You are on page 1of 8

‫الهوية والغيرية لدى بول ريكور‬

‫‪-‬لحظة الثابت والمتحول‪-‬‬


‫‪‬‬
‫د‪ /‬العربي ميلود‬

‫‪ -1‬الهرمونيطيقا كتأسيس منهجي للبحث‪:‬‬


‫يقول بول ريكور معرفا منهجيتو ادلزاوجة بٌن الظاىرية والتأويلية ‪" :‬إن التأويل ىو عمل الفكر الذي‬
‫يتكون من فك ادلعىن ادلختبئ يف ادلعىن الظاىر‪ ،‬ويقوم على نشر مستويات ادلعىن ادلنضوية يف ادلعىن احلريف‪ .‬وإين إذ‬
‫أقول ىذا‪ ،‬فإين أحتفظ بادلرجع البدئي للتفسًن‪ ،‬أي لتأويل ادلعاين احملتجبة‪ ،‬وىكذا يصبح الرمز والتأويل متصورين‬
‫متعالقٌن‪ .‬إذ ذتة تأويل‪ ،‬ىنا حيث يوجد معىن متعدد‪ .‬ذلك ألن تعددية ادلعىن تصبح بادية يف التأويل"‪.1‬‬
‫نستشف من ىذا النص أن منهجية ريكور يف حتديد ادلفاىيم تقوم من خبلل الرتحل بٌن تأويبلت عدة‬
‫ومقاربة صراعاهتا حول معاين األشياء ادلعطاة‪ ،‬ألن ادلفهوم حيمل يف ثناياه معاين متعددة‪ ،‬وعادة ما يكون تعاملنا‬
‫مع ىذه ادلفاىيم بوجهة نظر تلقائية مباشرة‪ ،‬ختضع لنظرة أحادية موثوقة للمعاين الظاىرة وكأهنا حقائق مطلقة‪،‬‬
‫ىذا ما حيجر الذىن على التعامل معها على ضلو تساؤيل يعيد النظر إليها بطريقة تأويلية متفتحة‪ ،‬ومع حضور‬
‫سلسلة تأويبلت حيال كنو ىذه ادلوضوعات وعللها وغائياهتا وآلياهتا تزول تلك الرؤية األحادية‪ ،‬وتتقلص احلقيقة‬
‫ادلطلقة فتنكشف مثالبها وحجبها‪ ،‬فتحيلنا إىل البداية من جديد‪ ،‬أي إىل تعددية ادلعىن الظاىرة من خبلل‬
‫اذلرمونيطي قا‪ ،‬لتبدأ ىذه األخًنة 'حتليبل يف فهم البىن الرمزية‪ ،‬وإهنا لتتابع فتقيم مواجهة بٌن األساليب اذلرمونيطيقية‪،‬‬
‫كما تقيم نقدا ألنساق التأويل‪ ،‬زليلة تنويع ادلناىج اذلرمونيطيقية إىل بنية النظريات ادلناسبة(‪ )..‬وىي بذلك تعد‬
‫نفسها دلمارسة مهمتها العليا‪ ،‬واليت ستكون حتكيما حقيقيا بٌن اإلدعاءات الشمولية لكل واحد من التأويبلت"‪.2‬‬
‫تأويلية ريكور ال ختضع ادلفهوم لتأويل واحد‪ ،‬بل حتاول أن تضبط مسار ىذه التأويبلت ادلتعددة لتنزىها‬
‫عن الفوضى واالعتباطية‪ ،‬وتضعها يف رلراىا ادلنهجي والداليل السليم‪ ،‬وهبذا صلد بول ريكور يتجو أكثر ضلو ضبط‬
‫ادلفاىيم ضبطا يقيم من خبللو حواصل نظرية وإجرائية‪ ،‬مرتفعا عن ادلسوغات اليت تطرحها منهجيات التأويل‬
‫األوحد واليت عادة ما دتارس سلطة مركزية يف ضبط حدود الفهم دلعاين األشياء‪.‬‬
‫و"هبذا يكون ريكور قد امتحن ذاتو يف مرآة التأويبلت ادلتقابلة اليت ما انفك يستقي من منابعها األطر‬
‫الفكرية واألشكال ادلفهومية‪ ،‬ويتجاوزىا بصناعة مفاىيمو اخلاصة"‪.3‬‬
‫فكيف سيصنع بول ريكور شبكتو ادلفهومية اخلاصة بكل ما ىو زلايث ورلاور دلفهوم الغًنية؟‪.‬‬

‫*‪ -‬جامعة عبد احلميد بن باديس‪ ،‬مستغاًل وعضو مبخرب األنساق‪ ،‬البنيات‪ ،‬النماذج وادلمارسات‪ .‬جامعة وىران‪.‬اجلزائر‪.‬‬
‫‪ -1‬بول ريكور ‪ ،‬صراع التأويبلت‪ ،‬تررتة منذر عياشي‪ ،‬مراجعة جورج زينايت‪ ،‬دار الكتاب اجلديد ادلتحدة لبنان‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص ‪.44‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬ادلصدر نفسو‪ ،‬ص ‪.64‬‬

‫‪ -3‬زلمد شوقي الزين ‪ ،‬تأويبلت وتفكيكات –فصول يف الفكر الغريب ادلعاصر‪ ، -‬ادلركز الثقايف العريب بًنوت‪ ،‬ط‪ ،2002 ،1‬ص ‪.68‬‬
‫ريكور يف سياق إرساء مفاىيمو اخلاصة حول الذات والغًنية يعود دوما إىل الكوجيتو‪ ،‬إىل الذات اليت‬
‫جعل منها ديكارت زلور احلقيقة يف ىذا الوجود‪ ،‬أو سر ارتباطو هبذا الوجود‪ ،‬فاألنا الديكارتية لطادلا سعت ألن‬
‫تبلغ التأسيس ادلطلق والنهائي ما جيعل األنا أفكر مغالية يف العظمة إىل أقصى حد شلكن‪ ،‬وىذا التعايل لؤلنا مل‬
‫يقتصر حسب ريكور على ديكارت وحده بل امتد إىل كانط ومن ذتة إىل فختو ليصل إىل ىوسرل من خبلل‬
‫مؤلفو تأمبلت ديكارتية‪.‬‬
‫غًن أن أزمة الكوجيتو ال جيب مطالعتها بعيدا عن أصل انبعاثها‪ ،‬فما تبله ال يعدو أن يكون تبعات‬
‫مفهومة احلدوث‪ ،‬إذ يقول‪" :‬يكفي أن ضلاول أن نتحقق من ىذا الطموح يف مكان والدتو‪ ،‬أي عند ديكارت‬
‫نفسو‪ ،‬كي نرى أن فلسفتو تشهد بأن أزمة الكوجيتو كانت متزامنة مع تأكيد الكوجيتو"‪.4‬‬
‫حلظة تأكيد الكوجيتو كانت حلظة راديكالية‪ ،‬حينما وظف ديكارت شك ال ديكن فهمو وتوظيفو‬
‫خارج ادليتافزيقا‪ .‬مصحوبا بصورة خرافية تتومهها ىذه األنا وىي شيطان وروح خبيث تضلل أرائي‪ .‬غًن أن ىذا‬
‫الكوجيتو ستتعقبو مطرقة نتشو‪ ،‬والذي أراد توظيفها ليحطم بعدميتو إرثا فلسفيا يف فهم الذات وعبلقاهتا ادلتشعبة‪.‬‬
‫فبلغ الكوجيتو ذروة نقده مع نتشو‪ ،‬الذي يسميو ريكور بادلناوئ األكرب لديكارت‪ .‬ف "نعرف جيدا أن نتشو‬
‫انتقد بشدة ادلفاىيم التقليدية للوعي‪ ،‬للذات والروح‪ ،‬فرفض االختبلف ادلفرتض بٌن ما ىو داخلي وما ىو‬
‫خارجي‪ ،‬ليمثل حلظة أساسية يف ىذا النقد"‪.5‬‬
‫لكن مل حتطم ىذه التفكيكية النتشوية ىذا الكوجيتو بشكل كامل‪ ،‬ألن الذات مل دتت حسب ريكور بل‬
‫أضحى ىذا الكوجيتو رلروحا‪ ،‬بسبب نتشو أوال‪ ،‬وبسبب إلغاء اآلخر‪ ،‬وجعل التفكًن ينصب بشكل مطلق حول‬
‫الذات الفاعلة‪.‬‬
‫وأمام ىذا التصور السليب للكوجيتو‪ ،‬وادلنظور إليو من زاوية إرتيابية‪ ،‬ترتاءى من خبلذلا الذات على أهنا‬
‫أكثر تشاؤمية‪ ،‬وأمام غياب تصور فلسفي لغوي كمعيار يضبط وفقو مغزى الوجود اإلنساين وكوسيلة للتعامل مع‬
‫ادلعاين ادلتعددة للذات واآلخر‪ ،‬سيختار ريكور فكرة التوسطية بٌن الذات واآلخر‪ ،‬أي إلزامية استحضار ىذا‬
‫اآلخر واإلنصات إليو‪ ،‬ألن وجوده ضروري يف بعث ذات فاعلة ترتحل يف بوتقة نسق يدعى الغًنية‪ ،‬ديكننا من‬
‫خبللو أن ن ّكمد جراح ىذه الذات اجملروحة‪ ،‬وجعلها أكثر انفتاحا على ىذا العامل وعلى كل ما ىو سلتلف فيو‪،‬‬
‫مدركة يف اآلن ذاتو ادلسافات الزمنية بٌن ماضيها وحاضرىا ومستقبلها‪ ،‬وبالتايل فإن "ىذا الفعل يسعى لتيسًن‬
‫احلوار بٌن ما كل ىو سلتلف‪ ،‬ويبحث يف ادلسافة الفعلية داخل العبلقة القائمة بٌن األنا واآلخر‪ ،‬القريب والبعيد‪،‬‬
‫مبساعدة التقسيم ادلوجود للوجود الكلي ادلنبث بٌن ثقافات متعددة"‪.6‬‬
‫وىا ىنا سبقحم ريكور اللغة لفهم ىذه ادلعاين وإزالة اللبس الذي أضفتو التفسًنات على ادلعىن األصلي لؤلشياء‪.‬‬

‫‪ -4‬بول ريكور ‪ ،‬الذات عينها كآخر‪ ،‬تررتة وتقدمي وتعليق جورج زينايت‪ ،‬ادلنظمة العربية للرترتة لبنان‪ ،‬ط‪ .2005 ،01‬ص‪.74‬‬
‫‪5‬‬
‫‪- Tamas Ullmann, Identité et intériorité, in, Le même et l’autre – identité et différence- actes‬‬
‫‪d’un congrès international, Budapest 2006, ASPLF, p 345.‬‬
‫‪6‬‬
‫‪- François Dosse, Paul Riceour, les sens d’une vie. Edition revue et augmentée, paris, p586.‬‬
‫‪ -‬نحو نشريح لغوي لسؤال الذات واآلخر‪:‬‬
‫لعل البداية التأسيسية لدراسة الذات واآلخر لدى ريكور تتماىى بطريقة تفكيكية‪ ،‬وذلك عقب‬
‫النكسات اليت شهدىا مفهومي الذات واألنا‪ ،‬لذا ستكون أول مرحلة ريكورية يف ضبط ادلفاىيم تتمثل يف حتديد‬
‫اإلطار ادلنهجي لسؤال الذات واآلخر‪" ،‬فنحن نسأل عن الذات بالقدر الذي هنم فيو باإلجابة عن سؤال من؟‬
‫وليس عن السؤال ماذا؟ أو دلاذا؟ على ىذا النحو فإن مقوالت القول والقائل‪ ،‬مث القدرة على الفعل والفاعل‪ ،‬مث‬
‫السرد والراوي‪ ،‬وأخًنا مسؤولية األفعال والذات احلاملة للمسؤولية ختضع كلها لبلستقصاء الفينومينولوجي"‪.7‬‬
‫ىذا االستقصاء الفينومين ولوجي سيدفع ببول ريكور إىل إقامة نوع من الفصل بٌن ىذين ادلفهومٌن‪ ،‬فعلى‬
‫ادلستوى ادلعجمي فإن ىذا التباعد سيتخذ أشكاال سلتلفة حبسب "اخلصوصيات الصرفية النحوية اخلاصة بكل‬
‫لغة‪ .‬ومن وراء ىذا الرتابط اإلرتايل القائم بٌن الكلمة الفرنسية » ‪ « soi‬والكلمة اإلصلليزية » ‪ « self‬واألدلانية‬
‫» ‪ « selbst‬واإليطالية » ‪ « se‬واإلسبانية » ‪ ، « semismo‬فإن قواعد ىذه اللغات تتباعد‪ .‬غًن أن ىذه‬
‫معربة حٌن تضيء كل خاصية ضلوية صرفية جزءا من ادلعىن األساسي ادلنشود"‪.8‬‬ ‫التباعدات نفسها ّ‬
‫ىذا التباعد اللغوي بٌن عدد من اللغات على ادلستوى النحوي والصريف ديس بشكل كبًن ادلعىن العام‬
‫للمفاىيم ويؤثر يف وظيفتها‪ ،‬وديكن ىنا مقاربة التعبًن » ‪ « soi‬بالفرنسية مع التعبًن بااليطالية» ‪" :« se‬ففيما‬
‫خيص اللغة الفرنسية فإن كلمة » ‪ « soi‬حتدد منذ البداية كضمًن منفصل يصاحب الفعل الذي يصرف مع‬
‫ضمًن منفصل يصاحب الفعل ا لذي يصرف مع ضمًن الفاعل (‪ )..‬إال أن ىذا احلظر يرفع إن ضلن قاربنا التعبًن‬
‫» ‪ « soi‬من التعبًن » ‪ « se‬الذي يتعلق بأفعال بصيغة ادلصدر"‪.9‬‬
‫بعض التعابًن وادلفردات تتمأسس مفاىيمها من خبلل احليز اللغوي الذي نشأت فيو‪ ،‬فكل لغة تقبل‬
‫مفاىيم لتعابًن معينة أكثر شلا تقبلو لغة أخرى‪.‬‬
‫وقبالة ىذا ادلشكل اللغوي ستتماىى مفاىيم الذات واآلخر لدى ريكور من خبلل مقاربة ىذه التباعدات‬
‫اللغوية‪ ،‬وإقامة إسرتاتيجية لغوية تعمل أساسا على تذليل ادلسافات القائمة خلف ىذا التعدد اللغوي‪ ،‬فكان ال بد‬
‫على ريكور قبل اخلوض يف مسألة الذات واآلخر كقضية أخبلقية أن يؤسس دلفاىيمو اخلاصة ودتييزىا عن باقي‬
‫أشكال الفهم‪ ،‬ليخلق نسقا تشكلو بىن من ادلفاىيم يؤثر بعضها يف اآلخر بصفة تركيبية أو حتليلية‪ ،‬بنائية أو‬
‫تضمنية‪ ،‬والنسق العام الذي يبتغيو ريكور مدخبل ذلذه اإلشكالية يتمثل يف اعتماد صيغ لغوية واضحة ال لبس‬
‫فيها كي يتمكن الحقا من ضبطها فلسفيا‪ ،‬وأوىل ىذه الصيغ اليت ضبطها ريكور ىي للذات‪ ،‬فالقول "اإلشارة‬

‫‪ -7‬بول ريكور‪ ،‬بعد طول تأمل –السًنة الذاتية‪ ،-‬تررتة فؤاد مليت‪ ،‬مراجعة وتقدمي عمر مهيبل ‪ ،‬الدار العربية للعلوم‪ ،‬بًنوت‪ ،‬ط‪ ، 2006 ،1‬ص‬
‫ص ‪.126،127‬‬
‫‪ -8‬بول ريكور ‪ ،‬الذات عينها كآخر‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫‪ -9‬ادلصدر نفسو‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫للذات‪ )..( ،‬مشتق ىو نفسو من قلب إىل إسم للمصدر‪" ،‬أن يشًن ادلرء إىل نفسو"‪ .‬إن ىذه الصيغة ىي اليت‬
‫سنعتمدىا بعد اآلن كصيغة صحيحة متماشية مع القواعد"‪.10‬‬
‫عقب ىذا الضبط اللغوي سينتقل ريكور إىل ادلفاىيم ادلؤسسة لسؤال الغًنية بغية استشراف النصوص‬
‫احلاملة ذلا‪ ،‬إذ يرى أن زلاولة توضيح معامل ىذا السؤال وكشف امتداداتو الوجودية ال بد أن يتولد عن وعي زمين‬
‫عقبلين يتدارك اغرتاب ىذه ادلفاىيم وبالتايل اغرتاب الفكر يف التاريخ‪ .‬ألن الغًنية باتت دتثل جوىر حركة التاريخ‪،‬‬
‫وأن مستقبل الذات داخل ىذا العامل منوط برتتيب مسبق يرزح حتت العبلقات اليت تتحدد داخل نسق الغًنية‪.‬‬
‫إن ىذه ادلساءلة اللغوية والوظيفية حيال مفهوم الغًنية ال ديثل إال زلاولة لنبش ما وراء ىذا ادلفهوم من‬
‫شلكنات‪ ،‬فالذات بوصف أمر وجودىا حقيقة حتمية‪ ،‬فلن تتأتى إكتشافيتو واستيعاب طبيعة ومعطيات ىذا‬
‫الوجود إال من خبلل اآلخر‪ ،‬باعتبار أن الغًنية دتثل النموذج اإلجرائي ادلوجو حلركية وتغًنات الذات واآلخر على‬
‫حد سواء‪.‬‬
‫وعليو فبل مناص من تطويق ىذه ادلفاىيم يف رلاذلا التداويل مث الفلسفي‪ ،‬مع التأكيد على ضرورة التحرر‬
‫من قيد ىذه ادلفاىيم وإجياد تقاربات إجرائية بٌن بعضها على رتيع الصعد‪ .‬ولعل أىم مقاربة سيقيمها ريكور‬
‫داخل ثنايا ىذا اإلشكال والذي حيمل الكثًن من اللبس يف توظيفو سواء على ادلستوى اإلجرائي أو الفلسفي‪،‬‬
‫تتمثل يف إقحامو دلفهوم اذلوية كمفهوم مركزي يتماىى بناء عليو حدود فهم ادليكانزمات اليت دتثل أصلع ادلسالك‬
‫لولوج نسق الغًنية‪ ،‬وبالتايل ولوج العامل بذات واعية‪ ،‬وآخر فاعل حيقق التواصل –ولو بشكل نسيب‪ -‬بٌن الذات‬
‫والعامل‪.‬‬
‫‪ -‬ريكور وسؤال الهوية ‪:‬‬
‫اذلوية مبنظور ريكوري ىي إسرتاتيجية تغيًنية تتجاوز ادلساءالت ادليتافزيقية لتتجو صوب الصور والنماذج‬
‫اليت تتمثل من خبلذلا الذات‪ ،‬وتشكل رلموعة دتثبلهتا داخل العامل‪ ،‬فقد حاول ريكور أن دينح تصورا جديدا‬
‫للهوية ودلفهوم الزمن‪ ،‬تتحدد وفق ىذا التصور عبلقة اإلنسان بنفسو‪ ،‬وعبلقتو بالعامل أي باآلخر‪ ،‬فترتاءى بناء‬
‫على ىذه العبلقات مصًن اإلنسان وغايتو يف احلياة‪.‬‬
‫لكن قد ال ديكن حتديد معىن اذلوية بعيدا عن التصورات ادليتافزيقية وعن سلطة براديغم الذات الديكارتية‪،‬‬
‫إال مع تأويلية الذات‪ ،‬وإعادة البحث عن تصور فلسفي دلفاىيم الذات واذلوية والشخص‪ ،‬تكون كمعيار يضبط‬
‫وفقو مغزى وجود اإلنسان من خبلل ضبط أشكالو اذلوياتية‪ ،‬وكوسيلة أيضا للتعامل الفعال مع الزمن‪.‬‬
‫وعليو فإن سؤال اذلوية لدى ريكور سيتخذ مستويات ثبلث‪ ،‬تؤطرىا تساؤالت ثبلث‪:‬‬
‫*‪ -‬ماذا أكون أنا؟ ‪ :‬ىذا السؤال يناظر ويرمي إىل حتديد ميزة وخصوصية ىذه الذات‪ ،‬وىذا التساؤل‬
‫يدرجو ريكور ضمن ما يسميو باذلوية ادلتطابقة ‪. l’identité-idem‬‬

‫‪ -10‬ادلصدر نفسو‪ ،‬ص ‪.70‬‬


‫*‪ -‬من أكون أنا ؟ ‪ :‬ىذا السؤال جييب عن قدرة الذات يف االلتزام بكل وعودىا‪ ،‬وىذا ما يسميو‬
‫ريكور باذلوية الذاتية ‪. l’identité-ipse‬‬
‫*‪ -‬ما يتوسط هذه األنا ؟‪ :‬ىذا السؤال لرمبا ديثل أىم مظاىر ىذه األنا‪ ،‬ألين "أنا" يف األساس حياة‬
‫مروية‪ ،‬وىذا النمط اذلويايت يدعوه ريكور باذلوية السردية ‪. l’identité-narrative‬‬
‫وديكن أن منفهم ىذه العبلقات اذلوياتية من خبلل استيعاب دقيق دلختلف اجلوانب اليت تتداخل فيها ىذه‬
‫األشكال ادلعطاة فضمن "تصور ريكور للهوية الشخصية صلدىا تتألف من قطبٌن مرتبطٌن مع بعضهما وفق عبلقة‬
‫يرسم التوازن القائم بٌن اذلوية العددية للشخص‪ ،‬والفعل الذي يؤكد أن‬
‫ديالكتيكية‪ ،‬أحد ىذين القطبٌن ديكن أن ّ‬
‫الشخص ىو ذاتو )‪ ،(soi- même‬من جهة إسكان الشخص يف الزمن‪ ،‬ومن جهة أخرى أكون أنا ذايت‬
‫)‪.11"(moi- même‬‬
‫وعليو ديكن القول بأن العامل الذي كان وراء دتاىي مفهوم اذلوية لدى ريكور من خبلل ىذه األمناط‪،‬‬
‫دتثل يف إدراك الرابط بٌن الذات واألنا‪ ،‬ما يرتتب عنو ارتقاء وعينا حبركية ىذه األنا داخل الزمن ادلستمر‪ ،‬ما‬
‫سيمنح اإلنسان رؤية أكثر تفاؤلية للوجود وأسئلتو ادلقلقة‪.‬‬
‫ولعل ادلنطلق الرئيس الذي خلص إليو ريكور يف ضبط نسق اذلوية وغًنية الذات دتثّل أوال "يف استئناف‬
‫سؤال "من؟" كما افرتعو ىيدغر يف الفقرة ‪ 25‬من الوجود والزمان‪ .‬وحتويلو إىل مقام منوذجي للبحث الفلسفي‬
‫بعامة‪ ،‬وثانيا دتييزه الرشيق بٌن بعض ادلصطلحات اليت طورىا ىيدغر(‪ )..‬بٌن مصطلحي » ‪« Mémeté‬‬
‫(اذلوىوية أو التطابق ادلنطقي أو الرياضي و » ‪( « Ipséité‬اذلوية اليت ترفع اذلوية ‪ identité‬الشخصية أو‬
‫اجلماعية من الداللة األنرتبولوجية لئلنسان إىل الداللة الفينومينولوجية للهو‪ .‬وثالثا افرتاضو بأن حل مسألة اذلوية‬
‫من حيث إهنا تّتقوم أساسا بضرب معٌن من الزمانية ىو "االستمرار يف الزمان"‪ ،‬يكمن يف استعمال القصص ‪(le‬‬
‫)‪ récit‬والسرد )‪ (la narration‬لتشكيل ىوية سردية"‪. 12‬‬
‫مبقتضى ىذا التشكيل تتحول اذلوية بالرؤية الفلسفية اجملردة إىل كيان مرحلي تتعاقبو أطوار تسلسلية دتاثل مراحل‬
‫التكوين البيولوجي لدى اإلنسان‪ ،‬تتداخل ضمن نسق زمين حيدد اآلليات وتتمظهر من خبللو أفعال الذات كتيار‬
‫متدفق مهما زادت سرعتو وىيجانو فهي حتافظ على شكلها اذلويايت‪ ،‬ويف ىذا الصدد يطرح ريكور مثال يرى على‬
‫أنو "ديسنا رتيعا من قريب ىو دديومة الرتميز اجليين لفرد بيولوجي‪ ،‬إن ما يبقى ىنا ىو تنظيم نسق تركييب‪ ،‬إن فكرة‬
‫البنية ادلعارضة لفكرة احلدث تتمشى مع ىذا ادلعيار للهوية‪ ،‬وىو أقوى ما ديكن من ادلعايًن‪ ،‬ىذه الفكرة تثبت‬
‫الطابع العبلئقي للهوية"‪.13‬‬
‫غًن أنو ال ديكن أن نستوضح حدود الفهم الريكوري للهوية دون احلديث عن أزمة الوعي داخل احلقل الفلسفي‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫– ‪- János Kelemen, L’altérité de l’autre, un hommage à Paul Riceour, in, Le même et l’autre‬‬
‫‪identité et différence- actes d’un congrès international, op cit, p 103.‬‬
‫‪ -12‬ادلسكيين فتحي‪ ،‬اذلوية والزمان‪ ،‬تأويبلت فينومينولوجية دلسألة النحن‪ ،‬دار الطليعة بًنوت‪ ،‬ط‪ ،2001 ،1‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -13‬بول ريكور ‪ ،‬الذات عينها كآخر‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.256‬‬
‫‪ -‬أزمة الوعي وإمكانية التجاوز الريكوري‪:‬‬
‫لعل ادلقاربة التأويلية الريكورية لسؤال الذات‪ ،‬كانت مبثابة حوار ما بٌن فبلسفة احلداثة وما بعد احلداثة‪،‬‬
‫أو فبلسفة الوعي والوعي الزائف‪ ،‬باعتبار أن مشروع احلداثة ىو رىٌن انطولوجيا الوعي‪ ،‬واالنعطاف احلاسم يف‬
‫مسار ىذه األنطولوجيا يتمثل يف فصل التبلزم ادلنطقي بٌن العامل والوعي‪ .‬فلم يعد نشاط الوعي ىو خالق ادلعىن‬
‫بل البلوعي ىو احلامل لتمثبلت الذات داخل ىذا العامل‪.‬‬
‫وهبذا انزاحت الفلسفة من حلظة احلداثة إىل ما بعد احلداثة‪ ،‬معلنة أىم مفهومٌن لعصر احلداثة الفلسفي‬
‫أال ومها العقل والوعي‪ ،‬إذ يقول عنهما نتشو‪.." :‬إهنا أصنام خالدة نضرهبا ىنا بادلطرقة‪ ...‬ليست ىناك أصنام‬
‫أقدم منها وأشد وثوقية منها فيما فعلتو‪ ،‬أكثر منها تعجرفا بأمهيتها‪...‬وليست ىناك أصنام أفرغ منها‪.14"..‬‬
‫ريكور برغم توجهو الفينومينولوجي وادلرتكز أساسا على فلسفة الوعي‪ ،‬أو الوعي باألشياء‪ .‬إال أنو فضل أن‬
‫يطرح تصوراتو من خبلل صراع التأويبلت بٌن مفاىيم احلداثة وما بعد احلداثة‪ ،‬ف "مل يدرج ريكور صراع‬
‫التأويبلت سوى لغرض لعبتو اخلاصة على مسرح ىذا الصراع‪ ،‬ألن تأويبل واحدا ال يفي بقواعد اللعبة وال يستنفد‬
‫أغوار ادلعىن‪ .‬التأويل باجلمع أو تأويبلت سلتلفة ىي اللعبة الفاصلة يف إدراك ادلعىن‪ ،‬لكنو رتع يكشف يف الوقت‬
‫ذاتو عن لعبة اذلوية واالختبلف أو الذاتية والغًنية وسط ىذا الصراع ادلؤسس"‪.15‬‬
‫الذاتية والغًنية ال ديكن أن تتأسس وفق ما يطرحو ريكور وباقي الفينومينولوجيٌن إال عن طريق القصدية‪،‬‬
‫والقصدية ديثل أحد طرفيها الوعي مبا ىي ذات متحررة‪ ،‬والعامل احلامل لؤلشياء‪ ،‬وىدم أحد طريف ادلعادلة القصدية‬
‫ىو اخرتاع وليس تأويبل‪.‬‬
‫لذا بعرض صراع التأويبلت بٌن الوعي والبلوعي يربز أن ما جيب مواجهتو "ليس شكا ثبلثيا‪ ،‬ولكن مكرا‬
‫ثبلثيا"‪ . 16‬وىنا يقصد ريكور نتشو‪ ،‬فرويد وماركس‪" ،‬فهؤالء الثبلثة يبدأون بالشك ادلتعلق بأوىام الوعي‪ ،‬وإهنم‬
‫ليتابعون حبيلة تفكيك الشفرة"‪.17‬‬
‫فعن أي شفرة يتحدث ريكور؟‬
‫ال ينفي ريكور أنو ىناك يف مقابل وجود الوعي ىناك الوعي الزائف‪ ،‬لكن ىذا الوعي الزائف ىو وعي‬
‫مباشر لؤلشياء‪ ،‬من دون توسطات تأويلية لفك الرموز والعبلمات والشيفرات‪ ،‬وىو ما يشكل جوىر عمل الوعي‬
‫احلقيقي‪ ،‬لكن فبلسفة الشك الثبلث حاولوا إعبلن موت الوعي وبالتايل موت الذات الفاعلة‪ ،‬وهناية اآلخر الذي‬
‫ىو صورة ىذه الذات‪.‬‬

‫‪ -14‬نيتشو فريدريك‪ ،‬أفول األصنام‪ ،‬ت‪:‬حسان بورقيو‪.‬زلمد التاجي‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬بًنوت‪ ،1966 ،‬ص‪.07‬‬
‫‪ -15‬زلمد شوقي الزين‪ ،‬تأويبلت وتفكيكات – فصول يف الفكر الغريب ادلعاصر‪ ، -‬ادلركز الثقايف العريب بًنوت‪ ،‬ط‪ ،2002 ،1‬ص ‪.68‬‬
‫‪ -16‬بول ريكور‪ ،‬صراع التأويبلت‪ ،‬دراسات ىًنمينوطيقية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫‪ -17‬ادلصدر نفسو‪ ،‬ص ‪.193‬‬
‫غًن أن "ىؤالء الثبلثة بعيدون عن أن يشنعوا بالوعي‪ ،‬إذ يتطلعون إىل توسيعو‪ .‬فما يريده ماركس ىو حترير‬
‫التطبيق العملي )‪ (praxis‬عن طريق معرفة بالضرورة‪ .‬ولكن ىذا التحرير ال ينفصل عن امتبلك "الوعي" الذي يرد‬
‫بانتصار على خداع الوعي الزائف‪ ،‬وما يريده نتشو ىو زيادة قدرة اإلنسان وإنشاء قوتو (‪ ،)..‬وأما ما يريده فرويد‬
‫فهو أن احمللّل إذ يتبىن ادلعىن الذي كان غريبا عنو‪ ،‬فإنو يوسع حقل وعيو"‪.18‬‬
‫إذن يطرح ريكور تصورا فينومينولوجيا لعمل الذات أال وىي توسيع مساحة الوعي لتشمل البلوعي كذلك‪،‬‬
‫ولكن عن طريق التأويل‪ .‬وادلثًن يف ىذا التفسًن الريكوري ىو اعرتافو حتت تأثًن فرويد بوجود البلوعي‪ ،‬ولكن‬
‫كامتداد للوعي ال كمناقض لو‪.‬‬
‫وىذا ادلنحى أراده ريكور منهجا منذ كتابو حول فرويد‪ ،‬فقد تساءل "كيف جيب علي أن أعيد التفكًن‬
‫مبفهوم الوعي وأن أعيد تأسيسو‪ ،‬وذلك بشكل يستطيع معو البلوعي أن يكون آخره‪ ،‬وكذلك بشكل يكون فيو‬
‫الوعي قادرا على ىذا اآلخر الذي نسميو البلوعي؟"‪.19‬‬
‫يتعامل ريكور مع مفهوم ا لبلوعي باعتباره وعيا ينتظر ادلمارسة التأويلية ليصبح وعيا حقيقيا‪ .‬وهبذا سيفجر‬
‫ىو بنفسو الكوجيتو الديكاريت وسيحرك الشكل الثابت لفينومينولوجيا ىوسرل اليت جعلت من الوعي بطلها الذي‬
‫ال ينهزم‪ ،‬وىو ما جيعل من الذاتية ادلتعالية منفتحة بشكل جوىري على اآلخر‪.‬‬
‫غًن أن ريكور سيطرح قضية التحام الوعي بالبلوعي إلجياد الصورة احلقيقية للواقع‪ ،‬فالذات ال ديكن أن‬
‫تدرك ذاهتا بشكل مباشر إال من خبلل اآلخر‪ ،‬لكن ىذا اآلخر الفينومينولوجي لدى ريكور‪ ،‬سيمثلو إرادة القوة‬
‫والبلوعي والنشاط االقتصادي‪ .‬وىذه عبارة عن وسائط جتعل من الذات مرتبطة أوثق ارتباط بالعامل‪ ،‬وىا ىنا يربز‬
‫"أن ىذه ادلقاربة غًن ادلباشرة‪ ،‬والوسيطة للوعي ال عبلقة ذلا باحلضور ادلباشر للوعي بذاتو‪ ،‬مع يقٌن‬ ‫ريكور‬
‫مباشر للذات بذاهتا نفسها"‪.20‬‬
‫لكن أال يتجاوز ريكور باستحضاره لبلوعي ودرلو يف عملية إدراك الذات لتمثبلت العامل‪ ،‬أستاذه ىوسرل‬
‫الذي يؤكد "أن الشيء الوحيد الذي جيب ذكره حقيقة ىو عبارة ‪ :‬أنا موجود‪ ،‬وكل "ال أنا" ىو ظاىرة تفتقد إىل‬
‫‪21‬‬
‫عبلقات ظاىرية"‬
‫فاستحضار "البلوعي" و "الؤلنا"‪ ،‬يعين تغييب الذات ادلتعالية ومنح السيطرة للمحايث‪ ،‬وىو ما جيعلنا‬
‫نتحدث عن أزمة للذات وبالتايل أزمة لئل نسان ككل‪ ،‬فلم تعد الذات تكفي نفسها بنفسها كما كان التاريخ مع‬
‫ىيغل‪ ،‬فكان شعار الذات ادلتعالية ىو "أدخل إىل ذاتك عميقا وتعرف أوال كيف تعرف نفسك"‪. 22‬‬

‫‪ -18‬ادلصدر نفسو‪ ،‬ص ص ‪.194 ،193‬‬


‫‪ -19‬ادلصدر نفسو‪ ،‬ص ‪.138‬‬
‫‪ -20‬ادلصدر نفسو‪ ،‬ص ‪.151‬‬
‫‪21‬‬
‫‪- Edmund Husserl, L’idée de la phénoménologie, trad Alexandre louis, P.U.F. Paris, 1993,‬‬
‫‪p41.‬‬
‫‪ -22‬بول ريكور‪ ،‬صراع التأويبلت‪ ،‬دراسات ىًنمينوطيقية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫وألجل بلوغ ىذه ادلعرفة يكفي احلفر يف ىذا العمق الدفٌن للوجود اإلنساين لنستذكر ان ميتافيزيقا الذات‬
‫ودتركز الذات حول نفسها كان دوما إغفال ونسيان ذلا‪ ،‬فتمركزية الذات جيعلها ال تفكر يف تعدد الذوات بل‬
‫تفكر يف ما ىو ثابت ومطلق فقط‪.‬‬
‫وىذا التمركز ىو نسيان مرضي لبلختبلف فهي إذن نسيان لآلخر‪ ،‬وبذلك سيمثل ىدم مركزية الذات‬
‫اسرتداد لوجود اآلخر من حيث ىو مغاير للذات‪ ،‬من حيث ىو اختبلف منسي‪ ،‬ألننا ال نبحث عن ما فكرت‬
‫فيو الذات بل ما فكر فيو اآلخر لنقلو إىل ساحة الشعور واالعرتاف بوجوده وأحقيتو يف الوجود مبعىن نقلو من‬
‫البلمفكر فيو إىل ساحة الشعور‪ ،‬ليس إذا ىذا اآلخر البلمفكر فيو شيئا خارجا عنا بل ىو مؤسس لوجودنا‪.‬‬

You might also like