You are on page 1of 2

‫الشعبة‪( 3 :‬عتج – لغ)‬ ‫السنة الدراسية‪23-22:‬‬

‫الشعور باألنا و الشعور بالغير‬

‫السؤال ‪:‬هل وجود الغير شرط ضروريّ لمعرفة األنا ؟‬


‫المقدّ مة ‪ :‬يدرس علم النفس التقليدي مختلف الظواهر ال ّنفسيّة الّتي يعيشها اإلنسان في حياته اليوميّة ‪ ،‬و بما أ ّنه كائن مدنيّ بطبعه يعيش مع‬
‫غيره من ال ّن اس في تفاعل و تكامل و في تجاذب و تنافر ‪ ،‬و في حركته هاته ‪ ،‬يحصل له إدراك ذاته ‪ ،‬و في الوقت نفسه يتميّز بها عنهم و‬
‫الذات‪ ،‬حيث يرى البعض من الفالسفة أنّ ّ‬
‫الذات تتع ّرف على ذاتها باستقاللها و انفصالها‬ ‫لقد كان اإلختالف الكبير بين الفالسفة حول معرفة ّ‬
‫الذات تتع ّر ف على ذاتها من خالل تواجدها مع الغير و بواسطتهم ‪ ،‬و اإلشكال الّذي يطرح نفسه‪ :‬هل‬ ‫عن الغير و يرى البعض منهم أنّ ّ‬
‫الذات تكون عن طريق الوعي بها أم عن طريق الغير ؟‬ ‫معرفة ّ‬

‫عرض القض ّية و حججها ‪ :‬الشعور باألنا مرتبط بالغير‪ ،‬ذلك أنّ المحيط اإلجتماعي الّذي يعيش فيه الفرد و ال ّتفاعل الّذي يحصل بينه و بين‬
‫اآلخرين هو الّذي يم ّك نه من إدراك نفسه و إدراك اختالفه عنهم ‪ ،‬فبمقارنة أنفسنا مع غيرنا ندرك عيوبنا و محاسننا و أحسن مثال على ذلك‬
‫أنّ ال ّتلميذ الممتاز قد ال يدرك تميّزه و اجتهاده لوحده‪ ،‬لكن مقارنة نفسه مع غيره من التالميذ‪ E‬خاصّة ضعاف المستوى يجعله يدرك مستواه و‬
‫يعرف ذاته‪ ،‬و هذا ما يد ّل على أنّ األنا عاجز عن معرفة مكانته و قيمته بنفسه ‪ ،‬لهذا فهو في حاجة إلى الغير‪ .‬و يستعمل سارتر مثال‬
‫الخجل لتوضيح رأيه ‪ :‬فحينما أشعر بالخجل ‪ ،‬أعترف بصحّ ة حكم الغير عليّ ‪ ،‬و أنظر بنظرته إلى نفسي‪ ،‬و أحكامه عليّ تكشف لي حقيقة‬
‫نفسي ‪ ،‬فإذا صدرت ع ّني حركة سلبيّة لم أشعر تجاهها بشيء طالما كنت وحدي ‪ ،‬و إ ّنما يختلف األمر لو أدركت أنّ شخصا آخر قد لمحني ‪،‬‬
‫ي مك ّون لألنا " ‪ .‬هذه ال ّنظرة الّتي أ ّكد‬
‫لذلك أخجل من نفسي أل ّنني أتع ّرف عليها بواسطة الغير ‪ .‬يقول سارتر ‪ " :‬إنّ اآلخر مقوّ م ضرور ّ‬
‫الذات مادام اإلنسان يعيش في عالقة مع غيره أكثر ممّا‬ ‫عليها سارتر نجدها مجسّدة في تصوّ ر هيغل الّذي أ ّكد بأنّ اآلخر ضروريّ لوجود ّ‬
‫ّ‬
‫يعيش في فرديّته‪ E‬الخاصّة ‪ ،‬و لكن هذا اإلعتراف ال يمنح بشكل سلميّ ‪ ،‬و إ ّنما ينتزع عبر صراع مرير يخاطر فيه الطرفان معا بحياتهما ‪،‬‬
‫يسعى ك ّل واحد منهما إلى نفي اآلخر كي يح ّقق وجودا كامال ( جدليّة العبد و السيّد الّتي تعكس تلك ال ّرغبة الخفيّة لك ّل طرف في فرض‬
‫وجوده على الغير ) ‪ .‬فالسيّد يتصارع و يتناقض مع خصمه السيّد عبر القيام بك ّل األعمال الموكلة إليه مهما كانت شا ّقة و صعبة ‪ ،‬و هذا‬
‫الصّراع مفاده أن يدرك ك ّل واحد منهما ذاته عبر اآلخر و يدرك اآلخر في نفس الوقت الّذي هو شرّ ال ب ّد من ال ّتعايش معه ال أن ننعزل عنه‪.‬‬
‫النقد ‪ :‬صحيح أنّ الفرد يعيش مع الغير ‪ ،‬لكن هذا الغير ال يدرك م ّنا إالّ المظاهر الخارجيّة الّتي ال تعكس حقيقة ما يجري بداخلنا من نزوات‬
‫ّ‬
‫كالممثل السّينمائي الّذي يصطنع اإلنفعاالت أو الخجل عند‬ ‫خفيّة و ميول و رغبات ‪ ،‬و هذه المظاهر بإمكاننا اصطناعها و ال ّتظاهر بها ‪،‬‬
‫رؤيته للغير ‪ ،‬كما أنّ أحكام الغير ليست واحدة ‪ ،‬و هذا ما يثبت عجزه في تحديد مالمح شخصيّة األنا و معرفة هذا األخير لذاته ‪ .‬إضافة إلى‬
‫ذلك فإنّ اإلختالف في التصوّ رات و المواقف مهما بلغت حدّتها و درجتها ال تب ّرر ال ّتناحر على البقاء و الصّراع من أجل السّيطرة ‪ ،‬فهي‬
‫تتناسب مع مملكة الحيوان الّذي يحكمه قانون الغاب ال مع مملكة اإلنسان ‪.‬‬
‫عرض نقيض القض ّية و حججها ‪ :‬الوعي هو الّذي يحدّد معرفة ّ‬
‫الذات ألنّ الوعي باعتباره نشاطا فرديّا يقوم به الفرد يم ّكن ال ّشخص من‬
‫إدراك ذاته و أفعاله ‪ ،‬و أحواله ال ّنفسيّة إدراكا مباشرا دون واسطة خارجيّة ‪ ،‬و هذا ما جعل سقراط قديما يؤ ّكد على أنّ معرفة ّ‬
‫الذات تتو ّقف‬
‫ّ‬
‫على وجود الوعي ‪ ،‬و ذلك من خالل مقولته المشهورة " إعرف نفسك بنفسك "‪ ،‬هذه المقولة تنفي وجود تأثير للغير أو اآلخرعلى الذات ‪،‬‬
‫فال ّشعور بالخوف أو الفرح و غيرها من الحاالت ال ّنفسيّة ما هي إالّ حاالت خاصّة بالفرد يدركها بذاته ال بتأثير غيره ‪ .‬بال ّشعور يشاهد‬
‫اإلنسان أحواله و يعرف شخصيّته و ينعكس عليها ‪ ،‬فيدرك أنّ له ذاتا حقيقيّة تختلف عن اآلخرين نفسا و جسما و أخالقا‪ .‬هذه الحقيقة هي‬
‫الّتي نوصّل إليها ديكارت و أثبتها بواسطة فكرة " الكوجيتو " الّتي تقول‪ " :‬أنا أف ّكر إذن أنا موجود " ‪ّ ،‬‬
‫فالذات ال تنقطع عن ال ّتفكير (الوعي)‬
‫الذات بذاتها بشكل مباشر ‪ ،‬و هي‬ ‫إالّ إذا إنعدم وجودها ‪ :‬فال ّشعور هو الّذي أعلم به أ ّنني موجود و أنّ الغير موجود ‪ ،‬فاألنا هو شعور ّ‬
‫الذاتي‪ ،‬هذا المنهج الّذي أسّسه برغسون و الّذي يعني مالحظة الشخص لما يجري في شعوره من‬ ‫الطريقة الّتي تعرف باإلستبطان أو التأمل ّ‬
‫ّ‬
‫خبرات و تجارب حسيّة أو عقليّة أو انفعاليّة تصف هذه الحاالت و تحلّلها و تؤوّ لها سواء أكانت حاضرة أم ماضية ‪ ،‬و هذا ما عبّر عنه‬
‫السوفسطائ ّيون بقولهم ‪ " :‬اإلنسان مقياس ك ّل شيء " ‪ ،‬فما يراه خيرا فهو خير‪ ،‬و ما يراه شرّ ا فهو شرّ أي أنّ المعرفة تابعة ّ‬
‫للذات العارفة‬
‫و ال ترتبط بأمور خارجيّة‪.‬‬
‫الذات ليس بمنهج‪ E‬علمي دقيق ح ّتى نعتبره معرفة يقينيّة ‪ ،‬أل ّنه ال يوصلنا إلى‬ ‫النقد‪ :‬إنّ األحكام الذاتيّة غالبا ما تكون مبالغا فيها ‪ ،‬و وعي ّ‬
‫الذات وحدها ال يمكن أن تشاهد ذاتها بذاتها ذلك أنّ ما يُعرف باإلستبطان عند علماء ال ّنفس أمر مستحيل ‪،‬‬ ‫نتائج موضوعيّة بل ذاتية ‪ ،‬ألنّ ّ‬
‫المالحظ و المالحِظ ‪ ،‬و أن تشاهد ذاتها بذاتها ‪ ،‬باإلضافة إلى ذلك فإنّ مدرسة ال ّتحليل ال ّنفسي بزعامة‬
‫َ‬ ‫الذات وحدها ال يمكن أن تكون‬ ‫ألنّ ّ‬
‫فرويد تؤ ّكد على أنّ الحياة ال ّنفسيّة أوسع بكثير ال يستطيع الوعي وحده الوصول إلى جميع مكوّ ناتها إالّ بالعالج ال ّنفسي ( الالّشعور ) ‪ .‬كما‬
‫أنّ هذا الموقف يجعل ّ‬
‫الذات تغترّ بنفسها ( ال ّنرجسيّة ) فتجعل منها المركز في ك ّل شيء ‪.‬‬
‫الذات على ذاتها و اإلعتراف بوجودها ال يتو ّقف عليها وحدها و ال على اآلخر وحده ‪ ،‬بل على ال ّتكامل بينهما في عالقة‬ ‫ال ّتركيب ‪ :‬تع ّرف ّ‬
‫يفضَّل أن تكون طيّبة ‪ ،‬و ال يحصل ذلك إالّ بال ّتواصل ( حوار‪ ،‬تعارف‪ ،‬إعتراف‪ ،‬مماثلة‪ ،‬تعادل ) بقيم و شعارات نتب ّناها ث ّم نمارسها واقعيّا‬
‫( تعاون‪ ،‬صداقة‪ ،‬إحسان‪ ،‬تسامح ) عن طريق اللّغة و الفنّ و العلم و التقنيّة ‪ ،‬و هذا ما جعل الفيلسوف األلماني غابلاير مارسيل يدعو إلى‬
‫ال ّتفكير في ّ‬
‫الذات بعيدا عن اعتزال اآلخرين ‪.‬‬
‫بالذات متو ّقف على معرفة األنا من جهة ‪ ،‬و اآلخرين و احترامهم من جهة أخرى ألنّ اإلنسان في‬ ‫الخاتمة ‪ :‬نستنتج في األخير أنّ الشعور ّ‬
‫تعامله مع اآلخرين من أفراد مجتمعه يتص ّرف بوعي ‪ ،‬و يو ّفق بين ما يقوله اآلخرون عنه ‪ ،‬و ما يعتقده في نفسه ‪ .‬هذا التوفيق ال يت ّم‬
‫ّ‬
‫فالذات‬ ‫ك لقوله صلّى هّللا عليه و سلّم ‪ " :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يش ّد بعضه بعضا " ‪،‬‬ ‫بالصّراع بل بالمعايشة في وحدة ال تنف ّ‬
‫حقيقة مفتوحة ال ّ‬
‫تتمثل إالّ في عالم اآلخرين ‪ ،‬و هو ما يجعل الحياة البشريّة ميدانا لل ّتواصل ‪.‬‬

You might also like