضار عالم ذهني ،وقد
يتعلق األمر بمادة أخرى للتمثيل ).
- 2شيء ما موضوع للتمثيل ( ،سواء كان الموضوع واقعيا أو متخيال أو قابال للتخيل).
- 3العالم الذهني الذي يربط رمزيا بين الموضوع وأداة التمثيل .كما يبرر العالقة الموجودة بينهما.
إن غياب عنصر من هذه العناصر الثالثة سيؤدي إلى تدميرالعالمة ومن ثم إلى تحجيم قدرتها على إنتاج
داللة ما.
إن هذا الترابط بين العناصرالثالثة ( أشكال وجود التجربة في واقع األمر ) يفسر ما قلناه سابقا عن
الترابط بين الداخل والخارج في النص وفي التجربة الفنية ككل .فما دمنا النستطيع تحديد كنه أي شيء خارج
أدوات التمثيل ،فإن التجربة اإلنسانية في كليتها تحضر عبر وجهها الرمزي ،وال يمكن إدراكها إال عبر هذا الوجه.
وفي هذه الحالة يمكن القول إن الداللة ليست معطى جاهزا يوجد خارج العالمات وخارج قدرتها في
التعريف والتمثيل ،فالمعنى ال يوجد في الشيء وليس محايثا له ،إنه يتسرب إليه عبر أدوات التمثيل ،وهو ما
يشير إلى أن إدراك الكون ليس مباشرا ،فالشيء ال يوجد في ذاته ،بل مثواه الوعي الذي يدركه.
وعلى هذا األساس يمكن فهم البناء النظري الذي تندرج ضمنه هذه المقولة .فالتصور العام الذي يقدمه
بورس للسميوزيس يستند إلى مبدإ سميائي يقول بإمكانية وجود إحالة من المحتمل أال تتوقف عند حد بعينه.
فعندما يتم التمثيل وتنفلت الداللة من عقالها ،فإن أمر إيقافها عند حد بعينه يصبح مستحيال .فالتمثيل يحيل على
الشيء الممثل وفق مبدأ للتوسط ،وال يقود التوسط إلى تعيين معنى وإنما يفتح السيرورة الداللية على كل
االحتماالت الممكنة .وبعبارة أخرى فإن الفكر ال يمكن أن يترجم إال في فكر آخر ،فمادام الشيء في حد ذاته
عالمة ،فلن يكون مجديا البحث عن إحالة خارج ما يرسمه الفكر أي خارج ما ترسمه العالمات.
ورغم ذلك ،إذا كنا ال نستطيع تصور نهاية بعينها للنفق التأويلي ،فنحن قادرون ،مع ذلك ،على رسم بداية
له .فاألول محدد والنهائي محتمل ،والبداية خطوة أما النهاية فدروب تسير في جميع االتجاهات وبال أفق وال
تخوم .ولهذا يمكن القول إن فعل العالمة مرتبط بنشاطين مختلفين ومتكاملين يقود أحدهما إلى اآلخر :
- 1النشاط األول مرتبط بفعل إنتاج الداللة في مستواها األولي ،أو مستواها التقريري الحرفي .فالطابع "
الموضوعي" ( أولنقل الطابع البيذاتي) للمعنى يتحدد من خالل وجود مادة أولية منها تشتق كل المعاني "
النفعية" الموجهة نحو االستجابة لحاجات أولية .فالعالمة تعين وتسمي وتشير ،وفي هذه الحالة ،فإنها ال تتجاوز
حدود اإلشارة إلى ما هو معطى من خالل حدود فعل التمثيل ذاته :أي ما يخص معنى العالمة ومعنى النص ومعنى
الواقعة وذلك ما تقتضيه عناصر التجربة المشتركة.
وبما أن الخروج من دائرة التعيين إلى ما يشكل بحق عالم التأويل بمفهومه الواسع يقتضي التخلص من
مقتضيات اإلحالة المباشرة ( اإلحالة األولى ) وإعادة ترتيب العناصر وتنظيمها وفق عالقات جديدة ،فإن الضمانة
الوحيدة على سالمة هذه الحركة التدليلية وقدرتها على إنتاج الدالالت المتنوعة هو وجود هذا "الحد األدنى
المعنوي" المرتبط بتجربة حياتية ال تتجاوز حدود االستجابة للبعد النفعي فيها ( يمكن بالتأكيد في هذه الحالة
التساؤل عن فحوى النفعي ومتى تكون الحاجة نفعية أو مرتبطة بلذة .وهنا أيضا يقتضي األمر تحديد السياق
المباشر لفعل العالمة) .وبعبارة أخرى فإن التأويل الالمتناهي يقتضي وجود مدلول أولي ( كيفما كان وضعه) تبنى
على أساسه مجمل المعارف التي تنتجها حركة اإلحاالت الالحقة .وهذا ما يقودنا إلى الحركة الثانية ضمن فعل
السميوزيس.
- 2النشاط الثاني هو الذي يقذف بالعالمة من موقعها التعييني المباشر ،إلى عالم جديد من الدالالت؛ وهذه
الدالالت ليست معطاة بطريقة مباشرة من خالل ما يبدو من ظاهرالعالمة ،بل يشير إلى تجربة ضمنية ،فـ >العالمة
تحتوي أو تشير إلى مجمل مكوناتها األكثر إيغاال في القدم< ( .)3فإذا كانت اإلحالة األولى ( أو اإلحاالت األولى )
( ) 4تحدد منطلقا لسيرورة ما ،فإن اإلحاالت الالحقة تخلق سلسلة من المسيرات التأويلية التي تدخل عبرها الذات
المؤولة ( القارئ) كعنصر أساس في عملية إنتاج الدالالت المتنوعة.
ومع ذلك ،ال وجود لفاصل بين النشاط األول والثاني ،فال يمكن تصور واقعة تكتفي بإنتاج داللة واحدة
خاصة بالتعيين ،وبالمثل ال يمكن تصور فعل تأويلي ال يسلم بوجود مادة ( نص) سابقة عنه .إن النشاط التأويلي،
2
وفق الغايات السميوزيسية ،المعلنة أو الضمنية ،فعل كلي ،إن كانت آثاره المباشرة هي تعيين داللة ما ( تعيين
ما ) فإن عمقه ال تحدده سوى اإلحاالت التي تجعل من أي نسق سميائي بؤرة للتوالد الداللي الالمتناهي .و>
التأويل الالمتناهي أمر ممكن عند بورس .فالواقع يمثل أمامنا باعتباره متصال ( ) continuumحيث ال وجود
لكيانات مطلقة< (.)5
ورغم إقرارنا المبدئي بأن السميوزيس المتناهية في الزمان وفي المكان ،فإن ثقل الحاجات اإلنسانية
الدائمة -التواصلية منها أساسا -يقود إلى تحجيم هذه الطاقة الجبارة وتسييجها ضمن سياقات تمكن الذات من
االستقرار على داللة بعينها .وبناء على ذلك فإن > غاياتنا المعرفية تقوم بتأطير وتنظيم وتكثيف هذه السلسلة
غير المحددة من اإلمكانات .فمع السيرورة السميوزيسية ينصب اهتمامنا على معرفة ما هو أساس داخل كون
خطابي محدد< ( .) 6وهذا يعني أن السيرورة التأويلية -رغم كل ما قلناه -متناهية من حيث التجسيد العملي ،أي
من حيث ارتباطها في التحقق الفعلي بسياقات خاصة تمنح وحداتها هوية خاصة.
وهذا ما يشكل الفاصل الحقيقي بين ما اصطلح عليه بالمتاهة التأويلية ( )dérive interprétative
وبين السميوزيس في التصور الذي يقترحه بورس .ففي المتاهة التأويلية تنبعث الداللة من فعل العالمة كسيرورة
بال رادع وال ضفاف وال حدود .فما نحصل عليه من معرفة ،بعد أن يستنفد الفعل التأويلي طاقاته ،ال عالقة له
بالنقطة التي شكلت بداية التأويل؛ فبإمكان أية عالمة أن تحيل على أية عالمة أخرى ،كما بإمكان أي شيء أن
يشير إلى شيء آخر > .وفي هذه الحالة فإن اإليحاءات تنتشر بشكل سرطاني بحيث إننا كلما انتقلنا إلى مستوى
أعلى تم نسيان العالمة السابقة أو تم محوها ،فجوهر اللذة التي تخلقها المتاهة تكمن كلية في االنتقال من عالمة
إلى أخرى ،وال غاية لهذه الرحلة اللولبية بين العالمات واألشياء سوى هذه اللذة ذاتها < (.)7
ويقدم راستيي في كتابه " الداللة التأويلية " ( )8مثاال قد يصدق على الحالة التي نحاول تشخيصها .يقول
المثال " :أنت مساعد ،ستظل الطماطم خضراء ( Vous êtes assistant, les tomates resteront
. )vertesإن الجملة تتكون من جزءين ال رابط بينهما من حيث الداللة المباشرة التي تحيل عليها الوحدات
المكونة للجملة .فأن يربط مصير الطماطم بمصيراألساتاذ المساعد ،فذاك أمر في غاية الغرابة ،ومع ذلك فإن
راستيي "ينبش" في ذاكرة الكلمات ،و"يعدل" و"يرتب" و"يصوغ العالقات" ليكتشف في النهاية وجود رابط
بين الجزء األول من الجملة وجزئها الثاني ،وهو ما يشكل ،في نظره ،انسجام الجملة وإمكانية تداولها باعتبارها
كونا دالليا "مقبوال" .وهذا الرابط يتحدد من خالل الفصل بين كيانين :
-1كيان المؤسسة الجامعية التي تحكمها هرمية في اإلطارات تجعل من األستاذ "المساعد" أدنى إطار
وأوله ،فهو إذن يشكل مرحلة البداية في الحياة المهنية لألستاذ ،وفي هذه الحالة نكون أمام المعنم /بدئي./
-2حالة الطماطم التي تمر بمراحل لكي تصبح صالحة لالستهالك .فهي تنتقل من الفجاجة إلى النضج من
خالل االنتقال من اللون األخضر إلى اللون األحمر .وفي هذه الحالة فإن اللون األخضر يحيل على البداية ،أي
يشير إلى المعنم /بدئي./
والخالصة أن الجملة "تريد أن تقول" :أنت مساعد وستظل مساعدا .فنحن في هذه الحالة ال نبحث عن
داللة للجملة ،وإنما نبحث عما يجمع بين أجزائها المتنافرة .
وعلى النقيض من ذلك فإن مفهوم السميوزيس -في تصور بورس على األقل -يشير إلى شيء مخالف
تماما لهذا .فعلى عكس المتاهة ،فإن اإلحاالت المتتالية ال تقطع صلة الالحق بالسابق ،كما أنها ال تلغي الروابط
بين عناصرالشبكة التأويلية الواحدة .فالعالمة تكتسب مزيدا من التحديدات كلما أوغلت في اإلحاالت واالنتقال من
مؤول إلى آخر .من هنا ،فإن الحلقات المشكلة ألي مسير تأويلي تقود إلى إنتاج معرفة أعمق وأوسع من تلك التي
تقدمها العالمة في بداية المسير .وهكذا فإن ما نحصل عليه من معرفة في نهاية السلسة هو تعميق للمعرفة التي
تطرحها العالمة في حدها البدئي .فما تقوم به اإلحاالت هو تعميق للمعرفة السابقة ال نفي لوجهها البدئي ،فالعالمة
> هي شيء تفيد معرفته معرفة شيء آخر < كما يقول بورس.
ولتوضيح هذا التوالد ،نستعين بمثال يورده إيكو ،في سياق غير سياقنا ،لكنه يصدق مع ذلك على حالتنا.
يقول المثال > :في مواجهة األضواء المنظمة للسير في مفترق طرق ما ،أعرف أن " األحمر" يعني/التوقف،/
في حين يعني " األخضر" /المرور ./لكني أعرف أيضا أن األمر /توقف /يعني /إجبارية ،/في حين أن السماح بـ
/مرور /تعني " اختيار حر" ( فبإمكاني عدم اجتيازالطريق ) .وباإلضافة إلى ذلك ،فأنا على علم بأن /اإلجبارية/
تعني " ذعيرة نقدية " ،في حين أن /االختيار الحر /يدل تقريبيا على " يجب اتخاذ قرار ")9( < .
ويقدم للمزيد من التوضيح الترسيمة التالية :
ذعيرة دال دال قرار
3
وجوب دال دال اختيار حر
توقف أحمر أخضر مرور
مددم
وبالتأكيد ففي هذا المثال برهنة كافية على نوعية هذا التوالد الداللي وميكانيزماته المرتبطة باإلحاالت التي
تطلق عنان السميوزيس الرتياد مناطق داللية من كل األنواع واألحجام .فداخل هذا التوالد هناك :
-1عالقة بين الوحدات قائمة على النمو التصاعدي لـ " الكمية المعنوية " التي تتوفرعليها النواة الداللية
المعطاة مع عملية التمثيل األولى .فكل إحالة تضيف قدرا من الداللة إلى اإلحالة السابقة عنها.
- 2إن نقطة "النهاية" ( إنها نهاية مفترضة ،فهي كذلك ضمن سياق خاص فقط ) داخل هذه السيرورة
التدليلية تقوم بتعميق معرفتنا بما وضع للتداول في اإلحالة األولى .وهكذا ،فإن معرفتنا باألحمر قد ازدادت
وتنوعت دروبها دون أن تفقد ،مع ذلك ،الصلة بالداللة التي منحت لها في بداية السلسة.
من هنا ،فإن انتفاء الطابع المطلق عن الكيانات المشكلة للكون اإلنساني ،هو ما َيُح د ،من زاوية أخرى،
من سلسلة اإلحاالت وتكاثرها .فالقول بنسبية الواقعة معناه القول إن ما يبدو صحيحا في هذا السياق ليس كذلك
في سياق آخر وضمن شروط أخرى .وبناء على هذا ،فإن > التأويل ليس وليد بنية الذهن البشري ،وإنما هو نتاج
للواقع الذي تقيم دعائمه السميوزيس<(.)10
في ضوء كل ما سبق ،فإن النص عندما يتحدد ككيان مستقل الوجود من حيث قدرته على االنفصال عن
المادة التي تؤثث الكون اإلنساني كله -أي عما يشكل الوجه المتصل للكون -فإن سلسلة المؤوالت تميل إلى
االنكفاء على نفسها وتبحث عن شكل داللي تستقر عليه .إن النص ،من هذه الزاوية إذن ،ال يشتمل على معنى،
وال حتى على معاني ،وال يضم بين دفتيه داللة نهائية كلية أو جزئية ،بل هو خزان كبير لسياقات بالغة التنوع
والتعدد والتجدد .وللذات المتلقية ( القارئ ) وحدها القدرة على تحيين هذه الداللة أو تلك ضمن هذا
المسيرالتأويلي أو ذاك ضمن شروط "االنتقاء السياقي" والظروف المقامية الخاصة بكل فعل قراءة.
وفي هذه الحالة كل شيء يقاس بالعالقة الموجودة بين النص والقارئ ( بين العالمة ومستهلكها ) ،فضمن
هذه العالقة تتحدد القراءات وتتناسل التأويالت .وعلى هذا األساس ،فإن االعتراف بوجود هذه العالقة
هواعتراف -ضمني أو صريح -بكيان مستقل عن الذات التي تحاوره :إنه كذلك من حيث المادة والبناء ومقام
النشأة.
وتعد هذه االستقاللية ،ربما على عكس ما يتصوره البعض ،الضمانة الوحيدة على غنى التأويل وتعدديته.
وربما يتعلق األمر بطريقة أخرى للقول إننا ال نؤول ما بداخلنا ،ولكننا نقوم ،عكس ذلك ،بوضع معرفتنا
( موسوعتنا على حد تعبير إيكو) في خدمة مادة هي منطلق التأويل وأصله .من هنا ،فإن كل قراءة هي خلق
لسياق جديد يستمد مشروعية وجوده من المادة الموضوعة للتأويل .وبما أن "الوعي الخالق للعمل الفني" وعي
جزئي بالضرورة ،فإن النشاط التأويلي ال يمكنه أن يكون إال من نفس الطبيعة .لذا فإنه يصل في مرحلة ما إلى
استنفاد كل طاقاته اإلبداعية ليتوقف عن إنتاج دالالت جديدة ،ليفسح المجال لوعي جديد ضمن شروط تاريخية
جديدة ولينتج دالالت تنسجم وحجم الموسوعة الجديدة.
الطوبيك :فرضية للقراءة والتأويل
ومن هذا المنطلق بالذات ،ووفق غايات تأويلية محض ،أدخل إيكو إلى التداول النقدي مفهوم الطوبيك (
) 11لينتشل التلقي من وهم التعدد التأويلي المطلق ،ومن الفهم األحادي للنص في اآلن نفسه .وكما سنرى الحقا،
فإن هذا المفهوم ليس مرتبطا بالمادة المضمونية وال محكوما بطبيعتها ،بل هو رهين في وجوده واشتغاله بالذات
التي توجد في تماس مع هذه المادة .وهو من هذه الزاوية ،يعد تصورا أوليا و"حدسيا" للمعنى .إنه يمثل ،عند
القارئ ،األشكال األولى لمقاربة المعنى وفق خطاطة يتبناها هذا القارئ ويباشر وفقها عمليات التأويل الالحقة.
ويعرف إيكو الطوبيك > بأنه فرضية مرتبطة بالقارئ الذي يقوم بصياغتها بطريقة بسيطة على شكل
أسئلة من نوع " ماذا يريد النص قوله ؟" لتترجم في أجوبة من نوع " ربما يتعلق األمر بالقضية الفالنية ".
ويعد من هذه الزاوية أداة سابقة على النص .وال يقوم النص إال بافتراضها إما ضمنيا وإما باإلشارة إليها صراحة
من خالل مؤشرات مثل العنوان أوالعناوين الفرعية أو من خالل الكلمات /المفاتيح .وإلى هذه الفرضية يستند
القارئ في تفضيله لبعض الخصائص الداللية للوحدات المعجمية التي يتألف منها النص واستبعاده ألخرى بغية
الوصول إلى االنسجام التأويلي الذي ُيطلق عليه التناظر<)12(.
إن التوسط الذاتي الذي يشير إليه مفهوم الطوبيك يفترض القيام بفصل بين المضامين التي يحتضنها
النص وبين العمليات الذهنية المرافقة ألي نشاط تأويلي .فما بين الذات القارئة التي تقوم بالتجسيد ( بمفهوم
جماليات التلقي ) ،أي تحيين مجمل معطيات الموسوعة الثقافية وفق حاجات يفترضها النص لكي يسلم مفاتيح
قراءاته ،وبين المعرفة التي قد نحصل عليها من خالل فعل التأويل ،يتسرب "االنتقاء السياقي" كحد فاصل بين
4
التأويل الذي ال تحكمه ضفاف وال حدود ،وبين مفهوم " المسير التأويلي" ( .)parcours interprétatif
ولهذا السبب جعل إيكو من مفهوم الطوبيك األداة المركزية في التحكم في دهاليز السميوزيس ،فـهو > يقوم
بتقليص حجمها وتكثيفها ،كما يقوم أيضا بتحديد أوجه التحيين داخلها< ( ، )13أي تحديد مجمل الممكنات
التأويلية القابلة للتجسيد من خالل القراءت المتنوعة.
إن األسئلة التي يمكن أن يطرحها القارئ على النص ،وكذا الدروب التي يحاول رسمها ليلج من خاللها
إلى عالم النص ،تلقي المزيد من الضوء على هذا المفهوم .فبما أن القراءة الشمولية للنص ( فعل تأويلي جامع
لكل السياقات) تدخل في باب المستحيالت ( إال في الحالة التي يقرر فيها القارئ تبني االختصار والتكثيف وبالتالي
التضحية بكل ما ال يستقيم داخل استراتيجيته التأويلية ،وفي هذه الحالة نكون أمام قراءة جزئية أيضا ) ،فإن
التأويل -من خالل مفهوم الطوبيك ذاته -يرتبط باالنتقاءالسياقي.
واالنتقاء السياقي معناه خلق مسير تأويلي تنظم وفقه عناصرالنص وتحين وفقه الترسيمة الثقافية
الخاصة بكل قارئ > ،فما يشكل التناظرالداللي( )isotopieليس تواتر المعانم ( )sèmesالموضوعة للتداول،
بل افتراض تناظر ما ،هوالذي يقود إلى تحيين بعض المعانم ،إن لم نقل كلها .ويمكن التأكد من هذا األمر من خالل
الوقائع المحسوسة .ويتعلق األمر هنا بتطبيق مبدإ عام :إن المعنى ،حتى ولو تعلق األمر بأدني المستويات
الداللية ،هو نتاج عمليات تأويلية محكومة باستراتيجية< ( ( )14التشديد من عندنا).
وضمن هذا االنتقاءالسياقي تدخل كل "قواعد اإلحالة" التي يبنى النص ويؤول وفقها :اإلحالة المباشرة
على عناصره ،اإلحالة على ما يقترحه االختيارالتأويلي ،اإلحالة التي تقود إلي تحيين ممكنات داللية واستبعاد
أخرى ضمن نفس الواقعة .وهذه اإلحاالت هي ما يشكل محيطه وما يشكل سياقاته وشروط إنتاجه وقراءته أيضا.
فكل هذه القواعد تساهم في بلورة كون داللي منسجم يصاغ انطالقا من إعادة تنظيم عناصر تنتمي إلى عالم يعج
بالممكنات المتنوعة التي تصل إلى حد التناقض أحيانا.
ويحضرنا في هذه اللحظة فيلم ظهر منذ سنوات بعنوان Les dieux sont tombés sur la " :
." têteيصورالفيلم حياة أفراد قبيلة مهملة في أدغال إفريقيا حيث السكينة والهدوء ،وحيث تغيب عن العالقات
اإلنسانية عقد التملك والتسلط .في هذا الجو المثالي يلقي طيار من أعلى السماء بقنينة كوكاكوال فارغة لتسقط
وسط القبيلة لتشوش على كل شيء ،وستفقد هذه القبيلة انسجامها ووحدتها وسلمها نتيجة للمحاوالت المتعددة لـ
:تأويل" هذه القنينة وتحديد وظيفتها .لقد ُقرئ هذا الفيلم من زوايا متعددة .نكتفي هنا بذكر قراءتين متناقضتين
كليا .فالقراءة األولى رأت في الفيلم قمة في تصوير الصفاء اإلنساني والنقاء الحضاري ،إنه يحتفي ويمجد "
اإلنسان" الذي لم تستعبده اآللة والملكية بعد ،ومن ثم فهو دعوة إلى التشبث بهذا النمط من الحياة ورفض كل
ضروب التمدن والحضارة.
أما القراءة الثانية فهي نقيض لألولى .فقد رأت في الفيلم عمال عنصريا مشينا ،فهو يعمل بكل الوسائل
على تشويه صورة إفريقيا ،إما من خالل التركيز على انقالباتها الدموية وعلى تخلفها في استعمال األسلحة التي
تستوردها من الغرب ،وإما من خالل تصوير حياة كائنات بشرية تعيش خارج " الحضارة " وخارج" التاريخ".
ومن ثم فهو دعوة مقنعة إلى اإلبقاء على "التخلف" .
وما يهمنا في القراءتين معا ليس مضمونهما -فتلك حكاية أخرى قد تدفع بنا إلى تقديم قراءة ثالثة ال
عالقة لها بالقراءتين السابقتين -وإنما الطريقة التي يستند إليه فعل التأويل .فالقراءتان معا تنطلقان من نفس
العناصر ،وهي العناصرالتي يراد لها أن تحيل على كون أو أكوان داللية خاصة .إال أن كل قراءة من القراءتين
تدرج هذه العناصر ضمن موسوعة ثقافية سابقة ،تتم وفقها عملية التأويل .وهذا معناه أن التأويل ال يوجد في تلك
العناصر بل يبزغ من امتزاجه بهذه المعرفة التي توجد في محيط النص .لذا يمكن القول بأن األمر يتعلق في
القراءة األولى كما في القراءة الثانية بمسيرتأويلي له قواعده ومنطقه ونتائجه الداللية .
> فالسيناريوهات والتمثيالت المعنوية قائمة على أساس وجود سميوزيس ال متناهية .وباعتبار طبيعتها
هذه ،فإنها تستدعي انخراط القارئ الذي عليه أن يحدد متى سيقوم بتوسيع دائرة التأويل الالمتناهي هذا ومتى
عليه أن ينهيها < ( .)15إن هذه الحركة ال يمكن أن تتم إال من خالل افتراض وجود تصور مسبق عن المعنى
تختزنه الموسوعة الثقافية للقارئ .وفي هذه الحالة ،فإن الطوبيك ،المفهوم الذي يقترحه إيكو ،ال ينهض صمام
أمان على مصداقية القراءات وصحتها فتلك مسألة من طبيعة أخرى ،وإنما على الطابع المنظم للفعل التأويلي ،أي
تنظيم الداللة في مسيرات تأويلية.
إن كل قراءة هي خلق لسياقات وكل سياق ليس سوى تطبيق لفرضية الطوبيك .وإلى حين تجسيدها في
سياق خاص تظل السميوزيس ال متناهية > .فهي تغلق في كل لحظة وال تغلق أبدا .ذلك أن نسق األنساق
5
السميائية الذي يبدو ،بشكل مثالي ،ككون ثقافي مفصول عن الواقع ،يقود في الحقيقة إلى الفعل في العالم لتغييره.
إال أن كل فعل تغييري يتحول بدوره إلى عالمة تعلن عن ميالد سيرورة سميوزسيية جديدة < ()16
الهوامش
-1يتحدث إليزيو فيرون عن السميوزيس بقوله " :إن العالم الذي تحيل عليه العالمات عالم ينمو ويضمحل
داخل نسيج السميوزيس " انظر Eliseo Veron : La sémiosis et son monde , in Langages n! 58 , p :
.71
-2دولودال تنبيه لقراء بورس ص 26
Umberto Eco : Les limites de l'interprétation , éd Grasset , Paris 1990 , p 371 -3
-4أو اإلحاالت األولى ،فبإمكان كلمة واحدة أن تدل من الناحية التقريرية البحت على مرجعين مختلفين :
العين " العضو البصري " والعين "الماء الجاري" .
-5إيكو les limites p 378
-6نفسه ص 371
-7نفسه ص 373
François Rastier : Sémantique interprétative , éd P U F , Paris 1987 -8
Umberto Eco: le signe, éd Labor, 1988, p102 -9
, les limites p 382 Eco -10
-11يرفض إيكو استعمال الثيمة ويفضل استعمال الطوبيك ،ألنه يرى في الطوبيك ظاهرة تدوالية لها عالقة
مباشرة بالفعل الذي ينجز القراءة ،في حين أن الثيم أوالتناظر لهما عالقة بالمضمون الداللي للنص
أوالواقعة.
Umbero Eco : Lector in fabula , éd Grasset , 1985 p 119 -12
-13نفسه ص 115
Rastier F : Sémantique interprétative , éd P U F , Paris 1987 , p 12 -14
Eco :Lector in Fabula p 113 -15
-16نفسه ص 57
العدد 1998 10
6