Professional Documents
Culture Documents
مشكل الوعي
لقد تحدث برتراند رسل عن الوعي و ربـطـه بالمــدركات الــحــســيــةأو الخبرات الحس ية حيث
أكد على ضرورة عدم فصله (أي الوعي) عن مثيرات الع الم الخ ارجي .فه و عب ارة عن ردود أفع ال
اتجاه وسطه,هذا يعني أن الوعي مجرد طاقة ذات درجة خاصة و غير مس تقلة و لكن ه يم يز اإلنس ان
عن الجمادات كالحجارة و األشياء و من ثم فإن رسل يؤكد على حالة اليقظة و ليس حالة الن وم أي
أنه غير مستمر في الزمن .كذلك اإلنتباه و مراعاة عامل اللغة مع إدخال تغيرات عليها,ألن اللغ ة في
نظر رسل جهاز و نظام غير منسق ,و هنا نجده يم يز بين ن وعين من اللغ ة :لغ ة مرش دة,تمكن من
فهم طبيعة العالم الذي نتحدث عنه.ثانيا :اللغة أداة مظللة وخداع ة للتفك ير,و من ثم ة ف إن كث يرا من
الفالسفة الذين اعتمدوا عليها ظلوا و أظلوا .هذا يعني أن للغة تأثير على الفلسفة و يتجلى في تن اول
القضايا األخالقية أو الميتلفيزيقي ة ك الجوهر و األخالق ,و الكرام ة و الخ ير ...إن اعتم اد رس ل على
التحليل المنطقي يؤسس تمييزه للغة بناءا على مظهرين مختلفين و هما مجموع مفرداتها من جهة و
تركيبها و بنائها من جهة أخرى.
إن اإلنسان الكائن الواعي بذاته عند رسل يعني أمرين هم ا :دخ ول ه ذا اإلنس ان في عالق ة على
نحو الجهاد مع العالم الخارجي ,و اكتشافه لذاته و ألفكاره و لعواطفه أي أن هن اك امتح ان لإلنس ان
بإدراك وجوده الذاتي.و هنا يكمن مفهوم الوعي عند رسل و يتج
لgrbى و يذكرنا هذا الموق ف بموق ف ج ورج ب اركلي و ال ذي ي رى أن اإلدراك اليتع دى معرف ة
التصورات المعرفية المجردة أما عندما ندرك معطيات العالم الخارجي فإننا نكون حسب رسل فق ط في
مجال ردود الفعل اتجاه العالم ,ونشترك في هذه الخاصية مع الجم ادات .ه ذا ي دل على أن ال وعي ال
يتحدد عند مستوى إدراك العالم الخ ارجي ,ب ل ه و فق ط رد فع ل على النح و ال ذي ِتؤذي ه الحج ارة و
الجمادات عموما .
و هنا يقول ‹:فمادمنا نفترض أننا ندرك أشياء العالم الخارجي...قليال جدا ›.و لتوضيح هذه الفكرة
يرى رسل أنه يستحيل إدراك المادة إدراكا مباشرا ,و أن لها وجودا واقعيا ملموسا .ويتفق مع ه ل وك
في أننا ال ندرك من الواقع و العالم إال بقدر ما تمدنا حواسنا به من معطيات حسية .هذا و يؤكد رس ل
على المعرفة القائمة على التجربة و على الحواس و على إدراك الكليات إدراكا فوريا و مباشرا و هو
في نفس الوقت يؤكد على التمييز بين الذات الواعية و الموضوع ,وعلى سبيل المثال ال الحص ر إنن ا
ال ندرك مدينة الرباط و مراكش إدراكا جزئي ا ,ب ل إنن ا ن دركهما في إط ار العالق ة الخارجي ة القائم ة
بينهما ,و هذه العالقة ليست من طبيعة نفس ية ص ادرة عن ال ذات العارف ة ,و لكنه ا مس تقلة عنه ا,
تنشأ بطبيعتها في معزل عن فعل المعرفة في حد ذاتها.
مما سبق يتبين لنا أن الج زء األساس ي من مفه وم ال وعي مرتب ط بم دى إدراكن ا للوج ود ال ذاتي
فنكتشفه من أفكار و عواط ف فين ا .و تحص ل ه ذه العملي ة بواس طة االس تبطان ,مم ا ي دل على أن
االستبطان منهج يس مح و يمكن من ول وج الع الم ال داخلي في اإلنس ان ,وفهم عالق ة ال ذات الواعي ة
بمحيطها الخارجي ,أي أنه في هذه الحالة ال يتعلق األمر بشيء من بين أشياء الع الم و الجم ادات ب ل
بذات لها طبيعتها الخاصة بها .و من ثمة فالشرط األساسي لقيام الوعي و كل معرفة حسب رسل هو
إدراك الوجود الذاتي لإلنسان عن طريق االستبطان.ألن الوعي ميزة خاصة باإلنس ان ,وليس ت فق ط
مجرد رد فع ل اتج اه الع الم الخ ارجي أو أن ه فق ط إدراك حس ي ل ه .ف رغم أن رس ل ينتمي لالتج اه
الواقعي و يؤمن بدور الحواس و التجربة في غناء الوعي اإلنساني بك ل ض روب الق وانين الطبيعي ة,
فنجد فلسفته تضرب بجذورها عند األفالطونية و المثالية .و قد دفعه موقف ه ه ذا إلى اعتب ار الفلس فة
علم ا اس تبطانيا ,يمكن أن يس تغني عن التجرب ة الحس ية ,فتص بح علم ا منطقي ا تعتم د الرياض يات
منهجية في التحليل ولهذا تسمى فلسفته بالفلسفة التحليلية.
بعد هذا السجال الفكري حول تعريف و ضبط مفهوم الوعي يؤكد رسل عل صعوبة تحدي د دالالت ه
و معرف ما يمكن أن يصل إليه من حقائق ,والوعي في هذا المستوى يطرح كلفظ غامض يحتاج إلى
الكثير من التوضيح ,فإذا كان رسل يجمع بين لفظ ال وعي و حال ة اليقظ ة متج اهال حال ة الن وم ,ف إن
برجسون يتجاوز هذا الطرح ليؤكد على صيرورة الوعي في ال زمن ,ليش ير ب ه إلى جمي ع العملي ات
السيكولوجية الشعورية.فالوعي أو الفكر عند برجسون ذو طبيعة مجردة أي أنه غير ملموس ي رفض
أن يقترن بأي طابع نسبي أو ذاتي ,حيث أنه دائم الحضور في حياة ك ل إنس ان ,ال يقب ل القس مة إلى
لحظات شعورية مرتبة بشيء ما ,أو موق ف معين ,بحيث تت دفق و تنس اب ع بر ال زمن ح تى يص عب
التمييز بين لحظاته .إنه إدراك الذات ولألشياء في ديمومتها و استمراريتها.أما تعريف ال وعي بش كل
واضح و نهائي فإنه يطرح صعوبة كبرى أدت ببرجسون إلى إبراز بعض من س ماته ومظ اهره هي :
-الوعي ذاكرة ,و شرط قيام و حصول الذاكرة التي تحفظ ماضي اإلنس ان في الحاض ر ,و ه و أيض ا
قدرة على تجاوز الحاضر عقليا وتمثل صورة المستقبل.
فاإلنسان الذي ال ذاكرة لديه الوعي له ,لذلك فشرط وجود الوعي هو وج ود ال ذاكرة و اس تقراره
بها ,ليصبح انفتاحا على الحاضر و الماضي و المستقبل.فعن دما نفك ر في أي لحظ ة معين ة فإنن ا نج د
هذا الفكر يهتم بالحاضر و بما هو كائن ,لكن من أجل تجاوز ما سوف يكون في المستقبل و هذا يعني
أنه ال يوجد وعي عند برجسون دون مراعاة حياة المستقبل فالمستقبل ه و ال ذي يجع ل الفك ر يتق دم
باس تمرار دون انقط اع في ال زمن و يج ره إلي ه .و ه و «أيض ا داف ع ...المس تقبل» .لفهم ط رح
برجسون بصدد تعريف مفهوم الوعي نستحضر أنه ينتمي إلى فلسفة الحياة والص يرورة و الحرك ة,
و نؤكد على مجالين هامين في فلس فته عموم ا :مج ال الم ادة المتم يزة الص لبة ,و مج ال الحي اة و
ال وعي المتواص ل ,و ه ذا يق ع في نط اق الح دس فعن طريق ه يمكن إثب ات الحقيق ة متجس دة في
الصيرورة و ليست مجرد الحياة والوعي.
-أما إبن رشد فإنه بدوره يتناول مفهوم الوعي في عالقته بالعالم الخارجي ويط رح الس ؤال :ه ل
الحس شرط لقيام الوعي بموضوعات العالم؟.
يرى ابن رشد على نحو معلمه أرسطو أن اإلدراك الحسي شرط أولي و أساس ي لقي ام ك ل معرف ة
ووعي بموض وعات الع الم الخ ارجي على خالف رس ل ال ذي يعتم د منهج االس تبطان ب دل منهج
االستقراء في إدراك العالم الداخلي ,وه شرط قيام الوعي لدى رسل ,ويعبر هذا ال رأي على الموق ف
الطبيعي لإلنسان ,الذي يقوم على نطاق الوعي مع الواقع .هذا يعني أن هناك تشابه ت ام بين الش يء
في واقعيته و الشيء كما هو مدرك.ألننا ال ندفع الوعي إلى التحليل أو النقد ,بل فق ط يق وم باس تقراء
الواق ع بك ل ج واهره و أش ياءه عن طري ق الوص ف و التعميم و ال ترتيب...الخ ,و لكن ه ل اإلدراك
الحسي بالمعنى الذي تقدم به ابن رشد و معلمه أرسطو هو الشرط الكافي و األولى لقيام كل معرفة و
كل وعي بموضوعات العالم الخارجي؟.
هنا سنوجه الس ؤال للفيلس وف الوج ودي الفرنس ي :ميرلوبون تي ص احب فينومينولوجي ا اإلدراك
الحسي ,التي تجعل من اإلنسان الموضوع األوللكل دراسة .إنه ينطلق من هذه
الفينومينولوجيا ليص ل إلى فينومينولوجي ا ال وعي و الخ برة ألج ل الكش ف عن الط ابع المفت وح
للخبرة البشرية بصفة عامة .و يقصد باإلدراك الحسي تلك العودة إلى األشياء و الرجوع إلى المعرف ة
األوليةعن كل علم من أجل الوصف وليس من أجل التركيب .و يتساءل :هل تعني الع الم الخ ارجي؟
ويقول إن العالم ليس بمثابة الموضوع الذي يمثل أمام الذات الواعية ,إن هذه الذات ليست لها الق درة
على تملكه .و لكنه الوسط الطبيعي أو المجال األولي الذي تتحقق في ه إدراكاتن ا الحس ية لع الم و ج ل
أفكارنا.
إن الوعي اإلنساني حسب ميرلوبونتي يدخل في عالقة مشاركة م ع الع الم الخ ارجي ,في ه تتحق ق
اإلدراكات الحسية التي يمكن اعتبارها شرط أساسي لقيام الوعي بهذا العالم.