Professional Documents
Culture Documents
عميش أيمن
دبازي بوطهرة
ظير غرض المديح في الشعر الجاىمي فنًا شعريًا يعنى بتمجيد المثل العميا لألخالق
واألفعال التي تعارفوا عمييا ،وورثوىا عن أجدادىم ،فكانت قصيدة المدح ميدان التعبير
عن اإلعجاب االجتماعي ،يصور الفضائل التي تبير النفس ،وتدفعيا إلى تخميد المآثر
المقيدة بالمثل العميا القائمة عمى تقديس سمات القوة ،والكرم ،والشجاعة ،وحفظ العيد،
وحماية الجار ،ورعاية الضعيف ،والتعفف عن دنايا األمور ،واغاثة المميوف وعراقة
النسب ،ورجاحة العقل وسداد الرأي ،وصنيع الجميل واطالق األسرى .وكانت ىذه
األخالق واألفعال حاجة إنسانية لممجتمع القبمي وبيئتو الطبيعية التي تحتاج إلى سمو
وايثار لمتغمب عمى قسوتيا وتحقيق المعايير المثالية لنظميا ،واختص شعر المديح
بالتغني بيذه السجايا ،وقام شعر المديح في المجتمع القبمي مقام السجل الشعري الذي أرخ
وصور جوانب متعددة من
ّ ألعالم ذاك العصر من مموك وسادة ،وأبطال ،وأجواد وحكماء،
طبيعة الحياة الجاىمية ،فأغنى شعر المديح التاريخ وكان رديفًا لو ومتممًا ،ولكنو عمى ما
فيو من أىمية في تصوير ىذه الجوانب إال أنيا صور تختمط فييا الواقعية بالفنية.
_1مفهوم المدح:
يعرف المدح في قاموس الفيروزآبادي عمى َّأنو :المدح من مدحو كمنعو مدحًا و ِمدحة،
ّ
أي حسن الثناء عمى الشيء ،والمديح واألُمدوحة ىي كل أمر ُيمدح بو ،وتُجمع عمى
مدائح ،وأماديح ،وجاء في لسان العرب البن منظور َّ
أن المدح عكس اليجاء ،وىو ُحسن
الثناء.
بينما ُيعرف المدح في االصطالح َّأنو وصف الشاعر غيره وصفًا جمي ً
ال ،ووصف
فضائمو ،وحسن الثناء عميو ،وجاءت لفظة ِ
المدحة واألماديح في الشعر العربي.
أن المدح قديم النشأة ،ويرجع إلى زمن قديم جداً؛ حيث ُيعتقد َّأنو فن يتصل
ُيذكر َّ
بالعاطفة القديمة ،وىو فن عريق َّ
لكنو لم ُيحفظ في التراث العربي القديم ،إذ لم تكن دواعي
ويشار إلى َّ
أن المدح امتزج بفن الغزل منذ القدم؛ حفظو قوية مثل باقي الفنون األخرىُ ،
فالغزل ُيكثر الثناء عمى الحبيب ،وذكر األفراح واألحزان؛ لذلك كان المدح ُمحتجبًا تحت
طيات الفخر ،حتّى ُع َّد المدح من الفخر ،وبعد ذلك
ستار الغزل ،كما ُوجد المدح تحت ّ
تطور المدح ،وظير العديد من شعرائو ،ومنيم :األعشى ،وامرؤ القيس ،وزىير بن أبيّ
ُسممى ،والنابغة الذبياني ،وغيرىم الكثير ،وفي المقابل ترّفع عدد من الشعراء عن شعر
المدح ،ومنيم :جميل بن معمر ،وعمر بن أبي ربيعة ،والعباس بن األحنف .
_3المدح في التصع الجاهمي:
الشـك ِـم
عاج َل َّ
اب و ِ ِ تادةَ َغ َير سـ ــائِمـِِو
أَبمِ َق َ
منوُ الثو َ َ
ـك م ِرقَّ َة الع ِ
ظم َ ِ ـيرِة إِذ ِ ِ
َ جاءت إليـ ـ َ ُ معشـ ـ َ
أَّني َحمدتُ َك ل َ
حال ِمن س ٍ
حيل َو ُم َبرِم َعمى ُك ِّل ٍ ِّدان ُو ِجدتُم ــا
عم الس ــي ِِ
َ َيمينًا لَن َ
أما قصيدة االعتذار َفتُ َع ُّد شعب ًة من قصيدة المدح ،وأبرز المالمح الفارقة بينيما َّ
أن
الشاعر إلصالح ما فسد بينو وبين ممدوحو بوشاية و ٍ
اش أو قصيدة االعتذار يصنعيا َّ
نشب بينيما أو استعطافًا لو ،وقد انصرفت قصيدة االعتذار غالبًا في العصر
لخالف َ
الجاىمي إلى بالط المَّخميِّين في الحيرة والى بالط الغساسنة في حوران .ويمكننا القول َّ
إن ِّ
الفني فتبدو
ُّ البناء
ُ أما من حيث
قصيدة االعتذار ارتبطت ارتباطاً وثيقاً ببالط المموكَّ ،
النيج الذي حدده ابن خاصة بيا ،وىي أقرب إلى َّ
َّ قصيدة المدح أكثر تشعُّبًا وليا معان
قتيبة لممدحة العر َّبية في كتابو « ِّ
الشعر والشعراء».
ولعل المدح من أبرز موضوعات االعتذارية ،إذ يعمد الشاعر إلى مدح المعتذر منو
بأبرز معاني المدح المشيورة ،ومثال ذلك قول النابغة:
واستمر المدح في العصور األدبية التي تمت العصر الجاىمي ،ولكن ط أر عميو بعض
التغيير في الشكل والمضمون ،ففي صدر اإلسالم برزت بعض معاني المدح الجديدة
المنطمقة من قيم الدين اإلسالمي ،إضاف ًة إلى بروز بعض الموضوعات الجديدة .فمن
المعاني اإلسالمية ما نراه في شعر حسان بن ثابت:
اإلسالمي،
ّ الجاىمي و
ّ المدح غرض قديم من أغراض الشعر العربي انتشر في العصر
مدح لشجاعتو وكرمو وقوتو ،ولكن مع بداية العصر األموي فقد تغيرت
وكان المرُء ُي ُ
أمية
السياسية واالنقسام الذي حصل بين مؤيدين لحكم بني ّ
ّ صفات الممدوح متأثرةً بالحياة
أن الخالفة من ِّ
حق بني ومعارضين ليم ،كحزب الشيعة الذي كان في العراق ويرى َّ
ديني يجعميم محببين ٍ
اء ىذه الحزب أئمتيم بصفات جديدة ليا طابعٌ ّومدح شعر ُ
َ ىاشم،
أيضا والذي يرى أحقية الخالفة أما حزب الخوارج المعارض لبني َّ
أمية ً لدى عامة الناس ،و َّ
في األصمح من المسممين ،فقد كان المديح عندىم لمن لديو التقوى والشجاعة في الجياد،
كثير ما
طمعا في المكاسب ،وكانوا ًاأغمبو ً بينما كان مدح الخمفاء والوالة من بني َّ
أمية ُ
يمدحون الخمفاء بالصفات الدينية ُليضفوا عمييم الشر َّ
عية في أحقيتيم في الحكم ،وقد كان
غالبا ما يكون بأمر من الخمفاء والوالة األمويين الذي يعرفون
المدح في العصر األموي ً
األىمية الكبيرة لمشعر في ذلك الزمن ،والذي سيثبت دعائم حكميم.
وتنوعت بذلك
عام في العصر األمويّ ،
ٍ َّ
السياسية عمى األدب بشكل ّ لقد أثَّرت الحياة
بتنوع البيئات واالنقسام الذي حصل بين الناس في تمك الحقبة ،حيث
أغراض األدب ّ
األموي الحاكم المتمركز في بيئة الشام
َّ الحزب
َ عارض
ظيرت أحزاب في العراق والحجاز تُ ُ
لكل حزب معارض شاعره أدبيا بعد انتقال الخالفة إلييا ،وكان ِّ
سياسيا و ً
ً التي ازدىرت
يذم بني َّ
أمية وحكميم من جية أخرى ،وازدىر في تمك المادح لمبادئو من جية ،والذي ُّ
الفترة الغزل العذري في البادية ،كما ظير شعر جديد ىو شعر الغزل الالىي في الحجاز،
تطور فيو
عصر َّ
ًا وانتشر شعر اليجاء وال سيما شعر النقائض ،فكان العصر األموي
كبير وتنوعت أغراضو من مدح وغزل وىجاء ورثاء.
تطور ًا
ًا األدب العربي
وعمى الرغم من بقاء الشكل الجاىمي في قصيدة المدح األموية ،كالذي نراه في شعر
وكثير َعّزة،
العجاج وولده رؤبة ،وجرير والفرزدق ّ
الرّمة و ّ
الراعي النميري وذي ّ
األخطل و َّ
إال أننا نرى شيئًا من التجديد في الشكل؛ كالتخمي عن مراعاة ترتيب بناء المدحة وفق
نسقيا الجاىمي ،وترك المقدمات أو التقميل من أبياتيا أحياناً ،أما من حيث المضمون
فبرزت بعض المعاني التي تأثرت بالخالفات السياسية التي دارت حول الخالفة ،كقول
كثير عزة يمدح عبد الممك بن مروان:
رون ِاغتِياَليا
آخ َأَراد ِرجا ٌل َ الخال َف ِة َب َ
عدما طت يداه بِ ِ
أَحا َ َ ُ
شرِف ّي ِاستَقالَيا ِ ِ
َوَلكن ب َح ِّد َ
الم ِ فَما تََركوىا َع َنوةً َعن َم َوَّد ٍة
وفي ىذا النوع ييدف الشاعر إلى الحصول عمى المال ،أو الجاه ،أو الرضا من
الممدوح ،وىو شعر فني فقير من العاطفة الصادقة ،ومثالو يقول األخطل مادحاً بني
الحق عيافو الخنا أنف إذا ألمت بيم مكروىة صبروا
ّ حشد عمى أمية:
أييـا المادح العابـد ليعطـ ــى إن هلل مــا بأيــدي العب ــاد
خالصة القول أن المدح أحد أبرز األغراض في الشعر العربي عمى مر العصور،
ُّ
يستحق العناية ،ألنيا ال ولذلك فإن قصيدة المدح في ِّ
الشعر العربي تُعد فرعاً نضي اًر
وسياسيةَّ ،
ألنو من خالليا َّ اجتماعية وتار َّ
يخية َّ تش ّكل وثيقة َّ
فنية فحسب ،بل ىي وثيقة
أمكن رسم صورة لتطور المجتمعات العر َّبية عبر العصور ،ورصد بعض ظروفيا
ِّياسية في مراحل مختمفة من التَّاريخ العربي ،إذ إنيا تجسِّد الظُّروف التَّار َّ
يخية التي الس َّ
ناىيك عن قيمتيا َّ
الفنية وما حممتو من دالالت عن قيم المجتمع العربي. َ ُنظمت فييا،
ـ عمي أبو زيد ،البديعيات في األدب العربي (عالم الكتب ،بيروت .)1983
رومية ،قصيدة المدح حتَّى نياية العصر األموي (و ازرة الثقافة ،دمشق .)1981
ـ وىب َّ
ـ محمود سالم محمد ،المدائح النبوية حتى نياية العصر الممموكي (دار الفكر ،دمشق
.)1996
َّ
النبوية في األدب العربي (دار الكاتب العربي ،القاىرة .)1935 ـ زكي مبارك ،المدائح