You are on page 1of 8

‫‪ 4‬ـ مذاهب األصوليين وأدلتهم في وقوع التّعارض بين األدلة الشرعية‪:‬لقد اختلف العلماء‬

‫في هذه المسألة على ثالثة مذاهب رئيسة و هي‪:‬‬


‫المذهب األول‪ :‬ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز التعارض بين األدلة الشرعية في‬
‫الواقع و األمر نفسه دون ترجيح أو مخرج من التعارض أيا كان‪ ،‬سواء كانت األدلة قطعية أم‬
‫فإن مرد ذلك إلى قصور في ذهن‬‫ظنية‪ ،‬و أنّه إذا وجد دليالن يوهم ظاهرهما التنافي و التخالف ّ‬
‫المجتهد و إدراكه ال في األدلة ذاتها‪ ،‬و من أدلتهم على ذلك‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬الوحي ّ‬
‫منزه عن التعارض الحقيقي‪.‬‬
‫فال تعارض و ال اختالف بين نصوص القرآن الكريم و السنة النبوية‪ ،‬لكونهما وحيا‪ ،‬و إذا‬
‫فإن التعارض بين األحكام الشرعية منفي كذلك‪ ،‬حيث انتفى‬ ‫انتفى االختالف بين القرآن و السنة ّ‬
‫اخ ِت َالفًا َك ِث ً‬
‫يرا﴾[النساء‪.]82:‬‬ ‫َّللاِ لَ َو َجدُوا ِفي ِه ْ‬
‫سببه‪ ،‬قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬ولَ ْو َكانَ ِم ْن ِعن ِد َغي ِْر ه‬
‫الدليل الثاني‪:‬التعارض الحقيقي يؤدي إلى التناقض‪.‬‬
‫فلو كان بين األدلة الشرعية تعارض حقيقي لكان معناه أنّها متناقضة‪ ،‬و ّ‬
‫أن الشرع يأتي‬
‫بدليلين متناقضين في ذاتهما‪ ،‬و هذا وصف للشرع بالجهل و العجز و القصور‪ ،‬و هو محال‪.‬‬
‫الدليل الثالث‪:‬التعارض الحقيقي يؤدي إلى التكليف بما ال يطاق‪.‬‬
‫فلو كان بين األدلة الشرعية تعارض و اختالف ألدّى إلى التكليف بما ال يطاق‪ّ ،‬‬
‫ألن الشرع‬
‫لو أمر المكلّف بفعل شيء و نهاه عن فعل ذلك الشيء بذاته‪ ،‬فهو تكليف بما ال يطاق‪ ،‬و التكليف‬
‫سا إِ هال ُو ْسعَ َها﴾[البقرة‪.]286:‬‬
‫َّللاُ نَ ْف ً‬
‫ف ه‬ ‫﴿ال يُ َك ِلّ ُ‬
‫بما ال يطاق مرفوع شرعا قال تعالى‪َ :‬‬
‫الدليل الرابع‪:‬األمر بالرجوع إلى الكتاب و السنة عند االختالف دليل على عدم وجود‬
‫التعارض الحقيقي‪ ،‬و إال لما كان الرجوع إليهما له معنى‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فَإِن تَنَازَ ْعت ُ ْم ِفي ش ْ‬
‫َيءٍ‬
‫سو ِل﴾[النساء‪.]59:‬‬‫الر ُ‬ ‫فَ ُردُّوهُ إِلَى ه‬
‫َّللاِ َو ه‬
‫الدليل الخامس‪:‬إثبات العلماء للناسخ و المنسوخ يدل على عدم وجود التعارض الحقيقي‪.‬‬
‫فقد أثبت العلماء الناسخ و المنسوخ في نصوص القرآن و السنة‪ ،‬و حذّروا من الجهل بهما‬
‫أن الناسخ و المنسوخ يكونان في دليلين متعارضين بحيث ال يصح‬‫أو الخطأ فيهما‪ ،‬و معلوم ّ‬
‫اجتماعهما بحال‪ ،‬و إ ال لما كان أحدهما ناسخا و اآلخر منسوخا‪ ،‬فلو كان استمرار التعارض‬
‫الحقيقي جائزا لما كان للبحث عن إثبات الناسخ و المنسوخ فائدة‪.‬‬
‫الدليل السادس‪:‬إثبات الراجح من المرجوح يدل على عدم وجود التعارض الحقيقي‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫فقد اتفق األصوليون على أنّه يجب البحث عن المر ّجح ألحد الدليلين المتعارضين ظاهرا‪،‬‬
‫و أنّه ال يصح العمل بأحدهما جزافا بدون مر ّجح‪ ،‬فلو كان التعارض الحقيقي جائزا لما كان‬
‫للبحث عن الترجيح بين األدلة أية فائدة ليدفع بها التعارض‪.‬‬
‫الدليل السابع‪:‬وقوع التعارض الحقيقي بين األدلة الشرعية ال يخلو من احتماالت أربعة‬
‫كلها باطلة‪ ،‬و هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يعمل المجتهد بالدليلين معا‪ ،‬و هو جمع بين المتنافيين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ال يعمل بهما‪ ،‬فيكون وضعهما عبثا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يعمل بأحدهما معيّنا ‪ ،‬و هو ترجيح من غير مر ّجح‪ ،‬و قول بالهوى و التش ّهي و هو‬
‫باطل‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن يكون المكلّف مطالبا بأحدهما دون اآلخر على سبيل التخيير‪ ،‬و هو خالف‬
‫الفرض‪.‬‬
‫المذهب الثاني ‪:‬و ذهب المعتزلة و بعض الشافعية و اختاره اآلمدي و نسبه إلى أكثر‬
‫الفقهاء إلى وقوع التعارض الحقيقي بين األدلة الشرعية‪ ،‬و من أدلتهم‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬وجود المتشابهات في القرآن الكريم و السنة النبوية‪.‬‬
‫أن المتشابهات ـ لخفاء معانيها ـ تؤدي إلى اختالف األنظار و المدارك في فهم‬‫و معلوم ّ‬
‫معانيها و دالالتها‪ ،‬و مع أن التوقّف فيها محمود إال ّ‬
‫أن االختالف فيها وقع حقيقة بين المسلمين‪،‬‬
‫أن االختالف الحقيقي موجود‬‫و قد وضعها الشرع قصدا‪ ،‬و قد أدّت إلى االختالف فهذا يدل على ّ‬
‫بين نصوص الشريعة‪.‬‬
‫الدليل الثاني‪ :‬ورود المتشابهات في األحكام الشرعية‪.‬‬
‫كما في حديث[الحالل بيّن و الحرام بيّن و بينهما أمور مشتبهة][رواه البخاري]‪ ،‬و قد أدّت‬
‫أن االختالف في‬‫المتشابهات إلى االختالف بين المجتهدين‪ ،‬و هذا ال ينكره أحد‪ ،‬فد ّل ذلك على ّ‬
‫الشريعة واقع و هو يؤدي إلى التعارض بين األدلة‪.‬‬
‫الدليل الثالث‪ :‬ثبوت االختالف بين الصحابة و التابعين و المجتهدين‪.‬‬
‫استدلّوا على وقوع التعارض الحقيقي بما نشأ بين الصحابة من اختالف‪ ،‬و كذلك التابعين‬
‫و المجتهدين‪ ،‬و هذا راجع إلى اختالف األدلة و تعارضها‪.‬‬
‫الدليل الرابع‪ :‬االجتهاد المقصود للشرع يؤدي إلى االختالف و التعارض‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫فقد أمر الشرع باالجتهاد في القضايا التي ليس فيها نص قطعي‪ ،‬و معلوم ّ‬
‫أن هذا يؤدي إلى‬
‫االختالف‪،‬و حينها يظهر التعارض‪.‬‬
‫الدليل الخامس‪ :‬وجود التعارض الذهني يدل على وجود التعارض الحقيقي‪.‬‬
‫فما دمنا أجزنا التعارض ذهنيا يستلزم وقوعه حقيقة بين النصوص الشرعية‪.‬‬
‫الدليل السادس‪ :‬وجود التعارض في األدلة التبعية يدل على وجوده حقيقة بين النصوص‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫فكما ّ‬
‫أن التعارض قد يحدث بين قياسين أو علتين أو مصلحتين‪ ،‬فقياسا عليه يجوز أن يقع‬
‫بين النصوص الشرعية‪.‬‬
‫الدليل السابع‪ :‬جواز تقليد العلماء يدل على وقوع التعارض الحقيقي بين النصوص‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫أن المجتهد يتخيّر بين األدلة عند عدم قدرته على الترجيح حال تعارضها‪ ،‬كذلك‬‫فكما ّ‬
‫المقلّد إذا تعارضت عنده أقوال المجتهدين تخيّر بينها‪ ،‬و معلوم ّ‬
‫أن اختالف العلماء ال ينشأ إال‬
‫من تعارض األدلة في الواقع ‪.‬‬
‫المذهب الثالث‪ :‬و ذهب بعض فقهاء الشافعية و منهم البيضاوي و الشيرازي إلى جواز‬
‫التعارض في الظنيات دون القطعيات‪.‬‬
‫و قد استدلوا على جواز التعارض في األدلة الظنية بما استد ّل به أصحاب المذهب الثاني‪،‬‬
‫كما استدلوا على عدم إمكان التعارض بين األدلة القطعية بما استد ّل به أصحاب المذهب األول‪.‬‬
‫* خالصة الكالم و حوصلته في هذه المسألة‪:‬‬
‫إن النصوص الشرعية ليس فيها تعارض حقيقي‪ ،‬و إنّما هو تعارض شكلي و صوري و‬ ‫ّ‬
‫ظاهري‪ ،‬و الذي هو وهم في ذ هن المجتهد فقط‪ ،‬و هذا يمكن دفعه و رفعه بأحد المسالك‬
‫المعروفة من جمع أو بيان الناسخ أو ترجيح‪ ،‬و لذلك يرى بعض المحقّقين من العلماء‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫الدكتور وهبة الزحيلي و الدكتور خالد عبيدات‪ ...‬أنّه يمكن وقوعه في األدلة بنوعيها القطعية و‬
‫ألن التعارض غير جار في األدلة نفسها‪ ،‬و إنّما هو في نظر المجتهد فقط‪ ،‬و عليه‬‫الظنية‪ّ ،‬‬
‫فأرجح األقوال و أقواها هو القول بانتفاء التعارض الحقيقي بين النصوص الشرعية‪ ،‬و إثبات‬
‫التعارض الظاهري فقط‪ ،‬و يمكن توجيه قول المثبتين للتعارض في النصوص الشرعية من‬
‫خالل وجهين اثنين‪:‬‬
‫الوجه األول‪:‬األدلة التي ساقها المثبتون للتعارض الحقيقي بين النصوص الشرعية ما هي‬
‫إال مجرد افتراضات عقلية محضة‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬لو قصد المثبتون التعارض من أدلتهم وقوع التعارض الظاهري فقط لكانت‬
‫في محله‪ ،‬و لسلمت من االعتراضات‪ ،‬و لقبلت دعواهم‪ ،‬كما يقول الدكتور خالد عبيدات‪.‬‬
‫و قد جمع الدكتور محمد الحفناوي بين المذاهب الثالثة جمعا الئقا‪ ،‬فقال‪[:‬يحمل كالم‬
‫القائلين بجواز أو وقوع التعارض بين األدلة الشرعية مطلقا أو في األدلة الظنية فقط على‬
‫التعارض بمعناه العام الصادق بالتنافي بين المطلق و المقيد‪ ،‬و الخاص و العام‪ ،‬و نحو ذلك‪ ،‬كما‬
‫يحمل كالم المانع ين لجواز التعارض مطلقا أو في األدلة القطعية فقط على التعارض الخاص‬
‫الذي بمعنى التناقض أو التضاد‪.‬‬
‫[لالستزادة الرجوع إلى ‪ :‬المناهج األصولية في مسالك الترجيح بين النصوص الشرعية‬
‫للدكتور خالد عبيدات‪،‬التعارض و الترجيح عند األصوليين و أثرهما في الفقه اإلسالمي‬
‫للدكتور محمد الحفناوي]‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ طرق دفع التعارض الظاهري بين األدلة الشرعية‪:‬‬
‫لقد اتّفق علماء الشريعة من أصوليين و فقهاء و محدّثين على دفع و رفع التعارض‬
‫الظاهري بين األدلة الشرعية و مع اتفاقهم على ّ‬
‫أن ذلك يتم بأحد الطرق الثالثة المعروفة‪ :‬الجمع‬
‫و النسخ و الترجيح‪ ،‬إال أنّهم اختلفت أنظارهم‪ ،‬و تباينت مناهجهم في ترتيب هذه الطرق عند‬
‫العمل‪ ،‬و أيّها أولى بالتقديم من األخرى فكانوا على منهجين اثنين رئيسين و هما‪ :‬منهج‬
‫الجمهور‪ ،‬و منهج الحنفية‪.‬‬
‫أ ـ طرق دفع التعارض عند الجمهور‪ ،‬وأدلتهم في ترتيبها‪:‬‬
‫*طرق دفع التعارض عند الجمهور‪ :‬ذهب جمهور األصوليين و المحدّثين[غير الحنفية]‬
‫إلى أنّه إذا تعارض دليالن بحسب الظاهر عند المجتهد‪ ،‬فعليه أن يتخلّص من هذا التعارض‬
‫باتباع الطرق اآلتية و بالترتيب‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الجمع‪ :‬بين الدليلين المتعارضين إذا أمكن ذلك‪ ،‬كأن يحمل العام على الخاص‪ ،‬أو يحمل‬
‫المطلق على المقيّد‪.‬‬
‫*و من األمثلة على ذلك‪ :‬ورد عن النبي صلّى هللا عليه و سلّم قوله‪[:‬إذا ذهب أحدكم إلى‬
‫الغائط فال يستقبل القبلة و ال يستدبرها[رواه أبو داود]‪ ،‬و ورد عن ابن عمر رضي هللا عنه أنّه‬
‫قال‪[:‬دخلت على حفصة فجالت مني لفتة‪ ،‬فرأيت النبيﷺ بين حجرين مستقبل القبلة][أخرجه‬
‫البخاري]‪.‬‬
‫فالحديثان متعارضان غير أنّه يمكن الجمع بينهما‪ ،‬بأن يحمل حديث النهي على غير البناء‬
‫ألنّه ال يشق فيه تجنّب االستقبال و االستدبار‪ ،‬بخالف البنيان فقد يشق‪ ،‬فيحل فعله كما فعل‬
‫رسول هللا ﷺ لبيان الجواز‪ ،‬و بهذا يجمع بين الحديثين‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫‪ 2‬ـ النسخ‪:‬إن علم المتأ ّخر و لم تقبل األدلة المتعارضة الجمع‪.‬‬
‫﴿والهذِينَ يُت ََوفه ْونَ ِمن ُك ْم َويَذَ ُرونَ أَ ْز َوا ًجا َو ِ‬
‫صيهةً‬ ‫*و من األمثلة على ذلك‪ :‬قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫اج ۚ فَإِ ْن خ ََرجْ نَ فَ َال ُجنَا َح َعلَ ْي ُك ْم فِي َما فَ َع ْلنَ فِي أَنفُ ِس ِه هن ِمن‬
‫اج ِهم همتَا ًعا ِإلَى ْال َح ْو ِل َغي َْر إِ ْخ َر ٍ‬
‫ِّأل َ ْز َو ِ‬
‫﴿والهذِينَ يُت ََوفه ْونَ ِمن ُك ْم َو َيذَ ُرونَ‬‫يز َح ِكي ٌم﴾ [البقرة‪ ،]240:‬و قال هللا تعالى‪َ :‬‬ ‫َّللاُ َع ِز ٌ‬
‫هم ْع ُروفٍ ۗ َو ه‬
‫صنَ بِأَنفُ ِس ِه هن أَ ْربَعَةَ أَ ْش ُه ٍر َو َع ْش ًرا﴾ [البقرة‪.]234:‬‬ ‫أَ ْز َوا ًجا يَت ََربه ْ‬
‫أن عدتها‬‫فهاتان اآليتان متعارضتان حول عدة المتوفّى عنها زوجها‪ ،‬فاآلية األولى تفيد ّ‬
‫أن عدتها أربعة أشهر و عشرة أيام‪ ،‬و قد ذهب الجمهور إلى القول ّ‬
‫بأن‬ ‫سنة‪ ،‬و اآلية الثانية تفيد ّ‬
‫اآلية األولى منسوخة بالثانية‪ ،‬حيث لم يمكن الجمع بينهما‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الترجيح‪:‬بين األدلة المتعارضة‪.‬‬
‫أن رسول هللا صلّى هللا ّ‬
‫تزوج‬ ‫*و من األمثلة على ذلك‪:‬عن ابن عباس رضي هللا عنه ّ‬
‫ميمونة و هو محرم بماء يقال له سرف[فأعرس بها بذلك الماء][متفق عليه]‪ ،‬و ورد عن يزيد‬
‫تزوجها بسرف و هو حالل[أخرجه مسلم]‪.‬‬ ‫أن النبي ﷺ ّ‬‫بن األصم عن ميمونة ّ‬
‫تزوجها و هو محرم يعارض كونه‬ ‫ألن كونه ﷺ ّ‬ ‫أن بين الحديثين تعارضا ّ‬ ‫و الظاهر ّ‬
‫تزوجها و هو حالل‪ ،‬و ال يمكن الجمع بينهما‪ ،‬و لذلك ذهب جمهور العلماء إلى ترجيح الرواية‬ ‫ّ‬
‫الثانية ألنّها روتها صاحبة القصة على الرواية األولى‪ ،‬و كذلك لموافقتها لقوله ﷺ‪[:‬ال َي ْن ِكح‬
‫المحرم و ال يُ ْن ِكح][أخرجه مسلم]‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ التخيير أو التوقّف‪.‬‬
‫ّ‬
‫الفصول]‪[:‬إن الخبرين إذا وردا‪ ،‬و ظاهرهما التعارض‪ ،‬و‬ ‫قال أبو الوليد الباجي في[إحكام‬
‫لم يمكن الجمع بينهما بوجه‪ ،‬و لم يُعلم التاريخ فيجعل أحدهما ناسخا و اآلخر منسوخا‪ ،‬ر ِ ّجح‬
‫أحدهما على اآلخر بضرب من الترجيح]‪.‬‬
‫*و م ّمن أيّد من المعاصرين منهج الجمهور الدكتور سيّد صالح عوض في كتابه[دراسات‬
‫في التعارض و الترجيح]‪.‬‬
‫مالحظة ها ّمة‪ :‬يقول األستاذ حسن بن عبد الحميد بن عبد الحكيم بخاري في كتابه[منهج‬
‫اإلمام الطحاوي في دفع التعارض بين النصوص الشرعية من خالل كتابه ـ مشكل اآلثار ـ ] بعد‬
‫أن ساق منهج جمهور األصو ليين في ترتيب طرق دفع التعارض بين النصوص الشرعية‪[:‬و‬
‫يقررونه‬
‫قرره جمهور األصوليين هو الذي عليه عمل المحدّثين‪ ،‬و الذي ّ‬
‫هذا المنهج الذي ّ‬
‫بالترتيب نفسه عند ذكرهم لمختلف الحديث‪ ،‬و بيان حكمه‪...‬و بذلك يتبيّن لنا اتفاق منهج جمهور‬
‫فرق‬‫األصوليين مع المحدّثين في ترتيب طرق دفع التعارض بين األدلة الشرعية و أخطأ من ّ‬
‫بينهما‪ ،‬و جعل المنهج المذكور ههنا خاصا بالمحدّثين‪ ،‬و نسب إلى جمهور األصوليين القول‬
‫‪5‬‬
‫بتقديم الجمع ثم الترجيح ثم النسخ‪ ،‬كما فعل ذلك بعض الدارسين المعاصرين[و ذكر في الهامش‬
‫بعض هذه األسماء ‪ :‬البرزنجي في التعارض و الترجيح‪ ،‬و الحفناوي في التعارض و الترجيح‪،‬‬
‫و نافذ حماد في مختلف الحديث‪ ،‬ثم بيّن ّ‬
‫أن الدكتور السوسوة في منهج التوفيق و الترجيح ذكر‬
‫المنهج على الصواب و و ّحد نسبته إلى المحدّثين و جمهور األصوليين] ‪ ،‬و ال أدري ما مأخذ‬
‫هذا التفريق و ما مستنده؟ على أنّني لم أقف على كالم ألحد من األصوليين يقتضي الذي ذكره‬
‫هؤالء]‪.‬‬
‫* وأدلتهم في ترتيبها‪:‬و من أدلتهم على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ األصل في الدليل اإلعمال ال اإلهمال‪ ،‬و إهمال أحد الدليلين يؤدي إلى النقص‪ ،‬و‬
‫الشريعة ّ‬
‫منزهة عن النقص‪ ،‬فكان البد من الجمع بينهما لتكون متوافقة ال متخالفة‪ ،‬أ ّما الترجيح‬
‫فإنّه يؤدي إلى ترك العمل بأحد الدليلين مع ّ‬
‫أن إعماله ممكن‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إنّه عند تعارض البينتين يكون الحكم العمل بهما‪ ،‬و الحكم بتوزيع المتنازع فيه بين‬
‫الخصمين‪ ،‬فكذلك الحال عند تعارض األدلة ليعمل بكل منهما فيما يمكن أن يعمل فيه جمعا بين‬
‫الدليلين‪.‬‬
‫ب ـ طرق دفع التعارض عند الحنفية‪ ،‬وأدلتهم في ترتيبها‪:‬‬
‫*طرق دفع التعارض عند الحنفية‪ :‬ذهب جمهور الحنفية ما عدا عبد العزيز البخاري إلى‬
‫ترتيب طرق دفع التعارض كاآلتي‪:‬‬
‫المقرر في‬
‫ّ‬ ‫‪ 1‬ـ النسخ‪ 2 /‬ـ الترجيح‪ 3 /‬ـ الجمع‪ 4 /‬ـ العمل باألدنى‪ 5 /‬ـ العمل باألصل‬
‫المسألة‪.‬‬
‫*و م ّمن أيّد من المعاصرين منهج الحنفية في ترتيب طرق دفع التعارض الدكتور بدران‬
‫أبو العينين في كتابه[أدلة التشريع المتعارضة و وجوه الترجيح بينها]‪.‬‬
‫* وأدلتهم في ترتيبها‪:‬‬
‫‪1‬ـ ّ‬
‫إن العمل بالراجح و ترك المرجوح عند تعارض الدليلين موافق لما اتفق عليه العقالء‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ اإلجماع على تقديم الراجح على المرجوح‪ ،‬كما ادّعى ابن عبد الشكور الحنفي في‬
‫سلّم الثُبُوت]‪.‬‬
‫كتابه[ ُم َ‬
‫‪ 3‬ـ ترك المرجوح عند مقابلة الراجح ال يعد إهماال للدليل‪ ،‬فالمرجوح إذا قابل الراجح‬
‫تذهب عنه صفة كونه دليال‪.‬‬
‫‪4‬ـ ّ‬
‫إن الصحابة رضي هللا عنهم ر ّجحوا بين األحاديث المشكلة‪ ،‬و من أمثلة ذلك‪:‬‬

‫‪6‬‬
‫ّ‬
‫يفيد[أن النبي ﷺ كان يصبح جنبا و هو‬ ‫أ ـ تقديمهم خبر أم سلمة رضي هللا عنها الذي‬
‫صائم] [رواه مسلم] على حديث أبي هريرة رضي هللا عنه‪[:‬من أصبح جنبا فال صيام‬
‫له][أخرجه البخاري]‪.‬‬
‫ب ـ و قدّموا حديث عائشة و أم سلمة رضي هللا عنهما الذي يفيد‪[:‬وجوب الغسل من التقاء‬
‫الختانين من غير إنزال][أخرجه البخاري] على حديث أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه‪[:‬إنّما‬
‫الماء من الماء][أخرجه مسلم] ّ‬
‫ألن زوجات النبي ﷺ أعلم بهذه األمور‪.‬‬
‫*خالصة الكالم و حوصلته في هذه المسألة‪:‬‬
‫هذا و بعد استعراض أقوال و أدلة األصوليين في ترتيب طرق دفع التعارض‪ ،‬فمن الفائدة‬
‫اإلشارة إلى ّ‬
‫أن بعض المعاصرين‪ ،‬و منهم الدكتور عبد المجيد السوسوة في كتابه[منهج التوفيق‬
‫و الترجيح بين مختلف الحديث]‪ ،‬و الدكتور خالد عبيدات في كتابه[المناهج األصولية في مسالك‬
‫الترجيح بين النصوص الشرعية] اختارا ترتيبا آخر مغايرا و هو‪:‬‬
‫‪1‬ـ النسخ‪ 2 /‬ـ الجمع‪ 3 /‬ـ الترجيح‪ ،‬و استبعاد المسلك الرابع و هو ما اختلف فيه بين من‬
‫قال بالتوقّف أو التخيير أو التساقط باعتباره مسلكا نظريّا و ليس عمليّا‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك بيّنا سبب اختيار هذا الترتيب‪ ،‬و هي‪:‬‬
‫*إذا ثبت نسخ الدليل بنص شرعي‪ ،‬فيكون منتهي الحجية‪ ،‬و لم يعد صالحا لمعارضة‬
‫الدليل الناسخ‪ّ ،‬‬
‫ألن في إعمال الدليلين النا سخ مع المنسوخ معا نكون قد أعطينا الحجية لحديث‬
‫انتهت حجيته بكونه منسوخا‪.‬‬
‫*تقديم الجمع على الترجيح ألنّه بالجمع يعمل بالدليلين‪ ،‬و إعمال الدليلين أولى من إهمال‬
‫أحدهما‪ ،‬و أ ّما الترجيح بين األدلة فال يعمل إال بالراجح‪.‬‬
‫*و أ ّما تقديم الحنفية الترجيح على الجمع فهي موضع نقد و اعتراض من وجهين‪:‬‬
‫ـ ادّعاء اإلجماع على تقديم الترجيح على الجمع غير صحيح‪ ،‬إذ الحنفية أنفسهم غير‬
‫مجمعين على ذلك ّ‬
‫ألن عبد العزيز البخاري يخالفهم في ذلك و يوافق الجمهور في تقديم الجمع‬
‫على الترجيح‪.‬‬
‫ـ و كذلك جمهور األصوليين يرون تقديم الجمع على الترجيح‪ ،‬و عليه فال يعدّ رأي أكثرية‬
‫الحنفية إجماعا‪.‬‬
‫*يعمل بالترجيح إن تعذّر الجمع بين األدلة‪ ،‬و هذا ما فعله الصحابة رضي هللا عنهم فقد‬
‫ر ّجحوا أخبار أ ّمهات المؤمنين على غيرهن عندما تعذّر العمل باألدلة معا‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫*إلغاء القول بالتخيير أو التوقّف أو التساقط‪ ،‬إذ للترجيح وجوه كثيرة ال تبقي مجاال للجوء‬
‫إلى إسقاط الدليلين أو التوقّف عنها أو التخيير بينها‪ ،‬و ّ‬
‫أن القول بتساقطها أو التخيير بينها ما هو‬
‫إال كالم نظري ليس له أي أثر عملي‪.‬‬
‫أن قول العلماء بالتوقّف إن تعذّر الترجيح‬
‫ـ و لذلك يرى إمام الحرمين الجويني في برهانه‪ّ :‬‬
‫إنّما هو مجرد افتراض ال يمكن حدوثه‪.‬‬
‫ـ و يقول الشاطبي في موافقاته‪[ :‬ال يوجد دليالن تعارضا بحيث أجمع المسلمون على‬
‫التوقّف فيهما]‪.‬‬
‫[لالستزادة الرجوع إلى ‪:‬منهج التوفيق و الترجيح بين مختلف الحديث و أثره في الفقه‬
‫اإلسالمي للدكتور عبد المجيد السوسوة‪ ،‬و المناهج األصولية في مسالك الترجيح بين‬
‫النصوص الشرعية للدكتور خالد عبيدات‪ ،‬منهج اإلمام الطحاوي في دفع التعارض بين‬
‫النصوص الشرعية من خالل كتابه[شرح مشكل اآلثار]لألستاذ حسن بخاري]‪.‬‬

‫‪8‬‬

You might also like