Professional Documents
Culture Documents
عرض القض ّية و حججها :الشعور باألنا مرتبط بالغير ،ذلك أنّ المحيط اإلجتماعي الّذي يعيش فيه الفرد و ال ّتفاعل الّذي يحصل بينه و بين
اآلخرين هو الّذي يم ّك نه من إدراك نفسه و إدراك اختالفه عنهم ،فبمقارنة أنفسنا مع غيرنا ندرك عيوبنا و محاسننا و أحسن مثال على ذلك
أنّ ال ّتلميذ الممتاز قد ال يدرك تميّزه و اجتهاده لوحده ،لكن مقارنة نفسه مع غيره من التالميذ Eخاصّة ضعاف المستوى يجعله يدرك مستواه و
يعرف ذاته ،و هذا ما يد ّل على أنّ األنا عاجز عن معرفة مكانته و قيمته بنفسه ،لهذا فهو في حاجة إلى الغير .و يستعمل سارتر مثال
الخجل لتوضيح رأيه :فحينما أشعر بالخجل ،أعترف بصحّ ة حكم الغير عليّ ،و أنظر بنظرته إلى نفسي ،و أحكامه عليّ تكشف لي حقيقة
نفسي ،فإذا صدرت ع ّني حركة سلبيّة لم أشعر تجاهها بشيء طالما كنت وحدي ،و إ ّنما يختلف األمر لو أدركت أنّ شخصا آخر قد لمحني ،
ي مك ّون لألنا " .هذه ال ّنظرة الّتي أ ّكد
لذلك أخجل من نفسي أل ّنني أتع ّرف عليها بواسطة الغير .يقول سارتر " :إنّ اآلخر مقوّ م ضرور ّ
الذات مادام اإلنسان يعيش في عالقة مع غيره أكثر ممّا عليها سارتر نجدها مجسّدة في تصوّ ر هيغل الّذي أ ّكد بأنّ اآلخر ضروريّ لوجود ّ
ّ
يعيش في فرديّته Eالخاصّة ،و لكن هذا اإلعتراف ال يمنح بشكل سلميّ ،و إ ّنما ينتزع عبر صراع مرير يخاطر فيه الطرفان معا بحياتهما ،
يسعى ك ّل واحد منهما إلى نفي اآلخر كي يح ّقق وجودا كامال ( جدليّة العبد و السيّد الّتي تعكس تلك ال ّرغبة الخفيّة لك ّل طرف في فرض
وجوده على الغير ) .فالسيّد يتصارع و يتناقض مع خصمه السيّد عبر القيام بك ّل األعمال الموكلة إليه مهما كانت شا ّقة و صعبة ،و هذا
الصّراع مفاده أن يدرك ك ّل واحد منهما ذاته عبر اآلخر و يدرك اآلخر في نفس الوقت الّذي هو شرّ ال ب ّد من ال ّتعايش معه ال أن ننعزل عنه.
النقد :صحيح أنّ الفرد يعيش مع الغير ،لكن هذا الغير ال يدرك م ّنا إالّ المظاهر الخارجيّة الّتي ال تعكس حقيقة ما يجري بداخلنا من نزوات
ّ
كالممثل السّينمائي الّذي يصطنع اإلنفعاالت أو الخجل عند خفيّة و ميول و رغبات ،و هذه المظاهر بإمكاننا اصطناعها و ال ّتظاهر بها ،
رؤيته للغير ،كما أنّ أحكام الغير ليست واحدة ،و هذا ما يثبت عجزه في تحديد مالمح شخصيّة األنا و معرفة هذا األخير لذاته .إضافة إلى
ذلك فإنّ اإلختالف في التصوّ رات و المواقف مهما بلغت حدّتها و درجتها ال تب ّرر ال ّتناحر على البقاء و الصّراع من أجل السّيطرة ،فهي
تتناسب مع مملكة الحيوان الّذي يحكمه قانون الغاب ال مع مملكة اإلنسان .
عرض نقيض القض ّية و حججها :الوعي هو الّذي يحدّد معرفة ّ
الذات ألنّ الوعي باعتباره نشاطا فرديّا يقوم به الفرد يم ّكن ال ّشخص من
إدراك ذاته و أفعاله ،و أحواله ال ّنفسيّة إدراكا مباشرا دون واسطة خارجيّة ،و هذا ما جعل سقراط قديما يؤ ّكد على أنّ معرفة ّ
الذات تتو ّقف
ّ
على وجود الوعي ،و ذلك من خالل مقولته المشهورة " إعرف نفسك بنفسك " ،هذه المقولة تنفي وجود تأثير للغير أو اآلخرعلى الذات ،
فال ّشعور بالخوف أو الفرح و غيرها من الحاالت ال ّنفسيّة ما هي إالّ حاالت خاصّة بالفرد يدركها بذاته ال بتأثير غيره .بال ّشعور يشاهد
اإلنسان أحواله و يعرف شخصيّته و ينعكس عليها ،فيدرك أنّ له ذاتا حقيقيّة تختلف عن اآلخرين نفسا و جسما و أخالقا .هذه الحقيقة هي
الّتي نوصّل إليها ديكارت و أثبتها بواسطة فكرة " الكوجيتو " الّتي تقول " :أنا أف ّكر إذن أنا موجود " ّ ،
فالذات ال تنقطع عن ال ّتفكير (الوعي)
الذات بذاتها بشكل مباشر ،و هي إالّ إذا إنعدم وجودها :فال ّشعور هو الّذي أعلم به أ ّنني موجود و أنّ الغير موجود ،فاألنا هو شعور ّ
الذاتي ،هذا المنهج الّذي أسّسه برغسون و الّذي يعني مالحظة الشخص لما يجري في شعوره من الطريقة الّتي تعرف باإلستبطان أو التأمل ّ
ّ
خبرات و تجارب حسيّة أو عقليّة أو انفعاليّة تصف هذه الحاالت و تحلّلها و تؤوّ لها سواء أكانت حاضرة أم ماضية ،و هذا ما عبّر عنه
السوفسطائ ّيون بقولهم " :اإلنسان مقياس ك ّل شيء " ،فما يراه خيرا فهو خير ،و ما يراه شرّ ا فهو شرّ أي أنّ المعرفة تابعة ّ
للذات العارفة
و ال ترتبط بأمور خارجيّة.
الذات ليس بمنهج Eعلمي دقيق ح ّتى نعتبره معرفة يقينيّة ،أل ّنه ال يوصلنا إلى النقد :إنّ األحكام الذاتيّة غالبا ما تكون مبالغا فيها ،و وعي ّ
الذات وحدها ال يمكن أن تشاهد ذاتها بذاتها ذلك أنّ ما يُعرف باإلستبطان عند علماء ال ّنفس أمر مستحيل ، نتائج موضوعيّة بل ذاتية ،ألنّ ّ
المالحظ و المالحِظ ،و أن تشاهد ذاتها بذاتها ،باإلضافة إلى ذلك فإنّ مدرسة ال ّتحليل ال ّنفسي بزعامة
َ الذات وحدها ال يمكن أن تكون ألنّ ّ
فرويد تؤ ّكد على أنّ الحياة ال ّنفسيّة أوسع بكثير ال يستطيع الوعي وحده الوصول إلى جميع مكوّ ناتها إالّ بالعالج ال ّنفسي ( الالّشعور ) .كما
أنّ هذا الموقف يجعل ّ
الذات تغترّ بنفسها ( ال ّنرجسيّة ) فتجعل منها المركز في ك ّل شيء .
الذات على ذاتها و اإلعتراف بوجودها ال يتو ّقف عليها وحدها و ال على اآلخر وحده ،بل على ال ّتكامل بينهما في عالقة ال ّتركيب :تع ّرف ّ
يفضَّل أن تكون طيّبة ،و ال يحصل ذلك إالّ بال ّتواصل ( حوار ،تعارف ،إعتراف ،مماثلة ،تعادل ) بقيم و شعارات نتب ّناها ث ّم نمارسها واقعيّا
( تعاون ،صداقة ،إحسان ،تسامح ) عن طريق اللّغة و الفنّ و العلم و التقنيّة ،و هذا ما جعل الفيلسوف األلماني غابلاير مارسيل يدعو إلى
ال ّتفكير في ّ
الذات بعيدا عن اعتزال اآلخرين .
بالذات متو ّقف على معرفة األنا من جهة ،و اآلخرين و احترامهم من جهة أخرى ألنّ اإلنسان في الخاتمة :نستنتج في األخير أنّ الشعور ّ
تعامله مع اآلخرين من أفراد مجتمعه يتص ّرف بوعي ،و يو ّفق بين ما يقوله اآلخرون عنه ،و ما يعتقده في نفسه .هذا التوفيق ال يت ّم
ّ
فالذات ك لقوله صلّى هّللا عليه و سلّم " :المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يش ّد بعضه بعضا " ، بالصّراع بل بالمعايشة في وحدة ال تنف ّ
حقيقة مفتوحة ال ّ
تتمثل إالّ في عالم اآلخرين ،و هو ما يجعل الحياة البشريّة ميدانا لل ّتواصل .