You are on page 1of 20

‫اإلجماع السكوتي‪:‬‬

‫إذا قال بعض الصحابة قوال فانتشر في بقية الصحابة فسكتوا‪:‬‬


‫فإن لم يكن قوال في تكليف فليس بإجماع‪،‬‬
‫وإن كان في تكليف فعن أحمد ‪-‬رحمه هللا‪ -‬ما يدل على أنه إجماع‪ ،‬وبه قال أكثر‬
‫الشافعية‪.‬‬

‫هذه المسألة فيها مذاهب ‪ ،‬وقبل ذكرها البد من تحرير موطن الخالف‪ ،‬فإن قال‬
‫الصحابي قوال لم يكن فيه أي تكليف بل هو خبر عادي فال يكون فيه إجماع‪.‬‬
‫أما إن كان في قوله تكليف وانتشر من غير نكير وال إقرارفإن هذا الذي فيه‬
‫الخالف‪.‬‬
‫فالمذهب األول‪:‬أنه يعتبر إجماعا ويكون حجة‪ ،‬وهو اختيار أكثر العلماء‬
‫واألصوليين‪.‬‬
‫وقال بعضهم يكون حجة وال يكون إجماعا‪.‬‬
‫وقال جماعة آخرون ال يكون حجة وال إجماعا‪،‬‬
‫وال ننسب إلى ساكت قوال إال أن تدل قرائن األحوال على أنهم سكتوا مضمرين‬
‫للرضا وتجويز األخذ به‪.‬‬

‫المذهب الثاني‪ :‬اليكون إجماعا إنما هو حجة يعمل به‪ ،‬وهو قول بعض‬
‫المعتزلة‪.‬‬
‫المذهب الثالث‪:‬ال يكون إجماعا وال حجة‪ ،‬فال ينسب للساكت قول المعلن‪ ،‬نسب‬
‫هذا المذهب لإلمام الشافعي وهو اختيار كثير من الشافعية والظاهرية‪.‬‬
‫وأصحاب هذا المذهب استدلوا بأن السكوت له احتماالت سبعة غير الرضا‪،‬‬
‫وهي‪:‬‬
‫وقد يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن يكون لمانع في باطنه ال يطلع عليه‪.‬‬


‫الثاني‪ :‬أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن ال يرى اإلنكار في المجتهدات ويرى ذلك القول سائغا‬
‫لمن أداه اجتهاده إليه وإن لم يكن هو موافقا‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن ال يرى البدار في اإلنكار مصلحة لعارض من‬
‫العوارض ينتظر زواله فيموت قبل زواله أو يشتغل عنه‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه وناله ذل وهوان‪ ،‬كما قال‬
‫ابن عباس ‪‬حين سكت عن القول بالعول في زمن عمر ‪” :‬كان‬
‫رجال مهيبا فهبته“‬
‫السادس‪ :‬أن يسكت ألنه متوقف في المسألة لكونه في مهلة النظر‪.‬‬
‫السابع‪ :‬أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه اإلنكار وأغناه عن‬
‫اإلظهار؛ ألنه فرض كفاية‪ ،‬ويكون قد غلط فيه وأخطأ في وهمه‪.‬‬
‫ولنا أن حال الساكت ال يخلو من سبعة أقسام‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن يكون لم ينظر في المسألة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن ينظر فيها فال يتبين له الحكم‪.‬‬

‫استدل أصحاب المذهب األول القائلون بأن قول المجتهد قوال ومن ثم‬
‫سكوت الباقين‪ ،‬أنه يعد إجماعا وحجة‪ -‬استدلوا بأدلة‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬أن الساكت اليخلو حاله من سبعة أحوال‪:‬‬
‫‪ - 1‬أنه لم ينظر في المسألة‪.‬‬
‫‪ -2‬أنه نظر ولم يتبين له حكم‪.‬‬
‫وكالهما خالف الظاهر؛ ألن الدواعي متوفره واألدلة ظاهرة‪ ،‬وترك‬
‫النظر خالف عادة العلماء عند النازلة‪ ،‬ثم يفضي ذلك إلى خلو‬
‫األرض عن قائم هلل بحجته‪.‬‬
‫أن عدم االجتهاد مخالف لعادة العلماء عند وقوع الحوادث‬
‫والنوازل‪ ،‬كما أن عدم اجتهاده يؤدي إلى خلو العصر عن قائم هلل‬
‫بحجته‪.‬‬
‫كما أن عدم وصول المجتهد إلى رأي في المسألة بعيد مع‬
‫توفرالدواعي لالجتهاد وظهور الدالئل‪ ،‬فما من حكم إال وهلل عليه‬
‫دالئل وأمارات‪ ،‬والظاهر ممن له أهلية االجتهاد الظفر بها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يسكت تقية‪ ،‬فال بد أن يظهر سببها‪ ،‬ثم يظهر قوله عند‬
‫ثقاته وخاصته فال يلبث القول أن ينتشر‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن يكون سكوته لعارض لم يظهر‪ ،‬وهو خالف الظاهر‪ ،‬ثم‬
‫يفضي إلى خلو العصر عن قائم هلل بحجته‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب‪،‬‬

‫أن المجتهد الساكت اجتهد ووصل إلى حكم مخالف للمجتهد الذي‬
‫أعلن رأيه ولكنه لم يظهر رأيه اعتقادا منه أن كل مجتهد‬
‫مصيب‪ ،‬فهو اليرى اإلنكار في المجتهدات فرضا‪ ،‬بل اليرى‬
‫الجواب إال فرض كفاية‪ ،‬فإذا اجتهد واحد يكتفى به وإن كان‬
‫مخالفا الجتهاده‪.‬‬
‫وهذا ال يسلم من وجهين‪:‬‬
‫وليس ذلك قوال ألحد من الصحابة‪ ،‬ولهذا عاب بعضهم على بعض‬
‫وأنكر بعضهم على بعض مسائل انتحلوها‪.‬‬
‫ثم العادة أن من ينتحل مذهبا يناظر عليه ويدعو إليه كما نشاهد في‬
‫زمننا‪.‬‬

‫‪-‬أن هذا القول والفعل لم ينقل إلينا عن أحد من الصحابة‪ ،‬فقد عاب‬
‫بعضهم بعضا وتناظروا وتجادلوا لتحقيق الحق ولم يلزموا الصمت‬
‫فيما اختلفوا فيه بل بينوا رأيهم دون إلزام‪.‬‬
‫‪ -‬أن من عادة من يعتقد أن كل مجتهد مصيب أن ينتحل مذهبا فيخالف‬
‫غيره ويناظر عليه‪ ،‬فكيف بعد هذا يدعى أن المجتهد قد يسكت‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أن ال يرى اإلنكار في المجتهدات‪ ،‬وهو بعيد لما ذكرناه‪.‬‬
‫فثبت أن سكوته كان لموافقته‪.‬‬
‫ومن وجه آخر فإن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة فنقل إليهم‬
‫قول صحابي منتشر وسكوت الباقين كانوا ال يجوزون العدول عنه‬
‫فهو إجماع منهم على كونه حجة‪.‬‬
‫ومن وجه آخر أنه لو لم يكن هذا إجماعا لتعذر وجود اإلجماع؛ إذ لم‬
‫ينقل إلينا في مسألة قول كل علماء العصر مصرحا به‪.‬‬
‫هل ينعقد اإلجماع عن قياس واجتهاد‪:‬‬

‫يجوز أن ينعقد اإلجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة‪.‬‬

‫اتفق كل من يعتد بقوله من العلماء على أنه الينعقد اإلجماع إال عن‬
‫مستند ودليل ومأخذ يوجب ذلك اإلجماع‪.‬‬
‫لكنهم اختلفوا في جواز انعقاد اإلجماع الذي دليله ومستنده اجتهاد‬
‫أوقياس على مذاهب‪:‬‬
‫المذهب األول‪ :‬أنه يجوز ‪ ،‬وهو متصور‪ ،‬ذهب إليه جمهور العلماء‬
‫من الفقهاء واألصوليين‪.‬‬
‫وقال قوم اليتصور ذلك إذ كيف يتصور اتفاق األمة مع اختالف طبائعها‬
‫وتفاوت أفهامها على مظنون؟‬
‫أم كيف تجتمع على قياس مع اختالفهم في القياس؟‬

‫المذهب الثاني‪:‬أنه غير متصور وهو مذهب أهل الظاهر‪،‬‬


‫واستدلوا بدليلين‪:‬‬
‫‪-‬أن االجتهاد والقياس أمر ظني‪ ،‬وطبائع الناس وأذهانهم مختلفة ومتفاوتة‪،‬‬
‫فيكون مستحيال اتفاقهم على حكم مسألة ما‪ ،‬فلذلك هو غير متصور‪.‬‬
‫‪-‬الدليل الثاني على عدم تصور انعقاد اإلجماع عن إجماع وقياس أن بعض‬
‫األمة ينكر القياس‪ ،‬وما من عصر إال ويوجد نفاة للقياس فهذا يمنع‬
‫انعقاد اإلجماع مستندا إلى القياس‪.‬‬
‫وقال آخرون هو متصور وليس بحجة‪.‬‬
‫ولنا‪ :‬أن هذا إنما يستنكر فيما يتساوى فيه االحتمال‪،‬‬
‫أما الظن األغلب فيميل إليه كل واحد‪،‬‬
‫فأي ُبْع ٍد في أن يتفقوا على أن النبيذ في معنى الخمر في التحريم؛ لكونه في معناه في‬
‫اإلسكار ‪.‬‬

‫المذهب الثالث‪:‬أنه متصور وليس بحجة‪ ،‬أي أنه ال تحرم مخالفة ذلك اإلجماع المنعقد‬
‫عن اجتهاد وقياس‪.‬ولم ينسب هذا المذهب ألحد‪.‬‬
‫واستدل أصحاب المذهب األول ‪ -‬وهو أيضا رد على أصحاب المذهب الثاني‪ -‬بأن‬
‫اتفاقهم على حكم ظني يستنكر إذا تساوت احتماالت الظن‪ ،‬إما إن كان هناك ظن‬
‫غالب فال يبعد اتفاق العقالء عليه ‪ ،‬فال يبعد أن يتفقوا مثال على أن النبيذ في معنى‬
‫الخمر فيكون حكمهما واحدا وهو التحريم ألنهما اتفقا في العلة وهي اإلسكار وهذا‬
‫متصور فأي بعد فيه‪.‬‬
‫وأما منع تصوره بناء على الخالف في القياس‪ ،‬فإنا نفرض ذلك في‬
‫الصحابة وهم متفقون عليه والخالف حدث بعدهم ‪.‬‬
‫وإن فرض ذلك بعد حدوث الخالف‪ ،‬فيستند أهل القياس إليه واآلخرون‬
‫إلى اجتهاد في مظنون ليس بقياس وهو في الحقيقة قياس‪.‬‬
‫وإذا ثبت تصوره فيكون حجة لما سبق من األدلة على اإلجماع‪.‬‬
‫أما احتجاجهم بأن القياس غير متفق عليه‪ :‬فإما أن يكون في عهد‬
‫الصحابة وهم متفقون على قبول القياس فلم ينقل عن أحد منهم‬
‫إنكاره‪.‬‬
‫وإما أن يكون بعد عهد الصحابة فالقائلون بالقياس يستندون في اإلجماع‬
‫إليه‪ ،‬أما المخالفون في حجية القياس فإنهم يستندون في إجماعهم إلى‬
‫اجتهاد آخر ظنوا أنه ليس بقياس وهو قياس في الحقيقة‪.‬‬
‫أقسام اإلجماع‪:‬‬

‫اإلجماع ينقسم إلى‪:‬‬


‫مقطوع ومظنون‬
‫فالمقطوع‪ :‬ما وجد فيه االتفاق‪ ،‬ونقله أهل التواتر‪.‬‬

‫هو ماحصل فيه قيدين‪:‬‬


‫‪-‬االتفاق من المجتهدين بأن صرحوا جميعا قوال أو فعال بذات الحكم‬
‫لمسألة ما‪.‬‬
‫‪-‬النقل المتواتر لهذا االجماع‪.‬‬
‫والمظنون‪ :‬ما تخلف فيه أحد القيدين؛‬
‫‪-‬بأن يوجد مع االختالف فيه‪ ،‬كاالتفاق في بعض العصر‪ ،‬وإجماع التابعين‬
‫على أحد قولي الصحابة‪ ،‬أو يوجد القول من البعض والسكوت من الباقين‪،‬‬
‫‪-‬أو توجد شروطه لكن ينقله آحاد‪.‬‬

‫المظنون هو ما اختل فيه أحد القيدين السابقين كأن‪:‬‬


‫‪ ‬يوجد االجماع مع تخلف شرط من شروطه مثل‪:‬‬
‫‪ -‬أن يوجد االتفاق في بعض العصر ولم ينقرض حتى خولف‪.‬‬
‫‪-‬أن يختلف في مسألة معينة على قولين فيجمع التابعين على أحدهما‪.‬‬
‫‪ -‬ومثل االجماع السكوتي‪.‬‬
‫‪ ‬أن ينقل عن طريق اآلحاد‪.‬‬
‫هل يثبت االجماع بخبر الواحد‪:‬‬
‫ذهب قوم إلى أن اإلجماع ال يثبت بخبر الواحد؛‬
‫ألن اإلجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة‪،‬‬
‫وخبر الواحد ال يقطع به‪،‬فكيف يثبت به المقطوع ؟‬

‫اختلف في ذلك على مذهبين‪:‬‬


‫المذهب األول‪ :‬يثبت اإلجماع بخبر الواحد‪ ،‬وهو مذهب الحنابلة وأكثر‬
‫العلماء‪.‬وسيأتي دليلهم على ذلك‪.‬‬
‫المذهب الثاني‪:‬ال يثبت اإلجماع بخبر الواحد‪ ،‬وهو مذهب بعض الحنفية‬
‫وبعض الشافعية‪.‬‬
‫واستدلوا على ذلك بأن اإلجماع دليل قطعي‪ ،‬والقطعي يقدم في االستدالل بل قد‬
‫يقدم على الكتاب والسنة‪ ،‬وخبر الواحد يفيد الظن فكيف يثبت به المقطوع ‪.‬‬
‫وليس ذلك بصحيح؛‬
‫فإن الظن متبع في الشرعيات‪،‬‬
‫واإلجماع المنقول بطريق اآلحاد يغلب على الظن‪،‬‬
‫فيكون ذلك دليال كالنص المنقول بطريق اآلحاد‪.‬‬

‫رد القائلون بثبوت اإلجماع بطريق اآلحاد على استدالل المانعين ثبوته‬
‫بأن هذا ليس بصحيح‪ ،‬فاإلجماع مسألة شرعية طريقها طريق بقية‬
‫الفروع التي يكفي في ثبوتها الظن‪.‬‬
‫واإلجماع حجةونقل إلينا بطريق اآلحاد وغلب على الظن حصوله فيكون‬
‫ذلك دليال ُيوجب العمل به مثل النص المنقول بطريق اآلحاد غلبة‬
‫الظن توجب العمل به‪.‬‬
‫وقولهم‪ :‬هو دليل‪ ،‬قلنا ‪:‬قول النبي ‪ ‬أيضا دليل قاطع في حق من‬
‫شافهه أو بلغه بالتواتر‪،‬‬
‫وإذا نقله اآلحاد كان مظنونا وهو حجة‪،‬‬
‫فاإلجماع كذلك‪ ،‬بل هو أولى؛ فإنه أقوى من النص؛ لتطرق النسخ‬
‫إلى النص وسالمة اإلجماع منه؛‬
‫فإن النسخ إنما يكون بنص‪،‬واإلجماع ال يكون إال بعد انقراض‬
‫زمن النص‪.‬‬
‫األخذ بأقل ما قيل هل هو تمسك باإلجماع‪:‬‬

‫األخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا باإلجماع‪ ،‬نحو اختالف الناس في دية‬
‫الكتابي فقيل‪:‬‬
‫دية المسلم‬
‫وقيل النصف‬
‫وقيل الثلث‬
‫فالقائل أنها الثلث ليس هو متمسكا باإلجماع؛‬
‫‪-‬ألن وجوب الثلث متفق عليه‪ ،‬وإنما الخالف في سقوط الزيادة وهو‬
‫مختلف فيه فكيف يكون إجماعا؟ ‪-‬ولو كان إجماعا كان مخالفه‬
‫خارقا لإلجماع وهذا ظاهر الفساد وهللا أعلم‪.‬‬

You might also like