Professional Documents
Culture Documents
ال يمكن حصول املعرفة عند أفالطون ( ) 347 – 427ق م بمعزل عن نظرية املثل،
كما ال يمكن إدراك املثال دون أن يسلك املرء منهجا جدليا عقليا .واملثال حسب أفالطون
ّ
ليس فكرة ذهنية مجردة ،بل له وجود حقيقي ال يدرك إال بالتعقل ،أي رؤية عقلية للمعقوالت
عن طريق املمارسة العقلية للمنهج الجدلي .هذا املنهج الذي رسمه أفالطون في محاورات
ّ
عديدة ،ورغم اإلشكاالت التي تطرحها نظرية املثل ،إال أن هذه النظرية تعد أساس فلسفة
أفالطون ،فهي التي خلدته ،وكانت سببا في استمرار فلسفته ،فضلت تنبض بالحياة وتتطور
بشأنها التفسيرات ،وتلهفت عقول إلدراك هذه املثل أو االقتراب منها ،وتهافتت عقول أخرى
لتمحيصها ونقدها أو إبطال وجودها أساسا .ومن هنا تبرز اإلشكالية اآلتية :ما دور املنهج
الجدلي العقلي في تحقيق املعرفة؟ وكيف دحض أفالطون االعتراضات التي واجهت هذا
املنهج؟
-1مفهوم املثل:
املثال في اللغة العربية هو النموذج ،كأن يقال الولد مثال أبيه وقد يصدر عن النموذج
عدة صور من املثال نفس .أما في اللغة اإلنجليزية واللغة الفرنسية فتستخدم لفظ ””IDEA
أو ” .“ FORMولفظ ” ”IDEAهو االصطالح اليوناني نفسه .لكن حديثا أصبح اللفظ في
اإلنجليزية يدل على الظن أو الفكرة ،لذا كثيرا ما نجد عبارة ” “ FORMتعني عندهم الهيئة
أو الصورة ،و ترجمتها إلى الص ـ ـ ــورة يدل على مذهب أرسطو والصورة ال تعني املثال في
مذهب أفالطون.
ويستعمل أفالطون عبارة ” ”IDEAأو ”“ EIDOSبمعنى ينظر أو يرى أي رؤية األشكال الرياضية،
ّ
وأحيانا يضيف إليها عبارة " “NOETAالـمعقول ألال جسماني " .كما نجد عبارة "الش يء
بالذات" “ “ AUTO TOوهي عبارة كان يستعملها في املحاورات السقراطية كذلك عبارة
"بحسب الكل" “ (“ KATA OLOUأنظر أحمد فؤاد األهواني ،أفالطون ،1991 ،ص 110 -109
).
178
ISSN :2353 - 0499 مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية
EISSN :2602 -5264 املجلد ، 2العدد( ،3جوان )2014
ونجد هذا املعنى لدى املدرسة الذرية من قبل ،والتي كانت ترى »:أن الكتلة الالمتناهية
التي تمتزج فيها بذور كل العوالم تتآلف في جزئيات ال متناهية الصغر ال ترى وال تقبل القسمة،
كاملة أزلية ولها نفس الشكل ،وتشكل عددا ال متناهيا من األشكال الـمختلف ـة ،يطل ـق
عليها اسم املثل وهو االســم نفسه الذي أطلقه أفالطون فيما بعد على الجواهر األزلية«
( ،) Emile Bréhier, Histoire de la philosophie, 1943, p 87.وهكذا يعبر أفالطون
عن املثال بألفــاظ عديدة بحسب موضع املحاورة .لكن الش يء املتفق عليه عند أغلب
شارحي أفالطــون ،أنها تملك خصائص عدة :فهي منفصلة عن األشياء الحسية ،ومنفصلة عن
بعضها البعض ،وأنها مفارقة أي أن لها وجودا حقيقيا خارج الذهن ،وأنها كاملة وبسيطة
ومطلقة وصرفه ،وفي مكان ال يضاهيه أي مكان ،وأزلية تقع خارج الزمان واملكان ( Voir Marcel
.) Renault, Platon, p 46-47
ويعرف مراد وهبة املثال في املوسوعة الفلسفية بقوله » املثال مبدأ الوجود والـمعرفة،
أما أنه مبدأ الوجود فألن الجسم يتعين في نوعه بمشاركة جزء من مادته في مثال من
املثل .وأما أنه مبدأ املعرفة ،فألن النفس لو لم تكن حاصلة عليه ملا عرفت كيف تسمي
األشياء وتحكم عليها« (مراد وهبة ،املعجم الفلسفي ،1984 ،مادة امليم ،ص .) 613
إن هذه القداسة التي أعطاها أفالطون للمثل ،وكل تلك الخصائص التي تميزها ،فتحت
املجال لتفسيرات مختلفة .لكن ما يجدر قوله بحسب فؤاد زكرياء » :إن التفسير األقرب
إلى الواقع هو أن أفالطون أراد من املثل أن تكون أنموذجا من الثبات واألزلية يحتذيه العقل
في فهمه للواقع املتغير« (فؤاد زكرياء ،دراسة لجمهورية أفالطون ،1967 ،ص ،) 146فاملثل إضافة
إلى أنها أنموذجا للمعرفة الصادقة ،فهي كذلك أنموذجا للوجود الحقيقي ،ألنها تقع خارج
العالم املنظور.
وهنا يجب الفصل بين مثالية أفالطونية و املثالية الحديثة ،التي ترون أن أفالطون لجأ
إلى تجسيم الكيانات الفكرية وأعطاها صبغة أسطورية تماشيا ملا جرت عليه عادة اليونان.
وبهذا التفسير ليست املثل سوى املعقولية الكامنة في العالم.
وعليه فاملثالية الحديثة ترفض أن تكون حقيقة للمحسوسات خارج الذهن ،لكن تكوينها
يكون بواسطت الذهن ذاته ،بخالف أفالطون الذي سلب املحسوسات وجودها الحقيقي،
ألنها ال تشكل موضوعا للمعرفة ،كما أن املثال األفالطوني ال يشترك مع الفكرة ،كما فهمتها
ّ
املثالية الحديثة إال في اللفظ ” . ”IDEAفالفكرة عند أنصار املثالية الحديثة هي موضوع
179
ISSN :2353 - 0499 مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية
EISSN :2602 -5264 املجلد ، 2العدد( ،3جوان )2014
ذهني .أما أفالطون فيؤكد استقاللية املثال عن الذهن وعن املحسوسات .كما أن واقعية
أفالطون ليست واقعية وإنما هي واقعية املثل أو املعقوالت (أنظر فؤاد زكرياء ،1967 ،ص.)144
لقد رسم أفالطون طريقا قائما على أساس الفرضيات والبرهان وهو ما أسماه الجدل
الصاعد والجدل النازل ،وهو املنطق هو الذي تقوم عليه نظرية املثل عند أفالطون.
-2مشكلة اليقين في فلسفة أفالطون
من الكهف إلى عالم املثل طريق يكشف فيه أفالطون أنواع املعرفة ومراتب الوجود،
ذلك ما يتضح من خالل نهاية الكتاب السادس وكل الكتاب السابع من محاورة الجمهورية،
ففي نهاية الكتاب السادس يعرض أفالطون تمثيال للتناسب بين مراتب الوجود من جهة
والتناسب بين يقين كل نوع من أنواع املعرفة من جهة أخرى ،يقول » فلتتصور اآلن خطأ
مقسما إلى قسمين غير متساويين يمثالن املجال املنظور واملجال املعقول ،ولتقسم كل قسم
بدوره بنفس النسبة لكي ترمز إلى الدرجة النسبية في الوضوح والغموض« (أفالطون ،الجمهورية،
تعريب فؤاد زكريا ،1968 ،ص .) 40
بعد أن عرض أفالطون مراتب الوجود التي تشكل موضوعات الـمعرفة ،يبين ما يتطابق
معها من أحوال الذهن ،يقول » :فالعقل أرفعها والفهم هو التالي له واالعتقاد هو
الثالث والتخيل هو األخير« ( أفالطون الجمهورية ،1968 ،ص ،) 43فدرجة وضوح ويقين هذه
املعارف األربع تتناسب مع مقدار الحقيقة التي تمتلكها كل مرتبة من مراتب الوجود .
أما التناسب الثاني في الكتاب السابع فورد التناسب كاآلتي » :وإذن فمن رأيي أن نحتفظ
باألسماء السابقة التي أطلـقناها على األقسام األربعة ،فنسمي القسم األول باسم العلم،
والقسم الثاني بالفهم ،والثالث باالعتقاد ،والرابع بالتخيل ونطلق على املجموعتين األخيرتين
اسم الظن ،وموضوعه عالم التحول ،وعلى املجموعتين األوليتين اسم العقل ،وموضوعه
الوجود .ولنضف إلى ذلك أن الوجود بالنسبة إلى التحول كالعقل بالنسبة إلى الظن ،وأن
العقل بالنسبة إلى الظن كالعلم بالنسبة إلي االعتقاد ،وكالفهم بالنسبة إلى التخيل« (أفالطون،
الجمهورية ،1968 ،ص . )247
بعد أن تناول أفالطون مراحل الـمعرفة في نهاية الكتاب السادس ،تناول من خالل
الكتاب السابع أمثولة الكهف وهو تمثيل يعطي توضيحا أدق لهذه الـمراحل حيث يبين
أفالطون معاناة النفس البشرية في سجن البدن وفي زيف العالم الحس ي ،فكأن الناس
ّ يمكثون في كهفّ ،
تقيدهم أغالال تمنعهم من رؤية الحقيقة ،وال يرون إال ظالل منعكسة ِّ
180
ISSN :2353 - 0499 مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية
EISSN :2602 -5264 املجلد ، 2العدد( ،3جوان )2014
على جدار أمامهم ،فيتخيلون أن تلك الظالل هي الحقيقة .لكن بمجرد تحرر أحدهم من
تلك القيود ،يلتفت وراءه فيرى نورا ينبعث من خالل مدخل الكهف فيتجه إليه ،لكن سرعان
ما يكتشف أن هناك نارا وأنها مصدر النور املنبعث إلى الكهف ،وبين الكهف وتلك النار
رجاال يخفيهم جدارا وال يظهر إال ما يحملون من مصنوعات وأدوات تشمل أشكاال للناس
وللحيوانات وغيرها .ومن جملة هذه األشكال من يتكلم ومن ال يقول شيئا .وهكذا يدركون
أنهم ال يعرفون شيئا سوى ظالل املصنوعات ،وهذه املرحلة هي األولى من مراحل املعرفة.
(أنظر أفالطون ،الجمهورية ،1968 ،ص .)247-246
وإذا ما استمر هذا الشخص في الصعود يجد نور الشمس .غير أن بصره ال يستطيع إدراكها
مباشرة ،فيرى الشمس منعكسة على سطح املاء ،وكذلك بقية األشياء األخرى .فإذا ما رآها
منعكسة أمكنه بعد ذلك تأملها في موضعها .ويلخص أفالطـون هذه املرحلة بقوله »:ففي
البداية يكون أسهل األمور أن يرى الظالل ،ثم صور الناس وبقية األشياء منعكسة على
صفحة املاء ثم األشياء ذاتها ،وبعد ذلك يستطيع أن يرفع عينيه إلى نور النجوم والقمر،
فيكون تأمل األجرام السماوية وقبة السماء ذاتها في الليل أيسر له من تأمل الشمس في وهجها
في النهار ،وآخر ما يستطيع أن يتطلع إليه هو الشمس ال منعكسة على صف ــحة املاء أو على
جسم آخر ،بـل كما هي فــي موضعها الخاص « ( أفالطون الجمهورية ،1968 ،ص .)248
طريق الصعود لم ينته بعد ،فهناك مرحلة أخرى ،ولفهمها ينتقل أفالطون إلى عرض
العلوم املجردة ،كالهندسة وعلم العدد والحجوم وعلم الفلك ،إذ يؤكد أن آخر ما تدركه
النفس في العالم املنظور هو األجرام السماوية ،يقول» إن تلك األجرام التي تتألق بها السماء
إنما هي من العالم املنظور .ومن هنا فعلى الرغم من أن كونها أجمل األشياء املادية وأكملها،
فإنها أدنى مرتبة بكثير من الـموجودات الحقـيقية .أي تلك التي تتحرك حركة حقيقية ،بسرعة
وتحرك على هذا النحو ّ
حقيقية وببطء حقيقي ،وتبعا ألعداد حقيقية وأشكال حقيقيةِّ ،
ُ
كل ما فيها .تلك كلها أمور تدرك بالعقل والفـكر وال ترى بالعين « (أفالطون ،الجمهورية،
،1968ص.)268
بعد هاتين املرحلتين يغادر املرء العالم املنظور ليبدأ رحلته في عالم املعقوالت ،وأول مرحلة
في هذا العالم هي مرحلة إدراك العالقات العددية والهندسية ،فينطلق العقل عن طريق
املفاهيم الرياضية بمنهج فرض ي حتى يصل إلى أعلى الفروض ،ليؤكد صحة نتائجها عند
العودة بعيدا عن املسلمات الرياضية ،وال يكون هذا إال عن طريق الدياليكتيك ( الجدل)
دون استعمال أي حاسة من الحواس ،فهذا يقول أفالطون» :كذلك يصل املرء إلى قمة
181
ISSN :2353 - 0499 مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية
EISSN :2602 -5264 املجلد ، 2العدد( ،3جوان )2014
العالم املعقول بالدياليكتيك عندما يكف عن االلتجاء إلى أي حاسة من حواسه ،ويبلغ
بالعقل وحده ماهية كل ش يء ،وال يكف عن سعيه حتى يدرك بالفكر وحده ماهية الخير«
( أفالطون ،الجمهورية ،1968 ،ص .)272هكذا يصل إلى آخر مرحلة من مراحل املعرفة األربع
وفي قمتها مثال الخير ويقول في ذلك » :فآخر ما ُيدرك في العالم املعقول بعد عناء شديد
هو مثال الخير ،لكن املرء ما أن ُيدركه حتى يستنتج حتما أنه علة ما هو خير وجميل في
األشياء جميعا ،وأنه غي العالم املنظور خالق النور وموزعه ،وفي العالم املعقول هو مصدر
الحقيقة والعقل .فبدون تأمل هذا املثال ال يستطيع أحد أن يسلك بحكمة في حياته الخاصة
وال في شؤون الدولة « (أفالطون ،الجمهورية ،1968 ،ص .) 250
من خالل هذه الفقرة يؤكد أفالطون صعوبة إدراك مثال الخير الذي يعد مصدر كل
خير وجمال في العالم املحسوس .ويظهر هذا في تشبيه أفالطون أن الشمس مصدر النور
في العالم املنظور وبأنها ابن الخير ،ولو ال نور الشمس ما استطاعت العين رؤية ش يء في
هذا العالم ،ففي الكتاب السادس يقول » :فلتعلم أن الشمس هي ما كنت أعنيه باالبن الذي
خلقه الخير ،ولقد خلقها في العالم املنظور لكي يكون لها فيه ،بالنسبة إلى اإلبصار
واألشياء املنظورة منزلة الخير في العالم املعقول بالنسبة إلى العقل واملعقوالت « (
أفالطون ،الجمهورية ،1968 ،ص .) 268
ّ
وبهذا يقدم أفالطون أنموذجا محسوسا يمكن من ليس لهم قدرة على إدراك عالم املثل
أومن يظنون أنها مجرد مفاهيم ذهنية ،أن يتصوروا منزلة شمس العالم املنظور بمثابة
منزلة مثال الخير في العالم املعقول في ذلك يقول » :يعد مثال الخير شمس العالم املعقول،
وإن كنا ال نستطيع معرفته بـدقة ألنه بعيد عن إدراكنا .إنه الضوء الساطع الذي يضفي
على الجواهر ماهيتها وقدرتها على االستمرار في الوجود واملحافظة عليه « (– Jules Chaix
.)Ruy, La pensée de Platon, 1957, p 174وبهذا يمكن القول:
-إن املثال مصدر الحقيقة والعقل في العالم املعقول ،وهذا يعني عدم استقالل املثل
فيما بينها.
-أن شؤون الفرد أو الدولة ال تستقيم دون تأمل املثال ،الذي يؤدي إلى التشبه به ألنه
مصدر الخير والجمال و الثبات .كما أن الحقيقة ليست في املادة وال املعرفة في املوضوع
وال في األشياء التي تتشبه بالخير ،وإنما في الخير الـمطلق (.)Voir Lean Robin, Platon, p 83.
هذا الخير الذي أعطاه أفالطون أسمى املراتب على اإلطالق ،يقول» :فلتعرف أيضا أن
األشياء املعقولة ال تستمد من الخير قابليتها ألن تعرف فحسب ،بل هي تدين له ،على
182
ISSN :2353 - 0499 مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية
EISSN :2602 -5264 املجلد ، 2العدد( ،3جوان )2014
األصح بوجودها وماهيتها ،وإن لم يكن الخير ذاته وجودا ،وإنما هو ش يء يفوق الوجود
ا
قوة وجالال« (أفالطون ،الجمهورية ،1968 ،ص .).240
وهذه املكانة الرفيعة جعلت من الخير محل جدل وتأويل فيما إذا كان هو ذاته إله
أفالطون أم أنه أسمى منه أو أقل مرتبة .وهل مثال الخير هو اإلله أم أنه مشابه له؟ ( Voir
.)Jules Chaix –Ruy, La pensée de Platon, P 175.
هذه الصبغة الدينية املقدسة تظهر في قمة فلسفة أفالطون وتبدو صورة جديدة
تدخل العقل اليوناني ،فقد ازدرى الحياة الحسية التي كانت قبل ذلك موضوع الحقيقة
ومصدرها وارتفع إلى ماهيات األشياء ،إلى املثل الكائنة خارج هذا العالم مؤكدا على طابعها
اإللهي في يقول» :ولكن هل تظن أنه من املستغرب أن تبدو على املرء مظاهر الحيرة ويصبح
مدعاة للسخرية إذا ما انتقل من تأمل هذه األمور اإللهية إلى بؤس الحياة البشرية «
(أفالطون ،الجمهورية ،1968 ،ص.)250
إذا املثل عند أفالطون حقيقة مقدسة ال تقبل اإلنكار مادامت تحمل هذه الصبغة
الدينية ،وقد انصب جل فكر أفالطون إلقامة البراهين العقلية إلثبات هذه الحقيقة .وعليه
هل يمكن القول أن وجود املثل قائم عـلى قوة الـبراهين الدالة عليها؟ وهل إشكالية املشاركة
تحول دون إثبات وجودها ؟
183
ISSN :2353 - 0499 مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية
EISSN :2602 -5264 املجلد ، 2العدد( ،3جوان )2014
ّ
وما تنص عليه النظرية أنه ال تشابه إال في مثال واحد ،وعليه البد من وجود مثال ثالث
أي مثال لكل مثال إلى ما النهاية.
إضافة إلى كل هذا من املفروض أن يكون املثال موضوعا للعلم .لكن املثال له وجود في
ذاته ال في عقولنا ،فكيف يمكن أن يكون موضوعا للعلم؟
يقول إميل بريهيية معلقا على هذا النقد » :إثر هذا النقد يتالش ى كل ما يعطي فرضية
املثل قيمتها ،فاملثال ليس تفسيرا لألشياء مادامت املشاركة فيه مستحيلة ،كما أنه ال يمثل
وحدة الكثرة مادامت تتوزع على ما النهاية له من املثــل ،وليس بموضــوع علم مادام الع ــلم في
األصـل مفارقا لنا « (.)Emile Bréhier, Histoire de la philosophie, 1943, p 122-123
ويتضح بعد كل هذه املناقشات أن املشكلة ليست في إثبات املثال وإنما في إثبات املشاركة
بين املثل واملحسوسات.
يعود أفالطون في محاورة ثياتيتوس إلعادة بناء املنهج املعرفي الذي يقود إلى الحقيقة
انطالقا من نقد نظرية بروتاغوراس " اإلنسان مقياس كل ش يء " .ويبدأ من وضع األسس
التي تنبني عليها املعرفة ،انطالقا من ادراكات النفس التي تعطي إما ظنا خاطئا وهو الجهل،
وإما ظنا صادقا وهو العلم ،لكنه يتراجع ليؤكد أن الظن الصــادق ليس بعلم ،إذ ال يكفـي
إلعطاء األحكام ،فيضيـف إليه -أي الظن الصادق -أن يكون مصحوبا بالبرهان وسرعان
ما يكتشف أنه غير كاف أيضا إلقامة العلم ،ويمض ي في بحثه ليصل إلى أن العلم هو الظن
املكون منها أو "الخاصية الـمميزة"الصادق املصحوب بالبرهان ،وكذلك معرفة العناصر َّ
ويكتشف مرة أخرى أن هذا التعريف غير كــاف ،يقول أفالطون على لسان سقراط مخاطبا
ثياتيتوس » :إذن أنه من باب السخف أن يأتي أحدهم ليؤكد لنا نحن الذين نبحث عن
العلم أن الظن الصادق مع الخاصة املـميزة ،أو أي ش يء يرغبون فيه .وكذلك يا ثياتيتوس
لن يكون العلم إحساسا وال ظـنا صادقا وال برهانا منطقيا يضاف إلى هذا الظن الصادق« .
(أفالطون ،ثياتيتوس ،تعريب أميرة حلمي مطر ،1998 ،ص .) 163
والخالصة أن هذه املحاورة تعد هجوما عنيفا ضد املعرفة الحسية ،وتكريسا لسلطان
العقل ليؤكد بأنه األداة الوحيدة إلدراك املثل .وهذا تأكيد ملا ورد في الجمهورية من خالل
قوله » :أما القسم الثاني من العالم املعقول فإني أعني به ما يدركه العقل وحده بقوة
الدياليكتيك ،بحيث ال ينظر إلى مسلماته على أنها مبادئ ،وإنما على أنها مجرد فروض،
هي أشبه بدرجات ونقط ارتكاز تمكننا من االرتقاء إلى املبدأ األول لكل ش يء ،الذي يعلو
على كل الفروض ،فإذا ما وصل العقل إلى ذلك املبدأ ،هبط متمسكا بالنتائج التي تتوقف
184
ISSN :2353 - 0499 مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية
EISSN :2602 -5264 املجلد ، 2العدد( ،3جوان )2014
عليه حتى يصل إلى النتيجة األخيرة دون أن تستخدم أي موضوع محسوس ،وإنما يقتصر
على املثل بحيث ينتقل من مثال إلى مثال آخر ،وينتهي إلى املثل أيضا « (أفالطون ،الجمهورية،
،1968ص.)242
بعد التشكيك في معارف العالم املنظور ،ينقلنا أفالطون من خالل محاورة السفسطائي
ّ
إلى بحث الوجود الحقيقي انطالقا من نقد الـمذهب الـمادي ،الذي ال يرى الوجود إال في
املحسوسات ومن نقد أصدقاء املثل الذين يرون أن املثل منعزلة وثابتة ،يقــول إميل بريهيية
معلقا على هذا النقد األخير » :فأصدقاء املــثل الذين نعرفهم في ذلك العصر ،هم أفالطون
ومدرسته فقط ،أفال يمكن أن نقول إن أفالطون ذاته ينتقد تصــورا للمثل قد قال به
من قبل ،وأختبره في محاورة بارمنيدس ،ثم تعداه بعد ذلك« ( Emile Bréhier, Histoire de
.) la philosophie, 1943, p 131.
ُ
وتظهر محاورة السفسطائي تصور أفالطون لحل العالقة بين املثل فيما بينها ،إذ كيف يمكن
للواحد أن يتعدد؟ ذلك أنه يمكن الحديث عن ش يء واحد و في الوقت نفسه يأخذ أشكاال
متعددة ) . (Voir Platon, Sophiste, T : Emile Champry, p 75لكن تبقى مشكلة طبيعة العالقة
بين الواحد واملحسوسات املتعددة واملتغيرة معلقة.
يقدم أفالطون في محاورة فيالبوس حال رياضيا لهذه الـمشكلة ،إذ رأى أن العالقة
بين والواحد والكثـرة الـمحسوسة في شكل نسب رياضية ثابت ـة ،مثلها مثل التناس ـ ـب
املوجود بين أوتار القيثارة الذي ينتج أصوات مختلفة تعطي تناغما وتالؤما وجماال وطيبة
) ،( Voir Platon, Philépe, T : Emile Chambry,1969, p 412-413ويعزز هذا االتجاه الدروس
الشفوية ،التي تصف املثل بأنها أعداد مثالية كالنسب املوجودة بين املتتاليات الحسابية
أو الهندسية .
بعد التفسيرات الفلسفية والرياضية للعالقة بين املثل واملحسوسات ،تأتي محاورة
طيماوس ،التي طغى عليها التفسير الديني لنظرية املثل ،وقد رتب أفالطون في هذه املحاوراة
املوجودات ترتيبا تصاعديا.
لقد كان الكون فوض ى وبتدخل من اإلله الفاطر أصبح منظما يشير وفق حركة منظمة
نحو الخير والكمال ،وقد اهتدى أفالطون إلى ذلك بتطبيقه للفرضيات الرياضية في مجال
الطبيعيات بواسطة التناغم والجمال ،فالعلة الوحيدة لتكوين العالم هي طيبة اإلله،
ويظل الخير مصـدر كل برهان وكل ما هو موجود في العالم املنظور الذي يحاكي قدر اإلمكان
أزلية النموذج (.)Voir Platon, Timée, T Emile Champry, 1969, p 461
185
ISSN :2353 - 0499 مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية
EISSN :2602 -5264 املجلد ، 2العدد( ،3جوان )2014
إن العالم كله ينبض بالحياة ،ألن العالقات التي تحكمه صادرة عن النفس الكلية ،ذلك
أن اإلله بث الروح في هذا الكون فأنتظم واستوى (أنظر أفالطون ،القوانين ،تعريب حسن ظاظا،
مطابع الهيأة املصرية العامة للكتاب ،1969 ،ص ،)240وكذلك تأمل األجرام السماوية وحركة
الكواكب يقود النفس إلى إدراك حقيقة العالم اآلخر كما جاء في محاورة الجمهورية.
ويبدو أن هذا الطرح وجها آخر لحل إشكالية مفارقة املثل للعالم املحسوس ،حال جاء وفق
تصور ديني ال ُيدرك إدراكا مباشرة ،إنما يدرك عن طريق الحدس العقلي بعد تشبع النفس
بالجمال في املخلوقات التي تقود إلى جمال الخالق وهو الجمال املطلق .ذلك ما كشفت
عنه محاورة املأدبة فالنفس بعد أن تتشبع من جمال األجساد ترقى إلى جمال النفوس،
لتدرك بعد ذلك الجمال الحقيقي والخالد الذي وصفه أفالطون بقوله » :جمال ال يظهره
وجه وال يدين وال كل ما هو جسدي ،جمال ال يضاهيه فعل وال يناظره علم وال أسمى
موجود ،جمال ال يظهر في حيوان وال في أرض وال في سماء وال في ما يشبه ذلك من األشياء.
لكنه يظـل في ذاته ،أزليا يماثل ذاته بما هو جمال يــستمد منه كل جميل جماله « ( Platon,
.) Le Banquet, 1992, p 122
لكن ما الذي يقود النفس إلى االرتقاء إلدراك ذلك الجمال ؟ إنه الحب فاإلنسان ال يلد
ّ
إال في الجمال تحت تأثير الحب ،ثم أن اتحاد النفس بالخير يجعلها تزدري الجماالت الجزئية
لتبحث عن الجمال الحقيقي ،فالنفس تتحد مع الخير للبحث عن اللذة عند تجاوز جميع
الجزئيات (.) Vois Jules Chaix –Ruy, La pensée de Platon, 1957, p 166.
لكن ملاذا تعشق النفس الجمال ؟
ّ
إن جمال األجساد جمال حس ي ،ولكنه يذكر النفس بالجمال الحقيقي بناء على نظرية
التذكر عند أفالطون ،وهذا ما يبدو جليا في محاورة فايدروس .هذه املحاورة تصور عالم
املثل بأنه ذلك العالم اإللهي الذي كانت تسكنه األنف ــس قبل نزولها إلى العالم األرض ي،
والذي يقول عنه أفالطون » :هذا املكان يقع فوق السماء ،ولن يتغنى بجمـاله شاعر غناء،
يتناسب مع روعته« (أفالطون ،ثياتيتوس ،1998 ،ص .) .64فالنفس تتوق إلى الـمكان الذي
قدمت منه ،وبمجرد أن تتخلص من العالئق الحسية ،تدرك الجمال الخالد يقول أفالطون
في ذلك » :أجل الهوس الذي يحدث عند رؤية الجمال األرض ي فيذكر من يراه بالجمال
تنبت فيه وتتعجل الطيران لكنها ال تستطيع ،فتشرئب الحقيقي ،وعندئذ يحس املرء بأجنحة ُ
ببصرها إلى أعلى كما يفعل الطائر ،وتهمل موجودات هذه األرض ،حتى لتوصف بأن الهوس
أصابها « (أفالطون ،ثياتيتوس ،1998 ،ص .) 68
186
ISSN :2353 - 0499 مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية
EISSN :2602 -5264 املجلد ، 2العدد( ،3جوان )2014
وما يمكن استخالصه ،أن التفسير النهائي الذي قدمه أفالطون إلشكالية املشاركة هو الحل
الرياض ي سواء أكانت مشاركة املثل مع املحسوسات أم مشاركة املثل فيما بينها ،فسيظل
الحب هو ما يدفع النفس إلى تأمل املثال ِّملا يكتسيه من خير وجمال وما يضفيه على العالم
من تناغم وانســجام يقود النفوس الطيبة إلى محاكاة الكمال ويجذبه إليه ،وهكذا يكون
الحب عند أفالطون طاقة تستمد منه النفس قوتها لبلوغ الحقائق األزلية.
هكذا انطلق أفالطون من الكهف إلى املثال كرياض ي بارع ،وما إن رأى ذلك العالم
وأدرك حقائقه حتى عاد كرجل دين متصوف يتسم بالورع والتقوى .وفي هذا االتجاه يقول
جون جيتون " " Jean Guittonأن التصوف ال ينفصــل عن الحياة الفـكرية ألفالطون".
()Jean Guitton, Les pages immortelles de Platon, 1960, p22.
ولقد توصلنا إلى أن املنهج الجدلي األفالطوني واجهته العديد من الصعوبات واالنتقادات.
لكن أفالطون عمل على تأكيد صحته من خالل الطرح الديني في "طيماوس " والحدس الصوفي
في "فايدروس" و"املأدبة" .والجدير باملالحظة أيضا أن مجموع تلك املحاورات ال تخرج
عن اإلتجاه العام الذي رسمته محاورة الجمهورية في الخط الرابط بين الكهف وعالم
الـمثل وهو " خط املعرفة والوجود".
املصادرواملراجع:
املصادر
-أفالطون ،ثياتيتوس ،تعريب أميرة حلمي مطر ،دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع ،القاهرة .1998 ،
-أفالطون ،الجمهورية ،تعريب فؤاد زكريا ،دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ،القاهرة.1968،
-أفالطون ،القوانين ،ترجمة حسن ظاظا ،مطابع الهيئة املصرية العامة للكتاب.1969 ،
- Platon, Philépe,T Emile Champry, librairie Garnier frères, Paris.
- Platon, Sophiste, T: Emile Champry, librairie Garnier frères, Paris, 1969.
- Platon, Timée, T Emile Champry, librairie Garnier frères, Paris, 1969.
املراجع
-أحمد فؤاد األهواني ،أفالطون ،دار املعارف ،القاهرة ،ط.1991 ، 4
-فؤاد زكرياء ،دراسة لجمهورية أفالطون ،دار الكتاب العربي القاهرة.1967 ،
- Emile Bréhier, Histoire de la philosophie, PUF, Paris, 1943.
-Jean Guitton, Les pages immortelles de Platon, Edition Bouchet Chastel, Paris, 1960.
- Jules Chaix – Ruy, La pensée de Platon, Bordas, 1957.
- Lean Robin, Platon, PUF, Paris, sans année.
- Marcel Renault, Platon, l' librairie Garnier frères, Paris, sans année.
187
ISSN :2353 - 0499 مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية
EISSN :2602 -5264 املجلد ، 2العدد( ،3جوان )2014
املعاجم
-مراد وهبة ،املعجم الفلسفي ،دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ،القاهرة ،ط.1984 ،4
188