Professional Documents
Culture Documents
وتشترك فيه الذوات وتترابط بعالقات مختلفة .يحيل الغير هنا إلى "األنا اآلخر ..الذي ليس أنا" أي الغير .وهو
يتخذ داللته بالتقابل مع طرف آخر .ما يؤسس لمفارقات داخل المفهوم يمكننا القول أن الغير هو دات تشبهني
:وتختلف عني و نعبر عنها في التساؤالت التالية
هل وجود الغير ضروري ؟ وما الذي يمثله بالنسبة لألنا؟ هل نفي أم إثبات له؟-
وهل معرفة الغير ممكنة؟ هل يمكن االنطالق من الذات لمعرفة الغير بناء على عناصر التشابه ،أم أن-
االختالف بينهما يحول دون معرفة يقينية بالغير؟
-وكيف يمكن تأسيس عالقة بين األنا والغير قائمة على القيم األخالقية واإلنسانية؟
العرض يوجد الغير في مقابل األنا ووجوده يشكل واقعا خارج إرادة األنا وهو ما يشكل تهديدا له حسب
سارتر حيث يعمل الغير على تشييء األنا وتحويله إلى موضوع من خالل النظرة التي تجمد إمكانياته وتلغي
عفويته وتلقائيته ،تلك النظرة التشييئية تمثل تعاليا على األنا وسلبا للذات .لكن األنا وهو يوجد في مواجهة الغير
يحاول هو اآلخر الخروج من دائرة التشييء ويفرض ذاته ويثبت أنه ذات واعية وحرة ومسؤولة .هذا الموقف
سبق أن عبر عنه هيجل في جدلية العبد والسيد حيث يتواجه وعيان يحاول احدهما إخضاع اآلخر وإثبات انه
وعي حر ليدخال في صراع من أجل انتزاع االعتراف ...هذا التهديد الذي يمارسه الغير يتمثل حسب هايدغر
في إلغاء خصوصية الذات وتفردها حين ترغم على التخلي عن وجودها األصيل لتعيش في الوجود مع الغير
".الذي يعتبره الفيلسوف وجودا مزيفا تتخلى فيه الذات عن حقيقتها لتصبح عبارة عن نسخة مشابهة لل"ُهْم
يظهر الغير إذن على المستوى األنطولوجي كسلب وتهديد لألنا ،لكنه في نفس الوقت يمثل شرطا
.ضروريا لوعي األنا وتجاوزه لوضعيته التي يضعه فيها الغير
نفس المشكل يطرح على المستوى المعرفي فاالنفصال الجذري كما يسميه سارتر يحول دون معرفة الغير
ألنه مختلف عني وألن المعرفة تقتضي تحويله إلى موضوع أو شيء وهو ما يلغي ذاته كوعي وحرية وإرادة.
هكذا فالوقوف عند مستوى الظاهر ال يمكن من تكوين معرفة يقينية بالغير ،ألن االختالف بينهما يحول دون
ذلك فما يمكن أن أعرفه حسب مالبرانش هو ذاتي أما ذوات اآلخرين ،وبالضبط نفوسهم وعقولهم ،وما تتضمنه
من مشاعر وأحاسيس و أفكار ال يمكن النفاذ إليها .ذلك أن مبرر التشابه ليس كافيا ،بل إنه يؤدي إلى معرفة
خاطئة وظنية (تخمينية وافتراضية) .لكن ميرلوبونتي يقترح حال لذلك وهو التواصل باعتباره انفتاحا على
الغير وتجاوزا للنظرة التشييئية من جهة وخروجا من التمركز على الذات وانغالقها من جهة أخرى .إن
التواصل باعتباره انفتاحا للكائن من خالل التعبير اللغوي وحده قادر على إتاحة اإلمكانية لمعرفة الغير ال
باعتبارها عالقة بين ذات وموضوع ،وإنما باعتبارها عالقة بين ذات وذات أخرى .إال أن هذه التجربة الذاتية
حسب بيرجي ليست قابلة للنقل وال للتبليغ .فهي محاطة بجدار من الحماية والخصوصية ال يمكن للغير أن
يتجاوزه ،بما في ذلك األنا التي تعجز عن التعبير عن تلك التجربة الذاتية ونقلها للغير .ما يجعل الذات سجينة
تجاربها الذاتية .لكن هوسرل يرى أن االختالف بين الذوات ليس مبررا للعزلة وللقول باستحالة معرفة الغير.
فإذا كان هذا األخير يختلف عني ،فهو أيضا يشبهني وله تجارب تشبه تجاربي ،وتشكل العالم الموضوعي بين
الذوات ،أو ما يسمى"البينذاتية" .تبعا لذلك بإمكاني مشاركته تجاربه من خالل التوحد الحدسي معه ،أي أن
.أعيش تجربته التي تتطابق مع تجربتي التي عشتها سابقا
رغم هذه المحاوالت تظل معرفة الغير غامضة غموض الذات اإلنسانية .ولتجاوز هذه الغموض وأيضا
تجاوز العزلة األنطولوجية يقترح الفالسفة بناء عالقات ذات أساس أخالقي وقيمي وإنساني .وفي هذا السياق
يدعو كانط إلى عالقة صداقة مع الغير تقوم مقام الواجب األخالقي الذي يعكس الحب واالحترام الذي يكنه األنا
لذاته وللغير ولإلنسانية عموما ،وكتعبير عن اإلرادة الطيبة والعاقلة .هذا التكامل بين الذوات هو ما يشكل
جوهر الوجود اإلنساني والذي ال يمكن أن يستمر حسب كونت إال بسيادة قيم التضامن والتعاطف والمساعدة
التي تجسد قيم العقل والوفاء لإلنسانية التي لها فضل علينا ،وأقل ما يمكن فعله هو رد جزء من هذا الفضل من
.خالل التضحية من أجل الغير والعيش من أجله ،أو ما يسمى بالغيرية
الخاتمة يتبين من خالل ما سبق أن الغير يتميز بطابعه اإلشكالي ،فوجوده ضروري لكنه يمثل عامل
سلب للذات كما هو عامل إثبات ،ومعرفته تتراوح بين الوضوح واإلمكان ،وبين الغموض واالستحالة ،كما أن
العالقة معه هي األخرى قائمة على االختالف والمغايرة فهو الغريب موضوع الصراع ،وهو الصديق
موضوع الحب واالحترام والتضحية والعطاء .لكنه في جميع األحوال يظل اإلنسان الذي يشاركني الوجود
والذي ال غنى لي عنه .وهو ما يفرض بناء عالقة إنسانية قيمية أخالقية تجمع ما هو عاطفي بما هو عقلي ألن
الوجود البشري ال يمكن أن يستمر إال باستحضار عناصر الوحدة والتشابه داخل التعدد واالختالف والتركيب
بينها من أجل العيش المشترك .لكن إلى أي حد يعكس الواقع اإلنساني الوعي بهذه الضرورة في ظل سيادة
األنانية والصراع والرغبة في التملك والهيمنة؟