You are on page 1of 15

‫تقرير مباحثة الكالم‪ :‬تدريس األستاذ الشيخ حسين البهادلي (دامت بركاته)‪ ............

‬الدرس ‪ :12‬يوم األربعاء‪ 23 :‬ربيع الثاني ‪ 1445‬هـ‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫الحمد هلل رب العالمين وصلى هللا على محمد وآله الطيبين الطاهرين‬

‫أقسام الشك‬
‫نذكر هنا بعض التساؤالت لكي تكون مدخال للبحث‪ ،‬فنتساءل‪ :‬ما هي أقسام‬
‫الشك؟ وما هي أمثلتها؟ وكيف نفرق بين الشك واالنكار وبين الشك واالعتقاد؟‬
‫قسم الشك إلى قسمين‪( :‬شك حقيقي – شك منهجي)‬
‫والشك الحقيقي قسم إلى قسمين‪( :‬شك مطلق – شك معتدل)‬
‫والمراد من الشك الحقيقي بقسميه‪ :‬هو ما كان الشك فيه غاية‪ ،‬أي ما كان‬
‫صاحبه يبدأ شاكا وينتهي شاكا‪ ،‬وهذا الشك يتفاوت من جهة درجته‪ ،‬ومن هذه‬
‫الجهة قسم الشك الحقيقي إلى شك مطلق وشك معتدل‪.‬‬
‫وبيان ذلك‪ :‬تارة يشك في كل شيء‪ ،‬يشك في وجود األشياء خارجا‪ ،‬فال يدري هل‬
‫هناك واقع أم ال؟ ويشك في معرفة هذا الواقع‪ ،‬وليس لديه معيار لتمييز الحق من‬
‫الباطل‪ ،‬أي أنه شاك في المعرفة‪ ،‬وشاك في متعلق المعرفة‪.‬‬
‫وتارة‪ :‬يعترف بوجود واقع‪ ،‬ويعترف أننا يمكن أن ندرك ذلك الواقع‪ ،‬لكنه يشك في‬
‫إمكان تحصيل اليقين بذلك الواقع‪ ،‬ويشك في إمكان أن نتعرف على األشياء‬
‫بحقائقها أم نتعرف عليها بظواهرها‪ ،‬فأقصى ما يحصل لديه المعرفة االحتمالية أو‬
‫المعرفة الظنية‪ ،‬وهذا الشك يسمى شكا معتدال‪.‬‬
‫فالشك عند األول هو شك في كل شيء‪ ،‬بينما الشك عند الثاني هو شك في الحقائق‬
‫اليقينية دون الحقائق غير اليقينية‪.‬‬
‫يطلق أحيانا على المقسم (الشك الحقيقي) يطلق عليه الشك المطلق‪ ،‬وهذا من باب‬
‫تسمية الكل باسم الجزء‪ ،‬ال أن الشك الحقيقي ينحصر في مصداق واحد‪ ،‬بل له‬
‫مصداقان‪ ،‬فالشاك الحقيقي بكال مصداقيه ال يصل إلى اليقين‪ ،‬أما األول (الشك‬
‫المطلق) فألنه ينكر كل شيء‪ ،‬وأما الثاني (الشك المحتمل) فإنه اقصى ما لديه هي‬
‫معرفة احتمالية فكالهما لن يبلغا درجة اليقين‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫وقلنا‪ :‬أن الشكين من (المطلق والمعتدل) بينهما جهة اشتراك‪ ،‬وعندما صنفنا‬
‫الشكين فبلحاظ جهة االشتراك‪ ،‬وهي أن الشك في كليهما ال يوصل إلى اليقين‪.‬‬
‫وأما الشك المنهجي‪ :‬فهو كل شك ينتهي إلى المعرفة اليقينية‪ ،‬ومثل هذا الشك‬
‫يسمى شكا موضوعيا أو يسمى شكا علميا‪.‬‬

‫أمثلة للشك بأقسامه الثالثة‬

‫سنذكر بعض األمثلة الواقعية للشك‪:‬‬


‫القسم األول (الشك المطلق)‪ :‬سيأتي في كالمنا عن المذهب السفسطائي يتبين أنهم‬
‫ليسوا على درجة واحدة‪ ،‬بل يوجد تفاوت فيما بينهم‪:‬‬
‫‪ .1‬بعضهم أنكر وجود الواقع فقال‪( :‬كلما هو حاصل عندنا من المعارف إنما‬
‫هو صور وأوهام وخياالت)‪ ،‬فليس تلك الصور حاكية عن واقع خارجي‪،‬‬
‫وهذا النحو هو المنكر‪.‬‬
‫‪ .2‬وبعضهم يعترف بوجود الواقع‪ ،‬لكنه أنكر القدرة على ادراكه‪.‬‬
‫‪ .3‬وبعضهم يشك في الواقع ويشك في معرفة الواقع‪ ،‬وهذا يسمى الشك‬
‫المطلق‪.‬‬
‫‪ .4‬وبعضهم يعترف بوجود الواقع ويشك في حصول تلك المعرفة‪.‬‬
‫القسم الثاني (الشك المعتدل)‪ :‬فهو عند الواقعيين وخصوصا الواقعي المادي‪ ،‬فهو‬
‫يعترف بوجود الواقع‪ ،‬ولكنه ينكر الوصول إلى المعرفة اليقينية‪ ،‬وغاية ما يحصل‬
‫عنده إما مجرد االحتمال‪ ،‬وإما المعرفة الظنية‪.‬‬
‫القسم الثالث (الشك المنهجي)‪ :‬فهو الذي يشك‪ ،‬ال ألجل الشك‪ ،‬بل ألجل‬
‫الوصول إلى المعرفة اليقينية‪.‬‬
‫ومثاله‪ :‬لو عرضت على الطبيب حالة‪ ،‬وشك في المرض‪ ،‬فإنه يكتب للمريض عدة‬
‫فحوصات حتى يتيقن من معرفة المرض؛ كي يضع له العالج‪ ،‬وهذا الشك يسمى‬
‫الشك المنهجي؛ ألن الشاك هنا ال يريد الشك لمجرد الشك فقط‪ ،‬بل يريد الوصول‬
‫من الشك إلى اليقين‪.‬‬
‫• وكذا في إشكاالت ابن قبة‪ ،‬عندما شكك في جدوى الحكم الظاهري على‬
‫إمكان الحصول على الحكم الواقعي‪ ،‬فتشكيكه لغرض الوصول إلى جواب‬
‫يقيني‪ ،‬ال لغرض نفس الشك‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫• وكذا في االستدالالت العلمية‪ ،‬عندما يشكل الفقهاء في طريقة االستدالل‬
‫على مبنائية معينة‪ ،‬إنما تشكيكهم لغرض الوصول إلى المعرفة اليقينية‪.‬‬
‫• وكذا في تشكيك الحر الرياحي رضوان هللا عليه‪ ،‬عندما شك فشكه لغرض‬
‫الوصول إلى اليقين‪ ،‬فلذلك أوصله شكه إلى اليقين‪ ،‬ولوال شكه لما وصل‬
‫إليه وصار في جبهة األمام الحسين (عليه السالم)‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل يقول ارسطو‪( :‬إذا أردت المعرفة الصحيحة فعليك أن تشك)‪ ،‬فإنك‬
‫قد تصل إلى المعرفة الصحيحة من دون شك‪ ،‬لكن المعرفة المبتنية على الشك هي‬
‫أرقى درجات المعرفة‪ ،‬ولهذا يقول البعض أنك إذا أردت أن تبني بيتا فال يكون‬
‫البناء على أنقاض البيت السابق‪ ،‬بل عليك أن ترفع األنقاض ثم تبني‪.‬‬
‫فكذا في الشك المنهجي‪ ،‬إذا اردت ان يكون شكك شكا منهجيا فعليك أن تجرد‬
‫ذهنك من جميع القناعات والمغالطات‪ ،‬وتفرغ ذهنك وتشك في المعارف‪ ،‬وال‬
‫تحكم عليها حكما مسبقا مركوز في ذهنك‪ ،‬فسينتهي بك الشك إلى المعرفة اليقينية‪.‬‬

‫ووجه هذه التسميات الثالث‬

‫‪ -1‬الشك المنهجي‪ :‬ألنه شك يقتدى به ويتبع كمنهج للوصول إلى اليقين‪.‬‬


‫‪ -2‬الشك الموضوعي‪ :‬والموضوعية هنا نظير القطع الموضوعي الذي ينشأ من‬
‫مناشئ توجب القطع لدى العقالء‪ ،‬وهو في قبال القطع الذاتي‪ ،‬فكذا هذا الشك‬
‫فحينما سميناه شكا موضوعيا فألنه ينتهي بالعقالء إلى المعرفة اليقينية‪.‬‬
‫‪ -3‬الشك العلمي‪ :‬من خالل كالم أرسطو (إذا اردت المعرفة في اعلى درجاتها‬
‫فعليك أن تسبق المعرفة بالشك)‪ ،‬وهذا يوضح أن فلسفة عدم جواز التقليد في‬
‫األصول‪ ،‬بينما جوزوا التقليد في الفروع‪ ،‬ألنه في الفروع يجوز أن تبني قناعاتك‬
‫على قناعات غيرك‪ ،‬وتعتمد على قناعات توصل اليها غيرك‪ ،‬بينما قالوا بعدم‬
‫جواز التقليد في األصول؛ ألننا نشترط في األصول أن تكون المعرفة يقينية‪ ،‬وأن‬
‫تكون قناعتك فيها قناعة يقينية خالصة‪ ،‬ال عن تقليد‪.‬‬
‫بقيت هنا عدة تساؤالت ينبغي الجواب عنها وهي‪:‬‬
‫‪ .1‬ما هو فرق اإلنكار عن الشك؟‬
‫‪ .2‬ما هو طبيعة الشك المأخوذ في القرآن الكريم؟‬
‫اما جواب السؤال األول وهو الفرق بين اإلنكار والشك فنقول‪ :‬يوجد في اإلنكار‬
‫حكمان‪:‬‬

‫‪42‬‬
‫• عندما أنكر البعض حركة األرض‪ ،‬فهو يعترف بكونها ساكنة‪ ،‬فلديه حكم‬
‫سلبي (عدم الحركة)‪ ،‬وحكم ايجابي (السكون)‪ ،‬بينما المعتقد بالحركة‬
‫فبالعكس‪ ،‬لديه حكم سلبي (إنكار السكون)‪ ،‬ولديه حكم ايجابي (الحركة)‪،‬‬
‫بينما الشاك فليس لديه هذا الحكمان‪ ،‬فال يحكم بالحركة وال يحكم بسكونها‪.‬‬

‫والحمد هلل رب العالمين وصلى هللا على محم ٍد وآله الطيبين الطاهرين‪.‬‬

‫• بعض المصادر للمراجعة واالطالع‪:‬‬


‫‪ .1‬أصول الفلسفة والمنهج الواقعي‪ ،‬للسيد الطباطبائي‪ :‬ج‪ /1‬ص‪.226‬‬
‫‪ .2‬نظرية المعرفة في القرآن‪ ،‬للشيخ جوادي آملي‪ :‬ص‪.100‬‬
‫‪ .3‬نظرية المعرفة‪ ،‬للشيخ حسن محمد مكي العاملي‪ :‬ص‪.103‬‬

‫‪43‬‬
‫تقرير مباحثة الكالم‪ :‬تدريس األستاذ الشيخ حسين البهادلي (دامت بركاته)‪ ............‬الدرس ‪ :13‬يوم السبت‪ 26 :‬ربيع الثاني ‪ 1445‬هـ‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫الحمد هلل رب العالمين وصلى هللا على محمد وآله الطيبين الطاهرين‬

‫قد يقال‪ :‬إننا فرقنا بين اإلنكار والشك من جهة‪ ،‬وبين االعتقاد والشك من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬وقلنا‪ :‬يوجد في اإلنكار حكمان‪ ،‬ويوجد في االعتقاد حكمان‪ ،‬مع أن اإلنكار‬
‫ليس فيه إال حكم واحد‪ ،‬وهذا يستتبع حكما آخر‪ ،‬وهكذا في االعتقاد فعندما ننكر‬
‫كروية األرض فنحن نقر بعدم كرويتها‪ ،‬وعندما ننكر حركة األرض فهذا يعني أننا‬
‫نؤمن بسكونها‪ ،‬فال يوجد في اإلنكار واالعتقاد إال حكم واحد‪ ،‬وهذا الحكم الواحد‬
‫له الزم وحكم آخر‪.‬‬
‫فإنه يقال‪ :‬تارة تكون العالقة بين الحكمين هي عالقة النقيضين‪ ،‬وتارة تكون‬
‫العالقة هي عالقة الضدين الذين ال ثالث لهما‪ ،‬وتارة تكون عالقة الضدين الذين‬
‫لهما ثالث‪ ،‬وتارة تكون العالقة هي عالقة االختالف كالملكة والعدم‪ ،‬وكالم‬
‫المستشكل يأتي لو كنا نتحدث عن النقيضين‪ ،‬فإن نفي أحد النقيضين يستلزم ثبوت‬
‫النقيض اآلخر‪ ،‬وإال الرتفع النقيضان‪ ،‬وهكذا يأتي كالم المستشكل في الضدين‬
‫اللذين ال ثالث لهما كالليل والنهار‪ ،‬فإن نفي الليل يستدعي وجود النهار‪.‬‬
‫وأما لو كان من قبيل الضدين الذين لهما ثالث‪ ،‬فإن نفي أحد الضدين ال يستلزم‬
‫ثبوت الضد األخر‪ ،‬وكذلك ال يأتي في التقابل بنحو الملكة والعدم‪ ،‬فأن نفي الملكة‬
‫ال يستدعي ثبوت عدمها‪ ،‬وكذلك نفي البياض ال يستدعي ثبوت السواد‪ ،‬ولو وقفنا‬
‫على المنكر أو على المعتقد لوجدته يقر بحكم وينكر اآلخر في المعتقد‪ ،‬أو ينكر‬
‫حكم ويعتقد في االخر في المنكر‪.‬‬
‫• بقيت ثالث نقاط من البحث السابق ينبغي الوقوف عليها حتى نستوعب‬
‫ونستكمل البحث السابق‪.‬‬
‫‪ .1‬عندما قلنا يوجد حكمان‪ ،‬فال نقصد بأنهما بنحو الداللة المطابقية‪ ،‬بل نقصد‬
‫االعم‪ ،‬أي ولو كان أحدهما مستفادا من اللزوم‪ ،‬سواءا كان لزوما بينا إن‬
‫كان الحديث عن الداللة اللفظية اإللتزامية‪ ،‬أو كان لزوما غير بين‪ ،‬أو بين‬
‫بالمعنى األعم إن كنا نتحدث عن الداللة العقلية‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫نعم‪ ،‬إن قلنا أن الشاك له حكم واحد بخالف المنكر والمعتقد لهما حكمان‪ ،‬فسيأتي‬
‫اإلشكال؛ ألن الشاك ليس له حكم؛ ألنه يتساوى عنده الطرفان‪ ،‬فهو ليس بمعتقد‪،‬‬
‫فال يمكن أن نقول‪ :‬إن للشاك حكما واحدا‪ ،‬بل ليس لديه أي حكم‪.‬‬
‫لكننا نقول‪ :‬أن المنكر له حكم سلبي يستلزم حكما إيجابيا‪ ،‬والمعتقد بالعكس‪ ،‬لديه‬
‫حكم إيجابي يستتبع حكما سلبيا‪ ،‬بينما الشاك ليس له حكم‪ ،‬فكيف تقولون أن لديه‬
‫حكما واحدا‪.‬‬
‫وجوابه‪ :‬لو وقفنا على معنى السلبية‪ ،‬فإن كانت السلبية هي ما يقابل االيجاب‪،‬‬
‫فيكون الشاك ليس لديه حكم‪ ،‬واما لو قلنا‪ :‬إنها تعم من ليس لديه حكم إيجابي ومن‬
‫ليس لديه حكم أصال‪ ،‬فسيقال أن للشاك حكما‪ ،‬وهو الحكم السلبي‪.‬‬
‫‪ .2‬في الشك المطلق يكون الشاك شكا مطلقا‪ ،‬لديه شك في الواقع‪ ،‬وشك في‬
‫المعرفة‪ ،‬بخالف الشك المعتدل‪ ،‬فإنه يعترف بوجود الواقع ويعترف بإمكان‬
‫المعرفة الظنية أو االحتمالية‪ ،‬لكنه ينكر المعرفة اليقينية‪ ،‬فإنه لو شك في‬
‫الواقع فإنه يلزم منه أن يكون شاكا في المعرفة‪.‬‬
‫فقد يقال‪ :‬أنه ال حاجة للقول ان الشاك شكا مطلقا لديه شكان‪( :‬شك في الواقع وشك‬
‫في المعرفة)‪ ،‬بل هو ليس لديه اال شك واحد وهو الشك في الواقع وهذا الشك في‬
‫الواقع يستلزم الشك في المعرفة‪.‬‬
‫يجاب عنه‪ :‬أننا عندما نقول لديه شكين ال نقصد أنهما في عرض واحد‪ ،‬بل االعم‬
‫من كونهما في عرض واحد وبين أن يكون بينهما طولية‪ ،‬بأن يكون أحدهما الزما‬
‫ومتفرعا عن الشك األول‪.‬‬

‫القرآن الكريم كثيرا ما ينقل مصطلح الشك كقوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﳩﳪﳫﳬﳭ‬

‫ﳮﳯﳰﱠ هود‪ ،٦2 :‬فهل يراد بهذا الشك القرآني هو الشك الحقيقي أم الشك‬
‫المنهجي؟ وعلى تقدير كونه شكا حقيقيا فهل المراد هو الشك المطلق أم الشك‬
‫المعتدل؟ أم أنه اصطالح قرآني ال هذا وال ذاك؟ وال حزازة في وجود اصطالح‬
‫قرآني غير االصطالح في علم نظرية المعرفة‪.‬‬
‫فلو تتبعنا اآليات القرآنية التي ذكرت الشك‪ ،‬فإننا سنجد أن الشاكين المذكورين في‬
‫القرآن لم يجعلوا شكهم طريقا للوصول إلى المعرفة اليقينية‪ ،‬وهذا الوصف القرآني‬
‫لهم بالشك ليس هو وصف مدح‪ ،‬بل يقينا هو وصف ذم‪ ،‬فشكهم ليس من قبيل الشك‬
‫المنهجي‪ ،‬فإما أن يكون شكا مطلقا‪ ،‬وإما أن يكون شكا معتدال‪ ،‬وإما أن يكون‬
‫اصطالحا قرآنيا خاصا بالشك‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫الشاكون المذكورون في القرآن الكريم يعترفون بالموجودات الخارجية‪ ،‬فهم‬
‫يعترفون بوجود الجبال والشجر والحجر وغيرها‪ ،‬لكنهم يشككون في دعوى‬
‫األنبياء‪ ،‬وينكرون ما جاء عنهم من الجنة والنار والمبدأ والمعاد‪ ،‬وحينئذ سيكون‬
‫شكهم ليس حقيقيا مطلقا؛ ألنهم ال ينكرون الواقع‪ ،‬بل يؤمنون به في الجملة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬هناك خالف في الواقع‪ ،‬هل يعم المادي وغير المادي‪ ،‬أم يختص بالواقع‬
‫المادي؟‬
‫وهم يؤمنون بهذا بالواقع‪ ،‬لكنهم ينكرون الواقع الغيبي‪ ،‬فشكهم ليس شكا مطلقا‪،‬‬
‫وكذلك ليس شكهم شكا معتدال؛ ألنهم يؤمنون بالمعارف اليقينية‪.‬‬
‫فالتجريبي يعترف بأن التجربة قد تقوده إلى اليقين‪ ،‬والحسي يؤمن بأن الحس قد‬
‫يقوده إلى اليقين‪ ،‬لكن ال بكل الواقع‪ ،‬بل بخصوص ما ادركته التجربة وما ادركته‬
‫الحواس‪ ،‬أي خصوص الواقع المادي‪.‬‬
‫فالشك المأخوذ في القرآن الكريم ليس بواحد من االقسام الثالثة‪( :‬الشك المطلق‬
‫والشك المنهجي والشك المعتدل)‪ ،‬بل المراد منه قرآنيا هو اإلنكار‪ ،‬لكنهم ال‬
‫يواجهون األنبياء ويقولون إننا ننكر ما تدعون إليه‪ ،‬بل يقولون كما جاء في لسان‬
‫القرآن الكريم‪ :‬ﱡﭐﲗﲘﲙﲚﲛﲜﲝﲞﱠ إبراهيم‪ ،٩ :‬فالشك المراد‬
‫عندهم ليس الشك المصطلح‪ ،‬بل المراد هو اإلنكار‪ ،‬فصار لدينا اصطالح قرآني‬
‫للشك يغاير أقسام الشك الثالثة‪.‬‬
‫قلنا سابقا‪ :‬إن أبحاث نظرية المعرفة خمسة وهي‪( :‬مبادئ المعرفة‪ ،‬مصادر‬
‫المعرفة‪ ،‬طبيعة المعرفة‪ ،‬قيمة المعرفة‪ ،‬إمكان المعرفة)‪.‬‬

‫اشارات هذه األحباث اخلمسة يف اآليات القرآنية الكرمية‪:‬‬


‫أول‪ :‬مبادئ المعرفة‪ :‬هي األصل اإلتكائي التي ترجع إليه بقية المعارف‪ ،‬والتي‬‫ً‬
‫ال تحتاج إلى معرفة أخرى‪ ،‬أي رجوع المعارف النظرية إلى معارف ضرورية‪،‬‬
‫وتوجد آيات قرآنية تشير إلى ذلك‪.‬‬
‫ﲪ ﲬﲭ‬ ‫منها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﲠﲡﲢﲣﲤﲥﲦﲧﲨﲩ ﲫ‬

‫ﳂ‬ ‫ﳁ‬ ‫ﲼ ﲾﲿﳀ‬


‫ﲽ‬ ‫ﲶ ﲸ ﲹﲺﲻ‬
‫ﲷ‬ ‫ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲﲳ ﲴﲵ‬

‫ﳉﳋ ﳌﳍﳎﳏ ﱠ الرعد‪1٧ :‬‬


‫ﳊ‬ ‫ﳃﳄ ﳅﳆﳇﳈ‬

‫وجه الستدلل باآلية الكريمة‪ :‬ذكرت اآلية الكريمة الماء والزبد كناية عن الحق‬
‫والباطل‪ ،‬كما أن الماء قد يختلط بالزبد‪ ،‬كذلك الحق قد يختلط ويشتبه‬
‫‪4٦‬‬
‫بالباطل‪ ،‬فليس الحق دائما بينا واضحا‪ ،‬وليس الباطل دائما بينا واضحا‪ ،‬كما روي‬
‫ش ْب َهة ش ْب َهة ِألَنَّ َها ت ْشبِه‬ ‫عن امير المؤمنين (عليه السالم) أنه قال‪" :‬إِنَّ َما س ِميَ ِ‬
‫ت ال ُّ‬
‫س ْمت ْالهدَى َو أ َ َّما أ َ ْعدَاء َّ ِ‬
‫َّللا‬ ‫ضيَاؤه ْم فِي َها ْاليَ ِقين َو دَ ِليله ْم َ‬ ‫ْال َح َّق فَأ َ َّما أ َ ْو ِليَاء َّ ِ‬
‫َّللا فَ ِ‬
‫عاؤه ْم فِي َها الض ََّالل َو دَ ِليلهم ْال َع َمى"(‪ ،)1‬فلو كان الحق والباطل بينين لما أحتيج‬ ‫فَد َ‬
‫إلى إرسال الرسل‪.‬‬

‫• والتميز بين الحق والباطل هو من خالل المعرفة‪ ،‬والمعرفة المميزة بين‬


‫الحق والباطل‪ ،‬إما أن تكون معرفة باطنية‪ ،‬و إما أن تكون معرفة‬
‫خارجية‪ ،‬والمعرفة الخارجية هي عن طريق األنبياء‪ ،‬وأما المعرفة‬
‫الباطنية فهي التي تكون عن طريق القضايا البديهية‪.‬‬

‫ﱡﭐﱲﱳﱴﱵﱶﱷ ﱠ الحجر‪٩٩ :‬‬ ‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪:‬‬


‫وجه الستدلل باآلية الكريمة‪ :‬أشارت اآلية الكريمة أن غاية العبادة هي حصول‬
‫اليقين؛ ألن (حتى) أداة للغاية‪ ،‬والمغيى هو حصول اليقين‪ ،‬والقران الكريم يشير‬
‫إلى هدفين‪ :‬هدف قريب‪ ،‬وهدف بعيد‪ ،‬الهدف القريب مذكور في قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﱣ‬
‫ﱤﱥﱦﱧﱨﱩﱠ الذاريات‪ ،5٦ :‬والهدف البعيد ذكر في اآلية السابقة‬
‫في قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﱲﱳﱴﱵﱶﱷ ﱠ الحجر‪ ،٩٩ :‬فالغاية السامية هي‬
‫العبادة والغاية األسمى هي الوصول إلى اليقين‪ ،‬والمعرفة اليقينية من مبادئ علم‬
‫نظرية المعرفة‪.‬‬
‫ل يقال‪ :‬إن المعرفة اليقينية هي هبة من هللا تعالى؛ ألن اآلية تقول (ﱴﱵ‬

‫ﱶ)‪ ،‬فاإلنسان ال يحصل بنفسه المعرفة بل توهب إليه‪.‬‬

‫فإنه يقال‪:‬‬
‫‪ .1‬ال نسلم أن اليقين يعطى‪ ،‬فإنه لو كان هبة لما جعل غاية للعبادة‪.‬‬
‫‪ .2‬ولو سلمنا بأن اليقين هبة‪ ،‬فإننا نقول‪ :‬إن العبادة جعلت طريقا لهذا اليقين‪،‬‬
‫والعبادة أمر من فعل اإلنسان‪.‬‬

‫(‪ (1‬نهج البالغة‪ :‬الخطبة ‪ ،38‬ص‪.81‬‬


‫‪4٧‬‬
‫ﳘﳚ ﳛﳜﳝ‬
‫ﳙ‬ ‫ومنها‪ :‬كقوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﳑﳒﳓﳔﳕﳖﳗ‬

‫ﳞﳟﳠﳡﳢﳣﳤﳥﳦﳧﳨﳩﳪ ﳫﱠ الطالق‪.12 :‬‬

‫وجه الستدلل‪ :‬إن خلق السماوات السبع واألرضين السبع هي لغرض وألجل‬
‫حصول العلم‪ ،‬فالغاية من خلق السماوات واألرض هو أن نعلم أن هللا تعالى على‬
‫كل شيء قدير‪.‬‬
‫• ومن خالل هذه اآليات نستكشف أنه البد من معرفة يقينية تنتهي إليها بقية‬
‫المعارف‪ ،‬سواء كانت هذه المعارف معطاة مباشرة عن طريق األنبياء‪،‬‬
‫أو معطاة بالواسطة‪ ،‬فاهلل تعالى أعطانا العقل‪ ،‬وببركة العقل صرنا نميز‬
‫بين الحق والباطل‪ ،‬بل سيأتي أن من أهم أبحاث علم نظرية المعرفة هو‬
‫المعيار لتمييز الحقائق من األوهام‪ ،‬فهذه اآليات القرآنية الكريمة تحدثت‬
‫عن مبادئ نظرية المعرفة‪.‬‬

‫والحمد هلل رب العالمين وصلى هللا على محم ٍد وآله الطيبين الطاهرين‪.‬‬

‫• بعض المصادر للمراجعة واالطالع‪:‬‬


‫‪ .1‬نظرية المعرفة في القرآن‪ ،‬للشيخ جوادي آملي‪ :‬ص‪.1‬‬
‫‪ .2‬المدخل إلى نظرية المعرفة‪ ،‬للشيخ غالم رضا فياضي‪ :‬ص‪.35‬‬

‫‪48‬‬
‫تقرير مباحثة الكالم‪ :‬تدريس األستاذ الشيخ حسين البهادلي (دامت بركاته)‪ ............‬الدرس ‪ :14‬يوم األحد‪ 27 :‬ربيع الثاني ‪ 1445‬هـ‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫الحمد هلل رب العالمين وصلى هللا على محمد وآله الطيبين الطاهرين‬

‫في اآليات المذكورة سابقا جعل القرآن الكريم الغاية القصوى للخلق هو الوصول‬
‫إلى اليقين من خالل اآلية الكريمة‪ :‬ﱡﭐﱲﱳﱴﱵﱶﱷ ﱠ الحجر‪٩٩ :‬‬

‫قد يقال‪ :‬إن الغاية القصوى للخلق هي العبادة‪ ،‬وليس اليقين‪ ،‬بقرينة االستثناء‬
‫بـ(إال) المسبوق بالنفي‪ ،‬الدالة على الحصر في قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﱣ ﱤﱥﱦ‬

‫ﱧﱨﱩﱠ الذاريات‪.5٦ :‬‬

‫فإنه يقال‪ :‬إنه من خالل الجمع بين اآليتين الكريمتين‪ ،‬نعلم أن الغاية من الخلق‬
‫هي العبادة‪ ،‬ولكن ليست بما هي عبادة‪ ،‬بل بما هي طريق إلى اليقين والمعرفة‪،‬‬
‫فتكون الغاية القصوى هي اليقين والمعرفة‪.‬‬
‫ول يقال‪ :‬ليس كل الشكوك القرآنية هي من قبيل اإلنكار‪ ،‬بل بعض الشكوك نسبت‬
‫إلى األنبياء‪ ،‬كقصة نبي هللا إبراهيم (عليه السالم) المذكورة في قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﱛ‬
‫ﱤﱦ ﱧﱨ ﱩﱪﱫ ﱬ ﱭﱮ ﱯ ﱰ ﱱ‬
‫ﱠ ﱢﱣ ﱥ‬
‫ﱡ‬ ‫ﱜﱝﱞﱟ‬
‫ﱳﱵﱶﱷﱸﱹﱺﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁﲂﲃﲄ‬
‫ﱲ ﱴ‬
‫ﲉﲋﲌﲍﲎﲏﲐﲑﲒﲓ ﱠ األنعام‪، ٧٦ :‬‬
‫ﲊ‬ ‫ﲅﲆﲇﲈ‬

‫ﱌﱎ ﱏ‬
‫ﱍ‬ ‫ﱈﱊ ﱋ‬
‫ﱉ‬ ‫وفي قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﱁﱂﱃﱄﱅﱆﱇ‬

‫ﱒﱔ ﱕﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱜﱝ ﱞﱟﱠ ﱡ ﱢ‬


‫ﱐﱑ ﱓ‬

‫ﱥﱧﱨﱩﱪﱫﱬ ﱠ البقرة‪.2٦0 :‬‬


‫ﱦ‬ ‫ﱣﱤ‬
‫فإنه يقال‪ :‬أن النبي إبراهيم (عليه السالم) لم يكن شاكا‪ ،‬بل قوله من باب (إياك‬
‫أعني واسمعي يا جارة)‪ ،‬فشكه هنا ليس من قبيل الشك المنهجي الذي يريد به‬
‫الوصول إلى اليقين‪ ،‬بل كان على يقين ودراية‪ ،‬وأراد تعليم اآلخرين وإلقاء الحجة‬
‫عليهم‪.‬‬

‫‪4٩‬‬
‫ثانيا‪ :‬ذكر مصادر المعرفة بحسب اآليات القرآنية‪.‬‬
‫في حديثنا عن طرق المعرفة‪ ،‬تارة نتحدث عن طرق المعرفة‪ ،‬وأخرى عن وسائل‬
‫وأدوات المعرفة‪ ،‬وقد أشارت اآليات القرآنية إلى ذلك في عدة آيات‪:‬‬
‫ﱡﭐﱜﱝﱞﱟﱠﱡﱢﱣﱤﱥ ﱦﱧﱨﱩﱠ الحج‪8 :‬‬ ‫منها‪ :‬قوله تعالى‪:‬‬
‫المراد من العلم في اآلية هو العقل‪ ،‬والمراد من الهدى هو الكشف‪ ،‬والمراد من‬
‫الكتاب المبين هو الوحي‪ ،‬فذكرت اآلية ثالثة من طرق المعرفة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﲱ ﲲﲳﲴﲵﲶﲷﲸﲹ ﲺ‬

‫ﲻ ﲼﲽﲾ ﲿﳀ ﱠ النحل‪.٧8 :‬‬

‫ﳍﳏﳐﳑ‬
‫ﳎ‬ ‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﳅﳆﳇﳈﳉﳊﳋ ﳌ‬
‫ﳒﱠ الملك‪.23 :‬‬

‫في هاتين اآليتين ذكر القرآن الكريم طريقين من طرق المعرفة‪( :‬الحس والعقل)‪،‬‬
‫وذكر هاتين األداتين من باب الطريقية‪ ،‬وليست لهما موضوعية‪ ،‬وكذلك َّ‬
‫ألن أغلب‬
‫المعارف تأتي لإلنسان من خالل السمع والبصر‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﲴﲵﲶﲷ ﲸﲹﲺﲻﲼﲽﲾ‬

‫ﳀﳂ ﳃﳄﳅﳆﳇﳈﳉﳊﳋﳌ ﱠ الحج‪.4٦ :‬‬


‫ﲿ ﳁ‬
‫وهنا أيضا ذكر الحس والعقل‪.‬‬
‫وعليه فمصادر المعرفة مذكورة في القرآن الكريم‪ ،‬سواء كانت طرقا أو أدواتا‪.‬‬
‫المدرك هل يتفاوت بحسب‬‫َ‬ ‫ثالثا‪ :‬طبيعة المعرفة‪ :‬قلنا في طبيعة المعرفة أن الواقع‬
‫المدرك‪ ،‬أم ال يختلف وإنما هو واحد؟ وهذا بحسب المنهج المتبع‪ ،‬فإن النسبيين ال‬
‫ِ‬
‫المدرك له‪ ،‬فكل له‬
‫ِ‬ ‫يعتقدون بوجود واقع واحد‪ ،‬بل الواقع عندهم يختلف باختالف‬
‫واقع بحسبه‪ ،‬بينما قال االلهيون بأن الواقع واحد‪ ،‬ال يختلف باختالف األشخاص‬
‫وال باختالف الظروف‪ ،‬وقد أشارت اآليات القرآنية لذلك في عدة موارد‬
‫ﳍﳏﳐﳑ‬
‫ﳎ‬ ‫منها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﳃﳄﳅﳆﳇﳈﳉﳊﳋﳌ‬
‫ﳒﳓ ﱠ يس‪40 :‬‬

‫‪50‬‬
‫وهذه الحركة الكونية (حركة الشمس والقمر) هي ثابتة ولم تتبدل أو تتغير‪ ،‬ولم‬
‫تتفاوت بتفاوت األزمنة واألمكنة واألشخاص‪ ،‬حتى نفس الماديين يقولون أن هناك‬
‫ثابتا كونيا‪ ،‬ولواله لما بقيت الموجودات‪ ،‬هذا من جهة أن الواقع واحد ال يتبدل وال‬
‫يتغير‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﲚﲛﲜﲝﲞ ﲟﲠﲡﲢﲣﲤﲥﲦ‬

‫ﲫﲭﲮﲯﲰﲱﱠ األعراف‪185 :‬‬


‫ﲬ‬ ‫ﲧ ﲨﲩ ﲪ‬
‫والمدرك‪ ،‬فهناك نظر وهناك‬
‫َ‬ ‫المدرك‬
‫ِ‬ ‫فهذه اآلية الكريمة تتحدث عن العالقة بين‬
‫منظور أليه‪ ،‬فنحن مطالبون بالنظر واإلدراك بينما متعلق النظر (السماوات‬
‫المدرك‬
‫ِ‬ ‫واألرضون وما خلق هللا) تمثل المنظور إليه‪ ،‬فهذه اآلية نظرت إلى‬
‫والمدرك‪.‬‬
‫َ‬

‫ﳈ‬ ‫ﳇ‬ ‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﲽ ﲾﲿﳀﳁﳂﳃﳄﳅﳆ‬

‫ﳉﳊﳋﳌﳍﳎﳏﳐﳑﱠ فصلت‪.53 :‬‬

‫فهناك رآئي ومرئي‪ ،‬وعالم ومعلوم‪ ،‬وهذه عين األبحاث المذكورة في نظرية‬
‫المعرفة‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬قيمة المعرفة‪ :‬فهل لمعارفنا قيمة وحاكوية وكاشفية‪ ،‬أو ال؟ بحسب اآليات‬
‫القرآنية هناك بعض اإلشارات‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﳆﳇ ﳈﳉﳊﳋﳌﳍﳎﳏﳐ ﳑ ﳓ‬


‫ﳒ‬

‫ﳠ ﳢﳣ ﳤ‬
‫ﳡ‬ ‫ﳔﳕ ﳖ ﳗ ﳘﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝﳞ ﳟ‬

‫ﳥﳦ ﱠ المجادلة‪11 :‬‬

‫فاالية الكريمة أشارت إلى أن مناط رفع الدرجات هو العلم‪ ،‬فلو لم يكن للعلم قيمة‪،‬‬
‫لما رفع العالم على غيره‪.‬‬

‫ﲫﲭ ﲮ ﲯ‬
‫ﲬ‬ ‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﲥﲦﲧﲨ ﲩﲪ‬

‫ﲲ ﲴﲵﲶﲷﲸﱠ فاطر‪28 :‬‬


‫ﲳ‬ ‫ﲰﲱ‬
‫فلماذا كانت الخشية عند العالم أشد من غيره؟ وما ذلك إال بسبب علمه‪ ،‬ولو لم يكن‬
‫للعلم قيمه لصار العالم والجاهل على حد سواء‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﲴﲵﲶﲷﲸﲹﲺﲻ ﲼﲽﲾ ﳀ‬
‫ﲿﳁ‬

‫ﳈﳊﳋﳌﳍﳎﱠ الزمر‪٩ :‬‬


‫ﳉ‬ ‫ﳂﳃ ﳄ ﳅﳆ ﳇ‬
‫هذا االستفهام في اآلية الكريمة استنكاري‪ ،‬أي أن درجة العالم أعلى من درجة‬
‫الجاهل‪ ،‬وهذه األفضلية للعالم على الجاهل؛ ألن العلم له قيمة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﱠﱡﱢﱣﱤﱥﱦﱧﱨﱩ‬

‫ﱪﱫﱬﱭﱮﱯﱠ البقرة‪ ،31 :‬فلو لم يكن للعلم قيمة‪ ،‬لما فضل آدم‬
‫على المالئكة‪.‬‬
‫ﲎﲐ‬
‫ﲏ‬ ‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﲅﲆﲇﲈﲉﲊﲋﲌ ﲍ‬

‫ﲣﲥ‬
‫ﲞﲠﲡﲢ ﲤ‬
‫ﲒ ﲔﲕ ﲖ ﲗ ﲘﲙﲚ ﲛﲜ ﲝ ﲟ‬
‫ﲓ‬ ‫ﲑ‬

‫ﲦﲧﲨﲩﲪﱠ يوسف‪ ،٧٦ :‬فهذه القيمة المعطاة للعلم هي ليست متواطئة بل‬
‫مشككة‪ ،‬فلذا وجدنا هذا الفضل للعلم‪.‬‬
‫سا‪ :‬إمكان المعرفة‪ :‬سيأتي نزاع بين من ينكر المعرفة‪ ،‬وبين من يقول‬ ‫خام ً‬
‫بإمكانها‪ ،‬والمنكرون تارة ينكرون بنحو السالبة بانتفاء الموضوع‪ ،‬أي ال واقع‬
‫موجود فال معرفة به‪ ،‬ومنهم من ينكر بنحو السالبة بانتفاء المحمول‪ ،‬أي أنه يوجد‬
‫واقع‪ ،‬ولكن ال يمكن الوصول إلى معرفته‪ ،‬ومنهم من يقول بإمكان المعرفة‬
‫اليقينية‪ ،‬ومنهم من يقول بعدم إمكانها بل غاية ما يحصل هو المعرفة الظنية أو‬
‫االحتمالية‪ ،‬وهذا البحث أشارت إليه اآليات القرآنية الكريمة‪.‬‬
‫ﱈ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱎ ﱏ‬
‫ﱉ‬ ‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﱁﱂﱃﱄﱅﱆﱇ‬
‫ﱐﱑﱠ النحل‪43 :‬‬

‫فإن كانت المعرفة غير ممكنة‪ ،‬لكان أمر الناس بسؤال أهل الذكر لتحصيل‬
‫المعرفة والعلم‪ ،‬إما أن يكون عبثيا‪ ،‬وإما أن يكون تكليفا بغير المقدور‪ ،‬وكال‬
‫الالزمين باطل‪.‬‬
‫ﲽﲿﳀﳁ ﳂﳃ ﳄ ﳅﳆ ﳇﳈ ﳉ ﳊ‬
‫ﲾ‬ ‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐﲻﲼ‬
‫ﱠ اإلسراء‪85 :‬‬

‫اي ما حصلتم من العلم إال قليال‪ ،‬فالقران الكريم يعترف بإمكان العلم والمعرفة‪،‬‬
‫ومجرد هذا التحصيل بنحو الموجبة الجزئية كاف لكون المعرفة ممكنة‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫فجميع أبحاث نظرية المعرفة يمكن أن نجد لها إشارات في القرآن الكريم‪.‬‬
‫قد يقال‪ :‬إنه اإليتاء المذكور في اآلية الشريفة‪ ،‬يدل على أن تحصيل المعرفة البد‬
‫أن يكون من هللا تعالى‪ ،‬فالمعرفة خاصة باإليتاء من قبل هللا تعالى؛ ألن اآلية‬
‫الكريمة قالت‪( :‬ﳅ)‪ ،‬فعل مبني للمجهول‪ ،‬أي أن فاعل اإليتاء هو هللا تعالى‪.‬‬

‫فإنه يقال‪ :‬نحن في إمكان المعرفة ال ننظر إلى طريقة تحصيل المعرفة‪ ،‬فسواء‬
‫كانت معرفة اكتسابية أو معرفة غير اكتسابية؛ ألن المنكرين الذين ينكرون أمكان‬
‫تحصيل المعرفة‪ ،‬يقولون ال يمكن تحصيل المعرفة سواء كانت اكتسابية أو معرفة‬
‫غير اكتسابية‪.‬‬
‫وبعد تمام هذه األبحاث‪ ،‬نريد أن نميز بين علم نظرية المعرفة‪ ،‬وبين غيره من‬
‫العلوم‪ ،‬كعلم المنطق أو علم الفلسفة أو علم النفس‪.‬‬
‫• هناك حاجتان وألجلهما نضطر الى التمييز بين علم نظرية المعرفة وبين‬
‫غيره من العلوم‪.‬‬
‫الحاجة األولى‪ :‬إن اس العلوم هو علم نظرية المعرفة‪ ،‬وال يتقدم عليه حتى علم‬
‫المنطق والفلسفة‪ ،‬بينما البعض يقول أن علم نظرية المعرفة يتقدم على جميع العلوم‬
‫إال علم المنطق‪ ،‬وهناك من يقول يتقدم المنطق على نظرية المعرفة‪ ،‬ومنهم من‬
‫فصل وفرق بين الثبوت واإلثبات‪ ،‬فلذلك احتجنا إلى هذا التمييز‪.‬‬
‫الحاجة الثانية‪ :‬إن علم نظرية المعرفة ليس علما مستقال‪ ،‬بل هو من ضمن علم‬
‫المنطق‪ ،‬أو من ضمن علم النفس‪ ،‬وألجل هاتين الحاجتين ناسب أن نميز بين علم‬
‫نظرية المعرفة‪ ،‬وبين سائر العلوم‪ ،‬وبينه وبين علوم مخصوصة‪.‬‬
‫• وقفنا سابقا ‪-‬عندما بحثنا موضوع العلم وغاية العلم‪ -‬على الفارق بين علم‬
‫نظرية المعرفة‪ ،‬وبين العلوم األخرى‪ ،‬ولكنا هنا نقول كل علم عندما‬
‫يبحث فيه حيثيتان (سلبية وإيجابية)‪.‬‬
‫الحيثية اإليجابية‪ :‬هي الوقوف على موضوع العلم‪ ،‬وغايته‪ ،‬ومبادئه‪ ،‬ومسائله‪،‬‬
‫وأما الحيثية السلبية‪ :‬هي تميز هذا العلم عن العلوم األخرى‪ ،‬ونفرق بين علم‬
‫نظرية المعرفة وبين العلوم األخرى‪ ،‬حتى يمتاز هذا العلم عن غيره‪ ،‬وهذا نظير‬
‫ما قالوا في المنطق بأن التعريف‪ ،‬ينبغي أن يكون جامعا مانعا‪.‬‬
‫والحيثية اإليجابية هنا هي من قبيل الجامع‪ ،‬وأما الحيثية السلبية فهي من قبيل‬
‫المانع‪ ،‬لكي نمنع مسائل العلوم األخرى من الدخول في هذا العلم‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫بم امتاز علم نظرية المعرفة عن سائر العلوم األخرى؟‬
‫وهنا يتقد سؤال‪َ :‬‬
‫لو وضعنا علم نظرية المعرفة في كفة وسائر العلوم في كفة فما هو المميز بينهما؟‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬ماهو الفارق بين علم نظرية المعرفة وبين سائر العلوم األخرى؟‬
‫جوابه‪:‬‬
‫‪ .1‬قد يقال‪ :‬بأن التمييز يكون من خالل الموضوع‪ ،‬ولكن يرد عليه‪ :‬أن علم‬
‫المنطق أيضا موضوعه المعرفة‪ ،‬كما أن نظرية المعرفة موضوعها‬
‫المعرفة‪ ،‬وهذا ما ذكرناه سابقا في تقسيمنا للعلم إلى أولي وثانوي‪ ،‬بحسب‬
‫المتعلق فإن كان المتعلق الشي َء‪ ،‬فإن العلم هو أولي‪ ،‬وأن كان المتعلق هو‬
‫المعرفة بالشيء‪ ،‬فإنه علم ثانوي‪ ،‬والعلوم األخرى موضوعها هو الشي‪،‬‬
‫فلذلك هي علوم أولية‪ ،‬بينما علم نظرية المعرفة وعلم المنطق مندرجان‬
‫تحت العلوم الثانوية؛ ألن الموضوع فيهما نفس المعرفة‪ ،‬وهذا الفارق وإن‬
‫فرق بين نظرية المعرفة وغيرها من العلوم‪ ،‬إال أنه لم يفرق بين نظرية‬
‫المعرفة والمنطق‪.‬‬
‫‪ .2‬ويمكن أن يقال‪ :‬أن التمييز بين العلوم يكون على أساس األغراض‬
‫والغايات‪ ،‬كما قال الشيخ اآلخوند في الكفاية‪ ،‬وهذا ال يمكن أن يكون مميزا‬
‫أيضا؛ ألن بعض أبحاث المنطق وبعض أبحاث علم النفس سنجد تداخال‬
‫حتى على مستوى الغاية‪.‬‬
‫‪ .3‬والصحيح أن نقول‪ :‬أن علم نظرية المعرفة يحدد المنهج الصحيح من غيره؛‬
‫لكي نعول على المناهج الصحيحة‪ ،‬وال نعتمد على المنهج الباطل الفاسدة‪.‬‬
‫وهذا نظير ما قالوا في علم تعريف األصول بأنه العلم بالعناصر المشتركة‬
‫الستنباط الحكم الشرعي‪ ،‬ففي علم الفقه نحتاج إلى استنباط أحكام شرعية‪ ،‬وفي‬
‫األصول نتفق على القواعد المشتركة الكلية؛ لكي نستفيد منها في الفقه فهو ينقح‬
‫القواعد الكلية‪ ،‬ويحدد الدليل الحجة من الدليل الال حجة؛ لكي نستفيد من الدليل‬
‫الحجة في علم الفقه الستنباط الحكم الشرعي‪ ،‬فبعد دراسة علم األصول سنعلم بأنه‬
‫يمكن التعويل على خبر الواحد؛ ألنه حجة‪ ،‬وال يمكن التعويل على الشهرة‬
‫الفتوائية؛ ألنها ليست بحجة‪.‬‬
‫والحمد هلل رب العالمين وصلى هللا على محم ٍد وآله الطيبين الطاهرين‪.‬‬
‫• بعض المصادر للمراجعة واالطالع‪:‬‬
‫‪ .1‬نظرية المعرفة في القرآن‪ ،‬للشيخ جوادي آملي‪ :‬ص‪.1‬‬
‫‪ .2‬المدخل إلى نظرية المعرفة‪ ،‬للشيخ غالم رضا فياضي‪ :‬ص‪.35‬‬

‫‪54‬‬

You might also like