Professional Documents
Culture Documents
االستشراق والتراث
على ضوء المنطق السيكولوجي
هذا كتاب لمن يغضب هلل فيفك عن أمته وعن كل مولود في أمته الحصار
1
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
2
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
3
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"إنما صدق قول القائل «ليس الخبر كالعِيان» ألن العيان هو إدراك عين الناظر عين المنظور
إليه في زمان وجوده وفي مكان حصوله ،ولوال لواحق آفات بالخبر لكانت فضيلته تبين على
العيان والنظر لقصورهما على الوجود الذي ال يتعدى آنات الزمان وتناول الخبر إياها وما قبلها
والمعدوم معاً .والكتابة نوع َ الخبر لذلك الموجو َد
ُ من ماضي األزمنة وبعدها من مقت َبلها حتى يُع َّم
من أنواعه يكاد أن يكون أشرف من غيره ،فمن أين لنا العلم بأخبار األمم لوال خوالد آثار القلم؟
صدق والكذب على صورة ثم إن الخبر عن الشيء الممكن الوجود في العادة الجارية يقابل ال ّ
واحدة وكالهما الحقان به من جهة المخبرين لتفاوت الهمم وغلبة الهراش والنزاع على األمم.
سه ألنها تحته أو يقصدها فيُزري بخالف سه فيُ َعظ ُم به جن َأمر كذِب َيقص ُد فيه نف َ بر َع ْن ٍفم ِْن ُم ْخ ٍ
ْ
ومِن جنسه لفوزه فيه بإرادته ،ومعلوم أن كال هذين من دواعي الشهوة والغضب المذمومين.
فإن الباعثَ على فعله لشكر أو يُبغضهم لنُكر ،وهو مقاربٌ لألول َّ ٍ بر عن كذِب في طبقة يُحبهم ُم ْخ ٍ
خبر عنه متقربا ً إلى خير بدناءة الطبع أو ُمتقِيا ً لش ٍ َّر من ٍ
فشل من دواعي المحبة والغلبة .ومن ُم ٍ
بر عنه طباعا ً كأنه محمول عليه غير متمكن من غيره وذلك من دواعي الشرارة وفزعٍ .ومن ُم ْخ ٍ
بر عنه جهال ،وهو المقلد للمخبرين وإن كثروا جملة أو تواترا ً وخبث مخابئ الطبيعة .وم ِْن ُم ْخ ٍ
فرقة بعد فرقة فهو وهم وسائط فيما بين السّامع وبين المتع ِّمد األول ،فإذا أسقطوا عن البين بقي
صدق هو المحمودُُُ والمجانب للكذب المتمسكُ بال ّ
ُ المتخرصين
ّ ذلك األول أحد من عددناه من
1
ح عند الكاذب فضال عن غيره". الممدو ُ
«فنحن أيضا نخضع لألفكار المسبقة التي ال تزال تجيء إلينا من عصر النهضة .وأما بالنسبة
تحرر تماما وحقيقة من األفكار المسبقة سواء عنده إن كان اليقين يجيء إلينا من كنت أو
إلى من ي ّ
توما األكويني ،من دارون أو من أرسطو ،ﻫلمهولتز أو باراسيلسوس إن ما نحتاج إليه ليس ﻫو
التأكيد القائل بأن اإلنسان يرى بعينيه بل ﻫو باألحرى ذلك التأكيد بأنه ال يفسّر تحت ضغط الفكرة
2
المسبقة التي كان قد رآﻫا».
1كتاب أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة -ص0-3
السلسلة الجديدة من مطبوعات دارالمعارف العثمانية ١١أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني المتوفى
٤٤٤ﻫ=١٤٤١م صحح عن النسخة القديمة المحفوظة في المكتبة األهلية بباريز[مجموعة شيفر رقم ]٠٤١٤بإعانة
وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية -طبع بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن الهند
سرل الفلسفة علما دقيقا ترجمة وتقديم :محمود رجب المشروع القومي للترجمة -المجلس األعلى 2ه ّ
4
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
نعم إن للمسلمين تراثا له من األﻫمية ما للتراثات عند األمم ،تراث امتد أوسع في الثقافة والبناء
التاريخي الحضاري في الزمان وسائر المعمور ،ولكن ﻫذا الذي جعلتموه في حزمة "التراث"،
فيه ما ليس منه وال ينبغي أن يكون!
ﻫذا ﻫو كنه إشكال التراث قضية من قضايا األمة في اتصال أكثر وأشد ارتباطا باالستشراق.
التراث من المرتكزات النهضوية المادية والمعنوية لكن ليس ﻫو إال واحدا منها ،وحيزه من
صة الوحيدة.
صات االنطالق والقومة التاريخية لكن ليس ﻫو الحيز محصورا وال المن ّ مناطق ومن ّ
للثقافة -2002ص601
5
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
6
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
7
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فهرست الكتاب
الصفحة الموضوع
30 تمهيد
38 مقدمة
18 الباب األول :مسافة بؤرية من أمير الجهاد شكيب أرسالن إلى إدوارد سعيد
13 الفصل األول :حقلية االستشراق
02 الفصل الثاني :ريادة سليم نويهض وشكيب أرسالن
02 ا -نذير األمة
04 ب -أمير الجهاد
الفصل الثالث :بنية االستشراق والمنهج في القراءة
08
ا -المنهج في قراءة االستشراق
08
ب -تقطيعات ظاﻫرة االستشراق
71 الفصل الرابع :محمود شاكر في مواجهة مباشرة
82 الباب الثاني :الحقيقة الوجودية بين الحفرياتية التاريخية والمنطق المتسامي ..ال-
83 تراثية الحق
.. الفصل األول :االستشراق وإرادة اإلنسان
33 القانونية الكلية وقوة العقل التاريخي للفارابي
30 -3ال -تراثية القانونية الوجودية لإلسالم وللغة اإلنسان
331 -0الشريعة اإلسالمية والعلم الحديث
.. الربّانية والعقل الحضاري التاريخي األقوم -1الفارابيّ :
317 ال -تراثية المنطق الكوني
311 الفصل الثاني :سؤال الحقيقة عند فوكو والحجر الفلسفي
310 -3المسألة السّياسية هي الحقيقة ذاتها ..الشريعة نظام سياسي أوثق مرجعيا ً
301 -0القرآن المشهود واآليات الحفرياتية للحقيقة
.. الفصل الثالث :أزمة الفلسفة الغربية اتجاه المنطق المتسامي قصدية هسّرل ..الشريعة
371 اإللهية منتهى االمتداد المنطقي
374 -3ﻫسّرل كاشفا لصبغ مفهوم "األنتربولوجيا"
380 -0المدار والنسق التفلسفي لهسّرل
383 -3إشكال المنطق والسّيكولوجيا عند ﻫسّرل
8
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الصفحة الموضوع
020 تصور القانونية األمبيرية والسّيكولوجيةّ -4قصور ﻫسّرل في
032 -5ﻫسّرل وضالل التوصيف السّيكولوجي لكانط
003 -6قصدية ﻫسّرل وحقل المقوالت العشر ألرسطو
.. -7قصدية ﻫسّرل استكناه لمفهوم التمكين االستخالفي ولتعريف العقل
007 ْص ُرونَ '﴾(الذاريات )12برﻫانا وجوديا ﴿وفِي أ ْنفسِك ْم' أفال تب ِ
َ
013 الفصل الرابع :ال تناقض بين علم هللا تعالى والتكليف والجزاء
071 الباب الثالث :حرب الغرب على الحقيقة الوجودية ونأيه عنها
070 الفصل األول :المعالجة االستشراقية للتراث بين االهتمام والقطيعة
-3المفهوم المحدث للتراث!
078
-0تسامي – ال تراثية -الحضارة اإلسالمية
121
الفصل الثاني :المعالجة االستشراقية في تكوين النخبة والمثقف
100
-3الحوض االستعماري وعمى الثقافة
..
العقل في الحوار واالستخالف
107
-0التكوين في حضن االستعمار
..
استغراب المثقف العربي
118 الفصل الثالث :أزمة العقل الغربي ..المجاز تفلسفا عند نيتشه وتيها عند ﻫسّرل..
.. المنطق والرياضيات وربوبية هللا تعالى
171 -تعليل وتعيين مصدر الكالم (تفلسف!) عند نيتشه
182 الباب الرابع :تحقيق المنهج
133 الفصل األول :على بُعد المنهج
130 -3المنهج معجميا
131 صبغ المنطقي لمفهوم المنهج -0ال ّ
131 -1العقل والمنهج على البعد التاريخي
.. -نظر مميّز ل.د محمد ياسين عريبي-
420 -4نقض العقيدة األدلوجية للمنهج التاريخي
428 الفصل الثاني :ياسين عريبي كما رشدي راشد مكمال إلدوارد سعيد
.. تغريب العقل العربي اإلسالمي العلمي
404 غزالي في الديكارتية!
ّ صبغ السّينوي وال -3ال ّ
401 -2تغريب العقل العربي اإلسالمي
441 وتوهيمات عبد الرحمان بدوي
.. الفصل الثالث :المعيارية الرياضية ميزان الحق
9
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الصفحة الموضوع
413 في االستخالف
.. -6المعيارية الرياضية وترييض الطبيعة
402 الفارابي وابن الهيثم قبل كبلر وجليلي
403 -2العقل العربي اإلسالمي وتجاوز الذاتية ابن الهيثم وترييض -تحقيق -المنهج
473 صعود إلى المنهج الحق الرابع :أزمة ال ّ
الفصل ّ
482 -1الفقيه ﻫو ّ
الربّاني وال تراثية الربانية
.. -2المفارقة العظمى
480 علم التسخير بين الحركة الديرية والحقل الفقهي للمسلمين
134 -1الفتاوى النادرة ومريدو الخبال
103 الفصل الخامس :منهج العمل شرط الروح الجهادية
قداسة يوم الدخول المدرسي
110
المصادر والمراجع
140
10
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
11
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تمهيد
الحمد هلل الذي خلق اإلنسان وعلمه البيان ،والصالة والسالم على محمد وعلى آله وصحبه
ومن تبعهم بإحسان ،أما بعد...
المقرر
ّ في عام 3382م في المؤتمر العالمي الثاني للثقافة الذي عقد بالمكسيك ،وفي اليوم
للتصويت على مشروع التوصية اليونانية التي كانت قد أحدثت ضجة كبرى في المؤتمر ،الممثلة
في مطالبة جميع الدول التي نهبت آثار غيرها من شعوب دول العالم الثالث ،عالوة على
ابريطانيا التي أخذت تماثيل المرمر من هيكل البارثينون ،أن ترد تلك اآلثار إلى أصحابها
الشرعيين ،في يوم التصويت "كانت وفود بعض الدول قد غادرت المؤتمر أو تغيبت ،ومن بينها
3
خمس دول عربية"!
ب!
وحضور وغيا ٌ
ٌ
والحسم في ذلك والفصل للقوة التاريخية ،االقتصادية والمعرفية والسياسية ،التي ال يعجب
القترانها دوما ً بالقوة العسكرية؛ وهذا على مسار التاريخ هو قانون البريئة.
وبالف عل كان هذا هو رد الوفد األمريكي على التذمر الفرنسي؛ ففرنسا تشن نفس الحرب على
غيرها من الشعوب وتفرض عليها ثقافتها ولغتها .هذا عن الحضور؛ فقوة تأثيره بحسب القوة
التاريخية؛ والحضور دائما ً دال على وجود ذات فاعلة وإرادة.
3العربي -العدد -٨١۹ديسمبر -١۹١٨تقرير من داخل ثاني مؤتمر عالمي للقمة الثقافية :بقلم سليمان موسى
12
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ي مستنبطه الوخي ُم ال َمرير ،غياب مكونات الفعل واإلرادة .وهذا هو مبدأ وأ ّما الغياب ،فجل ٌّ
بلفور ودعواه في حق الحجر على الشرق ،فالمعرفة بمعناها الشمولي والعلمي هي سلطان التحكم
في الطبيعة حقال استخالفياً ،في اإلنسان ومؤسّساته وإدارتها على النحو الرشيد واألقوم ،وقبل
ِقرأ باس ِْم َر ِّبكَ الذِي ذلك كله ،فهي مصدر القوة المادية المطلق؛ وإن شئت فاتل قوله تعالى﴿ :ا َ
ع َّل َم اإلن َ
سانَ َما ل ْم بالقلم' َ
ِ ع َّل َم
األكر ُم الذِي َ
َ ِقرأ َو َربُّكَ سانَ م ِْن َعل ٍ
ق' ا َ خَلقَ ' خَلقَ اإلن َ
ت ض َجمِيعا ً مِنهُ' َّ
إن فِي ذلِكَ آل َيا ٍ األر ِ
ت َو َما فِي ْ
اوا ِ
س َم َ يَ ْعل ْم'﴾(العلقَ ﴿ )1..3و َ
س َّخ َر لك ْم َما فِي ال َّ
أن تفكرونَ '﴾(الجاثية )30بل إنه سبحانه وتعالى جعلها نعما ً َم َّن بها على خلقه﴿ :أل ْم َ
تر ْوا َّ ِقوم يَ ُ
ل ٍ
ناس َم ْن
عليْك ْم نِعَ َمهُ ظاه َِرة َوبَاطِ نة' َومِنَ ال ِ
ض َوأ ْسبَ َغ َ األر ِ
ت َو َما فِي ْ اوا ِ س َّخ َر لك ْم َما فِي ال َّ
س َم َ هللاَ َ
ِير'﴾(لقمان )33وإذا كانت لإلسالم أركان وعمود عِلم َوال هُدًى َوال كِتاب ُمن ٍ
يُ َجا ِد ُل فِي هللاِ بغي ِْر ٍ
الدين الصالة ،فإن التسخير وسيلة االستخالف ،وإنما مفتاح التسخير العلم بقانون الخلق
والطبيعة ،قرآنا ً مشهوداً ،آيته الكلية القانونية ،التي برأت مع الفارابي - ،رحمه هللا! -واستوسق
نسقها االستخالفي الكامل ألول عهدها في التاريخ البشري في "ترييض المجال االستخالفي" مع
ابن الهيثم -رحمه هللا!-
بالطبع ،لسنا نريد بشبه مفهوم "الكلية القانونية" وحدة العلوم ،وإن كان لعامل طغيان الوقوف
عند هذا اللفظ أو شبه المفهوم واالقتصار عليه ،لغلبة التقليد والمحاكاة في البيان وخاصة في حقل
جراء غياب حقيقة االنتماء العلمي مسمى العلوم اإلنسانية ،وكذلك في توافق معاييري عقولي ّ
المتمكن وليس فقط المتلقي والمردد مما ال يتحقق معه شرط استكناه المدلول واللفظ كليهما ،إن
كان لذلك حاجز يحجر دون االعتبار للحقيقة بعدم التعبير عنها التعبير الذي ال يصح غيره ،أو
دون االرتفاع إلى مستوى هذا النظر .فوحدة العلوم أو التوقف إدراكا ً واعتبارا ً في حدودها ،هو
ابتسار لحقيقة بل للحقيقة الوجودية في رسمها وتمثيلها الكلي ،هي انتظام من دون االستنباط
العظيم الجليل ،استنباط قانون النظمة ،أو قل قانون الوجود ،الذي ليس الحقل أو المجال المادي
وآليات العقل المنظور بها إليه ،ليس سوى إسقاط وتمثيل منطقي له.
هذا هو العقل االستخالفي األعلى إمكانا ً من أي جهة وسلم نظرت إليه منطقيًا أو فلسفياً ،ت ّمت
إزاحته والسّطو عليه على مسار حرب تاريخية ردة فعل وجودية غربية مسيحية كان مبدؤها
االستشراق بخلفية التبشير ومواجهة اإلسالم ،ولينتهي األمر ليس فحسب رد اإلسالم عن أوروبا
غرب ،ودمج أصحابه بل الهجوم بقوة استعمارية بفعل التبني العملي للعقل اإلسالمي العربي ال ُم َّ
13
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
في موضوع تاريخي مخطط ،سياسي بخلق إسرائيل في قلب األمة العربية مادة اإلسالم ،معطل
ي فسحة للعمل التاريخي المنتج ،وانتربولوجي تراثي؛ كل ذلك لطمس العقلية التواجدية بشتى أل ّ
أشكال الحرب السياسية والحضارية واختالق منظمات أممية ودولية تخدم هذا المخطط ،وعلى
رأسها "منظمة األمم المتحدة" و "اليونسكو".
التمثيل واإلرادة الفعلية لمن يكسب القوة ،وإن هذا لهو المترجم لمن له حق النقض أو
االعتراض (الفيتو) .ومن ال قوة تاريخية يملكها ،فهو مسلوب ومستلب العقل التاريخي؛ فالغياب
ليس يؤول بتجنب أدنى اإلزعاج لألسياد ،وإنما هو تغييب وتحييد للذات أن تمثل ذاتها (أبو مازن
والسيسي وقيس سعيد مثال)؛ فهي مدمجة في موضوع القوي ،وإن يكن من حكم وموقف بشأن
أي قضية من القضايا كما قضية الثقافة والتراث ،فالحكم والنظر هو له ،ال لمن ليس له الحق في
ذلك وال في ترتيب تناوله قضية وفي الجوانب التي يجب أن يهتم بها وتحديد قدر االهتمام ،وقبيل
هذه التوصيات ،التي لكل منها نتائج ،تصل باختالف تقديراتها وشروطها حد التناقض
والتعارض .استشعار هذا التعارض هو الذي ولد هذه الكلمة المفارقة نطق بها لسان رجل لم
يعرف أشد حبًّا منه للتراث وال أكثر منه عناية به واهتماماً:
«وال أقول تراثهم؛ فإن هذه الكلمة قد أصبحت بغيضة عندي جدًّا ،لما توحي به هذه األيام عند
4
بعض النَّاس من الماضي السحيق والفلكلور والمتحفيات»
إنها مفارقة صادمة ،ويكاد يستحيل إمكانها على أي من معتبر المقول ،أي السليم والمعقول،
ودائما ً حسب مرجع ذات محمود الطناحي – رحمه هللا! -فاهتمامه بالتراث حتى ليس وصف أحق
صت بها نفسه.به إال هو ،هو حقيقة مقول منطقي صحيح .لكن هذه الكلمة إنما هي شيء غ ّ
أبغض إلينا بل أش ّد بغضا ً حتى؟ ! لكنه يُبيّن ما علة هذا البغض وما سبب أن
َ أيكونُ اسم ما نحب
أصبحت هذه الكلمة "التراث" تثير فيه هذا الشعور الحنق واالشمئزاز؛ لقد قال بأن مرد ذلك ما
ي دالّ على المتج َ
اوز توحي به هذه األيام عند بعض النَّاس ،وما حملته من صبغ داللي انصرام ّ
والبائد من المتحفيات والفلكلور .بيد أن السّؤال الذي بقي قائما ً هو نفس داللة هذا المقول
واالنفعال في حقل موضوع التراث من رجل لم يعرف إال قليل ممن هم في درجة ارتباطه
وخدمته وحبه للتراث ،ومن هم هؤالء القلة من النَّاس ،الذي يَحملون أو يُح ّمل لفظ "التراث"
مقاالت العالمة الدكتور محمود محمد الطناحي :صفحات في التراث والتراجم واللغة واألدب -القسم األول- 4
14
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
عندهم على هذا المعنى ،وهل القلة أو البعضية لها من السلطان ما يخلق ويتمخض عنه هذا
البغض كله؟!
ال شك أن التعليل هنا قد كفل الحل ورفع اإلبهام ،بردّه إلى عدم االنحفاظ الداللي ،الجوهر
العناصري منطقياً ،داللة وجوهر لفظ وعنصر "التراث" تحديداً .لكن حدة الغضب الممثلة هنا
للجهة السّلبية بالنسبة لقاموس الخطاب ،ولو عبر عنه بالبعضية ،وهذا بالذات يفيد ويعني مخالفة
الحقيقة البيانية ،ويستنبط منه سلطة هذا الخطاب ونظامه ورجاله ،وأن هذا االنفعال لم يكن إال
جراء إحساس وإدراك مباشر بما تريده هذه السلطة ومخططوها من ركوب دعوة االعتناء ّ
تقديره وحساباته؛ فمحبٌّ له ألنه تراث أمته وهو شرط في حفظ هويتها وال قومة ُ ّ
ل ٍ فلك بالتراث؛
وعدو مستعمر ملك عليها دواليب اإلدارة والحكم والفكر يلبس الحق بالباطل ٌّ به، إال لها من جديد
له حساب ُمقد ٌَّر تقديراً ،له من وراء دعوته لالعتناء بالتراث حاجة في نفسه يقضيها .إنها قضية
من أخطر القضايا ،وهي من ذات موقع وضع سؤال المنهج وما قبل المنهج عند محمود شاكر –
رحمه هللا! -غير أن الفرق بينهما هو أن فضاء المنهج والمنهج ذاته ليس مما س ّماه محمود شاكر
ب"المنهج األدبي" "الذي يتناول الشعر واألدب بجميع أنواعه ،والتاريخ ،وعلم الدين بفروعه
المختلفة ،والفلسفة بمذاهبها المتضاربة ،وكل ما هو صادر عن اإلنسان إبانة عن نفسه وعن
جماعته = أي يتناول ثقافته المتكاملة المتحدرة إليه في تيار القرون المتطاولة واألجيال
المتعاقبة" ،5بل المنهج التاريخي والحضاري والوجودي ،أي منهج العقل التاريخي والعقل
الحضاري والعقل الوجودي ،الذي يستتبعه لزاما ً المنهج األدبي .وإذا كان المنهج األدبي وتحديدا ً
ما س ّماه شاكر ب"ما قبل المنهج" ينقض دعوى علمية أعمال المستشرقين ،فإن المنهج ومنهاج
الربّانية المنصوص عليه في القرآن المجيد شرعة لإلسالم ولألمة اإلسالمية واستخالفها ّ
تصو ًرا
ّ ووجودها وحضارتها ،يجلي عظم ضالل وخطر هذا الوضع الذي وضع فيه التراث
وموضوعا ً من طرف نظام الخطاب األكاديمي الجامعي المتحكم فيه ،أو الذي ال زال يتحكم فيه
برنامج الدول المستعمرة وخططها المحكمة بأدق صور اإلحكام والتوجيه ،بغاية واحدة ،روحها
بأشر ما يكون من الحنق والبغضاء وبأعتى ّ الحرب الحضارية والحرب الوجودية المسكونة
صور ال َّدهَاء والمكر؛ إنها قضية عالقة االستشراق بالتراث.
رسالة في الطريق إلى ثقافتنا -محمود محمد شاكر -الهيئة المصرية العا ّمة للكتاب – ص01 5
15
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
16
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
17
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مقدمة
عبْدا ًب هللاُ َمثال َ ض َر َقدراإلنسان وفضله على غيره بقدر الفكر الذي يحمله ودعوته للعمل بهَ ﴿ :
َم ْملوكا ً ال َيقد ُِر على شَيءٍ و َم ْن َرزَ قناهُ مِنا ِر ْزقا َ َح َ
سنا َ ف ُه َو يُ ْن ِفقُ ِم ْنهُ س ًِّرا َو َج ْه ًرا ه َْل َي ْست َُوونَ '
ش ْيءٍ وهو ك ٌّل ب هللاُ َمثَال َر ُجلي ِْن أ َح ُدهُ َما أبْك ُم ال يَ ْقد ُِر على َ ال َح ْم ُد هللِ' بَ ْل أ ْك ُ
ثرهُ ْم ال يَ ْعل ُمونَ ' و َ
ض َر َ
ص َراطٍ على ِ هو َو َم ْن يَأ ُم ُر بال َع ْد ِل وهو َ على َم ِوالهُ أ ْينَ َما ي َُو ِ ّج ْههُ ال يأتِي ِب َخيِ ٍر ه َْل يَسْتوي َ
ُمسْتق ٍِيم'﴾(النحل)70-71
اإلنسان قيمة عمل ،والوجود قائم على العمل ومنقطعه جزاؤه بهيمنة قانون االنحفاظَ ﴿ :وخَلقَ
ت َوهُ ْم ال يُظل ُمونَ '﴾(الجاثية )03على
سبَ ْ ض بال َح ّ ِ
ق' َولِتجْ زَ ى ك ُّل ٍ
نفس ب َما ك َ األر َ
ت َو ْ
اوا ِ
س َم َ
هللاُ ال َّ
صحّة :الحسنة والسيئة≡ أبجدية الحاسوب [﴿ :]3-2ف َم ْن يَ ْع َم ْل مِثقالَ َّ
ذرةٍ َخيْرا ً َي َرهُ' الخطأ وال ّ
إن ا ْبنِي م ِْن أ ْهلِي ذرةٍ ش ًَّرا َي َرهُ'﴾(الزلزلة )3-8؛ ﴿ َونا َدى نُو ٌ
ح َر َّبهُ فقا َل َربّ ِ َّ َو َم ْن َي ْع َم ْل مِثقا َل َّ
ِح' فال
صال ٍ مِن أ ْهلِكَ ' إنه َ
ع َم ٌل َ
غي ُْر َ ْس ْ إن َو ْعدَكَ ال َح ُّق' َوأنتَ أ ْحك ُم ال َحا ِكمِينَ ' قا َل يَا نُو ُ
ح إنه لي َ َو َّ
أن تكونَ مِنَ ال َجاهِل ِينَ '﴾(هود )40-41وإن خير ما جاء به ْس لكَ ب ِه عِل ٌم' إني أعِظكَ ْ تس ِّ
ْألن َما لي َ
الغزالي إنما هو أساسه التقويمي لمطلق السّلوك اإلنساني الذي عبر عنه ب[إلهام الملك -ل ّمة
ص ّحة -الخطإ] وتحديدا ً في تفصيل الشيطان] ،الذي يُرى له وصل بارز باألساس الديكارتي [ال ّ
تصور لكل شيء في سلوك اإلنسان ومسؤوليته ،تماما ً على ّ مقولة ومفهوم "الالمباالة" .فهو
﴿وإذ
تصور يستقر في خلد كل مخلوق قد بلغه الخطابَ : ّ اختزالية نظرية كل شيء في الفيزياء،6
ش ِهدْنا على أنف ِس ِه ْم ألسْتُ َ
بر ِبّك ْم قالوا َبلى' َ ذر َيا ِت ِه ْم َوأ ْش َه َدهُ ْم َ أخَذ َربُّكَ مِن َبنِي آ َد َم م ِْن ظ ُه ِ
ور ِه ْم ِ ّ
ذر َية ْ
مِن ع ْن هَذا غَافِلِينَ ْأو تقولوا إن َما أ ْش َركَ آ َباؤُنا م ِْن ق ْب ُل َوكنا ِ ّ ْ
أن تقولوا َي ْو َم ال ِق َيا َم ِة إنا كنا َ
ت َولعَلَّ ُه ْم يَ ْرجعُونَ '﴾ (األعراف ص ُل اآليَا ِ بَ ْع ِد ِه ْم' أفت ْهلِكنا ب َما فعَ َل ال ُمبْطِ لونَ ' َوكذلِكَ نف ِ ّ
)374..370
6
Theory of everything : TOE
18
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تصور نظمة منطق وجودي كلي ،ليس يقف ح ّد الحفرياتية الطبيعية بل يمت ُّد مهيمنا ً ّ إننا بصدد
ي ما الحقيقة
علي َها بالحفرياتية المنطقية مشاكلة بيانية إن شئت ،تكشف لمطلق العقل السو ّ
الوجودية عبر تفنيد الحجّية الواهية لنظام خطاب األرباب من دون هللا بإشهاد الذات اإلنسانية
الناطقة .بلى هنا نبلغ ونصعد إلى المنتهى ،هناك يفسّر الجمال البهي للرياضيات الذي تراه عقول
نفوس الفطرة السامية ،فهو حقا من جمال الحق ومن جمال الجنة ،جزاء الذين آمنوا وعملوا
صالحات طوبى لهم وحسن مآب؛ وما أرى سياقا ً يحمل لمعنى "الخير" في قوله تعالى ﴿بيَدِكَ ال ّ
ال َخي ُْر﴾(آل عمران )00ومعنى حب الحق مدلوال أقرب للنفس – كما هو في بيان ابن سينا-
رحمه هللا! -إال هذا السّياق .فهذا المنطق المطلق ،منطق كل شيء ،والخطاب الحق ،حيث
نوا يسيراً ،فتمثل في كل آن وجودي وهاجةتشخص الحقيقة الوجودية فيه فتدنو من العقل ُد ًّ
مشرقة ،يُب ِ ّدد ضوؤها سُدف الظلم وتمزق ُحجب حرب التضليل الوجودي والحضاري المشؤوم
المضروب على البشر ،وحينها يمتاز حرفيو السفسطة وأدعياء العلمية عن الباحثين عن الحقيقة.
أال ما أجمل الحقيقة الوجودية ،وإن جمالها لهو فحسب من سبحات الحق!
7تفصيل الخلق واألمر :الفصل الثالث من الباب السادس 'تصحيح االتصال بين الحكمة وعلم الكتاب ،وخاصة
ص 120فيما يخص قول كانط في الصالة
8
The Rise of Early Modern Science Islam, China, and the West By Toby E. Huff.
Cambridge University Press, 1983
هف ترجمة د .محمد عصفور -عالم 9فجر العلم الحديث اإلسالم -الصين -الغرب (الطبعة الثانية) تأليف توبي أّ .
المعرفة -٨٠٤الفصل ( )٣العقل والعقالنية في اإلسالم والغرب
19
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
خط المنطق المطلق يمتد لينتظم الميزان في كل شيء ،وليكون تعليل كل شيء ،وليكون أساس
تحقيق كل شيء ،حتى يقارب التحكم في كل شيء إال الخالقية األولى .إننا هنا نحقق ونجاوز
صياغة الرياضية للكون ،التي بلغت ذروتها ،من بعد ما برأها ّأول برأها الفارابي ،مع ابنال ّ
الهيثم ،ثم لتنسب مع السّطو وتغريب العقل العربي اإلسالمي إلى كوبرنيك وكبلر وجاليلي
وديكارت ونيوتن وليبنتز ،ونجاوز العقل الكلي أو العقل المحض لكانط وروح التاريخ لهيجل
لنصل إلى تقرير أن المهيمن من بعد الخلق األول هو المنطق الكامل ،حتى أمكن به تعليل
مشاعر النفس وخلجاتها وما تخفي الصدور ،بل أيضا ً النبوة والرسالة والمعجزات وتكليم هللا-
سبحانه! -موسى – عليه السالم! -واإلسراء والمعراج بمحمد -صلى هللا عليه وآله وسلم!-؛
فهناك تفسير لكل شيء في المنطق الكامل ،الذي ال نرى منه إال ما تمثل لنا .يقول فيلسوف العلم
الفرنسي عالم فيزياء الكوانتم في كتابه "فلسفة الكوانتم فهم العلم المعاصر وتأويله":
"إن الطريق العظيم للفكر الذي يبدأ بالعبارة الشهيرة« :أنا أفكر ،إذن أنا موجود» لهو تصديق
على مبدأ بالغ الوضوح :الفكر يسبق الوجود ،والتأمل الذي يستخدم هذا الفكر ،وبالفكر ذاته،
يمنحنا المنهج المؤدي إلى الفهم الكامل .العقل نقطة البدء ،وهو يفوق في هذا الطبيعة ذاتها.
السبب الذي يجعلنا ال بد أن نذكر ديكارت هنا هو أنه يرفع راية العقل عاليا أكثر من أي
مجرد حيلة .والرب الذي يزعمّ شخص آخر .كانت راية العقل خفاقة ،حتى أن شكه الشهير
ديكارت أننا لن نالقيه إال في أواخر كتابه ،حاضر تمام الحضور في الكوغيتو ،ويتبوأ عرش
العقل الجدير به سبحانه .فهل العقل أو المنطق ،أيما تسميهما ،هما دائما أقوى خدامنا الملغزين-
10
أم أنهما سادتنا؟"
وعلى خطإ تقريره سبق الفكر للوجود ،سواء من جهة مرجع القول أو فقه النسقين المنطقيين
للتكافؤ واالستنباط ،وبتمييز مساوق لهذا المعيار المرجعي بين دالالت العقل ،العقل الملكة والعقل
بالروعة التي نصلالتاريخي والعقل الكلي ،يبقى تساؤله مخرج السياق والكلمة تساؤال رائعاًّ ،
إلى فهمها ذاتها من كتابه ومن خالل الترتيب المحكم لفصوله.
10فلسفة الكوانتم فهم العلم المعاصر وتأويله :تأليف روالن أومنيس -ترجمة :أ .د .أحمد فؤاد باشا -أ.د .يمنى
طريف الخولي -عالم المعرفة 112أبريل -0228ص320
20
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ي من دليل خطإ هذا التقرير لسبق الفكر للوجود ،ووجوب التمييز بين دالالت وليس أقرب إل َّ
العقل ،أو إنني لست أريد منه إال هذه الحقيقة النورانية الجليلة في المقدمة البهية التي ازدان بها
كتاب "كونوا علماء تصبحوا أنبياء" 11لنفس المؤلف مشتركا مع العالم الفيزيائي جورج
شارباك 12والتي سنعرضها في موضعها ،الحقيقة المهيبة اتي تمأل األفق الوجودي:
".. une réalité grandiose en laquelle tout se concentre. Nous parlerons de ces
lois si étranges qu’elles paraitraient de vains rêves si elles n’étaient justement
"l’essence de tout ce qui est, le réel centre de la réalité.
ق َوفِي أنفُ ِس ِه ْم َحتى يتبيّن ل ُه ْم أنهُ ال َح ُّق'﴾(فصلت )11 يقول الحق سبحانه وتعالىَ ﴿ :
سنُ ِري ِه ْم آيَاتِنا فِي اآلفا ِ
« Nous leur montrerons nos signes dans les horizons et en eux-mêmes
» jusqu’à ce qu’il leur apparaisse clairement que ceci est la vérité
إنها ذات الحقيقة التي ألمعنا إليها ،منتهى الجمال يصل قانون الطبيعة من خالل العقل بالجنة
التي يكون الجمال المطلق هو حقيقتها .وال فلسفة وال مبلغ علم لفيلسوف أو عالم من دون منظار
التفصيل.
وليس هو من الغريب ،بل تجلي تناسق حكيم مع اسم السورة "فصلت" ومع أولها﴿ :بس ِْم هللاِ
ع َربيّا ً ل ْ
ِقو ٍم قرآنا ً َ ص ْ
لت آ َياتهُ ْ الرحِ ِيم كِتابٌ ُف ِ ّ
ان َّ الرحِ ِيم حم' تنزي ٌل مِنَ َّ
الر ْح َم ِ ان َّ
الر ْح َم ِ
َّ
يَ ْعل ُمونَ '﴾(فصلت )0-3فالتفصيل ليس معناه هنا التجزيء أو التقسيم ،إنما هو التوافق شرطا ً في
الخطاب المنزل إلى المخلوق ،واإلنسان درجات ،وإنما يخشى هللا من عباده العلماء ،الذين يرون
ويتلون كتاب هللا المشهود ،فيغشاهم ويستشعرون هذا المهابة واإلجالل لهذه القوانين المدبرة ألمر
الكون تفصيال للحق الذي يخاطبهم؛ فيتلقون ذات الحقيقة في القرآن المشهود التي أرسل بها محمد
صلى هللا عليه وآله وسلم مصدقا لما قبله من وحي النبوة؛ هذا القرب والصعود للعلماء فيتبيّن لهم
11
SOYEZ SAVANTS, DEVENEZ PROPHÈTES : GEORGES CHARPAK, ROLAND OMNÈS- ODILE JACOB
,2005, NOVEMBRE 2005
12عالم فيزيائي بولندي /فرنسي ( )0232-3304حائز على نوبل في الفيزياء ( 3330فيزياء الجسيمات
والفيزياء النووية)
21
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الحق هو المعنى الذي يحقق ل"كونوا علماء تصبحوا أنبياء" إنه القرآن المشهود ما يتلوه العلماء:
﴿إن َما يَ ْخشَى هللاَ م ِْن ِع َباد ِه العُل َما ُء﴾(فاطر )08و"العلماء ورثة األنبياء".13
وبع ُد..
ي شأن ،ال فإنه ل هذا الخطر للمعرفة التي لها في التاريخ وما لها في األثر عليه وتشكيله من أ ّ
ي ك ّد لترى عظمة فريدة وأحوذية شامخة للبروفيسور إدوارد سعيد – غفر هللا له! -في يستلزم أ ّ
عمله وكتابه "االستشراق" بالخصوص ،وترى فيها جهدا ً علميا ً يُبرز انتظام محورية دعوة
التراث ضمن روح االستشراق ،االستشراق كونه سعيا ً حثيثا ً وإرادة قوة ،معرفية وعلمية
صا تاريخيا ً وفاقا ً لقراءة تاريخية ورؤيا جد نسبية ونفسانية
باألساس ،في كتابة وإنشاء الشرق ن ًّ
غربية ،خصوصا ً ر ّد فعل نفساني اتجاه هيمنة وقوة اإلسالم وخطره الذي خيّم قرونا ً متطاولة
على أوروبا؛ وهل شيء أد ّل على هذه الحقيقة من أن يربط بين فتح نابليون لمصر واالستشراق:
"وألن مصر كانت مفعمة بالدالالت والمعنى بالنسبة للفنون ،والعلوم والسّياسة والحكم ،فقد
كان دورها أن تكون المسرح الذي تدور عليه األحداث ذات األهمية التاريخية العالمية.
القوة الحديثة كانت تجلو شدة بأسها وتسوغ التاريخ؛ وكان قدر وباالستيالء على مصر ،إذن ،فإن ّ
القوة
مصر ذاتها أن تلحق بأمة أخرى ،يُفضل أن تكون أوروبا .وإضافة إلى ذلك ،فإن هذه ّ
الحديثة ستدخل أيضا ً تاريخا ً حددت العنصر المشترك فيه شخصيات في عظمة هوميروس،
واإلسكندر ،وقيصر ،وأفالطون ،وسولون ،وفيثاغورس الذين باركوا الشرق بوجودهم ،ماضياً،
فيه .وبإيجاز ،فقد ُوجد الشرق من حيث هو طقم من القيم مرتبط ال بحقائقه الحديثة ،بل بسلسلة
ي .وذلك مثل صاف على ماض أوروبي قص ّ ٍ من التماسات المثبتة التي كانت قد تمت بينه وبين
14
الموقف النصي التخطيطي الذي ما فتئت أشير إليه".
"كانت مقدرة لين على التعامل مع المصريين ككائنات حاضرة وكوثيق لملصقات لفظية
وظيفة أدائية <لمعطيات> االستشراق ولآلراء المعتنقة عموما ً حول المسلم والسامي في الشرق
األدنى .ولم يكن ثمة من شعب يُمكن أن يُرى فيه الحاضر واألصل معا ً أكثر مما كان يمكن أن
يُريا في الساميين الشرقيين .وكان اليهود والمسلمون ،من حيث هم موضوعان للدراسة
أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه -إسالم أون الين -فقه المسلم -حديث العلماء ورثة األنبياء 13
22
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
االستشراقية في متناول الفهم ،بحكم أصولهم البدائية :ولقد كان هذا (وما يزال إلى حد ما) حجر
الزاوية في االستشراق الحديث .كان رينان قد وصف الساميين بأنهم مثل على التطور المعاق،
وقد أصبح ذلك يعني ،من وجهة نظر وظيفية ،أنه ،في عرف المستشرق ،ليس هناك من سامي
حديث ،قادر على أن ينفلت خارج إطار المطالب المنظمة التي تفرضها عليه أصوله ،مهما ظن
نفسه حديثاً .وقد فعلت هذه القاعدة الوظيفية على المستويين الزماني والمكاني .فما من سامي تقدم
15
في الزمن إلى نقطة تتجاوز تطور مرحلة "كالسيكية""
صحّة لطورية االستشراق هي على الرؤية الكلية األولية والسطحية ،ألننا نرى
لكن هذه ال ّ
وذلك ما تجليه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" لمحمود شاكر ،أننا بصدد طورية غير زمنية بل
أحوالية توازنية وجدلية في بعض مستوياتها .هذا ما سنحاول بعد إيضاحه وإثباته.
كذلك في سياق اتخاذه واعتباره شاتوبريان وإدوارد لين موجّهين بل محددين لمصير
االستشراق ،تنبثق هذه الحقيقة" :وأن يبحث المرء في االستشراق عن واقع إنساني ،أو حتى
اجتماعي للشرقي ككائن يسكن في العالم المعاصر -هو بحث دون جدوى"!18
إنه هو الوجه اإلسقاطي الذي ال ينفصل عن جبهة االستشراق ،ليس أحادي المكونات وأوجه
السّالح ،أي ليس يقتصر فقط على المعرفة مصدرا ً لقوة التحكم في التاريخ والعدو الحضاري –
صا اإلسالم -ضمنه ،بل تتريثه وصبغه صبغا ً تراثياً ،هو أيضا ً موضوعه المعرفة
الشرق وتخصي ً
سالحا ً وجب محاصرة العدو وحيلولته دونه .وهذا ال محالة سيضع على نفس الخط ّ
الركني ضمن
15ن م – ص084
16ن م – ص314
17رسالة في الطريق إلى ثقافتنا -ص02
18االستشراق -ص010
23
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
أهم األعمال والكتب في "االستشراق" "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" و"تغريب العقل العربي
اإلسالمي" 19لياسين عريبي ،تفصيال له في عنصر جد هام منه .هذه النظمة ّ
الركنية ال ينبغي
النظر إليها من جهة المعيار المعطياتي البديهي فقط ،بل كونها في تكاملها وعالقتها تكفل تقويم
كل منها؛ فلئن كان "االستشراق" إلدوارد سعيد قاصرا ً ومعطياتيا ً صرفا ً من غير اعتبار هذه
النظمة كاملة ،فإن الوظيفة السَّلبية والتحييدية للعقل المنهاجي العلمي والرباني ،هذه الوظيفة
التراثية لالستشراق ،والتي تكاد أن تكون هي إحدى اثنتين في األفكار المؤسّسة ل"االستشراق"
أن العقل العربي اإلسالمي ونشأه هو ضمن عند إدوارد سعيد ،تقوي ما وهن وما لم يبرز ِم ْن َّ
مجال الخطاب االستشراقي.
إن الذي نه ّم بإنجازه ونسعى إليه على بساط حول هللا وقوته ،وما أبصرت به يقينا ً إال بتوفيقه
َّ
صعود بالنظر ،في موضوع االستشراق ،بتعليل صحة تقرير مطابقة الشرق ونور هدايته ،هو ال ّ
صعود إلى البنية القانونية،
باإلسالم ،من أجل كشف المفهوم المستجد والمحدث ل"التراث" ،ال ّ
المجلية لحقيقة الخطاب واللغة ،كما هي العالقة في قيمتها وسُلميتها بين اللغة الطبيعية والرموز
من جهة والمنطق من جهة .وكذلك هي العالقة في نفس المنحى الحقائقي بين الموضوع المتعدد
وخطابه الطبيعي ،عالقته بالقانون الجامع والموحد للموضوعات أو الموضوع المتعدد مع
صحّة في الكتابة.
صياغته المنطقية مرجع الحق في الخطاب وال ّ
إن مفهوم "الحفرياتية" أو "األركيولوجية" فضا ًء استدالليا ً ،ما ِ ّديا ً مشهودا ً بالدرجة األولى،
مستقرا في األفئدة (العقول الوجودية) هو من ضمن داللة "القرآن ّ حيث يتم االستنباط تبعا ً
ب نظاماتالمشهود" دليل الحقيقة الوجودية للفطرة السليمة ،التي ال تحجب رؤيتها للحقيقة ُح ُج ُ
األرضية.
خطاب ما دون الحق من أرباب الكيانات ْ
ولئن كان المرتكز األساس في هذا العمل المنتظم لالستشراق واألنتربولوجيا والتراث
والمنهج مستنبطاً ،لئن كان هذا المرتكز والقاعدة هو سؤال الحقيقة الوجودية ،الذي ال يمكن
صدق والواقعية الوجودية ،وكذلكالخروج من ظله ومن حقله إال بالخروج من ظل العقل وحقل ال ّ
24
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المعطى التاريخي الذي لم يكن حتمياً ،الممثل في واقع الحوض االستعماري التكويني ،الدال على
صفة الشيئية والتشييئية بين يدي السّياسة االستعمارية والفكر الكولونيالي االستغرابي ال ّ
بالرد بالنسبة للسّؤال األول في دحض ما
صليبي ،نفس صفة الموضوع االستشراقي ،وقد وفينا ّ وال ّ
تصوره برتراند راسل أصوال للرياضيات في كتابنا "األصول الحقة للرياضيات أو المدخل إلى ّ
الرياضيات ونقد الدليل الوجودي" ،وبالذات من خالل "المسافة اإلدراكية" والوحدة المرجعية ّ
الرياضية كما عبّر عنها ليبنتز ،كونها
20
والرياضيات ،وبمفهوم "الطابع الكوني" للصيغة ّ للفلسفة ّ
صيغة بيانية واللغة بيان ،من خالل ذلك يرى التض ّمن الواضح لسؤال الحقيقة الوجودية ونظام
الخطاب عند إدوارد سعيد وميشال فوكو .وبخصوص العنصر أو المرتكز الثاني ،معطى
الحوض االستعماري التكويني ،فكان دعامة ها ّمة في قضية جمال الدين األفغاني من جهة الحكم
صصنا له كتاب "جمال الدين التاريخي في قيمة حيثياته ومدى موضوعيته ومصداقيته ،مما خ ّ
األفغاني والتحليل التاريخي أو المسلمون والتاريخ"..21
صياغة المنطقية والتقطيع فإن ال ّ لئن استوجب ذلك واعتباره مقدمة بنيوية ال منتدح عنهاّ ،
بالمنطق المتسامي لظاهرة االستشراق ،حقال مختلقا ً ال كغيره من الحقول التاريخية إن على
للراسخين في الفكرمستوى الماهية أو البعد الزمني وأمد الهدف التاريخي ،لم تتعيّن مقاربة مثلى ّ
مجرد ممارسة لفظية ال تعدو في نسقها شاكلة تعلم اللغات ومعجمها بالذات ،لكن ّ والفلسفة -ال
الرسوخ أو حصول بعلوم اآللة ومراسها ،التي وحدها الملكة المنطقية الشرط األوكد في هذا ّ
صياغة ليست فحسب مقاربة أعلى وأعز ما يطلب على الرسوخ في الفكر والفلسفة -هذه ال ّ ّ
مستوى العقل في استجالء عالقة االستشراق باألنتربولوجيا واستدماجه للمفهوم المستجد
والمحدث ل"التراث" ،بل هي أوال في التكافؤ التاريخي المنطقي بين االستشراق وتغريب العقل
العربي اإلسالمي ،وثانيا ً على البعد العالئقي بين الموضوع وقانونه ،ترى تقوي ًما منطقيا ً أقصى
لعمل وكتاب إدوارد سعيد في "االستشراق" .أي أن ما توصل إليه بنهج بحثي استقرائي
وبخصائص علمية معرفية ذاتية ،مما هو من موصوالت النهج التجريبي البحثي االستقرائي ،ولو
قصرا ً على البعد الوصفي كما سيتبيّن مكمال استيساقا ً بالعمل العظيم والمميّز لمحمد ياسين
صل إليه بصياغة عريبي تفصيال لرسالة محمود شاكر كما أشرنا إليه ،أن هذا قد ت َّم إثباته والتو ّ
محض منطقية ،وبسلم المنطق المتسامي تحديداً .فهذا هو الذي أردنا به دعوانا نسجنا عملنا
25
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وكتابنا هذا على غير منوال ما قد سبق في هذا السّؤال من المؤلفات الكثيرة بغير حصر ،وعلى
ضوء المنطق السيكولوجي ،المدمج لكل مرجعيات النظر القاصرة بحكم المنطق وتقويم الحق.
إن أعظم حقيقة مما ورد في هذا الكتاب من الحقائق ،كانت أبعد عن النظر منها جميعاً .بل إنها
ي جهة من جهاتها؛ إنها في عمق الحفرياتية ال التاريخية والمادية لكن
لم تكن ظاهرة في أ ّ
الحفرياتية المنطقية المطلقة .إنها ليست من الحقائق التي عادة ما تكون الدافع في الكتابة واألساس
األولي في العمل..
التراث نقيضا ً لالستشراق كانت الفكرة األولى التي تراءت لنا ،وهذا أقرب إلى البداهة أل ّ
ي
صراعنظر في التقويم العملي والتاريخي للتراث مصاحب ومساير باالهتمام بأخطر جبهات ال ّ
صليبي الممثلة في االستشراق .لكن األمر الخطير هو أن يتجلى لك وأنت في عمق الحضاري ال ّ
هذا الخضم السّؤال المرعب المخيف:
أليس مفهوم التراث المحدث معالجة في صياغة العقل الشرقي كما الخطاب االستشراقي في
صياغة الشرق؟
مع اعتبارنا كتاب وعمل "االستشراق" إلدوارد سعيد ،بكل ما يمكن أن نسميه بالحقل البؤري
التكويني على وصل قاموسي ب"النقد التكويني" ،الذي سنعطي تأطيرا ً له -أي للعمل -من خالل
معالم ظاهرة فيه وبارزة ،اعتباره عمال ذروة وبلورة اتسقت ،فجاءت ال مماراة غير مسبوقة في
صياغة ،ليس فقط من جهة ما تعنيه البلورة هنا أو االنتظام الفكري أو الحقائقي ومن حيث ال ّ
صياغة من التبلور من االنتظام الحقائقي (المنطبق في الحقيقة بالعقل المتزن والمنطق) ،بل ال ّ
حيث هي صنعة على ما جاء في تعبير إدوارد سعيد نفسه؛ عبر بذلك عن مكونات الكتابة
االستشراقية االحترافية ،تعيينا ً لكنها مطلقة السّريان ،التي تتطلب أو تستوفي السّعة والموسوعية
شبه الخارقة ،والذكاء الحا ّد في تناول القضايا إلى ح ّد وجوب التعقيد وسلوك ضرب من البيان
التورياتي ،أمكن في نظرنا أن نسميه بالمجاز نقيض -معجمي ،التحريفي بالطبع؛ كل أولئك
ضمن هذا ال َّدهَاء االحترافي ،الذي له خطابه الترميزي ،قاموسا ً وأسلوباً ،نفر رهط قليل هم
26
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المؤهلون الستبانته كما سيأتي مثله واضحا ً حتى أمكن اعتباره نموذجا ً تعليميا ً مع جاك بيرك في
ترجمت لمعاني القرآن الكريم.
مع اعتبارنا هذا ،أي مع تقرير هذا التنويه ،يجب علينا لزوم الذات العقل قارئا ً لئال نهوي في
حقل "االستشراق" بتأثير قوته الهائلة ،وألنه في نظرنا – وهو الواقع مما سنبينه -ال يتجاوز،
الرغم من صنعته وكثافته غير المعهودتين ،ال يتجاوز البعد الوصفي ،وبالقاموس المنطقي البعد ب ّ
تصوره تمثيال لموضوع مادي ّ تصور العقلي للخطاب، المعطياتي؛ وليس كافال لحدس هذا سوى ال ّ
تصورا ً علميا ً لموضوع الخطاب ال للخطاب على بعد ّ تصور،طبيعي تاريخي حادث ،ال مطلق ال ّ
ي مجال كان ،ال تتم وال تصح إال باستيفائهأدبياتي .ذلك أن دراسة الموضوع علميا ً وفي أ ّ
تركيبيا ً .واالقتصار على البعد المعطياتي ،مهما يكن من عمقه وسعته ،ليس يفيد شيئا ً ،أو يبقى
هو خداجا ً من دون نتاج بديه بداهة ارتباط النتائج بالمقدمات ،ومن دون تفسير لهذه المعطيات
الركن األساس ،الذي وتعليلها؛ ذلك أن المنتج هو العلمية بصبغتها الحقة .وهذا التعليل بالذات هو ّ
يعطينا الفقه الحقيقي أو االبستيم الحقيقي لكل ما نشهده ولكل ما نقرؤه ،ليس ذلك ألنه مفسّر
وحسب ،بل ألنه يصلنا بكل العوامل واألصول واللوحات التكوينية ،ويكون بذلك مبرزا ً لمعطيات
ومستويات معطياتية أخرى ،مضيفا ً وضوحا ً أكثر مع مدى هذا االستجالء واإلسباغ ،حتى يكتمل
صل لنا النظر وتتحقق صفته وميزته العلمية حقاً .فإذا نحن نهجنا في نظرنا الذات العقل ،وإن تح ّ
هذا الذي مثل "االستشراق" إلدوارد سعيد أو لديه ،فسيكون لنا إمكان منطقي أن نحصل على
ال ُمك ِّمل أو المك ّمالت من اللوحات للوحة الوصفية المتبلورة والشاخصة حقيقة وجودية وواقعاً.
لسنا في حاجة إلى بيان أصولية التعليلية في النظر الذي يراد له صفة العلمية؛ فالسّببية ُم َو ِ ّجهٌ
خاص له على مستوى ما بعد ّ تصور العقل العالم -لكنه الوجود مع فقه
ّ تصورنا –
ّ أساس في
تصورنا للكون المادي التاريخي الحادث .وحينما نلتزم بهذا ّ الخالقية ،أي ما بعد الالنهاية الفعلية،
المنهاج الموضوعي األولي بالطبع ،ونذهب على منحى السّبب المنتج للمعطى والمفسّر له،
سيسفر لنا عن الحقيقة الكبرى المتمثلة في التكافؤ المنطقي بين لوحة "استشراق" إدوارد سعيد،
لوحة معطياتية على البعد المعطياتي ،ولوحة "االستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي -نقد
العقل التاريخي" لياسين عريبي؛ هذا التكافؤ لن تكون ترجمته التاريخية سوى حدوث وتزامن
تاريخي بينهما ،يؤول في نهاية المطاف إلى تالزم مكوناتي داخل نفس الجوهر ،جوهر وحقيقة
االستشراق .فمعرفة الشرق من أجل الغرب ،تستلزم امتالك العقل العملي اإلسالمي وتغريبه ثم
تحييده شرقيا ً معرفيا ً وواقعياً ،وهذا ال شك يزيد من أوار حرب الغرب على اإلسالم دينا ً ومنهجا ً
27
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وتاريخاً ،ألن اإلسالم بالذات هو منهح تجلى عقال تاريخا ً ليس يمكن أن يكون له تاريخ غيره،
سطو وتغريبٌ للعقل العربي اإلسالمي إال بشرط تحريف الحقيقة الوجودية،
ٌ وبالتالي ال يكون
وهذه من الحقائق التي أبرزها الباحث والمستشرق الروسي أليكسي جورافسكي في كتابه
"اإلسالم والمسيحية":22
"في العصر الوسيط تحديدا ،أي في زمن المبادالت الثقافية األكثر فعالية ،تشكلت في الوعي
المسيحي (الشعوري والالشعوري) القوالب النمطية الذهنية عن اإلسالم ،وهي التي نشأت في
كثير من جوانبها بارتباط مسبق وارتهان شرطي بنوع وطبيعة الموقف التقليدي للكنيسة من
اإلسالم .وبشكل عام ،فإن صورة اإلسالم المتكونة آنذاك ،وهي مزيج متناقض لمعارف
تصورات في منتهى الخيالية (الفانتازيا)
ّ موضوعية مع تشويهات خطيرة ،ضمنت في الوقت ذاته
والتوهم ،حيث هيمنت بشكل ثابت ،راسخ لمدة تاريخية طويلة على عقل اإلنسان األوروبي
تصورات الغربية المعاصرة ومنطقه ومداركه تجاه اإلسالم وحضارته .ولهذا يمكن القول إن ال ّ
حول دين المسلمين ،لم تتكون وترتسم في صفحة بيضاء خالية ،وإنما انعكست في مرآة قديمة
مشوهة .إذ «إن سكان أوروبا المعاصرة ورثوا عن أسالفهم من القرون الوسطى مجموعة
عريضة وواسعة من األفكار حول اإلسالم ،التي كانت تتغير تدريجيا مظاهرها الخارجية فقط،
تبعا ً لتغير الظروف في أوروبا ذاتها ،وتبعا لطبيعة عالقاتها ومواقفها المستجدة نسبيا مع البلدان
23
اإلسالمية وثقافاتاها الحديثة»
فالتصور النمطي المشوه عن اإلسالم ،لم يتشكل بسبب ضعف معرفة األوروبيين بهذا الدين
ّ
24
وحسب"...
تحريف تعاليم اإلسالم كتابا ً وسنة ،وتحريف تاريخ اإلسالم ،واستنباطا ً تكامليا ً موازيا ً يصبح
النهج الحضاري الغربي في غير ما هو مطبق المعيارية الرياضية ،في غير الجانب المادي
العمراني ،يصبح نهجا ً مناقضا ً للمنطق الكلي ،تماماً ،أي حربا ً على الحقيقة والوجودية ،على
المبدإ والحقيقة التي بنينا عليها نقضنا لمقولة حوار األديان في جزأي "تفصيل الخلق واألمر".
22
A. B. ЖУРABCKИЙ, XPИCTИANCTBO И ИCLAM
23
N. Daniel. Islam. Europe and Empire. (Edinbourgh, 1966), p. 13.
24اإلسالم والمسيحية :أليكسي جورافسكي -أكاديمية العلوم الروسية ،موسكو -3332ترجمة :د ,خلف محمد
الجراد ،راجع المادة العلمية وقدم له /أ .د .محمود حمدي زقزوق -عالم المعرفة – 031ص03-08-
28
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ولن أبالغ ولست مجانبا ً السّداد إن أنا قلت بأن موقع كتاب والعمل العبقري لد .محمد ياسين
عريبي اليوم مع "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" الذي بدوره له مصدق من كتاب "اإلسالم
والمسيحية" ألليكسي جورافسكي ،هو في منهاج األمة على نفس ما لصحيح البخاري في
األصول؛ يقول عريبي:
هذا التكامل الجلي الذي ال يمكن أن يقرر ،ومهما عظم قدر كتاب "االستشراق" ،وأن يكتسب
قيمة عملية ووظيفية من دونه ،ومن جهتي تعليل أو خلفية االستشراق وتحديد منهج المواجهة،
سيُبرز الدرجة الرفيعة واألثر العظيم الذي سطره ناصر الدين دينيه -رحمه هللا! -المسمى قبل
إسالمه ألفونس إتيين دينيه ،)2111-2662(26حائزا السبق ممهدا لمن بعده بشاﻫد التاريخ .يقول
دكتور عبد الحليم محمود – رحمه هللا! -في تمهيده لكتابه "محمد رسول هللا" ،تمهيد يعتبر بحثا
وعمال مستقال تحت عنوان "حياة ناصر الدين دينيه وآراؤه":
حينما ألف السيد ناصر الدين كتابه عن حياة سيدنا محمد صلى هللا عليه وسلم ،ثارت ثورة
النقاد متجهة ،على الخصوص ،إلى الشكل ،ال إلى الجوﻫر :لقد زعموا أن األبحاث العلمية
الحديثة قد وضحت جوانب من سيرة الرسول ،وأن المستشرقين في مختلف األقطار قد كتبوا عن
25االستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي – نقد العقل التاريخي -3-الدكتور محمد ياسين عريبي -منشورات
المجلس القومي للثقافة العربية -الطبعة األولى 3333م -ص312
26
Dinet Étienne- Alphonse
29
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
سيرة سيدنا محمد كتابة تعتمد على األبحاث العلمية الدقيقة؛ ورأوا أن األستاذ ناصر الدين لم يعبأ
بشيء من ذلك ،وأخذوا عليه أنه لم يقم وزنا إلنتاج المستشرقين في السيرة النبوية وأن اعتماده
إنما كان على السيرة القديمة ،كسيرة ابن ﻫشام وابن سعد.
والواقع أنه فعل ذلك ،وفعله متعمدا ،فقد كتب السيرة معتمدا على المنقول من األخبار
اإلسالمية الصحيحة ،ولكنه فعل ذلك بعد أن قرأ ما كتبه المستشرقون عن سيرة الرسول فوجد
أنه ال يساوي شروى نقير .لقد رأى أنه من المتعذر ،إن لم يكن من المستحيل ،أن يتجرد
المستشرقون من عواطفهم وبيئتهم ،ونزعاتهم المختلفة ،وأنه لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي
والصحابة مبلغا يغشى على صورتهم الحقيقية ،من شدة التحريف فيها ،ورغم ما يزعمون من
27
اتباعهم ألساليب النقد الحديثة ،ولقوانين البحث العلمي الجاد"
يقول ناصر الدين..." :على أن دراسة المبتدعات التي دخلت عن هذا الطريق في تاريخ النبي
قد أتاحت لنا أن نكشف عن أنها كانت ،أحيانا ً وليدة كراهية شديدة لإلسالم يصعب التوفيق بينها
28
وبين العلم"
عالوة على اإلفصاح المبين المحدد للخلفية التاريخية الصليبية والحقد المغروس في النفس
الغربية أصال أساسا ً لالستشراق رغم الزعم الكاذب للعلمية ،وهذه حقيقة ارتكازية في "رسالة في
الطريق إلى ثقافتنا" ،يُرى أن السّؤال األهم الذي شغل بال ناصر الدين هو المواجهة العملية لهذا
الكيد التاريخي والعدوان الذي ال يكل وال يفتر على اإلسالم وعلى موقع وكيان المسلمين في
التاريخ ،مواجهته على المستويين السياسي والديني ،داعيا ً بل محددا ً لمنهج هذه المواجهة،
بإصالح واسترجاع ما كان من شرط المسلمين وظهورهم على أمم األرض ،وخاصة بإحياء همم
المسلمين برد المساواة االعتبارية بينهم كما كانت عند الرعيل األول .مما ينطبق بشرط روح
المؤسّساتية التي تحققت وكانت شرطا وعامال أساسا ً في كل الفتوحات الحضارية اإلسالمية
العسكرية والعلمية ،وهو العامل -ولو كان دونه درجة -في احتضان الغرب للعلم الحديث كما
سيأتي بيانه.
27إتيين دينيه سليمان إبراهيم :محمد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم -ص40
28ن م – ص03
30
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ونقطة محورية هنا تهم الناحية البيانية وذات حقيقة االستشراق من حيث أي شيء هو ينبغي
تصوره وعن أي العلل خاصة منطلقه وهدفه ،عن أي منها كان صدوره ،كما هو مفصل في ّ
رسالة في الطريق إلى ثقافتنا لمحمود شاكر ،يقول ياسين عريبي:
"يؤكد يوحنا فيك 29على أن دراسة القرآن واللغة العربية قد جاءت كمنطلق لالستشراق بسبب
صليبيين بقوة السّالح ال يؤدي إلى تنصير المسلمين بل اعتقدت
فكرة التبشير حيث أن انتصار ال ّ
الكنيسة في أن قوة الكلمة هي األساس لتحقق التبشير في ضوء العقل .ومن هنا جاءت فكرة
السيطرة على نبع العقيدة اإلسالمية أال وهو القرآن.30
وفي إطار هذا االعتقاد رحل رئيس األديرة آبت 31من فرنسا إلى إسبانيا سنة 3343م ليتعرف
على روح اإلسالم الذي اشتدت هجماته على اإلسبان في عهد الدولة المهدية .وإذا كانت هذه
الرحلة قد تظاهرت بهدف المصالحة بين الفونس األول األرجواني وفونس السابع لدرء الخطر،
فإن الهدف األساسي في هذه الرحلة يكمن في البحث عن منهج يحدد مضارب الخطر الذي يهدد
الكنيسة بالزحف اإلسالمي من الشرق والغرب ،وهكذا رسم الكلوني آبت خطته لترجمة القرآن
إلى اللغة الالتينية .وقد سعى إلى تحقيق هذه الخطة وهو في منطقة (االبرو) حيث كان يلتقي
بالدارسين للعلوم العربية ،مناشدا ً إياهم تحقيق بغيته .وقد وجد من يلبي طلبه مقابل أجرة عالية
والرياضة العربيين ،وهما :كتننز 32وهرمان دالماتا .33وقد من طرف دارسين انجليزيين للفلك ّ
أخذ األول على عاتقه ترجمة القرآن من العربية إلى الالتينية مع مقدمة قصيرة .أما دالماتا فقد
كلف بأن يكتب عن مبادئ محمد وحياته ،وأن يكتب عن تاريخ اإلسالم الذي يصفه بالمضحك،
بشرط أن يتخذ من إسرائيليات مسائل عبد هللا بن سالم واألساطير الملفقة لقصة األحبار إطارا ً
مرجعيا ً لما يكتبه .وفي نفس الوقت كلف بطرس المبجل 34أحد أساتذته من المستعربين ،والذي
يدعى بطرس الطليطلي بمساعدة سكرتيره ،على أن يترجم من العربية مقالة قصيرة مناهضة
للعقيدة اإلسالمية.
29
Johann Fûck
قارن يوحنا فيك :الدراسات العربية في أوروبا -ص 1وما بعدها -المرجع- 30
31
Abt von Cluny
32
R. Ketennses
33
H. Dalmata
34
Petrus Vernabiles
31
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وفي سنة 3341م انتهى كتننز من ترجمة القرآن إلى الالتينية مما دفع بطرس المبجل إلى
إرسال هذه الترجمة مع أعمال دالماتا والطليطلي إلى رئيس أديرة برنارد كليرفو 35مصحوبة
36
برسالة تؤكد على أن صراع الكنيسة مع اإلسالم يجب أن يتم على كل المستويات".
كذلك من أهم ما يجب تقريره التطابق أو المطابقة من حيث العمق الداللي والنفساني للشرق
باإلسالم والعرب ،وهي ال شك الداللة إن ذهبت تبحث عن الخلفية والمنزع التاريخي األول
لالستشراق ،فقول غاالن المستعرب المميّز أول مترجم "ألف ليلة وليلة" كما نبه إليه صاحب
"االستشراق" بأن ما حققه ديربيلو عمل وصفه بالمدى العريض والمشروع الهائل .وقد قرأ
ديربيلو عددا ً كبيرا ً جدا ً من المؤلفات ،كما يقول غاالن ،بالعربية ،والفارسية ،والتركية مما جعله
قادرا ً على االطالع على معلومات حول قضايا كانت قد بقيت حتى ذلك الوقت محجوبة عن
األوربيين .وبعد أن قام ديربيلو ،بتأليف قاموس لهذه اللغات الشرقية ،تابع عمله ليدرس التاريخ،
والشريعة والجغرافيا ،والعلوم ،والفنون في الشرق بكال نمطيها الخارق والحقيقي الصادق .ومن
ثم قرر أن يؤلف كتابين األول مكتبة ،وهو قاموس مرتب على حروف الهجاء ،والثاني مجموعة
مختارات (أنطولوجي) .ولم ينته سوى القسم األول منه.
وفي مسرده للمكتبة ،يقول غاالن أن كلمة "الشرقي" كان قد خطط لها أن تشمل بصورة
رئيسية شرقي المتوسط ،مع أن المرحلة الزمنية التي تغطيها المكتبة ،يتابع غاالن بإعجاب ،لم
تبدأ أبدا ً مع خلق آدم وتنته في الزمن الذي "نحيا فيه نحن" :بل إن ديربيلو قد أوغل في التاريخ
إلى ما قبل ذلك ،إلى زمن غابر أكثر قدما ً كما وصف في التواريخ المدهشة الخرافية ،إلى
<مرحلة الجماعة المسماة> السليمانيين السابقين على آدم ..ومع اطراد وصف غاالن ،نعرف أن
المكتبة ،كانت مثل اي تاريخ للعالم ،إذ أن ما حاولت أن تفعله هو أن تقدم جامعا ً للمعرفة المتاحة
37
لإلنسان عن قضايا مثل الخلق ،والطوفان ،وخراب بابل ،إلى آخر ذلك "...
التصور واالعتبار ،فاالستشراق ،الحديث منه بالخصوص ،حيث أوجّ ودائما على مستوى
ذروة قوة الغرب" ،يغدو بذلك ممارسا ً لقوة ذات اتجاهات ثالثة :على الشرق ،وعلى المستشرق،
وعلى "المستهلك" الغربي لالستشراق .وسيكون خطأ فيما أعتقد أن نقلل من شأن العالقة ذات
35
Bernard de Clairvau
36االستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي -ص344-341
37االستشراق – ص333
32
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
االتجاهات الثالثة التي تتأسّس بهذه الطريقة .ذلك أن الشرق ("في الخارج هناك" باتجاه الشرق)
يُصوب ،بل يعاقب أيضاً ،لوقوعه خارج حدود المجتمع األوروبي :عالم"نا" نحن؛ وهكذا يشرقن
الشرق .وتلك عملية ال تقتصر على تحديد الشرق باعتباره إقليم المستشرق ،بل إنها كذلك تفرض
على القارئ الغربي المبتدئ أن يقبل تقنيات المستشرق (مثل مكتبة ديربيلو األبجدية) باعتبارها
الشرق الحقيقي .وتصبح الحقيقة ،باختصار ،وظيفة أدائية من وظائف المحاكمة المتفقهة ،ال
38
المادة نفسها التي تبدو ،بمرور الزمن ،وكأنها تدين حتى بوجودها نفسه للمستشرق".
وكذا هو بالفعل ،موقف المستشرق بشكل عام ،فهو يشارك السحر واألساطير في امتالك
طبيعة النظام المغلق المائلة في كونه محتويا ً لذاته ،مدعّما لذاته ،وفي نظام كهذا تكون األشياء ما
هي ألنها ما هي لمرة واحدة وإلى األبد ،وألسباب وجودية (أنطولوجية) ال تستطيع اي مادة
تجريبية أن تغيرها ،أو تزحزها عن موضعها .والمواجهة األوروبية مع الشرق ،وبشكل خاص
مع اإلسالم ،دعمت هذا النظام في تمثيل الشرق وحولت اإلسالم ،كما اقترح هنري بيرن ،إلى
التجسيد الخالص لذات خارجية بُنيت نقيضا ً له الحضارة األوروبية كلها منذ العصور
39
الوسطى".
40
" ...غير أن الموضع الذي يخصه لمحمد هو المهم في المكتبة"
41
"أن "المحمدية" أحد "القوى العالمية العظيمة" المسؤولة عن أعمق خطوط االنقسام في العالم"
"فقد حمل االستشراق في داخله ،إذن لمعظم تاريخه ،سمة موقف أوروبي إشكالي بإزاء
42
اإلسالم"
مجرد تجاوز المعطى تحليلياً ،كون االستشراق معرفة للشرق [اإلسالمي تخصيصاً] بغاية ف ّ
إنشائه حقيقة أخرى للغرب ،بل وفرضها على الشرق مهجناً ،وأن الخلفية في ذلك الحرب على
اإلسالم ،يقفنا بادئ البداهة على معرفة عقل الشرق اإلسالمي وعلى إنشائية مغايرة لحقيقته
38ن م -ص331-334
39ن م -ص333
40ن م -ص331
41ن م – ص123
42ن م – ص301
33
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
األولى ،بل إن السّطو على هذا العقل ،العقل العلمي الحق ،وتحييده بفكّ تاريخيته المستمدة من
منهاج الربانية ،بخلق مرتكز ثقل أنتربولوجي تراثي كالسيكي قروسطي ،أن هذا هو روح
االستشراق ،والمعطى لو تأملت مليا ً وأتأرت النظر يبقى دوما له القيمة المنطقية للمعطى.
من أجل هذا ،مما هو واضح ،لكل ذي عقل ونظر ،أثار حفيظتنا تصريح صاحب
اإليجاب في واقعية وحقيقة
ُ السلب أو
ُ "االستشراق" وفي مفصل بارز ،تصريحه بأنه ال يه ّمه
"اإلسالم" .أنى يكون هذا منطقيا ً وكيف يقبل به العقل ،وحربا ً على اإلسالم انطلق وأسس أول ما
أسس "االستشراق"؟!
صنعة – مشاكلة ومواجهة ألصحابها -أن يصدر مثل هذا ،وما نراه إال منه لعله يكون من ال ّ
ألن عزما ً ثقيال في كتاب "االستشراق" يدل عليه بكون الشرق ،اآلخر ،الهدف ،هو اإلسالم .لكن،
وعالوة على أن المخاطب األول فيه هو الشرق ،وليس مؤتمنا ً وال متوافقا ً أن يسلك فيه نفس
أسلوب الخطاب االستشراقي على مختلف درجات الخطاب ومستوياته ،فاإلسالم دينا ً وروحا ً
تاريخية كونية بأمر ربها هو منطلق االستشراق حربا ً عليه .ومن هذه التاريخية الكونية،
والوجودية المهيمنة كانت ولزم أن يكون من أهم مرتكزات هذا العمل تحديداً ،الحقيقة الوجودية،
صياغة المنطقية واالبستيمولوجية والمنطق السيكولوجي أو القصدية ،والمنهج؛ مرتكزات ال ّ
للتاريخ يقوم عليها تبيان بطالن االستشراق كونه إرادة معرفة محولة إلى إنشاء الشرق إنشا ًء
أنتربولوجيا ً تراثيا ً كالسيكيا ً قروسطيا ً مستلزمة ألعظم سطو حضاري وتاريخي "تغريب العقل
العربي اإلسالمي".
إن االستشراق ليس فحسب دون المنطق السيكولوجي النسبي ،بل هو بإنشائيته وأنتربولوجيته
الربّانية أقوم المناهج الوجودية إطالقاً.
وتراثيته ناقض للحقيقة الوجودية المتوافقة ومنهاج ّ
34
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
هذا األساس الذي م ّهدنا بتحديده هو ما يجمع في عملنا بين المنطق السيكولوجي كما تناوله إدمون
هسرل والعقل التاريخي مرتكز العمل الجبار المتميز د .محمد ياسين عريبي ،وعلم هللا تعالى
والحقيقة الوجودية عند ميشيل فوكو ،التي تعلو بالشريعة وبالحضارة المؤسّسة عليها وبمعالمها
علوا أن يكون أو يعتبر اعتبارا ً انتربولوجيا ً أو عقلها التاريخي الذي تحمله اللغة العربية ،تعلو به ًّ
تراثاً .بل إن هذا المنطق الكلي والمطلق ،منطق كل شيء ،وهو كذلك -بالتأكيد -إطار حل ما
أسماه أوليفر ليمان في "مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين" بالتعارض أو الصدام بين
أثينا snedsSوالقدس mdefSurdJلَ َير ُّد الفلسفة إلى حقيقتها األولى غير مستعبدة محجورا ً
تحرر البشرية واإلنسانية من تجار الدين ممن ليسوا على منهاجه الحق وأيضا ً من عليها ،ولت ّ
إكليروس الفلسفة الوضعية المحاربة للحقيقة الوجودية ،التي تمأل آفاق العلم والنظر ،ولنتل هذه
اآليات العظيمة التي من أهل الكتاب وعلماء بني إسرائيل منهم من يؤمن بها وتخشع قلوبهم لها،
شيْئاً' ه َُو أعْل ُم ب َما تفِيضُونَ افتريتهُ فال ت ْملِكونَ لِي مِنَ ِ
هللا َ إن َ قل ِ قول الحق﴿ :أ ْم يَقولونَ َ
افتراهُ' ْ
قل َما كنتُ بدْعا ً مِنَ ُّ
الرسُ ِل َو َما أد ِْري َما الرحِ ي ُم' ْ
الغفور َّ
ُ ش ِهيدا ً بَ ْينِي َوبَيْنك ْم' َوه َُو
فِيهِ' كفى ب ِه َ
35
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
L’islam n’est pas une religion d’histoire. L’islam n’est pas une religion
nouvelle mais la religion d’Ibrahim et d’Adam, celle de toujours «Je ne
)suis pas un innovateur parmi les envoyés»(46,9
صتين ج ّد مميّزتين:إلى هذا كله ،ال بد من التذكير بأن" رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" وبخا ّ
اإليجاز والوضوح ،تبقى قائمة موقع الجواب ومح ّل ح ّل السّؤال المفارقة ،سؤال كتاب "فجر العلم
الحديث اإلسالم -الصين -الغرب" ل توبي أ .هف ،انتقال العلم الحديث من يد العرب وكانوا هم
عتوا كبيراً ..وما أظنه إال طريقا ً
أولياءه ومؤسّسيه ،انتقاله إلى الغرب حتى عتوا به وبفتوحاته ًّ
واحداً ،والحق واحد؛ فبالغضب حمية قام الغرب المسيحي وحاز بل سطا على مشعل العلم
الحديث ،ثم حمل حملة واحدة ال يرده شيء فاقتسم بالد العرب والمسلمين يخرج أهلها من الدين
الحق يستعبدهم ويذلهم؛ فبطن األرض خير لهم من ظاهرها إن لم يغضب المسلمون والعرب هلل
الحق ،فإن هم غضبوا جميعا كانت وحدتهم والنصر حليفهم ،فأخرجوا عدوهم من ديارهم وعادت
إليهم عزتهم كما كانت أول مرة ،وإن هللا ال يخلف وعده ،وإن هللا عز وجل هو يبدئ ويعيد.
43
Stéphane Dinan: SCIENCES ET AVENIR : HORS-SERIE N 113 DCEMBRE 1997/ JANVIER
1998 : Les secrets de la Bible- Christianisme, judaїsm et islam. Les dictées divines
36
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
37
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الباب األول
38
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل األول
حقلية االستشراق
لكن وكما م ّهدنا باإلشارة إليه ليس عملنا هنا في هذا الكتاب االستشراق ظاهرة تاريخية
وسال ًحا فكريا ً في الحرب الحضارية والتاريخية ،وطرحه على النهج المتبع في أسئلة الظواهر
تكرارا لما ذكر وما
ً عا وتأري ًخا وتفاعال ،إذ سوف لن يكون سوى التاريخية ،مفهو ًما وموضو ً
تكرر فيما ال يُحصى من المؤلفات ،من الحديث عن مفهوم االستشراق ونشأته وعوامل هذه النشأة ّ
تقرر التقرير العلمي الطبيعةّ ي أن نريد إنما .. اجر
ًّ وهلم وأعالمه، وغطاءاته يخي التار رهومسا
الحقلية لالستشراق ،فال يكون الشخصي فيها إال ذاتا ً غير وظيفية .ونريد كذلك توافقا ً كشف
االرتباط النظماتي والتاريخي لمفهوم التراث في العقل العربي اإلسالمي ،ارتباطه بركن ها ّم
ودعامة محورية من أركان ودعائم االستشراق ،ركن ودعامة األنتربولوجيا .فعلى هذين الطرفين
39
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
واللوحتين ،حقلية االستشراق واستشراقية مفهوم التراث هو قائم عملنا الذي وعلى غرار كل ما
سبق ،نحسبه ونسعى أن يكون مستج ًّدا غير مسبوق من حيث أبعاده وتقطيعات هذه األبعاد.
"لم أجد مستشرقا ً واح ًدا خال كالمه من الدس والتشويش ولقد تتبعت المستشرق جاك بيرك
الفرنسي وأظهرت عيوب وخطايا ترجمته للقرآن ،وفي رأيي نفس الشيء فعله روجيه جارودي،
45
فقد أسلم ليهدم االسالم من الداخل".
وهذه بالذات كانت النقطة المميّزة ،التي هي بحق مركز ثقل عمل د .صالح الجابري في
كتابه "االستشراق قراءة نقدية" جاء البيان عنها تحت اسم "المسبقات":
« وقد عبر أحد المستشرقين المعاصرين عن فعالية تلك المسبقات بقوله( :إن النظرة المسبقة ،أو
الحكم المسبق موجودان على الدوام ،وال يمكن التخلص منهما؛ إذ إن المستشرق أو الباحث
ينظر إلى حضارة أخرى غير الحضارة التي يدرسها ...فالنظرة المسبقة موجودة شئنا أم أبينا
...موجودة بشكل جبري ،وال نستطيع التخلص منها ،بل هي السّمة المميّزة للدراسات
االستشراقية عن الدراسات التي يقوم بها أبناء البلدان الشرقية لحضارتهم وثقافتهم .» )...
46
إنه ال ينبغي لالستشراق مفهوما وحقيقة غير المفهوم والحقيقة اللذين هما في التأطير ال ِعلي
األرسطي:
"في نهاية المطاف ،نقترب اآلن من لباب المعرفة األساسية التي كانت في طريق التطور لزمن
طويل ،المعرفة بنوعيها الجامعي والعلمي ،والتي ورثها كال من كرومر وبلفور عن قرن من
االستشراق الغربي الحديث :معرفة حول الشرقيين ومعرفة بهم ،بعرقهم وخصائصهم ،وثقافتهم،
وتاريخهم ،وتقاليدهم ،ومجتمعاتهم ،وإمكانياتهم .وكانت هذه المعرفة فعالة ،وقد آمن كرومر بأنه
وضعها موضع التنفيذ في حكمه لمصر .وإضافة إلى ذلك ،فقد كانت معرفة موثقة باالمتحان
45الغارة المعاصرة على المسلمين منطلقاتها وغاياتها :أ .د /عبد الحليم عويس -دار الكلمة للنشر والتوزيع-
الطبعة األولى١٤٣١ﻫ٨٤١٤ -م -ص78
46رودنسون ،رسالة الجهاد الليبية ،3388 ،ص -138االستشراق قراءة نقدية -د .صالح الجابري -الطبعة
األولى :حزيران 0223الناشر :دار األوائل -سوريا -دمشق – ص37-30
40
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وغير قابلة للتغير ما دام "الشرقيون" ،عمليا جوهرا ً أفالطونيا يستطيع أي مستشرق ،أو أي حاكم
للشرق ،أن يتفحصه ،ويفهمه ،ويعرضه .وهكذا ففي الفصل الرابع والثالثين من كتابه ذي
المجلدين مصر الحديثة ،وهو السجل الجليل لتجربته وإنجازاته ،يثبت كرومر ما يمثل شرعا ً
شخصيا للحمة االستشراقية:
"قال لي سير ألفرد اليل مرة :إن الدقة كريهة بالنسبة للعقل الشرقي وعلى كل إنسان أنجلو-
هندي أن يتذكر هذا المبدأ األساسي" .واالفتقار إلى الدقة ،الذي يتحلل بسهولة ليصبح انعداما ً
للحقيقة ،هو في الحقيقة الخصيصة الرئيسية للعقل الشرقي .األوروبي ذو محاكمة عقلية دقيقة؛
وتقريره للحقائق خال من أي التباس؛ وهو منطقي مطبوع ،رغم أنه قد ال يكون درس المنطق؛
وهو بطبعه شاك ويتطلب البرهان قبل أن يستطيغ قبول حقيقة أي مقولة؛ ويعمل ذكاؤه المدرب
مثل آلة ميكانيكية .أما عقل الشرقي فهو ،على النقيض ،مثل شوارع مدنه الجميلة صورياً ،يفتقر
بشكل بارز إلى التناظر .ومحاكمته العقلية من طبيعة مهلهلة إلى أقصى درجة .ورغم أن العرب
القدماء قد اكتسبوا ،بدرجة أعلى نسبياً ،علم الجدلية (الديالكتيك) فإن أحفادهم يعانون بشكل ال
مثيل له من ضعف ملكة المنطق.
وغالبا ً ما يعجزون عن استخراج أكثر االستنتاجات وضوحا ً من أبسط المقدمات التي قد
يعترفون بصحتها بدءاً .خذ على عاتقك أن تحصل على تقرير للحقائق من مصري عادي،
وسيكون أيضاًحه بشكل عام مسهباً ،ومفتقرا ً للسالمة .ومن المحتمل أن يناقض نفسه بضع مرات
قبل أن ينهي قصته؛ وهو غالبا ً ما ينهار أمام اكثر عمليات التحقيق ليناً".
ومنذ اآلن يظهرون الشرقيون والعرب سذجاً ،غافلين ،محرومين من الحيوية والقدرة على
المبادرة ،مجبولين على حب "االطراء الباذخ" ،والدسية ،وال َّدهَاء ،والقسوة على الحيوانات.
والشرقيون ال يستطيعون السير على الطريق أو الرصيف (فعقولهم الفوضوية تعجز عن فهم ما
يدركه األوروبي بصورة فورية ،وهو أن الطرقات واألرصفة شُقت وبُنيت لكي يمشى عليها)؛
والشرقيون عريقون في الكذب ،وهم "كسالى وسيئو الظن" ،وهم في كل شيء على طرف نقيض
47
من العرق األنجلو -ساكسوني في وضوحه ،ومباشرته ،ونبله".)0( .
41
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صواب فيما جاء في مستهل كالمه هو "الغاية األساس من ليس يمترى أو باألصح ال أشك كون ال ّ
المعرفة "...وليس لبابها وجوهرها مقابل الشرق جوهر الموضوع .والنظر المحيط في بناء
االستشراق باعتباره النظماتي الذي تبلور عند إدوارد سعيد ،وليس ينقص من جوهرية النظماتية
هاته ،التي هي األهم وذات القيمة الحقائقية الخطيرة والكبرى ،ما ذكره من وجه القصور ،فإن
ذلك من حيث مفهو م النظمة والنظرية والعلم بلورة وبناء ،ليس إال في مجال التطبيقات والتجليات
والتفصيل؛ هذا النظر وهذه االستيعابية تنتهي إلى هيكلة االستشراق على قاعدة ارتكازية مثلثية،
كل ما جاء في هذا العمل ال يخرج عن مرجعها؛ فباإلضافة إلى الوظيفة والغاية العلة المرتكز،
المرتكزان ،رأسا المثلث االستشراق األساس ،هما مؤسّساتية (أصح من المأسسة ومن المعرفة
القوة (نسبة إلى الموضوع الضعيف)؛ وكالهما صة ّالمؤسّساتية) المعرفة االستشراقية ،وخا ّ
عالقتان وجوديتان .هذا هو بالذات الذي يفسّر أو به يبرهن على مرجعية غرامشي وفوكو في
كتاب "االستشراق" .وإنه يغني عن مزيد من القول هذه الكلمة الجامعة المختزلة لكل ما سواها:
"في اعتقادي أننا سنكون على خطإ إذا قللنا من أهمية مخزون المعرفة الموثقة وتقنينات السنة
الرسمية .فأن االستشراقية ،التي يشير إليها كرومر وبلفور في كل مكان من كتاباتهما وسياستهما ّ
ظرةٍ مسوغة على الحكم االستعماري هو أن نقول ببساطة أن االستشراق كان إضفا ًء لعقلن ٍة من ّ
نهمل المدى البعيد الذي كان إليه الحكم االستعماري قد سُ ّ ِوغ وب ِ ُّرر من قبل االستشراق بصورة
مسبقة ،ال بعد أن حدث .لقد قام اإلنسان دائما ً بتقسيم العالم إلى مناطق بينها تمايز حقيقي أو
وهمي ،وكان التمايز المطلق من الشرق والغرب ،الذي قبله بلفور وكرومر بكل ذلك الرضا
الداخلي ،قد استغرق سنين ،بل قروناً ،لينمو ويتبلور .كان هناك ،طبعاً ،عدد ال يحصى من
رحالت االستكشاف؛ وكانت ثمة اتصاالت عن طريق التجارة والحروب؛ بل كان ثمة ما هو أبعد
من ذلك .فمنذ منتصف القرن الثامن عشر تبلور عنصران رئيسيان في العالقة بين الشرق
والغرب :األول هو المعرفة األوروبية المنظمة المتنامية بالشرق ،وهي معرفة دعمتها المواجهة
االستعمارية ،كما دعّمها اهمتمام واسع االنتشار باألجنبي وغير العادي علوم نامية مثل علم
األصول ال عرقية ،والتشريح المقارن ،وفقه اللغة ،والتاريخ؛ وعالوة على ذلك ،فقد أضيف إلى
هذه المعرفة المنظمة قدر اليستهان به من الكتابات التي أنتجها روائيون ،وشعراء ،ومترجمون،
وحالة موهوبون .وكان الملمح اآلخر للعالقات الشرقية -األوروبية أن أوروبا كانمت دائما ً في
لقوة ،إن لم نقل السيطرة ،وما من طريقة للتعبير عن هذه الحقيقة بطريقة استبدالية لبقة. موضع ا ّ
ًّ
وال شك أن العالقة بين القوي والضعيف يمكن أن تقن َع وتلطف ،كما حدث في اعتراف بلفور
"بعظمة" الحضارات الشرقية .غير أن العالقات األساسية ،لمبررات سياسية ،أو ثقافية ،بل حتى
42
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
دينية ،كانت قد عوينت في الغرب ،وذلك ما يعنينا هنا ،بوصفها عالقة بين شريك قوي وشريك
48
ضعيف".
"في مثل جهود دير بيلو ،اكتشفت أوروبا قدرتها على احتواء الشرق وعلى شرقنته ،وفي ما
يقوله غاالن عن مادته ومادة ديربيلو الشرقية ،يظهر من مكان آلخر شعور بالفوقية .كما أنه في
أعمال جغرافيي القرن السابع عشر مثل رافائيل دومان ،كان بمقدور األوروبيين أن يدركوا أن
49
الشرق كان يُتجاوز ويُحال إلى عالم عتيق مع تطور العلوم الغربية".
"ذلك أنه في اللحظة الحاسمة التي كان فيها على المستشرق أن يقرر ما إذا كان والؤه
وتعاطفه مع الشرق أو مع الغرب الفاتح ،اختار المستشرق الغرب دائماً ،منذ زمن نابوليون
50
وحتى اللحظة الحاضرة".
هذا هو الذي نعني به الطبيعة الحقلية والمجالية لالستشراق ،وهذا هو بالتحديد الذي تبلورت
فر َيه .قد
وشخصت حقيقته الكبرى إلدوارد سعيد رجال لم يفر أحد في الشرق من أهل الفكر اليوم ْ
يكون ألنور عبد المالك -غفر هللا له! -و لمالك بن نبي -رحمه هللا! -دور المحفز األدنى
والقريب ،بل هو راج ٌح ،ألن الحقل الذي ظهر فيه منشور "االستشراق في أزمة" 51ألنور عبد
المالك و"إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر اإلسالمي الحديث" 52البن نبي هو بالتحديد حقل
إدوارد سعيد .وهاتان الدراستات والمنشوران ،من األدلة القوية على أن نجاعة الكلمة ال تكون
ٌ
فجائز القول ومن غير مجانبة للقسط أنهما لزا ًما في حجم الكتاب اإلسهاب في الكالم واإلطناب؛
مثال المثير القريب لعمل إدوارد سعيد وما تميّز به عن غيره في األخذ به بقوة وبتفصيل .وكذلك
فيهما من أبرز وأخطر العناصر البيانية التي لم يسطر عليها صاحب "االستشراق" ،والتي
يستشعرها القارئ ،ويتأكد افتقادها بين الفصول والسّطور:
48ن م -ص77
49ن م -ص330
50ن م -ص310
51نشر أوال في مجلة "ديوجين" الفرنسية العدد 3301 /44ثم في:
La Dialectique Sociale, Paris, Le Seuil, 1971, 79-113
انظر في هذا :الفكر العربي العدد ( 10أبريل – يونيو) – 3381السنة الخامسة
52االستشراق :مالك بن نبي -دار اإلرشاد للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت -الطبعة األولى ١٣١١ﻫ١۹٠۹-م
43
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
« ...وبالتالي ،ربما وجب علينا أن نستخلص من هذا العرض نتيجة تحدد موقفنا من إنتاج
المستشرقين ،فنقول أوال إنه إنتاج ال يجوز نكران قيمته العلمية ،بل نراه أحيانا ً يستحق كل التقدير
لما يتسم – في بعض أصنافه مثل ما خلفه سيديو أو جوستاف لوبون أو آسين بالثيوس –
باإلضافة إلى طابعه العلمي ،بطابع أخالقي ممتاز ال يمكن نكرانه كشهادة نزيهة من طرف شهود
نعرف قيمتهم كعلماء.
لكننا نغفل جانبا ً أساسيا ً في الموضوع إذا لم نأخذ في حسابنا أن كل ما ينتجه العقل في هذا
القرن العشرين الخاضع لمقاييس الفعالية ،ال يخلو من بعد عملي قد يستغل في ميدان السّياسة
واالنتفاع حيث تصبح األفكار ،ما سما منها وما كان تافهاً ،مسخرة لتكون وسائل افتضاض
53
الضمائر والعقول».
«يجب إذا ً أن نذكر ،ولو كلمة ،على هذا المفهوم بالنسبة لموضوعنا ،حيث ال نعتبر إنتاج
المستشرقين من زاوية ذاتية أصحابه ،من ناحية ميزاتهم الفكرية ونواياهم ،بل من زاوية من
54
صة في عالمنا نفسه ،ال في عالم بعيد أو خيالي».
يستخدم إنتاجاتهم لغايات خا ّ
صحيحة ،نظرية حقلية بالطبع فهذا التدقيق والتحليل اإلضافي عند ابن نبي هو داخل النظرية ال ّ
االستشراق .بل أمكن القول بأنها الحقيقة المؤسّس عليها ،ليس مقوال منسوجا ً عليه فحسب ،وإنما
أيضا ً كل البيان من حيث هو تصريف وتفصيل .وإذا كان لنا من جهة دالالت مكونات النهج
الكتابي ،ومن جهة ما هو غير قابل للنفي كون مقدمة الكاتب هي بمثابة األساس التكويني
واإلنشائي ،متجاله الترابط اإلحاالتي الواضح:
55
"سيكون جليا للقارئ (وسيزداد جالء عبر الصفحات الكثيرة التي تلي)"
فإننا حين نجد في هذه المقدمة قوله" :لقد بدا لي من الحمق أن أحاول إنجاز تاريخ من السرد
الموسوعي لالستشراق ،أوال ،ألنه لو كان للمبدإ الذي يهدي دراستي أن يكون "الفكرة األوروبية
56
عن الشرق" لما كان ثمة من حدود ،عملياً ،للمادة التي كان علي أن أعالجها "...
53مالك بن نبي :إنتاج المستشرقين عن دار اإلرشاد للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت -الطبعة األولى١٣١١ﻫ
١۹٠۹ -م -ص40
54ن م – ص41-44
55االستشراق – ص12
44
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"ثانيا :وهنا يحصل تعويض وافر عن نواقص دراستي لالستشراق ،لقد كُتِبت مؤلفات حديثة
57
هامة عن الخلفية التاريخية لبزوغ ما أسميته االستشراق الحديث "...
غير أن الذي ال ينبغي بحال هو قصر مساحة النظر في الجوار األدنى والمثير القريب ح ّيزا ً
ي الضّيم من قوم أباة' تاريخيا ً لتحليل وتقويم إنجاز عمل "االستشراق" الثوري واألب ّ
ي' :أب ّ
ؤثرا قريبا ً وأدنى في خلق ه ّم وعمل إن كونَ ثبوت ترجح أن ابن نبي وأنور عبد المالك ُم ً َّ
"االستشراق" فإنه ال شك البتة كون الرائد واألمير في هذا الجهاد أو الجبهة األخطر في المواجهة
صة في تعليقه
هو شكيب أرسالن كلمة التاريخ العربي اإلسالمي في عصرنا بدون منازع ،وخا ّ
عجّاج نويهض لكتاب المستشرق األمريكي الملقب بإرميا العصر على العمل الجليل ترجمةَ 58
الحديث ستودارد نوثروب الصادر عام 1221م ،59تحت عنوان"حاضر العالم اإلسالمي".60
ودائما ً مع ذكر فضل ناصر الدين دينيه وسليمان إبراهيم في هذا الشأو والمضمار وسبق أثرهما
آثارهُ ْم' َوكلَّ ش َْيءٍ أ ْح َ
صيْناهُ فِي كِتاب مقدما﴿ :إنا نحْ نُ نحْ يي ال َم ْوتى َو ُ
نكتب َما ق َّد ُموا َو َ
بين'﴾(يس ،)11فإنك واجد فيه أساس كل ما يهم بنية االستشراق ،مما سيذكره ويفصله كل من
ُم ٍ
جاء بعدهما ،61إضافة إلى طرح مسألة نهج ما العمل لرد العدوان الصليبي التاريخي وفك
الحصار.
إن شكيب أرسالن ويشركه في ذلك سليم نويهض علو ه ّمة وحياة قلب نابض ،المقابل النظير
في الخطر لهذا اللقب الذي أعطيه ستودارد ووشحهه به قومه؛ فبؤرة تسليط الضوء على الوظيفة
56ن م – ص43
57ن م – ص13
58صدرت الطبعة العربية األولى سنة 3441ﻫ عن المطبعة السلفية بالقاهرة
59
The New World of Islam
60تقدم نويهض بعد تمام الترجمة إلى شكيب أرسالن ،يسأله تقيريظ الكتاب؛ إال أن أرسالن استرسل في التعليق
وإلحاق البحوث بالكتاب ،حتى جاوزت حجم األصل ،لتصدر الطبعة العربية باسم "حاضر العالم اإلسالمي" -عن
المكتبة الوقفية-
61تاريخ النشر :محمد رسول هللا ( -)3338الشرق كما يراه الغرب ( -)3300أشعة خاصة بنور اإلسالم
( 3303المطبعة السلفية بمصر)
45
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صليبية لالستشراق ،مما هو موجب ومستنبط منه طبيعته الحقلية ،تلفيه بيانا ً واضحا ً الكولونيالية ال ّ
ونذارة بليغة معارضة في هذا العمل العظيم الذي نهضا به؛ يقول شكيب أرسالن في مستهل
تعليقه على مقالة روجر البون 'اإلسالم والجنود السوداء':
صة ،ما يصدر في أوروبا في "إنه مما يجدر بأن يطلع عليه الشرقيون عامة والمسلمون خا ّ
األحايين من الكتابات المتعلقة بهم ،والتصانيف الباحثة عن مصيرهم ،والمقاالت المصورة
ألحوالهم وشؤونهم بلون مخيالت الكتاب الذين حرروها ،الناطقة عن هوى األحزاب التي ينتمي
هؤالء الكتاب إليها ،بحيث يعرف منها الشرقي أو المسلم أو المستضعف المغلوب على أمره كائنا ً
من كان ،ماذا يطبخ له في الخفاء ،وماذا يدس بحقه تحت الستار ،وماذا يدبر عليه بدون علمه مما
ال يطلع عليه إال في الندرى؛ ووما هو رام إلى إدامة استغالله ،واالحتياط من وراء إساره،
وتأمين رسفانه األبدي في سالسل العبودية .فمن هذا القبيل ومما نورده مثاال ،مقالة مشبعة
ظهرت مؤخرا ً في مجلة من أشهر المجالت الفرنسية هي مجلة باريز 62في عددها أول أبريل
سنة ،3301لكاتب فرنساوي اسمه روجر البون r gde euy ssd 63عنوانها اإلسالم
والجنود السوداء كشف فيها النقاب عن جميع ما ينوي بعضهم في حق المسلمين الذين تحت نير
صة ،وتوخى عدم حصر ذلك في الميدان السّياسي واإلداري ،بل اإلفرنجة عامة والفرنسيس خا ّ
تجاوزه إلى الميدان الديني واالجتماعي ،مما ال يجوز التهاون به وال اإلغضاء عنه ولو ألجل
العلم به على األقل .وقد جرت عادة المضللين والمماحكين ومخدري األعصاب من األوروبيين،
عندما يحدثهم إنسان بشأن مقالة كهذه أو مصنف من بابها ،أن يكون جوابهم أبدا ً بأن هذه هي
آراء أفراد ،ال يؤبه لها وال يلتفت إليها ،وليست الحكومات المستعمرة لتقيم لها وزنا ً ،وكلمات
كلها من هذا النمط ،فليحذر الشرقيون وجميع المسلمين من قبول هذه األقاويل ،واالسترسال إلى
هذه التمويهات ،لئال يندبوا عاقبة سذاجتهم وحسن ظنهم .إن المبادئ واآلراء التي في المقالة
اآلتي تعريبها ،وفي مئات بل في ألوف من أمثالها الصادرة تباعا ً في العالم األوروبي هي عقيدة
حزب كبير جدا ً في أوروبا ،بل يمكننا أن نقول هي عقيدة السواد األعظم من أهالي الممالك
االستعمارية ،ال يخرج عن هذه العقيدة سوى األحزاب االشتراكية ،والشيوعية ،وغالة الراديكال،
ومن ند لعلة من جمهور األحزاب األخرى المتوسطة والمتيامنة ومن يليها؛ وذلك كعالم كبير
ظاهر الوجدان ،أو فيلسوف عامل واسع الفكر صادق اإلنسانية ،أو سياسي محنك راجح العقل
62
Revue de Paris
راجع الصفحة ٣٤٠من هذا الجزء 63
46
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يغلب إدراكه هواه ،ويعلم ما في هذه األفكار من التهور وما يترتب عليها من األخطار ،وما يكون
إلجرائها بالفعل من سوء العاقبة .وما عدا من ذكرناهم ،فالغالب من القوم هو على هذه العقيدة فال
ينبغي أن نخادع أنفسنا ،وأن نتغابى عن الحقيقة لذة بالتغابي كمن يكتم مرضه ،فإنه إذا كان قبيحا ً
بالمرء أن يغش غيره ،فأقبح منه أن يغش نفسه .فمن األمور التي ال يجوز أن نغش أنفسنا بها،
الذهاب إلى كون هذه المبادئ الضارة بالشرق وبالعالم اإلسالمي هي مبادئ الفئة القليلة ،وأن تلك
الحكومات غير ماشية بموجبها .والحقيقة أن ليس هناك إال الفرق بين عدو عاقل يمنعه عقله،
وتربأ به رويته ،عن المجاهرة بمكنون فكره ،وإقالق خواطر األمم المستضعفة بصراحة نيته،
وعدو متهور غلبت عليه حرارة صدره وشدة طمعه ،حتى باح بكل ما ينويه لتأييد عبودية تلك
األمم المقهورة ،ال سيما المسلمين ،الذين يرونهم أشد خطرا ً من الجميع بما ينفث القرآن في
64
روعهم ،من روح العزة وتهوين الموت ابتغاء الحياة الكريمة".
" ...وهذا هو رأي المستشرقين الحقيقيين ،الذين سبروا غور أفكار المسلمين بإقامتهم سنين
طواال في بالد هؤالء ،نابذين األغراض الشخصية والخياالت المرسلة بدون تحقيق ،فقد قال أحد
القوة هي وحدها علة بقائنا ،وإذا أتينا بأقل عالمة على نقص قوتنا ،فتحنا على أنفسنا
هؤالء« :إن ّ
باب الثورات» .وقال آخر« :نحن المال ،والسّالح ،والعقل ،والعدل ،فإذا خسرنا هذه
65
المستعمرات نكون خسرناها برضانا»".
ويؤكد إمام الجهاد شكيب أرسالن جهده في ترسيخ هذه الطبيعة في مستهل فصل عنوانه:
"إظهار محاسن اإلسالم للعالم اإليطالي لورا فكشيا فالييري":
« من الكتب المهمة التي ظهرت في األيام األخيرة في الدفاع عن الدين اإلسالمي كتاب اسمه
إظهار محاسن اإلسالم eggur gyd ed e'eSruJySJdبقلم «لورا فكشيا فالييري» من
علماء إيطالية eufeu idccyu iurgrydeyوهو يقول في مقدمة كتابه المترجم إلى اإلفرنسية
إنه مما ال شك فيه أن وصف محمد بتلك األكاذيب التي كانوا يشيعونها في القرون الوسطى عنه
وعن ديانته قد خفت كثيرا ً في هذا العصر وصار النَّاس ينشدون الحقيقة التاريخية عن محمد
47
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وعن اإلسالم الذي قلب وجه العالم .ولكن مما ال مراء فيه أن صوت المسلم الحر الذي يحب هللا
ورسوله ويرى في اإلسالم الحسنات التي ال نهاية لها في الدنيا واآلخرة ال يزال غير مسموع
تماما والنادر من األوروبيين يعلم هذا الصوت.
فمحاسن اإلسالم ال يمكنها أن تظهر بتدقيقات المؤرخين من اإلفرنج مهما كانوا منصفين ألنها
صةتدقيقات جارية على أقالم أناس غير معتقدين باإلسالم وبحسب طرق ومفاهيم خا ّ
باألوروبيين .ومع ذلك فإن مستشرقين مشاهير مثل موير rfyeواسبرنجر sgeysgdeوغولد
سيهر ryede-d reونولدكه k redNوكاتاني iudnusyوغيرهم قد وصلوا بعد التمحيص
إلى االعتراف بصدق محمد في دعوته وإلى الحكم بإنه كان ملهما إلهاما اختلفوا في سره ولم
يفسّر وه على وجه واحد بل علله كل واحد بشكل .وبعض هذه األشكال ال يقبلها حتى غير المسلم.
فمن هؤالء من يقول إن العقائد التي بني عليها اإلسالم أكثرها نتيجة نمو هذا الدين بعد وفاة
واضعه وأنه لم يضع إال أسسا ً أولية فقط وأن المسلمين فيما بعد قد فرعوا عليها .ثم بعد أن
جردوا صاحب الشريعة اإلسالمية نفسه من وضع هذه العقائد وردوا إليه مبادئها فقط عادوا
فمحصوا أقواله وأعماله التي لم يشكوا في نسبتها إليه وفصلوا هنا بين الوحي الذي كان يوحى
إليه و بين المعلومات الشخصية التي اتصل بها بثمرة اجتهاده واطالعه على األديان األخرى
واحتكاكه بالحوادث أي إنهم فصلوا بين اإللهي والبشري في الدعاية المحمدية.
قال كاتاني :إن محمدا لم يجمد على حالة واحدة بل مر بأطوار متعددة بحسب مقتضيات
الزمان ووفقا للحوادث .وتغير هذه األطوار ملحوظ جدا ً سواء في القرآن أو في السنة لمن عرف
أن يفهمها حق الفهم .فالفرق عظيم بين محمد في أوائل بعثته وبينه بعد أن هاجر إلى المدينة
القوة لم أشركوا باهلل.
واضطر أن يعلن المقاومة ب ّ
فالمسلمون متفقون مع هذه الطبقة من المستشرقين على أن في ديانتهم نقاطا كثيرة متفقة مع
النصرانية واليهودية ولكنهم يرون هذا زيادة في تأييد رسالة محمد وبرهانا على أنه خاتم الرسل.
ولكن بين المسلمين وبين هؤالء المستشرقين اختالفا في كيفية فهم القرآن .فعند المسلمين أنه
كتاب قديم غير مخلوق وغير قابل للمعارضة .وقد نزل على رجل أمي لم يتعلم شيئا ً إال ما أوحاه
هللا إليه وقد أوحى إليه هذا القرآن وألهمه أيضا ً أعماال ال يجوز الجدال فيها على حين
المستشرقين الذين نعنيهم يرون القرآن تمثيال لحالة محمد الروحية ويزعمون أن فيها تفاوتا وأن
48
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
محمدا أضاف من نفسه إلى ما هو من ربه بحسب مصلحته وأن هناك تناقضا بين بعض أقواله
66
إلى غير ذلك من اآلراء».
صعب ،مما وجب أخذه في قراءة هذا العمل وهذا كما سلف آنفا مما يخص صنعة هذا الحقل ال ّ
ألرسالن ،إذ من دونه ومن دون اعتبار آليته التقريبية والجدالية قد يخال أن هناك تناقضا ً أو
صليبي والطعن تناقضات خصوصاًًُ في مسايرة الجدل االستشراقي بشأن أمور ب ّين فيها الكيد ال ّ
في الدين قرآنا ً وسنة .ثم ال يغيبن عنك تزامن ومسايرة هذا البيان لحقل الحوار والمناظرة مع
جيش من المستشرقين والمؤسّسات في المؤتمرات والمجالس واللقاءات المباشرة .وهذا ال يعني
عدم وجود هفوات وجنوح إلى عين الباطل ،الذي ينقضه نفس كالم صاحبه في نفس مقام
النص أعاله في الجزء الثالث بما ورد ّ الخطاب من التعليق ،ومثاله الواضح عرض ما جاء في
من القول في الجزء األول في شأن شخص "جولد سيهر":
"وقال «غولد سيهر» سيد المدققين ،وحجة المستشرقين ،في كتابه «عقيدة اإلسالم وشريعته»
في الصفحة الثالثة من هذا الكتاب الجليل ما يلي:
«إن دعوة النبي العربي كان فيها نخبة مبادئ دينية اعتقدها هو باالختالط مع اليهود
والنصارى وغيرهم ،واقتنع بها ،ورآها جديرة بإحياء الشعور الديني بين قومه .ولقد كانت هذه
المبادئ المقتبسة من األديان األخرى في نظره ضرورية لتثبيث سير اإلنسان بحسب اإلرادة
اإللهية ،فتلقاها هو بصدق وأمانة ،وبمقتضى إلهام أيدته فيه هذه المؤثرات الخارجية وجاءه وحيا ً
إلهيًّا كان هو مقتنعا ً بكونه وحيا ً إلهيًّا نازال على لسانه»
إننا نن ّبه قراء هذا الكتاب إلى أن هؤالء الذين نستشهد بكالمهم في حق محمد صلى هللا عليه
وسلم ليس فيهم واحد مسلم ،وذلك أننا ال نرى حاجة إلى االستشهاد على صدق الرسول عليه
السالم بكالم المسلمين باهلل ورسوله .وإنما نريد أن نقيم األدلة من أقوال علماء األوروبيين الذين
ليسوا بمسلمين ليقال فيهم إنهم قالوا ما قالوه متأثرين بعقيدتهم التي نشأوا عليها ،وإنما هم من
العلماء المنصفين الذين نشدوا الحق ،وبغوا التحري جهد طاقتهم .وقد كانت خالصة آرائهم وزبدة
أقوالهم أن محمدا ً كان صادقاً ،وكان أميناً ،وكان معتقدا ً بأن هللا ابتعثه لهداية قومه ،وإرشاد سائر
البشر إلى الدين القيّم ،وكان مقتنعا ً بأن هللا تعالى يوحي إليه ،وأنه لم يقل شيئا ً إال وهو مقنتع به.
66ن م – ج -1ص131-134
49
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وهذا هو الرأي السائد اآلن بين العلماء المحققين من أهل أوربة ،ولم يبق فيهم من يقيم وزنا ً لتلك
المطاعن التي كان أحبارهم ورهبانهم وأعداء الدين اإلسالمي منهم يوجهونها إلى شخص النبي
صلى هللا عليه وسلم ،ويطبعون بها ناشئتهم ويجعلونها مدارا ً لدعايتهم.
وأما قول «غولد سيهر» إن اإلسالم فيه نخبة مبادئ أصلها من اليهودية والمسيحية فليس فيه
شيء يدعو إلى اإلنكار ،وما جاء القرآن إال مصدقا ً لما بين يديه من التوراة واإلنجيل ،واإلسالم
إنما هو ملة إبراهيم حنيفاً ،وقد جاء محمد بتأييد تلك الملة ال ينقضها كما ال يخفى.
وقال «ماكس مايرهوف» في كتابه «العالم اإلسالمي» الصفحة العاشرة« :إن محمدا ً في سنة
٠١٤للمسيح كان كثير التفكر ،واالنفراد ،وكان يقصد إلى البادية ويخلو بنفسه في جبل حراء
بقرب مكة .فرأى ذات يوم رؤيا ،وهي أن الملك جبريل تجلى له وناوله كتاباً ،وقرأ عليه هذه
سانَ اآليات التي هي السورة السادسة والتسعون من القرآن( :ا ْق َرأ ِباس ِْم َربِّكَ الذِي خَ لَقَ َخ َلقَ اإل ْن َ
سانَ َما ل ْم يَ ْعلَ ْم) فنزل عليه هذا الكالم وحيا ً علَّ َم اإل ْن َ
ق ا ْق َرأ َو َربُّكَ األ ْك َر ُم الذِي َعلَّ َم بِال َقلَ ِم َ علَ ٍ
م ِْن َ
وجاء فأخبر امرأته بما وقع له .ثم جاءه وحي آخر فيما بعد ،فلما شعر به تغطى بثوب وسمع هذه
الكلمات( :يا أيُّ َها ال ُم َّدث ّ ُِر قُ ْم فأ ْنذ ِْر َو َربَّكَ فكبِّ ْر وثِ َيابَكَ فط ِّه ْر ُّ
والرجْ زَ فا ْه ُج ْر وال ت َْمنُ ْن ت ً ْست َكث ِْر
صبِ ْر) ومذ ذاك الوقت اقنتع بأن هللا اختاره مبشرا ً بعقيدة جديدة ،وتسمى برسول هللا، ول َِربِّكَ فا ْ
ليدعو إلى هللا بلسان عربي مبين .إلى أن يقول« :أراد بعضهم أن يرى في محمد رجال مصابا
بمرض عصبي ،أو بداء الصرع ،ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره ليس فيه شيء يدل على
67
هذا ،كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع واإلدارة يناقض هذا القول»"
وكذلك قوله:
"وقد ذكر «كارادوفوا» المستشرق اإلفرنسي الفاضل صاحب كتاب «مفكري اإلسالم» 68في
الجزء الثالث من هذا الكتاب حياة صاحب الرسالة صلى هللا عليه وسلم وتحرى فيها مزيد
التحري ،ودقق أشد التدقيق ،وانتهى إلى القول «بأن محمدا ً من سن الخامسة والعشرين كان كثير
التفكر ،هادئاً ،ساكناً ،وكان حليما ً تق ّياً ،حسن األخالق ،وأنه عندما بلغ األربعين توجهت جميع
قواه العقلية إلى جهة التأمل في جوهر األلوهية ،والبحث عن الحقيقة الدينية ،ومذ ذاك الوقت أخذ
67ن م – ج -3ص18-17
68
Les penseurs de L’islam
50
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يعتزل النَّاس ويخلو بنفسه في غار بقرب مكة اسمه حرآء .وكان محمد أميّا ً ال يقرأ وال يكتب،
ولم يكن فيلسوفا ولكنه لم يزل يفكر في هذا المر إلى أن تكونت في نفسه بطريق الكشف
69
التدريجي المستمر عقيدة كان يراها الكفيلة بالقضاء على الوثنية»"
فههنا وجب استحضار حكم ابن نبي الذي ذكرناه في صدر الكالم ،وليس من سبيل في هذا
المقام الخطير من البيان والشأن العظيم للوحي الكريم ،وأن غولد سيهر ليس بسيد المدققين وإنما
سيد المتخللين بالفتنة في القرآن والحديث طعنا ً في رسالة محمد صلى هللا عليه وآله وسلم ،أن
نذهب في مطابقة معنى "األخذ واالقتباس" بمعنى "مصدقا ً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا ً عليه"
وال أن يذهب في القول أن دين هللا تعالى والقرآن العظيم أن ذلك من شأن شخص رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم ،70وال أن يلبس في البيان بما يخلق من االشتباه واإلغراض في غمر الوحي
الكريم بالرؤيا والتخيل ونحوه في تلقي الوحي الكريم مما هو مالحظ بشدة في بيان مؤرخي
الغرب ومستشرقيهم:
وذلك أن تيوفاس وجيورجيوس فرانتس ،يقوالن في تاريخهما أنه لما خيل لمحمد ظهور الملك
جبريل ألول مرة ،وأصابته تلك الرعشة ،خافت عليه زوجته خديجة ،وذهبت إلى راهب مبتدع
كانت قد طردته الكنيسة اسمه سرجيوس ،فروت له ما حصل لزوجها ،فقال لها إنه ال يظهر
71
الملك جبريل إال لألنبياء".
وأما ما يخال إنابة ويرى رعوى حسنة عن األكاذيب التي كانوا يشيعونها في القرون الوسطى
عن النبي صلى هللا عليه وآله وسلم وعن رسالته وكونها قد خفت كثيراً ،فإنما ذلك يحكمه ما أومأ
تصور أن يخرج مستشرق مقيم بين ظهراني المسلمين بل هو من هيئة إليه ابن نبي .ثم هل ي ّ
التدريس والتلقين في جامعاتهم من صنف "العدو العاقل يمنعه عقله ،وتربأ به رويته ،عن
المجاهرة بمكنون فكره ،وإقالق خواطر األمم المستضعفة بصراحة نيته"؟! إنما هي أساليب
51
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
علمية محكمة مقدرة في هذه الجبهة من الحرب الوجودية الحضارية القائمة ما دام الليل والنهار.
وإهمال أمر او إغفاله ال يمنع حقيقته ووجوده.
يمثل ماسينيون نموذجا ً في هذا التوليف السحري الذي اليكاد يستبين ،بل هو لغير المدققين
وأولي ال بصائر يظهر في مقام الظهير والمناصر ،ولقد نجح إدوارد سعيد حقا في مهمته البيانية
بهذا الخصوص أيما نجح حينما قابل الظاهرة بمثل ما هي عليه فأعوص بالبيان والمنطق:
"ليس في وسع أي باحث ،حتى لو كان ماسينيون ،أن يقاوم ضغوط أمته ،أو ضغوط التقليد
البحثي الذي يعمل في سياقه ،عليه .قد بدا ماسينيون في كثير مما قاله عن الشرق وعالقته
بالغرب ،وكأنه يشذب ويصفي ،غير أنه ،على ذلك ،يكرر األفكار التي طرحها مستشرقون
فرنسيون آخرون – لكن علينا أن نقر باحتمال أن <عمليات> التشذيب والتصفية ،واألسلوب
الشخصي ،والعبقرية الفردية قد تتجاوز في النهاية الكوابح السّياسية التي تفعل ال شخصانيا ً عبر
التراث وعبر المناخ القومي .ومع ذلك ،ففي حالة ماسينيون ،ينبغي أيضا ً أن ندرك أيضا ً أن
الرغم من شخصيتها أفكاره عن الشرق ،في أحد اتجاهاتها ،بقيت تقليدية واستشراقية تماماً ،على ّ
وشذوذيتها المميّزة االستثنائية .فقد كان الشرق اإلسالمي ،في عرفه ،روحانياً ،سامياً ،قبلياً،
صفات مسردة من األوصاف علم اإلنسانية في ووحدانيا ً بصورة جذرية ،وال آرياً :وتماثل ال ّ
أواخر القرن التاسع عشر .وتبدو التجارب الحياتية العادية النابعة من الحياة الفعلية العادية،
واالستعمار ،واالمبريالية ،والقمع االقتصادي ،والحب ،والموت ،والتبادل الثقافي لعيني ماسينيون
مجردة عن اإلنسانية :فهي ّ مكررة عبر عدسات ماورائية (ميتافيزيقية) ،وفي نهاية المطاف،
سامية ،أو أوروبية ،أو شرقية ،أو غربية ،أو آرية ،وهكذا .وقد منحت الفُصْالت علمه بنية
وأضفت على ما قاله نمطا ً من المعنى العميق – بالنسبة له ،على األقل .وفي االتجاه اآلخر ،فيما
بين أفكار عالم البحث الفردية والتفصيلية إلى درجة هائلة تحرك ماسينيون نفسه بمهارة ليحتل
صة من صة .فقد أعاد بناء اإلسالم ودافع عنه ضد أوروبا من جهة ،وضد سنيته الخا ّ مكانة خا ّ
جهة أخرى .ولد رمز هذا التدخل في الشرق -ولقد كان عمله تدخال فيه -من قبل ماسينيون
بوصفه ناشرا ً للحياة وبطال <منافحا ً عنه> إلى قبوله لتمايز الشرق ،كما مثل جهوده لتغييره إلى
ما أراده .وقد كانت اإلرادتان معاً ،إرادة المعرفة فوق الشرق وباسمه ،قويتين جدا ً عند ماسينيون.
ويمثل حالجه تلك اإلرادة تمثيال كامال...
52
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
على أية حال نحن لسنا بحاجة إلى أن نقول فورا ً إن عمل ماسينيون كان منحرفا ً شاذاً ،أو أن
ضعفه األكبر يكمن في أنه أساء تمثيل اإلسالم كما قد يعتنقه ويمارسه مسلم "عادي" أو "من
العا ّمة" .ولقد طرح باحث مسلم متميز منظومة تتبنى هذا الموقف األخير بالضبط ،مع أن
منظومته لم تسم ماسينيون بوصفه أحد المسيئين .ورغم أن المرء قد يميل إلى درجة كبيرة
لالتفاق مع أطروحات كهذه -ذلك أن اإلسالم -كما حاول هذا الكتاب أن يظهر ،قد ُمثل جوهريا ً
تمثيال سيئا ً في الغرب -فإن المسألة الحقيقية هي ما إذا كان يمكن بالفعل أن يوجد تمثيل حقيقي
ألي شيء على اإلطالق ،أم أن أي تمثيل ،والتمثيالت جميعاً ،بسبب من كونها تمثيالت ،تغور
بعمق أوال في لغة الممثل ثم في ثقافته ومؤسّساته <أمته> ،والجو السّياسي <الذي يعيش فيه>.
صحيح (كما أؤمن) فإننا ينبغي أن نكون على استعداد لقبول حقيقة أن وإذا كان البديل الثاني هو ال ّ
ً
أي تمثيل هو ،بحكم طبيعته ،متورط ،متشابك ،منسوج مع عدد كبير جدا من األشياء األخرى إلى
جانب "الحقيقة" التي هي ،بدورها ،تمثيل .وما ينبغي أن يقودنا هذا إليه منهجيا ً هو أن نعاين
التمثيالت (أو التمثيالت الخاطئة -فالفرق في أفضل الحاالت هو فرق في الدرجة <ال في النوع>
بوصفها تسكن حقال مشتركا ً من الفاعلية محددا ً مسبقا ً لها ،ال من قبل موضوع مشترك طبعي
وحسب ،بل من قبل تاريخ مشترك ،وتقليد مشترك ،وكون من اإلنشاء <الكتابي> المشترك.
وضمن هذا الحقل ،الذي ليس بمقدور باحث واحد أن يخلقه لكن كل باحث يتلقاه يجد فيه مكانا ً
لنفسه ،يقدم الباحث الفرد إسهامه .وإسهامات كهذه ،حتى بالنسبة للعبقري الفذ ،هي استراتيجيات
إلعادة التصرف بالمادة ضمن الحقل <وتوزيعها> .حتى الباحث الذي يكتشف مخطوطة كانت
ضائعة يوما ً ينتج النص "المعثور عليه" في سياق معد له سلفاً ،وهذا هو المعنى الحقيقي
ل"العثور" على نص .وهكذا فإن كل إسهام فردي يؤدي ،أوال ،إلى تغيرات ضمن الحقل ،ثم
يعين على خلق استقرار جديد بالطريقة التي يؤدي بها إلى إدخال بوصلة جديدة على سطح توجد
عليه عشرون بوصلة إلى اهتزاز البوصالت األخرى جميعها ،ثم إلى استقرارها في تشكيل جديد
72
قادر على االستيعاب".
إن هذه اإلساءة لدين اإلسالم التي ذكرها الكاتب هنا ،هي وظيفة االستشراق التي من أجلها
كان وأجلها خلق ،وهي خاصته الحقلية .ولئن كان ذكر محاسن اإلسالم والذكر الحسن للرسول
صلى هللا عليه وآله وسلم أصله أن يعتبر من قول الحق؛ فإنه في االستشراق يكاد يكون ال إشهادا ً
وإنما هو نسق عملي ،هو فيه فحسب مكون وعنصر يخدم غاية بعده ال تبقي من حقيقته شيئا ً ،بل
53
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تنقضه وتجعله آخر أمره يستقر في خلد المخاطب موقع الشك والتكذيب ،كنسق الطائفة التي قال
فروا
ار َواك ُ
على ال ِذينَ آ َمنوا َوجْ هَ الن َه ِ قالت طائِفة م ِْن أ ْه ِل الكِتاب آمِنوا بالذِي ِ
أنز َل َ هللا فيهمَ ﴿ :و ْ
آخِ َرهُ ل َعل ُه ْم يَ ْرجعُونَ '﴾(آل عمران .)73وهذا التدقيق الذي نسبه أرسالن إلى غولد سيهر ليس إال
ما ذكره محمود شاكر في مسألة المنهج كما سنراه في الفصل الموالي ،ولو شئنا تدقيق القول لقلنا
بأن أدق تأطير لحقيقة المستشرق هي بالضبط في رسالة محمود شاكر "رسالة في الطريق إلى
ثقافتنا" في الفقرة الثامنة عشرة مع شرط أكيد في قراءة ما بين يديها:
" -١١ينبغي أن يكون بينا ً لك أن أوربة عند استواء يقظتها ،أدركت إدراكا ً واضحا ً أن الذي
شامل يخترق قلب دار اإلسالم ،ال ٍ بلغته قد ضمن لها التفوق الحاسم ،وأنها مقبلة على زحف
بقعقعة السّالح ،بل بوسائل أخ ََر أمضى من وقع السّالح ،أدرك ذلك ساستها ورهبانها وعلماؤها
وعا ّمة جماهيرها المثقفة .وهذا الزحف الصامت المص ِّمم الخفي الوطء ،سوف يض ُّم ألوفا ً مؤلفة
تاجر وصانع ومغامر ومدرس وسائح ومبشر وجندي وسياسي وراهب ٍ من أشتات الناس ،ما بين
وطالب معرفة وأفاق وصفاق ومتكسب .والنية أن تتكون من هؤالء األشتات جاليات كبيرة تقيم
في دار اإلسالم ،تعاشر المسلمين فتطول عشرتهم أو تقصر ،ولكل امرئ منهم اتجاه أو هوى أو
أسلوب أو فهم .فأمر مخوف أن يخالطوا عالما ً له دين وحضارة باقية اآلثار ،كان له الغلبة
جربوا وعلموا = أمر مخوف أن يخالطوه دون أن والتفوق والسيادة من قبل قرونا ً طواال ،كما ّ
يكون لهذا العالم عند أكثرهم صورة مستقرة في أنفسهم ،تحميهم من التفرق والضياع فيه،
وتحصنهم أيضا ً من االنبهار باإلسالم وحضارته كما انبهر أسالف لهم غبروا ،فصار حتما ً أن
يكون في متناول هؤالء صورة لإلسالم وحضارته ،مكتوبة بدقة ومهارة ،ومقنعة أيضا ً لكل عقل
خبير ثقة مأمو ٌن عندهم.
ٌ متطلع ،يصورها لهم
و«المستشرقون» المتبتلون ،بال شك عندهم ،هم أهل الخبرة بكل ما دار في اإلسالم قديماً ،وما
ي أحوال المسلمين من هو كائ ٌن فيها حديثا ً = من دقيق العلوم عند خا ّ
صة المسلمين ،إلى خف ّ
عاداتهم ومعايشهم وطرائق أفكارهم وخصائص حياتهم ،إلى علم وثيق بشأن دولهم وأقاليمهم
وبلدانهم التي تغطي أكبر رقعة من األرض .وهم قد جمعوا كل ذلك وعكفوا عليه وتأملوه
ودرسوه ونظموه ورتبوه بعناية فائقة ،وبه ّمة وجلد وتنبُّه ونفاذ بصر .فكل دارس منهم مأمون
عند كل أوربي ،من ّأول طبقة الرهبان والساسة إلى آخر رجل من جماهير الناس = مأمون
بأقوام
ٍ على ما يقوله ،مصدَّق فيما يقوله ،في أمور ال سبيل ألحد منهم إلى معرفتها ،ألنها تتعلق
54
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صة األوروبيين وعا ّمتهم ،وملوكهم أن في صميم قلبه ك َّل ما تحمله قلوب خا ّصفة الثانيةَّ :
ال ّ
وسوقتهم ،من األخالم البهيجة واألشواق الملتهبة إلى حيازة كل ما في دار اإلسالم من من كنوز
العلم والثروة والرفاهية والحضارة .أحالم وأشواق أورثهم إياها االحتكاك المستمر قرونا ً بهذه
الحضارة الزاهية الغنية التي كانت يومئ ٍذ في دار اإلسالم.
وبهاتين الصفتين يكون مؤهال لحمل هموم المسيحية الشمالية التي ظلت قرونا ً محصورة في
الشمال ،ودلي ُل إخالصه المطلق لهذه الهموم ،هو تبتله الذي يقطع ما بينه وبين زهرة الحياة الدنيا
ض ّم ُركاما ً من أوراق قديمة مكتوبة بلسان غير لسان
جدران ت ُ
ٍ وزينتها من حوله ،حبيسا ً بين
قومه ،قد رضي لنفسه أن يبقى اسمه في دنيا الناس مغمورا ً غير مشهور (انظر ما سلف ص:
.)٤١
وبديهي أن يكون «المستشرقون» ،كما عرفت صفتهم ،ﻫم أسبق الناس إلى معرفة ﻫذه الحاجة
ير على ﻫدى ال يخت ّل وال يضلّ ،للزحف األكبر على دار اإلسالم أن يس َ الملحّة التي تضمن ّ
ويعصم أكبر قدر ممكن من أشتات الزاحفين ،حين يدخل دار اإلسالم ليطول ُمقامهم بها ،ويجري
م بينهم وبين من يخالطوﻫم ما يجري بين الناس من التفاوض وتجاذب األحاديث = يعصمه أن
ينبهر بما يرى أو يسمع ،أو أن تضعف حميّته ،أو تلين قناته ،او يتردد ويتلجلج .ال بُ َّد إذن من
أساس يرتكز عليه تفكيره ،ومن صورة سابقة شاملة ثابتة يثق بها ويطمئن إليها ،ويثق أيضا ً ٍ
بصدقها وأمانتها ،حتى يتمكن من أن يرفض أكثر ما يرى وما يسمع ،إذا هو خالف ما يعتقد أنه
عارف بأحوال هؤالء الناس .واستقل ٌ دارس
ٌ سوغها إياه
الصورة الوثيقة المأمونة التي ّ
«المستشرقون» بحمل ﻫذا العبء الجديد الثالث( ،انظر ما سلف ص ،)٤٤ :فكتبوا لجماﻫيرﻫم
آالفا من المقاالت ،ومئات من الكتب ،تناولت كل شيء يخص أمم دار اإلسالم في ماضيها
وحاضرﻫا .كتبوا في القرآن ،وفي حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وسيرته ،وفي تفسير
55
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
القرآن ،وفي الفقه ،وفي تفاصيل شرائع اإلسالم ،وفي تاريخ العرب والمسلمين ،وفي األدب،
واللغة ،والشعر ،وفي الفنون واآلثار ،وفي علم البلدان( ،الجغرافية) ،وفي تراجم رجال اإلسالم،
وفي الفرق اإلسالمية ،وفي الفلسفة عند المسلمين ،وفي علم الكالم = في ك ِّل ما ذكرت وما لم
تصوير الثقافة العربية اإلسالمية
ُ غير :ﻫو
أذكر ،كتبوا وألفوا وصنفوا ،لكن لهدف واح ٍد ال ُ
وحضارة العرب والمسلمين بصورة مقنعة للقارئ األوربي ،وبأسلوب يدله على أن كاتبها قد
منهج مألوف لكل مثقف أوربي ،وبأنه ٍ وعرف وبذ َل كل جه ٍد في االستقصاء ،وعلى
َ ودرس
َ خبَ َر
وص َل إلى ﻫذه النتيجة التي وضعها بين يديه ،بعد خبرة طويلة وعرق وجهد وإخالص ،حتى ال
المبرأ من كلّؤ زيفٍ ،
كدر ،و ّ صفى من ك ِّل ٍ
اللباب ال ُم َ
ُ يشك قارئ في صدق ما يقرؤه ،وأنه ﻫو
وأنه الحق المبينُ والصراط المستقيم.
كان جوﻫر ﻫذه الصورة ،المبثوث تحت المباحث كلها ،ﻫو أن ﻫؤالء العرب المسلمين ﻫم في
األصل قو ٌم بُداة ُجهال ال علم لهم كانِ ،جياع في صحراء مجدبة ،جاءﻫم رجل من أنفسهم فادعى
ي ُمرسلٌ ،ولفق لهم دينا من اليهودية والنصرانية ،فصدقوه بجهلهم وانبعوه ،ولم يلبث أنه نب ٌّ
ﻫؤالء الجياع أن عاثوا بدينهم في األرض يفتحونها بسيوفهم ،حتى كان ما كان ،ودان لهم من
غوغاء األمم من دان ،وقامت لهم في األرض بعد قليل ثقافة وحضارة جلها مسلوب من ثقافات
األمم السالفة كالفرس والهند واليونان وغيرﻫم ،حتى لغتهم كلها مسلوبة وعالة على العبرية
والسريانية واآلرامية والفارسية والحبشية .ثم كان من تصاريف األقدار ان يكون علماء ﻫذه األمة
العربية من غير أبناء العرب( ،الموالي) ،وأن ﻫؤالء ﻫم الذين جعلوا لهذه الحضارة اإلسالمية
كل كتبهم عن دين اإلسالم ،وعن كلها معنى .ﻫذا ﻫو جوﻫر الصورة التي بثها المستشرقون في ِّ
علوم أﻫل اإلسالم وفنونهم وآثارﻫم وحضارتهم ،وأن ﻫذه الحضارة إنما ﻫي إحدى حضارات
«القرون الوسطى» المظلمة التي كان العالم يومئذ غارقا فيها = يعنون عال َم ُهم ﻫم = يجري
ق، ق و ُخب ِ
ث ُمعر ٍ عليها حك ُم قرونهم الوسطى! بثوا تلك الصورة في ِّ
كل كتبهم بمهارة وحِ ذ ٍ
وبأسلوب يُقنع القارئ األوربي المثقف اآلن كل اإلقناع ،وتنحط في نظره حضارة اإلسالم وثقافته
انحطاط «القرون الوسطى» ،ويزداد بذلك زﻫوا بأن أسالفه من اليونان واآلريين كانوا ﻫم ركائز
ﻫذه الحضارة المزيفة الملفقة دينا ولغة وعلما وثقافة وأدبا وشعرا ،ويزداد بذلك األوربي ،أيًّا
56
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
كان ،غطرسة وتعاليا و َج َبريّة ،وال يرى في الدنيا شيئا له قيمة ،إال وﻫو مستم ٌّد من أسالفه
73
اليونان واآلريين والهمج الهامج!"
ينبغي علينا االنتباه كوننا بصدد تحديد تاريخي لألنا الغربية التاريخية ،إلى حد ﻫو سار
وصحيح ممتد أبعد مما ناله تعبير محمود شاكر ،وبالطبع فإنه يعطي تقريرا وصدقا لرسالته ،فإنه
قد بلغ مشارف أخطر حقيقة تاريخية ،ويكفي شرفا وشجاعة علميين أن يعلن بها أليكسي
جورافسكي في كتابه "اإلسالم والمسيحية":
"والحقيقة أن اإلسالم لم يعط أوروبا معارف جديدة وحسب ،بل اثر جوهريا في طبيعة نمو
العمليات الثقافية وتطورها ،وساعد في كثير من الحاالت على تشكل الوعي الذاتي األوروبي.
تكونَ
تصور العام عن أوروبا كوحدة جغرافية وثقافيةّ ، حتى مفهوم «أوروبا المسيحية» بل قل ال ّ
74
في أذﻫان األوروبيين فقط في مسيرة «االستعادة» و«التحرير» ( )rdc sRySnuوالحروب
تصورات الجغرافية -السياسية (الجيوسياسية) والثقافية ظهرت عندئذ
الصليبية ،حيث إن تلك ال ّ
ووضعت نفسها كنقيض مضاد للعالم اإلسالمي .فللمرة األولى استخدمت كلمة أوروبا في مماثلة
ومطابقة مع كلمة مسيحية في تلك الخطة الحماسية التحريضية (التي سبقت اإلشارة إليها) ،التي
أطلقها البابا أوربانس الثاني في المجمع الكليرموني (مجمع كليرمون) .75وقد نوقشت مشكلة
تأثير اإلسالم في تشكل الوعي الذاتي لألوروبيين في دراسات كل من ك .دوسون (انظر المرجع
76
)٤٤و َﻫيْه( y. fub .انظر المرجع".)٤٤
57
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
58
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
59
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الثاني
إننا حين نقول بأن حامل مصباح الحقيقة الذي سلط الضوء على االستشراق ﻫو أمير الجهاد
شكيب أرسالن صحبة سليم نويهض ،الذي يبقى له – ضمن كل من تصدى لترجمة الكتاب-
فضل يقظة العين الساﻫرة ونباﻫة المرابطين على الثغور من ﻫذه األمة ،إننا لسنا في واقع األمر
إال على توافق مواطئ ومعارضة بدﻫية للقب صاحب "حاضر العالم اإلسالمي" "إرميا العصر
الحديث" بما ﻫو دال على النذارة المصبوغة بصبغ غريب مريب من امتزاج الحقد الدفين
والدعوة إلى استئصال المسلمين والتأليب عليهم لإلجهاز على ما بقي لهم من نفس ،امتزاجه
بمظهر أﻫل العلم .يقول إرميا العصر الحديث ستودارد نوثروب في الفصل الثاني في الجامعة
صليبيون واليهوداإلسالمية التي كان كافلها الفعلي أو إطارﻫا السّياسي ﻫو الخالفة التي فرح ال ّ
بحلها ،فال قوة وال أمن وقد انشقت عصا المسلمين بعد التئام؛ واليوم وصلوا إلى حد منع دولة
قائمة باإلسالم حتى ،وﻫذه ﻫي حقيقة إعالن "داعش" و"نظام الدولة اإلسالمية" بعد محاولة
ووشوك تسنم اإلسالم السني سدة الحكم في مصر قطب العرب واإلسالم ثمرة للربيع العربي
والثورة البوعزيزية التاريخية ،يقول ستودارد محذرا ونذيرا:
"وكان مؤتمر «فرسايل» كاشفا عن مقاصد الدول الغربية ،تلك المقاصد التي كان يتوقع
ظهورﻫا دعاة الجامعة اإلسالمية .فلما ظهرت واضحة طفقوا يجدّون في سبيل إعداد برنامج
العمل إعدادا تا ًّما ال عيب فيه ،وتوثيق الروابط المعنوية ،وإحكام الوحدة األدبية بين األمم
اإلسالمية ،وفي مؤتمر «فرسايل» حسرت الدول الغربية الظافرة اللثام عن جبينها ،وبينت غاية
التبيين أنها ال تنزل عن مطمع من مطامعها االستعمارية ،وال تروم الرفق ولو أقله باألمم
الشرقية ،وال التقليل من وطأة السيطرة الضاربة في الشرقيين األدنى واألوسط .فقد قامت الدول
المنصورة واقتسمت بعضها مع بعض المملكة العثمانية ،على مقتضى طائفة من المعاﻫدات
الس ِ ّّرية التي كانت قد أبرمتها فيما بينها خالل الحرب العا ّمة ،وكانت تلك المعاﻫدات الس ِ ّّرية في
الواقع أساسا بني عليه الصلح الذي عقد في مؤتمر فرسايل .زد على جميع ذلك ،فقد كانت
60
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
بريطانية قد أعلنت في أوائل الحرب أن مصر صارت من البالد البريطانية المحمية ،وقبيل
انفضاض مؤتمر فرسايل ،ظهرت بغتة معاﻫدة جديدة بين بريطانية والعجم ،من مقتضاﻫا أن ﻫذه
البالد األخيرة باتت في باطن األمر على األقل ،إن لم يكن في باطنه وظاﻫره معا ،معدودة من
البالد البريطانية المحمية أيضا فكان مؤدى ﻫذه النتائج جميعها أن دول الحلفاء قد غلت الشرقيين
األدنى واألوسط بأغالل من السيطرة السّياسية الثقيلة غير مسبوقة المثيل.
غير أن لألمر وجها آخر نقيضا لما تقدم .ذلك أن قام ساسة الحلفاء خالل الحرب مئات المرات
الرسمية ،أن الغاية الكبرى في ﻫذه الحرب الدموية المخوضة الغمار ،إنما ينشرون التصريحات ّ
صحيحة والقواعد ﻫو إنشاء نظام عالمي حديث؛ قائم البنيان على مكارم األخالق ،واألسس ال ّ
الحرية لجميع الشعوب واألمم في اختيار
ّ الشريفة .كرعاية حقوق األمم المستضعفة ،وإطالق
حكمها ،وتقرير مصيرﻫا ،وامتالك مقدراتها .فذاعت ﻫذه التصريحات في الشرق أيما ذيوع،
واختزتها األمم الشرقية ال بل حفظتها عن ظهر قلبها وأخذت ترتلها ترتيال .فلما وجد الشرق أن
صحيحة ،وال على مقتضى مئات الصلح لم يبن على شيء من تلك القواعد واألسس ال ّ
التصريحات المحفوظة ،بل على المعاﻫدات المقطوعة بين الدول بعضها مع بعض سرا وخفاء
معاﻫدات الجشع االستعماري والحكم والفتح ،لحدثان ما احتدم غضبا ،يكبر نوازل الجور والبغي،
ويعظم سوم ﻫذا الخسف والذل ،فأخذت مراجل العداء تشتد غليانا في كل صقع من أصقاع
فاكفهر الجو وقصفت الرعود منذرة بأﻫول الصواعق .ولم يكن ﻫذا بالحادث المستغرب، ّ الشرق،
إذ قد سبق للكثير من الخبراء العقالء الغربيين ،الراسخين علما باألمور الشرقية ،فأنذروا الدول
الغربية المرة تلو المرة قبل انفضاض مؤتمر «فرسايل» بسوء العقبى الواقعة في الشرق،
وبانفجار عظيم ال بد منه ،من ﻫؤالء المنذرين ليون كايتاني دوق سرمونيته وﻫو ثقة من ثقة
الطليان في شؤون العالم اإلسالمي ،فقد قال في ربيع سنة 2121في جملة حديث له ذكر فيه
نتيجة الحرب العا ّمة في الشرق :إن الحرب العظمى ،قد ﻫزت شجرة الحضارة الشرقية فاﻫتزت
اﻫتزازا بلغ أقصى الجذور في التربة ،وبعث فيها روحا عجيبة .إن الشرق أجمع ،من الصين
حتى أقصى سواحل البحر المتوسط ليميد ميدانا عنيفا ففي كل رقعة وبلد ترى نار العداء للغرب
مشبوبة ففي مراكش الفتنة ،وفي الجزائر الثورة ،وفي طرابلس الغرب عواصف االضطراب
والهياج ،وفي مصر وبالد العرب وليبية وسائر األقطار اإلسالمية الحركات الوطنية الكبرى،
صفات العا ّمة ،وموحدة الغاية :تماسك العالم الشرقي اإلسالمي بعضه ببعض، جميعها متماثلة ال ّ
ومناﻫضته للحضارة الغربية ما استطاع إلى ذلك سبيال».
61
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فكانت ﻫذه الكلمات كأنها رؤيا صادقة ،فأخذت تتحقق في العالم اإلسالمي .غير أنه لما كانت
الواقعا ت األخيرة التي تقوم بها األمم اإلسالمية إنما تغلب عليها صفات القومية الوطنية فإننا
سنبسط الكالم عليها في فصل (العصبية الجنسية) من ﻫذا الكتاب .وما يجب رعايته حق الرعاية
في ﻫذا المقام ﻫو أن العصبيات الجنسية اإلسالمية والجامعة اإلسالمية ،ولو كان ما كان بين
بعض وجوﻫها والبعض اآلخر من االختالفات ،فإنها بجملتها متحدة متجهة نحو غرض عام
واحد :ﻫو القيام في وجه السيطرة الغربية المرﻫقة ،وتبديدﻫا وتمزيقها ،وتحرير األمم اإلسالمية
من قيود السلطة األوروبية السّياسية .وإذ وعينا ﻫذه الحقائق وتدبرناﻫا ،فإننا نأتي للكالم على
حاضر الجامعة اإلسالمية وواقعها المشهور:
قد ﻫاج تيار الجامعة اإلسالمية ﻫياجا ﻫائال ،وثار ثورانا عجيبا ،في ﻫذه اآلونة األخيرة
والباعث على ﻫذا إنما ﻫو اإلرﻫاق الغربي ،المتوالي الشدة والزيادة منذ الزمن البعيد .ثم كانت
الحرب العظمى فاستثارت من الجامعة اإلسالمية ما لم يستثر من قبل ،ثم ولي الصلح الحرب،
وﻫو الصلح الذي سبق لنا فأبنا قواعده وأركانه الفاسدة وما دﻫى العالم اإلسالمي بسببه من
النوازل والفواجع ،وال يغربن عن البال أن الجامعة اإلسالمية على مختلف حاالتها وتطوراتها،
يجب أال تعتبر أنها حركة سياسية دفاعية محمولة على الغرب ردًّا العتدائه ودفعا لجوره فحسب،
بل إن منشأﻫا األصلي ﻫو المشاعر النفسانية الوجدانية العميقة ،في المسلمين لصيانة الوحدة
وتوثيق عرى الجامعة العا ّمة ،تلك الجامعة التي قلنا فيها قبال أنها بين المسلم والمسلم ألقوى منها
حقا بين النصراني والنصراني .فإن عرى ﻫذه الجامعة ليست دينية فقط ،بل إنها بحقيقة المعنى
والمراد اجتماعية خلقية تهذيبية .وإن القوانين والقواعد التي تتألف منها وتقوم عليها حياة األسرة
اإلسالمية ،على مختلف العادات واألقاليم ال تتغير في موضع عنها في موضع آخر في جميع
المعمور اإلسالمي .قال (السر موريسون)«- :إن الحق الذي ال يمارى فيه أن اإلسالم أكثر من
معتقد ودين .إنما ﻫو نظام اجتماعي تام الجهاز ،ﻫو حضارة كاملة النسيج لها فلسفتها وتهذيبها
وفنونها .وقد انقضى ما انقضى من العهد الذي ما برح فيه اإلسالم والنصرانية على نضال
ونزاع ،فما عرى وﻫ ٌن جانبا من جوانب اإلسالم قط ،بل ما انفك على الدوام يشتد بعضه مع
بعض متماسكا متعاضدا ،حتى صار وحدة جامعة ،نامية نمو الجسم العضوي ،سائرا سيره بفعل
مستقر فيه».
ّ نظامه الذاتي ال
فالمسلمون تربط بعضهم ببعض روابط ﻫذه الحضارة ربطا وثيقا ال انفصام له .وباعتبار ﻫذا
المعنى ،فإنها الجامعة اإلسالمية إنما ﻫي عامة ،قائمة البناء في جميع العالم اإلسالمي ،حتى إن
62
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الم سلمين األحرار ،على ما يحبذون من اآلراء الغربية التي يردون شرعتها ،من حيث ال
يرتاحون إلى دعوة الجامعة اإلسالمية السّياسية لتمشيها على الطرق الرجوعية ،يعتقدون كل
الحرية وقواعدﻫا .قال إمام حر
ّ االعتقاد في وجوب الوحدة اإلسالمية الشاملة المبنية على أصول
من أئمة زعماء المسلمين في الهند ،وﻫو أغا خان ،ما يأتي( :إن ﻫناك جامعة إسالمية حقة
الرابطة الروحانية
صريحة ،ينضم إلى لوائها الحر كل مسلم مؤمن مخلص ،أعني بذلك ّ
الوجدانية ،والوحدة الجامعة بين أتباع صاحب الرسالة اإلسالمية .فهذه الوحدة ،اإلسالمية
الروحانية التهذيبية ،يجب أن تتعهد فتنمو أبدا ،ألنها عند أتباع النبي أس الحياة وجوﻫر النفس).
فإذا كان ﻫذا شعور المسلمين األحرار الواقفين حق الوقوف على حضارة الغرب ،وتقدمه،
ورقيه ،وعمرانه ،والقائلين بوجوب االقتباس منه واألخذ عنه ،فما أشد شعور سواد المسلمين،
صب ون؟ أضف إلى ﻫذا ما ﻫو معروف في عامة المسلمين من وﻫم الجاﻫلون الرجوعيون المتع ّ
الشنأة العتداء الغرب وحضارته ،الشنأة التي ليس منشأﻫا في كل موضع سيطرة الغرب
صب .وقد كان للحوادث السّياسية في العالم اإلسالمي مجرد اإلفراط والغلو في التع ّ
السّياسية ،بل ل ّ
صب التهابا بالغا الحد تدفعه
خالل العقد األخير تأثير كبير في ﻫذا اإلفراط والغلو ،فالتهب التع ّ
دوافع سياسية خلقية دينية وتجمعه صفة واحدة متماثلة متمكنة في نفس كل مسلم ،فباتت السلم
العا ّمة في المعمور اإلنساني مهددة من ناحية العالم اإلسالمي .ﻫذا ﻫو الواقع ،الذي يجب علينا أن
نعترف به ،وأال نخدع نفوسنا فنستصغر شأن ﻫذه الحالة العصيبة اليوم وما يحتمل أن ينجم عنها
77
من المخاطر الكبرى في الغد القريب".
إن ﻫذا الخطاب وﻫذه النذارة المصبوغة بهذا الصبغ ومع ﻫذا اللقب الرﻫيب ،لقب "إرميا ّ
صليب ،ﻫي عين ما صدر عنه العصر الحديث" ،نذارة بلقب معمد بالدين ،أو قل نذارة ال ّ
مرة .والنقد التاريخي الحصيف وجب أن يجعل عجاج بن االستشراق مولودا حين صدوره ّأول ّ
يوسف سليم نويهض كما أشرنا إليه نقطة بارزة ممثلة لعين األمة المرابطة ،مع شكيب أرسالن
محددا لجبهة المواجهة الحية ،وبالتالي ،وبحسب التأريخ لكل األعمال المتصدية لظاﻫرة وسالح
االستشراق ،ﻫي بمثابة العدسة المجمعة لحزمة التأثير االستشراقي ومواجهته والر ِ ّد عليه.
63
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فإن كل عقل وكلليس بُ ٌّد من التوقف ﻫنا عند ﻫذا الذي نبهنا إليه بشأن لقب "أمير البيان!!" ّ
إنسان ا طلع على تاريخ وسيرة وبيان وحياة شكيب أرسالن – رحمه هللا! -ليجد في نفسه من ﻫذا
ودس ما ﻫو أحق وأجدر أن يذكر مما ﻫو ّ اللقب "أمير البيان" شيئا ! كأنه حق ولكن يراد به كفر
أعظم شأنا من البيان؛ وقد كنت دائما أتساءل عن ﻫذا األمر ،فإذا بي أجد وفي تزامن َبعدي جد
قريب مصاقب مع كتابة الفقرة السابقة ،وذلك خالل قراءتي لمقال األستاذة جويدة غانم:78
"الرؤى النقدية واالستشرافية للكولونيالية وما بعدها بين شكيب أرسالن وإدوارد سعيد" ،79إذا
بي أجد ﻫذا التأطير الواقعي األحق باالعتبار الذي ﻫو األصح في التقويم والنقد التاريخي لهذا
الرجل شكيب أرسالن الذي ﻫو بحق أمة وحده: ّ
"...
على ﻫذا األساس تتبين مناقشات أرسالن وإدوارد سعيد لحال العالم الكولونيالي وما بعده،
سياسية
صة ،والمركز المهني والموقع الثقافي ،والخبرة ال ّ
حيث مكنتهم العالقات العا ّمة والخا ّ
وانتماؤﻫما اللبناني ،أن تتحول أفكارﻫما وتنظيراتهما التي اكتسبوﻫا من شبكة العالقات إلى
معارك حقيقية ،وضعت مفهوم الكفاح في خانة الالرجوع واإلقرار الحتمي باالنتصار؛ فقد كان
ألرسالن موقع في السّياسة العثمانية والعربية التي وجد فيها كثيرا منها في حالة انهيار داخلي
وخارجي ،كما كان له الدور الفاعل والكاريزمي في إنقاذ كثير من السّياسات وتكوين كثير من
تحرر العربي في الجزائر والمغرب وليبيا وتونس ،ومساندته المواقف ،كوقوفه مع حركات ال ّ
فكرة الجامعة اإلسالمية ،وتأسيسه كثيرا من المنابر الصحافية في الداخل والخارج ،باإلضافة إلى
نشاطه العلمي البارز الذي اتسم بالوضوح والبالغة والتدقيق والتحقيق.
كما ساﻫمت األحداث السّياسية داخل لبنان في توسيع حجم اللغة االستشرافية واإلدراكية لمآل
صة أن السلطات الكولونيالية شجعت المدارس االستشراقية المنطقة والعالم اإلسالمي مستقبال ،خا ّ
لضرب وحدة المنطقة وشعوبها بزرع الفتن الطائفية والمذﻫبية ،وسياسات التحريض ،حيث كان
لبنان منطقة خصبة لهذه المدارس ،بحيث إن أبا القاسم سعد هللا قال عنه ما يلي« :اقترن اسم
78أستاذة الفلسفة وقضايا الكولونيالية وما بعدها ،قسم الفلسفة ،جامعة باجي مختار عنابة ،الجزائر.
79تباين العدد 1/37صيف 0230
64
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
شكيب أرسالن بأعمال نجم شمال إفريقيا في فرنسا وأوروبا على العموم ،وقيل كثير عن عالقة
شكيب أرسالن بمصالي الحاج زعيم حزب الشعب ،وعن عالقته بالشيخ عبد الحميد بن باديس
رئيس جمعية العلماء ،ومراسالته مع الشيخ الطيب العقبي باعث الفكر اإلصالحي الجديد ،وأستاذ
أحمد توفيق المدني .)... ( ،إن اسم شكيب أرسالن لم يعد مرتبطا بالبيان العربي الذي اشتهر به
ولقب من أجله (أمير البيان) ،ولم يعد اسمه مقصورا على قضية سورية وفلسطين ،ولكنه أصبح
81 80
اسما مرتبطا بقضية ليبيا والمغرب األقصى والجزائر وتونس» ".
وعندما كاتبه الشهيد عمر المختار – رحمه هللا! -لم يخاطبه إال بما ﻫو أجدر بأن يخاطبه به:
"إنه من خادم المسلمين عمر المختار إلى المجاﻫد األمير الخطير أخينا في هللا وزميلنا في
82
سبيل هللا األمير شكيب أرسالن حفظه هللا"
الرجل العظيم – أمير الجهاد -من حيث ارتباطه وارتباط ﻫدف ذاته بل إن قصر وصل ﻫذا ّ
الوجودية ،بالشام والمغرب العربي فقط ،إن فيه لجنفا وشططا عظيما بقدر حقيقة حياته التي كان
شاغلها األمة اإلسالمية في مسار كيانها بدءا بتاريخ مهد الرسالة وجرثومة العرب مادة اإلسالم
إلى أزﻫر وينع حضارتها في األندلس ،ذروة المدنية والنمط الحضاري البشري ليست تدانيه
ي مسلم في أي بقعة طرا ،إلى آخر نفس من حياته وﻫو ال يكاد يغفل عن أ ّ
غيرﻫا من الحضارات ًّ
من المعمور ،وكأنهم من أﻫله وﻫو منهم ،من طنجة إلى جاكارتا والجزر الجميلة القصية التي
فتحت نورﻫا لإلسالم وأدركت أنه فطرتها ،قد ال تجد إن ذﻫبت تبحث له عن نظير في ﻫذا الشأن
لهذه النفس بحمل ﻫم األمة وضم تاريخها وحاضرﻫا دما تفور به ﻫذا النفس السامية.
وكذلك من التأطيرات الالزبة لكتاب "االستشراق" إلدوارد سعيد ،أعمال عظيمة قد ال
يضاهيها في مسحتها الجهادية والثورية وال يبلغ معشار قيمتها العلمية عدد حروفها من الرسائل
الجامعية في برامج الجا معة االستعمارية ومثله من كتب ثقافة اللفظ ،تأطيرات هي بالنسبة لها
بمثابة تقطيعات لألنا والعقل الغربيين ،أهمها في نظرنا ومن حيث سعتنا ومما نعيد تأكيده:
"رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" ألبي فهر محمود محمد شاكر الصادرة عام 1291م صدر بها
الطبعة الثالثة لكتابه التاريخي "المتنبي" ،عالوة بالطبع على "االستشراق وتغريب العقل
65
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
التاريخي العربي -نقد العقل التاريخي" لمحمد ياسين عريبي .لكن تأطير ﻫذا العمل األخير ليس
يقف معناه في حدود التقريب الحيّزاتي الفكري والزمني ،مما ﻫو في عموم معنى اللفظ ،بل ﻫو
ي
ي جل ّيزيد عليه باتصال ممتد بإثبات المكمل الجوﻫري لالستشراق ،وليعني ذلك بتقرير منطق ّ
وواضح كما أومأنا إليه ،أن "استشراق" إدوارد سعيد ليس في حقيقة األمر إال لوحة معطياتية ال
يمكن أن تفيد جوﻫرا تاريخيا ،وبالضبط ﻫذا الذي يراد به في العقل مفكرا فيه ،ال يمكن ذلك إال
مكونات جوﻫرية تفسيرية ومقصوداتية أو غائية ،ذلك ﻫو ما يفي به عمل ولوحة حقيقة من خالل ّ
"تغريب العقل العربي اإلسالمي" اللوحة المفتقدة واللوحة ال ُمكمل ،كما سيتم استجالؤه وتفصيله،
ذلك وإن لم تفته بعض اإلشارة ،نعني قوله" :ثانيا :وهنا يحصل تعويض وافر عن نواقص
دراستي لالستشراق ،لقد كُتِبت مؤلفات حديثة هامة عن الخلفية التاريخية لبزوغ ما أسميته
83
االستشراق الحديث "...
83االستشراق– ص13
66
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
67
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الثالث
االستشراق موضوعا ﻫو خلق وصنع تاريخي ال يخرج عن سنن الوجودَ ﴿ :ما خَلق هللاُ
س ًّمى'﴾(الروم )7وﻫو بالطبع ما يؤول إلى حقيقة ض َو َما بَيْن ُه َما إال بال َح ّ ِ
ق َوأ َج ٍل ُم َ األر َ
اوات َو ْ
الس َم َ
المعيارية التحليلية -التركيبية ،ﻫنا موضوعها العدو (عدو الغرب) الشرقي اإلسالمي خاصة،
القوة الوجودية التاريخية المعيارية العملية ﻫذه ﻫي السر الخفي والمفتاح السحري في الطفرة و ّ
للغرب ،واحتذاه في ذلك كثير من األمم كبيرﻫا وصغيرﻫا فصنعت ما يرى أنها معجزات تاريخية
في الكون المادي والعمران والتمكين التاريخي ،ﻫذا التمكين الذي ﻫو تذكرة لمن يسمع ويعقل،
ﻫو من حقيقة عبادة هللا تعالى ومن العبادة التي ال حقيقة للدين إال بها؛ فاألركان ليست البناء.
إن االستشراق كان بحق آلية ووسيطا علميا للغرب في حفظ ما يعتبره كيانا دينيا وتاريخيا:
"إذا كانت الثقافة األوروبية بشكل عام قد هضمت الشرق وتمثلته ،فإن فاليري (بول فاليري)
بالتأكيد يدرك أن االستشراق كان وسيطا ً محددا ً في هذه المهمة .وفي عالم من المبادئ الولسنية
المتعلقة بحق تقرير المصير القومي <للشعوب> يعتمد فاليري بثقة على نفي تهديد الشرق
84
بتحليله".
84االستشراق -ص122
85
A. B. ЖУРABCKИЙ, XPИCTИANCTBO И ИCLAM
68
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"وبشكل عام ،فإنه خالفا للموقف اإلسالمي الهادئ وحتى الالمبالي ،كان موقف المسيحيين
تصورهم «تحديا» ّ الغربيين من اإلسالم انفعاليا وغير متسامح روحيا ،ألن اإلسالم كان في
تطلب ردًّا ومقاومة واﻫتماما دائما به ،وإنه من أجل إدارة الصراع بنجاح مع عقيدة ﻫذا المنافس
86
– الخصم -القوي والخطير ،البد من دراسته"
إذا ﻫو عمل محكم وراءه خطة علمية على البعد التاريخي في الحرب والمواجهة .وﻫذا ﻫو
المنحى الداللي الذي ينبغي أن يوضع عليه ما جاء عند إدوارد سعيد في مقدمة "االستشراق":
"ينبغي على المرء أال يفترض أبدا أن بنية االستشراق ليست سوى بنية من األكاذيب أو
األساطير التي ستذﻫب أدراج الرياح إذا كان للحقيقة المتعلقة بها أن تجلى .وأنا نفسي أؤمن بأن
القوة األوروبية -األطلسية -بإزاء الشرق منه
االستشراق أكثر قيمة بشكل خاص كعالمة على ّ
كإنشاء حقيقي عن الشرق (وﻫو ما يدعى االستشراق ،في شكله الجامعي أو البحثي ،كونه) .على
القوة المتالحمة لإلنشاء االستشراقي،
أي حال ،إن ما علينا أن نحترمه ونحاول أن ندركه ﻫو ّ
وعالقاته الوثيقة بالمؤسّسات االجتما-دية والسّياسية المعززة ،وقدرته المهيبة على البقاء .فأي
نظام من األفكار قادر ،بعد كل حساب ،على أن يبقى دون تغير كحكمة قابلة للتدريس (في
المجامع ،والكتب ،والمؤتمرات ،والجامعات ،ومعاﻫد السلك الخارجي) من زمن إرنست رينان
في أواخر (2661ات) إلى الوقت الحاضر في الواليات المتحدة ال بد أن يكون شيئا أكثر صالبة
مجرد مجموعة من األكاذيب .ومن ثم ،فإن االستشراق ليس استيهاما أوروبيا فارغا ّ ومتانة من
حول الشرق ،بل إنه لجسد مخلوق من النظرية والتطبيق ما برح ،ألجيال عديدة ،موضعا
الستثمارات مادية كبيرة .وقد جعل اال ستثمار المستمر االستشراق ،من حيث ﻫو نظام من
المعرفة بالشرق ،مشبكا يمرر خالله الشرق إلى الوعي الغربي ،تماما كما أن ذلك االستثمار
نفسه ضاعف التقريرات التي تكاثرت منسربة من االستشراق إلى الثقافة عامة – بل إنه قد جعل
87
ﻫذه التقريرات منتجة بحق.
االحترام باعتباره قيمة ﻫو ﻫنا لالستشراق سالحا ال مادة" :االستشراق أكثر قيمة بشكل
القوة األوروبية -األطلسية" سالحا ﻫو على مرجع نسبي أخالقيا نسبي أيضا،
خاص كعالمة على ّ
برر ،ألن العلم والمعرفة مرجعه الحقيقة الوجودية .وﻫذا
ومادة ﻫو غير ذلك ومردود غير ُم ّ
69
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"ولكن المستشرق ...دخل ال مستفيدا وال مناقشا ،بل دخل باحثا ُ ودارسا عليه طيلسان العلم،
في ميدان المنهج وما قبل المنهج ،وﻫو ميدا ٌن له شروط الزمة ال تختل .دخل في لغة ﻫو فيها
ﻫجي ٌن كل الهجنة ،وفي ثقافته ﻫو غريب عنها كل الغربة .ودخوله ﻫذا عمل مستشنع في ذاته،
ألنه اجتراء على دخول ﻫذا الميدان بغير حقه ،وال يسمح بمثله في ثقافة أمته ﻫو نفسه ،ألنه ال
يملك شيئا ذا با ٍل من مسوغاته ،وال تسمح به طبيعة ما يمكن أن يسمى بحثا أو دراسة ...أ ّما اللغة
فغير ممكن أن يكون فيها إال طالبا شاديا يعرفهما معرفة ما ،ال تسمح بدخوله تحت شرطها ،كما
بينت آنفا .وأما الثقافة ،وشرطها أشد وأقسى ،فيحول بينه وبينها أﻫوا ٌل ال يجتازﻫا إال من عرف
اللغة معرفة أستاذ متمكن ناشئ في ﻫذه الثقافة وفي لغتها .وفوق ذلك ،المستشرق ناشئ في لغة
وفي ثقافة أخرى قد رسخت في نفسه وعقله ،وﻫي بطبيعتها ،كما بينت آنفا ،مصبوغة صبغة
شديدة في اليهودية والمسيحية ،وﻫما ملتان تباينهما ملة اإلسالم مباينة تبلغ حد الرفض
والمناقضة .وثقافته ﻫذه تنازعه حيث ذﻫب في البحث والدرس ،فممكن أن يناقش ثقافة اإلسالم،
ممكن ،ألن ﻫذا حقه ،ولكنه مستحي ٌل كل االستحالة أن يكون في ثقافتنا نحن باحثا أو دارسا يبدي
رأيا يستحق النظر واالحترام ،في قرآنها وحديثها وتفسيرﻫا وفي تفسير شرائعها ،وفي تاريخها
وفي آدابها ولغتها وشعرﻫا إلى آخر ما ذكرته آنفا ،مستحيلٌ ،ألنه ممتنع عليه امتناعا ال يملك
الفرار منه.
َ
بيد أن دوافع المستشرق إلى ﻫذا الدخول الجريء المستبشَع وركوب ﻫذا المركب الوعر،
كانت ضرورة تحمله على أن يخدم أبناء جلدته وعشيرته وأﻫل ملته ،بما أوجبه الصراع المحتدم
قرونا بين اإلسالم والمسيحية المحصورة في الشمال ،فانبعث َيكتب ما َيكتب حامال ﻫموم
المسيحية الشمالية في أعماق قلبه ،ألسباب فصلتها آنفا ،وليصور الثقافة العربية اإلسالمية
وحضارة العرب والمسلمين ،بص ورة مقنعة للقارئ األوربي (المسيحي) ،وبأسلوب يدل على أن
كاتبها قد خبر ودرس وعرف وبذل كل جهد في االستقصاء ،وعلى منهج مألوف لكل مثقف
أوربي ،وأنه وصل إلى ﻫذه النتيجة التي وضعها بين يديه ،بعد خبرة طويلة وعرق وجهد
70
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
كدر،
ئ منهم في صدق ما يقرؤه ،وأنه اللباب المصفى من كل ٍ وإخالص ،حتى ال يشك قار ٌ
والمبرأ من كل زيف ،وأنه ﻫو الحق المبين والصراط المستقيم .وفعل المستشرق ذلك ألسباب
تستطيع أن تعيد قراءتها فيما سلف.
وﻫذا العمل على ما فيه من المعابة ،ﻫو بال شك أيضا ،حق خالص للمستشرق ال ينازعه فيه
منازع ،ألنه كتب ما كتبه للمثقف األوربي المسيحي وحده ال لغيره ،حتى ما كان من ذلك كلِّه
غير ،كل ذلك حقه ،وما كان فيه من إثم فحسابه على هللا سبحانه ال علينا .وكل سفاﻫة وبذاءة ال ُ
ذلك أيضا ال يوجب عندي أن يوصف عمل المستشرق ﻫذا بأنه مبني على خبث الطوية ،ألن
خبث الطوية يقتضي أن تكون تعرف الحق أبلج مستنيرا ،ثم تطمسه مريدا إلفساد الحق على
غيرك .والمستشرق بعي ٌد كل البعد عن أن يعرف الحق ُم ْعتِما دامسا ،فكيف يعرفه أبلج مستنيرا.
والمستشرق كما علمت لم يعمد إلى إفساد حق المثقف األوربي المسيحي ،بل عمد إلى حياطته
مر القرون الطوال بالتساقط فيمجربة عاقبته على ِ ّ
ّ عدوه المسلم انبهارا
حتى ال ينبهر بدبن ّ ِ
88
تسوغ الوسيلة» ،مسلك مألوف
اإلسالم .وفوق ذلك كله ،فإن ﻫذا المسلك« ،مسلك الغاية ّ ِ
مستحسن محبب إلى الحضارة األوربية السائرة على ﻫدى مكيافلي الذي ﻫداﻫم إليه ،ونزل عندﻫم
منزلة الدين ،وإن كان ديننا ،نحن المسلمين ،يُنكره ويأباه علينا كل اإلباء .وإذا كان من حقنا أن
جائز لما في عمل آخر من أعماله ربما أشرت إليه فيما ٌ نصف المستشرق بخبث الطويّة ،فذلك
بعد.
أما األمر الثالث ،وﻫو أمر األﻫواء ،فلن أضيع وقتي ووقتك في الحديث فيه ،وإن كان شرطا
مهما ،حت ٌم أن يبرأ منه كل من ينزل ميدان المنهج وما قبل المنهج ،ألن بديهة الفطرة في اإلنسان
تقضي بأن األﻫواء مرفوضة في كل عمل يستحق أن يوصف بأنه عمل شريف أو عمل علمي.
وظاﻫر من كل ما كتبته لك آنفا أن االستشراق ،من فرع رأسه إلى أخمص قدميه ،غارق في
األﻫواء .والثقافة األوربية والحضارة األوربية تستقبل األﻫواء بال نكير وال أنفة ،بل ﻫي تسوغ
استعمال رذيلة األﻫواء في الدنيا وفي الناس بال حرج ،ألنها حضارة قائمة على المنفعة والسّلب
89
ضر!!"
ونهب األمم وإخضاعها بكل وسيلة لسلطانها المتح ِ ّ
88ال شك في عدم حصافة هذا التعبير ،إنما هو معرفة الحق وارتقاء النفس إلى نور اإليمان ودخول في دين هللا
تعالى الذي أرسل رسوله محمدا صلى هللا عليه وسلم رحمة للعالمين
89رسالة في الطريق إلى ثقافتنا – ص( 78..70بتصرف طفيف /جله حذف إحاالت داخلية قبلية)
71
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صح قيمة موجبة في كل الذاتيات والمنطقيات السيكولوجية تجده دوما ولزوما غير فإن الذي َي ِ
نسبي وال ذاتي إنما ﻫو من العقل التواجدي الذي يتم به السّلوك والتواجد ال من صبغة التواجد
وذات السّلوك؛ تجده مما يصح إطالقا ألنه من أنساق العقل المميّز لإلنسان عن الحيوان وخاصته
القوة المميّزة .ويمكن ﻫنا أن نذكر قوله عز وجلْ ﴿ :
إن تكونوا تأل ُمونَ فإن ُه ْم َيأل ُمونَ ك َما ذي ّ
تر ُجونَ ِمنَ هللاِ َما ال يَ ْر ُجونَ '﴾(النساء )213ولنبدل نسق [العمل واأللم ،الغاية] بنسق
تأل ُمونَ َو ْ
[العقل ،العمل والغاية] ،فإنه لحال سوء أن يكون أﻫل الباطل ذوي أشطاس أش ّد دفاعا واستماتة
عن الباطل من دفاع أﻫل الحق (أو ممن ينتسبون إليه) عن الحق .ووجب التذكير بأنه داخل
صليبي العدائي لإلسالم ،يُعتبر أسلوب االستشراق صحيحا مشروعا المرجع النسبي األوربي ال ّ
قررا ،والكذب في ألن الحرب خدعة وقد جاء في حديث الرسول صلى هللا عليه وسلم بلفظه ُم ّ
الحرب جائز .أ ّما المكيافيلية فهي وإن أصبحت ممثلة بيانا اختزاليا في مقولة "الغاية تبرر
الوسيلة" فإن إطارﻫا التاريخي في الغرب أصبح في غابر التاريخ ومتجاوز األطوار سياسة
االجتماع والدولة والحكم عند الغرب ،وإنما ﻫي باقية السّريان في دويالت العرب والشطر
المتخلف تاريخيا من بقاع العالم ،والذي يعمل الغرب على إيقائه في ﻫذا الطور خارجا عن
للربّانية.
الربّانية ،في موقع انتربولوجي تراثي ،وليس التراث فيه تابعا منهجيا ّتاريخه وعن ّ
وبخصوص نسق [العقل ،العمل والغاية] فإن األخطر في الواقع ﻫو أن ليس حال سوء فقط في
ﻫذه المأسسة العلمية إذ كل ما ﻫو محكم ومدروس ومعقلن يعتبر علميا ،بل في كون العمران
الغربي مبنيا ومسيرا ومنظما على المعيارية الرياضية ،إلى درجة تقرير أمر خطير ﻫو أن
الغرب في عمرانه يؤمن بأن هللا رب العالمين ويكفر به ،يؤمن ببعض ويكفر ببعض ،يؤمن عمليا
ضيَاء
س ِبتواجده على المعيارية الرياضية ألنها ﻫي الترجمة لقوله تعالى﴿ :هُُ َو ال ِذي َج َعلَ الش ْم َ
ص ُل اآليَا ِ
ت ق'نف ِ ّ اب' َما َخلقَ هللاُ ذ ِلكَ إال بال َح ّ ِ
س َسنِينَ َوالحِ َع َد َد ال ِ ّ
ناز َل ِلت ْعل ُموا َ
َوالق َم َر نورا َوقد َرهُ َم ِ
ض َوما َب ْين ُه َما إال بال َحقّؤ َوأ َج ٍلاألر َ
ت َو ْ لقو ٍم َي ْعل ُمونَ '﴾(يونسَ ﴿ )5ما خلقَ هللاُ الس َم َ
اوا ِ ْ
س ًّمى'﴾(الروم )7وﻫذه الترجمة العملية للفقه في حقيقة الحق واإليمان باهلل غير محققة عند
ُم َ
المسلمين إنما ﻫي محققة عند الغرب عبودية ال مناص منها لتسخير ما خلق هللا تعالى من أسباب
تصور العلمي الحق للكون ولالستخالف أو بأص ّح التعبير
القوة ،فهم يغنمون من ﻫذا الفقه وﻫذا ال ّ
ّ
ما يكون به االستخالف كما سطرنا عليه بقوة في المدخل .إذن فاألمر بالنسبة لخدمة األمة مرجعا
ْ
االشطس نسبيا ذاتيا سيكولوجيا غربيا ليس مكيافيلية على المعنى المتردد ،إنه نسق يدل على مدى
72
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صبغ التواجدي واألخالق .لكن بمنطق الحق ،منطق الحقيقة والدﻫَاء ،وﻫذا من العقل ال من ال ّ
الوجودية ،ينبغي أن يكون وﻫو كذلك المرجع للقيم جميعا؛ فالعلم الحق ﻫو أن محور الوجود
البشري وتاريخه ﻫو محور الكتاب والنبوة ،ﻫو بنفس حقيقة أن قانون الدائرة واحد ال نسبوية وال
أثر أمكن فيه لذاتيات وسيكولوجيات منطقية ،فكذلك ،الحقيقة الوجودية﴿ :الذِينَ آتيْناﻫُ ْم الك َ
ِتاب
فريقا ِم ْن ُه ْم ليَكت ُمونَ ال َحق َوﻫُ ْم يَ ْعل ُمونَ ' ال َحق م ِْن َر ِبّكَ ' فال
يَ ْع ِرفونَهُ ك َما يَ ْع ِرفونَ أبْنا َءﻫُ ْم' َوإن ِ
ترينَ '﴾(البقرة)246-245
تكونن مِنَ ال ُم ْم ِ
أيضا ال منتدح من بعض البيان مما يخص المفهوم المحوري ﻫنا ،مفهوم التقطيع.
إننا نعتبر مفهوم التقطيع على امتداد داللته واستعماله الهندسي ،داللة المقاربة العملية في
صناعية على مختلف وكل أبعادﻫا التكوينية .وﻫذه تحديد البنية الهندسية للموضوع والمادة ال ّ
األبعاد والمناحي التقطيعية ﻫي بالطبع على حسب الهدف العملي وكذلك تتبع البعد العملي
صناعي.الرسم ال ّ
والهندسي للعقل؛ والغالب على معنى التقطيع معناه األولي الذي يدرس في ّ
صناعة على كل اإلنشاء والخلق االمتداد الداللي الذي نريده ﻫنا ﻫو اإلطالق لمفهوم ال ّ
صمود الموضوعاتي في الوجودي وظواﻫره وعوالمه؛ وبالخصوص تجاوز السّكونية أو ال ّ
االعتبار ،أي في وضع استقراره الجوﻫري ،ال من من جهة مكوناته المادية بل أيضا في قانونيته
فقدرهُ
َ التكوينية والكلية معا؛ وﻫذا ﻫو الذي نفقهه من قوله عز وجلَ ﴿ :وخَلقَ كل ش َْيءٍ
تقدِيرا﴾(الفرقان )0وألولي األلباب ،فهذا منحى الفقه الواضح والحل للسّؤال الفسلفي المعضل
يز َحكِي ٌم﴾ ﴿ َ
علِي ٌم الذي الزال موضع ما أبهم في الفلسفة وأشكل ،ﻫذا منحى جليل الموجّهاتَ ﴿ :
ع ِز ٌ
ِير﴾. َحكِي ٌم﴾ ﴿ َ
علِي ٌم قَد ٌ
ّ
يغربن عن عقلك التأصيلي كو ُن التقطيع ما ﻫو إال شَروى بل نفس النسق المؤسّس عليه وال
المنطق والرياضيات وتبعا التفكير البشري ،ومطلق اإلبداع الفني ،نسق التجزيئية ،والمتخذ
73
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المنحى التركيبي من الجزئي إلى الكلي ،عكس منهج المفكر -نعني بالنسبة للفنان -الذي يكون
اعتباره للكليات ،كما أومأ إليه شكري غالي في معرض تحليله ألعمال توفيق الحكيم في "ثورة
المعتزل"؛ وﻫو المتوافق والصبغ اإلنشائي للفن.
البعد التاريخي لالستشراق والقانونية الوجودية القاﻫرة للكون التي بها يت ّم التسخير
االستخالفي ،ﻫو ما يجعله موضوعا للمعيارية السننية .لكن ﻫهنا ينبغي العودة إلى ما قلناه وأشرنا
إليه من حقيقة ووجوب اإلطالق لألبعاد والمناحي التقطيعية ،مع الحفاظ دوما على ذات الداللة
السّنخ للتقطيع؛ ففرويد مثال اعتمد باألساس على التقطيعات على مستوى النفس اإلنسانية،
ليستنبط ما استنبطه داخلها ذاتا واحدة ونظمة واحدة مترابطة مفسّرا بعضها لبعض .كذلك يمكن
من خالل نظرية االنفجار العظيم أن نحصل على تقطيع محوري للفضاء الكوني ،وأيضا تناسقا
ذرات المادة والقوانين الفيزيائية على تقطيعات على المستوى المجراتي وعلى مع مسلسل تكوين ّ
سارية على الكائن مستوى نظامنا الشمسي وعلى مستوى كوكب األرض ،ومن خالل القوانين ال ّ
البشري وتاريخه أمكن الحصول على تقطيعات على كل المستويات من الجنس البشري ككل ،إلى
تاريخ األمم ،إلى مسار حياة كل إنسان ،كما ﻫو الشأن بالنسبة لكائنات النبات والحيوان،
والمعيارية في كل ذلك ﻫي المعيارية الرياضية ،الواضحة أكثر والمتجلية في ح ّل المسائل
الهندسية غير القاصرة في الحدس الجبري فقط؛ ذلك أن نموذجها ،يعطي صورة واضحة للحركة
التكوينية لالشكال الرياضية ككائنات وﻫي تتحول من شكل إلى شكل بالتحويالت الهندسية
صناعي لها ،ومن ثم كانت معيارا البرﻫانية ،ذات إمكان المطابقة بالمسار النشوئي والخلقي وال ّ
القوة في
لكل الخلق الوجودي ،واألخطر في ﻫذا ﻫو القانونية وامتالكها في الخلق بالعلم لتسخير ّ
كل شيء وحسن النظام في كل شيء:
فقدره تقدِيرا'﴾(الفرقان)1
َ ﴿ َوخَلقَ كل َ
ش ْيءٍ
74
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
بوأه مستوى رائز مثالي للذات التاريخية للغرب؛ وﻫذا ليس ينقص منه ذاتا منها ومن حقلهاّ ،
سنان،
شيء عند شكيب أرسالن ،الذي يبقى تميزه ب ّينا في التجربة العملية والجهادية باللسان وال ّ
وقليل من ﻫم في التاريخ برأوا على ﻫذا النموذج الفذ والفريد.
"إذا كان ﻫذا التالقح الفكري والسّياسي والعلمائي قد أعطى أرسالن قدرة عقلية فائقة في قراءة
األحداث ،وذلك من خالل استنطاقه المواقف واألسماء واألماكن والوثائق ،فإن ﻫذا النوع من
تصور العالم العربي واإلسالمي في ما ينبغي أن يكون ّ التبصر أعطاه تلك الرؤى المرآوية في
عليه مستقبال ،والذي تمثل في انحطاط سياساته ،والسّرقة الكبرى لتاريخه من طرف القوى
الكبرى واستشراقها الجديد الذي فتح الحرب على مشروع إدوارد سعيد واعتبره بمثابة عداء
للسامية .90وال يختلف ﻫذا التكون عن محصلة سعيد الفكرية والسّياسية والثقافية الكبرى التي
ترجمها في كتاب االستشراق الذي أتبعه في ما بعد بكتاب الثقافة واإلمبريالية لتفتح ﻫذه
الدراسات عوالم ال نهائية في قراءة عالمات اللغة والبنية ومفاﻫيم شرق غرب؛ إذ أظهرت
العقالنية السعيدية مدى العمق المعرفي والنقدي لكثير من األطروحات والقضايا الفكرية واألدبية
والسّياسية ،وأظهرت ذلك المزيج بين الرواية والمكان والمعرفة واألشخاص والجغرافيا والسّياسة
في مآل دنيوي ،أوضح من خالله كيف زعزعت نظريات الهيمنة الكبرى المعتقدات األصالنية
للشرق واإلسالم ،عبر اختالق أساطير كبرى من طرف الدول المستعمرة ،وإقحام معجمها
الثقافي والعقائدي في الكتابة التاريخية والموقع التاريخي ،وحتى في المخيال الجمعي الذي بُني
91
على الثنائيات والضدية".
بل وال يفوت إدوارد سعيد ،وتحت عنوان تحتي جد ﻫام ،أن يثبت ﻫذا البعد الشخصي مستنطقا
أفصح وأصدق تعبيرا عن اللحظة واألثر الوجوديين ،فيقول:
"إن معظم ما في ﻫذه الدراسة من استثمار شخصي ليشتق من وعي كوني "شرقيا" نشأ طفال
في مستعمرتين بريطانيتين .ولقد كانت كل دراستي ،في ﻫاتين المستعمرتين (فلسطين ومصر)
وفي الواليات المتحدة ،غربية؛ بيد أن ذلك الوعي العميق المبكر استمر رغم ذلك بإلحاح،
وبطرق عديدة ،فإن دراستي لالستشراق كانت محاولة لجرد تلك علي <أنا> الموضوع الشرقي،
90
Martin S. Kramer, Ivory Towers on Sand: The Fathure of Middle Eastern Studies in
America (Washington, DC: Washington Institute for Near East Policy, 2001), 28
تباين العدد 1/37صيف -0230ص383 91
75
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ﻫذا ﻫو األصل الحقيقي لألساس العظيم لشكيب أرسالن ولنظرية إدوارد سعيد غير المسبوقة؛
فهو على نور التجربة الوجودية واالنتماء ،إنه تقطيع أنطلوجي ليس ما بعده مصدر تجريبي
صياغة ،فالعالقة قائمة بين ركني
أقوى ،فجاء األساس والنظرية ال نظير لهما ،ال من حيث ال ّ
ي بعد ﻫو،
ي موضوع ﻫو ،وعلى أ ّ التجربة والقانون ،ولكن من حيث المضمون وموضوعه ،أ ّ
ي خطر وشأن لذلك كله؛ إنه بحق إنجاز عظيم! وأ ّ
ولنختزل فنقول بأن نظرية االستشراق عند إدوارد سعيد ،ولو في بعدﻫا المعطياتي ،ﻫي من
حيث بلورتها غير مسبوقة وﻫيكلتها ومجالها ﻫو الشرق (اإلسالمي تحقيقا) ،المكمل والمباين
للغرب .وما من شك كون حقل الكلمة والرأي خاضعا دوما وإلى درجة ما لنظام الخطاب ولو
إلى حد ما من الحدود .ومنه يبقى خطاب االستشراق عند إدوارد سعيد ليس في حدود الحدس
مستقر الكالم وحقيقته ﻫو أن االستشراق
ّ الخطي ،وإنما ﻫو خطاب ﻫذا حدسه وﻫذا إسقاطه؛ و
يكاد يكون على انطباق ممثال في اإلسالم والحضارة والوجود والعقل التاريخي العربي
اإلسالمي ،على ذات القول المستبصر لجوستاف لوبون في مقدمة سفره "حضارة العرب":
«العرب عنوان أمم الشرق التي تختلف عن أمم الغرب».93
الذي يستجلي ويضع ﻫذا موضع الحقيقة العلمية ﻫو التقطيع على مختلف من مناحي
شروط العلمية المالزمة ألي دراسة،الموضوع ،تاريخ الغرب واألنا والعقل الغربيين ،بتأطير ال ّ
صة ﻫنا البعد أو المحور التاريخي الزمني؛ فالترابط الزمني التاريخي يعطي قيمة دراسيةخا ّ
وعلمية لتقطيع على حيّز ومنحى معيّن بالنسبة آلخر بعد عن التأثير العالئقي بالموضوع
والدراسة .ﻫكذا سوف نتحقق بالتقطيعين لمحمود شاكر وياسين عريبي ومن خالل تأطيرﻫما،
سوف نتحقق من الداللة الخطابية لالستشراق في عموم الخطاب المعاصر.
92االستشراق – ص03
93حضارة العرب -ص10
76
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مجرد حقيقة التركيب "تغريب العقل التاريخي العربي" أي تقريره مقوال، ّ وتأكيدا لما سبق ،فإن
وما جاء في"رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" حاسم وكاف في التأطير ،ذلك أن فعل وحقل ما
94
يراد به من االستشراق لم يبدأ ولم يخلق إال رد فعل للغلب واألثر التاريخي والحضاري الذي كان
وتضافر هذين التقطيعين يزيده إمعانا ً وترسيخا ً ما بيناه وسطرنا
ُ فتح القسطنطينية 95معلما َ له.
عليه قبل بشأن مكونات األنا التاريخي الغربي ،96وما سوف ندلي به هنا في هذا الخصوص مما
هو متصل ومفسّر ومفسّر به فلسفتا نيتشه وهسّرل؛ األول مكثف [الحقيقة الوجودية -األنا
الغربي] ،والثاني [األنا الغربي -المنطق الكلي] والوصل واضح ليس فحسب بين الفلسفتين أو
المقولين الفلسفيين ،ولكن كذلك في التجميع الذي ينهض عليه برهان دعوى الكتاب.
وإذا كان التصريف اللغوي لألحوذية أو األحوزية هو للواحد كما قاله الخليل في "العين" فيقال
رجل أحوذي وأحوزي ،أي نسيج وحده ،فإنه إذا حق تصنيف النفوس بحسب معيار الموافقة
والمشاكلة ،فإنه من الحق اعتبار محمود شاكر بقوة شكيمة سابقا ً على اإلطالق ورشدي راشد
ضمن هذه النفس األحوذية البذيم.
94انظر :مقال 'كتاب (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)' الكاتب :عبد القادر العثمان -مجلة "نور الشام"
95هو يوم مشهود على مستوى التاريخ ،الثلثاء 02جمادى األولى عام 817ﻫ الموافق ل 03ماي 3411م ،على
يد محمد الفاتح ،يراه البعض تحققا لبشارة نبينا عليه الصالة والسالم":لتفتحن القسطنطينية ،فلنعم األمير أميرها !
ولنعم الجيش ذلك الجيش !" (رواه أحمد في مسنده ،مختلف في صحته!!)
96انظر :الجابري دون عتبة القرآن الكريم والمرجفون في الفلسفة -3 :اآلريوسية ونقد العقل األوروبي :مكونات
األنا التاريخي األوروبي -ص302؛ -0اآلريوسية تجلي للعقل واإليمان مشكاة واحدة -ص301
77
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
السّلوك النفسي ،الذي يحمل المتلقي ويضعه موضع المعاين لمعاناة الحدث ،وكأنه يدخل الحقل
المشحون للقضية ،كأنه هو صاحبها وأول من يعيشها!
78
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
79
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الرابع
ٌ
مذاق وطع ٌم وشذا ورائحة ،وصار شعر عندي
ٍ التذوق المتتابع الذي ألفته ،صار لك ِّل
ّ " ...وبهذا
مذاق الشعر الجاﻫلي وطعمه وشذاه ورائحته بيِّنا عندي ،بل صار تميّز بعض من بعض داال
يدلني على أصحابه.
بمثل ﻫذا الحديث كنت أفاوض الشيوخ ممن عرفتهم ولقيتهم ،وكان ﻫذا الحديث وﻫجّيراي (أي
أعرض ،وير ِبّت على خيالء شبابي من
َ دأبي وعادتي من فرط النشوة) ،فكان يُعرض عني من
ساحر االبتسامة ،رفيقُ
ُ ربت بي ٍد لطيفة حانية .كان من ﻫؤالء شي ٌخ ساك ُن الهي َبة ،رقيقُ الحاشية،
خفيض الصوت ،ذكي العينين ،ﻫو أستاذنا أحمد تيمور باشا رحمه ُ حلو المنطق،
اليد واللسانُ ،
ي استماع من طب لمن حب ،كما يقال في المثل. هللا ،فاستمع إلى نشوتي بالشعر الجاﻫل ّ
حدثته مرارا ،ثم جاء يوم فالتقينا ،على عادتنا يومئ ٍذ (سنة ،)١۹٨٤في المكتبة السلفية عند
يجلس حتى م ّد يده إلي بعد ٍد من مجلة إنجليزية( ،عدد يوليه
ُ أستاذنا محبّ الدين الخطيب ،فلم يكد
١۹٨٤من مجلة الجمعية الملكية اآلسيوية) ،وقال لي وﻫو يبتسم :اقرأ ﻫذه ! فإذا فيها مقالة
ي المستشرق مرجليوت ،تستغرق نحو اثنتين وثالثين صفحة من ﻫذه المجلة ،بعنوان: لألعجم ّ
ي ،منذ قرأت ّ والعقل ي
ّ البدن التكوين التكوين، األعجمي بهذا خبيرا كنت ». ي
ّ العرب الشعر «نشأة
كتابه عن محمد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم .أخذت المجلة وانصرفتُ ،وقرأت المقالة ،وزاد
األعجمي سقوطأ على سقوطه.
يكان كل ما أراد أن يقوله :إنه يشك في صحة الشعر الجاﻫلي ،ال ،بل إن ﻫذا الشعر الجاﻫل ّ
إسالمي وضعه الرواة المسلمون في اإلسالم ،ونسبوه إلى
ٌّ شعر
ٌ الذي نعرفه ،إنما ﻫو في الحقيقة
أﻫل الجاﻫلية ،وسُخفا في خالل ذلك كثيرا .وألني عرفت حقيقة االستشراق ،لم ألق باال إلى ﻫذا
ي.الذي قرأتُ ،وعندي الذي عندي من ﻫذا الفرق الواضح بين الشعر الجاﻫلي والشعر اإلسالم ّ
80
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ثم بعد أيام لقيت أحمد تيمور باشا ،وأعدت إليه المجلة ،فسألني :ماذا رأيتَ ؟ قلتُ :رأيتُ
أعجميًّا باردا شديد البرودة ،ال يستحي كعادته ! فابتسم وتألألت عيناه ،فقلت له :أنا بال شك أعرف
من اإلنجليزية فوق ما يعرفه ﻫذا األعجم من العربية أضعافا مضاعفة ،بل فوق ما يمكن أن
يعرفه منها إلى أن يبلغ أرذل العُ ُمر ،وأستطيع أن أتلعب بنشأة الشعر اإلنجليزي منذ شوسر إلى
يومنا ﻫذا تلعبا ﻫو أفضل في العقل من كلّ ما يدخل في طاقته أن يكتبه عن الشعر العربي ،ولكن
يسول لي أن أخط حرفا واحدا عن نشأة الشعر ليس عندي من وقاحة التهجم وضفاقة الوجه ،ما ّ َ
اإلنجليزي .ولكن صروف الدﻫر التي ترفع قوما وتخفض آخرين ،قد أنزلت بنا وبلغتنا وبأدبنا،
ما يبيح لمثل ﻫذا المسكين وأشباﻫه من المستشرقين أن يتكلموا فس شعرنا وأدبنا وتاريخنا وديننا،
وأن يجدوا فينا من يستمع إليهم ،وأن يجدوا أيضا من يختارﻫم أعضاء في بعض مجامع اللغة
العربية!! وأغضى أحمد تيمور وﻫو يبتسم.
...
عرفت بكتاب «في كان ما كان ،ودخلنا الجامعة ،وبدأ الدكتور طه يلقي محاضراته التي ُ
ي» .ومحاضرة بعد محاضرة ،ومع كل واحدة يرت ّد إلي رج ٌع من ﻫذا الكالم الشعر الجاﻫل ّ
غاص في ي ّم النسيان ! وثارت نفسي ،وعندي الذي عندي من خبيئة ﻫذا الذي يقوله َ ي ِ الذي
األعجم ّ
ي ،كما وصفته ّ
الدكتور طه ،وعندي الذي عندي من ﻫذا اإلحساس المتوﻫِج بمذاق الشعر الجاﻫل ّ
ي والعباسي .وأخذني ما أخذني بالتذوق ،وبالمقارنة بينه وبين الشعر األمو ّ
ّ آنفا ،والذي استخرجته
من الغيظ ،وما ﻫو أكبر وأشنع من الغيظ ،ولكني َبقيتُ زمنا ال أستطيع أن أتكلم.
يفور بي ،واألدب الذي أدبنا به آباؤنا وأساتذتنا يمسكني ،فكان ُ تتابعت المحاضرات ،والغيظ
علي المذاﻫب ،ولكن لم تخل أيامي يومئذ ّ أحدنا يهاب أن يكلم األستاذ والهيبة َم ْع َجزة ،وضاقت
في الجامعة من إثارة بعض ما أجد في نفسي ،في خفوت وتردّد .وعرفت فيمن عرفت من
زمالئنا شابًّا قليل الكالمن ﻫادئ الطباع ،جم التواضع ،وعلى أنه من أترابنا ،فقد جاء من الثانوية
سن االستماع ،جيّد الفهم ،ولكنه كان ت كثيرةٍ ،وكان واسع االطالع ،كثير القراءةَ ،ح َ عارفا بلغا ٍ
طالبا في قسم الفلسفة ،ال في قسم اللغة العربية .كان يحضر معنا محاضرات الدكتور ،وكانَ
صغوه وميلهُ وﻫواهُ م َع الدكتور طه ،ذلك ﻫو األستاذ الجليل محمود محمد الخضيري .نشأت بيني ُ
ولكن حِ دّتي وتو ّﻫجي
ّ وفهم،
ٍ ق
بلين ورف ٍ
وبينه مودّة ،فصرت أحدثه بما عندي ،فكان يدافع ٍ
وقسوتي كانت تجعله أحيانا يستمع ويصمتُ فال يتكلم .كنا نقرأ معا ،وفي خالل ذلك كنت أقرأ له
81
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
من دواوين شعراء الجاﻫلية ،وأكشف له عما أجد فيها ،وعن الفروق التي تميّز ﻫذا الشعر
ي .وجا َء يوم ففاجأني الخضيري بأنه يحب أن يصارحني ي والعباس ّ
الجاﻫلي من الشعر األمو ّ
صال ،قال لي:
بشيء .وعلى عادته من الهدوء واألناة في الحديث ،ومن توضيح رأيه مقسما مف ّ
إنه أصبح يوافقني على أربعة أشياء:
األول :أن اتكاء الدكتور على «ديكارت» في محاضراته ،اتكاء فيه كثير من المغالطة ،بل فيه
ّ
إرادة التهويل بذكر ديكارت الفيلسوف ،وبما كتبه في كتابه «مقال عن المنهج» ،وأن تطبيق
97
الدكتور لهذا النهج في محاضراته ،ليس من نهج ديكارت في شيء.
مجردا
ّ الثاني :أن كل ما قاله الدكتور في محاضراته ،كما كنت أقول له يومئذ ،ليس إال سطوا
على مقالة مرجليوت ،بعد حذف الحجج السخيفة ،واألمثلة الدالة على الجهل بالعربية ،التي كانت
ي ،وأن ما يقوله الدكتور ال يزيد أن يكون «حاشية» وتعليقا على ﻫذه
تتخلل كالم ذاك األعجم ّ
98
المقالة.
الثالث :أنه ،على حداثة عهده بالشعر وقلة معرفته به ،قد كاد يتبيّن أن رأيي في الفروق
الظاﻫرة بين شعر الجاﻫلية وشعر اإلسالم ،أصبح واضحا له بعض الوضوح وأنه يكاد يُحِ س بما
أحس به وأنا أقرأ له الشعر وأفاوضه فيه.
الرابع :أنه أصبح مقتنعا معي أن الحديث عن صحة الشعر الجاﻫلي ،قبل قراءة نصوصه
لغو باطلٌ ،وأن دراسته كما تدرس نقوش األمم البائدة واللغات الميتة،
متذوقة مستوعبةٌ ،
ّ قراءة
محض.
ٌ ٌ
عبث ﻫو إنما
...
وفي اليوم التالي جاءت اللحظة الفاصلة في حياتي .فبعد المحاضرة ،طلبت من الدكتور طه أن
يأذن لي في الحديث ،فأذن لي مبتهجا أو ﻫكذا ظننتُ .وبدأت حديثي عن ﻫذا األسلوب الذي سماه
«منهجا» ،وعن تطبيقه لهذا «المنهج» في محاضراته ،وعن ﻫذا «الشك» الذي اصطنعه ،ما
97كان من أثر هذه األحاديث بيننا ،أن بدأ الخضيري ،من يومئذ في ترجمة كتاب ديكارت «مقال عن المنهج»،
ونشره بعد ذلك سنة ( ١۹٣٤المطبعة السلفية) – المصدر-
98كان من أثرها أيضاً :أن لخص الخضيري مقالة مرجليوت ،ونشرها في مجلة «الزهراء» التي يصدرها صاحب
المطبعة السلفية ،في عدد ذي الحجّة سنة ( ١٣٤٠ابريل – )١۹٨١المصدر-
82
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يخالف لما
ٌ غامض ،وأنه
ٌ ﻫو؟ وبدأت أدلل على أن الذي يقوله عن «المنهج» وعن «الشك»
ت في يقوله ديكارت ،وأن تطبيق منهجه ﻫذا قائم على التسليم تسليما لم يداخله الشك ،بروايا ٍ
الكتب ﻫي من ذاتها محفوفة بالشك! 99وفوجئ طلبة قسم اللغة العربية ،وفوجئ الخضيري
صة .ول ّما كدت أفرغ من كالمي ،انتهرني طه وأسكتني ،وقام وقمنا لنخرج .وانصرف عني خا ّ
ضابا ،ما واجهتُ به الدكتور طه ،ولم يبق معي إال محمود محمد كل زمالئي الذين استنكروا ِغ َ
الخضيري( ،من قسم الفلسفة كما قلت) .وبعد قليل أرسل الدكتور طه يناديني ،فدخلت عليه،
وجعل يعاتبني ،يقسُو حينا ويرف ُق أحيانا ،وأنا صامت ال أستطيع أن أردّ .لم استطع أن أكاشفه بأن
محاضراته التي نسمعها كلها مسلوخة من مقالة مرجليوت ،ألنها مكاشفة جارحة من صغير إلى
كبير ،ولكني كنتُ على يقين من أنه يعلم أني أعلم ...
...
أكف عن إذاعة ﻫذه الحقيقة التي أكتمها في حديثي مع الدكتور طه، ولكني من يومئذ أيضا لم ّ
ي ،فكان ،بال شك ،يبلغه ما أذيعه بينوﻫي أنه سطا سطوا كريها على مقالة المستشرق األعجم ّ
ي ،وعن زمالئي .وكثر كالمي عن الدكتور طه نفسه ،وعن القدر الذي يعرفه من الشعر الجاﻫل ّ
بعض األساتذة،
ُ أسلوبه الدا ّل على ما أقول .واشت ّد األمر ،حتى تد ّخل في ذلك ،وفي مناقشتي،
كاألستاذ نلّينو ،واألستاذ ُجويدي من المستشرقين ،وكنت أصارحهما بالسّطو ،وكانا يعرفان،
ولكنهما يداوران .وطال الصراع غير المتكافئ بيني وبين طه زمانا ،إلى أن جاء اليوم الذي
عزمت فيه على أن أفارق مصر كلها ،ال الجامعة وحدﻫا ،غير مبا ٍل بإتمام دراستي الجامعية،
طالبا للعزلة ،حتى أستبين لنفسي وجه الحق في «قضية الشعر الجاﻫلي» ،بعد أن صارت عندي
101 100
قضية متش ّعبة كل التشعب" .
ﻫذه الحدة في الحق وﻫذه األحوذية النفسية التي تسمو بصاحبها حتى أنه ال يأبه بما يكون من
تبعات قول الحقيقة على ﻫدي نور الحق المبين" :ال يمنعن أح َدكم مخافة (ﻫيبة) الناس أن يقول
99انظر ما كتبته سنة ١۹٠٤في كتابي «أباطيل وأسمار» ،عن «المنهج» ،وعن الصراع بيني وبين الدكتور طه،
ص -٨٤ – ٨٣ :المصدر-
100انظر كتابي «مداخل إعجاز القرآن» ،وكتابي «قضية الشعر الجاهلي ،في كتاب ابن سالم الجمحي» ،ففيهما
بيان عن هذا التشعب -المصدر-
101كتاب المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا :أبو فهر محمود محمد شاكر -شركة القدس للنشر والتوزيع-
ص 37..33
83
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ﻫي التي كانت بحق (بالحق) إذا علمه (أو شهده أو سمعه)"102؛ أقول ﻫذه الخا ّ
صة والخلة ﻫي َ
قوة وجودية 103تجلت في "أباطيل وأسمار":
"ويومئذ أيقنتُ أن األمر لم يأت اتفاقا وال مصادفة ،فالرائحة التي كنت أشمها من ﻫدوم
ﻫي الرائحة التي وجدتها في «بلوتولند،
القسيس زويمر ،ومن أسمال التالف سالمة موسى ،ﻫي َ
وقصائد أخرى» ثم في «على ﻫامش الغفران» ،وإنما ألهاني عنها حبّ الضحك ،وحاجتي إلى
تسرية اله ّم عن قلبي في سنوات من عمري .وأعدتُ النظر ،فانكشف لي َم ْن وراء ﻫذا الهذيان
تدبير خيوطه في يد الجاسوس «كرستوفر سكيف» ،وفي يد أشبا ٍه له يقيمون اليوم ٌ واالختالط،
في بعض المعاﻫد واألديرة ،وفي أي ٍد بعيدة ممتدة من وراء «الثلوج الغزيرة المنشورة على حديقة
مدسمر ،حيث الخلوة المشهودة بين أشجار الدردار عند الشالل بكامبردج» .فعندئذ عاد األمر جدًّا
ال ﻫزل فيه ،وعزمت على أن أميط اللثام عن ﻫذه الدمية التي تتخفى في طيلسان أستاذ جامعي
كانن وتتقبى قباء «مستشار ثقافي في مؤسّسة األﻫرام»( ،القباء :كساء كالعباءة من نفيس الثياب.
جردتها ،ولم يبق سوى الدمية ظاﻫرة عالنية،وتقباه :دخل فيه ولبسه) ،فإذا ما فعلت ذلك فقد ّ
وسوى الخيوط الممتدة التي كانت تحركها.
أما الدمية ،وﻫي «أجاكس عوض» ،فليس لها في ذاتها قيمة تذكر ،وما دمية يحركها محرك؟
والدمى كاسمها دمى ثم ال تزيد ! والشأن كل الشأن لمن في يده خيوطها التي تحركها .ول ْم تعنني
األسماء ،أسماء المديرين ،وإنما عناني الذي يبقى حين تزول الشخوص ،وذلك هو «هيئات
التبشير» و«دوائر االستعمار» .من أجل ذلك كان أكبر همي أن أكشف عن هذه الجراثيم الخبيثة
104
وأفض عنها غشا ًء تتبرج فيه حتى تستمكن من فرائسها".
ّ غطاء سراديبها التي فيها نشأت،
وهذا الحدس بل وهذا اليقين وبذات اللهجة ،التي كتب وقدر لشاكر أن ينشأ عليها ويموت عليها
وكأنما خلق لها ،ونواصي العباد بيد هللا تعالى وربك عليم حكيم ،من هذا الوهج ذاته امتدادا ً له ال
ائتنافا ً جاءت "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا":
84
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
أمر كان في غاية الوضوح عندي .وهو قصة طويلة قد "في خالل هذه األعوام ،تبيّن لي ٌ
تعرضت ألطراف منها في بعض ما كتبت ،ولكني أذكرها هنا على وجه االختصار .صار بيِّنا ً ّ
منقسم انقساما ً سافراً :عال ُم ّ
القوة والغنى ،وعال ُم الضعفِ والفقر ،أو عالم ٍ عندي أننا نعيش في عالم
الغزاة الناهبين ،وعالم المستضعفين المنهوبين.
تحوال
كان عالم الغزاة الممثل في الحضارة األوربية ،يريد أن يحدث في عالم المستضعفين ّ
غزير يُمِ ُّد حضارتهم بجميع أسباب ّ
القوة والع ّلو والغنى ٌ اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا ،فهو صي ٌد
محض ،ال غاية له إال إخضاع هذاٌ يالتحول عم ٌل سياس ٌّ
ُّ والسلطان والغلبة .والطريق إلى هذا
العالم «المتخلف» إخضاعا تا ًّما لحاجات العالم «المتحضر» التي ال تنفد ،ولسيطرته السّياسية
الكاملة أيضا .ومع أن ﻫذا العمل السّياسي المحض المتشعّب ،قد بدأ تنفيذه منذ زمن في أجزاء
متفرقة من عالمنا ،إال أنه بدأ عندنا في مصر ،قلب العالم اإلسالمي والعربي ،مع الطالئع األولى
لعهد محمد علي ،بسيطرة القناصل األوربية عليه وعلى دولته ،وعلى بناء هذه الدولة كلها
بالمشورة والتوجيه .ثم ارتفع إلى ذروته في عهد حفيده إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي
الخديوي ،حتى جاء االحتالل اإلنجليزي في سنة ،١١١٨وبمجيئه سيطر اإلنجليز سيطرة
صة ،إلى أن جاء «دنلوب» في ( ١٨مارس ،)١١۹٨ مباشرة على كل شيء ،وعلى التعليم خا ّ
ليضع لألمة نظام التعليم المد ّمِر الذي ال نزال نسير عليه ،مع األسف ،إلى يومنا ﻫذا .فأي جهل
105
ﻫذا!"
وما قرأت شعرا ً أصدق مما جاء في قصيدة الدكتور محمود علي مكي بمناسبة الذكرى الثالثة
لوفاة محمود شاكر -رحمه هللا!:-
بها لك ٌّ
عز خالد أبد الدهر هجرت لها عز المناصب فاغتدى
وكيف تكون الكبرياء بال كبْر أبنت لنا معنى الكرامة شامخا ً
تداعت لها األقطار مصرا ً إلى مصر وأطلقت في دنيا العروبة صيحة
85
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
بعزمة م ّ
شاء على الشوك والجمر تحديت سلطان الطغاة وقهرهم
إذا ُوطنت حرية القول والفكر أحب إلي السجن مما عرضتم
نشرت بها الشماخ من ظلمة القبر وفي قوسك العذراء أبلغ آية
ضح الفجر
كما انجلت الظلماء عن َو َ ص َدعْتَ بسيف الحق باطل إفكهم
106
فرس الليث أو ﻫجمة الصقر"
نرى فيكَ ْ مر السنين ُمحاربا
ظللت على ّ
وأنت يا من تقرأ هذا وتبتغي به عز وجودك ،اجعل شاكرا ً قدوة وفي آننا يحيى السنوار !
تراثنا خير ما ألمة من تراث وإرادتنا تخرق المستقبل ولو بحفر األنفاق ،ال تقف تك تابعا ً
لوعود السّياسة واألوهام ،نحن بصواريخ اإلرادة من يحدد فيم تكون األوفاق .وال تقل لمن يقتل
في سبيل هللا أموات ! ذلك من ركبه الذل من حب حياة الدنيا وترك الجهاد ،أال ترى أمتك مستباحة
وهل حياة ذل حياة وما يغني التغني بالتراث؟ ! أجل إنما يزدان التراث ويكون قيمة إذا ما كنا
106العربي -العدد ٤٤٣رجب ١٤٨١ﻫ أكتوبر ٨٤٤٤م -ص -۹٠محمود شاكر [بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة
لوفاته] شعر :الدكتور محمود علي مكي – شاعر وأستاذ جامعي -مصر-
86
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صناعية التي تحمي األمة وبصواريخ نموذجا ً قريبا ً نهج القسام ،آنها نعتز به
ربانيين بالهندسة ال ّ
كما سيعتز بنا التراث..
87
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
88
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الباب الثاني
الحقيقة الوجودية
89
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"إنما كان اهتمامنا في هذا العمل بالحقيقة الوجودية ،فجعلناها القاعدة البنائية واألساس ألمرين
تكرارا لما ال يُحصى من األعمال والكتابات في موضوع االستشراق. ً اثنين :أولهما أن ال يكون
وألجله تحديدا ً لم نحرص على ذكر وسرد كل ما هو من هذا الجانب النقدي التاريخي ،تأريخا ً
وأعال ًما وخلفيات تبشيرية واستعمارية وغير ذلك من المادة الموضوعاتية المعلوماتية والمعرفية؛
فذلك قد تم وأنجز حتى الغناء في هذه الكتابات العديدة والكثيرة"...
90
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل األول
91
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
سلما ً به في عموم البنيات التاريخية االجتماعية ي مفكر خبير بنظام الخطاب نظاما ً ُم َ ليس بُ ٌّد أل ّ
والسّياسية ،وقد يستنبط من خالل التعاصر تعميمه ،ليس بُ ٌّد وال سعة له إال أن يحافظ على هدوئه
سلموأال يستفزه في سكون مساره القراءاتي لكتاب "االستشراق" الجهل بهذا النظام أو تجاهله .ف ُم َ
األرضي .لكن هذا العلم أو الجهل كو ُن السّلطان أو السّلطة هو قوة الحقل االستخالفي والوجودي ْ
– وهما هنا متكافئان من حيث الوظيفة المنطقية -مقترن باعتبار رائز عال وجد دقيق ،نم ّيز به
أو نجعل به ح ًّدا فاصال بين ما هو تأثير عامل نظام الخطاب ،وما هو من عوامل وقوى مؤثرة
أمرا
المكون الذاتي والمنطق السيكولوجي ،ليس يلزم وال يكون حت ًما ً ّ خاص عامل
ّ أخرى ،وبنحو
ُم َرا ًدا ،ولكنه في البنية العميقة للذات .لنسمع إذا ً إلى إدوارد سعيد !:
صورة العا ّمة لإلسالم التي تشيع اليوم ،ال يقصد به «ولكن رصدي لهذه األشياء كلها عن ال ّ
اإليحاء بوجود إسالم "حقيقي" في مكان ما في دنيا الواقع قامت أجهزة اإلعالم بتشويهه مدفوعة
بدوافع دنيئة .ال أقصد هذا على اإلطالق .فاإلسالم يمثل للمسلمين ،مثلما يمثل لغير المسلمين،
حقيقة موضوعية وذاتية في الوقت نفسه ،فالنَّاس ينشئون هذه الحقيقة في عقيدتهم ،وفي
مجتمعاتهم ،وتاريخهم ،وتقاليدهم ،وأما غير المسلمين من األجانب فهم مضطرون إلى أن يثبتوا،
بمعنى من المعاني ،هوية ما يشعرون أنه يواجههم بصورة جماعية أو فردية ،وأن يجسدوه وأن
يطبعوا هذه الهوية بطابع ما – ومعنى هذا أن صورة اإلسالم عند أجهزة اإلعالم ،وعند الباحث
الغربي ،وعند الصحفي الغربي ،وعند المسلم ،ثمرة فعل إرادي وتفسير معين ،وهما من األفعال
التي ال تحدث إال في سياق تاريخي ،وال يمكن لنا إال أن ننظر إليها في هذا اإلطار التاريخي
باعتبارها من أفعال اإلرادة والتفسير .ولست شخصيًّا متديّ ًنا ،كما أنني ال أنتمي إلى خلفية
إسالمية ،ولكنني أعتقد أنني أستطيع أن أفهم من يعلن أنه مقتنع بعقيدة معينة .ولكنني في حدود
رؤيتي إلمكان مناقشة العقيدة على اإلطالق ،أرى أن ذلك يقع في حدود تفسيرات العقيدة التي
تتجلى في األفعال البشرية التي ال تقع بدورها إال في سياق التاريخ البشري والمجتمع البشري.
فإذا تصدينا مثال لمناقشة الثورة "اإلسالمية" التي أسقطت نظام حكم الشاه في إيران ،علينا أن
نمسك عن القطع فيما إذا كان الثوار يمثلون العقيدة اإلسالمية الحقيقية؛ لكننا نستطيع أن نعرض
92
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لمفهومهم عن اإلسالم ،وهو الذي جعلهم يواجهون مواجهة مربكة ( أو مواجهة "إسالمية" إن
صح التعبير) نظا ًما رأوا أنه معا ٍد لإلسالم ،وظالم ،ومستبد .وعندها نستطيع أن نقارن تفسيرهم
لإلسالم بما قالته مجلة تايم أو صحيفة لوموند عن اإلسالم وعن الثورة اإليرانية .وبتعبير آخر
فإن ما نعرض له هنا يعتبر ،بأوسع معنى من المعاني ،مجتمعات يعتمد كل منها تفسيرا ً معيناً،
يتناقض الكثير منها مع بعضه البعض ،وتبدي االستعداد في حاالت كثيرة لمحاربة بعضها
البعض ،وكل منها ينشئ نفسه ويفصح عن ذاته وعن تفسيره باعتباره من الركائز األساسية
لوجوده .ال يقيم أحد في حياته صلة مباشرة مع الحقيقة والواقع ،فكل منا يعيش في عالم صنعه
البشر في الواقع الفعلي ،ونحن نرى فيه أن ما يسمى "األمة" ،أو المسيحية أو اإلسالم من ثمار
تحوالت التاريخية ،وقبل كله من ثمار الجهد البشري المبذول لوضع األعراف المتفق عليها ،وال ّ
هوية نستطيع التعرف عليها لكل من هذه األسماء .وليس معنى هذا أن الحقيقة والواقع ال يوجدان
فعال ،بل هما موجودان ،ونحن نعرف ذلك حين نشاهد األشجار والمنازل من حولنا ،أو عندما
نتكسر إحدى العظام في الجسم أو حين نشعر بالحزن العميق لوفاة شخص نحبه .ولكننا بصفة
نهون من مدى اعتماد إدراكنا للواقع ال على التفسيرات والمعاني عامة ننزع إلى أن نتناسى أو ّ
ً
التي يشكلها كل فرد لنفسه فحسب ،بل أيضا على التفسيرات والمعاني التي نتلقاها من خارج
ذواتنا .فهذه التفسيرات والمعاني المتلقاة تعتبر جز ًءا ال يتجزأ من الحياة في مجتمع ما.
"أولى القواعد الالزمة لتفهم حال اإلنسان هو أن ال َّناس يعيشون في عوالم سبق لغيرهم
صة دائما ً'استعمالها' ،ولذلك فهم يدركون مدركات أكثر كثيرا ً مما خبروه شخصيا .وخبراتهم الخا ّ
ما تكون غير مباشرة .ونوعية حياتهم تحددها المعاني التي تلقوها من اآلخرين .وكل شخص
يعيش في عالم من هذه المعاني .وال يقف إنسان وحده في مواجهة مباشرة مع عالم من الحقيقة
الصلبة ،إذ ال وجود لمثل ذلك العالم .وأما أش ُّد اقتراب لإلنسان منه فيكون في مرحلة الطفولة
المبكرة أو عندما يصيبه الجنون ،فعندها ،في مشهد مرعب من األحداث التي ال معنى لها
واالختالط المبهم ،كثيرا ً ما يستولي عليه الذعر إزاء افتقاره شبه التام لألمان .وأما في حياته
اليومية فهو ال َيخ َبر عال ًما من الحقائق الصلبة ،بل إن خبراته نفسها تختارها له معان نمطية
صور التي تتكون لديه عن العالم وعن ذاته يقدمها إليه حشود من وتشكلها تفسيرات جاهزة .وال ّ
صور التي يقدمها الشهود الذين لم يسبق له أن قابلهم ولن يكتب له أن يقابلهم .ومع ذلك فإن هذه ال ّ
األغراب والموتى تشكل أساس كل فرد باعتباره إنسانا.
93
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إن وعي اإلنسان ال يحدد وجوده المادي ،كما أن وجوده المادي ال يحدده وعيه ،إذ تقف بين
الوعي والوجود معان وأشكال ورسائل خلفها أناس آخرون ،تتجلى أول األمر في لغة البشر
نفسها ،ثم تتضح في وقت ال حق في الرموز المستعملة .وهذه التفسيرات المتلقاة والمتالعب بها
تأثيرا حاس ًما في وعي الفرد بوجوده .فهي تقدم له مفاتيح فهم ما يرى ،وكيف يستجيب له،
ً تؤثر
ومشاعره إزاءه ،وكيف يستجيب لهذه المشاعر .فالرموز تقوم بتركيز الخبرات ،والمعاني تتولى
القوة التي توجه
تنظيم المعارف ،فتوجه مسيرة المدركات السطحية في لحظة من اللحظات بنفس ّ
بها مسيرة طموحات عمر بأكمله.
الشك أن كل إنسان يالحظ الطبيعة ،واألحداث االجتماعية ،وذاته نفسها ،ولكنه ال يالحظ ،ولم
يسبق له أن الحظ مطلقا ً ،معظم ما يفترض أنه حقيقي ،بشأن الطبيعة أو المجتمع أو الذات .وكل
إنسان يفسّر ما يالحظه ،إلى جانب الكثير مما لم يالحظه ،ولكن المفاهيم التي يطبقها في التفسير
ال تنتمي إليه ،فلم يقم بصياغتها بنفسه بل وال باختبارها .وكل إنسان يتحدث عن المالحظات
والتفسيرات لآلخرين ،ولكن اللغة التي يستخدمها في هذا الحديث ليست ،على األرجح ،إال
صور التي وضعها اآلخرون فأخذها عنهم واعتبرها عباراته وصوره .وكل إنسان العبارات وال ّ
صحيحة، يعتمد اعتمادا متزايدا في معظم ما يسميه الحقائق الصلبة ،والتفسيرات السليمة أو ال ّ
وأشكال 'التمثيل' المناسبة ،و'محطات المالحظة' ،ومراكز التفسير ،و'مستودعات التمثيل' التي
107
ينشئها في المجتمع المعاصر على ما سوف أطلق عليه تعبير الجهاز الثقافي»".
هذا الذي نجده في طيات كتاب "تغطية اإلسالم" قد سبق أن أثار انتباهي أثناء قراءتي لكتاب
الرجل صادق اللهجة في"االستشراق" ،لكن بقدر ما أدركت وحدست حدسا ً ليس يكذب أن هذا ّ
المنافحة عن الحق وعن اإلسالم بالذات ،وكما قال المجاهد األكبر داعية العروبة واإلسالم -
108
وبحق أمير الجهاد -شكيب أرسالن في مقال "العروبة جامعة كلية" بحق الشاعر رشيد سليم
الخوري« :وفي عصرنا هذا لم أعلم – مسيحيا أتقن اللغة العربية ونبغ فيها إال وهو ميال بكل
قوته إلى العروبة ،وعدو لمن ناوأها ،وأحيانا يميل إلى اإلسالم نفسه بميله إليها .ولعمري إذا
نظرنا في المسلمين األقحاح الذين دافعوا عن شريعة محمد ،وعن تاريخ محمد وخلفائه في
األرض ،لم نجد كثيرا ً منهم يضارع في هذا الباب الشاعر األستاذ سليم الخوري الذي خدم ْ
107إدوارد سعيد تغظية اإلسالم ترجمة وتقديم :د .محمد عناني مكتبة طريق العلم – ص631..636
الرجل العظيم من لقب "أمير البيان" اقتصارا ً حقا مشبوها ً فيه إجحاف!
108هذا اللقب نراه أوفى حقا وحقيقة لهذا ّ
94
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
اإلسالم ببراهينه الساطعة ،وحججه الدامغة أكثر مما خدمه مئات وألوف من المسلمين
109
أنفسهم».
فإدوارد سعيد لم يتقن العربية فحسب ،إنما نشأ بوعي وجودي في شرق إسالمي (فلسطين
صة بمسألة االستشراق ،وأتقن لغة الفكر ومصر) كما سطر عليه عامال في وعيه واهتمامه خا ّ
الغربي وخبر لغة العلوم اإلنسانية واالستشراقية بنحو خاص ،ووقف على حقيقتها الخفية
ومجازها ،ولم يقف عند سماع جراهية القوم ،بل أبطن باألنا والعقل الغربيين خبراً .قلت :لم أرد
أن أتوقف عندها ولم أعتبرها في حدود ما يمكن أن تعتبر وتؤخذ مؤاخذة على أي نحو ،لم
أعتبرها إال أسلوبًا خطابيا ً ال يبلغ أدنى ما يسلكه وتتخذه الخطابات المعاصرة االحترافية على
لر َّد
شتى ومختلف أغراضها من التورية وما إلى التورية من أساليب وأنحاء .وإني وإن لزمت ا ّ
ههنا عندما وجب وتحتم لتر ّدد القول المهمل سابقا ً بما تعلل واتضح ،فليس ذلك ب ُمغيّر حكم
التعليل بأسلوب الخطاب لرجل كأنه خلق للخطاب ،يدرك أكثر من غيره ما لهذا التواجد الخطابي
من المجازفة .إنه رجل رام وقد آنس من نفسه قدرة ،فانبرى كأنه أمة وحده -في هذا الظرف
صليبي التاريخي المسلط على الشرق وعلى التاريخي المرهب -يريد أن ينزع سيف ظلم الغرب ال ّ
صة ،السيف المسموم لالستشراق ،السّالح الفتاك الذي لم يعرف له مثيل أمته وعلى اإلسالم خا ّ
في تاريخ حروب األمم وال أعظم منه كيدا ً .فليسلك إذا ً في هذا السبيل ما يسلكه غيره فيما دونه
َّ
يغربن عنك أن هذا الكالم وهذا الدرع الذي بل هو يكاد يكون عليه كل نهجهم وسلوكهم ،وال
يتدرع به هو من ذات المنظار والنظمة الفلسفية التي ال شك هي مكون ودعامة فكرية تكوينية
وفلسفية عنده ،نظمة وفلسفة ميشال فوكو ،والتي تجعل الخطاب واللغة على وثيق االرتباط
الرغبة والسّلطة .فالسّلطة هي السّيد الذي له األمر في حقل الخطاب ،الحقل الغربي هنا ،حقل ب ّ
المستشرق ومؤسّسات االستشراق منذ الغارة والغزو على جبهته إلى هذا اليوم ،على طول من
التاريخ ينيف على الثالثة قرون.
تحرك بالعلم وعلى بيّنة ووعي بوسط الحركة وحقل الخطاب وحدودهإذن هو خطاب و ّ
الرجل
ونظامه واحترافيته .لكن إذا نحن اعتبرنا هذا الشرط مسوغين أو لربما متعاطفين مع هذا ّ
العظيم إدوارد سعيد ،والكون على ضوء قانون االنحفاظ قائم في السّلوك اإلرادي على مبدإ العمل
109شكيب أرسالن داعية العروبة واإلسالم -تأليف أحمد الشرباصي -أعالم العرب -03وزارة الثقافة واإلرشاد
العا ّمة التأليف والترجمة والطباعة والنشر القومي -المؤسّسة المصرية -ص371-370
95
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ي ال ِذينَ
عمِلوا َويَج ِْز َ
سا ُءوا ب َما َ
ي الذِينَ أ َ
األرض ِليَجْ ِز َ
اوات َو َما فِي ْ والجزاءَ ﴿ :وهللِ َما فِي ال َّ
س َم َ
سنوا بال ُحسْنى'﴾ (النجم )12فهو وأيم هللا أهل لما له ألو العزم من الرجال الذين ال يتهيَّبون أن
أ ْح َ
كف عن ظلمك ! وليكن هذا الظالم األبلُّ
يقولوا بحق إذا علموه ،وال يجبنون أن يقولوا للظالم َّ
رب الذي أقسمت روحه على أن يسلب الشرق جوهره ويصنعه ويقدمه كما يشاءُ ،مكذبا َ الغ َ
الحقيقة الوجودية وكاذبا ً قومه في أكبر عملية خداع تاريخية ،وهو في ذلك يزعم اإلنسانية
والمدنية!
أليس عظيما ً أن ينبري للجهر بهذا البغي الوحشي التاريخي على اإلسالم رجل كل ظاهره أنه
غير مسلم ..رجل عربي فحسب ،وأبطال الجيوش في المالحم وفي أعظم الحروب والمعارك هم
أول من يشخص للمبارزة؟!
بهذا الشرط أمكن إذا اعتبار ﻫذا التعارض الجلي المبين بين القولين والعبارتين:
" -ال يقصد به اإليحاء بوجود إسالم 'حقيقي' في مكان ما في دنيا الواقع قامت أجهزة اإلعالم
بتشويهه مدفوعة بدوافع دنيئة".
" -وليس معنى هذا أن الحقيقة والواقع ال يوجدان فعال ،بل هما موجودان".
وعقب هذا التحييد المتبادل بين التعارض تبقى مقولة التقرير ،المقولة التي صدع بها البطل
صاحب كتاب "االستشراق".
ي االستيعاب على لنتص ّد على إثره إلى هذا البناء الفلسفي ومقوله المحدد تحديدا ً وإن كان عص َّ
صا .التص ّدي هنا ونحن بصدد قضية مفهوم ص ًكثير ممن يعنون بالفكر والفكر الفلسفي تخ ّ
صر أو يقتضب ،ولكن باستيفاء االستشراق والتراث ،ال يجيز أي وجه من وجوه االبتسار ،قد يخت ّ
سامي واألعلى ،الذي غيره وماتصور للقيمة الحقائقية في التقويم الفلسفي ال ّ
التبلور وحصول ال ّ
بعده بالطبع سوى الغواية الوجودية وضالل التفلسف.
" -ال يقيم أحد في حياته صلة مباشرة مع الحقيقة والواقع ،فكل منا يعيش في عالم صنعه البشر
في الواقع الفعلي".
96
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
" -ونوعية حياتهم تحددها المعاني التي تلقوها من اآلخرين .وكل شخص يعيش في عالم من هذه
المعاني .وال يقف إنسان وحده في مواجهة مباشرة مع عالم من الحقيقة الصلبة ،إذ ال وجود لمثل
ذلك العالم".
وكذلك ليست اللغة هي التواجد وال الكلمات هي الوعي .اللغة هي الوجود ،هي أبعاد وفضاء
التواجد إرادة (رغبة) في صيغة وجود ،التي الحق والحقيقة هي التي ينبغي أن تكون النشدان
والمبتغى .والكلمات هي مادة الوعي ليس إال ،فهي ال تخلق الوعي وال اللغة تملك فضاء الفعل
تقوال للغة ومقولها كما جاء بذات القول عند فوكو ، 110ومفهوم أو بأصح
التواجدي .فليس اإلنسان ُّ
اللفظ حقيقة المدارات العقولية التي يستشعر فيها مطابقة أو انطباق مواقعي روحي أشبه وأقرب
97
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تصو ًرا وتمثال هو معنى التناسخ التواجدي والحلولي اآلني ال الشخصي ،كأنما هو
ّ ما يكون إليه
وصل بين شخصين تاريخيين في روح واحدة .
111
اللغة فضاء وجودي خام ومحايد ،كفضاء الزمكان ،العمل والحدث يمأل ويمثل الزمكان،
صورة المعبرة عن واقع الفعل واإلرادة .ولهذا بالذات يكون والفعل باإلرادة تصنع التعبير وال ّ
التحكم في إرادة الفعل ومنحاه من خالل المؤسّسات الخطابية استعبادا ً ،ال ألنه تحك ٌم في اللغة،
فاللغة فضا ٌء للخلق ومادة للصناعة ،والبعد البالغي من المجاز واالستعارة هو بعد هذا الخلق
الحرية غير المنعدمة .وهذا هو اآلن البرهاني لخطإ ّ صناعة أو أبعادها وفضاؤها ذو درجة وال ّ
فرضية ورف سابير التي كنا إلى حد ما من القائلين بها ،الفرضية التي فحواها بحسب ما استبان
من الخلفية ومن حقيقة التوجيه المؤسّساتي إلى درجة العقيدة والتواجد ألجل هذه العقيدة والوظيفة
المؤسّساتية لوجود األنا مقابل إعدام اآلخر ،فحواها تمايز اللغات واأللسن من حيث القيمة بل
المدى الفلسفي والتفكري .واستدراكنا التعبيري في اتباع القول بها ،نوضحه بأننا ال زلنا نحكم
بخطإ المنظار وعوجه ليس عن تمايز وتفاضل ألسني ولغوي ،بل عن عدم إصابة العقل النحوي
لصحيح القاعدة النحوية ،والفرق ظاهر بين األمرين.
في افتتاحها لسلسلة محاضرات "كوليج دو فرانس" التي نظمتها األكاديمية المغربية بالتعاون
مع المعهد الفرنسي بالرباط أواخر شهر يونيو 0238ألقت األستاذة آن شينغ العضو بالكوليج
محاضرتها تحت عنوان " :بين االستشراق والحداثة :هل الصين مرآة ألوروبا أم مرآة لها؟"
واستهلت عرضها لما عبرت عنه ب"الحالة القصوى لالستشراق الذاتي" بما يلي:
« في اللغة وفي الكتابة الصينيين بالشرق األقصى حالة قصوى من االستشراق الذاتي
إذا ما عدنا إلى هيجل ،مع منحه بعض المصداقية مع ذلك ،ال بد وأنه بذل بعض المجهودات
صصين ،الذين يمكن اعتبارهم بمثابة من أجل استقاء معلومات حول الفكر الصيني لدى المتخ ّ
مؤسّسي الصينولوجيا األروبية من أمثال جان بيير ريموسا ،وهو أول من شغل سنة 3834
112
صص للدراسات الصينية ،وقد تم إحداثه في كوليج دي فرانس. الكرسي األول في أوروبا المخ ّ
القوة االستكشافية لمحمود شاكر ورشدي راشد" من الفصل الثالث للباب السادس "الماسونية 111انظر "أصل ّ
قبل بمصر قبل األفغاني بمائة عام' من كتابنا :جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي أو المسلمون والتاريخ
112
Jean Pierre Abel- Rémusat
98
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ومع ذلك ،فإن هيجل ال يتمالك نفسه عن إضافة «أن ذلك األمر يبقى ،مع ذلك ،غامضاً .فاللغة
الصينية بسبب بنيتها النحوية تؤدي إلى خلق عدة صعوبات [ .]...وقد بيَّن السّيد دي
هومبولت 113في المدة األخيرة ،في رسالة موجّهة إلى أبيل ريموسا ،كم هو البناء النحوي غير
محدد [ ،]...ذلك أن اللغة الصينية قليلة الدقة بشكل كبير ،بحيث إنها ال تتوفر ال على حرف
الجر ،وال على تعيين للحالة (الحال) .فالكلمات توضع باألحرى جنبا إلى جنب ،والتحديدات
تبقى ،على هذا النحو ،في الالتحديد.114
تتم اإلحالة هنا على "الرسالة حول المحارف الصينية" ألبيل ريموسا الذي كانت له في هذا
الموضوع مناقشة عبر الرسائل مع زميله األلماني فيلهم فون همبولت ،115وهو الذي قدم
ألكاديمية العلوم ،في يناير ،3800دراسة "حول والدة األشكال النحوية وتأثيرها على تطور
األفكار" .وقد تواصل تبادل المراسالت ،فيما بعد ،بصفة خصوصية بين العالمين إلى غاية سنة
116.3813وكان رهان هذا النقاش الفلسفي النحوي هو تحديد هل اللغة الصينية ،بحكم بنيتها
ذاتها ،أهل للتمارين الفلسفية ،وعن السّؤال :هل من الممكن التفلسف باللغة الصينية؟ ما كان
الجواب إال أن يكون سلبيا ،وبإيجاز :من دون إعراب ال وجود للتفكير.
ليس التعارض ذا طابع فلسفي فقط ،وإنما هو بشكل أعمق تعارض ذو طابع لساني محض بين
اللغات غير اإلعرابية مثل الصينية؛ وهي اللغات التي تم التصريح ،نتيجة لذلك ،بأنها غير أهل
للفلسفة واللغات اإلعرابية ،وهي اللغات األوروبية المشتقة بشكل رئيسي من اليونانية والالتينية،
تصور القرن 33أنه اكتشف أصال مشتركا لها مع اللغة السنسكريتية في الهند .وقد ظهر ّ والتي
ألول مرة في أعمال فرانز بوب ( )3807-3733الصادرة سنة 3830؛ تعبير"هندو -أوربي"
117
أو "هندو -جرماني" للداللة على مجموع اللغات القديمة األوروبية والهندية .وبفعل هذه القرابة،
التي تم اكتشافها ،بين السنسكريتية واليونانية غدت الصين مفصولة عن الهند ،التي كانت
113
De Humbolt
دروس حول تاريخ الفلسفة ،المجلد الثاني ،ص78..71 114
115
)Wilhelm Von Humboldt (1767-1835
116
Lettres édifiantes et curieuses sur la langue chinoise- Humboldt/Abel-Rémusat (1821-
1831), Rousseau et D. Thouard, éd., Villeneuve d’Ascq , Presses Universitaires du
Septembre, 1999.
117في نظام تصريف اللغة السنسكريتية ،مقارنة باللغات اليونانية والالتينية والفارسية والجرمانية...
99
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مجموعة معها في السابق ضمن كيان "الشرق" .وكان تأثير البرهان اللساني؛ المتعلق
بالسنسكريتية التي انضمت إلى اللغات اإلعرابية األوروبية ،وهي اللغة التي قد تكون اللغة األم؛
هو ربط الهند بأوروبا ،بل والمزيد من عزل الصين باعتبار أنها اآلخر المطلق.
تأكد هذا المسلسل المتصاعد ،المتمثل في إضفاء طابع استشراقي لساني على الصين في
الخطاب العلمي ألوروبا القرن ،33وأقام إرنست رينان؛ وهو بطل العقالنية الوضعية الفرنسية
في القرن 33في دراسة بعنوان "أصل اللغة"؛ تعارضا بين "العرق الهندو -أوروبي" الذي
يُوصفه ب"العرق الفلسفي" ،الذي تبدو لغاته "مخلوقة للتجريد والميتافيزيقا" والعرق واللغة
الصينيين اللذين يقدم عنهما الوصف التالي:
" ...أليست اللغة الصينية ،بنيتها الالعضوية وغير المكتملة ،صورة لجفاف الفكر والقلب الذي
يُم ِيّز الجنس الصيني؟ إنها كافية بقضاء حاجيات الحياة ولتقنية الفنون اليدوية وألدب خفيف من
العيار الصغير ولفلسفة ال تكون في الغالب إال التعبير الرقيق ،غير أنه ليس أبدا ساميا ،عن
الحس العملي السليم ،فاللغة الصينية تقصي أية فلسفة وأي علم وأي دين ،بالمعنى الذي نفهم به
هذه الكلمات".118
هذا التمثل للغة الصينية قاوم مع ذلك بعناد ،وهو تمثل موسوم بطابع عقلية استعمارية ،غير
أنه صادر ،وبكيفية أوسع ،عن جهل كاريكاتوري (ولو أن األمر يتعلق هنا ،على الخصوص
119
بعالم كبير كما كان رينان)».
الوجود بمعنى كل ما يتراءى لنا ،كل موضوع فيه وكل ظواهره وأعراضه .فهذا هو التعريف
التي تجتمع فيه كل مناحي النظر في ما تكون الفلسفة.
118
Jacques Gernet, La raison des choses, Essai sur la philosophie de Wang Fuzhi (1619-
1692), Gallimard, 2005, p.47
-119كوليج دي فرانس في المغرب -سلسلة محاضرات -آن شينغ بين االستشراق والحداثة :هل الصين مرآة
ألوروبا أم آخر لها؟ محاضرة في أكاديمية المملكة المغربية 08يونيو -0238ص01..33
100
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ي بشر عن بشريته بل جديرا بأن يتكلم باسم الفلسفة من يرفع فيلسوفا ً وال أ ّ
ً ليس فيلسوفا ً وال
عن جهله الغالب من جهة مرجع الحق؛ أرسطو قضى وخرج من الدنيا على خطإ حتى على
األرض التي منها أخرج وفيها حيي ،مات وكان ظنه بها مركز الكون وهي مستوى محوريْ ،
تجري في فلك حول الشمس بحوالي 42كلم/ث .لقد قيل قب ُل إن اللغة خا ّ
صة اإلنسان ،واليوم من
البداهة تبعا لقانون النظماتية ،كل أمم الحيوان والطير تستلزم بالمنطق النظماتي التواصلي وسيلة
صنف المعجمي للغة. تواصل ،هي ال ّ
إن الفقه الكامل للمنطق يؤول به إلى مرجع أساس نسق وحيد هو مبدأ االختالف ،كل عنصر
صور في
الرياضي الحقيق أقرب إلى هللا األحد ،وال يت ّ وكل شيء ال يساوي إال نفسه .ومن هذا ف ّ
كافرا أو مشركا ً أو ملح ًدا إال رياضيا ً مزيّفا ً تقنيا ً ،وإن جمع كل
الفلسفة األولى أن يكون ً
الرياضية ورددها نمذجة بالممارسة ،وما الذي صل إليه من النظريات ّ تو ِ ّ
خوارزميات جميع ما ُ
جعل شابَّا مثل جالوا أن يأتي في أقل من عقد بل لعله أقل من ست سنين ،بما أبهم على من قضى
أضعاف عمر إيفارست ويحسب نفسه ويجعلها ضمن الرياضيين؟!
الرياضي دون الطبيعي والنفسي والتجريبي، وسريان هذه القانون ليس ينحصر في مجال العلم ّ
مما هو متعلق اختالف الغزالي وابن سينا وإدمون هسّرل مع السّيكولوجيين كما سوف نعرض له
بعد .فمذهب االحتمال وعدم الحتمية الذي في رأينا ساهمت فيه القراءة غير الصائبة لحدوث
المعجزات عند الغزالي ،120فداللتها مستم ّدة تحديدا ً من نقضها ألقصى غطاء وجودي الممثل في
هذه الحتمية بالذات .والشرط الكافي ليس هو بالنسبة لإلنسان ولعقله المنطقي المنطبق بعقله
ومعطياته المحدودة القاصرة كما ذهب إليه الغزالي في أقصى ما يمكن أن ينأى عنه ،إنما هو
بالنسبة للحق القائم عليه أمر الوجود ،الحق المحيط عل ًما مطلقا ً.
ونظريا ً وعمليا ً هذا المبدأ كاف للحركة في مجال ال منتهي من النقاط ،بالطبع هذا ما أكده
صناعة الحاسوبية بكفاء النظمة الثنائية[ .]3-2وإذن كل عقل له
صحيح للمعلوماتية وال ّ العلم ال ّ
القوة في الحركة المجالية الالمنتهية ،وبواسطة المعجم تتحدد
نسق مبدإ االختالف له إمكان ب ّ
تصوراتية بنائية منطلقا ً لنسيج غير محدود وال منحصر ب ّ
القوة كذلك ،وبالتفكر يكون ّ مرتكزات
الفعل الحركي في المجال ،وبالبعد أو األبعاد البالغية يتحقق فعل اإلمكان إلى حدود ال تنحصر؛
وأشرف ما ينال وأعز ما يطلب هو تأصيل الوجود لجوهره القانوني مما هو منوط بعلم
انظر :االستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي -الدكتور محمد ياسين عريبي -ص43 120
101
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
القوة وبإمكانها فيلسوف ،ورب فيلسوف في زمان تحريف الحق الرياضيات؛ فكل إنسان هو ب ّّ
وتبدل معاني الكلمات أجهل البشر ،بل وإنك واجد في محافل ولقاءات فلسفية ليس الكلمة فيها إال
للمختصين أو ممن خصوا بها في زمنهم ،إنك واجد ما هو في حد السذاجة ،إال من كالم وصفي
وتأريخي ال يمت إلى الفلسفة الحق بصلة.
ليس اختالف اللغات إال تفصيال للغة اإلنسان ،واللغة من حيث وظيفتها على ما هي حركة
تفكير وعالم تواجد القوم الذين يتكلمونها .أ ّما التفصيل فهو على مبدإ التناسق الكوني كما اللون
وكما هو النبات ،وهو عين االختالف بين الكتابات الرقمية لنفس كم العدد في نظمات حسابية
مختلفة .ليس للفلسفة أو بأصح القول للتفلسف كسلوك إنساني إمكان البتة للخروج عن حقل التفكر
المحدد تحديدا ً ال مراء فيه بالعقل الكلي والعقل اإلنساني كشحنة من ماهيته تشدها قوة المجال؛
وهذا أعلى ما يكون من التأطير والتحديد لجواب ما هو العقل؟ التأطير الذي قال به أبو نصر
محمد بن محمد الفارابي .وأما الوظيفة فهي محض خلقية مضارعة لخلقه .وحقيقة العقل
ي ( .)uأي ي الحق مما ﻫو بالقاموس العلمي االعتبار المنطق ّ الحضورية ﻫي االعتبار الوجود ّ
121
جوﻫر َما .وكان ﻫذا ﻫو مرتكزنا في نقد ونقض ٍ اعتبار
ُ عندما يحصل في منطقه الداخلي
الدليل الوجودي عند ديكارت الذي استخدم فيه البرﻫان الكينوني المستم ّد من القديس أنسلم (القرن
الثاني عشر) ،نقضنا ﻫذا تم قبل أن نقف على حقيقة كانت غائبة عنا ،وبالفعل كانت قد بدأت
تساورنا شكوك في ﻫذا الخصوص كما سوف يأتي موضع ذكره ،حقيقة أن الدليل الوجودي أو
الكوجيتو وبجذره من القديس أنسلم ،كله منقول معنى ولفظا وعبارة حتى من الحسين ابن سينا.
تقرر أن نقضنا لديكارت إنما ﻫو نقض للدليل الوجودي البن سينا. ومنه ي ّ
الخطاب هو بالذات صناعة لغوية .واللغة كما بينا هي مطواعة لفعل اإلرادة ،بل هي فضاء له
ُ
إمكان غير محدود على قدر مدى اإلرادة وقوتها؛ والمشيئة مرجعها اإلمكان الذي سوف يتجلى
ما هو وما كنهه .لكن متحتم علينا أن نصحح القول بأننا أو بأن موضوع التحكم ليس اللغة بل
اإلنسان ،وأن وسيلة التحكم ليس اللغة بل الخطاب .وفي هذه النقطة وبها يتصل خط الحقيقة فيمن
صحيح والحق وما هي ميزته يملكها أو بتعبير مواز ومكافئ ،كيف سيحدد النسق الوجودي ال ّ
صة أو ميزاته إن تعددت.الخا ّ
121تبين لنا اآلن أن المعجمية هي بالذات ليست الداللة فحسب ،بل تأطير ينحو لحفظ الجوهر من خالل انحفاظ
الداللة ،وهذا هو وجه ارتباط البيان بالعقل والميزان محققا في منطقية اللغة.
102
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
َّ
إن النموذج األمثل الواضح هو تحري الحق الوجودي عند إبراهيم الخليل عليه السالم ،تحري
صنا ًما الحنيفية غير المائلة أدنى ميل عن الحقيقة الوجوديةَ ﴿ :وإذ قا َل إ ْب َرا ِهي ُم ألبي ِه آزَ َر أتتخِ ذ أ ْ
ض َو ِل َيكونَ األر ِ ت َو َ اوا ِس َم َ يم َملكوتَ ال َّ بين' َوكذ ِلكَ نُ ِري إ ْب َرا ِه َ ضال ٍل ُم ٍ قو َمكَ فِي َ أراكَ َو ْ إني َ
آ ِل َهة' َ
فلما َرأى كوكبًا قا َل َهذا َر ِّبي' فل َّما أفلَ قا َل ال أحِ بُّ اآل ِف ِلينَ ' َّ عل ْي ِه الل ْي ُل َرأى ْ ِمنَ ال ُموقِنِينَ ' فل َّما َج َّن َ
س الشم َ ْ فلما َرأى ضالينَ ' َّ ألكونن ِمنَ ال َّ َّ ازغا ً قا َل َهذا َر ِبّي' فل َّما أف َل قا َل لئِ ْن ل ْم يَ ْه ِدنِي َر ِّبي الق َم َر َب ِ
تشركونَ ' إني َو َّج ْهتُ َوجْ ِه َ
ي قو ِم إني َب ِري ٌء ِم َّما ِ أفلت قا َل َيا ْ ْ ازغة قا َل َهذا َر ِّبي َهذا أكبَ ُر' فل َّما بَ ِ
قو ُمهُ' قا َل أت َّحا ُّجونِي فِي هللاِ ض َحنِيفاً' َو َما أنا ِمنَ ال ُم ْش ِر ِكينَ ' َو َحا َّجهُ ْ األر َاوات َو ْ س َم َفطر ال َّ
للذي َ
ش ْيءٍ ِعلما ً' أفال ش ْيئا ً' َو ِس َع َربِّي ك َّل َ شا َء َربِّي َ أن يَ َاف َما ت ْش ِركونَ ب ِه إال ْ َوق ْد َه َدانِي' َوال أ َخ ُ
نز ْل ب ِه َعل ْيك ْم سُلطاناً' فأ ُّ
ي اف َما أ ْش َركت ْم َوال تخافونَ أنك ْم أ ْش َركت ْم باهللِ َما ل ْم يُ ِ ّ ف أ َخ ُ تتذكرونَ ' َوك ْي َ
ُ
األمنُ َوهُ ْم
بظلم أولئِكَ ل ُه ْم ْ ٍ إن كنت ْم ت ْعل ُمونَ ' ال ِذينَ آ َمنوا َول ْم يَلبسُوا إي َمان ُه ْم الفريق ْي ِن أ َح ُّق باأل ْم ِن ْ
إن َربَّكَ َح ِكي ٌمت َم ْن نشا ُء' َّ نرف ُع َد َر َجا ِ
قو ِم ِه' ْ على ْ يم َ
ُم ْهت ُدونَ ' َوتِلكَ ُح َّجتنا آت ْينا َها إ ْب َرا ِه َ
علي ٌم'﴾(األنعام)84..71 َ
عرفنا الفلسفة (مع اعتبار بيان فالحقيقة الوجودية هي ما به وعليه الوجود حقيقة ،ولذلك َّ
وإن أش َّد ما يعجب له ويحار فيه العقل ،هو قاموسي) تأصيال للوجود ،إذ هي الطريق لتحديدهاَّ .
أن هذا التأصيل -وما الحفرياتية إال منه -ليس أمكن فيه من النسق إال نسق وحيد هو نسق
النظماتية ،وال مخرج استنباطيا نسقا ً منطقيا ً وحيدا ً هنا كذلك ،إال على البنية والمستوى القانوني،
المجاوز لحقل التفلسفات أو التفلسف الذي ال ُمفعل له حقيقة سوى عامل االختالف النسبي ظالال
لتفصيل الحق في الكون المادي الحادث والوجودي .فالعجب هو هذا الوضوح في الحجّة
والطريق الوجودي األقوم ،فالحقيقة الوجودية هي قانون الوجود ،والحقيقة الوجودية هي الحق،
والحقيقة الوجودية هي هللا سبحانه وتعالى! ولن يكون هناك وحينها منتهى سؤال الحقيقة
ي من عناصر مجال العمران مستقر األمن الوجودي لك ّل وأ ّ
ّ مستقرها و
ّ الوجودية ،بل إنه
واالستخالف البشري ،وهذا ما تحقق فعال بتحقق حضارة الحقيقة الوجودية المتمثلة يقينا ً في
الحضارة اإلسالمية حين ت ّم االعتبار ليس فقط لذوي االحتياجات من البشر حيث لم يرق مسار
حضاري في هذا الجانب رقي هذه الحضارة بما شهدت عليه شدة االهتمام بإنشاء دور
االحتياجات المختلفة والبيمارستانات ،بل أيضا ً تم االعتبار للحيوانات .يقول أمير الجهاد شكيب
أرسالن تحت عنوان " الصراع بين اإلسالم والنصرانية وأيهم الغالب في المدنية" من تعليقه
على "حاضر العالم اإلسالمي" وإن كان األصح بين اإلسالم والحضارة الغربية ولو كان موضع
103
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المحا ّجة هو صراع اإلسالم والحركة التبشيرية في إفريقا؛ يقول في ر ّده ودحضه للمزاعم
الكاذبة والدعاوى الباطلة على بداهة النظماتية توافقا ً مهيمنا ً التساق القانونية الكلية ،هذه المزاعم
والدعاوى التي رددها وال زال يرددها مسترضعو التكوين االستعماري واالستشراقي من متعلمي
ومثقفي ضحايا حوضه ،يقول أمير الجهاد:
" ال بل الذي خطر ببال المسلمين من جهة إسداء الخير ،وإماطة األذى ،وتخفيف آالم البشر قد
وصل من التناهى إلى درجات ،لم تبلغها أوربا في عصر مدنيتها هذه ،ودل على أن في اإلسالم
من رقة الشعور ،ودقة اللحظ ،وتوقع النادر من النوازل ،ما ليس في غيره .وإليك هذا المثال:
كانت في دمشق الشام عدا دور المجانين والمجاذيب والمجاذيم ،أوقاف على الحيوانات ،ويقال
إن مرجة دمشق هذه التي هي اليوم متنزه أهل الحاضرة ،كانت وقفا على الخيل التي تعبت في
يطول لها فيها دون غيرها.
الجهاد وأسنتّ ،
وسمعت رواية من أفواه بعض األدباء لم أجد عليها نصاً ،ولكنها قريبة إلى التصديق وهي،
أنهم وجدوا في الوثائق المتروكة عن المستشفى النوري الشهير 122وظيفة من جملة وظائف
صحّة أن يجعلوها وظيفة، المعالجة لم يخطر ببال األوروبيين ،مع تناهيهم في الترف والعناية بال ّ
وال أن يرتبوا لها جعال معلوماً ،وهي تكليف اثنين بأن يقفا بمسمع من المريض ،وبدون أن يلحظ
أن ذلك جار منهما عمدا ً يسال أحدهما اآلخر عن حقيقة علة ذلك المريض ،فيجاوبه رفيقه بأنه ال
يوجد في علته ما يشغل البال ،وأن الطبيب رتب له كذا وكذا من الدواء ،وال يظن أنه يحتاج إلى
اكثر من كذا وكذا من الوقت حتى ينقه ،وغير ذلك من الحديث ،الذي إذا تهامس به اثنان على
مسمع عليل ثقيل الحال وظنه صحيحا ،زاد في نشاطه ،ونهض من قوته المعنوية بما يفعل فعل
أنجع األدوية ال سيما عند ذوي األمزجة العصبيةز فهذه نكتة ،لم ينتبه األوروبيون غلى أن
يدخلوها في جملة وظائف المستشفيات إلى هذه الساعة ،مع أنها في منتهى درجات الرقة والفائدة.
ومن أرق وألطف ما وجد في اإلسالم من هذا المعنى وقف الزبادي ،الذي كان في دمشق ،وقد
حدَّث عنه ابن بطوطة وهو مكان توجد فيه صحاف من الخزف الصيني الجليل القدر ،وقفها
أصحابها ألجل أنه إذا كان غالم كسر آنية لسيده وتعرض بذلك لغضبه ،يذهب إلى هذا المكان
محل المحكمة الشرعية اآلن وهو منسوب إلى الملك العادل نور الدين زنكي رحمه هللا -المصدر- 122
104
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ويضع اإلناء المكسور ،ويأتي بإناء صحيح بدال عنه .فهل لحظ أرباب المبرات من اإلفرنج
معروفاً ،بلغ هذا المبلغ من الكياسة ،ولطف الشعور؟
ووقف لسقيا الماء الثلوج في الصيف لعابري السبيل ،وقد يسقونه بماء الخروب أو غيره من
األشربة.
ووقف لمستشفى المجاذيم ،من جملة أراضية القرى التي كانت للمرحوم أحمد باشا الشمعة في
حوران.
وفي مكة المكرمة وقف ،مخصص ريعه لمنع الكالب من دخول مكة.
وبلغني أنه يوجد بمصر وقف لسكنى األيامى .ووقف آخر لكسوة أوالد الفقراء .ووقف إلطعام
الكالب.
ويوجد بتونس الخضراء وقف مرصد ريعه لتزويج بنات الفقراء واليتيمات.
وفي تونس وقف لختان أوالد الفقراء ،يختن الولد ويعطى كسوة ودراهم .وهناك وقف توزع منه
الحلواء في رمضان مجانا.
وقيل لي إن في تونس كما في دمشق وقفا لمن انكسر بيده إناء ،فيذهب ويأخذ منه بدل اإلناء
الذي انكسر.
...
ويوجد في فاس وقف أشبه بالوقف الذي في دمشق ،واآلخر الذي في تونس ،لمن ينكسر بيده
إناء.
105
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وفيها وقف الحتياط آخر ،وهو أن من وقع عليه زيت مصباح ،أو تلوث ثوبه بشيء آخر،
يذهب إلى هذا الوقف ويأخذ منه ما يشتري به ثوبا آخر.
وهناك وقف سيدي أبي العباس السبتي للعميان والزمنى ،يأخذون كل يوم من ريعه ما يعيشون
به ذكورا ً وإناثا على كثرة عددهم.
...
ووقف للمؤذنين الذين يحيون الليل بالنوبة ،كل منهم يسبح هللا نحو ساعة بصوته الرخيم،
ويسمى هذا المؤذن «بمؤنس الغرباء» أو «مؤنس المرضى» ألن المريض ال يقدر أن ينام وال
يوجد في كل األحيان من يحيي الليل ألجله ،فليس له أنيس أحسن من هذا المؤذن الذي يشجيه
بصوته الرخيم في تسبيح الباري تعالى في ساعات الليل األخيرة.
وفي مدينة مراكش وقف لسقي الماء المثلوج في أيام القيظ كما في دمشق.
وفيها مؤسّسة اسمها «دار الدقة» وهي ملجأ تذهب إليه النساء الالئي يقع نفور بينهم وبين
بعولتهن فلهن أن يقمن به آكالت شاربات ،إلى أن يزول ما بينهن وبين أزواجهن من النفور.
ويوجد في مراكش مكان اسمه «سيدي فرج» عليه أوقاف كثيرة دارة فائضة ،وذلك إليواء
المجاذيب والمعاتيه ،ولتجهيز الموتى من الضعفاء والمساكين .ويؤخذ من ريع سيدي فرج هذا،
لشراء مالبس توزع على الفقراء في أول الشتاء.
وروى جان وجيروم تارو األخوان ،الكاتبان الفرنسيان في رحلتهما إلى مراكش ،أن في مدينة
مراكش ملجأ ال يوجد مثله في الدنيا بأسرها ،وهوبناء يكاد يكون بلدة ،وله ساحة يكاد يكون
الطرف ال يأتي على آخرها ،وفي هذا الملجأ ستة آالف أعمى ينامون ،ويأكلون ويشربون،
ويقرأون ،ولهم أنظمة ،وقوانين ،وهيئة إدارة ،وصندوق الخ.
فهذا مثال مما في العالم اإلسالمي من المشروعات الخيرية والمآثر اإلنسانية ،مما لم يتفطن
ألكثره العالم األوروبي بعد أن وصل إلى ما وصل إليه من الغاية القصوى في العمران ،والدرجة
العليا في االحتياط إلزاحة علل اإلنسان .وربما كان كثير من هذه األوقاف والمالجئ قد انحط أو
106
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
درس ،أو استأثر نظاره بريعه لسوء الحظ ،ولكن هذا ال يمنع من أن تكون هذه المؤسّسات
الجليلة ،وهذه الخواطر الخيرية الدقيقة قد وجدت في اإلسالم أيام عزه ،وال يزال قسم كبير منها
موجودا .فافتخار المسيو موري على اإلسالم بوفرة المالجئ ودور األيتام ،وكثرة معاهد الخير
في النصرانية ،دون اإلسالم ليس في محله .ولو اطلع على هذه المعلومات ،التي هي قليل من
123
كثير مما في اإلسالم من المبرات العا ّمة لرجع عن كالمه".
ب عليه أن يتمثل حال الحضارة التي "وإذا أراد المرء تصوير تأثير الشرق في الغرب َو َج َ
كانت عليها شعوبهما المتقابلة ،فأما الشرق فكان يتمتع بحضارة زاهرة بفضل العرب ،وأما
صليبية أن
الغرب فكان غارقا في بحر من الهمجية ،وقد ظهر من بياننا الوجيز عن الحروب ال ّ
صليبيين كانوا في سلوكهم وحوشا ً ضارية ،وأنهم كانوا ينهبون األصدقاء واألعداء ويذبحونهم ال ّ
خربوا في القسطنطينية ما ال يُقدَّر بثمن من الكنوز الموروثة عن اليونان
على السواء ،وأنهم ّ
124
والرومان".
"ظهر مما تقدم أن تأثير الشرق في تمدين الغرب كان عظيما ً جدا ً بفعل الحروب ال ّ
صليبية،
صناعات والتجارة أشد منه في العلوم واآلداب ،وإذا نظرنا إلى وأن ذلك التأثير كان في الفنون وال ّ
تقدم العالقات التجارية العظيم باطرا ٍد بين الغرب والشرق ،وإلى ما نشأ عن تحاكّ ال ّ
صليبيين
صناعة -تجلى لنا أن الشرقيين هم الذين أخرجوا الغرب من النمو في الفنون وال ّ
ّ والشرقيين من
تعو ُل
التوحش ،وأعدوا النفوس إلى التقدم بفضل علوم العرب وآدابهم التي أخذت جامعات أوربة ّ
125
عليها؛ فانبثق عصر النهضة منها ذات يوم".
ثم ليقول الكاتب وهو ينحو السّداد في التأطير التاريخي ،وكذلك لتأخذ هذه الحقيقة موضع
المرتكز ضمن مرتكزات هذا العمل؛ يقول بعد عرض بين وواضح لتأثير العرب على الشرق:
107
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
نثبت اآلن أن تأثير العرب في الغرب عظيم أيضاً ،وأن أوربة مدينة للعرب بحضارتها ،والحق
أن تأثير العرب في الغرب ليس أقل منه في الشرق ،ولكن بمعنى آخر ،فأما تأثيرهم في الشرق
فتراه باديًا في أمر الدين واللغة والفنون على الخصوص ،وأما تأثيرهم الديني في الغرب فتراه
فرا ،وترى تأثيرهم الفني واللغوي فيه ضعيفًا ،وترى تأثيرهم العلمي واألدبي والخلقي فيه ص ً
ِ
عظي ًما.
إذا رجعنا إلى القرن التاسع والقرن العاشر من الميالد ،حين كانت الحضارة اإلسالمية في
إسبانية ساطعة جدًّا ،رأينا أن مراكز الثقافة في الغرب كانت أبرا ًجا يسكنها سنيوراتٌ متوحشون
يفخرون بأنهم ال يقرأون ،وأن أكثر رجال النصرانية معرفة كانوا من الرهبان المساكين الجاهلين
الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليَكشِطوا كتب األقدمين النفيسة بخشوع ،وذلك كيما يكون عندهم
الرقوق ما هو ضروري لنسخ كتب العبادة. من ّ
ودامت همجية أوربة البالغة زمنا ً طويال من غير أن تشعر بها ،ولم يبد في أوربة بعض الميل
إلى العلم إال في القرن الحادي عشر وفي القرن الثاني عشر من الميالد ،وذلك حين ظهر فيها
شطر العرب الذين كانوا أئمة
َ أناس رأوا أن يرفعوا أكفان الجهل الثقيل عنهم فولوا وجوههم
ٌ
وحدهم.
صليبية سببًا في إدخال العلوم إلى أوربة كما يُردَّد على العموم ،وإنما دخلت
ولم تكن الحروب ال ّ
العلوم أوربة من إسبانية وصقلية وإيطالية ،وذلك أن مكتبًا للمترجمين في طليطلة بدأ منذ سنة
١١٣٤م ينقل أهم كتب العرب إلى اللغة الالتينية تحت رعاية رئيس األساقفة ريمون ،وأن أعماله
كللت بالنجاح ما بدا للعرب بها عالم جديد ،ولم يتوان الغرب في أمر هذه الترجمة في القرن الثاني
عشر والثالث عشر والقرن الرابع عشر من الميالد ،ولم يقتصر الغرب على ترجمة مؤلفات
العرب ،كالرازي وأبي القاسم وابن سينا وابن رشد ...إلخ ،إلى اللغة الالتينية ،بل نقلت
صة ككتب إليها ،أيضاً ،كتب علماء اليونان التي كان المسلمون قد ترجموها إلى لغتهم الخا ّ
جالينوس وبقراط وأفالطون وأرسطو وأقليدس وأرشميدس وبطليموس ،فزاد عدد ما ترجم من
108
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
كتب العرب إلى اللغة الالتينية على ثالثمائة كتاب كما روى الدكتور لوكلير في كتابه «تاريخ
الطب العربي» .
والحق أن القرون الوسطى لم تعرف كتب العالم اليوناني القديم إال من ترجمتها إلى لغة أتباع
محمد ،وبفضل هذه الترجمة اطلعنا على محتويات كتب اليونان التي ضاع أصلها ككتاب
أبلونيوس في المخروطات ،وشرح جالينوس في األمراض السارية ورسالة أرسطو في الحجارة
فالعرب هم تلك
ُ نقر بأننا مدينون لها بمعرفتنا لعالم الزمان القديم
...إلخ ،وأنه إذا كانت هناك أمة ُّ
األمة ،ال رهبان القرون الوسطى الذين كانوا يجهلون حتى اسم اليونان .فعلى العالم أن يعترف
للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافا ً أبديًّا ،قال مسيو ليبْري« :لو لم يظهر
126
العرب على مسرح التاريخ؛ لتأخرت نهضة أوربا في اآلداب عدة قرون»".
صليبية وعلى أي إذا ما نحن انتبهنا إلى هذا الشبه تعارض عند الكاتب في أثر الحروب ال ّ
صناعات والتجارة أم في العلوم واآلداب،المستويين كان هذا التأثير أكثر ،أفي الفنون وال ّ
والمستويان معا مرتبطان صبغة حدوثية تاريخيا ً وحضاريا ،أي أنه يرتفع بثبوت عظمة هذا
ً
التأثير في تماس الحروب شرطا أوليا في االحتكاك وفي عظمة الطور الثاني الذي بلغ فيه هذا
التأثير التمديني للغرب من طرف العرب أوجه ،بنقل ما بيد العرب من العلوم سواء من أعمالهم
صة ،وبالتطبع باآلداب العربية الراقية.
الخالصة أو مما أفادوه من ذخيرة علم أهل يونان خا ّ
ال نعود إلى ما فصلناه في فصل سابق عن تأثير العرب الخلقي في أوربة ،وإنما نذكر أننا أثبتنا
فيه الفرق العظيم بين سنيورات النصارى وأشياع النبي في ذلك الزمن ،وأن النصارى تخلصوا
من همجيتهم بفضل اتصالهم بالعرب ،واقتباسهم منهم مبادئ فروسيتهم ،وما تؤدي إليه هذه
المبادئ من االلتزامات ،كمراعاة النساء والشيوخ واألوالد واحترام العهود ...إلخ ،ونذكر أننا بينا
صليبية أن أوربة النصرانية كانت دون الشرق اإلسالمي أخالقا بمراحل، في فصلنا عن الحروب ال ّ
فإذا كان للديانات ما يُسند إليها ،وما نجادل فيه ،من التأثير في الطبائع على العموم أمكنت المقابلة
بين اإلسالم واألديان األخرى التي تزعم أنها افضل منه على الخصوص.
109
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وقد تكلمنا في ذلك الفصل ،بما فيه الكفاية ،عن تأثير العرب الخلقي في أوربة ،فنحيل القارئ
صل إليها ،أيضاً ،العالمة المتدين مسيو بارتلمي سنت
عليه ،وإنما نذكر القارئ بالنتيجة التي تو َّ
هيلر في كتابه عن القرآن حيث قال:
أسفرت تجارة العرب وتقليدهم عن تهذيب طبائع سنيوراتنا الغليظة في القرون الوسطى،
وتعلم فرساننا َّ
أرق العواطف وأنبلها وأرحمها من ةغير أن يفقدوا شيئا من شجاعتهم،
وأشك في أن تكون النصرانية وحدها قد أوحت إليهم بهذا مهما بُولغ في كرمها.
"وللفروسية العربية شروطها كما للفروسية األوروبية التي ظهرت بعدها ،فلم يكن المرء
سا إال إذا تحلى بهذه الخصال العشر« :الصالح ،والكرامة ،ورقة الشمائل ،والقريحة
ليصير فار ً
والرمح
القوة ،والمهارة في ركوب الخيل ،والقدرة على استعمال السيف ّالشعرية ،والفصاحة و ّ
شاب».والن َّ
ونرى تاريخ العرب في إسبانية حافال باألنباء الدالة على كثرة انتشار تلك الخصال ،ومن ذلك أن
والي قرطبة ل َّما حاصر ،في سنة ١١٣۹م مدينة طليطلة التي كانت بيد النصارى أرسلت إليه
الملكة بيرنجر التي كانت فيها من بلغه أنه ال يليق بفارس بطل شهم كريم أن يحاصر امرأة،
فارتد القائد العربي من فوره محييًا الملكة.
128
وذاعت خصال الفروسية تلك بين النصارى ،ولكن ببطء".
127ن م -ص138-137
128ن م -ص030
110
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فالحياة على نظام الحقيقة الوجودية المتمثل في قانون الوجود الحق واالنتظام في عبادة الخالق
عز وجل ،االنتظام في القانوية الكلية الوجودية ،يمنح الكائنات جميعا المحتضنة في العمران
البشري ،عالوة على األشهر الحرم بخصوص اإلنسان قوام حقل االستخالف ،يعطيها أمنها
الوجودي إلى أقصى وأدق ما يمكن أن ينال منها للنفس اإلنسانية ولكل حقلها العمراني
صحيح؛ ذلكم هو واالستخالفي ،مدمجا ً فيه حتى عنصر المجانين لكن بالطرح الفلسفي والعلمي ال ّ
مسار وعالم الحضارة اإلسالمية ،أقوم ما أمكنه أن يكون من االتجاهات الحضارية ،وليس بعد
الحق إال الضالل.
تأثيرا
ً هنا طرفان ،كل ما في هذا الفلسفة جميعا ً بينهما .األول اإلرادة الفعلية التي هي التواجد
واختيارا واستخالفا ً ،وهذا يلزم اإلنسان واجب المقاومة في االختيار الوجودي ً في الوجود موقفا ً
بقدر اإلمكان ،مجاوزة لالنصياع لألنساق المفروضة بالخطاب السّلطوي التحكمي مثال؛ فقد جا َء
صف ،أنه قعد نفر من علما ً محفوظا ً بخصوص ما نزل من الوحي الكريم بمناسبة نزول سورة ال ّ
ي األعمال أحبّ إلى هللا تبارك أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فقالوا لو نعلم أ ّ
يز ال َحكِي ُم' األرض َوه َُو العَ ِز ُ
اوات َو َما فِي ْ س َم َ وتعالى عملناه فنزل قوله سبحانهَ ﴿ :
سبَّ َح هللِ َما فِي ال َّ
هللا يُحِ بُّ
إن َ َيا أيُّ َها الذِينَ آ َمنُوا ل َِم تقولونَ َما ال تف َعلونَ ' كب َُر َمقتا ً عِن َد هللاِ ْ
أن تقولوا َما ال تف َعلونَ ' َّ
وص'﴾ إلى آخر السورة.
ص ٌصفا كأن ُه ْم بُنيَا ٌن َم ْر ُ
سبي ِل ِه َ
الذِينَ يُقاتِلونَ فِي َ
وأ َّما الثاني فإن أقصى ومنتهى ما تبلغه فلسفة سلطة الخطاب أو محورية الخطاب هو أيضا ً في
أقصى ومنتهى السّؤال :ما هو الحق وما هي الحقيقة في هذه األنماط أو ما أسميناه باألنساق
الوجودية التواجدية (غير التواجدية بالطبع جلها متحكم فيها مؤسّساتيا في محيط ت دجين بشري)؟
من يملك الحقيقة فلسفيا ً؟
هذه هي حدود هذه الفلسفة وهذا العقل الفلسفي! ويكفي للحسم فيها لمن أراد أن يقول يقينا ً،
يكفي فيه مبرهنة كورت جودل في عدم االكتمال أو االستكمال؛ فعقل الفلسفة وربضها النوراني
الرياضيات .وإذن فلن يلتمس الجواب عن هذا السّؤال العلي إال بمجاوزة حاجز النسبية هي ّ
المرجعية في ملكية حقيقة األحكام .وهذا هو الذي يخرج بميشال فوكو ومنحاه الفلسفي جميعا ً،
سرادق السّؤال ومتاهة الحديث عن الحقيقة حكما ً في عوالم نسبية ال توجد فيه حتما ً ويقينا ً، من ُ
وتفلسفا ً صحيحا ً ومنطقا َ صارما َ.
111
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صحيح ،الخطاب الذي على الجميع تبنيه والتواجد على ضوئه وهديه؛ ما هو الخطاب الحق وال ّ
فهذا هو الذي عضل بفوكو وبغير فوكو ،وبالذين يرغبون استنكافا ً عن الفلسفة الحقة التي كان
العظيم؟!
َ سقراط رحمه هللا شهي َدها
إن اإلسالم ببرﻫان دليلي التصديق والتفصيل واللغة اإلنسانية بانحفاظ الجوﻫر البياني
الموصول بالصمود العقلي للمنطق والرياضيات المؤسّسين على مبدإ االختالف الجوﻫري ،لهما
مرتكزا الحقيقة الوجودية ،ومنه ال يحق إطالقا وال ينبغي لهما الصبغ األنتربولوجي التراثي.
قانونية وجودية
اللغة
اإلسالم
أساس
دين الحق
المنطق
نفي
الصبغ
التراثي
112
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
جاء في مقدمة الطبعة الثانية من سلسلة "عالم المعرفة" لكتاب "فجر العلم الحديث اإلسالم-
الصين -الغرب" 129الذي أشرنا إليه في التمهيد:
"فالمؤلف يسدي خدمة جليلة إلى العالم العربي ،إذ يثبت أنه كان مؤهال الستهالل النهضة
العلمية الحديثة التي غيرت وجه العالم بأسره .ولكن ما دام الواقع والتاريخ يؤكدان أن هذا لم
يحدث بالفعل ،فال بد أن هناك معوقات كامنة في بنية المجتمع العربي ومؤسّساته ،التي حالت
دون تحقق هذا اإلنجاز الكبير .وبعبارة أخرى فإن الهدف الجليل الذي يسعى الكتاب إلى إثباته،
يستدعي توجيه بعض النقد إلى المجتمع العربي ومؤسّساته في الفترة التي يتناولها الكتاب".
من أعظم الشأن في عالقة العقل بالموضوع ،وهو معيار كان غالبا ً وراء حلول األسئلة الكبرى
والسبق في اإلنجازات العلمية ،االعتبار دوما ً للتوافق والمشاكلة بين البنيتين العقلية
والموضوعاتية .إننا عندما نطرح سؤال التقويم لهذا الكتاب مثال ،لسنا بصدد ذات الكاتب
موضوعا ً بدل موضوع الكتاب .الكاتب هنا ليس إال رجال نقطة عملية في شبكة مؤسّساتية
خدمتها وروحها نفسها هو التاريخي والحضاري والسياسي موجهاً .ومؤكد من خالل القراءة
صصا ً في تاريخ العلوم ،وما يستوجبه ذلك من ملكة المتفحصة للكتاب ،أنه مع كونه باحثا ً ومتخ ِ ّ
مجرد عنصر وظيفي على مستوى تعلوه أو يعلوه خاصة مستوى الرأس والموجه ّ فلسفية ،أنه
للعقل الغربي وب الطبع األمريكي هنا على التخصيص ،مستوى المنظرين والمخططين والمسيرين
للحضارة الغربية من السياسيين ورجال الدين والمفكرين الكبار وعلى رأسهم دهاقنة
المستشرقين .فالتعامل مع الحقيقة الوجودية والتصرف فيها هو بحسب المستويات االجتماعية
والفكرية ،وهذه ملحوظة هامة حين ينكر متعجبا ً من الزمة إغفال علماء الغرب دور العرب
وإسهامهم العلمي الذي كان هو األساس المباشر للعلم الحديث ،لكن كذلك وجب أن نعلم بأن من
أساليب الخطاب االستشراقي اعتماد اإلشادة بمضي الفضل مما ال يضير بالحاضر ويقرر الحكم
المراد ،فالعبرة بالغاية من الخطاب ال ببنيته ،كما أشار إليه ابن نبي" .إذا كانت الثقافة األوروبية
129
The Rise of Early Modern Science Islam, China, and the West By Toby E. Huff.
Cambridge University Press, 1983
113
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
بشكل عام قد هضمت الشرق وتمثلته ،فإن فاليري (بول فاليري) بالتأكيد يدرك أن االستشراق
كان وسيطا ً محددا ً في هذه المهمة .وفي عالم من المبادئ الولسنية المتعلقة بحق تقرير المصير
القومي <للشعوب> يعتمد فاليري بثقة على نفي تهديد الشرق بتحليله .وإن "قوة االختيار" هي أن
يكون ألوروبا ،أوال ،أن تعترف بالشرق أصال للعلوم األوروبية (الفنون واآلداب -في كلمته) ،ثم
130
أن تعامله كأصل متجاوز منسوخ".
ففي السنين التي أنجز فيها هذا الرجل عمله ،وبمكنة المنح التي كانت تعطى له لالنتقال بين
مراكز بحوث وجامعات وغير ذلك ،كما ذكره وأشار إليه ،فقد كان ينتقل لهدف مرسوم ووحيد،
االطالع على المعلومة بشأن الموضوع ،وهذه المعلومة مصدرها المكتبة المتاحة والمسموح بها
والتي ال شك هي المتوافقة مع إنكاره ما أنكر من وضع اليد وكتمان الحقيقة التاريخية التي ال
علمية وال حقيقة وجودية إال بها ،إال ما كان من اتصاله بأساتذة عرب أو واحد منهم كما لم ينس
توجيه الشكر إليه األستاذ بجامعة هارفرد عبد الحميد صبرة . 131ومنه بحسب النسق القاهر لرابط
النتيجة بالمقدمة أو المقدمات ،ليس ما هو في الحقيقة الوجودية والتاريخية ،ولكن ما أمكنه من
المكتبة الجامعية والمؤسّسية الغربية واألمريكية تخصيصاً ،سيصل حتما ً مقضيا ً أو سيرسخ حقيقة
مقررة بالنسبة للمستوى المخطط ،وهو أنه:
"لو بقيت األندلس بلدا ً مسلما ً حتى القرون المتأخرة – ولنقل حتى عصر نابليون – الحتفظت
بكل عيوب الحضارة اإلسالمية من النواحي اإليديولوجية والقانونية والمؤسّسية .وما كانت أندلس
تسود فيها الشريعة اإلسالمية لتتمكن من إنشاء جامعات جديدة تقوم على النموذج األوروبي
وتحكم [أي الجامعات] نفسها بنفسها بصفتها هيئات تتمتع باالستقالل الذاتي بحكم القانون.
فالهيئات أو المؤسّسات ال وجود لها في الشريعة اإلسالمية .كذلك فإن النموذج التربوي اإلسالمي
اعتمد اعتمادا ً مطلقا ً على إعطاء الفقه الصدارة المطلقة وعلى المحافظة على تقاليد الماضي
132
العظيمة".
َّ
إن الكاتب ومهما يكن من نبله ونزاهته ،ما أمكن له أن يتجاوز قهر المنطق وقانونه في عالقة
تحرر من ربق نظام الخطاب وحجر التقليد الجامعي
النتيجة بالمقدمات ،وما كان له من دون ال ّ
130االستشراق -ص122
131تنويه :يقول الكاتب :لكن ال بد من القول إنني واألستاذ صبرة نؤمن بوجهات نظر مختلفة.
132فجر العلم الحديث -ص003
114
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والتعليمي المفروض في الغرب أن يحور عن استنتاج مفاده أن اإلسالم شريعة وحضارة هو
العامل والعائق الرئيس الذي منع وعاق عن مأسسة العلم الحديث عند العرب والمسلمين:
"إن العلم الحديث يُنظر إليه على أنه ضد اإلسالم ،ويُعتبر الداعون له أناسا خطوا الخطوة
األولى والقاتلة نحو التنكر للدين".133
وهذه أهم القضايا التي تخدمها هذه الشبكة المؤسّساتية المعتبرة مراكز بحث علمي وجامعي.
نظام خطاب يتحكم في مفهومي العلم والدراسة حتى .لقد ذكرنا قبل إشارة الكاتب وإنكاره اتفاق
علماء الغرب سلب أي اعتبار أو مساهمة للعرب وللحضارة اإلسالمية في تاريخ العلوم،
وكذلك"فإنه ال توجد إال معرفة سطحية أو اهتمام فاتر بالفلسفة التي أفرزها مفكرون غير
مسيحيين في الغرب ،وبخاصة فالسفة اليهود والمسلمين .ومع ذلك فبينما يميل معلمو الفلسفة إلى
134
عدم االهتمام بهذه األنماط من التفكير ،فإن الدارسين يبدون في الغالب اهتماما بالغا بها".
ولمزيد من اإليضاح في حقيقة العالمية وطبيعة األعمال والبحوث العلمية في هذا النظام ،فهي
نمطية وهيكلية باألساس ،وهنا أذكر في بعض موائد النقاش التي نظمتها قناة الجزيرة بالواليات
المتحدة األمريكية أيام ثورة الربيع العربي ،وشارك فيها بعض الخبراء والمتخصصين
األمريكيين عبر الهاتف ،فلم يبدأ تدخله حتى طغت أو طغى على حديثه ولسانه ذكر فصول السنة
من الخريف والشتاء ،وذلك واضح تفسيره أنه لم يكن ملما بجوهر الموضوع ،وإنما هي آلية
تدرس علميا في منهاجية تناول الموضوعات كيفما كانت ،فالمقاربة المعجمية أولية في ذلك ،لكن
صاحبنا أغفل هنا ولم يتثبت من منحى داللة لفظة "الربيع"!
133ن م -ص002
134مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين – آفاق جديدة للفكر اإلنساني -تحرير أوليفر ليمان -ترجمة :د.
مصطفى محمود محمد -مراجعة :د .رمضان بسطاويسي -عالم المعرفة 123مارس -0224ص41
115
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إنك حين تقرأ في ﻫذا الكتاب المتصدي لهذا السّؤال الخطير العظيم ،الذي ال يعبر عن بنية
العمل والكتاب ،إذ ﻫي تقريرية كون الشريعة اإلسالمية ﻫي العائق والعامل السلبي ،فهذه ﻫي
العلة الغائية ،وﻫل من دليل بالنسبة لمنطيق أو مبتدئ شاد في المنهاجية أوضح من قوله وﻫو
يضع مخطط الكتاب:
"ولقد أعطيت القانون محل الصدارة في ﻫذا المخطط ،ألن القانون (أو الشريعة الربانية) كان
ﻫو البنية الموجهة قبل النهائية في الحضارة الكالسيكية"
بالطبع بالنسبة لفيلسوف كامل وعالم ناقد منهاجي حصيف ،يكفي بناء عمل فكري يحمله
البيان ،يكفي أن يكون مرتكزا فيه بمعنى النظرية الميكانيكية عنصر "الكالسيكية" ﻫذا ،ليقوض
وينقض من أساسه فال يعتبر شيئا .وﻫذا من أﻫم مرتكزات االستشراق ،ابستيم التقويم المسيحي
الغربي للتاريخ بمفهوم "القروسطية" ،ﻫو عينه الغاية العملية لألنتربولوجيا ،فإن لكل علم حكمة
عملية ووظيفة من أجلها وضع وأجلها رسّم.
"لقد بدأ الفقيه العظيم الشافعي (ت ،)١٨٤بعد فرض شروط اإلسناد لكل حديث ،بتنظيم أصول
الفقه :مصادره ،ومادته ،وأنماط االستدالل المباحة فيه .وكان غرضه أن يجعل مناﻫج الشريعة
ومادتها المستخدمة في مجتمع الشرق األوسط إسالمية أصيلة .وكانت جهوده في ذلك ،وال سيما
في تنظيمه للطرق المشروعة في االستدالل الشرعي« ،ابتكارا ال ﻫوادة فيه» 135ثبت الشرع
اإلسالمي ومصادره بحيث ما عاد باإلمكان إضافة أي تجديد جديد .وتحقق ذلك باتخاذه موقفا
نقليا شديدا مفاده أن ما قبله السلف ال ينقضه الخلف كذلك فإنه «حصر االستدالل بالقياس...
واستبعد الرأي والقرارات التقديرية» . 136وكانت النتيجة ﻫي أن الشافعي «قطع صلته بالتطور
الطبيعي المتصل للمذﻫب في المدارس السابقة» . 137وكان مبدأ اإلجماع عند الشافعي ﻫو ذروة
مذﻫبه ،وﻫو مبدأ يفترض أن األمة لن تجتمع على ضاللة ،ولذا فإن إجماع العلماء ملزم .ولقد
135
Schacht. “Islamic Religious Law.“ p. 398
136
David Santillana. Instituzione di diritto musulmano malichita 1: 170-1
137
Schacht. “Islamic Religious Law.“ p. 398
116
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تجمد ﻫذا النظام الشرعي في النهاية ألن اإلجراءات المنهجية المستخدمة «ما كان بوسعها أن
139 138
تؤدي إلى حلول تقدمية للمسائل الفقهية» "
"أن المبادئ الشرعية في الشريعة اإلسالمية مبادئ وضعت مرة واحدة وإلى األبد في
140
القرآن والسنة ،وفي المبادئ الفقهية التي وضعها الشافعي".
وحين تقرأ بإمعان ال تغفل عن معانى الكلم من أول سطر مما جاء في الكتاب إلى آخره ،ينالك
تصور الكاتب لشريعة اإلسالم َّ
كأن واضعَها مبادئ وقوانين هو اإلمام الشافعي .قد ال ّ العجب كله
يكون األمر مثل الخبير األمريكي المتدخل في مائدة الحوار بخصوص الربيع العربي ،لكن للشأن
وللخطر العظيم الذي للقضية المطروحة مما يهم آخر رسالة هللا تعالى رحمة للعالمين ،من أجل
هي والوض ُع سوا ٌء.
ذلك ،بالتقويم المعاييري العلمي الرصين والفلسفي القويم ،فالخانة هي َ
إذا كان الشافعي – رحمه هللا!ّ -أول من صنف في ما أصبح يسمى بعلم األصول أو علم
أصول الفقه ،فليس مفاده أن "الرسالة" تتفوق أو حتى أن تصمد من حيث المقارنة مع ما صنف
صدق العلمي ، 141أنه ال ينبغي له الفصل عن حقيقة علم
غيره في نفس الحقل ،الذي بينا ببرهان ال ّ
الفقه .وفي هذا السياق بالذات ،قمنا بتحديد دقيق لمضمون نماذج محورية من هاتيك المصنفات
وضمنها مصنف "الرسالة" للشافعي ،فخلص عملنا التأصيلي هذا بتسديد وتقريب إلى تصنيف
فقرات "الرسالة" كما يلي:
" : 32..3البالغة والمنطق الشرط اآللي األولي لكل العلوم ،ومها سبقيته واستقالله.
00..33و 10..03علم الكتاب األساس المعطياتي إلنجاز الممارسة أو العملية الفقهية؛ فال
ي معنى بميزان ّ
الحق دون األساس المعطياتي المنطبق بعلم الكتاب ،ثم هو أ ّ تصور فقيه في
ّ يمكن
138
Ibid.. p399
139فجر العلم الحديث -ص311-310
140ن م -ص380
141خاصة في مؤلفنا" :إبطال فصل األصول"
117
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ي
ي العقل ّ 14-10-13االجتهاد :العمل بالحكمة والقياس مختزلة في 14ضمن ال ّ
شرط اآلل ّ
استنباط خالصة:3
مكونات شرطية وأساسية من الرسالة للشافعي ّ مكونات مس ّمى علم األصول توافقا مع مؤلف ّ
بالربانية{ :ولكن كونوا ربَّانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم
ذات علم الفقه المحدد تنزيال ّ
144
ي".الربان ّ
الربانية ،والفقيه هو ّ
تدرسون'}(آل عمران)78؛ فالفقه هو ّ
وأ ّما قوله بأسلوب العارف المتخصص الذي انتهى إليه علم الشأن ليصبح بدوره مرجعا ً
مكتبياتيا آلخرين بعده ،قوله " :وكان مبدأ اإلجماع عند الشافعي ﻫو ذروة مذﻫبه ،وﻫو مبدأ
يفترض أن األمة لن تجتمع على ضاللة ،ولذا فإن إجماع العلماء ملزم" فهو يزيدك وضوحا في
نهج إنتاج ﻫذه البحوث واألعمال؛ إن اإلجماع عند الشافعي في "الرسالة" إنما ﻫو إجماع
خبري 145واستعمل لفظ "القياس" ليدل به على مطلق االجتهاد ،كذلك فإنه قد استلزم السنة لنسخ
السنة ،وﻫذا تحكم بين مجانبته للصواب؛ فإذا كان العمل واإلنشاء المعرفي والمكتبي على مستوى
درس
الدﻫاقنة أي المستشرقين كما ميزه محمود شاكر" ،بأسلوب يدله على أن كاتبها قد خ َب َر و َ
وعرف وبذلَ كل جه ٍد في االستقصاء ،وعلى منهجٍ مألوف لكل مثقف أوربي ،وبأنه وص َل إلى َ
ﻫذه النتيجة التي وضعها بين يديه ،بعد خبرة طويلة وعرق وجهد وإخالص ،حتى ال يشك قارئ
والمبرأ من كلّؤ زيفٍ ،وأنه الحق
ّ صفى من ك ِّل ٍ
كدر، اللباب ال ُم َ
ُ في صدق ما يقرؤه ،وأنه ﻫو
142التسطير مني
143إعالم الموقعين -المجلد -0ص048
144إبطال فصل األصول -ص13
145انظر نفس المصدر -ص10
118
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المبينُ والصراط المستقيم 146".فإنه على المستوى الذي دونه ،مستوى ﻫذه المراكز والمؤسّسات
المسماة معرفية وعلمية ،تعتمد من بعد الشكلية والهيكلة المنهجية في العمل ،يعتمد على الكثافة ال
العملية فحسب ،وإنما المراجعية.
فإذا اتضح لك أن بنية الكتاب تقريرية بُعدﻫا األساس قانوني مؤسّساتي ،وأن ما اعتبر فضال
أسداه العالم والكاتب وبدا فيه معدن قلبه ونبله ،حيّزه درجة حرية البحث ،وحدوده عنصر
مكوناتي ال يهم أصحاب التخطيط ويخدمه أو يخدم غائيته وبراغماتيته ،فإن الذي ينبغي جرده ﻫو
سساتية" الذي أقيم عليه بناء ﻫذا التقرير:
الركن ل"المؤ ّ
السّؤال المنبثق حول المفهوم ّ
"فالعلم الجديد الذي يتكلم عنه نيدم علم شمولي ،أو ﻫو علم ال طائفة له ،أو معرفة يمكن لجميع
شعوب األرض أن تستخدمها .كذلك فإنه ال مراء في أن العلم العربي قد أسهم بقدر عظيم من
المعرفة الرياضية والمنهجية والعلمية لتطوير ما قد ندعوه اليوم علما حديثا شامال ،أي أدى إلى
نظام إلنتاج المعرفة التي تشترك بها وتضيف إليها وتستخدمها شعوب األرض كلها .147ولذلك
فمن حقنا (ومن المهم كذلك) أن نسال من وجهة النظر السوسيولوجية عن السبب الذي جعل
الحضارة العربية اإلسالمية تخفق في المضي في تقدمها نحو تطوير مؤسّسة الحداثة الشاملة ﻫذه.
وقد نضيف إلى ﻫذه النواحي من مشكلة العلم العربي ناحية أخرى .وﻫي ناحية تتعلق باإلﻫمال
الذي تعرض له العلم العربي حتى وقت قريب ،وإلى حقيقة كونه يقع على الخط المباشر المؤدي
إلى العلم الحديث .وﻫذا اإلﻫمال ال يشمل بطبيعة الحال كتاب جورج سارطن العظيم «مقدمة
لتاريخ العلم» ،ولكنه يشمل الكثير من األعمال المتخصصة التي تدعي التحدث عن تطور
تخصص معين من التخصصات العلمية كالطب مثال .ونالحظ في سياقنا الحالي أن بن دافيد لم
يقل شيئا في كتابه «دور العالم في المجتمع» عن دور العلم العربي ومساﻫماته (اإليجابية
والسلبية) في تطور دور العام في المجتمع ،بينما يعرف الناس منذ زمن طويل أن تدفق المعرفة
119
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
العظيم (من خالل ترجمة األعمال العربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر) ،كان قوة
محفزة كبر ى أدت إلى حركة ال مثيل لها لدراسة العلم في الجامعات األوروبية القروسطية .كذلك
فإن دراسة دراسة فيرن بُلُو عن تطور مهنة الطب 148دراسة تحتذى لوال إﻫمالها لدور العرب.
فهي تبدأ باإلغريق وال تشير إلى الطب العربي على اإلطالق ،بينما كانت جميع كليات الطب
األوروبية بعد القرنين الثاني عشر والثالث عشر مدينة بدين كبير للتراث الطبي اليوناني
150 149
والعربي ،وال سيما موسوعة ابن سينا الطبية «القانون» من بين أعمال كثيرة أخرى ".
إن الشي َء الذي بنى عليه ﻫذا العالم الباحث أطروحته في تقرير حقيقة طلب منه مؤسّساتيا
الحرية الذي يكفله التشريع والقانون للمؤسّسة كشخص اعتباري مستقلّ تقريرﻫا ،ﻫو شرط
ومسؤول؛ وﻫذا الشعاع المعلومة الصادر من الداخل ﻫو الذي يكلمنا بأنه ال حرية .وﻫذه حقيقة لم
يفت أوليفر ليمان أن يسطر عليها بقوة في كتابه "مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين"،
فيخبرنا بأسلوب استدراكي بليغ" :بل إنه ال يوجد إال معرفة سطحية أو اهتمام فاتر بالفلسفة التي
أفرزها مفكرون غير مسيحيين في الغرب ،وبخاصة فالسفة اليهود والمسلمين .ومع ذلك فبينما
يميل معلمو الفلسفة إلى عدم االهتمام بهذه األنماط من التفكير ،فإن الدارسين يبدون في الغالب
151
اهتماما بالغا ً بها»
وههنا بالذات وبالتحديد تنبري حقيقة كبرى ويشخص أمر ذات أهمية قصوى بوجود سفسطة
على نفس الحجم والخطر ،اعتبار وإتباع قيمة ما يصدر في الغرب لما يظهر وما بلغوه من القوة
المادية والتطور العلمي التقني؛ وهذا يستشعره األوروبيون وخاصة الفرنسيين إلى حد التحسر
المشوب بالغص ،في تقويم ما تنتجه أمريكا ،وبالنسبة لمن يحيى بالحقيقة الوجودية فاألمر ال
مراء أدعى للحيرة والقلق .إنها سفسطة قائمة على أن دليل وسلم القيمة الثقافية والفكرية وعموم
اإلنتاج هو باألساس الغلب العسكري واالقتصادي ،وهما بالطبع وخاصة األول هو الفيصل وقيمة
شرطه العلمي حقيقية مبصرة.
148
Vern Bullough, The Development of Medicine as a Profession (New York: Hafner,
)1966
149
Nancy Siraisi, Avicenna in Rennaissance Italy: The Canon and Medical Teaching in
Italian University after 1500 (Princeton University Press, 1987).
150فجر العلم الحديث -ص77
151مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين – ص41
120
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إنه من المفارقة ومن المستحيل ومن غير المنطقي إطالقا ً أن يزعم زاعم أن خلو ومنع
تصور هذا ،والموافق للموقف الحضاري والتاريخي المنظومة التشريعية اإلسالمية للمفهوم الم ّ
الغربي للمؤسّسية القانونية ،هو الذي منع المسلمين والعرب من المضي بالعلم الحديث؛ فكيف يا
ترى هو طريق اإلنتاج المنطقي االستنباطي لمجال روحه محاربة الحقيقة الوجودية والصد عنها،
تصور في كل المنطقيات البشرية الثنائية
صدق العلمي والمنطقي مبني عليها ،أنى له وكيف ي ّ وال ّ
وغير البشرية ،أن تكون هي المحتضن للعلم والحفظ على حياته وأسسه وشروطه ،في جو هذه
خالله ومحاربة الحقيقة الوجودية خليقته؟ ! ثم أليس سؤال بم يفسر ولماذا بلغ العرب والمسلمون
بالعقل والعلم البشريين ما جاوز تجريد اليونان إلى ترييض الطبيعة أو المجال االستخالفي ،فكان
بذلك الفتح المبين لما نسميه اليوم بالمنهج التجريبي أساس العلم الحديث ،لماذا تربعوا على عرش
العلم ال ينازعهم فيه ال الغرب الذي لم يخرج بعد من ﻫمجيته ،وال الصين وال بلغه في نبوغهم
فيه أﻫل يونان ،إنها قرون ليس من العلمية وال من المنطق وال من أي شيء مما ﻫو فيه داللة
العقل أو له عالقة به أن ال يطرح ﻫذا السّؤال!
الراﻫن:
إن ﻫذا ﻫو المفهوم الذي حددناه في معرض تحليلنا إلشكال أمتنا التاريخي ّ
َّ
إن األنانية وجعل كل الهم في خدمتها وللحفاظ على ذاتها ،يسلب االهتمام بالشأن الكلي والعام
القوة لكيان الجماعة واألمة والعمل من أجله .ومن أعظم اآليات على
الذي هو حيّز صناعة ّ
121
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"فهزمت السرايا من تجمع في ﻫذه الجهات من الفرس .وطلب أمراؤﻫا الصلح فأجيبوا ،ودفعوا
الجزاء معجال .ثم جاءوا إلى أبي عبيد 153بأنواع األطعمة المحبوبة عند الفرس ،فقال لهم :ﻫل
أكرمتم الجند بمثلها؟ فقالوا لم يتيسر ،ونحن فاعلون؛ فقال أبو عبيد« :ال حاجة لنا فيه؛ بئس
المرء أبو عبيد إن صحب قوما من بالدﻫم استأثر عليهم بشيء ،ال وهللا ال آكل ما أتيتم به وال مما
154
أفاء هللا إال مثل ما يأكل أوساطهم ».فليتأمل ال ُمسلمون كيف كان سلفهم رضي هللا عنهم".
وإنه لجدير بمن يهمه شأن األمة وعزتها وعقلها الجمعي الحق الذي يرضاه هللا ورسوله
صلى هللا عليه وسلم ،جدير وقمن به بأن يعلم أن الحجة التي رد بها القضاء األنجليزي في
الخمسينات من القرن الماضي ورفض السماح للمحفل الماسوني هو بالضبط هذا الشر الوبيل
ل"األنانية"؛ "قال رئيس المحلفين بشدة وحدة« :لن نحكم للماسونيين بما طلبوه؛ ألنهم يفكرون في
كيانهم فقط ،وال يعتبرون حال غيرهم مهما كان هذا الغير في حاجة إلى المعونة والمساعدة.
155
وأمثال هؤالء أنانيون وال يستحقون الحياة الكريمة».
152سياست نامه أو سير الملوك :نظام ال ُملك الطوسي (وزير السالجقة المشهور 507ه571-ه) ترجمة الدكتور
يوسف حسين بكار (األستاذ بجامعتي اليرموك وقطر) -دار الثقافة -قطر -الطبعة الثانية -6878-6508ص-75
71
153أبو عبيد بن مسعود الثقفي
154إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء – ص17
155اإلسالم وبنو إسرائيل – ص281-281
122
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وعليهم استفحاال ،وليس يحتاج للقضاء عليهم أو ليقضوا ﻫم على أنفسهم إال الخطوة األولى
بفصلهم عن الخالفة وتمكينهم من االستقالل وبصحيح القول وﻫم االستقالل!
)x=(x1,x2,x3 …,xn
فباعتبار اإلحداثيات (ا )xعناصر الكيان ،فإنه بهذه ال ِمعيارية الحقة ،ليس يوافق األقوى إال ما
كان فيه سريان وتحقق القياس األول ،وﻫو ال يحصل مع االستبداد الممثل ب ∞ ،kوال بعدم
يتصور من كمال االتحاد الغاية في الوجود
ّ اتحاد المقصود كما ﻫو في .k2وإذا كان أقصى ما
القوة الخارقة التي كان
قوة إدماج األجساد واألرواح .فهذا يفسر ّ والمقصود ﻫو اإليمان الذي له ّ
للرعيل وموكب اإليمان األول ،حتى اندﻫش أمامها كبار األبطال وعباقرة الجيوش.
لكن الذي وجب على العلماء والفقهاء أن يعلموه وﻫو من حقيقة الربانية أساس منهاج وشرعة
دين اإلسالم المجيد ملة إبراﻫيم حنيفا ،ﻫو أن شروط التكليف وأطوار االستخالف في التاريخ
موجبة للدراسة ليس ينبغي له الجمود نمطا واحدا ،فسنة التغيّر من سنن هللا تعالى في الكون،
وﻫي بالطبع من ذات حقيقة المستخلف فيه لينظر سبحانه وتعالى خلقه وعباده كيف يعملون؛ فهذا
{ولك ِْن كونوا َربَّانِيِّينَ ب َما كنت ْم ت ْعل ُمونَ الك َ
ِتاب َوب َما كنت ْم ﻫو كنه االستخالف وحقيقة الدينَ :
تد ُْرسُونَ '}(آل عمران)12
إن مجا َل االستخالف ،مجال عمران وتعمير األمة اإلسالمية وشهادتها ،مساير لمنحى التاريخ
في بنيته من البسيط إلى المركب ،وليس يبقى اإلنسان وحده ﻫو لبنة الكيان ووحدة البنيان ،ﻫناك
قوة وشدة ﻫذا الكيان غير عنصر البشر ،ﻫناك عامل العدة والسّالح،
عوامل فاعلة ومؤثرة في ّ
الذي بتطوره سوف يربو خطره على قيمة اإلنسان العسكرية .ومنه يستنبط اتساع شروط كفل
156
Normes usuelles
123
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
التفوق لتتضمن وتدخل في نظمتها كل مناحي االجتماع من اإلنسان إلى مصدر المال واالقتصاد
والسياسة وجميع ما ينتظم فيه ﻫذا الكيان ،حتى أصغر األشياء وأحقرﻫا من تنظيم األحياء وإنشاء
الحدائق والمنتزﻫات ،وﻫذه الصيغة أو الطور ﻫو ما نسميه بالطور المؤسّساتي ،المستمد منه
القوة المادية بسلطان سنة هللا في الكون ،وتمثيله ال ِمعياري ﻫو االمتداد لل ِمعيارية القياسية
قصارى ّ
أعاله المنطبقة مِ عياريا بكون مضلعين محدبين لهما نفس عدد األضالع ونفس المحيط ،المنتظم
فيهما ﻫو األكبر مساحة .ومن بين جميع األشكال المستوية ،الدائرة ومتعدّدات األضالع المنتظمة
المحدبة التي لها نفس المحيط ،الدائرة أعظمها مساحة .ومن بين جميع المجسمات المحدبة ،التي
لها نفس المحيط ،فالكرة ﻫي المجسم األعظم حجما.
فاالمتداد األ ْب َعادي واتساعه ﻫو الممثل ال ِمعياري لالتساع التركيبي لمجال االستخالف
والعمران؛ وﻫذا كله مبني عندﻫم بهذه ال ِمعيارية ال يهملون منه شيئا ،وﻫذا ما يفسر البون العظيم
بيننا وبينهم حتى أصبح من ﻫو من النخبة يقول إخبارا عن رحلته:
« وقد داروا بنا في ذلك الجنان على كبره ونحن نمشي على أرجلنا على أكثر من ثالثين محال
من ﻫذه المياه .كل محل في نوع .وما أكملنا حتى تعبنا ولم نر مثله في ﻫذه السفرة .وانضم إلى
ذلك ما غشينا ﻫناك من اآلدمي ،ينظرون إلينا ويتعجبون من ﻫيئاتنا .فقد كان يتبعنا ﻫناك من
المتفرجين أكثر من ثالثة آالف بين رجال ونساء ،والنساء أكثر ،زيادة على من لم يتبعنا منهم
حتى كنا نرى الجنان يموج بهم موجا ،وأينما ذﻫبنا تبعونا .وقد كان معنا نحو العشرين من
العسكر ،يفتحون لنا الطريق في وسط الناس ويدافعون عنا .ولوالﻫم لهلكنا من شدة االزدحام.
وقد أخبرنا ترجمان كان معنا أنه سمع امرأتين منهم تتحدثان في شأننا فسألتاه عم يأكل ﻫؤالء
الناس وﻫل أكلهم مثل أكلنا ،فأجابهما رجل كان يسمعهما بأنهم يأكلون اآلدمي ،وأن سلطاننا يهدي
157
لهم كل يوم امرأة يأكلونها ،فتعجبنا من ذلك».
"ولهم مدارس ومكاتب حتى في علوم الطبخ والغرس والبناء والزراعة ومعالجة النباتات
وإنتاج الحيوانات وغير ذلك .فكل ما يسمعونه أو يرونه أو يستنبطونه أو يبلغ إليهم علمه ،يتولونه
157ن م – ص77-78
124
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
158
وﻫذا النمط والمستوى كان قد بلغه العرب مر األيام".
في الدواوين ويحفظونه على ّ
159
والمسلمون في األندلس وغيرﻫا.
القوة ﻫو الكيان المنتظم في كليته ليس يهمل منه شيء.وإذا عرف السّبب بطل العجب .فسبيل ّ
وإذا كان االنتظام إنما يحصل بالعلم ،فليس نسق يحققه إال نسق المِ عيار الرياضي .ولذلك ﻫم
ُهولون لنا من خطر الماسونية إلى حد أنها العدو ويجعلون رمزﻫا البركار والكوس مقترنا بهذه ي ّ
ُسربون بروتوكوالت صهيون ليتلقفها األذكياء منا ،فيحذرون من االﻫتمام
الشيطنة كما أنهم ي ِ ّ
بالعلوم الهندسية والحساب ألن ذلك ﻫو غرض اليهود والماسونية حتى يصدوننا عن الدين وعن
ذكر اآلخرة!
ارجع إلى ما جاء في عمود الجامعة العربية مما سبق على لسان وسرد أكبر رموزﻫا وعقولها
الذين سهروا عليها ،وﻫو حين عرض ما عرض من تاريخها وقصتها لم يجعل مرجعه إلى ما
ينبغي اعتباره األولى ،ممثال في أخطر أمر يهم األمة التي من أجلها أسست أو من الطبيعي
والمفروض عن د العرب أنها أسست من أجلها ولغايتها ،وﻫي قوتها وأمنها ،وبالتالي فال قضية
عندﻫا أخطر من قضية فلسطين ،ارجع فلن تجد إال ذكرا للصراعات حول الزعامات عن يمين
وشمال بين األقطار واألحالف " .وال ه َّم لهم إال القضاء على شعوبهم وكبت كل حركة قوية
تظهر فيها ،وكأنهم قد رضوا باألمر الواقع ولم يبق إال أن يتبادلوا التمثيل السياسي مع
إسرائيل !".
ثم ارجع إلى تاريخ األقطار العربية منذ فخ االستقالل على محكم تدبير تجده تاريخ اقتتال
داخلي برهيب القمع واالغتياالت!
فهذا ال تفسير له إال الدالة االجتماعية ،دالة األنانية ،التي ﻫي مزاج االجتماع العربي بالتحديد،
صليبي واليهودي منذ أن أدرك القانون الخطير لعلمية التاريخ ،ال يبني والغرب المسيحي ال ّ
مخططاته إال على المنطق العلمي ،فهم يعلمون وموقنون بأن اجتماعا أنانيا أو دوال إن جاز
125
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وﻫنا ال بد لنا من اإلشارة إلى أمر ج ِ ّد ﻫا ٍ ّم ،وﻫو أن حديثنا وموضوعنا ﻫذا ﻫو على البعد
التاريخي والنسق التاريخي؛ ذﻫب النقراشي وظهر إبراﻫيم عبد الهادي؛ فالعلة المنطقية والحقيقية
ليست الشخص أو الرجل والرجلين ولو اجترحا ما اجترجا من الجرائم وﻫم ضمن نظام عملهم
وقمعهم مسؤولون ،إن ﻫم إال سريان اجتماعي للنظام الفاسد الذي يعملون بداخله .والعلة الحقيقية
ﻫي ﻫذا النظام وركنه أو أركانه التي يقوم عليها ،وﻫي ﻫنا االستبداد أو بالتعيين المزاج األناني
الذي يمثله العقل الفقهي السياسي .فالعلة األولى في قتل محمد الدرة بذلك المشهد المخزي
والمبكت لكل عربي ولكل مسلم ليس ﻫو الجندي اليهودي المأمور بقتله بالذات ،ولكن في العقل
الفقهي السياسي الذي ﻫو ركن ﻫذا النظام غير التاريخي.
وعلى ﻫذا الوضع أنجز لورنس العرب مهمته ،أينما والﻫم تولوا وحيثما ساقهم انساقوا؛ وما
أشر عليهم حينها من أنفسهم
أظن لورنس أقرب نفعا إلى العرب من األفغاني ،وما أظن الماسونية ّ
وما ربك بظالم للعبيد.
160المواقف في علم الكالم -عضد الدين القاضي عبد الرحمان بن أحمد اإليجي -عالم الكتب بيروت – ص3
126
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يقول محمد أسد -رحمه هللا تعالى رحمة واسعة! -بعد أن أبرز حكم عالقة المسلم بالعلم ،وﻫو
المقرر في صريح الكتاب والسنة ،بإيراد حديث النبي عليه الصالة والسالم الدال على
ّ الحكم
فرضيته وعظيم قدره" :من سلك طريقا يلتمس فيه علما ،سهل هللا له طريقا إلى الجنة" و"فضل
العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب" واألثر" :مداد العلماء أفضل من دماء
الشهداء" ،يقول رحمه هللا قوال يؤطر فيه بالذات معنى العلم أو المعنى الذي وجب أن يحمل عليه
مفهوم العلم:
صورة التي يخرج بها المرء من ﻫذه التعاليم اإلسالمية ﻫي صورة للحرية العقلية «إن ال ّ
الحرية التي تفسر لنا المنتجات الثقافية الخالدة للعالم اإلسالمي أيام كان المفكرون
ّ العظيمة – تلك
ال ُمسلمون يفهمون مسائل دينهم فهما أوفى مما عليه الحال عند معظم العلماء المسلمين في ﻫذه
161
الحقبة الحاضرة من التاريخ اإلسالمي التي قل فيها االبتكار».
«وال شك أن النبالة الموجودة في نفس اإلنسان والنجابة المتأصلة فيها جوﻫر أصلها من منبع
اإلسالم الذي له بصفاء عقائده قدرة عظمى على جمع البشر حول مثل عليا وأسس سليمة نبيلة.
لذلك نجد أن ديننا بخالف األديان األخرى انتشر بسرعة مذﻫلة ،وعم العالم في وقت قصير
من صحاري ﻫماليا حتى إفريقيا ،ومن ثمة إلى سفوح جبال بيرينيه .ومرد ذلك بال شك إلى تلك
األوامر القيمة التي يحملها بين طيات أحكامه الصيلة البعيدة عن الرﻫبانية والزيف والعقائد
ال َباطِ لة ،ولتلك األفكار الطبيعية المنطقية المعقولة التي حواﻫا ﻫذا الدين الحنيف ،وأقواﻫا
127
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
االعتراف بوحدة هللا سبحانه الذي ال شريك له في ملكه وال نظير ،وإنه بعيد كل البعد عن
162
األكاذيب واألضاليل ،فأثرت دعوته في الناس أيما تأثير».
وفي الموضوع ذاته ،ولوضوح ﻫذه الحقيقة العظيمة وذات الخطر الكبير ،لم يفت الدكتور
محمد عبد هللا دراز في بيانه حول الدين أن يبرز أﻫم ما ميز رسالة محمد صلى هللا عليه وآله
وسلم المنطبقة في خاصة قوته الطبيعية التجميعية الحضارية للبشرية في النسق الوجودي
التاريخي في مدى معجز ،آية شاﻫدة على العالمين في التاريخ:
«ثم ظهر اإلسالم في أوائل القرن السابع الميالدي .وما ﻫو إال أن تمكنت دعاته في سنة
الحرية خارج مكة ،حتى انتشرت بسرعة البرق شماال وجنوبا وشرقا ّ 266م من استنشاق نسيم
وغربا ،ولم يمض قرن واحد حتى سرت في أقطار أوروبا الغربية (إسبانيا وإيطاليا وفرنسا)
حاملة معها علوم اإلسالم وآدابه وتشريعاته ،مضافة إلى علوم اليونان وفلسفتهم ،ومضافا إليها ما
اكتشفه العرب وال ُمسلمون في رحالتهم من علوم الشرق وآدابه ،وما أفادوه ﻫم من تجارب
164 163
جديدة" ».
إن ﻫذا ﻫو التحقق للمؤسّساتية المثلى ،بمنهج الشريعة اإلسالمية بحقيقتها .وأول ما ينتقض من
عراﻫا كما جاء في الحديث الشريف بما وجب أخذه ال على معنى جبري بل قانوني ،أول من
ينتقض ﻫو الحكم ،ومنه تطغى وظيفة الفقيه (ركن شرعية الحاكم) على حساب عامل العلم
لركن كلما ازدادت الكيانات السياسية المتنافسة ،بل كذلك
العملي االستخالفي ،ويزداد خطر ﻫذا ا ّ
يصبح الفقيه رﻫين ما يرضاه رأي العامة إلى درجة تقرير "الحكام في الدويالت المتنافسة على
دين عامتهم" .ﻫذا إذن يفسر لنا ويصدق ذكر الكاتب لالستبداد السياسي وقوله" :والمؤرخون
متفقون على أن اضمحالل السيادة اإلسالمية في األندلس من الناحية السياسية يعود إلى
االضطرابات الداخلية 166".165ونتيجته االعتبار الطاغي غير الموزون بل المتحكم للفقه ولقداسة
128
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
التقاليد مما يرسخه سريانه بالنسبة للحضارة الصينية أو العوامل السلبية التاريخية في التجاوب
مع العلم الحديث .لكن األﻫم عندنا ﻫنا ﻫو مثال اليابان الحديث والمعاصر يزيد تأطيرنا لمفهوم
سكي مع العلم الحديث ،ذلك أن التم ّسساتية" العامل الحاسم في سؤال احتضان والمض ّ "المؤ ّ
والعض عليها بالنواجد ليس بمتعارض أبدا مع تحقيق المؤسّساتية الكلية العاملة لنفس
ّ بالتقاليد
الهدف من دون استبداد وال قهر للعباد ،ﻫذا النموذج الشاخص لألبصار بين المشرقين
والمغربين ،يبين بدليل الحقيقة الوجودية أن المنحى الحضاري الغربي بخليقته أو خالئقه ليس ﻫو
اإلمكان الوحيد لالتجاﻫات الحضارية العلمية والتكنولوجية األرقى تطورا وتقنية.
إذن فإذا تبين لك أن ﻫذه المؤسّساتية الكلية الموحدة بوحدة القضية والعمل من أجلها ،ﻫي
الجواب عن السّؤال الكبير الخطير الذي لم يفكر و ُح ِ ّر َم في مؤسّسات البحوث العلمية والجامعية
الغربية حتى إرادة طرحه :ما العامل في نشأة العلم الحديث وأساس المنهج التجريبي في حضن
الحضارة العربية اإلسالمية وسبقها العجيب للغرب والصين لمدة تقارب ثمانية قرون؟ فإن نفس
الشرط التكتلي والوحدوي حول قضية مشتركة مصيرية ﻫو العامل وﻫو مصدر ﻫذه الهبة
واالندفاع التاريخي الغربي كأن ال خيار له وال إمكان للوجود إال به ،وقد عبر عنه محمود شاكر
ب"الغضب":
" -١٠واآلن تستطيع أن تتبين اربع مراحل واضحة للصراع الذي دار بين المسيحية الشمالية
واإلسالم:
المرحلة األولى :صراع الغضب لهزيمة المسيحية في أرض الشام ودخول أهلها في
اإلسالم ،فالبغضب أ َّملت اختراق دار اإلسالم لتستر َّد ما ضاع ،تدفعها بغضا ُء حية متسامحة ،لم
تمنع ملكا ً وال أميرا ً وال راهبا ً أن يُمد المسلمين بما يطلبونه من كتب «علوم األوائل»،
التراب .وظل الصراع قائما ً لم يفتر ،أكثر من
ُ (اإلغريق) ،التي كانت تحت يد المسيحية يعلوها
أربعة قرون.
Press, 1965), pp, 86-91, and Thomas Glick, Islamic and Christian Spain in the Early
Middle Ages (Princeton University Press, 1979), pp, 46-50.
166فجر العلم الحديث -ص008
129
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المرحلة الثانية :صراع الغضب المتفجر المتدفق من قلب أوربة ،مشحونا ً ببغضاء جاهلة
عاتية عنيفة مكتسحة مدمرة سقاحة للدماء ،سفحت َّأول ما سفحت دماء أهل دينها من رعايا
البيزنطية ،جاءت تريد هي األخرى ،اختراق دار اإلسالم ،وذلك عهد الحروب الصليبية الذي
بقى في الشام قرنين ،ثم ارت َّد خائبا ً إلى مواطنه في قلب أوربة.
المرحلة الثالثة :صراع الغضب المكظوم الذي أورثه اندحار الكتائب الصليبية ،من تحته
مرة ثالثة بالسّالح
بغضاء متوهجة عنيفة ،ولكنها مترددة يكبحها اليأس من اختراق دار اإلسالم ّ
وبالحرب ،فارتدعت لكي تبدأ في إصالح خلل الحياة المسيحية ،باالتكاء الشديد الكامل على علوم
دار اإلسالم ،ولكي تستع ّد إلخراج المسيحية من مأزق ضنك موئس ،وظلت على ذلك قرنا ً
ونصف قرن.
وهذه المراحل الثالث ،كانت ترسف في أغالل «القرون الوسطى» ،أغالل الجهل والضياع .ولم
تصنع هذه المراحل شيئا ً ذا بال.
المرحلة الرابعة :صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينية ،يزيده اشتعاال وتوهجا ً
وقود من لهيب البغضاء والحقد الغائر في العظام على «الترك»( ،أي المسلمين) ،وﻫم شبح
ُفزع كل كائن حي أو غير حي بالليلمخيف مندفع في قلب أوربة ،يلقي ظله على كل شيء ،وي ِ ّ
وبالنهار .وإذا كانت المراحل الثالث األول لم تصنع للمسيحية شيئا ذا بال ،فصراع الغضب
المشتعل بلهيب البغضاء والحقد ﻫو وحده الذي صنع ألوربة كل شيء إلى يومنا ﻫذا.
صنع كل شيء ،ألنه ﻫو الذي أدى بهم إلى يقظة شاملة قامت على اإلصرار ،وعلى المجاﻫدة
المثابرة على تحصيل العلم وعلى إصالح خلل الحياة المسيحية ،ولكن لم يكن لها يومئذ من سبيل
وال مدد ،إال المدد الكائن في دار اإلسالم ،من العلم الحي عند علماء المسلمين ،أو العلم المسطر
في كتب أﻫل اإلسالم .فلم يترددوا ،وبالجهاد الخارق ،وبالحماسة المتوقدة ،وبالصبر الطويل،
انفكت أغالل «القرون الوسطى» بغتة عن قلب أوربة ،وانبعثت نهضة «العصور الحديثة»
مستمرة إلى ﻫذا اليوم".
"فبالبهمة واإلخالص والعقل أيضا ،كان ال بد لهم من أن يزداد الذين يعرفون اللسان العربي
ويجيدونه زيادة وافرة ،لجاجتهم يومئذ إلى أن يعتمدوا اعتمادا مباشرا على االتصال بالعلم الحي
130
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
في علماء اإلسالم ،لكي يتمكنوا من حل الرموز اللغوية الكثيرة المسطرة في الكتب العربية ،وال
سيما كتب الرياضة والجبر والكيمياء والطب والفلك وسائر علوم الصناعة التي قل من يعرفها.
فكان من األﻫداف والوسائل ،كما ذكرت قبل ،بعثة أعداد كبيرة ممن تعلموا العربية وأجادوﻫا
صة منإجادة ما ،تخرج لتسيح في أرض اإلسالم ،وتجمع الكتب شراء أوسرقة ،وتالقي الخا ّ
العلماء ،وتخالط العامة من المثقفين والدﻫماء ،تدون في العقول وفي القراطيس ما عسى أن
ينفعهم في فهم ﻫذا العالم الذي استعصى على المسيحية واستعلى قرونا طواال .يخرجون أفواجا
تتكاثر على األيام ،ويجوبون أرجاء ﻫذا العالم ،ويعودون إلتمام عملين عظيمين :إمداد علماء
اليقظة بهذه الكنوز النفيسة من الكتب التي حازوﻫا أو سطوا عليها ،وإطالعهم على ما وقفوا عليه
فيها ،باذلين كل جهد ومعونة في ترجمتها لهم ،وفي تفسير رموزﻫا بقدر ما استفادوا من العلم بها
= وأيضا إطالع رﻫبان الكنيسة وملوكها على كل ما علموا من أحوال دار اإلسالم ،وما رأوه
عيانا فيها ،وما الحظوه استبصارا .وكان أﻫم ما الحظوه أو خبروه ،ﻫذه الغفلة المطبقة على
أرض اإلسالم ،والتي أورثه م إياﻫا االستنامة إلى النصر القديم على المسيحية ،واالغترار بالنصر
الحادث بفتح القسطنيطية ،ثم سماحة أﻫل اإلسالم عامتهم وخاصتهم مع من دينه يخاف دينهم ،وال
سيما اليهود والنصارى ،ألنهم أﻫل كتاب وأﻫل ذمة ،وألنهم أتباع الرسولين الكريمين موسى
وعيسى ابن مريم عليهما السالم ،وألن دين أحدﻫم ال يسلم له حتى يؤمن باهلل ومالئكته وكتبه
ورسله ال يفرق بين أحد من رسله سبحانه = وأعلموا رﻫبانهم وملوكهم أن ﻫذا ﻫو الذي يسر لهم
أن يجوبوا في األرض غير مروعين ،ويسر لهم خاصة أن يداﻫنوا العلماء والعامة وينافقوﻫم
ويوﻫموﻫم بالمكر والمِحال أنهم طالب علم ال غير ،خالصة قلوبهم لحب العلم والمعرفة ،وهللا
عليم بالسرائر.
ومن يومئذ نشأت ﻫذه الطبقة من األوروبيين الذين عرفوا فيما بعد باسم «المستشرقين» ،وﻫم
أﻫم واعظم طبقة تمخصت عنها اليقظة األوربية ،ألنهم جند المسيحية الشمالية ،الذين وﻫبوا
أنفسهم للجهاد األكبر ،ورضوا ألنفسهم أن يظلوا مغمورين في حياة بدأت تموج بالحركة واغنى
والصيت الذائع ،وحبسوا أنفسهم بين الجدران المختفية وراء أكداس من الكتب ،مكتوبة بلسان
غير لسان أمتهم التي ينتمون إليها ،وفي قلوبهم كل اللهيب الممض الذي في قلب أوربة ،والذي
أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة اإلسالم ،ولكن ال ﻫَم لهم ليال وال نهارا إال حيازة
كنوز علم دار اإلسالم بكل سبيل ،تتوﻫج أفئدتهم نارا أعتى من كل ما في قلوب رﻫبان الكنيسة،
ولكنهم كانوا يملكون القدرة الخارقة أن يخالطوا أﻫل اإلسالم في ديارﻫم وعلى وجوﻫهم سيمياء
131
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
البراءة واللين والتواضع وسالمة الطوية والبشر .وبفضل ﻫؤالء المتبتلين المنقطعين عن زخرف
الحياة الجديدة = وبفضلهم وحدﻫم ،وبفضل مالحظاتهم التي جمعوﻫا من السياحة في دار اإلسالم
ومن الكتب ،وبذلوﻫا لملوك المسيحية الشمالية ،نشأت طبقة الساسة الذين يُعِدونَ ما استطاعوا من
عدة لرد غائلة اإلسالم ثم قهره في عقر دياره ،ولتحقيق األحالم واألشواق التي كانت تخامر قلب
كل أوربي ،أن يظفر بكنوز الدنيا المدفونة في دار اإلسالم وما وراء دار اإلسالم ،وﻫم الذين
عُرفوا فيما بعد باسم رجال االستعمار"...
وليس يسعنا هنا إال أن نغلف هذا الكتاب واألطروحة التي طلب أن يتضمنها ويقررها بهذه
الحقيقة التساؤل اإلطار لجوستاف لوبون:
ال شك أنه بإمكاننا في الحكم وإعطاء قيمة وتقويم ألطروحة توبي أ .هيف أو هو مطلوب منه
تقريرها ،برد عامل السلب الحتضان العلم الحديث عند المسلمين هو المؤسّساتية ،أو بقصد
مباشر ،هو إإلسالم شريعة وبالتالي اإلسالم ديناً ،وهذا هدف األطروحة ،بإمكاننا االقتصار على
الركنين والمناطين:
البنية المختزلة في ّ
الركنين معا ﻫو إشكال معرفي في طبيعته ،لينفصال إلى وما من شك أن إشكال الباحث مع ّ
إشكال مفهومي وآخر معلوماتي ،ثم معا إلى طبيعة معلوماتية منطقية يبنى عليها؛ وكال المعطيين
والمرتكزين ال يصح .وإذا كان شاﻫد التاريخ شاخصا ال يكذب ،وال يمنع صد المؤسّسات العلمية
الرسمية عن طرح تساؤله التقريري واستفهامه اإلنكاري ،سؤال العلل األرسطية والتعليل،
132
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ومنها" :كيف" وبم" كانت قرون ذروة العلم والعقل البشريين على يد العرب ،ويريد عقل السّطو
أن يردمها باختالق كالم واصطالحات ترددﻫا األفواه الناعقة بما ال تفقه قولهم" :القروسطية"
و"الكالسيكية"؟ فإنه يكفي ﻫذه الكلمة الجامعة التي سقناﻫا آنفا ،من رجل من أﻫم رجاالت القرن
العشرين إن على المستوى العلمي والفلسفي أو السّياسي العملي ،محمد أسد ،والذي وصف
بالرجل الباحث عن الحقيقة:
صورة التي يخرج بها المرء من ﻫذه التعاليم اإلسالمية ﻫي صورة للحرية العقلية «إن ال ّ
الحرية التي تفسر لنا المنتجات الثقافية الخالدة للعالم اإلسالمي أيام كان المفكرون
ّ العظيمة – تلك
ال ُمسلمون يفهمون مسائل دينهم فهما أوفى مما عليه الحال عند معظم العلماء المسلمين في ﻫذه
168
الحقبة الحاضرة من التاريخ اإلسالمي التي قل فيها االبتكار».
فال شك أننا أو أن الكاتب صاحب أطروحة "فجر العلم الحديث" هو في حقل ركن المجهولية
الذي أشار إليه ألي كسي جورافسكي في كتابه "اإلسالم والمسيحية" بقوله:
"ولكن الموضوعية تقتضي أن نعترف بحقيقة أن السياق الداخلي االجتماعي -الثقافي للعالم
العربي اإلسالمي ،أي ذلك السياق (أو الوسط) الذي أبدع في إطاره العلماء والفالسفة المسلمون،
ممن أصبحوا أساتذة ومعلمين ألوروبا بالقرون الوسطى ،بقي من حيث الجوهر مجهوال حتى
بالنسبة للعقول األكثر استنارة واألرقى تعليما في ذلك العصر ".
170 169
الركن المجهوالتي المشروط بعدم طرح السّؤال ال ما يكون من معهودوبالطبع ومع هذا ّ
صور
العوائق المعرفية كما سطر عليه جورافسكي ،من جهة أخرى ،فليس ينحصر مجانبة الت ّ
الصحيح لإلسالم من حيث علله في العامل المفهوماتي محض الداللي ،بل غالب علته تبعيته
للشروط السياسية من حيث الوحدة واالنقسام والقوة والضعف أوال ،ثم من حيث خصائص
تصور في المؤسّساتية
وشروط الكيانات .فاإلسالم دينا في نظمته القانونية لهو أعظم وأوسع ما ي ّ
الحرية .وهذا وحده المفسر لما تحقق بوشيعته التاريخية من توسع خارق
ّ وما يكفل بها من مجال
من جبال البرانس في أوروبا إلى جنوب شرق آسيا ومن فتوحات علمية من أعلى ما تحقق على
133
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المستوى النظري خاصة في الرياضيات إلى بسط المنهج التجريبي بترييض للطبيعة 171كان
منطلقا ً مباشرا ً للعلم الحديث .يقول دونالد ر .هيل في كتابه "العلوم والهندسة في الحضارة
اإلسالمية":172
"بدأ انتشار اإلسالم خارج حدود الجزيرة العربية في عام ٠٣٤م بغزو سوريا والعراق في
حمالت عسكرية كبيرة ،وتغلبت هذه الجيوش على أعدائها في بيزنطة وفارس ،وساعد على
نجاحها إنهاك قوى اإلمبراطوريتين بعد حرب طويلة بينهما وعداء األهالي – في سوريا ومصر
والعراق -لمستعمريهم .وسرعان ما أصبحت هذه الحمالت العسكرية حروبا تحقق فتوحات
مستمرة بفضل الرغبة العارمة في النصر من جهة ،والحماس الديني الصادق من جهة
173
أخرى".
هذا هو الشرط األساس ورأس األمر كله ،وحدة القضية ووحدة العلة الوجودية ،والمميّز
الخاص لها من دون علل التكتالت االجتماعية والكيانات السياسية هو أنها متجاوزة عن كل ما
هو أرضي من العرقية والقطرية واألدلوجية ،إنها رسالة كونية تسمو على كل ذلك ،وهي بذلك
صدق واإلخالص؛ هذا وحده كذلك هو المفسر لقوة كيانها األقوى واألدعى لتحقق أعلى درجات ال ّ
المعجزة الخارقة .ثم يتم تعيين مراحل مكونات وأسس هذا االجتماع السياسي التاريخي:
"لقد كانت هناك أوال فترة ضرورية لالندماج قبل أن يؤتي تراث المعرفة العلمية والتقنية في
البالد ،التي فتحها المسلمون ،ثماره في المجتمع اإلسالمي الجديد ،فقد كان العرب منذ الفتوحات
المبكرة وحتى نهاية الخالفة األموية معنيين الشؤون العسكرية ،وبتهدئة األوضاع في البالد التي
دخلوها ،وبإرساء النظم اإلدارية والمالية والقانونية .وشكل العرب الفاتحون نخبة حاكمة لتسليم
المنح المالية واالمتيازات األخرى ،التي كانت محرمة على الموالي حتى بعد أن أصبحوا
مسلمين ،علما بأن التمييز في هذه الحالة يتعارض مع تعاليم القرآن [الكريم] .وأصبح اإلسالم
بالتدريج عقيدة األغلبية .وحلت اللغة العربية محل اللغات المحلية في كل مكان ،عدا إسبانيا
وإيران ،ولو أن اللغة العربية ،حتى في هذه البالد ،أصبحت وسيلة االتصال بالكتابة وظلت كذلك
171وجب اعتبار كل العلوم التجريبية من الكيمياء وعلم الحيل والبصريات والفلك والطب ونحوها ،ضمن شبه
ترييض الطبيعة
172
Islamic Science and Engineering By Donald R. Hill- Edinburgh University Press3331
173العلوم والهندسة في الحضارة اإلسالمية تأليف :دونالد ر .هيل ترجمة :د .أحمد فؤاد زكريا باشا -عالم المعرفة
121يوليو -0224ص00
134
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لعدة قرون .وكان العرب دائما أقلية صغيرة بين سكان الدولة اإلسالمية ،لكن أعداد العرب
الخلص تناقصت مع تزايد الزواج والمصاهرة ،بينما تحسنت أوضاع الناس العاديين تدريجيًّا،
الرغم من بقاء الفروق العرقيةوأصبحت دولة العرب «عالم اإلسالم» المتجانس تماما ،على ّ
واللغوية ،ووجود أقليات كبيرة من المسيحيين واليهود وجماعات دينية أخرى ،وانقسام المسلمين
أنفسهم إلى طوائف وفرق دينية ،أﻫمها السنيون التقليديون والشيعة أتباع [اإلمام] علي ابن عم
الرغم من التفكك السياسي ،كانواالنبي صلى هللا عليه وسلم .ومع كل ﻫذا ،فإن المسلمين ،على ّ
كيانا حقيقيا تجمع بينهم روابط الدين واللغة.
كان ﻫناك وضوح تام إبان القرون األولى للحضارة اإلسالمية بالنقل عن اإلغريقية واللغات
األخرى ،وتجددت السّمة العالمية للحركة التي احتضنت المعرفة العلمية وغذتها برعاية «الخلفاء
العباسيين» العظام ،الذين اﻫتموا بتكامل اإلنجازات الثقافية للشعوب التي أخضعوﻫا ،وتحول
العديد منها إلى اإلسالم ،واعتبروا ﻫذا التوجه بمنزلة رسالة مركزية لساللتهم الحاكمة .وقد عكس
ازدياد الرعاية المنتظمة للترجمة خالل ﻫذه العهود استراتيجية الخلفاء ووزرائهم لألخذ بأنفع
العناصر من الثقافات السابقة على اإلسالم ،باعتبارﻫا حاجات ضرورية ملحّة ،وكان لألثرياء من
174
الطبقات العالية في المجتمع دور في تشجيع ﻫذه األنشطة".
إننا ﻫنا بصدد أطروحة عكسية نقيض تماما بالمعنى الكامل للعكس والنقيض ،لمهندس عامل،
حاصل على دكتوراه الفلسفة في الدراسات العربية ،175موجه بتوجيه مخصوص ب"مؤرخ
التقنية المرحوم لين وايت األصغر ."176أطروحة ﻫي إلى حد ما تفصيل لما جاء مجمال في كلمة
حرية.
محمد أسد :أعظم وأوسع ما يكون في المؤسّساتية الحضارية كافلة لما ﻫو في سعتها من ال ّ
ثم ال بد لنا من التعقيب أو التنبيه على مقالة جاءت عند الكاتب مما جعله متناقضا وما يدعو
إليه القرآن الكريم والسنة النبوية من أن المسلمين سواسية كأسنان المشط .فإذا كان الشرط الذي
به تم الفتح ﻫو اإلخالص وصدق العمل والنهج ،فما يرى ما ذكره الكتب سوى معالجة ونهجا
مرحليا ﻫندسيا في التدبير والسياسة؛ وذلك ما يدل عليه ويؤكده نفس ما أثبته من المصاﻫرة؛ فهذا
ينفي التعليل للغاية من التعامل والمعالجة األولى ،نعني التعليل بالمخالف لتعاليم اإلسالم الحنيف،
174ن م – ص01-04
175ن م -ص30
176
Lynn White Jr
135
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
136
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تمس قيمة دعوى التفلسف والتعالم ،ال تقلّ إن لم تكن ّ وحقيقة أخرى من الحقائق الخطيرة التي
أخطر مما اتضح أمره من عملية السّطو التاريخي للبراءات العقولية ،ولعلوم عليا كما ال ّرياضيات
صناعي العظيم -مما س ّماه صعود التاريخي ال ّصة ال ّ وعلم الحيل والفلك والكيمياء -بالطبع ألنها من ّ
الدكتور محمد ياسين عريبي على حقيقته كما سيأتي تفصيله ب"تغريب العقل التاريخي العربي
اإلسالمي" ،من هذه الحقائق النفي التاريخي ألعظم مفكر سياسي ،أبي نصر محمد بن محمد
ي في التاريخ البشري المؤرخ .وإذا كان كتا َبا الفارابي ،الفيلسوف الكامل ،الذي لم يعرف له س ّ
"الجمهورية" و"الشرائع" تحدي ًدا ،ي ُّبوئان أفالطون المنزلة التي له في تاريخ الفلسفة والفكر
اإلنساني ،فالذين َيجمعون حين يذكرون "المدينة الفاضلة" يجمعون بين الحكيمين أفالطون
تصور ،يذهبون في العسف كل والفارابي ،كأنه نفس البناء في نفس المساحة من الفكر بذات ال ّ
مذهب ويركبون الشطط في جناب الحقيقة .ولو شئنا أن نميّز بينهما بسبيل من البيان مبسّط ،لقلنا
مجرد آراء في المدينة في الفاضلة عند أفالطون بمعنى معجمي أولي حقيقي ،بينما ّ بأنه فرق بين
عند الفارابي "آراء اهل المدينة الفاضلة" هو بمعنى األحكام والقوانين والتشريع ،وهو بالذات
المعنى الذي عنده ل"الملة".
لنحسم ابتداء حتى يكون األمر واضحا ً ،نقول بأنه إذا كان أرسطو إثر أفالطون قد امتد به
الرد على
المسار إلى المنطق ،ولم يجد القديس أوغستين بدًّا من تحرير رسالته "التثليث" 177في ّ
الهراطقة والمرتدين ،وفاق نظمة قاموسه ومنظاره ،ويقال إنه استغرق في إنجازها بضع عشرة
سنة ،فإن محم ًدا بن محمد الفارابي جاءت فلسفته أو قل تفلسفه وتفكيره ،كل أولئك ،جاء بناء
متسقا ً متكامال مستوفيا ً أعلى ما يكون به مفهوم العلم والنظرية ،من بُعد النفس اإلنسانية إلى بعد
الدولة كيانا ً لالجتماع اإلنساني .وليس يقتصر هذا السم ّو الفلسفي المنطقي في جانبه أو بعده
الطبيعي والمادي ،فهو بذاته منطقا ً يبلغ الحقيقة الوجودية ،فينتظم األخالق والسّياسة ،وليُصاغ
الفكر السّياسي والنظرية السّياسية ،ال في حدود القاموس اليوناني [الجمهورية ،الديمقراطية،
177
De trinitate
137
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
سياسة الجاهلية،االستبداد ،]..بل بهذا القاموس الجليل[ :المدينة الفاضلة ،الرئاسة الجاهلية ،ال ّ
المدينة الفاسقة ،المدينة المبدلة . ]..وإن كنت أهال إلبصار مفاصل البيان والخطاب ،ووقفت
حقا ً على مبلغ بناء الفارابي وفكره ،فإنك لن تمارى إذا نظرت إلى الهيكلة المنطقية ،الموصولة
أتأرت النظر وأمعنت ،ألفيت فلسفة بالمطلق ،الهيكلة التي قائم عليها هذا البناء كله ،إن أنت ْ
ومقال الفارابي جميعه كله شجرة واحدة ،وإلى هذا التعيير أو المعيارية البنيوية للفكر السّياسي
ولقاموسه على نور هذا االنتظام -وهل شيء أعظم من الحق انتظاما ً؟ وهل أهدى إلى الحقيقة
الوجودية وأدل عليها من الفلسفة الحقة؟ -لرأيت كما الظل إلى الشجرة أن االمتداد المتصل لفلسفة
التسامي 178إليمانويل كانط ينطبق ببناء الفارابي انطباقا ً ولتراءى لك أمر سؤال أو (تفلسف!)
ميشال فوكو ،سؤال وتفلسف نظام الخطاب والحقيقة الوجودية ما إشكاله .ومنه بالضبط ،أي حين
ي تفلسف دونه ،منه يعرف ما قدر وما ح ّد نلتزم ونتحاكم إلى المنطق المتسامي ،وال قيام لوزن أل ّ
"اإلنسان األعلى" لنيتشه.
فما من شك أ َّن الذي يضع محم ًدا الفارابي موضعًا واصفا ً بناءه الفلسفي السّياسي بالطوباوية أو
الكالسيكية أو المثالية ،ممسو ًحا بالوثنية والغنوصية والفيضية وما إلى ذلك ،هؤالء أح ُد رجلين،
دثاره هو غطا ُء االستشراق
صليبية ،وهذا ُ رجل َيخدم قومه على جبهة الحرب الحضارية ال ّ
ح ُمعَ َّم ٌد في كنف الحوض الجامعي االستعماري المؤسّس والمحتضن لتكوين بالذات ،أو َم ْمسُو ٌ
ى ،وما له من اعتبار ما إال من جهتهم ،وما له من نخبة المستعمرات ،صنع ليكون ُم َر ِ ّد ًدا صد ً
تقويم وال هو بنائل إال في حوضهم.
أليس الذي يرى سبيال للعقل البشري لإلمساك بالكون المادي هو توحيد أبعاد القوى الطبيعية
أو القوى الفيزيائية األربعة 179فيما ينضوي تحت ما أضحى يعرف ب"نظرية كل شيء"؟
يرا بالنسبة
أليس هذا التوحيد في حصوله هو المستوى التفسيري الذي ال مستوى يعلوه تفس ً
للمخلوق ،وال صورة أوضح منه للحقيقة ،ولذلك لن تكون صيغته إال صيغة رياضية ،ألن العقل
نظرا إلى الكون؟
بمنظار توحيد القوى استحال عقال أعلى مما في إمكان البشر ً
178تم استبدال التسامي-عنصرا أصوليا ً في البيان الفلسفي العربي اإلسالمي -بالتسامي بعد القراءة المتأخرة
والمستجدة لكتاب االستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي
179الجاذبية ـ الكهرومغناطيسية -قوى التفاعل القوي التي بها ترتبط وتنصهر وتتماسك البروتونات والنوترونات
مكونات النواة) -قوى التفاعل الضعيف على مستوى الظاهرة اإلشعاعية كانشطار النوترون. ( ّ
138
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"كثيرون هم أولئك الدارسون الذين يُعيدون قراءة فلسفة الفارابي العا ّمة ألغراض عديدة،
وبضمنها الغرض الذي يروم تجلية المكانة التي تحتلها السّياسة (الفلسفة المدنية) في هذه الفلسفة،
وكذا الكشف عن أصول نظريته السّياسية وتجلية مظانها وأبعادها ،وسعوا في هذا السبيل إلى
قلب الرؤية التقليدية الرائجة التي كان يُنظر خاللها إلى الجانب السّياسي في فلسفته ،عندما كانت
مجرد
ّ تؤول غالبا ً بوصفها أجزاء مبعثرة مضمنة في كتبه الكثيرة ،ومن أنها ال تمثل أزيد من
جزئية ملحقة لبقية الفروع األساسية في فلسفته العا ّمة ،أو أنها تابعة لمباحث اإللهيات والطبيعيات
والمنطقيا ًت ،أي بوصفها من توابع الميتافيزيقا أو نتيحة ال زمة لها.
إن ما دفع الباحثين في فلسفة الفارابي أن ينزعوا هذا المنزع ،وقوفهم على حقيقة أن أغلب
كتبه تبدأ بمقدمة في مسائل اإللهيات ،ثم تعرض فيما يلي ذلك الموضوعات المتعلقة بالغاية التي
من أجلها الف الكتاب .أما في حالة كتاب الملة فهو وإن لم يسلك في مبتدئه بحث موضوع
اإللهيات ،فإن القصد عنده في هذا الكتاب من الممكن أن يُفسّر بأن الفارابي لم يقصد البحث في
العلم المدني السّياسة على الخصوص بقدر ما أراد البحث في األصول التي يُبنى عليها تركيب
180
المدينة الفاضلة والسّياسة المدنية والمنهج الذي استخدمه في الكتب".
إ ّن هذا الحكم بالذات هو الدليل القاطع كون المنظار المنطبق بالعقل الصادر عنه َ
غير مالئم
األرض ،وذلك لعدم تحقق التوافق من حيث
اوات و ْ وقاصرا قطعا ً وما كان له سدا ٌد ما دامت ال َّ
س َم َ ً
180فلسفة الفارابي السّياسية "دراسة في عالقة الفيض بالعلم المدني" -ضرار علي بني ياسين -دراسات ،العلوم
اإلنسانية واالجتماعية ،المجلد ،40العدد -0231 ،3ص3
139
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ما هو الموضوع وحامله أو مستواه ،فشتان ما بين اعتبار البعد المعرفي من غير البنية المنطقية
إال تضمنا ً ،واعتبار هذه البنية جوهر التفلسف والمقول .وإن مثلهم هنا في هذا السّؤال والبناء
الرياضي أو الفيزيائي أن ينطلق دوما ويُعيد
الفارابي كمن يعحب أو يتساءل لم يلجأ أو يتكلف ّ
االنطالق من األساس المرجعي ووجوب اإلشارة إليه.
"إنهم حين أوصدوا الباب دون التأصيل العقلي والشرعي للعمران اإلنساني بكل أبعاده من الفرد
حتى الدولة مرورا بالمجتمع عند الفارابي بأن س ّموه تصوفا عقليا (هكذا بهذه المفارقة البيانية
مكونات الخلق اإلسالمي واإليماني كالزهد فجعلوه العجيبة) وقد أوصدوا وفعلوا ذلك أيضا ً ببعض ّ
صوفي ،وهم يعرفون حق المعرفة أن الفارابي لم يكن يريد هذا الذي يلبسونه إياه داخل اإلطار ال ّ
وما عناه ،وإنما هو محض التأصيل الفلسفي في أعلى درجاته ،الدرجة العقلية البحتة الخالصة،
ألنه بناء وعلم سياسي ظاهرة صبغته بقاموسه الشرعي حين يتكلم عن الدولة الفاسقة والدولة
الجاهلة ،ويجعل الرئيس ليس باإلرث والوصاية ولكن بالخيرية الدينية والعقلية .إنهم يريدون
األرضي الجاهلي كما س ّماه الفارابي -رحمه هللا! -نظام أسس الخلدونية والهوبزية ترسيخ النظام ْ
والمكيافيلية .إن هذا لهو السر الحقيقي الباطني ،ولكن أكثر النَّاس أرضعوا لبان الذيلية فهم في
ذيليتهم مستذلون ولكن ال يشعرون ،ال يريدون أقوم السبيل الحضاري .ولزوما وحجة ال مندوحة
عن إيراد اإلجمال التأطيري الكلي للفارابي حتى أنه لم يذر صنفا ً من هؤالء الجهلة المركبة
جهالتهم سواء من الذين يحاربون هللا ورسوله كما في مصر وهم يزعمون أنهم على نهج السلف،
وإنما هم خدام الشيطان ولعبادة الملوك ،بئس الشاكلة ولبئس ما يصنعون ،ولهؤالء المتفلسفة الذين
صة ،أرادوها يفترون على أعالم الفلسفة في التاريخ البشري ككل والمسلمين المؤمنين منهم خا ّ
ترابية إلحادية ،أصبحوا اتجاه الفلسفة الحقة كمثل 'حاميها حراميها'؛ بين موضعهم من اإلعراب
181
في الحق وفي الفلسفة الحقة"
صال
الرجلين الجليلين (الفارابي وابن سينا) فضل هللا تعالى العزيز الوهاب حتى أ ّ "هذا ما بلغ ب ّ
لعلم النفس وعلمي االجتماع والفكر السّياسي بالقاموس الشرعي وألفاظ القرآن والسنة ،فتجد فيه
ألفاظ التقوى والفضيلة والرذيلة والدولة الفاسقة والدولة الجاهلة والدولة المبدلة؛ فلما جاءهم
182
التفكير الفلسفي والعلمي في أعلى درجاته وذروته قالوا هذا تصوف عقلي"..
140
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"وإن مثل 'أراء أهل المدينة الفاضلة' وعلم السّياسة وعلم االجتماع وعلم النفس ومتشعب العلوم
كلية نظريها وعمليها ،كمثل ذرة بور في العلوم الطبيعية كلية .ولما جاءهم ذروة وأكمل ما يكون
في تأصيل ورد النظم السّياسية واالجتماعية والنفسية إلى الكتاب والسنة قالوا هذا تصوف وفلسفة
مشرقية -وهم قد اختلفوا في تحقيق اللفظ أبالقاف هو 'مشرقية' أم بالفاء 'مشرفية' -ولما رأوا أن هذا
التأصيل والبناء أتى على أتم االنتظام المنطقي وسقط في أيديهم قالوا هذا 'تصوف عقلي' وما
183
ينبغي للتصوف عقل".
الرياضيات قانون ،والمنطق قانون ،والقواعد العلميةصبغ القانوني لبناء الفارابي -و ّإن هذا ال ّ
الطبيعية قانون -ال يدحضه كيد وال يضع عليه يده طمس وال يحجبه جهل الناعقين صدى
صبغ علمهسافر على العقل العربي اإلسالمي ،أقول هذا ال ّ
صليبي في عدوانه ال ّ االستشراق ال ّ
أعظم وأوضح في مفهوم "الملة " بجوهره الداللي القانوني ،مفهوم "الملة" من حيث موقعه في
المسار البياني من جهة 184وفي مركزيته من جهة ثانية .وهذه المركزية بالذات هي التي يفسّر
بها هذا القول وبهذا العنوان الحقيق:
سياسة المدنية
«الفلسفة وال ّ
لقد أعطى الفارابي من دون شك لفلسفته طابعا سياسيا ً خاصاً ،فقد كان للنظر السّياسي فيها ٌ
أثر
بيّن وجلي ال يُخطئه الباحث المتعمق في هذه الفلسفة ،حتى إنه ليتعذر على الدارس فهم هذه
صة" ،وكأن هذه النزعة المسيطرة الفلسفة بمعزل عن دراستها في ضوء نزعتها السّياسية الخا ّ
على فكر الفارابي وتوجهه تخضع القضايا الفلسفية األخرى لها" ؛ وذلك ألن الغرض الذي
185
غرض سياسي ،وإنه ال يمكن وفقا ً لهذا المقتضى منٌ يحرك فلسفته كلها ،كما يبدو ،إنما هو
صحيحة فيها ما لم ينظر إليها من هذه الناحيةاالعتقاد فهم هذه الفلسفة على أصول النظر ال ّ
السّياسية» ".
187 186
183ن م – ص031
صة ص402
184انظر :تحقيق مفهوم 'الملة' عتد الفارابي /د .طه عبد الرحمان في الميزان – ص ..410وخا ّ
185الفاخوري ،حنّا ،خليل الجر ،تاريخ الفكر السّياسي عند العرب ،ص -128المرجع-
186المرجع السابق نفسه ،ص -123المرجع-
187فلسفة الفارابي السّياسية "دراسة في عالقة الفيض بالعلم المدني" -ضرار علي بني ياسين -ص0-3
141
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
أمكن إلى حد القطع بلوغ أوضح للمعنى الذي يراد باستبدال بغاية قوله "ما لم ينظر إليها من
هذه الناحية السّياسية" "ما لم ينظر إليها من هذه الناحية القانونية" .بل ليس يقف األمر عند
صي والسّكوني ،فالكلية في النظر المواضيعي المشاكلة المتبادر من معنى المنطقي والقانوني الن ّ
ألقصى التوحيد للعوامل 'القوى الفيزيائية' في صيغة جامعة موحدة ،وتحديدا ً في التوحيد بين
السّياسة واألخالق ضمن المنطق الكوني ،هو في واقع األمر استجالء غير مسبوق وال لحقه فيه
صريح ،استجالء ما عبر عنه على اختالف أح ٌد من بعده من حيث التفكير الفلسفي والسّياسي ال ّ
ودرجات متفاوتة من التعيين ب"اللوغوس" روح الكل المنطقي والقانوني ،الكل المتراكب من
خاطرة النفس إلى منحى التاريخ البشري والكوني .ومنه ال نظرية وال مستوى قادر أن يعطي
أوضح ما يكون لسؤال الحقيقة الوجودية لميشال فوكو إال هذه البنية الكليةـ بناء الفارابي الفلسفي
تصورا ً إال بيانيا ً بين الفلسفي والسّياسي كونهما في صيغة ّ السّياسي -بغير وال جواز الفصل وال
قانونية واحدة وموحدة ،وذلك في امتداد على نموذج المنطق السّيكولوجي كما طرحه وب ّينه
إدموند هسّرل مما سنعرض إليه بعد حين:
صعود في التنظيم ّ ال هرم في درجة به يريد الفارابي «والدّليل على أن المعنى للملة عند
شروط الطبيعية ،وكلية االستيعاب لجميع أطوار االجتماعي اإلنساني يكفي فيه اعتباره ُمطلقية ال ّ
التكوين لالجتماع اإلنساني من الطرف األصل ل ُمستوى الخلق ،بل من مسار التنزل للخلق والتدبير
األرضُ ،مستوى بدء التكوين للبشر عنصر االجتماع اإلنساني الثقافي من السّماء إلى ْ
188
واالستخالفي والحضاري».
فرضي نظريّاتي في ترابُط تا ّم مع النموذج الفلسفي ص ٌر ينتمي إلى قاموس بناء َ «مفهو ُم الملّة عُن ُ
صوص والكال ُم ج هيكلي لكل ما نطق به وحوته مقاالتُه وجمي ُع النّ ُ ي للفارابي ،وهو نموذ ٌ العقل ّ
ٌ
ال ُمسطر في كتبه؛ هَذا المفهومُ ُم ْر ََ كَز من المرتكزات الحاملة والممثلة لكل هذه الفلسفة ،فلسفة ّ
صة المميّزة للبناء ضايا النّظر الفلسفي ،وهو دليل التّرابُط الخا ّ تصوره لكل ومجموع قَ َ الفارابي و ّ
صة قيا َمه الهيكلي وتماسُكَه .«189 العلمي ،خا ّ
ّ النّظري
األولين واآلخرين عن تأصيل للحقيقة ولنظام خطاب م ّما عرض إنك لو ذهبت تبحث في كتب ّ
لهما فوكو بتحفظ ظاهر ،عرضًا تحت حجر خطابي ،فلن تجد له تأصيال كليا بالمنطق الكوني إال
في نظرية الكل للفارابي:
تصورها اإلنسان أو ّ ي أن إما الفاضلة المدن ورئاسة والسعادة ومراتبها «ومبادئ الموجودات
تصورها هو أن ترتسم في نفس اإلنسان ذواتها كما هي موجودة في يعقلها وإما أن يتخيلها .و ّ
190
الحقيقة .وتخيلها هو أن ترتسم في نفس اإلنسان خياالتها ومثاالتها وأمور تحاكيها».
142
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تصورة هم الحكماء .والذين توجد تصورة ويتقبلون المبادئ وهي م ّ «والذين يؤمون السعادة م ّ
191
هذه األشياء في نفوسهم متخيلة ويتقبلونها ويؤمونها على أنها كذلك هم المؤمنون».
«وأما المدن الضالة فهي التي حوكيت لهم أمور أخر غير هذه التي ذكرناها بأن نصبت لهم
المبادئ التي حوكيت لهم غير التي ذكرناها ،ونصبت لهم السعادة غير التي هي في الحقيقة سعادة
وحوكيت لهم سعادة أخرى غيرها ،ورسمت لهم أفعال وآراء ال تنال بشيء منها السعادة
192
بالحقيقة».
الرابع والثالثين من كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" إن ما أورده الفارابي في البابين الثالث و ّ
ليحيط بالشأن كله لألسس السّياسية القائم عليها كيان الدولة مما عرف ويعرف إلى اليوم؛ هذا في
باب "القول في آراء أهل المدن الجاهلة والضالة" ،أما الذي قبله "القول في األشياء المشتركة
ألهل المدينة الفاضلة" ففيه القول الشافي والعلمي حقا ليس فحسب في الحقيقة ونظام الخطاب
صل في الباب الموالي) بل في شأن الباحث عنها فيمن هو من حيث درج الحكمة؛ ومن حيث (المف ّ
المسايرة البيانية التي هي من أهم يجب أخذه باالعتبار ،فإن أوفق عنوان أمكن وضعه ال على
البدلية بل المطابقة ،هو "سلم معرفة الحقيقة الوجودية" .ولخطر الموضوع وشأنه الجليل،
وللوقوف على هذه المفارقة فيمن يودون أن يجعلوا من البناء القانوني إن في الفلسفة الحقة أو في
الفكر السّياسي تراثاً ،مفارقة الشد الجذبي واالنصهار المجالي في الحجر الفلسفي الذي من شروط
محظورا نظا ًما خطابيا ً -أو
ً ً
متجاوزا – بيئته وكينونته ورواجه أن تدعى الفلسفة الحقة مثالية وصفا ً
تراثاً؛ من أجل هذا نورد هذا الباب هنا وما يدعو إلى الحق أحق أن ال يضيق به النظر أبدا ً:
«الباب الثالث والثالثون
القول في األشياء المشتركة ألهل المدينة الفاضلة
فأما األشياء المشتركة التي ينبغي أن يعلمها أهل المدينة الفاضلة فهي أشياء ،أولها معرفة السّبب
األول وجميع ما يوصف به ،ثم األشياء المفارقة للمادة وما يوصف به كل واحد منها بما يخصه
صفات والمرتبة إلى أن تنتهي من المفارقة إلى العقل الفعال ،وفعل كل واحد منها؛ ثم من ال ّ
الجواهر السماوية وما يوصف به كل واحد منها؛ ثم األجسام الطبيعية التي تحتها ،كيف تتكون
وتفسد ،وأن ما يجري فيها يجري على إحكام وإتقان وعناية وعدل وحكمة ،وأنه ال إهمال فيها وال
نقص وال جور وال بوجه من الوجوه؛ ثم كون اإلنسان ،وكيف تحدث قوى النفس ،وكيف يفيض
عليها العقل الفعال الضوء حتى تحصل المعقوالت األول ،واإلرادة واالختيار؛ ثم الرئيس األول
وكيف يكون الوحي؛ ثم الرؤساء الذين يخلفوه إذا لم يكن هو في وقت من األوقات؛ ثم المدينة
الفاضلة وأهلها والسعادة التي تصير إليها أنفسهم ،والمدن المضادة لها وما تؤول إليه أنفسهم بعد
الموت :أما بعضهم إلى الشقاء ،وأما بعضهم إلى العدم ،ثم األمم الفاضلة واألمم المضادة لها.
191ن م – ن ص
192ن م – ص11
143
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وهذه األشياء تعرف بأحد وجهين :إما أن ترتسم في نفوسهم كأنما هي موجودة إما أن ترتسم
فيها بالمناسبة والتمثيل ،وذلك أن يحصل في نفوسهم مثاالتها التي تحاكيها ،فحكماء المدينة
الفاضلة هم الذين يعرفون هذه ببراهين وببصائر أنفسهم .ومن يلي الحكماء يعرفون هذه على ما
هي عليه موجودة ببصائر الحكماء اتباعا لهم وتصديقا لهم وثقة بهم .والباقون منهم يعرفون
بالمثاالت التي تحاكيها ،ألنهم ال هيئة في أذهانهم لتفهمها على ما هي موجودة إما بالطبع وإما
بالعادة وكلتاهما معرفتان .إال أن التي للحكيم أفضل ال محالة ،والذين يعرفونها بالمثاالت التي
تحاكيها ،بعضهم يعرفونها بمثاالت قريبة منها ،وبعضهم بمثاالت أبعد قليال منها ،وبعضهم
بمثاالت أبعد من ذلك ،وبعضهم بمثاالت بعيدة جدا .وتحاكي هذه األشياء لكل أمة وألهل كل مدينة
بالمثاالت التي عندهم األعرف فاألعرف ،وربما اختلف عند األمم إما أكثره وإما بعضه ،فتحاكي
هذه لكل أمة بغير األمور التي تحاكي بها األمة األخرى .فلذلك يمكن أن يكون أمم فاضلة ومدن
فاضلة تختلف مثلهم .فهم كلهم يؤمون سعادة واحدة بعينها وقاصد واحدة بأعيانها.
وهذه األشياء المشتركة ،إذا كانت معلومة ببراهينها ،لم يمكن أن يكون فيها موضع عناد بقول
أصال ،ال على جهة المغالطة وال عند من يسوء فهمه لها .فحيتئذ يكون للمعاند ،ال "حقيقة" األمر
في نفسه ،ولكن ما فهمه هو من الباطل في األمر .فأما إذا كانت معلومة بمثاالتها التي تحاكيها ،فإن
مثاالتها قد تكون فيها مواضع للعناد ،وبعضها يكون فيه مواضع العناد أقل ،وبعضها يكون فيه
مواضع العناد أكثر ،وبعضها يكون فيه مواضع العناد أظهر ،وبعضها يكون فيه أخفى.
وال يمتنع أن يكون في الذين عرفوا تلك األشياء بالمثاالت المحاكية ،من يقف على مواضع
العناد في تلك المثاالت ويتوقف عنده ،وهؤالء شيء ما رفع إلى مثال آخر أقرب إلى الحق ،ال
يكون فيه ذلك العناد ،فإن قنع به ترك ،وإن تزيف عنده ذلك أيضا ً رفع إلى مرتبة أخرى ،فإن قنع
به ترك ،وإن تزيف عنده مثال في مرتبة ما رفع فوقه ،فإن تزيفت عنده المثاالت كلها وكانت فيه
نية للوقوف على الحق عرف الحق ،وجعل في مرتبة المقلدين للحكماء؛ فإن لم يقنع بذلك وتشوق
إلى الحكمة ،وكان في نيته ذلك ،علمها.
وصنف آخر تتزيف عندهم المثاالت كلها لما فيها من مواضع العناد ،وألنهم مع ذلك سيئو
األفهام ،193يغلطون أيضا ً عن مواقع الحق من المثاالت ،فيتزيف عندهم ما ليس فيها موضع للعناد
أصال.
فإذا رفعوا إلى طبقة الحق حتى يعرفوها ،أضلهم سوء إفهامهم عنه ،حتى يتخيلوا الحق على
تصوروه هو الذي ادعى الحق أنه هو الحق؛ فإذا تزيف ذلك ّ غير ما هو به ،فيظنون أيضا ً أن الذي
عندهم ،ظنوا أن الذي تزيف هو الحق الذي يدعى أنه الحق ال الذي فهموه هم؛ فيقع لهم ألجل ذلك
أنه ال حق أصال ،وأن الذي يظن به أنه أرشد إلى الحق مغرور .وأن الذي يقال فيه إنه مرشد إلى
الحق ،مخادع مموه ،طالب من ذلك ،رئاسة أو غيرها.
144
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وقوم من هؤالء يخرجهم ذلك إلى أن يتحيروا؛ وآخرون من هؤالء يلوح لهم مثل ما يلوح
الشيء من بعيد ،أو مثل ما يتخيله اإلنسان في النوم أن الحق موجود ويباين من إدراكه األسباب
يرى أنها ال تتأتى له ،فيقصد إلى تزييف ما أدركه ،وال يحسبه حينئذ حقا ،ثم يعلم أو يظن أنه أدرك
الحق.
الرابع والثالثون
الباب ّ
القول في آراء أهل المدن الجاهلة والضالة
و المدن الجاهلة والضالة إنما تحدث متى كانت الملة مبنية على بعض اآلراء القديمة الفاسدة.
منها ،أن قوما قالوا :إنا نرى الموجودات التي نشاهدها متضادة ،وكل واحد منها يلتمس إبطال
اآلخر؛ ونرى كل واحد منها ،إذا حصل موجودا ،أعطي مع وجوده شيئا يحفظ به وجوده من
البطالن ،وشيئا يدفع به عن ذاته فعل ضده ،وشيئا يبطل به ضده ويفعل منه جسما شبيها في
النوع؛ وشيئا يقتدر به على أن يستخدم سائر األشياء فيما هو نافع في أفضل وجوده وفي دوام
وجوده.
وفي كثير منها جعل له ما يقهر به كل ما يمتنع عليه ،وجعل كل ضد من كل ضد ومن كل ما
سواه بهذه الحال ،حتى تخيل لنا أن كل واحد منها هو الذي قصد ،أو أن يجاز له وحده أفضل
الوجود دون غيره ،فلذلك جعل له كل ما يبطل به كل ما كان ضارا له وغير نافع له ،وجعل له ما
يستخدم به ما ينفعه في وجوده األفضل .فإنا نرى كثيرا ً من الحيوان يثب على كثير من باقيها،
فيلتمس إفسادها وإبطالها ،من غير أن ينتفع بشيء من ذلك نفعا يظهر ،كأنه قط طبع على أن ال
يكون موجودا في العالم غيره ،أو أن وجود كل ما سواه ضار له ،على أن يجعل وجود غيره
ضارا له ،وإن لم يكن منه شيء آخر على أنه موجود فقط .ثم إن كل واحد منهما ،إن لم يكن ذلك،
التمس ألن يستعبد غيره فيما ينفعه ،وجعل كل نوع من كل نوع بهذه الحال ،وفي كثير منها جعل
كل شخص في نوعه بهذه الحال .ثم خليت هذه الموجودات أن تتغالب وتتهارج.
فاألقهر منها لما سواه يكون أتم وجودا ،والغالب أبدا إما أن يبطل بعضه بعضا ،ألنه في طباعه
أن وجود ذلك الشيء نقص ومضرة في وجوده هو ،وإما أن يستخدم بعضا ويستعبده ،ألنه يرى
في ذلك الشيء أن وجوده ألجله هو .ويرى أشياء تجري على غير نظام ،ويرى مراتب
الموجودات غير محفوظة ،ويرى أمورا تلحق كل واحد على غير استئصال منه لما يلحقه من
وجوده ال وجود "لنفسها" قالوا :وهذا الذي يظهر في الموجودات التي نشاهدها ونعرفها .فقال قوم
بعد ذلك إن هذه الحال طبيعة الموجودات ،وهذه فطرتها ،والتي تفعلها األجسام الطبيعية بطبائعها
هي التي ينبغي أن تفعلها الحيوانات المختارة باختياراتها وإراداتها ،والمروية برويتها .ولذلك رأوا
يختص به أحد
ّ أن المدن ينبغي أن تكون متغالبة متهارجة ،ال مراتب فيها وال نظام ،وال استئهال
لكرامة أو لشيء آخر؛ وأن يكون كل إنسان متوحدا بكل خير هو له أن يلتمس أن يغالب غيره في
كل خير هو لغيره ،وأن اإلنسان األقهر لكل ما يناويه هو األسعد.
145
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ثم تحدث من هذه آراء كثيرة في المدن من آراء الجاهلية :فقوم رأوا ذلك أنه ال تحاب وال
ارتباط ،ال بالطبع وال باإلرادة ،وأنه ينبغي أن يبغض كل إنسان كل إنسان ،وأن ينافر كل واحد كل
واحد ،وال يرتبط اثنان إال عند الضرورة ،وال يأتلفان إال عند الحاجة ،ثم يكون بعد اجتماعهما على
ما يجتمعان عليه بأن يكون أحدهما القاهر واآلخر مقهورا ،وإن اضطر ألجل شيء وارد من
خارج أن يجتمعا ويأتلفان فينبغي أن يكون ذلك ريث الحاجة ،وما دام الوارد من خارج يضطرهما
إلى ذلك؛ فإذا زال ينبغي أن يتنافرا ويفترقا .هذا هو الداء السبعي من وراء اإلنسانية.
وآخرون لما رأوا أن المتوحد ال يمكنه أن يقوم بكل ما به إليه حاجة دون أن يكون له موازرون
ومعاونون ،قوم له كل واحد بشيء مما يحتاج إليه ،رأوا االجتماع فقوم رأوا أن ذلك ينبغي أن
يكون بالقهر ،بأن يكون الذي يحتاج إلى موازرين يقهر قوما ،فيستعبدهم ،ثم يقهر بهم آخرين
فيستعبدهم أيضا ً .وأنه ال ينبغي أن يكون موازره مساويا له ،بل مقهورا؛ مثل أن يكون أقواهم بدنا
وسالحا يقهر واحدا ،حتى صار ذلك مقهورا له قهر به واحدا آخر أو نفرا ،ثم يقهر بأولئك آخرين،
حتى يجمع له موازرين على الترتيب .فإذا اجتمعوا له صيرهم آالت يستعملهم فيما فيه هواه.
وآخرون رأوا ههنا ارتباطا وتحابا وائتالفا ،واختلفوا في التي يكون بها االرتباط :فقوم رأوا أن
االشتراك في الوالدة من والد واحد هو االرتباط به ،وبه يكون االجتماع واالئتالف والتحاب
والتوازر على أن يغلبوا غيرهم ،وعلى االمتناع من أن يغلبهم غيرهم .فإن التباين والتنافر بتباين
اآلباء ،واالشتراك في الوالد األخص واألقرب يوجب ارتباطا أشد ،وفيما هو أعم يوجب ارتباطا
أضعف؛ إلى أن يبلغ من العموم والبعد إلى حيث ينقطع االرتباط أصال فيكون تنافرا؛ إال عند
الضرورة الواردة من خارج ،مثل شر يدهمهم ،وال يقومون بدفعه إال باجتماع جماعات كثيرة.
وقوم رأوا أن االرتباط هو باالشتراك في التناسل ،وذلك بأن ينسل ذكوره أوالد هذه الطائفة من
إناث أوالد أولئك ،وذكورة أوالد أولئك من إناث أوالد هؤالء ،وذلك التصاهر .وقوم رأوا أن
االرتباط هو بائتراك في الرئيس األول الذي جمعهم أوال ودبرهم حتى غلبوا به ،ونالوا خيرا ما
من خيرات الجاهلية.
وقوم رأوا أن االرتباط هو باإليمان والتحالف والتعاهد عل ما يعطه كل إنسان من نفسه ،وال
ينافر الباقين وال يخاذلهم ،وتكون أيديهم واحدة في أن يغلبوا غيرهم ،وأن يدفعوا عن أنفسهم غلبة
غيرهم لهم.
وآخرون رأوا أ ن االرتباط هو بتشابه الخلق والشيم الطبيعية ،واالشتراك في اللغة واللسان؛ وأن
التباين بتباين هذه .وهذا هو لكل أمة .فينبغي أن يكونوا فيما بينهم متحابين ومنافرين لمن سواهم؛
فإن األمم إنما تتباين بهذه الثالث.
وآخرون رأوا أن االرتباط هو االشتراك في المنزل ،ثم االشتراك في المساكن ،وأن أخصهم هو
باالشتراك في المنزل ،ثم االشتراك في السكة ،ثم االشتراك في المحلة .فلذلك يتواسون بالجار فإن
الجار هو المشارك في السكة وفي المحلة؛ ثم االشتراك في المدينة ،ثم االشتراك في الصقه الذي
فيه المدينة.
146
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وههنا أشياء يظن أنه ينبغي أن يكون لها ارتباط جزئي بين جماعة يسيرة وبين نفر وبين اثنين،
منها طول التالقي ،ومنها االشتراك في طعام يؤكل ،وشراب يشرب ،ومنها االشتراك في
صة متى كان نوع الشر واحدا وتالقوا ،فإن
الصنائع ،ومنها االشتراك في شر يدهمهم ،وخا ّ
بعضهم يكون سلوة بعض .ومنها االشتراك في األمكنة التي ال يؤمن فيها أن يحتاج كل واحد إلى
194
اآلخر ،مثل الترافق في السفر».
إن البنية النظرياتية الفارابية ،بنية الكلية القانونية ،هي التي إليها يُ َردُّ ،إليها وحدها وفقط وحدها،
ما جاء على لسان الدكتور فهمي جدعان:
«وأنه لمن المؤكد أننا نستطيع أن نعتبر الفارابي ،إن بسبب تلك الدروس التي لقنتنا إياها تجربته
الفلسفية أو بسبب نزعته اإلنسانية الكونية ،فيلسوفا ً راهنا ً معاصرا ُ من الطراز الممتاز
195
األصيل».
وقوله المختلف:
«ويبدو أنه يئس من أية محاولة إصالحية لهذه المدن فاكتفى بوصفها وصفا ً دقيقا ً يكشف عن
196
حس نقدي سياسي عميق»
فاالمتداد والعمق سريانا ً على أبعاد أي ظاهرة إنما هو من الخصائص المميّزة للنظريات
والبناءات المجالية .ومن أجله اختلفت هذه الكلمة بعدم تناسق شطريها ،ومنه أيضا ً يظهر مدى
ضالل وعدم سداد ما ذهب إليه من القول:
ً
« والواقع أن وصف الفارابي للمدينة الفاضلة وأهلها ال يحيلنا إطالقا إلى المدينة والجماعة
ً 197
األرضيين وإنما يحيلنا إلى عالم مفارق تماما». ْ
تصور وعدم تبلور معنى الكلية القانونية في البناء الفارابي، ّ ال افتقاد يبرز الذي هو الحكم فهذا
ألننا بصدد معيارية قانونية لمجال المدن وللمدينة أو الدولة الفاضلة المثلى .وعدم اإلبصار بهذا
صة العلمية
االلتباس الحقائقي الرفيع ،هو ما اعتمد عليه كل من أراد أن يضع اليد على هذه المن ّ
والفكرية ،والعلم والفكر أساس قيام األمم وصعودها ،حتى نلفي مثل هذا القول أو الحكم على ما
فيه من نقض ما سبق:
«وميزة هذ ا البحث هو أنه ،للمرة األولى في تاريخ الدراسات الفارابية ،يقدم الفارابي ال
مجردة من العالئق الحية الوجودية ،وإنما باعتباره باعتباره صاحب منظومة فلسفية جاهزة جافة ّ
198
صاحب تجربة عيانية متطورة ومشروع مشخص ينتهي بإخفاق مرير».
147
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وأكثر ما يتضح عدم انضباط المجالية الكلية مهيمنة على الحقل االجتماعي السّياسي ال محدودة
به وال محصورة عنده ،هو ما أورده الدكتور عقب حكمه على العالم المفارق لمدينة الفارابي
الفاضلة واستشهاده بقوله:
« فمن شأن تكرار األفعال التي تنال بها السعادة ومن شأن المواظبة عليها لدى أهل المدينة
الفاضلة ،أن يصيرا النفس إلى حد من الكمال تستغني معه عن المادة فتحصل متبرئة منها ،غير
تحرك وال أنها
متجسمة وبال أعراض جسمية بحيث ال يمكن أن يقال عنها إذ ذاك «أنها ت ّ
تسكن» .199ال شك أن هذه الحالة تؤدي إلى الخلود لكنها أيضا ً وقبل ذلك حالة الفضالء «النابتة»
الذين تميزوا وتفردوا بأفعالهم الفاضلة عن جميع أهل المدن الضالة ،حالة أولئك الذين انتهى بهم
األرض واإلنسان والزمان وباتوا ال يرون من مخرج لهم إال في الطواف إلى اليأس من عالم ْ
العودة إلى طريق «المفارقة» و«االتصال» بالعقل الفعال باعتبار أن ذلك يحقق لصاحبه السعادة
القصوى التي ال يعتورها تغيير أو تبدل .وال شك أن من واجبنا هنا طرح التساؤل التالي :هل يمثل
موقف الفارابي ،هذا ،النهائي ،أثرا ً من آثار نظرية «االتصال» القديمة أم أنه ليس إال نهاية لنجربة
200
أليمة شبيهة بصورة أو بأخرى بتجربة أفالطون نفسه؟»
ي مهيم ٌن على ما دونه من مختلف ع ِل ٌّ
فالمستوى الذي جاء بيان الفارابي على بُعده وفضائه َ
تحوالت الوجودية بالنسبة لما تتشكل ّ ال مستوى ومتعدد البنيات االجتماعية والمؤسّسات ،كأنما هو
عليه هذه الوجوديات من صيغ وتجسيدات .والذي يجعل من شروط الرئيس ما اشترطه أبو نصر
هو ال شك في قلب الواقع ويرمي بقوس الزمن البشري بتدافعه التاريخي ليس بخارج عنه وال
مباينا ً.
تقرر ،إن هو إال أثر الترديد المكثف لإلغراض والتساؤل السابق هو في نظرنا ،وبناء على ما ّ
في أمر ،هو يا للغرابة ! ما لم يفت الدكتور الكريم نفسه التنبيه عليه:
«ال شك أن هذه النظرية ،نظرية الوجود الصدوري ،هي نظرية زمنية تاريخية تماما ً بمعنى أنها
مرتبطة ارتباطا ً عضويا ً بعصر الفارابي ،فما هي إال تطبيق لحالة العلم على مشاكل الفلسفة ،وهي
تصورات جديدة .وأنه لمن العبث ّ بالتالي مضطرة إلى التراجع واالنسحاب كلما تقدم العلم باتجاه
تماما ً أن نقف طويال عند عناصرها بقصد تقويمها علميا أو فلسفيا ً من خالل العصور الحديثة .غير
أنه يظل لهذه النظرية داللتان بارزتان :األولى أنها مثل للعالقة الجوهرية التي يرى الفارابي أنها
ينبغي أن تقوم بين الفلسفة من ناحية والعلم من ناحية أخرى ،إذ أن الفيلسوف ال يستطيع أن ينظر
مقررات العلم وإنما عليه أن يعتبر هذه المنجزات باستمرار ،وهو ما فعله إلى الوجود بمعزل عن ّ
201
الفارابي تماما ً حين نقل النظرية الكونية اليونانية إلى فلسفته األنطلوجية».
148
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"أما وصف الجابري للصيغة البنائية للفيض تبعا لوصفه للمدرسة الحرانية كونها وثنية ،فهذا
في األبنية المنطقية بين ضالله وخطؤه ،ألن الماهية المنطقية وأبنيتها مستقلة وسابقة على أي
ضالل وجهالة ووثنية .وأما وصفا للمدرسة ،فهل يستساغ أو من السديد تبعا لعمه (ليس لعمى)
األلوان هذا االبتساري المرضي ،أن نلحق اليوم ذكر المعاهد الهندسية والتقنية الكبرى والرائدة
في أمريكا أو روسيا أو الصين ،أن نلحقها بالزمة الكافرة أو الوثنية؟ إن هذا قول ليس له قيمة
في الخطاب العلمي وكلماته وليس لصاحبه ضبط للحقيقة والماهية المنطقية .وإنما هو في الحقيقة
يعطي تقييما حقيقيا للزاد واآللية التفكيرية ألصحاب القول ،وهم في ذلك كله يصادرون العقالنية
والعلمية .إن الفارابي التحق ونهل من أكبر المعاهد العلمية والفلسفية في زمانه ،أما الوصف
بالوثنية فهو قول عقيم سقيم ،يدل على أن صاحبه إما مغرض مضل ،أو ليس عنده اعتبار
المكونات العقلية
ّ لألطوار العلمية ،ولتاريخ األفكار والمعارف ونسبيتها وانتماءاتها .وإنما مثل
والفكرية لإلنسان مأسورة بمجال النشأة كما المادة والبنية الفيزيولوجية بالبيئة الحيوية .ولعل
مكونات األولى البيئية ،فأعظم
صة أجرين وثوابين ،ثواب اإلسالم وأجر المقاومة لل ّ للفارابي خا ّ
بجهل من ال يحسب شرط الميز بين من ينشأ في فاراب من بالد الترك ومن ينشأ في مكة
والمدينة؛ فالحمد هلل الذي ال شريك له في حكمه وهو العليم الخبير .ثم إنه من ناحية ثانية وكما
صعود المعارفي والعلمي إال على أكتاف قال إسحاق نيوتن من شرط ،أو قال ال يتم التجاوز وال ّ
السابقين ،أساطين الصرح العلمي اإلنساني .فالفارابي لم يع ُد هذا الشرط كما جاء في مقدمة
الدكتور ألبير نادر:202
وإليك ما ذكره ابن خلكان في كتابه «وفيات األعيان» عن أبي نصر الفارابي؛ فيقول:
«أبو نصر بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي التركي الحكيم المشهور صاحب
التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم ,وهو من أكبر فالسفة المسلمين ،ولم يكن
فيهم من يبلغ رتبته في فنونه .والرئيس أبو علي بن سينا (المقدم ذكره) بكتبه تخرج ،وبكالمه
انتفع في تصانيفه.
149
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ثم خرج من بلده وانتقلت به األسفار إلى أن وصل إلى بغداد ،وهو يعرف اللسان التركي وعدة
لغات غير العربي ،فتعلمه وأتقنه غاية اإلتقان ،ثم اشتغل بعلوم الحكمة .ولما دخل بغداد كان بها
أبو بشر متى بن يونس الحكيم المشهور ،وهو شيخ كبير ،وكان يقرأ النَّاس عليه فن المنطق ،وله
إذ ذاك صيت عظيم وشهرة وافية .ويجتمع في حلقته كل يوم المئون من المشتغلين بالمنطق ،وهو
يقرأ كتاب أرسطوطاليس في المنطق ويملي على تالمذته شرحه ،فكتب عنه في شرحه سبعين
شعراً ،ولم يكن في ذلك الوقت مثله في فنه ،وكان حسن العبارة في تآليفه ،لطيف اإلشارة ،وكان
يستعمل في تصانيفه البسط والتذييل ،حتال قال بعض علماء هذا الفن :ما أرى أبا نصر الفارابي
أخذ ذريق تفهيم المعاني الجزلة باأللفاظ السهلة إال من أبي بشر ،يعني المذكور؛ وكان أبو نصر
حران ،وفيها يحضر حلقته في غمار تالمذته .فأقام أبو نصر كذلك برهة ،ثم ارتحل إلى مدينة ّ
يوحنا بن حيالن الحكيم النصراني ،فأخذ عنه طرفا ً من المنطق أيضا ً؛ ثم قفل راجعا إلى بغداد
ً
وقرأ بها علوم الفلسفة ،وتناول جميع كتب أرسطوطاليس ،وتمهر في استخراج معاني ها والوقوف
على أغراضه فيها».
لكن الغريب في كل هذا هو هذا اإلغراض الواضح غير الخفي في توسّل السفسطة ال
البرهانية بل على الوسيط الخطابي بتعويم وغمر الذكر للفارابي وابن سينا رحمهما هللا تعالى،
غمر ذكر نظرية وبناء الفيض بالشحن المكثف الغامر الرتباطه كل ما له صلة بالكفر والشرك
صوفية والشيعية ،ثم ليقولوها وليمتهنوا الكذبوالوثنية والضّالل ،من الهرمسية والغنوصية إلى ال ّ
واالستهزاء الوجودي ،ألنه كذب على أنفسهم وذواتهم في وجودها واستهزاء بها وإضالل للخلق،
متفلسفتهم والناعقين الذين إذا سمعوا شيخا يكفر أحدا كفروه وما أن ينتهي هم ينتهون؛ يقولون إنه
تصوف عقلي ،يقولونها كيدا واستهزاء وفلسفة مشرقية؛ ال وهللا إنه تأصيل عقلي على أعلى
النسق المنطقية واإلدراكية لحقائق الوجود .ولكن كلما كان قصر اإلدراك حصل بقدره الجهل
وحل جواره الشيطان ،ألن العقل من الحق يهدي إليه ،ويجعل هللا الرجز على الذين ال يعقلون.
مجردة عن المحتوى الفكري ،هي أعمدة وأنساق بنائية عقلية، ّ إن األفكار واألبنية المنطقية هي
صل وملقن ،ثم هي من بعد ذلك مرتبطة على أساسها تبنى الهياكل النظرية للعلوم كما هو مح ّ
بطورها اإلنساني العلمي والتاريخي .فكما أن العقل اإلنساني كان حينها يرى اإلبصار يتم انطالقا
صحيح ،فالتقييم لكل ما صدر في هذا الحيز إنما يكون ألشعة الضوء من العين ،ال العكس هوال ّ
باعتبار هذا الشرط من الطور العلمي ،وكذلك في كل التفكير واألبنية البشرية.
150
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
سلنا
أر َ وال غروى ،فإن هللا تعالى يقول في قبيل هؤالء المغرضين ممن تشابهت قلوبهمَ ﴿:و َما ْ
ش ْيطانُ ث َّم س ُخ هللاُ َما يُل ِقي ال َّ ِم ْن ق ْب ِلكَ ِم ْن َرسُو ٍل َوال نبيءٍ إال إذا ت َمنى ألقى ال َّ
ش ْيطا ُن ِفي أ ْمنِيتِ ِه فيَن َ
ض َوالقا ِسيَ ِة ش ْيطا ُن فِتنة ِلل ِذينَ ِفي قلوب ِه ْم َم َر ٌ ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ِل َي ْجعَ َل َما يُل ِقي ال َّ
يُ ْح ِك ُم هللاُ آيَاتِ ِه َوهللاُ َ
ق بَ ِعي ٍد'﴾(الحج)16-10؛ فإن كانوا ال يرعوون عن اإلغراض في إن الظا ِل ِمينَ ل ِفي ِشقا ٍ قلوبُ ُه ْم' َو َّ
الوحي الكريم وكالم رب العالمين ،فماذا ينتظر من صنعهم في كالم البشر ،بغيا ً وحسدا ً؟ بل إن
سهام أعداء هللا تعالى وغرضهم في ذلك من تكفير هؤالء الكبار من العقول البشرية المسلمة
طورا ً وانتما ًء ،هو فصل وتحييد خطر العقل العلمي اإلسالمي الحضاري ليبقى الغرب اليهودي
والنصراني مقدمة العقل الحضاري ،والعرب والمسلمون في الذيل ال يأخذون إال في الذيل كما
رأيناهم في مصر وفي تونس وفي بالد السلفية الجديدة المحاربة لتحكيم وقيام دولة اإلسالم في
مصر .هذه الحقيقة واألمر هو الذي سطر عليه مؤلفا كتاب 'ابن سينا والنفس اإلنسانية' أ .د محمد
خير عرقوسي واألستاذ حسن مالّ عثمان:203
وفي عصرنا الحاضر تعرضت الثقافة اإلسالمية بشقيها لهجوم مدمر حاول أن ينزع عن
الدراسات اإلسالمية كل صبغة علمية ،وان ينكر فضل المسلمين في أي ميدان كان من ميادين
العلوم.
وزعم المبطلون أن ميادين بحثهم تقتصر على فرائض الوضوء ونواقضه ،بمعنى أنها ال
تتصل بميادين العلوم اإلنسانية الحديثة .......فضال عن أنها ال تتصل بميادين العلوم التطبيقية
....
وأما علماء «التيار الدخيل» فقد زعم المبطلون أن لم يكن لهم من فضل اكثر من أنهم قد
نسخوا أو مسخوا كتب الثقافة اليونانية .وعندما يظهر التحقيق أن أوروبا قد عاشت على موائد
كتبهم سنين طواال :حيث انقسم رجال الفكر فيها إلى «رشديين» أتباع ابن رشد و«سينيين» أتباع
ابن سينا ،وفي هاتين المدرستين تخرج كبار رجال الفكر األوروبي ....حينما يتضح ذلك تقوم
203ابن سينا والنفس اإلنسانية :تأليف أ .د محمد خير عرقوسي ،األستاذ حسن مالّ عثمان مؤسّسة الرسالة ط-6
6502ﻫ6872 -م -ص65 -63
151
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تهمة جديدة في الطعن في عقيدة هؤالء إلخراجهم من حظيرة اإلسالم والوصول إلى النتيجة
المقصودة أصال من االدعاء بأن اإلسالم لم يقدم للفكر اإلسالمي واإلنساني عطاء يذكر".
ونجمل القول بأنه إذا كانت أوربا في عقلها الحقيقي قد فضلت ابن سينا على أرسطو
والفارابي ،أسمى الذرى الفلسفية والعقلية في التاريخ فإن الفارابي لهو بحق أستاذ ابن سينا ،وهو
ومن قبله الكندي السابقان داعيين بق ّمة العقل اإلنساني والفلسفي إلى اإليمان تأصيال علميا وفلسفيا ً
204
محيطا ،وما ابن رشد فيما يرى والغيره إال كلمة انتقائية».
إن الفلسفة الحقة ال تنفصل عن العلم وال ينبغي لها ذلك ،ألنها في حقيقتها التأصيل الحق
للوجود ،والعلم ظل الحق وتفصيله .وأيّما زعم في االنفصال إنما هو تزييف وصاحبه إن زعم
فلسفة فهو فيلسوف بهرج مزيّف .ومن عجيب الدليل وقريبه هو هذه الكلية القانونية للفارابي ،التي
الرياضية للفلسفة مستقرة في "المنهج" لديكارت وجلية ماثلة في عنوان نيوتن "األصول ّ ّ ذكرناها
الطبيعية" ،هي السّنخ الذي صدر عنه منهاج العلوم والعقالنية .وهذا هو الذي يثير أو وجب أن
يطرح معه سؤال هل من حقيقة للفلسفة الالعلمية أو الفلسفة األدبية والشعرية كما هو حال الزمن
الراهن األسيف المرير.
العربي ّ
تصور عن الشعري للبيان ابتداء ،وأننا نعني هنا بالكلية القانونية المعنى المجالي – ولفك عقال ال ّ
تصور روني ديكارت كما أثبته في "المنهج" للتنزل أو ّ كون نعلم أن يكفي العلمي، أو الحقولي-
السيولة الحدوثية للكائنات من المادة إلى النفس اإلنسانية ،ما هو إال اقتطاع قصوري للمجال الكلي
للفارابي مما سيأتي توضيحه فيما بعد .فالقانونية أو الكلية القانونية هي كلية بالمعنى المنطقي
الصرف ،وهذا هو الذي يكسب مطلق الحركة في مجال موضوعها وظاهرتها ،الذي أو التي
بالضبط هو الكل ،فال جرم أن تجد فيها تأصيال لمطلق ألوان طيف النظام السّياسي ومشارب
التفكير االجتماعي والفكر السّياسي من الداروينية المحرفة لحقيقة وروح عمل داروين نفسه،
والنيتشوية عنوان أزمة األنا الغربي ،ومنزع األنتربولوجيا السّياس ية ،إلى الفكر الكولونيالي
اإلرهابي السافر والعولمة المعسكرة المتوحشة ،التي تعلن جهارا ً أنه ال تسمح وتحارب ظهور
"نظام الدولة اإلسالمي" أو "داعش" وتعني بذلك اإلسالم ،ليس في منشإ الشبه المفهوم هذا ،في
العراق وسوريا ،بل في إفريقيا!
يخص مبادى
ّ والذي وجب إيالؤه قيمته الداللية هنا في رسم البيان المنطقي الكلي للفارابي فيما
الملة المنطبقة بالنظام السّياسي المتض ّمن بوضوح لما يراد باألدلوجة ،هو إبراز المادة البيانية
ل"التحريف" و"التزييف".
152
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فهذا المعطى الواضح والمشهود ،الذي ينبغي فقط درجة محدودة من االستبصار الستجالئه
مجردة ،يكشف عن مفارقة صادمة ،وهي أن الطاقة العلمية المحركة للحضارة بالعين العلمية ال ّ
صناعية والقانونية الفلسفية والسّياسية التي يعرفها العقل الغربي الفلسفي والسّياسي
الغربية ال ّ
وينكرها ،هي من هذا العقل اإلسالمي ومن هذه الحضارة اإلسالمية ،وهذا هو الدليل الفلسفي
األرض هو وسيمر على ْ
ّ مرالمنطقي الواضح الذي ال يدحض بأن أعلى عقل رياضي بشري ّ
الرياضيات المعراج من غير الوحي والنبوة الواصل لألرض الرياضي اإلسالمي ،ألن ّ العقل ّ
بالسّماء ،فأصلها الوحدة ،والواحد األحد هو هللا – سبحانه! -ويريد مخططو الحوض التكويني
تصور لهذا العقل ولحضارته التي هي قائمة ما ّ االستعماري – التهجيني -واالستشراقي ،فرض
تصورا ً إنتربولوجيا ً تراثا!ً
ّ األرض ،يريدون أن يجعلوا له
قام الوجود االستخالفي البشري في ْ
153
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
154
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الثاني
والحجر الفلسفي
155
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
َمن مالك الحقيقة أو أينَ هي الحقيقة التي ينبغي للخطاب أن ينافح عنها ويناضل من أجلها ،وما
الطريق إليها حتى نضع السّؤال البناء والقويم ما العمل؟
فلئن ُوجد ما تقوله وقالته الحقيقة على لسان فوكو وتوسّلته في قولها فمؤكد منه كالمه:
تحوالت العلمية الكبرى يمكن أن تقرأ أحيانا كنتائج الكتشاف ما ،لكنها يمكن أيضا ً أن تقرأ
"فال ّ
205
على أنها ظهور ألشكال جديدة ضمن إرادة الحقيقة".
والتحرك اإلرادي بصفة عامة ال يكون سديدا ً إال تناسبا ً مع علميته206؛ بالطبع
ّ العمل الثوري
ألن األنساق الحقة العلمية متناسقة في هيئتها صحّة والخطأّ ،
ّ ال بدل التناسب معيار وتعبير
الهندسية بالمعنى النسقي للهندسي مع األطوار الوجودية والتاريخية.
صة المنطقية المتمثلة في القيمة الحقائقيةلكن ما هو جدير باالهتمام إنما هو هذه الماهية والخا ّ
فكرا وتحققا ً .لقد صدق فوكو أو تكلمت الحقيقة على لسانه أن لالختيار وللعمل اللذين هما اإلرادة ً
الحرية مظاهرها وتجلياتها
ّ صحيحة! -ضمن إرادة صفة= ال ّ
األشكال الجديدة – أسقط لسانه ال ّ
تحوالت العلمية الكبرى .وإذن فالسّلم هنا مؤشره العلمية ،والتأصيل الفلسفي
تحوالت بل ال ّ
ّ
والتعريف الفلسفي للعلم من حيث الحقيقة هو ما انتظم مع الحقيقة الوجودية والمرجع الوجودي
الحق ،أي مع القانون أو العقل الكلي؛ وهذا بالضبط ما يؤول إلى مجمع ومآل واحد جامع و ُم َو ّحد
لديكارت وكانط بالوصل المعرف للعقل عند الفارابي؛ ومنه يكون االختزال النقدي لمقول ميشال
فوكو بأن الخطاب هو الخطاب العقيدي بل هو العقيدة؛ وبه يتضح قوله:
156
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"أشير فقط إلى أن المناطق التي أحكم السياج حولها ،وتتضاعف حولها الخانات السوداء في
أيامنا هذه ،هي مناطق الجنس والسّياسة؛ وكأن الخطاب ،بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف أو
المحايد الذي يجرد فيه الجنس من سالحه وتكتسب فيه السّياسة طابعا سلميا ،هو أحد المواقع التي
207
يمارس فيها هذه المناطق بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل".
نقول بأن المبدئية على الغايات النبيلة وأجلها ذلك من أسمى القيم ،وكذلك هللا تعالى يحب
عظائم األمور وأنبلها وأسماها ويكره سافلها من اللؤم والغدر والخيانة والظلم بين العباد حتى بين
الشاة والشاة .فكيف إذا سيتم تحديد الحقيقة؟ هذا عضل حقيقي!
ح فلسفة كانط إنما هو فهذا أساس ما أرى أبعد منه وال أمكن تأصيال للحقيقة الوجودية .ورو ُ
صحّة –الخطإ] = [الخير -الشر]؛ هي التقوي ُم الحق لقيم
التحديد والتعيين لمرجع الحقيقة= [ال ّ
الوجود اإلنساني ،وكل ما جاء موازاة وبعد من فلسفات أو لنقل بحق من اختيارات ،ومنها ما لم
يكن حقيقة تفلسفية بشروطها ،لسنا نذكر شوبنهاور ونيتشه بل كل ما أتى باندفاع تاريخي انفعالي
سا الضطرابات خارج الفلسفة األولى بل متقوال ومتفلسفا ً على نقضها ،لم يكن سوى صورة انعكا ً
محض نفسية ألوروبا ال زالت هي المهيمنة إلى اليوم؛ إنها عين األزمة التي أشار إليها
َ تاريخية
وبجرأة إدمون ﻫسّرل.
سؤال الحقيقة هو إشكال فلسفة النسق الوجودي .الخطاب ال يخلق اإلرادة ولكنه يشكل نظمة
األول لإلرادة ،وهذا هو واجب االستخالف والمسؤولية التي أرسل الوجود على عكس اإلمكان ّ
الركن للفلسفة األولى ،وهذا هو مقول المسؤولية بها الرسل عليهم السالم مما هو من أساس و ّ
األخالقية لإلنسان لكانط؛ يقول هللا سبحانه تعالى في سورة األحزاب﴿ :وقالوا َربَّنا إنا أط ْعنا
سبيال'﴾(األحزاب )07أليس هذا مهيمنا ً على فلسفة نظام الخطاب
ضلونا ال َّ
سادتنا َوك َب َرا َءنا فأ َ
َ
وفلسفة التحكم في النسق الوجودي ،الذي ال يبقى فيه بعد اإلرادة سوى للمتحكم.
207ن م – ص1-5
208انظر "«اإلدراك» و«اإلرادة» مقدمتا إثبات وجود هللا تعالى" :األصول الحقة للرياضيات -ص007..004
157
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مظهرا لها يُضاهي السفسطة التاريخية في تفلسف العقل الغربي عندما ً َّ
إن السفسطة لم تشهد
قال نيتشه بموت اإلله ،وهو يعني إله الغرب الذي اتخذوه من دون هللا ،ويعني دين الغرب غير
الحق الذي جاء به موسى وعيسى بن مريم عليهما السالم .وما كان ذلك في الحقيقة إال إعالما ً
بموت الفلسفة األولى في اختيار العقل الغربي .إنها سفسطة يقينا ً بيقين ما نتلوه قرآنا ً مصدقا ً لما
فريقا ً بين يديه من اإلنجيل والتوراة﴿ :الذينَ آتينا ُه ْم ال ِك َ
تاب َي ْع ِرفونهُ ك َما َي ْع ِرفونَ أ ْبنا َء ُه ْم' َو َّ
إن ِ
تكونن ِمن ال ُم ْمترينَ '﴾(البقرة)340
َّ ِمن ُه ْم ليَكت ُمونَ ال َح َّق َوهُ ْم يَ ْعل ُمونَ ' ال َح ُّق ِم ْن َربِّكَ فال
والوجه اآلخر وبنفس المدى من السفسطة هو ربط مقول الحق المطلق مقول رسالة السّماء
والقرآن العظيم وسنة آخر نبي ورسول للعالمين مصدقا ً لما بين يديه من الكتاب من بعد موسى
وعيسى والنبيئين – عليهم وعلى نبينا الصالة والسالم! ،-ربطه بالواقع الحالي للمسلمين ضمن
مادة وحقل االستشراق ،ليس فحسب بإنشائية سيكولوجية نقيض واقعية ونقيض منطقية تماماً ،بل
بجعله وفرضه تراثياً .ولئن كانت المسافة التاريخية بين الغرب المتقدم والشرق والمسلمين هي
المسافة والبعد التاريخي ،وتحدي ًدا المسافة المؤسّساتية المنبنية على النسق المنتظم والمرتب
ف ،يكفي ص ّ
الرياضي بوصف جامع ،فإنه يكفي أن نسوق من بعد سبب نزول سورة ال َّ والمحكم و ّ
تصور من سبب االنتظام.أن نسوق ما يلي من الدليل على أعلى ما ي ّ
إن المسافة بين الغرب والشرق هي "التاريخية" ،ولئن كانت "جدلية" هيجل مبرزة لقهر َّ
تاريخي سنني ،نسق روح منطقية حقة مهيمنة ،و"مادية" ماركس مجلية لقانونية الخطوط
والعالقات المبنية والمؤسّسة والقائمة عليها الكيانات المجتمعية البشرية ،فإن "التاريخية
الرياضي في كل المجال وجميع حيّزات المجال المؤسّساتية" تطبيقا ً شامال سريانا ً للنسق ّ
الوجودي ،من السّياسي واالقتصادي واإلداري إلى كل جزئية وكل حيز ،لهي فضاء الرؤية
لهيجل وماركس ،وحتى إن كانت النظرية الماركسية تبدو بقانونيتها أكثر علمية ،بل علمية أكثر
من أو مقابل الطرح الهيجلي للتاريخ ،فألنها أريد لها ذلك ،وبلغت اإلرادة هاته مقالة فلسفية هي
نيتشه ،مقالة حقة وصحيحة باعتبار شروط الخطاب؛ كذلك ماركس لهيجل لو نظرت منطقيا ً
ابتسار؛ قانوني علمي داخليا ،وقاصر غير علمي وغير فلسفي مرجعا ً وجوديا ً حقا ً.
الرياضي المؤسّساتي هو االنتظام والحق وال عبادة هلل تعالى إال بالمعيارية َّ
إن كنه النسق ّ
خطرا في المؤسّسة االجتماعية هو المستوى ً وأول المستويات األعظم
الرياضية في االستخالفّ ،
صحيحة بالذات هو كفل توحيد ووحدة الفكر التواصلي ،فالعمل بمقتضى نفس المعطيات وال ّ
158
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
واألحكام ،وبالتالي اإلمكانات اإلراداتية ،المنطبقة باألهداف والغايات الواجب العمل علي ها .ومن
ثم يفسّر خطر وشأن االهتمام بمصادر الكلمة في أدنى مراحلها من ذرات االجتماعَ ﴿ :ما َيل ِفظُ ْ
مِن
عتِي ٌد﴾'(ق' ) 38وروى الترمذي في السنن "عن معاذ بن جبل قال :كنت مع
قو ٍل إال ل َد ْي ِه َرقِيبٌ َ
ْ
النبي صلى هللا عليه وسلم في سفر ،فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت :يا رسول هللا
أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ،قال :لقد سألت عن عظيم ،وإنه ليسير على من
يسره هللا عليه ،تعبد هللا وال تشرك به شيئا ،وتقيم الصالة ،وتؤتي الزكاة ،وتصوم رمضان وتحج
صدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء البيت ،ثم قال :أال أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة ،وال ّ
الرجل من جوف الليل ،قال :ثم تال [تتجافى جنوبهم عن المضاجع] حتى بلغ النار ،وصالة ّ
[يعملون] (السجدة .) 37-30ثم قال :أال أخبرك برأس األمر كله وعموده وذروة سنامه؟ قلت :بلى
يا رسول هللا ،قال :رأس األمر اإلسالم ،وعموده الصالة ،وذروة سنامه الجهاد ،ثم قال :أال
أخبرك بمالك ذلك كله؟ قلت :بلى يا نبي هللا ،فأخذ بلسانه قال :كف عليك هذا ،فقلت :يا نبي هللا
وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال :ثكلتك أمك يا معاذ ،وهل يكب النَّاس في النار على وجوههم أو
209
على مناخرهم إال حصائد ألسنتهم".
وفي سنن أبي داود ،قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا
210
هو لك به مصدق ،وأنت له به كاذب"
وفي صحيح مسلم قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم" :ما من أمير يلي أمر المسلمين ،ثم
ال يجهد لهم وال ينصح ،إال لم يدخل معهم الجنة" والنصح من 'نصح' ،أي صفا وخلص ،وفي
صدق.العالقة كمال ال ّ
للذرات االجتماعية سوف لن يكون سوى "العقل الجمعي" ،ولن يكون َّ
إن المقاب َل التجميعي ّ
الذري االجتماعي سوى تحقق صدق خطاب العقل صدق على المستوى ّ المضارع لشرط ال ّ
الجمعي المنطبق بصدق الخطاب السّياسي ،ومنه ليس الخطاب في بيان ميشال فوكو وفي سياق
"نظام الخطاب" لم يكن سوى النظام السّياسي ذاته ولم تكن الحقيقة أو ال هي تعدو غير الحق؛
وهذا هو القول الفصل المنتهى في حكمي جوستوف لوبون وغرامشي ،وهو قول قديم محكم تبلغه
209سنن الترمذي وقال :هذا حديث حسن صحيح ،وصححه األلباني -إسالم ويب-
210جامع السنة وشروحها
159
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وبلغته العقول في المنطق المطلق .وما تتوصل إليه القراءة الحصيفة الموغلة في أغوار بيان
فوكو وتبادل مواقع األلفاظ إلى ح ّد ليس اإللغاز وإنما التناقض؛ ولكن هذه المعاني في عقل فوكو
ال في لفظه سوف ينتهي بها البيان إلى التقرير؛ ها هو ذا يقول وينتهي به الكالم أو ينتهي إليه:
«إن المشكل السّياسي األساسي ،بالنسبة للمثقف ،ليس هو أن ينتقد المضامين اإليديولوجية التي
قد تكون مرتبطة بالعلم ،أو أن يعمل بحيث تكون ممارسته العلمية مصحوبة بإيديولوجيا صائبة.
بل هو أن يعرف ما إذا كان من الممكن إنشاء سياسة جديدة للحقيقة .إن المشكل ليس تغيير وعي
النَّاس أو ما يوجد في ذهنهم ،بل تغيير النظام السّياسي واالقتصادي والمؤسّسي إلنتاج الحقيقة.
ال يتعلق األمر بتخليص الحقيقة من كل منظومة سلطة – إذ أن ذلك وهم ،ألن الحقيقة ذاتها
سلطة -بل بإبعاد سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة (االجتماعية االقتصادية والثقافية) التي تشتغل
داخلها لحد اآلن.
ّ
إن المسألة السّياسية ،إجماال ،ليست هي الخطأ ،أو الوهم ،أو الوعي المستلب ،أو اإليديولوجيا؛
211
إنما الحقيقة ذاتها».
نعيد القول ّ
بأن القراءة المستبصرة أو االستماع لكالم فوكو من ّأول حرف نطق به إلى غايته،
صحيح بأن نظام الخطاب والحقيقة ليسا سوى بل من قبل أن يبلغها ،يمكنه اإلمساك والحدس ال ّ
النظام السّياسي المتبنى ،وضمنه النظام المؤسّس على الشريعة السماوية الدين الحق أو غيرها
من المعتقد الديني واألدلوجي من باطل األديان ،والحقيقة هي الفكر أو الشريعة أو القانون مصدقا
ومصدقا عليه ومتبنى .يقول هاشم صالح في مقدمة ترجمته ل"سيكولوجية الجماهير" لجوستاف
لوبون:212
سياسية
"علم الجماهير بين اإليديولوجيات الدينية واإليديولوجيات ال ّ
في الماضي كان الدين ،أو باألحرى كانت اإليديولوجيا الدينية هي التي تهيج الجماهير
صليبية مثال ،أو كالدعاية العباسية التي
وتجيشها لكي تنخرط في الحركات الكبرى (كالحروب ال ّ
160
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
قلبت الدولة األموية ،الخ .)...ولكن بعد أن تعلمنت أوروبا في العصور الحديثة حلت
اإليديولوجيات السّياسية محل اإليديولوجيات الدينية في القيام بهذه المهمة .وأصبحت األحزاب
السّياس ية والنقابات العمالية هي التي تعبئ الجماهير وتجعلها نتزل إلى الشارع .وبدال من حروب
األديان السابقة بين البروستانت والكاثوليك ،حلت الحروب العلمانية بين األحزاب االشتراكية
واألحزاب الليبرالية .يقول الباحث ب .اديلمان بهذا الصدد ما يلي« :لقد حلت السّياسة محل
الدين ،ولكنها استعارت منه نفس الخصائص النفسية .بمعنى آخر أصبحت السّياسة دينا ً معلمناً،
213
صة بالذات».
لتصوراتهم الخا ّ
ّ وكما في الدين فقد اصبح البشر عبيدا ً
خاص ،سوف يتراءى ضربا ً من الالتوازن إلى ّ وبإعادة البناء هذه لبيان "نظام الخطاب" بنحو
مجرد الخطإ الب ّين والتالعب باأللفاظ ،لماذا؟ ألن هناك طابوهًا حجرا ً مثل طابوهات
ّ ح ّد
المجتمعات عينات الدراسات األنتربولوجية ،مثلها تماما ً لكن أغرب منها وأشد! ال يسمح بالبحث
عما تكون الحقيقة الحقة في النظام السّياسي واالجتماعي واالقتصادي ولو امتدادا ً لمبرهنة جودل،
ولو اقتضاء لمصداقية النسق المنطقي ! وﻫذا ﻫو نسق التساؤل البارز والخطير لهسّرل" :وإذا كان
بالنسبة له أن ينشأ خارج مجال الطبيعة علم حق (علم السّياسة وعلم النظام السّياسي) ،أال يجب
الرياضيات الخالصة أن يقتدي ﻫذا األخير بنموذج علم الطبيعة ،أو بتعبير أفضل :بنموذج ّ
214
(نموذج المعرفة الحقة)"
"أشير فقط إلى أن المناطق التي أحكم السياج حولها ،وتتضاعف حولها الخانات السوداء في
أيامنا ﻫذه ﻫي مناطق الجنس والسّياسة :وكأن الخطاب ،بدل أن يكون ﻫذا العنصر الشفاف أو
161
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المحايد الذي يجرد فيه الجنس من سالحه وتكتسب فيه السّياسة طابعا سلميا ،ﻫو أحد المواقع التي
215
يمارس فيها ﻫذه المناطق بعض سلطتها الرﻫيبة".
إنني على يقين بأنه أو كما أن نيتشه ﻫو نقد ذاتي وبدقيق القول ﻫو مقالة النقد الذاتي لألنا
الغربية المتض ّمنة لعقلها ،والختيار ﻫذا العقل التواجدي التفلسفي من بعد ،ﻫو فحسب مقالة لبقية
الحقيقة في ﻫذه األنا وﻫذا العقل ،ألنه أي نيتشه بنى خطابه على معجم محرف منطقا تاريخيا من
غير أن يكون مدركا لذلك ،ومنه كان نقده أو خطابه خطابا صادقا ذاتيا .وصدقه أو خطابه
الواضح المباشر لن يكون إال بترجمته وصورته الموافقة للتصحيح المعجمي؛ وكذلك ﻫنا ميشال
فوكو منحجز ليس في المعجم ولكن بجدار حجر سؤال الحقيقة !
لنطبق آلية البنية العميقة ل"نظام الخطاب" حسب النظرية الناجعة لتشومسكي ،يكفي إذا أن
نأخذ غاية الخطاب التي انتهى إليها ،وﻫي النص أعاله؛ يتحصل ّأوال ما يلي:
والمفارقة الباطلة بشكل مبين هي قوله" :إن المشكل ليس تغيير وعي النَّاس أو ما يوجد في
سسي إلنتاج الحقيقة".سياسي واالقتصادي والمؤ ّ
ذهنهم ،بل تغيير النظام ال ّ
هي مفارقة ومفارقة باطلة من جهتي التركيب الداخلي واالرتباطي ،داخليا ً حيث طريق تغيير
النظام األصل فيه الطريق الثوري الذي قوته القومة االجتماعية الواعية ،وارتباطا ً بالسّياق؛ فهذه
162
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
هي وظيفة المثقف والفقيه والعالم :إخراج النَّاس من ظلمات االستعباد إلى نور ال ّ
تحرر التواجدي،
كما قال الفاروق عمر رضي هللا عنه :كيف استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ً!؟
وهكذا يأتي آخر الخطاب والكالم معبرا ً عن هذا المسد والحجر ليقول:
"إن المسألة السّياسية ،إجماال ،ليست هي الخطأ ،أو الوهم ،أو الوعي المستلب ،أو
اإليديولوجيا؛ إنما الحقيقة ذاتها".
كل هذا الحقل ال طائل وراءه ألنه خارج الحقيقة أو باألحرى هي خارجه ،والبحث عنها داخل
الحقل بحث عن مفقود ال وجود له .وهذا هو المستخلص في عمق الخطاب أو "نظام الخطاب":
لكن هيهات هيهات ،فلئن صدق ديكارت فلسفيا ً في "خطاب المنهج" حين ّ
صرح بأن موان َع
ت منعته من نشر فكره والحقيقة التي يراها وضمنها "كتاب العالم" أو "مصنف في
اعتبارا ٍ
الضوء" ،فيقول في صدر الجزء الخامس:
فديكارت الذي ال يمكن إعدامه من العقل الغربي كان مما بثه ولم يخش الرقيب عليه في نظام
خطاب قرنه هو هذا البيان الواضح القويم ،وهو يتكلم عن النفس وكيف أنها لم تشتق من المادة
وأنها خلق مستقل عنها:
« ...حتى تكون لها إلى جانب هذه [المقدرة على تحريك األعضاء] ،إحساسات وشهوات
شبيهة بإحساساتنا وشهواتنا ،وحتى تؤلف هكذا إنسانا ً حقيقياً .وبعد فلقد أطنبت هنا قليال في
موضع النفس ألنه من أهم المواضيع؛ إذ ليس بعد ضالل الذين ينفون اإلله ،وهو [ضالل] أعتقد
أني قد دحضته دحضا ً كافياً ،من [ضالل] آخر يبعد األرواح الضعيفة عن سبيل الفضيلة
المستقيم ،س وى [هذا] االعتقاد بأن نفس الحيوانات مماثلة في طبيعتها لنفسنا ،وأنه تبعا ً لذلك ،ليس
علينا أن نخاف شيئاً ،وال أن نرجو شيئا بعد هذه الحياة ،أكثر [مما يرجوه] الذباب والنمل؛ في
216
Discours de la méthode – 2001, mozambook- p51
163
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
حين أننا إذا علمنا كم تختلف [نفسنا عن نفس الحيوان] ،كنا على أكمل بيّنة بالحجج التي تثبت أن
نفسنا من طبيعة مستقلة تمام االستقالل عن الجسم ،وأنها ،تبعا لذلك ،ال تتعرض للموت معه؛ وما
217
دمنا ال نرى أسبابا أخرى تحطمها ،فنحن محمولون بالطبع على الحكم بأنها خالدة».
217حديث الطريقة – ترجمة وشرح وتعليق د .عمر الشارني -المنظمة العربية للترجمة -توزيع مركز دراسات
الوحدة العربية -نهاية الجزء الخامس
164
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
منطقيا ً ،إذا كان الحق في المسافة بين تقدم الغرب وتخلف الشرق هو المعيارية ّ
الرياضية
مفتاحا ً لألنساق المنتظمة في تنظيم الحقل االجتماعي والسّياسي واإلداري حتى في تنظيم المرافق
االجتماعية؛ فلماذا يُستثنى الحقل النظام السّياسي والشريعة السّياسية من سريان تطبيق هذه
المعيارية؟!
إنه لهذا اإلشكال التاريخي الغربي يشخص وبحدة اقتران سؤال العلمية في السّياسة بقضية
الجنس ،إذ هما ضمن المجال القانوني الكوني نفس قانون المادة والحساب والمنطق؛ وألن هذه
القضية هي لباس االختيار الفلسفي للغرب من جهة اإليمان ،والوصف الفلسفي هنا ال يعني
العلمي المتحري للحقيقة ،ولكن االختيار عن قناعة ليست منطقية بالتأكيد ،أعلى ما تبلغه هو
االلتباس؛ فهل بإمكان اإلنسان أن يعتبر المادة على غير قوانينها التي ندرسها ،كأن يُغيّر قوانين
اعتبارا؟ وهل هناك إمكان لذلك أصال حيث يبقى ً الجاذبية أو يهملها من الوجود وأال يجعل لها
معه كيان الوجود؟ فهذا نفسه طرح سؤال الحقيقة الوجودية مع بعدي أو قضيتي السّياسة
والجنس.
منطقيا ً ولمن ينشد الحقيقة يبحث عنها فلسفيا ً هو التصحيح للكوجيتو الديكارتي بكون دليل
الرياضي ،وليس
الوجود هو المنظم المنحفظ فيه الحق في جواهر المقول المنطقي وخالل البناء ّ
165
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يقينا ً كما قال روني ديكارت التفكر الذي حقله النفس والقلب والعقل .هذا بخصوص سؤال مصدر
الحقيقة ،وما هي؟ وما وجودها؟ وأين هي؟ وديكارت ال احتمال أن يكون داعشيا ً وال كان من
حماس فلسطين أو جماعة إنقاذ الجزائر وال من حزب النهضة من شعب البوعزيزي -ولم يبق
لفرنسا شغال وقد أزيحت من حلبة السياسة العالمية إال تونس وقريبتها -وال من اإلخوان .هذا
دليل الوجود للحقيقة .أما عن أحاديتها فمقامها مع القراءة والفهم حق الفهم لينفقه تفلسف باروخ
محرف
تصور ال ّسبينوزا ،الذي جمع لخوفه من نظام الخطاب ،جمع إليه خوفه أو لنقل دحضه لل ّ
للحقيقة ،حقيقة الدين ،الذي هو نفسه ناموس المادة واألعداد األولية اللوحات البنائية للكائنات
العددية.
أشرنا فيما قبل إلى المنزلة التي تتبوؤها الكلمة في قانون السّماء ،الكلمة باعتبارها ذرة أو خلية
الخطاب .وكذلك إذا طبقنا مبدأ االمتداد المتصل البنيوي الحفرياتي لتاريخ األساس الوجودي
التاريخي للبشرية واالجتماع اإلنساني ،ووعائه وحوضه الحيوي المتفرع إلى ما شئت مما ذكره
فوكو ،من االقتصادي والفالحي والتجاري والبحري والطبي ،وكل المؤسّسات التي تحويها البيئة
الوجودية للبشر ،سنبلغ التأصيل األول والمنتهى الذي ال يمكن إنكاره وال جحوده:
الزيْتونَ ع َو َّ ﴿ه َُو الذِي أنزَ َل مِنَ السّماء َما ًء لك ْم مِنهُ ش ََرابٌ فِي ِه تُسِي ُمونَ ' يُنبتُ لك ْم ب ِه َّ
الز ْر َ
ارس َّخ َر لك ْم الليْلَ َوال َّن َه َ
تفكرونَ ' َو َ إن فِي ذَلِكَ آليَة ل ْ
ِقو ٍم يَ ُ َاب َوم ِْن كُ ِّل الث َم َراتِ' َّ َوالنَّخِ ي َل َواأل ْعن َ
ذرأ لك ْم فِي ِقو ٍم َي ْعقِلونَ ' َو َما َ إن فِي ذلِكَ آليا َ ٍ
تل ْ ت بأ ْم ِرهِ' َّس َّخ َرا ٍوم ُم َ س َوالق َم َر َوالنُّ ُج َ َوال َّ
ش ْم َ
ذكرونَ ' َوه َُو الذِي سَ َّخ َر البَحْ َر لِتأكلوا مِنهُ ل ْح ًما إن فِي ذَلِكَ آليَة ل ْ
ِقو ٍم يَ ُ ألوانهُ' َّ ً ْ
األرض ُمختِلفا َ ْ
كرونَ ' ض ِل ِه َولعَلك ْم ت ْش ُ
ترى الفلكَ َم َواخِ َر فِي ِه َولتبْتغوا م ِْن ف ْ ْ
طريًّا َوتسْتخ ِر ُجوا ِحليَة تلبَسُونَ َها' َو َ ِ
عال َماتٍ' َوبالن ْج ْم هُ ْم ارا َوسُبُال لعُلك ْم ت ْهتدُونَ َو َأن تمِي َد بك ْم َوأن َه ً ِي ْ األرض َر َواس َ َوألقى فِي ْ
تذكرونَ '﴾(النحل)37..32 ُ َي ْهتدُونَ ' أف َم ْن َي ْخل ُق ك َم ْن ال َي ْخل ُق أفال
166
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فهذا التأصيل الحفرياتي التاريخي. والمتوازن بشكل بديع ومعجز وجميل،)43ال ُمنت َهى'﴾(النجم
وهو المنتهى لألسس والطبقات األركيولوجية الحضاراتية المتعاقبة،الوجودي هو أوغل وأعمق
بالنسبة، وبالطبع على المستوى التعاصري،الراسية للفكر واألطوار البشرية
ّ والرواسب التكوينية
.صة اإلديولوجية
ّ لألنظمة السّياسية وخا
صا إذا كانت البيئة هي البيئة الوجودية ً إن التحكم في البيئة على قدر إمكان المتحكم وخصو َّ
هذا التحكم ال يكاد يعتبر فلسفيا ً ومنطقيا ً بالتحكم، وكان المتحكم هو اإلنسان،لالجتماع البشري
وهذا هو الذي-الوجودي اإليجادي – الحظ أننا ال نستعمل لفظة الخلق من أجل اإلقناع الخطابي
:جاء يعبر عنه هذا البيان المعاصر المؤثر
Nos robinets sont-ils des pompes à finances? Ici, l’eau en barre s’est
transformée en pots-de-vin. Là, des municipalités sont "mouillées".
Ailleurs, les liquides ont coulés à flots. De l’affaire Carignon à l’affaire
Longuet, de Marseille à Saint-Malo, de Strasbourg à Bordeaux et de Paris
à Saint-de-la-Réunion, des rumeurs courent, des informations sont
ouvertes, des mises en examen ont été prononcées et font la une des
journaux.
167
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
Les Français ne s’en rendent pas compte mais ils téléphonent déjà
grâce à ces groupes tentaculaires, habitent des maisons préfabriquées et
chauffées par eux, boivent leur eau, écoutent leurs informations,
regardent leurs programmes de télévision tout en se faisant soigner,
vider leurs poubelles et enterrer par eux. A droite comme à gauche, des
voix s’élèvent pour dénoncer leur mainmise, parlant même de
"nationalisations nécessaires". Et dans chaque commune, beaucoup
d’autres questions se posent. Ne serait-ce que pour savoir qui arrose
qui. »218
خطاب مؤثر حقا ً في مأخذ تهكمي ساخر ،تهكم وسخرية عن إدراك وليس فحسب الشعور
بالواقع الوجودي المرير ،تهكم المحتج وسخرية المتعجب من منكر يسوقه أرباب النظام وأسياد
ي ِ لهؤالء البشر في هذه القبضة
القص ّ
ِ الخطاب أنه هو الحقيقة ،وكيف ال تكون هي اإلمكان
ي حال من أحوال من يكون هو القائد والرب الذي الوجودية النظامية السّياسية والمجتمعية ،وفي أ ّ
مكونات حياة هؤالء البشر ونمط هذه الحياة.
بيده مقاليد األمر ،والكيف والك ّم ،وما شئت من ّ
من الماء الذي يقول فيه الكتاب المنزل من السّماءَ ﴿ :و َج َعلنا َمنَ ال َماءِ ك َّل ش َْيءٍ
ي ٍ'﴾(األنبياء )12إلى مقابر ال تحس منهم من أحد وال تسمع لهم ركزا ً! َح ّ
هذا هو روح السّياسة وفن الحكم الوضعي" :والتأثير هو أهم قواعد ذلك الحكم ،فمن تقدير
219
وقت التأثير وكيفيته وحدوده يتألف فن السّياسة"
218
Fabien PERUCCA Gérard POURADIER -COMME UN POISON DANS L’EAU- La
Lyonnaise et la Générale… des eaux troubles – Postface
219روح السّياسة -جوستاف لوبون -ترجمة عادل زعيتر -كلمات عربية للترجمة والنشر -مصر -ص 30
168
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والحقيقة إن هذا التحكم الوثيق والمحكم من خالل البنية االقتصادية واالجتماعية الذي هو نتاج
العمل السّياسي أصبح في واقع األمر يمثل أخطر ما جعله وسماه جوستاف لوبون بالعوامل
البعيدة التي تحدد أراء الجماهير وعقائدها .بل واألخطر من هذا كله هو أن باإلمكان تحولها إلى
عامل ضغط مباشر يدفع إلى ردود فعل لها قوة التغيير في البنية السّياسية ،من حدوث إضرابات
وانفجارات شعبية كبرى .وليس في هذا من عجب وال خروج عن روح المنطق وناموس الكون؛
فالتراكمات المحصلة للجهود العلمية يكون أبرز نتائجها تقليص المسافة الزمنية في التحوالت
التاريخية واالجتماعية والفكرية ،ومنه يكون التحكم في العامل الزمني الذي يقول فيه جوستاف
لوبون:
بالطبع ال ينبغي أن نعمم أو أن نطلق هذه االختزالية على كل األبعاد ،ولكن فقط هو تبيان على
القوة التي يمتلكها العلم في التأثير عبر بعض المناحي الممكنة .ويبقى مع ذلك ضرب منمدى ّ
التضاد بين علمية تأثير أو عالقة وسائل اإلنتاج وقوله:
"فالشعب – أي شعب -ال يختار مؤسّساته مثلما ال يختار لون عيونه أو شعره .فالمؤسّسات
والحكومات تمثل منتوج العرق .وبدال من أن تكون خالقة العصر فهي مخلوقته .والشعوب ليست
محكومة طبقا ً لنزوات لحظة ما ،وإنما طبقا ً لما تمليه طباعها وخصائصها .ويلزم أحياناًعدة قرون
من أجل تشكيل نظام سياسي معين ،وعدة قرون أخرى من أجل تغييره .فالمؤسّسات ليس لها أية
ميزة أزلية او أبدية ،وليست جيدة أو رديئة بحد ذاتها .فهي قد تكون جيدة في لحظة ما لشعب ما،
221
وقد تصبح كريهة بالنسبة لشعب آخر"
إنه تضا ّد أو في منحاه إذا نحن أهملمنا العامل االقتصادي وبنيته من حيث الهيكلة وثبوتها.
ونظير هذا من ضروب أو مما يظهر تناقضا ً عند لوبون ،بيد أنه في ذات اآلن يؤكد ويلقي
مزيدا ً من الضوء على خطاطة وعالقة ما ما يشتبه من التناقض هو الجمع بين إيجابيتين
متقابلتين:
169
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ا -إيجابية عنصر الوهم حلما للجماهير ال أنها تنشد الحقيقة« :إن الوهم االجتماعي يسيطر اليوم
على كل انقاض الماضي المتراكمة ،والمستقبل له بدون شك .فالجماهير لم تكن في حياتها أبدا ً
222
ظمأى للحقيقة»
« وفي نهاية المطاف يمكن القول بأن الذكاء هو الذي يقود العالم ،ولكنه يقوده من بعيد فعال،
تحول
أي بعد وقت طويل .فالفالسفة الخالقون لألفكار ال تنتصر أفكارهم إال بعد موتهم و ّ
أجسادهم إلى غبار منذ زمن طويل .إنها تنتصر عن طريق اآلليات التي كنت قد شرحتها
ً 223
آنفا»
واآلليات أو الطريق كما ذكرها هي تبني الطبقات الدنيا لألفكار أو الفكرة االنقالبية ،المبنية
على التفكر ،أي سنخها هو الطبقة العليا الذكية والعالمة ،فيتولد عنها حقل تجميعي ينتهي مع
الزمن إلى احتضان أو انخراط السّنخ كذلك .ولعل في هذا أيضا ً نقضا ً أو مشتبه تناقض ،حين
نجده يقول« :إن القادة ليسوا في الغالب رجال فكر ،وال يمكنهم أن يكونوا ،وإنما رجال ممارسة
224
وانخراط .وهم قليلو الفطنة وغير بعيدي النظر»
لكن وجب أن ننظر جيدا لنعلم أن كل ما ذكره لوبون في كتابه بشأن العوامل البعيدة والقريبة
في تشكيل وتوجيه الجماﻫير ،على ما فيه من ضروب مشتبه التناقض ،مثل جعله اإلعالم عامل
نشر وتحييد معا في شيوع الفكرة التحريضية المولدة للموجة الجماﻫيرية ،أن كل ما نطق به
تفصيله الرسلي الذي تخلله مشتبه التناقض وكأنه ليس يكون بمراعاة ﻫذا التفصيل في سياقاته،
وما أمكن أن يأتي في تحليل غيره من المفكرين ،فإن موضوعية العلم وركنيتها األولية القاﻫرة،
وال موضوعية في شأن الجماﻫير بشرا أعظم وأقوى من مادية أساسه وجودا وتواجدا ،ومنه كان
التحكم في العامل االقتصادي وفي وسائل اإلنتاج ﻫو أعتى جبروتا وﻫو السلطة الحقيقية ليس
222ن م – ص300
223ن م – ص310
224ن م – ص307
170
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يبقى في حدته وقوة توجيهه إال أقوى العوامل الثابتة في الهوية والحضارة التي أعالﻫا وأقواﻫا
الدين.
نظام الطبيعة في القاموس الجدلي ال يكون إال عاقال وبعقل ،هو عقل نظام األساس للبيئة
الوجودية البشرية على كل مستويات الوجود البشري ،الفردي والجماعي والمجتمعي ،مؤسّساته
السّياس ية واالقتصادية ،وفروعها ومناحيها التجارية وغيرها ،وصناعاتها على مختلف األوجه
الفكرية والعملية ،من ميادين التربية والتعليم إلى التطبيب والثقافة إلخ...
إن سؤال الحقيقة هو بالتحديد سؤال المسافة عن عقل نظام األساس الوجودي وعقل المتحكم –
عقل األخطبوط السّياسي-
أكبر عملية اضطهاد وجودي للحقيقة وﻫم في ذلك يظهرون كمن يبحث عنها ،وإنها بحق
أخطر أزمة يعيشها الغرب والبشرية معا بعد القراءة المبدلة والتحوير الخطير لمآل سلطة الكنيسة
المبدلة:
« سوف ننطلق من االنقالب الذي حصل مع نهاية القرن الماضي في التقييم العام للعلوم .إنه ال
يتعلق بعلميتها ،بل بالداللة التي كانت تتخذﻫا ،بالداللة التي كان العلم عموما يتخذﻫا والتي يمكن
أن يتخذﻫا بالنسبة للوجود البشري .إن رؤية اإلنسان الحديث للعالم تحددت كلها في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر من قبل العلوم الوضعية وحدﻫا ،وانبهرت باالزدﻫار الناجم عن ﻫذه
العلوم ،وﻫذا ما أدى إلى اإلعراض في ال مباالة عن األسئلة الحاسمة بالنسبة لكل بشرية حقة .إن
علوما ال تهتم إال بالوقائع تصنع بشرا ال يعرفون إال الوقائع .كان انقالب التقويم العمومي للعلوم
صة بعد الحرب؛ وقد تحول ﻫذا التقويم أخيرا عند الجيل الجديد ،كما نعرف، أمرا ال مفر منه خا ّ
171
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إلى شعور عدائي إزاء العلم .كثيرا ما نسمع بأن العلم ليس له ما يقوله لنا في المحنة التي تلم
بحياتنا .إنه يقصي مبدئيا تلك األسئلة التي تعتبر ﻫي األسئلة الملحة بالنسبة لإلنسان المعرض في
تحوالت مصيرية :األسئلة المتعلقة بمعنى ﻫذا الوجود البشري بأكمله أو ال أزمنتنا المشؤومة ل ّ
معناه .أال تتطلب ﻫذه األسئلة ،بسبب عموميتها وضرورتها لكل الناس ،تمعنات عامة وإجابة
تعتمد على بداﻫة عقلية؟ إنها تتعلق في آخر المطاف باإلنسان من حيث إنه ،في تصرفه إزاء
العالم المحيط البشري وغير البشري ،يتخذ قراراته بحرية ،من حيث إنه حر في إمكانياته لتشكيل
ذاته وعالمه المحيط بكيفية عقلية .ماذا يمكن أن يقول لنا العلم عن العقل والالعقل ،عنا نحن
الحرية ؟ إن العلم الذي يدرس األجسام المحضة ليس له طبعا ما يقول ،فهو ّ البشر كذوات لهذه
صة والعا ّمة
الروح التي تهتم في كل فروعها الخا ّيغض النظر عن كل ما ﻫو ذاتي .أما علوم ّ
صارمة تتطلب ،كما يقال ،أن الروحي ،أي في أفق تاريخيته ،فإن علميتها ال ّ باإلنسان في وجوده ّ
ينحي الباحث بعناية كل مواقفه القيمية ،كل األسئلة عن عقل أو ال عقل البشرية التي يجعل منها
مجرد تسجيل لما ﻫو العالم،
ّ ومن تشكيالتها الثقافية تيمة له .الحقيقة العلمية الموضوعية ﻫي
الروحي ،في الواقع .لكن ﻫل يمكن في الحقيقة أن يكون للعالم وللوجود سواء العالم الطبيعي أو ّ
البشري فيه معنى إذا كانت العلوم ال تعتبر حقيقيا إال ما يقبل المالحظة الموضوعية بهذه الكيفية،
الروحي وكل القواعد الحياتية والمثل إذا كان التاريخ ال يمكن أن يعلمنا سوى أن كل أشكال العالم ّ
والمعايير التي تعطي في كل وضعية سندا ،تتكون وتنحل من جديد مثل أمواج عابرة؛ إن األمر
كان دائما وسيكون دائما ﻫكذا؛ أن العقل سيصبح من جديد عبثا ،وإن النعمة ستصبح نقمة؟ ﻫل
يمكن أن نطمئن إلى ذلك ،ﻫل يمكن أن نعيش في ﻫذا العالم إذا كان حدوثه التاريخي ليس سوى
225
سلسلة ال تنقطع من االندفاعات الوﻫمية والخيبات المريرة؟»
فهذا ال مماراة ،ﻫو المؤطر ،أخطر المؤطرات ،لحقل ولخطاب التفلسف الغربي الحديث
والمعاصر ،وﻫو بالتالي المنظار المنطقي لقراءة ﻫذا التفلسف وتقويمه .وﻫذا ما سنعرض إليه في
الفصل التالي بنحو رصين.
172
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الثالث
173
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
«فنحن أيضا نخضع لألفكار المسبقة التي ال تزال تجيء إلينا من عصر النهضة .وأما بالنسبة
تحرر تماما وحقيقة من األفكار المسبقة سواء عنده إن كان اليقين يجيء إلينا من كنت أو إلى من ي ّ
توما األكويني ،من دارون أو من أرسطو ،ﻫلمهولتز أو باراسيلسوس إن ما نحتاج إليه ليس ﻫو
التأكيد القائل بأن اإلنسان يرى بعينيه بل ﻫو باألحرى ذلك التأكيد بأنه ال يفسّر تحت ضغط الفكرة
المسبقة التي كان قد رآﻫا .ألنه في العلوم الحديثة البالغة التأثير في عصرنا ،أال وﻫي العلوم
الرياضي ة .التي ينشأ الجزء األكبر من عملها نتيجة مناﻫج غير مباشرة – فإننا ميالون الفيزيائية ّ
كثيرا إلى اإلعالء من شأن المناﻫج غير المباشرة وإلى أن نسيء فهم قيمة اإلدراك المباشر .غير
أن الفلسفة بقدر ما ترجع إلى أصولها النهائية ،فإنها تتعلق على التحقيق بماﻫيتها وﻫي أن عملها
تحرك داخل مناطق الحدس المباشر .وعلى ﻫذا ،فإن أكبر خطوة يجب على عصرنا العلمي إنما ي ّ
صحيح ،أي الحاضر أن يقوم بها ﻫي أن يتعرف أنه عن طريق الحدس الفلسفي ،بالمعنى ال ّ
بمعنى اإلدراك الظاﻫرياتي للماﻫيات ينفتح ميدان ال حد له للعمل ،ويقوم علم يكتسب بغير
الرياضية غير المباشرة ،وبغير استعانة بأجهزة المقدمات والنتائجالرمزية و ّاستعانة بكل المناﻫج ّ
226
– يكتسب كثرة من أدق المعارف وأكثرﻫا حسما ،لكل فلسفة مقبلة».
إن الفكرة التي انطلق منها ﻫسّرل ،من وجوب التخلي الباتّ عن األفكار المسبقة ،وجاء ﻫذا
الكالم ليفي البيان بحقها ،إنها فكرة سليمة ﻫي قوام ما يرومه من تحصيل علمية حقة وعلما
فلسفيا ،وحقيقة وجودية بالتحديد .وفي ﻫذا ضرب واضح للقيمة المنطقية لألساس الخلفياتي
صدق من غير أن ننبه ببرﻫانه على أن ﻫذا التاريخي النفسي لالستشراق .ولكن ال منتدح لحقيقة ال ّ
تحرر تماما وحقيقة من األفكار المسبقة سواء عنده إن كان الكالم لم يسلم منه إال قوله "من ي ّ
اليقين يجيء إلينا من كنت أو توما األكويني ،من دارون أو من أرسطو ،ﻫلمهولتز أو
باراسيلسوس".
سرل الفلسفة علما دقيقا ترجمة وتقديم :محمود رجب المشروع القومي للترجمة -المجلس األعلى
226ه ّ
للثقافة -2002ص601
174
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الرياضية ﻫو على غير لم ينتبه ﻫسّرل أن ما أراد به 'مناهج غير مباشرة' للعلوم الفيزيائية ّ
الرياضية
بُعد أو بعدي الحدس الفلسفي الظاﻫرياتي التجاوزي والقصدي .فالبعد األول ،بُعد العلوم ّ
مظهرا واضحا للدرس ،ﻫو بعد بنائي أكثر ما يميزه ﻫنا ﻫو االتصال التراكمي ،وضمن الحقل
الماﻫياتي ذاته .بخالف المنهج القصدي فهو على بعد عالئقي بنيوي اتساقي (تكاملي) أﻫم ما
يميزه ﻫنا مبدأ التناسق ،وبعده الثاني ،أي في لوحة الحدس الفلسفي ﻫو ما يعنيه عنده لفظ
"العمق" ،وﻫو ما يطابق مفهوم التنزل العوالمي والماﻫياتي ،الذي يصل المادة بقانونها ،والحقل
الروحية صعدا إلى الحق .وﻫذا ﻫو أسمى ما يمكن أن بيلغه المادي أو الوحدة المادية بالقانونية ثم ّ
السمو اآلدمي في وجوده االستخالفي ،وما الفلسفة أو التفلسف إال كلمة وسلوك وجودي؛ ذلك حقا
ما حققته الفلسفة أو العقل الفلسفي اإلسالمي ،وما كان للفلسفة أو التفلسف الحق من بعده إال أن
يهتدي به ويسير على خطاه.
ي ﻫنا أن وصف العدد االنتقالي في االتصال البنائي بغير المباشر مقابل العالقة التناسقية فجل ٌّ
المنطبقة والمحققة بالحدس الفلسفي المنطقي بوصفها بالمباشر ،ﻫو فقط بميل وعامل العدد
الرياضية،
والتراكم وليس حقيقة .أما أفكار وأحكام الفالسفة ،فهي ال تعلو القيمة الحقائقية للعلوم ّ
ألن ﻫذه األخيرة ﻫي أعلى مقول بشري ممنهج.
الرمزية
ولمزيد من األيضاح وأدلة برﻫانا ،كيف يكون علم يكتسب بغير استعانة بكل المناﻫج ّ
الرياضي ة غير المباشرة ،وبغير استعانة بأجهزة المقدمات والنتائج ،وﻫو يعني به العلم الفلسفي
و ّ
المؤسّس على قاعدة ونهج الحدس الفلسفي ،وقد ب ّينا على أن منتهاه وسقفه عين مبلغ ديكارت في
تأ ّمالته ،فالبداﻫة والنفس والشعور كما عند ﻫسّرل ﻫي مرجع وجذر البرﻫان ،وأن ﻫذا ليس
مسلما به ،وال ﻫو ببرﻫان حق على وجود النفس ،ومن بعده وموصوال به لم يتوصل إلى برﻫان
وجود الحق إال بالبديهة والشعور ،ونحن في مقام الفلسفة ،ال في مقام الخطاب إلى غير المثقف
على قاموس ﻫسّرل نفسه!؟:
صحيحة «ﻫناك فرق كبير بين االفتراضات الخاطئة ،كهذا االفتراض األخير ،وبين األفكار ال ّ
التي ولدت معي ،والتي ّأولها وأﻫ ّمها فكرتي عن هللا .ويثبت لي من وجوه عديدة ،أن ﻫذه الفكرة
ليست شيئا مختلقا أو مخترعا ،يعتمد فقط على فكري .لكنها صورة لطبيعة حقيقية ثابِتة .أوال
جوﻫره أن يكون موجودا .ثم ألني عاجز عن ألني عاجز عن أن أتذﻫن غير هللا وحده يجب على ْ
أن أتذﻫن إلهين أو أكثر على شاكلته .وإذا سلمنا أن ثمة إلها موجودا ،اآلن ،فواضح أن يكون قد
175
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وجد منذ األزل ،وأن يظل موجودا إلى األبد .وأخيرا ألني أرى في هللا صفات أخرى ،كثيرة ،ال
227
يمكنني أن أنقص منها شيئا ،أو أن أغير».
وأعيد التذكير مؤكدا بأن تأ ّمالت ﻫسّرل ما ﻫي إال صيغة تحويلية لتأ ّمالت ديكارت
بحذافيرﻫا.
إن المخرج الوحيد الذي ال يُرى سواه في البرﻫان الوجودي الذي أخفق فيه ديكارت ال ريب،
تحرر من كل اضطهاد تاريخي للعقل إنه في التأصيل الفلسفي للرياضيات والمنطق البشريين ،الم ّ
سس تحت أي دثار؛ إن حقيقة العقل أول متجالﻫا "االعتبار المنطقي" و"مفهوم العنصر" المؤ ّ
على نسق االختالف .إن ﻫسّرل يقول بأن القصدية والحدس المنطقي يبني فلسفة للوجود من أسفل
ي في التوحيدات والذاتيات البينية المادية والحيوانية والعقلية
إلى أعلى ،وﻫذا بالطبع جل ّ
ي ،والبناء عليه ،فبالحق الروحية ،ووجود الحق يكون بانحفاظ الحق ،من أعلى تنزال ،وﻫو العل ّ و ّ
صالح:
ي القيّوم ،ومنه يستمد وجود النفس من خالل إنشاء وبناء العمل ال ّ قيّومية الوجود ،وﻫو الح ّ
'أعمل صالحا فأنا موجود" ﻫذه الحقيقة ،أو لنقل بيانها ﻫو الذي نستشفه في ﻫذه السّطور
والكلمات لهسّرل:
«فمن التأ ّمالت الطبيعية في أفضل الطرق لبلوغ ﻫدف اإلنسانية النبيل ،وبالتالي بلوغ الهدف
النبيل للحكمة الكاملة – نشأ ،كما ﻫو معروف فن ،ﻫو فن اإلنسان الفاضل أو اإلنسان القادر .وإذا
ما حددنا – كما جرت العادة – ذلك الفن أنه فن السّلوك القويم ،فمن الواضح أنه يؤدي إلى نفس
المعنى ،ألن السّلوك القادر وﻫو السّلوك الذي نقصده ،يرجع إلى الطابع العملي القادر ،وﻫذا
األخير يفترض مقدما الكمال المعتاد ،من جهة النظر العقلية والقيمية .ومرة ثانية نقول إن السعي
الواعي نحو الكمال إنما يفترض مقدما السعي إلى الحكمة الكلية .أما فيما يتعلق بالمضمون فإن
ﻫذا المبحث يوجه اإلنسان الذي يسعى ،نقول :يوجهه إلى مجموعات مختلفة ومتعدد من القيم،
وﻫي التي تلك توجد في العلوم ،والفنون ،والدين ،إلخ بحيث ينبغي على كل فرد في سلوكه أن
صحّة موحدة وتقوم على أساس من الذاتية المشتركة .وفكرة يتعرف عليها بوصفها ألوانا من ال ّ
ﻫذه الحكمة والقدرة الكاملة ذاتها من أسمى ﻫذه القيم .إن ﻫذه النظرية في السّلوك األخالقي سواء
أكنا ننظر إليه على أنه شعبي أكثر أو على أنه علمي أكثر – تدخل ،بطبيعة الحال ،في إطار
فلسفة "للنظرة العا ّمة إلى العالم" فلسفة ال بد من جانبها وبجميع مجاالتها وعلى النحو الذي نشأت
227رنيه ديكارت :تأ ّمالت ميتافيزيقية في الفلسفة األولى .التأ ّمل الخامس ،صص ،12-16ترجمة الدكتور كمال
الحاج
176
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
معه في الوعي الجمعي لعصرﻫا ووفقا للطريقة التي تواجه بها الفرد بوصفها حقيقة موضوعية
– نقول :ال بد أن تصبح ﻫذه الفلسفة قوة ثقافية بالغة األﻫمية ،ونقطة إشعاع للشخصيات الهامة
228
في العصر».
...
إننا ﻫنا في موقع من الفلسفة عظيم؛ وبسبيل من تعدد المآخذ وتصريف القول يرجى انفتاح
األفئدة ويؤمل انشراح الصدور ،لترى أن عصب األمر كله الذي انبنى ويرجع إليه تفلسف
ديكارت وﻫسّرل تخصيصا ،التفلسف الذي بيانه التأ ّمالت ومجادلة السّيكولوجيين ،وأرجوحته
مبدأ التناقض المنطقي والثالث المرفوع ،والسّؤال الخطير وسؤل الحقيقة بين "النويّة" و"الفيائية"
فيما ناطه ﻫسّرل على مفهوم النسبوية الذاتوية ،أن عصب األمر فيه ومجمع قضاياه الفلسفية
ج وسل ٌم واح ٌد.
جميعا من غير مثنوية ،معرا ٌ
لقد شرحنا بما فيه الكفاء أن الفيلسوفين لم يتجاوزا البداﻫة مبلغا في البرﻫان والتأصيل للوجود
مقرر بغير مماراة من صحة لمبدإ وللموضوعية والحقيقية .وبنفس ما النتظام الحق ،مما ﻫو ّ
التناقض والثالث المرفوع حين – أقول حين -يكون في المطلق ،فإننا نلفي ﻫذه العصبية
والمجمعية في كل موضع وعلى كل منحى ،كأنها أشعة العمق الكوني ،األشعة اإليزوتروبية،
التي أنارت إليدوين ﻫوبل حقيقة الكون في حركته التوسعية وفي قانون ﻫذه الحركة واالتساع،
وذلك ﻫديا من القانون الهام المعروف بأثر دوبلير (الذي توصل إليه العالم األلماني جون
كريستيان دوبليرعام 3840م) بأن منحى حركة مصدر الضوء بالنسبة للمتلقي تحدث مغيرا في
لونه ،حيث يكون ويزداد احمرارا مع البعد ،وإلى الزرقة في العكس ،أي مع االقتراب ،ولينتج
البيان مع ميله الثابت الشهير ،ثابت ﻫوبل.
177
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
'فإذا كان يراد الزعم ،مع ذلك ،أن الحكم الصادق ،شأنه شأن كل حكم ،ﻫو نتاج لقوام الكائن
الذي يحكم ،على قاعدة القوانين الطبيعية التي يخضع لها ،سنرد ب :علينا أن ال نخلط بين الحكم
بما ﻫو مفهوم حكمي ،أي بما ﻫو وحدة أمثلية ،مع أفعول الحكم الواقعي والمفرد .وإنما نقصد
األول حين نتكلم على الحكم « »x6=x0الذي ﻫو نفسه أبدا أيًّا كان من يطلقه .ويجب أال نخلط
كذلك الحكم الصادق ،بوصفه أفعوال حكميا سليما مطابقا للحقيقة مع حقيقة ﻫذا الحكم أو مع
المضمون الحكمي الحقيقي .قد يكون الحكم x6=x0متعينا سببيّا ،لكن ليس الحقيقة.x6=x0 :
ﻫنا ال شك يثير ﻫسّرل سؤال الخلفيات الخفية لدروب وآليات مسمى العلوم اإلنسانية 231والتي
من حقلها موصوال بها 'األنتربولوجيا" وﻫو الخطر الذي لم نفتأ نحذر منه وننبه إلى خطورته في
سرل مباحث منطقية مقدمات في المنطق المحض -الكتاب األول -ترجمة موسى وهبة -كلمة- 229إدموند ه ّ
المركز الثقافي العربي -ص344
230ن م – ص658-651
صليبية للعقل العربي اإلسالمي الحديث وحوض العلوم اإلنسانية" من كتابنا
231انظر -0" :أستاذية المسيحية ال ّ
178
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
اللبس البريء وغير البريء منه في مفهوم "التراث" وكفى ما للخطر في البيان أو ما للبيان من
232
خطر.
النص ،وعلى غرار ما أومأنا إليه ،وذلك كما الشأن عند ديكارت ،من المعنى نفسه
ّ ﻫذا
والحقيقة ذاتها أو بأدق وأقرب التعبير المحاولة المكررة إليجاد مخرج لنفس السّؤال ،ﻫو خالصة
لتفلسف ﻫسّرل وديكارت؛ ومتعلقه بأقوم وأصح وضع ﻫو شقه الثاني في قوله:
"ألن القضية «ال وجود ألي حقيقة» تساوي ،من حيث المعنى ،القضية« :توجد حقيقة أو ال
وجود ألي حقيقة» .ويؤدي خلف ﻫذا الطرح إلى خلف الشرط".
ال بد من تصحيح قوله "تساوي من حيث المعنى ،ذلك أن مضمون القضية ،وﻫو بالقاموس
نوي" أو
تقرريرﻫا قضية منطقية ،إذ ﻫي ﻫنا في مرجع "ال ّ ِالهسّرلي الممثل ل"فِياﻫا" ال ينطبق ب ّ
مرجع نوي .المضمون فيها وتقريرﻫا بمضمونها في العقل ،وإذن فهما ال يتساويان.
واآلن لننظر إلى القضية «توجد حقيقة أو ال وجود ألي حقيقة» إنها مكافئة منطقيا للقضية "ال
وجود لناطق إطالقا".
بالطبع من حيث الصرامة في البرﻫان لن يقبل القول باالحتجاج بمبدإ التناقض؛ فمقال ﻫسّرل
وأسئلته ومجادلته للسيكولوجيين ،ﻫو ﻫذا الغموض والالتحديد وعدم االنضباط المفهوماتي العلمي
لهذا المبدإ .وإذن ليس لنا أو إن نحن وجدنا سبيال آخر ،وإن يكن بتأصيل فلسفي وعلمي أعلى
ومتين ،فذلك خير وسبيل أقوم.
النوي" والذات
إن األساس ﻫنا ﻫو عينه األساس الذي تجاوزنا به الكوجيتو الديكارتي ،إن " ّ ِ
المعقلة أو النفس التي منها وليس من خارجها أخذ واستمد ديكارت وجوده ،وكانت منتهى تفلسفه،
ﻫي مفتقدة لبرﻫان وجودﻫا؛ وﻫي اآلن أو عند ﻫسّرل حقل ﻫذه المقولة والقضية «توجد حقيقة أو
ال وجود ألي حقيقة».
179
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لقد بينا سواء في "تفصيل الخلق واألمر" أو في "األصول الحقة للرياضيات ونقد الدليل
الوجودي" أن العقل شعلة من العقل الكلي ،وأن ّأول تجلي العقل اإلنساني وحقيقته ﻫو بالذات
الرياضي؛ أي اعتبار قضية ما أو عنصر ما أو وحدة ما؛ فنفي الحقائق مطلقا التقرير المنطقي و ّ
معناه انتفاء العقل .ومنه يستبين أن برﻫان الوجود ﻫو من خالل الحق المنحفظ على معراج
العقلين ، 233وﻫو بالتحديد معراج التأصيل للمنطق ّ
والرياضيات البشرييين ،بالمعطى الخلقاتي
سية بنحو خاص .فالعقل النسبي والتفصيلي ،النسبي لمخلوقيته ،والتفصيلي لخلقته النوعية الحوا ّ
234
ُمعَ ِ ّدل خلقي إدراكي متناسق ومخلوقيته .إن المنطق ّ
والرياضيات البشرييين فطريان.
النص بذات
ّ مجرد أن نلحظ االرتباط المباشر للشق األول منويزداد وضوح األمر ويتبلور ب ّ
الرياضيات البشريين ،بالميز بين األعداد الحقة
المرتكز ،مرتكز تأصيل العقل والمنطق و ّ
235
الرياضيات البشرية في حقيقتها فيزياء للمحسوس .ﻫنا ال بد من واألعداد الجمالية ،وبكون ّ
استحضار إشكال حقيقة ،x6=x0ليس فحسب من ناحية اختالف األعداد الجمالية عن الحقة ،بل
تصوره ﻫسّرل.
ّ عدم داخلية ﻫذا التركيب نفسه 236.ومنه فال إطالق وال أمثلية مما
الرياضيات
إن ﻫذا التحديد للعقل البشري وصال بالحق ،وكذا لإلدراك وظيفة له وللمنطق و ّ
237
البشريين ،ال محالة ،يُغني ويحيّد كل ما أثاره ﻫسّرل بشأن منطق وسيكولوجية زغفرت ،التي
مشكلتها البحث عن المرجع الحق الي يؤسّس للموضوعية وللوجود الحق .وال بأس أن نسوق
صا دالليا في ﻫذا:
ن ًّ
"فلو كان للحقيقة صلة ماﻫوية بالعقول المفكرة ،وبوظائفها الذﻫنية وصورﻫا العمالنية ،لكانت
ستولد وتندثر معها ،إن لم يكن مع األفراد فعلى األقل مع األنواع؛ وسينتهي األمر مع صحيح
موضوعية الحقيقة ،وكذلك مع حقيقة الكون؛ بل أيضا مع حقيقة الكون الذاتي أو كون الذوات.
233نرى أن هذا هو أعلى مرجع فلسفي صحيح ،وعلى أساسه ال على ما اعتمده ديكارت مستمدّا من ابن سينا،
يصح البرهان الوجودي إطالقا ً للنفس وللحق سبحانه ،وعليه وعلى قانون التفصيل يمكن بناء أعلى وأصح تفلسف
كما سنحاول بيانه وتوضيحه في موضعه من هذا الكتاب
234انظر " -5المخلوقاتية والتجزيئية ..من العنصر إلى النقطة" في "األصول الحقة للرياضيات" – ص13
235انظر " -3األعداد الحقة واألعداد الجمالية ..خلقية األصل للعدد ولنظرية المجموعات وتصويب قول
ديدكاند" -ن م -ص17
236انظر " -2الحلقة وشرط برو ِور -فتنشتاين" ن م – ص306
237انظر "§ 38األنتربولجيّة في منطق زغفرت" في مباحث منطقية – 6ص616
180
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فما الذي سيحصل ،مثاال ،لو كانت الكائنات في جملتها عاجزة عن طرح كونها بوصفها كائنا
حقا؟ في ﻫذه الحالة ستكون ولن تكون مع ذلك .الحقيقة والكون ﻫما معا «مقولتان» ،بالمعنى
عينه ،ومتضايفتان بوضوح .وال يمكن نَ ْسبَنة الحقيقة ورفع موضوعية الكون .ألن نسبة الحقيقة
238
تفترض بدورﻫا ،حقا ،كونا موضوعيا كنقطة مرجعية – وﻫنا إنما يكمن التناقض النسبوي".
واألرض،ْ اواتوإنما حقيقة العقل مستم ّدة بوصلها بالعقل الكلي ،وصلها بالحق قيّوم الس َم َ
وتحقق العقل بحفظ الحق في أول موقع له في الفضاء اإلدراكي بالتقرير المنطقي (ضمنه
والرياضي على ما بيناه .فالمنحى الحق تنزلي ،وﻫو المنحى الذي يعطي للمسلمات اللغوي) ّ
الرياضية حقيقتها الوجودية وكونها الحق المكين فيما قبل العقل ،العقل البشري .وﻫذا ليس فحسب ّ
دليل ضالل ديكارت في الكوجيتو ،بل في صعود كانط سلما فلسفيا بالنسبة إلى ديكارت الذي لم
يتوصل إلى المنحى التنزلي للحق والحقيقة .والخلقاتية ﻫنا ليست من معنى النفسي ،وﻫي أ ْسر
وشرط وجودي سابق ،وأساس مهيكل ومحدد للمنطق البشري في أنساقه ،وتخصيصا نسق
سي ،نعم ﻫنا أمكن وجاز وصف صة التجزيئية للعقل البشري الحوا ّاالختالف ،المستلزَ م بالخا ّ
الحواس بقوة في كل تفلسف في ﻫذا الحيز، ّ سي؛ وﻫذا ﻫو المفسّر لورودالعقل البشري بالحوا ّ
استيعاب ﻫذا
ُ سواء عند كانط أو ديكارت أو ﻫسّرل أو الغزالي وغيرﻫم .وال أشك أن الذي تم له
سيُغنيه عن شطر بل عن ج ّل حديث مباحث منطقية .وستصبح نموذجا واضحا في توليد المادة
ي دعوى تفلسفية على اإلطالق. ي تفلسف وأ ّ
المفاﻫيمية .ﻫذا ببرﻫانه منظار في تقويم أ ّ
181
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
سرل
-2المدار والنسق التفلسفي له ّ
في ختام مقدمة ترجمته للكتاب األول من "مباحث منطقية" إلدموند هسّرل وغايتها البيانية،
نجد هذه الكلمة الوصفية لموسى وهبة -رحمه هللا! -وصفا ً أصاب كبد الحقيقة وواقع الفلسفة -أو
بصحيح التعبير -التفلسف الغربي:
"فعالم الحياة يحيط بالفيمياء المجاوزة من الجانبين .وتمثل العودة إليه ما يمكن أن يسمى دربا
السري للتفلسف
ّ تأريخية (بمعنى تاريخ الذاتية المجاوزة) إلى الغاية إياها ،أي إلى المقصد
الحديث برمته .ففيه يتم العثور على الدافع األصلي للبحث العلمي عن الحقيقة الموضوعية بحثا
الرداء بمثابة الشخص ،أي اتخاذ المنهج بمثابةجراء اتخاذ ّ
يعاني اليوم أزمة آخذة في التفاقم ّ
الكائن الحق.
والحق ،إن األزمة هي أزمة معنى أساس العلوم ،ومعنى كل وجود بشري ،أو أزمة غياب هذا
المعنى .فالعلوم الوضعية في أوج ازدهارها ال يمكن أن تجيب عن أسئلة اإلنسانية كنتيجة طبيعية
لوضعيتها ،أي لطرحها جانبا كل سؤال عن المعنى وكل ميتافيزيقا.
ضع) بالقاموس الهسّرلي، إن الزمن القصدي الذي تستغرقه دارة (الذات المجاوزة ↔ ال ُمو َّ
وبتعليق وتأجيل برهان الوجود للذات ولحقل موضوعها ،هو زمن ذو ماهية تفلسفية لكن حقة
ومنطقية .ذلك أنه إن بدا أوال فقط بُع ًدا من هذه الكينونة السيروراتية وهذا المسار التفلسفي ،فإنه
182
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
في الحقيقة تكامل وجودي ،ما وسمناه بالزمنية سوى لخطه ومساره التكاملي نحو البلورة
الوجودية للذات المجاوزة.
الذي يه ّمنا نحن أكثر في َم ْوضعنا ،هو أن الذي أعطى للذات وجودها هو االنتظام ،وليس فقط
أحادية جوهر الموضع للمختلف ولكل الذوات المجاوزة بعد مجاوزاتها .وهنا يبرهن على
الوجود ،وعلى وجود قاهر مسلم به ،وهذا ليس إال مرتكزات فلسفية بارزة:
والنظير الموازي نسقيا ً لمعنى المجاوزة التفلسفية القصدية في تقرير الوجود ،بل هو
أسبق هيكلة نسقية عقلية منطقية وأوضح ،هو الحقل التوليدي [العلم ↔ ال ِعلمان] وهو الحقل
صل
ضع" ،يحولها وينقلها إلى مح ّ الذي يُ َح ّ ِو ُل الوجود خارج الذات ومعها الذات ،كُال ك" ُم َو َّ
معرفي وإلى معلوم ،وإلى علم .لكن لننظر وبتمحيص معالج زاوية الرؤية على قدر عقل
هسّرل ،لننظر إلى قوله وبيانه الفلسفي :
الراهن الذي نرى أنفسنا محالين«والحال ،إننا نحوز الحقيقة في العلمان .وفي العلمان ّ
إليه في النهاية ،إنما نحوزها بوصفها موضوع الحكم الصائب .لكن هذا وحده ال يغني .ألن
ي إنكار له ليس بعد
ي موقف ،من مطلوب ما ،متوافق مع الحقيقة ،أو أ ّ ي حكم صائب وأ ّ أ ّ
علمانا ً بكون هذا المطلوب أو ال كونه .فما ينتمي إلى العلمان – إن كان علينا التحدث عنه
بالمعنى الضيق والدقيق – هو البداهة واليقين الكلي الوضوح بأن ما نتعرفه كائن أو بأن ما
ننكره ليس بكائن ،ويقين يجب أن نفرقه من القناعة العمياء والرأي الغامض ،أو الرأي أيا
كانت قوته ،إن كان علينا أال نقع فريسة الريبة المتطرفة .لكن اللغة الدارجة ال تتوقف عند
صارم للعلمان .فنحن نتكلم أيضا ً على أفعول علمان ،حين تقترن بالحكم ذكرى األفهوم ال ّ
صريحة بأننا أصدرنا في السابق حكما تصحبه بداهة ومماهيا ومماهيّا له في المحتوى؛ وال
سيما أيضا ً حين تختص هذه الذكرى باستقالل برهاني تنجم عنه هذه البداهة ويكون لدينا،
183
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
في الوقت نفسه اليقين بإمكان استعادته مع البداهة هذه«( .أعلم أن مبرهنة فيثاغورس
صحيحة – ويمكنني أن أبرهنها»؛ يمكن أن يعني أيضا ً ،على أي حال« - :إال أنني نسيت
البرهان»).
وعليه فإننا نأخذ بعامة ،األفهوم علمان بمعنى أوسع إنما غير غامض البتة مع ذلك،
ونفرقه من الرأي غير المؤسّس مستندين بذلك إلى «عالمة» معينة على قيام المطلوب
المفترض أو إلى صوابية الحكم الصادر .والعالمة األتم للصوابية هي البداهة ،وهي تصدق
لدينا بوصفها استبطانا ال موسّطا للحقيقة بعينها ،وفي الغالبية العظمى من الحاالت ،نفتقر
240
إلى مثل هذه المعرفة المطلقة للحقيقة».
أنوهُ بكون هذا النسق وهذه الدارة هي روح تفلسف هسّرل هنا ،فألنه ال يمكن إنني عندما ّ ِ
الدخول إلى حقله وداراته الحقلية المماثلة ،في ترددات المواقع التفكرية والتفاوتات البيانية
التي ال يمكن بحال إزاحة تشويشاتها ،المماثلة تما ًما لدارات سباق السيارات الخارقة
السّرعة .وهذه هي المطية والمنظار والسّعة المنهاجية التي يمكن أن نقرأ بها بيانات
صحيح والتام ،ألننا
وتفلسفات على هذا العلو والتعقيد المصاحب لها ،تعقيد بالمعنى ال ّ
ملزمون بتحييد وعدم السقوط واالنحراف واالنجراف مع نقاط ومواقع ومنعرجات ،غير
مناص منها في المسالك التفلسفية المستجدة نسبيا ً .وبهذا يتطلب البيانّ صحيحة وخاطئة ،ال
الرياضية البحتة ،يتطلب مرافقا ً ورائزا ً التفلسفي العالي ،أو يجمع إلى السّعة العقلية للقراءة ّ
الرياضية بل والعلمية المكون االنحرافي غير الطبيعي في األبنية والبيانات ّ
ّ دقيقا ً على ناحية
الرصينة .ودوما ً هناك قوة ومصاحب عقلي ذاتي ،يميل إلى تسويغ هذا الخطإ والتفاوت، ّ
ورده إلى توافق ما ،ولو مع معطى معين أو معطيات معينة.
240ن م – ص12-16
184
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
«ويكفينا القول هنا إن العلم يقيم ،أو يجب أن يقيم ،شروطا ً مسبقة إلنتاج أفاعيل علمية،
ي ٍ»
سوي» أو «الموهوب على نحو سو ّ وإمكانات واقعية للعلمان الذي يمكن لإلنسان «ال َّ
سويّة أن يعد تحقيقه هدفا يُبلغ يمكن إلرادته أن تطمح إليه؛ بهذا المعنى إذن
وفي عالقات َ
241
يهدف ال ِعلم إلى العلمان».
ههنا تناقض بيّ ٌن ال يمكن أن يُحل إال باعتبار مسار مرجعي للبيان مختلفة نقاطه ،بل
وكذلك ،وهذا أقصى ما يمكن تحمله من التسويغ ،تباين الداللة المعجمية ،وهو نفس الذي
وقع لو نظرنا إلى مجموع الح ّيز وسياق الكلم والبيان؛ فسوا ٌء العلم والعلمان كالهما
مستعمالن في نفس الكالم على مختلف من الداللة .العلم بمعنى المعرفة أو المعلومة ،من
جهة مباينة بمعنى البناء النظماتي المعرفي؛ وأيضا ً بشأن العلمان ،على معنيين مختلفين تمام
صلة باليقين العلمي البرهاني .لكن ال بد من إرجاع مجرد البداهة ،والبداهة المح ّ
ّ االختالف:
ورد الكل والحكم في هذا الذي يظهر فيها ضرب من االختالف ،رده إلى روح التفلسف إياه،
الروح ،المعبر عنها بمفهوم "القصدية" أو مفهوم فيعتبر أو تعتبر المعاني المنتظمة وهذه ّ
"التجاوزية" في معادلة البرهان الوجودي النظماتي[ :العلم ↔ العِلمان]
241ن م – ص16
242ن م – ص13
243ن م – ص13
185
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لكن ونحن دوما ً بصدد النظر الج ّدي في بيان هسّرل هذا ،الذي م ّهدنا به ،ففي نفس
المظهر الترددي يقول:
«إلى ماهية العلم تنتمي إذن وحدة تعالق التعليالت ،التي بها نكتسب المعارف الجزئية
والتعليالت إياها أيضا ً ،وفيها تلك المركبات العليا التي نس ّميها نظريات ،كوحدة سستامية.
صورة التي تجعله يتناسب
مجرد علمان بل علمان بذلك الطول وتلك ال ّ ّ وهدفها بالضبط ليس
244
مع أعلى مقاصدنا النظرية وبأكثر تمامية ممكنة».
إن أعلى مصادر اليقين الوجودي عند هسّرل ،اليقين الذي " يجب أن نفرقه من القناعة َّ
العمياء والرأي الغامض ،أو الرأي أ ًّيا كانت قوته ،إن كان علينا أال نقع فريسة الريبة
المتطرفة 245".هو البداهة التي يُمدنا إياها العلمان الذي وضعه هنا موضع العنصر الحدسي
إلى مرجع "مقاصدنا النظرية" .بل ويستدعي ترجيحات وتقريبات لم يطرح سؤال مصدرها
الرابع .بالطبع
وتقريرها .وهذا ال شك هو دون المستوى اليقيني البرهاني لديكارت في تأمله ّ
المكنون في بيانه هو أن هذا المصدر للبداهة األعلى عنده هو روح النظماتية ،لكن هنا حد
صعوده ،وكذلك بالنسبة لديكارت كما بيناه وبرهنا عليه.
وبتجاوز االختالف الداللي وتسيير هذا االختالف ،بحسب مسار الدارة القصدية في
صلها العلمي المرادف للمعرفي خالل الزمن التكويني للعلمان ،بحصول تجاوزها للذات بمح ّ
العلم المرادف للبناء المهيكل نظمة نظرية منطقية ،وهذا هو أقصى وأعلى المدار الفلسفي
القصدي ،مع كل هذا وفي الذروة ،نجد المصدر األعلى لليقين العقلي والمنطقي
س َّمى عل ًما نظمة
والسّيكولوجي ،هو هذا الشيء القائم الثابت المثبت أمام العقل والنفس ،ال ُم َ
معرفية متناسقة ومتسقة ،بنيانا ً منطقيا ً ال ترى فيه ِع َو ًجا وال أمتا ً.
غير أننا هنا ال زلنا دون اليقين الممكن ،إذ يبقى السّؤال المل ّح :ما هو المرجع في الحكم
تصورات والتصديقات هاته؟ وهذا الح ّد التفلسفي نجده واضحا ً ال يمكن ألحد أن يُجادل وال ّ
سار ال َج َدل
ي ِ من م َ
القص ّ
ِ وال أن يماري فيه ،نج ُده في الحيّز التفلسفي المتقدم في الطرف
244ن م – ن ص
245ن م – ص12
186
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
التفلسفي التساؤلي بخصوص الماهية السّيكولوجية للمنطق ،بين الوجود والعدم تماما ً ووفاقا ً
صعود إلى سقف الفلسفة وبلوغ الحقيقة من عدمه؛ وهذا الدليل المبين: سندين المتقابلين ،ال ّ
لل ّ
"ال تنجح الحجّة اآلتية التي غالبا ً ما تكررت ،أكثر مما نجح سواها في زعزعة الفريق
السيكلوجي؛ يقال إن المنطق ال يمكنه أن يستند إلى السّيكولوجيا أكثر مما يستند إلى علم آخر
ألن كال منهما ليس علما إال بفضل تناغمه مع قواعد المنطق ،وألنه يفترض سلفا صالح
هذه القواعد .سنقع في دور منطقي إذا ما شئنا أن نبدأ أوال بتأسيس المنطق على السيكلوجيا.
وهاكم ما سيرد المعسكر الخصم :أن ال يمكن لهذا الحجاج أن يكون سليما ،فإن ذلك يعود
سلفا إلى أنه سينجم عنه امتناع أي منطق بعامة .وبما أن على المنطق ،بما هو علم ،أن يتقدم
منطقيا ً فإنه لن يفلت بالتأكيد من هذا الدور المنطقي نفسه؛ وسيكون عليه ،على أي حال أن
يفترض قواعد معينة وأن يعلل صالحها.
لكن ،لنر عن كثب إلى ماذا يؤول هذا الدور المنطقي بصحيح العبارة .هل إلى كون
السّيكولوجيا تفترض صالح القوانين المنطقية؟ لنحذر في مثل هذه الحالة من اللبس المتصل
بأفهوم االفتراض .عندما نقول إن علما ما يفترض صالح قواعد معينة فإن هذا قد يعني أن
القواعد هي مقدمات لتعليالته ،وقد يعني أيضا ً أنها قواعد على العلم أن يتقدم بموجبها لكي
يكون ببساطة علما .والحجّة المذكورة أعاله تخلط بين المعنيين؛ فبالنسبة إليها األمر هو
نفسه :أن نعلل وفقا للقواعد المنطقية وأن نستنبط انطالقا منه ،ألنه لن يكون ثمة دور منطقي
إال إذا استنبطنا انطالقا من قواعد منطقية .والحال ،إنه كما يبدع فنان آثارا ً جميلة من دون
أن يعلم أي شيء عن االستطيقا ،كذلك يمكن أن تبني أدلة من دون اللجوء إلى المنطق؛ ومن
ثم ال يمكن للقواعد المنطقية أن تكون مقدمات لتلك األدلة وما يصح على األدلة الجزئية
246
يصح أيضا ً على العلوم بأسرها".
ﻫنا ،أي ﻫذا المرجع السّيكولوجي للمنطق أو قل للبداﻫة ذات ال ِفنان السّيكولوجية ،ينبغي عليك
الرابع ،مستند الكوجيتو ،لكنه
أن تنظر إليه جيدا فتلفيه المستند الذي استند إليه ديكارت في التأ ّمل ّ
سيكولوجية أنكما بيناه بتفصيل ساطع منير ،ليس يصح ،ألنه بالذات ال يصح للنفس الذات ال ّ
تهب الوجود من قبل أن توجد ﻫي ،أو من قبل أن يُبر َﻫن أوال على وجودﻫا .ويكفي أن يواجهك
مثل ﻫذا البيان بصدد الكوجيتو الذي يصفه بالحدسي أو الحدسية.
246ن م – ص82-86
187
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ومن جمال الحق ﻫذا النور الذي ال يفتأ ينير للعقل الرصين ما أظلم عليه وأشكل.
188
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صة إذا كانوا علماء رياضيين ،لكن الفلسفة لن الفالسفة من أعلى الناس مدارا تفكيريا وخا ّ
تكون أقوى نورانية نورﻫا من نور الحق إال إذا كانت صارمة في لغتها وقصدية اختزالية في ﻫذا
البيان .ولقد أشار ﻫسّرل نفسه في حديثه عن المنهج وعلى غرار كل المناطقة والفالسفة ،على
خطر اللغة والعناصر البيانية واالصطالحية وأثر االستعمال الس ّي ِء للغة .واألمر ال يقف عند ح ّد
صيغ البيانية وإﻫمال فروقها على شتى أثر األلفاظ المفردة ،بل يجب أن نالحظ ما للتساﻫل في ال ّ
شوائب أسلوبية وداللية تتخلل البيان الفلسفي،
َ الوجوه التركيبية ،ما تكتسيه من خطر كبير في بث
تشق تماسك معانيه وترابطها وتنال من صالبته.
فلننظر إلى ﻫذا السّجال بين الفالسفة حول التصنيف للمنطق من جهتي النظري والعملي أو
التقويمي واإلنشائي ! ولننظر إلى ما أطال ﻫسّرل وأسهب فيه من السّرد لما قيل وما حجج كل
يختص به ذوو األفهام من
ّ طرف من الفرقاء إلى غيره ،مما يغني مثل ﻫذا التفلسف ويجعله ما
أساتذة الفلسفة يجدون في ذلك تميزا ،ولكن ويقينا صعوبة للجمع بين ﻫذه األقوال ،ال ألنها
تحس به ،ولكن الغريب والعجيب أن ّ تحس الذات السّيكولوجية بادئ ما
ّ متعارضة تعارضا
صحيح الصحيح ،وال ّ يتعارض األلى ﻫم أعلى الناس عقوال وأجدر بهم أن يكونوا أقرب للتفكير ال ّ
يكون إال واحدا موحدا؛ وقمن بهم وأولى إفهام بعضهم بعضا وقدرتهم على ذلك معا؛ فهم أعقل
الناس وأذكاﻫم وأعلمهم!! وإن مثل ﻫذا التباعد والتناقض ل ِمما يع ّبر عن صنفه وإن كان قليل من
ص ّم ،وإذن ال بد أن ﻫناك الناس ينتبهون إلى ذلك ويعطونه داللته ،إن ﻫذا ل ِمما يعبّر عنه بحوار ال ّ
قصورا وأن ﻫناك إﻫماال لبُعد َما ﻫم له مهملون وﻫم عنه معرضون!
الرابع ،ظن أنه لم يصنعه ولم يخترعه ،وبيّنا بخصوص المثلث الذي تخيله ديكارت في التأ ّمل ّ
الرياضيات إنما ﻫي إنشاء بالحق ،أي اختراع وصناعة بأنه ﻫو صانعه ومخترعه ،وبينا بأن ّ
بالحق ؛ وشتان ما بين المثلث وقانون المثلث .ففرق بين النسق القانوني ،واإلنشاء بالنسق
صل للعقل المستفاد
القانوني ،والفحص بالنسق القانوني .وما المنطق إال القانون األولي المح ّ
األولي في االنتظام مع القانون الكوني
بالمعقوالت األولى أو النسق العقلية األولى ،أي القابل ّ
189
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والوجودي المحقق والسّاري في المثلث بنحو مثا ٍل ثابت قابل ألن يعتبر لثبوتيته جوﻫرا أو
عنصرا عقليا ثابتا ،وفي الزﻫرة بنحو مثال متغير يحكمه ﻫذا القانون الكوني .فالمنطق وﻫنا
نستجلي أعلى تعريف له :المنطق ﻫو قانون انتظام العناصر الثابتة في العقل .فهو إذن قصر
للقانون الكوني الذي ينطبق اسمه ب"الحق" ،أي ﻫو تفصيل للحق على صيغة العقل.
والذات السّيكولوجية أو النفس ﻫي من صنف الزﻫرة ،ومنه يرتفع لبس عالقة المنطق
الرياضي من الذات السّيكولوجية ،فمعناه بالسّيكولوجية .فإذا أمكن أن نستمد المنطق ومنه المنطق ّ
صو َرك ْم األرض بال َح ّ ِ
ق َو َ اوات َو ْأن نستمده من الحق الذي َيسبح فيه الوجودَ ﴿ :خلقَ هللاُ الس َم َ
ير'﴾(التغابن )3فالتعليل لما يحدث في الوجود ﻫو بالحق ،والحق ص ُص َو َرك ْم' َوإل ْي ِه ال َم ِ
سنَ ُ
فأ ْح َ
الرياضي ،الذي ال يكون إال في االعتبار الثابت للعناصر المنتظمة ،أي ُمهيم ٌن على المنطق ّ
اعتبار العناصر في آن زمني منطقي واحد ،وﻫذا ينبغي له سعة علمية ذاكرة وعقال شبه معجزة
النفس أو الذاتُ
ُ أو معجزة .فهذا ﻫو المعنى الممكن في األصل السّيكولوجي للمنطق ،ال ْ
أن تكونَ
السّيكولوجية ﻫي مرج َع الحكم والتقويم الحقائقي المنطقي ،وﻫذا ﻫو الذي عناه كانط .وﻫو فيما
أرى لم يتبيّن فيه من قبل عند األكثرين ،خصوصا ممن لم يهتموا بقرب بالتطور العلمي للمنطق
ذاته ،يكفي فقط أن نشير إلى المنطق الزمني ،نرى ذلك ﻫو الفصل والفهم فيما يكون تقابل
ﻫو،الرياضي والطبيعي والنفسي والتجريبي ﻫو َ الفارابي وابن سينا مع الغزالي ،فالمنطق ّ
فالفارابي وابن سينا يُخضعان الوجود للحق من المثلث إلى النفس إلى الطبيعة ،إلى أن يقول بأن
الرياضية الكون قائم مادام الحق ،فإذا انحل حقل الحق حق الفناء ،ذلك ما يطابق المعيارية ّ
المسخرة بالحق لمجال االستخالف البشري ومنصة التقدم العلمي الغربي.
وللبيان عن مكث فضل؛ فإن ﻫذه المسافة المعرفية في تحديد شروط السّلوك للذات في آن
الرابع "النتائج األمبيرية
واقعي معيّن ،ﻫي التي أسند إليها ﻫسّرل في ّأول تطرقه للفصل ّ
واضطر معها لتعليق َبعدي يُبيّن استعماله لها بمعنى "ضد
ّ للسيكولوجية" لفظة "الغموض"
دقيق" ،وليس يغرب ويخفى إن أنت علمت بون ﻫذه المسافة من خالل ما سبق شرحه ،أن فرقا
عظيما بين مصداقيتي لفظة "التقريب" دالة على بناء معطياتي له 211/51من الواقع نريد منه
211/2أو أدنى من ذلك .وآلية التداعي الحر ليست ناجعة أو ﻫي معتمدة لتعليل مطلق
السّلوكات ،وإنما عضدﻫا العملي تضييق إمكان االتساع المعطياتي ،الذي بالطبع يكون محققا
بعناصر وأحوال معينة ،ترجع صياغتها إلى ذكاء المحلل والطبيب النفسي.
190
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وأما الذي يهمنا نحن ﻫو أن ﻫذه اآللية ﻫي جد محدودة في شروط سريانها حتى أنها تقتضي
ذكاء وعلما مميّز ْين ،وإذن فلفظ "الغموض" ليس يص ّح أن يد ّل على ﻫذه المسافة التي على نسبة
211/2فما دونها .يقول الحق -سبحانه! -وفي الجوار البعدي المباشر لآلية السابقة ذكرا﴿ :يَ ْعل ُم
ور'﴾(التغابن)4 ت الص ُد ِ األرض َويَ ْعل ُمُُ َما ت ِسرونَ َو َما ت ْع ِلنونَ ' َوهللاُ َ
ع ِلي ٌم بذا ِ اوات َو ْ
َما فِي الس َم َ
إن تعليل السّلوك تعليال منطقيا ال يمكن بحال وإطالقا أن يحصل إال بمقدمة نظماتية معطياتية
سها وتجه ُل ِمن نفسها ،والمحلل وبكل
والنفس تجه ُل نف َ
ُ تا ّمة جامعة مانعة؛ وكيف لهذا التحقق
تقنياته العلمية قد ال يحيط بمعطيات – ذبابة مثال أقضت مضجع الموضوع أو جوعا منهكا للجسد
والنفس معا ،أو غير ذلك مما ﻫو ممكن أثره ما دام يتنمي إلى مجال بيئة الموضوع الوجودية
التي ﻫي بيئة النفس المتأثرة بشروطها الحياتية والمادية منذ كانت في ﻫذه الحياة الدنيا ،وفي كل
بعد من أبعاد ﻫذا اآلن ،الممتد إلى الجوار الوجودي غير المحدود العناصر واألبعاد ،أنى يتحقق
ﻫذا؟ يقول ﻫسّرل:
"إن السّيكولوجيا ال تزال تفتقر حتى اآلن إلى قوانين صحيحة ومن ثم دقيقة ،وإن القضايا التي
تضفي ﻫي عليها اسم قوانين ليست سوى تعميمات للتجربة قد تكون ثمينة جدا لكنها مع ذلك
غامضة ،وليست سوى أخبار ،عن االنتظامات التقريبية للتواجد أو التعاقب ،ال تدعي تعيين ما
ﻫو متواجد ،أو حاصل في بعض الظروف المحددة بدقة ،تعيينا حتميا ال لبس فيه .لننظر ،مثاال،
إلى قوانين تداعي األفكار التي تريد السّيكولوجيا التداعوية أن تضفي عليها رتبة القوانين
المبرر
ّ السّيكولوجية األساسية وداللتها .فهي تفقد على الفور ،ما إن نتجشم عناء صياغة معناﻫا
247
أمبيريا صياغة مطابقة ،سمتها القانونية المزعومة".
إن لفظ "الغموض" ﻫنا يضيف إلى المسافة المعرفية األولى مسافة أخرى منهاجية ،فعلى قلة
أو على ﻫذه النسبة المعطياتية الضئيلة والضعيفة جدًّا ،يشير ﻫسّرل إلى ﻫذا العسف في اعتماد
صل تجريبي لتعالقات حدوثية ،قوالب معممة على مطلق الموضوعات من غير اعتبار إلى مح ّ
حد إﻫمال ال ّ
شروط التواجدية العينية.
سرل
وأﻫمية قصوى نعطيها لهذا التوضيح الذي يهم ،ليس غموض ،بل تشابك األمر على ﻫ ّ
على األقل على المستوى البياني المطلوب والمراد؛ فهو يتساءل:
247ن م – ص81-81
191
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"وﻫل لقياس تفكير ما ،وفقا للقوانين المنطقية ،المعنى نفسه الذي للتدليل على تشكله السّببي
248
وفقا لتلك القوانين نفسها بما ﻫي قوانين طبيعية؟"
ض النظر عن صحة التفكير وسقمه ،أمكن التدليل على بالطبع المنطق ميزان التفكير ،وبغَ ِ ّ
صل لألنساق العقلية
شروط والنظمة المعطياتية ،بما فيها السّعة العقلية كمح ّ قيمته من خالل ال ّ
صحّة أو الخطإ من خالل المنطق ذاته؛ بل عموم المقول قوال (المنطقية) ،أي التدليل على ﻫذه ال ّ
وسلوكا.
إننا أمام صورة واضحة لإلشكال الفلسفي الذي يناقشه ،إشكال المنطق بعموم معناه وشمول ما
يلحق به من التخصيصات الضيّقة ،بإسناد ما شيء من اللواحق الوصفية ،إشكاله وعالقته
بالسّيكولوجيا ،كذلك من كل جهاتها ومناحيها التركيبية ،وما يمت إلى حقلها بصلة وسبب.
لقد رأينا ،ومما بيّناه بنحو قدره من الشأن والقيمة ،كيف أن ﻫذه األسئلة الفلسفية الخطيرة ،كلها
من ذات المشكاة انبثقت ،أسئلة وراءﻫا جواب ما العقل وما الحقيقة ،حقيقة المرجع ،ومرجع
الوجود ومرجع العقل؟ ولذلك كانت موقع التقويم بل والتصحيح للبرﻫان الوجودي الديكارتي،
ولفلسفة سبينوزا في ذات الحزمة الفلسفية وال شك.
صعود وتجاوز الرياضي ﻫنا ،ﻫو الذي أعطى لمركبتنا متانة ال ّ فكان مجمع الفضاءين الفلسفي و ّ
ﻫذه البداﻫة التي وقفت عندﻫا الفلسفة أو لنقل تحفظا بيان الفلسفة ،ولم يتجاوزﻫا ديكارت إال بهذه
الملحقة لفظة "الحدسية !" وصفا لمقولته أو ما اعتبر عند المهت ّمين بالفلسفة – حتى الفالسفة!-
ويعتبرونه برﻫانه!!
الرياضيات مادة بنائية وسقا واحدا ،ﻫو الذي من خالله ت ّمإن ﻫذا البناء المنصهرة فيه الفلسفة و ّ
الرياضيين وكذلك عند بعض الفالسفة فكّ مفارقات منها ما ﻫو مشهور بين ّ
الرياضيين وغير ّ
الرياضيين أكثرﻫم ،بل ﻫو وبعض من المهت ّمين بالفلسفة ،ومنها ما ﻫو أبعد من الطرح حتى على ّ
مما تم تجاوزه والبناء عليه رغم مفارقته إال أن شيئا مما بني عليه لم يتصدع .فاألول إشكال
جدول جليلي ،الذي يزعمون أنه ينقض مسلمة أوقليد "الكل أكبر من الجزء" ،معه أيضا مفارقة
راسل " مجموعة المجموعات التي ال تنتمي لنفسها هل تنتمي لنفسها؟" .وأما المفارقة الثانية
248ن م – ص 22 § – 600قوانين الفكر بما هي قوانين طبيعية مزعومة تسبب التفكير العقلي بفاعليتها منفردة
192
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والتي بُني عليها من غير السعي للتفكر وال التساؤل بصددﻫا ،ﻫي األساس الذي بنى عليه أولير
التحليل التفاضلي والتكاملي.
الرياضيات ،وﻫذا يؤكد التعريف الذي أعطيناه للفلسفة إنها ال مراء العالقة الرؤوم للفلسفة ب ّ
أنها التأصيل الحق للوجود؛ وبذلك حق لها اس ُم أ ّم العلوم (ومنه يتجلى ما حاق بالعقل المزعوم
الرياضي ح ّل ﻫاتيك المفارقات واإلشكالت فلسفيا من التبدل في مفهوم الفلسفة) .لم يستطع العقل ّ
– مثال للنسق الكلي الذي ينبغي نهجه -إال بعُ ّلو جدلي على مدار فلسفي :األصل أو األصول
الحقة للرياضيات "البشرية بالطبع" .وﻫنا وجدنا كل ﻫذه المسائل الفلسفية ومعها ال ّرياضية
العالقة ،وجدناﻫا ﻫهنا كامنة قابعة ،بل كلها مرتبطة بعضها ببعض ،وإليها لو أنعمت النظر تنتهي
الفلسفة كلها ،مسارﻫا من أوله ،ناظمة إياه نظما عجيبا عنوانه "قانون التفصيل" الواصل بين
ثالث :الجمالي (أو المحسوس أو المادي) والنسق والحق.
إن تعريف العقل والواقعية التجزيئية النقطاتية تحديدا أصال وجوديا خلقيا لقانون االختالف
الرياضيات البشريين ،مما يعطي صدقا لقول لُتسه الذي ساقه ﻫسّرل ،ظنًّا بأن أساس المنطق و ّ
249
مجرد فرع من المنطق تطور بشكل مستقل ؛ فالتجزيئية النقطاتية مصدر ّ الرياضة المحضّ
نسق االختالف أساس كل األنساق المنطقية القياسية األربعة وعشرين ،أي أمكن منطقيا إرجاعها
الرياضيات كذلك أمكن بناؤﻫا إلى ﻫذا النسق واستخراجها منه بكفاية ليس يحتاج إلى غيره؛ و ّ
على نظرية المجموعات ،تأسيسا فقط على حقيقة العنصر ،أي على نفس قانون االختالف؛ وإذن
قول لتسه ليس بعيدا عن الحق ..وﻫو يعبر عن حقيقة وعن واقع.
والرياضيات البشريين ،وبناء إن تعريف العقل كما قلنا والتجزيئية النقطاتية مصدرا للمنطق ّ
صحيح ،ومن ثم استمداد برﻫان برﻫان وجود الحق سبحانه من خالل قيّوميته لروح البناء ال ّ
"األنا" ،أي تحصيل اعتبار العقل كذات مفكرة حقة (سنس ّميها ونصطلح عليها :منطقية) اعتباره
الرياضي المنطقي) أو الوحدة (لمطلق الرياضي للعنصر (مطلق العنصر ّ باالعتبار المنطقي ّ
السّلمات أو القياسات) ،ﻫذا ﻫو المدار الفلسفي والعقلي الذي نجد فيه جواب ما مصدر البداﻫة
التي ﻫي مناط تفلسف ﻫسّرل شرطا مسلمة .ومن أجل ذلك ،ال نرى كل ﻫذا المقول الفلسفي
الغربي في المنطق لهسّرل لسواه مطلقا ،ومن خالل أساس تعيين البداﻫة المؤسّس عليه ،ال نراه
إال وﻫو دون ما بسطه ابن سينا في كتابه المخصوص للمنطق ،وتحديدا حين عيّنَ تعيينا دقيقا في
249ن م – ن ص
193
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل العاشر "في خاتمة الكالم عن البرهان" ما البداﻫة وبم ﻫي وفيم ﻫي ،وأنها بداﻫة منطقية
الحس الباطن ،بذات التوظيف المنطقي
ّ الحواس والعقل ،ومكمنها
ّ أي مبادئية ،مصدرﻫا العملي
الذي سيأتي من بعده عند فرويد .وتعيينها في بسائط تأصيلية مسايرة بنائيا على ما تؤصل عليه
المقوالت العشر ألرسطو .وﻫذا البناء يغني بهيمنة تضمنية عن التأسيس على وجود النفس أو
الرابط البيني للبيئة الوجودية كما عند ﻫسّرل .وإنما كان ﻫذا لألمر الفلسفي العظيم ،الذي ﻫو
على ّ
البناء على المنحى التنزلي.
أما الجانب الثاني في توضيح واقع ﻫذه السّجاالت ومصدرﻫا ،والعوامل التي وراءﻫا حيث ال
يمكن منطقيا أن تخرج من حقلها إال بتوسيعه مدركا وموضوعا للنظر؛ فبسطه كما يلي:
الرياضي بالطبع) والمنطق لقد تكلمنا آنفا وحددنا الفرق بين المنطق (منطق العقل البشري ّ
الكلي الذي ﻫو الحق القائم عليه أمر الوجود في كل أبعاده الفضائية الوجودية .ومنه يظهر ّأوال
مدى االقتطاع الضئيل :المنطق ﻫو قانون انتظام العناصر الثابتة في العقل .فانظر إلى ما يؤول
مقارنة المنطق األمثلي والمنطق الواقعي ،بل إن ﻫذه المفاﻫيم وأشباه المفاﻫيم وقبيلها مفتقدة
صارم ،لعدم تبلور التحديد أعاله وتعيين الفرق بينهما ،بين المنطق البشري للتحديد الواضح وال ّ
القاصر على الثابت ،والمنطق المهيمن على مطلق الوجود ال فطور فيه.
إن المشكل ليس فحسب في أن المنطق أو العقل البشري المنطقي ليس يسري إال في المستوى
أو النظمة المعطياتية السّكونية ،250ومن ثمة يصعب عليه إلى ح ّد االستحالة بحسب المسافة على
السّعة اإلدراكية للعقل البشري على البعد الزمني ،وﻫذا من مدلول قوله تعالى﴿ :نحْ نُ َخلقناﻫُ ْم
ش َد ْدنا أ ْس َرﻫُ ْم'﴾(اإلنسان )16يصعب عليه المسايرة التغييرية اآلنية ،لكل التغييرات المعطياتية
َو َ
الحاصلة من آن وجودي إلى آن وجودي آخر أو الذي يليه .وليعلم أن أدنى وأسهل درجة مثال
متطور في الشطرنج؛ فهذه درجة أبطأ تغييرا وأدناه كثافة ّ في ﻫذا التحدي ﻫو مقابلة حاسوب
بالنسبة للزمن المنطقي التغيّري .فكيف يا ترى سيكون األمر مع البيئة الوجودية بمعطيات ال
ينبغي لها الحصر وبكثافة تغ ّيرية تا ّمة أي تساوي التغيّر المعطياتي الكلي؟!! وﻫذا بالطبع ﻫو
الذي ينبغي أن يوضع فيه إشكال أو تساؤل ﻫسّرل ومقارنته النتائج العلمية التجريبية بالمقياس
المنطقي ،وﻫو خارج إطالقا عن الحقل السّيكولوجي ،الذي اعتبره ﻫسّرل داخله وجعله موصوال
بالمنطق السّيكولوجي.
250
Système de données statique
194
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ليس المشكل يقتصر على ﻫذا اإلعجاز في التحكم الكلي في المستقبل ،الذي اعتبرنا فيه العامل َ
ﻫو تغير النظمة المعطياتية فقط ،إن المشكل يستفحل أكثر إذا أدخلنا عامل النفس ،التي عليها أن
تالئم أحكامها أو سلوكها حسب مرجعها وأﻫدافها .وفي ﻫذا الموضوع والسّؤال العلمي ذي
األﻫمية والقيمة التي جل من المواضيع واألسئلة ما يشاركه فيها ،أنجز كتاب رائع بديع ،تتجلى
روعته في إعطاء صورة واضحة لمسالك المواقف النفسية ،من خالل نسق نموذجي ،ﻫو في
الواقع نسق أمثل لكل السّلوك اإلنساني وأحواله ،نسق ونموذج رياضة الگولف ،تحت عنوان
يمكن ترجمته ب"شغف الگولف" 251ويكفي أن تقف أو يقف بك أستاذ وخبير بحقلي الطب
النفسي والنموذج البياني نسق رياضة الگولف ،على حقيقة مفاجئة ومثيرة ،ففي الفصل الخامس
بعنوان "مظاهر نفسانية" 252يبدأ الكاتب بهذا التقرير ج ّد الها ّم:
Selon Morphy, quand les premiers disent « le putting ne va pas droit »,
cela signifie que « quelque chose ne va pas droit » à la maison, au travail,
ou dans l’inconscient. Il faut donc entendre le message entièrement, dans
son sens réel et symbolique si on veut augmenter la chance de retourner
sur le « droit chemin ».255
251
Willy Passini La passion du golf Psychologie du gagneur – Odile Jacob
252
Aspects psychiatriques
253
Ibid. p69
254
La voix de l’inconscient
255
Ibid. p145
195
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يجهل من نفسه أكثر مما يعلم من جهة العوامل والمعطيات، كما أشرنا إليه قبل قليل،فاإلنسان
وال يمكنه أن يفرق وال أن يستبين الخير فيها من،الوجودية المؤثرة فيه من حيث ال يعلم ﻫو
فلن يبقى االحتمال في سلم. ال إلى نفسه وال إلى الذي ﻫو حق وخير صحيح وصدقا،الشر ّ
صحيح في ّ القرب من السبيل المنطقي ال، وفقا للموقع والحيز،وفضاء الوقوع أو بأص ّح البيان
ﻫو بعد أو سلم العالقة التقييمية لمرجع النفس، بل سيكون له بعد آخر،المرجع الواقعي الوجودي
. بمرجع الواقع،الجاﻫلة بنفسها من حيث شروطها والراغبة في تحقيق أغراضها وأﻫدافها
صبغة النفسية الدقيقة أو الشعيراتية في تعارض ماﻫياتي مع الصرامة النسقية المنطقية؛ وﻫذا ّ فال
:]شروط الواقعيةّ وجوب تقويم ال،واضح من خالل ثنائية [الزم الخوف طبيعة نفسية
196
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
" التي ﻫي ركن وأساس مبدإ "التمرين، نفسية-وإذا كان األستاذ لم يهمل حقيقة الذاكرة الفيزيو
: إذ يقول،" وتتداخل وظيفيا ودالليا مع مفهوم ومبدإ "التكيف،"أو "التمرس" أو "التدريب
الذي ال يستوعبه، الذي يمكن أن نس ّميه بالبعد التجميعي النفسي،فلم يفته ذكر أخطر األبعاد
:ويملكه أحد إال وقد بلغ من قياد نفسه ووالوثوق بها مبلغا علميا ً هائال محمودًا
الذي من خالل العلم والحق والفلسفة،إنه بعد التماهي واالنتظام النفسي مع المجال الوجودي
وتوجد، تنتظمه معادلة واحدة، أي من خالل المنطق المطلق والمنطق المتسامي،األولى الحقة
256
Ibid. p61
257
Ibid. p54
258
Ibid. p45
197
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يقينا ً دالة أو مزاج ُم َو ِّحد لها ،وأ شبه مثال ونسق موضح لهذا هو نسق ركوب الموج ،الذي روحه
هو التوحد مع مزاج الحركة الكلية للحقل أو المجال ،والمناظر لسالسة الحركة هو حصول
التوافق للسلوك بل تحقيق األهداف السّلوكية بالكينونة على مزاج المجال ،مما عبر عنه الكاتب
بالتمدّد أو االمتداد.
سهو واللبس عند ﻫسّرل بصدد وﻫنا ال بد من بعض التوضيح الذي ربما شكل بعض ال ّ
االحتمال ،كما ﻫو الشأن مما بيناه في استجالء حقيقة القوانين التقريبية التجريبية ،وإن كان األمر
يخص ﻫذه القوانين والمناﻫج المنطقية العلمية ،التي ال تقف عند حد
ّ يحتاج إلى توسيع أكثر فيما
النتائج التجريبية ،بل ﻫذه فقط مرحلة توسطية إلى ما يمكن أن يؤدي إلى نتائج أمكن اعتبارﻫا
دقيقة ومحققة..
فاالحتمال ﻫنا ﻫو حقيقة علمية مبناﻫا على المنطق ،وحساب االحتماالت واضحة صبغته
صبغة.
المنطقية ،والعالقات والقيم المعرفية المعلوماتية ﻫي كذلك ،لها ﻫذا االنتماء وتحمل ﻫذه ال ّ
إنما الذي ﻫو أبعد عن المنطقية ﻫو داللة ﻫذه الحسابات بخصوص موضوعها ،وﻫو األحكام
والسّلوكات السّيكولوجية ،في بعدﻫا عن السبل المنطقية أو بالتعبير األدق في فسوقها وعدم
انتظامها مع المعطيات الوجودية التي عليها قائم كيان الوجود يستشعرﻫا العقل ،عقل اإلنسان.
ومنه سنعود إلى تعبيرنا وحكمنا "ينبغي له سعة علمية ذاكرة وعقال شبه معجزة أو معجزة"
لنزيده دقة في التأطير ،فنقول أو نقرر أنه يستحيل للعقل البشري بلوغ الغاية والطرف في ﻫذا
الشرط ،ألنه ال يخرج عن حقل الزمن ،فقائم دونه حاجزان عامالن اثنان:
ب -كل شيء خال الحق (العقل الكلي) احتمال تغيره غير منعدم.
198
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ومنه يستنبط أن التحكم الحقيقي في الوجود ال ينبغي إال للحق ،الذي له العلم كله في مطلق
الفضاء الوجودي ،وكل شيء يجري فيه بالمنطق التام الذي ﻫو الحق وﻫو الميزان ،وبالحق
صحيح على اإلطالق؛ ولهذا كان دعاء يونس عليه السالم﴿ :ال والميزان يكون الحل والوضع ال ّ
إله إال أنتَ سُ ْب َحانكَ ! إني كنتُ ِمنَ الظا ِل ِمي َن !﴾(األنبياء )66جامعا بين جهل النفس وعلم هللا اإلله
الواحد سبحانه ،العلم المطلق شرط التحكم والقيّومية في الوجود؛ وكذلك في الدعاء المأثور عن
نبينا صلى هللا عليه وآله وسلم المرسل رحمة للعالمين" :يا ذا الجالل واإلكرام! يا َحي يا قيّوم
برحمتك أستغيث! الله ّم رحمتك أرجو! فال تكلني إلى نفسي طرفة عين ،وأصلح لي شأني كله ،ال
259
إله إال أنت!"
اآلن ما نرى إال وقد اتضح لك أصل ﻫذا الكالم المستفيض والمكرور لهسّرل في ﻫذه الفقرات
سيكولوجي، حول المنطق والسّيكولوجية وتعالق األوصاف العديدة بالمنطق :المحض ،الطبيعي ،ال ّ
األمثلي ،الواقعي إلخ ...فاإلشكال متعلق في األساس بالسّعة العقلية وبالنفس ،إنه إشكال توافق
وانتظام .ومنه ال ننتظر أن نفسّر أو بأصح البيان وصحيح اللفظ ،أن نجد الفضاء العملي
والسّلوكي للبشر منتظما ال تناقض فيه ،كله متعالق مترابط منطقيا و"مبدأ التناقض ونمط بربرا
سرا لنا قوام هذا الكائن – 260".مع إمكان تعليل ﻫذه األخطاء إلخ ،.قانونان طبيعيان يمكن أن يف ّ
والالترابطات منطقيا بالحق -فالذي أﻫمل قراءته ﻫسّرل إﻫماال بينا ﻫو كون قانون عدم التناقض
صيغ التامة الثالثة المستم ّدة من الشكل األول للقياس ،قاعدة البرﻫان لكل
وصيغة "بربرا" كما ال ّ
261
صحيحة ،صيغ "سيرالنت" و"داريئ" و"فيريو" ،ﻫذه القوانين ﻫي التي كان صيغ المنطقية ال ّ
ال ّ
لها سلطان الحكم بخطإ وضالل السّلوك والعمل غير المبني على الحق وغير المهتدي ،ال أنها
ﻫي التي توضع موضع السّؤال؟! وال شك أن الذي ساقه ﻫسّرل وضربه مثال" :إن مثال اآللة
الحاسبة يجعلنا نفهم تماما ﻫذا الفرق .فوضع األرقام التي ترد وتعالقها يضبطهما قانون طبيعي
بالشكل الذي تقتضيه القضايا الحسابية لتكون ذات داللة .لكن ال يستدعي أحد قوانين الحساب لكي
يفسّر العمل الفيزيائي لآللة بدال من قوانين الميكانيكا 262".ال شك أن ﻫسّرل مجانب للحقيقة
صواب ؛ فاآللة الحاسبة ﻫي بناء كنهه حفظ الحق والنسق المنطقي ،من خالل نظمة وأخطأ ال ّ
ﻫندسية مترابطة وظيفيا أي ميكانيكيا ،ليس يستدعي السّؤال البتة ﻫنا عن قوانين الفيزياء
259الحديث( دعاء) "ألظوا بيا ذا الجالل واإلكرام!" رواه أحمد والترمذي وصححه األلباني -صوت السلف-
260مباحث منطقية – 3ص 606
261
-Barbara- Celaret- Darii- Ferio
262ن م – ن ص
199
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صناعي والهندسي الوظيفي ﻫو حفظ النسق المنطقي أو األنساق والميكانيكا .إنما الجوﻫر ال ّ
الرياضي وعماده .وبالطبع وإن كان ﻫسّرل ليس معنا اليوم،المنطقية ،التي ﻫي قوام نفس البناء ّ
فنظام اآللة اإللكترونية الحاسبة بالنظام الثنائي دليل حاسم وواضح في ما نحن بصدده .النظام
الرياضيات البشريين .فالمنطق أساسالثنائي ﻫو عينه المكافئ لقانون االختالف أساس المنطق و ّ
صناعة الهندسية.
الحساب وﻫو أيضا أساس ال ّ
وجامع القول ﻫنا ومستخلصه بلورة ،ﻫو أن المنطق البشري تفصيل للمنطق المطلق ،بمعنى أنه
ُم َعد ٌل بحسب عوامل النفس وسعة العقل وزمنيته ،مما يحصل معه مسافة ال متجاوزة وإلى حد
اإلعجاز.
لقد بيّنا ﻫذا وفصلناه على نحو يتضح معه الوضع التقابلي واإلشكالي الذي لم يزل يراوحه
ﻫسّرل" :ال يعرف المناطقة السّيكولوجيون ﻫذه الفروق ،التي ال تتجاوز البتة ،بين القانون األمثلي
والقانون الواقعي ،بين الضبط المعياري والضبط السّببي ،وبين الوجوب المنطقي والوجوب
تدرج يمكنه إقامة وسائط ي ّ تصور أ ّ
ّ الواقعي ،بين األساس المنطقي واألساس الواقعي ،وال يمكن
بي ن األمثلي والواقعي .وتلك سمة من مستوى مؤسف وصل إليها الرئيان المنطقي المحض في
عصرنا :أن يكون مفكر من عيار زغفرت ،وبالضبط بصدد خرافة كائن أمثلي ذﻫنيا فحصناﻫا
للتو ،يظن أن بإمكانه أن يسلم بأن «الضرورة المنطقية ﻫي في الوقت نفسه ضرورة واقعية تولد
التفكير الحقيقي» عند ذلك الكائن ،أو أن يستعمل أفهوم اإلكراه الذﻫني لكي يفسّر أفهوم «السّبب
263
المنطقي» .وكذلك حين يرى فُنت في مبدإ العلة «القانون األساسي لتعالق أفاعيلنا الفكرية»"
263ن م – ص602
200
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فاإلشكال في الحقيقة والواقع ﻫو ما ذكرنا .وﻫذه المسافة البعيدة عن التحكم المعطياتي ﻫي المادة
التي ولدت كل كالم ﻫسّرل في ﻫذا القضية وجعلت كالمه ال يجد له نهاية وال مخرجا ،فهو يرد
زعما خاطئا ،لكن لم يُبصر بهذه المسافة وﻫذه العالقة المسافاتية أو الطوبولوجية العقولية.
201
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
سيكولوجية
تصور القانونية األمبيرية وال ّ
ّ -4قصور ه ّ
سرل في
عالوة على ما سبق ،وارتباطا به ،ال بد أن نتوقف عند أمر عظيم فلسفيا ثم علميا؛ يقول
ﻫسّرل:
"إن «للقوانين األمبيرية» مضمونا وقائعيا بالضبط .وﻫي تكتفي ،بما ﻫي غير أصيلة بأن
تنص ،ولنقلها بفظاظة ،على أننا نعرف بالتجربة أنه ،في ظروف معينة ،من عادة تواجد معيّن أو
تعاقب معيّن ،أن َي ْمثل باحتمال متفاوت العظم تبعا للظروف .فهو يستلزم أن تحدث ﻫذه الظروف
وﻫذا التواجد والتعاقب بالفعل .والحال ،إن القوانين الدقيقة للعلوم األمبيرية ﻫي ذات مضمون
وقائعي .وﻫي قوانين ال تتعلق بوقائع وحسب ،بل تستلزم أيضا وجود وقائع.
مع ذلك ال تزال الحاجة إلى تدقيق أكبر .قد يكون للقوانين الدقيقة في صيغتها المعيارية سمة
264
القوانين المحض وقد ال تتضمن أي محتوى وجودي".
اللبس على اإلمكان حتى يكون ما يقوله ﻫسّرل ذا معنى واقعي في ذﻫنه ،ﻫو أن َ إن الذي يُ َح ِيّ ُد
يكون الشطر األول من كالمه داال على الحاجز السّكوني للمنطق أو للسّعة المنطقية للعقل
صحيح علميا ،ﻫو أن قوله ضحناه وأبرزنا معناه وجلوناه .غير أن الواقع وال ّ
البشري مما و ّ
"تستلزم أيضا وجود وقائع" ليس يتوافق ومفهوم القانون وحقيقته .وإنما بالنتاج والوصف
صحيح ،الذي التجريبي ،كمرحلة علمية أولية في الحصول على القوانين العلمية .والوسيط ال ّ
سيكون ﻫو الوسيط المنطقي ،متعلقه على مرتكزين:
الرياضية ،ألن
لعل المتتبع الحصيف يرى إمكان االكتفاء بمرتكز واحد ،وﻫو المعيارية ّ
جلي منها.
ّ الحدس المنطقي مستنبط
264ن م – ص605
202
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الرياضية ﻫي المثل األقصى فيما يكون فيه الشيء ال أقرب منه في األشياء إلى المعيارية ّ
البداﻫة وﻫو في ذلك أبعدﻫا عن اإلدراك وأخفاﻫا عن البصر .وإذا كان مما يجهله الكثيرون حتى
ممن يعتبرون من المرشدين المسؤولين عن أمتهم من مثقفيهم ومفكريهم وساستهم ،أن ﻫذه
المعيارية أو العمل على مقتضاﻫا ﻫو من نقل الغرب ﻫذا النقلة والطفرة إلى العصر التاريخي
القوة التاريخية والبأس الشديد والتحكم في المجال االستخالفي المؤسّساتي ،الحقل المولد لهذه ّ
الرياضيات ولسريانها الكوني ،الذي ﻫو في األرضي ،فإن البرﻫنة عليها منوط بفقه فلسفي لحقيقة ّ ْ
نهاية المطاف وطرف المسار ،تحقق وتجلي لسريان الحق في الوجود الكونيَ ﴿ :ما َخلق هللاُ
س ًّمى'﴾الروم )7وال يستوفى شرط ّ
الربّانية في األرض َو َما بَ ْين ُه َما إال بال َح ّ ِ
ق َوأ َج ٍل ُم َ اوات َو ْ
الس َم َ
االستخالف وتفسير التنزيل إال بهذا الفقه.
قلنا له إن ﻫذا ﻫو بالضبط ﻫو المعنى الذي لل ِمعيارية والنموذجية الذي يجب أن يتسع له عقلك
تصور ينبغي له أوال أن تدرك معنى البُعد ومن الهندسة األوقليدية
ويستقر في خلدك .وﻫذا ال ّ
ابتداء كونه مطلقاّ ،
وأن الك ّم الممثل للخلق أو الكائن الكوني ممثال في الجسم ليست تبقى مِ عياريته
ونموذجيته كما يتبادر إشكاله في المنتظم المثالي الدالة عليه الهندسة المستوية أو األوقليدية ،وإنما
لدينا مع الزوايا المجسمة وأحجام المجسمات ذات السّطوح المنحنية 265عند الحسن بن الهيثم
رحمه هللا متما واتساقا لمسار اجتهادي عظيم منطلقا من آل الخوارزمي بني موسى ومن تلميذﻫم
الرياضية ثابت بن قرة ،لدينا في ذلك تمثيلية مطلقة ،ألنها تتسع لمطلق ذروة من ذرى العُقول ّ
التغيّر والالمنتظم .وليتسع تقرير ما عبرنا عنه في كتابنا "األصول الحقة للرياضيات" ب كون
الرياضيات فيزياء المحسوس ، 266إلى التقرير بأنها فيزياء (بالنسبة للعقل البشري) لما يخلق هللا ّ
الرياضيات التحليلية بين القرن الثالث والقرن الخامس للهجرة -الجزء الثاني-
265انظر الفصل الثاني من " ّ
الحسن بن الهيثم
266انظر "األصول الحقة للرياضيات ،الفصل الثاني عشر ،اإلنشائية النسبيَّة للرياضيات البشرية ومفهوما
«الالمحدد» ومنتهى «منتهى» الصغر» -ص211..213
203
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
األرض وفي االجتماع البشري وفي األنفس واآلفاق مجاال واحدا كلية وتجزيئا؛ وذلكم تعالى في ْ
ي القيّوم.
هللا سبحانه الح ّ
ال مماراة أن الكون قائم بالحق وأن َ
صعود اإلدراكي مِ عيارية مهيمنة على الحقل الوجودي قلت :إن لنا في اإليغال األ ْب َعادي وال ّ
المادي التاريخي بكل أ ْب َعاده الزمني واالجتماعي والعقلي والنفسي ،بل وإن في حل إشكال إنشاء
سبع المنتظم المرتبطة اتصاال رياضيا وفلسفيا لما نحن فيه بمسألة تثليث الزاوية ومسألة ال ُم َ
267
الوسطين ،إن في حل ﻫذه أو ﻫاتيك المسائل وقد اعتبرت من قبلها من قبل أن يُبصر اإلنسان
للقوة التي أشدﻫا العقل مجهزا بأنساق بما عنده من نعم هللا تعالى العزيز الوﻫاب من مصادر ّ
األرض جميعا ،كانت تعتبر وكأنها من اإلعجاز اإللهي للخلق على س ِ ّخرة لما في ْ
وآليات ُم َ
268
مستوى معجزات النبوة كإحياء الموتى كما جاء في كالم قسطا بن لوقا في إحدى مراسالته –
وإن محمدا بن عبد هللا النبي العربي األمين صلى هللا عليه وسلم خاتم النبيئين -إن فيها لبيانا بليغا
تصورﻫا اإلنسان بل يعتبرﻫا ضربا من ألولي النهى واألبصار على القدرة الالمحدودة والتي ال ي ّ
القوة والبأس الشديد
األرض والتحكم في قوتها وامتالك مصادر ّ ضروب المعجزات ،في تسخير ْ
منها ،فذلك ﻫو الفقه الحق أو الفلسفة الحقة فحوى إنشاء المسبع المنتظم ،مما بيناه في داللة
الكوس والبركار على ما يكتمونه ويدلسونه ويُ َم ّ ِوﻫُونَه إمعانا وعمال على ﻫذا الكتمان بأسلحة
خفية لألذكياء من مثل نشر مذكرات رجاالت الحرب المقدسة يكذبون على هللا سبحانه من فساق
األنباء ،وتسريب لمثل "بروتوكوالت حكماء صهيون!" ناصحين أذكياء ﻫذه األمة بأن الضّالل
269
والبعد عن عبادة ربهم ﻫو األخذ بعلم الحساب!! وبأنهم لم يصعدوا إلى القمر".
الرياضي ة أو ما يكافئها معطى وحقيقة سوى مسلمة االنتظام الكونيفليس معنى المعيارية ّ
وانتظام الحيّزات الكونية .ومعناه العظيم ﻫو سريان ﻫذا االنتظام مما يسمى في قاموس معين
ب"الحق" وقيّومية الحق .وإذن لما كان عالم الفيزياء أو الكيمياء أو في أي مجال من مجاالت
الرياضيات التحليلية بين القرن الثالث والقرن الخامس للهجرة -الجزء الثالث -الحسن بن الهيثم – نظرية
267انظر ّ
المخروطات ،األعمال الهندسية والهندسة العملية :الفصل الثالث "مسائل األعمال الهندسية" -6المسبع المتساوي
األضالع
268انظر أسفل ص 360من نفس المرجع
269جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي -ص518-517
204
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
العلم البشري ،ال يمكنه أن يكون وال أن يستحق صفة العالم حقا إال بالحد األدنى من المعرفة
الرياضية
صله التجاربي وحقيقة المعيارية ّ الرياضية؛ فالمطلوب منه ﻫو الوصل الحدسي بين مح ّ ّ
270
الرياضية ،ﻫي التي تعطي لكالم ﻫسّرل في شطره الوجودية .وﻫذا بالضبط ،أي ﻫذه السّمة ّ
الثاني مصداقية ،ال لشيء سوى سريان قانون التسديد و للعامل التجريبي البشري ،وفي شتى
سمعيات النظرية والبصريات وعلم الفلك وكل الحقول المعتبرة علمية كالميكانيكا النظرية وال ّ
والكيمياء والبيولوجيا وغيرﻫا من العلوم المؤطرة دائما بشروطها البشرية التجريبية.
الملحوظ ﻫو أن ﻫسّرل ربما لم يتأن ﻫنا في االﻫتمام أو الضبط التام لهذا التأطير ،نعني تأطير
كمماس وصفي علمي ،فالزمه الرجوع حينا بعد حين للتذكير بأن ﻫناك فرقا ّ النظري للتجريبي
بين "القانون األمثلي الحق" أو"المعرفة محض األفهومية" يعني به النظري من جهة والواقع
التجريبي من جهة ثانية ،وقد ينجاب عنه األمر حينا آخر كقوله:
« مثلما أن كل قانون صادر عن التجربة وعن استقراء مستند إلى وقائع جزئية ،ﻫو قانون
يتعلق بوقائع ،كذلك في المقابل ،فإن كل قانون يتعلق بالوقائع ﻫو قانون مستم ّد من التجربة
واالستقراء؛ ومن ثم وكما بينا ذلك أعاله ،فإن المزاعم ذات المضمون الوجودي ال تنفصل عن
271
ﻫذا القانون».
لكن المه ّم ج ًّدا ﻫو أن ﻫسّرل ﻫنا حين يقول بأن ﻫذه "القوانين محض منطقية" ال تستمد
سوغها من االستقراء ،وإنما مسلم بها "رئيانا":
تعليلها و ُم ّ ِ
مجرد أمثل في ميدان معرفة الوقائع ،كما أظهرنا للتو ،في حين أنها ،على
ّ "القانونية الحقة ﻫي
العكس ،متحققة في ميدان المعرفة «محض األفهومية» .وتنتمي قوانينا محض المنطقية إلى ﻫذا
الرياضة المحض .وﻫي ال تستمد من االستقراء «أصلها» ،أو لكي نتكلم الفلك شأنها شأن قوانين ّ
المسوغ .وال تتضمن إذن أيضا المحتويات الوجودية المالزمة لكل االحتماالت بما
ِّ بدقة ،تعليلها
ﻫي كذلك ،بما في ذلك أعالﻫا وأثمنها .وما تنص عليه يصلح بالتمام والكمال ،وﻫي نفسها ،في
دقتها المطلقة ،إنما تكون مؤسّسة رئيانا وليس في بعض المزاعم المتعلقة باالحتماالت التي من
الواضح أن عناصرﻫا تبقى غامضة .وال يظهر أي قانون منها بوصفه واحدا من اإلمكانات
205
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
النظرية التي ال تحصى لفلك ما ،وإن كان محددا عينيا .فالحقيقة الواحدة الوحيدة ﻫي التي تطرد
كل احتمال آخر ،والتي بما ﻫي شرعية متعرفة رئيانا تبقى خالصة من أي واقعية سواء لجهة
272
مضمونها أم لجهة تعليلها".
المسوغ.
ِّ - 2وﻫي ال تستمد من االستقراء «أصلها» ،أو لكي نتكلم بدقة ،تعليلها
-1وال تتضمن إذن أيضا المحتويات الوجودية المالزمة لكل االحتماالت بما ﻫي كذلك ،بما في
ذلك أعالﻫا وأثمنها.
-3وﻫي نفسها ،في دقتها المطلقة ،إنما تكون مؤسّسة رئيانا وليس في بعض المزاعم المتعلقة
باالحتماالت التي من الواضح أن عناصرﻫا تبقى غامضة.
إنها نفس الالزمة المشار ال ملحوظة والمشار إليها ،ونكاد نجزم بأن كل ﻫذا الشطر بكل فصوله
من الجزء األول للكتاب المباحث المنطقية منواله ووشيجته ﻫو ﻫذا التقابل المفهوماتي ،غير
والرد إلى ﻫذا الحد من
المنضبط ال عند ﻫسّرل فقط ولكن عموما ،ألن استفاضة الكالم واألخذ ّ
التطويل ليس يدل إال على شيء واحد ﻫو افتقاد االستقرار والتوازن على ﻫذه الجهة موقع
المفهومين.
فواضح أن 2ﻫو نفسه 1وأنه ﻫو "ليس في بعض المزاعم المتعلقة باالحتماالت التي من
الواضح أن عناصرﻫا تبقى غامضة ".ولتبقى 3ﻫي االختزال المنطقي لهذا النص ولما يكتنف
عقل ﻫسّرل في ﻫذا التحدي والمضمار المسائلي الفلسفي.
272ن م – ن ص
206
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ﻫهنا ال مراء نحن أمام عارضين اثنين ،كل منهما له خطره في المدار الفلسفي .أولهما أن
مناط االحتماالت المعنية عند ﻫسّرل ليس إال موضوعا لسريان القانون وما ﻫو من ماﻫية القانون
حتى يكون مصدرا قانونيا ،والعالقة بينهما ﻫنا ﻫي فقط حدسية ،أي الموضوع فيها وسيط
وعنصر حدسي ،كما تكون النقطة من خالل إحداثياتها حدسية في أقصى مواقع الحدس بالنسبة
للمستقيم.
أما العارض الثاني ،أليس عجيبا أن يقنع الفيلسوف بتعليل ﻫذه "القانونية الحقة" و"الدقة
المطلقة" بالرئيانية المنوطة بالبداﻫة إيّاﻫا ،وأقصى ما له سلطان بالنظماتية؟!
إن ﻫسّرل ﻫنا وعلى غرار ديكارت ال يبغي عن التعليل والتسويغ العقلي للمعرفة بديال ،وليس
أعظم وال أد ّل على موقفه الفلسفي من وسم العالقة بالتجريبيين والسّيكولوجيين بالخصومة
صعودوالخصوم ،وأن يكيل للتجريبية أقذع النعوت حتى التطرف إمعانا ،لكنه كذلك لم يفلح في ال ّ
إلى حيث تلة اإلبصار بالدليل وتجاوز الحقائق المعطاة والرئيان مسلمة البداﻫة ،وإن كانت خيرا
وأعلى من التجربة؛ يقول ﻫسّرل:
«والحال ،حيث إن األمبيرية المتطرفة ال تولي ثقة أصال إال لألحكام األمبيرية المفردة (ومن
صعوبات التي تطاول بالضبط تلك األحكام المفردة على دون أي نقد ألنها ال تأخذ بالحسبان ال ّ
نطاق جد واسع) فإنها ترفض بذلك إمكان تسويغ عقلي للمعرفة الموسطة ،وبدال من اإلقرار بأن
المبادئ األخيرة التي يخضع لها تسويغ الموسطة ﻫي بداﻫات ال توسط فيها ومن ثم حقائق
معطاة ،فإنها تظن أنه من األفضل اشتقاقها من التجربة واالستقراء أي تسويغها بطريقة موسطة.
وإذا ما سألنا :ما ﻫي مبادئ االستنباط ﻫذا الذي يسوغها؟ ستجيب األمبيرية التي تمنعت عن
اللجوء إلى مبادئ عامة بديهية بال توسط ،باللجوء إلى التجربة اليومية الساذجة وغير النقدية.
صل كرامة أعلى لهذه التجربة اليومية بتفسيرﻫا سيْكولوجيا على غرار ﻫيوم .وﻫي وتظن أنها تح ِ ّ
تخفي بذلك أنه إذا لم يكن ﻫناك قط أي تسويغ بالرئيان لفروض موسطة ،ومن ثم أي تسويغ
لمبادئ عامة بديهية بال توسط تنجم عنها التعليالت الناسبة ،فإن كل نظرية األمبيرية التي تستند
إلى معرفة موسطة ﻫي نفسها عارية من كل تعليل عقلي وستكون بذلك فرضا اعتباطيا ليس له
من قيمة أكثر مما ألول تحكيمة واردة.
207
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ومن الغريب أن تولي األمبيرية ثقتها نظرية مكونة من مثل ﻫذه الحماقات أكثر مما تولي
273
مسلمات المنطق وعلم الحساب األساسي».
إننا ﻫنا بصدد طرفين ،أولهما بكنف التباس أو قل غموض ،والثاني بقصور عن المطلوب.
فالتجربة أو األمبيرية ينبغي فصلها عن السّيكولوجية ليبقى لها المعنى عينه المنطبق بالمرحلة
األولى المستتبعة للرئيان الحدسي االتساقي ،وﻫو ح ّد الطرف الثاني .وإذن في حقيقة األمر ليس
يجب لرفع الخالف ﻫذا ،إال الفصل بين السّيكولوجي والتجريبي أو األمبيري .والذي وجب
االنتباه إليه جيدا ﻫو ﻫذه الداللة وﻫذا التعبير الذي يخرج من لسان ﻫسّرل" :إن السّيكولوجية
المجاوزة ﻫي أيضا سيكولوجيا 274".وجب أن ننتبه جيدا أنها كذلك قصدية رئيانية .ومنه يتضح
أن التجربة والحدس والرئيان االتساقي ،ﻫي أطوار متسقة متكاملة ومنطقية وعلمية ومعقولة في ّ
صحيح .إنه ال تعارض أبدا بين العقل أو المنطق المحض البناء المعرفي والعلمي البشري ال ّ
والتجربة.
وإذا كان األمر كذلك فالنظمة ﻫاته المحتوية للتجربة والرئيان معا ،وإلى ح ّد أعلى م ّما في بيان
تصور ﻫسّرل ،ﻫذه النظمة تبقى قاصرة عن بلوغ الغاية والمبدإ األخير واألعلى الذي ال مبدأ و ّ
وال تعليل له .بل إن موقع ﻫسّرل في المدار والعُلو الفلسفي ﻫو نفسه:
«ولن يفيد في شيء السعي إلى تجنب تطلبنا لتعريفٍ وتعلي ٍل بالتلويح ب"ثقة العقل بنفسه" أو
بالبداﻫة المالزمة للتفكير المنطقي .إن رئيانية القوانين المنطقية تظل ثابتة .لكن ما إن نفسّر
275
محتواﻫا الفكري بع ّدِه سيكولوجيّا حتى نع ّدِل كليا معناﻫا األصلي المقترن برئيانيتها».
ض أو بأص ّح المسلك البرﻫاني إذا ت ّم تحييد واختزال التفسيرـ الذي ﻫو ليس إال تكرارا
فبغَ ِ ّ
لمتض ّمن قبلي -فكال التفلسفين لهما نفس االرتفاع الفلسفي الذي ﻫو متعلق البداﻫة المنطقية .بل إن
إطار الطرح التفلسفي منهجا (في القصدية) ومفاﻫيميا وخصوصا وعلى نحو محدد ومحوري
مفهوم "البداﻫة " ،ﻫذا اإلطار نجده معينا في كلمة واضحة وفقرة مبينة من كتابه أو محاضراته
"تأ ّمالت ديكارتية" إذ يقول فيها بالحرف:
273ن م – ص668
274ن م – أسفل ص625
275ن م – ص667
208
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"إنني كفيلسوف ،سأتخذ نقطة انطالقي ،وأسعى نحو الهدف االفتراضي لعلم حقيقي .ونتيجة
ذلك إنني لن أستطيع وال شك ،أن أطلق أي حكم من األحكام ،وال أن أتقبله كحكم ذي قيمة ،إذا لم
أستمده من البداﻫة ،وأعني بذلك ،إذا لم أستمده من «تجارب» ،تكون «األشياء» و«الحقائق»
المطلوبة فيها حاضرة لي «بذاتها» .وحينذاك ،ينبغي لي وال شك ،أن أجيل التفكير في البداﻫة
التي أنا بصددﻫا ،وأن أعطي قيمة لمداﻫا ،وأن أجعل حدودﻫا ودرجة كمالها بديهية بالنسبة إلي،
وأعني بذلك ،أن أرى إلى أية درجة تكون األشياء معطاة لي بذاتها ،بصورة حقيقية .وما دامت
البداﻫة غير موجودة ،فإنه ليس بإمكاني أن أدعي بشيء نهائي ،وأقصى ما أستطيع أن أقوم به،
ﻫو أن أوافق على إعطاء الحكم ،قيمة مرحلة متوسطة ممكنة ،قائمة على الطريق الموصل
276
إليها".
276تأ ّمالت ديكارتية أو المدخل إلى الفينومينولوجيا -تأليف إدموند هسّرل -ترجمة تيسير شيخ األرْ ض -دار
بيروت للطباعة والنشر بيروت -6878مكتبة د .جميل أبو سارة اإللكترونية -2068/60/8ص-13( 11-11
)15
209
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وأجدني ﻫنا ملزما ومن غير منتدح إال بتسليط الضوء بقصد ا ستيضاح ﻫذا الكالم لهسّرل عن
السّيكولوجية والسّيكولوجيين -ونحن من حيث المبدإ معه على وفاق -عن عالقة كانط بالخانة
الفلسفية أو التفلسفية للسيكولوجيين ،بكل ما عليهم مما يكيل ويحق فيهم من النقد والنقض معا .إن
ﻫهنا وأقولها ببساطة وبكل تواضع وأيضا بكل ثقة ،كالتي قرأت بها أفالطون والفارابي وابن سينا
وديكارت وسبينوزا ،أقول ال ينبغي بحق رجل من الفالسفة عظيم ،أن يُقو َم في فلسفته وموقفه
الوجودي بهذا الحكم الترددي بين موقفين قد يراﻫما البعض وإن كانوا من كبار الفالسفة أو ﻫكذا
يُعتبرون ،موقفين يسيرة المسافة الفاصلة بينهما حتى ليجمعان في ﻫكذا حكم تفلسفي وال
غضاضة ،وﻫما نقيضّان عظيمان في أقصى ما يكون للنقيض من قدر خطر .يقول ﻫسّرل عن
ﻫذه العالقة تعليقا على الهامش:
« من المعروف أن نظرية المعرفة عند كنط تحاول ،في بعض جوانبها جاﻫدة أن تتخطى
سيكولوجية الملكات النفسية ﻫذه بوصفها مصادر للمعرفة وأنها تتخطاﻫا فعال .ويكفينا ﻫنا أن لها
أيضا أوجها الفتة جدًّا تعود إلى السّيكولوجية األمر الذي ال يمنع جداال حادًّا ضد أشكال أخرى
من التعليل السّيكولوجي للمعرفة .لكن ليس لنغه وحده بل أيضا قسم كبير من الفالسفة الذين
يرجعون إلى كنط ،ينتمون إلى فلك النظرية السّيكولوجية في المعرفة أيا كانت قلة استعدادﻫم
277
للموافقة على ذلك .إن السّيكولوجيا المجاوزة ﻫي أيضا سيكولوجيا».
لكي يكون لكالمنا فحوى وليعطى لكل ما نلفظ من القول معنى ،من أجل ذلك ال بد من التذكير
ُهون خطره بأن نكتفي مثال باإلشارة كونه حديثا في بأننا في مقام القول بشأن أمر عظيم ،قد ي ّ
نظريات المعرفة أو سؤال النظرية المعرفية وقبيله ،ولكن ﻫو في الحقيقة يهم أخطر السّؤال،
سؤال الفلسفة األولى ،يهم موقف اإلنسان من حقيقة الوجود ،أو لنس ّمها ّأوال ظاﻫرة الوجود .ففي
ﻫذا اإلطار وجب أن نضع ونعتبر ونقوم ﻫذا الجمع بين ﻫاتيك المتناقضات على أقصى طرفي ما
يكون من التناقض ،وأي مسافة ﻫي أكبر من التناقض في أمر كهذا األمر الجليل العظيم؟!
210
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
منطقيا ومنهاجيا ال يكون أي نظر صحيحا ،والفلسفي أحرى ،إال باإلسقاطات على األبعاد أو
المتجهات الفضائية للموضوع ،الذي ﻫو ﻫنا النظمة المعرفية ،محيطا لزوما بالقصدية الهسّرلية
والمذﻫب السّيكولوجي في سياقه .وﻫو بطبيعة الحال فضاء وإطار كل ما تطرق إليه ﻫسّرل ﻫنا.
البداﻫة – الرئيانية – النظماتية – العلم – التجربة – النفس – العقل البشري – المنطق البشري
– القانونية الحقة
القصدية ﻫنا ويهمنا منها السّيكولوجية ال ترتفع قيد أنملة عن مرجع النفس وعضد النظماتية
كما ﻫو في قصدية ﻫسّرل .وإذا كنا قد ذكرنا من قبل استدالل ديكارت الوجودي ،وﻫو كذلك لم
ينطه إال بالنفس ،فإن إيمانويل كانط قد سما عن النفس سُ ُم ًّوا ،وصعد في معراج قاعدته العقل
البشري ومجمعه ومنتهاه العقل المحض .والذي يدعو للعجب ،ﻫو أن ﻫذا ﻫو روح فلسفته
سيكولوجية" لبعد من أبعاد التأصيل السامية المتسامية .إنه وإن شا َء أح ٌد ْ
أن يُ ْسنِ َد صفة "ال ّ
صفة التي لليسيكولوجية أو الفلسفي الكانطي للمعرفة ،فليكن! ولكن ليُعلم أن ليس لهذا النعت بال ّ
السّيكولوجيين في بيان ﻫسّرل إال االشتراك اللفظي .إنه يكفي إن كان الزما للبرﻫان ،يكفي ﻫذه
مجرد)"مجرد العقل (أو العقل ال ّ ّ المادة المحورية في فلسفة كانط وخصوصا في "الدين في حدود
ليعلو
َ سيكولوجية مادة بيانه وتعبيره "القانون الخلقي" الذي يرفع به سؤال وتأصيل السّلوكية وال ّ
ويُجاوز تأصيل ديكارت ،ليعلوه ويجاوزه إلى العقل المحض.
211
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
قصدية عن بداهة
هسّرل
ضد -نفسية
قصدية عن بداهة
السّيكولوجيون
نفسية
شكل 3القصدية
إن ﻫذا الكالم والحديث لهسّرل ولغيره من الفالسفة والمهت ّمين بالفلسفة والتفلسف ،حديثهم الذي
يجمعون فيه ،وفي نفس الدرس ونفس الحيز ،القصدية أو الرئيانية كنهج في البناء المعرفي،
الرياضيات ،وكذلك والسّيكولوجية مصدرا تعليليا بداﻫيا كفال لهذا البناء ،والعقل ،والمنطق و ّ
"حدس المكان" وأيضا "المثالية"؛ فلنسمع إلى ﻫذا الكالم الذي أدرجه في الفصل الخامس
212
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
§ 16االزدواج المتوهم في مبدإ التناقض حين يع ّد قانونا طبيعيا للتفكير وقاعدة معيارية
النتظامه المنطقي معا
تحررون تماما من «قلة وحسب من المناطقة ،في عصرنا المهتم بالسّيكولوجيا ،عرفوا كيف ي ّ
سوء الفهم السّيكولوجي للمبادئ المنطقية .وﻫو أمر لم يقم به حتى أولئك الذين اتخذوا موقفا ضد
تأسيس المنطق سيكولوجيا أو الذين رفضوا ،لدوافع أخرى ،تهمة السّيكولوجية صراحة .فإذا ما
انطلقنا من المبدإ القائل :إن ما ال يكون من طبيعة سيكولوجية ال يكون قابال لتفسير سيكولوجي،
وبالتالي إن كل محاولة أيا كان حسن نيتها أليضاح ماﻫية "قوانين الفكر" بأبحاث سيكولوجية
تفترض إعادة تفسير سيكولوجي لهذه القوانين :سينبغي أن ننظر إلى جميع المناطقة األلمان الذِينَ
ساروا على الدرب التي رسمها زغفرت بوصفهم سيكولوجيّين ،حتى وإن كانوا امتنعوا عن
تسمية ﻫذه القوانين أو وصفها بأنها سيكولوجية ،أو قابلوﻫا بأي شكل من األشكال بقوانين
مصرحا بها في صيغ القوانينًّ السّيكولوجيا األخرى .ذلك أننا إن لم نجد ﻫذه اإلزاحات الفكرية
مقررة فإننا سنجدﻫا بالتأكيد في الشروحات المرافقة أو بمعية كل عرض من عروضها. ال ّ
صة ،محاوالت إعطاء مبدإ التناقض موقعا مزدوجا بحيث يشكل من ويتبيّن لنا من الالفت خا ّ
جهة وبما ﻫو قانون طبيعي ،قدرة تعيّن حكمنا الواقعي ،ومن جهة أخرى ،وبما ﻫو قانون
معياري ،أساسا لكل القواعد المنطقية .إن ف .ل .ل ْنغه ﻫو الذي يدافع بصورية مغرية جدا عن
ﻫذا الفهم في دراساته المنطقية ،وﻫو مؤاف عميق ويطمح ،إلى ذلك ،أن يُسهم ال في تقدم منطق
صور ي" .والحق أننا حين نتفحص عن سيكولوجي على غرار مل ،بل في "تعليل جديد للمنطق ال ّ
الرياضة من حدس كثب ﻫذا التعليل الجديد ونقرأ أن حقائق المنطق تستنبط شأنها شأن حقائق ّ
المكان ، 278وأن القواعد األولية لهذين العلمين "ﻫي قواعد تنظيمنا العقلي" ،حيث إنها تضمن لكل
معرفة بعامة دقة صارمة" ،وبالتالي فإن "الشرعية التي ترضينا فيها تخرج من صلبنا إياه ...من
أساسنا إيانا الالواعي" ، 279حينئذ ال يمكن أن نمتنع عن تصنيف موقف ل ْنغه بدوره بوصفه
278
F. A. LANGE, Logische Studien, ein Beitrag zur Neubegründung der formalen – Logik
und Erkenntnistheorie, 1877, S. 130.
279ن م – ص348
213
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ﻫذا الضرب من الكالم ،قد ال يفهمه أو فحسب ال يسايره الفيلسوف حتى والدارس المطلع
صة من القاموس الفلسفي ،إال بما عبرنا عنه من قبل بمثل على مقاالت الفالسفة وتعابيرﻫم المخت ّ
مستقر
ّ بشق األنفس يسايرﻫم فما أظن كثيرا منهم يخرج بتص ّور ّ مسالك سباق السيارات ،وإذا ﻫو
تصور لحالة البالزما بالعشوائية ،ولكن للبالزما قوانين
وواضح عن المشهد ،ليس أبعد من ال ّ
تقريبية تأطيرية ،أما ﻫنا في ﻫذا الشأن الخطير ،فاألمر ليس نفسه ،خصوصا إذا ما تعلق األمر
بالحكم على فلسفة رجل عظيم مثل إيماونويل كانط؛ وقد سألني أحدﻫم مرة وﻫل ال يوجد غير
كانط فيلسوفا؟! يعني في الغرب -كان سؤاله غمزا! -بالطبع عندما بُ ّدل مفهو ُم الفلسفة ،أمسى كل
من أتى بغريب من القول فيلسوفا .حتى أصبحنا كما قال ﻫسّرل حيال فلسفات بقدر عدد الفالسفة!
ويقينا أن ﻫناك بشرا أبعد ما يكون عن حقيقة الفيلسوف والفالسفة بل وعلى نقيضها ،واعتبروا
مجردّ فالسفة ضمن معالجة تاريخية سيكولوجية للشعوب في نظام خطاب على مضض ،وأصبح
التعرض للمقول الفلسفي على مدرجات الجامعة ،أصبح ذلك كافيا ألن تعتبر فيلسوفا.
إن ﻫذا لخوض في خضم من الهيآت المتماوجة المتداخلة ،ﻫيآت ليست على نفس الماﻫيات وال
األبعاد .ﻫل تم طرح سؤال:
ﻫذا السّؤال وﻫذا البعد التحليلي الهام لم يثره ﻫسّرل وال أشار إلى وجوده معزوا إلى غيره.
280من المعروف أن نظرية المعرفة عند كنط تحاول ،في بعض جوانبها جاﻫدة أن تتخطى سيكولوجية
الملكات النفسية ﻫذه بوصفها مصادر وأنها تتخطاﻫا فعال .ويكفينا ﻫنا أن لها أيضا أوجها الفتة جدًّا تعود إلى
السّيكولوجية األمر الذي ال يمنع جداال حادًّا ضد أشكال أخرى من التعليل السّيكولوجي للمعرفة .لكن ليس لنغه وحده
بل أيضا قسم كبير من الفالسفة الذين يرجعون إلى كنط ،ينتمون إلى فلك النظرية السّيكولوجية في المعرفة أيا كانت
قلة استعدادﻫم للموافقة على ذلك .إن السّيكولوجيا المجاوزة ﻫي أيضا سيكولوجيا -المرجع
281مباحث منطقية -6ص625-623
214
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وﻫل يمكن أن نقحم فلسفة كانط في ﻫذا من غير أن نعتبر وجود على األقل بعدين مختلفين في
الوضع والموضوع ،لمباينة المنطق األخالقي مفهوما محوريا ومرتكزا يقوم عليه البنيان الفلسفي
الكانطي ،مباينته للمنطقين الواقعي واألمثلي في بيان وخطاب ﻫسّرل؟
إنه من دون ﻫذا التفكيك األبعادي ال يمكن منطقا إال أن نكون في بالزما تفلسفية من غير وال
معادالت مقاربات رياضية تقريبية.
ّأوال نبدأ بما ﻫو ج ّد ﻫا ّم فلسفيا ونراه مستجدا إذ ﻫي نقطة انبثقت على اتصال باالستغراق في
ﻫذا الموضوع ،الح لي نورﻫا بلورا اليوم مع مسار اإلنجاز والكتابة؛ وﻫي أن السّلوك النفسي
يفسّر منطقيا بالمنطق الكلي التغيّري ،التغيّر الذي يستحيل على العقل اإلنساني ضبطه والتحكم
فيه ،العقل اإلنساني وسعته المنطقية التي ﻫي في حدود البناء على المنظومات الثابتة معطيايتا
وأنساقا قانونية (قواعد منطقية) ومن ثم أصبحت النفس بالنسبة لهذا المنطق الثبوتي أو السّكوني
الرياضي والمنطقي بالطبع ،أصبحت النفس نقيضه ،أي بالنسبة لسعته الممثل للعقل البشري ّ
وسكونيته ومحدوديته ،أصبحت عنوانا لما ﻫو نقيض العقل ونقيض المنطق .وﻫذا مثله تماما
الرياضية في المساحات المنحنية .فالسّلوك النفسي ﻫذا ﻫو بعده
وأيضا دليله ﻫو المعيارية ّ
وﻫيأته ،وال يقدر عليه سعة إال المنطق التغيّري الكوني والمطلق .ومنه ،كذلك وفي نفس اآلن،
ولصعوبة تحكم العقل البشري السّكوني المحدود في نفسه المتعلقة به ،وللمسافة البعيدة ﻫذه عن
التحكم ،يصبح ترك األمر للنفس المتأثرة بمجال تغيّري على تر ّدد كبير ،يصبح ذلك نقيضّا للعقل
وللمنطق.
إن الشي َء الذي تكون به السّيكولوجية في دالالتها التي قد تجد لها في بعض منها تسويغا ً
َّ
اصطالح ًّيا من باب التمييز الداللي ،هو الذي تأخذ فيه موقع المقابل الضد للعقل كرائز منطقي
وللمنطق نفسه؛ وهذا البيان بفلسفته المبنية عليه هو األساس ذاته الذي تقوم عليه فلسفة إدمون
هسّرل .ومرتكزه شرحا ً وتعليال كون:
ا -وحدة النسق العقلي هي شرط الوثوق المعرفي وقيام حقيقة العلم تراك ًما وتناسقا ً واتساقا ً
215
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
من هنا يتبيّن أن النفس سوف تكون مقابال ض ّد يا للعقل ال كونها مستوجبة لمنطق تغيّري غير
سكوني ،بل كذلك ،لمنطق بنائي وإنشائي متوافق وطبيعتها الوجودية الوظيفية ،وظيفته ليست
قصدية رئيانية علمائية ومعرفية ،بل إنشائية اكتسابية وبنائية تحققية ،لمنطق ينتج مطالب النفس
وأهداف اإلنية .فهنا نتجاوز مستويي المنطق األولين السّكوني والتغيّري ،إلى المنطق اإلنشائي
شروط والمعطيات المستقبلية ،ألن اعتبارا للقانون والمكنة ومحتمل ال ّ
ً اإلمكاني واالحتمالي،
السّلوك النفسي ليس يهم فقط الحكم والموقف من الحاصل ،بل كذلك الحركة التواجدية نحو
المستقبل.
وبناء على محدودية السّعة المنطقية لرائز وجهاز النفس المنطبق بالعقل ،ولكون اإلحاطة
العلمية بمعطيات اآلن واالستقبال تستحيل في حقه ،فيستحيل حصول توافق اإلنيات في أهدافها
و مسالكها المبنية على المحدودية القصوى لسعتها المعطياتية .ومن ث ّم يكون ج ّل السّلوك غير
صحيح وغير منطقي بطبيعة الحال .ولكن وجب االنتباه أن هذه الالمنطقية ما هي إال نتاج لمكون
المكون المنطقي .وهذا هو مكمن السّجال الذي ال أول له وال آخر ّ السّعة المعطياتية وليست عن
بخصوص هذا الح ّيز الفلسفي .وهذا أيضا ً هو الذي يُعيّن مناحي عالقتي التفسير واالستجالء
التجريبي بين المنطق والسّلوك النفسي .ومن جهة أخرى فعليه كذلك ال على غيره ،وعلى نحو
صل لحقيقة النظام السّياسي والتكتالت واألحزاب السّياسية واألنظمة االستبدادية واضح وقوي ،يُؤ ّ
والضّالل السّياسي ،وعموم مفهوم نظام الخطاب على محمل خطاب ميشال فوكو .ويقوم ذلك
على حقيقة شاخصة بارزة ،حقيقة منطقية جلية ،هي اضطرار ولجوء النفس إنية إلى تعديل
شروط وفق حاجتها وما يحقق لها أغراضها ،أي أننا اتجاه منطق نفس إني معدل عن المنطق ال ّ
الحق بهذا التحوير .وهنا يتضح كل شيء بالنسبة لحقيقة نظام الخطاب الممثل لتكتل إنياتي
مشترك في الهدف التواجدي الجمعي .وهذا هو المغير الفعلي لطبيعة الحياة عند اإلنسان ،فتتحول
صعوب ة ومن االنتظام إلى التنافر وفوضى صراعات التكتالت اإلنياتية لكل من السهولة إلى ال ّ
منها نظام خطابه؛ وكلها منطقيا ً وفلسفيا ً كما بيناه وبرهنا عليه ،كلها ال ينبغي لها السّداد ألنها
قاصرة منطقيا ً وفلسفيا ً دونه؛ وكل تغيّر في طبيعة الحياة وأغلب الشرور هذا هو أصله .وإنه إلى
حد يقارب اليقين ،هذا هو تعليل ما صدر عنه فريدريك نيتشه وهو يتكلم (يتفلسف!):
«لتكن فضيلتك أسمى من أن تستخف باألشياء عند تحديدﻫا ،وإذا ما اقتحمت ﻫذا التحديد ،فال
تستحي من أن تتلفظ به تمتمة ،فقل وأنت تتمتم :إن ﻫذا ﻫو خيري الذي أحب ،إن ﻫذا ما يثير
صورة ،ال أريد ﻫذه األشياء تبعا إلرادة رب منإعجابي ،فأنا ال أريد الخير إال على ﻫذه ال ّ
216
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
األرباب وال عمال بوصية أو ضرورة بشرية ،فأنا ال أريد أن يكون لي دليل يهديني إلى عوالم
282
عليا وجنات خلود»...
ومن ثمة نقف على شرفة الفلسفة المتسامية لكانط بعنوانها الكريم الكبير "المنطق األخالقي"
المحقق ل"الدولة اإللهية" بنظام خطاب روحه "المنطق المحض" الذي ليس "المنطق األخالقي"
إال تعبير عن تحقق تلك المسافة أو الشرط العلمي المحيط في مطلق المجال الوجودي ،بمعيارية
صواب بامتداد متصل رياضية ومنطقية مهيمنة .وما الخير والشر والحالل والحرام إال الخطأ وال ّ
إلى كل المجال الوجودي المتض ّمن أيضا ً لما ال يعلم وال يمكن أن يعلم ولما يستقبل؛ فهو المنطق
المحض بالعلم الكلي المطلق .وهذا ال مراء يصوب بل يصحح بالمعنى الحقائقي ال المعنى
غزالية كانط ،وإنما هو اتجاه تجميعي للعقل الفلسفي اإلسالمي ككل ،علم الحديثي ،يصحح دعوى ّ
وحجة للفلسفة األولى على العقل الغربي واإلنساني .فالدولة اإللهية محققا في مجال االستخالف
(السّياسة المدنية) وتوافق المنطق األخالقي مع المنطق المحض ،هي عين كلمة الكندي والفارابي
وابن سينا بالمنحى واألساس.
وأمكن إلى حد بعيد اختزال وأيضا ً تقريب واستجالء حاصل الخالف بين هسّرل وما قاربه
تصوره وموقفه الفلسفي ،أمكن تمثيله وعرضه
من غير انطباق بالسّيكولوجية من فلسفة كانط و ّ
في هذا الكالم ،غايته الفلسفية ،لهسّرل في تأ ّمالته الديكارتية:
"وبفضل تحول األنا إلى «موجود في العالم» يصبح كل ما «يخص» األنا ،بل كل ما
283
«يخص» هذه «اإلنية» ،متضمنا ً على شكل نفسي في «روحي» ،من وجهة النظر المتعالية"
صل بنظماتية طرف العملية التي إن كسب الوجود لألنا إنما جاء عن حدس فينومينولوجي مح ّ
يعقبها رد الموضوع إلى تواجده الطبيعي .الذي ينبغي التسطير عليه هنا هو أن "األنا المتسامي"
أهم ما يتجوهر به هو البعد أو الماهية التي للطبيعة النظماتية ،أي بالعقل ذي الماهية المنطقية
والقانونية رباط النظمة؛ فترجع األنا من بعد هذا الطريق التواجدي إلى مدارها األول ،ولكن
بشحنة من المجال والمدار األعلى ،شحنة العقل والمنطق المهيمن ،لتستحيل نفسا ً عاقلة من ماهية
عقلية تنتظم الكون والوجود من غير استثناء أي بعد من أبعاده ،أي أنها موجودة بشعلة أعلى من
هكذا تكلم زرادشت كتاب للكل وال ألحد :فريدريك نيتشه -ترجمة فليكس فارس -هنداوي -ص13 282
217
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ب َوال َّ
ش َها َدةِ عا ِل ُم الغ ْي ِ
الروح؛ وهذا بالطبع هو مصداق الوحي الكريم﴿ :ذ ِلكَ َ تصور :إنها ّ كل ما ي ّ
ين' ث َّم َجعَ َل ن ْسلهُ مِ ْن سُالل ٍةان ِم ْن طِ ٍ س ِ ش ْيءٍ َخلقهُ َوبَ َدأ َخلقَ اإلن َ سنَ ك َّل َ الرحِ ي ُم' ال ِذي أ ْح َ
يز َّالعَ ِز ُ
ار َواألفئِ َدة' ق ِليال َما
ص َ س َّواهُ َونف َخ فِي ِه ِم ْن ُروحِ ِه' َو َجعَ َل لك ْم ال َّ
س ْم َع َواأل ْب َ ِم ْن َماءٍ َم ِه ِ
ين' ث َّم َ
تشكرونَ '﴾(السجدة)8..1 ُ
لئن كان هذا هو روح فلسفة كانط وروح مفهوم "العقل األخالقي" ،والذي يُضيف إلى العقل،
عقل المنطق السّكوني ،المنطق المبني على ثباتية وعدم تغير المعطيات والمقدمات ،الموافق
لصيغ القياس األساس "بربرا" و "سيرالنت" و"داريئ" و"فيريو" ،يُضيف إليها ،القواعد المنطقية
الخارجة عن سعة ﻫذا العقل المحدود ،الممثلة في حدود وأضالع مؤطرة للمشروع من السّلوك
واإلنشاء والعمل ،يطلق عليها أو ما يسمى باألخالق .والعقل الذي ترتكز عليه العملية
المكون الثابت في األنا
ّ الفينومينولوجية والقصدية ،أي مرتكز حقيقة وتحقق االنتظام ،أي
المشارك في العملية خارج عملية التعليق بين ﻫاللين حتى حين ،ﻫو نفسه المساير توافقا وانتظاما
ذلال يولد ما نس ّميه بالشعور االنتمائي لهذا المجال الوجودي المنتظم ليس في حدود القياسات
المنطقية وفي عدم التناقض فحسب ،بل كذلك مع الشريعة اإللهية ،التي ليست في كنهها وحقيقتها
سوى امتداد للمنطق نفسه وللقياسات ولعدم التناقض في مطلق الحقل الوجودي مما ال يحيط به
اإلنسان على بعد المغيب من الزمن واألحوال ،ﻫذا ﻫو التأطير لتعبير كانط بالحقائق أو "المعرفة
المركوزة " .وﻫو كما ترى ليس بعيد كل البعد عن الموقف الفلسفي للسيكولوجيين ،بل ﻫم إلى
النفس وﻫو إلى أعلى.
وهذا هو عين البناء الكانطي لمن أمعن فيه النظر ،فمفهوم "العقل األخالقي" تركيب دال على
المنطق الخلقي الذي هو العقل المنطقي السّكوني ،مناط ووسيلة هسّرل في إحقاق االنتظام غاية
القصدية والعملية الفينومينولوجية ،بزيادة وإضافة االمتداد على كل األبعاد إطالقا ً حتى النفسي
منها الذي ال ينبغي لمحدودية العقل أو المنطق السّكوني ،وهذا الذي به تتم حقيقة العقل األخالقي،
الذي له داللتان :األولى مطلقة وهي المرادف للحق ،والثانية هي المسندة إلى األنا أو اإلنسان،
وهي العقل المنطقي +االئتمار بالحق (بالشريعة اإللهية) .وهذا تحديدا ما قاله كانط وما فلسفته،
ومنه يتبيّن ما أومأنا إليه من التباس األمر على هسّرل حين يصل إيجابا ً ولو شيئا ً كانط
بالسّيكولوجية.
218
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لكن لننتبه ّ
أن السّياق الفلسفي لهسّرل هنا هو بالتحديد سياق برهان الوجود ،وليس يرى خالله
إال تأ ّمالت ديكارت التي ض ّمنها برهانه لوجوده ولوجود الحق سبحانه ! وبنفس المادة بل حتى في
مكوناتها وطيّاتها .وعلى وجه اإليجاز ،وبقصد تحديد المدار الفلسفي هذا قول هسّرل:
ّ
صة"وبديهي أنه ينبغي لي أن أحظى بتجربة «دائرة ما يخصني» هذه ،التي هي دائرة خا ّ
باألنا ،ألتمكن من تكوين فكرة لي عن تجربة «اآلخر غير الذات»؛ وبدون أن أحظى بهذه الفكرة
األخيرة ،ال يمكن لي أن أحظى بتجربة العالم الموضوعي .بيد أنني لست بحاجة إلى تجربة
صة «العالم الموضوعي» ،وال إلى تجربة اآلخر ،لكي أحظى بتجربة «دائرة امتالكي» الخا ّ
284
بي".
فالنفس هي مرجع الوجود ،ويبقى برهان وجودها معلقا ً ،سواء عند هسّرل أو من قبله
ديكارت .ونفس الميزة أو الملحظ النقدي والتقويمي ،التكرار إلى حد يفوق المستاغ مما يدل على
مأزق فلسفي ،وأمره واضح منهاجيا ً ،حيث االقتصاد في القول متناسب ووضوح الرؤية والحكم.
صة ،محاوالت إعطاء مبدإ التناقض موقعا مزدوجا بحيث يشكل من "ويتبيّن لنا من الالفت خا ّ
جهة وبما ﻫو قانون طبيعي ،قدرة تعيّن حكمنا الواقعي ،ومن جهة أخرى ،وبما ﻫو قانون
معياري ،اساسا لكل القواعد المنطقية"
يمكن أن نستمد قوانين المنطق من خالل االختالالت الناتجة عن سلوكات النفس ،فهذا ﻫو الذي
أمكنه أن يكون مصدرا سيكولوجيا للمنطق .ومنه فالنفس ال تكون في أحكامها ومواقفها ومنطقها
الالمعقول والالمنطقي ،أن تكون منظارا منطقيا على اإليجاب.
إن قوله في النص األول أعاله" :وتنتمي قوانينا محض المنطقية إلى ﻫذا الفلك شأنها شأن
الرياضة المحض" ﻫو تقرير ال ريب .وﻫو أعلى مدارا وتأصيال من النظماتية ،بل إنه قوانين ّ
يحتويها تعليال ،وليس يبقى سوى العمل في التأصيل الحق للرياضيات البشرية وللمنطق ،تأصيله
219
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تحرر من أي حجر فلسفي ،ليكون البرﻫان على الوجود برﻫانا صحيحا ليس على الوجودي الم ّ
صحيحة .وإن ﻫذا البيان سواء لهسّرل أو ديكارت أو
البداﻫة وال على الحدسية القاصرة غير ال ّ
الرياضيات ،إن ﻫو إال دليل على
غيرﻫما من حيث المادة والحيز الذي يكاد ال يخرج عن فلك ّ
مدى النزوع العقلي والواقعي لسؤال الحقيقة وموقعها وبرﻫانها ،النزوع إلى ما ﻫو صحيح من
سبل الحق في ما تجلى من البرﻫان.
220
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
-6قصدية ه ّ
سرل وحقل المقوالت العشر ألرسطو
الرابع من "تأ ّمالت ديكارتية" الثاني من "التأ ّمل األول الطريق إلى «األنا»
في الفصل ّ
المتسامي" ،الفصل الذي عنوانه "الكشف عن المعنى الغائي للعلم عن طريق جهد «معاناته»
كظاهرة نُيَمِية" وأقول بكل ثقة وصراحة بأن مضمون الفصل لم يكن مطابقا لما يحيل إليه
العنوان ،إنما عرض لمسألة التأسيس للعلم ،العلم حقيقة وليس ادعاء ،المسألة العويصة التي لم
يستبن ﻫسّرل حلها ،كما حصل ولم يبصر به ديكارت .االرتباط والتوافق النظماتي والبداﻫة ﻫما
صياغة الفلسفية الواضحة ح ّد وسقف تفلسف ﻫسّرل وديكارت معا؛ لكن ﻫذا إنما ﻫو حكم على ال ّ
صياغةصحيح ﻫو الذي بيانه ال يخل بالوضوح والقصد .وليس ذلك أمكن إال بال ّ والتفلسف ال ّ
صارم والواضح .نقول ﻫذا ّ
ألن الح ّل كان أقرب لهسّرل وفي حيّز إمكانه المنطقية والبرﻫان ال ّ
االستنباطي لو فكر وأنعم التفكر ،ف"اإلنية المطلقة" الموحدة أو التي ترجع إليها وحدة اإلنيات
تصور الكانطي كما نحب المتسامي ة ،ﻫي مرجع حقيقة العلم والوجود ،وذلكم ﻫو الحق .وﻫذا ﻫو ال ّ
صارم ﻫو الذي يبقى وبقي حائال تفكريا دون ديكارت وﻫسّرل، أن نؤكده .لكن المعيار المنطقي ال ّ
وﻫو ما أثبتناه في عملنا "األصول الحقة للرياضيات" ،ونرى فيها حال لكل القضايا الكبرى عند
الرصين الواضح..صة التي تتعلق بأصل المنطق وتأصيله الفلسفي ّ ﻫسّرل ،خا ّ
الرابع ،وإذا كنا لم نفد شيئا ،ﻫو تكرار لذات الموضوعة كما يحب البعض أقول في ﻫذا الفصل ّ
التهوياتي ،فإن التعليق
ّ التعبير عن لفظة "التيمة" أعجبهم رنينها ولحنها ليس الصوتي وإنما
والشرح الذي أضافه المترجم – رحمه هللا! -بخصوص لفظة "نُيَمِ ية" ليكاد يجمع ويحيط بالبنية
األرض في ﻫذا التعليق والشرح: العميقة لتفلسف ﻫسّرل في كل أبعادﻫا .يقول تيسير شيخ ْ
"تتعلق الظاﻫرة النيمية 285بأوصاف الموضوع المقصود ،وبالتحديدات التي يعزوﻫا األنا إليه،
صة التي تبدو عليها ﻫذه القوالب ،مثل أنماط الوجود
من خالل قوالبه الشعورية ،وباألنماط الخا ّ
من ممكن ويقيني ومفترض ،ومثل األنماط الزمنية الذاتية من ماض وحاضر ومستقبل.
285
Noématique
221
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ويفرق «ﻫسّرل» بين ظاﻫرة نيمية وأخرى نُيَطية ،286أن ﻫذه األخيرة تتعلق بقوالب ال«أنا
أفكر» ذاته كاإلدراك والذكرى وما يرافقهما من فروق في الوضوح والتمييز.
أن ﻫاتين الظاﻫرتين تتعلقان بالقصد الذي يحاول تضمين العالم في الشعور. وكما ﻫو مالحظّ ،
لمجرد أنه قصد .وﻫو بما ﻫو كذلك ،ذو قطبين:
ّ إن كل شعور ﻫو شعور بشيء من األشياء،
قطب النيمة 287ويعنى بدراسة اإلدراك بما ﻫو إدراك لموضوع من الموضوعات ،وقطب
النيطة 288ويعنى بدراسة اإلدراك بما ﻫو إدراك .بين أن ﻫذا التضمين ليس واقعيا ،فالكتاب الذي
على مكتبي ﻫو على مكتبي وليس في شعوري ،ولكنه يتحول إلى ظاﻫرة من الناحية القصدية،
وظاﻫرة الكتاب في شعوري من دون شك .وبديهي أن ﻫناك عالقة وثيقة بين الكتاب الواقعي
الذي على مكتبي ،وبين الكتاب الظاﻫري الذي ﻫو في شعوري .ولكن ﻫذه العالقة ليست عالقة
ظاﻫرتين خارجيتين مستقلتين ،فالموضوع ﻫو شيء قائم في مقابلي ،أي أنه ظاﻫرة تحيل إلى
الشعور الذي تبدو له من ناحية ،كما أن الشعور ﻫو الشعور بهذه الظاﻫرة من ناحية أخرى.
وﻫسّرل ال يتجاﻫل ﻫذه العالقة ولكن يرجئها ريثما ينتهي من مسألة إدراك الشعور للظواﻫر أو
الماﻫيات .وﻫذا ما يفسّر لنا تعليقه العالم الخارجي ،ووضعه بين ﻫاللين ،ولكن ليعود من بعد إلى
فك الهاللين ودراسة عالقة الظاﻫرة بالموضوع .وكما سنرى ذلك ،أن القصدية ذاتها تحمل معنى
289
وجود العالم وأشيائه ،كما أن الذاتية البينية ﻫي األساس الذي تقوم عليه موضوعية العالم".
نص تعليمي على الذي ﻫو أحسن وأقرب لتقديم فلسفة إدموندالنص ﻫو بمثابة ّ
ّ ال أشك ّ
أن ﻫذا
ﻫسّرل ،غاية في القصد والتبسيط واأليضاح .لكن في نفس الوقت والوضع ﻫو أوسع مضمونا
وأكثر أبعادا وأعمق غورا ،إلى درجة أن يدل ويحقق اإلحاطة بفلسفة ﻫسّرل.
إن الدارة ﻫنا واضحة :حيازة الشيء وتناوله باأليدي (أو األصابع) الشعورية من مآخذ معينة
تمثل متعلق الظاﻫرة النيمية ،وبلوغ وضع أو حالة النظماتية طرف العملية القصدية التي تعطي
أو بدقيق وسديد التعبير تنقل الشعور بالشيء (العالم) إلى إدراك بالشيء (موضوعية العالم).
286
Noétique
287
Noema
288
Noese
289تأ ّمالت ديكارتية – أسفل ص 18-11
222
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الذي أريد أن أسلط عليه إنعام التفكر وممعن النظر ﻫو عنصر أو قطب النيطة ،وﻫذا أمر
عظيم يه ّم المنطق ومستوياته ليس فحسب في اإلطار الذي تحدثنا فيه ،بل إلى أفق أعلى منطقيا
ووجوديا .وكذلك لنطرح سؤال التأصيل الفلسفي من دون مواربة وال حظر في النظر وفي حدود
التفلسف لعالقة ﻫذه القطب بالقطب الثاني المقابل ،قطب النيمة.
ﻫل األيدي الشعورية من جوﻫر األنا أم ال؟ أم أن ﻫذه األيدي وعاء ومتاع وجودي من ذات
فضاء العالم ﻫذا المتعامل معه من خالل الشعور ،أي من خاللها؟
بالطبع ﻫنا يحضرنا التأصيل الفلسفي الوجودي للمقوالت العشر ألرسطو .وﻫنا يلوح لك
والريبيين إلى يوم الدين،
منطق ابن سينا في األعالي فوق شك الغزالي وديكارت وﻫسّرل ّ
فالبسائط المبادئ عنده المحللة لمادة العقل الباطن – الالشعور -ﻫي على بعد وجودي مشاكل
ألبعاد مقوالت أرسطو العشر.
األرض = العالم +األيدي إن المنطق المطلق ال شك يهيمن على حقيقة أن النفس ليست من ْ
ت فِي األنفس حِ ينَ َم ْوتِ َها َوالتِي ل ْم ت ُم ْ
َ توفى حواس)﴿ :هللاُ يَ َ ّ الشعورية (= الغرائز والبدن وال
األرض وقوله تعالى﴿ :ال ِذي َخلقَ ال َم ْوتَ َوال َحيَاة َ َمنا ِم َها'﴾(الزمر )34وعالقة االستخالف في ْ
فور'﴾(الملك )2وقوله تعالىَ ﴿ :وﻫُ َو ال ِذي َجعَلك ْم َخالئِ َ
ف يز الغَ ُ ع َمال' َوﻫُ َو العَ ِز ُ
س ُن َِليَ ْب َلوك ْم أيك ْم أ ْح َ
فور
س ِري ُع ال ِعقاب' َوإنهُ لغَ ٌ ت ِليَ ْب َلوكُ ْم فِي َما آتاك ْم' إن َربكَ َ
ض َد َر َجا ٍ فوقَ بَ ْع ٍ
ضك ْم ْ األرض َو َرفَ َع بَ ْع َ
ْ
َرحِ ي ٌم'﴾(األنعام)169
223
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
العقل النفس
الجسد
نقيض العقل
والوجود
الشعور
النفس ،إنما وعا ٌء وجودي وحا ٌل وجودي تتجلى فيه وتتشخص ذاتا وجودية. َ ليس ﻫوالشعور َُ
ُ
ومسؤولية النفس التواج ُد بشروط وجودية أرضية على ﻫدي الحقِ ﴿ :ليَب َْلوك ْم فِي َما آتاك ْم'﴾ ولو بدا
تصور بما تريده النفس في ّ شروط ظالمة غير عدل ،وإنما ﻫو تصور معيّن نسبي أن ﻫذه ال ّ ّ في
األرضية﴿ :إن اإلنسانَ األرضية وتحقيقا لرغباتها ْ تجليها التواجدي مقارنة مع الذوات التواجدية ْ
صالتِ ِه ْم على َ َ ُ
ص ِلينَ ال ِذينَ ﻫ ْم َ ّ ُخ ِلقَ َﻫلوعا إذا َمسهُ الشر َج ُزوعا َوإذا َمسهُ ال َخ ْي ُر َمنوعا إال ال ُم َ
ُ
ص ِ ّدقونَ بيَ ْو ِم َدائِ ُمونَ ' َوال ِذينَ فِي أ ْم َوا ِل ِه ْم َح ٌّق َم ْعلو ٌم للسائِ ِل َوال َم ْح ُر ِ
وم' َوال ِذينَ يُ َ
ين'﴾(المعارج )26..12إن النفس حينما تفقه الوجود وتدرك المنطق المطلق ،ستجعله ﻫو ال ِ ّد ِ
األرضي .ﻫذا المنطق ﻫو صها محض ْ تصور واألحكام ،وليس لتجليها وتشخ ّ المرجع في ال ّ
المهيمن على مطلق الوجود ،ﻫو منطق الهيمنة على األولى واآلخرة ،ﻫو منطق اإليمان ،منطق
صال ِت ِه ْم َدا ِئ ُمونَ ﴾ منطق المؤمنين .وفي ﻫذا المنطق تدحض ألوﻫية النفس وجعل على َ ﴿ال ِذينَ ﻫُ ْم َ
المنطق الشخصي خادما لها طيع إرادتها ،فالحكم للمنطق الحق المهيمن ،واإلرادة له والوجود له:
تولى َو َج َم َععو َم ْن أ ْد َب َر َو َ وم'﴾ ال للنفس﴿ :ت ْد ُ ﴿ َوالذِينَ فِي أ ْم َوا ِل ِه ْم َح ٌّق َم ْعلو ٌم للسائِ ِل َوال َمحْ ُر ِ
عى' إن اإلنسانَ ُخلِقَ ﻫَلوعا إذا َمسهُ الشر َج ُزوعا َوإذا َمسهُ ال َخي ُْر َمنُوعا فأو َ
ْ
﴾(المعارج)21..11
224
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
أن الحكم للمنطق إنما الخطر كله حين يضيق النظر عن حدود الحق في ﻫذا األمر العظيمّ ،
لو فقه الوجود ،وفقه حقيقة النفسصة وآية كبرى لعُ ّ ِالرضى ميزة خا ّ الحق والمهيمنّ ،
وأن ّ
صحيح لمعنى واإلنسان أو نفس اإلنسان؛ الخطر ﻫو في الميل الكلي نحو أحد قطبي الفقه ال ّ
صالح المحقق لالستخالف ،العمل األرض ،قطب االمتحان ،وقطب العمل ال ّ االستخالف في ْ
صناعي كله من صالح القائم على التسخير بعلم الحق ،وتسبيح هللا عز وجل والبناء الهندسي وال ّ ال ّ
صناعيصالح .فال رضا حق إال بتحقيق االستخالف والعمل عليه جهد العمل ،والبناء ال ّ العمل ال ّ
والتسخير العلمي لألرض بقوة من غير إيمان باهلل واعتبار المرجع الحق المهيمن باطل ال نور له
وﻫو عمل غير صالح في الحق .وﻫذا ﻫو المعيار وبه يكون التقويم لكل المؤلفات والكتب
الصادرة للمعاصرين من علماء وفالسفة الغرب بشتى مشاربهم في قضايا الدين والعلم والفلسفة؛
وبه لن تكون قيمة لمن يعمل ويؤلف تحت رقابة نظام خطاب في حقل الفلسفة وتاريخها؛ فهؤالء
ينهج ون ما يحبط أعمالهم ،ويجعلهم أحط من السفسطائية الذين أنكر عليهم سقراط أنهم يقبضون
أجرا على عملهم؛ كما أورده أوليفير ليمان في الفصل األول من "مستقبل الفلسفة في القرن
الواحد والعشرين"؛ ولكن إن كان قد ساق ذلك في ذكر سلبية التخصص المنافي في حقيقته لمعنى
الفلسف ة وشرطها ،فإن ما نعنيه ﻫنا ليس فحسب التخصص ،بل أجراء متخصصون في تزييف
حقيقة الفلسفة وتاريخها وتزييف الحقيقة الوجودية ذاتها والصد عن تحريها؛ وماذا يكون وضع
اليد على أﻫم مفاصل العلم والفلسفة البشريين ممثال في الطور اإلسالمي ،وماذا يكون جعله من
الشروط التعليمية للفلسفة وتاريخها إال ﻫذا؟
حين نستبين ﻫذه الحدود الجواﻫرية للعناصر مرتكزات تفلسف ﻫسّرل ،التي ليست في الحقيقة
سوى تحويل صيغاتي على مستوى الوضع ال الحقيقة بتعامد على فلسفة التسامي لكانط ال
األرض ومن عليها ،ألنه
تعدوﻫا .وسيبقى ﻫذا ﻫو الطريق المعبد للتفلسف إلى أن يرث هللا ْ
تفلسف بديهي وحزمة أسئلة وجودية بديهية .ومن ﻫذه البداﻫة بذاتها يكون حدس إلى ح ّد القطع
بوجود حقيقة وطريق حق للتفكر والتفلسف للوصول إليها .ربما سيكون من مناحي التفلسف بل
وستعتبر كما اعتبرت فلسفات بعدد من يتصدى لهذا السّؤال أو الحزمة التساؤلية ،أليس غير واحد
فطن إلى العملية الحفرياتية ولكل حفرياته؟! حفرياتية على البعد التاريخي وحفرياتية على البعد
النفسي!
225
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إن ﻫسّرل عندما يتوخى األصل األول على البعد الحفرياتي للشعور ،يقف على نفس المستوى
يِ
ض ّ
والدرجة التفلسفية لديكارت ،تستمد الوجود من "أنا أفكر" .ولكن لماذا ينكص ﻫسّرل عن ال ُم ِ
صعود مع منحى الذاتية البينية ليبقي منتهى تأصيله الالمتجاوز ﻫو البداﻫة؟!
أو ال ّ
إن الذاتية البينية وﻫي التي تجلي تطابق التفلسفين لكانط وﻫسّرل ،وأن القصدية ما ﻫي إال
طرح تحويلي أفقي ،إنما ﻫي نتاج العوامل فيه أو العامالن ﻫما:
-2الموضوع
-1عالقة التناسق بين النيمة والنيطة
عل القارئ المتتبع للحديث باﻫتمام وت َمعن شرط االستيعاب ،حدس واتسق له منحى االستنباط،
استنباط التعدد عبر وسيط الموضوع .لكن مع ذلك يبقى سؤال وحدة االنتماء إلى الحقل
الوجودي ،حتى يمكن أن نتحدث حقيقة عن التعدد .وﻫذا بالضبط ﻫو ما يحققه العامل الثاني ،ذلك
الرصين والحصيف أن عالقة التناسق بين النيمة والنيطة ما ﻫي من حيث التأصيل الفلسفي ّ
والمنطقي إال كنه المقوالت العشر ألرسطو" :المقوالت العشر ما هي إال قياس للشيء على
األبعاد اإلدراكية لإلنسان .هذه األبعاد هي بمثابة سلمات للقياس .وهي تابعة للعقل واإلدراك
اإلنساني ومنتظمة مع أبعاده وطبيعته الخلقية ،مما هو متصل بما أسميناه في مواضع سابقة
بالمسألة البعدية ،وهي مرتبطة باألبعاد الوجودية والخلقية لإلنسان".
"المقوالت العشر بمثابة األبعاد العشر ،وبالمعنى األوضح هي بمثابة أيادي العقل اإلنساني
سلمات؛ وهذا يسري عليها كلها ،أي يعطي مصداقية تطبيقية لها". يمسك بها األشياء ،وأنها أبعاد ُ
226
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
-7قصدية ه ّ
سرل استكناه لمفهوم التمكين االستخالفي ولتعريف العقل
التناسق إذن يستنبط منه من غير احتياج إلى الذاتية البينية وحدة الحقل الوجودي للذات أو
النفس والموضوع ،موضوع القصدية والتجاوزية والتأ ّمل والنظر .إنه المستوى الوجودي األول
إن أردنا أن نس ّميه كذلك ،تمييزا له منهجيا عن المستوى الوجودي االجتماعي اإلنساني ،الذي
يبرﻫن عليه بالتعدد اإلنساني أو الذاتية البينية المثبتة والمبرﻫن عليها بتعدد الذوات العقلية ،ودوما
من خالل وعبر وسيط الموضوع ،باستجالء الحقيقة العظيمة :بأن صورة المثلث هذا الذي هو
مرسوم ،أو شكل هذا الجسم ،وهي موجودة في الذهن ،ليست هي المحققة لوجود المثلث ،ألنها
مجرد المنطقي ،ال المخصوص ليست المثلث ،وإنما المثلث هو في الحق ،واعتباره حين التفكير ال ّ
المعين المرتبط بظاهرة وموضوع مادي مشخص معين ،هو اتصال وعالقة به ،ألن العقل شعلة
من الحق في الوجود.
إن هذا بالضبط ،هو الذي يوضح إلى حد تقرير خطإ هسّرل في وصف التأصيل وما س ّماه
صوري ل ف .ل .ل ْنغه وﻫو يصله بالطرح الكانطي بالسّيكولوجي ،وإنما ﻫو بالتعليل للمنطق ال ّ
عكس ذلك وأن اللبس تخلل بفعل التض ّمن القصري للمنطق السّكوني في المنطق التغيّري
واألخالقي الكلي.
حقيقة الذاتية البينية اإلنسانية كعالم نوعي أو نوع عالمي ضمن عوالم الذوات البينية ،تتميز
خاص نفسيتها وسكولوجيتها ،ووحدتها من خالل الوسائط أو ّ صة عقوليتها أو عقليتها ال بنحوبخا ّ
الوسيط الموضوعاتي ،وتحديدا بعد العالقة التناسقية بين النيمة والنيطة الموضوعاتية ،تبرز
تقرر مجالية وجودية في بنيتها على مرجع ﻫذا الترابط البنيوي المحكم والمقنن ،بهذا تجريبيا وت ّ
تقرر قول لنغه "أن القواعد األولية لهذين
الشيء الذي نس ّميه العقل ونظمته وماﻫيته .ومنه ي ّ
العلمين "هي قواعد تنظيمنا العقلي" ،حيث إنها تضمن لكل معرفة بعامة دقة صارمة" لكن يلزم
227
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تصحيح قوله "" الشرعية التي ترضينا فيها تخرج من صلبنا إياه ...من أساسنا إيانا الالواعي"
ألن الشرعية قانون المجال مستم ّدة منه ،ال من نقاط وعناصر من داخله.
ي فيلسوف وال منطيق أن يجادل في كون النظماتية واالنتظامية طرف وغاية إنه ال يمكن أل ّ
العملية التفلسفية البنائية البرﻫانية النسبية لهسّرل ،ﻫي دون التأصيل البرﻫان الواجب والالزم
لوعائها ،الذي ﻫو مرجعها ببُعديه ولوحتيه [النيمة -النيطة] ،ﻫذه الوعائية والجوﻫرية المرجعية
المنبنية والمؤسّسة على التناسق الوظيفي بما يشترطه من تناسق ماﻫياتي وعوالمي .واألﻫ ّم ﻫنا
من حيث علة التأصيل الفلسفي والبرﻫاني ﻫو التناسق على البعد القانوني للقطبين واللوحتين،
حيث نحن ملزمون بحسب مقام السّؤال والمبحث ،بتمييز مستويين :مستوى الخلقة أو المادة،
ومستوى القانون أو روحه الذي سوف لن يكون بالنسبة لإلنسان أو النيمة سوى العقل ،موقع
التلقي والتحليل ومصدر المواقف واألحكام والعمل والسّلوك .وبالطبع بالنسبة للنيطة ﻫو قانون
األرضي برمته.
المجال المادي والطبيعي المحتضن للوجود ْ
ﻫنا ال مرية نصل أو نوصل فلسفيا وعلميا بابن سينا وأرسطو ،وال بد من االحتراز أو التحرز
من الوقوع في الخلط المفاﻫيمي والبياني ،فالوصل ﻫنا ﻫو في التقريب بذي الجالل واإلكرام الذي
ليس كمثله شيء وﻫو السّميع البصير ،التقريب من خالل مفهوم العقل ،ال بالداللة المحتبسة
تصور ،تماما كما نبهنا على مثله في كونتصور المنطلق من اإلنسان ومن عقله محدود ال ّ
بال ّ
المنطق األخالقي والديني إن ﻫو إال امتداد صارم لمنطق المثلث والدائرة والكوارك والمجرات،
تحرر من ضبط حقيقة عالقة التض ّمن بين المنطق مما ال شك ينير الطريق للحدس العقلي ال ُم ّ
السّكوني والمنطق التغيّري والمنطق المطلق ،الذي يصلنا بالعقل الكلي وبالحق.
بل إن ﻫذا النسق النوراني ﻫو الذي مد ﻫسّرل من داخل وعمق جدليته للميتافيزقية الريبية
(المعرفية)َ ،م ّده بأساس قلب حجاجها عليها:
يسوغ ميتافيزيقي ريبي قناعته بالقول« :ليس ثمة من معرفة موضوعية» (أي من"حين ّ
290
مجرد معرفة
ّ معرفة لألشياء فيّاﻫا ) أو« :كل معرفة ﻫي ذاتية» (أي كل معرفة للوقائع ﻫي
291
ي – لوقائع الوعي) ،يعظم االستسالم إلى لبس التعبير ذاتي -موضوعي وإلى حشر معنى نو ّ
290ضمن تراكيب صاغها المترجم ضرورة؛ فيّاها :في إياها (في ذاتها) انظر المرجع ص8
291عقلي (جانب الذات المتعقلة) – انظر المرجع ص7
228
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ريبي تحت المعنى األّصلي المطابق لوجهة النظر المتبناة .وﻫكذا تتحول القضية« :كل معرفة
ﻫي ذاتية» إلى ﻫذا الزعم الجديد تماما« :كل معرفة ،من حيث ﻫي ظاﻫرة وعي ،تخضع لقوانين
الوعي البشري؛ وما نس ّميه صور المعرفة وقوانينها ليس سوى «صور وظيفية للوعي» أو
صور الوظيفية – وإذا ،ليس سوى قوانين سيكولوجية». سستام 292للقوانين المتحكمة بهذه ال ّ
والحال ،إنه كما تناضل الذاتية الميتافيزيقية (على ﻫذا النحو غير المبرر) لصالح ذاتية نظرية
المعرفة كذلك في المقابل ،يبدو أن ﻫذه األخيرة (حين تحسب بديهية ليّاﻫا) تشكل حجة قوية
لصالح األولى .ويستنتج من ذلك ما يأتي تقريبا« :تفتقر القوانين المنطقية ،من حيث ﻫي قوانين
وظائفنا المعرفية ،إلى «داللة واقعية»؛ وال يمكننا قط ،بأي حال من األحوال ،أن نعلم ،بأي
شكل ،ما إذا كانت تتناغم مع األشياء فيّاﻫا؛ وسيكون فرض «سستام قائم مسبقا» فرضا اعتباطيا
بالكامل .وإذا كانت مقابلة المعرفة المفردة مع موضوعها (لمالحظة تطابق الشيء والذﻫن)
مستبعدة سلفا بأفهوم الشيء فيّاه ،فاألمر سيكون على ﻫذا النحو أيضا باألحرى بالنسبة إلى مقارنة
انتظام قوانين وظائفنا الواعية مع كون األشياء الموضوعي ومع قوانينه .وبالنتيجة ،إن كان ثمة
أشياء فيّاﻫا ،فنحن ال يمكننا أن نعلم عنها شيئا قط».
ال تعنينا ﻫنا األسئلة الميتافيزيقية ،وقد ذكرناﻫا فقط لالحتراز بدءا من الخلط بين الريبية
293
الميتافيزيقية والريبية المنطقية النويّة".
إن الوصل بين الريبيتين ثابت وإن خفي لكمون اللبس الحاصل في اعتبار النظرية معرفة، ثم ّ
وإنما ﻫي نتاج معرفة أو تراكم معرفة ،ممثل ومنطبق بتقرير كيان حقائقي بُ ْع ٍد ثالث وتال لبعدي
تصور والتصديق ،أي ال بد من تقسيم المعرفة قسمين ،واعتبار النظرية معرفة منهاجية قانونية؛ ال ّ
فالنظرية قائمة بالحق؛ وذلك وصلها العظيم.
229
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صة
دعنا ّأوال نوضح ﻫذه النقطة بالذات وﻫذا الموقع التفلسفي الجدير بأن يرتقى إليه ،وﻫو من ّ
المعراج إلى التأصيل الوجودي الحق؛ فنسوق من أجله ﻫذا الكالم وﻫذا المنطوق الواضح المبسّط
لهسّرل ،بحيث ال أمكن أن يختلف اثنان في قراءته وال أن يتخلف أحد عن فهمه:
إن إبرازي لبدني المحول إلى «ما يخصني» ،إنما ﻫو أصال إبرازي للظاﻫرة الموضوعية
294
إبرازا جزئيًّا؛ إنها إبراز لي «بما أنا ﻫذا اإلنسان» في جوﻫر ما يخصني".
أليس ﻫذا من تحقق اإلبصار ما باألنفسَ ﴿ :وفِي أ ْنف ِسك ْم' أفال ت ْب ِ
ص ُرونَ '﴾(الذاريات)12؟
تقرر عندنا من بعد النظر الممحص والتدبر من مباينة النفس ذلك أنه عالوة على ما ّ
سية واإلدراكية ،فإن ﻫذا ال يعدو الحق المنزل
وانفصالها الجوﻫري عن البدن وعن آلياتها الحوا ّ
230
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صارا َوأفئِ َدة' ف َما أغنى س ْمعا َوأ ْب َ قرآنا عربيا مجيداَ ﴿ :ولق ْد َمكناﻫُ ْم فِي َما ْ
إن َمكناك ْم فِي ِه َو َجعَلنا ل ُه ْم َ
ت هللاِ' َو َحاقَ ب ِه ْم َما كانواش ْيءٍ إذ كانوا يَ ْج َح ُدونَ بآيَا ِ ارﻫُ ْم َوال أفئِ ُدت ُه ْم ِم ْن َ
ص ُس ْمعُ ُه ْم َوال أ ْب َ
عن ُه ْم َ
َ
ب ِه يَ ْست ْه ِز ُءونَ '﴾(األحقاف)15
العقل الكلي
قانون
العقل
الطبيعة
النيطة النيمة
شكل 5التمكين
فإن التناسق الضمني بين النيمة والنيطة ال يمكن أن يصدر إال من العقل الكلي ،وﻫذا ﻫو ّ
مطابق التمكين الوارد في اآلية الكريمة وﻫو المستنطق عنه عند ﻫسّرل في تعابيره عن تملكه
سه وجوارحه وإمكان تملكه واستطاعته وقدرته إلخ ...وبمالءمة لشروط مجاله لبدنه وحوا ّ
وتجربته ،وبفضل ما أوتيه من السمع واألبصار والعقل خلقا أولياَ ﴿ :ولق ْد َمكناﻫُ ْم﴾.
"كان «ديكارت» قد شك بوجود العالم الخارجي وما فيه ،ولكنه وجد أنه ال يستطيع أن يشك
بوجوده ﻫو ذاتهَ ،وفقا لقاعدة البداﻫة التي اتخذﻫا معيارا له في تفكيره ،ووضع على ضوئها مبدأه
المشهور «إنني أفكر فأنا إذن موجود»؛ واتخذ من ﻫذه المبدإ نقطة انطالقه في بناء فلسفته.
ﻫنا يتوقف «ﻫسّرل» ويتساءل :ﻫل بإمكاننا حقا أن نشك بوجود العالم الخارجي؟ أليس
شعورنا بوجوده دليال على ﻫذا الوجود؟ ولذلك مال إلى االعتقاد بأن إدراكنا للعالم وليد عوامل
كثيرة ،طرأت على الشعور؛ فتكونت حول نواته طبقات شبيهة بالطبقات التي تكونت حول نواة
األرض وجعلته على النحو الذي ﻫوعليه .وواجب المفكر أن ينصرف إلى دراسة ﻫذه الطبقات، ْ
ويحفر فيها تماما كما يفعل العالم الجيولوجي ،حتى يصل إلى الشعور البديء ،ويدرس بنيته
األساسية .وما دام األمر على ﻫذا النحو ،فال بد له من أن «يُعلق» وجود العالم الخارجي مؤقتا،
بل كما يقول ﻫسّرل أن يحصره بين ﻫاللين ،لينصرف إلى دراسة الشعور في بادئ األمر،
295
وبعدئذ يعود إلى دراسة الشعور بما يشعر به ،أي عالقته بالعالم".
صة
النص كونها خلوص قراءة المترجم لهسّرل نفسه ،ناﻫيك عن الخا ّ
ّ بالطبع قيمة ﻫذا
التكرارية والترددية الداللية أو المعلوماتية في كتابة ﻫسّرل على األقل في "مباحث منطقية"
و"تأ ّمالت ديكارتية".
لكن ﻫذا المنحى الصعُ ِد ي ﻫو سبيل الهدى البرﻫاني ،وكانت حدوس ديكارت وكانط وﻫسّرل،
بل وكل الحدوس التفلسفية القريبة إلى السّداد موجّهة صوبه وترنو وجهته إلى أفقه وسنا ألقه.
ّ
إن ما توصلنا إليه من وحدة العقل والمجال العقلي الوجودي ،إنه قد أفادنا عظيما ،وﻫو الذي
أعطانا تعريف العقل :العقل شعلة من العقل الكلي .لكن ﻫذا التعريف مبناه على مسلمة العقل
الكلي من خالل تقرير معطى التناسق أو النظماتية المطلقة بنيويا وقانونيا.
كرر لديكارت جوﻫريا وإن اختلفا في البيان شيئا قليال ،كالﻫما لم إنه ال ديكارت وال ﻫسّرل ال ُم ِ ّ
يعط برﻫان وجود الحق .ولو أنعمنا النظر ألدركنا أنه ال سبيل لهذا البرﻫان وبالمعيار والنهج
الفلسفي تحديدا إال بما ﻫو على درجة أعلى ما توسّله ديكارت من وسائط النظر ممثال في
المثلث ،296وفي ذلك وفي نفس اآلن سنجد َح ًّدا للمتاﻫة التي استطال حديث ﻫسّرل بداخلها ،متاﻫة
232
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المنطق وعدم انضباط مفهومه وتداخله مع حيّزات أخر ،حيز النفس وغيره .وفي استجالء مبدإ
سا بين العقل البشري وحقله الطبيعي التناقض المنطقي على ما اعتبر تقاطعا أو تما ّ
الموضوعاتي ،فيه ال مرية االختزال لكل ﻫذا ،ألن ﻫذا المبدأ ،ما ﻫو إال تابع مباشر لمبدإ
الرياضيات البشريين ،وأن ﻫذا المبدأ ليس من عندية األنا وال االختالف ،اللبنة األولى للمنطق و ّ
الرياضيات" ولكنه ذو أصل خلقاتي على اإلنسان كما ذﻫب إليه برتراند راسل صاحب "أصول ّ
متوافق الخلقة البشرية ،مما بيناه وبرﻫنا عليه في كتابنا "األصول الحقة للرياضيات إلى المدخل
الرياضيات ونقد الدليل الوجودي" .كذلك وجب االنتباه في قراءة اآلية السابقة من سورة إلى ّ
صارا َوأفئِ َدة'﴾ بالتنكير س ْمعا َوأ ْب َاألح قاف في معنى التمكين ،االنتباه بشأن التركيبَ ﴿ :و َجعَلنا ل ُه ْم َ
المفيد لتعدد النظمات ﻫاته ،تعدد صيغ السمع واألبصار واألفئدة ،فكان باإلمكان سمع آخر
ارﻫُ ْم َوال أفئِ ُدت ُه ْم﴾ أي التي
ص ُ س ْمعُ ُه ْم َوال أ ْب َ وأبصار وأفئدة ،ومنه تأتي اإلضافة ﴿ :ف َما أ ْغنى َ
عن ُه ْم َ
أوتوﻫا وأعطوﻫا.
لكن لعل ﻫهنا مستوى تراكبيًّا للوجود اإلنساني من العجب أن يهمل وأال يلتفت إليه ،ونراه
أقوى من كل المستويات التي للذاتيات البينية التي أتت في ﻫذا البيان ،نعني الذاتيات المادية
والحيوانية والعقولية البشرية ،والتي ما جيء بها إال لت قرير برﻫان الوجود وبرﻫان الموضوعية؛
خاص وقريب قد توسّال المباين القريب الممثل في البدن ّ فإذا كان ﻫسّرل كما ديكارت بنحو
حواس في ﻫذا البرﻫان ،أليست ملكات العقل والمخيلة والذاكرة والتي نراﻫا متض ّمنة في داللة ّ وال
"األفئدة" من بيان الكتاب ،أليست تُملك اإلنسان والفيلسوف على وجه مخصوص شيئا كما تملكه
حواس مدركات من ﻫذا العالم والوجود؟ ّ وتعطيه ال
إنه كما للمس والبصر والسمع أبعاد إدراكية كذلك للعقل والمخيلة والذاكرة كونها "أفئدة" تمتد
صة من اآلن إلى الماضي ،تمتد بمدركات اإلنسان من خالل بُعد التعليل أو السّببية وبُعد الزمن خا ّ
صعود التفلسفي بالذاتيات به إلى حقيقة عظيمة ،ﻫي حقيقة "الرحم" ،التي ال ريب تعلو قيمة ال ّ
البينية العقولية .وبها ومع حقيقة التناسق الخلقي ،نجد أنفسنا أمام قوله تعالى﴿ :أف َم ْن َي ْخلقُ ك َم ْن ال
ش ْيءٍ أ ْم ﻫُ ْم ال َخا ِلقونَ ' أ ْم تذكرونَ '﴾(النحل )27وقوله عز وجل﴿ :أ ْم ُخ ِلقوا ِم ْن َ
غ ْي ٍر َ ُ َيخل ُق' أفال
األرض' بَ ْل ال يُوقِنٌونَ '﴾(الطور)34-33
اوات َو َْخلقوا الس َم َ
وجود هللا تعالى' ' -8ديكارت ضل طريق البرهان الحق' من كتابنا "األصول الحقة للرياضيات ونقد الدليل
الوجودي" ص250-227-225
233
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ألسنا ﻫنا بصدد أخطر سؤال يهم اإلنسان ،ليعلم ما جوابه ويتبيّنه ويكون على بينة من أمره،
أحق ﻫو لزم أخذه بجد ألنه يهم المصير الوجودي األبدي أم خرافة يتحتم الحسم بشأنها كما ﻫو
شأن األساطير؟
صدق والبرﻫان في قصدية ﻫسّرل وتأ ّمالت ديكارت ﻫو من قبسات النور الحقأليس نور ال ّ
المطلق المجيد الذي نتلوه في صدر سورة النحل:
ف ٌء َو َمنافِ ُع َومِ ْن َها ام َخلق َها' لك ْم فِي َها ِد ْ صي ٌم ُمبي ٌن' َواألنعَ َ سا ُن ِم ْن نُطف ٍة فإذا ﻫُ َو َخ ِ ﴿ ُخ ِلقَ اإلن َ
تري ُحونَ َوحِ ينَ ت ْس َر ُحونَ ' َوت ْح ِم ُل أثقالك ْم إلى بَل ٍد ل ْم تكونوا َبا ِل ِغي ِه إال تأكلونَ ' َولك ْم فِي َها َج َما ٌل حِ ينَ ِ
تركبُو َﻫا َو ِزينَة' َويَ ْخلقُ َما ال ْ
ير ل ْ وف َرحِ ي ٌم' َوال َخ ْي َل َوالبغَا َل َوال َح ِم َ لر ُؤ ٌ األنفس' إن هللاَ بك ْم َ ِ ب ِش ّ ِ
ق
شا َء ل َه َداك ْم أ ْج َم ِعينَ ' ﻫُ َو ال ِذي أنزَ لَ مِ نَ السّماء ْ
ص ُد السبي ِل َو ِمن َها َجا ِئ ٌر' َو ْلو َ على هللاِ ق ْ ت ْعل ُمونَ ' َو َ
اب َومِ نْ ع َوالز ْيتونَ َوالنخِ ي َل َواأل ْعنَ َ ُ
ش َج ٌر فِي ِه ت ِسي ُمونَ ' يُنبتُ لك ْم بهْ الز ْر َ ْ
ش َرابٌ َو ِمنهُ َ َماء لك ْم ِم ْنهُ َ
وم
س َوالق َم َر َوالن ُج َ ار َوالش ْم َ سخ َر لك ْم الل ْي َل َوالن َه َ تفكرونَ ' َو َ قو ٍم يَ ُ ت' إن ِفي ذ ِلكَ آليَة ِل ْ ك ِّل الث َم َرا ِ
ألوانهُ' إن فِي ُ ْ
األرض ُمخت ِلفا َ ذرأ لك ْم فِي ْ قو ٍم يَ ْع ِقلونَ ' َو َما َت ِل ْ ت بأ ْم ِر ِه' إن ِفي ذ ِلكَ آل َيا ٍ سخ َرا ٍ ُم َ
ْ
طريًّا َوت ْستخر ُجوا مِ نهُ حِ ليَة ْ
سخ َر البَحْ َر ِلتأكلوا ِمنهُ ل ْحما ِ ُ
كرونَ ' َوﻫ َو ال ِذي َ قو ٍم يَذ ُذ ِلكَ آليَة ِل ْ
ي
األرض َر َوا ِس َ تشكرونَ ' َوألقى فِي ْ ُ ض ِل ِه َولعَلك ْم ْ ُ
ترى الفلكَ َم َواخِ َر فِي ِه َولت ْبتغوا ِمن ف ْ ُ تلبَسُونَ َها' َو َ
خلقُ
ك َمن ال يَ ' ْ خلقُ ْ ُ
ت' َوبالن ْج ِم ﻫ ْم يَ ْهت ُدونَ ' أف َمن يَ عال َما ٍ أن ت ِمي َد بك ْم َوأن َهارا َوسُبُال لعَلك ْم ت ْهت ُدونَ َو َ ْ
ور َرحِ ي ٌم' َوهللاُ يَ ْعل ُم َما ت ُ ِسرونَ َو َما صو َﻫا' إن هللاَ لغَفُ ٌ إن تعُدوا نِ ْع َمة هللاِ ال ت ْح ُ كرونَ ' َو ْ أفال تذ ُ
اتٌ
ش ْيئا َوﻫ ْم يُخلقونَ ' أ ْم َو غ ْي ُر أ ْح َياءٍ ' َو َما يَشعُ ُرونَ ْ
ت ُ ْع ِلنُونَ ' َوال ِذينَ تدعُونَ ِمن ُدونِ ِه ال يَخ ِلقونَ َ
ْ ْ
تكبرونَ ' ال َج َر َم أنهُ باآلخ َر ِة قلوبُ ُه ْم ُمن ِك َرة َوﻫُ ْم ُم ْس ُ ِ أيّانَ ُيب َعثونَ ' إل ُهك ْم إلهٌ َواحِ ٌد' فال ِذينَ ال يُؤْ ِمنونَ
َي ْعل ُم َما يُ ِسرونَ َو َما يُ ْع ِلنونَ ' إنهُ ال يُحِ ب ال ُم ْستكبرينَ '﴾(النحل)13..4
مرة أنزل على قوم لم يكن لهم شيء من ﻫذا الذي نناقش فيه من ﻫذا الخطاب حينما أنزل ّأول ّ
ﻫذا التفلسف الذي بقدر ما يظن في نفسه من التفلسف بقدر ما ﻫو ينأى عن الحقيقة .إنما الذي
ص وا به وربك يخلق ما يشاء ويختار ،ﻫو سجيتهم الفطرية في التفكير والوجود التي لم يكن اخت ّ
ينقصها إال الهادي إلى علم الحق .إننا ﻫنا في حالة خطاب مجيد ورحمة إلى العالمين ،خطاب من
صها التلقي والفهم واالستبانة في عموم الخطاب؛ لدن حكيم خبير ،خطاب مستوف شروطه ،وأخ ّ
أي في حالة ما ورد عند ﻫسّرل" :إنه يقصي مبدئيا تلك األسئلة التي تعتبر ﻫي األسئلة الملحة
تحوالت مصيرية :األسئلة المتعلقة بمعنى ﻫذا
بالنسبة لإلنسان المعرض في أزمنتنا المشؤومة ل ّ
234
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الوجود البشري بأكمله أو ال معناه .أال تتطلب ﻫذه األسئلة ،بسبب عموميتها وضرورتها لكل
الناس ،تمعنات عامة وإجابة تعتمد على بداﻫة عقلية؟" 297وأحيل ﻫنا إلى الثابت من العلم
صحيح من الخبر:
وال ّ
"عن عمران بن حصين قال :إني كنت عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذ جاءه قوم من
بني تميم فقال >:اقبلوا البشرى يا بني تميم ،قالوا :بشرتنا فأعطنا؛ فدخل ناس من أهل اليمن فقال :
اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم ،قالوا :قبلنا ،جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن
أول هذا األمر ما كان؟ قال :كان هللا ولم يكن شيء قبله ،وكان عرشه على الماء ،ثم خلق
األرض ،وكتب في الذكر كل شيء <ثم أتاني رجل فقال :يا عمران أدرك ناقتك فقد اوات و ْس َم َ
ال َّ
ذهبت ،فانطلقت أطلبها ،وأيم هللا لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم "
298
فكل مقول ديكارت وﻫسّرل ضمن خطاب القرآن الحكيم ،وﻫو في عموم الخطاب وحقل مجيد،
مبين في بيانه ،مبين للعموم ،فهو إذن بهذا المعنى بداﻫي في البرﻫان .ومنه فبرﻫان ديكارت
وﻫسّرل معا أو قل تفلسفها في القضية الوجودية والتأ ّمالت تخصيصا ال يعدو البداﻫة.
شرط المباالة يصبح سلوك اإلنسان منطبقا بالحق ،ويكون أمر [في ﻫذه الحدود القصوى من ْ
المثلث وشأنه أنه في كامل الوصل بقول الحق سبحانه في القرآن الحكيم﴿ :وهللا خلقكم وما
تعملون'﴾(الصافات ) 16مع كونه عمال على الحق .فاإلنسان أو ديكارت ﻫنا لم يصنع قانون
المثلث ولكنه اخترع المثلث وصنعه ،وليس اعتباره للضلع األول إال كاعتباره للعنصر أو
الرياضيات إنشاء بالحق .وليس يبقى من إضافة بخصوص مفهوم الفن الوحدة .ومنه كانت ّ
واإلبداع تحققا إلرادة اإلنسان وتواجده سوى أمر ال ينقص خطرا ﻫو أمر الحكمة العمليّة والنفع
ي والغاية.
الوجود ّ
لكن أعظم غاية وﻫي الغاية التي انبرى لها ديكارت جاعال إياﻫا أسمى الغايات ال يكون
إثباتها بما قصر عليه بوجود فكرة هللا سبحانه داخل النفس؛ فهذا ليس يلزم منه سوى أن ﻫذه
235
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفكرة ﻫي من خلقها ،أي خلق النفس .ولكن اإلثبات يحصل بوجود الحق الذي به يتم االعتبار،
للجوهر باالنحفاظ التام( ،اإلدراك) واإلنشاء (اإلرادة) والوصل بينهما (البناء)؛ والحق
ْ كاعتبار
هو هللا سبحانه وتعالى؛ وإذن فاهلل جل جالله موجود].
إن تعليل العلمان عند هسّرل يقف عند ما س ّماه بالتعالقات النظماتية (السستامية للمترجم)،
لكن هذه التعالقات هي بمعايير وقواعد منطقية عقلية لم يبرهن على قيّوميتها الوجودية كما
ذهب وسعى ديكارت للبرهنة على وجود الذات.
ههنا ليس من طريق إال قاعدة السّؤال الخطير :ما هو العقل (عقل اإلنسان)؟ أو ما هو
التعريف المنطقي للعقل؟
الفارابي يعرج بالفلسفة إلى أعلى ما يستطيعه البشر من غير األنبياء عليهم السالم ،وكانط
يجعل هذه العالقة العقولية بين العقلين حجة مبصرة على المسؤولية األخالقية والوجودية
لإلنسان .ونحن هنا في وصل موصول بقول هسّرل العظيم:
صورة السستامية تظهر لنا بوصفها التجسد األنقى ألمثول العلمان «وال يعني كون أن ال ّ
مجرد ميل استطيقي في طبيعتنا قد تبدَّى نوعا ما.
ّ وأننا ننزع إليها عمليا ،ال يعني ذلك أن
فالعلم ال يريد ،وليس به حاجة إلى أن يكون حقل لعب معماري .والسستامية التي تخص
صحيح والحقيقي بالطبع ،ليس نحن من نخترعها ،بل هي كامنة في المطالب العلم ،والعلم ال ّ
حيث نعثر عليها ببساطة ونكتشفها ،فقد يكون العلم وسيلة علماننا الفتتاح مملكة الحقيقة في
أوسع مصداق ممكن لها؛ إال أن مملكة الحقيقة ليست خواء غير منسق بل تسود فيها
وحدة 299التشريع .ولذا ،على البحث عن الحقائق وعرضها أن يجريا سستاميا أيضا ً.
وعليهما أن يعكسا تعالقهما السستامي وأن يستخدماه كسلم متدرج للتقدم كي يُمكننا انطالقا
300
من العلمان المعطى أو المكتسب سابقا الدخول إلى مناطق أعلى أبدا ً في مملكة الحقيقة».
إن عالقة العقلين كما النقطة بمجالها كالشحنة الكهربية بالمجال الكهربي هو الذي يعطي
الشرط الوجودي الشعوري والنفسي (السّيكولوجي) بالميل والنزوع إلى االنتظام ،وحتى إلى
الجمال – لو تُأ ّمِل مليا -والتي لن تبلغ بلورتها كونها ملكة عقال إال مع التأسيس لقواعد
236
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
التقويم واألحكام ،أي علم المنطق ،بنظمة عقولية متواطئة تجريبيًا ونظريًا ،هي سلطان ما
صورة (صورة حدده هسّرل "قانونا قبليًّا يكون بموجبه كل تعليل مزعوم يصدر طبقا ً لهذه ال ّ
القياس) هو حقا تعليل صحيح أيضا ً ،شرط أن ينطلق من مقدمات صحيحة" بالطبع هنا
301
صورة بالضبط هي ظل وآية قيّومية الحق .وهي البرهان المنطقي والوجودي فهذه ال ّ
المصحح أي المثبت لتعريف الفارابي للعقل.
ليس أغرب من كون قاطرة الغرب كما بيناه في كتابنا "جمال الدين األفغاني والتحليل
التاريخي أو المسلمون والتاريخ" ،ليس أدعى للعجب من كون مفتاح التقدم الغربي
الرياضية اآللة
األرض من هذه الحقيقة االنتظامية ،ومنه كانت المعيارية ّوتسخيره للمادة و ْ
الرغم أو
السحرية العجيبة .وأن من يبصر بها أولى بتحقيق قيّومية الحق القانونية ،لكن ب ّ
جراء الصدام مع الكنيسة أمسى يأمر بنقيضها ،بل جعل ذلك على العكس من ذلك فالغرب َّ
هي عقيدته الوجودية وروح نظامه الخطابي .إن الوحدة القانونية للعلم مستنبطها المنطقي
السوي يقول هسّرل – غفر هللا له!" :-لصورة الوحدة هذه نفسها داللة غائية رئيسة للوصول
إلى الهدف األسمى للمعرفة الذي يصبو إليه كل علم :جعلنا نتقدم قدر اإلمكان في البحث عن
الحقيقة – أعني ال في البحث عن الحقائق المفردة بل عن مملكة الحقيقة أو المناطق الطبيعية
303
التي تتفصل فيها".
301ن م – ص11
302
Modus ponens
303ن م – ص12-16
237
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
238
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الرابع
والتكليف والجزاء
ي وواضح ،أي وضع أرقت اإلنسان ،وال أعلم أنها قد طرحت بشكل جل ّ من بين األسئلة التي ّ
سؤال يراد أن يعطى بشأنه جوابًا مثل ما يعطي العلماء لألسئلة أجوبة تنير للناس ما استبهم
عليهم وتحل لألفهام ما أشكل فهمه ،هو السّؤال األعلى في المنطق وفي العقل :كيف يحاسب هللا
تعالى العبد وهو يعلم حياته حتى أفكاره وما تسره نفسه من قبل أن يولد ويرى النور في هذا
الحياة؟ !
كنت قد فكرت في هذا السّؤال ،وكان الذي ال شك فيه هو خطأ وضالل وقصور عقل من زعم
قول ابنَ سينا هذا المنكر من القول ،ومن ظن وقال وشر منه من َّ
ٌّ أن هللا تعالى ال يعلم الجزئيات،
أمورا قبل وقوعها .ولكن بالجالء الذي حصل لي هذين اليومين
ً بأن هللا تعالى ال يعلم
مقررةاألخيرين ، 304لم يكن لي من قبل؛ والمشكل كله ،هو الجمع بين قيّومية الحق ،وهذه ّ
باألدعية المسنونة التي فيها الحق سبحانه في كل آن من هذا الوجود ،في هذه الدنياَ ﴿ :وهُ َو َمعَك ْم
عا ِني'﴾
أجيب َد ْع َوة ال َّدا ِعي إذا َد َ
ُ عني فإني قريبٌ أ ْين َما كنت ْم'﴾ (الحديد )4و﴿ َوإذا َ
سألكَ ِعبَا ِدي َ
(البقرة )381وأن المؤمن مأمور باتباع الشريعة واجتناب المعاصي؛ وكل ذلك مقدر عليه ومعلوم
هلل سبحانه .ف ِل َم يُحذر هللاُ تعالى عبا َده ويأمرهم وهو يعل ُم سبحانه َما هم فاعلونَ وما هم عاملونَ ؟!
قلت إنني قد طرحت هذا السّؤال وكثيرا ً ما يبغتني ويفاجئني وأجدني أفكر فيه .وال ريب أنه إذا
لسف إدمون
أريد أمر تهيأت له أسبابه .ففي هذا الوقت الذي ه ّمني فيه أو ه ّمتني فيه فلسفة وتف ُ
صا بينه وبين إيمانويل كانط ،الحاضر فيه ضمنيا ً ه ّ
سرليا هسّرل ،وهذا الخط الواصل خصو ً
روني ديكارت ،اتفق أني في مراجعة بعض ما قرأت من بعض المجالت العلمية ،وفي قراءة
مستجدة مزامنة ل"خطاب المنهج" لديكارت ،أثار انتباهي أو باألصح تذكرت حقيقة المعيارية
239
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الرياضية لفلسفة الطبيعة" التي توصل إليها إسحاق نيوتن والتيالرياضية الكونية ب"الصّياغة ّّ
صل إلى تج ِّل وسريان باهر
بلغت مستوى غير مسبوق من حيث المدى ال من حيث المبدإ ،بالتو ّ
للفيزياء النظرية ،بإمكان تحديد أوضاع النظمات الفيزيائية في مسارها وزمنيتها .ومن جهة
ثانية ،اتفاقا ً وفي القراءة المتزامنة ل"خطاب المنهج" أو "حديث الطريقة" مع بيان وتقرير
تصور أو وضع هباء ابتداء في الكون ومع هذا القوانينّ ديكارت وبوثوق علمي محقق ،أن لو
الكونية ،ما كان الكون والخلق إال أن يكون على هذا الذي هو عليه اآلن: .
305
« ...وبحيث لو افترضنا إنه لم يهبه في البداية إال صورة الهباء المنثور ،وأنه بعد أن وضع
قوانين الطبيعة اكتفى بمدها بعون منه كي تعمل كما هو معهود ،ألمكننا االعتقاد ،دون المس
مر الزمان ،أنبمعجزة الخلق ،أن كل األشياء التي هي مادية بحتة قد تستطيع بذلك وحده ،ومع ّ
تصور ،عندما نراها تتولد شيئا فشيئا
تصبح فيه كما نراها اآلن .وإن طبيعتها أليسر بكثير على ال ّ
306
صنع».
على هذا النحو ،منها عندما ال ننظر إليها وهي تامة ال ّ
وفي لحظة واحدة ،وكما يتفجر الشعر مفرجا ً عن دواخل النفس مأزومة بسؤال العقل؛ كتبت
علي عقلي ونفسي
َّ تحرر وأخرج من شدة وضغط حقل هذا السّؤال ،الذي ملك هذه األسطر حتى أ ّ
في هذه الفترة وهذه األيام بالذات ،والذي ما أرى أشد منه أو أكثر ترددا على النفس ،في فضاء
وواقع وجودي وتواجدي أقرب إلى المفارقة في وجوب التحمل وأشد مما غاظ نيتشه حتى أودى
الحي القيّوم ُح ْسنَ الخاتمة؛ فبعد أن مضى كسء من الليل أنهض من مضجعي ألكتب
َّ به ،وأسأل
وأسطر في صفحات الدفتر:
240
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تصورنا الكون مجاال قانونه الحق ،فمثل البشرية وكل إنسان فيها ،كمثل نقطة أو مجموعة
ّ "إذا
نقاط ،تالحظ هذا الكون والوجود من خالل زمنيتها ،وتالحظ القوانين المتحكمة في المجال،
الرياضي ،معلوم وضعه ووضع كل نقطة فيه زمنيا .والكون والوجود إنما هو كالمجال ّ
ومسارها.
وما الرسل عليهم السالم ،وما الكتب المنزلة ،إال هذه القوانين .وما البشر وكل إنسان إال هذه
النقاط.
تصور هذه
تدرجيًّا في الزمن ،أو دائرة ،أو إهلليج ،أو مجال فيزيائي ما ! ولن ّ
تصور مثلثا ينشأ ّ
لن ّ
النقاط والحيّزات لهذه الحقول ،ذواتا ً وأنفسا ً لها عقول .فهي سوف تتعامل مع القوانين بإدراك
نسبي؛ هي ليست من المطلق ،وإنما هي مالحظ من الداخل .وكذلك اإلنسان والبشرية؛ فالرسل
عليهم السالم هم القوانين ،والبشر أنفسهم ما هي إال بَ َلورات ألحوال – أعمال. -
ّب كيف
المجال وقانونه ونقاطه كلها معلومة كلية .والمالحظ من داخل وهو مخلوق ،يتعج ُ
سبًا على شيء معلوم من قبل.يكون ُم َحا َ
لكن الرسل والنبوات إنما هي إعالم داخل المجال بالقانون وبإدراك ومالحظة داخلية وزمنية
بالخصوص .أما المثلث والدائرة واإلهلليج ،فهو تا ّم معلومة نقاطه وقضي األمر بشأنه.
القوانين هم الرسل.
241
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الخطاب الداخلي [الذي يتلقاه اإلنسان في الدنيا ] 307هو ضمن الحق في الداخل.
الرسالة
الحق مفصال في
الحدوث
فاألمر الديني هو من البناء الداخلي للحق .والحق كامل؛ ففيه العلم بذاته؛ فاهلل -سبحانه
وتعالى! -يعلم كل شيء هو كائن في حقل الوجود ،وهو سبحانه وتعالى اآلمر.
الزمن ال يوجد في الحق ،هو داخل الحق .والزمن ي ّمحي في العالقة المنطقية التكافئية التي
هي دوما ً حاصلة محققة مع العلم المطلق ،مع علم هللا -سبحانه وتعالى!-
صال في الحدوث
307الحق مف ّ
242
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والتكوين والنشأة إنما ذلك عالقة في منحى واحد ،من الصغر إلى الكبر ،أو من القليل إلى
الكثير ،بحسب المخلوق وبحسب الجزئي .أما عند هللا – سبحانه وتعالى ! – فليس إال التكافؤ ،ألن
العلم مطلق .وعلى هذا المنحى تنبني حقيقة الزمن ،ومنه فال زمن في الحق المطلق؛ فليس في
الحق سوى التكافؤ المنطقي والقانوني.
-1النقص في العلم
-2العقل
243
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إن في كل نقطة من هذا الوجود حقل لهذا التنزل كما هو التنزل بالحق في الدائرة إلى حين
رسمها كائنا هندسيا؛ فتنزل األمر كذلك سواء في الذرة أو في األنظمة النجومية .فكما أن العقل
أيسر له أن يفقه التكافؤ الوجودي بين الطاقة الكمونية والطاقة الحركية وبين الكتلة والطاقة،
فكذلك التجلي للخلق واألمر بين القوانيني والمادي؛ وكالهما تفصيل للحق وبالحق .ففي كل نقطة
األرضين كما في الوجود كله؛ كل نقطة من المجال اوات و ْ س َم َ
من الوجود تنزل األمر بين ال َّ
الوجودي مجال وجودي على نسق أن كل قطعة من حق ٍل مغناطيسي حق ٌل مغناطيسي.
فتدبر الكلم والمعاني ،فالتحديد هنا والثبوتية الجوهرية محددة أيّما تحديد بكال اللفظين 'مقام'
و'معلوم' ،ثم اإلخبار التوكيدي اإلنكاري ،الذي ليس يأتي وبحسب هذا السّياق إال تبيانا ً وإعالما ً
لخطر المعلومة والشأن المعرفي لما يفيده الخبر .وكم هو عظيم وأحق بأولي النظر واأللباب أن
يتخرصوا على الفارابي وابن سينا ،أن يفقهوا كون الخلق واألمر كله أحوال تركيبية، ّ يفقهوا فال
فتبارك هللا أحسن الخالقين .فكما هو طرف البيان الكريم المبارك لآلية إفادته أن حقيقة وجوهر
الذي يصف الصفوف ويسبح هم الجوهر الوجودي والكوني للمالئكة .فقد كان هللا تعالى ولم يكن
معه شيء ،وخلق سبحانه وتعالى كل شيء من ال شيء ،هذا ما يتلى آيات بينات في قوله عز
ض َجا ِع ِل ال َمالئِك ِة ُرسُال أو ِلي أجْ نِ َح ٍة َمثنى َوثالثَ َو ُر َبا َ
ع' األر ِ
ت َو ْاوا ِ وجل﴿:ال َح ْم ُد هللِ فاطِ ِر ال َّ
س َم َ
ير'﴾(فاطر)4 على ك ِّل َ
ش ْيءٍ ق ِد ٌ هللا َ
إن َ شا ُء' َّق َما َي َ َي ِزي ُد فِي ال َخل ِ
244
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المكون البرهاني األقوى الذي اعتمدناه في كتابنا 'تفصيل الخلق واألمر' ّ ولهذا بالذات كان
صورة التكوينية للكون كله من نقطة البدء للخلق المادي من خالل نموذج هو تأصيل وإعادة ال ّ
االنفجار الكبير من خالل ارتكازه على التغيّر الكثافاتي للفضاء كمبدإ لالنجذاب التكتلي .يقول هللا
ض كانتا َرتقا ً ففتقناهُ َما' َو َجعَلنا ِمنَ ال َماءِ كلَّ األر َت َو ْ اوا ِ
س َم َ كفروا َّ
أن ال َّ تعالىَ ﴿:أو ل ْم َي َر ال ِذينَ ُ
أن ت ِمي َد ب ِه ْم' َو َجعَلنا ِفي َها ِف َجاجا ً سُبُال لعَل ُه ْم
ي ْ ض َر َوا ِس َ ي ٍ' أفال يُؤْ ِمنونَ ' َو َجعَلنا فِي ْ
األر ِ ش ْيءٍ َح ّ َ
ضونَ ' َوهُ َو ال ِذي َخلقَ الل ْيلَ َوالن َه َ
ار ع ْن آيَاتِ َها ُم ْع ِر ُ ً
سقفا َم ْحفوظا' َوهُ ْم َ ً س َما َء َ
يَ ْهت ُدونَ ' َو َجعَلنا ال َّ
س َوالق َم َر' ك ٌّل فِي فلكٍ يَ ْسبَ ُحونَ '﴾(األنبياء )00..03ويقول سبحانه وهو الخالق َوال َّ
ش ْم َ
تشكرونَ '﴾(السجدة)8 ُ ار َواألفئِ َدة ق ِليال َما ص َ
س ْم َع َواأل ْب َ
العليمَ ﴿:و َجعَ َل لك ْم ال َّ
فإفادة العنصر البياني ل'جعل' الكون بخلق أحوال تركيبية لهذا الكون؛ فالسمع والبصر كمثل
بسيط وواضح كما الليل والنهار ،ليسا إال حاالت تركيبية لعالقات تفاعلية ووجودية ألشياء
وعناصر خلقية أخرى ،وهكذا حتى نصل إلى كنه قوله تعالى﴿:إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له
اوات وما في س َم َ
كن فيكون'﴾(يس )88وقوله عز وجل خالق كل شيء﴿:وسخر لكم ما في ال َّ
309
األرض جميعا ً منه' إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون'﴾(الجاثية')48
ْ
هذا التنزل للخلق واألمر هو الذي يجب أن نصل إلى استيعابه وضبطه حق االستيعاب
صعود لمماثلة ومقابلة المركوب والملبوس
والضبط .وإن هذا في الحقيقة ال يتم إال باالتساع وال ّ
والمأكول ،والمشروب والمرئي والمسموع ،واإلحساس والشعور ،على كونها كلها أشياء خلقية،
وكلها مخلوقة رزقا ومتاعا وأحواال من تنزل وتسخير متسلسل .فالخبز عطاء ،والعلم عطاء
ورزق يتفاوت فيه النَّاس كما يتفاوتون في المال ،وكذلك حسن الخلق ،والسرور عطاء .والحزن
كما الفقر حال شيء متنزل مخلوق.
245
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
اوات بغير عمد' ترونها' ثم استوى على العرش' وسخر الشمس والقمر' س َم َ
﴿هللا الذي رفع ال َّ
األمر' يُفصل اآليات لعلكم بلقاء ربكم توقنون' وهو الذي َم َّد
َ كل يجري ألجل مسمى' يُ َدبِّ ُر
األرض وجعل فيها رواسي وأنهارا' ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين' يُغشي الليل ْ
األرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون' وفي ْ النهار' َّ
ُ
ونخيل صنوان وغير صنوان تُسقى بماء واحد' ونفضل بعضها على بعض في األكل' إ َّن في ذلك
آليات لقوم يعقلون'﴾(الرعد)5..2
فالخلق هو تنزل متسلسل ألمر هللا تعالى ،ولهذا جاء قوله تعالى في االية األولى﴿ :لتعلموا َّ
أن
وأن هللا قد أحاط بكل شيء علما'﴾ فالخلق جميعا ً في قبضته عز وجل هللا على كل شيء قدير َّ
األرض وال في السّماء إال وكونه بأمره سبحانه وعلمه ،ولهذا جاء وبأمره ،وال يكون شيء في ْ
االقتران في القرآن الكريم بين العلم والقدرة:
وبداهة العلم على البداهة أرفع درجة اإلخبار من االستفهام اإلنكاري في قوله تعالى:
وهذا الوصل الذي أثبتناه هنا يرسخه ويؤكده ،وأعلى أوجه التفسير تفسير القرآن ببعضه،
أقول ما يرسخه ويؤكده آيات القرآن الحكيم:
﴿ألم أن هللا يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري
س َّمى َّ
وأن هللا بما تعملون خبير'﴾(لقمان)08 إلى أجل ُم َ
246
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
﴿يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل' وسخر الشمس والقمر' ك ّل يجري ألجل
س ّمى' ذلكم هللا ربّكم له ال ُملك' والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير'﴾(فاطر)31
ُم َ
س َّخ َرس َّخ َر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون' و َ﴿هللا الذي َ
األرض جميعا ً منه' َّ
إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون'﴾(الجاثية-33 اوات وما في ْ س َم َ
لكم ما في ال َّ
)30
األرض وأنزل من السّماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم' اوات و ْس َم َ
﴿هللا الذي خلق ال َّ
َّ
سخ َر لكم الشمس والقمر دائبين' َّ
سخ َر لكم األنهار' و َ س َّخ َر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره' و َ و َ
َّ ُ
سخ َر لكم الليل والنهار' وآتاكم من كل ما سألتموه' وإن تعدوا نعمة هللا ال تحصوها' إن اإلنسان َّ و َ
لظلوم كفار'﴾(إبراهيم)10..14
وإن شئت الجامع لكل ذلك جميعا ً ،فاتْ ُل قوله تعالى وهو العل ّ
ي الحكيم:
وهنا مثال على الذي أحسن في تفسير وأيضا ًح حقيقة تنزل األمر اإلنشائي للخلق ،مثال
األرض المخضرة ،فالعالقة اإلنشائية على الطرف األخير الظاهر لكل العقول مهما كانت منحطة
ْ
247
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
عن تمثل الهيئات الهندسية الفضائية ،أو السّببية غير البسيطة وغير البدائية ،الممثلة في الحيز
والكتلة والمؤثر الميكانيكي المباشر ،العالقة اإلنشائية البسيطة بين إنزال المطر واخضرار
األرض المخضرة' معبر عنها بحرف الفاء في قوله تعالى ﴿فتصبح﴾ األرض أو بتحديد أدق ' ْْ
وفعل 'أصبح' الدال على التحول واالنتقال األحوالي الذي هو في حقيقته انتقال خلقي.
األرض المشحون بجاذبيته والبحاروإن إنزال المطر كذلك له حلقة إنشاء مسخر فيها فلك ْ
والرياح المرسلة والشمس والقمر ،وهذه كلها مسخر فيها بنية الكون المادية والمجرات ،بدءا
األرض التكوينية ،وميل محورها القطبي يميناعن العمودي على مستوى دورانها من بخصائص ْ
المغرب إلى المشرق على الشمس ب 5.32درجة مع ثبات هذا الميل؛ دوران أو التفاف ينتج
عنه الليل والنهار واختالف متدرج لطولهما بفعل هذا الميل ،الذي بفعل تأثير القمر ودوران
األرض حول الشمس تنتج أحوال متغيرة للمناخ على مسار المدار وتنشأ الفصول .وهذه جميعا ْ
متصلة إنشائيا وتأثيريا بالعالقة اإلنشائية للشمس بين النجوم في مجرتنا ،مجرة درب التبانة،
هكذا دواليك حتى نصل إلى األمر األول الذي في قوله عز وجل﴿ :إذا قضى أمرا فإنما يقول له
كن' فيكون'﴾(البقرة.)111
ولو ذهبنا على أوسع التأصيل لوجدنا أن الحياة في خلقها وظواهرها تنزل لألمر على الذي
رأينا:
هنا إذا نخلص إلى كمال التوافق للمحصّل العلمي اإلنساني من هذه الحقيقة المنصوص
311
عليها في القرآن الكريم ،حقيقة تنزل أمر الخلق التسخيري اإلنشائي».
« ...وهذه اآليات البينات والنور المبين مما سقناه وذكرناه هنا من اآلية من سورة األحزاب
إلى هاته اآليات الدالة والمبرهنة على أحادية اإلله لتناسق األمر والخلق كله312؛ يجعل أو هو
مما يرجح مناط األمانة االستخالف امتدادا ً للحق بمكرمة العقل ،فهو شاهد بالحق في قرارة
ن م – ص33-38 311
248
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
النفس ،ولما كان الحق كما بيناه في اإلشكاالت القانونية لشبهة الداروينية (تفصيل األمر والخلق)،
تصور القضاء والقدر ،لما كان الحق يختزل الزمن وأيضا ً هنا يكمن به حل استعصاء هيئة و ّ
والخلق كله ،ويرد كل أمر وخلق إلى جوهر العلم ،فيمحي الزمن والمادة ،يصبح كل اإلنسان
وفي كل آن من آنات يقظة العقل بوصل وجودي بالميثاق والعهد األول .ومن ثمة إذا أنارت شعلة
اإليمان هذا العقل كان أشد ُح ّبا ً هللِ سبحانه وتعالى.
هنا يأتي موضع طرح سؤال وإشكال فعل القبيح ونبدأ فيه بالعودة مرة أخرى إلى فصل
تصور الكاتب وما
ّ بعنوان( :وأفعال اإلنسان من الذي يخلقها؟) ،وأمكن لنا أن نشخص ونعين
يعقله هو ومن يقولون بقوله ويصرون عليه إصرارا ،يقول البوطي باللفظ والحرف:
«إذا أدركت هذه الحقيقة التي بسطت لك التعبير عنها إلى أقصى ما أستطيع ،فاعلم أنها هي
المعنية بقول المحقق الكلبنوي في حاشيته على شرح جالل الدين الدواني للعقائد العضدية التالي
نصه:
< ..إن اإلرادة الجزئية التي هي عبارة عن تعلق اإلرادة الكلية بجانب معين من الفعل
والترك ،صادر ة من العبد اختيارا .وليست مخلوقة هلل تعالى ،ألنها ليست من الموجودات
الخارجية بل من األمور االعتبارية ،ككون الفعل طاعة أو معصية ،أو من قبيل الحال المتوسطة
313
بين الوجود والعدم>».
ه هنا جاء القول وتقريره ظاهرين صريحين(:ليست مخلوقة هلل) هكذا لفظا ً وإقرارا !
تصور ي الذي ظل يراوحه البوطي من بدء كتابه إلى آخره ولم يجد عنه وهو المأزق ال ّ
مصرفا ،فهو قائم ماثل أبدا ألنه صلب اإلشكال .لكن ليس لوحده وإن كان هو األشد استعصاء
صوراتها منوعضال ،ألنه يرتبط أساسا بعلو القلوب بمعنى العقول في مستويات إدراكها وسعة ت ّ
حيث الهيئة .أما األمر الثاني الذي يليه في األهمية وإليه يرد ويفسّر هذا الخضم من المجادلة التي
ليس لها منتهى وال قرار ،هو الجانب اللغوي والبياني ،فإن اللغة فيها قانون التفصيل للحق،
بمعنى أنها لغة فضاؤها ومجالها البشري بالتخصيص واألصل ،فيجوز لنا أن نقول إن هللا تعالى
خلق القبح والقبيح وال يجوز أن نقول فعل هللا القبح والقبيح ،ألن الفعل هنا في إطار التكليف
249
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ومجاله وعالمه ،وهللا تعالى رب العالمين خالق كل شيء ،العباد وما يعملون .ودليل القطع هو أن
الخلق كله بالحق ،والحق كله خير بل هو الخير ذاته ،فهذا يتصل تناسقا حكيما وبليغا ألولي
تصور وهيئته ،وإن بشكل ثبوتي ،لكنه لن يتم من حيث الحل البصائر واأللباب إلى حقيقة وأمر ال ّ
صعود في تمثل الحق وصلته التكافئية بالعلم ،وذلك التام والخروج من مأزق وانسداد األفق إال بال ّ
من خالل اإلبصار بكون العلم والحكمة بتحققها في الفضاء الوجود المتصل نقطه بعضها ببعض
صعود ليس وعاء للخلق يجعل العامل الزمني ي ّمحي ليصبح في الحق ،وفي هذا المستوى من ال ّ
األرض مجاالبل هو منه ومن مادته ،ومن تم يرتفع اإلشكال باعتبار المجال الكوني للسماوات و ْ
قانونه أو بتعبير رباني معادلته الحق ،ولذلك كان هللا تعالى بكل شيء عليم؛ فاآلن الوجودي لكل
نسمة من بني آدم ولكل واحد منا يتصل في مجال الحق وقد ا ّمحى الزمن باألمر النسق األول
لخلق آدم وأمر السجود وطاعة المالئكة أجمعين ،إال إبليس الذي أبى أن يكون مع الساجدين؛
وبهذا يتلى الذكر والقرآن الحكيم أمرا من عند هللا تعالى العلي الحكيم ،مرتفعا عن الزمن؛ وبه
ير ّد الدعاء القضاء ويُنسئ في العمر ويزيد في الرزق ،ويفهم حق الفهم؛ ويتجلى الحق األبلج
سر لما ُخلقويحصل االستيعاب بإدراك عالم مطمئن قوله صلى هللا عليه وسلم" :اعملوا فكل مي ّ
له".
وإن أحسن البيان وأبلغ التصوير لمجال الحق من حيث المسافات الالمتناهية ،والخلق الواسع
مهما كبرت أقطاره وأجرامه وأكوانه ،كل ذلك يكافئه وأمكن حوالته على المنحيين علما ،فال يبقى
قبل وال بعد وال يمين وال شمال في المجال الكينوناتي والخلقي ،أحسن البيان لذلك وأبلغه
تصويرا هو قوله تعالى في سورة النور:
إذن فأمكن القول :إن قانون التفصيل الذي كان المحور الحق لكتابنا( :تفصيل الخلق واألمر)
هو المعراج إلى الحل في إشكال وإعضال القضاء والقدر وما مت في صلة من األسئلة والقضايا،
تصور اإلنساني وبإدراكه في هذا السّؤال اإلدراكي
صعود بال ّ
أو بدقيق القول :إنه معراج ال ّ
250
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
البحت ،وكونه إدراكيا نعني به تحديدا ارتباطه الجوهري بالخلقة ،فيبقى في جوهره مخلوقا
مأسورا .فالمسافة هنا على بعد مسافة سؤل الرؤية لموسى عليه السالم ،ويقول هللا تعالى:
ير'﴾(الشورى)3
ص ُش ْي ٌء َوهُ َو السّميع ال َب ِ
س ك ِمث ِل ِه َ
﴿ل ْي َ
﴿يَ ْعل ُم َما بَ ْينَ أ ْي ِدي ِه ْم َو َما َخلف ُه ْم َوال يُحِ يطونَ ب ِه ِعل ًما'﴾(طه)327
وهنا نسوق على سبيل المراجعة والتمثل لهذا المنظار الحل ،نسوق قول ابن القيم رحمه هللا
تعالى:
<ونحن ال ننكر أن الشر يكون في مفعوالته المنفصلة فإنه خالق الخير والشر.
أحدهما :أن ما هو شر أو متض ّمن للشر ،فإنه ال يكون إال مفعوال منفصال ال يكون وصفا له ،و ال
فعال من أفعاله.
الثاني :أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي ،فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به ،وشر
من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه .فله وجهان ،هو من أحدهما خير ،وهو الوجه الذي نسب
منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة ،لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر
بعلمها ،وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها ،وأكثر ال َّناس تضيق عقولهم عن مبادئ
معرفتها ،فضال عن حقيقتها ،فيكفيهم اإليمان المجمل بأن هللا سبحانه هو الغني الحميد ،وفاعل
الشر ال بفعله إال لحاجته المنافية لغناه ،أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده .فيستحيل صدور الشر من
الغني الحميد فعال ،وإن كان هو الخالق للخير والشر» >.
315 314
251
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
«الفصل الثالث ذكر ما ينبغي أن يُرسم لهم في رئاسة األجسام السمائية على ما تحتها من
األجسام الهيوالنية وفي تدبيرها لها ،وعلى أي جهة هي أسباب وجودها ،وكيف دبر هللا تعالى ما
في األجسام الطبيعية باألجسام السمائية ،وما الذي دبر سماء سما ًء وكوكبا كوكباً ،وما الذي ينبغي
ب
أن يُرسم لهم في رسم مشهورات الكواكب .وكيف تدبير هللا لألجسام الهيوالنية بكوكب كوك ٍ
على انفراده وتدبيره إياها باجتماع جميعها أو ببعضها ،وكيف ضُبطت الهيوالنيات بالسمائيات.
وكيف وجه العدل فيها ،وأن كل ما يجري عدل ال جور فيه وكمال ال نقص فيه .وكيف يتعدى
األرض وما حوله .وكيف اوات إلى أن يرد إلى مركز ْ س َم َ
تدبير هللا تعالى وجل ثناؤه من أعلى ال َّ
تكونت قديما في الرئاسة .وكيف تدبير بعضها ببعض ،وكيف تضبط جميعها .وأيها كان ،لزم
ضرورة أن يكون الطبيعة على ما هي عليه اآلن موجودة وال يمكن غيرها .وأنه ال كمال غير
وجودها الذي هو لها اآلن ،وال يمكن أن يكون لها وجود آخر غير هذا الوجود أصال ،وأي وجود
توهم اإلنسان لها غير ما هي عليه اآلن كان ذلك نقصا ً وإضالال ال وجوداً ،وشيئا ً ال يمكن أن ّ
316 ً
يكون من فعل هللا تعالى وال الئقا به».
ونظرت في كتاب القانون البن سينا ،وأجد تقريبا من بيان وكالم ديكارت حول القلب واألوردة
والشرايين والرئة والجهة العليا من الجسم في كيفية الدورة الدموية والحرارة وسائر الخصائص
من الليونة واللزوجة وغيرها .وكذلك فكرت في العودة إلى بيان الغزالي في الشك ،ولم يتهيأ لي
بعد ،حيث مكثت أعيد قراءة ما جاء عند الفارابي بخصوص علم هللا تعالى وعدله سبحانه،
والقضاء والقدر ومسؤولية اإلنسان .واتضح لي جيدا ً أنني بصدد أمرين بيّنين ،وكالهما مؤطر
ي .أما األول فهو عدم وقوف الفارابي على شيء في علم هللا تعالى ،317فقد وموجّه بالنسبة إل ّ
تقرر عندي من قبل عند ابن أشكل عليه وبشكل غريب بالنسبة لعقل الفارابي ،وهذا متفق وما ّ
سينا في هذا السّؤال .ولكن في واقع األمر وكما أشرت إليه قبل حين ،ال أعلم أحدا ً من الفالسفة
بلغ قوال فصال واضحا ً في ذلك .وأ ّما األمر الثاني فقد أنار لي طريقا ودلني على وجهة حيث
الحل والجواب لهذا السّؤال العظيم .وبالطبع فقد سبق لي االطالع عليه والمرور به ،لكن
المعطيات قيمتها بذكرها واعتبارها في حقل التفكير وإ ّبانه ،وهذا هو الذي وافق هذه اإلطاللة
والتذكر؛ إنه أمر تفسير الرؤيا الذي لم ينظر إليه فرويد وال تطلع إلى موضوعه بله تفسيره،
316كتاب الملة ونصوص أخرى :أبو نصر الفارابي – حققها وقدم لها وعلق عليها محسن مهدي أستاذ الدراسات
العربية واإلسالمية بجامعة شيكاغو -نصوص ودروس ،المجموعة الفلسفية -الطبعة الثانية -دار المشرق -بيروت
– ص81-84
317انظر :فصول منتزعة -الفارابي – ص03-08
252
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وإنما بقي في المستوى األفقي – أفق األحالم -الذي يغطي أو تغطيه أحداث الواقع المحسوس
القريب وحفريات النفس وحتى حفريات النفس في أصالبها.
إنها عالقة أو شبكة العالئق الوظيفية للمتخيّلة ، 318وأسوق هنا ما هو كاف وما أمكنه أن يمثل
الرجل العظيم ليس عند المسلمين فقط – والحمد هلل الذي له الحكم
شطرا من فلسفة هذا ّ
ً فلسفة أو
ال يشرك فيه أحدا! -بل في تاريخ الجنس البشري وإلى يومنا هذا:
القوة معقوالت
«والعقل الفعال ،لما كان هو السّبب في أن تصير به المعقوالت التي هي ب ّ
القوة
القوة عقل بالفعل ،وكان ما سبيله أن يصير عقال بالفعل هي ّ بالفعل ،وأن يصير ما هو عقل ب ّ
الناطقة ،وكانت الناطقة ضربين ،ضربا نظريا وضربا عمليا ،وكانت العملية هي التي شأنها أن
تفعل الجزئيات الحاضرة والمستقبلة ،والنظرية هي التي شأنها أن تعقل المعقوالت التي شأنها أن
القوة الناطقة عن العقل
القوة الناطقة ،فإن الذي تنال ّ
القوة المتخيلة مواصلة لضربي ّ تعلم ،وكانت ّ
القوة المتخيلة .فيكون
الفعال – وهو الشيء الذي منزلته الضياء من البصر -قد يفيض منه على ّ
القوة المتخيلة فعل ما ،تعطيه أحيانا المعقوالت التي شأنها أن تحصل في الناطقة للعقل الفعال في ّ
القوة
النظرية ،وأحيانا الجزئيات المحسوسات التي شأنها أن تحصل في الناطقة العملية ،فتقبل " ّ
المتخيلة" المعقوالت بما يحاكيها من المحسوسات التي تركبها هي .وتقبل الجزئيات أحيانا بأن
تتخيلها كما هي ،وأحيانا تحاكيها بمحسوسات أخر ،وهذه هي التي شأن الناطقة العملية أن تعملها
بالروية .فمنها حاضرة ،ومنها كائنة في المستقبل .إال أن ما يحصل للقوة المتخيلة من هذه كلها،
بال توسط روية .فلذلك يحصل في هذه األشياء بعد أن يستنبط بالروية .فيكون ما يعطيه العقل
الفعال للقوة المتخيلة من الجزئيات ،بالمنامات والرؤيات الصادقة؛ وبما يعطيها من المعقوالت
التي تقبلها بأن يأخذ محاكاتها مكانها بالكهانات على األشياء اإللهية .وهذه كلها قد تكون في النوم
،وقد تكون في اليقظة إال أن التي تكون في اليقظة قليل وفي األقل من النَّاس ،فأما الذي في النوم
فأكثرها الجزئيات ،وأما المعقوالت فقليلة.
253
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جدا ،وكانت المحسوسات الواردة
وذلك :أن ّ
عليها من خارج ال تستولي عليها استيالء يستغرقها بأسرها ،وال أخدمتها للقوة الناطقة ،بل كان
فيها مع اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منهما في وقت النوم ،و"لما كان"
القوة المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات
كثير من هذه التي يعطيها العقل الفعال ،فتتخيلها ّ
القوة الحاسة.
المرئية ،فإن تلك المتخيلة تعود فترتسم في ّ
نبدأ بما هو أولى أن ينبه إليه من معنى مادة "كهن" الواردة في النص وسياقه:
ليس ريب أن بيان الفارابي هذا قل من بلغ مداره من الفالسفة إطالقا ً .ولم نكن بذاك مجانبين
شطرا من فلسفته ،ألنه بالذات به وبما جاء فيه قد تميز بأن حدد ً للصواب بقولنا إنه يمثل فلسفة أو
عرف العقل مطلقا ًالتأطير األعلى ،وأعطى التعريف األصح ،بتأصيل يعلو تأصيل المنطق ذاته؛ ّ
أو العقول وأيضا ً المعقوالت ،فهي هنا معرفة بمفهوم المجال.
نهتم نحن هنا ببعدي التفصيل (أو التعديل) والزمن .أما األول فقد كنا قد بيناه في تأطيرنا لعقل
وفلسفة سبينوزا في "األصول الحقة للرياضيات أو المدخل إلى ال ّرياضيات ونقد الدليل الوجودي"
وأيضا ً في "د .عدنان إبراهيم وأمين صبري ..النبوغ والضّالل" ،لكن هنا نركز على حقيقة
254
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ترجمة المتخيلة للعنصر المستم ّد من "العقل الفعال" ترجمة مطابقة لما سيأتي حقيقة أو بعنصر
سي تركيبي محاكاتي .وهذا يعني أن مصدر العناصر المستم ّدة أو العنصر المستم ّد هو خارج حوا ّ
القيد الزمني .بل إن هذه اإلحاطة – وهذا متصل بإشكال المنطق السّيكولوجي -تشمل كذلك بعد
االختيار:
القوة المتخيلة" المعقوالت بما يحاكيها من المحسوسات التي تركبها هي .وتقبل
«فتقبل " ّ
الجزئيات أحيانا بأن تتخيلها كما هي ،وأحيانا تحاكيها بمحسوسات أخر ،وهذه هي التي شأن
الناطقة العملية أن تعملها بالروية .فمنها حاضرة ،ومنها كائنة في المستقبل .إال أن ما يحصل
للقوة المتخيلة من هذه كلها ،بال توسط روية».
فعندما تحصل هذه المعقوالت لإلنسان يحدث له بالطبع تأمل ،وروية وذكر ،وتشوق إلى
االستنباط ،ونزوع إلى بعض ما عقله أوال ،وشوق إليه وإلى بعض ما يستنبطه ،أو كراهته.
والنزوع إلى ما أدركه بالجملة هو اإلرادة .فإن كان ذلك "النزوع" وتخيل ،سمي باالسم العام
وهو اإلرادة؛ وإن كان ذلك عن روية أو عن نطق في الجملة سمي االختيار ،وهذا يوجد في
صة .وأما النزوع عن إحساس أو تخيل فهو أيضا ً في سائر الحيوان .وحصول اإلنسان خا ّ
المعقوالت األولى لإلنسان هو استكماله األول .وهذه المعقوالت إنما جعلت له ليستعملها في أن
يصير إلى استكماله األخير.
321
وذلك هو السعادة»...
هنا أمسكت بخيط الوصل ،وصل الزمني بالمطلق ،ورفع الحجاب وجمع بين علم هللا السابق
وأمره؛ فاإلنسان موصول اختياره بالحق وبقدره وما ربك بظالم للعبيد .اآلن اتضح لي أكثر من
بالحي القيّوم ،تصله بما هو قبل الخلق وما بعد الخلق.
ّ وضوح الشمس أن رو ًحا باإلنسان تصله
والخلق كله ،أحواله وقوانينه ،محققة بالمالئكة –عليهم السالم ! – وفي كل آن:
255
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وها هو ذا الخطاب العظيم ،خطاب الحق لمن هم داخل حقل الخلق﴿ :حم'عسق' كذ ِلكَ يُوحِ ي
األرض' َوهُ َو ال َع ِل ُّ
ي ت َو َما ِفي ْ اوا ِ
س َم َ يز ال َح ِكي ُم' لهُ َما ِفي ال َّإل ْيكَ َوإلى ال ِذينَ ِم ْن ق ْب ِلكَ هللاُ ال َع ِز ُ
س ِبّ ُحونَ ب َح ْم ِد َر ِبّ ِه ْم َو َي ْستغ ِف ُرونَ ِل َم ْن فِي ط ْرنَ ِم ْن ْ
فوقِ ِه َّن' َوال َمالئِكة يُ َ اواتُ َيتف َّ س َم َ
ال َعظِ ي ُم' َيكا ُد ال َّ
ق أنزلناهُ' َوبال َح ّ ِ
ق الرحِ ي ُم'﴾(الشورى )0..4كما قال تعالىَ ﴿ :وبال َح ّ ِ الغفور َّ
ُ هللا هُ َو
إن َ ض' أال َّ األر ِ
ْ
يرا'﴾(اإلسراء)431 ش ًرا َون ِذ ً سلناكَ إال ُم َب ِ ّ نزَ َل' َو َما أ ْر َ
فهذا الذي ذكره ديكارت وأشار إليه الفارابي من قبل بأن الحق واح ٌد ،كمثل وضع نقاط المثلث
والدائرة في الحق وفي التكوين ،وعلى مطلق متسع األبعاد ،حتى ما كان في اإلرادة واالختيار،
هو ما يرى مطابق الوصل بحفظ المالئكة للحق في بناء الكون المطلق ،وذلك في كل آن ،وهو ما
األرض ،ألن حقيقة الخلق أعمال في الحق، نتلوه في اآلية بتسبيح المالئكة واالستغفار لمن في ْ
مجرد لفظ على المعنى البياني البشري .فاألمر ّ فكأن الشأن شأن حفظ عملي ال فقط كما يتهيأ أنه
هنا مفسّر بقوله تعالى في آية الكرسي تفسيرا بليغا ،ويزيده المعجم الكريم تبيانا﴿ :هللاُ ال إلهَ إال
نو ٌم' َم ْن ذا ال ِذي يَ ْشف ُع ِعن َدهُ إال بإذنِ ِه' يَ ْعل ُم َما بَ ْينَ أ ْي ِدي ِه ْم َو َما
ي القيّوم' ال تأ ُخذهُ ِسنة َوال ْ هُ َو' ال َح ُّ
األرض' َوال يَ ُؤو ُدهُ اوات َو ْ كر ِسيُّهُ السَّ َم َ ش ْيءٍ ِم ْن ِعل ِم ِه إال ب َما َ
شا َء' َو ِس َع ْ َخلف ُه ْم' َوال يُحِ يطونَ ب َ
ي ال َعظِ ي ُم'﴾(البقرة)811 حِ فظ ُه َما' َوهُ َو ال َع ِل ُّ
ش ْيءٍ َخلقهُ َوبَ َدأ َخلقَ
سنَ كل َ والدعاء موصول بإرادة الحق سبحانه رب العالمين﴿ :ال ِذي أ ْح َ
ين' ث َّم سَ َّواهُ َونف َخ فِي ِه ِم ْن ُروحِ ِه' َو َجعَلَ لك ْم
ين' ث َّم َجعَ َل ن ْسلهُ ِم ْن سُالل ٍة ِم ْن َماءٍ َم ِه ٍ
ان ِم ْن طِ ٍس ِ اإلن َ
كرونَ '﴾(السجدة)8..6 ار َواألفئِ َدة' ق ِليال َما ت ْش ُص َ
س ْم َع َواأل ْب َ
ال َّ
وتحت عنوان "فقه اإليمان بالقضاء والقدر عند الفاروق عمر" تكتب األستاذة جواهر بنت
صويلح المطرفي هذه الكلمة الدالة على ما فيه الخير كله من حصول التفقه في الدين بصحيح
تصور للقضاء والقدر:
ال ّ
256
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
« الحمد هلل ،ونستعينه ،ونستغفره ،ونتوب إليه ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من
يهده هللا فال ُمض َّل له ،ومن يُضلِل فال هادي له ،وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،وأشهد
أن محمدًا عبده ورسوله ،صلى هللا عليه وسلم تسلي ًما.
أما بعد:
فقضية اإليمان بالقضاء وال َقدَر من أج ِّل قضايا العقيدة التي جاء اإلسالم لتصحيح مفهومها
َضاربًا في فَ ْهم القَدَر ،فما إن وبيان أصولها لدى ال َّناس ،وال شكَّ أن العرب قدي ًما كانت تعيش ت ُ
َّ
َوارثها األبناء عن اآلباء ،لهم في ذلك دعاوى باطلة ﴿:إِنا َو َجدْنَا آبَا َءنَا
طائرا إال تطيروا به .ت َ ً يروا
ار ِه ْم ُم ْقتَد ُونَ ﴾ [الزخرف.]23 : علَى أ ُ َّمة َو ِإنَّا َ
علَى آث َِ َ
وضرب لنا صحابةُ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أرو َ
ع النماذج في هذا الباب ،وحقَّقوا في ذلك
الرتبُ ،محقِّقين في ذلك قوله عليه الصالة والسالم(( :وأن تؤمن بالقَدَر خيره وشره)).
أعلى ُّ
ومن خالل اطالعي على بعض المواقف للخليفة عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ،وجدتُ أن
عمر رضي هللا عنه من الصحابة الذين فَقِهوا قضيةَ اإليمان بالقضاء والقَدَر فَ ْه ًما دقيقًا على مراد
بعض المواقف التي تدلُّ على فِ ْقه الخليفة في هذا الباب،َ وردهللا ورسوله صلى هللا عليه وسلم ،وسأ ُ ِ
صا ،وال يجعل ألحد فيه شيئًا. سائلة المولى سبحانه أن يجعل عملي صال ًحا ولوجهه خال ً
-1وذلك أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان ب َس ْرغ لَقِيه أه ُل األجناد (أبو عبيدة
الجراح وأصحابه) ،فأخبروه أن الوبا َء قد وقَع بالشام ،قال ابن عباس :فقال عمر :ادعُ لي َّ بن
ُ
األولين فدعوتهم ،فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام ،فاختلفوا؛ فقال َّ المهاجرين
بعضهم :قد خرجتَ ألمر وال نرى أن تَرجع عنه ،وقال بعضهم :معك بقيَّة النَّاس وأصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،وال نرى أن تُقدِمهم على هذا الوباء ،فقال :ارتفعوا عني ،ثم قال :ادعُ لي
األنصار ،فدعوتهم له ،فاستشارهم فسلكوا سبي َل المهاجرين ،واختلفوا كاختالفهم ،فقال :عني ،ثم
هاجرة الفتح ،فدعوتهم فلم يختلف عليه إلي َمن كان ها هنا من مشيخة قريش من ُم ِ قال :ادع َّ
رجالن ،فقالوا :نرى أن ترجع بالنَّاس وال تُقدِمهم على هذا الوباء ،فنادى عمر في النَّاس :إني
ظ ْهر ،فأصبحوا عليه ،فقال أبو عبيدة بن الجراح :أفرار من قَدَر هللا ،فقال عمر" :لو ص ِب ٌح على َ
ُم ْ
غيرك قالها يا أبا عبيدة -وكان عمر يكره خالفه -نعم ،نَفِر من قَدَر هللا إلى قدر هللا ،أرأيتَ لو
كانت لك إبل فهبطت واديًا له عُدْوتان ،إحداهما :خِ صْبة ،واألخرىَ :جدْبة ،أليس إن رعيتَ
257
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الخِ صبة رعيتها بقدر هللا ،وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر هللا" ،قال :فجاء عبدالرحمن بن عوف
وكان متغ ِيّبًا في بعض حاجته ،فقال :إن عندي من هذا ع ِْل ًما ،سمعتُ رسول هللا صلى هللا عليه
فرارا
ً وسلم يقول(( :إذا سمعتُم به بأرض ،فال ت َقدَموا عليه ،وإذا وقَع بأرض وأنتم بها ،فال تخرجوا
عمر بن الخطاب ،ثم انصرف". ُ هللا
منه ،قال :فحمد َ
عمر رضي هللا عنه ألبي عبيدة" :نعم ،نَف ُِّر من َقدَر هللا إلى قَدَر َ الشاهد في القصة هنا هو قول
ْ
َفوه بها الخليفة ال ُملهم أصبحت خالدة ت َُردُّ على كثير من الطوائف المتخبِّطة هللا" ،هذه الكلمة التي ت َّ
سيرهم الباطل ،نعم ت َفر من المرض إلى العافية ،وتَفِر من َ عليهم وتقطع والقدر، في مسائل القضاء
َّ ْ
الموت إلى الحياة ،إن أمكنك ذلك ،مع عِلمك اليقيني أن هذه اآلفات واقعة بك يو ًما ما ال محالة،
وبقدر هللا ،و ُمتذ ّك ًِرا قول هللا تعالى ِ ﴿:لكُ ِّل أ َ َجل ِكتَابٌ ﴾ [الرعد.]37 :
موقف آخر عندما سرق رجل ،فأمر عمر رضي هللا عنه أن تُق َ
طع يده فقال" :يا أمير المؤمنين،
سرقتُ بقَدَر هللا" ،فردَّ الفاروق بحكمته" :وأنا أقطعها بقدر هللا".
عمر رضي هللا عنه لمن احت َّج بالقَدَر تتَّسِم باإلقناع وسرعة البديهة؛ فقد أراد َ إن المتأ ّمِل لمعالجة
ت َرهِينَة﴾ٌ
سبَ ْ ْ ُ
عمر رضي هللا عنه أن يُبطِ ل دعوى الجبرية مبيِّنًا قوله تعالى ﴿:ك ُّل نَفس بِ َما َك َ
[المدثر.]37 :
ضرب عمر رضي هللا عنه عاطالً ليس له حِ ْرفة ،وقال له" :إن السّماء ال تُمطِ ر ذهبًا".
األجوف على
َ إن التواك َل على القَدَر وترك العمل ال ُ
يروق للخليفة عمر؛ فهو يرى أن االعتمادَ
األقدار يُناقِض التوكل.
258
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
عن حفصة رضي هللا عنها ،أن عمر كان يقول في دعائه" :اللهم ارزقني شهادة ً في سبيلك،
واجعل موتي في بلد رسولك" ،فقلتُ له :أنَّى لك هذا؟ قال" :يأتيني به هللاُ إن شاء".
ُعزز هذا الموقف ما ذكره اب ُن القيم في كتابه الفوائد ،وهو قول عمر" :إني ال أَحمِل ه َّم وي ِ ّ
اإلجابة ،ولكني أحمل ه َّم الدعاء".
باب الدعاء يُوشك أن يُجاب ،وفَ ِهم جليًّا قوله تعالى ﴿: كان يعلَ ُم رضي هللا عنه أن َمن فتح هللا له َ
ان ﴾[البقرة ،]671 :وأن األهم هو ع ِ َ
يب دَع َْوة َ الدَّاعِ إِذا دَ َع ّنِي َفإِنِّي قَ ِريبٌ أ ُ ِج ُ
سأَلَكَ ِعبَادِي َ
َوإِذَا َ
ْ
االستجابة هلل بالدعاء ﴿:فَليَ ْست َِجيبُوا لِي﴾ [البقرة ،]671 :ومع الدعاء ال بدَّ من مصاحبة اإليمان ُ
الذي هو مِالك األمر كله َ ﴿:و ْليُؤْ ِمنُوا بِي لَعَلَّ ُه ْم يَ ْرشُد ُونَ ﴾ [البقرة.]671 :
ما أردتُ إيصاله عبر هذه المواقف هو أن الصحابةَ هم الصفوة الذين فَ ِهموا عن هللا وعن رسوله
عليه الصالة والسالم حقيقة الفَ ْهم ،وكيف ال يكون وقد أوصى عليه الصالة والسالم باالقتداء به
بالنواجذ))
ِ سنَّة الخلفاء الراشدين ال َمهد ِيّين من بعديَ ،
عضُّوا عليها وبهم فقال(( :عليكم بسنَّتي و ُ
هلل أسأل أن يُو ّفِقنا لالقتداء بهم وإن لم نعمل بأعمالهم ،وأسأله سبحانه أن يحشرنا في زمرتهم
فا َ
بحبنا لهم ،وصلى هللا وسلم على نبينا وعلى آله وسلم«.
وجمعا ً بين بعد العالقة المفسّرة للرؤيا وأن الحق مهيمن على المادة والزمن عليا ً عظيما ً ،وأن
الحق أحد ،وأن المخلوقات كلها أعمال ممثلة في حركة المادة متضمنا ً فيها األسباب مطلقا ً حتى
النفسية والنزوعية والتفكرية .فمثبت كون:
صل الحق في المادة والزمان ،أي يجلي ترابط وانتظام النقاط في حقل المادة والزمان
العقل يُف ِ ّ
الرياضيات
وذلكم هو المنطق و ّ
259
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المادة+الزمان+المكان= معادلة
الحق
العقل
322
بالقوة الناطقة ،وقد يكون بالمتخيلة ،وقد يكون باإلحساس».
«وعلم الشيء قد يكون ّ
322ن م -ص02
260
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مرا،لمر السحاب في السّماء ًّ وبعد ثالثة أشهر 323وأنا أنظر بعد العشاء إلى المشهد العجيب ّ
وإن كان سريعًا بعض الشيء فإنه يترك للعين والعقل معًا مهال من الوقت إلمعان النظر إلى
تحرك في نسق جميل بديع ،جميل للعقل بديع للعين .وبرهة انبرى السّؤال الكامن عندي مشهده الم ّ
ي ت ُم ُّر َم َّر
ترى الج َبا َل تحْ ِسبُ َها َجا ِم َدة َو ِه َ
منذ أمد :ما عالقة أو ما وجه االنتظام في قوله تعالىَ ﴿ :و َ
بير ب َما تفعَلونَ '﴾(النمل )88أعني مما يرى استنباطا ً صن َع هللاِ ال ِذي أتقنَ ك َّل َ
ش ْيءٍ ' إنه َخ ٌ س َحاب' ُ
ال َّ
واستدالال .انبرى السّؤال من جديد ولكن هذه المرة الح لي نور النسق الدقيق المتحكم حتى في
األرض حول محورها وزاويته وحول الشمس وعامل حركة السحاب من خالل نظمة حركة ْ
ي ورقة من القمر في ذلك مسايرة وغيرها من المحددات لمطلق ما يجري حتى أدنى حركة أل ّ
أوراق الشجر .وإذن فالجبال ،وإن بدت كأنها مستقلة بذاتها ،نظير حسبانها جامدة ،هي في سير
سحب منضبطة مختلفة نقاطه ومتغيرة أحواله ،سير منضبط بنسق قانوني دقيق متقن ،كما هي ال ّ
به .ثم أليس هذا هو المنتظم على أت ّم ما يكون االنتظام مع قول مجاهد في معنى ﴿أتقن﴾ بأنه
"أوثق" الذي ه و أبلغ من 'أحكم" أو "اإلحكام" في إفادة المعنى الذي استجليناه في انتظام اآلية
الكريمة من القرآن الحكيم .وإذا علمت أن نقطة التواجد اإلنساني تنطبق دوما ً مع مفكره وتماهيه
السلوكي ،أدركت ما هو ذلك اإلحساس والمعنى الذي عبر عنه العالمان الفيلسوفان أومنيس
وشارباك بالمهابة واإلجالل حتى القدسية ،ونقطتا تواجدهما على معراج الصعود القوانيني إلى
الحق؛ فالحقيقة الشهودية ليست في األشياء ،إنما هي في قوانين هذه األشياء ،والقوانين مجال
خطوط تقاربية مجمعها الحق ،هنالك الوالية ،وهناك النور وهناك الجالل المهيب ،بهذا تكون
قراءة المقدمة البهية لكتاب "كونوا علماء تصبحوا أنبياء":
« INTRODUCTION
261
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
262
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
Il nous est arrivé de préférer les mots du visionnaire à ceux des savants, en
soupirant souvent de n’être pas poètes car il faudrait des semelles de vent ou
un soufle hugolien pour dire ce que les formules abstraites de la science
recèlent de poésie désirable.
263
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
mains propres dans les malheurs du monde. Un autre ordre du monde pourtant,
dans un avenir imminent, ne peut venir que d’une sagesse ou la science, ou
plutôt ce qu’elle révèle, trouve sa véritable place. Nous espérons povoir
montrer par ce livre qu’il ne s’agit pas là de vaines paroles, mais de reflexions
évidentes dès qu’on possède la clef.
وال يمكن منطقيا ً أن تنسب تلك،ثم إنه ال تعارض ينبغي بين الوحي أو الدين والعلم والفلسفة
فالفقه المسيحي وكتابة الشطر-!المشانق التي نصبت للعلماء إلى تعاليم المسيح – عليه السالم
األكبر من العهد الجديد والمؤسّسة الكنسية كل أولئك صاغه 'بولس الرسول' عكس القرآن الكريم
"ال يوجد نص في تاريخ:" في كتابه "المائة األوائل325"كما قال العالمة األمريكي "مايكل هارت
وبقي بحروفه كامال دون تحوير كل هذا الزمن سوى القرآن الذي،الرساالت نقل عن رجل واحد
324
SOYEZ SAVANTS, DEVENEZ PROPHÈTES : GEORGES CHARPAK, ROLAND OMNÈS- ODILE JACOB
,2005, NOVEMBRE 2005-Introduction
شهادة في الرياضيات من جامعة، أمريكي متخصص في علوم الفضاء واألقمار الصناعية والصواريخ325
وشهادة في الفيزياء من جامعة أويلفي ودكتوراه في الفلك جامعة،كورنيل وشهادة في القانون من جامعة نيويورك
برنستون وعمل في أبحاث الفضاء العسكرية في ميريالند وفي المركز القزمي لدراسات طبقات الجو في كولورادو
المصدر-وفي أكبر مرصد لألفالك في كاليفورنيا ومسؤوال علميا عن التطبيقات العلمية لعلوم الفضاء في ميريالند
33-32 ص- اإلسالم وغزو الفضاء:الالحق
264
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
نقله «محمد» األمر الذي ال ينطبق على التوراة مثال أو اإلنجيل" 326وفي فصل "الحركة العلمية
في الحضارة العربية كما يصفها الفيلسوفان ولز األنكليزي ودرابر األمريكي" من تعليقه على
كتاب "حاضر العام اإلسالمي" يقول أمير الجهاد شكيب أرسالن:
"ومن أعظم المؤلفين الذين أجادوا في موضوع "إسالم" العالمة «درابر» األمريكي المشهور
صاحب كتاب «اختالف العلم والدين» فقد كتب كتابا نادر المثال في تاريخ الحركة الفكرية
العلمية في العالم ،وما كان بإزائها من العقائد واألديان وما وقع من المصارعة بين المبدإ العلمي
والمبدإ الديني" 327ومما نقله عنه بالحرف كما نوه به ،من كتابه المذكور في الفصل الرابع "في
تجدد العلوم في الجنوب":
"وكان الخالف بين المسيحية والمحمدية في ﻫذا المقام عظيما .ألن المسيحي كان مؤمنا بدوام
التدخل اإللهي ولم يكن يعتقد بناموس أزلي أبدي يدور عليه الكون ،وكان يرجو بصلواته تغيير
سير األشياء ،وإن لم تكن صلواته مما يستجاب فبصلوات مريم العذراء والقديسين ،وبحركة
الذخائر المقدسة .وكان إذا رأى صوته ضعيفا التمس ذلك من الكهنة واألشخاص المشهورين
صدقات .وكانت النصرانية بأسرﻫا تعتقد
بالتقوى ،وأضاف إلى صلواتهم الهدايا والنذور وال ّ
بإمكان انقالب العالم بحذافيره بواسطة الخوارق والمعجزات .فأما اإلسالم فكان بالعكس ،معتمدا
على التسليم الطاﻫر لإلرادة اإللهية .فكانت صالة المسلم عبارة عن الشكر هلل تعالى على ما قدره
للعبد وصالة المسيحي تضرعا ألجل اإلنعام بالخيرات المرتحاة وكالﻫما اعتاض بالصالة عن
رياضات الهنود واستغراقهم في التأمل .فليس الوجود عند المسيحي إال سلسلة حركات فجائية
وحوادث قد تجيء متناقضة بتأثير الصلوات والقداسات التني تتجاذبها .وليس الوجود عند المسلم
إال سلسلة مفاعيل وعلل آخذ بعضها برقاب بعض .فما حركة جسم من األجسام عند المسلم إال
نتيجة حركة سابقة ،وما الفكر عنده إال وليد فكر آخر .ولكل حادث تاريخي عنده منبع في حادث
قبله ولكل عمل بشري أصل في عمل آخر .ولم يحدث في العالم اإلنساني شيء إال وقد أعد من
328
قبل .فهناك تسلسل منطقي مطرد"
326اإلسالم وغزو الفضاء :بقلم الشيخ محمد سويد -دعوة الحق -العدد -٨٨ربيع األول١٤٤١ﻫ -أكتوبر١۹١٨م-
ص١٨
327حاضر العالم اإلسالمي -المجلد األول -ص342-313
328ن م – ص340-341
265
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"وقد قال علي : 329ال ريب أن جميع أعمال العباد بيد هللا وحده .فالمسلمون الحقيقيون ﻫم الذين
يخضعون لمشيئة هللا فيوفقون بين االختيار المطلق ،وسبق قضاء هللا قائلين« :قدر علينا القضاء
وعلينا وضع ألوانه» ويقولون« :إذا شئنا التسلط على قوى الطبيعة لم يلزمنا أن نحاول مقاومتها
330
رأسا ،ولكن تعديل القوة الواحدة باألخرى» .فهذه العقيدة ﻫيأت ظويها للقيام بأكبر األعمال"
بما كنت ْم أجل إنها العقيدة التي نزل بها القرآن التي منهاجها قوله الحقْ ﴿ :
ولكن كونوا َربّانِيّينَ َ
ِتاب وب َما كنت ْم تد ُْرسُونَ '﴾(آل عمران )78عقيدة بنهجها االستخالفي العملي المأمور تعل ُمونَ الك َ
بتسخير ما في السماوات وما في األرض ،حق لها أن ال تبقى في التأمل والمستوى النظري للعقل
اليوناني ،وأن تكون منوﻫة ألﻫل العلم والدراسة ليست حربا عليهم كما حصل مع العقيدة
المسيحية المختلقة اختالقا تولى كبرﻫا بولس الرسولَ ﴿ :و َيقولونَ ﻫ َُو م ِْن عِن ِد هللاِ' َو َما ﻫ َُو ْ
مِن عِن ِد
ِب َوﻫُ ْم يَ ْعل ُمونَ '﴾(آل عمران)77
على هللاِ ال َكذ َ
هللاِ' َويَقولونَ َ
وكذلك ما اإلنسان في نسق البحث عن معناه سوى نقطة في روزمانة الخلق من أول األمر
وانبثاق البروتون مقدرة قبل ما يزيد على 34مليار ونصف سنة؛ إلى المجرات والشمس
واألرض ،ثم كانت الخلية وبداية الحياة (البيولوجية) قبل ثالثة قرون ونصف ق.م؛ فالطور
االجتماعي مع نهاية العصر الجليدي حوالي 32آالف ق.م؛ ثم ظهور طور الكتابة قبل ثالثة
آالف من الميالد؛ حتى بلوغ التسخير مرحلة التأهب للنزول على أقرب كوكب البعيد المريخ .وما
يراه اإلنسان صعودا ً إن هو في حقيقة أمره إال تنزال للخلق واألمر ،تنزال بالحق ،بهذه النظمة من
القوانين المتسقة المتناسقة القهارة التي تنتظم مجريات الكون ال يعجزها شيء؛ إنه منبنى الفلسفة
الحقة يوم كانت كاملة غير بهرج وال مزيفة ال حجر عليها ،أم العلوم ،بنى عليها الكندي
والفارابي وابن سينا ،ومنها بلغت الرياضيات والفيزياء ذروتها .دراسة الكون على مشكاة الحق.
لذلك كان قانون التفصيل وحق له أن يدمج مطلق التفلسف .ولذلك كانت أزمة نيتشه ،ومن أجله
كانت صيحة هسرل للعودة بالعقل اإلنساني إلى سابق عهد حريته ورحابة أفقه من غير إصر
اختلقه العامالن التاريخيان :الصراع األباطرة بين الكنيسة وصد دعوة الحق ،دعوة آخر أنبياء هللا
تعالى ،التي ال تتحقق إال بمواجهة وتحريف الحقيقة الوجودية .والوعي بهذا هو المسؤولية
266
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الموضوعة على عاتق أحرار العقل اإلنساني ،من أجل تنشئة طليعة هذا العود إلى الحق ،وفك
البشرية من أرسان نظامات خطاب الحقد الصليبي والغربية المسيحية المزيفة للفسلفة والحقيقة
الوجودية من جهة والنمطية الالربانية المصادرة لمنبر المنهاج والشرعة اإلسالمية من جهة
مقابلة؛ فكالهما على غير هدى .يقول أوليفر ليمان في فقرة من فقرات الفصل األول من كتاب
"مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين":
من المحتمل أن يكون هناك تأثير آخر لزيادة التجانس في الثقافة العالمية أو الحضارة ،أال
الراهنة في الغرب ال يوجد إال النزروهو توسيع نطاق المنهج الفلسفي التقليدي .ففي المرحلة ّ
اليسير من المعرفة لدى الفالسفة باألعراف والتقاليد الفلسفية التي نبعت من الشرق ،وخصوصا
تلك التي تتضمن فلسفات الشرق األقصى ،اليابان والصين والهند .بل إنه ال يوجد إال معرفة
سطحية أو اهتمام فاتر بالفلسفة التي أفرزها مفكرون غير مسيحيين في الغرب ،وبخاصة فالسفة
اليهود والمسلمين .ومع ذلك فبينما يميل معلمو الفلسفة إلى عدم االهتمام بهذه األنماط من التفكير،
331
فإن الدارسين يبدون في الغالب اهتماما بالغا ً بها»
إن هذا الحجر الموضوع على التفلسف الغربي إال من دارسين مستقلين خارجين على الميثاق
المفروض قسرا ً على ما تكون الفلسفة وما ينبغي أن يدرس من تاريخها بل ما ينبغي أن يكون هو
تاريخها ،غير الحقيقي بالطبع ،مما سطر عليه كاتب "مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين" وغيره،
وإن كان من غير إفصاح صريح عن نقض هذا الواقع لحقيقة التفلسف .وما كان من بعد هذا ،وبسالسة
مجرد دراسات
ّ مفاهيمية "الفلسفة الوضعية" ،وهذه مالحظة جديرة بالنظر أن تصبح الفلسفة أو التفلسف
تصور للفلسفة مختلف عن مف اهيمية تكاد تكون لغوية كلية ،وما كان الختالق التخصصات في حقل م ّ
جوهرها ،من فلسفة اجتماعية ونفسية وسياسية وغيرها ،ما كان لذلك أن يغير واقع الخروج عن الفلسفة
الحقة وعن الحقيقة الوجودية.
إن المنطق الكلي ،منطق كل شيء ،وكما يبرز لنا الفقه األكمل للمنطق السيكولوجي ولمجال سريانه
يكفي في ذلك داللته على النسبية ،الراجعة باألساس إلى البعد المخلوقاتي المميّز بخاصة المحدودية ،فإن
هذا هو الذي يدمج "الفلسفة الوضعية" ويضعها في ميزانه من أجل تقويم ركنها الذي تقوم عليه ،ومن
267
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الجميل بل ومن الجمال الذي للنظر العلمي المنطقي ،أن يتضح ما جاء في مقدمة "كونوا علماء تصبحوا
أنبياء":
Rien n’et plus nécessaire que donner aux jeunes celle dont ils ont besoin et
qu’ils méritent, qui fera de leurs générations des hommes et des femmes libres,
capables de comprendre eux-mêmes l’Univers qui les entoure et sa signification.
Il le faut avant que des gourous, des marchands de vengeance, des adorateurs
de légendes ou des illuminés aient le temps de s’emparer d’eux. Qu’ils aient au
contraire des savants le vrai savoir et des prophètes la lucidité et l’action
» éclairée.
فأعداء الفلسفة الحقة ،الفلسفة التي صرح هسرل وكثير من بعده إلى اليوم بواقع الخروج عن
إطارها بتغيير أسئلتها المحورية الكبرى القائم عليها جوهرها ،هؤالء والخرافيون والنمطيون
المصادرون لمنبر اإلسالم ،وإنما اإلسالم قائم على منهاج الربانية ،كلهم في نفس الخانة؛ وال
مستقبل للفلسفة وللعقل اإلنساني إال بتحقق هذا الشرط .ولقد بينا ضالل المتاجرين بمصير
اإلنسانية من الذين تولوا كبر هذا التحريف للفلسفة الحقة والحجر على التفكر والعقل خالفا ً لروح
ش ْيئا ً ان حِ ي ٌن ِمنَ ال َّد ْه ِر ل ْم يَ ْ
كن َ س ِمنهج القرآن العظيم الذي نزل فيه قوله تعالىَ ﴿ :ه ْل أتى َعلى اإلن َ
صيراً'﴾(اإلنسان)0-3
س ِميعا ً َب ِ َمذكوراً' إنا َخلقنا اإلن َ
سانَ ِم ْن نطف ٍة أ ْم َ
شاج ن ْبت ِلي ِه ف َجعَلناهُ َ
تر َّ
أن فجعل السمع والبصر وسيطين عمليين لالمتحان الوجودي .ونزل فيه قوله سبحانه﴿ :أل ْم َ
بيض َو ُح ْم ٌر ُم ْختل ٌ
ِف ٌ ت ُم ْختلِفا ً َ
ألوان َها' َو ِمنَ الج َبا ِل ُج َد ٌد س َماءِ َما ًء فأ ْخ َر َجنا ب َه ث َم َرا ٍ
هللا أنزَ لَ مِنَ ال َّ
َ
هللا مِ ْن
َ َى ش خْ ي ام نإ
ِكَ َ َ ' لكذ ُ ه ان ألو
ٌ َ ِف ل تخْ م ُ ام
َ ِ ِ ُ ع األنو َّو
د ال
ِ َ َ ابّ ِ َ و الناس م
ِنَ و
َ ٌ'
د و س ابيب
َ َ َ َ ُ ُ َر
غ و اه انألو
ِعبَاد ِه العُل َما ُء﴾(فاطر )08فهذه داللة واضحة صريحة في تقرير حقيقة "العالم" و"العلماء" ودعوة
لدرجته التي يحصل معها السمو الوجودي بالعلم ومعرفة هللا تعالى وخشيته كما نتلو فيه قوله عز
ِلم َد َر َجاتٍ'﴾(المجادلة )33ودعوة القرآن
وجل﴿ :يَ ْرفع هللاُ الذِينَ أ َمنوا مِنكُ ْم َوالذِينَ أوتوا الع َ
ومنهج اإلسالم العلمي والتجريبي عنوانه أن يستمد مبدأ االختالف لبنة المنطق والرياضيات
ض َياء البشريين من شهود الكون قرآنا منظورا ً يتلى فيه قوله تعالى﴿ :هُُ َو الذِي َج َعلَ الش ْم َ
س ِ
268
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ص ُل اآليَا ِ
ت اب' َما خَلقَ هللاُ ذلِكَ إال بال َح ّ ِ
ق'نف ِ ّ س َسنِينَ َوالحِ َ
ع َد َد ال ِ ّ
ناز َل لِت ْعل ُموا َ
َوالق َم َر نورا َوقد َرهُ َم ِ
لقو ٍم يَ ْعل ُمونَ '﴾(يونس)5ْ
وبشأن ﻫؤالء المتاجرين بمصير البشرية وﻫم يصدون عن سبيل هللا وعن الحقيقة الوجودية
بفرض منهج تحريفي في الدرس الفلسفي وتاريخ العقل البشري ،ويرغبون عن األسئلة المصيرية
لإلنسان ويدعونها "فلسفة وضعية" زاعمة فحسب علمية قاصرة ،بيّن ضاللهم من خالل المنطق
الكلي وبناء ممتدا للسيكولوجية وبأدق التعبير والمعنى للنسبية الحقائقية خاصية للمحدود
والمخلوق ،يحسن أن نسوق بعضا مما جاء في رنا على منكري معجزات النبوة من كتابنا
"الجابري دون عتبة القرآن الكريم والمرجفون في الفلسفة" في الفصل الثامن عشر من الباب
السابع ،بعنوان تحتي "معجزات األنبياء عليهم السالم والعقل اإلنساني :إيمان العقل المنطقي
وتكذيب المادية اإللحادية":
"وإذا فكما تم قبول خرق ثبات الكتلة بالصعود القوانيني ذاته ال بخرقه ،من خالل االتساع
والصعود التوحيدي للكتلة والطاقة أو للقوى الفيزيائية < :من المعلوم أن الهدف والغاية العلمية
المتوخاة من وراء التوصل إلى توحيد القوى الفيزيائية الطبيعية المحددة في:
-والقوى الكهرومغناطيسية،
-وقوى التفاعل القوي العاملة على ارتباط وانصهار مكونات النواة أي البروتونات والنوترونات
وتماسكها،
الهدف من ذلك هو الغور في فهم الظواهر الطبيعية من خالل االختزال األكثر الذي يؤدي إلى
تبسيط التمثيل القانوني الرياضي ،وبالتالي الحصول على صورة وترجمة أقرب وأكثر وضوحا
للظاهرة .وسوف يأتي مزيد من التوضيح والتبيان لهذا السلم المعياري فيما بعد.
إن هذا المقصد التوحيدي ومساره ،ما هو في واقع األمر والحقائق إال صعود مع سلم الحق ،على
نفس المنحى التحليلي والعقالني الذي كان العالم البارز الكرانج قد اهتدى إليه وأسسه في
269
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الميكانيكا عبر الصعود إلى درجة إسقاط القوى من المعادلة التمثيلية للنظام أو الجسم
332
الفيزيائي>.
فإنما الذي يحجز العقل عن قبول المعجزات هو احتجازه دون اعتبار الموضوع القانوني
والكوني متضمنا فيه كذلك عناصر وجزء النظمة الوجودية المطلقة ،الممثلة تحديدا في الرسل
عليهم السالم وفي عنصر المرسل إليهم وفي العالقة الوجودية ،والوجود كذلك علم وإدراك،
خصوصا بالنسبة للذوات العقلية المستخلفة فيه أو في جزء منه .ومن ثمة فاعتبار المعجزات خرقا
للعادة إنما هو قول خطابي نسبي ،أي العادة التي في حدودها مبلغ العلم واإلدراك اإلنسانيين؛ يقول
الحق سبحانه وتعالى{:فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم' وحاق بهم ما كانوا
به يستهزئون'}(غافر)72
إذن فاإلشكال هو في الصعود اإلدراكي للعقل اإلنساني الذي بموجبه وبحسبه يكون التحديد والحد
333
لمفهوم العلم ،وبالتالي لخرق العادة وخرق قوانين هذا العلم"
"هكذا يتبيّن أن المعجزات تصبح في حيز المنطقي العقلي بشروط العقل التالية:
-6إذا ما اتسع أفق هذا العقل ليطلق موضوع اعتباره وقانونيته وال يحجزها في الحصر المادي
كما انحصر الموضوع الفيزيائي النيوتوني؛ فليكن العلم وليكن قانونه قانون الوجود عامة وليس
قصرا له أو اعتباره بقصره في المادي .
-2أن يعتبر معيار المالءمة المنطقية في عالقة البرهان بعنصري المبرهن عليه والمبرهن له.
فرسالة األنبياء عليهم السالم شأنها شأن عظيم ،درجته درجة األقصى والالمنتهى ،فصيغة فعل هللا
تعالى هنا في دليله سبحانه وخلقه وقدرته على قدر الشأن والعلو الحكيم ،والقدرة والعلم في الدرجة
سيان؛ إنه مقام المطلق في تجلي مطلق العلم والحكمة والقدرة{:حكمة بالغة' فما تغن
النذر'}(القمر ،)1وهذا أمر يوقن به من ألم وفقه في كنه وجوهر وروح معيار التناسب كمبدإ
وروح علم المناهج أو الميتودولوجيا؛ والمعرفة تذكر والجهل نسيان.
-3حقيقة المعيار التوافقي واالحتماالتي .وهذا يبين ويبرهن على ال عقالنية وال علمية الذين
يؤمنون بمعايير العقل والمعرفة اإلنسانية كمعيار االستقراء والتواتر والتواطؤ الواقعي الحدوثي،
يؤمنون بها أحيانا ويكفرون بها أخرى؛ فهذا لعمرك هو التطرف في الالعلمية واإللحاد والجحود
واستيقنتها أنفسهم.
فلئن كان المعيار األول يهم المستوى األعلى من العقل ،وهو المعيار الناقلة العوالمية لتواجد هذا
العقل استبصارا وإدراكا ،الجوهر الوجودي لإلنسان ،ألن الوجود في جوهره كنهه الحق ،وكلما تم
332رشيد بلواد -تفصيل الخلق واألمر في سؤال حوار األديان وتفرق المذاهب الفقهية ،ابن سينا بين قصور
المتفلسفة وافتراء المتقولة -ص85
333الجابري دون عتبة القرآن الكريم والمرجفون في الفلسفة -ص007
270
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الصعود القوانيني من هذا الظاهر المادي المشهود صعدا كما نحاه الكرانج وألبير أنشتاين مثالين
تصورنا للحقيقة الوجودية أكثر وأقرب إلى الحق بقدر هذا الصعود؛ لئن ّ بارزين ،كلما تمثلنا وكان
كان هذا هو خصوص المعيار األول ،فإن معيار المالءمة المنطقية والمعيار التوافقي واالحتماالتي
لهما من البداهة في العقل اإلنساني األولي والفطرة في القوة الناطقة األولى ما يجعل التناقض
وبشدة وظهور بارز بالمرصاد ألي سعي في القول مخالف لهذه البداهة القريبة من كل قلب (أي
عقل) إنساني فطري .وهكذا فلئن كان المعيار األول ليس شأنه إال للقليل ،وليس يفقهه ويبصر به
إال أولو األلباب ،فإن أوالء الذين تنوء بهم مقولة عدم جواز خرق العادة أو القانون الطبيعي ولم
يجدوا عنها حوال ،أوالء ال مراء ما كانوا يستطيعون إبصار المعيار األول وال هم من أهله ،ولو
كان منهم من هم في عداد الفالسفة عند الناس والخبراء وعلماء المختبرات .وإنهم لما قصرت بهم
عقولهم عن المعيار األول لم يكن لهم من القول في معجزات النبوة الواردة في الكتاب سوى أنه
مجرد تالقي وتوافقات ألحداث طبيعية ،استغلها رجال الدينّ أساطير ،وتخيل وخداع وسحر ،أو
وصانعوه فجعلوها في كتبهم وأديانهم المصطنعة خوارق ومعجزات .بل زعموا أن تدمير قرى
مجرد توافق وصدفة حدوثية لزلزال عنيف ،جعل عاليها سافلها وأمطر عليها قوم لوط إنما كانت ّ
حجارة من سجيل منضود مسومة ،تزامن هكذا في تواطؤ احتماالتي ال غير؛ وأن انشقاق البحر
لكليم هللا موسى عليه السالم وبني إسرائيل خائفين من أن يدركوا وهم متبعون من فرعون وجنده،
أن ذلك والقائل والمفسر لهذا هو السيد بول تابونيي مدير قسم التكتونية (البنائية) في معهد فيزياء
الكرة األرضية لباريز 334يقول < إن التفسير األكثر معقولية والذي أمكن قبوله هو حدوث تيار
بحري بسبب زلزال في عمق البحر ،نتج عنه تراجع المياه ثم أعقبه موجة ضخمة> لكن يقول
الكاتب مدير القسم التكتوني مستدركا ومتسائال ،ولعله حوار بين عقله الفطري وما سماه الفارابي
رحمه هللا بالعقل الهيوالني والعقل المنفعل وعقله المهجن ،لكن يتساءل وال نراه يتعجب إال من
قوله< :لكن المشكل الوحيد هو أن هذا (يعني تراجع المياه) ال يستغرق سوى بضع عشرات
الدقائق ،الوقت الذي يكفي فقط لمرور قافلة كبيرة واحدة ،مما يتفق مع عناصر تاريخية أخرى
(اعتبار الغياب لآلثار األركيولوجية خاصة) التي تقول بأن النزوح أو الخروج لم يهم إال عددا
قليال من األشخاص 335 >.وإن هذا بحذافيره هو الذي يدرسونه في مؤسّساتهم ومعاهدهم المسماة يا
للمفارقة بالالئكية والعلمانية ،وما هي بعلمية يقينا؛ فهم أجمعوا على الكفر واإللحاد وتقاسموا عليه.
وإن كان في قولهم من التناقض ما هم شاهدون عليه ،فال جرم إذا أن تجد من التناقضات ما هو من
الوضوح مثل ما هو عند ابن عاشور الذي في نفس الوقت يدافع عن تواتر الخبر ويقول في آخره
336
مجرد تخيل ،وإنما الداخل عليه هو الموجه".
إنه ّ
334
Paul Tapponier directeur de département de Tectonique de l’institut de physique du
Globe de Paris
335
SCIENCES ET AVENIR La Physique des miracles DECEMBRE 1997 HORS SERIE
336الجابري دون عتبة القرآن الكريم والمرجفون في الفلسفة – ص003-008
271
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والتحدي الذي تواجهه الفلسفة ،هو أن النهج التحريفي الذي تحدثنا عنه وأن الموجهين والقائمين
عليه هم والظالميون المصادرون لمنابر الدين بغير حق في الجرم بحق البشرية سواء ،هو أن هذا
النهج هو الذي عمل واجتهد االستعمار والكولونيالية الظاهرة إلى اليوم على تثبيته وترسيخ أكاذيبه
وأساطيره بشأن حقيقة الفلسفة وتاريخها:
الكاتب الجابري وبعد أن أنكر وجود فلسفة عربية َ «لكن العجيب الذي ليس أعجب منه ،هو َّ
أن
إسالمية محضة وكونها نقال لفلسفة قوم آخرين ،وأنطق الفارابي بعد ألف ومائة عام بقول ال يترك
إن هذا للعرب دينا ُمست َقال كون اإلسالم بمتقوله إن هو سوى المسيحيّة منقولة ُمعدلَة ُم َ
ص َّح َحة َّ ، َ
الرجل الكاتب ،أي الجابري هو الذي قام في ذكراه يَذْكُ ُره بلقب' فيلسوفنا األعظم' وال ندري ما
337
ّ
الجماعة الدّالة عليها 'نا' ،وهو الذي قال:
>إن القارئ هنا ليس الفارابي كفرد من أفراد المجتمع يحسن التهجي والفهم ،بل القارئ هو
سياسية واالجتماع ّية والتاريخ ّية، الحضارة العربيّة اإلسالم ّية ،بكل أبعادها ال ّروح ّية والفكر ّية وال ّ
338
ممثلة في شخص الفارابي الفيلسوف<
ويستقر في
ّ العالمين منطق في يصح كيف لكن . اليونانية هو يعني قراءة الفكر اليوناني والثقافة
عقول المستخلفين أن يجعل الجابري رجال يمثل' الحضارة العربيّة اإلسالميّة' ،بكل أبعادها
قوله
َّ إذ الروحية والفكريّة والسّياسية واالجتماعيّة والتاريخيّة منكرا ألمر وحقيقة دينها ورسالتها، ّ
َ
أن ال دين وال إسالم إال مسيحيّة معدلة مصححة ،ثم يكون هو ُم َمثله؟!
رحم هللا أبا نصر الفارابي وجازاه بخير ما عمل وتجاوز عن سيئاته!
وإن هذا االمتهان للسفسطة والكذب على الحق وعلى التاريخ تحت العقيدة اإلديولوجيّة من خالل َّ
اإلغراض في األلفاظ ال يد ّل إال على أمرين ،األول العجز العقل ّي الح َجاجي ،والثاني خسَّة العقيدة
اإلديولوجيّة ،وحقيقة االحترافية السّياسية تحت لبوس ممارسة الفكر والفلسفة«.339
إذن لقد اتضح لنا جيدا أن حل المسألة سبيله ومسلكه ال يتعدد بحسب ما للعقل البشري الجمعي
من إمكان وسعة عقلية بالمعنى المعلوماتي للعقل كجهاز تفكيري ومنطقي رياضي .ولقد بينا في
كتابنا "جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي ..أو المسلمون والتاريخ" بينا سريان المعيارية
تصوره بادئ الرأي .السبيل الوحيد ﻫو الرياضية إلى دقيق األبعاد اإلنسانية فيما ال يتهيأ تقبله و ّ ّ
التحليل التاريخي لتتبع وتعيين مواقع الوﻫن والخلل التي منها تسلل فيروس التخلف والهزيمة
والفتنة في الدين وافتقاد التواجد التاريخي.
337نحن والتراث -قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي -الدكتور محمد عابد الجابري -المركز الثقافي العربي-
الطبعة السادسة -3331 ،ص11
338ن م – ص12
339د .طه عبد الرحمان في الميزان – ص512
272
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لكن السّؤال الخطير والخفي في مفارقة أخطر وأشد خفاء :ما التاريخ؟ أو ما ﻫو ﻫذا التاريخ
الذي يتحتم على المتصدي ألزمة العقل العريي اإلسالمي التي ﻫي الترجمة ألزمة األمة العربية
مكوناته ومفاصله؟
اإلسالمية ،ما ﻫو ﻫذا التاريخ الذي ينبغي تحليله وما ﻫي أبعاده و ّ
والحق ،إن األزمة هي أزمة معنى أساس العلوم ،ومعنى كل وجود بشري ،أو أزمة غياب هذا
المعنى .فالعلوم الوضعية في أوج ازدهارها ال يمكن أن تجيب عن أسئلة اإلنسانية كنتيجة طبيعية
لوضعيتها ،أي لطرحها جانبا كل سؤال عن المعنى وكل ميتافيزيقا.
273
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
274
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الباب الثالث
ونأيه عنها
275
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل األول
276
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صة منذ ظهور االستشراق عربيا وشيوع «ﻫذا المصطلح ﻫو مصطلح استعمل حديثا ،خا ّ
الكتابات حول التراث منذ عصر النهضة ،فالمطلع على الكتابات الدينية والفلسفية واألدبية
أن أسالفنا كانوا يستخدمون ،عندما يتكلمون ع ّمن سبقهم ،ب"علوم األوائل"، القديمة ،يجد ّ
340
"األقدمين"" ،السلف" ،وغيرﻫا من المفاﻫيم الرائجة تراثيّا »
التراث كمسرح لرغبات الحاضر :البحث عن عقالنية "إسالمية" – وجهات نظر :كريم محمد -موقع حفريات 340
277
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إنما كان اهتمامنا في هذا العمل بالحقيقة الوجودية ،فجعلناها القاعدة البنائية واألساس ألمرين
تكرارا لما ال يُحصى من األعمال والكتابات في موضوع االستشراق. ً اثنين :أولهما أن ال يكون
وألجله تحديدا ً لم نحرص على ذكر وسرد كل ما هو من هذا الجانب النقدي التاريخي ،تأريخا ً
وأعال ًما وخلفيات تبشيرية واستعمارية وغير ذلك من المادة الموضوعاتية المعلوماتية والمعرفية؛
فذلك قد ت ّم وأنجز حتى الغناء في هذه الكتابات العديدة والكثيرة .واألمر الثاني ،وبديهي أنه في
وصل استنباطي باألول ،حيث ينتفي التكرار ويتحقق الخروج من حقله ،بمجاوزة المادة
طرا؛ ليس يقصر صعود إلى المستوى القانوني البرهاني ،وليع َّم المخاطبين ًّ الموضوعاتية وال ّ
البرهان على العرب والمسلمين ،بل يمتد إلى غيرهم من مطلق وعموم من يسمع ويعقل.
تصور في أوضح ما يكون ومطلقية البرهان وعموم مجال خطابه كفله كون مرجعه يستوفي ال ّ
صناعي ،وههنا استيفاء الرسم ال ّ
تصور ،كما يحصل االستيفاء التقطيعي في ّ لإلنسان العاقل من ال ّ
حقل الخطاب بالتقطيعين -على هيئة معينة -للحقيقة الوجودية ،التقطيع الحفرياتي والتقطيع
سا في البيان الفلسفي والعلمي ،له قوة المنطقي؛ وبه تستوسق حقيقة االستشراق مفهو ًما أسا ً
صراع الحضاري الفكري من حيث الخلفية لطبيعة العالقات تفسيرية قصوى في فضاء ال ّ
واستجالئها في حقيقتها السّياسية والتاريخية .وكذلك ببلوغنا بالحقيقة الوجودية المنطق الكلي في
كمال التوافق مع علم هللا تعالى األول واآلخر سبحانه منتظما ً مع التكليف والمسؤولية االستخالفية
الجزائية ،نكون قد برهنا على عدم علمية االستشراق القائم ،على اإلنشائية المؤسّسة على تحريف
حقائق الواقع والتاريخ ،وعلى التراثية واألنتربولوجية ،الالمتوافقة مع الربانية منهاج دين
اإلسالم ،الرسالة التي أرسل بها خاتم النبيئين والرسل -عليه وعليهم الصالة والسالم! -ذلك ما
تدل عليه حقائق تاريخ المسلمين.
فالحقيقة الوجودية حين تثبت "اإلسالم" دينا ً قيما ً ملة إبراهيم حنيفا ً ،وليس بدعا ً من القول وال
صة اإلطالق لكتاب "االستشراق" إلدوارد أساطير ،تعطي ما هو بمثابة المرتكز القاعدة ومن َّ
سعيد ،ومن جهة أخرى أهم ما تعلو به ،أي باإلسالم ديناً ،عن أن يعتبر تراثا ً ،كما هو الهدف
278
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صيغة التقطيعية الحفرياتية -المنطقية ،هي صيغة تقطيعية تفصيلية لبنية عملنا في "تفصيل ال ّ
صة لمقولة "حوار األديان" ولتعدد المذاهب الفقهية .وال نعني أو الالخلق واألمر" المبطل خا ّ
صياغة على معنى أو حقيقة جوهرية ،إنما ذلك ينبغي حمل لفظي "التفصيل" أو "التقطيع" في ال ّ
فقط إجراء عملي على مستوى النظر والتحليل؛ فالحقيقة والحق واحد ،والتجزيئية مميّزة للمخلوق
الرياضياتصة للعقل اإلنساني تجزيئية نقطاتية ،منبنى المنطق و ّفي وسيلة إدراكه وهي خا ّ
البشريين وللتفكير البشري على االستنباط والتبع ،وقد تبين أن هذا هو عين صبغ الفن واإلبداع
البشري.
تراث [مفرد]:
".ما يخلفه الميت لورثته" ﴿وتأكلون التراث أكال لما﴾ تضمون نصيب غيركم إلى نصيبكم".
.كل ما خلفه السلف من آثار علمية وفنية وأدبية ،سواء مادية كالكتب واآلثار وغيرﻫا ،أم
معنوية كاآلراء واألنماط والعادات الحضارية المنتقلة جيال بعد جيل ،مما يعتبر نفيسا بالنسبة
لتقاليد العصر الحاضر وروحه "التراث اإلسالمي /نشر األدب العربي القديم واتخاذه مثاال رفيعا
279
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
في اإلنتاج األدبي وﻫو يعد في األدب العربي الحديث مظهرا من مظاﻫر النهضة في القرن
التاسع عشر ،علم تحقيق التراث :علم يبحث فيما تركه السلف مكتوبا وإعادة نشره بشكل واضح
ومنظم وموثق».
وفي مجلة سطور « :ويمكن تعريف التراث اإلسالمي على أنه كل ما خلفه المسلمون من عقيدة
341
دينية متمثلة في القرآن والسنة ،والعطاءات الحضارية سواء مادية أو معنوية»
صبغ الداللي للجذر المعجمي لمادة التراث ،إن جاز التعبير على ضبط المعنى المراد ،أﻫم
ال ّ
أسسه التركيبية المِلكية أو التملك وفروط أصله وانصرامه:
تملك
التراثية
تصرم
ّ
فهل حقا ﻫذان الشرطان الصّبغيان في "التراث" عنصرا لغويا حاويا داللة محددة في ميزان
المخرق من مفهوم "التراث"
ّ البيان ،ميزان بيان اإلنسان في لغته ولسانه ،ﻫل يستوفيهما ﻫذا
وشبه مفهوم "التراث اإلسالمي"؟
280
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
«أشار الناقد الثقافي المرموق ،ريموند ويليامز ( ،)3388-3303في كتابه األساسي "الكلمات
المفاتيح" ، 342عندما جاء عند مصطلح تراث ، 343أو تقليد؛ إلى أن ﻫذا المصطلح ،بمعناه الحديث،
صعوبة النظرية لتحديد ما يعنيه "التراث" ،إال أن وليامز يتتبّع
"صعب بشكل واضح" .ورغم ال ّ
ّ
ي لهذا المصطلح؛ األمر الذي يدل على اختالف وتطور المراحل المستخ َدمة في السّياق اإلنجليز ّ
وتنوع االستخدام الداللي للمصطلح "تراث". ّ
صعوبة الج ّمة عندما نريد أن نحدّد ﻫذا المصطلح في تفيدنا إشارة وليامز ،على قِصرﻫا ،بأن ال ّ
صة منذ ظهورأن ﻫذا المصطلح ﻫو مصطلح استعمل حديثا ،خا ّ التداول العربي ،نظرا إلى ّ
االستشراق عربيا ،وشيوع الكتابات حول التراث منذ عصر النهضة ،فالمطلع على الكتابات
أن أسالفنا كانوا يستخدمون ،عندما يتكلمون ع ّمن سبقهم، الدينية والفلسفية واألدبية القديمة ،يجد ّ
ب"علوم األوائل"" ،األقدمين"" ،السلف" ،وغيرﻫا من المفاﻫيم الرائجة تراثيّا.
وألن البحث الفيلولوجي عن ماﻫية التراث ،يخرج بنا ع ّما تحتاجه وترومه ﻫذه المقالة ،فإننا
سنركز ،باألساس ،مكتفين باإلشارة السابقة ،على صعود االﻫتمام االستشراقي أوال ،والعربي
ألن البحث في ،أو البحث عن ،التراث ما ثانيا ،بما يس ّمى التراث العربي أو التراث اإلسالمي؛ ّ
يزال رائجا عربيا ،لم ينتهِ ،منذ النهضة العربية وحتى اليوم.
لكن ،كانت عملية صنع التراث اإلسالمي من قبل المتخيّل االستشراقي تنطوي على إستراتيجيّتين ال
ب ّد من أيضا ًحهما:
342
Keywords
343
Tradition
281
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
اإلستراتيجية الثانية ،ويمكن تسميتها "إستراتيجية الفصل" :وهي عدّ التراث اإلسالمي خارجا ً
ي ،وهذا ما يم ّهد من إضفاء أحكام مركزية وجوهرانيّة على هذاعن تاريخ اللوغوس األوروب ّ
ي ،وال يعترف بحريّة اإلنسان ،إلى آخر األحكام
ّ ديمقراط وغير التراث ،كأنّه تراث همج ّ
ي،
الناتجة عن بعض تيارات االستشراق في صورتها المتوحشة ،واألكثر يمينيّة ،كبرنارد لويس
ومدرسته.
ورغم ما يبدو بين اإلستراتيجيتين من تناقض؛ أي بين دمج وفصل ،غير أنهما ملتحمان
ضمن تراثات أخرى ،وإفقاده أيّة أصالة يتمتع بها ،مع جوهريّاً؛ حيث يت ّم دمج التراث اإلسالمي
مر
فصله ،في الوقت ذاته ،عن تراث واحد ووحيد يقبله الغرب؛ أال وهو التراث اليوناني؛ الذي ّ
عبر تراث وسيط ،وهو التراث اإلسالمي ،لنشوء ما نس ّميه اليوم "الحداثة الغربيّة".
أن تهجين التراث اإلسالمي وفصله عن التراثات األخرى، يتضح من اإلستراتيجيتين السابقتين؛ ّ
ليس سوى موقف ناجم عن مركزية أوروبية متشنجة .وهنا يختلط المعرفي باأليديولوجي؛ ّ
ألن ال
تصورا ً ما لنفسه
ّ معرفة دون تحيّزات داخلها ،ودون "خطاب "ينشئه الغير عن اآلخر ،يضمر فيه
ولغيره.
يمكننا القول ،باالعتماد على دراسة الراحل إدوارد سعيد عن االستشراق :إنّه ال يمكن فهم ما
ي في
صنعه االستشراق حول ما يس ّمى التراث اإلسالمي ،إال في ضوء نزع المشترك اإلنسان ّ
المعرفة والحضارة اإلنسانيتين ،وإلغاء خطوط التواصل ،للتأكيد على المركزية األوروبية؛
فصناعة شيء مستقل اسمه "تراث إسالمي ،أو تراث صيني ،أو تراث هندي... ،إلخ" ،ليس إال
و"شرقنة الشرق" ،أي التأكيد على "التمايزات المعيارية" بين جملة "تأكيدا ً على "غربنة الغرب،
المعرفة البشريّة التي أنتجها ك ّل تراث من ناحيته ،ورؤاه المعرفية وموقفه األنطولوجي
[». ]5
345 344
344
إدوارد سعيد ،االستشراق ،ت .محمد عناني ،دار رؤية – المرجع-
التراث كمسرح لرغبات الحاضر 345
282
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إنه التأطير التاريخي وإنه اإلنشاء واالصطناع التاريخي ،وﻫو من أجل تضمينه حقيقة ﻫذا
لمفهوم مختلق للتراث
ٍ التأطير وصيغة ﻫذا االصطناع ،إنه التشكيل التاريخي لمحدث وظيفي
بحبكة محكمة في االحتواء واإلدماج.
صليبي ممثال في المسلمين والعرب مادتهم الشرق وصلبه التاريخي في األنا الغربي ال ّ
مكونا في الالشعور الغربي وعامال ال ينتفي أبدا في اعتبار ﻫذه األنا، التاريخية ،ﻫذا الذي أصبح ّ
ﻫذا الذي مأل أوربا ُر ْعبا وكادت في حين من الدﻫر أن تصبح أرضا إسالمية إلى األبد ،ﻫو اليوم
كأنه جثة بين مبضع الغرب يفعل ويرسمه ويشكله كيفما يشاء.
ي ح ّد كيفما اتفق من حدود الق ّوة الردود وال على أ ّ ي من ّ إن رد الفعل التاريخي ﻫذا ليس كأ ّ
واإلحكام؛ إنه على ذات الدرجة التي تحكم بها في بنى الطبيعة وتسخيرﻫا ،كذلك أقسم أن يجرد
القوة ومن رباط الخيل تعطيال لما أمرﻫم به ربهمَ ﴿ :وأعِدوا ل ُه ْم َما عدوه من أي مصدر من ّ
عدُوك ْم َوآخ َِرينَ ْ
مِن دُونِ ِه ْم ال ت ْعل ُمون ُه ْم' اسْت َ
ط ْعت ْم م ِْن قوةٍ َوم ِْن ِربَاطِ ال َخ ْي ِل' ت ُ ْر ِﻫبُونَ ب ِه َ
عدُو هللاِ َو َ
سبي ِل هللاِ ي َُوف إليْك ْم َوأنت ْم ال ت ُظل ُمونَ '﴾ وال أ ّ
ي سهم وال هللاُ يَ ْعل ُم ُه ْم' َو َما تنفِقوا م ِْن َ
ش ْيءٍ فِي َ
الناس
ِ موطئ قدم على مسرح الفعل التاريخي رسالة استخالفية شهوديةِ ﴿ :لتكونوا شُ َه َدا َء َ
على
لناس تأ ُم ُرونَ بال َم ْع ُروفِ
ت ِل ِ ش ِهيدا'﴾(البقرة ﴿ )132كنت ْم َخ ْي َر أم ٍة أ ْخ ِر َج ْ عل ْيك ْم ََويَكونَ الرسُو ُل َ
ثرﻫُ ْم
ب لكانَ َخ ْيرا ل ُه ْم' ِمن ُه ْم ال ُمؤ ِمنونَ ' َوأك ُ نكر َوتؤْ ِمنونَ باهللِ' َو ْلو آ َمنَ أ ْﻫ ُل ال ِكتا ِ ع ِن ال ُم ِ َوتن َه ْونَ َ
ص ُرونَ '﴾(آل عمران )111..102والتاريخ أو ار ثم ال يُن َ الفا ِسقونَ ' َو ْ
إن يُقا ِتلوك ْم يُ َولوك ْم األ ْد َب َ
الفعل التاريخي إنما ﻫو صراع الحاضر وصراع العصر في المدافعة ،وليس في الفعل التاريخي
رم.
قيمة حقيقية إذا ما خرجت عن اآلن والحاضر والعصر؛ ال فعال تاريخيا في حيّز ال ُمنص ِ
ﻫذا وحده ﻫو المتوافق منطقيا ،أو بتعبير أوضح ،ﻫو الكاشف وحده لوظيفة مفهوم "التراث"
مصطنعا في معالجة تشكيلية إصرية للعقل العربي اإلسالمي تفكيرا وعمال ،من خالل حصره في
حيّز مراد له .يقول هوفمان إستنجل:
"إننا يجب أن نكسب وجهات نظر جديدة لعقائدنا المسيحية بناء على فهمنا العميق للتعاليم
اإلسالمية ،وفهمنا لنفسية المسلم المتدين ،وذلك حتى نتجنب نقاط الضعف فيما يستخدمه من أدلة
حتى اليوم ،وحتى نبني من جديد دفاعا جديدا ً عن العقيدة المسيحية ،دفاعا ً يضع في حسابه روح
283
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
اإلسالم والتطور الفكري للمسلمين فيما يتعلق بعقائدهم خالل ما يزيد على ألف عام ،وقد جرى
هذا االتجاه في ظل الخطة التي عمل االستشراق لها منذ وقت بعيد ،وهي أن يضع لكل مسألة أو
قضية أو معضلة إجابة مستم ّدة من محاولته المعتمدة لتغير مجرى الفكر اإلسالمي وإخراجه من
هدفه الحقيقي وغايته األساسية" .
347 346
نو ﻫنا عليه من درجة في اإلحكام والتقدير الدقيق البالغ في النهج والعلمية ،حتى
وبالطبع وكما ّ
إن ﻫذا العقل موضوع المعالجة يرى فيما مخطط له ،يرى فيها دربا من السير النافع ومسلكا من
مسالك الخروج من المأزق .إنه صراع موجتين متقابلتي المنحى ،صراع مخطط في طرف،
واآلخر إرادة ،لكن ﻫذه اإلرادة مدمجة في المخطط يحصرﻫا حصرا ﻫو في المنهج والمخطط
صبغة الجوﻫرية مكونا غاية وخلفية ،معتمدﻫا أو مرتكزﻫا الهندسي الحامل ﻫو بالذات ﻫذه ال ّ
ّ
التي للداللة الفيلولوجية ل"التراث" ،الداللة الملزمة لمن يأخذ به ويقرره ويعمل على محوره؛
فزاوية العمل والجهد ،محسوبة ومقدر أمرﻫا في المخطط تقديرا؛ إنها صبغة "االنصرام" أو
"االنصرامية" الموصولة بعالقة المطاوعة واالنعكاسية ب"الصرم أو الصرم" على خط داللة
ي .ومنه تتجلى المعالجة المفاﻫيمية كونها سعيا في عمليةالقطع واالنقطاع والذﻫوب وال ُمض ّ
سر المقولة المحورية في عقول! النخبة إياﻫا ،مقولة بوأت القطع والتقطيع؛ ومنه بالضبط ينجلي ّ
منزلة شعار األستاذية في الزمن الكولونيالي االستعماري" :القطيعة مع التراث" ،مقولة ما الكت
صورين، أكثر منها أتباع فكر مخلصة ألساتذتها وأوصال .والحق إنه الصراع بين فكرتين وت ّ
صليبي
تصور إيجابي من منظار نسبي ،وكال النظرين نسبيان ،والمقابل فهو المخطط ال ّ ّ
االستشراقي من وراء الدعوة إلى االﻫتمام بالتراث ،دعوة المسلمين والعرب إلى االﻫتمام
بتراثهم!
وظيفة التراث
« وإن اتفق أعالم هذه المرحلة فيما ذكرت ،فإن أبا فهر محمود محمد شاكر يقف وحده من
بينهم ،وينفصل عنهم بأمرين ،األول :أنه صاحب قضية صحبته وأرقته منذ النأنأة – أي منذ
346مناهج المستشرقين في ضوء العقيدة اإلسالمية ص ،١١عن مقدمات العلوم والمناهج أنور الجندي،٤١/٤
التبشير واالستشراق والدعوات الهدامة ،دار األنصار.
347المستشرقون ومنهج التزوير والتلفيق في التراث اإلسالمي -طارق سري -مكتبة النافذة -ص13
284
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صباه ونشأته األولى – وهي قضية أمته العربية ،وما يُراد لها من كيد في لغتها وشعرها وتراثها
صة في كتابيه :أباطيل وأسمار ،ورسالة في كله ،وقد أبان عن هذه القضية في كل ما كتب ،وبخا ّ
الطريق إلى ثقافتنا ،ثم نثرها فيما دق وجل من كتاباته ،وما برح يعتادها في مجالسه ومحاوراته،
يهمس بها حيناً ،ويصرخ بها أحيانا ً أخرى ،ال تفرحه موافقة الموافق ،وال تحزنه مخالفة
المخالف.
ولقد حكمت هذه القضية الضخمة أعمال أبا فهر كلها ،وهي التي وجهته إلى تحقيق التراث،
فكان عمله في نشر النصوص جزءا ُ من جهاده في حراسة اللغة العربية والذود عنها ،سواء فيما
348
نشره هو ،أم فيما حث النَّاس على نشره وأعانهم عليه».
« وإنك ال تجد أمة تستهين بتاريخها وعلومها ومعارفها كالذي تجده من بعض أفراد أمتنا اآلن،
وقد كان الهجوم على علومنا ومعارفنا يسمع من بعض من ينتسبون إلى األدب ،من أحالس
المقاهي وس َّمار الليالي ،ثم صار اآلن يسمع مجلجال في قاعات الدرس الجامعي :هجوما كاسحا ً
أكوال على الشعر العربي والنحو العربي والبالغة العربية – «بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه»-
ويقول هؤالء لتالميذهم :إن الكتب القديمة حفائر وأكفان موتى ،وقد غاب عن هؤالء أمران:
أولهما أن رموز (التنوير) الذن يتحدثون عنهم اآلن قد خرجوا من عباءة هذا القديم ،كما
ذكرت من قبل.
يقول مصطفى صادق الرافعي« :ومما ترده على قارئها تلك الكتب تربيته للعربية أنها تمكن
صفات التي فقدهاوالتورك في البحث والتدقيق في التصفح ،وهي ال ّ
ُّ فيه للصبر والمعاناة والتحقيق
أدباء هذا الزمن فأصبحوا ال يتثبتون وال يحققون ،وطال عليهم أن ينظروا في العربية ،وثقل
عليهم أن يستبطنوا كتبها ،ولو قد تربوا في تلك األسفار وبذلك األسلوب العربي لت َّمت المالءمة
بين اللغة في قوتها وجزالتها ،وبين ما عسى أن ينكره منها ذوقهم في ضعفه وعاميته ،وكانوا
أحق بها وأهلها.
285
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وذلك بعينه هو السر في أن من ال يقرأون تلك الكتب أول نشأتهم ال تراهم يكتبون إال بأسلوب
منحط ،وال يجيئون إال بكالم سقيم غث ،وال يرون في األدب العربي إال آراء ملتوية ،ثم هم ال
يستطيعون أن يقيموا على درس كتاب عربي فيساهلون أنفسهم ،ويحكمون على األدب واللغة بما
يشعرون به في حالتهم تلك ،ويتورطون في أقوال مضحكة ،وينسون أنه ال يجوز القطع على
الشيء من ناحية الشعور ،ما دام الشعور يختلف في النَّاس باختالف أسبابه وعوارضه ،وال من
ناحية يجوز أن يكون الخطأ فيها ،وهم أبدا في إحدى الناحيتين أو في كلتيهما - ».مقدمة شرح
أدب الكاتب للجواليقي ص– 4
فهذه إحدى الطوام :الطعن في كتبنا واجتواؤها واإلزراء بها .وثانية أشد وأعجب – وكل
األمور عجب : -يأتيني أحد طلبتي فيعرض علي شيئا من شعره فأقول له :يا بني هذا شعراً ،هذا
عجن وتخليط ،فيحاجني بنماذج كثيرة تعج بها جرائدنا ومجالتنا ،مصحوبة أحيانا ً بتحليل وثناء
لبعض كبراء أدبائنا وأساتذتنا وزمالئنا الجامعيين ،يرفعون بكالم حلو خسيسة كالم هزيل:
وإن تعب قلت :ذا قيء الزنابير تقول :هذا مجاج النحل تمدحه
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما حسن البيان يري الظلماء كالنور
ونعم ...لقد جاوز األمر حده ،وأصبح واجبا على كل ذي عقل أن يقف أمام هذا السخف ،إن هذا
الذي ينشر على أنه شعر إنما هو امتهان للعقل؛ من حيث كان استخفافا باللغة وهزءا ً بنطامها
وأعرافها .وقد قرأت ذات يوم في جريدة كبرى كالما لشاعر يقول فيه« :نرفو أعراف الديكة
فوق شرائح السمك البلطي» هكذا قال ،وأنا أقول :لماذا سمك البلطي بالذات؟ أألنه عريض؟ إن
349
«سمك موسى» أعرض منه! »
"خدمة تراث األمة ،والنهوض بثقافتها ،ونشر لغتها ،وم ّد إشعاع الحضارة اإلسالمية إلى
350
مختلف اآلفاق"
286
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"إننا إذ نقول يجب أن نحيي تراثنا لنحياه ،ابتغاء التميز بطابع يصل حاضرنا بماضينا ،فليس
المراد هو أن نعيد طباعة الكتب لتوضع على الرفوف ،بل المراد هو أن نعيش مضمونها على
نحو يحفظ لنا األصالة ،وال يفوت علينا روح العصر؛ وإن لنا لتراثا عن العلم والعلماء ،يكفل لنا
351
أن تنقدم في ثقة مع المتقدمين :موضوعنا علم حديث ،وخصالنا من إرث عزيز".
وأما الثاني أو الموجة المعاكسة فهو ما جلوناه في قضية جمال الدين األفغاني -رحمه هللا!:-
والمعري
ّ واألسمار ال تنحصر في قضيتي المتنبي
ُ « -2األباطي ُل
أن قيض رجاال مثل األستاذ محمود شاكر فحمدا هلل تعالى الذي له الحمد والمنة في الخير كله ْ
صليبية ال شك في ذلك لألحياء وبقية الشهود من ﻫذهرحمه هللا لكشف ﻫذه الجبهة في الحرب ال ّ
األمة .إنها جبهة ما بعد الغلب العسكري ودمار حقيقة السيادة على األرض والعباد إلى دمار
صليبية ممسوحا من القلب والفكر والهوية العربية اإلسالمية ،فيصبح كل شيء مادة بين يدي ال ّ
أي مسحة من العروبة ومن االنتماء إلى الدين الذي جاء به نبي العرب صلى هللا عليه وآله وسلم،
المرسل إلى العالمين ،إال من غطاء ورسوم ال جوﻫر تحتها إمعانا في الغلبة وإحكاما ،لتكون ﻫي
صليبيين قد وجبت جنوبها!!
القاضية :ﻫذه ﻫي أمة محمد يا معشر ال ّ
صليبيين وأنامل
أجل لقد كشف محمود شاكر ﻫذه الجبهة ،بل وأشار ُمعَيِّنا رؤوسها من ال ّ
أصابعها من بني جلدتنا الممسوحين القائمين على الشأن الثقافي والفكري الموجّهين والمعلمين
والمنشئين .بيد أنه يجب علينا معشر العرب المسلمين أن ننتبه كون ﻫذا الكشف ﻫو في ذات
مستقرة فينا كأنها حقائق وما ﻫي في الحق وفي السماءّ الحال كشف عن وجود أباطيل وأسمار
واألرض إال تحريفات وأكاذيب .واألخطر ﻫو الكشف عن إمكان غير يسير في إيجابية المفعولية
287
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
أو القابلية للعُقول والعقل الجمعي لهذا التحريف والكيد ،اللذين باتا يا لهول المصيبة ﻫما ال ُمحددين
والموجّهين وال ُمعلمين حتى.
إذن من البديهي عند العقالء واألحياء أن ﻫهنا إمكانا لمواقع مستهدفة غير التي انتبه إليها
محمود شاكر وغيره .ومن البديهي أيضا عند العقالء واألحياء أن المواقع المستهدفة ﻫاته تكون
قوة المسلمين ،وليس في ذلك أخطر من صليبي بقدر خطرﻫا وأثرﻫا في ّ أﻫميتها عند العدو ال ّ
سخ َر لك ْم َما فِي
اوات واألرض في علم التسخيرَ ﴿ :و َ مصدرﻫا ومرتكزﻫا الذي جعله رب الس َم َ
ِقو ٍم يَتفَك ُرونَ '﴾(الجاثية )12ولهذا قلنا
تل ْض َجمِيعا مِ ْنهُ' إن فِي ذلِكَ آل َيا ٍاألر ِ
اوات َو َما فِي ْ
الس َم َ
سابقا أن نشر كتب ابن تيمية وكتب العقيدة وتحقيق ما يسمى خطأ بكتب التراث -وإنما ﻫي معالم
الربّانية كركن أساس لالجتهاد والعقل الفقهي -إلى ح ٍ ّد َما أوفى ﻫو من األﻫمية بمكان ،ولكن ّ
االقتصار عليه ﻫو إخالل بالمنهاج الذي أنزل به ﻫذا الدين وعليه يكون قيام ﻫذه األمة وقوتها
بقوة وعزة وغلبة:
وشهوديتها ّ
«يمتاز اإلسالم عن األديان األخرى ...وبأن أحكامه ال تقتصر على شؤون اآلخرة فحسب،
بل تتعداﻫا وتهتم بشؤون الدنيا كثيرا ،ألنه يسهدف أن يقود البشرية إلى حياة اجتماعية وسياسية
سياسية،
واقتصادية ومدنية واعية؛ لذلك عالج القرآن الكريم المسائل االجتماعية واالقتصادية وال ّ
مثل الزواج والطالق والميراث ،وطريقة استثمار الثروة والمسائل االقتصادية والعسكرية ...
وأينما يُرى في العالم اإلسالمي تقهقر وانحطاط فمرجع ﻫذا بال ريب ألناس ابتعدوا عن
الدين...
ونكرر القول مرة أخرى أن الدين اإلسالمي يرفض كل فكرة أو كل أساس أو مذﻫب يحاول
قصر أعمال اإلنسان على اآلخرة وحدﻫا ،حيث شُرع كما قلنا للدين والدنيا معا فهو إذن دين
352
صالح الدنيا واآلخرة على السواء».
352اإلسالم وبنو إسرائيل :تأليف الجنرال/جواد رفعت آتلخان ،ترجمة وليشاه أورالكيراي ،الرياض6501ه –
ص( 10-11بتصرف)
288
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والمعري والذي وراء بث فكرة أسطورية الشعر الجاﻫلي ّ وكذلك فإن الذي على جبهة المتنبي
ومعجزات صدق النبوة ،بل التقرير في الدرس أن دعوة مسيحية كانت بالجزيرة العربية بين يدي
ظهور رسالة نبينا محمد صلى هللا عليه وآله وسلم ،وأنه اتصل بهذه الدعوة ،مما مثل عند
صليبيين حملة قالوا عنها إنها وجدت مجالها مستباحا ممثال في النخبة الجامعية ال ُمك ّونة في
ال ّ
صليبية؛
المشرق والمغرب على السواء ،الذين أشربوا فكرﻫا ،بل وكان تميزﻫم ﻫو بهذه الخدمة ال ّ
فهم مسلوبو الوجود والحياة التاريخية إال من حب ﻫذا الظهور الذي يكسبهم من الكسب ما يرضي
أنفسهم..
"يقول علي عزت بيجوفيتش رحمه هللا – وأﻫل الرباط والثغور أحق بالفتوى -ولوال أن ليس
بُ ٌّد من التفصيل لوددت أنني استغنيت بكلمته ﻫاته عن الكالم؛ وما إخالها إال بركة من بركات
كتبها هللا للمجاﻫدين في سبيله ،ذكرا حسنا في الدنيا وشفاعة تعطى لسبعين يوم الدين ،كما جاء
في الخبر ،وذر الذين فِي قلو ِبهم مرض في ريبهم يترددون؛ يقول من له حق القول:
«يواجه ال ُمسلمون اختيارا صعبا ينبغي عليهم أن يتجنبوا فيه اختيار أحد طرفين متعارضين:
الرفض التام للحضارة الغربية أو اتباعها اتباعا أعمى فكالﻫما خطر على نفس المستوى ،ذلك
ألننا إذا لم نتعاون بإيجابية فإن ضعفنا سوف يمتد إلى ما ال نهاية ،وإذا قبلنا ﻫذه الحضارة بال
تمييز بين ما فيها من خير وشر فسوف نخسر ﻫويتنا ...نحن ال نستطيع أن ننعزل ونقطع أنفسنا
عن العالم ،ويجب علينا أن نهتدي في ﻫذا بقول نبينا الكريم" :الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدﻫا
فهو أحق بها".
كما يجب أن نعي حقيقتين ربما يغيبان عن أذﻫاننا :الحقيقة األولى ﻫي أن ﻫذه الحضارة ﻫي
نتاج مشاركة عالمية لعدد كبير كمن العلماء ينتمون إلى قوميات وأديان مختلفة ،والثانية ﻫي أن
289
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
قوة الغرب ليست في اقتصاده وقوته الع سكرية فحسب ،فهذا ﻫو الجانب الخارجي منها ،ولكن ّ
القوة الحقيقية للغرب تكمن في النقد الفكري ،وﻫذا ما ينبغي أن نفهمه وأن نمارسه في حياتنا».
ّ
روح النقد الفكري ﻫي روح "أطيعون ما أطعت هللا فيكم!" و"أصابت امرأة وأخطأ عمر"
الروح وال تذر منها شيئا.
ولكن روح الماوردية و"األحكام السلطانية" ال تبقي على ﻫذه ّ
ويُحذر عزت بيجوفيتش مما س ّماه بالتقليد الطفولي للمظهر الخارجي للحضارة الغربية ألن ﻫذا
المظهر يحمل في طياته بطانة ثقافية غير مشهودة ،ولكنها ممزوجة بكراﻫية عميقة واحتقار شديد
صليبية ..وﻫذا ما يفسّر لنا كيف أن أبناءنا
لإلسالم والمسلمين موروث من زمن الحروب ال ّ
عندما يحتكون بهذه الحضارة وينبهرون بها يشعرون بعقدة النقص تجاﻫها ،ويتشربون روح
العداء لإلسالم وقيمه وتاريخه ومن ثم ينشأ عندنا ذلك الصراع األزلي بين دعاة الحداثة والتبعية
للغرب وبين المحافظين المتصلبين على التقاليد ..وقد مزق ﻫذا الصراع كثيرا من المجتمعات
354
المسلمة وأدى إلى نتائج كارثية.
إنها لألسف نتائج كارثية حقا ،تسير باألمة على منحى تفاعل منهك وممزق لكيانها كل ممزق،
بفعل حقل احتقان مفعل بالغرب االستعماري الذي لم تزل بيده مقاليد األمور ،حقل لوحتاه
الزاويتان العلمانية والسّلفية.
إنها قضية شائكة ،قضية من كبريات القضايا التاريخية والفكرية التي احتد الخالف فيها؛ ولما
صة للحق عدم االختالف ،فبقدر بُعد الذوات ومناﻫجها عن الحق تفاقم واشتدكانت الميزة الخا ّ
خالفها.
لكن القضية الموازية ،أو صلب القضية ،ﻫي تحري الحكم بالحق وذلك ليس يكون إال بالوضع
اوات واألرض ال على األﻫواء صحيح األقوم للقضية ،الوضع الذي لها في ميزان الس َم َ ال ّ
ومالءمات السّياسات والمذاﻫب ونزوعات األشخاص ،وكل ما ليس على الوضع الحق والميزان
إنول ْفردوهُ إلى هللاِ َوالرسُ ِ ْ
{فإن تنازَ عْت ْم فِي ش َْيءٍ ُ فهو يقينا من ﻫاتيك األﻫواء .يقول هللا تعالى:
اختل ْفت ْم
{و َما ْ
سنُ تأ ِويال'((النساء )18ويقول سبحانهَ : ك ْنت ْم تؤْ ِمنُونَ باهللِ َو ْاليَ ْو ِم اآلخِ ِر' ذلِكَ َخي ٌْر َوأ ْح َ
354مذكرات علي عزت بيجوفيتش الرئيس السابق لجمهورية البوسنة والهرسك -ترجمة وإعداد محمد يوسف
عدس مستشار سابق بهيئة اليونسكو -كتاب المختار – ص610-658
290
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مِن بَ ْع ِد َما َجا َءﻫُ ْم {و َما تفرقوا إال ْ عز مِن قائلَ : ش ْيءٍ فَ ُحك ُمهُ إلى هللاِ'((الشورى )8ويقول ّ فِي ِه م ِْن َ
ْالع ِْل ُم' َبغيا َبيْن ُه ْم'((الشورى )30ويقول سبحانه{ :فلِذلِكَ فا ْدعُ َواسْت ِق ْم ك َما ْ
أمِرتَ َوال ت َتب ْع أ ْﻫ َوا َءﻫُ ْم'
أن أ ْع ِد َل َب ْينَك ْم' هللاُ َربنَا َو َربك ْم' لنَا أ ْع َمالنَا َولك ْم أ ْع َمالك ْم' القل آ َم ْنتُ ب َما أ ْنزَ َل م ِْن ِكت َاب َوأم ِْرتُ ْ َو ْ
ير'((الشورى)31 ص ُ ُحجة َبيْننَا َو َبيْنك ْم' هللاُ َي ْج َم ُع َبيْننَا' َوإل ْي ِه ْال َم ِ
وعلي ه فما من سبيل أوفق في تحري الحق ﻫو الصدور عنه والسير على نوره والحكم به،
ووجوبه في ما َجل من المختلف فيه وعظام األمور أولى وأدعى ،ومن خالفه كان من صنف
النفوس المجادلة بغير علم وال ﻫدى وال كتاب منير ،ثانية عطفها تضل عن الحق ولو كانت تعد
في نفسها أو يعدﻫا مريدوﻫا وأتباعها من المشيخة التقية المهدية المهتدية ،فإن لكل شيء حقيقة،
فالسيف برﻫانه ساحة الوغى ،والتقوى ربنا عز وجل أعلم بما في الصدور .أبو بكر الصديق
الردة كان حتى وﻫو خليفة رأس أمة رﻫبان الليل وفرسان النهار يحلب رضي هللا عنه قامع ّ
للعجائز واأليتام شياﻫهم وما كان لعمله ذاك شاﻫده إال هللا.
إن ما نجعله نورا لمنهجنا ﻫو كتاب ربنا تعالى الذي له الحمد كله أن ال إله إال ﻫو لم يجعل له
شريكا في ملكه وحكمه سبحانه ،وسنة نبينا محمد بن عبد هللا صلى هللا عليه وسلم أحب إلينا من
أنفسنا؛ فهذا مرجع نهجنا :العلم والحكمة.
فأعظم قانون ال نهج يصح من دونه وال اعتداد بقول من قائل من بعده ،ﻫو قانون تبعية الحكم
على مطلق أبعاد القيمة الحقائقية للسّعة العلمية منصوصا أصال صريحا ثابتا في القرآن المجيد:
صونَ ' أ ْم يَقولونَ {قل أت َحاجونَنَا فِي هللاِ َوﻫ َُو َربنَا َو َربك ْم َولنَا أ ْع َمالنَا َولك ْم أ ْع َمالك ْم' َونَ ْحنُ لهُ ُم ْخ ِل ُْ
ارى' ْ
قل أأنت ْم أعْل ُم ِأم هللاُ' ص َ َ
قوب َواأل ْسبَاط كانوا ﻫُودا أو ْنَ َُ َ ِيم َوإ ْس َماعِي َل َوإ ْس َحاقَ َويَ ْع َإن إب َْراﻫ َ
عما ت َ ْع َملونَ '((البقرة )313-318وقوله عز ش َها َدة ِع ْن َدهُ مِنَ هللاِ' َو َما هللاُ بغَافِ ٍل َ َو َم ْن أظل ُم ِمم ْن َ
كتم َ
أن ت ُحِ بواسى ْ ع َ
شيْئا َوﻫ َُو َخي ٌْر لك ْم' َو َتكرﻫُوا َ أن َ سى ْ عليْك ْم القِتا ُل َوﻫ َُو كُ ْرهٌ لك ْم' َو َ
ع َ ِب َوجل{ :كُت َ
355
شيْئا َوﻫ َُو ش ٌَّر لك ْم' َوهللاُ يَ ْعل ُم' َوأ ْنت ْم ال ت َ ْعل ُمونَ '((البقرة")031 َ
صليبية للتراث ومن أجله تنفق جهودهإن الموقع المرسوم في مخطط المعالجة االستشراقية ال ّ
واألموال تحت رعاية األمم المتحدة واليونسكو وما خفي وما أعلن من المنظمات والجمعيات
والمحرفة لحقيقة العقل الغربي ،أي ما
ّ والمؤسّسات ،ﻫو الموقع الذي يُبقي على القيمة المزيّفة
291
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صداع واالنفجاريعلنه حقيقة في خطابه النظامي ،ضمن التفسير اإلبستيمي للنيتشوية ذروة ال ّ
والتناقض في ال شعور واألنا الغربي .ﻫي حقيقة نسبية ،حقيقة منطق سلوكي مرجعه تاريخ
الغرب وتحديدا في عالقته مع الوحي ،وﻫل في إمكان عاقل أن ينكر الحقيقة الوجودية وينكر ولو
الحر غير المحجور.
ّ وجود بعد معرفي علمي وفلسفي رصين ،نعني به البعد الحفرياتي المطلق
ﻫذه الحقيقة السّلوكية الغربية الذاتية ﻫذا مقولها على لسان أحد كبار المخططين االستعماريين:
"ونحن نورد فيما يلي المفاﻫيم الرئيسية في اإلسالم .يرى مئات الماليين من المسلمين الذين
صة الفقراء منهم ،أن تبني ﻫذه المفاﻫيم الرئيسية ﻫو الذي أدى إلى إدخال اعتنقوا اإلسالم ،وبخا ّ
الروحي والبركات المادية في ﻫذه الدنيا ،كما ولد أيضا أمل الخلود في اآلخرة .وليس العزاء ّ
356
ﻫناك شك في أن المجتمع البدائي يفيد إفادة كبيرة من اعتناق اإلسالم".
"والمسلم عندما يلجأ ،في أيامنا ﻫذه إلى الشريعة في مسألة من مسائل الوصية ،يجري البت
في مسألته طبقا للمبادئ القديمة التي وضعت لتطبيقها على مجتمع شبه جزيرة العرب البدائي في
357
القرن السابع".
"لكن كقاعدة عامة ،فإن العرف المبني على الشريعة ،إضافة إلى التوقير المبالغ فيه للمشرع،
ﻫو الذي يمسك كل من يعتنقون اإلسالم بقبضة حديدية ال فكاك منها .يمكن القول بصدق إن
اإلنسان في العصور الوسيطة كان يعيش في رداء فضفاض" .بينما المسلم الحقيقي محصور ،في
358
الوقت الحاضر ،حصرا محكما في إطار الشريعة".
356مصر الحديثة -تأليف اللورد كرومر -ترجمة :صبري محمد حسن -مراجعة وتقديم :أحمد زكريا الشلق-
المركز القومي للترجمة -المجلد الثاني -ص373
357ن م – ص371
358ن م – ص374
292
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
اقترنت حياتهم بخدمة خزانة علوم المسلمين ،والتدليل على كنوزﻫا وتحقيق نفائسها ،التي ينبغي
أن تكون – كما أقول -عدة للعقل العربي اإلسالمي ومصدر قوة دفع وخروج من حقل اليأس
صليبيون وأوصالهم من المنافقين ،والعودة إلى التاريخ بقوة
والوﻫن الذي يحاصره فيه اليوم ال ّ
ووثوقية ،فما ﻫي إال إرادة وعزم .أقول الطناحي الذي كانت حياته وأنفاسه كلها لهجا بالترات
ولفظ التراث واﻫتماما بالتراث ،لم يتمالك ثورة نفسه حتى نطق بها لسانه:
«وال أقول تراثهم؛ فإن هذه الكلمة قد أصبحت بغيضة عندي جدًّا ،لما توحي به هذه األيام عند
359
بعض النَّاس من الماضي السحيق والفلكلور والمتحفيات»
وأي انفعال أش ّد توترا من أن يخرج من لسان رجل ال يرى أكثر منه اﻫتماما بالتراث وبرجاله
المهت ّمين به ،أن ينفجر او يتفجر لسانه بهذه الكلمات؟
لكنه في ذات الوضع يقول ،مما يجلي واقع اإلصر والغ ّل الذي ال يستطيع ال ّ
تحرر منه ،نجده
يقول:
"وهكذا تكون النصوص التراثية – وأعالها كالم ربنا عز وجل -وسيلة ضبط وإتقان ،إذا
اعتنينا بها قراءة وحفظا"!!!360
"مفهوم التراث:
من واجب كل أمة أن تتعرف على تراثها ،وأن تغوص في أعماقه ،لتكتشف آفاقه ،ولتتعرف
على ذاتها من خالله ،وأيضا لكي ت ُ ّ ِ
قوم ﻫذا التراث؛ فتأخذ ما فيه من إيجابيات تنسجها من خيوط
واقعها ومستقبلها في ظل ما تحمله من أعباء وما تواجهه من تحديات.
إن التراث ﻫو الوعاء الذي يضم جوانب مسيرتنا الفكرية ،وحركتنا العملية التي تتضمن فعلنا
الحضاري وإبداعاتنا الفكرية والفنية والتطبيقية ...
293
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إن ﻫذا التراث – بمعناه العام -على المستوى اإلنساني ،وقد يكون في كل تراث ثوابت
ومتغيرات ،بيد أن كثيرا من تجارب التعامل مع التراث – بعيدا عن التراث اإلسالمي -قد
سمحت للتطور الحضاري أن يذيب الثوابت في المتغيرات ،بل وسمحت لنفسها أيضا أن تقرأ
التراث قراءة تعتمد على القطيعة المعرفية ،وعلى النقد والتجريح دون بصر بالزمان والظروف
التي أحاطت بالتراث ،ودون محاولة للغوص في أعماقه ،والوصول إلى إشعاعاته المستمرة،
وإضافاته لحركة الحضارة اإلنسانية ،وحفاظه على الهوية الدينية أو القومية أو الوطنية.
ومن وج هة نظر أخرى يبدو تراث األمة ﻫو مجموع الماديات والروحانيات التي تصاحب
األمة على مدار تاريخها ،ومن المعلوم أن األمة قد تقوم نفسها بغربلة بعض معتقداتها أو عاداتها
وفقا لقاعدة «البقاء لألصلح» ولمستوي تطورﻫا ورقيها الفكري ،لكن ﻫذه الغربلة المعقولة التي
تنطلق داخل األمة وتطورﻫا التلقائي والذاتي ،ليست ﻫي ما يريده البعض من ضرورة تنحية
التراث؛ ألنه -في رأيهم -ال يجوز «إسقاط الماضي على المستقبل»!!
والتراث الحي يقبل اإلضافة دائما ،وما يزعمه بعضهم من أن اإلضافة للتراث ال تكون إال
باقتالع جذور التراث ،إنما يعكس – بصدق -عجزﻫم وقصورﻫم الشخصي ،ورغبتهم الساذجة
صعب.إلى جانب الهدم السهل ،بدل البناء اإليجابي ال ّ
إن تحديدنا لمفهوم التراث اإلسالمي يختلف – كما ألمعنا من قبل -عن المفهوم السائد للتراث،
من زاوية أن الثوابت في التراث اإلنساني العام قد أصبحت ﻫزيلة جدًّا ،وأمكن االعتداء عليها من
حركات الحداثة واإللحاد ...لكن في التراث اإلسالمي تتجلى الثوابت فوق اإلذابة أو التحريفات،
حتى في الحاالت التي تخضع فيها األمة اإلسالمية لهزائم عسكرية أو فكرية ،أو لخيانات
حضارية من جانب المسحوقين أمام أعداء األمة.
والسّبب في ذلك :أن ثوابت التراث اإلسالمي قائمة على مرجعية إسالمية أصيلة فوق كل
تحريف وتزييف؛ فالقرآن الكريم – وﻫو المصدر األول لثوابتنا -ال يأتيه الباطل من بين يديه وال
من خلفه ،وﻫو متواتر تواترا لم يقع ألي مصدر ديني أو تراثي آخر ،وكذلك السنة النبوية
صحيح درايةالشريفة قيض هللا لها علماء جرح وتعديل نفوا عنها الموضوع والضعيف ،وأبقوا ال ّ
294
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ورواية ،أي نقال وعقال ،ولألسف فقد خلط كثير من الدارسين المعادين للتراث اإلسالمي -عن
عمد -بين مستويين مختلفين ،يمثالن معطيات التراث.
أما المستوى األول :فهو «المستوى الروحي» ،وأعني به األصول الثابتة التي جاء بها اإلسالم
(القرآن والسنة كما أشرنا).
وأما المستوى الثاني :فهو «المستوى الفكري» أي عمل العقل اإلسالمي المنطلق من ﻫذه
األصول والدائر حولها في المجالين النظري والعلمي ...ونقول :إن ﻫؤالء خلطوا عن عمد؛
ألنهم أرادوا التسوية بين ما ﻫو منقول وما ﻫو معقول ،وما ﻫو من «فوق» ال تحتمل طبيعة
361
صواب"
العقل الحوار فيه ،وما ﻫو «بشري» يحتمل الخطأ وال ّ
"أما الجانب الذي أسميناه «الجانب الروحي» في ﻫذا التراث فهو الذي يشكل عناصر شبه
ثابتة ،يحفظ لألمة خطها «األيديولوجي» والفكري ،ويرد مالمحها المتفاوتة ،وقسماتها المتباينة
362
إلى أصول عامة ،تجعل منها أمة ذات أصل واحد".
"وأﻫل باريز موصوفون بذكاء العقل وحدة الذﻫن ودقة النظر ال يقنعون في معرفة األشياء
بالتقليد .بل يبحثون عن أصل الشيء ،ويستدلّون عليه ويقبلون فيه ويردون .ومن اعتنائهم بذلك
أنهم كلهم يعرفون القراءة والكتابة .ويدونون في الكتب كل شيء ،حتى الصنائع فال بد أن يكون
الصانع يعرف الكتابة والقراءة ليتقن صنعه .ويجب أن يبتدع في صنعه شيئا لم يسبق به .وألنه
إن فعل زادت مرتبته وعلت حظوته عند دولتهم .ويعطونه على ذلك ويمدحونه ويذكرونه بما
استنبط ،ترغيبا منهم في الترقي في األمور فيكون كل شيء دائما في الزيادة ،فذلك يحملهم على
تدقيق النظر وإمعان التأ ّمل ،واستكشاف دقائق الخفيات في سائر تصرفاتهم .ولهم مدارس
ومكاتب حتى في علوم الطبخ والغرس والبناء والزراعة ومعالجة النباتات وإنتاج الحيوانات
361الغارة المعاصرة على المسلمين منطلقاتها وغاياتها :أ .د /عبد الحليم عويس -دار الكلمة للنشر والتوزيع-
الطبعة األولى١٤٣١ﻫ٨٤١٤ -م -ص313..343
362ن م – ص310
295
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وغير ذلك .فكل ما يسمعونه أو يرونه أو يستنبطونه أو يبلغ إليهم علمه ،يتولونه في الدواوين
363
مر األيام".
ويحفظونه على ّ
صليبي التاريخي والحضاري صراع ال ّ إن كل ما تستهدفه ﻫذه الجبهة أخطر الجبهات في ال ّ
صليبي كله مجموع في قبيل مقولة التجديد للفكر تحت يافطة االستشراق والتعليم االستعماري ال ّ
العربي و"القطيعة مع التراث" بالمفهوم المحدث المختلق للتراث غير المنطبق بمعناه المعجمي؛
فهي روح وظيفته المقدسة في لبان المرضع ولبن الرضيع النخبة الحاكمة والرائدة للثقافة في
صليبية .وكما نجح الغرب في الفتوحات العلمية وامتالك طور ﻫذه الحرب الحضارية الدينية ال ّ
األرض وشدة البأس بالتخطيط العلمي المحكم ،فكذلك نجح قوة تسخير قوى الطبيعة والتمكين في ْ
في مهمته ﻫاته ،وأسمع بنجحه وأبصر حين تقرأ لعبد هللا العروي وﻫو يقول:
« ال يستطيع أحد أن يدعي أنه يدرس التراث دراسة علمية ،موضوعية ،إذا بقي ﻫو ،أعني
الدارس ،في مستوى ذلك الترا ث .ال بد له ،قبل كل شيء ،أن يعي ضرورية القطيعة وأن يقدم
عليها .كم من باحث يتكلم عليها كموضوع ،وﻫو نفسه غير قادر على تحقيقها؟ فال سبيل لهذا
الباحث أن يكون أبدا في مستوى المستشرقين .إذا نفى أو تجاﻫل ضرورة القطيعة أصبحت
يروج اليوم الفكرة القائلة ان ال مشادّة في المنهج ،وكأن
جهوده تحقيقية تافهة .ومن أتفه ما ّ
مجرد اختالف في الرأي .كان ﻫذا صحيحا في الماضي ،إذ كان يوجد ّ االختالف حول المنهج ﻫو
إجماع على البديهيات .أما فال مشادّة إال وﻫي في المنهج ،ألنه اختيار بين بداﻫتين .الرأي ،اليوم،
مكوناتها ليطبقها على مادة ما دون أن يتحرى ﻫو أن ينطلق الدارس من فكرة دون أن يدرك ّ
364
مسبقا ﻫل تتحملها أم ال»
صيغة التقريرية في ظاﻫرﻫا ،وفي اعتبارﻫا مضمونا وفحوى بحسب ﻫذا الكالم ،وبهذه ال ّ
مسرح الخطاب ،وبتحييد االختالق المفاﻫيمي ،أي باعتبار المحتوى والمدلول ،ﻫو مصادرة ذات
خطر ال تخلو في ذات الوقت من سماجة ،إذ ﻫي أكبر وأﻫم ما يفترض أن يكون مميّزا فكريًّا في
االنتماء الفكري والسّياسي التاريخي .ﻫذا تقويم منطقي بداﻫي أولي .أما وضعه فهو في سياق
الحديث عن المنهج حديثا ال يمكن ألي رجل ملتزم بضوابط التفكير والخطاب العلمي ،والفكر ال
األرض .فالعروي صيغة العلمية ،إال أن يرده ما دامت السماوت و ْ يُقبل وال ينبغي أن يُقبل إال بال ّ
اختلط عنده ما ﻫو من المنهج بما ﻫو خارجه وليس منه؛ ف"القطيعة مع التراث" ليست البتة من
مكونا ت المنهج؛ بل ﻫي تحتاج إلى منهج منطقي صحيح لتحديد قيمتها الحقائقية؛ ثم يكون لها ّ
مكونا منهجيا بالمعنى المنطقي للمنهج ،ولكن في البنية المرجعية ّ رتقر
ّ ل ال والمصداقية، القابلية
(المسلمات وغيرﻫا) أساس ما يُراد بناؤه بهذا المنهج اآلخر .ثم إنه في حقل المنظومات الفكرية
شروط األولية المتمثلة في العقل العلمي ،أي بآلياته من النسق والفلسفية ،ال يكون اعتبار ال ّ
296
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المنطقية األولية والقوانين الم علومة بالضرورة باعتبار األﻫلية العلمية ،مثل قانون المالءمة بين
الموضوع والمرجع ،ال يكون وضعها إال خارج المنهج ،وإن كانت مما يدرج على المستوى
التعليمي ضمن المنهاجية .لكن في مطلق حقيقة المنهج ال يمكن وال يسمح أن يعتبر األساس
المرجعي المسلماتي المحتضن في ﻫيكل ة المنهج ،أن يعتبر قضية منهجية ،كالمراد من "القطيعة
مع التراث " كما ﻫو الحاصل في عقل عبد هللا العروي ممثال لصنفه من رواد الثقافة العربية في
العهد االستعماري الكولونيالي ،لكن لألسف في قاعة الدرس الغربي االستشراقي الذي ﻫو المعلم
واألستاذ والمخطط للمناﻫج التعليمية والتكوينية في كل الدول العربية التي كانت خارج
صنف ،ونجد ضمنه زكي نجيب محمود التاريخ . 365وﻫذه المقولة ﻫي التي نسج عليها كل ﻫذا ال ّ
صنف بدليلعنصرا أمثل وأوضح .ونعني ﻫنا بالوضوح ،وضوح االستدالل على ﻫفات ﻫذا ال ّ
صنفي كما ﻫو الشيخ مرجع المريد والزاوية واألدلوجة في األحرى ،فمرجع التلميذ أستاذه ال ّ
التأصيل المنطقي صنف واحد .كذلك من أﻫم ما نعني به بالوضوح ﻫو التنشئة والتكوين ،الذي
س سه وقام وسهر عليه جبهة دنلوب في مصر وليوطي في الجزائر والمغرب ،واإلرساليات أ ّ
صليبية .ولك أن
ّ ال التاريخية للحرب تداداام المواجهة جبهة الشام، في ية ليبصّ ال التبشيرية التعليمية
األرض
تعلم أن العقل الذي تحقق تفوقه في السبق إلى المناﻫج التطبيقية العملية ،فتحكم في ْ
والبحر والجو ،يعمل فيها ما يشاء ،أن ﻫذا العقل ﻫو نفسه صاحب ﻫذه الخطة في العالقة
صليبية ،التي ﻫي بمثابة الثابت الوجودي التاريخي في عالقة الغرب باإلسالم التاريخية العدائية ال ّ
والمسلمين ،ال يقل خطرا ومركزية عن الثابت الكوسمولوجي في مصير الكون المادي عند
الفيزيائيين من علماء الفلك:
«لقد أصبح كل شيء خاضعا للدراسة والتحليل ،ولعل المختبرات التي تخضع لها القضايا
الفكرية والدراسات اإلنسانية أصبحت توازي تلك المختبرات التي تخضع لها العلوم التجريبية،
إن لم تكن أكثر دقة ،حيث ال مجال للكسالى والنيام والعاجزين األغبياء في عالم المجدين
366
األذكياء».
إنهما الشرطان اللذان ذكرنا قبل حين ،ومعهما تفسير المفارقة األخطر التي ﻫي العنوان
التقويمي لهذه المعالجة العدوانية التاريخية نقيض ظاﻫر دعوات المدنية والتمدن والتمدين،
واإلنسانية وحقوق اإلنسان ،ثم أي معنى بعده لهاتيك الشعارات "الديمقراطية" و"القانون الدولي"
و:...
297
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"أما الغرب فإنه ال تصح نيته وال تصلح طويته – أبدا -إزاء العالم اإلسالمي ،إنها نتيجة
صليبية الكثيفة،
طبيعية ورد فعل طبيعي لتاريخه الطويل الذي امتدت عليه ظالل الحروب ال ّ
367
صراع الطويل العنيف الدامي بين الدولة العثمانية والدول األوروبية".
وطبع بطابع ال ّ
فمناط أو مرتكز المعالجة بالقاموس الهندسي الميكانيكي ﻫو مضمون "الشكل -9-الداللي للفظة
صرم" أو
المكون الجوﻫري "الت ّ
ّ التراث" الشكل الفيلولوجي ،وروحه االرتكازية ﻫنا ﻫي بالتحديد
"االنصرامية " وﻫي مصدر رد الفعل المفارقة من داعية إلى محور التراث ،رد فعل وقوله:
«وال أقول تراثهم؛ فإن هذه الكلمة قد أصبحت بغيضة عندي جدًّا ،لما توحي به هذه األيام عند
368
بعض النَّاس من الماضي السحيق والفلكلور والمتحفيات»
فالتخطيط أو المخطط الجهنمي ﻫذا مقدر أمره على حساب وتقدير دقيق ،وﻫو بالنسبة ألﻫل
الفقه لمن استوعب معنى التأصيل ،وألﻫل الفكر والفلسفة لمن فقه المعنى المنطقي ل"االبستيم"؛
ﻫذا التخطيط مؤسّس على ذات النسق الذي للكمين أو الخدعة في القاموس العسكري الحربي؛
صل كأبلغ
العبرة ليست إال بالواقع وما تؤول وتستقر عليه الوقائع ،العبرة بقيمة الحاصل والمح ّ
التعبير في قوله تعالى﴿ :ال يُ ْس ِم ُن َوال يُغنِي ِم ْن ُجوعٍ'﴾(الغاشية )1وما أوفق وال أحسن في ﻫذا
من قول الحافظ ابن كثير -رحمه هللا!" :-يعني ال يحصل به مقصود وال يندفع به محذور" .وﻫذا
المنحى على ما ليس فيه جدوى إذ يطابق أو في توافق ال إمكان لنفيه في ظاﻫر القول ووجوه
التفسير بالنسبة لمذﻫبي القول في بدء السّياق الكريم ،أي في قوله تعالى﴿ :عاملة
ناصبة﴾(الغاشية ،)4قال ابن كثير:
وقوله( :عاملة ناصبة) أي :قد عملت عمال كثيرا ،ونصبت فيه ،وصليت يوم القيامة نارا حامية.
...
367الصّراع بين الفكرة اإلسالمية والفكرة الفكرة الغربية في األقطار اإلسالمية :أبو الحسن علي الحسني
الرابعة مزيدة ومنقحة١٤٤٣ -ه3381 -م -دار القلم -الكويت – ص003 الندوي -الطبعة ّ
368مقاالت العالمة الدكتور محمود محمد الطناحي -ص007
298
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وأما الطبري – رحمه هللا! -فقد جعل العمل والنصب في النار جزاء نكاال على عدم العمل في
الدنيا؛ وﻫو القول الذي رجحه على السّياق السعدي – رحمه هللا!-
قلت وإذ ال قطع في إبعاد مذﻫبي القول ﻫنا فكالﻫما على دليل وجود ما ال جدوى من العمل
ومما يُحبط ،بل ومما ﻫو نصب في قيمته الوجودية ،وﻫي قيمته المنطقية الحقة.
وﻫناك حتى على المستوى العامي أمثلة وأقوال كلها في ﻫذا المعنى جد الخطير والهام للطبيعة
العملية والمادية والدفعية للحياة واالجتماع البشريين ،ما نظن مثل "جعجعة بال طحين" ببعيد
عنها.
وجماع البيان بخصوص العمل في حقل التراث بما أريد له من مخططيه ال من مدمجيه ،يعبر
عنه مالك بن نبي -رحمه هللا! -بمعيار أقرب من غيره إلى الفهم:
"ومن الواضح أن من أكثر البوادر داللة على اتجاه مجتمع ما ،هو اتجاه أفكاره :فأما أن تكون
متجهة إلى األمام ،إلى المستقبل ،أو إلى الخلف ،اتجاها ً متقهقراً ،اتجاها ملتفتا إلى الماضي
مرضية. بصورة َ
ومن دون أن نستمر إلى أبعد من هذا في تحليل هذه اإلحكامات الدقيقة للصراع الفكري فلنلق
هذه االعتبارات على موضوعنا بالذات ،نعني اثر هذا النوع من أدب المدح والتمجيد واإلطراء
على سير األفكار ،واتجاهها في المجتمع اإلسالمي المعاصر ،فنرى على الفور الجانب اآلخر
لهذا األدب ،عندما يصير بين يدي اولئك األخصائيين وسيلة عمل جهنمي في تحريك رحا
صراع الفكري المحتدم في بالدنا.
ال ّ
إننا نرى اليوم مرأى العين هذا العمل الفتاك ،ونرى أثره في كل تفاصيل جياتنا الفكرية،
والسّياسية واالجتماعية ،وفي البالد العربية حيث تكونت تجربتي وخبرتي كمواطن وككاتب
وكصحافي.
وليس كتاب كامل بكافي لسرد هذه التجربة .ولنذكر منها فقط ،على سبيل المثال آخر تفصيل
من تفاصيلها :انعقد أخيرا ً بباريس مؤتمر العمال الجزائريين بأوروبا وبهذه المناسبة ّ
تقرر من
299
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لدن المشرفين على المؤتمر توزيع كتيب لصاحب هذا العرض ،تناول فيه مشكلة من مشاكلنا
اليوم ،بالخصوص في الجزائر ،البلد الذي اتخذ من كلمة «الديمقراطية» شعاره الدستوري.
ولذا بنا نرى الدعوة توجه إلى تلك السّيدة األلمانية المقربة التي وضعت أو وضع اسمها على
ذلك الكتاب ذي العنوان الجذاب «شمس هللا تشرق على الغرب» وفيه ما فيه من مدح وتمجيد
الحضارة اإلسالمية.
وتقدمت السّيدة ،وقدمت كتابها إلى المؤتمر ،فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكالت
الحادة القائمة اليوم ،إاى أبهة وأمجاد الماضي الخالب!
ولم يكن الصديق الذي كان يذكر لي ﻫذه القصة يخطر على باله أي شيء من صلتها
صراع الفكري» وهو يقول :وفي األخير قامت القاعة كلها لتحيي السّيدة!
«بال ّ
وال شك أن القصة تكشف عن جانبين :الجانب الذي يبرز حساسية الجماهير المسلمة ألمجاد
ماضيها ،والجانب الذي يكشف عن إمكان استغالل هذه الحساسية إللفات تلك الجماهير عن
370
حاضرها".
فاألثر أو قوة التأثير الخارجي على الحقل "التراثي" بفكره وأبعاده العملية تأكيدا ،ﻫذا
استجالؤه واض ٌح مبي ٌن؛ وإذن فنحن بصدد منحيين متعارضين في صراع وظيفي ،منحى
المخطط ،ومنحى ما يرى باديا وبداﻫة أنها وظيفة التراث:
«بدأت النهضة العربية الحديثة مع مطلع القرن التاسع عشر ،ومن المتفق عليه بين باحثينا
المعاصرين ،أن النهضة العربية الحديثة استمدت إلهامها وقوتها من تفاعل عاملين أساسيين:
300
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
األول :تنبّه الوعي القومي في البالد العربية ،ودبيب روح اليقظة السّياسية وكفاحها في سبيل
حرة وكيان عربي مستقل ،وبذلها الجهود الدائمة لنشر التعليم بين ربوعها وإقامة حياتها
حياة ّ
الجديدة على أركان تراثها وعناصر شخصيتها :من دين ولغة وأدب وتقاليد.
ولم تنفصل حركة إحياء التراث عن حركة اليقظة القومية ،وال قامت بمعزل عنها ،وإنما كانت
عنصرا جوﻫريا في برنامجها.
وفي كل مجال كان االﻫتمام البالغ باستقراء ماضي تاريخنا ،ال قصدا إلى الرجوع إليه
والوقوف عنده ،وإنما كان القصد إلى االنطالق باألمة من حيث انتهت ،وﻫكذا أراد ﻫؤالء
المثقفون أن يواجهوا الثقافة الغربية الوافدة بثقافة عربية أصيلة ،ولم يكن من الممكن أن تكون
الثقافة التي خلفتها عصور التخلف في القرون الثالثة األخيرة ،ﻫي الثقافة التي يمكن أن تسد
حاجة ﻫؤالء المثقفين حينذاك ،أو تصلح لمواجهة الثقافة الغربية المتح ّدِية ،فاتجهوا إلى التراث
371
العربي القديم ،وإلى انتقاء جمهرة من روائعه إلحيائها ونشرﻫا».
«ومن واقع تاريخ اليقظة نرى أن مهمة السعي الكتشاف ذاتنا والبحث عن جذورنا لم يحمل
عبئها األميون الذين يعيشون بعقلية الماضي؛ وإنما نهض بها عصريّون مج ّدِدون ،ممن اتصلوا
372
بالغرب الحديث أوثق اتصال ،ونهلوا من موارد ثقافته».
من حيث الحكمة من العلم والعمل العلمي كونها الغاية العملية ،فالنص (المقال) األول عنصرا
صفةمعطياتيا ،يكفينا ويكفي ﻫذا العمل في شطر مادته البنائية .ولست أريد بهذا فقط الغالب من ال ّ
الر كامية في التأليف والكتابة ،من حشر ما ال ينحصر من الشواﻫد المكرورة لنفس الحقيقة من ّ
متعدد وما ال يعد من األسماء والمراجع ليست تعتبر إال سردا لما وسعته القراءة المتميزة للكاتب،
فيصم آذانك باألعالم وكأنه قد جمع وأوعى كل ما كتبوه ،بل وأيضا ،ألن ﻫذا العمل بالذات ﻫو
الربّانيين في أمة الشهود المجيد في ﻫذا القرن
موجّه ألﻫله من ذوي النهى واألحالم ،إلى ّ
371تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره :دكتور عبد المجيد دياب -دار المعارف -ص81
372تحقيق التراث العربي وتجديده -ص81
301
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"ولم تنفصل حركة إحياء التراث عن حركة اليقظة القومية ،وال قامت بمعزل عنها ،وإنما كانت
عنصرا جوﻫريا في برنامجها".
فإذا كان مناط أو مرتكز المعالجة بالقاموس الهندسي الميكانيكي ﻫو مضمون "الشكل-9-
المكون الجوﻫري
ّ الداللي للفظة التراث" الشكل الفيلولوجي ،وروحه االرتكازية ﻫنا ﻫي بالتحديد
التصرم" أو "االنصرامية " وﻫي مصدر رد الفعل المفارقة من داعية إلى محور التراث ،رد
ّ "
فعل وقوله:
«وال أقول تراثهم؛ فإن هذه الكلمة قد أصبحت بغيضة عندي جدًّا ،لما توحي به هذه األيام عند
373
بعض النَّاس من الماضي السحيق والفلكلور والمتحفيات»
302
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مفهوم
التراث
هذا النهج الدقيق في العمل االستشراقي بحبكة وكيد محكمين ،يخفي صبغته الغربية التاريخية
بدثار الممارسة العلمية واالهتمام المعرفي ،يخفيهما أو معياره في ذلك هو الحاصل والمآل ،أي
مستقر األمور ومآلها،
ّ سلوكه ونهجه الجمع أو إضفاء على عمله ما ظاهره النفع ،ولكن العبرة ب
ذلك ما نطقت به د .زينب عبد العزيز في حوارها مع د .ليلى بيومي:
" هناك محاولة لتبرئة المستشرقين وإظهارهم كأصحاب علم وفكر ،بينما هاجمهم كثير من
المصنفين ،وقالوا إن االستشراق خادم للكنيسة وأهدافها وليس بريئا ...ما هور أيك في هذه
القضية؟
لم أجد مستشرقا ً واح ًدا خال كالمه من الدس والتشويش ولقد تتبعت المستشرق جاك بيرك
الفرنسي وأظهرت عيوب وخطايا ترجمته للقرآن ،وفي رأيي نفس الشيء فعله روجيه جارودي،
فقد أسلم ليهدم االسالم من الداخل.
صحيح أنهم قدموا خدمات لتراثنا بال شك ،لكن ضررهم أكبر من نفعهم ،ألن كل ضررهم في
تشويه الحقائق يبنى عليها ويؤخذ على أنه حقائق مع مرور الوقت.
303
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
374
إن المستشرقين كلهم يعملون ضمن برنامج واحد لضرب اإلسالم".
وﻫذا الذي ذكرته الدكتورة الكريمة الفاضلة بخصوص روجي جارودي استبان لي وتبنت
(طبنت) له قبل ما ينيف على العقدين ،ولعله أن يكون قد ذكرته وأشرت إليه ،فبينا أنا في إعجاب
تحوالت االنتمائية الدينية واإليدلوجية ،فمن أم الرجل أو ثوراته المتتالية ،ال ّطبيعي وبداﻫي بثورة ّ
كاثوليكية إلى البروستنانية إلى الماركسية ،إذا ﻫو يعلم إسالمه كأنه الباحث عن الحقيقة قد
وجدﻫا .وازداد اإلعجاب بكتابه المثير "األساطير المؤسّسة للسياسة اإلسرائيلية" الذي أثار ضجة
محاكمة الكاتب والكتاب معا في فرنسا ،في نهاية تسعينيات القرن الماضي ،وقد زار خاللها
المغرب ونظمت له لقاءات كان منها واحد ببيت الدكتور الخطيب لم يكتب لي حضوره رغم
قرب المسافة .في ﻫذا الحين لمع اسم روجي أو رجاء جارودي وزاد االﻫتمام بما ينشر له
ومرتبط بفكره وخصوصا بإسالمه .لكني ما إن قرأت فيما قرأت أنه اختار لنفسه صالة غير التي
فرضها الحق سبحانه والصالة عمود الدين وركن اإلسالم ،حتى لفظه قلبي وانقلب كل ذلك
اإلعجاب األول إلى عجب من نوع مقابل ،كيف يجرؤ على ﻫذا وما الغاية من التصريح به؛ فكان
أول استنباط سبق إلى التقرير وبالبداﻫة ﻫو ما صرحت به الدكتورة ﻫنا ،قلت :إنما ﻫذا في ما
واكفروا آخِ َرهُ لعَل ُه ْم
ُ ار صدق من تواصوا وتآمروا﴿ :آمِنوا بالذي أنز َل َ
على الذِينَ آ َمنوا َو ْجهَ الن َه ِ
يَ ْرجعُونَ '﴾(آل عمران )73ولم يكتف جارودي بهذا العنصر المعلوماتي المثير والخطير في شأن
دين المسلمين وأركانه وعموده ،بل أمعن في منحاه إمعانا إذ صرح بأنه لم ينسلخ وما زال حبل
المسيحية والماركسية به قائما حيًّا له به وصل ،تصريحات في نفس الهدف أو ذات الوظيفة
المعلوماتية والتصريح اإلعالمي!
304
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صليبي وجبهته العلمية من فيالق إبطال وتحييد المعالجة المغرضة والخبيثة للغرب ال ّ
االستشراق وقبيلها في مفهوم "التراث" بنفس السّالح العلمي ال يت ّم إال بنسف مرتكزه الفيلولوجي،
الذي ﻫو في حقيقة األمر والواقع ،وبحسب االرتباط البنيوي بين الفكر البيان ﻫيكلته والواقع،
الذي ﻫو روح االختالق والتشكيل وﻫو نفسه "التراث" مفهوما ومادة بيانية يؤتى بها على غير
صحيحة بين البيان والواقع.
العالقة ال ّ
نعم إن للمسلمين تراثا له من األﻫمية ما للتراثات عند األمم ،تراث امتد أوسع في الثقافة
والبناء التاريخي الحضاري في الزمان وسائر المعمور ،ولكن ﻫذا الذي جعلتموه في حزمة
"التراث" ،فيه ما ليس منه وال ينبغي أن يكون!
ﻫذا ﻫو كنه إشكال التراث قضية من قضايا األمة في اتصال أكثر وأشد ارتباطا باالستشراق.
التراث من المرتكزات النهضوية المادية والمعنوية لكن ليس ﻫو إال واحدا منها ،وحيزه من
صة الوحيدة.
صات االنطالق والقومة التاريخية لكن ليس ﻫو الحيز محصورا وال المن ّ مناطق ومن ّ
ﻫذا ما جاء قيمة في شبه – تبلور (أو وشك ومقاربة التبلور) اإلشكال عند الدكتور فهمي جدعان
في "نظرية التراث " .وبيان عدم التمام في االستجالء ،ﻫو أنه وإن لم يبق في حدود االنفعال
النفسي كما انجلى عند الطناحي ،فذﻫب مبرزا لعدم تراثية الدين رأسا ،ومعينا لموقع اختالل ال
ينبغي في الحقيقة سوى النظر العقلي المحرر من التفكير النمطي على أي من وجوه االتباع أو
تحرر منه في
اإلدماج كما ﻫو اإلدماج في حوض التكوين االستعماري واالستشراقي -وقل من ّ
صبغ الجوﻫري والفيلولوجي الكامن في االختالق المفاﻫيمي النخبة الجامعية بالخصوص -موقع ال ّ
التصرم" أيضا واستنباطا ،وذلك جميعا في مجال الحوض ّ ل"التراث" ،أي صبغ 'االنصرام" و"
المفضل حتى أمكن اعتباره المحوري والمراد والمنتقى ،مجال العلوم اإلنسانية ،مجال علم
االجتماع واإلنتربولوجيا ،المجال مرتع االستشراق ،فتعيينه لموقع اإلشكال والخلل ،لم تتضح
عنده حقيقته الكامنة في نفس مفهوم التراث وجوﻫره الفيلولوجي ،حتى لم يستطع اإلبانة والتعبير
عنه إال داخل تقرير المفهوم ذاته من غير إدراك وال إعالم بأن المعالجة كان مرتكزة على
التحوير المفاﻫيمي ذاته في عالقة البيان بالواقع وبالحقيقة ،فلنلفيه يقول:
منير شفيق :اإلسالم وتحديات االنحطاط المعاصر ..قضايا التجزئة والصهيونية -ص372 375
305
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"ألن الحقيقة ﻫي صنع التراث ال يتوقف .فنحن على الدوام ،وفي كل العصور نصنع عناصر
تراثية جديدة ونورثها لمن يأتي من بعدنا .وموقفنا الطبيعي ﻫو أننا في الوقت نفسه الذي نتلقى
تراثا فإننا نصنع تراثا جديدا يغني التراث الذي تلقيناه أو ورثناه .بحيث يصح القول أن مهمتنا ال
376
تنحصر فقط في تلقي التراث وإنما أيضا ،وربما بقدر أكبر ،في «إبداع التراث»".
التصرمي.
ّ صبغ االنصرامي و فههنا بيّن استشعار بل اإلعالم بالخلل المعالجاتي المنطبق بال ّ
الربّانية في المنهاج ،وذلك واضح في مكونا حقائقيا ﻫو مكون التنبيه على شرط ّ ويتأكد بيانيا ّ
قوله:
"إذا كانت إعادة قراءة التراث أمرا ال طائل من ورائه ،فإن إعادة قراءة الحقيقة – األصل،
أي الوحي ،ﻫي أمر ال مفر منه ،ألن الوحي يتوجه إلى اإلنسان في كل زمان ،كما إن اإلنسان،
في كل زمان ومكان ،يتوجه بدوره إلى الوحي ويستنطقه ليحياه ويجسده ،وينجز «تراثا» لزمنه
مفعما بمضامين العصر ومتأثرا بمتطلباته وتوجهاته .وﻫذا الوضع يقتضي «قراءة» للوحي
377
ليست ﻫي بالضرورة قراءة العصور األخرى له".
التصرمي ،أبقى على حامله ذاتا مفاﻫيمية ّ اتيبغصلكن مع االستشعار واإلعالم بهذا االختالل ال ّ
ﻫي ذات مفهوم "التراث" .وﻫذا بالطبع سقوط في متتالية من اإلخالالت بدءا بالحقيقة اللغوية
على أي من وجوه االستعمال اللغوي ،فال مسوغ ألن نخرج أو نمد مادة التراث لغويا بداللة
ليست تحتويها وال تنبغي لها ،داللة الخروج من الماضي لتدل على شيء أو عمل في زمن
الحاضر أو المستقبل ،ومن شروط صحة االصطالح والمفهوم االنضباط المعجمي.
الرابعة ذات القيمة الخطيرة والعظيمة األعظم عما دونها إطالقا وأولية في النقطة الثالثة أو ّ
االعتبار ،التي يتميز بها نظر الدكتور فهمي جدعان ،ﻫي واجب جهاد فكّ الحصار ،الذي ال حل
شروط البيانية المنوه بها: علميا سواه كما بينه بنحو واضح منير شفيق ،يقول فهمي جدعان وفي ال ّ
الراﻫنة .ألننا"الحقيقة أن عملية «توجيه» التراث المبدع ليست أمرا يسيرا في ظروف العالم ّ
لسنا سادة أفعالنا جميعها رغم أ ننا بكل تأكيد نود أن نكون كذلك .كما أننا لسنا بمنأى عن عوامل
صواب إن قلت أننا «محاصرون» تاريخيا. الفعل واالنفعال الذاتية والخارجية .ولست أجانب ال ّ
محاصرون بأنماط الفهم التقليدية العقيمة ،ومحاصرون بأوﻫامنا ورغباتنا وأﻫوائنا األنانية
والطائفية والعشائرية واألسرية والقطرية والشوفينية ،..ومحاصرون بسوء توزيع ثرواتنا
وبسوء استخدام ﻫذه الثروات ،ومحاصرون بقيود أجهزة ا إلعالم والثقافة والعلم ،ومحاصرون
اقتصاديا وصناعيا وتقنيا ،ومحاصرون بآالت القهر السّياسية واالجتماعية وبقوى التسلط
االستعماري الخارجية ..وبكلمة نحن محاصرون من كل الجهات! ومشكلتنا االستراتيجية األولى
ﻫي فك ﻫذا الحصار المضروب علينا .لذا فإن أية محاولة لوصف «التراث» الذي ينبغي أن
نبدعه ونورثه ﻫي محاولة عقيمة ابتداء .أو إنها ،على األقل ،ذات جدوى محدودة .وكل تراث
306
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
سينجم عنا في ظل ظروف الحصار القائمة ﻫو تراث متأزم أو مأزوم يكشف عن فوضى
األوضاع وتشابكها وعبثها أكثر مما يكشف عن منجزات أمة تحيا حياة طبيعية وتبدع منجزاتها
378
الحرية والفرادة .ﻫذا ﻫو الوجه العملي للمشكلة".
ّ بالقدر األدنى من
صحيح إال ما كان من العضل البياني ،الذي ينطبق ّ ال المضمون ذا الكالم ﻫذا إن نحن قرأنا
بموقع مرتكز المعالجة التشكيلية المغرضة ،إن نحن قرآناه بالتحويل البياني:
تراث ← عمل
فلن يكون ُمعبّرا إال على واقع األمة ،كونها ال زالت في إصر االستعمار بالمعنى التاريخي
ﻫو،
المهيمن على مطلق الداللة ومنها المعجمية والسّياسية .واآللية أو النسق في ﻫذا واحد ﻫو َ
نسق التخطيط العلمي العملي ،على مبدأي التوافق والتناسق ،أي العمل أو التخطيط من خالل
مرتكزات من شأنها أال تنتج إال نتائج ووقائع وواقعا معينا مقدرا محسوبا .وغالبا ما يكون ويعتبر
امتدادا للصراع والحرب في صيغة غير مياشرة معهودة .ونموذجه التطبيقي األوضح ﻫو
المعاﻫدات التي تلي الحروب الكبرى ،التي ال تسمى معاﻫدات إال على سبيل اللفظ ،ألنها في
حقيقتها حكم وسعي مباشر في اإلعدام الفعلي للقوة التاريخية والكيان التاريخي ،موضوع
المعاﻫدة والتخطيط .واألمم ليست في السواد واالستعباد للعدو ولكن في الكيان واألمة التاريخية
والسيادة .ومما يلحق تخطيطا بالمعنى الذي نريد ،خطة مورجنتاو وزير المالية األمريكي ،بعد
الحرب العالمية الثانية ،التي سعى من خاللها تحييد ألمانيا العظيمة القاﻫرة لقوى االستعمار
والكولونيالية ،ألمانيا المخيفة والمخوفة الجانب ،تحييدﻫا من قوتها التاريخية ،وتجريدﻫا من بأسها
صناعي الفعلي ،وحصرﻫا قص جناح البعد ال ّ
الشديد ،وذلك كما رأه نظر ﻫذا السّياسي يكفله ّ
القوة والبأس الشديد-
ّ بدون حياة وال الحية للدول وجعلها بلدا زراعيا أو ضيعة زراعية -بالطبع
كذلك اليابان كانت عنصرا تاريخيا أمميا بمعنى كونية ﻫذه العالقة الحيوانية التاريخية بين األمم،
العالقة التي قد لبست حينا صفة الداروينية أو النيتشوية أو حق المجال الحيوي ...
ﻫنا ليس أن نذكر على سبيل اإليجاز واالختزال إال عالقة المسلمين والعرب مادة الدين ،بدولة
الروم وبالغرب إلى حدود معركة بالط الشهداء ..إلى سقوط غرناطة ..إلى ح ّل الخالفة .و ّ
الرد
وأخص؛ وإن
ّ العكسي ،في حلة استعمارية أممية .ﻫذا ﻫو وضع المسلمين والعرب بنحو أوكد
كذب العر ُق الجرماني العظيم الذي جاء بيوﻫان جوته ،لئن كذب الشعب األلماني والياباني كالﻫما
مخطط حوض ما بعد الحرب العالمية الثانية تكذيبا ،وكان مثال واضحا ما قبلها إلى بلوغ ما بلغه
االسكندر ونابوليون ،فقد رأى التاريخ كيف كان مثلهما ،مسرح واقعي لرجال التاريخ .لئن كذبت
ألمانيا واليابان مخططات الحوض ،فقد صدق المخطط على العرب خطته ،وﻫو الوضع الذي
وصفه في غاية كالمه الدكتور جدعان ،وبرﻫانه وتوضيحه على ما يفي أبعاد الحصار كلها ،ﻫو
كارثة سقوط مشعل الثورة البوعزيزية التاريخية من اليد المصرية.379
378ن م – ص43-42
379انظر :الربيع العربي وقلعة الكومبرادور
307
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
380
MELUN
الصحيح أن نبي هللا داود -عليه السالم! -كان يصوم يوما ويفطر يوما 381
308
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وغسل مالبسه الملطخة بالدم والفضالت ويحاولون إطعامه لكن لألسف حصل له ما حصل
لحيفي ، 382إذ فقد القدرة على المضغ ! واكتفى بلقمتين في المساء ليبقى على قيد الحياة ويستمر
الرغم من قوة عزيمته وشجاعته اللتين ال حد لهما ،قضى نحبه من كثرة األمراض عذابه .وب ّ
والجنون الذي مسه بسبب قسوة اإلنسان وشراسته.
بعد غسله وتكفينه ووري التراب في الحفرة التي كنا سندفن فيها جميعا لوال الرسالة التي نشرت
في أمريكا!!!
384 383
... يوم فاتح يناير ،3333سقط الثلج على تازمامارت وغطى المنطقة برمتها مدة أسبوع
بكامله ،كنت صباح ذلك اليوم قبالة باب الزنزانة أراقب ندفه البيضاء تتساقط على قبور رفاقنا
في الساحة .وأنا أتملى ﻫذا المعطف األبيض الهائل ،كنت أتساءل عم يجعل الثلج وراء الجوار
في قمم الجبل الصغير ناصعا أكثر وأكثر بياضا من ثلج الساحة .وكلما أمعنت النظر ،ظهر
الفرق واضحا وجليا ،وخلصت إلى أن ثلجنا كان في حداد .فإذا كان البياض رمز الصفاء
والطهارة ،فإن ثلجنا كان لونه مياال إلى االصفرار وباﻫتا ،سرعان ما أصبح فيما بعد بنيا وبدون
لمعان ،ألن بياضه خجل من إخفاء جريمة اإلنسان385.
..استغل امبارك الطويل خرجاته الطويلة إلى الساحة .. 386وأقنع أحد الحراس بربط اتصاله
سريا مع زوجته نانسي (ثورية ) ..وقد وصلت رسالته إلى الواليات المتحدة األمريكية387.
.. مدام نانسي الطويل قد تقدمت بطلب إلى مجلس النواب األمريكي تحتج فيه على الظلم
الذي يعانيه زوجها و 08رفيقا آخرين 388في معتقل الموت بتازمامارت .وبعد أن روت المعاملة
الالإنسانية والنظام الجهنمي في المعتقل ،طالبت بلجنة تحقيق حول الموضوع لتسليط الضوء
على ﻫذه القضية الغامضة.389
..لقد أدلت ابنتك إلهام بتصريح في برنامج «أفريك -ميدي» في إذاعة فرنسا الدولية وقد
قالت بالحرف :توصلت بعدة رسائل من أبي المسجون منذ 3371في معتقل الموت بتازمامارت!
" 382حل الخريف وعرى األشجار من أوراقها ،كما عرى حيفي من عقله وروحه :إذ بعد سنوات عديدة من
العذاب والجنون توفي صديقنا الطيب يوم 32أكتوبر – "3383المرجع -ص010
383عالمات التعجب مني
384تذكرة ذﻫاب وإياب إلى الجحيم :مذكرات محمد الرايس -ترجمة عبد الحميد جماهري -منشورات االتحاد
االشتراكي -دار النشر المغربية -الطبعة األولى -نونبر -0222ص070 -073
385ن م -ص007
386لم يسمح بذلك إال بعد سنين من وجود في قبور ال ترى فيها الشمس
387تذكرة ذﻫاب وإياب إلى الجحيم :مذكرات محمد الرايس - -ص040
388من أصل 18دخلوا في معتقل الموت سنة 3371
389كانت السلطات الرسمية وفيما أذكر حتى الملك الراحل الحسن الثاني في أحد لقاءاته الصحفية أنكر وجود مثل
هذا السجن في مملكته
309
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
..كنت مستعدا للتعذيب ،المهم أال يمس سوء أبنائي وزوجتي والمبعوثين من الحراس390
.. لقد نستنا وأﻫملتنا بعض األحزاب السياسية ..
شخصية معروفة جدا وجد محترمة وتحظى بإنصات جاللة الملك تقوم بمساعيها لدى جاللته
لطلب عفوه .واألمر يتعلق ﻫنا بالسيد جاك بيرك المستشرق وعالم االجتماع والمؤرخ المشهور
الذي عمل إبان استعمار المغرب رئيس إدارة تحديث القطاع الزراعي) ،(SMPثم مراقبا مدنيا
في إيمنتانوت .لقد راسلني ﻫذا األستاذ العظيم وأخبرني بأنه كاتب جاللة الملك مباشرة بطلب
عفوه عنا .لم يفاجئني ما قام به ألن السيد بيرك اشتهر بعمله النبيل واإلنساني والتفاتاته الفروسية.
فقد ساﻫم في تحسين وضع الفالح وﻫو الذي حول سنة 3348جزءا كبيرا من سجن امنتانوت
إلى مدرسة ابتدائية وأجبر األﻫالي على تسجيل أبنائهم في المدارس مع سجن كل من عارض
ذلك من اآلباء ودفعه لذعيرة تصرف للمطعم المدرسي .وسهر أيضا على توزيع األكل والملبس
شهريا على األطفال لتشجيعهم على الدراسة .وكل سجين يعمل في الحقل أو الحديقة يمسك بثعبان
كان يخفف عقوبته أو يطلق سراحه .وﻫو الذي قضى على الرشوة في ﻫذه الدائرة التي كان
بعض األغنياء يحتكرون االتجارة فيها بإرشاء المراقبين السابقين أو القايد ،وﻫو الذي أمر
«الشاوش» (حارس المدرسة) بضربي وسجني بعد أن ﻫربت من الدراسة مرارا .وبما أنني
كنت يتيما فقد أرسلني إلى إحدى الزوايا لحفظ القرآن ،وبفضله تم بناء المستشفى والطرق
وازدﻫرت الزراعة والتجارة391
...لقد انتهت محنتك اليوم ،أنت حر اآلن ،ألن جاللة الملك نصره هللا قد أصدر عفوه ،لقد
توصلت ﻫذا الصباح بواسطة الفاكس باألمر من القصر الملكي .وسأرفع تقريرا عن اإلفراج عنك
قبل منتصف النهار..
تجاوزتني اللحظة ولم أستطع جمع مالبسي ،فقام معتقالن إسالميان وآخران ماركسيان بذلك
بدال عني!!392
أجل ﻫذا تقرير بأنه يوجد ووجد أن وجودي أو حدث وجودي تجميعي لثالثة مواقف تواجدية
"إسالمي"" ،ماركسي"" ،عسكري"≡ "انقالبي على النظام"؛ تجميعية لمناحي موجبة متطابقة
موقفا تواجديا!
بل إنه قد وجد آن تجميعي لحقل أوسع على اإلمكان في شروطه" :ثورة الملك والشعب".
إنه المنطق التواجدي ،وما اإلنسان باعتباره قيمة عملية ،ما ﻫو إال موقف تواجدي ،وﻫو مسؤول
في ﻫذا االستخالف.
310
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وﻫكذا يتجلي لنا بكل وضوح بأن قوة وسداد السّلوك االجتماعي وعلى مستوى األمة ،ﻫو
حينما يكون المنطق السّلوكي أقرب إلى المنطق الحق ،أي حينما يكون تجميعيا لمناحي ومواقف
تواجدية منتظمة؛ وعليه أرى منحى "الحِ لم" وما يحمل عليه من كظم الغيظ والعفو ،بفقه حكيم،
ألنه يحيد موانع االنتظام والترابط والتجميعية ،شرط الموقف السّلوكي المنطقي األصح واألقوم
ض َها ع ْر ُ ارعُوا إلى َمغ ِف َرةٍ ِم ْن َر ِبّك ْم َو َجن ٍة َ س ِفي الحق؛ فعلى عموم الخطاب الفردي والجمعيَ ﴿ :
ظ َوال َعا ِفينَ ضرا ْء َوالكاظِ ِمينَ الغَ ْي َ ت ِلل ُمت ِقينَ ال ِذينَ يُن ِفقونَ ِفي السراءِ َوال ّ ض أ ِعد ْاألر ُاواتُ َو ْ الس َم َ
تغفرواذكروا هللاَ فا ْس ُ س ُه ْم ُ شة ْأو ظل ُموا أنف َ الناس' َوهللاُ يُحِ ب ال ُم ْح ِسنِينَ ' َوال ِذينَ إذا فعَلوا فاحِ َ ِ ع ِنَ
على َما ف َعلوا َوﻫُ ْم َي ْعل ُمونَ ' أولئِكَ َجزَ ا ُؤﻫُ ْم َمغ ِف َرة َ وا ر ص ُ ي
ُ َ ْ ِ م لو ' هللا إال الذنوب
َ رفِ غ ي ْ
ن
ِْ َ َ َ ُ م و ' م ه ذنوب ِل
ار َخا ِل ِدينَ فِي َها' َونِ ْع َم أ ْج ُر ال َعا ِم ِلينَ '﴾(آل
ِم ْن َر ِبّ ِه ْم َو َجناتٌ ت ْج ِري ِم ْن ت ْحتِ َها األن َه ُ
هللا ال
بر فإن َ ص ْق َويَ ْ عل ْينا' إنه َم ْن يَت ِف َو َﻫذا أخِ ي' ق ْد َمن هللاُ َ عمران﴿ )310..311قا َل أنا يُوسُ ُ
عل ْيك ْم' اليَ ْو َميب َ تثر َإن كنا ل َخاطِ ِئينَ ' قا َل ال ِ عل ْينا َو ْ
آثركَ هللاُ َ ضي ُع أ ْج َر ال ُم ْح ِسنِينَ ' قالوا تاهللِ لق ْد َ يُ ِ
أر َح ُم الراحِ ِمينَ '﴾(يوسف)33-32 يَغ ِف ُر هللاُ لك ْم' َوﻫُ َو ْ
فالمنطقية بالمعنى صفة السّداد والقوام والصالح؛ ﻫذه المنطقية في السّلوك موقفا تواجديا ﻫي
أوال منطقية حقة ومطلقة ،والسّياقان معا مما تلونا من كتاب هللا العلي العظيم ،يذﻫبان بالبصيرة
إلى الحقل الداللي والفضاء الوجودي الحق واألوسع ،وﻫي مطلوب مسؤولية على الفرض فردا
واجتماعا وأ ّم ة ،إن على البعد االتصالي البنائي أو البعد االنتظامي التجميعي؛ أما البعد االتصالي
فهو أكثر وضوحا على البعد الفردي كما في السّياق األول ،وفيه قوله تعالى﴿:ا ْدعُوا َربك ْم
صالحِ َها َوا ْدعُوهُ َخ ْوفا َوط َمعا' ض َب ْع َد إ ْ األر ِ ضرعا َو ُخف َية' إنه ال يُحِ ب ال ُم ْعت ِدينَ ' َوال تف ِس ُدوا فِي ْ ت َ
إن َر ْح َمة هللاِ قريبٌ ِمنَ ال ُم ْح ْس ْنينَ '﴾(األعراف)11-14
والثاني صورته وتحققه ﻫو المؤسّساتية ،الجامعة المنتظمة للمواقف التواجدية والسّلوك الجمعي.
وأما الفقه الحكيم ضابط كل ﻫذا فهو من ذات القراءة الواعية المستبصرة ،وفيها عين معنى
التوبة الموصولة بداﻫة بالعفو وثمرتها المنطقية في السّلوك والبناء ،وشروطها وفقهها؛ فالرسول
صلى هللا عليه وآله وسلم حين قال لقريش يوم فتح مكة" :اذﻫبوا فأنتم الطلقاء !" استثنى منهم قوما
وقال" :اقتلوﻫم ولو وجدتموﻫم معلقين بأستار الكعبة !" فواقع ارتباط المستقبل بالماضي ال يرتفع
وال ينفصل شرطا في البناء ،بحيث وجوب حفظ قاعدته كما مستقبله مما شأنه أن يمس من مبادئه
أو يمثل خطرا محتمال في عناصره ومكوناته.
المنطق السّلوكي التجميعي ،ﻫو المؤسّساتية ،ﻫو أقصى إمكان للقوة التنظيمية االجتماعية ،ويكون
المدى بحسب المرجع التشريعي والقانوني؛ فهو قائم على ركنين:
الركن التجميعي االنصهاري ّ أ-
الركن التشريعي القانوني بّ -
311
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
االنصهارية تجعل المتعدد واحدا؛ ففي وضعنا ﻫنا وفي الموقف المعين فيه ،وكون اإلنسان
موقفا وعمال ،أصبح اإلسالمي والماركسي واالنقالبي ضد النظام واحدا ،وفي موقف "ثورة
الملك والشعب" كل واحد .والمثل األعلى ﻫنا ﻫو قول أبو بكر الصديق – رضي هللا عنه! -حين
بويع بالخالفة ،وبعد أن حمد هللا وأثنى عليه؛ قال" :أما بعد أيها الناس ! فإني قد وليت عليكم
صدق أمانة ،والكذب خيانة،ولست بخيركم ،فإن أحسنت فأعينوني ،وإن أسأت فقوموني ،ال ّ
والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء هللا ،والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق
منه إن شاء هللا ،ال يدع قوم الجهاد في سبيل هللا إال ضربهم هللا بالذل ،وال تشيع الفاحشة في قوم
قط إال عمهم هللا بالبالء ،أطيعوني ما أطعت هللا ورسوله ،فإذا عصيت هللا ورسوله فال طاعة لي
393
عليكم"
ﻫذا ﻫو أعلى وأقصى وﻫو األقوم تواجدا في المنطق االجتماعي المدني والسياسي على
اإلطالق؛ مستوف للشرطين معا ،انصهارية تامة ومطلقة على "مستوى األمة" والمرجع مطلق
قي قيمته الحقائقية التشريعية القانونية .فال غرو أن يعتبر انفتاح الدولة اإلسالمية واتساعها
سرعة ومدى ،أن يعتبر آية من آيات النبوة ،وأن يعجب نابوليون من ذلك.
في فقه التأسيس السياسي وفقه "ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة" "تحدث الملك الحسن الثاني
في ذاكرة ملك فقال( :إن أوفقير فرض علينا) ..وكان المهدي بنبركة يعتبر أوفقير صنيعة
الجيش الفرنسي وأن فرنسا انسحبت بشروط وأوفقير ﻫو خط االتصال بين "الماضي" والمستقبل
وﻫو عربون االستمرار بين الزمن الفرنسي ومغرب المغاربة" ..
ظل محمد أ وفقير يتسلق ﻫرم السلطة السياسية في المغرب على نهج أجداده الخونة كما كان ينعته
الخاص والكبير المقدم له من لدن المخابرات الفرنسيةّ شباب النضال أنذاك مستفيدا من الدعم
394
واألمريكية واإلسرائيلية واإليرانية".
ولذلك فمن األقوال ذات الداللة التاريخية في ﻫذه المسألة ﻫو المقالة المنسوبة إلى محمد أوفقير،
ال في المغرب كُون قتلوني شحال مساعد المقيم العام الفرنسي االستعماري" :كٌ ْ
ون كانوا ْر َج ْ
ﻫذي" ! 395معناه :لو كان يوجد رجال في المغرب لكانوا قتلوني منذ زمان !"
إن ﻫذا لهو المفسّر الوحيد لعدم الوحدة السّلوكية واالنطباق االنصهاري للمواقف واإلرادات
التواجدية لعناصر حقل الكيان االجتماعي السياسي المغربي -الحصار المعني عند فهمي جدعان-
درجة دنيا لحقل األمة بعد تمزيق لحمتها بحل الخالفة التي فرح بها الغرب الصليبي واليهودي
أكثر مما فرحوا بموت محمد الفاتح – رضي هللا عنه! -إنه وحده الوحيد الذي يفسر عدم سريان
االنطباق ال محقق في اآلن واللحظة الوجودية التي قال عنها محمد الرايس وﻫو في السجن
المركزي للقنيطرة ،نقطة الذﻫاب واإلياب من الجحيم ،جحيم المعتقل القبوري لتازمامارت:
312
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"تجاوزتني اللحظة ولم أستطع جمع مالبسي ،فقام معتقالن إسالميان وآخران ماركسيان بذلك
بدال عني" بعد تدخل من تقبل شفاعته بل و"يحظى بإنصات جاللة الملك" الموظف االستعماري
السابق االنتربولوجي المستعرب والمستشرق جاك بيرك.
إن ""أوفقير فرض علينا" و"أن فرنسا انسحبت بشروط وأوفقير ﻫو خط االتصال بين "الماضي"
والمستقبل وﻫو عربون االستمرار بين الزمن الفرنسي ومغرب المغاربة"؛ ﻫذه ﻫي حقيقة "إيكس
ليبان"؛ والواقع أن ال معنى ل"االستقالل" مع "أوفقير فرض علينا" وما ﻫذه االستمرارية التي
قبلها العقل السياسي .إن ﻫذا ﻫو الذي أبقى على نفس أحوال ﻫزيمة "إيسلي" وما تبعها من حلقات
تترى إلى االستعمار المباشر في صيغة الحماية الكاذبة .في الحقيقة ﻫو مغرب أنشأه االستعمار
تحرره الكامل على
الذي بقي جاثما على المغرب في أرضه وجيشه ومطاراته؛ فعطل رحلة ّ
صحرائه حين انطلق جيش تحرير الجنوب بأمر الملك محمد الخامس – رحمه هللا! 396-بل وشق
تلك الوحدة واالنصهار الذي جسدته ثورة الملك والشعب ضد المستعمر الغاشم وضد أعداء
الشعب من الخونة ،الخونة الذين والﻫم أمر المغرب في أﻫم مفاصله من الواليات والعماالت بل
وفي أخطر جهاز متحكم في الدولة "الجيش؛ وبهذا المخطط بلغ طور المساومة في خدمة ﻫذا
الجناح على ذاك ،المساومة على خيار النظام السياسي ،وقد بلغ استعداء أخوة األمس إلى حد
البقاء أو الموت.
مساومة أو باألصح ابتزاز فرنسا بشأن قضايا تاريخية تهم نظامه السياسي ودستوره وحدوده
التاريخية ،وال يجب أن ننسى مطالب المغرب في "األمم المتحدة" على لسان وفده برئاسة السيد
محمد بوستة ،بعدم المساس بوحدته الترابية وان حدود المغرب إلى نهر السينيغال ،خصوصا في
جلسات نونبر ودجنبر ،3302أي قبيل وفاة محمد الخامس – رحمه هللا! -في شهر فبراير
.3303ولمعرفة مدى تأثير ﻫذه المساومات واالبتزازات وﻫذه المخططات المحكمة المتحكمة في
الشأن ال داخلي واآلخذة بناصيته ،فإن نظام خطابنا اليوم يكاد أو ﻫو يجرم من كان مطلبه ﻫنا في
المغرب ما كان ذات يوم مطلب المغرب على منبر األمم المتحدة ،أقرت به وفود أﻫم الدول،
ويكفي أن نذكر منها االتحاد السوفياتي والهند وكوبا على البعد العالمي ،واألردن واليمن
وأندونيسيا وباكستان على البعد العربي اإلسالمي.
ليس شيء أصعب على اإلنسان من الحكم على المواقف واألعمال؛ فهو في غالب أمره يبني
على الظاﻫر والجزئي واآلني ،وبمنطق سيكولوجي قاصر عن كفل استيعاب وتعميل المعطيات
الموضوعية والواقعية ،ال بحسب الظاﻫر بل الظاﻫر والخفي ،وال الجزئي فقط بل الكلي ،واآلني
مجرد حلوى حاسم في حكم الطفل كلية ،وبسط المال لمن ﻫو مناه أو مستقر .ف ّ
ّ بل المآل وال
السلطان ﻫو كاف؛ يكاد تكون مقالة "حب الشيء يعمي ويصم" سارية محققة في عموم ذوات
396انظر :لماذا ضاعت الصحراء؟ نضال جيش التحرير المغربي بعد االستقالل -التاريخ المغاربي -يناير،12 ،
0202
313
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
اإلنسان؛ ﻫي منطقه ،السيكولوجي بالذات ،إال على الذين ﻫم إلى الحق كادحون ،ال يرغبون عن
شعلة اإليمان الذي تحمله قلوبهم متاع الدنيا وزخرفها عنه بديال؛ ﻫؤالء يرتفعون بحكمهم إلى
مجرد اتباع الظاﻫر وما تهوى األنفس؛ ّ حكم الحق ،ويجعلون ما دونه من المنطق السيكولوجي
فالعبرة بالحقيقة ال بمظاﻫر المواقف المخادعة.
إن الناظر المستبصر ،وبمعيار المالءمة المرجعية ،ال يصدر حكمه على مثل ما قام به جاك
بيرك وغيره في قرى األطلس البئيسة إال في إطاره الموضوعي ،ومن غير أن ينقض حقيقة
والحق في الخبر المتفق على صحته الذي رواه أبوﻫريرة – رضي هللا عنه! -عن رسول هللا -
صلى هللا عليه وسلم!" :-بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش ،فوجد بئرا فنزل فيها
الرجل :لقد بلغ ﻫذا الكلب منفشرب ،ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش ،فقال ّ
العطش مثل الذي كان قد بلغ مني ،فنزل البئر فمأل ُخفه ماء ثم أمسكه بفيه ،حتى رقي فسقى
الكلب ،فشكر هللا له فغفر هللا له .قالوا :يا رسول هللا إن لنا في البهائم أجرا؟ فقال" :في كل كبد
رطبة أجر" .وفي رواية للبخاري" :فشكر هللا له فغفر له ،فأدخله الجنة"
وفي رواية لهما" :بينما كلب يُطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني
397
إسرائيل ،فنزعت موقها فاستقت له به ،فسقته فغُفِر لها به".
فقد يعمل موظف طول حياته في عمل خيري أو لنقل ﻫكذا ظاﻫره وحكمه بالنسبة للذوات
المستفيدة والذوات غير المطلعة ،لكنه في الحقيقة ﻫو خادم لقضية مجالها أمد تاريخي بعمر
األمم؛ فعلى ﻫذا البعد ال تصح الشخصنة وال يالئم إال االعتبار الحقلي .إننا حينما نكون بصدد
موضوع في فضاء معين ،ال يصح أبدا وال قيمة علمية ألحكام غير معللة بأبعاد ﻫذا الفضاء .ذلك
أن أعمال جاك بيرك ﻫنا موضوعا للتقويم ليست من مهمات األشخاص ،بل ﻫي من واجبات
وأعمال االجتماع السياسي المنطبق في إطار ما بالدولة وأولي األمر في األمة؛ يقول أمير الجهاد
شكيب أرسالن تعقيبا على ما توصل إليه مخططو المواجهة في الصراع التاريخي بين الغرب
واإلسالم بأخطر بعديه االستعماري والتبشيري ،من كون ﻫذا النسق الذي عمل فيه جاك بيرك،
أنجع سالح لمحاربة اإلسالم سواء في عقر داره أو في مجال دعوته وانتشاره؛ قال شكيب
أرسالن:
"فنحن ال ننكر ما قاله المسيو بونه موري من أنه ال وجه للمقايسة بين مؤسّسات اإلسالم
والنصرانية في إفريقية وغيرﻫا من اإلتقان والتفنن ،وتنوع العلوم ،والصناعات ،واشتراك النساء
مع الرجال في ﻫذه المشروعات الخيرية ،وما تأتي به ﻫذه الراﻫبات من الخوارق في خدمة
اإلنسانية .كال وهللا ال ننكر ذلك( ،والحق من ربك فال تكونن من الممترين) .ولكن مما ال ينكر
أيضا أن انحطاط المؤسّسات الخيرية اإلسالمية ،إنما وقع بانحطاط القوة السياسية اإلسالمية في
األعصر األخيرة ،أما قبل ذلك فلم تكن مدينة تذكر في اإلسالم إال فيها البيمارستانات ،ودور
397اإلمام ابن باز :شروح الكتب /رياض الصالحين -تعليق على قراءة الشيخ محمد إلياس12 -من حديث:
(بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش)..
314
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المجاذيم ،والمجاذيب ،ومالجئ الزمنى ،ومالجئ العميان وكل ﻫذه المؤسّسات كانت لها أوقاف
دارة ،ومنابع رزق ينفق منها عليها سعة.ّ
ال بل الذي خطر ببال المسلمين من جهة إسداء الخير ،وإماطة األذى ،وتخفيف آالم البشر قد
وصل من التناهى إلى درجات ،لم تبلغها أوربا في عصر مدنيتها هذه ،ودل على أن في اإلسالم
398
من رقة الشعور ،ودقة اللحظ ،وتوقع النادر من النوازل ،ما ليس في غيره".
فلئن كان من البديهيات أن الحكم الصحيح ليس للذات بل للحقيقة ،فحقيقة عمل جاك بيرك أنه
ليس طلفا منه وتفضال ،إنما ﻫو ضمن حقل ذي وظيفة تاريخية ،ﻫذا بعدﻫا -لألسف! -وليس
يصح حكم من دونه منطقا؛ روح عداء تاريخي وجودي ،وﻫذا ﻫو خطر الالتباس وما تكنه
دموع! يقول الدكتور حسن بن إدريس العزوزي في مالحظاته على ترجمة جاك بيرك لمعاني
القرآن الكريم:
"وإذا كان بيرك قد خالف طريقة كثير من تراجمة القرآن من المستشرقين في وضع مقدمات
ضافية ومسهبة تتضمن عرض تاريخ موجز لإلسالم ولحضارته وسيرة نبينا محمد صلى هللا
عليه وسلم ومراحل جمع القرآن وترتيب سوره وغير ذلك ،فإن مترجمنا قد حاول أن يخفي
أفكاره وراء ُمسوح العبارات اللغوية المعقدة والتحذلقات البليغة الملتوية التي طبعها بكثير من
الشاعرية حينا ومن التعقيد أحيانا أخرى ،وﻫي األفكار التي يكاد ال يفطن لخطورتها ومدى أثرﻫا
السلبي إال من من أحسن قراءة ما بين السّطور وتمعن جيدا في ما تحمله عباراته من إشارات
وتلميحات خفية .إن الذي يظهر بوضوح أن بيرك كان لبقا – إن لم نقل متحايال -عندما مزج بين
أسلوب الطعن واللمز وأسلوب اإلعجاب ببعض القضايا القرآنية ،وفي عملية المزج ﻫذه ما ال
يخفى من التمويه على القارئ من جهة وإرضاء أصدقائه وقرائه من المسلمين من جهة أخرى.
إن عملية المزج بين أسلوب القدح وأسلوب المدح في مقدمة الترجمة ال تعبر عن منهج جديد
يطلع به علينا بيرك ،وإنما عرف بذلك في كثير من مراحل حياته العلمية والفكرية ،إذ ال يخفى
أن بيرك يحسن الظهور بمظهر المستشرق ذي الوجهين ،فهو إن حاضر في البالد العربية أو
أجري معه حوار عربي راح يتشدق بكل أوصاف االنبهار بأسلوب القرآن ومضامينه ومقاصده،
واإلفصاح عن مدى إعجابه ببذور العقالنية والروحانية السامية التي يتضمنها القرآن الكريم .أما
إذا خاطب جمهور الفرنسيين فإنه ال يتوانى في القدح في مضامين القرآن وتأكيد أنه يحتوي على
أمور غير معقولة ومتجاوزة ...لقد أراد جاك بيرك أن يحافظ على عالقاته الوطيدة مع كثير من
مثقفي الدول العربية واإلسالمية مع االحتفاظ في الوقت ذاته بشخصية المستشرق الملتزم بأفكاره
ومبادئه المقتنع بمواقفه تجاه اإلسالم والقرآن الكريم على وجه الخصوص".
إن المتمعن مليا فيما تكاد تخفيه عبارات بيرك المتحذلقة والمعقدة من إشارات وتلميحات غير
بريئة يتبيّن له نهجه اسلوب التشكيك في الوثوق بالقرآن الكريم ومصدره ومصداقية الوحي
المحمدي ،فابتداء من الصفحات األولى من المقدمة يعقد المترجم مبحثا لقضية ترتيب اآليات
315
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والسور وﻫي القضية التي ال يمكن ألي مستشرق يبحث في القرآن وعلومه إال أن يتعرض لها
بما يثير التساؤالت الغريبة ويفرز اإلشكاالت المثيرة .يقول وﻫو يخاطب القارئ :إن ترتيب
السور في المصحف ال يتوافق مع الترتيب الزمني للتنزيل أو النزول ،واألكثر من ذلك أننا نجد
في إطار السورة الواحدة آيات نزلت في أوقات متباعدة ،وال ترى العقيدة وال علوم اإلسالم أي
حرج في ذلك .بل إن التنافر بين ترتيب النزول وترتيب الجمع يتعاظم أحيانا ليصل إلى حد
399
التناقض كما في سورة األنفال وسورة التوبة أو الفاتحة"..
وبعدما قدم نماذج على ما يزعمه متناقضا ومتنافرا في السور العشرين األولى من المصحف،
ال يجد بيرك ما يختم به -وﻫو يريد زرع روح الشك والتشكيك في ذﻫن القارئ -إال أن يقول:
"إن المؤمن ليتساءل -بطبيعة الحال -عن ﻫذه التناقضات والتفاوتات الشكلية ،لكنه بالمقابل
يالحظ -كما نفعله -بأن كثيرا من التنزيالت المكية قد تجمعت في آخر المصحف لكي تندغم في
400
لغز"
والغريب في األمر أن جاك بيرك الذي طالما تشدق بكونه استأنس بمعظم التفاسير القرآنية
القديمة والحديثة لم ينتبه لعلم مستقل بذاته يسمى "علم المناسبات" وﻫو يختص بإبراز وجوه
المناسبة بين السور فيما بينها وكذلك اآليات في إطار السورة الواحدة ،حيث اﻫتم كثير من العلماء
والمفسّرين بترابط اآليات وتناسقها وكيف أن اآلية القرآنية تأخذ بأعناق اآليات السابقة والالحقة
بصورة تجعلها منسجمة بعضها ببعض وملتئمة وغير متنافرة او متناقضة كما يزعم بيرك ،وقد
أشار اإلمام فخر الدين الرازي (ت606ﻫ) في تفسيره -وقد رجع إليه بيرك كثيرا في تعليقاته–
إلى كثير من مناسبات السور واآليات حتى عد من أبرز المفسّرين اعتناء واﻫتماما بذكر تلك
401
اللطائف والمناسبات.
إن مثل ﻫذه الشبه التي أوردﻫا بيرك والتي تعد قديمة قدم االستشراق نفسه تسعى بوضوح إلى
403
تأكيد 402أن القرآن إنتاج بشري وليس إلهيا".
لقد سبق أن خصصنا لموضوع التناسق القرآني الترتيبي والموضوعاتي الجزء الثالث من
"تذكرة العلماء في الربانية والمنهاج"" ،مفاتيح علم الكالم" بجزأيه األول والثاني ،وبيّنا فيه
أن هذا التناسق هو بحق آية من آيات القرآن الحكيم؛ كذلك تم الرد على هذه الشبه بصفة
399
O Jacques Berque ; Le Coran , p714-715
400
O Le Coran p714-715
401من أشهر من أبرز هذا العلم (علم المناسبات) بوضوح اإلمام برهان الدين البقاعي (ت828ﻫ) في كتابه "نظم
الدرر في تناسب اآلي والسور" طبع في 00مجلدا و اإلمام السيوطي في كتابه "تناسق الدرر في تناسب السور"
وغيرهما -المصدر-
402ال شك في عدم سالمة هذا اللفظ
403انظر :مالحظات على ترجمة معاني القرآن الكريم للمستشرق الفرنسي جاك بيرك -الدكتور :حسن بن إدريس
العزوزي -ص31..3
316
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
خاصة في ردنا عل ى الجابري" :الجابري دون عتبة القرآن الكريم والمرجفون في الفلسفة".
وبخصوص جاك بيرك باعتباره من دهاقنة االستشراق ممن وهبوا حياتهم رباطا في جبهته
وانتهى إليهم علمه أوله وآخره ،فإننا نذكر بالحقيقة الكبرى التي ال ينبغي إغفالها طرفة
عين:404
يؤكد يوحنا فيك 405على أن دراسة القرآن واللغة العربية قد جاءت كمنطلق لالستشراق بسبب
صليبيين بقوة السّالح ال يؤدي إلى تنصير المسلمين بل اعتقدت
فكرة التبشير حيث أن انتصار ال ّ
الكنيسة في أن قوة الكلمة هي األساس لتحقق التبشير في ضوء العقل .ومن هنا جاءت فكرة
406
السيطرة على نبع العقيدة اإلسالمية أال وهو القرآن.
ومن حقيقة المساومة والحصار المضروب في ارتباطه بالسعي الحثيث لوأد مقومات العقل العربي
اإلسالمي؛ والعربية هي اللسان ،والقرآن عربي والشريعة حكم عربي؛ من واضحات هذه الحقيقة ،أن ال
فرنسا وال العقل الذي وراء اليونسكو لم يرقب ضميرا ً وال اهتماما لشأن عظيم؛ فبينا جهود المغرب في
تعريب التعليم الجامعي بعد أن قطع أشواطا ودرج درجات في هيكلة ومنهجة التعليم االبتدائي والثانوي
في ذلك ،إذ تم االبتزاز بعد زوبعة زيارة بانكيمون إلى تندوف والصدامات التي صاحبت ذلك مع
ال مينورسو حتى أوشك أن ينقل األمر إلى مجلس األمن لوال تدخل الولي الحمائي والقسيم االستعماري لكن
بثمن غير بخس وصريح ،ضمنه فرض اللغة الفرنسية من جديد على التعليم كلية؛ أي النحو القسري
بالعربية إلى االعتبار التراثي.
جامع القول ما قاله فهمي جدعان بأن مفهوم "ا لتراث" ليس يبقى في حدود القضايا البيانية
والمفهوماتية ،إنما هو في صلب الصراع الحضاري والوجودي وسيلة وسالحا ً ذا حدين ومنحيين
متناقضي الوظيفة والقيمةن منحى منتج ومبدع ،وآخر مقاوم سلبي ومعطل؛ ومن ثم كان توجيه "التراث"
هو القضية؛ القضية األكبر خطورة ،والذي يدلك على هذا المدى هو أن حلها مرتبط بفك الحصار
الكولونيالي الجاثم على أجهزة دول األمة العربية اإلسالمية المتحكم في عقلها السياسي السائر بها والمنظم
لها كيفما شاء.
317
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ابستيم مفهوم
االستشراق
"التراث"
"في مواجهته للعدو وجهاده بقوة وثبات جديرين بالتأ ّمل والعرض على فقهاء اليوم وعلمائه،
صليبي أو وحين كشف الشيخ محمد حسين عن حقيقة الوظيفة التي رسمها شياطين االستعمار ال ّ
التي يراد لمؤسّس ة الجامعة العربية ممثلة في لجنتها الثقافية أن تقوم بها ،حين كشف في مقال له
صيصا لما تبقى مما لم يبلغه
بمجلة األزﻫر عن الطبيعة الهدامة للكتب ال ُمترجمة الموجّهة خ ّ
السّالح من جبهة دين األمة وخلقها؛ جاء في أحد ردوده القوية المسدّدة قوله:
« وقبل أن أتناول ﻫذين الكتابين أحب أن أؤكد لجامعة الدول العربية وللجنتها الثقافية الموقرة
التي يرأسها طه حسين أن العرب لم يُغلبوا من ضعف في الفلسفة وال اآلداب وال التاريخ .ولكنهم
غُلبوا وض ُِربَ ْ
ت عليهم الذلة؛ ألنهم متخلفون في العلوم التجريبية المادية بكل فروعها الكيميائية
والطبيعية والميكانيكية ،النظرية منها والتطبيقية ،غلبوا ألنهم ال يملكون من المصانع ومن أدوات
تحررون به من سجنهم االقتصادي ،الذي يسخرﻫم فيه لجمع القتال ما يناﻫضون به عدوﻫم وما ي ّ
الثروات له كما يسخر العبيد ثم يحاربهم بهذه الثروات نفسها ،ويشتري بها من رجالهم من يقوم
407
على حراسة ﻫذا السجن الكبير».
وبخصوص الكتابين" :أحدﻫما مما أوحت به السفارة األمريكية وﻫو( مختارات من أمرسون)،
واآلخر مما أوصت به اليونسكو وﻫو (قصة الحضارة) لول ديورانت ".ومن بعد كشف ما
407حصوننا مهددة من داخلها :بقلم الدكتور /محمد محمد حسين – الناشر مكتبة ابن تيمية -الجيزة – الطبعة األولى
-ص658
318
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يحمالنه من الشر والخبث الذين ال شر وال خبث بعدﻫما ،مِن رفع قدر موسى عليه السالم
ومقدسات اليهود في جهة ،والنيل من رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ومن صحبه الكرام
رضي هللا عنهم ،والحط من كل ما يمت بصلة إلى اإلسالم دين وأمة وتاريخا ،يقول:
"ذلك ﻫو لب الكتاب الذي أوحت به السفارة األمريكية لطه حسين فترجمه بأموال العرب،
ض
ض ُه ْم إلى َب ْع ٍ
وأﻫداه إلى شبابهم ومفكريهم .ولعنة هللا على شياطين اإلنس والجن ﴿يُوحِ ي َب ْع ُ
القو ِل غُ ُرورا﴾
ف ْ ُز ْخ ُر َ
...
أما (قصة الحضارة) ل(ول ديورانت ) 408فقد أصدرت منه اللجنة الثقافية حتى اآلن ستة عشر
جزءا ،ويكفي أن نراجع من ﻫذه األجزاء العديدة الجزءين اللذين تناوال حياة سيدنا عيسى وحياة
سيدنا محمد عليهما الصالة والسالم لنتبين أن اختيار ﻫذا الكتاب للترجمة جريمة دبرتها
الصهيونية الهدامة المتخفية في زوايا اليونسكو ونفذتها بيد طه حسين وأمثاله في جامعة الدول
409
العربية".
«ال يبلغ العرب درجة األستاذية في ﻫذه العلوم الجديدة التي أذلهم عدوﻫم بتفوقه عليهم فيها إال
إذا أصبحت ﻫذه العلوم ملكا لهم ،وﻫم ال يملكون ﻫذه العلوم وال يحسون أنها علوم عربية إال إذا
قرءوﻫا بالعربية وكتبوﻫا بالعربية .وسيظلون يحسون أنهم غرباء عليها وأنهم متطفلون على
أصحابها طالما ظلوا يقرأونها ويكتبونها بغير لغتهم.
ولكن اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية ،وعلى رأسها طه حسين الذي تشهد كتبه أنه لم يكن
يروج
إال بوقا من أبواق الغرب ،وواحدا من عمالئه الذين أقامهم على حراسة السجن الكبيرِ ّ ،
لثقافاته ويعظمها ،ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جالديهم .طه حسين الذي لم يمل من
الكالم عن جامعة البحر األبيض المتوسط ،التي دعت إليها فرنسا باألمس والتي تدعو إليها
مقومات
أمريكا اليوم .طه حسين الذي يزعم لمصر انها جزء من البحر األبيض المتوسط في ّ ِ
شخصيتها ،وليست جزءا من عرب نجد واليمن والبحرين والعراق والسودان .طه حسين الذي لم
ب في وﻫمه أمة ،ألن قِوام الدول في زعمه ﻫو المنافع المادية ،وألن (تطور الحياة
يب ُد العر ُ
408
Will durant
409ن م – ص313-312
319
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
اإلنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة ال تصلحان أساسا للوحدة السّياسية،
ُقر معنا ﻫذه الحقيقة ،ألنه يزعم للعرب أن السبيل وال قِواما لتكوين الدول) .طه حسين ﻫذا ال ي ّ
إلى نهضتهم ليس ﻫو ترجمة العلوم ،ولكن السبيل إلى نهضتهم أن يذوبوا في الغرب ،وأن يخلعوا
من أنسابهم ويُقلعوا من تربتهم ليُغرسوا في تربة الغرب ،ولذلك فهو يهلك أموالهم في ترجمة
شكسبير الذي تُرجمت رواياته من قب ُل أكثر من مرة ليحابي بها بطانته وحزبه فيغدق عليهم مما
تحت يده ،بل ﻫو يهلك أموالهم في ترجمة ما لُعِنَ به أجدادﻫم ،وما سُب فيه أسالفُهم ،وسُفِّه دينهم،
وافت ُ َ
410
ري على نبيهم».
صليبي األمة اإلسالمية أجل ،إن ﻫذا لهو الواقع وإن ﻫذا لهو الوصف الحق ،فما غَلب الغرب ال ّ
السر الوحيد في بؤرة ّ من بعد غلبه إال من بعد ظفره بالكنز المستم ّد منه بأسُه الشديد ،كنز العلم،
صعُود شبه الخَارق بالنسبة للقاعدين والمتخلفين صة االنطالق للنهضة ولل ّ فلورنسا ،بُؤرة ومن ّ
الذين َرضوا أن يكونوا مع الخوالف ،فطبع على عقولهم واجتماعهم بالج ْهل وال َمذلة والهزي َمة.
411
األرضي ،مجال االستخالف'.
ح التسْخِ ير والتحكم في المجال ْ
فالعل ُم ﻫو مِفتا ُ
على أن الذي وجب اعتباره من إمكان االستنباط فيما يخص حيثيات وإحداث مفهوم "التراث"
في حقل العلوم اإلنسانية المحدثة ،أي في نظمة االستشراق ،وﻫو الحقل الذي احتضن ويحتضن
العمل به فيما يسمى بحركة التحقيق والعناية بالتراث بمعنى ممزوج بين المعجمي الساذج
والمفهوماتي الدخيل والمغرض ،ﻫو أنه بمعطى الغاية المزعومة في تقدم الشرق والمسلمين
صليبي وقيمه ومقاسه ومخططه صة وإخراجهم من ظلمات التخلف إلى النور بعين الغرب ال ّ خا ّ
في صراعه الحضاري ،أن ﻫناك عالقة نظماتية بين "االستشراق" و"األنتربولوجيا" و"القطيعة
مع التراث" ،في نظمة وظيفتها على مرتكزين اثنين:
-3القيمة البيانية المحدثة والخطيرة لمفهوم "التراث" الحاوي لكل ما ﻫو خارج الحضارة
الغربية ،أصوال ولو كانت وحيا من السّماء أو عمال بشريا ولو كانت أسسا للعلوم التي بنى عليه
الغرب صناعته وقوته.
-0إحياء الموات التاريخي وعوامله بجعله من المفكر فيه ،يكفي في ذلك فقط تحفيزه وإثارته،
مثل النعرات الجاﻫلية ما قبل اإلسالمية.
410ن م – ص623-622
411جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي – ص408-407
320
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إنك لو ذﻫبت تنظر إلى أكثر القوانين العلمية تأثيرا في مجاالتها ،لوجدت مصدرﻫا حدسيا ومن
ذات أثرﻫا في رائز العقل بسبيل السّؤال أو تساؤل المشهد المعطياتي .وإنك لو اعتبرت فقط
معطيين اثنين:
« -3وال أقول تراثهم؛ فإن هذه الكلمة قد أصبحت بغيضة عندي جدًّا ،لما توحي به هذه األيام عند
412
بعض النَّاس من الماضي السحيق والفلكلور والمتحفيات»
« -2وحين ظهرت المطبعة في القرن الخامس عشر الميالدي ،كان المستشرقون من أسبق الناس
ي .وإن المرء ليعجب من غزارة ما طبعوه من تراثنا ،وكأن ﻫذا االختراعإلى طبع الكتاب العرب ّ
العظيم إنما جاء لخدمة ذلك التراث وحده ،وإذاعته ونشره ،وكأنه لم يكن بين أيدي الناس في تلك
413 ُ
تراث العرب». األيام من تراث اإلنسانية ،إال
صدق رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم إذ قال" :إن من البيان لسحرا" .إن العلم الطبيعي
الرمزية ،وكذلك التفكير كونه بناء قلبيا الرياضي باألساس والمنطقي قائم على ثبوتية الداللة و ّ و ّ
تصور من خالله األشياء وتقوم به باعتبارﻫا حقائق .فإذا اختل نطقيا عقليا يبنى عليه السّلوك وت ّ
تصور وفسادارباط الحقيقة بين األشياء ورموزﻫا ،والمفاﻫيم وحقائقها ،فانتظر خلال مثله في ال ّ
نظيره في الموقف المرادف .وﻫذه أمور قائمة بالعلم المنتظم بالحق ،ال يشفع فيها صدق اللهجة
وال حسن النوايا.
تصوره وتتمثله في
ّ ت اإلحكام دقيقة آليات من عندﻫم بما جعلوك ﻫم أو تراثا أنت إن ما تسميه
ﻫذا المفهوم األنتربولوجي "التراث" ﻫو عندﻫم في حقيقته علوما وبالتحديد "العلوم اإلسالمية".
وحينها أو ﻫذا بالضبط ما نقرأ به على وضوح بل وقراءة واعية ومميّزة قول الطناحي آنفا،
وسيأتي من أقواله أو ما نسوقه منها ما يبين ﻫذا أكثر.
وال شك أننا سنعقب على قول عبد المجيد دياب – رحمه هللا!:-
« أخذ األوروبيون عن العرب كل ما نفعهم يوم نهضتهم من ضروب المعارف البشرية ،وﻫاﻫم
414
اليوم يعيدون إلينا شيئا مما تعلموه من أجدادنا وزادوه بعلمهم».
إن الكاتب يريد أنهم أعادوا 'إلينا' علم المخطوطات وتحقيق النصوص!!
كال! إنها أكبر عملية سطو علمي حدثت في التاريخ ،وأخطر عدوان حضاري يجعل الدين
صناع ة ضمن التراث ،المفهوم المحدث ليس المعجمي ،وقد أكبوا النخبة المتعلمة من وعلوم ال ّ
321
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المسلمين على مسمى العلوم اإلنسانية واإلنتربولوجيا وعلم المخطوطات ،على غاية عدم االﻫتمام
صناعي ة الشرط الوحيد من بعد االعتماد على هللا تعالى رب العالمين ورب األسباب،
بالعلوم ال ّ
القوة والعزة ،وهلل
الرقاب وفي الديار ،والعودة إلى سابق ّ
صليبية المتحكمة في ّ تحرر من إصر ال ّ
لل ّ
العزة ولرسوله وللمؤمنين.
"اإلسالم"
المنطق المتسامي نقض األنتربولوجيا
فوق -تاريخي
واآلن ومع قراءة هذا الفصل أمكنك التلقي والتواصل التام مع خطاب وبيان إدوارد سعيد ،وما معنى
صفة الشذوذية التي أضفاها على شخصه ،فهي حرفية خادمة قومية وتاريخية ودينية ،قل من يحسنها ال ّ
ومن يستطيع أداءها والقيام بها:
"إال أن وجهة نظر صارمة كهذه لإلسالم ،بال متغيراته البسيطة خصوصا ً بالنسبة لفكر له من
الترف والثراء ما لفكر ماسينيون لم تؤد إلى عدائية عميقة لإلسالم من جانب ماسينيون .وحين
يقرأ المرء ماسينيون فإنه يفاجأ بإلحاحه المتكرر على الحاجة للقراءة المعقدة المتشابكة – وهي
توجيهات يستحيل على المرء أن يشك في إخالصها المطلق .وقد كتب عام 3313أن نمط
االستشراق الذي يمارسه لم يكن "هوسا ً بالغريب المدهش أو رفضا ً ألوروبا ،بل خلق مساواة بين
مناهجنا في البحث وبين التقاليد المعاشة للحضارات الغابرة" .وحين وضع هذا النمط من
االستشراق موضع التطبيق ،في قراءة نص عربي أو إسالمي ،فقد أنتج تأويالت ذات ذكاء يكاد
يكون جارفاً .ومن الحمق أال يحترم المرء العبقرية المحض والجدة الطرية لعقل ماسينيون.
322
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
بيد أن ما ينبغي أن يشد انتباهنا في تحديده الستشراقه عبارتان" :مناهجنا في البحث" و"التقاليد
المعاشة للحضارات الغابرة" .فقد رأى ماسينيون ما فعله عملية تركيب لك ّمين متضادين بصورة
عامة ،إال أن الالتناظر الغريب بينهما هو ما يزعج المرء ،ال حقيقة التضاد بين أوروبا والشرق
فقط .وما يتضمنه قول ماسينيون هو أن جوهر الفرق بين الشرق والغرب هو الفرق بين الحداثة
والتراث القديم .وبالفعل ففي كتاباته عن المشكالت السّياسية والمعاصرة ،وذلك هو المجال الذي
يستطيع المرء أن يرى فيه بصورة أكثر فورية محدودية منهج ماسينيون ،تبرز الثنائية الضدية
"الشرق والغرب" بطريقة غريبة جداً.
في ذروة امتيازها ،نسبت رؤيا ماسينيون للمواجهة بين الشرق والغرب مسؤولية عظيمة إلى
الغرب من أجل غزوه للشرق ،واستعماره ،وهجومه الذي ال يني على اإلسالم .وكان ماسينيون
محاربا ال يكل من أجل الحضارة اإلسالمية ،كما تشهد مقاالته ورسائله العديدة بعد عام ،3348
تأييدا ً لالجئين الفلسطينيين ،ودعما ً لحقوق العرب المسلمين والمسيحيين في فلسطين ضد
الصهيونية ،ضد ما س ّماه بقسوة جارحة ،باإلشارة إلى شيء كان قد قاله أباايبان" ،االستعمار
البرجوازية" االسرائيلي .غير أن اإلطار الذي وضعت فيه رؤيا ماسينيون نسب أيضا ً الشرق
اإلسالمي إلى زمن قديم أساسياً ،ونسب الغرب إلى الحداثة .ومثل روبرتسن سميث ،اعتبر
ماسينيون الشرقي ال رجال حديثا ً بل سامياً ،وقد قبضت هذه الفصلة التقليصية بقوة على <زمام>
فكره .ففي سنة ،3302مثال حين نشر ماسينيون وجاك بيرك ،زميله في الكوليج دو فرانس،
حوارهما حول "العرب" في مجلة الروح ،أمضيا جزءا ً كبيرا ً من الوقت في جدال حول ما إذا
كانت أفضل الطرق لمعاينة مشكالت العرب المعاصرين ببساطة أن يقال ،في المحل األول ،أن
الصراع العربي – اإلسرائيلي كان في الواقع مشكلة سامية ،وقد حاول بيرك أن يرد ذلك بلطف،
وأن يدفع ماسينيون نحو اإليمان باحتمال كون العرب مثل بقية شعوب العالم قد تعرضوا لما
أسماه بيرك تغيرا ً علم إنساني <انثروب ولوجيا>" لكن ماسينيون رفض هذا المفهوم مباشرة
وبصورة كلية وفورية .ولم تتجاوز جهوده المتكررة لفهم الصراع في فلسطين والكتابة عنه ،على
إنسانيتها العميقة ،الخالف بين إسحاق وإسماعيل أو ،فيما يتعلق بخالفه مع إسرائيل ،التوتر بين
اليهودية والمسيحية ،وحين استولى الصهاينة على المدن والقرى العربية فقد كانت حساسيته
323
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
415االستشراق -ص137-130
324
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
325
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الثاني
"يتضح من تصرفات الرئيس التونسي وبياناته أن رحلته الثقافية (التي بدأت بتشابه دقيق مع
األفكار التي يلقيها دعاة الحضارة الغربية واإلرساليون المسيحيون والمستشرقون) تستمر وتقطع
أشواطا بعيدة ،وأنه قد وصل اآلن إلى مرحلة يصعب عليه التزام التعريض والكناية وقد بدأ
يعرب عن أفكاره بتصريح بدون أي حذر وتحفظ ،بل يتعدى أحيانا ً إلى تجرؤ شنيع ،ويدل على
ذلك تصريحاته التي أثارت ضجة في العالم اإلسالمي ،والتي أدلى بها في مؤتمر المدرسين
والمربين لمناسبة «الملتقى الدولي حول الثقافة الذاتية والوعي» المنعقد في تونس في مارس
١۹٨٤م وقد نشرت الصحف التونسية تصريحات الرئيس ،بحذف فقرات كانت أكثر تهجما على
الرسمية الفقرات
اإلسالم ،وشحصية النبي صلى هللا عليه وسلم كما حذفت وسائل اإلعالم ّ
416
النافرة".
"وتفيد بعض التصريحات الصحفية أنه قام بتعديالت في طريقة الصالة وتالوة القرآن كذلك،
مصادمة لجمي ع النصوص الثابتة والمسلمات البديهية وقد صرح بهذه التعديالت الجديدة في عدد
من خطاباته ،وهذا يدل داللة قاطعة على أن مرجعه في هذه اآلراء والنظريات المستشرقون
الحاقدون وأعداء اإلسالم المغرضون ،أو أن عقليته نشأت – هذه النشأة المنحرفة اتي تختلق هذه
417
اآلراء المشبوهة الشاذة وتدعو إلى هذا «التجدد» الماحق للدين".
326
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
327
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
استيقظ صاحبنا – كاتب ﻫذه الصفحات -بعد أن فات أوانه أو أوشك ،فإذا ﻫو يحس الحيرة
تؤرقه ،فطفق في بضعة األعوام األخيرة ،التي قد ال تزيد على السبعة أو الثمانية ،يزدرد تراث
آبائه ازدراد العجالن ،كأنه سائح مر بمدينة باريس ،وليس بين يديه إال يومان ،وال بد له خاللهما
أن يريح ضميره بزيارة اللوفر ،فراح يعدو من غرفة إلى غرفة ،يلقي النظرات العجلى ﻫنا
وﻫناك ،ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل؛ ﻫكذا أخذ صاحبنا – وما يزال – يعب صحائف
التراث عبا سريعا ،والسّؤال ملء سمعه وبصره :كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها حي
في عصرنا ﻫذا ،بحيث يندمح فيها المنقول والصيل في نظرة واحدة؟
وفي ﻫذا الكتاب محاوالت لإلجابة ،ربما أصابت ﻫنا أو أخطأت ﻫناك ،فلعل القارئ أن يفيد
صواب وأن يعفو عن الخطإ ،ال سيما إذا وجده خطأ من شأنه أن يثير الحوار النافع ،حتى بال ّ
418
ننتهي معا إلى ما يرضي ويريح».
وفي عرضه للسّؤال المحوري :ﻫل يوجد تعارض بين العربية والمعاصرة أو أن ثمة طريقا
يجمع بينهما؟ يقول زكي نجيب أو مما جاء في قوله ﻫذه الكلمة ذات القيمة النقدية التي تغني حقا
الرد عن كثير وكثير جدا من ألوف المثقفين الذين تنطبق عليهم:
عن ّ
«ولقد تعرضت للسّؤال منذ أمد بعيد ،ولكني كنت إزاءه من المتعجلين الذين يسارعون بجواب
صب شديد إلجابة قبل أن يفحصوه ويمحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره؛ فبدأت بتع ّ
تقول إنه ال أمل في حياة فكرية معاصرة إال إذا بترنا التراث بترا ،وعشنا مع من يعيشون في
عصرنا علما وحضارة ووجهة نظر إلى اإلنسان والعالم ،بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل كما
يأكلون ونج ّد كما يجدّون ونلعب كما يلعبون ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون على ظنّ
مني آنئذ أن الحضارة وحدة ال تتجزأ ،فإما أن نقبلها من أصحابها – وأصحابها اليوم ﻫم أبناء
أوروبا وأمريكا بال نزاع – وإما أن نرفضها ،وليس في األمر خيار بحيث نتقي جانبا ونترك
صب شديد لهذه اإلجابة السهلة ،وربما كان جانبا كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال؛ بدأت بتع ّ
دافعي الخبيء إليها ﻫو إلمامي بشيء من ثفافة أوروبا وأمريكا وجهلي بالتراث العربي جهال كاد
419
أن يكون تاما ،والناس – كما قيل بحق -أعداء ما جهلوا».
إنني ﻫنا ،وعبر تحويالت عكسية لدالة البيان وإن اقتصارا على موضوع النظر والتشخيص
كتاب "تجديد الفكر العربي" ،تحويالت مركزية إلى الذات والنفس مصدر التعبير الذي ﻫو بمثابة
إشعاعاتها المجلية ألناﻫا وذاتها ،وقد ت ّم بهذه التحويالت الداللية العكسية السّيكولوجية تحيي ُد
الحشو ،مما ﻫو من طبيعة الكتابة أو األسلوب األدبي ،مقابل الكتابة المنطقية كما ﻫو شهير سؤال
األسلوب عند ليبنتز وسبينوزا .إنني وعبر ﻫذه اآللية الترجمية التصويرية تتراءى لي ذات
الدكتور زكي نجيب محمود ،إلى تقريب من مدلول الالشعور أو الذات الباطنية التاريخية ،ذاتا
418تجديد الفكر العربي :الدكتور زكي نجيب محمود -الطبعة التاسعة ١۹۹٣م -دار الشروق -ص0-1
419ن م – ص31-30
328
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
غير ثابتة المميّزة الوجودية ،مما قد يوصف بحسب السّياقات بعدم االستقرار واالضطراب
والتناقض وما ﻫو من صنف اللفظ الدال على ﻫذا المعنى ،الذي يُفقد الذات صفة المرجع المنطقي
وال في حدود األبعاد النفسية المستساغ فيها ﻫذا االعتبار .وذلك لسلطان الوثوق وشرط حفظ
صدق والموضوعية؛ وﻫذا لو يعلم المعطيات األساسية والبنائية؛ وألجله كان البناء المنطقي كفل ال ّ
ﻫو خير ما دعا إليه ديكارت – غفر هللا له! -ولكن ليس حظ أكثر الناس من علم ديكارت إال
عناوين مقوالته.
"لقد تعاورني أثناء محاوالتي الفكرية أمل ويأس . .
إن القراءة المنطقية ﻫنا أننا اتجاه ذات بقي فيها من الحياة ما تصارع به وتحاول– من خالل الّ
تحرر من الحقل المعالجاتي االستعماري واالستشراقي الذي تعرض له جيل شعورﻫا -الخروج وال ّ
صليبي ،من خيرة النفوس في ﻫذه األمة وأكرم بنفس مبتغاﻫا العلم ونشدانها ما بعد االستعمار ال ّ
الفكر! بل وقد يعلم المطلع بأن الالشعور ﻫو أوثق صلة بالعقل وبالمنطق وبالحق من مظهر
النفس والذات السّلوكي.
«فاآلخر التاريخي والحضاري والهوياتي والديني والثقافي حين دﻫم بحملته االستعمارية وتم
واستعمر البالد ،لم يترك التاريخ واألمور تجري إال على ما ي ُِريد من التخطيط المحكم
َ الغلب
ُ له
األرض
المتحكم ليس في الحاضر اآلني ،ولكن على مستوى التحكم في امتداد ومستقبل البشر و ْ
على السّواء ،فهو الذي أنشأ ،وﻫو الذي علم ،وﻫو الذي ربى .وله في ذلك من العقل وآلياته ما
صناعي ،فلئن كان كما قال شكيب أرسالن رحمه هللا وفي حديثه ﻫو على ذات تفوقه العلمي وال ّ
عن تأسيس نواة وجاق أو جيش االنكشارية في عهد السّلطان العثماني أورخان(1426ه-
1432ه) بن عثمان(1400ه1426-ه) بن أرتغرل رحمهم هللا جميعا ،حيث كانوا يؤتى بأحداث
من أبناء النصارى وغيرﻫم ،فيربون على اإلسالم ،وينشؤون تنشئة عسكرية:
«وقضية أخذ أوالد النصارى ،وتربيتهم في اإلسالم ،وجعلهم جنودا كان العثمانيون قد أخذوﻫا
سبَ ْوا كثيرا من األوالد وربوﻫم
عن الروم أصحاب القسنطينية ،الذين كانوا إذا غزوا بالد اإلسالم َ
في النصرانية ،وجعلوﻫم جندا يقاتلون به المسلمين.
420ن م – ص31
329
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ولما استولى نقفور فوكاس على حلب سبى عشرة آالف ول ٍد من أﻫلها ،ورباﻫم في دار ملكه،
وع ّمدﻫم ،وصيّرﻫم من أعز جنوده.
وكذلك عندما استولى البطريق ميخائيل بورتسنريس على أنطاكية سنة ( )262-432سبى
من أوالد المسلمين عشرة آالف أيضا ،ورباﻫم في القسطنطينية ،فخرجوا نصارى ،وصاروا
جندا.
421
فالعثمانيون لم يعملوا إال ما عمله البيزنطيون من قبل».
صليبي تفتق عقله على آلية االستنبات البشريالتطور العلمي والعقلي الغربي وال ّ
ّ فعلى قدر
مكونات
الفكري والثقافي -واالنتماء ليس بالموطن وال باألسماء وإنما العربية اللسان .ولما كانت ّ
االجتماع أو المجتمع ليست باألجساد إنما بالطيف الفكري؛ فهذا ال شك عامل شرخ أو تفرقة
دائمة في ﻫذا الكيان مالزمة له ال يخفت أوارﻫا وال تخف حدتها .فحقل التعليم الحديث في البالد
العربية اإلسالمية ما بعد الحملة واالستعمار كله بال مثنوية أسس على أيد استعمارية وﻫو إلى
اليوم والساعة وإلى ما شاء هللا ،التعليم في َمنهجه ولغته ومواده وأﻫدافه بالطبع ،قل روح التعليم
في البالد الموﻫمة أﻫلها باالستقالل روحه بأيدي االستعمار وكذلك نفس اإلعالم وروحه
ضاياه.
وق َ
كونين على األقل من بني جلدة واحدة ولسان واحد لكن قلوبهم شتى ،القلب إننا ﻫنا بصدد ُم ّ
الذي به يكون اإلنسان ،ﻫو ﻫويته ،وﻫو ملته ودينه ،وﻫو قضيته التي من أجلها يحيى ومن أجلها
يموت .فهل لنا أن نعجب من أن يكون عندنا ﻫذا الذي ﻫو كائن ،ولكن لنا أن نعجب من أن ال
المر واألليم نوﻫم أنفسنا باالستقالل! وﻫل أمة ال زالت أغالل عدوﻫا يكون ألننا في واقع األمر ّ
موضوعة على عنقها ،ﻫو الذي ا ُ ْست ُ ْرع َ
ِي تعليم نشئها وفكرﻫا وقلبها ،ﻫل ﻫذه عند الذين آمنوا
والذين أشركوا واليهود والنصارى والصابئين ،ﻫل ﻫذه أمة مستقلة؟!
421تاريخ الدولة العثمانية بقلم أمير البيان والمجاهد الكبير األمير شكيب أرسالن – جمع أصوله وحققه
18
وعلق عليه حسن السماحي سويدان دار ابن كثير ،دار التربية -ص
330
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إنشاء وﻫمي ليس لها من التماسك الداخلي ما يكون به قائم كيان واستقالل سائر األمم .وال يمكن
إلى حد االستحالة بهذا التفرقة المحكمة من لدن عدو مبين يعامل الشعوب واألجيال والقرون كما
تعامل مواد المختبر ،ال يمكن الخروج من ﻫذا األسر المهين إال بحول هللا تعالى العزيز الحكيم
وقوته وال غالب إال هللا ،بالوصول إلى حد أدنى من العقل التاريخي على ما حددناه ،وبنفس
الجراح الخبير.
ّ مكونات الجسم بين يدي
المعالجة على المنحى المعكوس لكن بالحق ،ل ّ
إن أشد األسر في الحق اإلدماج االستعماري الحضاري؛ فالدعائم التكوينية األكاديمية
والجامعية الحديثة والمعاصرة كلها كولونيالية ،مستنبتة في حوض برنامج دنلوب وليوطي .إنه
أسير أراد أن يخرج من إصرﻫا ٌ سجن أحكمت خطته ،النخبة كلها سياسيها ومدجن مثقفيها ،وإن
تحرر من أغاللها أعيد فيها؛ يقول صاحب تجديد الفكر العربي بعدما أعياه الوضع وأيقنت وي ّ
نفسه من التناقض الذي عليه:
"وفجأة وجدت المفتاح الذي أهتدي به ،ولقد وجدته في عبارة قرأتها نقال عن هربرت ريد ،إذ
وجدته يقول:
إنني لعلى علم بأن هنالك شيئا ً اسمه التراث ،ولكن قيمته عندي هي في كونه مجموعة من
وسائل تقنية يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن آمنون بالنسبة إلى ما استحدثناه
من طرائق جديدة؟ فمثال هنالك طريقة استخدمها السابقون في حزم الدريس ،وأخرى استخدموها
في نظم المقطوعات الشعرية (السوناتا) ونستطيع أن نعلم هذه الطريقة أو تلك لمن شاء أن يتعلم
صور ...وإن الحالة التي يعانيها العالم اليوم لهي في رأيي كافية للداللة على مدى ما تستطيعه ال ّ
صور التي يطالبوننا اليوم
الفكرية التقليدية – كنسية كانت أو أكاديمية -في حل مشكالتنا ،وهي ال ّ
422
بأن نحيطها بالتبجيل والتقديس ألنها هي التراث "..
وإن تعجب فعجب لعجبه في نفس كتابه "تجديد الفكر العربي" الذي يصرح فيه ُم ِق ًّرا بجهله
صدر عنه ج َّرا َء َ شبه التا ّم بعمل أو أعمال العقل العربي اإلسالمي الذي كان عليهُ ،معت ِذ ًرا ع َّما
ذلك؛ عجبه الذي قد يتحول لديك إلى حيرة:
331
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"وإني ألعلم أن من القراء ممن سيأخذه العجب لهذه األمثلة التي أسوقها تدليال على التراث،
متى يجوز بقاؤه ومتى ال يجوز ،قائال لنفسه :ليس هذا هو التراث الذي نعنيه حين نتحدث عن
حياتنا الثقافية كيف ينبغي لها أن تكون ،وماذا يجب أن تستمده من «التراث» وماذا يجب ان
تهمله؛ فليس المحراث والشادوف وصرخات المرأة الحزينة المشيعة لفقيدها جز ًءا من «التراث»
بهذا المعنى الذي نعنيه؛ إنما نعني في هذا الصدد شرع الدين ونظم الشعر وإرسال الحكمة،
والشجاعة في القتال وإكرام الضيف ،وما إلى هذه الجوانب من حياة أسالفنا ،وما قيل فيها وما
روي بشأنها؛ لكنني أقول للمعترض بأنه ال فرق في األساس والجوهر – ما دمت قد جعلت
قاعدتي ما أستطيع أن أستمده من األسالف من طرائق العمل في الحياة اليومية الجارية – ال فرق
األرض أو طريقة نظم الشعر أو بين أن يكون الذي أتعلمه من السابقين هو أو طريقة حرث ْ
طريقة توزيع المواريث على مستحقيها أو طريقة التعاقد على زواج أو االحتفال بمولود جديد أو
إقامة الشعائر المالئمة للجنازات ودفن الموتى؛ كلها وسائل نعيش بها ونسلك على أساسها ،فإذا
فعلنا كنا بمثابة من أدخل اراث الماضين في صلب حياته الحاضرة ،وإذا رفضنا كنا رافضين
423
لهذا التراث أن يكون جز ًءا من هذه الحياة".
وإذا كان واضحا أن متعلق الشقاق ومكمن المعالجة ﻫو بالتحديد في العالقة التواجدية بالدين
اإلسالمي ،روح األمة وتاريخها وغايتها ،والمسترضع بثدي االستشراق والعلمانية والثقافة
المسيحية والصهيونية ،أتلومه أن نطق بلسانها لسانا واحدا وفكر بما استرضع عليه وأخرج
أوراقه على ما استنبت فيه؟
صليبي والصهيوني باألمة إذا كان ﻫذا واضحا ،وكان واضحا مدى شدة وإحكام قبضة العدو ال ّ
بهذا الكيد المحكم ،ألن اإلسالم ﻫو مصدر قوتها وعزتها وغلبها ،والسّؤال بَ ْع َد أن كان عندﻫا ﻫو
للقوة .ثم
القوة أصبح حول مصداقية اإلسالم ذاته ومصداقية أن يكون مصدرا ّ مدى استمداد ﻫذه ّ
صليبي الصهيوني أو ال يقتصر حربه على اإلسالم واألمة اإلسالمية على ﻫذه ال يقف ﻫذا العقل ال ّ
424
الجهة ،وﻫي كما ترى بلغت حدا أخطر مما بلغه ﻫوالكو ببغداد».
وبهذه الحقيقة المحورية يكون التقويم لالقتراح أو الوصية الثامنة ضمن التسع وصايا التي
أدرجها الدكتور الحصيف محمود حمدي زقزوق -رحمه هللا! ،-والمؤمن الحصيف أنفع لقضيته،
وصية الحوار مع المستشرقين المعتدلين التي كانت موضوع نقد عنتري أجوف ال صلة له
423ن م -ص02-33
424جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي أو المسلمون والتاريخ -ص000..004
332
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
بالعلم وال بالفكر وبالتالي ليست له قيمة في الموازين العلمية على حد تعبير وقوله في تمهيده
لطبعة دار المعارف .ومن يقرأ الكتاب قراءة ممحصة واعية ال يسعه إال أن يوافقه في قوله:
"فقد ترك «الناقد» الكتاب كله وما فيه من كشف عن حقيقة االستشراق ومواقفه إزاء اإلسالم
والمسلمين في ﻫذا الصدد – ترك ذلك كله وتوقف فقط عند فقرة ال تزيد عن نصف صفحة في
نهاية الكتاب حيث دعوت فيها إلى إجراء حوار مع المستشرقين المعتدلين دعما لمواقفهم وتقوية
لجانبهم بهدف أن تصبح ﻫذه االتجاﻫات المعتدلة في يوم من األيام تيارا عاما في الغرب يكون له
صورة الخاطئة عن اإلسالم في الغرب. تأثيره الفعال في تصحيح ال ّ
ومن ناحية أخرى سيكون من نتائج ﻫذا الحوار ترشيد المثقفين المسلمين المتأثرين بأفكار
استشراقية سلبية والتخفيف من حدة اندفاعهم وتقليدﻫم لهذه األفكار وإعادتهم إلى المواقف
صحيحة".اإلسالمية ال ّ
واالقتراح أو الوصية ﻫذا نصها:
( )١الحوار مع المستشرقين المعتدلين
من المفيد جدا أن يكون للمؤسّسات العلمية اإلسالمية صالت بالمستشرقين المعتدلين تهدف إلى
إجراء حوار مستمر معهم وعقد لقاءات وندوات تجمع بينهم وبين علماء المسلمين.
وليس ﻫناك شك في أن مثل ﻫذا الحوار سيكون له أثره اإليجابي على كال الجانبين .فمن
ناحية سيكون دعما لمواقف ﻫؤالء المستشرقين وتقوية لجانبهم وتشجيعا التجاﻫاتهم بهدف أن
تصبح ﻫذه االتجاﻫات المعتدلة في يوم من األيام تيارا عاما يكون له تأثيره الفعال في تصحيح
صورة الخاطئة عن اإلسالم في العالم الغربي. ال ّ
ومن ناحية أخرى سيكون من نتائج ﻫذا الحوار ترشيد المثقفين المسلمين المتأثرين بأفكار
استشراقية سلبية والتخفيف من حدة اندفاعهم وتقليدﻫم لهذه األفكار وإعادتهم إلى المواقف
425
صحيحة". اإلسالمية ال ّ
ي ﻫي ،سبي أبناء المسلمين وتعميدﻫم وتجنيدﻫم أو ملك رقابهم َ ﻫ النهج في إن اآللية
باالستعمار وتكوين نخبتهم وطليعتهم وإدماجهم وتشديد أسرﻫم بمخطط شديد الوثاق من كل
مناحي حياتهم ،فهم بذلك جند له حرب على ما يرى ظاﻫرا أنها أمتهم .إذن فهم في الواقع أسارى
بأحكم ما يكون من صيغ األسر حتى أنهم ﻫم أنفسهم ال يشعرون أو ال يكادون يشعرون بهذا
األسر ،ينتسبون إلى األمة كما ينتسب غيرﻫم.
إن نظرية المجاالت ومفهوم المجال يسري على التغريب واالستشراق كما يسري على اإليمان
والكفر وعلى كل ما يتأسّس ويتولد عن فكر واعتقاد .وليس الفرق المنطقي بين ﻫذه المجاالت
وقيمة التواجد بداخلها واالنتماء إليها ،إال في ال ُم َو ِ ّجه التأسيسي الخطيرُ ،م َو ِ ّجه العقل .من أجل
ذلك أواله القرآن الحكيم أﻫمية بالغة في البناء األولي لإليمان وللحقائق التي ينبغي أن يقوم عليها؛
425االستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري :دكتور محمود حمدي زقزوق -دار المعارف -ص313
333
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
﴿وإذا قِيلَ ل ُه ْم اتبعُوا َما أنزلَ هللاُ قالوا َب ْل فذم التقليد بأقدح الذ ّم ووصف المقلدين بأزرى النعوتَ :
ثلَ ِ م ك وا عل ْي ِه آ َبا َءنا' َأو ْلو كانَ آ َبا ُؤﻫُ ْم ال َي ْعقِلونَ شيْئا َ َ ْ ُونَ َ َ الذينَ ُ
كفر لُ ثم و ' د ت ه ي الو نتب ُع َما ألفيْنا َ
ي ف ُه ْم ال يَ ْعقِلونَ '﴾(البقرة)372-303 ص ٌّم بُك ٌم عُ ْم ٌ
عاء َونِ َداء' ُ الذِي يَن ِع ُق ب َما ال يَس َم ُع إال ُد َ
ولو ذﻫبت تنظر في نهج التنظيمات األدلوجية وصنفها كلها بال استثناء ،أللفيته قائما على شدةّ
التر ّدد في الشعار حتى يملك على المنخرط ليس فحسب نفسه بل عقله ليكون عليه غشاء .أي
منطقيا ال يرجى إخ راج من حقل ﻫذه روحه إال برفع ﻫذا الغشاء وإزاحة ﻫذه الغشاوة بقدر يسمح
بتلقي إشعاعات مجال الحقيقة واالﻫتداء بنور الحقيقة .وﻫذا ما يُفهم به من جهة المنطق نهج
"المؤلفة قلوبهم " ،إذ الموضوع ﻫو الذات أو الذوات النفسية المغشية عقولها عن تلقي وسماع
فأجرهُ َحتى يَ ْس َم َع
ْ ﴿وإن أ َح ٌد م ِْن ال ُم ْش ِركِينَ اسْت َج َ
اركَ ْ كلمة الحق؛ أليس في القرآن قوله تعالى:
قو ٌم ال َي ْعل ُمونَ '﴾(التوبة)0 كالم هللاِ ثم أ ْب ِل ْغهُ َمأ َمنهُ' ذلِكَ بأن ُه ْم ْ
َ
إن سبيل الحقيقة ﻫو العقل ،به تحمل األمانة ومنه كان العقل مناط التكليف؛ العقل ﻫو المحقق
األرض مستخلفا فيه ،وروح االستخالف في لكون أن الهدى ﻫدى الوحي ،وأن العبادة مجالها ْ
القوة التي أساسها العمل .ﻫذا ﻫو التأطير الشرعي المهيمن على القوة ليس إال ّ األرض ماﻫيته ّ ْ
الفلسفي ال مراء .من جهة ﻫو يدل على نكوص العقل المعاييري الغربي ممثال بوضوح في مقول
ميشال فوكو محاولة منها في سؤال الحقيقة .وﻫو لعمرك التفسير الحق والقراءة األكثر قربا إلى
حقيقة سلوك القول وتأويل كلمة نيتشه المعتبرة تفلسفه أو فلسفته ،من كان أو ﻫو اليوم قادر على
الجهر بأن رسالة اإلسالم ﻫي الحقيقة التاريخية؟ وما معنى العقل الخالص عند كانط؟ وما تأويل
التاريخية عند ﻫيجل؟ إنه ذات التفسير للتفرعات العكسية بديل السير أو المسار صعدا نحو
تفرعات أسئلة الجنون والجنس والسّياسة. الحقيقة عند فوكو ركنا ومثالّ ،
ومن جهة مقابلة ،ﻫذا التأطير لبيان ما العقل في المنهاج ،ولقد بينا ﻫذا في القراءة أو االستقراء
الموضوعاتي لمؤلف "الفصول في األصول" لإلمام الجصاص ،من كتابنا "إبطال فصل األصول"
ص إ ّما نقال
ص َ صصان وليس لهما ذلك إطالقا؛ وإنما يُح ّددان المخ ّ أن اإلجماع والعقل ال يُخ ّ
426
وردًّا للذين َ كبتا ﻫذا نقول للعقل. بالنسبة واستنباطا دراسة ا م
وتقريرا بالنسبة لإلجماعّ ،
وإ
تصور الحق للعقل ،فيلقون في عقول الناس وأفهامهم ،أن ﻫؤالء الذين يُلبِّسون على الناس ال ّ
ويحرمون، ّ يدعون إلى العقل يدعون إلى جعله إلها من دون هللا تعالى ،يشرعون بالعقل به يحلون
تصور للعقل إن ﻫو إال سفه من القول عظيم ،وإن ﻫم ال يكذبون .فبالعقل وإن ما يلقون في ﻫذا ال ّ
على الذِينَ ال س َ جْ
َ َ ِ َالر
ّ ُ
ل ع جْي
َ و ِ هللا بإذن
ِ إال م
ِنَ تؤ ْ
أن ِنفس
ٍ ﴿و َما كانَ ل
يكون اإليمانَ :
يَ ْعقِلونَ '﴾(يونس ) 322وبالعقل تؤدى الصالة وتؤتى الزكاة وتنشأ ﻫندسة العمران وصناعة عدة
القوة والبأس الشديد ،وبالعقل والشهود يعلم الصادق من الكذب والحاضر من الغائب والمجاﻫد ّ
من المتخلف ،وبالعقل تفقه مفارقة االستشراق وجمعه بين الدعوة إلى التراث وإلى القطيعة مع
334
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
طل .إن ﻫؤالء الذين يُلقون في ﻫذا فرق وال ُمعَ ِ ّ التراث في نفس اآلن ،يفقه ﻫذا الحقل الترددي ال ُم ِ ّ
427
الركن للدين ما مثلهم إال الشيطان عدو هللا ورسوله وعدو األمة اإلسالمية ؛ يقول هللا المفهوم ّ
س ُخ هللاُ َما يُلقِي أمنِيَتِ ِه ف َي ْن َول َوال نبيءٍ إال إذا ت َمنى ألقى الشيْطانُ فِي ْ سلنَا م ِْن َرسُ ٍ أر َ﴿و َما ْ تعالىَ :
ض ر
ِْ َ َ ٌم م ه قلوب ِي ف ِينَذ ِل
ل َة نِت ف ن ُ ْطا يالش ِي ق ُل ي ا م ل
َ ع جْ ي
ُ ُ َ َ ُ َ ٌ َ ٌ َ َ َ ل ِ م ِي
ك ح م ِي
ل ع هللا و هِ ت
ِ ايآ هللا م كِ ُحْ ي الشيْطا ُن ّ
م ث
مِن َربِّكَ فيُؤْ مِ نُواِلم أنهُ ال َحق ْ لم الذِينَ أوتوا الع َ ق بَعِيدٍ' َو ِليَ ْع َ َوالقا ِسيَ ِة قلوبُ ُه ْم' َوإن الظا ِلمِينَ لفِي شِقا ٍ
كفروا فِي ُ ِينَ ذ ال ُ
ل ا زَ ي
َ َال و ' ِيم
ٍ ق ْتس م
ُ اطٍ ر ص
ِ َ إلى وا ُ نمَ آ ِينَ هللا ل َهادِي الذ فتخبتَ لهُ قلوبُ ُه ْم' َوإن َ ب ِه ْ
عق ٍِيم'﴾(الحج)11..12 ذاب يَ ْو ٍم َ ع ُ عة بَغتة ْأو يَأتِيَ ُه ْم َ ْ ْ
م ِْريَ ٍة ِمنهُ َحتى تأ ِتيَ ُه ْم السا َ
األرض القائم ْ في االستخالف وقوام التكليف مناط ﻫو ما جهة من الشيطان وكذلك ﻫؤالء أتاﻫم
اوو َد مِنا فضْال يَا جبَا ُل ّأوبي َمعَهُ َوالطي َْر' َوألنا لهُ ال َحدِي َد ْ
أن ﴿ولق ْد آت ْينَا َد ُ على التقدير والعملَ :
ير'﴾(سبأ )33-32ويقول جل ص
َ ِ ٌ ب لونَ م ع
َ َْ ت ام ب ِي ّ نإ ا' ِح ل ا ص
َ لوا م ع
ْ
َ َ ا و ' ّرد س ال ت َوق ّد ِْر فِي سابغَا ٍا ْع َم ْل َ
ِتاب َوالمِيزَ انَ ت َوأ ْنزَ لنا َمعَ ُه ْم الك َ سلنا ُرسُلنا بالبَ ِّينا ِ أر َ جالله ذو الحجّة البالغة القوي العزيز﴿ :لق ْد ْ
سلهُ ر و ه ر ص ْ
ن ي ن ْ
ِ َ َِ ْ َ ُ َ َ ُ ُ ُ َ ُ ُ م هللا لم ع ي لو ' اس ِلن
ل ع فنا
َ َ ِ ُ م و ٌ
د ِي
د ش
َ أس قوم الناس بال ِقسْطِ ' َوأنزلنا ال َحدِي َد فِي ِه َب ٌ ِل َي َ
يز'﴾(الحديد)04 ع ِز ٌ ي َ هللا ق ِو ٌّبالغَيْب' إن َ
فإذا كانت درجات الحكمة بقدر سلم التناسق ،فإن حقيقة التناسق إنما ﻫي من الحق ،والقرآن
أنزل بالحق وبه نزل .فهذه اآلية المنزلة قرآنا إذن محققة كمال االنتظام؛ وإفادته ﻫنا – وهللا
تعالى يعبد بعلم والجهل في ﻫذا المقام من الشيطان عدو هللا وعدو األمة -أن نصر هللا تعالى
بالغيب والكون من أﻫل اإليمان حقا ممن سماﻫم عز وجل بأتم البيان وأحسن الحديث "حزب هللا"
فنسبهم إلى نفسه سبحانه وتعالى ،أن ذلك ال يتحقق إال بشرط العمل في تحصيل قوة الحديد الذي
جعل فيه سبحانه بأسا شديدا ،من شأنه كفل سلطان التمكين لشريعته وليقوم الناس بالقسط .يقول
جمال الدين األفغاني بقلم الشيخ محمد عبده – رحمهما هللا تعالى!:-
"الديانة اإلسالمية وضع أساسها على طلب الغلب والشوكة واالفتتاح والعزة ورفض كل قانون
يخالف شريعتها ،ونبذ كل سلطة ال يكون القائم بها صاحب الوالية على تنفيذ أحكامها ،فالناظر
في أصول ﻫذه الديانة ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكما ال ريب فيه بأن المعتقدين
بها ال بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم ،وأن يسبقوا جميع الملل إلى اختراع اآلالت القاتلة،
وإتقان العلوم العسكرية ،والتبحر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكيمياء وجر األثقال
والهندسة وغيرﻫا ،ومن تأمل في آية «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» أيقن أن من صبغ ﻫذا
الدين فقد صبغ بحب الغلبة ،وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له سبيلها ،والسعي إليها بقدر الطاقة
البشرية ،فضال عن االعتصام بالمنعة واالمتناع من تغلب غيره عليه ،ومن الحظ أن الشرع
اإلسالمي حرم المراﻫنة إال في السباقة والرماية انكشف مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون
العسكرية والتمرن عليها ،ولكن مع كل ذلك تأخذه الدﻫشة من أحوال المتمسكين بهذا الدين لهذه
انظر كتابنا "جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي أو المسلمون والتاريخ" – ص30 427
335
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
القوة ،ويتساﻫلون في طلب لوازمها ،وليست لهم عناية بالبراعة في األوقات ،إذ يراﻫم يتهاونون ب ّ
فنون القتال وال في اختراع اآلالت ،حتى فاقتهم األمم سواﻫم فيما كان أول واجب عليهم،
واضطروا لتقليدﻫا فيما يحتاجون إليه من تلك الفنون واآلالت ،وسقط كثير منهم تحت سلطة
مخالفيهم واستكانوا لها ،ورضخوا ألحكامها .ومن وازن بين الديانتين 428حار فكره كيف اخترع
مدفع الكروب والمتراليوز وغيرﻫما بأيدي أبناء الديانة األولى قبل الثانية .وكيف وجدت بندقية
مارتين في ديار األولين قبل وجودﻫا عند اآلخرين! وكيف أحكمت الحصون ودرعت البواخر،
430
وأخذت مغالق البحار بسواعد اﻫل السالمة والسّلم ، 429دون أﻫل الغلبة والحرب"
الركن في كيان األمة وقيام الشريعة ،وال غرو أن قال الصديق – الصديق رضي ولشأن ﻫذا ّ
هللا عنه!": -إن هللا يزع بالسّلطان ما ال يزع بالقرآن" ،من أجله لسنا نعجب أن جعله األفغاني
القضية الكبرى من بعد القضيتين :أن ال مرجع للبناء الحضاري وتجديد روحه في األمة واألنفس
القوة ﻫو وحدة األمة ال
إال من خالل اإلسالم ال التبعية والتغريب ،وأن الشرط في إمكان ّ
الدويالت والتجزيء ،فكان ال ينفك عن التذكير بخطره على مسار أعداد "العروة الوثقى" فيكتب
تبيانا وتأكيدا:
"إن وازع البالد والقائم على الملك لو ألمح لمحة إلى نفسه لرأى أن بالده في كل وقت
معرضة ألطماع الطامعين ،وأن الحرص المودع في طباع البشر يحرك جيرانه كل آن للسطوة
على ممالكه ليذلوا قومه ،ويستعبدوا أﻫله ،ويستأثروا بمنافع أرضهم وثمار كدﻫم ،ويمنحوﻫا أبناء
جلدت هم ،فعليه وعلى من يشركه في أمره من عماله ،والحكام النائبين عنه في إياالته ،وقواد
جيشه ،وعلى كل أرباب الرأي ،ومن بهم قوام الملك ،أن يستعدوا لدفع طوارئ العدوان ،ورفع
نوازل الغارات األجنبية ،فلو فرطوا في إعداد لوازم الدفاع ،أو تساﻫلوا فيما يكف عنهم سيل
األطما ع ،أو تهاونوا فيما يشد قوتهم ،ويقوي شوكتهم ،بأي وجه كان ،ومن أي نوع كان ،فقد
عرضوا ملكهم للهالك ،وألقوا بأنفسهم في مهاوي األخطار.
ﻫذا مما يفهمه األبله والحكيم ،ويصل إليه إدراك الجاﻫل والعليم ،وﻫو سر اإلفصاح واإلبهام
القوة ووكلها إلى الطاقة وحكم
في قوله تعالى﴿ :وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾ أمر بإعداد ّ
االستطاعة ،على حسب ما يقتضيه الزمان ،وما تكون عليه حالة من تخشى غوائلهم ،ﻫذا أمر هللا
431
ينبه الغافل ،ويذكر الذاﻫل ﴿فما لهؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا'﴾"
428يعني الكاتب النصرانية واإلسالم؛ فعنوان العدد من الجريدة هو :النصرانية واإلسالم وأهلهما ﴿إن في
ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد﴾
429يعني أن النصرانية روحها التسامح في التعامل من غير طلب في التمكين ،عكس اإلسالم الذي ال يقوم إال
على شرط الدولة
430العروة الوثقى والثورة التحريرية الكبرى :جمال الدين األفغاني ..محمد عبده – دار العرب للبستاني-
الطبعة األولى ٨٣يوليو -١۹٤٨ص00
431ن م -ص" -338أسباب حفظ الملك"
336
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
طرا األبله منهم والحكيم يراه الجاﻫل والعليم ،الوصل بين وﻫنا ال مراء يتراءى الوصل للناس ًّ
"األنتربولوجيا" والتراثية ودعوة المركزية الغربية الحضارية ،وصل االستلزام الخلفياتي
صراع الحضاري، صليبية باألساس ،روح ال ّوالوظيفي األخطر في روح الحضارة الغربية ال ّ
صراع اإلبادة ،صراع التبعية والتغريب ،صراع الموت والحياة.
القوة في أي كيان اجتماعي سياسي حضاري ،ﻫي من البدائه الطبيعية ،حتى عبر عنه إن ركن ّ
األفغاني بلفظه" - :ﻫذا مما يفهمه األبله والحكيم ،ويصل إليه إدراك الجاﻫل والعلي" -وكل فكر
سياسي ال يتأسّس عليه ﻫو أبعد ما يكون عن العلمية ،ألنه مفتقد بادئ الرأي للمسلمات األولى
التي ﻫي بدرجة مسلمة الوجود والعقل ،مما نعبر عنه بلفظ الشرط الطبيعي والبديهي.
إن روح وصل "األنتربولوجيا " بالمركزية الغربية ،ﻫي بالذات اإلبادة لآلخر ،وذلك ال يتحصل
القوة شرط الكيانات التاريخية، إال بالنفي والتحييد الفعلي لمرتكز كيانه التاريخي المنطبق بركن ّ
الركن ﻫو من المنطقي ضمن الفكر أو النظرية السّياسية عند أبي نصر محمد بن محمد وﻫذا ّ
الفارابي ،ألنه فكر علمي من العقل نفسه وذات المشكاة التي خرج منها األساس والنور الو ّﻫاج
الرياضيات والكيمياء والمكانيكا الذي اختطفه الغرب في خفية ،نور علوم االستخالف من الطب و ّ
وعلم الفلك وغيرﻫا؛ وإذن ال حيلة وال حل إال داخل نظمة "األنتربولوجيا" بجعل أسمى فكر
432
سياسي ومطلقا إلى اليوم ،جعله ضمن المنصرم وضمن التراث وضمن الكالسيكي والقديم!
وفي ﻫذا يقول محمد أسد - 433رحمه هللا! -وإذا استبهم عليك أمر فاستفهم به خبيرا !:
« . .أما التأثير الوحيد الذي يمكن أن يتركه مثل ﻫذا التثقيف التاريخي في عقول األحداث من
ص ة،
غير الشعوب األوروبية ،فإنما ﻫو شعور ﻫذه الشعوب بالنقص فيما يتعلق بثقافتهم الخا ّ
الخاص والفرص السانحة لهم في المستقبل ،وﻫكذا يتربون تربية منظمة ّ وبماضيهم التاريخي
434
على احتقار ماضيهم ومستقبلهم ،اللهم إال إذا كان مستقبال مستسلما للمثل العليا الغربية» ..
337
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مما قاله أبو الحسن الندوي تحت عنوان "سياسة النفاق لدعاة اإللحاد والعلمانية":
"وال يخفى على البصير ما يتجلى في كتابات المستشرقين المسيحيين من روح التبشير،
صب على األتراك ،ودوافع االنتقام ضدهم ،ويوجد من صليبية ،والتع ّ
ومرارة ذكريات الحروب ال ّ
بين هؤالء المستشرقين الذين يعتبرون من متحمسي الدعاة إلى الثورة على الشريعة اإلسالمية
صب للديانة اليهودية وأتباعها
والقانون اإلسالمي في العالم اإلسالمي – عدد وجيه من اليهود بتع ّ
435
ويظهر من كبار الرجعيين المتعسفين"
...
لنعرض اآلن إلى ﻫذا األنموذج من عجيب ما جاء به "تجديد الفكر العربي":
"فقد تكون دعوات الزنادقة مقتصرة في أهدافها النفعية العملية على قلة مغرضة هادفة
مستغلة ،لكن هذا الذي كانوا يدعون إليه قد تسلل – من حيث صميمه إن لم يكن من حيث
تفصيالته -تسلل إلى قلوب الجماهير ،ألن جماهيرنا منذ األزل – أزل التاريخ المدون -مفتونة
الرمز دون اإلفصاح
بالغيب دون الشهادة ،بالباطن دون الظاهر ،بالخفاء دون العلن ،باإلضمار و ّ
وصراحة التعبير؛ فإذا وجدت رياحا ً تهب عليها من هنا أو هناك ،تميل برؤوسها نحو المستور
المحجوب ،مالت معها وهي في حالة من سكر النشوة والوجد.
اجتاحت جماهير النَّاس موجات من الالعقالنية الهيمانية ،بل ربما كانت هذه الالعقالنية
مغروزة في طبائعها كألوان جلودها ،تنفر ممن يحاول إزالتها وتميل مع من يزيدها في أنفسهم
رسوخاً؛ فجماهيرنا دراويش بالوراثة ،فإذا عقل بعضُهم كان ذلك قبسا ً دخيال على طبع أصيل،
وال عجب أن تروج فيهم الخرافات و«الكرامات» والخوارق بأسرع من رؤية البرق إذا لمع.
صراع – ص377
ال ّ 435
338
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فكان ال بد من تيار مضاد؛ كان ال بد من «عقل» ينهض ليلجم الخيال الشاطح في سمادير
الوهم ،فكان أن دعا الداعي إلى أن تنقل الفلسفة والعلوم من مصادرها؛ إن كاتب هذه السّطور
لتساوره شكوك كثيرة بالنسبة إلى الدوافع الحقيقية التي دفعت الدعاة إلى نقل الفسلفة والعلوم؛
ظاهر األمر أن خلفاء الدولة العباسية أرادوا الحضارة بكل ازدهارها ،فأرادوا أن تضاف إلى
صا اليونان ،لكن
علوم العرب من لغة وشعر ،علوم األولين من هنود وفرس ويونان ،وخصو ً
الذي يستوقف النظر ولو للحظة قصيرة عابرة ،أن أصحاب الحركات التي أدت إلى دعوات
الرغبة في أن يُترجم العلم وأن تترجم الفلسفة
الزنادقة في ال عقالنيتها ،هم أنفسهم الذين أخذتهم ّ
بكل ما يحمله العلم والفلسفة من عقالنية تقيس النتائج على المقدمات؛ لماذا؟ هل أحسوا إذ اطلقوا
مارد العصبية الثقافية أنهم ربما أطلقوا جبارا ً يهدد سلطانهم فأرادوا له الشكيمة؟
لقد كان الفارق فسيحا ً بين ما ينزع ال َّناس إليه بحكم الطبع الموروث ،وبين ما نقلت الثقافة
األرض ،وفي ذلك الزمن – على األقل -إن لم اليونانية لتدعوهم إليه؛ فالنَّاس في هذه المنطقة من ْ
يكن على امتداد الزمن ،تهولهم الفجوة الفاصلة بين ظاهر العالم وباطنه ،بين المخلوقات وخالقها،
ويتشوفون إلى طريق يعبرون عليه تلك الفجوة مستدبرين الظاهر ومقبلين على الخفي الباطن؛
ي وقد لبس ظاهرا ً ليشهدوه؛ على حين صميم الرغبة الجامحة في أن يروا ذلك الخف ّ ومن ثم كانت ّ
الروح اليونانية هو هذا الشخص اإلنساني بما يمتاز به من منطق ومن إدراك للقيم الموضوعية ّ
الروح اليونانية هو أن تنزل اآللهة من قمةالتي ينظم بها سلوكه فردا ً وعضوا ً في جماعة؛ صميم ّ
األولمب لتعيش مع النَّاس ،ال أن يتحول النَّاس إلى دخان ليلحقوا باآللهة في مساكنها من السّماء.
وبرغم هذا الفارق الفسيح ،نقلت ثقافة اليونان ،ورحبت بها الصفوة المفكرة كما رحبت بها
الرسمية ،لتكون أداة فعالة بعقالنيتها في محاربة الحركات الالعقالنية التي تشد المسلمين الدولة ّ
إلى ما قبل اإلسالم من عقائد زرادشت وماني ومزدك وغيرهم؛ وكان المتكلمون – والمعتزلة
صة -هم أول فئة تستخدم هذه األداة العقلية اليونانية في دفاعها عن اإلسالم وقيمه منهم بصفة خا ّ
وعقائده وشرائعه؛ ولم يكن المتكلمون كلهم من صنف عقلي واحد ،بل تفاوتوا في ركونهم إلى
العقل درجات ،بين متطرف ومعتدل ،لكنهم اتفقوا جميعا ً على الهدف ،وهو تخليص اإلسالم مما
أوشك أن يصيبه من ردّة روحية ،تستبدل بوحدانيته ثنوية ،وبقيمه األخالقية إباحة للشهوة
والمتاع ،وبتجريده وتنزيهه تجسيدا ً وتشبيهاً.
339
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وتلك هي محنتنا اليوم في حياتنا الفكرية والثقافية ،كما كانت باألمس؛ فلو كان إحياء التراث
لنحياه ،معناه أن نتقمص هذا التعارض الثقافي بعينه ،إذن فقد أحييناه وعشناه إلى نخاع النخاع.
وإنه لمما يزيد اليأس يأسا ً – بالنسبة لكاتب هذه الصفحات على األقل -أن الصفوة العاقلة
بثقافتها المستعارة -سواء كان ذلك عند أسالفنا األقدمين أو في مجتمعنا القائم -سرعان ما تنشق
على نفسها ،فيخرج منها فريق يحارب فريقاً ،بأن يستكبر أولهما على ثقافته أن تكون مستعارة،
ويعيب على اآلخر إقباله المخلص على فكر ليس نبات أرضه ،وأما هذا الفريق اآلخر فيسقط في
يده ،ال يدري ماذا يصنع؟ ألنه ال يجد أمامه سبيال – إذا أراد ثقافة عقلية إال أن يفتح لها النوافذ
لتهب عليه مع رياح الشمال والغرب -وهو ينظر إلى خصمه المستكبر ،فيراه في حالة عجيبة من
النفاق الفكري ،يأخذ الحسنة من المتصدق بها ثم يستعلي عليه ويشمخ بأنفه كأنه هو الذي أعطى
436
وتصدق!"
صص التي حددﻫا محمد صة التعليم في الحوض االستعماري المتخ ّ أليس ﻫذا من ماصدق خا ّ
أسد آنفا بتفصيل وتعيّنت تعيينا؟! بلى ولتفاقم أمرﻫا وعدم خفائها وعظيم وخطر أثرﻫا يقول أبو
الحسن الندوي:
340
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"لقد قام كتاب مصر وأدباؤها منذ زمن بعيد – ومن بينهم عدد من الكتاب الذين تربوا في
مقررات التاريخية ،والشخصيات المدارس المسيحية – بحركة تشكيك شامل للعقائد الدينية ،وال ّ
اإلسالمية ،والقيم الخلقية ،واألسس االجتماعية ،واآلداب العا ّمة عن طريق بحوثهم وكتاباتهم،
تتنوع فيها األساليب وتختلف في ذلك الدوافع واألغراض والعوامل والمؤثرات ،فقد يكون سائقهم
أحيانا ً التطرف وتقليد المتطرفين في الغرب ،وقد يكون دافعهم حب الشهرة وتصفيق بعض
الطبقات المثقفة والشباب الجامعي ،وقد يكون رائهم نفاق سلعتهم ورواج بضاعتهم في السوق،
والربح المادي ،وقد يكون الحافز لهم التسرع في نشر ما يسنح لهم من آراء ،وما يجول في
صدورهم من خواطر ،أما الكتاب المسيحيون فال يخلو أكثرهم عن بُعد النظر ودقة القصد،
وإثارة الشبهات ،وإضعاف تأثير اإلسالم في الشعب العربي المسلم ،وساعد على ذلك حركة
النشر السريعة القوية في مصر ،ووجود عدد كبير من دور النشر والطباعة «العمالقة» التي
صة ،ونهامة قراء العالم العربي لمطالعة كل ما يملك أكثرها المسيحيون والمارونيون بصفة خا ّ
437
يصدر عن مصر من غث وسمين".
341
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تقرر به البناء الحق في العقل ،نهح المبسّط الذي وإذن فلنسلك أعلى ما يكون من النهج الذي ي ّ
ليس دونه أبسط وال فوقه أوضح؛ وقد يبدو لك ضرب من المفارقة وما ﻫي مفارقة أن يكون ﻫذا
الرياضي البشري.ﻫو نهج أوقليد في كتاب األصول وابن الهيثم في أعظم ما أنتجه العقل ّ
"عا ّمة قلت بصائرهم بأصول العلم والنظر"
إذا عدنا إلى سياق الكالم ،يكون لدينا في عموم الحال إعراب "عا ّمة" خبرا وجملة "قلت
بصائرهم بأصول العلم والنظر" صفة.
والمقابل أو الترجمة لهذا التحليل اإلعرابي في الوجه المنطقي ﻫي التخصيص المميّز أو
صة المميّزة بحسب السّياق ليتحقق به التعليل واالستدالل. الخا ّ
صة عالئقي = العالقة بأصول العلم والنظر ،الذي ﻫو جوﻫر ذو ماﻫية جوﻫر ﻫذه الخا ّ
معرفية ،والعالقة إذا على سلم العلم والجهل .ومنه ،فشرط الذات الخطابية أو الحقل الخطابي
صفة المنطقية للخطاب مقوال المطلق بالنسبة لركني الخطاب المصدر والمتلقي ﻫو امتالك ال ّ
صواب .وﻫذا ال يتحصل إال بسالمة صدق والكذب وبين الخطإ وال ّ منطقيا يُميّز فيه بين قيمتي ال ّ
تصورات ألنوية الخطاب البيانية وقواعده البنيوية ،وعلى مطلق مناحي الخطاب وموضوعاته، ال ّ
لغوية كانت أو علوما طبيعية أو غير ذلك.
صورة المنطقية لمفاد قوله: وإذن يكون المقابل أو ال ّ
"كيف يقنع إنسان إنسانا آخر بقبول دعوته حتى وإن كانت تدعو إلى باطل ،لكنه يزيّن الباطل
ويدلسه حتى يصير عند المتقبل وكأنه الحق".
تصورات أو الجهل بقانون البناء الحقائقي يؤدي إلى تصديق الكذب وتقرير ﻫو :عدم سالمة ال ّ
الخطإ.
يقول أبو حامد الغزالي:
"مدارك العقول ،وانحصارﻫا في «الحد» و«البرﻫان» ،ونذكر شرط الحد الحقيقي ،وشرط
البرﻫان الحقيقي ،وأقسامهما ،على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب «محك النظر» وكتاب
«معيار العلم».
صة به ،بل ﻫي مقدمة العلوم ّ الخا مقدماته من وال األصول، علم جملة من المقدمة وليست ﻫذه
439
كلها ،ومن ال يحيط بها فال ثقة له بعلومه أصال".
صفة والكينونة العلمية .والفقول الغزالي" :بل ﻫي مقدمة العلوم كلها" بمعنى الشرط في ال ّ
معنى يراد ب"العا ّمة" ﻫنا إال من ﻫم ليسوا من أﻫل العلم.
وكما أن العلم درجات فالعا ّمية دركات ،من عدم تحقق المعطى المعلوماتي للموضوع إلى
افتقاد النسق المنطقية آلة البناء وﻫو أسفلها .ولئن كان إلحاق الشرط المعلوماتي بكمال العلم
ْأل ب ِه خَبيرا'﴾(الفرقان )13ومن ثم ال تكون صفة العا ّمية ودوامه موصوال بقوله عز وجل﴿ :فاس ْ
المستصفى من علم األصول لإلمام الغزالي -مؤسّسة الرسالة -ط3437 -3ه3337 -م -ج -3ص41 439
342
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
بخصوص ﻫذا البعد ،المعلوماتي المعطياتي ،إال عارضة أو عرضية؛ وﻫذا ﻫو حال وووضع
صحيح منوط بالوقوف على صل إلى الحكم ال ّ العقول في حل ما يعرض من المسائل ،إذ شرط التو ّ
البنية أو البعد البنيوي لموضوع السّؤال والنظر؛ وﻫذا بالذات والتعيين ﻫو الذي ينبغي أن
يستوفيه عمل التحليل الذي يحدد ﻫذا البعد البنيوي ،الذي بدونه يكون الحكم إما تقليدا وصدى
لقول غيره بغير علم وال ﻫدى وال كتاب منير ،أو كاألعمى من عموم الناس ليس فحسب يقول
بأنه يبصر ،بل يزعم أنه يستبصر األشياء على غير ما ﻫي لذوي البصائر .ومثال في ﻫذا
صليبي بأن ال فلسفة وال علوم عربية إسالمية ،مذﻫب اعتنقه الضرب مذﻫب القول االستشراقي ال ّ
وألزم اعتناقه في حضن زاوية الفكر والتكوين الكولونيالي إلى حد الفناء فيه ،وأي داللة لهذا
التردد غير العادي لمعتقد ﻫذه الكلمات في مثل ﻫذا الحيز من كتاب "تجديد الفكر العربي" الذي
صرح بما اقترف وجرح على حال من الجهل بتراث أجداده ،فيتلفظ بهذه األلفاظ صرح فيه بما ّ ّ
كمن يردد تمائم أشربها لبانا فما برحت وال انفكت شفاﻫه ترددﻫا" :العقل المستعار" " ..الثقافة
الوافدة" " ..العقل المستعار" " ..الثقافة الوافدة" ..
يا لمصيبة أسارى تكوين الحوض الكولونيالي كما كانت مصيبة أسارى أطفال المسلمين في
صليبية! أديرة رﻫبان ال ّ
وإذا كان يكفي شرط الكينونة التفكرية أوالفلسفية للعلم بالعالقة التاريخية بين األنظمة الفكرية
والحضارات ،وبأن دليل النبوات أكبر من الدليل الوجودي حتى ،وأن اإلسالم ختم الرسالة
ومطلقها وعالميها إلى يوم الدين ،ليعلم أننا بصدد أعلى ما يكون من العقل الحضاري ،ألنه
ِتاب يَ ْع ِرفونهُ ك َما يَ ْع ِرفونَ أبْنا َءﻫُ ْم َويَكت ُمونَ ال َحق ُوﻫُ ْم
وببساطة أقرب للبداﻫة ﴿الذِينَ آتيْناﻫُ ْم الك َ
َي ْعل ُمونَ '﴾(البقرة )341عقل مشكل بنظمة روحها ليس مصدرﻫا بشريا ،وإنما ﻫي روح قوانين
الهندسة الوجودية ،ومنه فهي نظمة حضارة قوتها أبدا لها إمكان منفتح في كل حين ال كباقي
صة البشرية ،تولد فتشب فتقوى ثم تندحر .وﻫذا من الحضارات التي يسري عليها قانون الخا ّ
أبرز وأقوى ما وجب االﻫتمام به في شحذ ﻫمة المسلمين للعودة إلى التاريخ ،وﻫو بالمؤكد معلوم
األرض، لدى العدو ،لذلك ﻫم يسارعون كلما سمعوا عن أي محاولة صعود إسالمي في بقعة من ْ
إلى الحيلولة دونها وإطفائها.
وكذلك من الدالئل التي يكون بها الحسم في تهافت ﻫذه الدعوى التي ال يصدقها وال يرددﻫا إال
مغشي عليه ،وﻫذا يبين مدى كيد المعالجة الحوضية الكولونيالية التكوينية للنخب، ٌّ من به عمه
440
دليل علو العقل الفلسفي على الذات القارئة .
الروح التي ﻫي في التقويم الواقعي وباألساس بسعيها في إطفاء شعلة إن ﻫذا الكيد وﻫذه ّ
الحضارة اإلسالمية تريد لتطفئ نور هللا المجيد ،وهللا غالب على أمر الوجود ولكن أخطر مفارقة
سواد بشأن الحقيقة الوجودية، منطقية ﻫي أن اإلجماع على الكذب ،الكذب على البريئة وعلى ال ّ
440انظر"د .طه عبد الرحمان في الميزان -1( -تاريخية العقل اإلسالمي وجهل الجابري تجاوز العقل الفلسفي
للذات القارئة)– ص443
343
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يكون أول موضوعات باطله وضحاياه ﻫم أوالء المجمعون على الكذب؛ وﻫذا وال ريب ﻫو
الحكم على االستشراق وسيلة في محاربة دين هللا تعالى ورسالة محمد صلى هللا عليه وآله وسلم
مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ،ومن يبتغ غير اإلسالم دينا ْ
فلن يُقب َل منه وﻫو في
اآلخرة ِمن الخاسرين ,وعندما ننظر إلى ﻫذا الوصل الذي تم استجالؤه وتسليط الضوء عليه،
نستنبط منه جليا وبكل وضوح أن شروط تأثير وسريان المعالجة ﻫذه ،معالجة الكيد الغربي
صليبي الحضاري ،ﻫي شروط أو بالتحديد شرطان اثنان غير منفصلين: ال ّ
ا -النشأة في حضن الغرب بلبان الغرب
ي،
ّ الفاراب الشرط على إال حمله ينبغي ال والفلسفة، والعلوم أَ -و ْﻫم العقل ،والعقل في الفكر
الذي ﻫو أتم من الشرط األفالطوني.
وبأخذ قضية مفهوم التراث بالحسبان التي ﻫي من أﻫم غايات ﻫذا العمل ،نسوق ﻫذه الكلمة
التي ليست مجانبة للحقيقة:
"فالعيب كما نقول ليس في التراث ولكن في الفهم الخاطئ للتراث ،الفهم الخاطئ والزائف
441
والذي نجده عند أناس تحسبهم من المفكرين ،وهم ليسوا بمفكرين بل أشباه مفكرين".
إن االصطناع التكويني في حوض المدرسة الكولونيالية ﻫو لخدمة مخطط لها بإحكام مشاكل
لتحكمهم بناصية العلوم االستخالفية المادية في العمران والبأس؛ إنه اصطناع في كنف قراءة
تاريخية صليبية ،ال بمنطق التاريخ ،ولكن بمنطق سيكولوجي ذاتي حربي صليبي؛ وليس في
حدود الوقائع بل في المفاﻫيم المحورية بشكل أخطر ،اختالقا وتحريفا وتحويرا . .442يقول
األستاذ موسى المنصوري:
«إن مختلف القراءات التي تمت للتراث اإلسالمي اعتمدت مناهج وتقنيات غربية كيفت
التراث وفق انتماءات فكرية ومشارب إيديولوجية ،فكان التراث دائما أداة لإليديولوجيات
المستوردة ،تروم تكييفه وتدجينه قصد تمرير خطابها الدخيل .وكان من الطبيعي أن تجور
مضامين التراث الفكرية وأن تعدل مواقف رموزه الفلسفية لشحنها بدالالت ومواقف إيديولوجية
معاصرة غريبة عنها كل الغرابة؛ ولنا في كتابات حسين مروة ومهدي عامل ومحمد عابد
441تصدير بقلم عاطف العراقي أستاذ الفلسفة العربية لكتاب "ابن باجة وآراؤه الفلسفية" :الدكتورة زينب
عفيفي أستاذ الفلسفة اإلسالمية كلية اآلداب -جامعة المنوفية -الناشر :مكتبة الثقافة الدينية -المكتبة الفلسفية -ص34
442انظر :تفصيل الخلق واألمر -ص310-311
344
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الجابري وطي ب تيزيني وعبد الكبير الخطيبي وحسن حنفي ومحمد أركون وغيرهم كثير ،خير
443
مثال لما قررناه سابقا»
ّ
ويمزق رؤيتنا ،ويعلمن تفكيرنا، «ذلك أن المشكلة -فيما نرى -هي في المنهج الذي يرتهننا،
فنقع في مقاصده وأدواته ،حتى ولو حاولنا في كثير من األحيان رفع شعار مناقضته ،والتنكر له.
صصوا بالنقاط السود في أما بعض الباحثين ،وتالمذتهم في الداخل اإلسالمي ،الذين تخ ّ
صصوا به ،وما تهوى أنفسهم، تاريخنا ،وعلى األخص عصر الصحابة ،فلم يبصروا إال ما تخ ّ
وحاولوا توهين هذا الجيل ،والحط من قدره وأدائه ،واالدعاء بأنه جيل الفتن ،واالغتياالت،
والحروب ،واالستبداد السّياسي ،والظلم االجتماعي ،فمقاصدهم قطع األمة عن جذورها وتشويه
شخصيتها التاريخية ،وتركها في َم َهبّ الرياح! فالغاية من طروحاتهم لم تعد خافية على
444
أحد».
"وحسبنا أن نورد ما أخرجه اإلمام أحمد رحمه هللا بإسناد صحيح إلى محمد بن سيرين ،قال:
«هاجت الفت ُن ،وأصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عشرات األلوف ،فلم يحضرها منهم
445
مائة ،بل لم يبلغوا الثالثين»"
يمرر على
ُروج أو ّ
يبقى السّؤال الخطير الثاوي في طيّات القضية واإلشكال ﻫو كيف يا ترى ي ّ
تصور تفكيرية وتعتبر ﻫي في نفسها كذلك ،بل ال تتكلم وال تكتب وال تحاضر إال بهذا ذوات ت ّ
ويمرر كون العرض يمثل الجوﻫر كالذي ّ الزعم الذاتي العلمي والتفلسفي حتى ،كيف يروج عليها
يقوم عليه بنيان ﻫذا الكالم للدكتور زكي نجيب محمود ،الكالم ال ُم َر ّوج أكاديميا عند مجددينا من
المثقفين والمؤرخين من نخبة العقل العربي الحديث والمعاصر ،أو كيف تصدق حقيقة ﻫذه
المعالجة في شرطها الحوضي والمختبراتي ﻫذا.
إنه في الحق لهو أحط دركات األ ّمية لو كانوا لكنه العلم ولحقيقة الفلسفة يعلمون! إن األمر
يتعلق ال بمدى العمل في مستوى أو فضاء البنية الموضوعاتية ،العمل التحليلي الذي ﻫو من
443موسى المنصوري :حول المركزية الغربية والقراءة اإليديلوجية للتراث -مجلة المنعطف .العدد6885 .8
444تقديم" كتاب األمة" عمرو بن العاص (رضي هللا عنه) القائد المسلم -والسفير األمين -الحزء األول-
الركن محمود شيت حطاب -ص -11-10 -العدد -٤١:المحرم١٤١٨ه -السنة السادسة عشرة اللواء ّ
445ن م – ص18
345
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المؤكد اعتماده على السّعة المعرفية ،التي يمثلها ﻫذا أو ذلك النصاب من الجهد التحصيلي
المتراكم تراكما يعلم هللا تعالى ثمرته وغايته المرسومة عند مهندسي البرنامج التكويني
االستعماري ،إنما يتعلق المشكل ﻫنا باآللية والميزان الذي يت ّم به العمل ،بقواعد المنطق التي
مرجعها النسق األولى للعقل المستفاد ،التي ﻫي بحق اإلنسان الناطق حقيقة ،ﻫي بحق عقل
ي العقل ،بشرط أال يكون من نتاج الحوض التعليمي اإلنسان .ولو أردت أن تقنع بشرا سو ّ
االستعماري ،وإن يكن أ ّميّا ،صغيرا أو كبيرا ،من الحضر أو البدو عجوزا أو شيخا على فطرة
العقل التي خلق هللا الخلق عليها ،تريد أن تقنعه بأن شعر الرأس المتسخ بما تحمله الرياح من
غبار األتربة ﻫو الرأس بل ﻫو اإلنسان ،أو أن ظفر األصبع ﻫو األصبع بل ﻫو القدم بل نفس
اإلنسان ،لما استطعت إلى ذلك سبيال ،ولرماك مسددا بالخطل والعته.
واألرض ،متى جازَ تمثي ُل العنصر لمجموعة ْ ومتى في ميزان الحق الذي تقوم عليه السموات
بالجرد ،وكيف يقبل العقل السوي أن يخاطبه ﻫذا المستشر ُق أو تلميذه النجيب ! بأن العرض ﻫو
عين الجوﻫر؟ عجبا!
إن الباطنية والزنادقة أو الزندقة من نفس علم الداللة والسيميائية ليس أصلها يخرج من
الجوﻫر والنظمة األساس للنظمة اإلسالمية التي قامت حكما عربيا خالصا ،وﻫذا من األصول
التي يبنى عليها كل علم وكل كالم في التاريخ اإلسالمي والحضارة اإلسالمية .وإنها لمن
األصول التي أرﻫبت وال زالت ترﻫب علماء بني إسرائيل حسدا من عند أنفسهم .وإن فرقا
عظيما بين بناء الفارابي الصامد منطقيا الكافل الستخالف إسالمي بقوة وبناء إخوان الصفا الذي
تصغى إليه الدعوة االستشراقية.
ضارية التي تقتلصليبية ال ّ
إن الشرط األول في المعالجة االستعمارية الكولونيالية الحضارية ال ّ
المكون ين في حضنها ،وﻫم في وﻫم وجودي مصطنع ،بألقاب وكراسي جامعية وحظوة ّ ﻫؤالء
تصور من عدوان اإلنسان على أخيه في تظاﻫر بالتحضر وحمل ُمنسية – وﻫذا ﻫو أخطر ما ي ّ
ي ،أي مساﻫم شارة حقوق اإلنسان والحيوان ،إن ﻫذا الشرط ﻫو بالذات مانع المتالك عقل فاراب ّ
في خدمة وتحقق الشرط الثاني.
إن قول زكي محمود:
"لقد تعاورني أثناء محاوالتي الفكرية أمل ويأس . .
446ن م – ص31
346
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تقرر على البداﻫة المنطقية رده أو رد صدق المجمع على نبلها ،ال ي ّ ومع االعتبار لخلة ال ّ
المكون المعطياتي بالقاموسّ أو المعرفي القصور د مجر
ّ إلى فيه الوارد التناقض والتضارب
المعلومياتي الذي يوضح األمر أكثر وبصفة ينتفي معها المراء ،وإن عُد ويعد ﻫذا إخالال بالنهج
العملي وبمبادئ المنهاجية ،الذي ﻫو بحق إخالل غير محمود في مقام من القول له ﻫذا الخطر،
مقام يهم أمة وحضارة ،بل ورسالة ليس يعلم عظم شأنها إال هللا والمالئكة وألو العلم..
المكون في إنتاج الحكم والقيمة كما ﻫو المكونات و ّ ّ تقرر تحتما على البداﻫة لعدم أحادية ال ي ّ
معلوم مسلم به .وتأكيدا يتحقق ﻫذا الالتقرير إلى ح ّد صارخ ألي قراءة مستبصرة نقدية
وتصحيحية لوحدة من القول ممثلة ومعينة تعيينا في كتاب "تجديد الفكر العربي" إذ يحقق ،عالوة
على ما التصريح النقدي الذاتي ،يحقق شرط اآلنية المنطقية ،وليس يقتصر ﻫذا على االفتقاد الب ّين
لميزان المنطق شرط الترابط وصحة البناء الالزب ،ولكن يطال األسس والمتجهات األساس
تصورات والتفكير ،الذي ﻫو حقل التوليد لكل كلمة وكل قول وكل كتابة وتأليف .وﻫنا نجد لحقل ال ّ
صواب، أنفسنا بصدد ما وصل إليه ديكارت والغزالي معا ،جمعا إلى شرط ومرجع الخطإ وال ّ
حكم الوثوق والثقة بمصدر الكالم والخطاب.
لقد اتضح وواضح بما فيه الكفاء انخرام الذات من جهة المنطق بالمعنى الذي بيناه ،لكن
الطامة الكبرى قاصمة ﻫذه الذات ،ﻫي االختالل المخيف لو علم ما ﻫو وما فقهه في الداللة
المنهاجية ،التي ﻫي عينها وعليها يحمل البعد االبستيمي واالبستيمولوجي .أليس ﻫو مخيفا الخطأ
في المتجهات األساس لفضاء البناء ،وإن اللغة في ﻫذا لإلنسان واألمم لبمكان.
إنه ال فقه للوجود ولبنية الكون من دون بلوغ وفقه قانون التفصيل ،تفصيل الحق القائم عليه
واألرض في الخلق واألمر .وﻫذا ،ليس سواه ،السّنخ والمنحى لما أمسى ْ اوات
كل ما في الس َم َ
يعرف بالنظماتية ،الهيئة العلمية في تناول الموضوعات .فاالختالف والتناسق والوحدة كلها من
المبادئ الكونية العا ّمة ،ومنه كان حقيقا على كل عقل علمي وذات فلسفية أن يستحيل عندﻫا
إمكان سلم تفاضلي في وظيفة اللغة ،كما قال نجيب زكي داعيا إلى التجديد في الفكر العربي وإلى
ثورة في اللغة:
"أ -من اللغة تبدأ ثورة التجديد
١
تصور ألمة من األمم ثورة فكرية كاسحة للرواسب ،إال أن تكون بدايتها نظرة عميقة لست أ ّ
عريضة تراجع بها اللغة وطرائق استخدامها ،ألن اللغة ﻫي الفكر ،ومحال أن يتغير ﻫذا بغير
تلك ،فقد تسود العصر روح دينية صوفية ،تبحث عن الغيب وراء الشهادة ،عن الخفاء وراء
الظهور ،عن الثابت وراء المتغير ،عن المطلق وراء الجزئي النسبي العابر ،عن البقاء وراء
الفناء ،فعندئذ ينعكس ﻫذا كله على طريقة استخدام الناس للغة -في مدارج الثقافة العليا ال في
تصاريف الحياة اليومية -فتراﻫم يجعلونها لإليحاء ال للداللة ،فهي أداة عروج إلى السّماء ال
وسيلة اتصال بالواقع .ثم قد تسود العصر روح علمانية واقعية ،ينشغل الناس فيها بالعلوم
347
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صوفي وتسبيح المتدين ،فعندئذ كذلك ينعكس ذلك الرياضية أكثر مما ينشغلون بالوجد ال ّ الطبيعية و ّ
على اللغة ،فترى أصحابها يتخذون منها أداة ترمز إلى الواقع المحسوس ،أكثر مما يتخذونها
عدسات ينفذ ون منها إلى الالنهاية والخلود ،ذلك على وجه التعميم الذي ال ينفي أن يتناثر في
الحالة األولى أفراد أشبه بالعلماء في استخدامهم للغة ،كما ال ينفي أن يكون في الحالة الثانية
أفراد أشبه بالشعراء في صياغة القول.
فإذا كان الناس في مرحلة من تاريخهم الفكري تشبه الحالة األولى وأرادوا االنتقال منها إلى
مرحلة أخرى تشبه الحالة الثانية ،كان ال بد لهم من تغيير األداة .والعكس صحيح أيضا بالنسبة
إلى من يأخذ العلم الطبيعي برقابهم ويريدون اإلفالت من قبضته ولو قليال ،فهنا كذلك ترى الدعاة
447
إنما يسوقون دعتهم بلغة اإليحاء الشاعرة ،ال بلغة اإلعالم الواقعية العلمية المحدودة المعنى".
والذي يزيدك تأطيرا لهذا الكالم من جهة أولى ،ويجعلك من بعدﻫا على يقين بأن ال حفظ لقيم
األحكام ،وإن ﻫو إال ضرب أو ضروب من أساليب العربية حصيلة ورشة ،مادتها ركام من
معجم يعج للحضارة العربية اإلسالمية وللعرب والمسلمين بالكراﻫية والبغضاء ،ﻫو قوله:
مجرد في ثباته وسكونه ،ﻫو حجر الزاوية من البناء اإلنساني من "الفعل وديناميته ،ال العلم ال ّ
وجهة النظر العربية .وأحسب أن ذلك قد انعكس في اللغة العربية وطرائق بنائها ،فهي تبدأ
الجملة «بالفعل» وتعقب عليه بالفاعل ،على خالف اللغات األورويبة التي تبدأ جملتها بالفاعل ،ثم
تلحقه بالفعل .نحن نقول «جاء» زيد أكثر مما نقول «زيد» جاء ،وﻫم يعكسون ،ولما كان الفعل
يتم في األغلب عن إرادة ،ثم لما كانت اإلرادة توشك أن تنحصر في اإلنسان دون سائر الكائنات
في العالم المخلوق ،كانت المواجهة التي تشغل الثقافة العربية ،ليست ﻫي مواجهة اإلنسان بعقله
للطبيعة بخصائصها ابتغاء الوصول إلى قوانين العلوم الطبيعية ،وإنما ﻫي مواجهة اإلنسان
بإرادته للمجتمع اإلنساني في فاعليته ،وأوجه نشاطه ،ابتغاء المشاركة في فعل موحد موصل إلى
أﻫداف ترضى عنها القيم العليا .فقطب الرحى عند فالسفة الغرب ﻫو أحكام للعقل ،وقطب الرحى
عند المفكر العربي ﻫو قيم السّلوك .والخير كل الخير في أن تضم ﻫذه إلى تلك ،فإذا كان الغرب
ينقصه ما يكمله ،فنقصه في القيم التي تدمج الفرد في جماعة اإلنسانية دمج التعاطف والتعاون.
وإذا كان العربي ينقصه ما يكمله ،فنقصه في قضايا العلوم التي ﻫي الوسيلة للسيطرة واإلمساك
448
بزمامها".
صال كما تفصيل لون البشر: ﻫو على ميزان الخلق واألمر مف ّ َ ﻫو العربي اللسان كان فلئن
ت
ألوانِك ْم' إن فِي ذلِكَ آل َيا ٍ
ِالف ألسِنتِك ْم َو َ ْ
األرض َواخت ُ اوات َو ْ ﴿و ْ
مِن آيَاتِ ِه خَل ُق الس َم َ َ
لِل َعالمِينَ '﴾(الروم )03وﻫو الحق ليس األﻫواء وال قفو المرء ما ليس من مدار عقله ونظره ،فإن
واألرض ،ومنه يتحدد موضع ْ اوات نسق ما اتفق على تسميته بالجملة الفعلية باق ما دامت الس َم َ
المراد من القول.
348
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
أما الحقيقة الثانية ،ومن بعد ما يتحصل لك بيسير االستيعاب وقريب الفهم أن ﻫذه المواد
صنف البيانية[ :أﻫداف ترضى عنها القيم العليا ،قيم السّلوك ،التعاطف والتعاون] ﻫي عين ال ّ
الداللي ["ألن جماهيرنا منذ األزل – أزل التاريخ المدون -مفتونة بالغيب دون الشهادة ،بالباطن
الرمز دون اإلفصاح وصراحة التعبير"" ،روح دون الظاهر ،بالخفاء دون العلن ،باإلضمار و ّ
449
دينية صوفية!"" ،صوفية الدراويش" ،سمادير الوﻫم"] فإنك أمام ذات اللوحة ..لكن ..
َس بين داللة نفس اللون لمعنيين نقيضين متقابلين .وعامة ال عك َ
لكن اختلط األمر على الكاتبَ ،
سيمياء (صنف اللغة) يكون الفنان (الرسام) فنانا كامال حقيقا بهذا الوصف حتى يجمع بين ال ّ
وأوليات الكيمياء وعلم المناظر المحافظ تضمنا على شرط المنطق في العمل .واستفتاء فقهاء
العلوم والفلسفة يفي بأن يعلم بأن الثابت المقابل للمتغير والمطلق المقابل للجزئي ﻫو مستوى
التقنين والمعادالت أساس الحقيقة العلمية ،وأن ليس من سبيل إلى ذلك من غير المرحلة أو الطور
التجريبي؛ فال تجريد من غير صعود من المادي إلى المحسوس .ومؤرخو ﻫذه النخبة من
العلماء ،مؤرخو التفكير العلمي واتجاﻫات العلوم البشرية ،يدركون ويعرفون كما يعرفون أبناءﻫم
األرض مجاال مستخلفا فيه ،أن ذلك لم يحصل حقيقة أن النهج التجريبي أو إنزال مفهوم العلم إلى ْ
إال مع طور ونهج العقل اإلسالمي ،وبالنسبة للفالسفة واالبستيمولوجيين غير المزيّفين فإن ذلك
ليس بغريب وال ﻫو بمدعاة للعجب ،ﻫو راجع إلى ميزة ﻫذه الحضارة التي أصلها من السّماء.
مستقر الكاتب في أحكامه تاليا لمنظاره غير المنطقي لهذا التأرجح في
ّ وليس يقف تأرجح
ي ،ﻫا ﻫو يسوق عن كثب على مسافة ذات موضع قريب ،لوحة ناقضة كلتي تينك التناقض الجل ّ
اللوحتين ،وكأن ما به ال معنى يعيره للتناقض ،صار إن شئت س ّمه نمطا تأليفا على ركوب
التناقض ،بالطبع ليس بالمعنى الجدلي الفلسفي الذي يراد به التحول وقانون التغير الكوني
التناسقي المنطقي ،ال الجامع في ذات التواجد بالمتناقض؛ فبعد أن ختم على أمته وقومه أو مادته
البيانية "جماﻫيرنا" بختم " الالعقالنية المغروزة في طبائعها كأنها ألوان جلودﻫا" " 450فإذا عقل
بعضُهم كان ذلك قبسا ً دخيال على طبع أصيل" إذ ذهب في الكتاب كله هذا المذهب مما أشار إليه
محمد أسد ال يلوي على شيء ،من بعد ﻫذا كله كما أنطق بها الحق لسانه ،ويا لعجيب البيان
العلمي ﻫذا والفلسفي حتى -والفلسفة أم العلوم -يا لعجب أن يتبع الحق على منظار الكاتب ! وﻫذا
غالبٌ في إنشاءات وما يعتبر ويقدم بصفتها أعماال تطبع كتبا وتقام ألجل ما أجاء بها أو جاءت به
ندوات كأنها الكوكب وﻫي أقمارﻫا ،إن تعحب فعجب أن يتبع الحق وبهذه الخفة وعدم الثقالة التي
يمثلها تعبيره وجملته االعتراضية "– بعد هذا كله" ،أن يكون تاليا لما يعجب األسلوبية صورته
صورة:
ويحسن من اللفظ وقعه ،ليس يكثرت لمادة ذينك اللفظ وال ّ
"على أني – بعد ﻫذا كله -كلما قرأت شعرا عربيا ،أحسست بما لست أحس نظيره إذا قرأت
شعرا انجليزيا ،إذ يخيل إلي عند قراءة الشعر العربي ،أن الشاعر يعمل عقله في التركيب
449ن م – ص300..300
450ن م – ص301
349
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صنعة» جزء ال ينفك قائما في بناء الشعر العربي ،مهما أوتي الشاعر من صياغة ،وأن «ال ّ وال ّ
تلقائية الطبع ،نعم ،يخيل إلي ﻫذا دائما – وقد ال يعدو األمر أن يكون خياال عندي لكني أجد له
في كثير من األحيان ما يبرره ،فأوال :أجد في الشعر العربي من اللقطات الحسية -أعني ما يقع
عليه البصر أو السمع فعال في دنيا األشياء -أكثر مما ألحظه في شعر سواه.
واللقطة الحسية من الواقع المشهود ،ﻫي أول خطوة في طريق العقل ،وثانيا :يحتوي الشعر
العربي على قدر من «الحكمة» أكثر مما أجد في سواه .والحكمة حقيقة موضوعية يعمم بها
الشاعر حكمه على الناس والعالم ،ال تختلف في أحيان كثيرة عن تعميمات علم النفس وعلم
االجتماع .وثالثا :لم يكن نادرا بين شعراء العرب أن يقصدوا بشعرﻫم أﻫدافا غير الشعر نفسه،
أعني أن الشعر قلما كان عندﻫم من أجل الفن الشعري ،بل كان في حاالت كثيرة وسيلة لغايات،
تتبدل تلك الغايات بين يوم ويوم فتتبدل معه الوسيلة .وﻫذا من قبيل النشاط العقلي ،أكثر مما
يكون من دنيا الوجدان .ولو صدق ظني ﻫذا ،كان العربي القديم – حتى وﻫو شاعر -رجال يملك
451
العقل زمامه".
وإذ يجعل للشاعر العربي من العقل نصيبا لم يكن قبسا ً دخيال على طبع أصيل ويسلبه الشاعر
األنجليزي؛ فالشعر حقيقة ليس يعني إال المطبوع مما تلهج به نفس اإلنسان ،ال دخل في جوهره
لصنعة مما ليس بإحساس وشعور مغاير لما يعلم بسبيل العقل .وهاتيك األقوال التي تساق في
صنعة في الشعر العربي ،شأن الفصل فيها إنما هو للصنعة معرض ما يسمى بتيار أو مدرسة ال ّ
صة؛ فليس كل اختالف له اعتبار في منطق العلم .وما العلمية بمعايير فقه اللغة وعلم اإلدراك خا ّ
أبلغ هذا الكالم البن قتيبة – رحمه هللا!:-
«"والمتكلف من الشعر ،وإن كان جيدا ً محكماً ،فليس به خفاء على ذوي العلم؛ لتبينهم فيه ما
نزل بصاحبه من طول التفكر ،وشدة العناء ،ورشح الجبين وكثرة الضرورات وحذف ما
452
بالمعاني غنى عنه".
أما المطبوع فهو "من سمح بالشعر ،واقتدر على القوافي وأراك في صدر بيته عجزه ،وفي
فاتحته قافيته ،وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة ،وإذا امتحن لم يتعلثم ،ولم
يتزحر" 453وهو يشير إلى ما في شعر المطبوعين من السبك والتالحم سواء أكان ذلك في البيت
454
الواحد ،أو في القصيدة كلها ،مما يعني رضاء هؤالء المطبوعين عن شعرهم».
451ن م – ص100-103
452ابن قتيبة :الشعر والشعراء -3888 :المرجع-
453السابق ،383 :قوله يتزحر من الزحير وهو إخراج الصوت أو النفس بأنين عند عمل أو شدة ،ونفي التزحر
عند ابن قتيبة فيه إشارة إلى سهولة عمل المطبوعين من الشعراء مما يدخلهم في حيز الطبع البعيد عن التنقيح
والتهذيب -المرجع-
صنعة الشعرية ..بين الجاهلية واإلسالم :د .ياسر عبد الحسيب رضوان -األلوكة األدبية واللغوية
454تيار ال ّ
350
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وليس الذي يريده ابن قتيبة هو موقع الشعر من نفس الشاعر ورضائه عنه أو عدمه ،ليس
جوهرا
ً شعرا
ً ذلك الذي يعنيه ،إنما حقيقة هذا الشعر ذاته من حيث جوهره وما وجب أن نس ّميه
وحقيقة.
«لقد كان رواة الشعر أسبق من نقاده في قضية الطبع وما تشير إليه من دالالت السهولة
واليسر وطواعية الشعر الذي يخرج من أفواههم أول ما يخرج تام الخلق مستويًا على سوقه دون
صنعة ،وما تستدعيه عند صاحبها من التكلفأدنى عناء أو مشقة وأدركوا بالمثل قضية ال ّ
والمشقة والجهد ،فهذا األصمعي يقول فيما يرويه الجاحظ في بيانه" :زهير والحطيئة وأشباههما
جود في جميع شعره، عبيد الشعر؛ ألنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين ،وكذلك كل من ّ
ووقف عند كل بيت قاله وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة،
وكان يُقال :لوال أن الشعر قد استعبدهم ،واستفرغ مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف
صنعة ،ومن يلتمس قهر الكالم واغتصاب األلفاظ 455،لذهبوا مذهب المطبوعين وأصحاب ال ّ
سهوا
ً ورهوا ،وتنثال عليهم األلفاظ انثياال" وما تأتي المعاني
456
ً سهوا
ً الذين تأتيهم المعاني
ورهوا ،وانثيال األلفاظ انثياال إال من صورة من صور البديهة الحاضرة ،واالرتجال الذي ينم
ً
عن قريحة شعرية ملهمة تبعد بصاحبها عن أن يراجع شعره وينقحه ويهذبه ويثقفه ،وبذلك نجد
الجاحظ يذم التكلف والتصنع الذي ينصرف إلى قهر النفس على قول الشعر مع إعمال العقل
وكده – برغم أنه أكد في الحيوان على ضرورة مراجعة العمل األدبي ، 457ألنه يفارق المطبوع
458
من الشعراء».
فبنية الكالم ال تستقيم على سياق بياني منتظم وحكيم إال بمباينة داللية متعاكسة تضع جوهر
صنعة". الشعر حقيقة ما كان "عن قريحة شعرية ملهمة" مقابل "دخول باب التكلف وأصحاب ال ّ
كما أن أسلوب االستدراك أو اإلضراب أو المقابلة « :برغم أنه أكد ..الشعراء» ليس سديدًا،
ويصح االستثناء المنقطع.
351
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صنعة الشعرية فجعل بينها صنعة العلمية في مسمى ال ّ الرصين ألهل ال ّ وإذا علمت هذا الحكم ّ
صحيح قوله« :ثالثا :لم يكنتصور ال ّحاجزا ،سوف لن ينتظم عقلك بهذا ال ّ ً وبين جوهر الشعر
المكون النفساني
ّ نادرا بين شعراء العرب أن يقصدوا بشعرﻫم أﻫدافا غير الشعر نفسه» إذ
جوﻫري في حقيقة الشعر ،بل ال يوجد شعر حقيقي بغير مصدر ذات الشاعر وكيانه النفسي.
وﻫذا المصدر بماﻫيته النفسية المتجانسة ووحدة حقله التوليدي ال ُمف ِ ّجر للشعر ،ﻫو بالذات الذي
يعطي له ﻫذه المميّزة المنطقية التي بها يميز ع ّما ليس شعرا منطقيا ،أي مما ﻫو من المصنوع
والمصطنع والمتكلف .وأما عالقة الشعر بالحكمة ،فبحسب الحقل التواجدي للشخص ولموقع
صة مميّزة للشعر ،سواء كان من نفسه من الحق ،وال تعارض في ذلك مع التماسك واالنتظام خا ّ
الحكمة مانعا من الجهل أو غواية؛ فك ٌّل يعم ُل على شاكلتِ ِه.
هذا النسج والنسْق للكالم على غير مرجع منطق بنية الواقع والحقيقة العلمية ،مرجع البناء
صالح كما هو أعظم وخير ما تركه ديكارت كلمة حجة على من ادعى وزعم صحيح والعمل ال ّال ّ
زعما ً أنه من أهل العقل والعقالنية مذهبا ً في سلوك القول كله ،هو نسق يؤول إلى تقرير واضح
صبغ التكويني لجيل االستعمار وهو صبغ البرنامج ال يضام فيه عاقل ذو نظر ،وهو أن ال ّ
التكويني في الدول العربية بالخصوص والمفروض إلى اليوم ،صبغ تعقيمي تاريخي ،بالمعنى
المعجمي غير البيولوجي الذي هو بدوره ال يخرج عن داللة الحد والحجز والمنع ،ومنه ليس
يُستغرب إطالقا ً من تكوين لم يعط ألمته ولو فتيال مما يعطيه وأعطاه عقالء األمم إلى أممهم من
أسس التمكين التاريخي بما يكون به استقاللهم السّياسي والحضاري وأمنهم العسكري .وهذا له
ت تاريخية أي من عق ٍل تاريخي ،ولكنه مفروض بمخطط تعليل واحد ،هو أنه ليس من ذا ٍ
استعماري؛ هو تكوين عقيم بل نقيض تاريخي ،ال ينتظر أبدًا وال يُرجى منه خير إطالقا ً ألنه
لذلك فرض وخلق.
إنك لو جعلت ما أنتجه تكوين الحوض االستعماري في الدول العربية إلى يوم النَّاس هذا ،لو
جعلت بعضه على بعض فركمته جميعا ً فوضعته في كفة لرجحته كفة صاروخ باليستي قصير
المدى .وما هذه الزوبعات الوهمية المخدرة من قبيل ترشيح هذا العربي أو ذاك أو توشيحه
المسرحي الهزلي بجائزة نوبل في هذا الحقل العلمي أو ذاك ،لعمل محض مختبراتي يوجهه فيه
علماء ومهندسون ضمن عمل ليس له فيه من شيء ،إما ألنه محض نظري أو ال زال في اعتبار
ذلك ،متصل بالنتائج المختبراتية ،التي ال ترجع قيمتها سوى للعقول التي بلغت هذا الطور
صناعي المختبراتي ال للتالميذ والطلبة مهما كان أصلهم العاملين ضمن آلية صناعية تاريخيةال ّ
352
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
هي نظمة هذه األمة بكيانها التاريخي الحضاري والسّياسي ،فالفرح أو اإلشادة بمثل هاتيك
األلقاب ما هي -وبالخصوص بالنسبة إلى العرب -إال ما تحمده األنفس من وهم الحكايات
سمادير.
ويمضي زكي نجيب محمود في نسْق الكالم ليس يرجع فيه إلى تناسق وال ترابط ،فإن رأيت
صليبي االستشراقي ،نمطا ً من
تصور الكراهي ال ّ
كتابته كما هي سائر كتابات الحقل المشبعة بال ّ
صنعة الهجينة المشبعة بكل ما في المعجم من ألفاظ الكراهية والحط من قدر العرب والمسلمين ال ّ
إلى درك ال تسيغه أدبيات الحس السليم في كالم اإلنسان العادي ..
فهو تارة أخرى حين ينجذب إلى قوالب البنية األسلوبية ،وهي في نظري الحصيلة الوحيدة
السليمة -على التغليب -فيما اعتبر في الحوض الجامعي التكويني حقل العلوم اإلنسانية والفلسفة،
ي فيسنات من السّجع ورونق اللفظ في ذاكرة الذات – كما هو جل ٌّ
459
فيكون الهم القالب وال ُمح ّ
مؤلف "في األدب الجاهلي" لطه حسين -وليس المادة وقيمها الحقائقية وترابط هذه القيم
صا لإلنسان الغربي من وانتظامها ،هو حينها ينسى أو نسي أنه قد َجعَ َل العق َل نصيبًا مخصو ً
البشر وللعربي الدروشة والهيمانية والالعقالنية ،فتراه من جديد في طور غير مفاجئ من
القوة من الحق التي قائم بها النسق األسلوبي بميزان الرحمان في التناقض ،أو لعله من بركة هذه ّ
البيان والخلق؛ تلفيه -وسبحان مبدل األطوار! -يجعل العقالنية للعربي ويجعله من خلق هللا ممن
له تفكير وله عقل:
"قد ال يطعن في عقالنية النظر عند العرب ،أال ينظروا إلى لغتهم النظرة التي تحاول أن تعلل
قواعدها على أسس منطقية ألن اللغة مسموعة منقولة بمفرداتها وقواعد تركيبها ،فال ضير على
قوم أن يقولوا عن لغتهم :هكذا سمعناها ونقلناها ،فقد نرفع الفاعل وننصب المفعول لغير علة
مفهومة إال أن نجري في ذلك مجرى األسالف ،دون أن يكون األخذ بالتقليد في هذا الجانب
مأخذًا ينتقص من صفة العقالنية فينا ،فما بالك -إذن -أن تجد العرب قد حاولوا – حتى في جانب
اللغة وقواعدها -أن يلتمسوا العلل المفسّرة؟ إنه إيغال منهم في طلب العلة المعقولة حيثما
صادفتهم ظاهرة ،اجتماعية كانت أو طبيعية.
353
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وحسبنا أن نطالع في ذلك كتابًا واحدًا ،هو كتاب «الخصائص» البن ج ّنِي ،لنرى -ونعجب-
كيف راح يبحث لكل وضع من أوضاع اللغة عن علة تفسّره ،فهو يسأل –ابتداء -عن اللغة
العربية أكالمية هي أم فقهية؟ (راجع الخصائص ج ٤١١/١وما بعدها).
ويعني ذلك ما إذا كانت أوضاعها قابلة للتعليل أو غير قابلة ،بحيث يكون علينا أن نأخذ هذه
األوضاع بغير تعليل كما نأخذ – مثال -عدد الركعات في الصالة ،ثم يجيب ،قائال« :اعلم أن علل
النحويين ..أقرب إلى علل المتكلمين ،منها إلى علل المتفقهين» ومن هذا المبدإ ينطلق باحثا
460
فاحصا معلال بالمنطق ال بالنقل والتقليد "..
تصو ًرا
ّ ومتى كان تقرير مفهوم المدونة اللغوية في األلسنية ومذ جعل هللا للنحو في العقول
واستقر له معنى ،أن يكون ذلك مناقضا ً للتقعيد اللغوي بتعليل منطقي؟!
ّ
وليعلم أن قول ابن جني« :اعلم أن علل النحويين ..أقرب إلى علل المتكلمين ،منها إلى علل
غير صحيح .ولقد سداد ُ المتفقهين» ليس على هدى من الحق ،ليس على مرجعه يقينا ً ،مجانب لل ّ
أكثر الفقهاء والنحاة ،و َم َر ُّد ذلك هو إشكا ُل مفهوم العلة ،وتحديدا ً
ض َّل في هذا من قبله ومن بعده ُ
َ
ً ً
عدم أحادية بُعد التعليل ومستواه ،أي أن هناك اشتراكا لغويا ولفظيا لحقائق ومفاهيم هي في الحق
تصور العلة ،وعدم بلوغ وحصول الفصل بين العلة النصية أو ما ّ متعددة متباينة .وهذا الخلط في
يسمى أحيانا ويعبر عنه بالعلة الجعلية ،المنتجة للحكم الشرعي الذي يقاس عليه ،وبين العلة
بالمعنى المنحو إلى داللة المقصود والحكمة مما هو في النص وحدة من الحق ، 461أي عدم تمايز
التعليل الفقهي عن نظيره الكالمي ،هو الذي ض ّل به اب ُن جني فيما ذهب إليه من بيِّن الضّالل
والخطإ في مقول العامل النحوي ،وتبعه في ضالله هذا واختالطه اب ُن مضاء.462
ولخطر ما جاء على لسان وبديهة الكاتب المطبوعة بصبغ ما طبع فيما عرض له وبه من
التمثيل لما يؤخذ بالتقليد ال بالمنطق بعدد الركعات في الصالة ،ولمنزلة وشأن علم النحو عند
األمم ال يسعنا إال أن نسوق ونقرب ما هو جدير باالستحضار:
354
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والذي يزيدك تصديقا ً وإلى يقينك يقيناً ،ال حول ما جاء به ابن مضاء فحسب ،ولكن كذلك في
تصوره وتقويمه
القراءة لتاريخ التفكير والعمل اللغوي والنحوي العربي ،وطريقة تناوله و ّ
تصور والتقويم من خالل هذا العرض لشوقي ضيف؛ وهو منهاجيا ً ،هو أن ننظر إلى ذينك ال ّ
وعلى إيجازه من خير ما كتب وألف في هذا الشأن:
وليس كل ما استفاده ابن مضاء من تطبيق مذهب الظاهرية على النحو العربي ،ينحصر في
إلغاء نظرية العامل ،فهناك أشياء أخرى استفادها من هذا المذهب ،وقد أراد أن يريح النَّاس عن
طريقها من عبث للنحاة .وعلى رأس هذه األشياء ما يراه الظاهرية من إلغاء العلل ،وإلغاء طلبها
في الشرع ،وقد ذهب ابن مضاء يطلب ذلك في النحو ،ولكنه لم يتشبث بإلغاء العلل جملة ،فإن
فيها قد ًْرا ال يمكن أن نلغيه وهو العلل األول ،التي تجعلنا نعرف مثال أن كل فاعل مرفوع ،أما ما
ي بنا أن نحطمه تحطيما ،كما حطمنا نظرية العامل. وراء ذلك من العلل الثواني والثوالث ،فحر ّ
وانظر إليه يقول" :ومما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث ،وذلك مثل سؤال
السائل عن (زيد) من قولنا (قام زيد) لم ُرفِع؟ فيُقال :ألنه فاعل ،وكل فاعل مرفوع ،فيقول :ولم
صواب أن يُقال له :كذا نطقت به العرب .ثبت ذلك باالستقراء من الكالم المتواتر، ُرفع الفاعل؟ فال ّ
وال فرق بين ذلك وبين من عرف أن شيئا ما حرام بالنص ،وال يُحتاج فيه إلى استنباط علة،
لم ُح ِ ّرم؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على الفقيه .ولو أجبت لينقل حكمه إلى غيره ،فسأل َ
ُ
السائل عن سؤاله بأن تقول له :للفرق بين الفاعل والمفعول ،فلم يقنعه وقال :فل َِم ل ْم تعكس القضية
بنصب الفاعل ورفع المفعول؟ قلنا له :ألن الفاعل قليل ،ألنه ال يكون للفعل إال فاعل واحد،
ي األثقل – الذي هو الرفع -للفاعل ،وأعطي األخف – الذي هو والمفعوالت كثيرة ،فأعطِ َ
النصب -للمفعول ،ألن الفاعل واحد والمفعوالت كثيرة ،ليقل في كالمهم ما يستثقلون ،ويكثر في
كالمهم ما يستخفون ،فال يزيدنا ذلك علما بأن الفاعل مرفوع ،ولو جهلنا ذلك لم يضرنا جهله ،إذ
463
قد صح عندنا رفع الفاعل الذي هو مطلوبنا باستقراء المتواتر الذي يوقع العلم"»
الرد لى النحاة البن مضاء القرطبي ،نشره وحققه الدكتور شوقي ضيف -دار الفكر العربي -الطبعة
463كتاب ّ
األولى – ص35-33
355
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
أن هذا التردد للفظي اإلبطال والتحطيم اللذين ما انفكا مسلطين على لكنك قد رأيت كيف ّ
صياغة"العامل" ليس له من الحقيقة سوى الطبيعة األدبية للكتابة ،التي قد تقترب وتبعد عن ال ّ
المنطقية المحافظة على الحق ،مما يتصل بمفهوم األسلوب؛ فاألمر هنا على غراره ،بل هو أش ّد
عسفا ً وأكثر فسادًا؛ فتخبّط ج ّل الفقهاء في مفهوم وحقيقة التعليل تخبّط مبين ليس يخفى،
صة في جزأي مؤلفنا " الفقيه الفقيه" الجزء األول" :إبطال والظاهرية فيه أض ّل .ولئن بيّنا -خا ّ
فصل األصول" والجزء الثاني" :ضالل المقاصديين" -لئن بسطنا البيان في حلّ إشكال التعليل،
والنص
ّ النص،
ّ وتحديدًا بوجوب الميز بين مقام الحق ومقام الحدوث والفرق بين علة الحكم داخل
منتج للمصلحة أو المصالح؛ وأن العلة التي يقاس عليها في الحكم الفقهي هي العلة المنصوصة
فإن المشاكلة بين الفقه وقواعد اللسان التي هي النص الشرعي مما يس ّمى بالعلة الجعلية؛ َّّ في
المدونة
ّ النص الشرعي في الفقه والقاعدة االستقرائية المستم ّدة من
ّ النحو ،هذه المشاكلة تقابل بين
اللغوية في النحو ،وتسند إلى تعليل المصالح ما س ّماه أو ما سمي هنا بالعلل الثواني والثوالث.
وإذا كانت المصالح وتعليلها على اإلمكان حق وإن كان ال يمكن الوقوف عليه إحصا ًء وجمعاً،
وال يحيط بذلك إال هللا تعالى العليم الخبير؛ فكذلك التحليل التعليلي للقواعد النحوية حق على
اإلمكان ،المنطبق بالعلم ،العلم بالقوانين المحتضنة لحقل اللسان ،القوانين التي ينالها عقلنا
ومستوى سُ ُم ّوه المداراتي؛ ولذلك تحديدًا قدمنا نظريتنا بموضوع المبادئ (القوانين) الكونية
العا ّمة .ولنضرب للبيان ولنسلك فيه مثال:
356
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ههنا ينبغي االنتباه كون الشريعة غايتها االنتظام مع الحق المشهود في الوجود والخلق كلية؛
وإذن فالمكلف بالشريعة المأمور بإقامتها والتواجد على قانونها يشترك مع "الماء" و"الفاعل" في
أنه موضوع االنتظام؛ فما هو محقق من انتظام قوانين الخلق واألمر بالنسبة لعنصري "الماء"
كلف بتحقيقه ،فيحصل بالحق االنتظام ويكون كل ما في
المخاطب بشريعة الحق ُم ٌ
ُ و"الفاعل"،
الكون في تناغم سبل ووفاق؛ وهذا هو المفسّر لعدم إمكان حصر ثمرة مصالح االئتمار بما نزل
من الحق وتالوته حق تالوته.
357
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المدونة وجمع
ّ في البنية اللغوية ومفسّرة لها؛ بل وهذا هو المفهوم العلمي للنحو ،ال المنحصر في
اللغوية والشواهد وطوره العملي المعرفي.
ثم ال ينبغي أن نغفل كون هذه اآلراء االنتقادية أو المستجدة التي تأتي مرجّحة أو مصحّحة لما
مر األطوار المس ّماة مذاهب نحوية ،وهي غالبا ً ما تأتي بحجج داعمة وأسباب ألقوالهاقبلها وعلى ّ
مفسّرة راجحة ،كالمرجّح عند أئمة بصريين نجباء من أقوال الكوفيين والعكس ،وكقول ابن جني
ي وما استقال وامتازا به فيوالرض ّ
في أحرف المضارعة والضمير ،وترجيحات ابن هشام َّ
أساس عند من قبله جميعا ً؛ ال ينبغي
ٍ مذهب القول ،وما ذهب إليه ابن مضاء بخصوص مقوالت
أن نغفل عما يعنيه هذا في النقد المنهاجي وفقه المناهج مما هو من صلب مفهوم فلسفة العلوم أو
فإن هذا ليس إال من قوة القصور -أو االندفاع -الذاتي للجوهر العلمي لقانوناالبستيمولوجيا؛ َّ
اللغة وناموسها الذي ال يسعه هذا المجموع من القواعد االستقرائية ،التي هي على البداهة ليست
سوى شوط ومرحلة أولية في بناء العلم أي علم يهم ظواهر أو مجال ظاهرة معينة.
إنه من غير العلة الجعلية المنصوصة ليس واجبا ً على الفقيه التعليل ،لكن كما بيناه واستجلى
األمر ،عكس ذلك بخصوص عالم الطبيعة وعالم اللغة ،فهو ليس يكون عالما إال بالعمل على
استكناه قواعد حقل موضوعه والوقوف على تفسيرها وشرحها ،بردها إلى أسبابها القائمة بالحق
ال عبثا وال من غير انتظام؛ فالمنحيان المعرفيان والعلميان متعاكسان ،ومقام الحكم اإللهي الحق،
وال يحيط بعلم الحق إال هللا تعالى ،والنسق النظماتي للحكم الشرعي متوقف على االئتمار به
صل وثابت ،واستخراج قوانينه متناسب مستقر مح ّ
ّ واتباعه؛ أما الموضوع الطبيعي واللغة فنسقه
وجهد العمل والتحليل وسعة المدى في النظر.
«ونحن نرى ابن مضاء في أول هذه الفقرة يقرن مسائل النحو بمسائل الفقه ،إذ يقول إن
النحوي ال يحتاج إلى تعليل ما ثبت بالنص ،كما أن الفقيه ال يحتاج إلى تعليل ما حرم بالنص،
ولكن أي فريق يرى ذلك؟ إنه فقيه مذهب الظاهرية ،ذلك المذهب الذي كان يجله ابن مضاء ،كما
كان يجله مواله يعقوب بن يوسف ،الذي أمر بحرق كتب المذاهب التي تعتمد على العلل ،وال
تسير في مسائلها سيرة الظاهرية في االعتماد على األصول ،من القرآن الكريم والحديث
الشريف .وقد تبعه قاضي قضاته ابن مضاء يحاول أن ينفي من النحو كل ما ال يستقيم ومذهب
358
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الظاهرية ،فهو ينفي منه نظرية العامل ،وهو ينفي منه العلل الثوا ني والثوالث على نحو ما ينفي
الظاهرية العلل من الشرع الحنيف ،حتى يستقيم النحو مع مذهب الظاهرية من جهة ،وحتى
نستريح من كثرة ما فيه من علل مصطنعة ،ال تهدي إلى حق ،وال إلى ما يشبه الحق.
ويضرب ابن مضاء لذلك مثال هو باب الفاعل ،فإن النحاة يسوقون فيه علة أولى ،وهي أن كل
فاعل مرفوع ،وهي علة مستقيمة ألنها تعطينا الحكم في الباب .غير أن النحاة ال يكتفون بها ،بل
يضيفون إليها علة أخرى ،وهي أن الفاعل ُرفع للفرق بينه وبين المفعول ،كما يضيفون علة
أخرى وهي أن الفاعل ُرفع ألنه قليل ،والمفعول نُصب ألنه كثير ،ولما كان الرفع ثقيال والنصب
خفيفا أعطي الثقيل للقليل والخفيف للكثير ،ليتم التعادل والتوازن .وهذا كله فض ُل تفكير فيما وراء
طبيعة أبواب النحو وأحكامه .وإن الواجب أن نقتصر على وصف الطبيعة األولى ،أو بعبارة أدق
على وصف حكم الباب ،وما يتضمنه من علة أو أولى معقولة .أما هذه العلل الثواني والثوالث
فينبغي نفيها من النحو ،ألنها ال تكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب ،وإنما تكسبنا حكمتهم في
464
كالمهم وصيغ عباراتهم ،وهي حكمة ال تفيد الناطقين بالعربية شيئا في نطقهم»
ثم تأ ّمل أو ما الذي تعرب عنه هذه المادة وكل ما يخرج من لهج النفس وتنطق بها الشفتان
إعراب" :كان يجله ابن مضاء ،كما كان يجله مواله يعقوب بن يوسف" وقد مضى مثله ونحوه:
"ولم يلبث يوسف بن عبد المؤمن أن جعله قاضي الجماعة في الدولة كلها ،أو كما نقول اآلن
صب يوسف للظاهرية ضد أصحاب الفروع .وما نشك في أن ابن قاضي القضاة ،وقد مر بنا تع ّ
465
صب ،إذ النَّاس على دين ملوكهم".
مضاء كان يشرك مواله في هذا التع ّ
الكالم ْ
وإن جمع َ والحق ال ُمبين ،قد اتض َح لكَ َّ
أن هذا ّ ي العلم
فأنت على ضوء ما تبيّن من جل ّ
هذا المجموع من األلفاظ :الفقيه -المذهب -الظاهرية -التعليل -العامل -النحو -الشرع الحنيف،
مستقر يجمعه وينتظمه
ّ فإنك لو ذهبت تبحث له في الحق وميزان الرحمان في البيان والحقيقة عن
مستقر ،ألن الظاهرية في حقيقتها جاءت لنقض المذهبية ،وما ّ ألعياك أمره وليس ينجمع وما هو ب
كانت لتدعو لنفسها عكس ما جاءت من أجله ،وإن هذا هو الموافق وما يرددونه من غير حضور
464ن م – ص31..35
465ن م – ص66-60
359
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
رويّة بأنها دعوة إلى االعتماد على األصول أو الوحيين :الكتاب والسنة ،وذلك ال يت ّم حقا إال
فرق األمة شيعا؛ كل شيعة بدعوة تنفي عن الفقه واالتباع ما أحدث من منكر المذهبية الذي ّ
بمذهبهم يعبدون ،كل ما خالفهم مذهبا ً هو اآلخر والغير على ما يعبّر به بضمير الغيبة هو وهم
وبه يعربون.
هذا من جهة ،ومن جهة ثانية ،فابن مضاء وإن كان قد أيقن في عدم كفاء البناء على عامل أو
صواب ال محالة وأخطأ السّداد في تعليله بعدم تعليل الفقيه ،بالطبع
بعد "العامل" ،فإنه قد جانب ال ّ
كما بيناه وبرهنا عليه.
من بعد الذي ت ّم بسطه وكشفه من البنيات العلمية والمعرفية من خالل التوافق بين بنيات
القاعدة في الفقه والعلوم الطبيعية واللغة ،وكيف أن ث ّمة تقابال بين عنصر نظمة علل المصالح -ال
العلل الجعلية -والقوانين المنتجة للقاعدة –ال أحكام القاعدة -سواء في العلوم الطبيعية أو اللغة،
فلن يُضا ّم العقل السليم في رؤية حقيقة كون ما س ّماه أو ما يشار إليه بالعلل المعقبات الثواني
والثوالث ما هي إال هذه القوانين التي يجب على عالم اللغوي والنحوي كشفها واالجتهاد في
رصدها وتعيينها – ال تجب في األداء وال الكفاية اللغويتين -بل إن هذا هو معنى علم النحو
ومدلوله وجوهرهَّ .
وأن ما جاء في كالمه وقوله:
"ويضرب ابن مضاء لذلك مثال هو باب الفاعل ،فإن النحاة يسوقون فيه علة أولى ،وهي أن
كل فاعل مرفوع ،وهي علة مستقيمة ألنها تعطينا الحكم في الباب .غير أن النحاة ال يكتفون بها،
بل يضيفون إليها علة أخرى ،وهي أن الفاعل ُرفع للفرق بينه وبين المفعول ،كما يضيفون علة
أخرى وهي أن الفاعل ُرفع ألنه قليل ،والمفعول نُصب ألنه كثير ،ولما كان الرفع ثقيال والنصب
خفيفا أعطي الثقيل للقليل والخفيف للكثير ،ليتم التعادل والتوازن .وهذا كله فض ُل تفكير فيما وراء
طبيعة أبواب النحو وأحكامه .وإن الواجب أن نقتصر على وصف الطبيعة األولى ،أو بعبارة أدق
على وصف حكم الباب ،وما يتضمنه من علة أو أولى معقولة .أما هذه العلل الثواني والثوالث
فينبغي نفيها من النحو ،ألنها ال تكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب ،وإنما تكسبنا حكمتهم في
كالمهم وصيغ عباراتهم ،وهي حكمة ال تفيد الناطقين بالعربية شيئا في نطقهم"
360
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الزجاجي مسدَّدا في تسميتها ب"العلل التعليمية" . 466فاللبس هنا عظيم كما كان وال زال عند أهلّ
الفقه والمهت ّمين بعلمه في مفهوم "التعليل" ،وإال فاسمعه يقول فيما أوردنا له من قول:
"ولكنه لم يتشبث بإلغاء العلل جملة ،فإن فيها قد ًْرا ال يمكن أن نلغيه وهو العلل األول ،التي
ي بنا
تجعلنا نعرف مثال أن كل فاعل مرفوع ،أما ما وراء ذلك من العلل الثواني والثوالث ،فحر ّ
أن نحطمه تحطيما ،كما حطمنا نظرية العامل".
األرض والجبال ،و شتان ما األوتاد وما المهاد .وعلل المصالح في الفقه يقابلها
بون فارق بين ْ
التحليل العِلي أو التحليل التعليلي في اللغة كما التفسير القوانيني للظواهر الطبيعية ،أي تفسير
مستقرأة بالتجربة .وإنك لو تأملت ولو شيئا قليال لبدا لك أن ما ساقه م ّما تخلل كالمه من
ّ القواعد ال
سلسلة تعليالت في "سؤال اللم":
"وذلك مثل سؤال السائل عن (زيد) من قولنا (قام زيد) لم ُرفِع؟ فيُقال :ألنه فاعل ،وكل فاعل
صواب أن يُقال له :كذا نطقت به العرب .ثبت ذلك باالستقراء مرفوع ،فيقول :ولم ُرفع الفاعل؟ فال ّ
من الكالم المتواتر ،وال فرق بين ذلك وبين من عرف أن شيئا ما حرام بالنص ،وال يُحتاج فيه
لم ُح ِ ّرم؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على إلى استنباط علة ،لينقل حكمه إلى غيره ،فسأل َ
الفقيه .ولو أجبت السائل عن سؤاله بأن تقول له :للفرق بين الفاعل والمفعول ،فلم يقنعه وقال :فل َِم
ل ْم تُعكس القضية بنصب الفاعل ورفع المفعول؟ قلنا له :ألن الفاعل قليل ،ألنه ال يكون للفعل إال
ي األثقل – الذي هو الرفع -للفاعل ،وأعطي األخف – فاعل واحد ،والمفعوالت كثيرة ،فأعطِ َ
الذي هو النصب -للمفعول ،ألن الفاعل واحد والمفعوالت كثيرة ،ليقل في كالمهم ما يستثقلون،
ويكثر في كالمهم ما يستخفون"
َّ
أن هذا في الحقيقة يمثل محاوالت ُم ِلحّة في التحليل التعليلي للقاعدة لكن دون جدوى ،عين
التحليل الذي ارتضاه؛ يقول شوقي ضيف:
« ومع ذلك فنحن نجد ابن مضاء يرتضي قبيال من العلل الثواني ،ولكن أي قبيل؟ ! إنه القبيل
المقطوع به ،مثل العلة التي تذهب إلى أن كل ساكنين التقيا في الوصل ،وليس أحدهما حرف
466تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب – تأليف الدكتور محمد المختار ولد ابّاه -دار الكنب العلمية –
الطبعة األولى6568 -ه6881 -م إيسيسكو -الطبعة الثانية 6528ه2007 -م بيروت -لبنان ص17
361
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صة في الخلط علة هذا الخبط في عدم االنضباط ما نرى إال وما سبق من بياننا قد تجلى ،خا ّ
البياني ،الذي هو وحده المفسّر في اعتبار وتوسّل تعدّد مستويات التعليل ،والفرق بين علة الحكم
وتعليله العلمي والفقهي فرق ماهية وعوالم .هذه العلة أو التعليل القبيل المرتضى عند ابن مضاء
كما أثبته شوقي على وجه التقرير ،هو بالتحديد حقيقة ومهمة النحوي وعالم اللغة ،ومرجعه هو
القوانين المتحكمة في أبعاد الخلق والطبيعة مما أسميناه بالمبادئ الكونية العا ّمة؛ ومن أجل ذلك
م ّهدنا بها نقدنا وبناءنا لنظرية التناسق واإلعراب المنطقي للنحو العربي .ومن أجله كذلك ،فلئن
ُخص على نحو من النهج كال من عبد هللا بن أبي إسحاق وأبي عمرو بن العالء على ما جاز أن ي ّ
قاله الدكتور ولد ابّاه:
«لقد عرفت الدراسات النحوية تطورا ً جديدا ً في العقود األولى من القرن الثاني الهجري على
يد عالمين بارزين ،وهما عبد هللا بن أبي إسحاق الحضرمي ،وأبو عمرو بن العالء .وقد كان
دورهما متكامال إذ أن أولهما ،وهو من الموالي ،ركز جهده على تثبيث القواعد ،واعتبارها شاملة
مطردة ،واهتم الثاني ،وهو من أصل عربي ،بتتبع الحروف اللغوية وتنظيمها في إطار َمرن
يتسع الستيعاب التنوع اللغوي.
فلم يرض ابن أبي إسحاق عن رفع كلمة "مجلف" ألنها معطوفة على ما قبلها وال يجوز غير
نصبها ،واعترض على الشاعر نفسه قوله:
362
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ولقد غضب الفرزدق من هذا التلحين ،وما كان منه إال أن أطلق لسانه في ابن أبي إسحاق قائال:
ولو كان عبد هللا مولى هجوته ولكن عبد هللا مولى مواليا
الروايات أن ابن أبي إسحاق ،لم ينكر على الفرزدق هجاءه أكثر مما أنكر عليه
وتقول بعض ّ
نصبه لكلمة "مواليا" في آخر البيت والتي كان من المفروض أن تكون مجرورة ،ولعل
469
حرصه على االلتزام بالقواعد ومد القياس جعله يبحث عن تعليل اإلعراب فقال أن التكرار يبيح
حذف الواو في العطف مثل قول الشاعر:
470
وإياك إياكَ المراء فإنه إلى الشر دعاء وللشر جالب »
لكن قوله أو قولهم" :إنه كان أشد تجريدا للقياس من أبي عمرو بن العالء"
363
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"ولكنه لم يتشبث بإلغاء العلل جملة ،فإن فيها قد ًْرا ال يمكن أن نلغيه وهو العلل األول ،التي
ي بنا
تجعلنا نعرف مثال أن كل فاعل مرفوع ،أما ما وراء ذلك من العلل الثواني والثوالث ،فحر ّ
أن نحطمه تحطيما ،كما حطمنا نظرية العامل".
ما هو إال ضرب من رصف اللفظ لصد اه على سامعه طنين وأثر ،إن صح أن يكون كالما في
تعريف سبيويه وعند األلسنيين جمال نحوية ،فإنه وأيم الحق من جهة المعنى هفت ال رويّة فيه،
وحسبك ما يحتنكه من الخطل فيما التعليل .ثم اسمع وانظر إليه يقول وبنبرة فيها من الحدّة ما
يصوره المفعول المطلق "نحطمه تحطيما" فإن هذا األسلوب والمذهب من التعبير ال يكون إال ّ
إبانة عن قضية آمنت بها نفس المتكلم إيماناً ،فصورها بما هو معبر عن الدعوة أقرب ما يكون
إلى وظيفة اسم فعل األمر "فحري بنا" فكأنما يقول" :هلم" وأمعن في منحاه التعبيري هذا
بالوظيفة التوكيدية للمفعول المطلق.
473
]
فانظر إلى ما يؤول إليه قوله " :ويعني ذلك ما إذا كانت أوضاعها قابلة للتعليل أو غير قابلة،
بحيث يكون علينا أن نأخذ هذه األوضاع بغير تعليل كما نأخذ – مثال -عدد الركعات في الصالة،
ثم يجيب ،قائال « :اعلم أن علل النحويين ..أقرب إلى علل المتكلمين ،منها إلى علل المتفقهين»
ومن هذا المبدإ ينطلق باحثا فاحصا معلال بالمنطق ال بالنقل والتقليد"!
تصور لمفهوم "العلة" بجعلها علة ومفهوما ً واحدا ً، إنما هو محض الهفت الذي مرجعه ضالل ال ّ
والحال ليس كذلك؛ فبغير الفصل بين أبعاد هذا الموضوع ،في عالقة التقعيد والتعليل بحقلي علم
النحو وعلم الكالم ،ومن دون حصول جلوة االختالف العظيم بين التعليل النصي أو العلة الجعلية
من جهة وتعليل الحكمة من جهة مقابلة ،يبقى التصدي لعالقة علم النحو والفقه والكالم محض
الخوض فيما ال يعلم.
وجماع القول كون الجهل بحقيقة التعليل العلمي النحوي أنه غير التقعيد كما في بيان الجدول
أعاله ،مجليا ً ومبينا ً لمدى جهالة حصر الوصل "عدد الركعات" بالنقل والتقليد ،بل إن له تعليال
كما هو التعليل والتفسير ألحوال الماء ولتركيبه مما يلقن تقعيدا لنشء التعليم ،لكن هذا التعليل
والتفسير هو غير محدود عند العلماء ،هؤالء العلماء هم األلى يفقهون قول الحق الحي القيّوم جل
الراسخونَ فِي الع ِِلم َيقولونَ آ َمنا ب ِه كلٌّ م ِْن عِن ِد َر ِبّنا' َو َما َي ُ
ذكر إال جاللهَ ﴿:و َما َي ْعل ُم تأ ِويلهُ إال هللاُ' َو ّ
ْب َّ
اب' َربَّنا إنكَ َجامِ ُع الناس ِليَ ْو ٍم ال َري َ الو َّه ُ
تزغ قلوبَنا بَ ْع َد إذ َه َديْتنا' إنكَ أنتَ َ
ب' َربَّنا ال ِ ألو األل َبا ِ
ِف المِي َعا َد'﴾(آل عمران )3..7هؤالء هم من له عقل الفقه بأن لعدد الركعات ُ لخْ ُ ي ال هللا
إن َ فِيهِ' َّ
العامل في النحو (تيسير القرآن للذكر والعامل في النحو) -رشيد بلواد -ص381 ..370 473
364
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تأويال تعليليا ً عين ما لتعليل الهندسة الطبيعية بالمفهوم الفلسفي المطلق للهندسة ،وهلل المثل األعلى
وربَّ غرور بجهل يخاله قصور اإلنسان علما؛ يقول هللا تعالى﴿ :فل َّما َجا َءت ُه ْم وهو العليم الحكيمُ .
فر ُحوا ب َما عِن َدهُ ْم مِنَ الع ِِلم' َو َحاقَ ب ِه ْم َما كانوا بِ ِه يَسْت ْه ِز ُءونَ ' فل َّما َر ْأوا بَأ َ
سنا ت ِ ُرسُل ُه ْم بالبَيِّنا ِ
سنة هللاِ التِي ق ْد ُ نا'س أ ب اأو ر ام ل م ه ان
ْ َ ُ ُ ْ َ ُ ْ َّ َ ْ َ َ م إي م ه ع نفي م فل ' ك
ِينَ رشْ
ُ ِ م هِ ب كنا ا مَ ب نا قالوا آ َمنا باهللِ َ َ ُ َ ْ
كفر و هد ح
ْ و
َلت فِي ِعبَا ِدهِ' َو َخس َِر هُنالِكَ الكاف ُِرونَ '﴾(غافر)84..80 خ ْ
ولمزيد من التأطير لطبيعة التكوين في الحضن االستشراقي االستعماري وإن هو إال طنين
األلقاب وال أقسم هنا إن هو ولع بأالعيب األساليب وال يعدو أن كان على غير منطق إال ركاما ً
من مادة اللغة حصاد عكوف ال على نظريات حقة يبنى عليها الفعل التاريخي لألمم من تحرر
وسبق في تسخير اآلفاق ،وإنما لنمط من قاموس هجين .فإنك قد رأيت هذا الضرب من التناقض
يموج بعضه في بعض ،ولكن لما كان مربط الفرس هو الطعن في العرب وفي لغة دينهم
وحضارتهم بالذات ،وليس يضير الفيلسوف إن كان هذا هدفه أن خبط خبطا ً ال يحفظ للميزان
مقاما ً وال للمنطق بناء؛ ها هو ذا ينقض أو يتناقض مع كل ما فاض به ذكاؤه التفكري والتفلسفي
المنبت صلة عن كل ما هو قابل أن يبنى عليه ،فتراه ينفي هنا ما أقره هناك؛ فيقول هو نفسه:
"المخالفة كيف تكون
تلك هي المسايرة ،وأما كيف يجيء االختالف بما يحفظ لثقافتنا العربية كيانها المتميز الفريد،
فذلك واضح فيما أظن ،فاألمة العربية تتكلم لغة خاصة بها ،ليست هي االنجليزية وال الفرنسية،
وأللفاظ اللغة وطرائق تركيبها جذور عميقة في طريقة اإلنسان عندما يتناول الطبيعة من حوله
بكل ما فيها ومن فيها ،فانظر – مثال -في اختالف لغة عن لغة في التعبير عن الزمن ،تجد فروقا
شاسعة في اللفتة العقلية عند أصحاب اللغتين ،فقد يكون موضع االهتمام عند فريق هو أن تجيء
«األفعال» دالة على الضبط الزمني بين حادث سبق وحادث لحق ،على حين يكون موضع
االﻫتمام عند فريق آخر ﻫو مضمون األحداث ال ترتيبها الزمني ،أو انظر إلى اختالف لغة عن
لغة في العناية بأن يجيء ترتيب األلفاظ داال بذاته على ترتيب أجزاء الفكرة ،فاللغة التي ال تتغير
أواخرها في اإلعراب تعتمد كل االعتماد في تنظيم الفكرة على ترتيب اللفظ ،وأما اللغة التي
تتغير أواخر كلماتها في اإلعراب فأكثر مرونة وحرية ،ألنها تستطيع أن تقدم وتؤخر ،معولة في
فهم الفكرة ،ال على ترتيب لفظها بل على شكل أواخر كلماتها ،ففي األولى دقة العلم وفي الثانية
ليونة الشاعر ،األولى أقرب إلى اآلالت الحاسبة الحديثة ،التي تسير عملياتها في طريق واحد ال
اختيار فيه ،ومن ثم تأتي دقة النتيجة والثانية أقرب إلى الكائنات الحية لها أن تختار أكثر من
474
طريق ما دام الهدف واضحا أمامها".
أليس هو الذي خرج من لسانه قوله" :ولو صدق ظني ﻫذا ،كان العربي القديم – حتى وﻫو
شاعر -رجال يملك العقل زمامه"؟!
474نافذة على فلسفة العصر الدكتور زكي نجيب محمود -كتاب العربي -الكتاب السابع والعشرون ١٤أبريل
-١۹۹٤ص٤٤-٤٤
365
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
أليست اللغة ﻫي وعاء مكنون النفس والفكر ،ومستنبطه الجلي المشاكلة نسقا وبنية بين اللغة
والشعر؟!
ولئن كان لنسق دليل األحرى ﻫنا موضع باعتبار الشعر دون عموم البيان متحررا من قيد
تر أن ُه ْم فِي ِّ
كل َوا ٍد يَ ِهي ُمونَ َوأن ُه ْم يَقولونَ َما ال الغاوونَ ' أل ْم َ
ُ المنطق والميزانَ ﴿ :والشعَ َرا ُء يَتبَعُ ُه ْم
سيَ ْعل ُم ص ُروا ْ
مِن بَ ْع ِد َما ظ ِل ُموا' و َ هللا كثِيرا َوانت َ
ذكروا َ ت َو ُ عمِلوا الصا ِل َحا ِ يَفعَلونَ إال الذِينَ آ َمنوا َو َ
ب يَنق ِلبُونَ '﴾ (الشعراء)000 الذِينَ ظل ُموا أي ُمنقل ٍ
فحق لغة الشعر أو الشاعر يملك العقل فيها زمامه ،وبحسب ﻫذا المبدإ المنطقي الذي ﻫو من
المعقوالت األولى كما سماﻫا الفارابي ،والتي يتم بها جوﻫر العقل ملكة ال عند سقراط
وفيتاغورس وابن سينا فقط ولكن عند كل عقل سوي وعند الطفل ذي المخاط ،حق لغة الشاعر
يملك العقل فيها زمامه أن تكون ﻫي األوفى للعلمية ال العكس كما قال أو باألصح ظن صاحبنا
الفيلسوف (ولو صدق ظني).
ومتى بربك جاز في ميزان مطلق المنهج -وﻫو عمدة التفكير الفلسفي السليم غير البهرج -أن
يحكم ويقضى في أمر عظيم جلل ،في لغة قوم وحضارة ،وأعظم من ذلك وأجل ،لغة رسالة هللا
العزيز الحكيم للعالمين ،أن يكون بالظن وبالظن فقط؟!
وأما المقولة المقررة فهي شنشنة استشراقية بينة ،ولقد سبق تسليط الضوء عليها على نحو
مخصوص في عرض األستاذة آن شينغ العضو ب"كوليج دو فرانس" .وإذا ً فالفيلسوف هنا
يصوت على هذه الذبذبة؛ ولكن إذا لم يفت األستاذة المحاضرة أن تشير إلى أن هذا التصور أو
التمثل «هو تمثل موسوم بطابع عقلية استعمارية ،غير أنه صادر ،وبكيفية أوسع ،عن جهل
كاريكاتوري (ولو أن األمر يتعلق هنا ،على الخصوص بعالم كبير كما كان رينان)» فإن األمر
ﻫنا ليس يقف عند الجهل ،وﻫو جهل مطبق عظيم ،فالجهل يهم المعارف أو المعرفة المعلوماتية
بشكل عام ،إننا أمام اختالل في طريقة التفكير ،كأنما الكاتب أو الفيلسوف أصبح ال يهمه العقل أو
المنطق أو أي ما شئت من قوانين سالمة إنشاء الحقائق وبناء األقوال ،ال يهمه أن يزيح ذلك
بكلتا يديه أو يطأ عليه باألقدام ،ما دام ﻫناك رصيد اللقب والفيلسوف ،فالمطلوب أو المتوقع في
حقل خطاب مكون ومبرمج إال أن يصدق وال أن يتساءل عن ذينك الجهل واالختالل ،بل أن
يزداد رصيده بأن جاء بغريب من أطوار التفكير ما ال يمكن أن يستقر في عقل إنسان.
إنه يكفي للبرﻫان على الخطل وأن ما يعتبر فكرا كهذا الذي ينشر ليقرأه النشء العربي عن
لغته مجرد صنعة اللفظ واألسلوب يحسبها غير المستبصر فلسفة حتى ،أو تقدم له على أنها
كذلك ،ﻫو أن تغير أواخر اللغة العربية كما اللغة الروسية ،ليس فحسب يدخلها ضمن صنف
اللغات اإلعرابية كالسنسكريتية واألوروبية ،بل يجعلها إعرابية قلبا وأكثر إعرابية من اللغات
األوروبية .وتبعا لألطروحة المجمع عليها من لدن األلسنيين األوروبيين والصينولوجيين خاصة
كبيير ريموسا ودي ﻫومبولت وغيرﻫما كما أشارت إليه األستاذة المحاضرة " من دون إعراب ال
وجود للتفكير " والهدف واضح هو أن اللغة الصينية ليست لغة التفكر والفلسفة ،بخالف اللغات
366
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
األوروبية اإلعرابية ،فستكون اللغة العربية لغة التفكير العلمي والفلسفة بامتياز والفلسفة أم
العلوم!
لكن الكالم الذي ليس له عناج وجمع بين الجسارة السمجة وأعظم الجهل فهو قوله:
"فاللغة التي ال تتغير أواخرها في اإلعراب تعتمد كل االعتماد في تنظيم الفكرة على ترتيب
اللفظ ،وأما اللغة التي تتغير أواخر كلماتها في اإلعراب فأكثر مرونة وحرية ،ألنها تستطيع أن
تقدم وتؤخر ،معولة في فهم الفكرة ،ال على ترتيب لفظها بل على شكل أواخر كلماتها ،ففي
األولى دقة العلم وفي الثانية ليونة الشاعر ،األولى أقرب إلى اآلالت الحاسبة الحديثة ،التي تسير
عملياتها في طريق واحد ال اختيار فيه ،ومن ثم تأتي دقة النتيجة والثانية أقرب إلى الكائنات
الحية لها أن تختار أكثر من طريق ما دام الهدف واضحا أمامها"
فهذا جهل عظيم من كل جهة نظرت إليه؛ فالنسق الركني في اللغة العربية له أصول ثابتة،
والتغيير فيه جعله الرحمان سبحانه وتعالى ،بعدا ً بالغيا ً بيانيا ً كما هو بعد تغيير أواخر الكلم،
كقاعدة" :ما قدم وأصله التأخير فإفادته التخصيص" مثاله اآلية من سورة الفاتحة﴿ :إيَّاكَ ن ْعبُ ُد
َوإيَّاكَ نسْت ِعينُ '﴾ فاألصل في المفعول به التأخير ،ولما أريد واحدية الركن المفعولي ،أي قصر
قصرا على ً فعل العبادة واالستعادنة على هللا الواحد الصمد ،قدم إلى صدر الكالم .وليس هذا البعد
اللغة العربية أو هو محصور فيها ،فقلب موقع الموضوع أو االسم سواء في الفرنسية أو
االنجليزية وظيفته االستفهام .وكذلك بالنسبة للغة الصينية ولصنفها المختلف ظاهرا ً في بنيته عما
يعتبر اصطالحا ً إعرابيا ً ،واألمر منطقيا ً ال يخرج عن النسبي ،فإهمال بعد اللحن مثال أو بعد
الملمح في هذا كله يزيد في تثبيت حالة الجهل .ثم إن الحاسوب من حيث هندسته ليس خطيا ً أو
أحادي البعد حتى يصدق كالم هذا الفيلسوف.
وذلك هو الجبر الذاتي أو التحديد الذاتي الذي يصنع فيه المرء ذاته ويجعلها على ما هي
475
عليه».
صة"وبديهي أنه ينبغي لي أن أحظى بتجربة «دائرة ما يخصني» هذه ،التي هي دائرة خا ّ
باألنا ،ألتمكن من تكوين فكرة لي عن تجربة «اآلخر غير الذات»؛ وبدون أن أحظى بهذه الفكرة
األخيرة ،ال يمكن لي أن أحظى بتجربة العالم الموضوعي .بيد أنني لست بحاجة إلى تجربة
صة
«العالم الموضوعي» ،وال إلى تجربة اآلخر ،لكي أحظى بتجربة «دائرة امتالكي» الخا ّ
476
بي".
قد قلنا من قبل" :يكفي ﻫذه المادة المحورية في فلسفة كانط وخصوصا في "الدين في حدود
مجرد)" مادة بيانه وتعبيره "القانون الخلقي" الذي يرفع به سؤال مجرد العقل (أو العقل ال ّ ّ
ليعلو ويُجاوز تأصيل ديكارت ،ليعلوه ويجاوزه إلى العقل َ لوجية ّيكو س ال و ية ّلوك س ال وتأصيل
المحض " .وأما بيانه وتفصيله فهو كما سبق له أكثر من إمكان بحسب حقل الخطاب .وأعم طريق
في نقض ﻫذه الدعوى وأوضحه ﻫو التأطير والتحديد القاﻫر لمجال "االنتباه" مجاال لالختيار؛
األرض' اوات َو ْ وﻫنا نتلو قوله عز وجل﴿ :أ ْم ُخلِقوا م ِْن غي ِْر َ
ش ْيءٍ أ ْم ﻫُ ُم الخَالِقونَ ' أ ْم خَلقوا الس َم َ
صيْطِ ُرونَ '﴾(الطور)35..33 بَ ْل ال يُوقِنونَ ' أ ْم عِن َدﻫُ ْم خَزَ ا ِئ ُن َربِّكَ أ ْم ﻫُم ال ُم َ
إن وضع األنا ليس إياﻫا ،فهي محددة بشروط خلقها األولية ،واالختيار في المسار التواجدي له
قانون وجودي .فنحن لسنا اتجاه فضاء نظام خطاب فوكو ،بل أعم وأعظم ﻫيمنة ،فضاء الوجود
القائم بالقانون كفله وكفل توازنه ،وكفل حقيقة العقل وكفل مصداقية المنطق والعلم .ومن أقرب
وأوفق ما جاء في معنى "المصيطرون" في اآلية قول عطاء 477الخرساني رحمه هللا :أرباب
قاﻫرون فال يكونوا تحت أمر ونهي ،يفعلون ما شاءوا" ، 478فليس األمر ﻫنا مقتصرا على الشرع
بل على مطلق اختيار التواجد؛ وﻫذا ﻫو روح فلسفة التسامي وروح ما نعني به من مفهوم
﴿والسّماء َو َما"التنزل" .فالقانون ،ﻫو القهر النظماتي الوجودي المهيمن على االختيار التواجديَ :
475الجبر الذاتي :ألفه باإلنجليزية الدكتور زكي نجيب محمود -ترجمة الدكتور إمام عبد الفتاح إمام -مراجع
وتقديم الدكتور زكي نجيب محمود -المشروع القومي للترجمة -المجلس األعلى للثقافة -ص323
476تأ ّمالت ديكارتية – ص261
477من التابعين (02ه311 -ه) من أهل اتفسير والفتوى ،روى عن عبد هللا بن عمر وعبد هللا بن عباس ،مجمع
على توثيقه وفضله وعلمه ،اشتهر بالعبادة وقيام الليل والجهاد
478تفسير البغوي
368
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
خَاب
َ ورﻫَا َوتقواﻫَا ق ْد أفل َح َم ْن زَ كاﻫَا َوق ْد
سواﻫَا فأل َه َم َها ف ُج َ
نفس َو َما َ
األرض َو َما ط َحاﻫَا َو ٍ
بَناﻫَا َو ْ
الم'﴾(المائدة" )83قال سعيد بن َم ْن َدسّاﻫَا'﴾(الشمس﴿ )32..1يَ ْهدِي َم ِن اتبَ َع ِرض َْوانهُ سُبُ َل الس ِ
جبير :ألزمها فجورﻫا وتقواﻫا .قال ابن زيد :جعل فيها ذلك ،يعني بتوفيقه إياﻫا للتقوى ،وخذالنه
إياﻫا للفجور .واختار الزجاج ﻫذا ،وحمل اإللهام على التوفيق والخذالن ،وﻫذا يبين أن هللا – عز
479
وجل -خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور".
تصورﻫا أنﻫكذا ،لئن كان إدموند ﻫسّرل قد كشف على مستوى مرجع الحقيقة و ّ
"األنتربولوجيا" معالجة وراءﻫا فاع ٌل ُمريد مفكر و ُمغرض ،الذي ﻫو النزعة الذاتوية النسبية،
صليبية االستشراقية ،ألنها بالذات ،وﻫذا ﻫو الفضل فإنما يجلي ﻫذا ويفسّر محوريتها في الخطة ال ّ
الكبير لكشف ﻫسّرل المنطقي ،ألنها وشيجة مثالية في ﻫذه المعالجة وﻫذا المخطط الجهنمي أو
السهم ذي الرؤوس الثالثة ،الذي ﻫو أخطر من كل ما بلغه ﻫذا العقل من أسلحة الفتك وإبادة
األمم ،ال تقل خطرا على األمد التاريخي من قنبلة ﻫيروشيما وناكازاكي؛ ﻫذا المثلث الرؤوس
ﻫو:
صليبية االستطالعية واالستعمارية للالستشراق ،في " -3األنتربولوجيا" تغطي وجه الوظيفة ال ّ
استيفاء مثالي إلطار العمل.
-0داللتها واستلزامها البياني على وجوب اتخاذ الحضارة الغربية مرجع القيم والتقويم ،ليس
فحسب لما كان من تاريخ غير الغرب من األمم ،ولكن لما وجب أن يكون اليوم وفي المستقبل
أيضا.
-1كونها جذع مسمى العلوم اإلنسانية ،التي ستكون حقل التحييد واالستنزاف لخيرة ونخبة األمم
العدوة ،وبتحديد خاص األمة العربية.
وقد كانت ﻫذه من أﻫم الحقائق التي سلط عليها أبو الحسن الندوي -رحمه هللا! -في كتابه جد
الهام والقيم اآلنف ذكرا ،يقول -رحمه هللا! -بخصوص تكوين ﻫذا الجيل والنخبة وصبغة ما
كونوا من أجله:
"اتجاه حركة التأليف والترجمة إلى اآلداب واالجتماع
وكان 480ﻫؤالء األدباء والكتاب قد أسدوا معروفا كبيرا ،وأحسنوا إلى مجتمعهم وبالدﻫم
ولغتهم لو نقلوا الكتب من اللغات الغربية المؤلفة في أغراض العلوم التجريبية المادية بكل
فروعها الكيميائية والطبيعية والميكانيكية النظرية التطبيقية ،التي ال تزال المكتبة العربية فقيرة
فيها ،كما فعل األدباء في اليابان ،فحولوﻫا إلى بالد صناعية تضارع أعظم الدول واألقطار
صناعية وكما فعلت دار الترجمة في حيدر أباد ولكن انصرفت األوروبية في العلوم الطبيعية وال ّ
479ن م
480التسطير مني
369
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
عنايتهم إلى ترجمة كتب اآلداب وعلم االجتماع والفلسفة والتاريخ ،والروايات والقصص،
وترجمة كتب كثير من دعاة اإللحاد والثورة واالضطراب الفكري في المجتمع الغربي ،التي
ساعدت في إنشاء التبلبل الفكري واالضطراب االجتماعي ،وضعف شخصية الفكر العربي
واألدب العربي ،وأحدتث صراع األفكار والمثل ومناﻫج الفكر.
وقد وجد لهذا االتجاه األدبي كتاب وأدباء في مصر لهم قيمتهم األدبية وإنتاج أدبي كبير ولكن
لم يظهر في مصر وال في الشرق العربي نوابغ وعبقريون في العلوم العملية ،وفي مجاالت
الرياضية ،ويعترف العالم الغربي بتفوقهم في ﻫذه العلوم، الطبيعة والكيمياء وعلم اآلالت والعلوم ّ
وبقيمة بحوثهم وإنتاجهم العلمي ،وينالون إعجاب األوساط العلمية الكبيرة وتقديرﻫا.
وقد أشار إلى موضع الضعف في إنتاج األقطار الواقعة في الشرق األوسط األستاذ برنارد
لويس أستاذ جامعة لندن في مقال له يقول:
«إن العمل المبتكر األصيل في مجال العلوم التطبيقية لم يتقدم في الشرق األوسط مثل ما تقدم
في اليابان والصين والهند ،إن الجيل الجديد في الشرق األوسط ال يزال يستخدم وسائل الغرب
التي تدخل من دور إلى دور جديد في فترة قصيرة من الزمن ،لذلك يالحظ بون شاسع بين
صناعية وفي الشرق األوسط وبين الدول األوروبية المتقدمة الراقية في العلوم الطبيعية والكفاية ال ّ
القوة الحربية بون أوسع مما كان قبل قرن أو نصف قرن حين بدأت عملية نتيجة ذلك في ّ
482 481
التغريب في الشرق األوسط" ».
إنه ال يدرك أو يدركون كل شيء إال أن رجال واحدا أو امرأة واحدة أو طفال يافعا كانت له في
لحظة من وجوده ،كان له فيها إرادة ،فانتقل بإرادته ﻫذه من وضع الوجود إلى التواجد؛ فشارك
في الثورة الفرنسية والثورة األمريكية والثورة الروسية والثورة الصينية ...إن واحدا ممن
ترجموا لحظات حياتهم لحظات إرادة ،واحدا ممن بنوا ﻫذه المؤسّسات ،لخير من ملء أرض
عرب اليوم مجالس مسماة فكرية وثقافية تعنى بالتوصيف لشيء ليسوا فيه بشيء كما ﻫو
الرياضي ناقل لمباراة رياضية .إن فردا واحدا ممن ساﻫم وكانت إرادته لبنة البناء الواصف ّ
صافين لهذه المؤسّسات ّ الو من قيمة وأعظم خير االستخالفية، األطوارية اته ّس
س مؤ بناء التاريخي،
من خارج ومن تحت ،وﻫذا ﻫو إطار المثقف العربي ،الذي وضعه فيه المخطط الكولونيالي في
أعتى صور التحنيط الحضاري في أشد ما يكون من الحرب الحضارية .إن مل َء المجالس من ال
صاف ،إنما ﻫو ناقص واﻫم في قيمته .المثقف شيء ولو كثرت ،يبقى ال شيئا .ال قيمة للمثقف الو ّ
التاريخي ﻫو المسهم من قبل وحين البنا ء ،وبعدﻫا يكون المفهوم جوﻫرا حقيقيا في األفهام ال
وضوح أعظم منه ال يضامون فيه ،ألنه ببساطة من فعلهم وخلقهم التاريخي .وحينها قد يكون
481
Bernard Lewis: The Middle East Versus the West- Enconter, Oct. 1963
صراع بين الفكرة اإلسالمية والفكرة الغربية – ص328 -327
482ال ّ
370
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لحقل ما يسمى بالعلوم اإلنسانية وظيفة علمية وموضع عملي ألنه داخل مجال تاريخي حقيقي
وراءه روح وعقل تاريخيان.
إن الفعل التاريخي والتحصيل الفعلي للمؤسّسات التاريخية به يتحقق المفهوم الفلسفي الحق –
المكتمل على تعبير العروي -لهاتيك المؤسّسات؛ ﻫذا ﻫو المنطق الوجودي في حقيقة البيان حدسا
وإسقاطا منطقيا للموضوع؛ وﻫذا ﻫو الجوﻫر الحق للمفهوم .ومنه يستنبط ويتضح مصدر
اإلشكال المزدوج بخصوص عدم تمامية المفهوم؛
بها ليس فحسب عدم تمامية الحقيقة المفاﻫيمية وصعوبة تأصيلها نسقا تاريخيا أو ابستيمولوجيا،
مجرد وﻫم ال حقيقة تحته ،والعمل في أوراشها عمل ّ إنما في قيمتها السّلبية االستنزافية ،ألنها
أدنى ممن يرسم قنبلة نووية على ورق ويزعمها أنها قوة حقيقية.
وفي ذات الوضع يستنبط منه موقع القائل – ﻫنا عبد هللا العروي -خارج الوضع العلمي ،إذ
شروط ﻫو قول ال عن منهج؛ فال منهج يتيح إذا ما انضبط صاحبه بالتسلسل المنطقي وبال ّ
المنطقية ،أن يُطلب من الفارابي وابن حزم وابن خلدون وابن رشد أن يمتلكوا اكتمال مفاﻫيم
اجتماعية تاريخية لم تحقق أطوارﻫا إال من بعدﻫم .فالوجه األول ال شك ﻫو من قوة التأثير التي
يسلطها وسلطها االستشراق ولذلك خلق ،يسلطها على المثقف والرائد في قومه موضوع التسليط
وﻫدفه؛ ﻫنا أثر ما ظاﻫره مقولة "القطيعة مع التراث" ،التي إن يقل العروي أن كان له سبق
صليبي على الخريطة التسمية ،قصارى فعل المثقف العربي المسلم منذ االرتداد التاريخي ال ّ
التاريخية للعرب المسلمين ،فإن عين المسمى إنما ﻫو من نفث االستشراق مثل ما ﻫي مقولة
"منحولية الشعر الجاهلي" مثاال للذين لهم عقول يعقلون بها وآذان يسمعون بها وأعين يبصرون
فأول بُعد في حقيقة المنهج التجريبي أوضح المناﻫج العلمية وأقواﻫا حقائقيا ،ﻫو بعد بها؛ ّ
نوه هللا تعالى أحسن الخالقين بوسيطها اآللياتي إذ يقول جالله فيما نزل من الحق المالحظة التي ّ
على َوجْ ِه ِه أ ْﻫ َدى أم ْن مصدقا لما بين يديه ومن الكتاب واإلنجيل والتوراة﴿ :أف َم ْن يَ ْمشِي ُم ِكبًّا َ
ار َواألف ِئ َدة' قلِيال َما
ص َ ص َراطٍ ُمسْتق ٍِيم' ق ُل ﻫ َُو الذِي أنشأك ْم َو َج َع َل لك ْم الس ْم َع َواأل ْب َ َي ْم ْشي َ
على ِ
تشكرونَ '﴾(الملك)04-01 ُ
الرجّة المهولة التي أليست حادثة نفث وإيحاء "منحولية الشعر الجاهلي" كان لها دوي بوقع ّ
من شدة ﻫولها وعظمها تأخذ بأبصار كل من له إحساس من الناس والدواب ،وقد زادﻫا وضوحا
إنكار مصدر النفث ممن يوحي بعضهم إلى بعض ،إنكار مرجليوت؟
يقول أبو الحسن الندوي -رحمه هللا! -في مؤلفه "الصّراع بين الفكرة اإلسالمية والفكرة
الغربية" تحت عنوان "صدى أفكار المستشرقين في مصر":
« ورجع كثير من الجامعيين متشبّعين بروح الغرب يتنفسون برئة الغرب ،ويفكرون بعقله،
ويرددون – في بلدﻫم -صدى أساتذتهم المستشرقين ،وينشرون أفكارﻫم ونظرياتهم في إيمان
عميق ،وحماسة زائدة فال يقرأ إنسان لعالم مستشرق في الغرب بحثا وال يعرف له نظرية إال
ويجد أديبا أو مؤلفا في مصر يتبنى ﻫذه النظرية بكل إخالص ،ويشرحها ويدعو إليها في كل
371
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لباقة وبالغة ،مثل بشرية القرآن ،وفصل الدين عن السّياسة ،وأن اإلسالم دين ال دولة والدعوة
إلى العلمانية ،والشك في مصادر العربية األولى ،والشك في قيمة الحديث العلمية ،وإنكار مكانته
الرجل وإلى السفور وحجيته ومكانة السنة في اإلسالم والدعوة إلى تحرير المرأة ومساواتها ب ّ
وكون الفقه اإلسالمي مقتبسا من الفقه الروماني ،ومتأثرا به في روحه وسبكه ،والدعوة إلى إحياء
الحضارات السابقة على اإلسالم ،وتمجيد العصر الفرعوني ،والتغني بحضارته وأدبه وأمجاده،
والدعوة إلى العا ّمية والتأليف فيها ،واقتباس الحروف الالتينية والتقنين المدني العربي على أساس
القانون المدني الغربي ،والدعوة إلى القومية العربية واالشتراكية المادية – والشيوعية الماركسية
أحيانا -في العصر األخير ،ترى ظالل الفكر الغربي ،بل التعبير الغربي وارفة ممدودة على
العقول العربية واألقالم العربية ،مسيطرة عليها كسيطرة األشجار الكبيرة على الحشائش
الصغيرة ،منعكسة فيها انعكاس الشمس في المرآة الوضيئة ،وقد شهد بتغلغل األفكار الغربية في
المجتمعات والدول اإلسالمية عالم مستشرق عرف الشرق اإلسالمي ،وعرف تياراته الفكرية
معرفة دقيقة ،يقول 'ه .أ .ر .جب' في كتابه "إلى أين يتجه اإلسالم؟":
صحيح للنفوذ الغربي ،ولمدى تغلغل الثقافة الغربية في "وإذا أردنا أن نعرف المقياس ال ّ
اإلسالم ،كان علينا أن ننظر إلى ما وراء المظاﻫر السطحية ...علينا أن نبحث عن اآلراء
الجديدة والحركات المستحدثة التي ابتكرت بدافع من التأثر باألساليب الغربية ،بعد أن تهضم
484 483
وتصبح جزءا من كيان الدولة اإلسالمية ،فتتخذ شكال يالئم ظروفها» ".
« إن ﻫؤالء المستشرقين إنما أضعفوا مثل اإلسالم وقيمه العليا في جانب ،وأثبتوا تفوق المثل
الغربية وعظمتها في جانب آخر ،وإنهم فسّروا تساميم اإلسالم تفسيرا يضعف قيمة القيم
اإلسالمية ،ويضعف عالقة المسلم المثقف بالدين ويقع فريسة االرتياب والشك باإلسالم ،أو
يضطر إلى االعتراف بأن اإلسالم ال يتفق وطبيعة الحياة الحاضرة ،وإنما ﻫو عاجز عن مسايرة
حاجات العصر ومقتضياته وبينما يقول ﻫؤالء المستشرقون :إن من التشبث بالتقاليد والعض
عليها بالنواجذ والرجعية أن يعمل اإلنسان باإلسالم – الذي ﻫو دين هللا المختار الخالد -في ﻫذا
العصر الراقي المتقدم المتطور بسرعة وفي استمرار ،إذا ﻫم يدعون الناس إحياء الحضارات
العتيقة الغارقة في التاريخ القديم ،وإحياء اللغات البالية التي فقدت كل صالحيتها للبقاء ،ودفنت
تحت أنقاض الماضي السحيق منذ آالف السنين ،ولم يكن الغرض بمثل ﻫذه البرامج إال أن
يضطرب حبل المجتمع اإلسالمي وتتمزق وحدة اإلسالم ،وتواجه الحضارة اإلسالمية واللغة
العربية ضررا ،وتنال الجاﻫلية القديمة حياة من جديد ،وقد نجحت كتاباتهم وجهودﻫم في إنشاء
طائفة من تالميذﻫم الذين قاموا بحركة إحياء الحضارة الفرعونية ولغتها في مصر ،والحضارة
Wither Islam 328-329 483الترجمة مأخوذة من كتاب "االتجاهات الوطنية في األدب المعاصر"
484الصّراع بين الفكرة اإلسالمية والفكرة الفكرة الغربية في األقطار اإلسالمية :أبو الحسن علي الحسني
– ص327-320
372
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
485ن م – ص330-333
373
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
374
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الثالث
أزمة العقل الغربي
المجاز تفلسفا عند نيتشه وتيها عند ﻫسّرل
المنطق والرياضيات وربوبية هللا تعالى
ﻫنا ال بد لنا ما دمنا بقرب الوصل ،من التسطير بقوة والتنبيه على ضالل فلسفي ،يرى أنه بما
يكتسي من تجرؤ خفي يعجب لوقعه كثير من المتفلسفة في طور لم يبق من الفلسفة إال رسمها.
لئن كان نيتشه كما نراه حدسا تحليليا لألنا الغربي ،حدسا تحقق في ذاته شروطا حياتية
ونفسانية دقيقة ومحددة؛ "وﻫل نيتشه إال فكرة وﻫل حياته إال وقائع ميادينها السّطور
والصفحات" 486؛ وﻫذه الحقيقة وحدﻫا ﻫي الكفيلة برفع ما ﻫو واضح من التضارب بشأن مقوله
مكونات
الحدسي – المعتبر ﻫو فلسفته -إلى درجة التناقض ،الذي ي َُرد بالتحديد إلى تناقضات ّ
البنية الحفرية للذات واألنا الغربية ،التي ﻫي في الواقع ﻫذه الذات وﻫذا األنا .فنيتشه أو ما يعتبر
مجرد عناوين أﻫم
تفلسفه وفلسفته إن ﻫو إال مستنطق وتعبير عن ﻫذه األنا في بنيتها .والتحليل ل ّ
أعماله يدعم ﻫذا الحكم إلى حد اإلثبات ،والبعد أو الوسيلة واآللية التي اعتمدﻫا نيتشه في ﻫذا
البيان الذاتي الحفرياتي والبنيوي لألنا الغربي – األلماني بالتخصيص غير القصري -ﻫو المجاز
اللغوي ،بل ﻫو اللغة؛ فهو مضماره وفيه كان يجد متنفس ما تضيق به نفسه من ﻫذا المستنطق
الذي يرزح تحت شدته وتناقضاته ،وﻫو في نفس الوقت منهله ،يستمد منه قوته؛ وكل ضيق يلم
باإلنسان له في اللغة متسع:
"والحق إنه ليصعب علينا إثبات الوجود واستنطاقه .أجيبوا أيها اإلخوة ،أفما يلوح لكم أن
أغرب األمور أثبتها دليال؟
أجل! إن ﻫذه الذات على ما فيها من تناقض واختالل تثبت بكل جالء وجودﻫا فتبتدع وتعلن
إرادتها لتضع المقاييس وتعيِّن قيم األشياء ،وما تطلب ﻫذه الذات في إخالصها إال الجسد حتى في
حالة استغراقه في أحالمه ،وتحفزه للطيران بأجنحته المحطمة.
كلمة الحل ،في حقيقة ما نطق به وسطره نيتشه ،لفليكس فارس مترجم 'هكذا تكلم زرادشت" في التمهيد -ص26 486
375
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إن ﻫذه الذات تتدرب على اإلفصاح عن رغباتها بإخالص ،وكلما ازدادت تدربا ألهمت البيان
487
األرض".
لإلشادة بالجسد و ْ
"إن الجسد السليم يتكلم بكل إخالص وبكل صغاء ،فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم
األرض.
وليس بيانه إال إفصاحا عن معنى ْ
488
ﻫكذا تكلم زرادشت"...
صبغية
صة جد الها ّمة في الذات التفلسفية – على ما اعتبر -وأن القاعدة األساس وال ّوﻫذه الخا ّ
تصورية للوجود محددة بأول بيان وإنتاج مميّز ،مما يمثله "هكذا تكلم زرادشت كتاب التكوينية وال ّ
للكل وال ألحد" ،أقول يكفي فيها الثقل من كل صوب وشعاع قطري لمادة "التكلم" ثقل أثقل من
العنوان إلى سيطرة ال يقاربها خط في البيان؛ تراكم عن اإلفصاح ب"ﻫكذا تكلم "...تراكم تردد
حتى أمسى سجعا مسجى بنشر لعامل "أنا األنا الغربي" أتكلم ! ولذا ليس يلزم اتصال بل ﻫي
طور العجب ونمط ال َعجيب ،مماُ تناقضات يستنطقها التكلم؛ وﻫذا ﻫو الذي يجذب كل من يُعجبُه
ال يشك بادئ الرأي في تناقض ظاﻫره بل بين السطر والحد والذي ويليه بعامل التكلم .وما أظن
ﻫذا القهر الكثافاتي لمادة "تكلم" التي تؤول إلى صيغة "ﻫا أنا اتكلم!" أسلوبا ليس ﻫو باإلخباري
سلوكصيغة ﻫاته ﻫي عين ال ّ
وال باإلنشائي ،ألنهما معا ثانويان أو تابعان سلوكيا ،بيد أن ال ّ
والتواجد الذاتي؛ فالندبة واالحتجاج كذلك في ماﻫيته ﻫو تواجد نفساني:
« وﻫو نفسه يقول إنه كتب كال من األجزاء الثالثة األولى من زرادشت في مدى عشرة أيام
كان مأخوذا فيها بإلهامه خاضعا لقريحة تحكمت فيه فلم يستطع مقاومتها حتى أرﻫقته إرﻫاقا.
إذا نحن عرفنا ﻫذا تجلت لنا العوامل التي ألقت على زرادشت وشاح األحالم ،فإن نيتشه
يقبض في فصوله على مشاعر قارئه ليمر به على رؤى يتسامى الخيال فيها إلى أوجه مفلتا من
رقابة القوى الواعية ،فكأنه يسير بمطالعه في عالم أحالم تُبعث أشباحها من انطباعات القوى
الواعية ،ولكنها تتبع في مرورﻫا وحركاتها ما نحسبه تضعضعا في عالم القوى الساﻫية
المجهولة.
376
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لقد ماشينا نيتشه في حلمه وﻫو يستعير لعقله الباطن أو لسريرته أو لفكرته الساﻫية اسم
489
زرادشت الفارسي»...
وإلى ﻫذا اإلصر ينضاف في ذاته خطته ،التي ال شك لم يهتد إليها ،بمثل ما اﻫتدى إليهاَ ،من قبله
وال من بعده:
490
«لعل ﻫؤالء القوم ال يتقون إال باأللكن من المتكلمين».
ي (بَ ْه َلوانِيّة) -الجمع ( :بَ ْه َلوانِيونَ ،بَ ْه َلوانِياتٌ )َ ( .م ْنسُوبٌ إلى البَ ْه َلو ِ
ان): بَ ْه َلوانِ ٌّ
" -1قدمت الفرقة الشعبية ألعابا بهلوانية" :القفز والرقص على الحبال واألسالك ،واإلتيان
بحركات مثيرة مدﻫشة.
" -2يقوم بحركات بهلوانية" :بحركات ال معنى لها.
وفي معجم اللغة العربية المعاصرة:
البهلوانية براعة في بعض األلعاب أو الحركات التي تثير الدﻫشة "بهلوانيات خطابية
– بهلوانيات جوية :ألعاب خفة ومهارة يقوم بها طيار – أفكار بهلوانية -حركات
بهلوانية :حركات أو حيل بارعة"
ج
ُهرج ،تهريجا ،فهو ُم َه ِ ّر ٌ
ﻫَر َج ي ِ ّ
ﻫَر َج الش ْخ ُ
ص :صاح وأضحكَ ،مزَ َح في حديثه وقا َل َما يُضْحِ كُ .
491
«فأجاب زارا :أنا ال أتصدق؛ إذ لم أبلغ من الفقر ما يحيز لي أن أكون من المتصدقين».
377
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
«وإذ وصل زارا إلى المدينة المجاورة ،وهي أقرب المدن إلى الغاب ،رأى الساحة مكتظة بخلق
492
كثر أُعلنوا من قبل أن بهلوانا سيقوم هناك باأللعاب ،فوقف زارا في الحشد يخطبه قائال»...:
توافق تطابقي مجالي للبهلوانية الخطابية إلى آخر الكتاب "هكذا تكلم زرادشت".
«إن ما أشير به عليكم هو أن تنفروا من القريب ال أن تحبوه ،وذلك لتتمكنوا من محبة اإلنسان
البعيد ،فإن ما فوق محبة القريب محبة اإلنسان البعيد المنتظر ،وإني أضع فوق محبة اإلنسان
493
محبة األشياء واألشباح».
صته االستنطاقية الوصفية غير الحكمية ،كأنما ﻫو قارئ لئن كان نيتشه بهذا التأطير ،أي بخا ّ
بنيوي لألنا الغربية -األلمانية تخصيصا -بما يكون مستنبطه :كأنه ذات قارئة ال حاكمة وال
تقييمية أو المقومة .لكن قارئة بمجازية قصوى .فعدم انتظام واتصالية مسار مقوله – المعتبر
تفلسفه أو فلسفته -كان صادقا فيه ،ألنه عين صورة البنية الحفرياتية لهذه األنا ،وال عالقة له
بعقل نيتشه ،ألن نيتشه ﻫنا لم يكن محتاجا للعقل ،إنما ﻫو فقط قارئ حدسي لألنا الغربية
واأللمانية..
صبغ النفساني ال شك ﻫو الذي أنتج خطابه ،خطابا أعجب إن تزاوج اللكنة في المنهج مع ال ّ
المتردين في غيابات مكر السوء باإلنسان المكرم المفضل ،وفطرة اإلنسان الشاخصة في
الطفولة ،تريك أن من يعوزه اال تزان في التفكير والعقل ﻫو من تنزع نفسه إلى الغواية نحو
مهاوي يتعطل فيها بعد الحقيقة ،بالنسبة لألطفال ،ﻫو واجب االجتهاد في الدرس واالنتظام في ما
أجمع عليه العقل االجتماعي اإلنساني من حسن التخلق ،ولكن ليس للمتخلف في ﻫذا من سالح
لحفظ قيمته في ذاته ،ذاته وحدﻫا ال يهم بل موقن ﻫو في باطله ومكره وكيده ،وﻫذا من خصائص
الجنون ،ليس له في ذلك حيلة وحل تواجدي إال ﻫذه الدعوة.
«لقد علمتني ذاتي عزة جديدة أعلمها اآلن للناس :علمتني أال أخفي رأسي بعد اآلن في رمال
494
األرض».
األشياء السماوية ،بل أرفعها رأسا عزيزة ترابية تبتدع معنى ْ
491ن م – ص50
492ن م – ص56
493ن م – ص73
378
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
األرض
فاألساس المعجمي ﻫنا ال ينبغي نسقا في البيان وفي أي لسان كان ،ألن الرمال من ْ
األرض والسّماء أول وأعظم المتقابالت ،بها
والسّماء ما عالﻫا ،فهي تعلو الرمال وتباينها ،بل ْ
يكون في الوجود الفطري في ملء صفائه مرجع التقويم وسوي المنظار.
494ن م – ص18
379
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
***
**
«لتكن فضيلتك أسمى من أن تستخف باألشياء عند تحديدﻫا ،وإذا ما اقتحمت ﻫذا التحديد ،فال
تستحي من أن تتلفظ به تمتمة ،فقل وأنت تتمتم :إن ﻫذا ﻫو خيري الذي أحب ،إن ﻫذا ما يثير
صورة ،ال أريد ﻫذه األشياء تبعا إلرادة رب منإعجابي ،فأنا ال أريد الخير إال على ﻫذه ال ّ
األرباب وال عمال بوصية أو ضرورة بشرية ،فأنا ال أريد أن يكون لي دليل يهديني إلى عوالم
495
عليا وجنات خلود»...
صدا وتربّصا بفأر ،وإذا تصورنا لحلمه تر ّّ إننا جميعنا إذا ما فكرنا في حلم القط ،غالبا ما يكون
تصورناه ترنو عيناه يمد يديه لتناول ثمرة موز؛ ﻫكذا ﻫو نظام الطبيعة التي ّ فكرنا في حلم القرد،
ش َد ْدنا أ ْس َرﻫُ ْم
فطر هللا سبحانه عليها الخلق ،كما يقول تعالى ذو العزة والجبروت﴿:ن ْح ُن َخلقناﻫُ ْم َو َ
َوإذا ِشئنا َبدلنا أ ْمثال ُه ْم ت ْب ِديال'﴾(اإلنسان)29
فليس علينا إذا إال أن ننظر إلى الشرط الوجودي القاﻫر بالمعنى المنطقي الحق ،أي المسلم به
مرجعا لكل المسلمات ولكل الحقائق التي تطلب فيها الحقيقة .أرى أن فليكس فارس قد أصاب كبد
الحقيقة وأجمل عرضها بأحسن ما يكون وما يليق برجل سام مدار عقله .فما اإلنسان إال فكرة
نتاج تجميعي لشروط وجودية معينة ،فكرة في صورة مشخصة إنسانا سالكا منحى ومتكلما
كالما؛ سلوك فكرة نتاج ،وفكرة ونتناج شروط تتكلم.
األسر الخلقي أكبر من اإلنسان؛ وإذا أمكن اعتبار الجوع واالضطهاد مصدر الثورات؛ فإن ما
أنتج كبار الشعراء ﻫو الوجد والهيام ،وكأ ّين من مجنون فطرته؛ فلوال فطرته ضرورة خلقية
الرغبة عن ذاته بغير وصل بحبيبته؛ صورة إلى نفسه حتى ﻫام بها حد ّ آسرة فازدانت بوسق ال ّ
لوالﻫا ما أبدع ما خلده التاريخ تشدوه الشفاه وتردده األلسن ،تشدوه وتردده كأنما ﻫي النفس التي
تألمت وألهبها ﻫذا الجذب الفطري العظيم .فال تهمل أن ﻫذا التعبير لفريدريك أعاله جاء في
495ن م – ص13
380
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صدر مقطع "الملذات والشهوات" 496الذي فيه يخرج من فيه« :انظروا إلى ﻫذا الجسم المسكين!
إن روحه الضعيفة طمحت إلى استكناه ما في الجسم من ألم ورغبات ،ف ُخيل لها أنها متشوقة إلى
القتل» إن ﻫذا ﻫو منحى الموت للكل ،فما القتل إال اإلعدام والعدم موت ،وعلة الوجود دفع ألم
وتحقيق رغبات الجسد في األسر والقهر الخلقي ،الذي ال يخرج من أسره كائن من المخلوقات.
النص من قبل في حيز الحديث عن "نظام الخطاب" الذي يوافقه ويحاكيه ﻫنا ّ لقد سقت ﻫذا
"نظام الحضارة" و"فلسفة الحضارة" و"عقيدة الحضارة" ومنه نثبت الحق وقوله تعالىَ ﴿ :ومِ نَ
اس َك َعذاب هللاِ'﴾(العنكبوتَ ﴿ )2ومِ نَ الن ِ
اس ي فِي هللاِ َج َع َل فِتنة الن ِ اس َم ْن َيقو ُل آ َمنا باهللِ فإذا أو ِذ َ الن ِ
على َوجْ ِه ِه َخ ِس َر صا َبتهُ ِفتنة ا ْن َ
قلب َ إن أ َ صا َبهُ َخ ْي ٌر ْ
اط َمأن إل ْي ِه َو ْ على َح ْرفٍ ْ
فإن أ َ َم ْن َي ْعبُ ُد َ
هللا َ
الد ْنيَا َواآلخِ َرة' ذ ِلكَ ﻫُ َو ال ُخ ْس َرا ُن ال ُمبي ُن'﴾(الحج)12
إن من يقول بأن في "هكذا تكلم زرادشت" تفلسف ملحد وفلسفة إلحاد؛ أنا موقن بيقين اختالف
األرض ،أنه في أحد الوضعين ،ناعق من قطيع بما ليس يعي وال يفقه الليل والنهار والسّماء عن ْ
إال صدى لبيان دعوة الباطل والبهرج من ادعاء الشأن الفلسفي بهذا الصدى يتغذى النقيض يكون
له به وزن وكفى حضور ممكنا للذات ولو صدى نقيض ،أو واجد ضالته المضلة يُضل بها وﻫو
يدرك حقيقتها ،ولكن من جند نفسه للباطل ،فال يعنيه أمر الحق وإنما غرضه تضليل الخلق.
لنسمع إلى ﻫذا الكالم السهل في مأخذه والقريب معناه إلى األفهام:
« لقد عرفتهم جد المعرفة ،أولئك المتجلين على صورة هللا ومثاله فتيقنت أن جميع رغباتهم
تتجه إلى أن يؤمن الناس بهم وأن يصبح كل شك فيهم خطيئة ،وما فات مداركي ذلك اإليمان
الذي يدعون رسوخه فيهم ،فإنهم ال يؤمنون ال بالعوالم األخرى وال بقطرات الدماء تفتدي العالم،
497
بل ﻫم كسائر الناس يعتقدون بالجسد ،ويرون أن أجسادﻫم نفسها ﻫي الكائن الواجب الوجود».
إنه ال قرار لهذا الكالم إال بزيف دعوى ﻫؤالء لإليمان ونفي وكذب إيمانهم بالعوالم األخرى،
أي إال بوجود حقيقة اإليمان (التي لم تفت مداركه) ووجود العوالم األخرى (وقطرات الدماء
مستقرة في المعتقد الموروث في باطن األنا):
ّ تفتدي العالم ال
381
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
استيقان
نيتشه
وجود حقيقة
اإليمان
والعوالم
األخرى
تكذيب تزييف
اإليمان
بالعوالم دعوى
اآلخرى اإليمان
ف كانَ َعاقِبَة يقول هللا تعالىَ ﴿ :و َج َح ُدوا ب َها َوا ْست ْيقنت َها أنفُسُ ُه ْم ظلما َوعُ ًّلوا' فا ْن ْ
ظر ك ْي َ
توا
ع ْتو َونفور'﴾(الملك)21؛ ﴿لق ْد ا ْستكبَ ُروا فِي أنفُ ِس ِه ْم َو َ ال ُمف ِسدينَ '﴾(النمل)13؛ ﴿بَ ْل لجوا في عُ ّ ٍ
توا كبيرا'﴾(الفرقان)21 عُ ًّ
وإني ألعجب كل العجب وأشد العجب مما جاء على لسان المترجم وﻫو يمهد :..
«أما نيتشه فبعد أن أقفل على تفكيره وخياله كل نافذة يمكن للروح أن تتطلع منها إلى السّماء،
األرض كما يقول جاعال ﻫذا التراب وطن وبعد أن تاقت نفسه إلى الخلود فاستنزله كمعنى لهذه ْ
تصور إنسانية تتمتع بكل ما يمكن اعتصاره من الدنيا
اإلنسان الدائم ،لم يسعه إال توجيه كل قواه ل ّ
وتبلغ عليها من الرقي مرتبة األلوﻫية.
تلك حقائق لم تفت ثالثة من أعالم الشرق العربي أﻫابوا بنا إلى ترجمة زرادشت ،ونشره في
ﻫذه البالد لتسديد عزم الشبيبة في ﻫذه المرحلة التي يتوقف على نهضتنا فيها مستقبلنا واستعادة
382
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
أمجاد تاريخنا .أولئك الثالثة ﻫم :المغفور له السّيد مصطفى صادق الرافعي فقيد الشرق والعروبة
واإلسالم ،واألستاذ حافظ عامر بك قنصل مصر العام في اآلستانة مؤلف رسالة الحج التي كان
ي في أوساط المفكرين ،واألستاذ أحمد حسن الزيات القابض على آداب الغرب باطالعه لها دو ٌ
لم اآلداب الشرقية بقلمه ،وقد تفضل األستاذ المشار إليه فنشر في مجلته
ع َوتفكيره والرافع َ
الرسالة أكثر من ربع الكتاب في مدى سنة ،ولوال تقديرنا أن الزمان سيطول على نشره برمته
498
لما كنا بادرنا إلى طبعه كامال مستقال».
المرء مع من أحب
« مع ازدياد سيطرة المعرفة على كلية الموجود وتقدمها الدائم نحو الكمال يحرز اإلنسان
أيضا سيطرة متزايدة الكمال على عالمه المحيط العملي ،سيطرة تتسع في مسلسل المتناه.
ويتضمن ذلك أيضا سيطرة على البشرية المنتمية للعالم للمحيط الواقعي ،وبالنتيجة على نفسه
وعلى البشرية المتواجدة معه ،أي سيطرة متزايدة على مصيره ،وبالنتيجة «سعادة» تكتمل
باستمرار ،ﻫي السعادة التي يمكن تفكيرﻫا عقليا عموما بالنسبة لإلنسان .ذلك أنه يستطيع أن
يعرف الحقيقي في ذاته حتى فيما يتعلق بالقيم والخيرات .كل ذلك يكمن في أفق ﻫذه العقالنية
كنتيجة لها طبيعية بالنسبة إليها .وبذلك يكون اإلنسان بالفعل على صورة اإلله .كما أن
الرياضيات تتحدث عن النقط والمستقيمات وغيرﻫا البعيدة بعدا ال متناﻫيا ،فإنه يمكن أن نقول ّ
بمعنى مماثل وعلى سبيل المجاز :اإلله ﻫو «اإلنسان البعيد بدرجة ال متناهية» .بموازاة ترييض
499
العالم والفلسفة أمث َل الفيلسوف ذاته وفي الوقت نفسه اإلل َه رياضيا بكيفية ما».
383
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ونص ﻫسّرل ،وﻫو كله على الحقيقة من غير استثناء ،ووما ورد فيه ّ إننا لو نظرنا إلى كالم
من قوله" :فإنه يمكن أن نقول بمعنى مماثل وعلى سبيل المجاز" :اإلله ﻫو «اإلنسان البعيد
بدرجة ال متناهية» " فهذا ال يصح ،ألن شرط المجاز اللغوي ،وﻫو المراد والممكن ﻫنا ،ال
يتحقق .فوجه الشبه ال ذي متعلقه ،ﻫو العلم والتحكم أو القدرة ،وﻫما متكافئان معطى منطقيا ألن
س كمِ ث ِل ِهالتحكم مرده العلم ،وعلم هللا تعالى من خصائصه الوحدانية اسما لذاته "الواحد األحد" ﴿ل ْي َ
ير﴾ (الشورى ،)2فشرط الوجه المشترك ال يصح وال يحق .بل إن السّياق ص ُش ْي ٌء َوﻫُ َو السّميع البَ ِ
َ
ليس سياق نيتشه في "ﻫكذا تكلم زرادشت" مثال ،في عمقه وصفي بسبيل أقرب ما يكون بالتساميم
والمواعظ واألحكام ،إن ﻫسّرل ﻫنا لم يخرج عن بيانه المنطقي والفلسفي -المنطقي .إن مواد
المعجم ﻫنا :ازدياد – السيطرة – المعرفة – المحيط العملي -المحيط الواقعي ،كلها من بيان
الحقيقة يتخللها نسق استداللي برﻫاني مما ال يجوز فيه لمنطقيته ،ال يجوز فيه لفظ بل حرف من
المجاز .والمعنى المستنبط فيه ﻫو نسق تحديد نهاية سلسلة المعرفة والسيطرة ،على غرار وذات
الرياضيات الرياضيات :مسلسل ال متناه -سيطرة متزايدة -كما أن ّ المفهوم للنهاية أو الحد في ّ
تتحدث عن النقط والمستقيمات وغيرﻫا البعيدة بعدا ال متناﻫيا .بيد أن ﻫذا في المنطق والفلسفة
ليس صحيحا:
صعود الوجودي للفيلسوف الحق الكندي "ونظن بل نرى بكامل الوثوق أن قانون التفصيل وال ّ
الرياضيات ،إلى ما فوق الهيولى باعتبارها الفلسفي البياني ،هو المفتاح بمفهوم الالنهاية في ّ
والمعراج الذي تنحل معه كل العقد اإلدراكية لإلنسان في سؤال الفلسفة األولى وأسئلة ما وراء
صعود التفصيلي يدرك ويعلم مخلوقية ومحدودية كل ما له صفة الطبيعة والمادة والكون ،فبال ّ
الرياضيات بانتقاله من المحدودالبعدية على أي كانت ماهيتها وطبيعتها ،ومفهوم الالنهاية في ّ
تماس رفيع ،بل
ّ إلى الالمحدود أو الهيولى إلى ما فوق الهيولى إنما هو وصل قانوني ال على
صاعد للعقل تندثر أغاليط التماوجات الدجلية برزخا ً عليا ً حكيما ً بالحق ،وبهذه الجلوة واألفق ال ّ
لمفاهيم وأشباه مفاهيم لم تنضبط حتى عند أصحابها ،فالحقيقة الوجودية هي التي كانت جامع
القول عند فيثاغورس والكندي وابن سينا ،هي التي في اآلية التي نزلت من تحت العرش ،آية
الكرسي هو أن هللا تعالى هو الحي القيّوم ،وأن في الحق الذي الخلق واألبعاد والمسافات
واألجرام واألحوال تفصيل له ،ال مسافة﴿ ،وهو معكم أينما كنتم'﴾(الحديد﴿،)4هللا الذي خلق سبع
األرض مثلهن' يتنزل األمر بينهن لتعلموا أن هللا على كل شيء قدير وأن هللا قد سماوات ومن ْ
األرض إال أحاط بكل شيء علما'﴾(الطالق ،)30ولهذا لزم التسبيح ،و﴿يمسك السّماء أن تقع على ْ
384
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
بإذنه'﴾(الحج ،) 01فالدعاء صلة العبد بخالقه حيث ال مسافة ،والقضاء والقدر حق ألن ال مسافة
صل على أطوار التاريخ في الحق بين نقاطه فالكون والخلق واألمر بالعرش ،ودين له واحد مف ّ
الرياضيات أو ما يسمى أيضا ً
بقانون التصديق والتفصيل على نسق مفهوم القطع المدمجة في ّ
بالماتريوشكا؛ يقول تعالى ﴿:وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا ً
عليه'﴾(المائدة ،) 12فالتفصيل التاريخي كإسقاط لتفصيل الحق خلقا وأمرا كما سردناه من أول
الرياضي الالنهاية للكندي ،الواصل والموحد
الكتاب ،والوصل القانوني الوجودي للمفهوم ّ
القانوني في ابستمولوجيته ،إن هذا يبطل منطقيا ً ووجوديا مقولة حوار األديان ،والحق كما قال
محمد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن لو بعث موسى عليه السالم ما وسعه إال أن يتبعه صلى
500
هللا عليه وسلم".
فلسفيا ً ومنطقيا ً أو لنقل رياضيا ً كما سنوضحه ،الالنهاية الموصولة بالحق -سبحانه وتعالى
علوا ً مطلقا ً! -هي النهاية الفعلية؛ وهي في أقصى تجلي للتناسق الوظيفي على ذات داللة قاموس
هسّرل ،واصل العقل اإلنساني وسعة إدراكه بالمطلق ،في توافق مسدد لقول ديكارت بأنها حقيقة
يختص بها إال هللا سبحانه ،وال يمكن أن يستوعبها وال أن يتمثلها العقل اإلنساني.
ّ ال يدركها وال
تصورات ،وهذه ّ الرياضي ،إنما هو فضاء وإذا كان "الفضاء التفكيري ،وهو فضاء اإلنشاء ّ
للرياضياتي .فال واقعيّة ّ
ي أو بالوجود ّ
شرط الترابط الوجود ّ
تصورات ال كفل لها أعلى من ْ ال ّ
تصور هذا هوبانفصال عن أصلها الخلقي وعن مجالها ،مجال ال َمحسوس .فالمفهوم كبلورة لل ّ
ي ،وهذا هو أساسه التوجيهي كمتجهة أساس بدوره لكل البناء الذي سيقوم أساسه التنزيلي الوجود ّ
عليه 501".فكذلك هذا التعبير أعاله والوارد في بيان فلسفي ممنطق" :فإنه يمكن أن نقول بمعنى
مماثل وعلى سبيل المجاز :اإلله ﻫو «اإلنسان البعيد بدرجة ال متناهية» .بموازاة ترييض العالم
والفلسفة أمث َل الفيلسوف ذاته وفي الوقت نفسه اإللهَ رياضيا بكيفية ما "».حيث يصبح قوله "على
سبيل المجاز ُمحيدا و ُملغى بذات معجم السّياق[ :فإنه يمكن بمعنى مماثل -بموازاة -بكيفية ما] أن
صة شبهﻫذا التعبير والكالم ال قيمة له وال داللة بيانية إال بما لمفاﻫيمه وحظها من ذلك ،وخا ّ
الرياضي "الالنهاية"..
مفهوم"اإلنسان البعيد" الدال على معنى الحد "النهاية" والمفهوم ّ
500تفصيل الخلق واألمر في سؤال حوار األديان وتفرق المذاهب الفقهية ،ابن سينا بين قصور المتفلسفة وافتراء
المتقولة – الجزء -ص3586
الرياضيات ونقد الدليل الوجودي -ص285 501األصول الحقة للرياضيات أو المدخل إلى ّ
385
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فكيف يستساغ في الحق لهسّرل ﻫذا التعبير ولن يتأتى له ذلك أبدا ،أنى يكون وقد تعُقب بالحق
تصوره للدائرة نهاية مضلع منتظم ال نهائي األضالع ،إذ يخرق القانون على ليبنتز قوله و ّ
الرياضيات البشريان وحقيقة العقل ذاتها،
األرض والمنطق و ّ اوات و ْالخطير الذي تقوم عليه الس َم َ
قانون ومبدأ االختالف؟!
وكذلك ،وليس غير ﻫذا ،كان مرجع مبحثنا المتسجد في حل ما اعتبر إلى يومنا ﻫذا نقضا
لمسلمة أوقليدس في كون الكل أكبر من الجزء ممثال في جدول جاليلي ،في ارتباط وثيق ،به تم
تسليط الضوء وحصول الجلوة بشأن األعداد النهائية لكانتور ،التي سماﻫا أعداد القسم الثاني أو
الطبقة الثانية ، 502والتي اتفق فيه أمر عجيب ،حيث الحظت بالفعل وبعد حوالي سنتين من نشره،
أن الترجمة التي اعتمدتها "األعداد عبر -النهائية" ليست مطابقة للفظ كانتور ،لكن ليس األمر
يقف عند ﻫذا ،أو ليس ﻫذا متعلق العجب ،بل في أن ما كان يفتقده كانتور لتقديم أعداده ﻫذه ﻫو
ﻫذه المادة البيانية بالذات ،التي تحمل عنه كل البيان ،لفظة "عبر" .وبمعنى آخر فترجمتي ﻫي في
تصور ي لهذه األعداد كما ﻫي في حقيقتها .وبالطبع ﻫذا واضح في كل فصول واقع األمر ترجمة ل ّ
الكتاب . 503بمعنى أن الالنهاية المكتشفة عند كانتور ،ﻫي غير الالنهاية الفعلية ،وإنما َمعبر لها؛
ﻫي ال نهاية في المحدود ،في المادي والمحسوس والمخلوقاتي .والحاجز بينهما حاجز عظيم،
ليس بين قمتي جبلين ،لكن بين الجبال وخالق الجبال؛ يقول هللا تعالى في ما أنزل من الحقَ ﴿ :ول ّما
انظر إلى ال َج َب ِل ْ
فإن ْ ترانِي َول ِك ْن
لن َأنظر إل ْيكَ ' قا َل ْ
ْ سى ِل ِميقاتِنا َوكل َمهُ َربهُ قا َل َربّ ِ ِأرنِي َجا َء ُمو َ
ام
ّ أفاقَ قالَ فل ' قا ع
َِص ىس و
ُ َ م رخَ و كا د ُ ه لع ج لب
ّ َ َ ِ ََِ َ َ َ َجل ل ُ ه بر لى ج ت ام فل ي' ن اتر ف
َْ َ َ ِ و س ف ُ ه كان تقر َم
ا ْس ّ
سُ ْب َحانكَ ت ْبتُ إل ْيكَ َوأنا أو ُل ال ُمؤْ ِمنِينَ '﴾(األعراف)134
إنه حاجز المخلوقاتية ،وسقف الفلسفة والعلم التسبيح؛ وكل ما يتناقض مع ﻫاتين الحقيقتين،
فهو تكبر في بهرج القول عظيم؛ وليس يجوز فيه من التعريض وال المجاز.
والنص العينة لهسّرل أعاله .إنه قوس قزح ،نصف ظل ،ونصف واضح.
ّ لنعد إلى ﻫذا الكالم
وأ ّما ﻫذا األخير فهو نيتشه منتزع في نهاية الشطر األول من غير اتصال وكأن خاطفا خطف
502
Nombres transfinis ou nombres de la seconde classe
الرياضيات ونقد الدليل الوجودي
األصول الحقة للرياضيات أو المدخل إلى ّ 503
386
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ي بن يقظان ،فاستنباط محرف من تحتيم العقل خطفة فتكلم بلسانه ،بعدما كان ظال في صورة ح ّ
لعبودية هللا سبحانه وتعالى إلى تعبير وتصوير يستنكف حتى عن النطق بحكم العقل من وجوب
العبادة لإلله سبحانه الواحد القهار .وأما ما نطق به ﻫسرل ﻫنا بأن اإلنسان يتحكم في المجال
الوجودي وفي مصيره بقدر معرفته ،وأنه ببلوغ الكمال يصبح اإلنسان اإلله؛ فليس له إال وجه
آخر قد دخلت وجوديا في حقله 504بتوليد عن تردد لتساؤالت تعتبر شبهات وجودية ال شك ،فقد
يطرح السّؤال حول معطى تنعّ م إنسان بنعم يتمناﻫا إنسان آخر ،بل قد تمثل أمنيته وأمله الطبيعي
كائنا بشريا يسأله ربه في صالته ومواطن استجابة الدعاء ويلح في ذلك ويملك عليه أفق ما يريد
وما يرغب ،بينما األول ﻫو ينعم بها من غير سؤال ،بل ﻫو اله غير مفكر ال في خالقه وال من
مستقرة في مقول ّ أنزل ﻫذه النعم . 505إنما ﻫي في التحليل الواقعي نتائج طبيعية منطقية ،قد تؤول
أو لعله ينسب إلى عمر الخيام في رباعياته" :إنما تؤخذ الدنيا غالبا"؛ فكل المشاكل والعراقيل
والحرمان يفسر بطريقة منطقية ،في نسق المقدمات والنتائج .بل ونجد في التنزيل قوله تعالى:
ير'﴾(الشورى )29وقوله تعالى﴿ :إن َ
هللا ال يُغَ ِيّ ُر َما ع ْن كثِ ٍ س َب ْ
ت أ ْي ِديك ْم َو ْيعفو َ ﴿ َو َما أ َ
صا َبك ْم ب َما ك َ
بقو ٍم َحتى يُغَيِّ ُروا َما بأنف ِس ِه ْم'﴾ (الرعد ) 12وتهيأ لي أنه بما أن هللا تعالى ﻫو الظاﻫر والباطن؛ فما
ْ
المنطق إال ظاﻫر الحق سبحانه ،وذلك توافقا مع ما توصلنا إليه ﻫنا في االمتداد المنطقي ليهيمن
حتى على األخالق وعلى معاني الرحمة والعفو والود والغضب ،لتصبح أبعاد المنطق كلية
محيطة بكل ما به الوجود في المادة والنفس والروح ،وأن الرسل بالمنطق أرسلوا والمعجزات
بالمنطق كانت ،ولتستبين مطلقة أبعاده ،وأن الشرائع والعبادات من الصالة والصيام والزكاة
والحج والسنن ﻫي من ذات مشكاة ومنطق قواعد كينونة الخلق المادي والطبيعي .ولست أرى
ﻫذا سوى اإلسقاط األسمى واألمين لعنوان كتاب "كونوا علماء تصبحوا أنبياء" 506بنحوه على
سية ،وﻫي ال تعدو سوى عين النقطة القصوى ﻫذه، المجازية اللغوية التي منتهى حقيقتها التما ّ
التي صححناﻫا ،في فلسفة ﻫسرل .وقلت بعدﻫا إذن فهؤالء الذين ينعمون بنعم لم يكدحوا وال
يكدحون في سؤالها بل أتتهم ذلال منطقيا من شروط أسرﻫم ومجتمعهم وقومهم ،المنطق أعطاﻫم
504حل بي هذا الطيف في النصف األول من ذي القعدة 3440الموافق النصف الثاني من يونيو ،0203بعد
حوالي نصف سنة من كتابة الجوار القبلي
علم هللا أنني لست حزينا ً على متاع الدنيا وما كانت يوما ما في وجهها هذا محل غبطتي ،وإنما هي الفطرة،
َ
505
واالجتماع اإلنساني أساسه وطبيعته حيوانية ،الحياة احتكاك ،القوة فيها شرط أمن للنفس وقوام .كما أنني أعلم أن
المنطق الكامل يهيمن ويجمع الدنيا واآلخرة ،وليس حده األولى ،وال صياغته على العقل البشري
506
SOYEZ SAVANTS, DEVENEZ PROPHÈTES : GEORGES CHARPAK, ROLAND OMNÈS- ODILE JACOB
,2005, NOVEMBRE 2005
387
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ومنعني ،وال ألوم إال شروطي ومقدماتي؛ فكيف يقر لي قرار وأرى من يُعدون رجاال ومن دون
مجاز وعلى الحقيقة أنهم دون تقديري للوجود وأنا بعد طفل بين الثامنة والثانية عشر وإجاللي
تصوري المثالي للحياة واإلنسانية.
للخالق و ّ
507
عند بلوغي ﻫذه النقطة ،انبثقت أمامي أربع حقائق انبثاقا متصال؛ أوالﻫا مشاﻫدة فيلم
مقتبس من حدث واقعي ،حيث يصاب طفل مرح صغير من أسرة بشروط اجتماعية سليمة،
ي بينهم َيبس ُم إليهم ويكلمهم، يصاب بمرض مميت إلى أجل مسمى غير بعيد ،نُع َ
ِي وﻫو بع ُد ح ٌّ
عجفت خالله أسرته نفسها عليه ،وﻫي تعلم فراقه بعد حين ،حتى أن الجد أعد له ثابوته الخشبي
كما يعد الفنان عمال يحل روحه فيه .فهنا على األقل انجاب عني طيف اللمة وعاد اإلبصار.
وليس ينفي هذا مسؤولية األسرة ،وال كون اإلنسان في نهاية تكوينه خاصة النفسي إال تجميعا ً
مختزال لصبغ أ سرته االجتماعي والخلقي والتربوي والنفسي ال يعدوه ،وأمكن البرهان عليه
تكامليا ً امتدادا ً لمصدر اللغة وأساس الخبر" :كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ،أو
ينصرانه ،أو يمجسانه ،كمثل البهيمة تنتج البهيمة ،هل ترى فيها جدعاء؟" 508وإنما النفي فقط
ل قصر العامل عليها ،فالمجتمع والعقل الجمعي التاريخي كله مسؤول ،إلى اتصال شرطي أوسع
تتداخل فيه المسؤولية مع عدمها .واإلنسان في أصله يكون قادرا ً له إمكان بالقوة ليبلغ على
جرد األدنى أقصى ما بلغه عبقري من البشر؛ وهذا مالحظ في البيئة القريبة شهدته حقيقة ال م ّ
دعوى وزعم .والعوامل السلبية تتدخل تدريجيا ،وقد ال يصل أثرها السلبي المنطقي إال في
مراحل متأخرة من التكوين؛ فيعجب من هذا التحول والتقهقر للطفل أو البنت من أيقونة الصف
والخلق إلى هدر وجودي حتى كأن هذا الطفل أو البنت يصاب مرضيا بخيبة زيف حقيقة
الوجود ،وذلك أعظم وأخطر وأنكى.
صة اإلبداعية والخالقة للرياضيات ،ومنها ظهرت حقيقتان: والثانية تذكري حقيقة الخا ّ
تصور الخاطئ للمنطق كان بالفعل جهال باهلل عز وجل ،وﻫذا سبب مباشر جليأ -ال ّ
لتخلف المسلمين في القوة والتمكين والتسخير لقوى االستخالف.
تصور للمنطق كيفما كان.
ب -الخالقية ﻫي هلل سبحانه وبها يسمو عن كل م ّ
ص ة اإلبداعية والخالقة للرياضيات ﻫي بالطبع غير البرء أو البراءة األولى فيصفة أو الخا ّ
ال ّ
الخلق .وإنما تمثل وسيلة االستخالف والتسخير والتمكين ،وﻫي الدليل من بعد اإليمان ،على فقه
الوجود ومعرفة ربوبية هللا تعالى المعرفة الحقة دليلها نفس العمل واالستخالف بها.
507
”“Aller vers la lumière
رواه الشيخان -األلوكة الشرعية 508
388
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
389
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
390
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الباب الرابع
تحقيق المنهج
391
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل األول
392
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
-1المنهج معجميا
المنهج العلمي :خطة منظمة لعدة عمليات ذﻫنية أو حسية بُغية الوصول إلى كشف حقيقة أو
البرﻫنة عليها (معجم المعاني الجامع)
509
النهج الجدلي -الديالكتيكي الماركسي فلسفة تسعى إلى فهم العالم من أجل تغييره.
المنهج بشكل عام ﻫو مجموعة من اإلجراءات والخطوات واالختبارات والقواعد التي يتبعها
أفراد يعملون في نفس المجال.
منهج قد تدل على:
-علم المنهج ،ﻫو العلم الذي يدرس المناﻫج البحثية المستخدمة في كل فرع من فروع
العلوم المختلفة.
-منهج علمي ،ﻫو عبارة عن مجموعة من التقنيات والطرق المصممة لفحص الظواﻫر
والمعارف المكتشفة أو المراقبة حديثا.
-منهج تجريبي ،من أفضل مناﻫج البحث العلمي.
-منهج سلوكي ،ﻫو أحد أﻫم المناﻫج اإلدارية.
تصور والضبط لمفهوم 'المنهج" من دون إدراك معيار ال يمكن أن ندعي حصولنا على ال ّ
المالءمة المنهاجية مع المالءمة المرجعية( .انظر محمد الهاللي :المناﻫج في الفلسفة)
509المنهج الجدلي – مقدمة لدراسة الديالكتيك :خليل أندراوس -الحوار المتمدن -العدد -2068 -1561المحور:
أبحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
393
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
واضحا ً بينًا ،والمنهج عنده – بفتح الميم وكسرها -هو النهج والمنهاج؛ أي :الطريق الواضح
510
والمستقيم».
510المنهج ..مفهومه وأسسه العا ّمة :د .خالد حسين أبو عمشة -األلوكة االجتماعية
394
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
خطر الفكر والمفكر ﻫو من خطر المسؤولية المنوطة ،مسؤولية الرائد والدليل التاريخي لألمة.
ولئن كان اللوغوس الحق مستم ّده وحي السّماء ،فالعلماء ورثة األنبياء -عليهم السالم! -ووظيفة
المفكر ﻫي ذات وظيفة العالم .وﻫنا بالضبط ينجلي إشكال الفرق بين مفهوم المفكر ومفهوم العالم،
إن على مستوى الواقع بقاموسه ،أو على مستوى قيمة تقرير ﻫذا الفرق .وﻫذا ليس من ْ
الربّاني بما له من مصدر معلوم لدى أﻫل البصائر وفقهاء موضوعنا ،ولنشر فقط بأن مفهوم ّ
تأصيل الحقيقة أو ابستيمولوجيي الحقيقة ،يكفي حقيقة في الحكم بشأن ﻫذا اإلشكال والسّؤال.
لكن ما ليس ينبغي إﻫماله وتكريس إﻫماله ،ﻫو أن أمورا ،ومهما كانت النسبية والذاتية واالتجاه
الفلسفي الوجودي والتيار األدلوجي ..مهما كانت ﻫذه النسبيات ،تبقى ثابتة في الحق ،ال يجوز
بحال أن تنقض وال أن تهمل وفي أي واقع وال قاموس على اإلطالق ،وأن من ﻫذه األمور،
وأعالﻫا قيمة وأعظمها خطرا من حيث المقام:
-3حقيقة العلمية
-0مفهوم المنهج
أي أن حقيقة العلمية ومفهوم المنهج صامدا الداللة منحفظان في الحق ،ومن ثمت ال مصداقية
منطقية وعلمية وفلسفية في نزول أي قاموس عن ﻫذا الشرط العظيم الالزب .وﻫذا بالطبع ال
صص ،وإنما ﻫو المحدد المنطقي األعلى فيما يكون المفكر والعالم حقيقة ،وبالتالي يبطل قيمة التخ ّ
استجالء الفرق بينهما.
وإذا كان مفهوم العلم معتبرا عمليا في حقول معينة ،نعني بها حقول العلوم البحتة ،ﻫو بها
تصور ،ومنه ﻫو معتبر وملقن في عموم الدرس والبيان ،فإن مفهوم المنهج يُعقل محدد واضح ال ّ
تصوره ،وﻫو في ذلك ،أي مفهوم العلم ،مستم ّد قيمته من خالل األساس المفهوماتي للعلم ول ّ
الحقائقية من مرجع منطقي حق ومكين .ومن أجله ال تناو َل علميا صحيحا للمادة البيانية "المنهج"
إال بهذا التأطير ،ليس في حدود الفيلولوجي الضيقة وغير ذات السّعة التأطيرية كما يتدواله
395
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الجميع مما يدل على إشكال بياني جدي ،ولكن على مستوى أعلى ،مستوى التأصيل المنطقي،
المحتوي للبعد اإلبستيمي.
صارم للمنهج ولمفهومه بالعلمية وحقيقة العلم ،ال شك أنه يشع مزيدا من الضوءالرابط ال ّﻫذا ّ
ووضوح التقابل إياه بين المفكر والعالم؛ إنه رباط الحق والحق في قيم األمور واألشياء:
فعلى القائم مقام المفكر أو الفيلسوف ،أن يعلم أن التناول البياني للمنهج مقامه مدار العلمية
وفلك المنطق!
إن معطى كون المنهج فيلولوجيا -أي من سنخ الداللة -كونه طريقا نسقيا إلى بناء حقائقي
صحيح ،سواء للتقرير فقط أو للعمل بمقتضاه ،فال اعتبار له إال اعتبار النسق المنطقي .وقد يكون
العسف الواضح في تداول المادة البيانية ل"القياس" 511رائزا مقدمة في إبراز التهافت بخصوص
مجرد التفاوت المعجمي مما ﻫو معلوم ّ مفهوم المنهح أو المادة البيانية ل"المنهج" .وحيث كان
لدى المناطقة ،ولم يفت كل من تصدى للمنطق من الفالسفة أولهم وآخرﻫم التأكيد عليه لبداﻫته
مجرد التفاوت المعجمي عامال سلبيا وشائبة غير مأمونة على سالمة البناء ّ ووضوحه ،لما كان
المنطقي وال محمودة العواقب من حيث األثر ،فكيف إذا سيكون األمر وعاقبة التفاوت والتهافت
على مستوى آليات البناء الممثلة في نسق العقل ،وما العقل وما الباني إال النسق؟
الرابع القياس العلمي والتوسع اللغوي من الباب الثاني :العمل البنائي لعلم النحو من سبيويه إلى
511انظر :الفصل ّ
ابن مضاء ،من كتابنا "العامل في النحو" -ص318..312
396
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وإذن فهذا االضطراب الحاصل في استعمال لفظ القياس ،يدل على افتقاد المعيار االصطالحي
تصور والمفهوم الذي يتحدّد به في كل حقل يستعمل فيه ويكون
المقيد والموجّه لهذا االستعمال ولل ّ
بمثابة السّياق.
وليعلم أن الفرق بين القياس المنطقي االستنباطي والقياس الفقهي ليس في النسق إطالقا ً .وإنما
مقررة مثبتة ،بيد أن الفقهي وجب هو في تقرير المقولة الكلية؛ حيث تكون في النسق االستنباطي ّ
عليه تقريرها ،وتحديدا ً يجب عليه تعيين مقدمتها المنطبقة بالطبع بالعلة ،ولهذا بالذات كان عضل
التعليل عضال فقهيًّا .وقد أفضنا وأسهبنا في استجالء هذا وبيانه في جزئي كتابنا "الفقيه
513
الربّاني"" :إبطال فصل األصول" و"ضالل المقاصديين"». ّ
التصور وفي
ّ ولو ذﻫبنا نتبّن وندقق التأطير لحقيقة المنهج ،النتهينا إلى أمر أبلج وجوﻫر في
المنطق أكثر جلوة وأوضح ،كونه المنطق في عموم سريانه لمطلق الموضوع والمجال .إنه
الرياضية ،تجلي قيّومية الحق من غير فطور ،ال مرجع من دونها للعقل ي ِ المعيارية ّ
التجلي ل ِس ّ
في الفكر والعمل.
إذا كان توجه اﻫتمامنا بحمد هللا وتوفيقه مذ أول ما ﻫدينا إلى الكتابة محوره قضية المنهاج،
الربّانية والمنهاج" ،فإن
وتجلى ذلك بوضوح في األجزاء األربعة األولى ل"تذكرة العلماء في ّ
مقاربتنا أو نهجنا أو طريقة عملنا في ذلك اعتمد على ثالثة مرتكزات:
-3تصحيح ( أو اإلدالء بما يرى تصحيحا) لمقوالت وقراءات أصولية (في األصول)
397
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
-0إبراز ضالالت حالقة قاصمة ألمر األمة ناتجة عن مجانبة الحق في قراءة واتباع الكتاب
الربّانية منهاجا تحققا وتبيانا لقول هللا تعالى ،وقوله الحق ،وﻫو العليم الحكيم﴿ :ولكن
-1استجالء ّ
كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'﴾(آل عمران)78
وﻫكذا كان الجزءان األول والثاني " نقض مقولة التقسيم وتصحيح النحو العربي" و"ميثاق
اإليمان بين النفي واإلثبات" قائمين أساسا على المرتكزين األولين معا .وأما الجزء الثالث
الرابع "القول الفصل في القراءات والتجويد""مفاتيح علم الكتاب( ")1فعلى األول كلية ،والجزء ّ
على المرتكز الثاني والثالث.
ﻫذا ولو وتؤمل بإنعام في كل ما قدر لنا أن نصنفه ونكتبه ،لما وجد خارج ﻫذا االﻫتمام ،وإنما
كان الترتيب بحسب األولوية والمسافة عن األصول ،واتصال االﻫتمام في ارتباط موضوعاتي
تكاملي.
لكن الذي استوجب اإلشارة إليه في ﻫذا الشأن ،ﻫو أن استجالء المنهاج وتحديده تأصيليا لم يتم
عمليا إال بكتاب "الفقيه ال ّربّاني" بجزأيه" :إبطال فصل األصول" و"ضالل المقاصديين" ،وذلك ما
كان له أن يتم ويتحقق من غير إطار كلي مهيمن ونظر محيط ،مجليا أن المنهاج عقل ونسق
مكوناه الكتاب (األصول) والدراسة (المعطيات بشرط العقل أو النسق العقلية) .ﻫذه النسق عمليّ ،
العقلية المتغيرة بداﻫة مع تغير الموضوعات والمواقف العملية ،ألنها في عالقتها ﻫاته مثلها مثل
الرياضي ة كونها ﻫيكلة ونظمة نسقية لها حقل إمكان انتظام ظواﻫر طبيعية محددة أكثر النظريات ّ
ما يتضح ذلك في الظواﻫر الفيزيائية ،وغالبا ما كان ﻫذا ﻫو مصدر حلول أكبر المسائل ومآزق
الفيزياء ،كحل إشكال طبيعة الضوء وفي عموم أعمال ماكسويل وإنجازات إينشتاين ..أقول ﻫذه
النسق في ترتيبها وانتظامها ﻫي المنهج المعين أو المنهج المنزل ،وﻫو منهج تحتي سريان للمنهج
الكلي أو المنهاج .وقد مثل عملنا "جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي أو المسلمون
والتاريخ" نموذجا واضحا وب ِيّنا في ما يكون المنهج ،وأن شأنه شأن منطقي خالص ،وليس يكفي
أن يلوكه اللسان ويسطره القلم العتبار حقيقته ﻫذه .بل وجعلنا ردنا وتحليلنا لعقلي الدكتور عدنان
إبراﻫيم واألستاذ صبري أمين داخل المنهاجية تحت عنوان" :عدنان إبراهيم وأمين صبري..
النبوغ والضّالل ..نموذجان في المنهاجية".
398
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إن جل من تطرق إلى قضية المنهج ،نعني في الموضوعات ذات البعد التاريخي ،أزمة األمة ّ
التاريخية ،قضية التراث ،ونحو ذلك ،لم يختلف ولم يتجاوز البناء على المرتكزين األولين األول
والثاني ،والقضية محض منطقية وعلمية.
لنأخذ في ﻫذا وعلى سبيل المثال آخر ما اطلعت عليه "منهج قراءة التراث اإلسالمي بين
تأصيل العالمين وانتحال المبطلين" 514لألستاذ الدكتور أبو جميل الحسن العلمي أستاذ الحديث
والفكر اإلسالمي جامعة ابن طفيل بالقنيطرة بالمغرب.
ي
من شأن العنوان أن يدل على ما يحتويه الكتاب ،وعلى العمل الذي يحمله لنا الكاتب من أ ّ
ي صنف ﻫو من األعمال .والذي يحيل إليه العنصر البياني "المنهج" وفي كل اللغات طبيعة وأ ّ
حين يأتي في سياق أوتركيب "منهج العمل" أو "منهج القراءة" على مختلف داللة القراءة ،ال
يحمل العقل القراءاتي إال إلى الحقل المناﻫجي وال يُحمل فيه الجوﻫر الداللي للمنهج إال على
صبغ المنطقي الصرف ليس سواه. ال ّ
ومنه ،وبناء على المعنى المعجمي بمكوني {الطريق أو الطريقة ،الوضوح( المكافيء للمسلك
صحيحة ،فالمنهج جوﻫر نسقي ،دليل العمل أو الموقف الحدوثي والتواجدي السديد أو أو اآللية ال ّ
األرض.
اوات و ْ صحيح ،بمرجع المنطق المطلق أي بمرجع الحق القائم عليه أمر الس َم َ ال ّ
والنسق المنطقي بالنسبة للعقل سؤاال وإشكاال إما معلوم يطلب تعميله ،أو مجهول واجب
تعيينه ،وﻫذا بالضبط ﻫو المجلي لشرط المالءمة بالموضوع ،لزاما على مبدإ التناسق والترابط
الكوني.
من أجل ﻫذا يتحدد المنحى الداللي ل"التأصيل" الوارد في عنوان الكتاب إما على تأصيل
المنهج ،فيستلزم وجوده .وإما على معنى عمل أصولي يكون طرفه وغايته تحديده وتعيينه.
وإذ نلفيه يقول" :فإن خلع رسن العلم والتأصيل ،وإلقاء الكالم على العواﻫن بغير دليل أﻫون
شيء عند المجترئين ،وﻫو سبب ما ظهر اليوم بين المعاصرين من الغثاء الذي ينشر باسم الفكر
515
اإلسالمي ،مما صنعه أصحاب ثقافات بالية مغشوشة".
514منهج قراءة التراث اإلسالمي بين تأصيل العالمين وانتحال المبطلين -األستاذ الدكتور أبو جميل الحسن العلمي
أستاذ الحديث والفكر اإلسالمي -جامعة ابن طفيل -دار الكلمة للنشر والتوزيع 0230م -القاهرة -المنصورة
399
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وقوله" :وال يتم ذلك إال بفقه معالم المنهج في تأصيل المعرفة وصيانة التراث اإلسالمي من
تحريف الغالين وانتحال المبطلين ،وتأويل الجاﻫلين ،وكشف زيف مناﻫج القاسطين وأثرﻫا على
516
الفكر والتراث ،تنزيها لفكر األمة من الحشو والفضول".
فإن المعنى المحمول عليه ﻫو العمل التأصيلي سبيال إلى التحديد والتعيين ،وﻫذا ﻫو الذي دلت
ض ّمِنه على التوافق ،سعيا من الكاتب إلى تأطير المنهج بشكل
عليه موضوعات الكتاب وما ُ
أساس من خالل شروط تأطيرية ،منها المرجعية ومنها القواعدية ،ونقاط أو عناصر سلبية،
وتحديد أو ما س ّماه ب"تقويم عام لمجاالت قراءة التراث اإلسالمي".
تقرا في
تصورا منضبطا مس ّ ّ لكن اإلشكال يكمن في عدم استيساق البلورة لما يكون المنهج،
العقل أو الذات المفكرة .فأزمة المنهاج وغربه أو غروبه ،حقيقة أوضح من غشيان دلجة الليل
الحالك تغشى األنام ،ولو ذﻫبنا نحصي النقاط السّلبية في المجال مما س ّماه األستاذ الدكتور
ب"انحرافات منهجية" وإنما ﻫي مظاﻫر وآثار غياب المنهاج ،لما وجدنا لها ح ًّدا ولما انتهينا في
تتبعها إلى حصر ،ولذلك كان مكونها ،ونظرا لتداخل معايير التأطير بين الفصول الثالثة للكتاب،
لذلك كانت مادتها أكبر مكون في محتواه .وشأن متناول قضية المنهج أو في جله ما جاء في
'األذكياء' للعالمة ابن الجوزي– رحمه هللا! -في ذكر ما ضربته العرب والحكماء مثال على ألسنة
الحيوان البهيم مما يدل على الذكاء:
قال الشعبي أخبرت أن رجال صاد قبرة فلما صارت في يده قالت :ما تريد أن تصنع بي؟ قال
أذبحك وآكلك ،قالت :ما أشفي من مرض وال أشبع من جوع ،ولكن أعلمك ثالث خصال خير لك
من أكلي؛ أما واحدة أعلمك وأنا في يدك ،والثانية على الشجرة ،والثالثة على الجبل .فقال؟ ﻫات
الواح دة! قالت :ال تلهفن على ما فاتك! قال :فلما صارت على الشجرة قال لها ﻫات الثانية! قالت
له :ال تصدق بما ال يكون أن يكون! فلما صارت على الجبل قالت له :يا شقي لو ذبحتني أخرجت
من حوصلتي ذرتين في كل واحدة عشرون مثقاال! فعَض على شفتيه وتلهف ثم قال لها :ﻫات
الثالثة! قالت :أنت قد نسيت اثنين 517فكيف أحدثك بالثالثة؟ ألم أقل لك :ال تلهفن على ما فاتك وال
515ن م -ص8
516ن م -ص32
517اثنتين واألصح الثنتين
400
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تصدق بما ال يكون أن يكون! أنا وريشي ولحمي ال أكون عشرين مثقاال .قال :وطارت
518
فذﻫبت.
ال ينضب ماء البحر فيكفل سعته الدلو الواحد والدالء ،ومنه ال يكون قياس ذي البعدين في
ا لفضاء والثالثة بما تقاس به على التبع األطوال والمساحات .وﻫذا مثل ما ﻫو واقع فيما كتب
ويكتب في أزمة األمة التاريخية وفي قضية المنهج بالذات ،وﻫو الموصول ،لكن ليس على تمام
االنطباق كما سيأتي بيانه ،بقول األستاذ الدكتور أبي جميل الحسن العلمي" :قد تظافرت األدلة
519
على أن أزمة المسلمين اليوم أزمة فقه ومنهاج ،قبل أن تكون أزمة صدق وإخالص"
ّأوال ليس المنهج نسقا واحدا ،فمنهج قراءة (نقد) التراث ليس ﻫو المنهج التاريخي .ﻫما
عنصران مختلفان ،مما ﻫو من موضوع علم المناﻫج أو منهج المناﻫج أو المنهاجية .ومنه تنبرئ
العالقة التناسقية البديهية ج ّد الهامة واألساس بين المنهج وموضوعه ،عالقة المالءمة ،المبوأة من
أجل ذلك موضع الشرطية للعقل أو اإلنسان الساعي والمتصدي ألمر المنهج .وكذلك فمنهج قراءة
أو نقد التراث ينتظم في المنهج التاريخي للطور أو اآلن القراءاتي.
موقع منتديات الشامل -ال تصدق بما ال يكون أن يكون -الترقيم مني- 518
401
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ما دمنا أو ما دام المنهج أو المنهاج ال يخرج وال ينبغي أن يخرج عن حقل الداللة القانونية
والمنطقية ،فلننظر او لنقرأ ﻫذه القراءة للدكتور محمد ياسين عريبي ،والسّلوك العام لإلنسان ما
ﻫو إال مواقف وقراءات تواجدية ،وذلك في فاتحة كتابه ج ّد المتميّز "االستشراق وتغريب العقل
التاريخي العربي -نقد العقل التاريخي:-1-
مجرد ال وطن له ،بل ﻫو فوق الزمان والمكان إن صح استعمال كلمة فوق ّ «العقل كنطق
بالمعنى الالمكاني .وبعبارة مختصرة نقول :العقل ﻫو اإلنسانية فحسب ،ولكن اإلنسان في حد
ذاته كائن زماني ،ومن ﻫنا يمكن تحديد فعل العقل باعتباره صفة النفس اإلنسانية ،وﻫذا الفعل ﻫو
المعارف العقلية التي بنت الحضارات الممتدة بامتداد الزمان والمكان ،وإذا كان من طبيعة
الحضارات الظهور واالختفاء من زمان إلى زمان ،واالستمرار في الترقي من األدنى إلى
األعلى ،وللحفاظ على ﻫذه الوظيفة لجأ العقل إلى كتابة معارفه وعلومه ،وﻫذه المعارف المكتوبة
ﻫي التي نس ّميها (العقل التاريخي).
تطابق مفهوم العرب مع اإلنسانية كنطق منذ أن حددت خيرية الوجود في فعل العقل النظري
والعملي المتحد ،كأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ،بل اعتبر ر ّد القومية إلى العرقية خروجا
عن اإلنسانية ،وردة إلى النفس الحيوانية غير الناطقة .وقد كان لهذا التطابق بين معنى العرب
واإلنسانية فعله المتميز الذي ظهر في صورة الحضارة العربية ،ولكن بحكم االختفاء واالنتقال
الحضاريين ،لم يبق كحقيقة متميزة خالدة من حضارة العرب إال المعارف المكتوبة ،وﻫذه
المعارف العقلية ﻫي التي نس ّميها :العقل التاريخي العربي.
إن ﻫيكلة الوجود العربي كوسط مكاني تجاوزه الوجود العربي اإلنساني بما للنطق من انتشار
في الزمان والمكان ،وﻫما اللذان أديا إلى غوغائية من األوﻫام العارضة عند الكثيرين من العرب
وغيرﻫم ،حتى قيل عن بعض المفكرين من أمثال الفارابي وابن سينا والغزالي وأمثالهم ليسوا
402
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
عربا ،ولو قلت إن فرويد وماركس وإينشتاين ليسوا أروبيين بحكم انتمائهم لما يسمى بشعب هللا
المختار ،لما صدّقوك .إن الفصل بين الوجود العربي المكاني والوجود العربي اإلنساني بهذا
الروح والجسد في عالم الواقع ،وﻫو ما يسبب في توقف العقل ،ولكي المعنى ﻫو عينه الفصل بين ّ
نتجنب ﻫذه المغاصة ال نفرق بين العقل التاريخي العربي أو العقل التاريخي العربي اإلسالمي.
حقا إن عدم فهم وحدة العروبة واإلسالم أدى إلى الخلط بين المعرفة واإليمان ،وإلى عدم فهم
العالقة بين الشرط والمشروط أو بين المخبر والمظهر ،وباألحرى أدى األمر إلى عدم فهم الكثرة
في الوحدة ،وﻫذا الجهل بوحدة الماﻫية في الهوية ﻫو السّبب في تجزئة الوعي العربي وتفتيته
كتاريخ وواقع ،من فرق األسالف الباطنية إلى حزبية األخالف التقليدية .وما قصدنا من ﻫذه
الدراسة إال تجاوز التفرقة والتشتت بتجاوز المذﻫبية والحزبية وتهيئة المناخ لبناء مدارس فكرية
تعيد للبناء الحضاري العربي ظهوره ووحدته مهما تعددت درجات التنوع.
لقد تحول الجهل بإنسانية وجود العقل العربي إلى علم على يد المستشرقين مصداقا لقول
المتكلمين (العلم من جنس الجهل) ،وذلك حينما نقل االستشراق العقل العربي المكتوب ال ليكون
ذخيرة لألخالف من العرب ،بل ليكون وسيلة لظهور الحضارة في الغرب واختفائها في الشرق.
ورغم ما في ﻫذا النقل من إظهار للعقل العربي فإن االستشراق نصب نفسه كوسيلة لتغريب ﻫذا
العقل واغترابه عن قومه وأﻫله ،ومن ﻫنا نكتفي بتوضيح نموذج ﻫذا المنهج االستشراقي
التغريبي بصورة مختزلة ،اعتقادا منا بأن ما ﻫو أﻫم :كشف النقاب عن حقيقة العقل التاريخي
العربي.
اعتمدنا في في كشف النقاب عن ﻫذا العقل بعد التمهيد على المقارنة ألنها وظيفة العقل نفسه،
الرد على مطالبة االستشراق بالسند التاريخي اكتفينا بذكر مناﻫج نقل العقل التاريخي العربيوفي ّ
صة في القرنين الثاني والثالث عشر الميالديين ،وبذكر ما لهذا إلى الالتينية والعبرية وغيرﻫما خا ّ
النقل من انعكاسات في كتابات مفطري العصر األوروبي الوسيط من االستشهادات المكثفة
بأمهات الكتب العربية وذكر أسماء المفكرين العرب إلى التبني للمذاﻫب والنظريات التي على
الرشدية ،وإذا كان ﻫذا النمط من التبني قد استمر االعتراف به في عصر النهضة رأسها ّ
األوروبية ،فإن عمليات التركيب بين جزئيات العقل التاريخي العربي ،وتوظيف نقد نظرياته
بعضها لبعضها من منظور المركزية الغربية ،فإن ﻫذا التركيب انتهى بمحاولة استالب لهذا العقل
بما له من جزئيات مع نهاية القرن السادس عشر الميالدي ،وقد حددنا نهاية الجزء األول من ﻫذا
403
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الكتاب بهذا االستالب ليكون تمهيدا وتوطئة توضح حقيقة التغريب في الفكر األوروبي الحديث
ابتداء بديكارت وانتهاء بهيجل ،وإذا كان محور ﻫذه الدراسة ﻫو ﻫذا التغريب بمعناه الحقيقي
الذي تحولت فيه معجزة العقل العربي إلى معجزة العقل الغربي ،فإننا سنتعرف من خالله على
اغتراب ﻫذا العقل في الفكر المعاصر غربه وشرقه والذي انتهى إلى تقنين مستقبلية العقل العربي
وتاريخه ابتداء من منتصف القرن العشرين بفعل تظافر ثالوث االستشراق والتبشير واالستعمار.
إن االستعمار األوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميالديين ﻫو ما ﻫو إال مظهر
من مظاﻫر االستالب والتغريب في العالم المعقول ،وإذا كان ﻫذا االستعمار الحسي بدأ يزحف
إلى استعمار وتبعية العقل العربي على اعتبار أن ﻫذا العقل جزء من الطبيعة ،فإن استئصال ﻫذا
السرطان ال يتم إال بإعادة تنظيم عالم أفكارنا في صورة ثابتة ومتجددة ألن وحدة الكلمة كعبارة
520
للنفس اإلنسانية في صورة الفهم والعمل واإليمان لهي أقوى سالح».
مجرد ال وطن له ،بل ﻫو فوق الزمان والمكان إن صح استعمال كلمة فوقّ «العقل كنطق
بالمعنى الالمكاني .وبعبارة مختصرة نقول :العقل ﻫو اإلنسانية فحسب» وﻫذا ما قاله الحسين ابن
سينا – رحمه هللا!:-
وأول
يختص بنفس إنسانية تسمى نفسا ناطقة ،إذ كان أشهر أفعالها ّ
ّ "ومن الحيوان اإلنسان:
صة بها النطق .وليس بقولهم :نفس ناطقة -أنها مبدأ المنطق فقط ،بل جعل ﻫذا اللفظ
آثارﻫا الخا ّ
521
لقبا لذاتها".
إنني أرى الدكتور قد أخذ اإلشكال ،إشكال االستشراق ،وﻫو نفس إطار إشكال األزمة والمنهج
التاريخيين ،أخذه بناصيته ،وبلغ باإلطار الموضوعاتي أقصى إمكانه محققا شرط اإلحاطة
والهيمنة ،الشرط المنطقي الالزم ،وأيضا المتض ّمن في إمكانه االستنباطي بالحق ،نهج السّداد
وطريق حل ما عضل وأشكل .فالعقل ﻫو اإلنسانية فصال نوعيا والنوع نفسه جنسا تحتيا ،ويتنزل
وقد نزل قوله تعالى مجيدا﴿ :إني َجا ِع ٌل ِفي ْ
األرض َخ ِليفة﴾(البقرة)03
520االستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي – نقد العقل التاريخي -3-الدكتور محمد ياسين عريبي -منشورات
المجلس القومي للثقافة العربية -الطبعة األولى 3333م -ص3..7
521الفصل السادس عشر :في اإلنسان من الطبيعيات من كتاب 'عيون الحكمة' للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا
404
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والمتواجد ﻫو المحقق أو باألصح الساعي لتحقيق وجوده بحسب إمكان إرادته ،فهذه ﻫي
صفة على الوصل ،واختالفها تبعا الداللة البيانية وحقلها ل"التاء" في صيغ الفعل والمصدر وال ّ
لجهة ومنحى الفعل وشدته ،أي للمحددات االنعكاسية والتشاركية والعلية" :تفعل" "افتعل"
و"تفاعل" .واإلرادة ليست تكون إال للعقل وبالعقل.
العقل التاريخي (اإلنساني) العربي اإلسالمي ليس ﻫو المكتوب ،فالمكتوب ﻫو فقط األثر أو من
أثر ﻫذا العقل ،لكن العالقة بينهما استنباطية ،أي أن األثر دليل موصل إلى العقل .وما س ّماه
الكاتب ب"عمليات التركيب بين جزئيات العقل التاريخي العربي" ما ﻫو إال عملية تحوير لهذا
العقل بحسب المركزية واألﻫداف االستشراقية ،مما يعبر عنه وكذلك عند الكاتب بعملية
سخا ترسيخا في مقالة صنف البياني ل"السّطو" و"السّلب" ُمر ّ
"التغريب" ،التي ليست تخرج عن ال ّ
"معجزة العقل الغربي" .وﻫذه العملية ﻫي ضمن المعالجة الكلية ،إذ يساوقها وبموازاة لها ،ما
أشار إليه الكاتب ب"عملية تفتيت العقل العربي" ،لترك المخطوط والمكتوب بال عقل ،وﻫذا ما
مكونا وخلفية خفية في كل ﻫذا الطيف من االﻫتمام والدعوة إلى االﻫتمام بالتراث ونشره، نراه ّ
صنف الحقائقي والعبرة في كل مخطط ومعالجة ﻫو القيمة المطلقة وليس الجزئيات ،وليس ال ّ
للخداع والمكر والتدليس والتغرير وقبيله ،إال وﻫذا مبدأه ونسقه .ولكن إذا اتقظ العقل ،ونظر إلى
العقل العربي اإلسالمي وجعل عمله وإنتاجه ال تراثا وإنما في صبغة العلوم واألعمال العلمية،
فذلك مبدأ وشرط في النهوض التاريخي بقوة ،ألنه ،عقل له من األسس ما ال يملكه وال يُ ِق ّره أي
األرض السّماء ،والسّماء ﻫي دوما بالنسبة لألرض عُ ٌّلو.
عقل تاريخي ،فلن تبلغ ْ
"فإن التراث اليوم يدرس للبناء عليه ال الجترار حرفيات أﻫل زمانه ،لذلك وجب النظر في
دراسة مستقبليات اإلسالم ومتطلبات األمة ،حتى ال نجتهد بعيدا عن حاجات عصرنا في المرحلة
الراﻫنة.
ّ
وﻫذا يتطلب فقها للواقع ،ومواكبة لمسار التقدم العلمي والحضاري ،لدى األمم المجاورة ،مع
522
االستفادة من التراث اإلسالمي ،بالقدر الذي ينفعنا في واقعنا المعاصر".
405
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ليس المنهج سوى قراءة العقل التاريخي لطوره وشروطه الوجودية ليحقق تواجده ،أي وجودا
على إرادته واختياره وإمكانه العلمي بالطبع على القانوني الوجودي ،قانون الحقَ ﴿ :ما َخلقَ هللاُ
س ًّمى'﴾(الروم .)7وﻫذا القانون ﻫو إطار الحلول اوات َواأل ْرض َو َما بَ ْين ُه َما إال بال َح ّ ِ
ق َوأ َج ٍل ُم َ الس َم َ
األرض َخ ِليفة﴾(البقرة )03وقوله التواجدية ،ومنه الوصل العظيم بين قوله تعالى﴿ :إني َجا ِع ٌل فِي ْ
عة َومنهاجا'﴾(المائدة )12فالمرجع القانوني جل وعال وﻫو العليم الحكيمِ ﴿ :لك ٍّل َج َعلنا ِمنك ْم ِش ْر َ
المنطبق بالشرعة ،وﻫي الكتاب والشريعة ،ﻫي نور القراءة المنطبقة بالمنهج:
شريعة اإلسالم
العقل العربي
المنهاج
اإلسالمي
االستخالف
اإلنسانية النطق
تاريخ -حضارة
شكل 13المنهاج
فالنطق (الداخلي) ﻫو ذات القراءة ،وﻫذه القراءة التي ﻫي المنهج مستم ّدﻫا العلم المحقق
والمعتبر بالنطق ،والعلم والكلمة أصل الكون والخلق؛ فالمنهاج أو المنهج ﻫو القارئ ،وﻫو
الضوابط القراءاتية بالذات .ولما كان العقل العربي اإلسالمي مؤسّسا على الوحي الكريم ،تميّز
األرضي.
وعال على مطلق العقول الجمعية والحضارية ،التي مصدرﻫا اإلمكان ْ
406
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
407
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تقررها الدراسات المنشورة في هذا الكتاب تتعدى بكثير « ...أن كثيرا ً من األطروحات التي ّ
حدود المؤلف ،بالمعنى الشائع للكلمة ،لتقدم نفسها إلى كل المؤلفين في الفلسفة اإلسالمية كنتائج
قراءة تطمح إلى شق الطريق نحو نوع جديد من التعامل مع تراثنا الفلسفي يستجيب في آن واحد
تحركنا نحو التراث ،هموم
للشروط العلمية التي يفرضها العصر اليوم ولهمومنا اإليديولوجية التي ّ
523
النهضة القومية».
سؤاالن يتضمن الواحد منهما اآلخر ويحيل إليه ،ويشكالن بترابطهما بهذا الشكل ،أحد المحاور
الثالثة الرئيسية في إشكالية الفكر العربي المعاصر.
الحوار في هذا المحور ،وبالتالي نظام العالقات فيه ،هو بين «الماضي» و«المستقبل» أما
الحاضر فغير «حاضر» ليس فقط ألنه «مرفوض» بل أيضا ً ألن حضور الماضي قوي في هذا
المحور إلى الدرجة التي جعلته يمتد إلى المستقبل ويحتويه ،تعويضا ً عن الحاضر ،وتأكيدا ً للذات
وردا ً لالعتبار إليها .
الدافع الرئيسي للذات العربية الحديثة إلى تأكيد نفسها بهذا الشكل معروف ومعترف به من
طرف الجميع :إنه التحدي الحضاري الغربي بجميع أشكاله وكافة أبعاده .وكما يحدث دائما ،سواء
على المستوى الفردي أو المستوى المجتمعي ،فلقد اتخذت عملية تأكيد الذات شكل نكوص إلى
مواقع خلفية لالحتماء بها والدفاع انطالقا منها.
408
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يتعلق األمر هنا بالتيار السلفي في الفكر العربي الحديث المعاصر ،التيار الذي انشغل أكثر من
غيره بالتراث وإحيائه واستثماره في إطار قراءة أيديولوجية سافرة ،أساسها إسقاط صورة
«المستقبل المنشود» على الماضي ثم «البرهنة» -انطالقا ً من عملية اإلسقاط هذه -على أن «ما تم
في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل» .
لقد لبس هذا التيار أول األمر لباس حركة دينية وسياسية ،إصالحية ومتفتحة ،مع األفغاني
وعبده ،حركة تنادي بالتجديد وترك التقليد .إن «ترك التقليد» يكتسي هنا معنى خاصاً ،إنه:
«إلغاء» كل التراث المعرفي والمنهجي والمفهومي المنحدر إلينا من عصر االنحطاط والحذر في
ذات الوقت ،من السقوط «فريسة» للفكر الغربي ...أما «التجديد» فيعني بناء فهم «جديد» للدين،
عقيدة وشريعة ،انطالقا ً من األصول مباشرة ،والعمل على تحيينه ،أي جعله معاصرا ً لنا وأساسا
لنهضتنا وانطالقتنا .
إنها «السلفية الدينية» التي رفعت شعار األصالة والتمسك بالجذور والحفاظ على الهوية ...
األصالة والجذور والهوية مفهومة على أنها اإلسالم ذاته« :اإلسالم الحقيقي» ال إسالم المسلمين
المعاصرين.
نحن ،أمام قراءة أيديولوجية جدالية ،كانت تبرر نفسها عندما كانت وسيلة لتأكيد الذات وبعث
الثقة فيها .إنها آلية للدفاع معروفة ،وهي مشروعة فقط عندما تكون جزءا من مشروع للقفز
والطفرة ...لكن الذي حدث هو العكس تماما ً .لقد أصبحت الوسيلة غاية :فالماضي الذي أعيد بناؤه
بسرعة قصد االرتكاز عليه ل«النهوض» أصبح هو نفسه مشروع نهضة .هكذا أصبح المستقبل
يُقرأ بواسطة الماضي ،ولكن ،ال الماضي الذي كان بالفعل ،بل «الماضي كما كان ينبغي أن
يكون» .وبما أن هذا األخير لم يتحقق إال على صعيد الوجدان ،صعيد الحلم ،فإن صورة
صورة«المستقبل – اآلتي» ظلت هي نفسها صورة «المستقبل -الماضي» .والسلفي يحيا هذا ال ّ
صراع بكل جوارحه ،ليس فقط كصورة رومانسية ،بل ك«واقع حي» ،ولذلك تراه يستعيد ال ّ
األيديولوجي الذي كان في الماضي وينخرط فيه ،منافحا ً ومناضال ،ال يكتفي بخصوم الماضي ،بل
يبحث له عن خصوم في الحاضر والمستقبل .
القراءة السلفية للتراث ،قراءة ال تاريخية ،وبالتالي فهي ال يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من
الفهم للتراث هو :الفهم التراثي للتراث ،التراث يحتويها وهي ال تستطيع أن تحتويه ألنها:التراث
يكرر نفسه.
409
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
السلفية الدينية تصر في قراءتها من منظور ديني للتاريخ ،يجعل التاريخ ممتدا ً في الحاضر
منبسطا في الوجدان ،يشهد على الكفاح المستمر والمعاناة المتواصلة من أجل إثبات الذات
الروحي العامل الوحيدوتأكيدها .ولما كانت الذات تتحدد باإليمان والعقيدة فلقد جعلت من العامل ّ
المحرك للتاريخ .أما العوامل األخرى فهي ثانوية أو تابعة أو مشوهة للمسيرة.
سؤاالن آخران يتضمن الواحد منهما اآلخر ويحيل إليه كذلك ،ويشكالن أيضا ً ،بارتباطهما ،بهذا
الشكل ،أحد المحاور الرئيسية في إشكالية الفكر العربي الحديث والمعاصر .والحوار في هذا
المحور ،وبالتالي نظام العالقات فيه ،هو بين «الحاضر» و«الماضي» ولكن ال حاضرنا نحن ،بل
حاضر الغرب األوربي الذي يفرض نفسه ك«ذات» للعصر كله ،لإلنسانية جمعاء ،وبالتالي
ك«أساس» لكل مستقبل ممكن ،الشيء الذي جعل أثره ينسحب على الماضي نفسه ،يلونه بلونه.
ينظر الليبرالي العربي إلى التراث العربي اإلسالمي من الحاضر الذي يحياه ،حاضر الغرب
األوربي ،فيقرأه قراءة أورباوبة النزعة ،أي ينظر إليه من منظومة مرجعية أوربية ،ولذلك فهو ال
يرى فيه إال ما يراه األوربي.
يتعلق األمر إذن ب«القراءة االستشراقية» التي تتخذ امتداداتها إلى األساتذة العرب شكل «سلفية
استشراقية» تقدم نفسها كقراءة عملية «تتوخى» الموضوعية ،و«تلتزم» الحياد و«تنفي» أن تكون
لها أية دوافع نفعية أو أهداف أيديولوجية.
«السلفية االستشراقية» هذه تدعي أن ما يهمها هو ،فقط ،الفهم والمعرفة وأنها إذ تأخذ من
المستشرقين منهجهم «العلمي» تترك أيديولوجيتهم ،ولكنها تنسى أو تتناسى أنها تأخذ الرؤية مع
المنهج ،وهل يمكن الفصل بينهما؟
الرؤية االستشراقية تقوم ،من الناحية المنهجية ،على معارضة الثقافات ،على قراءة تراث
بتراث .ومن هنا المنهج الفيلولوجي الذي يجتهد في رد «كل» شيء إلى «أصله» .وعندما يكون
المقروء هو التراث العربي اإلسالمي فإن مهمة القراءة تنحصر في رده إلى «أصوله» اليهودية
والمسيحية والفارسية واليونانية والهندية ...إلخ.
410
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تقول القراءة االستشراقية أنها تريد أن «تفهم» وال شيء غير ذلك .ولكن ماذا تريد أن تفهم؟
تريد أن تفهم مدى «فهم» العرب لتراث من قبلهم .لماذا؟ ألن العرب الذين كانوا واسطة بين
الحضارة اليونانية والحضارة الحديثة (األوروبية) إنما تتحدد قيمتهم بهذا الدور نفسه ،الشيء الذي
يعني أن «المستقبل» في الماضي العربي كان في استيعاب ماض غير الماضي العربي (ثقافة
صة) ،وبالمقايسة يصبح «المستقبل» في اآلتي العربي مشروطا ً باستيعاب اليونان بكيفية خا ّ
«الحاضر -الماضي» األوروبي ...
هكذا تنكشف دعوى «المعاصرة» في الفكر «الليبرالي» العربي الحديث والمعاصر عن
استالب للذات خطير ...الذات ،ال بوصفها حاضرا متخلفا وحسب ،بل أيضا ً ،وهذا هو األخطر،
بوصفها تاريخا وحضارة .
سؤاالن آخران يتضمن الواحد منهما اآلخر ويحيل إليه كذلك ،ويشكالن أيضا ً ،بترابطهما بهذا
الشكل ،أحد المحاور الرئيسية –المحور الثالث واألخير -في إشكالية الفكر العربي المعاصر.
الحوار في هذا المحور ،وبالتالي نظام العالقات فيه ،هو بين «المستقبل» و«الماضي» ،ولكن
مجرد مشروعين :مشروع الثورة التي لم تتحقق بعد ،ومشروع التراث الذي سيعاد ّ بوصفهما معا
بناؤه بالشكل الذي يجعله يقوم بدوره في همز الثورة وتأصيلها.
العالقة هنا «جدلية» :مطلوب من «الثورة» أن تعيد بناء التراث ،ومطلوب من «التراث» أن
يساعد على إنجاز الثورة ...والفكر اليساري العربي المعاصر تائه في هذه الحلقة المفرغة باحثا
عن «منهج» للخروج منها.
يتبنى الفكر اليساري العربي المعاصر المنهج الجدلي ،ولكنه ،مع ذلك ،يجد نفسه في حلقات
مفرغة من النوع الذي ذكرنا.
لماذا؟
ألن الفكر اليساري العربي المعاصر ال يتنبى – في تقديرنا -المنهج الجدلي كمنهح ل«التطبيق»
بل يتبناه ك«منهج مطبق» .وهكذا فالتراث العربي اإلسالمي «يجب» أن يكون :انعكاسا للصراع
الطبقي من جهة :وميدانا للصراع بين «المادية» و«المثالية» من جهة أخرى.
ومن ثمة تصبح مهمة القراءة اليسارية للتراث هي تعيين األطراف وتحديد المواقع في هذا
صراع «المضاعف» .وإذا استعصى على الفكر «اليساري» العربي القيام بهذه المهمة بالشكل ال ّ
«المطلوب» ،وهذا ما حدث ،وهذا ما يقلقه ويقض مضجعه ،ألقى بالالئمة على «التاريخ العربي
411
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
غير المكتوب» أو تذرع بصعوبة التحليل أمام هذا التعقيد البالغ الذي «تتصف» به أحداث تاريخنا
صلوا الواقع التاريخي على
..وإذا أصر بعض المنتمين إلى هذا الجناح على «اقتحام» الصعاب ف َّ
صراع الطبقي» قالوا ب«التواطؤ التاريخي» القوالب النظرية .وفي هذه الحالة فإذا لم يسعفهم «ال ّ
وإذا لم يجدوا «مادية» قالوا ب«الهرطقية».
هكذا تنتهي هذه القراءة «اليسارية» العربية للتراث العربي اإلسالمي إلى «سلفية ماركسية» أي
إلى محاولة لتطبيق طريقة تطبيق «السلف الماركسي» للمنهج الجدلي ،وكأن الهدف هو
«البرهنة» على صحة «المنهج المطبق» ال تطبيق المنهج.
524
ذلك هو السر في قلة إنتاج هذه «القراءة» وضعف مردوديتها].
ليس من ال َهيِّن الضبط الواعي للموضوع أو القضية المثارة هنا ،ودليلنا هو بالذات هو هذا الذيَ
يراد منه ويقدم كأنه تفصيل لها من لدن رجل اعتبر ويعتبر رائدا وحتى هاديا في قضايا وإشكاالت
صصنا من أجل هذا ولقيمته العقل العربي المتض ّمن في قاموسه وطرحه للعقل اإلسالمي .لقد خ ّ
العملية جهدا سواء في "الجابري دون عتبة القرآن الكريم والمرجفون في الفلسفة" ومن قبله في
"تفصيل الخلق واألمر في سؤال حوار األديان وتفرق المذاهب الفقهية ..ابن سينا بين قصور
المتفلسفة وافتراء المتقولة" وبعده في الباب العاشر واألخير من "د .طه عبد الرحمان في
الميزان" .وها نحن اليوم وحين عزمنا متوكلين على هللا تعالى الذي قدر وهدى وناط بالعقل
األرض لالستخالف القوي وتحري سبل الهدى ،حين رأينا من أشرف ما خلق تسخير ما في ْ
واجبنا النظر -أو بأصح التعبير وواقع األمر -تبيان اإلمكان القوي عند العقل العربي اإلسالمي
لدحر السّالح واآللية جد الفتاكة التي ما انفكت منذ المئين من السنين وإلى يومنا تفتك بهذا العقل
وكيان األمة التاريخي والفكري والمادي على التبع وعلى التالزم أيضا ً سالح وآلية "االستشراق"،
إمكان دحر هذا الكيد العظيم هو فيما يرى بالتحليل العلمي والمنطقي في معالجة مفهوم "التراث"
معالجة بالمعنى الهندسي لصناعة الصلب بمرافقة محض مفاهيمية ومرجعية؛ أي في جدلية
تاريخية محدودة ثنائيا[ :االستشراق↔التراث]..
إن األزمة التي تحيط باألمة التي تخنق نفسها إال من أنين جموعها وتأوهات مثقفيها ،أنين
ساخرا من عدوه الذي لم ترده عن تعمير أوربا كلها وليس جنوب َ وتأوهات ينظر إليها الغرب
فرنسا األندلس لقرون عدة فحسب إال معركة بالط الشهداء ،هذه األزمة التي -وكما سنبينه بشكل
تصورها الجابري مثال لقبيله على نحو نسبي خاطئ ،هي من حيث هيكلتها محمولة ّ واضح-
برمتها داخل حقل التناقض[ :االستشراق↔التراث].
صا من جهة القصد سنحاول أن نعرض للتحليل بالشكل الذي نحفظ فيه الحكمة والنجاعة خصو ً
في القول ،وبالطبع ال يمكن أن نخالف الوضع الحق والهيكلة كما هي حقيقتها ،لكن التناول سيكون
مميّزا بسلوك والوضوح والتبسيط.
524ن م – ص61..62
412
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
نبدأ بالمرجع ،نعني به مرجع البحث عن الحقيقة أو الذي نبحث من خالله عن الحقيقة؛ كان هذا
هو السّؤال األعظم المشكل "في" و"ل" تفلسف ومقوالت -ال مقول -ميشال فوكو .حب صادق
للوطن ،واألدلوجيون جميعا ً ينافحون يشيرون إلى الطريق خريت التاريخ؛ هذه هي داللة مبرهنة
جودل؛ كل ما أمكن أن يكون مرجعا ً ذاتيا قطعيا فال يملك دليل الحقيقة ،إذن هو ال يملكها إال نسبيا؛
على ت اليَ ُهود ُ َ س ْ ارى ل ْي َص َ قالت الن َعلى ش ْيء َو ْ ارى َ ص َ ت الن َ س ْ يقول الحق تعالىَ ﴿ :و ْ
قالت اليَ ُهود ُ ل ْي َ
قو ِل ِه ْم' فاهللُ يَ ْحك ُم بَ ْين ُهمء يَ ْو َم ال ِقيَا َم ِة فِي َما
تاب' كذ ِلكَ قا َل ال ِذينَ ال يَ ْعل ُمونَ ِمث َل ْ ش ْيء َوهُ ْم يَتلونَ ال ِك َ
ً
كانوا فِي ِه يَ ْخت ِلفُونَ '﴾(البقرة )662وإذا كان الذي يقع موقع المخاطب المتلقي لخطابنا إن كان ال
يؤمن أو هو ال زال في غير يقين من أمره ،ولكنه يزعم العقل والفلسفة ،نقول له ليكن مفهوم هللا –
سبحانه وتعالى! -هو مرجع الحق المطلق لديك ،الذي ال يستحيل بل هو ممكن وهو واجب الوجود
مستقر الحقيقة المبحوث عنها في تساؤل فوكو ،إنها بالذات ّ منطقيا ً انتظاما ُ ممتدا ً لمبرهنة جودل و
الرابطة عالئقيا بين األنساق التاريخية ّ و فيه المتحكمة والقوانين التي لها األمر في منطق التاريخ
أو االبستيمات والمذاهب الفكرية والفلسفية :إنه الحق؛ إن لألنساق الوجودية تأصيال ترجع إليه في
مادتها ومنطقها ،والثابت فيها هو قانونها مبرهنا عليه مصححا ً في التأ ّمل الوجودي لديكارت؛ ويا
توا من عالم للعجب وأعظم به خطابا إلى هذا الحد والعظمة والحكمة في المالءمة لقوم خرجوا ّ
جاهلي أمة أمية ،لكن ال تنس أن الجاهلية هنا هي الجاهلية الفلسفية -التشريعية -السّياسية ،وكما
قال سيد قطب هي نفس الجاهلية ،وهي كذلك ،وما االعتقاد إال الفلسفة؛ هاهو ذا البرهان والتحديد
هللا فا ِلقُ ال َحبّ ِ إن َ هلل عز وجل وللمرجع وللحقيقة ! اسمع له وأرهف السمع! ..لعلهم يعقلونَّ ﴿ :
قُ
ي ِ' ذ ِلك ْم هللاُ' فأنى تؤفكونَ ' فا ِل اإلصْ بَاحِ ت ِمن ال َح ّ ج ال َميِّ ِ ت َو ُم ْخ ِر ُ ي ِمن ال َميِّ ِ ج ال َح َّ النوى' يُ ْخ ِر َُو َ
زيز ال َع ِل ِيم'﴾(األنعام )88-81فاهلل الحق َ ِ ع ال ير
ُ د
ِ تق كَ ل
ِ ذ 'ً ا انب
َ س
ْ ح
ُ ر م
َ َ ََالق و س مْ َّ
ش الوَ 'ً ا كن س
َ لِ يْ الل ُ
ل ع
ِ َو َجا
والمرجع يُعرف بخلقه وآثاره لمن يعقل؛﴿ذلك ْم هللاُ'﴾ إفادة التحديد والتعريف .ويحفظ أثرا من علم
الكتاب أن الحق سبحانه وتعالى اسمه سئل لم خلق الخلق فقال جل جالله :لكي أُع َْرف؛ ومن
اإلنس إال
َ َّ
الجن َو األقوال في تفسير قوله تعالى من سورة الذارياتَ ﴿ :و َما َخلقتُ
ون'﴾(الذاريات )11قول مجاهد :ليعرفوني .وتأصيل الفكر كعقل سياسي إن رأى فيه فوكو ِليَ ْعبُد ُ ِ
بنية حفرياتية تكوينية محكومة بقانون عالئقي أو لوجوس سماه باإلبتسيمي ،أليس الوعاء الوجودي
سابقا بل شرطا ضروريا لكل المؤسّسات االجتماعية التاريخية من السّياسية إلى الطب إلى
المسرح إلخ؟! وهذه المؤسّسات وبنيتها الحفرياتية تظلها سماء وتقلها أرض تسبح في الهواء
بانتظام مدبر ليس بوزير وال بجمعية مدنية ،فهي تدور حول محورها بسرعة خارقة 6185كم/س
≈ 511م/ث تفوق سرعة الصوت في الظروف الفيزيائية المعيارية 331م/ث ،وحين نلتفت إلى
سرعتها وهي تمخر عباب السّماء حول الشمس ،فال ترى إال ما هو مدعاة للدهشة سرعة حوالي
607000كلم/س أي 30كلم/ث .إن هذا هو التأصيل الفلسفي العلمي لوعاء وأساس كل النسق
والبنيات الحفرياتية موضوعات وحقول االبستيمات.
413
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فمرجع حكم الوطن هو المحتضن ،هو التاريخ ،ومرجع حكم التاريخ هو الحق؛ وإذن فال ينبغي
منطقيا ً الحكم للنظام األدلوجي ،بهذه الالزمة والقيد الذي في معنى النظام أي :النظمة أو المنظومة
المترابطة .ويُلحظ أن هذه الحقائق ثابتة لها نقاطها المحددة والمعينة في هذا المدخل للجابري الذي
هو بمثابة األساس والقاعدة ،وأنها ال جدل وال مماراة مفارقة ليس بها خفاء؛ فهو لم يجمع فحسب
بين النفي واإلثبات في شرعنة المرجع األدلوجي:
تحركنا نحو التراث 525-لقد سبق أن صرحنا بالطابع
أ -همومنا اإليديولوجية التي ّ
526
األيديولوجي لقراءتنا-
ب -إن نقد األطروحات عندما يغفل األساس المعرفي الذي تقوم عليه ،ﻫو نقد أيديولوجي
لأليديولوجيا ،وبالتالي فهو ال يمكن أن ينتج سوى أيديولوجيا 527-التيار السلفي.. .
528
قراءة أيديولوجية سافرة!-
مع االفتقار البياني والقصور المنطقي بالحاجة إلى نفس ما يطلبه ويشترطه من تمحيص
ووجوب النظر في ا ألساس المعرفي لأليديولوجيا المتبناة والتي في الحقيقة لم يأت ﻫذا الكتاب وال
ي مدى ﻫذاأعماله إال خدمة لها؛ ﻫذا والفيلسوف الحق والناقد البصير ،قد يطرح السّؤال إلى أ ّ
الذي احتضن ﻫذا العمل أو األعمال قد كان بلورة واضحة كاملة ولو أدلوجة؟؟؟
ووجه ثقل األمر إليه ﻫو ﻫذه الداللة النظامية والنظماتية لألدلوجةفكذلك فهو مما أبرزه جليا َ
حسب قاموسه الذاتي" :السلفية الدينية تصر في قراءتها من منظور ديني للتاريخ" .529
وهنا نعود إلى مخرج الجابري من مدخله ،الذي عليه مدار الكتاب ونسج الخطاب وفصله؛ إنه قد
انتهى إلى استنباط:
[ -3من أجل نقد علمي للعقل العربي
ما يهمنا من هذا العرض الخاطف للقراءات السائدة للتراث ،في الفكر العربي المعاصر ،ليس
تقررها أو تتبناها أو «تكتشفها» هذه القراءة أو تلك ،وإنما يهمنا فيها جميعا ً
«األطروحات» التي ّ
طريقة التفكير التي تنتجها ،أي «الفعل العقلي» الالشعوري الذي يؤسّسها .إن نقد األطروحات
عندما يغفل األساس المعرفي الذي تقوم عليه ،ﻫو نقد أيديولوجي لأليديولوجيا ،وبالتالي فهو ال
يمكن أن ينتج سوى أيديولوجيا ،أما نقد طريقة اإلنتاج النظري ،أي «الفعل العقلي» فهو وحده
صبغة العلمية ويمهد الطريق بالتالي لقيام قراءة علمية واعية.الذي يمكن أن يكتسي ال ّ
525ن م – ص1
526ن م – ص8
527ن م – ص61
528ن م – ص62
529ن م – ص63
414
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إذا نظرنا ،من هذه الزاوية ،إلى القراءات الثالث التي حللناها آنفا باختصار ،وجدنا أن ما يجمع
بينها من الناحية االبستيمولوجية – أي من ناحية «طريقة التفكير» التي تعتمدها كل منها -هو
وقوعها جميعا ً تحت طائلة آفتين :آفة في المنهج ،وآفة في الرؤية.
-فمن ناحية المنهج تفتقد هذه القراءات إلى الحد األدنى من الموضوعية.
530
-ومن ناحية الرؤية تعاني كلها من غياب النظرة التاريخية].
لقد بينا أن شرط الرؤية في قاموس هذا الخطاب ومداره العقلي هو الذات العالمة أو لنقل الواعية
والتواجدية والتاريخية ،وهم النخبة التاريخية التي تحمل على عاتقها مسؤولية حمل المجتمع
والسواد إلى الوعي التاريخي وميز الحق عن الباطل؛ فليس يُبصر بالوضع ويكون ُم َؤﻫال لهذه
الرائدة في الوعي االجتماعي والسّياسي والتاريخي إال عقل ونظمة معرفية ومعلوماتية،الوظيفة ّ
ّ ّ
ُمحللة و ُمش ِخصة لهذا الوضع ،وبذلك تكون لها الشروط المنطقية المتالك المنهج الحق.
إذن فالرؤية النقدية التاريخية التي يكون التقويم االجتماعي والسّياسي داخلها ،ال يمكن أن
تكون إال جوﻫرا بالتقويم والمنهج مكونين غير منفصلين.
وﻫنا ال بد من التوقف في أمر يهم الدرس المناﻫجي ،وﻫو ﻫذا الالنضباط لمفهوم المنهج عند
صحيحة؛ الجابري؛ فواجب عدم إغفال مجال البيان وسياقه؛ ليس المنهج إال في األبنية المنطقية ال ّ
ﻫهنا تأطير الزم لقوله:
"«السلفية االستشراقية» هذه تدعي أن ما يهمها هو ،فقط ،الفهم والمعرفة وأنها إذ تأخذ من
المستشرقين منهجهم «العلمي» تترك أيديولوجيتهم ،ولكنها تنسى أو تتناسى أنها تأخذ الرؤية مع
المنهج ،وهل يمكن الفصل بينهما؟"
ً
إن المكر الدسيس ال يكون أبدا منهجا ،المنهج االستشراقي هو الذي يتحتم على موضوعه وهدفه
كشفه ومواجهته بمنهج نقيض؛ أما هذا الذي يتحدث عنه الكاتب فهو آلية أو اآللية االستشراقية.
وبالطبع فهذا االتصال الجوهري للرؤية بالمنهج ينطبق بالواقع الحق والذي عبر كاتبنا عن
اعترافه به ،وأنه حق مشروع اعترافا لآلخر ،وليس للذات أو النحن األيدلوجي!
صفة العلمية للمنهج.واستنباطا جليا ال يمكن أن نسند لألدلوجة منهجا بال ّ
لن يجادل أحد إذن في الخبط الذي ﻫملج فيه الجابري ،والذي يجليه بما يكون ألولي البصائر
معنى التجلي قوله فقرة كاملة:
"إن نقد األطروحات عندما يغفل األساس المعرفي الذي تقوم عليه ،ﻫو نقد أيديولوجي
لأليديولوجيا ،وبالتالي فهو ال يمكن أن ينتج سوى أيديولوجيا 531-التيار السلفي .. .قراءة
أيديولوجية سافرة!"-
530ن م – ص61
415
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وإني وهللا ما أكاد أنظر كيف ينتظم ﻫذا الكالم حتى أحس حقيقة باضطراب على مستوى العقل
ي نحووكأنما ﻫذا أمامي كالم شيئا ما توشك شظاياه أن تنفجر ،ال وجه لها في أي منطق وال أ ّ
صنف المكافئ ي أسلوب! وذلك أن األساس المعرفي الذي تقوم عليه األطروحات ﻫو ال ّ وال أ ّ
لنظام الخطاب ،وﻫو في السّياق يساوي الخطاب األدلوجي وإيجازا على المجاز العقلي األدلوجة.
وإذن حسب ﻫذا الكالم :األيديلوجي ينقد األيدلوجي في ال أيدلوجيته ال موجودا أيديولوجيا=
سياسيا لينتج عنه أيديولوجيا ،من غير طرح عالقة الكينونتين أو المعسكرين األدلوجتين ﻫل ﻫي
التساوي أم االختالف أو حتى التناقض.
صحيح ،صحيح اإلمكان ﻫو أن انتقاد القسائم األدلوجية فيما بينها أو نقد األدلوجي أما ال ّ
لألدلوجي فهو ضمنيا وتقريريا يكون بين أنظمة خطاب أو نظام -خطابات ،األساس المعرفي
للفرقاء السّياسيين ،والسّياس ة وجب أن تكون ﻫي غاية الممارسة الفلسفية وغاية كل إنسان
تاريخي؛ فعن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم" :من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".532
أما الحجر السّياسي فهو من ميزات وخصائص االستبداد واالستعمار وربوبية البشر واألوثان.
ومن يركن أو يلق إليه بشبهة ضعف ﻫذا الحديث؛ فإنه إن يضعف اصطالحا ومعاييريا ،فهو
صحيح والحق ،وروحه ﻫي عين مبدأ األمر بالمعروف والنهي روح كيان المجتمع اإلسالمي ال ّ
عن المنكر كما بيناه في "تفصيل الخلق واألمر" ،وﻫي روح األمر باالجتماع على الفكر والكلمة
تفرقوا'﴾(آل عمران )321وشرط ﻫذا التجمع تص ُموا ب َح ْب ِل هللاِ جميعا' َوال ّ
والعمل واالتجاهَ ﴿ :وا ْع ِ
ﻫو االنخراط واالنضمام وليس االنعزال وترك األمر للسفهاء والخونة والعمالء والمستبدين
والجاﻫلين الوصوليين واالنتهازيين.
أقول وﻫكذا فلفظ الجابري وإن كان له من معجمه وقاموسه رنين فهو ملقى على عواﻫنه؛
ي
فاألساس المعرفي ﻫو عين المنظار األدلوجي ،أي ما مصدر ما س ّماه ب"الفعل العقلي"؛ وأ ّ
معنى سيبقى بعدﻫا لهذا التركيب من اللفظ:
"ﻫو نقد أيديولوجي لأليديولوجيا ،وبالتالي فهو ال يمكن أن ينتج سوى أيديولوجيا ،أما نقد
صبغة العلمية ويمهد طريقة اإلنتاج النظري ،أي «الفعل العقلي» فهو وحده الذي يمكن أن يكتسي ال ّ
الطريق بالتالي لقيام قراءة علمية واعية".
إن النقد األيديولوجي لأليديلوجي هو بين لوحتين:
ب -النقد الذاتي (التصحيح)
ت -وضع الدوغمائية = وضع العقائدية
531ن م – ص61
532من حديث رواه الحاكم في المستدرك( )8778-8802والطبراني في المعجم األوسط( )585والمعجم
الصغير( )808والبيهقي في الشعب( )60171والهيثمي في المجمع( )68707والسخاوي في المقاصد
الحسنة( – )6672ملتقى أهل الحديث-
416
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صراعذلك أنه ال يمكن إنتاج أي عنصر أدلوجي أو أدلوجة ثالثة أو أدلوجات ،ألن ﻫذا النقد وال ّ
الفكري وفي المشهد السّياسي ﻫو شهود وتحقق الذات األدلوجية.
وأمر ال ينبغي االستهانة به على مستوى التفكير العلمي والفلسفي ،ﻫو ال مرية أشد خطرا في
حفظ ع لمية الخطاب بالذات ،نعني الخطاب الفلسفي ،مما عرضنا له بالنسبة لمفهوم "المنهج"،
إنه ﻫذا التأطير الداللي لمفهوم "االبستيمولوجيا" المحدد بالطبع في البيان ،بيان الجابري ﻫنا:
"إذا نظرنا ،من هذه الزاوية ،إلى القراءات الثالث التي حللناها آنفا باختصار ،وجدنا أن ما
يجمع بينها من الناحية االبستيمولوجية – أي من ناحية «طريقة التفكير» التي تعتمدها كل منها-
هو وقوعها جميعا ً تحت طائلة آفتين :آفة في المنهج ،وآفة في الرؤية".
الرد إلى مفهوم "االبستيم" أن المشترك على بعد االبستيمولوجيا تقويما ﻫو صحيح بحسب ّ فال ّ
أن ﻫذه القراءات ،ﻫو أنها كلها قراءات أدلوجية؛ فاألدلوجي مصداقيته ذاتية وليست موضوعية،
وﻫي لن تؤدي إلى المعرفة المطابقة للواقع الحق .وبه يستقيم البيان ال في حدود الفقرة فحسب،
ولكن كل البيان ،أو لنقل ستخف وطأة االختالل ،وكذلك وﻫذا دليل توافق ،سنجد كل النقد الموجّه
ومن جميع مناحيه ووجوﻫه متسقا ومنتظما:
تقويم
ابستيمي
فاآلن ظهر أن الجابري لم يستقر له أمر ولم ينتظم له بيان؛ يفتقد للمرجع ،مرجع الحقيقة التي
تساءل عن مكان وجودﻫا فوكو ،وما كان ألحد أن يعلمها سوى التاريخ ومفاصل التاريخ الغربي
ومسار الفكر الفلسفي والسّياسي الغربي ،وﻫو الذي يفسّر ويصنف الحيّزات الفلسفية األوروبية
ويميز على نحو خطير الفلسفة األلمانية مثال ،وﻫو في نظري على حرف القطع ،الحقل التاريخي
والوجودي المولد لتفلسف جنوني صادق معبر كل التعبير عن الحقيقة التي يحول دونها
417
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ويحظرﻫا نظام الخطاب الغربي بالخصوص ،نيتشه وشبنهاور تقطيعة بارزة في نقد العقل
األوروبي والغربي .تساءل فوكو بملء فيه عن الحقيقة وعن مكان وجودﻫا ولما كان الشرط في
مصداقية السّؤال نظام الخطاب ،لم يجبه أحد! ثم أليس لنا أن نطرح سؤاال حقيقا بأن يطرح:
يوﻫان جوته صدح بشعره في األعالي ،أعالي سماء الغرب ،أليس شعره من روح فلسفية؟!
وإن الجابري ﻫنا يرصف لفظا خارج عالقة الفكر وال اللغة بالواقع ،وإنه لغريب ج ًّدا وﻫذا
تمادي في اللفظانية ،أن يسبق في وصف اآلخر القسيم والمغاير ،يصفه بالالتاريخية
والالموضوعية:
[الالتاريخية واالفتقاد إلى الموضوعية ظاﻫرتان متداخلتان تالزمان كل فكر يئن تحت ثقل أحد
أطراف المعادلة التي يحاول تركيبها ،الفكر الذي ال يستطيع االستقالل بنفسه ،فيلجأ إلى تعويض
ﻫذا النقص بجعل موضوعاته تنوب عنه في الحكم على بعضها .ﻫنا تذوب الذات في الموضوع
وينوب الموضوع عن الذات التي يتوارى ما تبقى منها ،يعيدا إلى الوراء ،بحثا عن سلف تتكئ
عليه ل ترد االعتبار إلى نفسها من خالله وبواسطته ...والفكر العربي الحديث والمعاصر من ﻫذا
القبيل ،ولذلك كان معظمه سلفي النزعة والميول ،وإنما الفرق بين اتجاﻫاته وتياراته ﻫو نوع
533
السلف الذي «يتحصن» به كل منها].
إن وضع الجابري ﻫنا واضح بإشكاالت جدية تحول دون الطرح العلمي فلسفيا وتاريخيا؛
إشكال وجوب االنتقال من المرجع األدلوجي إلى المرجع التاريخي موقع الحقيقة التاريخية
صحيح دون غيره على اإلطالق، المطابق تماما لموقع الحقيقة السّياسية ونظام الخطاب ال ّ
واإلشكال الثاني ﻫو عدم الفصل المنهجي بين الذات ،ذات المفكر السّياسي والتاريخي والموضوع
والمنهج .وما كان له أن ذلك ألنه ينطلق وينسج على مرجع أدلوجي ينفي القيمة التاريخية
المؤثرة في البناء والحل التاريخي لما يراد به من لفظة "التراث" وﻫو أحد طرفي المعادلة على
حد تعبيره ،والحق إن ﻫذا لهو مكمن القضية في حقل النظر؛ وﻫذا بالتحديد ﻫو موقع التراث
نقيضّا لالستشراق ،ويكفي أن تجد موضعا داخل منطوق الجابري وفيه ﻫذه المادة ذات القيمة:
[أطراف المعادلة التي يحاول تركيبها].
ما دمنا على قرب من موقع يسهل فيه التوضيح ،وغرضنا األساس ﻫو علمي وعملي ،فبنية
مكونات العقل
النص السابق للقراءات -دعنا ال نس ّميها ﻫنا سلفية في سياق التوضيح -باعتبارﻫا ّ
533ن م – ص61
418
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
العربي اإلسالمي :اإلسالميون -الليبراليون أو التغريبيون -اليساريون! فهذا ال يصح البتة أن
نس ّميه منهجا وال عالقة له بالمنهج إال أن يكون دليل غياب المنهج؛ ﻫي رؤية مخصوصة بمنظار
خاص ،عين الجابري بالذات ،واألساس والدعائم التكوينية والتشكيلية لفكره الممثل له ذاتيا الوعي
التاريخي والوجودي ،ﻫو ما سيرسم أو ترتسم له الرؤية وﻫيئتها وأبعادﻫا التاريخية والوجودية.
لكن ﻫنا بالذات وفي ﻫذا الموقع تأتي عالقة األنساق العقلية التي توضع عليها القضايا الوجويدة
والمسائل التفكيرية ،عالقتها بدرجة توافق العقل والرائي في معطياته المعلوماتية وسعته العقلية
والتفكيرية مع الواقع والحقيقة؛ وبإيجاز ملخص ،فهذا العقل سيكون ﻫو المرجع .ومن ثمة ال
سبيل للحديث عن المنهج ألن ﻫذا األخير يستوجب مرجع الحقيقة ،المرجع غير النسبي ،غير
األدلوجي.
إن الجابري – وقبيله في العقل العربي اإلسالمي عموما -نراه حين عرض للقراءات الثالث
صة؛ ومن ضمن ما حدد به ما س ّماه بالسلفية
التي سماﻫا بالسلفية ،قد حددﻫا بسبيل الميزات الخا ّ
االستشراقية ما يلي وبالحرف المبين -ال باللفظ فحسب:-
[الرؤية االستشراقية تقوم ،من الناحية المنهجية ،على معارضة الثقافات ،على قراءة تراث
بتراث .ومن هنا المنهج الفيلولوجي الذي يجتهد في رد «كل» شيء إلى «أصله» .وعندما يكون
المقروء هو التراث العربي اإلسالمي فإن مهمة القراءة تنحصر في رده إلى «أصوله» اليهودية
والمسيحية والفارسية واليونانية والهندية ...إلخ].
نغض الطرف عن الشطر األول؛ فمعارضة الثقافات وقراءة تراث بتراث هي آليات منهج
وليست المنهج؛ وهذا هو ما يجليه لمن يبصر ويستبين ما يسمع كون المقاربة اللغوية والفيلولوجيا
مكونا نسقيا ً.
آلية وليست ّ
أما الذي يهمنا في موقع سياقنا فهو الشطر الثاني من ميزته التي جعلها خالصة مميّزة لهذه
الرد إلى األصول اليهودية والمسيحية والفارسية واليونانية والهندية هو
السلفية االستشراقية .فإن ّ
المهمة؛ ومنه فوظيفة االستشراق هي نفي التراث العربي اإلسالمي باإلصرار العملي المنهجي
على الحفاظ والتوظيف لمفهوم التراث بداللة مغرضة ال تنتظم ومنطق البيان كما سبقت اإلشارة
صة االستشراقية التي هي السعي في قتل الذات العربية اإلسالميةصة بالخا ّ
إليه .فلنسم هذه الخا ّ
وإبادة الكيان العربي اإلسالمي على مستوى الوعي التاريخي .
419
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الخاصة الحقيقة
المنهج الجدلي االستشراقية الوجودية
بالطبع نحن ﻫنا كما يستبين ذلك القارئ المتتبع ،لم نضع المقابل لطرح الجابري ،وإنما أضفنا
صة االستشراقية ﻫي األمر إليه ما ﻫو امتداد له وإن لم يكن في مقوله وال حتما في مدركه .فالخا ّ
الظاﻫر للجابري وفي نفس الوقت تمثل – ال تساوي -المنهج االستشراقي ،المجهول حال غياب
الوعي التاريخي ،القادر وحده على استشعاره ورؤيته والوعي بمدى خطره على العقل العربي
اإلسالمي في كيانه وفي فاعليته الوجودية والتاريخية .وﻫذه العالقة في الحقيقة ،عالقة الجهل
بها ،ليست بما يدعو إلى االستغراب بالنسبة للرؤية االستشراقية بنحو خاص .ألنها أو ﻫي على
نفس النسق الذي احتوى نيتشه وﻫو يصارع إلى حد الجنون ،إنها وأيم الحق قصة المسار الفلسفي
الغربي من دون أدنى ذرة من الشك ومرتكز جد ﻫام ضمن مرتكزات أخر في المدخل إلى نقد
العقل األوروبي الغربي .ولهذا كذلك مهر فوكو بطرح سؤال الحقيقة ولم يجبه أحد ،ولم يتساءل
ل َِم ل ْم يجبه أحد؟
أما موضع السّؤال وموضوعه ،فهو القضية كلها ،وﻫي المنطقة المحظورة ،ال على مستوى
السواد من األنام ،ولكن يا للحسرة ولمأساة اإلنسان! سلطة على العقل الفلسفي ومن بعده على
مسافة ،العقل السّياسي؛ ﻫو نظام خطاب وحشي واضطهادي ضد روح اإلنسانية وروح التاريخ.
420
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صورة واضحة في تقويم بمنظار ﻫذه الزاوية والمعالجة في الرؤية التي تجلت لنا ،تظهر ال ّ
عقل عبد هللا العروي ، 534وال يؤبه بما ال يكأل وال يغذو؛ فهذه أمة من بعد أمة ،والحال في
حرا في غيابات الموات التاريخي .إن مثل مثقفينا من حيث ﻫم قد تسلسل من الهزال سقوطا ًّ
مستقر الحقيقة التاريخية،
ّ و المآل بمعنى التأويل في ليسوا التاريخي، اختصوا في النقل المفاﻫيمي
القوة في
ليسوا سوى ناقلين معجميين مفاﻫيميين ،بالطبع ليس للمؤسّسات التاريخية المحملة ب ّ
التطور التاريخي مما بيناه في كتابنا "جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي أو المسلمون
والتاريخ " التي صعد إليها وولجها الغرب فعليا في األطوار التاريخية ومؤسّساتها من الدولة
والدستور والمواطنة وغيرﻫا؛ فالترجمة أو قل إن غاية الدعوة الحداثية وقصارى منالها ،ﻫو
السير على ﻫامش موكبها مقتصرة على االحتفال بنقل مفاﻫيمها إلى قومهم الذين يستعصي عليهم
فهمها؛ وﻫذه حظوة ال شك حين ال يكون من أمل في صلة بهذا الطور أو األطوار التاريخية
صعود إلى القمر ،فليكن بالمفاﻫيم! وﻫذا موقع مقول "أوهام النخبة" في ومؤسّساتها كاألمل في ال ّ
"نقد المثقف" لعلي حرب (بدل 'أوﻫام النخبة أو نقد المثقف) ،موقع يعطي قيمة إيجابية للمقول،
وكذلك يكشف ويشخص آليات القول وشبه النسق التفكيري لعقل علي حرب بالمعنى الفكري
الذاتي أو السّيكولوجي منطقيا .فالقيمة مستم ّدة من الواقع الذي ﻫو المعبر عن الناس واآلدميين
صورةجميعا الذين يتواجدون تحت خيمته ال ﻫم يعبرون عنه .أما التحليل الذي به يتوصل إلى ال ّ
الحقيقة لهذا الواقع وتحديد سبل الخروج من لبسه وخناقه ،وإمكان أو إمكانات ﻫذه الحلول
والسبل ،فنفس اإلشكال التكويني يطرح عائقا ،إذ ال يميز علي حرب بين الحقائق من جهة
مصادرﻫا ،فيضع المطلق مع النسبي:
«وفي ﻫذا ما يوضح مجددا موقفي النقدي من يورغن ﻫابرماس .لقد اعتبر ﻫذا الفيلسوف أن
مشروع األنوار صالح في أسسه النظرية ،وأن الخلل الحاصل ﻫو أمر عارض ال يطال الجوﻫر،
ولذا يمكن معالجته ب ُحسن التطبيق واالستخدام .وﻫذا موقف ماورائي ال يختلف كثيرا عن سوء
ينزه األسس ويعصم النماذج ،على ما ﻫو موقف اإلسالميين من الفهم أو التطبيق .كال الموقفين ّ
535
اإلسالم ،والماركسيين من الماركسية».
وﻫذا ليس منطقيا ،ولكن ﻫو من بيان العلوم اإلنسانية الالمنطقي ،ألنه ببساطة ينقض حقيقة
"البُعد " فمثله ﻫنا كمثل من يضع في الميزان نفسه على وجه المشاكلة التصنيفية ،يضع حبة رمل
534في تمهيده ل"مفهوم العقل" أعطانا العروي أﻫم ما يمثل -وإلى حد بعيد -ما يحدد عقله المفكراتي
الرجل وﻫذا المفكر وﻫذابأبرز ما يكون من النسق العلمية والفلسفية ،التي ﻫي بحق صلب ﻫذا العقل ،وﻫذا ّ
المثقف .لقد كنت وال أزال أجعل بين العروي والجابري على نحو مخصوص ،أجعل بينهما فارقا في الحصافة من
حيث ﻫي خصيصة في طبيعة القول نتاجا وإبانة عن الفكر ،كما ﻫي خصائص المعادن .ولكن إذا نحن تجاوزنا ﻫذا
التمايز ،وجدنا العروي مفكرا ومثقفا عربيا كذلك رﻫن سياج الشّروط التاريخية التكوينية ،التكوينية في أستاذيتها،
والتكوينية في حقلها وأبعادﻫا المعرفية .وﻫذا ما يظهر للنقد العلمي والفلسفي المكتمل ،أي الذي يستوفي أﻫلية الوزن
المفاﻫيمي ،فال يختل بناؤه التفكيري ،وفي أخطر مواقع الكلمة يجتمع عليها.
535أوهام النخبة أو نقد المثقف :علي حرب -المركز الثقافي العربي -ص334
421
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تحرر من سياج اإلديولوجية والتغريب بجانب مجرة فما فوقها .ومنه فليس عجبا على رجل م ّ
واالستشراق ،يبين عرضه وبيانه في المسألة التاريخية لألمة اعتماده نهج التحليل والتركيب
بأعلى درج ة من التنزيل والمنطقية والدقة ،قليل من بلغها من مطلق المفكرين وحملة األقالم،
ليس عجبا على ﻫذا المنظار أن يكشف الباطل المنهاجي المغرض:
« ...فنحن نرفض – ومعنا كل الحق -منهج المستشرقين في دراسة اإلسالم ألنه منهج
مصطنع جاء وليد الالﻫوت األوروبي ،وألنه منهج يقصر عن فهم طبيعة األديان السماوية،
536
ويحاول أن يضعها في صعيد واحد مع االتجاﻫات الفكرية اإلنسانية».
فالحقيقة الوجودية ال مماراة ﻫي كفل المنظار والمنهج األصح منطقيا؛ ﻫي المرجع وال منطلق
لها من حيث البعد القانوني إال الكلي ،المنطبق بداﻫة ومنطقا بالقانون الكلي السماوي بآلية
الربانية؛ فالمرجع المنطقي ﻫو الدين.
422
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
423
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الثاني
424
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ي في الديكارتية! ّ
والغزال ّ سينوي
-3الصّبغ ال ّ
في "نماذج تبني العقل العربي واستيعابه" أي من طرف الغرب ،يقول الدكتور محمد ياسين
عريبي:
"سبقت اإلشارة إلى أن الدليل الوجودي اكتشفه الفارابي ووظفه ابن سينا على نطاق واسع في
صورة التحليلية الموجبة من خالل
تأسيس مذﻫبه ،وقد تحددت صور ﻫذا الدليل الثالثة كما في ال ّ
صورة التحليلية من خالل التحديد التام عن طريق النفي للنقصان مفهوم الكمال المطلق وال ّ
الرياضية عن طريق المقارنة لفعل الضرورة المنطقية .فكما صورة ّ واإلثبات للكمال ومن خالل ال ّ
أن الضرورة المنطقية تقتضي مساواة زوايا المثلث لقائمتين فإن ﻫذه الضرورة يلزم عنها الوجود
العيني من مفهوم الوجوب ،أي الكمال المطلق.
تبنى القديس أنسلم 537المعاصر للغزالي ﻫذا الدليل ألول مرة في الغرب ونسبه إلى اكتشافاته،
مما جعل يوسف كرم يعتقد في صحة ﻫذا االكتشاف لهذا القديس . 538وإذا كان أنسلم اقتصر على
صورة ما صورة الكمالية فإننا نجده في نفس الوقت ال يتجاوز بهذه ال ّ
تحديد ﻫذا الدليل من خالل ال ّ
نجده عند الفارابي وابن سينا.
يوضح ابن سينا أولية ﻫذا الدليل الوجودي في النفس من خالل قوله تعالى( :سنريهم آياتنا في
اآلفاق وفي أنفسهم )...ويرى ابن سينا كما في إشاراته وتنبيهاته أن وجود مفهوم هللا في النفس
كإدراك أولي لدليل قاط ع على وجوده المتحقق خارج النفس .ومفهوم هللا ككمال مطلق ﻫو أعلى
تصور في الكمال ،وال يوجد ما ﻫو أعلى منه ،ويوضح الفارابي كما سبقت اإلشارة درجات ال ّ
تدرج كمال المفاﻫيم في النفس وما يقابلها في الخارج من المفاﻫيم في العلم الطبيعي إلى مفاﻫيم
تصورات الذﻫنية لها
الرياضي إلى مف هوم هللا األكمل واألكبر في وجوده ومعناه ،وكما أن ال ّالعلم ّ
ما يقابلها في الوجود الخارجي المركب ،فإن مفهوم الكامل بالضرورة له وجوده العيني في
537
St. Anselm
538قارن يوسف كرم (تاريخ الفلسفة األوروبية في العصر الوسيط) ص ،73حيث يدعي بأن هذا الدليل للقديس
أنسلم (ولم يأخذه من غيره ،ولكنه ابتكره من عند نفسه ،فعرف باسمه) -المرجع-
425
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الخارج ،لما لهذا الوجود من تطابق بين الماﻫية والوجود بالنسبة لألول الذي تكون ذاته وصفاته
539
متطابقة".
"الدليل الوجودي
صفات عينيقوم ﻫذا الدليل على توحيد المعتزلة بين الذات اإللهية وصفاتها ،أي القول بأن ال ّ
الذات ،وقد تحدد ﻫذا الدليل على يد الفارابي ،وما تميز به ابن سينا ﻫو التوسع في توظيف ﻫذا
الدليل ،الذي بدونه ينهار مذﻫبه الفلسفي ،وقد أوضح كل من الفارابي وابن سينا ﻫذا الدليل في
ثالث صور أساسية على النحو التالي:
تنويه ياسين عريبي بادعاء يوسف كرم في "تاريخ الفلسفة األوروبية في العصر الوسيط"
بأن الدليل الوجودي من ابتكار القديس أنسلم ،وقد سقنا نفس االدعاء والقول على سبيل النقل
واإلثبات أيضا في نقدنا الكوجيتو الديكارتي في "األصول الحقة للرياضيات أو المدخل إلى
الرياضيات ونقد الدليل الوجودي" ما ضمنه الدكتور كمال الحاج في ترجمته لتأ ّمالت ديكارت
ّ
من تعليقات أعطاﻫا إميل ثوفيريس 541سنة ..2616
ﻫذا التنويه ،وأشير كذلك إلى غالب ظني بأن كتاب الدكتور عريبي ،قد مر بين يدي من قبل،
لكني لم أﻫتم به كثيرا وما أظنني قرأت منه إال صفحات معدودة لعدم موافقة توجه التفكير
واالﻫتمام حينها ،كما ﻫو الحال بالنسبة لكتاب "استشراق" إلدوارد سعيد؛ فقد تقرأ الكتاب ،أو
عمل فيلسوف ،وال تنفذ إال إلى ما يوافق غايتك من ﻫذا االضطالع والقراءة .وﻫذا بالضبط ما
426
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وقع لي بشأن موضوع رد األفكار من حيث انبثاقها إلى أصحابها أو السّطو الفكري والتفلسفي
حتى ،وأعني ﻫنا تحديدا أصل الكوجيتو الديكارتي والدليل الوجودي .وإنه ألمر مسدّد و ُموفق أن
مجيئ القدر بهذا الكتاب ياسين عريبي من جديد مساوق تقريبا عقبا لما سيجده القارئ من
تساؤالت عرضت لي في خضم النظر واالﻫتمام المستجد الذي فرضه عملي ﻫذا ،بوجود رابط
مثير ليس فحسب في األفكار بل في التعابير واأللفاظ بين ديكارت والفارابي وابن سينا والغزالي:
"ونظرت في كتاب القانون البن سينا ،وأجد تقريبا من بيان وكالم ديكارت حول القلب
واألوردة والشرايين والرئة والجهة العليا من الجسم في كيفية الدورة الدموية والحرارة وسائر
الخصائص من الليونة واللزوجة وغيرها .وكذلك فكرت في العودة إلى بيان الغزالي في الشك،
ولم يتهيأ لي بعد ،حيث مكثت أعيد قراءة ما جاء عند الفارابي بخصوص علم هللا تعالى وعدله
سبحانه ،والقضاء والقدر ومسؤولية اإلنسان".
البد من التذكير بأن البيان الفلسفي ال ينيغي أن يخرج عن طبيعة البيان العلمي ،وأيّما كتاب
وكالم ليس يستفيد منه المخاطب ،وجوﻫر األعمال بأﻫدافها الحقة والممكنة ،ﻫو كالم غير علمي.
ومنه كان الوضوح والقصد شرطين وخاصتين الزمتين في علمية الخطاب وفلسفيه ،واعتوار
الكالم فقد أحدﻫما أو كليهما دليل على فساده إما طبيعة ،أي أنه ليس بعلمي وال فلسفي أو من
صحّة والخطإ .ومنه جاء قولنا وحكمنا في نقدنا للدليل الوجودي
حيث القيمة الحقائقية من جهة ال ّ
عند ديكارت:
«ولما كانت األفكار تشبه صورا فمن الالممكن أن توجد فكرة إال وتبدو لنا أنها تمثل شيئا من
542
األشياء»
بمعنى إن ﻫي إال محض حدوسات ال تعدوﻫا ،والمحدوس عليه ليس يختلف إطالقا عن
الحواس ،فالنفس والعقل والذﻫن وغيرﻫا كل أولئك مخلوق مأسور الخلقة .فالقيمة الحقائقية
542ن م – ص33
427
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الوجوديّة ﻫي نفسها .وﻫذا ﻫو الذي يجعل الكالم يكاد في محوره مكرورا في أغلبه ،وفيه مسحة
من التقرير المسلم به الواضح في كثير من ﻫذا المعنى المتكرر:
543
« -الًحاجةًإلىًشيءًآخرًمنًأجلًأيضاًحه»"
مجرد الفكرة (كلما فكرت بموجود أول أعلى، ّ "ﻫو ﻫنا بالضّبط يعود إلى البناء على
واستخلصت ﻫكذا صورته من نشاط ذﻫني) ، 544فكرة اإلله ،ليستنبط منها الوجود ،ضمن
صفات جميعا التي ﻫي بالحق حقا في اإلله .وﻫذا ﻫو الموضع الفلسفي الذي أشرنا إليه من قبل. ال ّ
أما بخصوص البرﻫان فديكارت يراوح مكانه ،وال يخرج عن االستنباط التالزمي إما من وجود
صفات بعضها من بعض (مثال المثلث المثنى الدال على المراوحة والمأزق البرﻫاني) أو ال ّ
شرط الوجود مسلمة أولى، صفات من الذات الحقة (حل ما بعد االعتراض)؛ وفي كل وجب ْ ال ّ
وحوله السّؤال!
المكون البرﻫاني عند ديكارت بأن النّسق ّ كما نعيد ونكرر بقدر ما يتكرر ﻫذا االستشهاد أو
لشرط وجود ﻫذا لشرط التالزم المستوجب بالبداﻫة والتسليم ْ الهندسي مخالف للوضع القائم ﻫنا ْ
التالزم ،مما ال ﻫو غير مستوف ﻫنا بل ﻫو المقصود والمطلب المنشود.
ولكن المثير في كل ﻫذا والعجيب والغريب ﻫو أنه من بعد تذكيره لنا وتنبيهه إيانا استبعاد
وقوعه في البناء على ما ليس يصح حتى يتأسّس عليه برﻫان استنباطي كمثله بخصوص إمكان
االرتسام داخل الدائرة للرباعي مطلقا وللمعين ،وأنه ال يبني إال على المحقق عنده والواضح
والمميّز ،ومنه وجب الميز بين ما يحق من االفتراضات ليصح أن يكون مسلمات وما ليس يصح
من ذلك وال يحق ،نلفيه في حالة تدعو للغرابة والعجب يقول:
صحيحة «ﻫناك فرق كبير بين االفتراضات الخاطئة ،كهذا االفتراض األخير ،وبين األفكار ال ّ
التي ولدت معي ،والتي ّأولها وأﻫ ّمها فكرتي عن هللا».
«.., il y a une grande différence entre les fausses suppositions, comme est
celle-ci, et les véritables idées qui sont nées avec moi, dont la première et
principale est celle de Dieu.»545
, toutes les fois qu’il m’arrive de penser à un être premier et souverain, et
544
de tirer, pour ainsi dire, son idée du trésor de mon esprit
545
DESCARTES MÉDITATIONS MÉTAPHYSIQUES, p29
428
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وإذا كان ما بيناه ﻫنا كافيا كل الكفاء في حقيقة خطإ برﻫان ديكارت ،وتثبيت وتحديد الوجه
صحيح في طريقة ونسق برﻫان وجود هللا تعالى على أقوى وأتم ما يكون به البرﻫان؛ فإن ﻫذا ال ّ
صة في اختالط األمر على ديكارت ،له من الواضحات ما ال يمكن أن يذﻫل عنه إال من كله ،خا ّ
546
استغشى بصره ،أﻫ ّمها استكثار البَيان حول ذات النقطة بكثرة األمثال وتكرر ذات األلفاظ"
سر اعتبار رائز مبدأ االقتصاد تناسبا عمليا في"وفي التأ ّمل السادس ال شك يتبيّن ويف ّ
االستدالل على ضالل طريق البرﻫان ،مما يوضحه أكثر وبصورة ال تترك مجاال للمحاجة
والجدل ،يوضحه أن كالم ديكارت كله الذي طال عدة صفحات ،وبمعنى يكون ﻫو نفسه مترددا
مكرورا في الفقرات ،يغني فيه كون الحقيقة والوجود مستم ّدين من الحق؛ وذلكم ﻫو عين
شرط «المباالة»
المضمون الفلسفي الديكارتي لمفهوم «اإلرادة» ،وبالتحديد للوصل بين ْ
و«العقل» بالحكم الحق؛ الذي به نصل إلى الحقيقة العظيمة التي نزلت بها التوراة والزبور
واإلنجيل والقرآن ،بأن هللا تعالى ﻫو الحي القيّوم ،الحقيقة التي كانت ركن الفلسفة الحقة عند
فيثاغورس وسقراط ومن تبعهم من الحكماء والفالسفة الكبار كالكندي والفاربي وابن سينا رحمهم
هللا تعالى.
ًًًًًعلىًهذاًالمنوالً،وكماًأنَّ ًالرّياضياتًينبغيًأنًتكونًوجوديّةًوواقعيّةًفيًوجوديتهاً،فإنهً
ليستًينبغيًلهاًأنًتتبعًاإلنسانًفيًذلكًكليّةً،بلًالعكسً،لهاًأساسًوجوديًيبنيًعليهًاإلنسانً
548
صرحها".
429
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"وﻫذا ﻫو الذي يجعل الكالم يكاد في محوره مكرورا في أغلبه ،وفيه مسحة من التقرير المسلم
به الواضح في كثير من ﻫذا المعنى المتكرر:
« -الًحاجةًإلىًشيءًآخرًمنًأجلًأيضاًحه»"
في 'المبحث األول :تأسيس األنا المنطقية' من 'الوحدة األولى :مالمح العقل التاريخي العربي'
يعرض لنا الدكتور عريبي بنحو جد هام ومميّز من حيث قيمة العمل الفكرية والعلمية -إال
االختالل البين والواضح فيما يهم البنية والبيان المنطقي -التي تتبوأ درجة األحكام الواضحة في
أخطر القضايا وأدعاها لألعمال الجبارة وجهود ذوي العزم ،يعرض الدكتور نموذجا مثال أقصى
في حقيقة تغريب العقل العربي اإلسالمي في صياغة مساوقة لتقديم "تأسيس األنا المنطقية" البن
سينا ،يرد فيه مقولة مرتكزا ً للفلسفة الغربية "الكوجيتو الديكارتي" إلى أساسها وسنخها األصل
األقرب والمباشر.
تصور يفترض فيه وجود النفس اإلنسانية مفصولة عن ّ ينطلق ابن سينا في شكه هذا بوضع
تصور على غرار الفرض في الهندسة ثم البرهان ثم النتيجة فيقول( :لو خلق الجسم ،ويضع هذا ال ّ
اإلنسان دفعة واحدة وخلق متباين األطراف ،ولم يبصر أطرافه ،واتفق أن ال يمسها وال تماست
ولم يسمع صوتا . . . .جهل وجود جميع أعضائه ،ويعلم وجود إنيته شيئا مع جهل جميع ذلك،
وليس المجهول بعينه هو المعلوم ،وليست هذه األعضاء لنا في الحقيقة إال كالثياب).549
وبغض النظر عن األقيسة الشرطية المتصلة والمنفصلة التي يوظفها ابن سينا في هذا النص،
فإنه يمكننا توضيح هذا اليقين على النحو التالي:
البرهان :تستطيع هذه النف س الناطقة أن تثبت وجودها كإنية مستقلة عن الجسم من خالل تعقلها
لذاتها.
430
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
النتيجة :من حيث أن المجهول (أي الجسم) ليس هو المعلوم (النفس) وذلك حسب مبدإ عدم
التناقض ،ومبدأ الهوية ،فإن النفس وباألحرى العقل غير الجسم وبهذا تكون عالقة النفس بالجسم
كعالقة الجسم بالثياب.
-2من الشك في اإلحساس والتخيل إلى إثبات مغايرة الجوهر العقلي للجوهر الممتد:
في نص آخر من الشفاء ،يشك ابن سينا في عالقة اإلحساس والتخيل بالجوهر العقلي ،ويصل
من خالل هذا الشك إلى القول بأن حقيقة الجسم هي االمتداد ،وحقيقة النطق هي التعقل والتأمل،
الرجل الطائر ،والذي يمكن تسميته بيقين إثبات وقد جرت العادة بتسمية صورة هذا الشك ببرهان ّ
الذات أو يقين الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) ، 550ويقول ابن سينا في هذا السّياق:
(يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة واحدة ،وخلق كامال ،لكنه حجب بصره عن مشاهدة
الخارجات . . .وفرق بين أعضائه فلم تتالق ولم تتماس ،ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته ،فال
يشك في إثباته لذاته موجودا وال يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه . . .وال شيئا من األشياء من
خارج ،بل كان يثبت ذاته ،وال يثبت لها طوال وال عرضا وال عمقا ،ولو أمكنه في تلك الحال أن
يتخيل يدا أو عضوا آخر لم يتخيله جزءا من ذاته ،وال شرطا في ذاته ،وأنت تعلم أن المثبت غير
الذي لم يثبت ،والمقر به غير الذي لم يقر به ،فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية على أنها
هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم تثبت ،فإذن المثبت له سبيل إلى أن يثبته على وجود النفس
شيئا غير الجسم ،بل هو غير جسم ،وانه عارف به مستشعرا له ،وإن كان ذاهال عنه يحتاج إلى
أن يقرع عصاه).551
550ما يعنيه ديكارت بقوله (أنا أفكر إذن أنا موجود) هو المطابقة بين العقل وتعقله لذاته أي المطابقة بين ماهية
العقل ووجوده ،وهذه المطابقة هي المنطلق ا لذي يتخذ منه كل من ابن سينا وديكارت مذهبهما في المعرفة
والوجود وال فرق بينهما إال في العبارات -المرجع-
551ابن سينا :الشفاء ص 083وما بعدها.
431
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
شيء واحد ،وهو مغاير في وجوده للجسم الممتد .ومن المرجح ترجيحا ً جزميا أن ديكارت في
تمييزه بين الجوهر المادي والعقلي اعتمد على هذا النص وشروحه عند غليوم االفروني أسقف
باريس في القرن الثالث عشر .ومما ال يخالجنا الشك في معرفة ديكارت لشرح معنى الجوهر
العقلي بصورة أوضح كما عند فخر الدين الرازي في كتابه المباحث المشرقية القترات هذا
الرد ود على هذا التحديد القائم على التطابق بين وجود العقل وماهيته،
الشرح باالعتراضات و ّ
الردود بعينها في الفلسفة الديكارتية ،بل تطابق
وكما سنعرف فيما بعد تكرار هذه االعتراضات و ّ
التعبيرات على الجوهر العقلي في فلسفة ابن سينا وديكارت لديليل واضح على أن تبني ديكارت
للمذهب السّينوي بدأ من هذا الشك واإلثبات ،بل ال نجد فرقا بين قول ابن سينا على سبيل المثال:
(شعورنا بذاتنا هو نفس وجودنا) ، 552وقول ديكارت( :أنا أفكر إذن أنا موجود) .وهذا ما أكد
عليه المستشرق اإليطالي فورالني ].
554 553
يموت اإلنسان ويبقى عمله ،وخير الكتابة وأقومها ما أسس بنيانه على الحق وما كان غايتها
الحق .قد يكتب اإلنسان لنفسه ،ويريد بذلك الحق ال يلتفت إلى أي كان وال إلى ما يظن أنه في
منظار النَّاس مستكرها ً جعل مكروها ً أو مستحبا ً جعل محبباً ،فالمكروه والمحبب ما كان بمرجع
صواب مرجعه ليس إال للحق. الحق ،والخير والشر والخطأ وال ّ
صدورا عن
ً عندما أراد هللا تعالى أن يكون لي وصل بالحسين بن سينا – رحمه هللا! -قدر ذلك
صفات فيما أسميناه ب"التفرق الخبري" أو "التفرق من جهة الخبر" الذي نتجت عنه إشكال ال ّ
منكرا من البدع ممثال في الفرق
ً الفرق الكالمية ،مقابل "التفرق من جهة األمر" الذي ولد بدوره
فرقت جمع األمة وأحالته بددًا .وإنه ألمر عجيب أن ال أركن حينها إلى المذاهب الفقهية التي ّ
مقرر سواء عند المصادرين لمنبر "أهل السنة والجماعة" وأيضا ً لمن يصادر ويمثل القول ال ّ
الفلسفة ويتكلم باسم أهلها ،قولهم جميعا ً بأن ابن سينا يقول بأن هللا – وسبحان هللا عما يتقولون!-
ال يعلم الجزئيات؛ فأجمعت أمري وشحذت عزمي على أن ال أبرح حتى أقف على عين ما خرج
من لسان الحسين وما خطته يمينه ،وصدق حدسي؛ فإن هذا التخلف لألمة في البأس الشديد وفي
432
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المادة ،التخلف الغريب الرهيب بالمسألة البعدية له ما يساوقه من تخلف في الفقه والعقل
والرهب.
الحضاري والحقيقة العلمية ،له أسباب قائمة ودعاوى باطلة في ذينك الغرابة ّ
مؤطرا بهذا السّؤال ،وهو سؤال وإشكال خطير ،حتى ً إذن لقد كان توجهي األول نحو ابن سينا
ذكرا البن سينا عند هؤالء وفي نظام خطابهم إال مقترنا ً بالزمة القول المفترى أنك ال تسمع ً
الخبيث ،ولهذا ذ ّم هللا تعالى المقلدين الذين يعطلون عقولهم الناعقين بما ال يفقهون ،إنما هم
مقرري برامج التكوين والمقول في جامعات عهد االستعمار متبعون لمشايخهم وللمستشرقين ّ
الجديد .ومن أجله كذلك ،ولكون العقل الحضاري المادي االستخالفي الذي ال تمكين لدين هللا
تعالى من دونه ،لكونه غير منفصل عن حقيقة الفلسفة الحقة كمفهوم ونظمة وجب اعتبارها كما
صناعة والبأس الشديد ،وأجله كان ال بد أن نولي هذا األمر ما حق له من كانت منتظمة لعلوم ال ّ
االهتمام ،فكان الهدف هو البرهان على أن هؤالء الفالسفة سواء من أهل يونان أو المسلمين مثل
الكندي والفارابي وابن سينا ،هم أعرف باهلل تعالى ،وأنهم أشد إجالال وتوقيرا ً وتسبيحا ً لذي العزة
والجالل.
لعل هذا كان أو هو التفسير األقرب عندي لعدم كفاء االستشعار وإدراك االتصال الثابت
لديكارت في دليله الوجودي بالحسين بن سينا ،حين عرضته للنقد ،مع أني ذكرت عالقته بمقول
الواجب الوجوب:
"لننتبه جيدا أن ما يورده ديكارت نفسه ﻫنا عن محتمل ووارد االعتراض ،في حياته ومن
الجوﻫر الال ُمتنَاﻫِي وجودا،
بعده ،عن ﻫذه الحدسيّة التامة الوضوح ،ﻫو " :أرى بجالء أن في ْ
الجوﻫر ال ُمتنَاﻫِي" المنطبقة بحقيقة العلية ومفهوم العلة الوجوديّة ،وأن األكمل يعطي
أكثر مما في ْ
الوجود لما ﻫو أقل كماال ،وإذن فمنتهى الكمال مصدر الوجود ،فإذن ﻫو موجود؛ وبما أن الكمال
ليس يتكافأ وجوديا وحقيقة إال باإلله األحد؛ وإذن فاهلل تعالى الحق المبين موجود.
أوال إن البرﻫان بالعلية أو التعليل ﻫو ذاته شبه مفهوم «واجب الوجود» .وﻫذا مثبت صيغة
صة وعنصر برﻫانية منذ كان ﻫذا السّؤال .وإذا احتيج له لتثبيث وقبول التقرير السّلبي لخا ّ
الكمال ،كان ﻫو مناط اإلثبات ومرتكز البرﻫان.
ومنه لم يكن بد لديكارت سوى تجاوز ﻫذا التقرير السّلبي ،أي الحدسيّة في اعتبار عنصر
ّ
وبالطبع فاألمر الثاني جوﻫره.
الكمال ،وذلك بالبناء على كامل الحق الواضح المميّز المنحفظ في ْ
433
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
من تكافؤ الكمال واإلله ليس ضروريا فيه مسبقا وجود تحقق التكافؤ ،أي وجود اإلله (وسبحان
555
هللا الحق المبين!)".
"إن هذا ليس إال عودا أو قل مراوحة للمنطلق لنقطة الموضع الفلسفي الذي بلغه العقل الفلسفي
556
من قبله شاخصا في شبه مفهوم «واجب الوجود» ووجوب صفاته العلى وأسمائه الحسنى".
إذن ليس لي فرق أن كان الكوجيتو مقوال أو بسديد البيان مدركا ً ودرجة عقولية ،أن لم يكن
ديكارتيا ً أصال وإنما سينوياً ،فإني قبل هذا لم أعلم فقط عن خطإ ابن سينا في أسئلة تعتبر هي
سنام الفلسفة وتحديدًا سؤال القضاء والقدر والجبر واالختيار والمسؤولية اإلنسانية ،وهذا بالطبع
ي اتصال درجة العقل الفلسفي بسؤال طبيعة علم هللا -سبحانه تعالى! -بل عن الحقيقة متصل س ّ
الواضحة مما جاء بيانها وبرهانها على قصور العقل الفلسفي البشري وإلى يومنا هذا وعدم
اهتدائه إلى قانون التفصيل:
صعود اإلدراكي للعقل اإلنساني إلى يوم النَّاس هذا .وكما "والحق إن هذا لهو سقف التفكير وال ّ
سنبينه ويستبين للقارئ سواء في هذا الموضع أو غيره مما سيأتي .سوف يتبيّن أن توقف العقل
اإلنساني عند سؤال القضاء والقدر ،والمسؤولية اإلنسانية عن أعماله ،وعن الحتمية وعن عدل
هللا تعالى؛ هذا التوقف الذي دل عليه قول ابن سينا في حقيقة الدعاء ،وأنه ال يستجاب إال بموافقة
علم هللا تعالى ،وعلى هذا رأينا قول البوطي كما سيأتي أو كما بيناه بخصوصه .وكذلك هذا
التوقف تجلى بكل وضوح عند إيمانويل كانط صاحب "نقد العقل الخالص" الذي قال فيه هيجل
وغيره أن قراءته واستيعابه شرط للتفلسف وللرشد الفلسفي – وهو كذلك مما هو بين ودليله كتاب
مجرد العقل" -كونه مظهرا متحققا للعقل الفلسفي الحقيقي؛ لقد تجلى هذا التوقف ّ "الدين في حدود
عند كانط في تساؤله الذي لم يجد عنه مصرفا؛ هذا السّؤال الذي إن تم تحليل كتابه "الدين في
الروح؛ نعني طبعا سؤال مصدر الشر كما أشرنا إليه من مجرد" تجده الوشيعة فيه و ّ
حدود العقل ال ّ
557
قبل"
" هنا وقفت الفلسفة واإلدراك البشري إلى اليوم ،وهنا بقانون التفصيل وإدماج بعد الزمان في
الحق على ما بيناه بكل وضوح ميسرا لإلدراك ذلال ،هنا تحل بحمد هللا ونوره وهديه العقد
434
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفلسفية كلها .وإن الجامع لها كلها هو سؤال القضاء والقدر ،الذي استعصى على اإلدراك
اإلنساني وهو غير مبصر بقانون التفصيل كما استعصى على اإلدراك الفلسفي حل المفارقة في
قراءة أرسطو بين اعتباره ذات القول للنقيضين ،عدم المسافة بين العقل والمعقول ،أي العلم
والمعلوم ،وما يزعمونه من انعزال الخالق سبحانه عما يقولون ،عن خلقه.
وما يدلك أن اإلدراك الفلسفي لم يتجاوز هذا المستوى أو النقطة بعد إبصاره بهذا القانون،
صة هنا بإدماج الحق وجعله من ذات الحق تفصيال له ،من ذات الخلق قانون التفصيل ،وخا ّ
واألمر ،هو التعريف المجمع عليه ،وهذا يكفي لجعل اإلجماع فيما ليس فيه نص من غير
المتشابه ،غير حجة بالبرهان ،الدليل هو اإلجماع ،وكذا قال ابن سينا كون القضاء علم هللا تعالى
مقرر هو قول ابن سينا بأن الدعاء
األرضي .لكن الذي يبين الخطأ هنا بقوة وبشكل ّ والقدر تحققه ْ
ال يؤثر في الفعل الوجودي ،وإنما إذا كان مستجابا فإنما وافق ما في علم هللا تعالى .
558
إنه يلزم لإلدراك أن يصع د بقانون التفصيل حتى تمحي األبعاد كلها إال الحق ،فيمحي الزمان،
ويصبح األمر كأن كل نقطة وجودية متصلة بالعرش وباألمر األول للسجود واألمر والنهي
والخطاب األول .هنا تحل إشكالية الجبر واالختيار وما أخذ عقول الفرق الكالمية دهرا ولبثوا فيه
زمانا طويال .ولألمانة الوجودية والتاريخية ،يصبح قول أفالطون أو باألحرى إدراكه المصور
والمعبر عنه بالمثل وبالظل ،ويا للمفارقة القول الذي يسخر منه اليوم بعض المنتسبين للفلسفة،
تصورهاتصور األقرب من غيره .وإنما المسافة الفاصلة سواء عنده ،أي كما ي ّ هو القول وال ّ
قارئو وسامعو فلسفته وق وله ،هي بحسب إدراكهم وبعدهم عن إدراك وإبصار وقابلية هذا اإلدراك
لقانون التفصيل ،كما هو ظاهر في مفارقة مكوني القول عند أرسطو وكما ظهر في عدم صعود
تصور معنى قوله تعالى ﴿الحي القيّوم﴾،ابن سينا ما بعد كون القدرة علما إلى منتهى التفصيل ل ّ
وهو ما أشرنا إليه في الجزء الثالث من تذكرة العلماء ،في كتاب مفاتيح علم الكتاب ،من كون كل
اوات السبع جميعا ً .وهنا نعود لنقول بأن األبنية
س َم َ
نقطة بجوار أرنبة أنفنا فيها أو تجتمع فيها ال َّ
الفلسفية والمقوالت بمفاهيمها إن هي إال تفصيل بحسب األبعاد المعتبرة ،فالكون باعتبار أبعاده
المادية الفيزيائية ال متناهية لكن باعتبار تفصيل على الحق إدماجا لألبعاد كلها فإنما هو كالنقطة
558ابن سينا :التعليقات 58و :610د .منى أحمد أبو زيد .مفهوم الخير والشر في الفلسفة اإلسالمية .دراسة مقارنة
في فكر ابن سينا-ص672
435
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"حيث مكثت أعيد قراءة ما جاء عند الفارابي بخصوص علم هللا تعالى وعدله سبحانه،
والقضاء والقدر ومسؤولية اإلنسان .واتضح لي جيدا ً أنني بصدد أمرين بيّنين ،وكالهما مؤطر
ي .أما األول فهو عدم وقوف الفارابي على شيء في علم هللا تعالى ،560فقد وموجّه بالنسبة إل ّ
تقرر عندي من قبل عند ابن أشكل عليه وبشكل غريب بالنسبة لعقل الفارابي ،وهذا متفق وما ّ
سينا في هذا السّؤال .ولكن في واقع األمر وكما أشرت إليه قبل حين ،ال أعلم أحدا من الفالسفة
561
بلغ قوال فصال واضحا ً في ذلك"
إن في هذا ألبلغ االنتظام يقينا ً توافقا ً مع سريان قانون التفصيل الذي أسست عليه كل أو جل ما
بنيت بالنطق والكلمة والقلم ،أي من غير أن أعتبر وال أجعل في الحسبان أن مرجع الكوجيتو
القريب والصريح هو البن سينا.
لكن الذي ينبغي االنتباه إليه هو أن المناط الحقيقي لحدس ديكارت أو باألصح إلثبات الوجود
معبرا عنه بالبديهة،
ً عند ابن سينا ،ليس في الحقيقة هو النفس وكما هو عند إدمون هسّرل أيضا ً
صامد أو الثبات ال"أنا أفكر" ،أي
إنما هو هذا الذي يدل أكثر على هوية الكوجيتو؛ إنه الثابت ال ّ
هذا هو مناط ومرتكز ومرجع الوجود.
"ويمكن القول باختصار أن ما يعنيه ابن سينا في هذا النص هو أن (األنا أفكر) جوهر بسيط
غير مركب بدليل بقائه وثباته على عكس الجسم المتجدد في النمو والذبول؛ وهذا الوعي الكلي
الثابت هو شرط التعقل المتجدد ،أيا كان هذا التعقل في ارتباطه باإلحساس الباطن في الزمان أو
اإلحساس الظاهر في المكان كإحساسي الباطن بأني أفكر وأشعر بالفرح أو الخوف أو غير ذلك،
وكذلك إحساسي بالعالم الخارجي وظواهره المجددة بالطول والعرض والعمق .فاألنا كوعي كلي
عقلي يصاحب تعقالتي المتجددة في كل األحوال ،وبتعبير كانط يكون الوعي هو الدوالب الثابت
في تعقله المصاحب لكل تعقالتي المتجددة ،أما الغزالي فإنه هو اآلخر يوظف هذا الوعي الثابت
مجرد لكل وحدات العقل األخرى وعلومها ،وإذا كانت هذه الصورة في مصاحبة وحدة العقل ال ّ
436
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الثابتة المتجددة للوعي ال تظهر بوضوح في الديكارتية ،فإننا نجد صاحب فلسفة الظواهر
هوسرل يوظفها على نحو آخر بأن الشعور هو شعور بشيء ما ،وأيا ما كان األمر فإننا نستطيع
فهم تطور الوعي كحضور من خالل نظرية ابن سينا في الحركة الدائرية الثابتة من جهة كونها
562
حركة كلية والمتجددة في حركتها من حيث كونها جزئية".
لقد سِيق هذا تحت العنوان -3" :من الشك إلى يقين الحضور" ،لكن أليس يحضر السّؤال عما
إذا كان هناك توافق مع النص المعني هنا" :وإن شئت أمكنك أن تجعل هذا برهانا على أن النفس
غير متحيزة ألني قد أكون شاعرا بجسمي أنا حال ما أكون غافال عن الجسم ف(انا) ،وجب أال
يكون جسما" 563وعما إذا كان هناك تناقض ما مع العنوان التحتي الموالي:
مجرد خبرة مشتقة من ّ يؤكد ابن سينا كما في التعليقات بأن الشعور أو الوعي بالذات ليس
اإلحساس ،كما في إحساسنا الباطن بأن لنا فكرا وخوفا وشعورا بالفرح ،وشعورنا باإلعحاب
وغيره ،وليس هو أيضا ً ّ
مجرد خبرة مشتقة من إحساسنا الظاهر ،بل أن هذا اإلدراك النفسي
للذات هو أولي وليس كنا يعتقد ـ صاحب المذهب الحسي .وبعبارة أوضح أن هذا (األنا أفكر)
شرط الشعور الحسي والخبرة ال العكس فيقول( :شعور النفس بذاتها هو أولي لها ،فال يحصل لها
بكسب ،فيكون حاصال لها بعدما لم يكن ،وسبيله سبيل األوائل التي تكون حاصلة لها) .
565 564
أما عدم التوافق والتناقض فبيانه أن البرهنة على عدم التحيز ليس دليل الوجود وأن األولية (أو
البداهة) ما كانت سوى صيغة جواب القصور عن برهان الحق؛ فذانك بيانه على التبع .وكذلك
الرابع واألولين ،كما كان حقا في تأ ّمالت ديكارت ،تكرارا ً لذات تقرير
فكل هذه العناوين الثالث و ّ
مباينة النفس للجسد بغير تحيز ،بذات التصوير المكرور عند الحسين بن سينا ،لكن بحبكة صياغة
مختلفة ،أو تبدو كأنها كذلك:
437
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فيقول ديكارت:
"ولئن كانت الحواس تخدعنا ،بعض األحيان ،في أشياء صغيرة جدا ً وبعيدة عن متناولنا،
فهناك أشياء كثيرة أخرى ال يُعقل أن نشك فيها ،وإن كنا نعرفها عن طريق الحواس .مثال ذلك
أن ألبس عباءة المنزل ،فأجلس قرب النار ،وقد مسكت بين يدي تلك الورقة وأشياء أخرى من
ي ،وذلك الجسم وهو جسمي ،اللهم إال إذا هذا القبيل .كيف أستطيع أن أنكر هاتين اليدين وهما يد ّ
صاعدة من أصبحت كبعض المخبولين ،الذين اختلت أذهانهم ،وغشى عليها باألبخرة السوج ال ّ
الصفراء .هؤالء ال ينفكون يؤكدون أنهم يلبسون ثيابا ً موشاة بالذهب ،واألرجوان ،في حين أنهم
عراة جداً .وال ينفكون يتخيلون أنهم جرار ،أو ان لهم أجساما ً من زجاج .هؤالء مجانين .ولن
567
أكون أقل شططا ً منهم إذا نسجت على منوالهم".
"فكم مرة حلمت إني جالس قرب النار ،ههنا ،وقد لبست ثيابي ،مع أنني في سريري متجردا ً
من كل ثوب .وهكذا يبدو لي ،في الحلم ،أني ال أنظر إلى هذه الورقة ،بعينين نائمتين ،وال أن هذا
الرأس الذي أهز هو رأس ناعس .بالعكس ،يبدو لي أنني أبسط يدي ،وأشعر بها عن قصد
تصميم .إن ما يقع في الحلم هو أيضا ً ليس بالواضح المتميّز .إذ كثيرا ً ما أتذكر ،وقد أطلت النظر
في األمر ،أني انخدعت بمثل هذه الرؤى .لذا أرى بغاية الجالء أن اقف عند هذه الفكرة ،إنه ال
يوجد عالمات قاطعة ،وال أمارات يقينية ،كفاية ،نستطيع بها ،أن نميز ،بين اليقظة والحلم ،تمييزا ً
ً 568
دقيقا".
ولعل هذه الفكرة هي مجمع االتفاق بين جميع الفالسفة ومن نقاط مبدإ التفلسف؛ والزال االتفاق
صوفيتصور الميل ال ّ
ّ تصورين،
فيها بين الغزالي وابن سينا حتى االختالف العظيم بين ال ّ
مستقر ال للمسار؛ وأرى أن هذا مفسّر اختزاال بقراءة
ّ تصور الميل العلمي؛ فإنما الحكم للمآل وال
و ّ
الغزالي للمعجزات .وفي حيز االبتداء واالتفاق ،يقول أبو حامد:
438
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"ولم أزل في عنفوان شبابي (وريعان عمري) ،منذ راهقت البلوغ قبل بلوع العشرين إلى
اآلن ،وقد أناف السن على الخمسين ،أقتحم لجة هذا البحر العميق ،وأخوض غمرته خوض
الجسور ،ال خوض الجبان الحذور...
وقد كان التعطش إلى درك حقائق األمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ،غريزة
وفطرة من هللا ُوضغتا في جبلتي ،حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت علي العقائد
الموروثة على قرب عهد الصبا؛ إذ رأيت صبيان النصارى ال يكون لهم إال نشوء على التنصر،
وصبيان اليهود ال نشوء لهم إال على التهود ،وصبيان المسلمين ال نشوء لهم إال على اإلسالم.
وسمعت الحديث المروي عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال:
569
((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهودانه وينصرانه ويمجسانه))
فتحرك باطني الى (طلب) حقيقة الفطرة األصليةـ حقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين
واألستاذين والتمييز بين هذه التقليدات ،وأوئلها تلقينات ،وفي تمييز الحق منها عن الباطل
اختالفات ،فقلت في نفسي أوال :إنما مطلوبي العلم بحقائق األمور ،فالبد من طلب حقيقة العلم ما
هي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا ال يبقى معه ريب وال يقارنه
إمكان الغلط والوهم ،وال يتسع القلب لتقدير ذلك؛ بل األمان من الخطإ ينبغي أن يكون مقارنا
لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطالنه مثال من قلب الحجر ذهبا ً والعصا ثعبانا ُ ،لم يورث ذلك
شكا ً وإنكاراً؛ فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثالثة ،فلو قال لي قائل :ال ،بل الثالثة أكثر
[من العشرة] بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً ،وقلبها ،وشاهدت ذلك منه ،لم أشك بسببه في
معرفتي ،ولم يحصل لي منه إال التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك فيما علمته ،فال.
ثم علمت أن كل ما ال أعلمه على هذا الوجه وال أتيقنه هذا النوع من اليقين ،فهو ال ثقة به وال
أمان معه ،وكل علم ال أمان معه ،فليس بعلم يقيني.
439
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صفة إال في الحسياتثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطال من علم موصوف بهذه ال ّ
والضروريات .فقلت :اآلن بعد حصول اليأس ،ال مطمع في اقتباس المشكالت إال من الجليات،
وهي الحسيات والضروريات ،فال بد من إحكامها أوال ألتيقن أن ثقتي بالمحسوسات ،وأماني من
الغلط في الضروريات ،من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليديات ،ومن جنس أمان أكثر
الخلق في النظريات ،أم هو أمان محقق ال غدر فيه وال غائلة؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات
والضروريات ،وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ،فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح
لي نفسي بتسليم األمان في المحسوسات أيضا ً ،وأخذت تتسع للشك فيها وتقول :من أين الثقة
بالمحسوسات ،وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا ً غير متحرك ،وتحكم بنفي
الحركة ،ثم ،بالتجربة والمشاهدة ،بعد ساعة ،تعرف أمخ متحرك وأنه لم يتحرك دفعة (واحدة)
بغتة ،بل على التدريج ذرة ذرة ،حتى لم يكن له حالة وقوف .وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا ً
األرض في المقدار .وهذا وأمثاله من في مقدار دينار ،ثم األدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من ْ
ً
المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ،ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا ال سبيل إلى
مدافعته.
فقلت :قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا ً ،فلعله ال ثقة إال بالعقليات التي هي من األوليات،
كقولنا :العشرة أكثر من الثالثة ،والنفي واإلثبات ال يجتمعان في الشيء الواحد ،والشيء الواحد
ال يكون حادثاص قديماً ،موجودا ً معدوماً ،واجبا ً محاال .فقالت المحسوسات :بم تأمن أن تكون
ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ،وقد كنت واثقا ً بي فجاء حاكم العقل فكذبني ،ولوال حاكم
العقل لكنت تستمر على تصديقي ،فلعل وراء ذلك العقل حاكما آخر ،إذا تجلى ،كذب العقل في
حكمه ،كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ،وعدم تجلي ذلك اإلدراك ،ال يدل على
استحالته .فتوقفت النفس في جواب ذلك قليال ،وأيّدت إشكالها بالمنام ،وقالت :أما تراك تعتقد في
النوم أموراً ،وتتخيل أحواال ،وتعتقد لها ثباتا واستقراراً ،وال تشك في تلك الحالة فيها ،ثم تستيقظ
فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيالتك ومعتقداتك أصل وطائل؛ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في
يقظتك بجس أو عقل هو حق باإلضافة إلى حالتك [التي أنت فيها]؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك
حالة تكون نسبتها إلى يقظتك ،كنسبة يقظتك إلى منامك ،وتكون يقظتك نوما ً باإلضافة إليها! فإذا
وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خياالت ال حاصل لها ،ولعل تلك الحالة ما
صوفية أمها حالتهم؛ يزعمون انهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم إذا غاصوا في أنفسهم، تدعيه ال ّ
وغابوا عن حواسهم ،أحواال ال توافق هذه المعقوالت .ولعل الك الحالة هي الموت ،إذ قال رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم:
440
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
570
((النَّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا))
فلعل الحياة الدنيا نوم باإلضافة إلى اآلخرة .فإذا مات ظهرت له األشياء على خالف ما يشاهده
اآلن ،ويقال له عند ذلك:
فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس ،حاولت لذلك عالجا ً فلم يتيسر ،إذ لم يكن
دفعه إال بالدليل ،ولم يمكن نصب دليل إال من تركيب العلوم األولية ،فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن
تركيب الدليل .فأعضل هذا الداء ،ودام قريبا ً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحك
صحّةالحال ،ال بحكم النطق والمقال ،حتى شفى هللا تعالى من ذلك المرض ،وعادت النفس إلى ال ّ
واالعتدال ،ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا ً بها على أمن ويقين؛ ولم يكن ذلك بنظم
دليل وترتيب كالم ،بل بنور قذفه هللا تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ،فمن
ظن أن الكشف موقوف على األدلة المحررة فقد ضيق رحمة هللا [تعالى] الواسعة؛ ولم سئل
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن (الشرح) ومعناه في قوله تعالى:
قال(( :هو نور يقذفه هللا تعالى في القلب)) ،فقيل( :وما عالمته؟) :قال(( :التجافي عن دار
الغرور واإلنابة إلى دار الخلود)) .571وهو الذي قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيه:
572
رش عليهم من نوره))
((إن هللا تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم ّ
فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف ،وذلك النور ينبجس من الجود اإللهي في بعض
األحايين ،ويجب الترصد له كما قال صلى هللا عليه وسلم:
573
((إن لربكم في أيام دهركم لنفحات أال فتعرضوا لها))
يقول في نسخة أحمد شمس الدين :إنه ليس بحديث ولكن من كالم علي بن أبي طالب رضي هللا عنه 570
ذكره ابن كثير في تفسيره بطرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً. 571
441
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب ،حتى ينتهي إلى طلب ما ال
يطلب .فإن األوليات ليست مطلوبة ،فإنها حاضرة .والحاضر إذا طلب ف ِق َد واختفى .ومن طلب ما
574
ال يطلب ،فال يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب" .
" -6ينبغي لنا كي نقيم العلوم على قواعد ثابتة ،أن نرفض كل آرائنا القديمة ،مرة في حياتنا.
تبين لي ،منذ حين ،أنني تلقيت – إذ كنت ناعم األظفار -طائفة من اآلراء الخاطئة ،ظننتها
صحيحة .ثم وضح لي أن ما نبنيه بعد ذلك على مبادئ ،تلك حالها من االضطراب ،ال يمكن إال
أمرا يشك فيه ،كثيرا ً ويرتاب منه .ولهذا قررت أن أحرر نفسي ،جديا ً مرة في حياتي
أن يكون ً
من جميع اآلراء التي آمنت بها قبال ،وأن أبتدئ األشياء من أسس جديدة ،إذا كنت أريد أن أقيم
مستقرة .غير أن المشروع بدا لي ضخماً ،للغاية ،فتريثت حتى
ّ في العلوم قواعد وطيدة ،ثابتة،
أدرك سنا ً ال سن أخرى ،بعدها ،آمل أن أكون فيها أصلح نضجا ً لتنفيذه .من اجل هذا أرجأته مدة
طويلة .أما اليوم فقد غدوت أعتقد أنني أخطئ ،إذا ترددت أيضا ً ،دون ان أعمل في ما بقي لي
من العمل"
هذا عرض على أقصى اإلمكان (إمكاني المحدود اآلن) بغاية استجالء الحقل المثلثي العالئقي،
أي بدوال تأثيرية مميّز ة بمناحي تأثيرها ،بين ابن سينا والغزالي وديكارت ،الحقل التجميعي
تصور الوجودي وبالتالي العملي واالستخالفي المادي ،أيالمحتضن لجل إن لم نقل لكل أبنية ال ّ
لالتجاهات الفلسفية الحقيقية والحقة غير الوهمية وال بهرجها وال مزيف التفلسف؛ فابن سينا
تجميع قطب األرسطية ،والغزالي لمكمله ،الموقف الوجودي السّلوكي ،المعبر عنه بغير سداد
صوفي". بياني محقق بالتوجه"ال ّ
573رواه الطبراني والسيوطي في الفتح الكبير بلفظ آخر قريب ،واليبهقي عن أبي هريرة بلفظ آخر ،وأبو نعيم
عن أنس.
574المنقذ من الضالل -ص 7..0لحجة اإلسالم اإلمام الحجّة أبو حامد الغزالي رضي هللا عنه
Generated by Foxit PDF Creator © Foxit Software
http://www.foxitsoftware.com For evaluation only.
442
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لقد قلنا من قبل إن المناط الحقيقي لحدس ديكارت أو باألصح إلثبات الوجود عند ابن سينا،
صامد هو ال"أنا أفكر" ،أي هذا هو متعلق الوجود .وهذاليس في الحقيقة هو النفس ،بل الثابت ال ّ
يرد وينقض قول الدكتور عريبي في النص السابق بغياب أو عدم ظهور الصورة المتجددة للوعي
بوضوح في الديكارتية ،كيف يكون ذلك وهي المرتكز ،مرتكز اإلثبات؟ ! ففي مأزق السّؤال يقول
ديكارت:
" -2وإنه لفوز كبير إذا استطعنا أن نعثر على شيء ثابت واحد
"يصور لنا ديكارت هنا الحالة التي وصل إليها عقله ،من جهة ،قطيعة كاملة مع كل ما أعطاه
576
الماضي .ومن جهة أخرى ،حاجة ملحة أليجاد نقطة ارتكاز تكون منطلقا ً له".
هذا التعليق ال أراه أو ال يرى متوافقا ً انطباقا ً بحشو شطره األول دليال عليه منطقيا ً ،ليصبح
تضليال ينال من مرتكزية وصحة مقول الشطر الثاني؛ ويكفي لبيان هذا واستدالال التأطير القبلي
في السّياق ،المنطبق بقوله ومستهل تأمله (الثاني):
" -1يجب أن نعيد فحص األشياء ،التي يخامرنا أدنى شك فيها ،إلى أن نعثر على شيء
ثابت.
غمرني تأمل البارحة ،بفيض من الشكوك ،لم يعد باستطاعتي أن أمحوها من نفسي ،وال أجد
مع ذلك سبيال إلى حلها .كأني سقطت فجأة في ماء عميق ،للغاية ،فهالني األمر هوال شديداً ،حتى
أنني لم أقدر على تثبيت قدمي ،في القاع ،وال على العوم لتمكين جسمي ،فوق سطح الماء .رغم
يهذا سأبذل طاقتي للمضي ،أيضا ً ،في الطريق التي سلكتها البارحة ،مبتعدا ً عن كل ما يكون لد ّ
443
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
أدنى شك فيه ،كما لو كنت على يقين من أنه باطل جداً .سأتابع السير في هذا الطريق ،حتى
أهتدي إلى شيء ثابت .فإذا لم يتيسر لي ذلك ،علمت علما ً أكيداً ،على األقل ،أنه ال يوجد في
577
العالم شيء ثابت".
نعم إن الحال هي نتاج القطيعة مع المعطيات الموروثة تقليداً ،لكن مركز الكلمة هي االفتقاد أو
البحث عن المرتكز؛ فحال اآلن مباين لحال سابقه ،حال القطيعة وآنه.
هذا التنويه يبقى غير مقارب لمنحى الحقيقة إذا لم يعلم ويطرح السّؤال فيما إذا كان أصل
الكوجيتو ليس الفارابي وال ابن سينا وال ديكارت بالطبع ،ولكن الكندي وتحديدا ً في قوله في الفن
األول من الفلسفة األولى:
ولسنا نجد مطلوباتنا من الحق من غير علة؛ وعلة وجود كل شيء وثباته الحق ،ألن كل ما له
إنية له حقيقة؛ فالحق ،اضطرارا ،موجود ،إذن ،إلنيات موجودة[ .عند ابن حزم :إذ اإلنيات
578
موجودة]"
577ن م – ص11
578رسائل الكندي الفلسفية -القسم األول -تحقيق وتقديم وتعليق محمد عبد الهادي أبو ريدة -الطبعة الثاني-
دار الفكر العربي -لجنة التأليف -مكتبة محمد الغانجي -القاهرة -ص00
444
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
نبدأ أوال بتحديد مناحي العالقة البينية لرؤوس الحقل المثلثي .إنه بناء على حدسية الشفهي
المكون البياني ،لهذه العالقة المنطقية الشرطية ،يمثل
ّ (بالمعنى الكانطي) للمنطق الداخلي؛ ف
اقتطاعا ً صناعيا ً جهاتيا ً على مستوياته الثالثة :الحقيقي ،المجازي ،والباطني ،أي عدم انفصاله
صة أو ليس يخرج عنه في أي حال الترابط واألساس المعجمي اقتصاراً، عن الالشعور ،وخا ّ
ونعني هنا بالتعيين:
"تبين لي ،منذ حين ،أنني تلقيت – إذ كنت ناعم األظفار -طائفة من اآلراء الخاطئة ،ظننتها
صحيحة"
"ولم أزل في عنفوان شبابي (وريعان عمري) ،منذ راهقت البلوغ قبل بلوع العشرين إلى اآلن
"...
أما وقد اتحدت الفكرة مما هو واضح من البيان أعاله ،فالعالقة المحاكاتية ثابتة مثبتة
بشروطها ،عكس ما جاء في "أوهام حول الغزالي" للدكتور عبد الرحمان بدوي -رحمه هللا!-
األوهام حول الغزالي كثيرة وبعضها خطيرة؛ ثم يتطرق إلى أربعة منها هي:
445
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
" -ثم إنه لمن الغاية في السذاجة أن يقال إن كتابا من الكتب أو هجوما لمؤلف -مهما يكبر
قدره -قد قضى على علم راسخ كالفلسفة"
والمالئكة- 579
وبخصوص الثالث " :لم يلجأ هيوم إلى قوة عالية على الكون – هللا -سبحانه!-
هي التي تفعل بل انتهى إلى القول بعدم إمكان معرفة من هو فاعل األحداث"
الرابع" :لكن فنسك يحمل النصوص اتي أشار إليها عند الغزالي أكثر مما تتحمل وينبغي أما ّ
صا رابعة
صوفية المسلمين السابقين وخصو ً أن تفهم على ضوء ما نجده من أقوال متشابهة عند ال ّ
العدوية ،والبسطامي ،والحالج ،وأبي طالب المكي :فعندهم من الكالم عن المحبة واإليثار ما
يفوق ما يذهب إليه الغزالي"
تقررَ ،وا ِه ٌم لعارض عدم استيفاء النظر فيما نظن ،واه ٌم
أن بدوي ال شك ،وبناء على ما ّ بيد ّ
في توهيم التشابه – االنطباق -بين شك الغزالي وشك ديكارت؛ وأقول هنا تشابه عنصر الشك ال
البناء أو ما انتهى إليه البناء الذي لم يكن هذا الشك فيه سوى عنصر قاعدة وتأسيس؛ فإن اللوحة
البنائية لوحة سينوية خالصة؛ لوحة قوامها الحي القيّوم ،وحقلها مشدود بوثاق الحق عبودية وحبًّا
صوفية ،ولكن تجليات هي العلية والقوانين العلمية ،ومن وافتقارا ،ليس مفاده المزاج أو الدالة ال ّ
ً
القوة ،قوة الحق؛ فالحب المخلوقاتي للكون- ثمت كان أساس كفل قيام العلوم التسخيرية استخالفا ً ب ّ
مفهوم العشق - 580تجليه قانون الكينونة ومداراتها وانتظامها .وبنحو الدليل البُعدي أو األبعادي
الذي اختزلنا به دحض الدكتور عبد الرحمان بدوي لوهم عظم تأثير الغزالي على الفلسفة" :ثم إنه
لمن الغاية في السذاجة أن يقال إن كتابا من الكتب أو هجوما لمؤلف -مهما يكبر قدره -قد قضى
تقرر ويستد ّل على ضالل من يزعم شخصانية عظم على علم راسخ كالفلسفة" ،به كذلك ي ّ
وعبقرية ابن سينا؛ فإنما هي نقاط حقل ونظام تاريخي معيّن بأبعاده التكوينية بيئة عقولية تاريخية
مميّزة بخصائص محددة لها إمكان التعيين .وهكذا جعلنا ابن سينا من حقل مؤسّساتي حضاري،
وأبرزنا بيانه بعنوان تحتي" :ابن سينا إعجاز علمي للحضارة اإلسالمية المسار الحضاري
األقوم للبشرية" 581وأكدنا على مؤسّساتية ظاهرة النبوغ العلمي وصعود المدار العقولي" :فهذا
579التسبيح مني
580انظر "اإلبطال المنطقي لمفهوم «الصوفي»" بخصوص ديكارت -األصول الحقة للرياضيات -ص..018
581تفصيل الخلق واألمر في سؤال حوار األديان وتفرق المذاهب الفقهية ..ابن سينا بين قصور المتفلسفة وافتراء
المتقولة -الجزء األول -ص110
446
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
« وكانت معارف اليونان والالتين القديمة أساسا لثقافة متعلمي العرب في الدور األول ،وكان
هؤالء كالطالب الذين يتلقون في المدرسة ما ورثه اإلنسان من علوم األولين ،وكان اليونان أساتذة
العرب األولين إذن ،ولكن العرب المفطورين على قوة اإلبداع والنشاط لم يكتفوا بحال الطلب الذي
تحرروا من ذلك الدور األول.
اكتفت به أوربة في القرون الوسطى؛ فلم يلبثوا أن ّ
واإلنسان يقضي بالعجب من الهمة التي أقدم بها العرب على البحث ،وإذا كانت هنالك أمم
تساوت هي والعرب في ذلك فإنك ال تجد أمة فاقت العرب على ما يحتمل ،والعرب كانوا إذا ما
استو لوا على مدينة صرفوا همهم إلى إنشاء مسجد ومدرسة فيها ،وإذا ما كانت تلك المدينة كبيرة
أسسوا فيها مدارس كثيرة ،ومنها المدارس العشرون التي روى بنيامين التطبلي المتوفى سنة
6683م انه شاهدها في اإلسكندرية ،وعدا هذا اشتمال المدن الكبرى كبغداد والقاهرة وطليطلة
وقرط بة ...إلخ ،على جامعات مشتملة على مختبرات ومراصد ومكتبات غنية ،وكل ما يساعد
على البحث العلمي ،وكان للعرب في إسبانبا وحدها سبعون مكتبة عامة ،وكان في مكتبة الخليفة
الحكم الثاني بقرطبة ستمائة ألف كتاب منها أربعون مجلدا من الفهارس كما روى مؤرخو العرب،
وقد قيل ،بسبب ذلك :إن شارل الحكيم لم يستطع ،بعد أربعمائة سنة ،أن يجمع في مكتبة فرنسة
583
الملكية أكثر من تسعمائة مجلد يكاد ثلثها يكون خاصا بعلم الالهوت».
447
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الرياضي العربي اإلسالمي، حاسم . 584إن أعظم محور استخالفي وشيعة فلسفة علمية ،هو العقل ّ
في تكوين مذهل كما كان ذهول نابوليون من سرعة الفتوحات العربية على خريطة المعمور.
وإذا كان لدى علماء األفكار والفالسفة غير المزيفين والعلماء قناعة ويقين ال ينال منه نظام
خطاب ،وال تلبس بباطل في أن الحقل الذي مركزه بالذات إبان ابن سينا وقطره ممتدا إلى أربعة
قرون ،هو حقل نقطة فارقة في تاريخ العقل البشري ،واستجالؤه هو بالذات في هذه الوشيعة التي
القوة المسدد،
سوف يبني بها الغرب ،بعد انفراط سلك نظام األمة العربية اإلسالمية ،وبضغط ّ
الرياضية ،التي ال
الرياضية والمعيارية ّ
سوف يبني بها علماءه وعلمه وحضارته؛ إنه الوشيعة ّ
قاصرا على
ً تصوره للدين واالستخالف
ّ تحقق لعبادة هللا تعالى وال تمكين لدينه إال بها؛ ومن يكن
تصور صحيح؛ فالدينتصور خداج وفي الميزان ليس ب ّ ّ األركان الخمسة لإلسالم؛ فهذا
واالستخالف بناء ،وليس البناء يقتصر على األركان.
إن هذا القطر غير الجامع بالطبع ،وإنما هو للبرهان فحسب ،يبدأ من نقطة الكندي وآل
الخوارزمي وابن قرة إلى عهد عمر الخيام ونصير الدين الطوسي .بل وإننا نجد أعلى قمة
صة غير قطعية بالنسبة لهذه الوشيعة السامقة في تاريخ العقل البشري ،أي ابن عقولية بمعايير خا ّ
معاصرا البن سينا:
ً الهيثم ،نجده
الرياضي والفلسفي أن ينتبه إليه ،وإال فسيكون على غير "لكن أﻫم ما ينبغي للدرس التاريخي ّ
صعود؛ ﻫو أنه حينما عمم ابن الهيثم قواعد أو باألصح آليات ومسالك تحديد لو ومدار ﻫذا ال ّ
عُ ّ ِ
الرياضية أو الهندسية والفلك واألثقال
وحل المسائل على جميع العلوم والحقول المسائلية ّ
الرياضي ،انبثقت
وغيرﻫا ،فهو بهذا التعميم يكون قد انبثق لديه ولدى العقل البشري الفلسفي و ّ
الرياضيات البشرية ،التي ﻫي بحق المفتاح والرقمصية ال ِمعيارية للهندسة و ّ
وبرأت الطبيعة والخا ّ
األرض ،وإن كانت ﻫنا ولو مع اعتبارﻫا الحيوي غير س ِ ِّري في تسخير قوى االستخالف في ْ ال ّ
مطلقة ،فإنها مع فلسفتي ديكارت وكانط تسمو لتستبين مطلقة منطبقة انطباقا باسم هللا األعظم ذي
الجالل واإلكرام الحي القيّوم الذي إذا دعي به سبحانه أجاب .وذلك من خالل التصويب الذي
بيناه للكوجيتو الديكارتي ،أي بكون الحق ﻫو قانون المثلث والوجود الحق يكون بانحفاظ الحق
صحيح بالمرجع المطلق عند كانط في تحديده صالح ،أي ال ّ
صحيح = ال ّ في البناء= العمل ال ّ
584انظر :جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي :الفصل األول" :الماسونية والعمل واالستخالف" من الباب
السادس" :الماسونية بمصر قبل األفغاني بمائة عام ،استكناه الماسونية" -1منصة فلورنسا لصُعود الغرب
التاريخي في عقل سعادة الدارين لمحمد الفارابي -ص400
448
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
للمسؤولية األخالقية اعتبارا لقيمتي الخير والشر ،االعتبار الذي يكون إال باعتبار المرجع
المطلق ،مرجع الوحي الكريم .بل وإنه ال وجود في الحق بالحق للخامل المتخلف عن االستخالف
الرياضيات ونقد الدليل
الحق كما بيناه في كتابنا "األصول الحقة للرياضيات أو المدخل إلى ّ
585
الوجودي""
ولكي نفهم أو يتضح لنا هذا نسوق قول الدكتور عريبي تأطيرا ً للنص السابق على التخصيص
مما سيأتي تفصيله:
"وبغض النظر عن التفاصيل فإن ما يهمنا في هذا الكتاب 586هو كونه يمثل نموذج االستيعاب
والتبني للعقل التاريخي العربي نموذج االستيعاب والتبني للعقل العربي في العصر الوسيط .إن
كتب التهافت وتهافت التهافت والمنقذ من الضالل واإلشارات والتنبيهات والمباحث المشرقية
ت مثل في واقعها صورة مجملة لحقيقة هذا العقل ،ناهيك عن معرفة العصر الوسيط بعلوم العقيدة
أي علوم القرآن والحديث .ومما تجدر اإلشارة إليه أن الجامعات األروبية بدأت منذ هذا العصر
تتميز بتخصصها في استيعاب وتمثل العقل التاريخي حيث اهتمت أول جامعة في انجلترا ونعني
ب ها جامعة أكسفورد منذ البداية بالعلم التجريبي العربي متخذة من كتاب (علم المناظر) للحسن ابن
الهيثم الذي ترجمه فيتلو tiVvnntبعنوان eaociIv oivmIugum nniImc:c ngIaumاتخذت
من هذا الكتاب المثل األعلى واألنموذج لدراسة العلم التجريبي وهذا ما فعلته كمبردج فيما
587
بعد".
ولعلنا نجد وضوحا ً لهذه المسألة أكثر ،بكل عناصرها :مثلث ابن سينا ،الغزالي ،ديكارت
وتوهيمات عبد الرحمان بدوي ،نجد وضوحا ً أكثر بشأن هذا في قضية بل حقيقة تغريب العقل
التاريخي العربي اإلسالمي تبنيا ً وتنسيباً ،التي أرى أن كتاب الدكتور محمد ياسين عريبي
الرغم من شيء
بموجبها يرتقي إلى سُ ُم ّ ِو وأخطر درجات األعمال العلمية والفكرية ،أرى أنه ،وب ّ
الرجل
في البيان المنطقي وتقويم أو قراءة الغزالي ،ال يقل قيمة عن كتاب االستشراق للراحل ّ
449
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
العظيم الدكتور إدوارد سعيد – غفر هللا له! -امتدادا ً لبيانه وتفصيال لحقيقته؛ يقول عريبي في
معرض ذكره لبعض نماذج التغريب والتبني:
استمر صراع الغرب مع العقل التاريخي العربي منذ بداية القرن الحادي عشر الميالدي حتى
نهاية القرن السادس عشر لمحاولة تبنيه وفهمه وتغريبه ،وقد بلغ الصراع أشده بعد ترجمة هذا
العقل إلى الالتينية أو العبرية واللغات األوروبية األخرى في القرنين الثاني عشر والثالث عشر
الميالديين .وبمجيء القرن السابع عشر تهيأ المناخ لتغريب العقل التاريخي العربي واستيعابه.
ويمثل ديكارت البداية المطلقة للتغريب والتطبيع .ولكي ال ندخل في التفاصيل نذكر بعض
النماذج التي تحتاج إلى المزيد من الدراسة والتوسع.
-6يأخذ ديكارت في شكه بنتائج الشك السّينوي ،ولكي يغطي عملية االحتواء يدمج بين شكي
الغزالي وابن سينا المتعارضين في النتائج .حيث يثبت ابن سينا الفهم والغزالي وحدة الجدل.
يثبت المعارضون لديكارت نظرية الفهم على أنها لديكارت من خالل مواجهته -6.6
باالعتراضات الموجّه ة البن سينا ،بدون التعرض إلى ذكر ابن سينا محاولين رد نظرية
الفهم إلى أوغسطين دون جدوى ،ألن تحديد هذه الوحدة وتوظيفها ال نجده إال عند ابن
سينا ومن بعده ديكارت.
يرد ديكارت على االعتراضات بنفس ردود ابن سينا دون أن يذكر اسمه لترسيخ تطبيع -6.2
التغريب فيتحول إلى اعتقاد جزمي بأن الكوجيتو من صنع ديكارت في نضجه ونشأته.
الرياضية والكمالية ،وينسب هذه الصور يأخذ ديكارت بصور الدليل الثالثة :التحليلية و ّ -6.3
إلى إنتاجه.
-6.3.6يحاول الغرب رد الدليل الوجودي إلى القديس أنسلم الذي يورد الصورة الكمالية لهذا
الدليل بطريقة مركبة لهذه الصورة عند الفارابي وابن سينا.
-6 .3 .2يعترض أصدقاء ديكارت على الدليل بنفس االعتراضات الموجّهة البن سينا ويرد
الردود السّينوية.
ديكارت بنفس ّ
450
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
-6 .5يأخذ ديكارت بمنهج التركيب بين الغزالي وابن سينا في التحليل دون اإلشارة إليها .ومن
أمثلة ذلك استبدال العالم الكبير بالعالم الصغير في الدليلين الكوني والطبيعي على طريقة الغزالي.
الرياضية في العلم
-6 .1يمعن ديكارت في التركيب ليخفي المذهب السّينوي حينما يتبنى النقطة ّ
الطبيعي على مذهب األشاعرة المعارض للمذهب السّينوي وهلم جرا.
-6 .1ينتقد الغزالي المذهب السّينوي في تحديده للوجود والالهوت كعلم وعلم النفس النظري،
وذلك عن طريق وحدة العقل السامية (أي استخدام جدل الكلي) ويأخذ كانط بهذا النقد خطوة
خطوة ً كما عند الغزالي ولكنه يوجه هذا النقد إلى ديكارت بدل ابن سينا لتحقيق تطبيع تغريب
الفهم والعقل معاً.
-2يدرك اليبنتز منهج ديكارت التغريبي جيدا ً فيتوسع في التركيب من خالل المعتزلة واألشاعرة
والفالسفة.
-2 .6يأخذ اليبنتز بنظرية ابن سينا عن السّبب الكافي ويكملها بجوانب أخرى من عند
الغزالي.
-2 .6 .6يطبع هذه النظرية من خالل صراعه المصطنع مع نيوتن الذي يأخذ بمذهب
األشاعرة في السّبب الكافي.
-2 .2يحدد اليبنتز العالقات والنسب من خالل مذهب األشاعرة (مثاله العالقة االسمية)
ومن المعتزلة (العالقة المتسامية) ومن خالل مذهب الفالسفة (العالقة الحقيقية) وهلم
جرا.
-3يدرك هيوم أهمية العادة التي تخفي نفسها في عملية التطبيع ،ولكنه ال يدرك منهج التركيب
في التطبيع الديكارتي.
-3 .2يطبع الغرب نقد العلية على أنه لهيوم بتسمية هذا النقد (مشكلة هيوم) وتنسب الوضعية
المعاصرة أصول فلسفتها إلى هيوم نفسه.
451
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
-5يمعن كانط في تطبيع التغريب حينما يرد فلسفته إلى هيوم الذي أيقظه من سباته.
-5 .6كما يأخذ ديكارت بنظرية الفهم السّينوية ونتائجها يأخذ كانط بنظرية العقل عند
الغزالي ونتائجها ،وكما يميز ديكارت نفسه عن ابن سينا في تبنيه لمذهب األشاعرة كما
في العلم الطبيعي ،يميز كانط نفسه عن الغزالي في العلم الطبيعي بتبنيه مذهب المعتزلة
في العلم الطبيعي والعقل المتعالي.
-5 .2ينتقد كانط مثالية باركلي الذاتية ليثبت المثالية الوضعية للعالم كما في التهافت وهلم
جرا.
– 1يقوم هيدجر بنفس الدور في رد مبدإ السّبب الكافي إلى اليبنتز ،ويقوم رسل برد المنطق
الرياضي إلى اليبنتز والتكافؤ إلى كانط.
ّ
– 1يعتمد التغريب المعاصر على ديكارت كجسر يربط الفكر اليوناني القديم واألوروبي الحديث
588
والمعاصر بدون الرجوع إلى الفكر العربي اإلسالمي أو اإلشارة إليه".
إذن فهذا -ال مرية ـ معقب على عبد الرحمان بدوي ،ومن غير العارض المتعلق بمحض
الشرط اإلمكان والسّعة مما هو مسلم به ،أي يستحيل اإلحاطة بكل األعمال والحقائق العلمية
المتوصل إليها والمتاحة والمعتبرة بالذات معطيات ،فإن األخطر هو إطار العمل ضمن شروط
نظام الخطاب ،كما أشرنا إليه وألمعنا إلى شأن تأثيره حين عرضنا للعمل العظيم للدكتور رشدي
راشد:
"بيد أننا ،ومقامنا مقام الذود عن أمة المسلمين جميعا ومقام تبيان حقيقة اإلسالم كنظام حياة
تصور حقيقتهم
تصور لالستخالف والعمران ،نحن ملزمون بالصدح بج َهاد وبمجاﻫدين ليست ت ّ و ّ
إال على ذلك المشهد الشريف للنبي صلى هللا عليه وسلم حين انهزم عنه أصحابه وجيش المسلمين
في حنين" ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :أي عباس! ناد أصحاب السّمرة -أي :أصحاب
452
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
عطفتهم حين سمعوا صوتي، بيعة العقبة -فقال عباس :أين أصحاب السّمرة؟ قال :فوهللا كأن َ
عطفة البقر على أوالدﻫا – أي :أجابوا مسرعين – فقالوا :يا لبيك يا لبيك ،قال :فاقتتلوا والكفار
...فنظر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وﻫو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم ،فقال :حمى
الوطيس ،قال :ثم أخذ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حصيات ،فرمى بهن وجوه الكفار ،ثم قال: ُ
انهزَ موا ورب محمد ،قال :فذﻫبت أنظر ،فوهللا ما ﻫو إال أن رماﻫم بحصياته ،فما زلت أرى
وأمرﻫم مدبرا – يعني قوتهم ضعيفة ،وأمرﻫم في تراجع وﻫزيمة -رواية مسلم في َ حدّﻫم كليال،
589
صحيحه"-
وألقفك على حقيقة ما أقول ،فاسمع لصدى وليصلك ﻫذا الصدى من أصداء ما تجيش به نفس
الرجل العظيم ،الدكتور رشدي راشد 590صاحب العمل الجبار الجليل األسفار الخمسة ﻫذا ّ
الرياضيات التحليلية بين القرن الثالث والقرن الخامس للهجرة" وإنه في ج َهاده وفريق عمله من
" ّ
غير استثناء ألمة كالطود العظيم:
« وأردت أن أجعل عملي في ﻫذه األسفار األربعة وفي األسفار الباقية إن شاءت األقدار،
مشاركة في إحياء تراث جزء من حضارة اإلنسان ،قامت به شعوبٌ أوتيت في ذلك الزمن كثيرا
من الج ِ ّد والقدرة .فإن كان لي أن أنهي ﻫذه الفاتحة بدعاء فهو أن تساعد ﻫذه األسفار في كتابة
تاريخ ﻫذه الفترة من التراث اإلنساني بما يليق من موضوعية وبُعد عن األﻫواء وأن تساﻫم ،على
تواضعها ،في إيقاظ ورثة تلك الشعوب من سُبات دام عدة قرون ،حتى تشارك من جديد في بناء
591
اليوم والغد».
453
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
كم ﻫو عظيم فتح محمود شاكر في معركة المتنبي شاعر العربية والعروبة ،ولصبغة ُخلِقَ
عليها منة من هللا تعالى -وهللا عليم حكيم -والتي أبت عليه إال مواجهة بَاطِ ل المؤسّسة الجامعية
ومحاضرات الدكتور طه حسين في الشعر الجاﻫلي ووحي مارجليوت ،بَاطِ ل الحرب على األمة
وثقافتها ودينها وﻫويتها ،وبَاطِ ل ما عبر عنه بمفهوم وظاﻫرة "السّطو" التي ال تبقي للجامعة
روحها العلمية ومصداقيتها!
صبغة المميّزة التي َجل من يتحلى بها ومن يتحمل عبئها ،وبما أسماه ب َمنهج إنه بهذه ال ّ
التذوق" َمنهج التحليل والقراءة الشعرية الذي انبثق عنده على أطوار متسقة منذ نشأته ،واكتمل " ّ
عنده بُنيانا ووضوحا ويقينا فيه تماما -كأنما أعده القدر -في وقت نفث مرجليوت لكذبة منحولية
الشعر الجاﻫلي يوحيها بعضهم إلى بعض زخرف القول غُ ُرورا ...ب َمنهجه ﻫذا الذي أسماه َمنهج
"التذوق " تصدى محمود شاكر ،وكأنه رجل واحد يقتحم على جيش بأكمله ،وبرباطة جأش عز ّ
سافِرا أشَد عليها مننظيرﻫا ،فأبلى البالء الحسن وخرج منتصرا وأقوى وأعزَ ،رد عُد َْوانا َ
592
عدوان السّنان ،وغنم وغنمت األمة معه غنما تاريخيا مجيدا"..
وإذا تر َّجح لدينا عد ُم استبصار الدكتور بدوي بالنهج التركيبي والتحويلي في تغريب العقل
التاريخي العربي اإلسالمي ،وما أورده الباحثون والعلماء كاف في تقرير األدلة العينية القاطعة،
وبناء على وضوح ليس التشابه بل النقل لتعبيرات وفكرة شك الغزالي عينها مهيمنة تضمنا ً على
ما جاء في تأ ّمالت ديكارت الستة؛ "والواقع أن الفيلسوف الفرنسي الشهير «ديكارت» قد تأثر
كثيرا ً بهذا الفيلسوف العربي ،وبدا أثر الشك المنهجي للغزالي ،أو الشك الذي يراد به الوصول
إلى اليقين ،واضحا ً في منهج ديكارت ،حتى إن ديكارت أيضا ً الذي يعده البعض أبا ً للفلسفة
الحديثة ،قد ثبت اطالعه على كتاب «المنقذ من الضالل» لإلمام الغزالي ،وهذا ما أشار إليه
األستاذ عثمان كعاك الذي زار مكتبة ديكارت في فرنسا ،واطلع على هذه النسخة ،بل ووجد
593
صة بقضية الشك". تعليقات بخط ديكارت نفسه على األجزاء الخا ّ
592انظر -3" :الدكتور رشدي راشد ونداء أصحاب السّمرة يوم حنين" من الفصل الثالث" :جهاد الدكتور
رشدي راشد وفريق عمله" من الباب السادس" :الماسونية بمصر قبل األفغاني بمائة عام" -جمال الدين األفغاني
والتحليل التاريخي أو المسلمون والتاريخ -ص447
593الدكتور يوسف القرضاوي :اإلمام الغزالي بين مادحيه وناقديه ،ص ١٤٠وما بعدها ،دار الوفاء بمصر ،الطبعة
الثالثة ١٤٨٣ﻫ١۹۹٨ -م -المرجع :الفكر السّياسي بين ابن حزم وأبي حامد الغزالي – ص88
454
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فلئن ثبت هذا ووجبت مقدمة مقررة ،فإننا نتساءل بحق هل قارن حقا وقابل الدكتور بدوي بين
الرد على قوله:
موضوع الشك في "المنقذ من الضالل" و"التأ ّمالت"؟! ومنه ناجز ّ
"وفي رأيي أن ادعاء الشبه بين حكمهما هو عبث صبياني ال يليق بعاقل أن يخوض فيه .وهذا
تحذير قاطع إلى كل أولئك الذين أولعوا بهذا النوع من العبث الصبياني مدفوعين بدوافع كاذبة ال
نفع وراءها وال طائل .ويؤسفنا أن هذا العبث الصبياني ينتشر بين الكتاب في العالم العربي
594
واإلسالمي في الخمسين سنة األخيرة بشكل هستيري خطير".
أظن أن هذا ليس بكالم علمي وال فلسفي ،فالحقائق هي حقائق مهما كان إطار مقولها وشأن
صحّة والخطأ ،ويبقى
موضوعها؛ هي أول ما يلزم أن تعتبر به ماهيتها المنطقية ،سلمها بين ال ّ
تقرير قيمتها بميزان الحق وقواعد المنطق ،الذي متجالها العمل الفكري والبحث العلمي وال
دعوى إال بدليل وبرهان .وإنما يصدق هذا الكالم بتعابيره على ما يقال بأن طه حسين وظف
منهج الشك الديكارتي:
"إن هذه االستجهالية ت ُ َر ُّد باألساس إلى المنهاج التعليمي ومعاييره ونظامه السّلمي المبني على
صرف .وهو ركن خارج العلمية ركن ودعامة التجميع النقولي ،الغالب في غير التوجه العلمي ال ّ
وخارج الفلسفية ألنه ببساطة على ما ذ َّمه هللا عز وجل فيمن يحفظ الكتاب وال يفقههَ ﴿ :ومِن ُه ْم
ي'﴾(البقرة )88ولفظ األمية هنا فيه داللة الحط من القيمة في سلم أ ِّميُونَ ال يَ ْعل ُمونَ ْالك َ
ِتاب إال أ َمانِ َّ
شروط وبهذا المنهاج التعليمي لن ينتج إال أمانيين يحسبون صرفة .وبهذه ال ّ العلمية والمعرفة ال ّ
أنهم من هم في أنفسهم متنورون ومثقفون؛ تجميعية مشبعة ببيان خاص لكنه نسبي بالتأكيد،
وتجميعية لمعجم العلوم اإلنسانية بنسبيَّة غريبة غربية خالصة ،وبعناوين واستخالصات ينبغي
الرياضيات التسطير عليها واستظهارها ،كقولهم ليس ال ُمسلمون والعرب سوى نقلة للفلسفة و ّ
اليونانيين ،وأن ال عقل وال حضارة إال عقل وحضارة الغرب بمركزيته المرجعية والتأريخية؛
هللا تعالى ال يعلم الجزئيات والفارابي وكقولهم عنوانا كبيرا لقراءتهم :ابن سينا كان يقول َّ
بأن َ
يجعل منزلة النبي دون مرتبة الفيلسوف ويقول بأن الفلسفة قبل الملة ،ونظريته السّياسية من الفكر
الكالسيكي ،وأن طه حسين استعمل َمنهج الشك الديكارتي ليستنحل الشعر الجاهلي ! فهذه من
455
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
طرات تكاد مجرات الكون يتهاوين منها ،وليس على الطلبة إال التسطير عليها ،وهلل تعالىس َال ُم َ
595
في التاريخ أطوار".
وكما قال د .رشدي راشد وهو يشير ويعرض بحقيقة التحريف األقرب إلى عملية السّطو التي
عرفها تاريخ العقل البشري العلمي:
"وسيرى القارئ أن الحسن بن الهيثم وصل بدراسة األﻫلة على مقربة من الرياضي
البعض أنها لم تكن قبل كبلر
ُ السويسري أُيلر ،Tfrdeودفع بحساب التكامل خطوات ظن
وكافليري في القرن السابع عشر ،وسيرى كذلك انه أول من بحث في الزاوية المجسمة حق
البحث أثناء دراسته للسطوح واألجسام القصوى ،وأنه أول من سلك في ﻫذا البحث طريقا جمع
596
فيه بين اإلسقاطات الهندسية والمناﻫج التحليلية".
فإنه على نفس الجهة وألجل ذات الهدف قام رجال ذوو همة تاريخية سعيا ً منهم في إراحة
الحق على أهله ،رجال من علماء المسلمين المعاصرين ،وكان في مقدمتهم الدكتور مصطفى
نظيف أستاذ الفيزياء ،والدكتور جالل شوقي أستاذ الهندسة الميكانيكية ،والدكتور على
عبد هللا الدفاع أستاذ الرياضيات ..فتوفروا على دراسة ما جاء في المخطوطات
اإلسالمية في هذا المجال ،فاكتشفوا أن الفضل الحقيقي في اكتشاف هذه القوانين
(قوانين الحركة) إنما يرجع إلى علماء المسلمين 597.ودعك من قصة التفاحة ،تفاحة
الكذب والتحريف عن الحق للنشء البشري ،كذب هو من روح سرقة نار بروميثيوس
في األنا والعقل الغربي.
456
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
457
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
458
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الثالث
في االستخالف
459
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إننا ﻫنا بصدد آلية التحليل والتركيب ،اآللية والنهج المحكم وفاقا لقوله تعالى وﻫو العليم
ق' إن ِفي ذ ِلكَ آل َية لل ُمؤْ ِم ِنينَ '﴾(العنكبوت )44وقوله ض بال َح ّ ِ
األر َ
ت َو ْاوا ِ والحكيمَ ﴿ :خلقَ هللاُ الس َم َ
سمى'﴾(الروم )7ونعيد ق َوأ َج ٍل ُم َض َو َما بَ ْين ُه َما إال بال َح ّ ِ األر َ
ت َو ْاوا ِ
سبحانهَ ﴿ :ما َخلقَ هللاُ الس َم َ
التأكيد أن جميع البنيويات ،كلها تستمد ما لها من علمية ومنطقية من ﻫذه اآللية التي كانت أعلى
الرياضيات العربية اإلسالمية ،ولو نظرت إلى الرياضي بلغها إبان ّ مدارات العقل البشري ّ
صة مفاﻫيم 'الحفريايتة" و"النسق" مرتكزات بيان ميشال فوكو المرتبطة بنيويته بموضوعنا ،وخا ّ
و"االبستيم" ،لما ألفيتها تخرج عن حقل ودالالت البيان التحليلي.
أوالﻫا وﻫي ته ّم الجانب البياني واإلطار المرجعي ،الذي ال ينبغي بحال أن يهمل أمره إطالقا
صدق الفلسفي ،خصوصا إذا أو أن يكون شرط الخطاب مجحفا في حقه إلى ح ّد الوقوع خارج ال ّ
صحيح والمنطقي لج ّل تفلسف ﻫسّرل وتساؤالت ﻫذا التفلسف، كان ﻫو بالذات القول والمنحى ال ّ
صعبة التمييز عند الكثير –
ّ ال العقلية والظاﻫراتية للقصدية المفاﻫيمية وبالتأكيد المخرج للمنظومة
وﻫذا ﻫو مكمن صعوبة! قراءة وتلقي ﻫذه التفلسف -نقول ﻫنا المخرج لهذا اإلشكال بالذات ،وﻫنا
نشير إلى أمر جدير باالعتبار والتنبيه ،ﻫو أن عموم الفرق بين ما يرى ويعتبر صعوبة في
الرياضي والفلسفي ،ﻫو أن األول ترجمة لمسافة تراكمية معرفية محض تعليمية ،أما المفهومين ّ
الثاني فهو نسبوية حا ّدة ليست فحسب بيانيا بل كذلك تفكيريا ،وﻫذا ﻫو الخطر الذي تمثله من
حيث قيمتها؛ فإذا كان التفكير (التفلسف) صحيحا ،وﻫو غالبا متوافق مع اتساع وغناء وإحكام
460
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لغوي ،كان الج هد في قراءة البناء التفلسفي من أساسه القريب ،تعامال مع كيان فكري له من الحق
سلطان ألنه مبني على الميزان .وأما إن كان غير ذلك فمحض لغو وعبث ،وﻫيمان في كل واد؛
ومن ال يملك ملكة النقد والفحص يرى ذلك كله يخاله فلسفة.
أليس ما تنشده الرئيانية ﻫو طريق حدسي لكسب الموضوعية لهذا الشيء وذاك وللعالم المتعين
من خالل الذاتيات البينية ،التي أعالﻫا في إطار التفلسف الهسّرلي البينية العقولية (عند كانط
الروحية الموافقة للعقل األخالقي المحض)؟! ّ
وميل بسيط عن النمطية نحو توسيع أفق الرؤية ،مما ﻫو من متطلب عقل الفيلسوف ونظره،
كان على ﻫسّرل ،أو باألصح كان في إمكانه ،ربط النقطة الها ّمة المرتكز الواضح في بيانه
المنطقي الظاﻫراتي ،مرتكز الذاتيات أو الذاتوية البينية ،عبر االمتداد والتوسيع الذي لم يفتأ
سببية المثالية الشاملة" وﻫذا التعبير يتساءل عنه في "أزمة العلوم األوروبية" ربطه بما س ّماه "ال ّ
والقول الجامع" :إن الطبيعة الالمتناﻫية بأسرﻫا كمجال عيني للسببية – وﻫذا ما ينطوي عليه ﻫذا
تصور الغريب -أصبحت رياضيات مطبقة من نوع خاص" 599وﻫذا ال ريب من الحق موئله ما ال ّ
ق' إن ِفي ذ ِلكَ آليَة ِلل ُمؤْ ِمنِينَ '﴾(العنكبوت)44 ض بال َح ّ ِ
األر َ
ت َو ْاوا ِ نزل من الحقَ ﴿ :خلقَ هللاُ الس َم َ
سمى'﴾(الروم)7 ض َو َما بَ ْين ُه َما إال بال َح ّ ِ
ق َوأ َج ٍل ُم َ األر َ
ت َو ْ
اوا ِ
وقوله سبحانهَ ﴿ :ما َخلقَ هللاُ الس َم َ
واألجل المتض ّمن لمعنى الزمن يحيل إلى كل العلوم الطبيعية في سكونها وحركيتها.
أما الحقيقة الثانية ،فهي رد ﻫذا األساس تاريخيا إلى غاليلي؛ فذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة
صدق في البيان كله؛ ال يسلك البيان
صدق التاريخيين والفلسفيين .إن الفلسفة ينبغي لها ال ّ
وال ّ
الفلسفي الحق بما ﻫي تحري الحق في الوجود ،ال يسلك في البيان سوى التعبير الحقيقي ،من غير
مجاز يعمي الحقائق ويحرفها؛ وبالطبع ﻫذا ليس من صنف الخطإ المعرفي ،الذي قد يعذر فيه.
وأرى ﻫنا أن الحالة ﻫنا بالنسبة لهسّرل ﻫي من صنف الخطإ المكرس؛ ولقد أومأنا من قبل في
كثير من المواضع ،في "ميثاق الكتاب ..اإليمان بين النفي واإلثبات" أو "الجابري دون عتبة
القرآن الكريم والمرجفون في الفلسفة" وفي غيرﻫما ،أن القرص الصلب في األنا الغربي أو
العقل الغربي ذو صبغ ديني ،في مفارقة صارخة وﻫو يهجره وينأى وينهى عنه.
599ن م – ص78
461
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
في القسم الثاني من " أزمة العلوم األوروبية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية" "أيضاح أصل
التعارض بين النزعة الموضوعية الفيزيائية والنزعة الذاتية الترنسندنتالية في العصر الحديث"
يثير ﻫسّرل حقيقة جد ﻫامة غالبا ما يُحار عنها وما ﻫي بمجهولة عند علماء بني إسرائيل وفقهاء
التاريخ منهم ،الذين ينظرون إلى لوحات التاريخ من حيث ما تقوم عليه من األفكار والحقائق.
وبإيجاز ،فالتغيّر الذي طرأ على روح الفلسفة لتضحى ليس فحسب فلسفة شمولية ،بل كما يجب
أن تكون في حقيقتها علمية ،ال يدخل فيها ما ليس بذي أساس منطقي وعلمي؛ ﻫذا التغيّر ليس
يؤطر بهذه العناوين:
«إننا نحتاج إلى تأويل دقيق لما يتضمنه ﻫذا االعتقاد التلقائي لغاليليه ولالعتقادات التلقائية
الرياضية للطبيعة بالمعنىاألخرى التي انضافت إليه خالل عمله ،وحفزته إلى فكرة المعرفة ّ
الجديد الذي اتخذته عنده .إننا منتبهون إلى أنه ،ﻫو فيلسوف الطبيعة ورائد الفيزياء ،لم يكن بع ُد
تحرك بع ُد في رمزية بعيدة عن فيزيائيا بالمعنى الكامل الذي نعرفه اليوم؛ وبأن تفكيره لم يكن ي ّ
الرياضين؛ وبأنه ال يحق لنا أن ننسب له «اعتقاداتنا الحدس مثل تفكير رياضيينا وفيزيائئينا ّ
600
التلقائية» التي نشأت بفعله وبفعل التطور التاريخي الالحق».
إن مرجعه إلى االعتقاد القطعي في التناسق الوظيفي الكوني من غير فطور وال اختالل،
تناسق آية على أحادية القانون الحق ومنه أحادية اإلله؛ بل على أساسه نزل من القرآن وعلم
الكتاب ما ﻫو بمنزلة البرﻫان ،وذلك من معنى اآلية في اللسان ،نزلت اآلية الكريمة من القرآن
ضاألر ِ
ت َو ْاوا ِ المجيدَ ﴿ :وإل ُهك ْم إلهٌ َواحِ ٌد' ال إلهَ إال ﻫُ َو الر ْح َما ُن الرحيِ ُم' إن ِفي َخل ِ
ق الس َم َ
462
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
س َماءِ مِ ْن اس َو َما أنز َل هللاُ مِ نَ ال ّ ار َوالفلكِ التٍي ت ْج ِري فِي البَحْ ِر ب َما يَنف ُع الن َ َواختالفِ الل ْي ِل َوالن َه ِ
سخ ِر َب ْينَب ال ُم َاح َوالس َحا ِ
الريَ ِص ِريفِ ِ ّ ض بَ ْع َد َم ْوتِ َها َوبَث فِي َها ِم ْن ك ِّل َداب ٍة َوت ْ األر َ
َماءٍ فأ ْح َيا ب ِه ْ
لقو ٍم يَ ْع ِقلونَ '﴾(البقرة )164-162فاآلية الثانية برﻫان واضح جلي تجربة ت ْ ض آليَا ٍ األر ِس َماءِ َو ْ
ال ّ
تصور فكرة كلية ّ وقانونا لآلية األولى .وإن ﻫذا لهو عين ما عبر عنه ﻫسّرل حرفيا بقوله« :إن
601
للوجود ال متناﻫية مع علم عقلي يهيمن على ﻫذه الكلية نسقيا ﻫو األمر الجديد تماما»
وﻫذه القانونية للبيئة الكونية والطبيعية التي طابقها باللفظ قوله «صورة شاملة للعالم واحدة
صة باألشكال، فقط ال صورة مزدوجة ،وهناك هندسة واحدة فقط ال ﻫندسة مزدوجة ،وﻫي خا ّ
صة بالمالءات .بمقتضى البنية القبلية للعالم يتوفر كل جسم من أجسام العالم
وال وجود لثانية خا ّ
الخاص به ،لكن كل ﻫذه االمتدادات ﻫي أشكال
ّ مجرد-
ّ الحدسي التجريبي على امتداده – بمعنى
لالمتداد الواحد الالمتناﻫي الكلي للعالم .إنه كعالم ،أو كهيئة شاملة لكل األجسام ،له إذن صورة
كلية تشمل كل الصّور ،وهذه يمكن إمثالها والسيطرة عليها عن طريق التركيبب الكيفية التي
602
حللناﻫا».
إن ﻫذه ﻫي أزمة العقل الغربي الحقيقية؛ بالطبع ال يخلو لسان ﻫسّرل يبين عن أمرﻫا خالل
تفلسفه وتعبيره الفلسفي .لكن مكره ﻫو على ﻫذا الخطاب غير المسموح فيه بتجاوز ما أقره
صراع السّياسي الغربي التاريخي .إن خطاب ﻫيجل ومسافته عن المادة والقاموس الديني ال ّ
األرض ،أمست بعيدة أمرا أو ائتمارا ،طوعا أو كرﻫا؛ تصريحا تعبير اإليمان برسالة السّماء إلى ْ
أصبح مفهوم الميتافيزيقا معبرا عن الفلسفة األولى تعبيرا ينأى بها عن الشرعية الخطابية الجديدة
صراع التاريخي ،الذي كانت الثورة الفرنسية ونبذ الدين خارج الدولة وبالتالي
التي أسفر عنها ال ّ
الدعوة إلى محاربته تقريرا تواجديا مع ما يكون دوما من خطاب ملتبس على نفس تلبيس الحق
بالباطل والدين بفساد اإلكليروس..
ﻫذه األزمة ﻫي كامنة في عدم إرادة النظر في هذه "البنية القبلية" التي يؤسّس عليها ويم ّدد
على أساسها! وللعلم فالقرآن العظيم والمكي منه على الخصوص ﻫذه ﻫي أساس دعوته وبرﻫانه
وآيته.
601ن م – ص11
602ن م – ص73
463
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وكذلك ما أرى ﻫسّرل وﻫو يملك عقل القصدية وتحديدا بنسق المجاوزة ،الحامل للصبغ
التبايني أو المباين ،أن ينطبق عقوليا وتفلسفا بعين الوحدة الوجودية لسبينوزا .وإنا نقول ﻫذا لكون
قوله "الالمتناهي" يجاوز النهائي والمحدود الممثل للخلق والمخلوق.
وأما عن التركيب أو "الترييض غير المباشر" بتعبير ﻫسّرل ،الذي ننبه ﻫنا ونسطر على
نسبيته ،وإن ﻫو إال الهيئة الهندسية – وهلل المثل األعلى سبحانه! -التي خلق هللا اإلنسان عليها،
حواس ،العقل
ّ صحيح وأساس العلم أو العلوم البشرية ،إذ تقوم على العقل وال وﻫي التأصيل ال ّ
حواس متناسقة وظيفيا وخلقيا وأبعاديا أو بعديا مع البيئة الوجودية
ّ بوصلة للمنحى السّلوكي ،وال
والمستخلف فيه .وﻫذه الحقائق كلها منتظمة مع أعظم ما توصلنا إليه من قبل في خلقية المنطق
الرياضيات البشريين ،أي أنهما فطريان ليسا مما يكفر به من فطريتهما بتعبير أنهما من إبداع و ّ
العقل البشري؛ فالعقل واإلدراك البشري محدد بخاصتين ،تجزيئيته الخلقية والثانية سعيه استتباعا
لألولى في التجميعية أو التركيب.
ولما كانت آلية التركيب عقلية فضاء عملها قانوني ،والبنية القبلية في مجال قانوني ،ونحن قد
صيغةالرياضيات ﻫي ال ّ
برﻫنا على الحق الذي تقوم عليه ﻫذه المسماة "قبلية" عند ﻫسّرل ،و ّ
العقلية الحقة في اإلمكان للوجود والطبيعة أو المستخلف فيه ،ولكونها حدسا وإسقاطا تفصيليا
الرياضية وإن لم
للحق على العقل البشري ،والحق مهيمن على الوجود كلية؛ إذن فالمعيارية ّ
تصورﻫا ،ﻫي مطلقة" .وإن قال قائل واعترض معترض :كيف سنطابق بين األنساق ّ نستوعب
ُ ُ
الرياضية أو كيف نعَ ِّمل َها في العناصر والوقائع التاريخية ذات الماﻫية المختلفة عن ماﻫية
ّ
الرياضي ة ،والعنصر التاريخي يحتوي البعد الزمني واالجتماعي والنفسي والصيرورة ّ العناصر
المرتبطة بعدد يكاد ال ينتهي من العوامل؟
قلنا له إن ﻫذا ﻫو بالضبط ﻫو المعنى الذي لل ِمعيارية والنموذجية الذي يجب أن يتسع له عقلك
تصور ينبغي له أوال أن تدرك معنى البُعد ومن الهندسة األوقليديةويستقر في خلدك .وﻫذا ال ّ
ابتداء كونه مطلقاّ ،
وأن الك ّم الممثل للخلق أو الكائن الكوني ممثال في الجسم ليست تبقى مِ عياريته
ونموذجيته كما يتبادر إشكاله في المنتظم المثالي الدالة عليه الهندسة المستوية أو األوقليدية ،وإنما
لدينا مع الزوايا المجسمة وأحجام المجسمات ذات السّطوح المنحنية 603عند الحسن بن الهيثم
الرياضيات التحليلية بين القرن الثالث والقرن الخامس للهجرة -الجزء الثاني-
603انظر الفصل الثاني من " ّ
الحسن بن الهيثم
464
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
رحمه هللا متما واتساقا لمسار اجتهادي عظيم منطلقا من آل الخوارزمي بني موسى ومن تلميذﻫم
الرياضية ثابت بن قرة ،لدينا في ذلك تمثيلية مطلقة ،ألنها تتسع لمطلق ذروة من ذرى العُقول ّ
التغيّر والالمنتظم .وليتسع تقرير ما عبرنا عنه في كتابنا "األصول الحقة للرياضيات" ب كون
الرياضيات فيزياء المحسوس ، 604إلى التقرير بأنها فيزياء (بالنسبة للعقل البشري) لما يخلق هللا ّ
تعالى في األ ْرض وفي االجتماع البشري وفي األنفس واآلفاق مجاال واحدا كلية وتجزيئا؛ وذلكم
ي القيّوم.
ال مماراة أن الكون قائم بالحق وإن هللاَ سبحانه الح ّ
صعود اإلدراكي ِمعيارية مهيمنة على الحقل الوجودي
قلت :إن لنا في اإليغال األ ْب َعادي وال ّ
605
المادي التاريخي بكل أ ْب َعاده الزمني واالجتماعي والعقلي والنفسي".
فهذه القانونية والمعيارية ﻫي بالتالي كفل قيام وتأسيس العلوم ووثوقيتها؛ إنه األساس
الرياضية 606التي يسميها أو سماﻫا ﻫسّرل االعتقادي التاريخي في المنهاج التجريبي والمعيارية ّ
الرياضية الشاملة" وقبيل ﻫذا مما جعل مبدأه وخاله بدع مع ﻫنا "ترييض الطبيعة" و"األمثلة ّ
غاليلي حتى قرر ﻫذا الترييض للطبيعة موصوفا به ومسندا إليه "الترييض الغاليلي للطبيعة"!.
الرياضي الهندسي إلى أوروبا النهضة والعصر وباتصال من القديم ممثال في اليوناني وأوقليدس ّ
الحديث ،بحيث ال تحيل دعوته إلى إنصاف الممهدين لجاليلي في األصل إال لهؤالء؛ ﻫكذا.
ضل أبو حامد الغزالي في نقده ألخذ الحسين بن سينا بهذه المعيارية .لكنأن َوبالذات فال جرم ْ
"ﻫذا الباحث الفرنسي «دوالمبير» يقول في كتابه «تاريخ علم الفلك» :إذا عددت في اليونان
اثنين أو ثالثة من الراصدين أمكنك أن تعدد من العرب عددا كبيرا غير محصور .وأما في
الكيمياء فال تجد مجربا إغريقيا مع أن المجربين من العرب فيها يعدون بالمئات .فقد ﻫذبوا في
ﻫذا العلم ما أوحى به إليهم اطالعهم الفائض مستنبطين مخترعين مدققين حتى أسسوا المراصد
607
بأنحاء العالم ،فكان أول مرصد إشبيليه الذي كونته اليد العربية كمراصد أخرى شيدت بعد".
604انظر "األصول الحقة للرياضيات ،الفصل الثاني عشر ،اإلنشائية النسبيَّة للرياضيات البشرية ومفهوما
«الالمحدد» ومنتهى «منتهى» الصغر» -ص211..213
605جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي – ص518-517
606بياننا ومؤلفنا "جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي" كان قبل اطالعنا المخصوص على تفلسف هسّرل
وبيانه
صناعات وأستاذيتهم ألوروبا – عبد هللا بن العباس الجراري -دار الفكر العربي-
607تقدم العرب في العلوم وال ّ
-6376-6816ص28
465
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الرياضية
إن قوله « :وفي بدايات العصر الحديث فقط ابتدأ الغزو واالكتشاف الحقيقي لآلفاق ّ
الالمتناﻫية .ﻫكذا نشأت بدايات للجبر ،ولرياضيات المقادير المتصلة وللهندسة التحليلية .وانطالقا
من ذلك سرعان ما تم بفضل الجرأة واألصالة المميّزتين للبشرية الجديدة استباق المثل العظيم
608
لعلم عقلي بهذا المعنى الجديد شامل كامل».
إنك لو خرجت بالفعل ،وأنت تتفحص البيان أو الكالم التفلسفي لهسّرل ،من التواجد في الفضاء
الفلسفي ،بمعنى أنك تخرج عن تعميل المجاز الفلسفي ،الذي باعتبار صبغة ودرجة التفكير
تصورة ﻫكذا في مقام خطاب فلسفي ،مقام التفلسف والفالسفة، والعقل المفترضة أو المعتبرة والم ّ
لو تخرج منه إلى فضاء الخطاب المعلوماتي أو النحوي التوليدي ،من معياريتيهما تخصيصا
صيغة والجملة العميقة؛ وﻫذا يقتضي علما ومنطقيا تحويال بنيويا منتظما ْ
إن قانون االقتصاد في ال ّ
معلوماتيا أو إبانة وتعبيرا ؛ إنك لو أمطت ﻫذا التسويغ المسوغ لكل كلمة في ﻫذا الخطاب وأزحت
عنك مصداقيته ومنطقيته المسبقة التي يعطاﻫا من المقام ،فإنك واجد فيه ال محالة من التفاقم
صنوفا أبرزﻫا تكرار وتردد لنفس المعلومة أو المعلومات ،ونفس الجملة أو الجمل ،فهي التي
تهيكل ﻫذا المقدم على أنه بيان فلسفي ،وﻫي بذلك واضحة في داللتها المنطقية والبيانية الفلسفية،
وجود مأزق في التفكير ليس شيء غيره.
لقد تكلمنا فيما سبق وأعطينا بصدده ما ﻫو واضح مبين ،خصوصا بشأن قصدية ﻫسّرل
وتأ ّمالت ديكارت التي رددﻫا ﻫسّرل بتحويل ظاﻫر لفظا ومعنى .وﻫا ﻫو ﻫسّرل يضع قطعة
تاريخية تفلسفية بنقاطها الخطاطية البارزة :ديكارت ،سبينوزا ،لوك ،بركلي ،ﻫيوم ،يضعها
صيغة:ويحتويها في ﻫذا الكالم وﻫذه ال ّ
« سيسير ﻫيوم في ﻫذه االتجاﻫات إلى النهاية .كل مقوالت الموضوعية التي نفكر فيها عالما
تفكر الحياة ُ العلميةُ أو
ُ موضوعيا خارج النفس ﻫي أوﻫام ،سواء المقوالت العلمية التي فيها
الرياضية :العدد، المقوالتُ قبل العلمية التي فيها تفكر الحياة اليومية .ﻫذا يتعلق أوال بالمفاﻫيم ّ
المقدار ،المتصل ،الشكل الهندسي ...إلخ .إنها ،كما يمكن أن نقول ،إمثاالت للمعطى الحدسي لها
الرياضيات التي يُعتقد أنها قطعية ضرورة منهجية .لكنها حسب أوﻫام ﻫيوم ،ونتيجة لذلك فإن كل ّ
ﻫي أوﻫام .بالتأكيد تفسير مصدر ﻫذه األوﻫام سيكولوجيا (وذلك على أرضية نزعة حسية
محايثة) ،أي انطالقا من قانونية تداعي األفكار وترابطاتها .لكن حتى مقوالت العالم قبل العلمي
466
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المعطى ببساطة في الحدس ،مقوالت الجسمية (أي ﻫوية الجسم الثابتة التي يُعتقد أنها تكمن في
التجربة الحدسية المباشرة) مثل ﻫوية الشخص التي يعتقد أنها معطاة في التجربة ،ليست سوى
أوﻫام .إننا نتكلم مثال عن «ﻫذه» الشجرة ﻫناك ونميز بينها وبين كيفيات تجليها المتغيرة .لكن ال
يوجد في النفس بصفة محايثة إال «كيفيات التجلي» ﻫذه .ﻫناك مركبات من المعطيات ،وﻫناك
دائما من جديد مركبات أخرى من المعطيات «مترابطة» طبعا فيما بينها على نحو منتظم بفضل
التداعي ،وﻫذا ما يفسّر الوﻫم بوجود ﻫوية تتم تجربتها .وكذلك األمر بالنسبة للشخص :إن «أنا»
مطابقا لذاته ليس معطى ، 609بل ﻫو ركام من المعطيات المتغيرة دون انقطاع .الهوية ﻫي وﻫم
سيكولوجي .ضمن ﻫذا النوع من األوﻫام تدخل أيضا السّببية ،التعاقب الضروري .إن التجربة
المحايثة ال تبين إال «بعد»610؛ أما «بسبب» ، 611أو ضرورة التعاقب ،فهي ليست سوى دس
وﻫمي .ﻫكذا يتحول في كتاب ﻫيوم رسالة في الطبيعة البشرية 612العالم عموما ،الطبيعة ،عالم
األجسام المتطابقة ،عالم األشخاص المتطابقين ،وتبعا لذلك أيضا العل ُم الموضوعي الذي يعرف
كل ذلك في حقيقته الموضوعية ،إلى وﻫم .يجب أن نقول كنتيجة لذلك :العقل ،المعرفة ،بما في
ذلك معرفة القيم الحقيقية ،المثل الخالصة من كل نوع بما فيها المثل األخالقية – كل ذلك
613
وﻫم».
ولك أن تعجب إذا علمت أنه مع ﻫذا الموقف المناوئ لهسّرل من ﻫيوم وبح ّدة ممزوجة
بالحسرة واألسف حتى؛ فإنه ﻫو الذي ينطق ويُسطر ﻫذا الكالم:
«لم يتعمق ديكارت في أن العالم العلمي مفكر ألفعال تفكير علمية مثلما أن العالم الحسي
اليومي مفكر ألفعال تفكير حسية ،ولم يتنبه للدور الذي وقع فيه عندما افترض سلفا ،في دليله
609
Datum
610
post hoc
611
Propter hoc
612
Treatise
613ن م – ص611
467
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
على وجود اإلله ،إمكانية نتائج تتعالى على األنا ،في حين أن ﻫذا الدليل ﻫو الذي كان ينبغي أن
يؤسّس ﻫذه اإلمكانية .لقد كان ديكارت بعيدا تماما عن إدراك أن العالم ذاته بأكمله يمكن أن يكون
مفكرا ناشئا عن التأليف الشامل ألفعال التفكير المتعددة المنسابة ،وأن اإلنجاز العقلي ألفعال
التفكير العلمية التي تنبني عليها ،والذي ﻫو من درجة أعلى ،يمكن أن يكون مؤسّسا للعالم
العلمي .لكن ألم يقربنا بركلي وﻫيوم من ﻫذه الفكرة – على افتراض أن ُخلف ﻫذه النزعة
التجريبية ال يكمن إال في اقتناع معين يُعتقد أنه تلقائي تم بفعله إبعاد العقل المحايث منذ البدء؟
بفعل إعادة إحياء المشكل األساسي الديكارتي وتجذيره من بركلي وﻫيوم ،لقد تم ،من منظور
عرضنا النقدي ،زعزعة النزعة الموضوعية «الدوغمائية» من األعماق :ليس فقط النزعة
الموضوعية الترييضية التي كان المعاصرون مولعين بها ،والتي تنسب في الحقيقة للعالم ذاته
وجودا في ذاته رياضيا -عقليا (نصوره ،إن جاز التعبير ،دائما في نظرياتنا الكاملة كثيرا أو
614
قليال) ،بل النزعة الموضوعية عموما التي سيطرت على مر آال ف السنين».
بالطبع لقد كان األمر يقتضي أن تنتهي الفقرة األولى بالسّؤال ليستأنف بالفقرة الثانية من أول
السطر ب" بفعل إعادة"...
إن قصور وخطأ وضالل برﻫان ديكارت الوجودي وليس فحسب وقوعه في الدور ،ﻫذا ت ّم
صحيح؛ فإن ﻫذه المواد: الحس ُم فيه ،ولكن كذلك ﻫسّرل لم يشر وال نجح وما اﻫتدى إلى البرﻫان ال ّ
ووحدﻫا التي ذات صبغة ومحمل استداللي ،ال تتجاوز توصيف المخطئ من دون أن ترشده
صواب ،وتحدد له منحى البرﻫان. وال أن تدله وتهديه إلى ال ّ
وإن نحن عزلنا الحق العقلي (من غير اﻫتمام ﻫنا بالتعليل) أو اعتبرنا البنائين خارجه؛ فسيبقى
تمايز الموضوعيتين السّيكولوجية والقصدية في ركني البناء :النفس والبداﻫة على التبع.
فالسّيكولوجية ﻫنا لها سلطان منطقي بمرجع نسبي ،يتقوم منهاجا بهيمنته على المنطق
الرياضي ات البشريين وانتظامه القانوني بهما .فهذا من الناحية المنهاجية والمنطقية (ودوما من
و ّ
614ن م – ص616-610
468
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
غير اﻫتمام بالتعليل) أقوم بناء من التأسيس ع لى ركن البداﻫة االعتقادي البدئي الذي ﻫو دون
التجريبي .وال بد من االنتباه أن ﻫسّرل سوف يهدم حتى الغاية من ﻫذه البداﻫة ومن تعليق العالم،
سوف يهدم وضع النظماتية والوحدة القانونية والذاتية البينية؛ وذلك بزعزعته ل "النزعة
الموضوعية الترييضية" التي لم ينتبه إلى كونها والنظماتية الوجودية ومصدر الذاتية البينية من
صعود بالبرﻫان الذي أخطأه ديكارت .ولكن ينبغي االنتباه جيدا صة ال ّ
ذات ونفس المشكاة؛ وأنه من ّ
أن التعليل ﻫنا ﻫو أخطر المستويات والقضايا الفلسفية بل أﻫمها على اإلطالق ،وموقع ﻫذا
البرﻫان ومقتضاه الواضح فلسفيا ﻫو إشكال الفلسفة الغربية وأزمتها العقلية والوجودية ال شك.
ف قد َر ثم إنها أزمة ليست ببعيد عمن نزل فيه قول الحق -سبحانه!﴿ :-إنهُ َ
فكر َوقد َر فقتِ َل ك ْي َ
س َر ثم أ ْد َب َر َوا ْستكبَ َر﴾(المدثر)24..19
س َوبَ َ
عبَ َ
نظر ثم َ
َ
إنها أزمة الجحود صريح النكوصَ ﴿ :و َج َح ُدوا ب َها َوا ْست ْيقنت َها أنفسُ ُه ْم ظلما َوعُ ًّلوا'﴾(النمل)13
ت
اوا ِق الس َم َ إنه الدليل الحقَ ﴿ :وإل ُهك ْم إلهٌ َواحِ ٌد' ال إلهَ إال ﻫُ َو الر ْح َما ُن الرح ِي ُم' إن فِي َخل ِ
اس َو َما أنزلَ هللاُ مِ نَ ار َوالفلكِ ال ٍتي تجْ ِري فِي ال َب ْح ِر ب َما يَنف ُع الن َ ض َواختالفِ الل ْي ِل َوالن َه ِ األر ِ
َو ْ
ب
اح َوالس َحا ِ الر َي ِ ض بَ ْع َد َم ْوتِ َها َوبَث فِي َها ِم ْن ك ِّل َداب ٍة َوت ْ
ص ِريفِ ِ ّ األر َس َماءِ ِم ْن َماءٍ فأ ْح َيا ب ِه ْ ال ّ
لقو ٍم يَ ْع ِقلونَ '﴾(البقرة)164-162 ت ْ ض آليَا ٍ األر ِ
س َماءِ َو ْ سخ ِر بَ ْينَ ال ّال ُم َ
469
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إن التأريخ الحصيف ال المكرس في الخطاب المدرسي والتفلسف المحتضن ،ليس يشك فيه
مثقال ذرة بأن ترييض المكان وجعله موضوعا للرياضيات باعتبارﻫا فيزياء للمادي وللفضاء
وللمحسوس جملة ،كان أول ما كان مع بزوغ نجم الحسن بن الهيثم -رحمه هللا!(-ت1042م)
في سماء المدارات العقولية البشرية ،إئذانا بنهاية الطور األرسطي بفاصل مميّز في تاريخ العقل
تصور أو تعريف "مكان الجسم" ،وذلك من قبل أنّ الرياضيات البشرية ،وتحديدا في البشري و ّ
يولد جاليلي (1363م1632-م) ويعرف النور بنحو مئات عدد من السنين ،نحو ست مائة سنة،
تصور القائم على المحددات القياسية باألساس والمحض رياضية: ال ّ
"وكل بعد متخيل إذا انطبق عليه بعد متخيل صارا جميعا بعدا واحدا ،ألن البعد المتخيل إنما
ﻫو الخط الذي ﻫو طول ال عرض له .والخط الذي ﻫو طول ال عرض له إذا انطبق على خط ﻫو
طول ال عرض له ،صارا جميعا خطا واحدا ،ألنه ليس يحدث بانطباقهما عرض وال طول زائد
على طول أحدﻫما .فالخطان المتخيالن انطبق أحدﻫما على اآلخر ،صارا خطا واحدا ﻫو طول ال
عرض له .فالخالء المتخيل الذي قد مأله الجسم ﻫو أبعاد متخيلة قد انطبق عليها أبعاد الجسم،
615
وصارت أبعادا واحدة بعينها".
ال بد من التنبيه كون داللة التخيل ﻫنا تحمل على معنى التذﻫن المحيل والكافل للحقيقة
الوجودية.
470
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تصورته كجسم متصل ،أو كفضاء ممتد بال نهاية طوال وعرضا، ّ « ...كائن الهندسيين ،الذي
وارتفاعا وعمقا ،يمكن تقسيمه إلى أجزاء مختلفة تستطيع أن يكون لها أشكال ومقادير مختلفة،
616
تحرك أو تنتقل بكل الطرق»
وأن ت ّ
وال يفوت د .رشدي راشد في ﻫذا المقام من الخطاب الذي له مع طبيعته التاريخية العلمية ،له
من الشأن أخطره وأواله بانتباه األمة وعقولها ،ال يفوته أن يؤكد قائال:
تجن على الحقيقة ،نستطيع أن نجزم أن ﻫذا االتجاه ﻫو الذي اعتمده رياضيو [بعيدا عن أي ٍّ
القرن السابع عشر ،كل على طريقته ،مع اختالفات ينبغي تحديدﻫا في كل حالة على حدة.
تصور المكان كقطعة من صة الهندسية ،617حيث ي ّ لنتوقف على سيل المثال عند ليبنز في الخا ّ
الفضاء الهندسي .المكان ﻫو وضع برأي ليبنز ،أي عالقة بين النقاط المختلفة لتركيب ٍة (لكائن)،
618
ويشير إليه مستخدما «]».
ي التفكير أن يجادل في سبقية ترييض المكان أساسا ونسقا قاعدة وعاء ال يمكن ألحد سو ّ
لترييض مالء المكان مما س ّماه ﻫسّرل بالترييض غير المباشر ،ثم إننا قد بينا على االستنباط
الرياضي البشري في شأن المعياري للهندسة غير المستوية وخصوصا ما أسداه ابن الهيثم للعقل ّ
الهالليات حال لتربيع الدائرة ،أن ﻫذا االمتداد في السّريان الحسابي للقياس لمختلف المجسمات
الرياضيات ،آية بينة أن الوجود كله في طوال ومساحات وأحجاما ،أنه إعالم بمطلقية معيارية ّ
مطلق أبعاده ومالئه ،كل ذلك قائم بالحق .ومن ﻫنا يتجلى كم ﻫو مجانف للتاريخية وللصدق
التاريخي ﻫذا التكريس للتحريف ،وبنحو من األسلوب ،الذي يعطي حيازة السبقية في ﻫذا
صعود العظيم لغاليلي:
ال ّ
« Dans le Saggiatore Galilée avait écrit: «La philosophie est écrite dans
ce vaste livre qui constamment se tient ouvert devant nos yeux - je veux
471
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ّ
إن جنفا عظيما لحاص ٌل إن أنت قرأت ﻫذا الكالم أو النص من غير زيادة وال نقصان ،أو من
غير لفظة ولو بإيجاز ،لفظة ترد الفضل إلى أﻫله كما كان يحرص عليه علماء المسلمين ،وﻫم قد
بلغوا في مجاالت مميّزة أعلى ممن قبلهم ،كانوا يصرون ويحرصون أيما حرص على ذكر من
أخذوا عنهم.
واآلن لنتساءل ﻫل كان لزاما على اإلنسان إن أراد أن يعلم ويؤمن بالحق في الوجود ،وﻫو
المعنى المنطبق باإليمان باهلل تعالى ،الذي كلما ذكر بعد االنفصام التاريخي المعلوم بفعل فساد
اإلكليروس ،اشمأز رائد العقل واألنا الغربي ،وأصبح قاموس اإليمان والكفر محوال على صيغ
أخرى تنأى عنه حتى في البيان إمعانا في ﻫذا االشمئزاز والنفور :الميتافيزيقية ،الريبية
التاريخية ،الريبية السّيكولوجية ،الريبية الظاﻫراتية ،بل وريبية عقلية!..
ﻫل كان لزاما على اإلنسان إن أراد أن يعلم بأن ال إله إال هللا أن يكون فيلسوفا وأكثر الفالسفة
صات بالعلم الوضوح. ال يفهم بعضهم بعضا؟! وإن أولى الخا ّ
619
ET L’HOMME CRÉA LE MONDE par Jean-Pierre VERDET astronome à l’observatoire
de Paris- CIEL et ESPACE N°249 JUILLET-AOUT 1990- p33
472
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
نوح َوالنبيئِينَ ِم ْن بَ ْع ِد ِه'﴾(النساء )162حقيقة مبرﻫن ٍ فالوحي﴿ :إنا ْأو َح ْينا إل ْيكَ ك َما ْأو َح ْينا إلى
ُفترى' َول ِك ْن ت ْ
ص ِديقَ ال ِذي بَ ْينَ عليها بوضوح ال حجة بعده ،التصديق والتفصيلَ ﴿ :ما كانَ َح ِديثا ي َ
قو ٍم يُؤْ ٍمنونَ '﴾(يوسف)111ش ْيءٍ َوﻫُدى َو َر ْح َمة ِل ْ تفصي َل كل َ
يَ َد ْي ِه َو ِ
وإذا كان يُبنى على "البنية القبلية" للعالم مرتكزا بداﻫيا ،أليس التناسق البنيوي لإلنسان وأناه
الخلقي ،أي ﻫو تناسق قانوني ،مما ال يُرجى للعاقل فوقه من وعقله ،حتى في أنساقه ذات األصل ِ
دليل ومستوى حصول ذاتية بينية وجودية في إثبات الوجود ،ووجوب اإليمان ،لينتقل من السّؤال
صارم الواضح المبين ،واليقين الذي ال يرتد عنه ولو تفنى النفس والشك إلى الجواب المنطقي ال ّ
هللا
قو ِم ا ْعبُ ُدوا َ
والجوارح؟ وإن ﻫذا لمثله خطاب نبي هللا صالح -عليه السالم! -إلى قومه﴿ :قا َل َيا ْ
َما لك ْم ِم ْن إل ٍه َ
غ ْي ُرهُ' ﻫُ َو أنشأك ْم ِمنَ ْ
األرض َوا ْست ْع َم َرك ْم فِي َها﴾(ﻫود)60
وليس يتطلب سوى تحييد الرصيد غير المنطقي للمقول التفلسفي الذي يعتبر دوما فلسفيا ،حتى
ليكفي النسق العقلي األولي الذي به يكون اإلنسان عاقال سوي التفكير ،ليعلم أن جل الخطاب إياه
مجرد عبث في لون خطاب منتهى العقل ،ألن داللتي "البنية القبلية" و"البداهة" مستوفيا التحقق ّ
على الحد األقصى ،في آية الخلق مما سميناه من بعد استجالئه (في كتابنا تفصيل الخلق واألمر-
الجزء األول) بالدليل األقصى .ولذلك ،وكان هللا عليما حكيما وله سبحانه الحجّة البالغة ،لذلك
كانت ﻫذه اآلية وإلى يوم الدين محورية في الدعوة إلى اإليمان ودليال مبينا ال حجة للناس من
بعده .وﻫذه ﻫي نقطة االلتقاء بقولة الرازي – رحمه هللا! -ليس يجب اعتبارﻫا ندما ،فهي في
الحقيقة وواقع األمر نتيجة جهد واستنتاج.
إن ﻫذا بشأن القضية الكبرى أخطر القضايا في الوجود اإلنساني في ﻫذا العالم ،وﻫي بقدر
وضوحها حيث موضوعها الوجود واألمر بالتواجد القانوني القائم عليه أمر الكون ،بقدر المدى
توا ونُفورا. الذي يأخذه السّؤال عن ﻫذا اإلعراض وفي صيغ أش ّد ُ
ع ًّ
وإذا كان خطاب الحق موفيا ﻫدفه الخطابي مثبتا حجته البالغة على العالمين؛ فإن ما يهمنا ﻫنا
بنحو مخصوص ،ﻫو فقه الخطاب ،وال نهدف من ورائه بالطبع إثبات حجية أعظم الحجج فيما
تصور جالء ووضوحا ،وهللا تعالى بالغ أمره ،ولكن نتوخى كشف الغطاء عن العقل التاريخي ي ّ
473
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
العلمي والفلسفي الحق ،لينظر بيقين الشاﻫد ،كيف كان الترييض والتحكم العلمي والتجريبي في
صناعي.
صناعية واالبتكار ال ّ
الطبيعة وكيف كان ّأول الهندسة ال ّ
العلم ،وعلم المخلوق وعلم البشر تفصيل للحق ،ف على درجة وقيمة العزم
َ إنه لما كان مر ّد القدرة
تكون قدرة التحكم؛ وذلك بأعلى ما يكون من التأصيل البنيوي لقانون المجال المنطبق بالحق.
إن امتالك العقل البشري لهذه الكفاءة التسخيرية لم تأت عبثا وال فجاءة وال على جهة واحدة
محدودة .ولئن كان الحسن بن الهيثم ليس أوحد زمانه وإنما ﻫو ممثل بارز لتجميعيتها العقولية
الرياضي والهندسي ،فإنه يعتبر ذروة في ﻫذه التجميعية النبوغية بفورة تاريخية على المستويين ّ
الرياضي والهندسي أو االنتقال العربية اإلسالمية ،وخصوصا من حيث االنتقاالت الطورية للعقل ّ
من طور إلى طور ،باعتباره الحركي لألشكال الهندسية المقترن عنده بمفهوم "المعلومات"
موسع بجدة غير مسبوقة إطالقا؛ فالهندسة األوقليدية وجوارﻫا البعدي كانت سكونية ،ليس
تصور لم يهتد إليه أسالفه
ّ تصور فيها حركية وال ﻫو من ممكن المفكر فيه ،ثم ليتسق ذلك مع
ي ّ
تصور معياري ،معياريته ﻫاته ّ علوه بالقول إنه
تصور يكفي أن نقرب ّّ الرياضيين،
من الفالسفة و ّ
ﻫي أساس العالئق بن األشكال والمجسمات ووسيط القياس؛ أي كانت ﻫي ولوجية ﻫذا الطور
الترييضي والهندسي الذي غالى ﻫسّرل في تقريبه تأسيسا إلى غاليلي.
وعجيب أيّما عجب أن تكون قوة صعود ابن الهيثم على سلم المدارات العقولية مصدرﻫا ﻫو
بالذات نبذ البداﻫة والذاتية أصال للمعرفة .ولو أمعنت النظر وبحثت فيما يكون ﻫو عمل العالم
والفقيه والفيلسوف الحق ،أللفيته في آخر األمر منافيا للقنع بالبداﻫة يبني عليها ثم يسمي بناءه
ويضفي عليه من أوصاف العلوم والفكر والتفلسف .يقول دونالد ر .ﻫيل في كتابه "العلوم
والهندسة في الحضارة اإلسالمية":620
«إحدى السمات الرئيسية التي تميز عمل ابن الهيثم عن أعمال أسالفه ﻫي رفضه المدخل
البدﻫي الذي تقبل فيه الفروض على أنها صحيحة بذاتها (بديهيات) ،وأي تجارب كانت تصمم
فقط لتعزيز البدﻫيات .خالفا لهذا كان ابن الهيثم متفوقا باﻫتمامه بأصل المبادئ األولى
ومسوغاتها .واعتبر ﻫذا بمنزلة الخطوة األولى في البحث العلمي بدقة .لقد كان مدركا بحذق
474
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لقابلية خطإ اإلدراك الحسي ،وتصعب المبالغة في القول بأن جهوده لمراوغة ﻫذه القابلية للخطإ
621
القوة المولدة لمنهجه».
في كسب معرفة العالم كانت ّ
وأما طرحه للذاتية مصدرا للمعرفة فبارز بوضوح في تعريف "المعلوم" كما تناوله بمأخذ
فلسفي رياضي حسن وبديع الدكتور رشدي راشد -نفع هللا به وبارك في أثره!:-
«يجتهد ابن الهيثم كفيلسوف ،إذا جاز القول ،في تحديد معنى كلمة "المعلوم"؛ فيبدأ بالتركيز
ف المعرفة اليقينية ،أي على الالتغير والكينونة المستقلة وإمكانية اإلدراك الفكري. ص ُ على ما ي َُو ِ ّ
ووفقا البن الهيثم ،تنحصر مواضيع ﻫذا النوع من المعرفة في دائرة المفاﻫيم الالمتغيرة التي َ
يمنحها الكائن العاقل مصداقية ﻫي بدورﻫا ال متغيرة ،ويكون الكائن العاقل في ﻫذا األمر مدركا
الرياضي ،فإن ﻫذا التغيّر للمفاﻫيم ولألفكار في الظواﻫر يفرض لذلك .ومن وجهة نظر عالمنا ّ
الالتغير في المصداقية ،واإلدراكَ الذي يمتلكه الكائن عن ذلك .وبكالم آخر ،يتقدم
َ أمرين آخرين:
ال تغير المفاﻫيم ،ببعديه الوجودي المستقل والمنطقي ،على ال تغير المصداقية وعلى اإلدراك بأن
الكائن العاقل يمتلك شيئا من تلك المصداقية .وﻫذا تحديدا ما قاد ابن الهيثم نحو واقية رياضية
بدون تفاصيل ،وﻫو يكتب في ﻫذا السّياق" :المعلوم على التحقيق ﻫو كل معنى ال يصح فيه
622
التغيير ،أَعتق َد ذلك معتق ٌد أو لم يعتقده".
شروط التي تستوفيها ﻫذه المعرفة اليقينية :لزومها – ﻫو ثم يستعرض ابن الهيثم بعض ال ّ
مستقل عن الزمان والمكان؛ أما طبيعة المصداقية التي يمنحها إياﻫا الكائن العاقل – فهي
دركة .إذا ال يكفي أن نعرف أن مفهوما ما ال متغير لكي ندرك أننا نعرفه ،إنما ينبغي
مصداقية ُم َ
أن تكون ﻫذه المصداقية ال متغيرة وأن نكون نحن مدركين أنها كذلك .ويتأتى ﻫذا اإلدراك
لالتغير المصداقية إما من خالل اللزوم الحدسي – كما ﻫو الحال في الحكم القائل "الكل أكبر من
صنف الجزء" ،وإما نتيجة لقياس برﻫاني متعلق بقضية رياضية .وينتمي "المعلوم" إلى ﻫذا ال ّ
األخير وإليه فقط :فعلى مستوى الوج ود المستقل ،يشكل المعلوم مفهوما المتغيرا مستقال عن أي
621ن م – ص605
622انظر أدناه مؤلف في المعلومات ،ص – .517المرجع-
475
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
كائن عاقل؛ وعلى مستوى المعرفة يتميز المفهوم بمصداقية المتغيرة تكون إما نتيجة لحدس
623
الزم ،وإما خالصة لبرﻫان».
إن ﻫذا لهو المنهاج عند ابن الهيثم ،ومنه نعود لقول دونالد ر .ﻫيل آنفا" :وتصعب المبالغة في
القوة المولدة لمنهجه".
القول بأن جهوده لمراوغة ﻫذه القابلية للخطإ في كسب معرفة العالم كانت ّ
إن البداﻫة ﻫاته كما ﻫي في القاموس الهسّرلي يبني عليها ،ال مكان لها وال مرتكزية لها لمن
يتحرى الحقيقة .وﻫذا من دواعي وجوب وتحتم إعادة النظر في البيان الفلسفي ،أو لنقل بصريح
الرياضيات ،وﻫو بالتالي الذي سوفاللفظ ،يتحتم تحصين الفلسفة بذات المنطق الذي تحصن به ّ
الرياضي للفسلفة الحقة والمنطقية.
الرياضيات والتفكير ّ
يكشف مدى افتقار ّ
ي
مقررة بجل ّ
فالبداﻫة في الفلسفة الحقة ال ينبغي لها أن تحمل على غير البداﻫة المنطقية ،أي ال ّ
االستنباط وأدناه إلى النسق العقلية األولي ة .وأما الذاتية أو النسبوية في مصدر المعرفة ،فردﻫا من
تعددﻫا وعدم انطباق المتعدد للواحد .والفيلسوف أولى الناس بحفظ الحقيقة من كل مناحي
تحريها ،وأساسا في مرتكزات فضائها ،الذي تستمد منه صبغتها الحقائقية غير المشوبة بأي من
عوارض الخطإ والشك.
الرابع -ص201-201
الرياضيات التحليلية بين القرن الثالث والقرن الخامس – الجزء ّ
ّ 623
476
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إن اعتبار ،وتوصل الحسن بن الهيثم ﻫدى ،إلى التناول اإلدراكي للمكان ،ﻫنا نطابق معنى
القصدية عند ﻫسّرل ،تناوله من "مسافيته" وليس من إحاطيته أو حجميته ،ﻫو في واقع األمر
وتأويله ،تناوله وأخذه من سنخ وعروة قانونه الذي به كيانه الطبيعي والمادي؛ ذلك أن بعد الخط
الرياضيات
والمسافة ّأول سريان لمبدإ وقانون االختالف الكوني ،النسق األساس األول للمنطق و ّ
صة المعراج في البرﻫانالبشريين من بعد أنه رائز العقلية البشرية ومثبتها ،وﻫو أيضا من ّ
ي حد كل ﻫذا ﻫو من مشكاة واحدة! الوجودي كما بيناه .فانظر إلى أ ّ
477
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
478
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الرابع
الفصل ّ
كل يؤخذ من قوله ويرد إال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم
479
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
-1الفقيه هو ّ
الربّاني
وال تراثية الربانية
دليل من يعقل ،دليل المستوى أو المدار العقولي الذي برأ منه ومثله ابن سينا من حيث التوحيد
والوحدة النظماتية القانونية المفسّر عليه الوجود كلية واحدة ،نهجا أسسه محمد بن محمد
ي القيّوم؛ وذلك ﻫو روح منهاج ابن سينا
الفارابي ،فكانت قوانين الطبيعة ﻫي وثاق الوصل بالح ّ
صة في علم الطب .ثم إنك تجد العلمي ،وﻫو وحده فقط المفسّر لمجد سريان أحكامه العلمية ،وخا ّ
من بعدﻫا من يقول بالحرف ويسطر بالقلم وينشر كتبا:
"وبذلك أفضت نظريات الفالسفة إلى تعطيل مفهوم التوحيد في مناﻫج العلوم العقلية والطبيعية
وتدنيسها بلوثة الفكر الجاﻫلي الفلسفي الدخيل على األمة مما حدى بعلماء المسلمين إلى اإلفتاء
624
بتحريم االشتغال بالفلسفة وعلم المنطق ،كابن الصالح ،والذﻫبي ،وابن تيمية".
إن ﻫذا قول ال عناج له ،وإنها لعجيبة الوجود فائقة عجائب الدنيا ،عجيبة أزمة العقل العربي
مكوناته والمتصدين للقول باسمه ،أزمة مقابلة مقارنة ألزمة العقل
اإلسالمي المعاصر في ّ
الغربي:
العقل الغربي يجحد بالدليل ويأفك ويص ّد عن العمل بمقتضاه وينهى وينأى عنه
480
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
"ومعلوم أن الفلسفة المذمومة ﻫنا ﻫي فلسفة اإللهيات التي أفضى بحث فالسفة اإلسالم فيها إلى
كفريات مناقضة للعقيدة اإلسالمية ،كنفي علم هللا بالجزئيات ،وإنكار بعث األجساد ،وتقرير
الرياضي الذي ﻫو من نظرية الفيض ونحو ذلك ،أما فلسفة المعرفة ،وفلسفة الجمال ،والمنطق ّ
أسس العلوم التجريبية ،فلم يرد عن أحد من العلماء ذم االشتغال بهذه المباحث والعلوم.
وأما المنطق ،فالمراد به المنطق األرسطي ،وﻫو كلحم جمل غث ،على جبل وعر ،ال سهل
الظمآ ُن َماء
ْ سبُهُ
ب بقِي َع ٍة َي ْح َ
س َرا ٍ
فيرتقى ،وال سمين فينتقى ،مقدماته عقيمة ،ومباحثه ونتائجه﴿ :ك َ
625
َحتى إذا َجا َءهُ ل ْم َيج ْدهُ َ
شيْئا﴾[النور"]٣۹:
وإذا كنا قد بيّنا وضوح الجهل أو االستجهال البين واالفتراء العظيم بما س ّماه األستاذ الدكتور
العلمي ب'ك فريات مناقضة للعقيدة اإلسالمية ،كنفي علم هللا بالجزئيات ،وإنكار بعث األجساد،
وتقرير نظرية الفيض ونحو ذلك' 626وبئست الطامة طامة التقليد ،فإننا بخصوص علم المنطق،
الرد التي تميز بها من جعل مثال في تبيان ضالالت الفلسفة ،الفخر لسنا نكتفي بالقول بأن قوة ّ
الر ازي إنما كانت في مرتكز منها قوي بإحكامه المنطق األرسطي ،بل نذكر من ال يردد األحكام
إال أماني ،أن مآزق رياضية ومنها ما ﻫو قريب العهد ومنها ما ال يزال عالقا ،كل أولئك حله
مستقر في مسمى المنطق األرسطي ،وما ﻫو إال بيان للجوارح اإلدراكية العقلية. ّ كامن و
"ويرجع ظهور الفكر الفلسفي في األمة إلى مطلع القرن الثالث الهجري أيام خالفة المأمون
والمعتصم والواثق ،الذين شجعوا ترجمة كتب الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية ،وخصصوا
لذلك جهودا وأمواال طائلة ،فأقحموا على األمة شرا وبالء حتى قال ابن تيمية« :ما أظن أن هللا
يغفل عن المأمون وال بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه األمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين
أهلها».627
...
625ن م – ص077-070
626انظر كتابنا :تفصيل الخلق واألمر في سؤال حوار األديان وتفرق المذاهب الفقهية ..ابن سينا بين قصور
المتفلسفة وافتراء المتقولة -الجزء األول
الرد على المنطقيين لشيخ اإلسالم ابن تيمية :ص -7المرجع- ّ 627
481
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فباء المأمون بإثم هذا البالء الذي أحدث فتنة وبلبلة في العقول ،حيث فعلت الفلسفة وعلوم
اليونان في عقائد المتكلمين فعل النار في الهشيم ،حيث روج فالسفة العرب مالفارابي وابن سينا،
ونصير الدين الطوسي ،افكارا وسموما دخيلة على األمة باسم الكالم ،صاروا يضاهون بها
الوحي ،ويحلون مقاالت الفالسفة وآراء معلمهم األول أرسطو القائل بقدم العالم ،محل دالئل
628
القرآن والسنة".
وقد انخدع بسفاهتهم أجيال من المستلبين فكريا قدسوا الفلسفة وصاروا يرونها أم العلوم،
ويقارنونها بالشريعة اطمئنانا إلى حال هؤالء الفالسفة المحسوبين على اإلسالم ظاهرا ،وهم
629
أعرق النَّاس في الزيغ والزندقة واإللحاد".
صنف الثاني ،ومن عجيب ما اتفق في ﻫذا الكتاب ﻫو أن تجد فيه أيضا -وال يهم ترتيب
وال ّ
القول وال صياغته -أن ضمن ما جعله الكاتب "انحرافات منهجية في دراسة التراث اإلسالمي":
أصيبت المعرفة اإلسالمية في مجال العلم بالسنن الكونية وفقه فلسفة العلوم بضمور كبير في
اﻫتمام العقل المسلم ،فكثير من المتعلمين ال يفقهون من ﻫذا المارد الحديث شيئا ذا بال ،حتى إنك
األرض في معرفة أبجدياتلترى أكثر المشتغلين بالعلوم الشرعية واإلنسانية غرباء بين أﻫل ْ
العلوم الكونية واستيعاب الظواﻫر العلمية الحديثة.
وقد ظهر لي أن ابناء أمتنا وحدﻫم من بين سكان العالم ابتلوا بهذه الغربة ،النصرافهم عن سنن
افعداد وأسباب الرقي ،وعدم اكثراتهم بمواكبة التطور العلمي في العالم ،تراﻫم ينظرون إلى
المخترعات العلمية الحديثة نظر مشدوه ال يعي ما يمور حوله منها ،وال ما يخرج منها ،وال
يستطيع استيعاب آلياتها.
...
482
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ومن المعلوم أن فقه سنن الكون والحياة من أولويات فروض الكفاية ،ألن العلم بنواميس هللا في
الكون سبيل العيش في عالم تحكمه سنن ال ترحم أحدا ،فالجهل بها خيانة لألمة ،واالشتغال عنها
بقضايا اللغو والترثرة أشد خزيا وجرما ،وأمتنا بدافع االنهزام السّياسي أمام األعداء فرطت
وضيعت ﻫذه السنن في الرقي المدني ،ولم تحق فيها فروض الكفاية.
فال زلنا نعيش في شتى مناحي الحياة تبعية مقيتة لغيرنا ،ال نملك قوت يومنا وال قرار أمتنا،
الحرية أبدا ،وال تقوى على العيش في عالم يحكمه فراعنةواألمة الجاﻫلة بهذه السنن ال تنعم ب ّ
الحضارة المادية الحديثة ،إال أن تكون ذيال ذليال ،يجود عليها ﻫذا بلباس يواري سوءات أﻫلها،
وآخر برغيف يسد جوعتها ،وثالث بسالح كي تصون أرضها وعرضها ،وتصد عدوان أعدائها.
وتبقى ﻫي كالميت الحي في شبحه ،بين أولئك المردة الذين ملكوا البر والبحر ،وتحكموا في
األرض ،بقوة الحديد والنار ،وسرعة البرق قي اإلنجاز واالتصال.استغالل خيرات ْ
...
وعُرف من علماء المسلمين في الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة من كان لهم مشاركة في
علم اللغة ،وعلوم الشريعة ،كأبي بكر الرازي الطبيب ،وابن زﻫر عالم البصريات ،وابن النفيس،
والزﻫرا وي ،وغيرﻫم ممن شغلت علومهم سمع الزمان ،وكان علماء أوربا عالة عليها في
عصور االكتشافات العلمية.
ثم آل األمر إلى االنحدار بعد انفصال العلوم بعضها عن بعض ،وعكوف المتعلمين على شعب
في المعرفة دون أخرى ،حيث عشش الجهل في ديار المسلمين ،وحلت الخرافات واألساطير في
عصور االنحطاط محل النظر في العلوم ،وأصيبت المعارف الكونية بضمور كبير ،وضحالة في
631
اﻫتمام أبناء األمة".
"وكذلك فخر الدين محمد بن عمر الرازي ٠٤٠ه أحد كبار المفسّرين وفقهاء الشافعية وفحول
المتكلمين الذين أتفقوا عمرا طويال في دراسة طرائق الفالسفة ،وقد ندم على ذلك في آخر عمره
وقال:
483
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم أردف قائال« :لقد اختبرت الطرق الكالمية والمناﻫج الفلسفية فلم أجدﻫا تروي غليال وال
على العَ ْر ِش تشفي عليال ،ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ،اقرأ في اإلثبات﴿ :الرحْ َما ُن َ
ش ْي ٌء'﴾[الشورى ،]١١ :و﴿ﻫ َْل ت ْعل ُم لهُ سَمِ يًّا'﴾[مريم:
ْس كمِث ِل ِه َ
ْتوى﴾[طه ،]٨٤:وفي النفي﴿ :لي َ
اس َ
»]٤٠
وكفى بشهادات ﻫؤالء العلماء دليال على فساد المناﻫج الفلسفية والطرق الكالمية وأثرﻫا السيء
على الفكر اإلسالمي والعلوم النقلية والعقلية .وقد سرى تأثيرﻫا إلى قرون متأخرة حيث بثت في
المسلمين أوﻫام التعارض بين الوحي والعقل ،وانفصلت بذلك العلوم الشرعية عن العلوم العقلية،
وسار كل منها في مسار خاص.
فابتعدت العلوم العقلية والطبيعية عن المنهج اإللهي في التحليل وتقرير المسائل ،بعد أن كانت
من قبل سائرة في ركاب علماء الشريعة الذين لهم اختصاصات شتى في ﻫذه العلوم ،فأصبح
والرياضيون والمهندسون والمناطقة وغيرﻫم في واد ،كثير منهماألطباء والفلكيون والفيزيائيون ّ
632
لم يسلموا من مس الفلسفة وأثارة الزيغ واإللحاد ،وعلماء الشريعة في واد آخر"
632ن م – ص071-074
484
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
قيّومية الحق؛ ذلك ما نهضت عليه قوة التمكين للغرب ،الذي وقع أجْله في األزمة الوجودية
القصوى ،وأقسموا ليجعلنها فلسفة مبدلة غير األولى ،وإن نيتشه لهو العنوان.
وإذا ت ّم البيان واتضح بشأن بطالن ما ورد من الشهادات ،فبخصوص فخر الدين الرازي-
رحمه هللا! -فمستنبطه لمن يملك المعطى المحيط للنظر ،ال الذاتي القاصر الضئيل المهمل لوحده
من غير الحد األدنى من السّعة المعطياتية ،وﻫذا من الجليات في ميزان المنطق وسلطان الحق،
صحيح في الحقل المسائلي لإللهيات،مستنبطه ﻫو الوصول إلى النسق المالئم والطريق ال ّ
اوات
صة وبنحو مخصوص ،الدليل الوجودي .وﻫذا ال يعني منطقيا وفي ميزان الس َم َ وخا ّ
واألرض ،ضالل أو خطأ األنساق الفلسفية والنهج الفلسفي ،وإنما ذلك مدار وعلو عقولي يلزمه
على قدره من الحكمة ،وذلك فضل هللا يؤتيه من يشاء.
ثم إنه ال تقوم األحكام وال يحلل خطاب إال بسعة كافية مالئمة ﻫي بمثابة اإلطار المحدد لهذه
األحكام ،ومن غير ﻫذا فهو محض الخرص والهفت ال مراء.
وعندما ينح ّل عقد الدولة في الواقع إلى دويالت متنازعة ،يضعف المصدر المؤسّساتي لقوة
شروطالكيان السّياسي كما بيناه في ردنا على أطروحة توبي ﻫف 633؛ فال يبقى في عموم ال ّ
التاريخية التي نحن بصددﻫا ،إال العامالن المذﻫبي والديني ،فيتم توظيف كليهما على نحو يعطي
انظر" :الشريعة اإلسالمية والعلم الحديث" في الفصل األول من الباب الثاني 633
485
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
قوة تكتلية ومصداقية قوة أساسا لوالية أو دولة أو دعوة إسالمية في مجتمع أو اجتماع إسالمي
على نسق ما سلف بيانه في رد أطروحة توبي أ .ﻫف في كتابه "فجر العلم الحديث" بخصوص
الحرية المحتضنتين للعلم الحديث وموقعهما في الشريعة اإلسالمية .وﻫذا ﻫوعاملي المؤسّساتية و ّ
وضع وحالة العصر العباسي الثالث ،عصر الفخر الرازي .فإبّان قوة الدولة وعز سلطانها ،تكون
حقال مستقطبا لما في حقلها وما ﻫو خارجه امتدادا مساوقا طبيعيا النتشار قوتها الطبيعية
التاريخية ،ويكون وضع الحقول المدمجة مما ﻫو من خصائص االجتماع البشري من الفكر
القوة والشدة،
واإلبداع العلمي والحضاري على نسقه االنفتاحي الطبيعي بل بتفتح على نفس مدى ّ
أي من غير معاوقة من العوامل المعطلة لمناحي العقل والفكر واإلبداع البشري ،وإنما المفعلة
الرياضية والعلمية والفلسفية العربية
والمحررة له .عصر المأمون بؤرة الفورة التاريخية ّ
اإلسالمية ،بؤرة بني موسى (الخوارزمي) وابن قرة ومأسسة العلوم ،وفي األندلس ينع زمن
ووﻫج قرطبة في التاريخ البشري .عكس حالة الضعف السّياسي ،الذي ﻫو وضع الدويالت
القوة وتئيض قطبيتها تنازعا ،وال يكون كيانها وال
والسلطنات قد تفرق أمرﻫا شيعا ،حيث تتبدد ّ
الحفاظ على ﻫذا الكيان إال على حساب التمايزات واالستقطابات الدينية والمذﻫبية ،من غير
اعتبار لحق وال باطل وال على أساس من العلم والحقيقة ،إال لهدف ﻫذا الكيان وحفظه ودعمه.
وﻫذا ﻫو وضع محنة واضطهاد العلماء والحكماء في ج ّل وأغلب ما يكون من ذلك .فالعالقة
وظيفية بين سلطان الدولة وكيانها وبين الدين ،لكن متعاكسة في الوضعين.
الركن عبد السالم بنوإن الوضع التاريخي لفخر الدين الرازي (ت606ه) ﻫو حقل محاكمة ّ
عبد الوﻫاب الكيالني(611 -339ه) الذي كان حنبليا ،عارفا بالمنطق والفلسفة ،وقد اتهم بأقوال
الفالسفة .وﻫو حقل خروج سيف الدين اآلمدي (641 -331ه) من العراق إلى الشام ،ثم إلى
مصر سنة 322ه لذات التهمة وفساد العقيدة ومذﻫب الفالسفة (علوم األوائل).
-2المفارقة العظمى
486
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
خطرا ،والتي ال يزيغ عنها إال هالك ،هي أن دين هللا تعالى ً إن أج َّل الحقائق شأنا ً وأعظمها َّ
الذي بعث به محم ًدا صلى هللا عليه وآله وسلم رسوال إلى ال َّناس جميعا ً ،هو الحق الذي يقوم عليه
اصبا ً' أفغ ْي َر هللاِاألرض' َولهُ ال ّدي ُن َو ِ اوات َو َما فِي ْ س َم َاألرضَ ﴿ :ولهُ َما فِي ال َّ
اوات و ْ س َم َ
أمر ال َّ
ض األر ِ
اوات و ْ س َم َلم َم ْن فِي ال َّين هللاِ ت ْبغونَ َولهُ أ ْس َ
تتقونَ '﴾(النحل )10وذلك كقوله تعالى﴿:أفغ ْي َر ِد ِ
كر ًها'﴾(آل عمران )81وهنا ال ينبغي تعديد منحى وأسلوب الخطاب إلى إخباري وطلبي عا َو ْ طو ًْ
كما ورد في كالم وتفسير ابن كثير:
«(وله الدين واصبا) قال ابن عباس ،ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران ،والسدي ،وقتادة ،
وغير واحد :أي دائما.
اوات وعن ابن عباس أيضا ً :واجبا .وقال مجاهد :خالصا .أي :له العبادة وحده ممن في ال َّ
س َم َ
األرض طوعا وكرها) [آل اوات و ْ س َم َ
األرض ،كقوله( :أفغير دين هللا يبغون وله أسلم من في ال َّ
و ْ
عمران .]73:هذا على قول ابن عباس وعكرمة ،فيكون من باب الخبر ،وأما على قول مجاهد
فإنه يكون من باب الطلب ،أي :ارهبوا أن تشركوا به شيئا ،وأخلصوا له الطلب ،كما في قوله
تعالى( :أال هلل الدين الخالص) [الزمر».]1:
فسياق اآلية من حيث البنية األسلوبية والخطابية كله أمر ،مبنى ومعنى﴿ :وهللِ يَ ْس ُج ُد َما فِي
فوقِ ِه ْم َويف َعلونَ َماتكبرونَ ' َيخافونَ َربَّ ُه ْم ِم ْن ْ
ض ِم ْن َدابَّ ٍة َوال َمالئِكة َوهُ ْم ال يَ ْس ُ
األر ِ
ت َو ْ
اوا ِ
س َم َ
ال َّ
يُؤْ َم ُرونَ '﴾(النحل )12والزم النظر في االصطالح البالغي – وال سريان هنا لمقول أن ال مشاحة
في االصطالح -فالطلب حقيقته السّؤال على التوخي والرجاء والنشدان منافيين لالستعالء ،وال
يجوز ذلك في حق ذي العزة والجبروت ذي الجالل واإلكرام ،القاهر فوق عباده وله سبحانه
الخلق واألمر .فالتزيل كله كما االستخالف أمر ،وكل إخبار إنما هو سبيل في ذلك ،فليس
القصص غايته محض خبر ،وإنما ليؤخذ به تصديق الذي بين يديه وتثبيتا للقلوب (المتض ّمنة
لحقيقة العقول) ،يؤخذ به آية وعبرة في أمر االستخالف وفي البناء منهاجا ً.
فدين هللا تعالى واحد ،والعلم الذي يؤسّس عليه االستخالف واحد .وكما أن االختالف لم يحصل
بين من اختلف إال من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ،فكذلك ال اختالف في نهج االستخالف
وتسخير المستخلف فيه إال لوجود علم وجهل ،علم موافق للحق وسبل السالم ،وجهل خرج بمن
487
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
تذكروا فإذا
ُ طان ف ِمنَ ال ّ
ش ْي ِ س ُه ْم طائِ ٌ ركبه عن الجادة إال أن يتذكر وينيبّ ﴿ :
إن الذِينَ اتقوا إذا َم ّ
ص ُرون'َ﴾(األعراف)023
هُ ْم ُم ْب ِ
إن أساس المنهاج في االستخالف ليس مرده إلى آراء العباد وما تفيض به عقولهم من الفكر
المميّز والعمل مهما كانت قيمة ذلك ،وكل يزعم لنفسه أو يزعم له متبعوه ومريدوه أنه ليس في
الرجل اآلية .بل إن هللا عز وجل البريئة أذكى منه وال من األولين واآلخرين أنصح ألمته ،بل هو ّ
لم يجعل ذلك ال لنبي مصطفى وال لملك مقربَ ﴿:وال َيأ ُم ُرك ْم ْ
أن تتخِ ذوا ال َمالئِكة والنّبيئِينَ ْ
أر َبابًا'
بالكفر َب ْع َد إذ أنت ْم ُم ْس ِل ُمونَ '﴾(آل عمران )73إنما المنهاج ركناه أساس منزل هو القرآن ِ أ َيأ ُم ُرك ْم
الكريم ،والعلم بالقوانين الحقة في التسخيرَ ﴿ :ول ِك ْن كونوا َربّا ِنيّينَ ب َما كنت ْم ت ْعل ُمونَ ال ِك َ
تاب َوب َما
صحيح للفقيهكنت ْم ت ْد ُرسُونَ '﴾(آل عمران )78ومنه يستنبط وجوب عدم الفصل بين المفهوم ال ّ
وعلم التسخير ،في نظم تدبير شؤون األمة وكل مناحي كيانها من السّياسي واالجتماعي
تصور للفقه والفقيه مبتور عن هذا المنهاج هو جهل
ّ صناعي والعسكري ،وأيواالقتصادي وال ّ
بالدين.
هذا هو المنهاج وسبيل االستخالف بنور الحق على بصيرة؛ هو الحق القرآن والعلم؛
واالختالف ليس مرده وعلته إال للبغي والجهل .فالقرآن مبين ،أنزله هللا تعالى للحكم بهَ ﴿ :وأنزلنا
ص ِ ّدقا ً ِل َما َب ْينَ َي َد ْي ِه ِمنَ ال ِكتاب َو ُم َه ْي ِمنا ً َ
عل ْي ِه' فا ْحك ْم َب ْين ُه ْم ب َما أنزلَ هللاُ َوال تاب بال َح ّ ِ
ق ُم َ إل ْيكَ ال ِك َ
عة َو ِمن َهاجا ً'﴾(المائدة)12 ق' ِلك ٍّل َجعَلنا ِمنك ْم ِش ْر َ ع َّما َجا َءكَ ِمنَ ال َح ّ ِ تتب ْع أ ْه ْوا َءهُ ْم َ
والتبيان الخالد للقرآن ت َّم بالسنة النبوية الشريفة نسقا للحكمة كامال مستوسقاَ ﴿ :وأنزلنا إل ْيكَ
سلنا فِيك ْم َرسُوال مِ نك ْم يَتلو تفكرونَ '﴾(النحل)44؛ ﴿ك َما ْ
أر َ للناس َما ِ ّ
نز َل إل ْي ِه ْم َولعَل ُه ْم يَ ُ ِ الذكر لت َبيِّنَ
َ
تاب َوالحِ ك َمة َويُ َعل ُمك ْم َما ل ْم تكونوا ت ْعل ُمونَ '﴾(البقرة)312
عل ْيك ْم آيَاتِنا َويُزَ ِكيك ْم َويُ َعل ُمك ْم ال ِك َ
َ
القرآن العظيم هو الحق منزال لسانا ً عربيا ً وحكما ً عربيا ً ،وقانون المثلث كما قانون الدائرة هو
صال؛ وهذا يستوعب مع باقي فصول هذا الحق تفصيال مع العقل البشري ،كل ذلك هو الحق مف ّ
صة "تفصيل الخلق واألمر". الكتاب وغيره خا ّ
488
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وكما ال يحق أن يُعبد هللا تعالى إال بما أنزله على نبيه صلى هللا عليه وآله وسلم وعلى سنته
وهو الحق من ربك ،فكذلك ال يمكن أن نبني ما استوجب بناؤه فيما استخلف فيه إال بالعلم،
ي ملك الحقيقة ،ألنه ال يمكن ان تتعدد قوانين المثلث وال الدائرة وال
وحينها سوف لن يبقى دع ّ
القوانين الهندسية في بناء صروح العمران االستخالفي والعدة وال القانون المؤصل لتفجير الذرة.
صنف لقيمة الصالح في العمل ببيان صحّة المنطقية ما هي إال امتداد أو قل هي من ذات ال ّفقيمة ال ّ
األرض.
الوحي الكريم؛ وكذلك القيمة المنطقية للخطإ والفساد أو اإلفساد في ْ
صب ليس يكون إال في غياب وتغييب العلم ،الذي هو الحق ومنه نستجلي أن التحزب والتع ّ
ونور الحق .وعكس النور التعتيم؛ كل متحزب يزعم لنفسه ما يزعم خصمه أو خصومه من
صواب وأنه المؤتمن على هذه األمة وغيره ال علم له جاهل وربما امتالك الحقيقة والكون على ال ّ
تصوره ومنظوره .وكالهما أو كلهم في ميزان ّ صلعدو لألمة ألنه ليس على رأيه وعلى مح ّّ
صباألرض يركن إلى الجهل ،ألن نقيض العلم هو الجهل؛ فال إمكان للتحزب والتع ّ اوات و ْ سَ َ
م ال َّ
في بناء المثلث والدائرة وصروح العمران والعدة ،ألن هذا شغل العلم وشأن العلماء بالمعني
الربّاني الفقيه ،وكلما كان مرجع قول الفرقاء أوثق وصال بالحق ،قل حظ هاتيك صارم للعالم ّ
ال ّ
صور'النزعات .ومنتهى هذا المنحى في سلم الحكم هو﴿ :قولهُ ال َح ّق' َوله ال ُملكُ ' يَ ْو َم يُنف ُخ فِي ال ّ
َبير'﴾(األنعام)74
عا ِل ُم الغيْب َوالش َهادة' َوه َُو ال َحكِي ُم الخ ُ
َ
ب ب َما َلد ْي ِه ْم َف ِر ُحون﴾ يقول :كل طائفة وفرقة من هؤالء الذين فارقوا دينهم
"وقولهُ ﴿ :كلُّ حِ ْز ٍ
الحق ،فأحدثوا البدع التي أحدثوا(بِ َما لَديْهم فَ ِرحُونَ ) يقول :بما هم به متمسكون من المذهب، ّ
صواب معهم دون غيرهم". فرحون مسرورون ،يحسبون أن ال ّ
قال القرطبي:
" كل حزب بما لديهم فرحون أي مسرورون معجبون ،ألنهم لم يتبيّنوا الحق ،وعليهم أن
يتبيّنوه"
489
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
قال السعدي:
ب ِب َما َل َد ْي ِه ْم﴾ من العلوم المخالفة لعلوم الرسل ﴿ َف ِرحُونَ ﴾ به يحكمون ألنفسهم بأنه
"﴿ ُك ُّل حِ ْز ٍ
الحق وأن غيرهم على باطل ،وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقا كل فريق
صب لما معه من حق وباطل ،فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرق بل الدين واحد يتع ّ
والرسول واحد واإلله واحد.
ّللا
وأكثر األمور الدينية وقع فيها اإلجماع بين العلماء واألئمة ،واألخوة اإليمانية قد عقدها ّ
وربطها أتم ربط ،فما بال ذلك كله ي ُْلغَى ويُ ْبنَى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية أو
فروع خالفية يضلل بها بعضهم بعضا ،ويتميز بها بعضهم عن بعض؟
فهل هذا إال من أكبر نزغات الشيطان وأعظم مقاصده التي كاد بها للمسلمين؟
وهل السعي في جمع كلمتهم وإزالة ما بينهم من الشقاق المبني على ذلك األصل الباطل ،إال من
ّللا؟"
ّللا وأفضل األعمال المقربة إلى ّأفضل الجهاد في سبيل ّ
-3الدين الحق (المنطبق بالكتاب والسنة) وعلم التسخير حقيقة واحدة وقانون واحد بتفصيل.
-0عالقة تناسبية مباشرة بين االختالف والبعد أو القرب عن الحق ،وبالتالي مع العمل.
وهذا وحده الذي يفسّر بنحو ليس أكثر منه وضوحا ً سبب تخلف المسلمين (والعرب) وتقدم
الغرب المسيحي وغيرهم.
490
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وضع الحقل الفقهي عند المسلمين ،إذ التفرق في الدين معناه االختالف في الحق ،معناه االبتعاد
والفسوق عن مجال العلم .فإذا كان انتشار المسيحية في أوربا بالسّلطان القوي غير الهياب
والضارب لشارلمان هو الذي وحد أوروبا وأخرجها من التوحش والهمجية ،وكان ذلك هو الممهد
صة في أنجلترا ،على للتطور التاريخي االجتماعي والسّياسي وبروز النظام النيابي والشوري خا ّ
نسق المجالس الكنسية والتفرعات األسقفية واألبرشية ، 634فإن الذي غلب على أئمة الدين عندهم،
الرغم من كتمانهم وتبديلهم للدين .فالوصل أو النقل لميراث أعظمهو االهتمام بعلم التسخير ب ّ
صناعية ،الممثل في الميراثوأخطر علم التسخير الذي سيكون هو دعامة الغرب البنائية وال ّ
الرياضي والعلم الطبيعي ،نقله عن العرب والمسلمين ،إنما الذي قام به كما علمت هم رجال ّ
الدين ،بل وأشهرهم البابا سلفستر الثاني ،وكان بذلك بدء احتضان العلم الحديث .يقول الدكتور
محمود محمد الطناحي في فصل تحت عنوان "جهود المستشرقين في نشر التراث":
وقد بدأ اتصال الغرب بالحضارة العربيّة ،اتصاليا فعليًّا ومؤثرا ً منذ بزوغ النهضة األوروبية
في القرن العاشر الميالدي ،أو قبله بقليل ،وظهرت آنذاك طالئع المستشرقين ،وهم طائفة من
الرهبان -التفتوا التفاتة جادّة إلى تراث العرب ،وقد عرفوه من علماء الغرب – جمهورهم من ّ
عرب األندلس ،ومصر ،والشام ،وأكبوا عليه يفاتشونه ويتدارسونه ،وكان اهتمامهم في أول
األمر مصروفا ً إلى علوم الحكمة الفلسفة ،والجبر والحساب ،والفلك واألسطرالب ،والطبّ
والكيمياء 635والبصريات .ثم أفضى بهم ذلك إلى فروع التراث العربي األخرى.
ومن أوائل علمائهم في تلك الحقبة ،راهب فرنسي يدعى جرب ردي أورلياك ،المولود عام
۹٣١ه ،والمتوفى عام ١٤٤٣م ،وقد قصد األندلس ،وأخذ على أساتذتها في مدارس ريبول،
الرياضيات والفلك ،ولما
وأشبيلية ،وقرطبة ،حتى أصبح أوسع علماء عصره ،ثقافة بالعربية ،و ّ
491
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ارتحل إلى رومة ،سما على أقرانه ،وانتخب حبرا ً أعظم ،باسم سلفستر الثاني ،فكان أول بابا
مقر خالفته ،والثانية في رايمس –
فرنسي ،وقد أمر بإنشاء مدرستين عربيتين ،األولى في رومة ّ
شمال فرنسا -وطنه ،ثم أضيف إليها مدرسة شارتر .وقيل :إنه اول من صنع شاعة رقاصة،
ّ
وبث األعداد العربية في أوروبا ،التي كان ينقصها رقم ووصف حروف الغُبار ،وصفا ً علميًّا،
الرياضي ة والفلكية ،كالزيج المنصوري ،وله دراسة عن كتاب الصفر ،وترجم بعض الكتب ّ
أقليدس الهندسي بالعربية.
ومنهم أدلرد أوف باث ،المولود عام ١٤٨٤م ،والمتوفى عام ١١٣٤م ،وهو راهب أيضا ً .طلب
العلم في األندلس ،وصقلية ،ومصر ،ولبنان ،والقدس ،وأنطاكية ،واليونان ،وجمع معارف في
الرياضيات .وعند عودته إلى انجلترا عيّن معلما لألمير هنري ،الذي علوم الطبيعة والفلك و ّ
أصبح فيما بعد الملك هنر ي الثاني .واشتهر هذا الراهب باختباره سرعة الضوء والصوت،
وتضلعه من ثقافة العرب ،الذي آثر مذ هبهم في العلم على مذهب الفرنجة ،فقال في كتابه المسائل
خريج جامعات الفرنجة« :إنني – وقائدي هو العقل الطبيعية ،وهو محاورة بينه وبين ابن أخيهّ ،
مظاهر السّلطة ،بحيث وضعت ُ – قد تعلمت من أساتذتي العرب ،غير الذي تعلمت َه أنت ،فبهرتك
في عنقك لجاما ً تقاد به قيا َد اإلنسان الحيوانات الضارية ،وال تدري لماذا ،وال إلى أين ....فقد
ّ
الحق وبين الباطل ...فعلينا بالعقل أوال ،فإذا اهتدينا إليه – ال منح اإلنسان العقل لكي يفصل بين
قبل ذلك – بحثنا في السّلطة ،فإن سايرت العقل قبلناها وإال »...
ومن أشهر فالسفة تلك الحقبة ،الذين أفادوا من تراث العرب ،في الحكمة والفلسفة ،الراهب
توما األكويني ،المولود عام ١٨٨٤م ،والمتوفى عام ١٨٨٤م .وهو من أسرة ألمانية شريفة ،وله
حول آراء ابن رشد مواقف كثيرة ،يعرفها المشتغلون بالفلسفة ،وقد طبع من مصنفاته عشرة
آالف صفحة من القطع الكبير ،اعترف فيها صراحة باقتباسه عن ابن سينا ،والغزالي ،وابن
رشد ،وابن ميمون ،وغيرهم من علماء العرب ومفكريهم.
492
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صناعات وأستاذيتهم
يقول عبد هللا بن العباس الجراري في كتابه "تقدم العرب في العلوم وال ّ
ألوروبا":
« وهذا البابا سلفستر قد درس في القرويين األرقام العربية ثم أدخلها للمرة األولى إلى
637
أوروبا»
636مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي -الدكتور محمود محمد الطناحي -ص028..020
صناعات وأستاذيتهم ألوروبا -عبد هللا بن العباس الجراري -دار الفكر العربي-
637تقدم العرب في العلوم ال ّ
الطبعة ألولى ١٣١١ه 3303 -م -ص34
493
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
« يرى الفيلسوف األلماني هايديجير أن أخطر مؤامرة تعيق األمم والشعوب عن التطور وبناء
638
تاريخها الحضاري هي مؤامرة الصمت»
إذا كان حل الخالفة عام 3304م وإطارها التاريخي من هزيمة الحرب العالمية األولى واتفاقية
سايكس بيكو ،لئن كان ذلك هو البؤرة التاريخية للوضع الجديد للعالم اإلسالمي والعربي
صناعة لتاريخ ووضع العرب المعاصر إلى بالخصوص ،فإن القرص الصلب لنسق التحكم وال ّ
حدود هذه الساعة ،هو حرب ،48وهي التي تبرز بصورة واضحة كل مكونات وخاليا العقل
العربي السّياسي والفقهي والفكري إلى حين هذه الساعة.
لم أكن يوما ً ولم يكتب لي أن أكون داخل تنظيم سياسي أو فكري ومنضويا ً تحت لواء جمعية
بشرا من خلق هللا تعالى ،مؤمنا ً بيقين برسالة محمد صلى هللا ما دينية أو غيرها ،إنما أعتبر نفسي ً
عليه وآله وسلم آخر النبيئين من الموكب الجليل الداعي إلى دعوة اإلسالم .وهذا االعتبار
واإليمان يوجب علي بواجب االستخالف التواجد بالحق والقول به والدعوة إليه؛ فأنا عنصر من
تحريا ً وأمة الشهود .وليس الرجال والكتاب من المؤمنين والمؤمنات وغير المؤمنين حقل الحق ّ
والمؤمنات هم المنافحين عن مواقف هذا الطيف أو ذاك من مسمى الهيئات والتكتالت ،ولكن هي
ش َها َدة ق ِل
ش ْي ٍء أكبَ ُر َ
ي َ الدالئل واألحكام عند العقالء والدعاوى بشواهدها؛ و﴿ ْ
قل أ ُّ
ع َملك ْم هللاُ'﴾(األنعام .)02ودائما ً يكون لكل دعوة دليل وامتحان وجزاءَ ﴿ :وق ِل ا ْع َملوا' ف َ
سيَ َرى هللاُ َ
َو َرسُولهُ َوال ُم ْؤ ِمنونَ '﴾ (التوبة)320
وحسبي أنني حينما أدلي بقول ال أدلي بها مقلدا ً وال صدى ،كما هو شأن الج ّم الغفير من
المرددين لما يراد له أن يروج في القنوات واألشرطة من األفاكين والمبطلين ،ولكني على بينة
من أمري فيما أقوله ومعياري أو معاييري في ذلك هو ما اتفق عليه الراسخون في العلم من
638غالف كتاب :مذكرات عامل إقليم -محمد المعزوزي -مطابع منشورات عكاظ 4 -شارالحسن الثاني الحي
صناعي فيتا – الرباط -اإليداع القانوني3330/730 :
ال ّ
494
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وهذا المعيار الدقيق في ح ّيز سريانه الذي وجب التمييز فيه بين هذا الحقل وما ليس منه مما ال
ينبغي رده وإن حق التفكر فيه وتدبره وفقهه وعلم ما أنزل به ،هو الذي تم به رصد إبطال النفر
من أكبر علماء وفالسفة المسلمين في حق الحسين بن سينا بشأن علم هللا تعالى ،بل والوقوف
المكين باليقين على خطإ أهم قواعد النحو العربي ما النحو إال اإلعراب.
لقد بينا ببيان على وهج الشمس إلى كل من ينعم بنعمة العقل أن الغزالي وابن تيمية وابن القيم
والشهرستاني وابن جزي كانوا في تقويل ابن سينا القولة النكراء في العلم ،أنهم كانوا فيه من
جرا إلى أساتذة الفلسفة اليوم ناهيك عن
الخاطئين ،وكثير وغالب وجم غفير من بعدهم وهلم ًّ
فقهاء الزمان إال قليال منهم على آثارهم في ذلك مقتفون ،فإذا كان الحق ما تبين وأجْ َهت السماء
بخصوص هذا اإلبطال واإلفك على هذا المستوى ،فال نعجب وليس لنا أن نعجب إذا سمعنا قوما ً
أكثرهم بوغاء يقولون ويرددون أن 'اإلخوان المسلمون' جماعة إرهابية وأنهم على وصال
بالماسونية .وهل للغريب من جابية خبر؟!
صا بقضية فلسطين ،واعتبرها قضية العالم اإلسالمي بأسره ،وكان «لقد أولى البنا اهتماما ً خا ًّ
القوة والدم،
يؤكد دو ًما على أن اإلنجليز واليهود لن يفهموا إال لغة واحدة ،هي لغة الثورة و ّ
وأدرك حقيقة التحالف الغربي الصهيوني ضد األمة اإلسالمية ،ودعا إلى رفض قرار تقسيم
فلسطين الذي صدر عن األمم المتحدة سنة 1231م ،ووجه ندا ًء إلى المسلمين كافة – وإلى
صة -ألداء فريضة الجهاد على أرض فلسطين حتى يمكن االحتفاظ بها عربية مسلمة، اإلخوان خا ّ
وقال" :إن اإلخوان المسلمين سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين
639
إسالميًّا عربيا ً حتى يرث هللا األرض ومن عليها"»
إنه نظام الخطاب ،وقد امتد خطه إلى أن رأينا 'داعش' تحظر دولة تحكم باإلسالم ،وقد كادت
الثورة االبوعزيزية العظيمة أن تحققها لوال خور العقل الثوري المصري الذي لم يكن في مستوى
شعب الخامس والعشرين يناير وخذل ثوار العرب جميعا ً.
495
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إنه نفس النظام ،الذي أحل من آمن بالقرآن محل اإلرهاب؛ فالقرآن الكريم فيه يتلى قوله
ع ِن ال ُمنك ِرض' يَأ ُم ُرونَ بال َم ْع ُروفِ َويَن َه ْونَ َ تعالىَ ﴿:وال ُمؤْ ِمنونَ َوال ُمؤْ ِمناتُ بَ ْع ُ
ض ُه ْم ْأو ِليَا ُء بَ ْع ٍ
ع ِز ٌ
يز هللا َ
إن َ س َي ْر َح ُم ُه ْم هللاُ' َّ
هللا َو َرسُولهُ' أولئِكَ َ
الزكاة َ َويُطِ يعُونَ َ صالة َ َويُؤْ تونَ َّ َويُ ِقي ُمونَ ال َّ
َح ِكي ٌم'﴾(التوبة )73و﴿:إنَّ َما ال ُمؤْ ِمنونَ إ ْخ َوة ٌ﴾(الحجرات :من اآلية)32
صحيح ين عن ابن عمر رضي هللا عنهما أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال[:المسلم أخووفي ال ّ
المسلم ال يظلمه وال يسلمه]
وفيهما أيضا ً عن أبي هريرة رضي هللا عنه أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال[:المسلم أخو
المسلم ال يظلمه وال يخذله وال يحقره]
وثبت فيهما أيضا ً عن النعمان بن بشير رضي هللا عنهما أن النبي صلى هللا عليه وسلم
قال[:ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر
الجسد بالسهر والحمى]
وثبت فيهما عن أبي موسى األشعري رضي هللا عنه أن النبي صلى هللا عليه وسلم
قال[:المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ً ،ثم شبك بين أصابعه]
إذن حسب منطق هؤالء فالذي أجاب داعي الجهاد ونصرة اإلخوة في اإليمان واإلسالم ودفاعا ً
عن أولى القبلتين سمعا ً وطاعة لقوله وأمره تعالىَ ﴿:يا أيُّ َها ال ِذينَ آ َمنوا أطِ يعُوا َ
هللا َو َرسُوله ُ' َوال
ش َّر ال َّد َوابّ ِ ِعن َد هللاِإن َ س َمعُونَ ' َّس ِم ْعنا َوهُ ْم ال يَ ْ
عنهُ َوأنت ْم ت ْس َمعُونَ ' َوال تكونوا كال ِذينَ قالوا َ تو ْلوا ََ
ص ُّم البُك ُم ال ِذينَ ال َي ْع ِقلونَ '﴾(األنفال )00..02وقوله عز وجلَ ﴿:يا أ ُّي َها ال ِذينَ آ َمنوا ا ْستجيبُوا هللِ ال ُّ
هللا يَ ُحو ُل بَ ْينَ ال َم ْرءِ َوزَ ْوج ِه َوأنهُ إل ْي ِه
أن َ عاك ْم ِل َما يُ ْحييك ْم' َوا ْعل ُموا َّ
للرسُو ِل إذا َد ََو َّ
أن هللاَ ِعن َدهُ أجْ ٌر ش ُرونَ '﴾(األنفال )04وقوله سبحانهَ ﴿:وا ْعل ُموا أن َما أ ْم َوالك ْم َو ْأوال ُدك ْم فِتنة َو َّ ت ُ ْح َ
عظِ ي ٌم'﴾(األنفال )08واآليات هاته التي تلونا هي من سياق سورة األنفال البدرية من خطاب الحق
َ
صدق ومنار الحقيقة في بناء مطلق البيان والنظام .قد نجد عند المفسّرين وال مختصين في
مرجع ال ّ
علم التفسير تحليال على وجوه ما يأتلف منه القول في ذلك ،من اللغة والنحو والمحفوظ من األثر،
كالخبر في صحيح البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال :كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول
496
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
هللا صلى هللا عليه وسلم فلم أجبه ،ثم أتيته فقلت :يا رسول هللا ! إني كنت أصلي .فقال :ألم يقل هللا
عز وجل استجيبوا هلل وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟ ! فهذا التفصيل والتحليل وشأن أهل العلم
والعلماء في الحق عظيم ،ليس هو الغاية ،إنما الغاية العمل والفعل التواجدي والجهد االستخالفي
الذي ال خالف أنه ينتظم كل مجال االستخالف ومناحيه ،ويبقى األهم فيه والخطر هو شرط حفظ
كيان األمة اإلسالمية ،الذي هو الجهاد ،وهذا هو سياق التنزيل ،وعليه يكون أول توجيه لمعناه.
قال القرطبي" :قوله تعالى واعلموا انما أموالكم وأوالدكم فتنة وأن هللا عنده أجر عظيم قوله
واعلموا انما أموالكم وأوالدكم فتنة كان ألبي لبابة أموال وأوالد في بني قريظة ،وهو الذي حمله
على مالينتهم؛ فهذا إشارة إلى ذلك .فتنة أي اختبار؛ امتحنهم بها .وأن هللا عنده أجر عظيم فآثروا
حقه على حقكم".
وهذا النسق والقانون مثنى ذكره في القرآن المجيد تنزيال من حكيم حميد ،وليرسخ مرتكزا في
ع ْش َ
يرتك ْم إن كانَ آ َباؤك ْم َوأ ْبنا ُؤك ْم َوإ ْخ َوانك ْم َو ْ
أز َوا ُجك ْم َو َ منهاج إقامة هذا الدين وأمة الشهودْ ﴿ :
قل ْ
ض ْون َها أ َحبَّ إل ْيك ْم ِمنَ هللاِ َوج َها ٍد فِي َ
سبيل ِه سا ِك ُن ْ
تر َ سا َد َها َو َم َ ارة ت ْخ ْ
شونَ ك َ َوأ ْم َوا ٌل َ
اقترفت ُمو َها َوتِ َج َ
القو َم الفا ِس ِقينَ '﴾(التوبة)23 ي هللاُ بأ ْم ِر ِه' َوهللاُ ال َي ْه ِدي ْصوا َحتى َيأ ِت َ
فتر َّب ُ
َ
صليبي المتحكم والممسك بتالبيب حكام العرب ال ما يرتضيه ويأمر به االستعمار ال ّ
ومحكوميهم ونظمهم ومؤسّساتهم ونظام خطابهم ،الذي بدل معايير األحكام فغدا المستجيب هلل
ولرسوله من اإلرهابيين بل هو منضو تحت الماسونية ،والمؤتمر بأمر االستعمار الجاثم على
األمة من األبطال والشهداء حتى قال قائلهم إن موتته كان يتمناها صحابة رسول هللا صلى هللا
عليه وآله وسلم ،وما 'داعش' التي مفادها القانوني العالمي اليوم هو أن كل ما يمت إلى الشريعة
اإلسالمية وكل من يسعى إلى تحقيق دولة تحكم باإلسالم هو إرهاب ،أن هذا ما هو إال امتداد
نتيجة لهذه المقدمة والشرط األول ،المنطبق بالوضع العربي السّياسي وإطار حرب .39فهل بعد
هذا التقرير التاريخي والحجّة من محاجة؟ !
أوالء في منظار ونظام خطاب من بدل من بعد جاءهم البينات إرهابيون وماسونيون ،ومن
أخلد إلى األرض وغلبت عليه شقوته من فتنة المال واألوالد وجويهة ،ومن كان إلبا ً للعدو على
أمته يأتمر بأمرهم ويحكم بسياستهم حتى الحيلولة دون نصرة أهل اإليمان والذود عن دار
اإلسالم ،هؤالء يا لعمه األنام من احتناك الشيطان ،هم الذين يُتمنى حالهم بل ويا لقولة السوء هذه
497
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
النكراء :حتى الصحابة تمنوا موتتهم ! وإليك أخي وأختي من أهل اإليمان إلى من ال يرى بُ ًّدا من
عزة أمة اإلسالم ،وما ذلك على هللا بعزيز ،فهو سبحانه الحي القيّوم ،وإنما وكما سلكالعمل أ ْج َل ّ
النبي عليه السالم األسباب المادية واألرضية من تحمل المشاقِ ،ح َراء وبدر وأحد واألحزاب،
وتم وعد هللا ال يخلف هللا وعده ،ال بد من جهد عملي قائم على نهج قوي ،قوي بعلميته
وبصرامته ،وليس إن أريد القيام من الكبوة ورد العدو وكسر أغالله بشتى ماهيات هذه األغالل،
ليس بد من هذا النهج الصارم وليس عنه َح َد ٌد.
«فتاوى نادرة
640
صالح ( 00 -)32أغسطس0231
640قناة السلف ال ّ
498
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
إليكم هذا المقال النادر آلخر محدثي مصر العالمة أحمد محمد شاكر ،وفيه يحكم حك ًما شديدًا
على منفذي عمليات االغتيال السّياسي من اإلخوان ،حيث إنه عقب مقتل رئيس الوزراء المصري
السابق النقراشي على أيدي حزب اإلخوان المسلمين ،كتب العالمة أحمد شاكر مقاالً في
"األساس" بتاريخ 6858/6/2سماه بـ" :اإليمان قيد الفَتْك"([ ،)]66قال فيه:
الرجل " الرجلّ ، روع العالم اإلسالمي والعالم العربي بل كثير من األقطار غيرهما باغتيال ّ َّ
صالحين ،-وقد سبقت بمعنى الكلمة النقراشي -الشهيد غفر هللا له ،وألحقه بالصديقين والشهداء وال ّ
ذلك أحداث قدّم بعضها للقضاء([ ،)] 62وقال فيه كلمته وما أنا اآلن بصدد نقد األحكام ،ولكني
كنت أقرأ كما يقرأ غيري الكالم في الجرائم السّياسية وأتساءل :أنحن في بلد فيه مسلمون؟ وقد
صحيحة حتى ال يكون هناك عذر رأيت أن واجبًا علي أن أبين هذا األمر من الوجهة اإلسالمية ال ّ
لمعتذر ،ولعلَّ هللا يهدي بعض هؤالء الخوارج المجرمين فيرجعوا إلى دينهم قبل أن ال يكون سبيل
إلى الرجوع ،وما ندري من ذا بعد النقراشي في قائمة هؤالء النَّاس.
إن هللا سبحانه توعد أشد الوعيد على قتل النفس الحرام في غير آية من كتابهَ ﴿ :و َمن َي ْقت ُ ْل ُمؤْ ِمنًا
عذَابًا عظيما ً﴾ [النساء ،]83:وهذا علَ ْي ِه َولَعَنَهُ َوأ َ َ
عدَّ لَهُ َ ب هللاُ َ ُّمتَعَ ِّمدًا فَ َجزَ ا ُؤهُ َج َهنَّ ُم خَا ِلدًا فِي َها َوغ ِ
َض َ
من بديهيات اإلسالم التي يعرفها الجاهل قبل العالم وإنما هذا في القتل العمد الذي يكون بين النَّاس
كبيرا.
وزرا ًفي الحوادث والسرقات وغيرها القاتل يقتل وهو يعلم أنه يرتكب ً
أما القتل السّياسي الذي قرآنا ً جداالً طويالً حوله فذاك شأنه أعظم وذلك شيء آخر.
بث فيه خيرا فإنه يعتقد بما َّ القاتل السّياسي يقتل مطمئن النفس راضي القلب يعتقد أنه يفعل ً
صر فيه غيره ،فهذا جائزا إن لم يعتقد أنه يقوم بواجب إسالمي ق َّ ً مغالطات أنه يفعل عمالً حالالً
مرتد خا رج عن اإلسالم ،يجب أن يعامل معاملة المرتدين ،وأن تطبق عليه أحكامهم في الشرائع،
وفي القانون هم الخوارج كالخوارج القدماء الذين كانوا يقتلون أصحاب رسول هللا ويدعون من
خيرا منه ،وقد وصفهم اعترف على نفسه بالكفر ،وكان ظاهرهم كظاهر هؤالء الخوارج بل ً
رسول هللا بال وحي قبل أن يراهم ،وقال ألصحابه" :يحقر أحدكم صالته مع صالتهم ،وصيامه مع
صيامهم ،يقرؤون القرآن ال يجاوز تراقيهم ،يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية"
)(حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم ج 6ص.283-282
وقال أيضا ً" :سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث األسنان ،سفهاء األحالم يقولون من قول خير
البرية يقرؤون القرآن ال يجاوز حناجرهم يَمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ فإذا
أجرا لمن قتلهم عند هللا يوم القيامة" (حديث علي بن أبي طالب لقيتموهم فاقتلوهم ،فإن في قتلهم ً
)في صحيح مسلم :ج 6ص.283
واألحاديث في ه ذا المعنى كثيرة متواترة ،وبديهيات اإلسالم تقطع بأن من استحل الدم الحرام
فقد خلع ربقة اإلسالم من عنقه.
فهذا حكم القتل السّياسي هو أشد من القتل العمد الذي يكون بين النَّاس ،والقاتل قد يعفو هللا عنه
499
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مصر على ٌّ بفضله وقد يجعل القصاص منه كفارة لذنبه بفضله ورحمته ،وأما القاتل السّياسي فهو
ص في ٌّ ن آخر ما فعل إلى آخر لحظة من حياته يفخر به ويظن أنه فعل فعل األبطال ،وهناك حديث
القتل السّياسي ال يحتمل تأويالً فقد كان بين الزبير بن العوام وبين علي بن أبي طالب ما كان من
الخصومة السّياسية التي انتهت بوقعة الجمل ،فجاء رجل إلى الزبير بن العوام فقال :اقتل لك عليًّا؟
قال :ال وكيف تقتله ومعه الجنود؟ قال :ألحق به فأفتك به ،قال :ال إن رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم قال" :إن اإليمان قيد الفتك([ ،)]63ال يفتك مؤمن؟!!".
حديث الزبير بن العوام رقم 6528من مسند اإلمام أحمد بن حنبل :بتحقيقنا.
الردة ،فإن فعل لم يكن مؤمنًا([.)]65
أي أن اإليمان يقيد المؤمن عن أن يتردى في هوة ّ
أما النقراشي فقد أكرمه هللا بالشهادة له فضل الشهداء عند هللا وكرامتهم ،وقد مات ميتة كان يتمناها
كثير من أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم([ ،)]61تمناها عمر بن الخطاب حتى نالها فكان
له عند هللا المقام العظيم والدرجات العلى ،وإنما اإلثم والخزي على هؤالء الخوارج القَتَلة ُمستحلي
الدماء([ ،)]61وعلى َم ْن يدافع عنهم([ ،)]68ويريد أن تتردى بالدنا في الهوة التي تردت فيها
أوربا بإباحة القتل السّياسي أو تخفيف عقوبته؛ فإنهم ال يعلمون ما يفعلون وال أريد أن أتهمهم بأنهم
يعرفون ويريدون ،والهدى هدى هللا".اهـ مقال العالمة أحمد شاكر.
قلت :وقد علَّق محمد الغزالي على هذه الفتوى في مقدِّمة كتابه "من هنا نعلم" (ص)]67[( )62
قائال" :إننا نعرف أن الشيخ أحمد شاكر القاضي بالمحاكم الشرعية أصدر فتوى بأن اإلخوان
الرجل الذي يصدر هذه الفتوى المسلمين كفَّار!! وأن من قتلهم كان أولى باهلل منهم (كذا) ([ ،]86و ّ
كان أن ينبغي أن يطرد من زمرة العلماء ،ومع ذلك فال نحسب أحد ًا أجرى معه تحقيقا ً".اهـ
قلت :هكذا حكم الغزالي على العالمة المحدث أحمد شاكر ،وهو األولى بهذا الحكم منه لجنايته
الواضحة على السنة وأهلها كما تراه واضحا ً في آخر كتبه الذي سماه "السنة النبوية بين أهل الفقه
وأهل الحديث".
والعجيب أن الغزالي نفسه لما بان المكتوم من خطط اإلخوان السرية وناله منها شيئًا من األذى
قلب رأس المجن ،وكاد بلسان مقاله أن يوافق الشيخ أحمد شاكر في حكمه على هذا الحزب
الضال؛ فأ َّلف الغزالي كتابه "من معالم الحق في كفاحنا اإلسالمي الحديث" ،الذي فضح فيه خبايا
اإلخوان وأظهر سوأتهم القبيحة التي تفضح خبئ مكرهم السيئ.
في تقرير رفعه العالمة أحمد شاكر إلى الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه هللا -س َّماه "تقرير *
عن شئون التعليم والقضاء" (ص )57نقل كال ًما ألحد رموز األحزاب السّياسية ورد في جريدة
أخيرا خلط الدين بالسّياسة ودعا إلى جعل القرآن الكريم
ً صه( :ولقد حاول البعض المصري ،هذا ن ُّ
سا للتشريع ،فما جنينا من هذه التجربة غير الشر المستطير الذي نعاني بأسه حتى اآلن). أسا ً
ً ّ
قال العالمة أحمد شاكر مع ِلقا على هذا الكالم( :يريد سعادته حركة الشيخ حسن البنا وإخوانه
500
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الـمسلمين الذين قلبوا الدعوة اإلسالمية إلى دعوة إجرامية هدَّامة ينفق عليها الشيوعيون واليهود،
كمـا نعلم ذلك علم اليقين)».
ِب المسلِمينَ في كُ ِّل شيءٍ ؛ في عاداتِهم وت َقاليدِهم وأخالقِهم ،فيَ ْنبغي على «جاء اإلسال ُم ليُهذّ َ
هللا لم يَتْ ُر ْكه َه َم ًال ولم يَ ْخلُ ْقه سُدًى.
أن َ أن يَ ْعلَ َم َّ ال ُمسل ِِم ْ
ْ ْ َّ
الرسو ُل صلى هللاُ عليه وسلم" :اإليمانُ َقيَّ َد الفَتكَ " ،أي :إنَّهُ يَ ْمن ُع الفَتكَ ، َّ ث يقو ُل َّ وفي هذا ال َحدي ِ
ً
غد ًْرا ،وال َفتكُ أيضا القَت ُل ً َ ْ
غيره وهو غافِلٌ ،فيَشُ َّد عليه فيَقتُله اغتِياال و َ الرجل َ يأتي ّأن َ والفَتْكُ :هو ْ
غد ًْرا. أن يَ ْقتُلَ أحدًا َالمؤمن ْ
ِ بشأن
ِ أمين "ال يَ ْفتِكُ مؤ ِم ٌن" ،أي :ال يَلي ُق َدر بع َد التَّ ِ األمان ،والغ ُ ِ بع َد
ي ِ أحدٍ ،حتَّى لو كان كاف ًِرا؛ فإنهَّ َ ْ
أن اإليمانَ منَ َع ذلك؛ فال يَنبغي لل ُمؤمِن أن يَفعله مع أ ّ والمعنىَّ :
ض القضايا ورد مِن بَع ِ اإلسالم أو يُست َتاب ،وأ َّما ما َ ِ عى إلى يَنبغي َّأال يُفتَكَ به حتى يُبيَّنَ له ويُ ْد َ
َّ
ثار غيلةً ،كبَ ْع ِ عض الكُفَّ ِ صحاب ِة لقَتْ ِل بَ ِ عض ال َّ أن رسو َل هللاِ صلَّى هللا عليه وسلَّم بعَثَ بَ َ التي فيها َّ
هيإن النَّ َ ب بن األشرفِ فقتلوه ،وغير ذلك من القَضايَا؛ فقِيلَّ : َفر إلى كَع ِ بن َمسلمةَ في ن ٍ ُمح َّم ِد ِ
ٌ َّ
بأمر عن الفتكِ كان بع َد هذه القضايا ،فكأنه نا ِسخ لها .وقيل :بل يحتمل أن تلك َ ْ َ القَضايا كانت ٍ
ْ
برسو ِل هللاِ صلَّى هللا عليه وسلَّم والمبالغ ِة في أذيَّتِه الغدر َ ِ ظ َهر مِن المقتولِينَ مِن يٍ؛ ِل َما َ سماو ّ
صر
الكافر أنه ُم ٌّ َّ ِ َ ْ
ستمرا إذا د َعا إليه داعٍ ،كأن يُعل َم من ًّ ُ
حريض عليه؛ وعليه يكون هذا ال ُحك ُم ُم ِ والت َّ
ص منهم ،وال َيتيسَّر د ْفعُه َّإال بالفَتكِ ؛ فال َ
حر َج حريص على َقتْ ِل المسلِمينَ ُم ٌ
نتهز للفُ َر ِ ٌ فرهعلى كُ ِ
في ذلك.
اإلنسان».
ِ تهذيب
َ اإليمان
ِ أن م ِْن ثَمرا ِ
ت ثَّ : وفي ال َحدي ِ
يقول هللا عز وجل في كتابه الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم
س َّماعُونَ ل ُه ْم' َوهللاُ
ضعُوا خِ اللك ْم الفِتنة َوفِيك ْم َ حميدْ ﴿ :لو خ ََر ُجوا فِيك ْم َما زَ ادُوك ْم إال َخ َباال َو ْ
ألو َ
علِي ٌم بالظالِمِينَ '﴾(التوبة)47
َ
َّ
إن للجهل دواء له به عذر وقد قال رسول هللا صلى عليه وآله وسلم" :اللهم اغفر لقومي فإنهم
ال يعلمون !" لكن الشر كل الشر فيمن ليس يقبل وال إمكان له للعلم دواء للجهل ،إنما هي قلوب
سوداء قاتمة السواد ال وثوق بها ،وإن كانت معك اليوم فهي أقرب غدا أن تكون عليك .وهذه هي
مادة الخبال وهي ورعاع الديمقراطية سواء .لقد كان مثلهم القريب الذي ضرب الربيع العربي
501
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وخذل بكل الثوار في تونس البوعزيزي وليبيا وسوريا واليمن والعراق وشعب الخامس
والعشرين وكل من ثار في بالد االستعباد العربية؛ نعم إنهم هم هؤالء الذين يزعمون فيما
ظهيرا للمجرمين ُموا ِ ّدينَ لمن حارب هللا ورسوله جهاراً ،وبالطبع ألنهم
ً يزعمون السلفية وكانوا
شروط مواتية من خور العقل الثوري المصري وسحر "شعب مصر العظيم" وأن لم وجدوا ال ّ
يكن إبانها أردوغا ٌن (بالتنوين) بمصر ليقود الثوار والثورة إلى النصر ،ال ليسلمهم إلى مجرمي
الثورة المضادة يضطهدون الثوار ويقتلونهم ويسجنونهم ،وليزور الرئيس الفرنسي صبيحتها
تونس إعالنا للعالم بأن الثورة البوعزيزية وثورة العرب قد أخمدت ،لكن والحق يقال فإن السّبب
كل السّبب ال غيره هو هذا العقل البغيض.
وبخصوص "فتاوى نادرة" فقد زاد محمد الغزالي -رحمه هللا! -في بيان أمرهم وضوحا ً
وجلوة:
«وإني أشهد مع الشيخ خالد أن الرجال الذين يمثلون الجيش المدافع عن اإلسالم في الجبهة
المترامية ال يشرفون دينهم وال يشرفون أنفسهم!!
وهذا أهون ما يقال في وصفهم ،إذ كيف تستقيم عبادة هللا وعبادة المال؟!
وكيف تستقيم سنة الجهاد مع شدة الحرص على تمتيع النفس واألوالد؟!
ولكن العقول التي التوت فيها حقائق الدنيا واآلخرة اجتمعت فيها هذه األضداد ،ومن ثم رأينا
رؤساء للجمعيات الدينية وشيوخا ً في األزهر الشريف يسمنون واإلسالم مهزول ،ويستريحون
وشعوبه عانية!!.
فهذه جمعية تكتفي بالعبادات الشخصية ،فإذا حاولت إقحامها في الفروض االجتماعية والقضايا
العا ّمة قال لك رجالها :نحن ال نشتغل بالسّياسة!!
وكان من إصر ﻫذا الفهم أن فلسطين سقطت في أيدي اليهود ،دون أن يبذل لها هؤالء
القوامون جهدًا ألبتة!!
الصوامون َّ
َّ
502
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وهذه جمعية تحارب عبادة القبور وتقليد المذاهب .وتتشبع بنبذ البدع ..وعشق السلفية فإذا
641
سألتهم عن الرأي في عبادة األحياء والخضوع لطواغيت الحكم ..سكتوا!!»
ولتستبين شر ما ينشر ويلقن وكيف يلقن وكيف يستساغ عند من يظن في نفسه أنه في جنس
من األنام يعقل؛ هذا كالم الشيخ الغزالي في ذات كتابه "من معالم الحق في كفاحنا اإلسالمي
الحديث" يضع مناط النص في إطاره التاريخي يقول فيه:
«فكيف كنا نحن؟ اشتركت بعض دول المسلمين في القتال بقوى رمزية ألنها . .ال قوة لها!!
وقنع البعض اآلخر بالدفاع عن حدوده وحسبه أن ينجو بجلده!! والبعض اآلخر كانت قيادته في
أيدي أعدائه المحتلين . .
أما مصر ،كبيرة دول الجامعة ،وقطب هذه الحرب ،فقد كانت تحكمها عصابة تشتغل بالسّلب
والنهب واالغتيال . .
ففي ظل دستور لم تحترم منه مادة ،قتلت حسن البنا ،وأهدرت دمه! وفي ظل دستور يجعل
ووضعت في يد غالم عابث يسمى صاحب الجاللة الملك
الشعب سيد نفسه سُلبت جميع السلطات ُ
..
ووصلت األلوف المؤلفة لتحرير فلسطين ،فسّرق شطرها وشرى بالشطر اآلخر أسلحة ال
642
جدوى منها ». .
ﻫذا ﻫو الحق في بيئة النزول لموضوع النص والفتوى تاريخا ومواقع أومناصب وظيفية،
وليس بعد الحق إال الضالل!
أليس من الضالل ما يجر صاحبه ألن يقول " :أما النقراشي فقد أكرمه هللا بالشهادة له فضل
الشهداء عند هللا وكرامتهم ،وقد مات ميتة كان يتمناها كثير من أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
641الشيخ محمد الغزالي :من هنا نعلم -!..الطبعة الخامسة يناير -0221نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع-
ص322
642من معالم الحق في كفاحنا اإلسالمي الحديث -محمد الغزالي -نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع -الطبعة
الرابعة يناير 0221م -ص11
503
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وسلم([ ، )]61تمناها عمر بن الخطاب حتى نالها فكان له عند هللا المقام العظيم والدرجات
العلى"؟؟!
أال إنه من يضلل هللا فال هادي له؛ يقول سبحانه وتعالى وقوله الحق﴿:ال يَ ْست ِوي القا ِع ُدونَ مِ نَ
سبي ِل هللاِ بأ ْم َوا ِل ِه ْم َوأنف ِس ِه ْم' فضَّل هللاُ ال ُم َجا ِه ِدينَض َر ِر َوال ُم َجا ِه ُدونَ فِي َ غ ْي َر أو ِلي ال َّ ال ُمؤْ ِمنِينَ َ
ض َل هللاُ ال ُم َجا ِه ِدينَ َعلى ع َد هللاُ ال ُح ْسنى' َوف َّ على القا ِع ِدينَ َد َر َجة' ُوكال َو َ بأ ْم َوا ِل ِه ْم َوأنف ِس ِه ْم َ
توفاهُ ْم َّ ً
غفورا َرحِ يما' إن ال ِذينَ ًَ ت ِمنهُ َو َمغ ِف َرة َو َر ْح َمة' َوكانَ هللاُ َ ً
عظِ يما َد َر َجا ٍ القا ِع ِدينَ أ ْجرا ً َ
ض هللاِ أر ُ كن ْض' قالوا أل ْم ت ْ األر ِ ضعَ ِفينَ فِي ْ يم كنت ْم' قالوا كنا ُم ْست ْ ال َمالئِكة ظا ِل ِمي أنف ِس ِه ْم قِي َل فِ َ
ساءِال َوالن َ الر َج ِ
ضعَ ِفينَ ِمنَ ِ ّصيرا إال ال ُم ْست ْ ً ْ
سا َءت َم ِ ُ
أواه ْم َج َهن ُم َو َ
اجروا فِي َها' فأولئِكَ َم َ َوا ِسعَة فت َه ُ
عن ُه ْم' َوكانَ هللاُ ْ
سى هللاُ أن يَ ْعف َو َ ع َ سبيال' فأولئِكَ َ ان ال يَ ْستطِ يعُونَ حِ يلة َوال يَ ْهت ُدونَ َ َوال ِول َد ِ
فواغفوراً'﴾(النساء)29..23 ع ًَّ
ارة ال َم ْسج ِد ال َح َرا ِم ك َم ْن ويقول ذو العزة والجالل وله الحجّة البالغة﴿ :أ َج ْعلت ْم ِسقايَة ال َحا ّ ِ
ج َو ِع َم َ
القو َم الظا ِلمِ ينَ ' توونَ ِعن َد هللاِ' َوهللاُ ال يَ ْه ِدي ْ سبي ِل هللاِ' ال يَ ْس ُآ َمنَ باهللِ َواليَ ْو ِم اآلخِ ِر َو َجا َه َد فِي َ
سبي ِل هللاِ بأ ْم َوا ِل ِه ْم َوأنف ِس ِه ْم أ ْعظ ُم َد َر َجة ِعن َد هللاِ' َوأولئِكَ هُ ُم ال ِذينَ آ َمنوا َو َها َج ُروا َو َجا َه ُدوا فِي َ
هللا
َ َّ
إن 'ً اد ب أ اه يف د ل ا خ
َ م ي
ُ ْ ِ َ ِ ٌ ُ ِ ٌ ِ ِ ينَ ِ َ َق م م ي ع ن ا ه يف م ه ل ت
ٍ نا ج
بر ْح َم ٍة ِمنهُ َ ِ َ ٍ َ َ
و ان و ض
ْ ر و ش ُرهُ ْم َر ُّب ُه ْم َالفا ِئ ُزونَ ' يُ َب ّ
الكفر َعلى َ إخوانك ْم ْأو ِل َيا َء إن ا ْست َح ُّبواعظِ ي ٌم' َيا أ ُّي َها ال ِذينَ آ َمنوا ال تتخِ ذوا آ َبا َءك ْم َو َ ِعن َدهُ أجْ ٌر َ
أز َوا ُجك ْم إن كانَ آ َبا ُؤك ْم َوأبنا ُؤك ْم َوإ ْخ َوانك ْم َو ْ قل ْتول ُه ْم ِمنك ْم فأول ِئكَ هُ ُم الظا ِل ُمونَ ' ْ ان' َو َم ْن َي َ اإلي َم ِ
ض ْون َها أ َحبَّ إل ْيك ْم مِ نَ هللاِ تر َسا ِك ُن ْ سا َد َها َو َم َ
ش ْونَ ك َ ارة ت ْخ َ يرتك ْم َوأ ْم َوا ٌل َ
اقترفت ُمو َها َو ِت َج َ ع ِش َ َو َ
القو َم
ي هللاُ بأ ْم ِر ِه' َوهللاُ ال َي ْه ِدي ْ صوا َحتى َيأ ِت َ فتربَّ ُ
سبي ِل ِه َسو ِل ِه َوج َها ٍد ِفي َ َو َر ُ
الفا ِس ِقينَ '﴾(التوبة)23..12
«دعى البنا إلى عقد أول مؤتمر عربي من أجل نصرة فلسطين ،وجمع التبرعات للحركة
الجهادية الفلسطينية ،ومن الوسائل التي ابتكرها إصدار طابع بقيمة قرش وتوزيعه على النَّاس.
القوة ،وبدأ البنا بإرسال شباب اإلخوان من مصر إلى فلسطين في بدايةآمن البنا بالحل باستخدام ّ
الثالثينيات ،حيث تسللوا من شمال فلسطين شاركوا مع عز الدين القسام ،ودخل قسم من اإلخوان
تحت قيادة الجيوش العربية التابعة لجامعة الدول العربية ،وبلغ مجموع اإلخوان المسلمين الذين
504
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
استطاعوا أن يدخلوا أرض فلسطين بشتى الوسائل 32آالف مجاهد ،وقاموا بنسف مقر قيادة
اليهود وقاتلوا في مدينة الفلوجة.
ب عد قضية تزويد الجيش المصري بأسلحة فاسدة ،تيقن البنا من عدم جدية الدول العربية في
القتال ،وانها تخضع لرغبات الدول االستعمارية وقال حينها:
«إن الطريق طويل والمعركة الكبرى معركة اإلسالم التي ربينا لها هذا الشباب ال تزال
أمامه ،أما إسرائيل فستقوم ،وستظل قائمة إلى أن يبطلها اإلسالم»
وقاد بعدﻫا البنا مظاﻫرة في مصر خرج فيها نصف مليون شخص في عام -6858قبل
اغتياله بسنتين -ووقف فيهم خطيبا وقال:
643
أرواحنا فداء فلسطين دماؤنا فداء فلسطين»
وكثير منهم من باع حلي أهله ليتلحق بصفوف إخوانه في الجهاد يبيع نفسه ابتغاء مرضاة هللا،
وإليك هذا المشهد من واقع التاريخ الذي وجب أن يدرس لألجيال التي يرجى منها عالج أمتنا
وتنقيتها من شوائب السقوط والنكسات:
ولكون موضوع فلسطين بات اليوم مرجع القطبية السّياسية ،وأصبح التطبيع مع دولة إسرائيل
صة انحفاظ شرط االنتماء إلى حقل هذه القطبية التي من دخلها كان آمنا ،في اقتصاده وأمنه وخا ّ
نظامه السّياسي والبلد والوطن إنما لروح النظام وسيده ،سيد قومه أو أسياد قومهم ،فكأنما قد
أمسى الحديث عن فلسطين وعن األراضي المقدسة وأولى القبلتين حديثا من التراث ال مطلبا
تاريخيا ً ألمة العرب واإلسالم .من أجل هذا ليس بد من إيالء هذه المقدمة التاريخية الممثلة في
الراهنة ،ومنه فهيشروط ّ حرب فلسطين قدرها من االهتمام ،فشروط هذه المقدمة هي نفسها ال ّ
بمثابة المفسّر للحاضر والشارحة لما أبهم منه.
505
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
توغل الجيش المصري في أرض فلسطين ،غير مبال بخطر شديد يجثم على ميمنته ،ويتمثل
في عدد ﻫائل من المستعمرات المحصنة التي أعدت بإتقان ،لتقوم بدورﻫا في الوقت المناسب.
وكانت الخطة العربية العا ّمة تقضي بأن يحتل ﻫذا الجيش قطاعا ﻫائال يمتد من قرية (رفح)
على الحدود المصرية إلى قرية (يبنا) على مسيرة عشرين ميال من تل أبيب ،حيث الجيوش
العربية األخرى الزاحفة ،قد احتلت نقطا مماثلة قريبة منها ،ثم تتجمع ﻫذه القوات وتتصل مكونة
حلقة فوالذية حول عاصمة العدو لتفصلها عن بقية المناطق.
وكان واضعو الخطة يعتقدون أن احتالل العاصمة ،سينهي ﻫذه الحرب ويضطر العصابات
اليهودية المسلحة إلى االستسالم.
ولقد فات ﻫؤالء أن المستعمرات اليهودية قد وزعت في فلسطين توزيعا عسكريا تحت إشراف
اإلنجليز ،يضمن لليهود االستمرار في القتال مدة طويلة وأن كل مستعمرة من ﻫذه المستعمرات
كانت تحتوي على أعداد كبيرة من الجند ومقادير ﻫائلة من السّالح والعتاد ،ويمكن لهذه القوات
أن تجتمع وتكون جيشا لجبا ،وتستمر في المقاومة حتى تتدخل الدول الكبرى وتضيع على العرب
ثمرة انتصارﻫم.
على أن ﻫذه الخطة لم يقدر لها النجاح ،لما انطوت عليه من جهل بالغ بقوى العدو وأساليبه في
المقاومة ،فضال عن عدم التعاون الذي لم نلمس أي أثر في تنفيذﻫا بين الجيوش العربية ،التي
كان مفروضا أن تعمل تحت قيادة موحدة ،ولكن ما كادت المعركة تدخل دورﻫا الحاسم حتى
أصبح كل جيض يقاتل على حدة في المنطقة التي اختص بها ،ولقد زادت ﻫذه الحقيقة وآثارﻫا
وضوحا حين اشتد الضغط على جبهة الجيش المصري في الجنوب ،وظلت الجيوش العربية
األخرى تنعم بالهدوء والراحة خالل الهدنة!
لم تحاول المستعمرات اليهودية إذن أن تعترض طريق الجيش المصري حسب الخطة اليهودية
العا ّمة ،بل أ ظهرت كل معاني الضعف واالستسالم وكان بعضها يرفع األعالم البيضاء على قمم
األبراج الشاﻫقة ،حتى يمضي الجيش في تنفيذ خطته.
506
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ولقد حاول الجيش المصري دخول بعض المستعمرات القريبة من مواصالته ،وتركه اليهود
القوة،
يقترب منها ثم أخذوا يطلقون النار على وحداته من أبعاد قريبة ،فحاول الجيش اقتحامها ب ّ
وكانت أول محاولة له أن ﻫاجم مستعمرة (نيرم) الدنجور على الحدود المصرية في ١٠مايو
ودكها بالمدفعية ،ثم حاول اقتحامها بمشاته ولكنه وجد فيها مقاومة عنيفة اضطرته لصرف النظر
عن محاولته ومواصلة الزحف إليها مكتفيا بمحاصرتها.
وتكررت المحاولة على كثير من المستعمرات ولكن ﻫذه المحاوالت ذﻫبت عبثا رغم كثرة
الخسائر التي تكبدﻫا الجيش .وال استطيع أن أمر على ذكرى ﻫذه المعارك دون أن أشير إلى
الروح المعنوية العالية التي كان يتمتع بها أفراد ﻫذا الجيش .ﻫذه الروح التي دفعتهم لمالقاة
الموت بصدور عارية ،والتقدم صوب األبراج المحصنة دون أدنى وقاية يجتمون بها ،إال إيمانهم
باهلل وثقتهم في نصره وتأييده.
ولقد أثبتت ﻫذه الروح القوية وجودﻫا وآتت ثمارﻫا يوم أصر الجيش على اقتحام مستعمرة دير
سنيد المحصنة يوم ١۹مايو وقاوم العدو مقاومة عنيفة ،غير أنه اضطر إلى إخالئها أمام ضغط
ﻫؤالء الجنود البواسل وشدة بأسهم تاركا خلفه عشرات من القتلى وكميات وفيرة من المؤن
والعتاد مما سيرد تفصيله بعد قليل .ثم واصل تقدمه شماال وأخذ يهاجم (كفار ديروم) و(بيرون
إسحاق) و(كوكبة) و(نجيا) وغيرﻫا وقد نجح في اقتحام (نيتسانيم) بعد معركة دامية أظهر الجنود
المصريون فيها ضروبا من البسالة ما يجعلهم في طليعة المقاتلين الممتازين ،غير أن ﻫذه الروح
العالية لم تلبث أن ضعفت بعد تدخل السّياسة والهدنة األولى والثانية ،وما صحب ﻫاتين الهدنتين
من انسحابات وﻫزائم.
الرغم من ﻫذه الروحومما يجدر بي ذكره ﻫو في ﻫذا الموضع أن الجنود المصريين -على ّ
العالية وما أظهروه في بداية الحرب من شجاعة وثبات -كان واضحا ما عليه حالتهم من نقص
صة فيما يتعلق (باألعمال الليلية) ،حين كانت ﻫذه الناحية متوفرة تماما
في التدريب والمقدرة خا ّ
في قوات العدو ،وال أظن إال أن حضرات الضباط ممن اشتركوا في الحملة يوافقونني على ﻫذه
المالحظة ،إذ كان العدو يقوم بأغلب معاركه في الليالي المظلمة وبصورة تنبئ عن مقدرة فائقة
ومستوى عال في التدريب.
كان مقررا للجيش المصري كما ذكرت أن يواصل تقدمه إلى (يبنا) حسب الخطة العربية
العا ّمة ،ولكن ما كادت طالئعه تتجاوز (اسدود) وتقترب من الهدف ،حتى تجمعت القوات
507
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
اليهودية من منطقة (رحبوت) ،وﻫادمته ﻫجوما عنيفا ،غير أن الجيش أفلح في صد ﻫذا الهجوم
وتكبيد العدو خسائر فادحة ولكن اليهود بهجومهم ﻫذا حققوا نتيجة واحدة ،ﻫي (تثبيت) الجيش
المصري في أسدود ،وكانت ﻫذه ﻫي نقطة التحول في الحرب إذ لزم الجيش المصري موقف
الدفاع عن نفسه وعن األرض التي احتلها ،وتغيرت تبعا لذلك نظرة القيادة العا ّمة للموقف،
وأخذت تنحو منحى جديدا ،فبدل أن تبذل جهدﻫا في تتبع العصابات اليهودية والقضاء عليها رأت
أن تعزل مستعمرات النقب عن بقية أجزاء فلسطين فزحفت القوات المصرية شرقا واتصلت
بقوات المتطوعين المصريين المرابطة في جبال الخليل ،وبذلك أصبحت القوات المصرية تكون
إطارا وﻫميا حول منطقة م عادية تموج بعشرات المستعمرات وعشرات األلوف من الجنود.
واآلن أريد أن أتساءل ما الذي كان يحدث لو تجمع اليهود على حدود مصر الشرقية ،وحاولوا
االشتباك مع الجيش المصري عند دخوله لمنعه من التوغل في أراضي فلسطين؟ ال شك أن
القيادة المصرية كانت تراجع موقفها ،وتحجم عن المضي في تنفيذ خطتها قبل أن تظهر ﻫذه
الجيوب الخطرة التي يتجمع فيها العدو.
ولكن اليهود لم يفعلوا ذلك ،ال ضعفا كما يقول البعض ،ولكنهم وضعوا خطتهم الدفاعية على
أساس (بعثرة) الجيش المصري وإعطائه الفرص ليحتل مساحات شاسعة ،مع علمهم أنه ال يملك
القوة العددية الكافية ليسيطر على ﻫذه المناطق الواسعة سيطرة صحيحة ،وعندئذ تقوم
ّ
المستعمرات بدورﻫا المرسوم فتهاجم قواته ويصبح من الميسور القضاء عليه.
ولقد كان اإلنسان منا يعجب كثيرا وﻫو يمر على بعض المراكز الهامة التي يحتلها الجيش ،فال
يجد إال قوات ضئيلة مبعثرة ﻫنا وﻫناك ال يمكنها الوقوف أمام أي ﻫجوم ألكثر من دقائق
معدودة.
وكان ﻫذا ﻫو الوضع الطبيعي لجيش قليل العدد اضطرته ظروفه لحماية مناطق شاسعة يعجز
عن حمايتها أضعتف أضعافه ،وليست ﻫذه الخطة التي اتبعها اليهود من تفكيرﻫم ووضعهم،
ولكنها خطة قديمة استعملت أكثر من مرة :استعملها الروس أمام نابليون حينما تركوه يحتل
المناطق الشاسعة من األراضي الروسية قبل أن يقوموا بالهجمات المضادة على جيشه،
واستعملها الروس مرة أخرى حين غزت الجيوش األلمانية األراضي الروسية في يونيه عام
١۹٤١عندما تركت المناطق الشاسعة ليحتلها النازيون فتتبعثر بذلك جيوشهم ويصبح من
الميسور القضاء عليها وإيقاع الهزائم بها كما حدث بعد ذلك.
508
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وقد تعجب حين تعلم أن كثيرا من ضباط أركان الحرب في الجيش اإلسرائيلي ،كانوا ضباطا
في الجيش الروسي خالل الحرب الروسية األلمانية وكانت ﻫذه الخطط دروسا مستفادة ،نفذت
بصورة مصغرة في فلسطين ونجحت نجاحا منقطع النظير.
ولست أدري كيف غابت ﻫذه المعاني عن أذﻫان القادة العسكريين في الجيوش العربية ،ولن
يزال سر ﻫذه الخطة قائما ،يتذبذب بين (اللواء المواوي) القائد األول للحملة ،وبين الساسة
المصريين الذين كانوا يحركون القتال من القاﻫرة ،والذين كان أكبر ﻫمهم كسب الرأي العام،
وانتزاع تصفيقه للجيش الباسل الذي احتل ثلث فلسطين في مدة ال تتجاوز عشرين يوما ،ببركة
وزارة السعديين ،وحسن سياستهم!!
الرجل لم يغب عن ذﻫنه ما في ﻫذه الخطة من خطر. على أن أنصار (المواوي) يقولون إن ّ
ولكنه كردل عسكري كان ينفذ ما يؤمر به مضطرا ،ويواصل الزحف كلما صدرت إليه األوامر،
ولكن أنصاره يعودون فيقولون إن الواجب كان يقضي عليه باعتزال القيادة ،ومغادرة الميدان،
وعدم المجازفة بسمعته العسكرية كقائد ،وسمعة الجيش يتعريضه للهزيمة المنكرة ،من جراء
خطة مرتجلة.
ولسوف تظل ﻫذه النقطة الخطيرة التي رتب عليها ما حل بالجيش وما حدث في فلسطين سرا
مغلقا ،حتى يأتي يوم يستطيع فيه (المواوي) أن يواجه أمته وأن يحدد مسئولية الكوارث التي
تعرض لها جيشنا في فلسطين والتي كادت تودي به لوال لطف هللا وعنايته.
ولقد أوضحت في كالمي عن جهود المتطوعين في الدفاع عن بيت لحم كيف رأت القيادة
العا ّمة أن تجمع كتائبهم في بيت لحم والخليل ،وحين تمت ﻫذه الخطوة لم يبق مع القوات الرئيسية
المصرية سوى قوات اإلخوان الحرة التي كان يقودﻫا مؤرخ ﻫذه الصفحات والتي نفرد األبواب
التالية لمتابعة أعمالها والوقوف على مدى تاثيرﻫا في سير العمليات التي دارت في ﻫذه الجبهة.
كانت مهمة اإلخوان في ذلك الوقت تتلخص في إرباك مستعمرات النقب ،وإشغالها في الدفاع
عن نفسها أمام ﻫجماتهم المتكررة ،حتى ال تفكر في االنقضاض على مؤخرة الجيش وﻫو مشغول
بمعاركه األمامية في مناطق أسدود والمجدل والفالوجا ،فمرت باإلخوان في ذلك الوقت فترة من
أنشط الفترات ،وبلغت المعارك بينهم وبين اليهود إلى عنفوان شدتها ،ولم يكن يمر يوم واحد
حتى تنشب االشتباكات الدامية في مناطق مختلفة من الصحراء ،واإلخوان في كل ذلك غير
509
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مقيدين مطلقا بما جد من أساليب الخداع والتثبيط كقرارات الهدنة ووقف القتال .بل ال أكون
مبالغا إذا قلت إن اإلخوان كانوا يعملون في فترات الهدنة اكثر مما يعملون في أوقات القتال،
حتى وقع منهم في ذلك الحين كثير من الجرحى وعدد من الشهداء.
ولم تكن جهود اإلخوان مقصورة على مهاجمة القوافل ومحاصرة المستعمرات بل كانوا
يشتركون مع الجيش المصري في عملياته الهجومية ،وألضرب مثال على ذلك بمعركة «بيرون
إسحق» إذ قرر الجيش اقتحامها ووضع خطة محكمة لذلك.
وكان كل ما تخشاه قيادة الجيش أن تتدخل المستعمرات الجنوبية في المعركة فطلب إلى
البكباشي «عبد الجواد طبالة» أركان حرب المنطقة في ذلك الحين أن يقوم اإلخوان بقطع الطرق
التي تصل ﻫذه المنطقة ومنع اليهود من دخول المعركة عن ﻫذه الطريق ،فعهدت إلى األخوين
«نجيب جويفل» و«محمد علي سليم» للقيام بهذه المهمة فخرجا بفصائلهما ورابطوا على نقاط
متقاربة على الطريق ،وحين بدأت المعركة واشتد الضغط على حامية «بيرون اسحق» بعثت
تطلب المزيد من القوات ،واستجابت لها القيادة اليهودية ،وما ﻫي إال برﻫة يسيرة حتى امتأل
الطريق بالمصفحات القادمة من مستعمرات النقب الجنوبية ،ونشبت معركة شديدة بين اإلخوان
وﻫذا العدد الهائل من المصفحات ،وحاول اليهود التخلص من ﻫذا الحصار والوصول إلى ميدان
المعركة ،ولكن قوة النيران الموجّه ة إليهم من األسلحة األوتوماتيكية ومدافع الهاون «البيات»
وحقول األلغام التي بثت في طريقهم ،أقنعهم بأن طريق العودة ﻫي اسلم طريق فبدأوا يتراجعون
644
تاركين حامية «بيرون اسحق» تعاني وحدﻫا شدة المعركة وتستغيث بقيادتها وال مغيث!"
"ولم تلبث األنباء أن جاءت بعد ذلك بقيام المذبحة الهائلة فسيق زعماء اإلخوان إلى المنافي
والمعتقالت ،وكان من بينهم األستاذ «محمد فرغلي» الذي ذهب ليستحضر جنودا ً للميدان !..
حتى ذلك التاريخ لم يكن اإلخوان المحاربون يعلمون شيئا ً عن حقيقة ما يجري في مصر وعن
سر هذه اإلجراءات المريبة التي تتبع إزاءهم في الميدان ،ولقد أدهشهم كثيرا ً إصرار المسؤولين
العسكريين على جمعهم في معسكر والحد من نشاطهم ،حتى كانت ليلة ٨ديسمبر سنة ١۹٤١حين
جاءني اللواء البرديني وكان يشغل منصب قائد ثان للقوات المصرية في فلسطين ،وقد حضر إلى
644كامل الشريف :اإلخوان المسلمون في حرب فلسطين -مكتبة المنار األردن الزرقاء -دار الوفاء مصر-
المنصورة -الطبعة الثالثة ١٤٤٤ﻫ١۹١٤ -م -ص330..327
510
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المعسكر في ساعة متأخرة من الليل يصحبه عدد كبير من ضباط أركان الحرب وجنود البوليس
صة أحد ضباط البوليس الحربي وقال لي:
الحربي واقتحم حجرتي الخا ّ
إن وكيل القائد العام موجود في المعسكر ويريد أن يراك ألمر هامن فارتديت مالبسي على
عجل وتبعته إلى الخارج .فأدهشتني السيارات العسكرية التي مألت ساحة المعسكر ،وأخذت
اسائل نفسي عن سر هذه المظاهرة دون جدوى ،واقدمت عليهم مسلِّما ً ومجيباً ،فانبرى
«البرديني» قائال :إنه يريد التحدث معي على انفراد ،فصحبته إلى حجرة المكتب وجلسنا ومعنا
بعض كبار الضباط ،وافتتح الكالم قائال:
طبعا يا فالن ،كلنا إخوان وكلنا مسلمون فضال عن اننا نحارب عدوا مشتركا ولغاية واحدة،
وال يمكن أن يضرب بعضنا وجوه بعض ومهما كانت الدوافع واألسباب ،ثم أخذ يردد ﻫذه
المعاني ويصوغها في جمل مختلفة ،وشاركه ضباطه في تأكيدﻫا ،وكنت في حيرة شديدة وال
أفهم معنى لهذا الكالم ،فقلت له :أال أرحتني من عناء التفكير وبينت لي الموضوع دون حاجة
لهذه المقدمات ،فلست أشك أننا جميعا إخوان نحارب عدوا مشتركا ولغاية واحدة ،وإال لما رأيتني
ﻫنا في ﻫذا الميدان.
صحيح ،ولقد قال :اسمع يا فالن ! أنت رجل عاقل وحكيم وتستطيع أن تزن األمور بميزانها ال ّ
أبلغنا أن قرارا سيصدر غدا بحل جمعية اإلخوان المسلمين بمصر ،والقائد العام – بناء على
طلب الحكومة -يريد منك أن تسلمه جميع األسلحة ومعدات الحرب حتى تهدأ الحال وتستبين ىثار
ﻫذا القرار ،خشية أن يركب بعض اإلخوان رؤوسهم ويقوموا بحركات امتقامية يكون فيها أبلغ
الضرر في ﻫذه المرحلة الخطيرة التي يجتازﻫا الجيش.
ونرجو أال تمانع في تسليم األسلحة والمعدات ألمد محدود رغم أننا نثق أن في حكمة اإلخوان
وإيمانهم ،ونؤمن أيضا أنهم لم يقدموا على عمل ينجم عنه الضرر مهما كانت األسباب!
فقلت له إن مسألة حل جمعية اإلخوان مسألة نتوقعها بين يوم وآخر ،ولسنا نعجب لوقوعها ما
دام االنجليز وضنائعهم يحكمون ﻫذه البالد ،ثم إننا نؤمن أن ﻫذه الدعوة ليست قابلة «للحل»
ألنها دعوة هللا ،ودورنا فيها ال يتعدى اإلخالص لها والعمل لتحقيقها كل جهد استطاعته ،فإن
فعلنا ذلك فقد أدركنا بغيتنا وأدينا واجبنا ،وحل اإلخوان عندنا لن يتعدى نزع الالفتات وإغالق
األبواب ،أما الدعوة فموضعها قلوب الصفوة المؤمنة وﻫي قالع منيعة ال يمكن قهرﻫا وال
اقتحامها ولو نصبت الحكومة المشانق في الطرقات وراجعت سجالت اإلخوان المسلمين لتشنق
كل صاحب اسم أدرج فيها بال استثناء ،فلن تصل إلى ما تريد ن دعوة اإلسالم ستجد حتما من
511
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
يعمل لها ولو بعد أجيال كثيرة .وليست ﻫذه أول مرة يتعرض فيها دعاة اإلسالم للمحن والنوازل
فصحائف التاريخ مفعمة بالطغاة والجبابرة ،الذين وقفوا في وجههم وحاربوﻫم بكل سالح ،وكانت
النتيجة في كل مرة أن يمحى الطغاة وتعفوا آثارﻫم ،ثم يخرج اإلسالم من محنه مرفوع الهامة،
موفور الكرامة.
ﻫذا كل ما عندي بشأن حل جمعية اإلخوان ،أما خشية الحكومة السعدية من قيام حركات
صحيحة يمنعانهم انتقامية في الميدان فتلك خشية ال موضع لها ،فإن إيمان اإلخوان ووطنيتهم ال ّ
من التفكير في مثل ﻫذه األعمال ،وإن ﻫؤالء الشباب الذين باعوا أنفسهم وأﻫليهم وﻫجروا الدنيا
بمن فيها ،لن يختموا جهادﻫم بضرب وجوه المؤمنين من إخوانهم وزمالئهم .ثم إننا لو فكرنا في
االنتقام من مرتكبي ﻫذا الجرم ومقترفيه ،لما فكرا في الجيش مطلقا ،لننا نعلم أن الجرم كله
يتركز في قلة تافهة من الحكام والكبراء ،وﻫم وحدﻫم سيتحملون التبعة أمام هللا وأمام الناس
وسيأتي يوم ينزلزن فيه من عليئهم ليحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة.
أما دعوتنا فستظل كما ﻫي كالطود الراسخ ال تزيدﻫا المحن إال قوة وصالبة ،وعلى ﻫذا فتسليم
األسلحة والمعدات يعتبر أمرا ال لزوم له ،ومن واجب القائد العام أال يفكر فيه مطلقا ،وعليه أن
يبلغ المسؤولين رأيه الصريح ،وأن يتحمل التبعة وﻫو رجل شجاع جريء ال تهمه المسئوليات
والتبعات ،وأرجو أن يعلم أيضا أن ﻫذه األسلحة ليست ملكا للحكومة وال للجيش .ولكنها ملك
الخاص ،ومنهم من باع مالبسه وحلي زوجته لشرائها، ّ ألفراد ﻫذا المعسكر الذين اشتروﻫا بمالهم
ولن يستطيع إنسان – كائنا من كان -أن يقنعه بتسليمها والوقوف بدونها.
وﻫناك على باب الحجرة وجدت جمعا كثيرا من اإلخوان ينتظرني وقد دﻫشوا لهذه المظاﻫرة
العسكرية بسياراتها وبوليسها ،وكان كل واحد منهم يبدي سببا من األسباب ،ويتكهن باألحداث
الجسام ،التي ال بد أن تكون وقعت أو على وشك الوقوع ،ودلفت إلى الغرفة بعد أن طمأنتهم
بكلمات مختلفة ،وبينت لهم أسبابا وﻫمية عن معارك وشيكة الوقوع ،وأن ﻫؤالء الضباط قد
جاءوا ليبينوا لي دور اإلخوان فيها ،فانصرف اإلخوان كل إلى موضعه ولم يبق إال عدد قليل
دخلوا معي إلى الحجرة ،وأذكر أنني قمت ألصلي العشاء ووجدت نفسي بال إرادة أقرأ سورة
512
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
«البروج» فلما وصلت إلى قول هللا تعالى «وما نقموا منهم إال أن يؤمنوا باهلل العزيز الحميد ...
الخ اآلية» ...لم أتمالك نفسي فبكيت.
وكان اإلخوان المحيطون بي قد فهموا كل شيء ،فما كدت أنتهي من الصالة حتى كانوا جميعا
يبكون ،وبادرني أحدﻫم وﻫو األخ «سيد عيد يوسف» بقوله :ﻫل حلت اإلخوان في مصر؟ قلت
له نعم وطلبت منهم أن يكتموا ﻫذا األمر حتى نتبين عواقبه .وخرج اإلخوان وبقيت وحدي في
غرفتي ولم يغمض لي جفن طوال تلك الليلة.
كان مفروضا أن أذﻫب في الصباح الباكر لمقابلة القائد العام ،حيث ثبت له أمر اإلخوان عقب
ﻫذه الحوادث .فصليت الصبح ثم ركبت سيارة المعسكر وتوجهت إلى قرية رفح حيث القيادة
العا ّمة ،وكنت أفكر طول الطريق فيما عسى أن يحدث ،لو أصر «فؤاد صادق» على رأيه في
تجريد اإلخوان من سالحهم وكنت أعلم سلفا أن اإلخوان لن يقبلوا تنفيذ ﻫذا األمر بسهولة ،ولن
يلقوا أسلحتهم بهذه الصورة المزرية.
وظللت أقلب األمر على وجوﻫه كلها فلم أجد إال وسيلة واحدة تريحنا من ﻫذا العناء ،ﻫي أن
يقتنع القائد العام بما أقوله ويدع األمور تمضي في مجراﻫا الطبيعي ،حتى دخلت رفح ،وكان
الضباط يقبلون علي مرحبين ،وكانوا جميعا ناقمين على ﻫذه األوضاع ،ولم يخف أحد منهم
استنكاره لهذا اإلجراء الظالم الذي استهدفت له أكبر ﻫيئة شعبية في مصر ،على أنهم كانوا
مجمعين على أن جماعة اإلخوان لم تحل ،ولكن األحزاب الحاكمة ﻫي التي حلت نفسها بنفسها
حين أقدمت على ﻫذه الخطوة الطائشة .ثم التقيت بكبار المسئولين في الرئاسة ،وقال لي القائمقام
«إبراﻫيم سيف الدين» -وكان أركان حرب القائد العام وساعده األيمن ومن خيرة الضباط الذين
عرفناﻫم في الميدان -قال لي :إن القائد قد فكر كثيرا في األمر وتحدث مع المسؤولين في القاﻫرة
وأغلب الظن أنهم تركوا له معالجة األمر بالصورة التي يراﻫا .وبعد لحظات دعيت لمقابلة القائد
الرجل بوجه باسم ورحب بي ،ثم عرج على حوادث القاﻫرة فقال لي إنه يرجو أال العام ،فقابلني ّ
يتأثر اإلخوان بما يجري ﻫناك ،وأن يركزوا جهدﻫم في المهمة العظمى التي يقومون بها في
سبيل هللا والوطن واستطرد يقول - :إنه قد فكر كثيرا في األمر فاستقر رايه على معالجته
بالحكمة والحسنى ،وإنه سيترك لإلخوان الخيرة في أمرﻫم ،وعليهم اختيار األوضاع التي
يرتاحون إليها فإن رأوا – كلهم أو بعضهم -مغادرة الميدان والذﻫاب إلى بالدﻫم ليشاركوا
إخوانهم في محنتهم فسوف يسهل لهم أمر العودة وإن رأوا أن يستمروا مع زمالئهم حتى تستقر
الحالة العسكرية على وضع من األوضاع فسيظلون في أماكنهم دون أدنى تغيير في أوضاعهم
ونظمهم.
513
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
على أنه يرجو ان يتدبر اإلخوان األمر ويعلموا ان الجيش في حالة ماسة إلى جهودﻫم ،وال
يليق بهم التخلي عنه وﻫو في ﻫذه الحالة ثم طلب إلي أن أجمعهم في موعد معين حتى يذﻫب
إليهم ويتحدث معهم كعادته فوعدته خيرا ،وخرجت وقد زال من صدري ﻫم ثقيل واختفى من
أمام ناظري شبح أزمة مخيفة كنت أحسب لها ألف حساب.
ولما عدت إلى المعسكر وجدت أنباء القرار المشؤوم قد سبقتني إليه عن طريق الصحف
واجهزة الراديو ،ورأيت أن اإلخوان يتجمعون في حلقات كثيرة ويتناقشون في أمر ﻫذا ﻫذا
القرار ،وقد علت وجوﻫهم عالمات الغيظ والحنق ،فطلبت منهم االنصراف إلى أعمالهم ،ثم
عقدت اجتماعا عاما حضره قواد السرايا وضباط الفصائل ،وشرحت لهم ما دار بيني وبين قيادة
الجيش ،وطلبت منهم بحث الموقف واتخاذ قرارات بشأنه .فتداولوا الرأي بينهم ثم قرروا مفاتحة
اإلخوان في األمر وعقد اجتماع عام يمكن معرفة رأيهم جميعا ،واتخاذ قرار موحد على أساس
من الرغبة واالختيار.
جمعنا اإلخوان في مسجد المعسكر ،وتحدثت إليهم طويال في ﻫذا القرار األحمق ،وبينت لهم
حقيقة ما دار بشأن تسليم األسلحة والمعدات وما تم التفاﻫم عليه ،ثم خيرتهم بين االستمرار في
القتال أو االنسحاب غلى مصرن وطلبت منهم اإلدالء بآرائهم الصريحة دون ضغط أو إكراه ،ثم
أعقبني األخ المجاﻫد «حسن دوح» من قواد المعسكر فحدثهم عن المحن كمرحلة ضرورية في
الدعوات وأنهى كلمته بمطالبتهم باتخاذ قرار موحد نلتزمه جميعا ونتعاون على تنفيذه.
واستأذن أخ آخر في الكالم وقال إن عنده وصفا لهذه المحنة من كالم المرشد العام نفسه ! وأخذ
يقرأ كلمات من رسالة كتبها اإلمام الكريم قبل ذلك التاريخ بسنوات وتنبأ فيها بمحن قاسية
تعترض اإلخوان ،فيعتقلون وينقلون ويشردون ،وتصادر حريتهم وأرزاقهم ،وتلصق بهم التعم
الباطلة ظلما وعدوانا ،ويتعاون عليهم أعداء اإلسالم من مستعمرين وحزبيين ،ولكن هللا وعدﻫم
بعد ذلك كله مثوبة العالمين ونصرة المجاﻫدين.
وذكر األخ المتكلم أن األستاذ اإلمام كان يتعجل المحنة ويتعجب من تأخرها ،ويعتبر وقوعها
عالمة النصر وبداية الطريق إلى الفوز المبين.
وبعد أن انتهى المتكلمون طلبت إلى اإلخوان اإلدالء بآرائهم فوجدت إجماعا ً تاما ً على ضرورة
البقاء ،ومواصلة القتال حتى ينتهي الجيش من مهمته وتعود فلسطين كما كانت دائما ً أرضا ً عربية
مسلمة.
514
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وفي اليوم التالي حضر اللواء (فؤاد صادق) يرافقه جمع كبير من ضباطه وأبدى رغبته في
الجلوس إلى اإلخوان والتحدث إليهم بنفسه ،فلم يمض إال دقائق حتى كانوا جميعا ً في مسجد
المعسكر ،ولما دخل عليهم حيوه بهتافات اإلخوان المعروفة ،ثم قام األخ (حسن دوح) فتحدث نيابة
عن اإلخوان وبين للقائد غجماع اإلخوان على البقاء ومواصلة الجهاد حتى تنتهي الحرب دون أن
يتعرض الجيش مطلقا ً لنظم قيادتهم وتشكيالتهم ،وتحدث القائد إلى اإلخوان وشكرهم على هذه
الروح السمحة الطيبة وأبدى استعداده إلجابة مطالبهم كلها.
وهكذا انحصر تفكير اإلخوان في الجهاد عن فلسطين ووضع مصلحة الجيش واألمة فوق كل
اعتبار.
المفروض أن قيادة اإلرهاب العليا لن تحارب في فلسطين ومصر معا ً وتوزع قواتها بين
جبهتين! والوضع الطبيعي أن تبادر القيادة العليا المذكورة فتسحب قواتها من فلسطين لتواجه بهم
هجمات البوليس المصري ،لتنفذ مؤامرتها الكبرى لقاب نظام الحكم في الدولة ،وتحقيق المسرحية
المثيرة التي ألفها (عمار) وأخرجها (النقراشي) وخليفته ،كان هذا هو المفروض في مثل هذا
الموقف ،ولكن يظهر ان قيادة اإلرهاب لم تكن لها حكمة (عمار) وال ذكاء (إبراهيم عبد الهادي)
فكان أن أرسل المرشد العام خطابا ً مع أحد اإلخوان يقول فيه (إنه ال شأن للمتطوعين بالحوادث
التي تجري في مصر ،وما دام في فلسطين يهودي واحد يقاتل فإن مهمتهم لم تنته) ثم يختتم
الرسالة بوصية طويلة لإلخوان بالتزام الهدوء وحفظ العالقات الطيبة مع إخوانهم وزمالئهم من
ضباط الجيش وجنوده.
والواقع ان خط ة المرشد العام كانت تقضي بعدم المقاومة حنى ال يستفيد االنجليز من الفتنة ،إذ
كان يدرك أن خيوط هذه المؤامرة كانت في يدهمن فهم الذين احتضنوا الصهيونية منذ كانت فكرة
وحلماً ،حتى أصبحت دولة وجيشاً.
ورأى االنجليز أن مصر كلها تقف صفا واحدا لمواجهة الخطر اليهودي ،وأن ﻫيئاتها المختلفة
لم تتفق على أمر بقدر ما اتفقت على محاربة اليهود ومكافحة شرﻫم ،رأى االنجليز ذلك ،ورأوا
أن ﻫيئة اإلخوان ﻫي التي تتزعم الحرب ضد اليهود في البلدان العربية وفي فلسطين وخشوا أن
يتناول اإلخوان لواء الجهاد ،وبذلك تتحول الحرب إلى معركة شعبية ال سيطرة فيها لقرارات
األمم امتحدة ،وال لمجلسها المنكود.
515
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
واالنجليز يريدون أن تستمر ﻫذه الحرب حكومية رسمية حتى يأمروﻫا ،أو يدعوﻫا فتسير.
ولقد زاد من خوفهم ما أذاعه المرشد العام عن عزمه على إعالن التعبئة الشعبية والجهاد
الديني وﻫو ما ذكرته في موضع سابق ،كل ﻫذه األسباب وغيرﻫا جعلت بريطانيا وزميلتيها
االستعماريتين فرنسا وأمريكا تضغط على النقراشي وتأمره بحل اإلخوان المسلمين والتضييق
عليهم .فإن قاوم اإلخوان وتحولت الفتنة إلى حرب أﻫلية فهي الفرصة الذﻫبية لبريطانيا ،وإن
سكت اإلخوان واحتسبوا فقد نجحت في تحطيم الوحدة الشعبية وتوجيه قوى األمة والحكومة
وجهة مضادة.
ولقد حدثني أحد اإلخوان العائدين إلى الميدان أن نفرا من شباب الدعوة توجهوا لإلمام الشهيد
عند طغيان موجة االعتقاالت وسألوه عن رأيه في ﻫذه الحركة ،واستأذنوه في المقاومة حسب
الرجل المؤمن حذرﻫم من ﻫذا ،وبين لهم أن اإلنجليز ﻫم السّبب وأنهم ﻫم الذين الطاقة ولكن ّ
أوحوا إلى النقراشي بحل اإلخوان والتضييق عليهم على أمل أن يقاوموا ،فيغتنم اإلنجليز الفرصة
للتدخل المباشر في شؤون البالد ،ثم وضح لهم الدور في القصة المشهورة التي تروي أن سليمان
الحكيم عليه السالم ،حين اختصمت إليه امرأتان على طفل وليد ،وادعت كل واحدة كنهما بنوته،
فحكم بشطره نصفين بينهما ،فوافقت المرأة التي لم تلده على قسمته ،بينما عز ذلك على األم
الحقيقية ،وآلمها قتل فلذة كبدﻫا فتنازلت عن نصيبها فيه ،نظير أن يظل متمتعا بحياته وقال اإلمام
الشهيد« :إننا نمثل نفس الدور مع ﻫؤالء الحكام ونحن أحرص منهم على مستقبل ﻫذا الوطن
وحرمته ،فتحملوا المحنة ومصائبها ،وأسلموا أكتافكم للسعديين ليقتلوا ويشردوا كيف شاؤوا
وحرصا على مستقبل وطنكم وإبقاء على وحدته واستقالله».
وصدع اإلخوان باألمر وتحملوا مصائب المحنة بصبر وجلد ،ومضى السعديون في خطتهم
الطائشة يقتلون ويشردون ،وال ينام زعيمهم مطمئنا ً إال إذا ارتاحت نفسه لعدد من المشردين
والمعذبين ،وكان كلما ازداد العدد كان ذلك أدعى لراحته وسعادته ،حتى كفنت مصر كلها في
سحابة كثيفة داكنة من الظلم والظلمات ،وبات أي فرد في مصر تحت رحمة البوليس السّياسي إن
شاء عذب وإن شاء غفر ،وشهد النَّاس ألوانا ً جديدة من الطغيان ،لم يعرفوها قبل هذا العهد
األ سود ،فمساجد هللا تهاجم وتراقب ،ويضع روادها في قائمة المشبوهين ،وكتب هللا والسنن تعتبر
نشرات ممنوعة ال يجوز تداولها ،ومبادئ اإلسالم الكريمة تضم إلى غيرها من المبادئ الهدامة
الرسمي هو اإلسالم!
التي يحاربها القانون ...قانون الدولة التي يزعمون أن دينها ّ
516
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وكان طبيعيا أن تبرر الحكومة موقفها وتخلق سببا ً أو أسبابا ً لهذه المذبحة المريعة ،فأخذت
أبواقها تشيع في الجمهور أنباء مختلفة عن مؤامرات تدبر في الخفاء لقلب نظام الحكم ،وطفحت
الصحف الحكومية المغرضة ،بتفاصيل هذه المؤامرات الوهمية ،وتعدتها إلى الكالم عن
الجمهورية اإلسالمية ،ودستور القرآن الذي يريد اإلخوان تطبيقه ،وصور الخيال أركان النطام
الجديد ،حتى ذكرت إحداها أسماء بعض وزراء الحكومة اإلسالمية الجديدة !..
ولم يكن اإلخوان يستطيعون الدفاع عن أنفسهم في ذلك الجو الخانق األغبر ،فالحكومة تقبض
بيد من حديد على وسائل اإلذاعة والنشر ،وتملي عليها ما تكتبه وما تذيعه ،وخزائن الدولة مفتحة
األبواب أمام أصحاب األقالم المأجورة والذمم الخربة ،وليغترفوا منها ويدبجوا المقاالت ،ويكتبوا
ما يمليه عليهم الهوى والغرض ،ويساهموا مساهمة فعالة في تضليل الشعب واستعداء الحكومة،
التي لم تكن في حاجة إلى استعداء ،وهي تعلم جيدا ً معالم الطريق الوعر الذي خططه لها أسيادها
المستعمرون واندفعت فيه دون روية أو تفكير.
والشعب المسكين يقف مذهوال من هذه الحركات ،وال يكاد يفقه معناها فهو يستقي معلوماته
من الصحف المغرضة ،واألقالم المهجورة ،ويطالع كل يوم أنباء العثور على أسلحة ومفرقعات،
هي في الواقع من مخلفات الكميات الهائلة التي بعث بها اإلخوان إلى فلسطين ،ولكن أبت الروح
الحزبية الخبيثة إال أن تجعل منها أسلحة لجيش سري خطير !
في هذا الجو المسموم كانت تعيش مصر ،وتلك كانت حالتها الداخلية عقب هذا القرار األحمق،
645
فأي توافق عجيب بين هذه الحركات الداخلية ،وبين توتر الحركة العسكرية في الميدان؟!"
هو ،بل أشد وأخطر ،ليس فحسب من حيث َمن امتدت إليهم مساحة وبما أن الوضع ال زال هو َ
المخطط التضليلي من تثبيت فكرة أن ال دخل للمهتمين بدين هللا تعالى والدعوة إليه بالشأن
السّياسي ،وبما أن مطلق مؤسّسة الدولة – وإن شكليا فقط -قائم على الحزبية ،فذلك أدعى عند
صنف لكنههؤالء وحسب منطقهم الالمنطقي والالمتصل؛ فليس حسب عقول أو عقل هذا ال ّ
غالب ،ليس ينبغي للعاملين لإلسالم أن يدخلوا الحقل السّياسي فذلك ليس يخدم اإلسالم وإنما هو
نهج من يبتغي السلطة والمال ومؤداه الفتنة؛ ويرى هذا العقل أن هذه الجماعات أو هؤالء الرجال
والنساء من المؤمنين والمؤمنات العاملين تحت راية أن يكون الدين كله هلل ،إنما هم من جماعات
517
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مدعومة بمن يريد اإلساءة إلى اإلسالم ،كما قال الشيخ أحمد شاكر واستحال منظاره مع نظام
الخطاب أنهم "قلبوا الدعوة اإلسالمية إلى دعوة إجرامية هدَّامة ينفق عليها الشيوعيون واليهود ،كمـا نعلم
ذلك علم اليقين" وكذب يقينَ الخطاب يقينُ األيام النكسة فالغدر بثوار األمة في قومة الربيع العربي
والثورة البوعزيزية ومحو العرب من خريطة الفعل السّياسية تقتيال وتشريدا وتوطينا لألغراب تمهيدا
لترحيلهم إلى الحجاز والتطبيع الكامل ،هذا كله في سياق إيران الشيعية ُحديَّا الغرب في الق ّوة النووية،
وأعلى ميزانية مخصصة لشراء األسلحة تحارب فئرانا لها أسلحة أشبه بلعب عاشوراء؛ لقد لج الشيخ
شاكر في جناب غير جميل.
يقول مؤلفا كتاب "الفكر السّياسي بين ابن حزم وأبي حامد الغزالي في مقدمته:
"وأخيرا فإن هذا الكتاب ليؤكد على حقيقة ال تقبل المراء وهي أن اإلسالم قد جاء ليقيم دينا ً
ودولة معاً ،وأن السّياسة جزء ال يتجزأ من اإلسالم ال يمكن الفصل القسري بينهما ،وإال لما
646
قامت لإلسالم حضارة ودولة تحكم مشارق األرض ومغاربها وتسودهما".
من أجل هذا ولتستبين سبيل األفاكين ،وكيف يأتي الشيطان األنام عن أيمانهم ،ال بد من العودة
إلى "الفتوى أو الفتاوى النادرة" وبخصوص محك الحقائق واالدعاءات وهللا عليم بما يصنعون.
"ذكرنا في موضع آخر من هذا الكتاب كيف أن حكومة النقراشي لم تسمح بادئ دي بدء
لإلخوان المسلمين بدخول فلسطين ليشتركوا في الذود عن حياضها .ولكنها عادت فسمحت
لجماعات منهم بدخولها كبعثة علمية لدراسة األحوال في (سينا) فقط!! ..
ولقد قام هؤالء بخدمات جلى في قطاع بئر السبع وفي قطاع الخليل وبيت لحم ،األمر الذي
ذكرناه في مواضع أخرى بالتفصيل .حتى أن المواوي قائد الحملة المصرية طلب من المركز
العام لإلخوان المسلمين بالقاهرة إرسال المزيد من شباب اإلخوان إلى الميدان.
األمر الذي لم يرق في نظر الملك فاروق العتقاده بأنهم إن عادوا إلى مصر وكانوا منتصرين
سوف يعملون على قلب نظام الحكم واستبدال الملكية بالجمهورية .فأوعز إلى رئيس وزرائه
646الفكر السّياسي بين ابن حزم وأبي حامد الغزالي أ .د/عبد الحليم عويس -وليد عبد الماجد كساب -الطبعة األولى
١٤٣١-ﻫ٨٤١٤-م -دار الكلمة للنشر والتوزيع -ص34
518
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فهمي النقراشي باشا أن يحل جمعية اإلخوان ،فحلت ،وسيق زعماؤهم إلى المعتقالت ،سيقوا إليها
ووحدانا ً كالمجرمين.
زرافات ُ
ومما يؤسف له أن هذه المأساة مثلت في وقت كانت فلسطين العربية تقاسي األمرين ،وكان
الجيش المصري في جنوب فلسطين قد مني بفشل ذريع ،وكان في حاجة إلى كل جندي يمكن
إرساله إلى الميدان .لس هذا فحسب .بل إن المرشد العام لإلخوان ،الشيخ حسن البنا ،عندما سمع
يحمالت اليهود على العرب في مدينة القدس ،ورأى تقصير الجامعة العربية في هذا السبيل خشي
أن ينجح اليهود في احتاللها كلها فيضعون أيديهم على مقدساتها .ولهذا راح يعد قوة كبيرة من
اإلخوان ليتم بها ما قصرت الجامعة في عمله قائال ألحد زمالئه اإلخوان المتطوعين الذين كانوا
يحاربون في فلسطين« :ما فيش فايدة ،ال َّناس دول مش عاوزين يحاربوا»647
ورغم أن المرشد العام أمر اإلخوان بعدم المقاومة لئال يستفيد أعداء البالد وأعداء األمة
المصرية االنكليز من الفتنة ،إذ كان يدرك أن خيوط هذه المؤامرة كانت في يدهم ،أوصى أتباعه
بتحمل المحنة ،وعدم المقاومة ،إال أن (السعديين) مضوا في خطتهم الطائشة ،فقتلوا من اإلخوان
من قتلوا ،وشردوا منهم من شردوا ،ولم يكتفوا بذلك فقد قتلوا في آخر األمر زعيمهم المرشد
العام المرحوم الشيخ حسن البنا.
ولم يمض زمن طويل على هذا الحدث حتى قتل النقراشي رئيس الوزراء .قتله شاب من
اإلخوان المسلمين .ولما مثل أمام القضاء قال بصراحة إنه ما كان ليقتله لوال موقفه الشائن من
648
قضية فلسطين".
519
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
520
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الفصل الخامس
منهج العمل
«عندما ضعفت الدولة اإلسالمية في العصور األخيرة وفسد الحكم في ظل خالفة مريضة
صليبية إلى جسم الوطن اإلسالمي الكبير
جاهلة وشعوب وانية منكوبة ،وامتدت مخالب أوروبا ال ّ
تنهش وتلتهم ،قامت دعوات شتى تنزع إلى إصالح ما فسد وإقامة ما تصدع ،وتحاول استنقاذ
المسلمين مما حاق بهم من مصائب فادحة في الداخل والخارج.
ومن أعاظم الرجال الذين تفانوا في سبيل إقامة حكم إسالمي نظيف يعتمد على أمة فيها أخالق
القرآن ومناهجه ،واتجاهاته ،جمال الدين األفغاني ،ومحمد عبده ،وأحمد عرابي ،وحسن البنا،
وعبد الرحمان الكواكبي ،وغير هؤالء ممن نظروا إلى المسلمين على أنهم أمة واحدة ،وإلى
أسقامهم الموزروثة على أنها علة مشتركة ،وعالجوها بروح يستهدف كتاب هللا وسنة رسوله
مباشرة.
ويبدو أن األحوال التي واجهها أولئك الزعماء كانت أعتى عليهم مما يقدرون ،أو على األصح
مما تقدر عليه األمة المهيضة التي يجاهدون من أجلها ،ومن ثم فلم يستطيعوا تحقيق ما
649
يبتغون!»
521
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وأﻫل غزة جميعهم كانوا شهداء عليها وﻫو الحق ال ريب ،وكانوا ﻫم الحجّة البالغة على القاعدين
المستأخذين.
فالسبيل األوحد ﻫو آلية التحليل والتركيب وﻫو المنهج ﻫنا ال غيره؛ وما الطروحات البنيوية
جميعها سوى إسقاطات لهذه اآللية والمنهج ،وكل ﻫذا قلبه الروح الجهادية؛ فال ثمرة لمنهج من
غير روح ،وبالنسبة لحال األمة اليوم ووضعها الذليل الذي ال يرضي هللا ورسوله ،ﻫو حال
ووضع ال يرتفع إال بآية شرط انتصار غزة ،آية للعالمين ،شرط الروح الجهادية.
فال عودة إال بعودة ﻫذه الروح ،الذي وﻫبت لغزة نصرﻫا وعزتها ،وإعادة البناء ليس لذات
الماضي ،بل بإعادة التركيب على أساس علمي إلى حدود فك عقدة الذات ورفع الحصار
المضروب عليها من اآلخر التاريخي ،الذي ليست العالقة معه إال على نسق القسائم األدلوجية،
لكن على مستوى حضاري وجودي مصيري أعظم وأخطر -فالدين أن كان مصدره إلهيا فهو
ليس أدلوجة -والعمل التاريخي -وإن من أمة إال ولها تراث به ﻫويتها وتاريخها -فليس منحصرا
الربّانية ،التي شرطها اليوم ﻫو وقود الروح الجهادية؛ ﻫذا ﻫو عين نهجفي التراثية ،إنما منهاجه ّ
"ما العمل؟" اليوم.
ففي عدد "العروة الوثقى" ومقالة "ماضي األمة وحاضرﻫا وعالج عللها ﴿سنة هللا التي خلت
من قبل ولن تجد لسنة هللا تبديال﴾" يقول جمال الدين بقلم محمد عبده – رحمهما هللا تعالى!:-
« ماذا يصنع المشفقون على األمة والزمن قصير؟ ماذا يحاولون واألخطار محدقة؟ بأي سبب
يتمكنون ورسل المنايا على أبوابهم؟
ال أطيل عليك بحثا وال أذﻫب بك في مجاالت بعيدة من البيان ،ولكني أستلفت نظرك إلى سبب
يجمع األسباب ووسيلة تحيط بالوسائل.
522
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
فإن كانت هذه شرعتها ولها وردت وعنها صدرت فما تراه من عارض خللها وهبوطها عن
مكانها إنما يكون من طرح تلك األصول ونبذها ظهريا وحدوث بدع ليست منها في شيء ،أقامها
المعتقدون مقام األصول الثابتة ،وأعرضوا عما يرشد إليه الدين وعما أتى ألجله وما أعدته
الحكمة اإللهية له ،حتى لم يبق منه إال أسماء تذكر وعبارات تقرأ ،فتكون هذه المحدثات حجابا
بين األمة وبين الحق الذي تشعر بندائه أحيانا بين جوانحها.
فعالجها الناجح إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها واألخذ بأحكامه على ما كان في بدايته
وإرشاد العا ّمة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب وتهذيب األخالق وإيقاد نيران الغيرة وجمع الكلمة
وبيع األرواح لشرف األمة ،وألن جرثومة الدين متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة،
ي من محبته .فال يحتاج القائم بإحياء األمة إال إلى
والقلوب مطمئنة إليه ،وفي زواياها نور خ ِف ٌّ
نفخة واحدة يسري نفثها في جميع األرواح ألقرب وقت .فإذا قاموا لشؤونهم ووضعوا أقدامهم
على طريق نجاحهم وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب أعينهم ،فال يعجزهم بعد أن يبلغوا بسيرهم
منتهى الكمال.
ومن طلب إصالح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه ،فقد ركب بها شططا ،وجعل النهاية
بداية ،وانعكست التربية وخالف فيها نظام الوجود ،فينعكس عليه القصد وال يزيد األمة إال نحسا
وال يكسبها إال تعسا.
هل تعجب أيها القارئ من قولي إن األصول الدينية الحقة المبرأة من محدثات البدع تنشئ
لألمم قوة االتحاد وائتالف الشمل وتفضيل الشرف على لذة الحياة وتبعثها على اقتناء الفضائل
وتوسيع دائرة المعارف وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية .إن عجبت فإن عجبي من عجبك
أشد .هل نسيت تاريخ األمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات وإتيان
الدنايا والمنكرات حتى إذا جاءها الدين فوحدها وقواها وهذبها ونور عقولها وقوم أخالقها وسدد
أحكامها ،فسادت على العالم وساست من تولته بسياسة العدل واإلنصاف .وبعد أن كانت عقول
أبنائها في غفلة من لوازم المدينة ومقتضياتها نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون
المتنوعة والتبحر فيها ،ونقلوا إلى ديارهم طب بقراط وجاليونوس ،وهندسة أقليدس وهيئة
523
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
بطليموس ،وحكمة أفالطون وأرسطو؛ وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا .وكل أمة سادت
650
تحت هذا اللواء إنما كانت قوتها ومدنيتها في التمسك بأصول دينها».
إنها ﻫي الدعوة التي عاش ومات ألجلها جمال الدين األفغاني ،إنها بالذات عكس "التغريب'
وعكس التبعية وعكس االنهزام التاريخي واالستسالم للعدو الكافر . 652وكما بيناه في كتابنا
"جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي أو المسلمون والتاريخ" وبما يستوجب على العقول
الرجل كان عظيما في عقله بقدر الدعوة التي يحملها ،فهي دليل عظمته، السوية استنباطه ،أن ّ
كان ﻫو الموظف بحكمة تغيب ع ّمن دونه ممن سقطوا في حبال األنظمة والكيانات إياﻫا التي
ذكرنا ،راضين بها ،إلى ح ّد الز ّج بمن حارب اليهو َد أعدا َء هللاِ ورسو ِله صلى هللا عليه وسلم،
الز ّج بمن استرخص حياته إيمانا بوعد هللا تعالى ،الز ّج بهم في السجون والنكال بهم وبأﻫليهم،
الموظف للماسونية سالحا ال موظفا لها ،وال أﻫلية أصال للحكم في ﻫذه َ كان جما ُل الدين ﻫو
القضايا إال لمن له نفس السّعة في النظر المالئم للقضية ،كأبي الحسن الندوي .وبون عظيم بين
رش الوثيرة في تقض مضج َعه ،والقاعدين الذين آثروا الف َ ّ المسترخص حياته ينفقها في قضية أمته
أن يُح َمدوا بما لم يفعلوا؛ شتان ما بينهما وشتان ما حضن الكيانات تحت االستعمارية ،ويُحبّون ْ
بيل
س ِ ﻫما :يقول هللا تعالى﴿ :ال َيسْت ِوي القا ِعدُونَ مِن ال ُمؤْ مِنينَ َ
غي َْر أولِي الض َر ِر َوال ُم َجا ِﻫدُونَ فِي َ
هللاِ بأ ْم َوا ِل ِه ْم َوأنف ِس ِه ْم'﴾(النساء)34
650العروة الوثقى والثورة التحريرية الكبرى -عدد "ماضي األمة وحاضرها وعالج عللها" – ص03-02
651ن م – المقدمة :ص 11بقلم طه عبد الباقي سرور
صراع بين الفكرة اإلسالمية والفكرة الغربية" -األقطار المسلمة حديثا في طريق «التغريب»"
652انظر :ال ّ
-ص344
524
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وجالء ﻫذا القانون في طبيعته وسننتيه وعلميته وبداﻫته ،ﻫو بالذات الذي جعله مناط تخطيط
عدو هللا وعدو األمة للحيلولة دون شروط تمكينها وتمكين الدين الحق الذي به شرفها وذكرﻫا
وعزتها .وإذا أتأرنا النظر وأنعمناه ،وجدنا أن األركان الثالثة في البناء الشهودي لرسالة الحق
الربّانية ،وأنها مترابطة
الحجّة على الناس جميعا إلى يوم الدين ،ﻫي اإليمان والتمكين و ّ
الربّانية ﻫما من أمر الرسالة وﻫدي نورﻫا ،كما أنه ال تحقق للقرآن إال
األوصال؛ فالتمكين و ّ
بالسلطان ،وال حفظ للسلطان وال حقل لإلشهاد إال بسعة مجالية وقوة إمكان مما ال سبيل إليه إال
بمسايرة علمية قوية مهيمنة؛ ذلكم ﻫو المعنى الحق والخطير في دين هللا تعالى ومنهاجه الذي ال
الربّانية .وإنك لو عدت إلى كلمة األفغاني لوجدتها تأتلف من أربع يصح غيره ،ذلك ﻫو معنى ّ
القوة والعزة ،والثانية
شروط األصل في النشأة واألساس سبيل ّ نقاط في أربع فقرات ،األولى في ال ّ
في التخلف عنها والوصل السّلبي بها ،والثالثة في التأكيد التاريخي والسنني من حيث اإليجاب
والسّلب على أن ال سبيل لإلصالح إال بالعمل على استرجاعها وتحققها ،والرابعة كانت صياغة
لما فصل في النقاط والفقرات الثالث.
وإذا كانت النقطة أو الفقرة األولى ﻫي األساس والمرتكز ،فهي بذلك تتضمن األركان الثالثة
الربّانية ،اإليمان بالدين القويم دين الحق واتباع ﻫديه ،مما
في البناء الشهودي ،اإليمان والتمكين و ّ
المتراص ،شرطا بداﻫيا َ علميا َ وﻫندسيا َ في
ّ يزكي النفوس لتجعلها قابلة أن تكون لبنات تكتل األمة
تصورا صحيحا َ قائما َ على وجوب
ّ تصور الدين
التمكين الوجودي ،وحفظ ﻫذا التمكين ب ّ
االستخالف بقوانين هللا تعالى في اآلفاق وفي األنفس وفي المؤسّسات االجتماعية ،بشتى أبعادﻫا
ومستوياتها من الفرد واألسرة إلى المجتمع والدولة ،ومن الحدائق والمرافق العمومية إلى مؤسّسة
القوة العسكرية لألمة .وﻫذا المنهج االستخالفي والعمراني الذي ال تحقيق لعبادة هللا تعالى
الدولة و ّ
إال به ،ﻫو ما نسميه بالمعيارية الرياضية ،وﻫي لمن تأمل ونظر إلى التاريخ البشري،
وبالخصوص من حيث العامل الحاسم في موازين القوى بين الغرب والمسلمين بنحو خاص
والشرق عموما ،ﻫي النقطة الفارقة ،وﻫي بعلميتها ونسقيتها الموزونة وفيها من جمال الحق وإن
كان ظاﻫره فقط ،فيها ﻫذا الذي نراه ونسميه مدنية أو المدنية ،ألن الحق والجمال الحق ﻫو في
525
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
االئتمار بهذه المعيارية في الحياة والنظام الوجودي كلية ،ذلك ﻫو الدين الحقْ ﴿ :
قل أ َغ ْي َر هللاِ أ ْبغِي
ش ْيءٍ '﴾(األنعام)300
َربًّا َوﻫ َُو َرب ك ِّل َ
أ ّما األول فال مصداقية وال مشروعية لنظام خطاب ال ينتظم مع كون الدين الحق ،دين اإلسالم
ورسالة محمد رسول هللا وخاتم النبيئين صلى هللا عليه وآله وسلم ﻫي عين الحقيقة الوجودية.
وﻫذا ما صدق فوكو فيه وطابق فيه الحق إذ يقول:
« ّ
إن المسألة السّياسية ،إجماال ،ليست هي الخطأ ،أو الوهم ،أو الوعي المستلب ،أو
653
اإليديولوجيا؛ إنما الحقيقة ذاتها».
إن الحقيقة الوجودية هي الحق الذي بعث به هللا رب العالمين الرسل أن اعبدوا هللا واجتنبوا
الطاغوت؛ فمن يفصل مفهوم الدين عن هذا األمر العظيم فهو في مقام الحال مكذب للحق وإن
زعم أن له يقينا في منظاره فتفسيره ما رد به الغزالي وفسّر به؛ سبحان هللا ! وكيف يسحر ال َّناس
نظا ُم الخطاب وقد صدق من قال :حبك الشيء يعمي ويصم؛ فهذا مشهد السيرة النبوية الشريفة
وأساس صرح دين اإلسالم ورسالة خاتم النبيئين رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم المبعوث
للعالمين؛ هذا صرحها فيه العلم كله؛ إنه دين لم يقم إال على شرط الدولة ،وقد مهد لها بمسار من
نسق حكيم من األسباب والتضحيات والجهاد حتى تم وعد هللا ،ال يخلف هللا الميعاد.
إن من يريد أن يحصر دين اإلسالم وكيان المسلمين وشأن المهتمين بأمرهم في مفهوم
صليبيين
"الدعوة" بالمعنى المفرغ من السّياسة ليترك المجتالين على هواهم وفي أيدي شياطين ال ّ
واليهود ،فهذا ال مراء في ضالل مبين .وهذا خادم موظف بايدي نظام سياسي تديره إدارة
ي في الحقيقة ألعداء األمة.
استعمارية مقنعة ،هذا َو ِل ٌّ
526
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وأما الثاني فمقتضاه أن ال تحقق لعبادة هللا تعالى وتمكين دينه بغير المعيارية الرياضية مفتاح
تصور للدين والعبادة على غير ﻫذا الشرط ﻫو ضالل آيل ّ تسخير حقل االستخالف ،وكل
لالستضعاف أمام عدو هللا وعدو األمة ومخل ال محالة بشرط التمكين لدولة ودين اإلسالم.
ﻫذا التأطير السديد في سؤال "ما العمل؟" لعقل األمة اإلسالمية (متضمنا فيها األمة العربية
المحورية) ﻫو الحق ،وال يمكن ألي نظر يزعم ويدعي العلمية أن ال ينطبق به؛ فالعلمية قائمة
األرض .وليس غريبا أو ال ينبغي بالمنطق والمنطق ﻫو تفصيل للحق القائم عليه أمر السّماء و ْ
العجب من أن ينتهي مسار خبرة عتيدة جامعة بين الفكر الفاعل والجهاد العملي لرجل مثل منير
شفيق ،الذي حنكته ﻫذه المزاوجة العلمية العملية ،أن ينتهي إلى الجواب المنطقي الحضاري
والتاريخي في سؤال "ما العمل؟" .بل نجده يضيف التقطيعات الهندسية البنيوية ،أي على مناحي
بنية األمة ككيان تاريخي ،ويدل عليه بوضوح البيان أو القاموس الوصفي من قبيل لفظ
"األخدود" وقبيله ،سواء في التبديل الذي طرأ عليها مما ﻫو من مسمى "البدع التي ليست من
األصول األولى ،أو باعتبارﻫا موضوع استعداء واستهداف حرب حضارية تاريخية صليبية
باألساس ،غايتها تقويض كيانها من القواعد ،أي تقويض األركان الثالثة ،اإليمان والتمكين
الربّانية ،والحيلولة دون تحققها ،فال تبقى لها باقية ،تقويضها واإلتيان عليها من القواعد،
و ّ
بالتشكيك في الرسالة الخاتمة لمحمد صلى هللا عليه وسلم نبي ﻫذه األمة ورسول هللا للعالمين،
وخلق األخاديد وشق وحدة األمة والسعي فيها بالتأشيب والفرقة ،وصرف عقول نخبتها عن روح
الربّانية المتمثلة في المسايرة العلمية القوية ،إلى ما ال يجدي نفعا؛ من العلوم المزيفة والالمنطقية
ّ
وعلى رأسها العلوم اإلنسانية بما في ذلك ما يعرض بوصفه درسا فلسفيا ،وﻫو أبعد ما يكون عن
حقيقة الفلسفة ،مما بيناه في كثير من المواضع ،أو الدعوة إلى البقاء واالستغراق في االﻫتمام
بالتراث ،وذلك بيّن ﻫدفه وإن كان يلبس لبوس االعتناء وحتى الهيام بتاريخ ﻫذه األمة العظيم أو
غيرﻫا من أمم الشرق ،وفي حقل ﻫذه الحقيقة إن على مستوى الوضوح أو أثرﻫا الذي ال تخطئه
النفس ﻫو ﻫذا الذي نجده في كالم الدكتور العلمي:
527
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
والكلمة المؤثرة ذات الداللة أو الدالالت المتراكبة إلى حد المفارقة ،كلمة الدكتور محمود
الطناحي:
«وال أقول تراثهم؛ فإن هذه الكلمة قد أصبحت بغيضة عندي جدًّا ،لما توحي به هذه األيام عند
655
بعض النَّاس من الماضي السحيق والفلكلور والمتحفيات»
ونعود إذا إلى سبيل اإلصالح وجبهة صراع العدو اليوم ،والتي ساحتها موطن العزة والتمكين
لألمة وإقامة الدين وإنجاز وظيفتها التي بعثت بها في ﻫذا الطور األخير من تاريخ البشرية .يقول
منير شفيق في " اإلسالم وتحديات االنحطاط المعاصر ..قضايا التجزئة والصهيونية":
...
إذا كانت صراعات الحاضر ومشاكله وعاداته ونظراته تطفو على السطح ،وإذا كان التراث
صا في عدد
قد ابتعدا أحيانا عن مسرح األحداث ،وظهرا كأنهما غابا وانتهيا ،فما هذا – خصو ً
مجرد خداع للبصر إذ نكفي أن تأتي أحداث تحك تحت قشرة الحاضرّ من القضايا الرئيسية -إال
528
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
الظاهرة ،حتى يستيقظ التراث والتاريخ كعمالقين يبسطان وجودهما على الحاضر ،فيقودان
صراعات والحروب األهلية والدولية ويقرران مصير أحداث كثيرة فهل – على سبيل المثال- ال ّ
صليبية ،قد راحوا يلوحون برماحهم اآلنيصعب علينا أن نلحظ االسبتارية من فرسان الحمالت ال ّ
مجرد سماعهم بهدير الثورة اإلسالمية ،وانبعاث الصحوة اإلسالمية؟ وهل يصعب في أوروبا ب ّ
علينا أن نرى اآلن مائة (بطرس ال َّناسك) يتحول على المنابر األوروبية واألمريكية قد فتح ملف
اإلسالم ،وراح يضع السم في الدسم ،وبحرض ضد المد اإلسالمي حتى قبل أن يشتد عوده
تصور سذاجة البعض حين يتوهمون أن صورة الخلفاء الراشدين ّ ويكتمل نموه؟ وهل يصعب
ومعهم عمر بن عبد العزيز – رضي هللا عنهم -يمكن أن تمحي من ذاكرة المسلمين ،ويحل
مكانها نمط القادة المتغربين الذين يفتقرون إلى التقوى والعدل واالستقامة والبساطة ،أو حتى
يظنون ،أن صورة المجاهدين الذين قاتلوا ،ورابطوا ،وصبروا ،وصابروا دفاعا عن دار اإلسالم،
يمكن أن تحل محلها صورة المتفسخين الغارقين في المتع والملذات ،التاركين ديارهم مطمعا لكل
طامع؟"
"لم يحمل اإلسالم خطة تعريب الشعوب التي انضمت إليه ،فاحترم خصائصها ،وجاء ليرفع
عنها ما كانت تعانيه من اضطهاد قومي أو عنصري ،وبهذا شكل أمته اإلسالمية ضمن المحافظة
على تعدد األلسنة واألصول القومية ،وأفسح مكانا في داره حتى لمن خالفه في العقيدة من أهل
الكتاب ،ولكن شعوب المنطقة التي أصبحت تعرف اآلن بالبالد العربية ،ومن المحيط غربا إلى
الخليج شرقا ،أعادت تشكيل نفسها في ظل اإلسالم كجزء من األمة العربية ،ضمن األمة
اإلسالمية الكبرى ،فدخول تلك الشعوب إلى اإلسالم الذي وجدت فيه الحق واألمن والطمأنينة،
أعز العرب ولغة العرب ،وسمح لكل المنطقة أن تنتصر فيها روح اإليمان والتوحيد على الكفر
والشرك ،بعد صراع دام آالف السنين ،وجعل الوحدة تنتصر على التجزئة انتصارا حاسما ،ولكن
في هذه المرة لم تكن وحدة سياسية تحت سلطة سياسية واحدة فحسب ،وإنما – أيضا ً -وحدة أمة
واحدة ال شعوبا وقوميات ولغات متباينة ،فقد وجدت المنطقة في اإلسالم هدايتها ،وما يستجيب
656
لفطرتها ،ويلبي حاجتها إلى الوحدة والعدالة ،وإلى المنعة ضد الغزاة من الخارج".
"ومن هنا يكون أساطين االستعمار من سياسيين وعسكريين وموظفين ،قد أدركوا – كما ذكر
سابقا -ذلك الدور الذي قام به اإلسالم بالنسبة للعرب والمسلمين ،ذلك أنه وحدهم في العقيدة
منير شفيق :اإلسالم وتحديات االنحطاط المعاصر ..قضايا التجزئة والصهيونية -ص11-10 656
529
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وآخى بينهم وجعلهم أمة واحدة لها رب واحد تعبده ،وأصبح مركز الوحدة االجتماعية والسّياسية
المكون الفكري والنفسي لثقافتها وأخالقها وحضارتها ،فهو قانون تنظيم عالقاتا
لجماهيرها .و ّ
االقتصادية والمدنية ،فشرع اإلسالم شكل القانون الناظم لحياة األفراد والمجتمع والدولة .بكلمة
كان الغزاة يعلمون أنهم يقتحمون قلعة لها دينها وثقافتها ودولتها وقوانينها ونظامها وحضارتها
وعلماؤها ومثقفوها ،وكانوا يعلمون أن اإلسالم هو الذي يقوم اعوجاجها حين تعوج ،ويشفيها
حين تبتلى بالعلل ،ويدفعها للجهاد حين يغزوها األعداء ،وينهضها حين تكبو ،ويثبتها على الحق
حين يشتد االبتالء ويدهمها البالء ،ولهذا وضعوا نصب أعينهم أن يحطموا تلك األساسات ،التي
قامت عليها هذه القلعة اإلسالمية ،ومن هنا يمكن أن يذكر بعض ما فعلوا في هذا المضمار.
-١بدءوا بتحطيم دولتها الموحدة – تحت راية اإلسالم -ليقيموا مكانها تجزئة ،ذات دول من
الطراز الغربي.
-٨أبعدوا الشرع من القانون المدني أوال ،ثم طاردوه فيما بعد حتى بالنسبة إلى األحوال
الشخصية.
657
"...
"التمزيق شر ممزق ،البعثرة إلى أشالء متناثرة ،التقطيع إربا إربا ،هذا ما فعله الوحش
الغاصب بفريسته التي طالما صارع لإليقاع بها ،وكانت تستعصي عليه ،فأعد المخططات
صليبية .إنها التجزئة المؤدية إلى إقامة
لالنتقام منها ،والثأر لهزيمته الكبرى في الحروب ال ّ
الحدود الدولية فيما بين أجزاء األمة الواحدة ،وسن قانون للجنسية في كل جزء ،تماما كما هو
الحال بين الدول القومية ،وإقامة دولة حديثة من الطراز الغربي داخل كل جزء بحيث يصبح مع
صةمضي األيام جسما غريبا ً عن أشقائه ،وبحيث تتكون في داخله مع األيام أنظمة وقوانين خا ّ
658
به ،وتنشأ فئات ذات مصلحة في بقاء الكيان وإدامته".
وهنا ال سعة لنا وال موضع لنا إن لم نسطر وبقوة على خطإ وضالل الدكتور محمد الكتاني،
تصوره لعالقة ما عبر عنه بتعارض "منطق اإلسالم" و"منطق
ّ خطإ وفساد نظره وعوج
التاريخ" ،داعيًا إلى الكيانات التجزيئية ليس فحسب السّياسية بل والفقهية ،إلى ما ينقض شرط
657ن م – ص 88..81
658ن م – ص73-78
530
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
وحدة المسلمين .إنه ههنا يبقى التقويم واضحا ً للكالم والتغني بالوحدة العقائدية واللغوية ووو..؛
اإلسالم قائ ٌم على التمكين
َ حرفة للحقيقة من دون الوحدة السّياسيةَّ ،
ألن الدعاوى ال ُم ّ
َ فال قيمة لهذه
األرض ،أي على الكيان والوحدة السّياسية .وأيم هللا ما قرأت كتابا أو سمعت كالما ينقض
659
في ْ
بعضه بعضا والفقرة َ التي تليها ،وكلما أراد معنى في نفسه ساق له آية من كتاب ربه ،وهو في
ضالل مبين عن الحق ،كاستشهاده بآية االعتصام وهو يستثني ،بل همه وغايته كلها ،تبرير
ًص ّر
القطرية السّياسية ،فيريد بالوحدة أو يعبر عنها بالوحدة االعتقادية واللغوية ووو ،..إال أنه ي ِ
تصوره وحكمه ،أقوى من ّ أيّما إصرار على أن المنطق التاريخي وسنة االختالف على ح ّد
الوحدة السّياسية .ومن طريف المستنبط من منطق صاحبنا عالمة الفكر السّياسي في شأن أعظم
من عظم كرة السّماء الفلكية ،مستنبط منطقه السّلوكي السّلطاني – وإني على يقين أو شبه اليقين
أن عقل الحسن الثاني وهو يمثل روح نظامه السّياسي ،ال يجرؤ وما كان ليجرؤ بميزان تقديره
لألمور ودقيق إدراكه لمراتب المقامات وخطر البيان ،أن يخرج من لسانه هذا الذي انتهى إليه
الرجل:-هذا ّ
وناشدهم في أن يظلوا إخوة متضامنين حول العقيدة والشريعة ،وأشعرهم بأنهم أمة وسط
الروح ،واألخرى تغلو في تقدير المادة ،وأنهم أمة
بين نمطين من األمم ،إحداها تغلو في تقدير ّ
دعوة بين الغالين والمفرطين .ال تقوم لها قائمة بين أعدائها من الجانبين إال بالتضامن
والوحدة حول هذا المنهج.
وعلى هذا األساس يمكن تحقيق االتفاق واالختالف معا ،أو تحقيق التنوع داخل الوحدة ،أو
الحرية داخل االلتزام .فيمكن أن توجد أمة إسالمية بمذاهب فقهية متعددة ،وأنظمة سياسية
ّ تحقيق
659انظر :المسلمون وإشكالية الوحدة -الدكتور محمد الكتاني -مطبوعات الجمعية المغربية للتضامن اإلسالمي
-الرباط :حصيلة درس من الدروس الحسنية الرمضانية – 3420ه
531
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
مختلفة ،وثقافات وطنية متنوعة ،ولكن متضامنة حول عقيدتها ،متداعية لنصرة بعضها البعض
في إعالء كلمة هللا ،ونصرة الحق ،واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وتحقيق هذا المنهج
الوسط.
فال إشكالية إذن من حيث تناقض منطق اإلسالم ومنطق التاريخ ،ألن اإلسالم لم يدع إلى
محو خصائص األقوام والشعوب وإذابتها في كيان لغوي وعقلي وثقافي واحد ،وكأن األمم نسخ
يكرر بعضها البعض ،فهذا ما ال يعقله العاقلون .وإنما دعا إلى إنشاء أمة العقيدة التي ليس لها
وراء تحقيق عقيدة وشريعة القرآن مطلب آخر .ويبقى التطبيق لهذا المشروع عمال اجتهاديا
660
تنجزه العصور واألقوام حسب ما لها من أسباب وإمكانات».
"بل كانت ﻫناك مخططات لم يستطع االستعمار – لسبب أو آلخر -تنفيذﻫا .فعلى سبيل المثال
كانت خطة فرنسا تقضي بأن تجزأ سوريا إلى ثالث دول أو أربع ،وحملت خطة ترمي إلى
تجزئة المغرب األقصى (المملكة المغربية اآلن) إلى خمس دول على األقل ،وكذلك كان الحال
661
بالنسبة لشبه الجزيرة العربية"...
بل إنه على وشك إن لم يكن في حال تنفيذﻫا؛ فإذا رضينا بما كنا نُ َخ ّ ِون ونعادي في صحرائنا
ووطننا من يخلع عنها مغربيتها والبيان عنوانها؛ إنها مغربية ال غربية ألنها قلب المغرب ،و َمن
ِمن المغاربة في الرباط وال غير الرباط ال يذكر بين جيرانه نسبة الشنگيطي كما الفياللي
والعريبي والريفي والزعري والزموري كله سواء.
"ال بد من أن نعلن للعالم أن دول التجزئة حالة اصطناعية مرضية فرضها االستعمار الغربي
على أمتنا ،وأن نعلن أن الوحدة العربية -بل والوحدة اإلسالمية -شأن خاص من شئون األمة ،ال
تحرر وتوحد وتستقل وتصنع نهضتها على
يحق للدول الكبرى التدخل فيه ،وإن من حق أمتنا أن ّ
660ن م – ص17-10
661منير شفيق :اإلسالم وتحديات االنحطاط المعاصر ..قضايا التجزئة والصهيونية ص78
532
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
طريقتها وليس على طريقة الغرب ،أو قل وفق مشيئة من جزءوا األمة ،ثم جعلوا كل جزء دولة،
662
مس حدود التجزئة ،وجعلوها حدودا دولية!"
ّ وراحوا يحرمون األمة األم
بل وبنظره العلمي االستقرائي الذي كان العقل الثوري المصري وهو يحمل أمانة الثورة
البوعزيزية ،كان أحو َج إليه ،وكان ضعفه من هذا الجانب العلمي ،أعني استقراء تاريخ الثورات،
كان سببا مباشرا ً في كل ما أصاب األمة العربية بالخصوص ،من تونس إلى العراق الذي كان
ص ًّرا:
على وشك التعافي ،يؤكد منير شفيق على هذا الشأن والمسؤولية العظمى؛ فيقول مؤكدا و ُم ِ
القوة ضدا على رغبة العدو للحيلولة دونها"
"ولو ب ّ
"إن من يتخذ هللا – كما يفترض اإلسالم -غاية أعماله قوال وعمال ،فكيف تستطيع قوة قاهرة
أن تجبره ،أو تغريه ،على التخلي عن هذه الغاية ،أو تدفعه إلى المساومة عليها بما يغضب هللا،
ويأكل من العقيدة؟ إنها ال تقدر على ذلك إال إذا كان هنالك وهن في اإليمان ،وزيغ في القلوب،
ومرض في النفوس .ولهذا إذا كان اإليمان راسخا ال يتزعزع ،وكانت القلوب ثابتة على صراط
مستقيم ،وكانت النفوس خالصة لرب العالمين ،فعندئذ يتجلى اإلسالم بأسمى صوره كأيام اإلسالم
األولى ،أو كما كان على يد العلماء واألئمة المجاهدين في كثير من مراحل التاريخ اإلسالمي،
القوة الغاشمة ،وهو شرط
فذلك شرط الثبات في المعارك وتحمل المشاق وعدم التزعزع أمام ّ
القدرة على التحكم بالهوى ،والتخلص من أدران الجاهلية والتغريب ،أو أي شكل من أشكال
سؤال :كيف الفساد واإلفساد والجبن والنفاق .بيد أن هذا – بدوره -يطرح إشكالية كبيرة .وهي ال ّ
الوصول بالقادة واألمة إلى هذا المستوى من اإليمان والتقوى ،في هذا الوقت العسير من القرن
الخامس عشر من الهجرة؟
اإلسال م المراد بلوغه هنا هو ذلك اإلسالم الذي عمر قلوب المسلمين في حملة تبوك ،حيث كان
الحر فوق ما يحتمل البشر وكان هناك شح بالماء والعير والطعام ،وكانت الطريق تشرب في
قلب الصحراء ،وقد وصف عمر بن الخطاب رضي هللا عته ذلك الحال بقوله« :خرجنا إلى تبوك
الرجل
في قيظ شديد فنزلنا منزال .وأصابنا في عطش ،حتى ظننا أن رقابنا ستقطع ،وحتى إن ّ
662ن م – ص302-333
533
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
لينحر بعيره فيعتصر فرئه (ما في المعدة من بقايا طعام) ،فيشربه ثم يجعل ما بقي على
663
كبده»
وعندما أنهك بعير أبي ذر الغفاري – رضي هللا عنه -وخشي أن يفوته الركب ترجل عنه
وحمل عدة القتال على ظهره .وراح يغذ السير حتى أدرك الرسول صلى هللا عليه وسلم.-
لقد كانت كانت «ساعة العسرة» كما جاء بالقرآن الكريم ،فهل كان من الممكن أن يحتمل تلك
الشدة جيش غير جيش إسالمي صادق اإليمان ،جيش يغذ السير في عسرة تفوق كل احتمال،
ويفعلها متطوعا مختارا ،فال هو بمطارد من عدو ،وال هو بمجبر على مسير ،وكانت الخيرة بيد
كل فرد من أفراده أن يترك إذا شاء أو يبقى ،وبعضهم عادوا أدراجهم وتولوا ،وبعضهم رأف هللا
بهم فثبتوا بعد تردد ،وبعضهم ما كانوا يردون هلل ورسوله أمرا.
هذا أحد األمثلة لما يمكن أن تفعله عقيدة اإلسالم باألمة ،وال عقيدة أو مبدأ او نظرية أو برنامج
سياسي يرتكز على فكر التغريب يستطيع أن يفعل عشر معشار ذلك ،بل إنه يفعل عكس ذلك،
664
كما نرى بين ظهرانينا اآلن ،من خور وعزلة عن النَّاس ،إن لم تكن العداوة والبغضاء".
665
"أثبت اإلسالم مرارا وتكرارا عبر تاريخ األمة اإلسالمي قدرته على إنهاضها وتحريكها"
إن هذا ما يدركه العدو يقينا ً ،ولهذا هبت دول الغرب وأحزابه وإن اختلفت على أمورها هناك،
َّ
هبوا كلهم عن بواء واحد للحيلولة دون تسنم اإلسالم السني الحق سدة الحكم والنظام في مصر
الكنانة ،ونكرر مرة أخرى أن العلة عدم كفاءة العقل الثوري المصري الذي كان يفتقد إلى
أردوغان يقوده إلى النصر.
إن أكثر ال متصدين من رجال ونساء هذه األمة الشرفاء األبرار ألزمتها يجعلون تغريب النخبة
مرتكزا ً ها ًّما في نهج العدو ،لكن هذا وإن كان حقا فليس بدقيق في البيان والداللة؛ إن الغرب
والعدو ال يعتبر التغريب غايته ،إنما هو أهم شروط أال يكون اإلسالم دولة كما هو في حقيقته وال
يريد حياة وال عمرانا علميا مؤسّساتيا؛ فذلك هو الذي يخيفه.
663التفسير الكبير لإلمام الفخر الرازي الجزء السادس عشر ص031ط 0دار الكتب العلمية – المرجع-
664ن م -ص383..373 -
665ن م -ص383
534
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ويبدأ منير شفيق الفاصل الثاث مرحلة ما بعد االستعمار المباشر بهذا الكالم الجامع المفيد:
"بعد رحيل االستعمار المباشر خلف وراءه دولة التجزئة المتغربة الحديثة والقوى المحلية
الرسمية وأهل التغريبالمتغربة في فكرها وثقافتها وعاداتها ومؤسّساتها ،وزرع في المؤسّسة ّ
عداء اإلسالم ،وأرسى أسسا ً القتصاد تابع ،ولمناهج تعليمية متغربة .وأقام دولة الكيان الصهيوني
ومجتمعه ترسانة مددة بالسّالح مشحونة بروح العداء ،وأطماع التوسع ،وبقى محيط المنطقة
وجوا ،وبهذا
ً بحرا
باألساطيل الحربية والقواعد العسكرية ،وهيأ فرق التدخل السريع المحمولة ً
رحل جيوشه وحكامه السامين ،وأحكامه العرفية وترك وضعا ً مهيأ للمحافظة على التبعية
666
له".
***
666ن م -ص323
535
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
في ذات اليوم ،يوم الدخول المدرسي ،كان قد عاد الطفل من الغابة به من الهلع والذهول ما ال
تصور ه ،على كم قميصه أسفل قليال من ذراعه األيمن ،ال زالت بقعة دم من الطائر وقد
حد ل ّ
أصابته رصاصة الصياد ،سبقه إليه كلبه وحازه في جرابه ،لن يبق للطفل الشقي ولم يشعر إال
وهو يجري حتى بلغ مخرج الغابة ،فإذا هو بسرب من الطيور عجيب ،ليس من جميل ألوانه
والمدهش البديع من هيئته ما ال رأته عينه من قبل ،لكن األروع والغريب من هذا كله ،حتى لم
يصدق وإن حاول ذلك بأنها أو بأن واحدًا منها أقرب نسبة للطاووس كلمه بلسان اإلنسان ،كلمه
بلسان عربي مبين ،بحسب ما يتكلم به كل عربي النشأة ،يتكلم به الغالم والشيخ والعجوز ،خاطبه
قائال:
إنك لست طفال شقيا ً! سنخاطبك بزمن الطفولة لكن بامتداد عقولي مهيمن على الزمن؛ ال زال
اليوم يوم الدخول المدرسي؛ فناد في ساحة المدرسة حتى يجتمع كل األطفال صفا ً واحدا ً مترا ًّ
صا:
إن ما كنا نكاد من شدته نحسبه غدرا ً من الوجود إنما هو خيانة ،فما الظلم ينبغي للحق وال كان
َّ
شيمة له.
إني أخاطبكم في يوم الدخول المدرسي ،أعظم أيام الحق ،أخاطبكم بامتداد عقولي ،أنتم فيه
المسؤول.
وأنا خارج من مشهد رهيب في الغابة ،التي وراء القنطرة ،طائر يسقط جريحا ً ليس للصياد
عليه سلطان وما كان لرصاصته أن تصيبه وال كلبه أن يسبقني إليه فيحوزه ،إذا بسرب من
الطير ،أظن له شأنا ً به ،كلمني بلسان البشر كما يجري في قصص وحكايات قرأناها ،وعجيب
حقا أنها ليست كما يظن الكبار غير ممكنة في الواقع؛ فناشدوني بإبالغكم ما ﻫذا مبدؤه.
سنتلو جميعا – ﻫكذا لقننيه الطير -كتاب "االستشراق والتراث على ضوء المنطق
السيكولوجي" وسيكون نتيجة جلية كما أن البياض ال يكون إال ببياضه ،آخر فصل الختم فيه
536
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
استنباط منطقي ال يزيغ عنه إال ﻫالك ،ﻫو لنا نحن معشر الطيور من حولك ،لنا من األجنحة ما
يقوى على الطيران إلى األمد وإلى معالي األجواء ما ال يبلغه سوانا فمستمد طاقتنا من السماء..
وكلما تكلم واحد منهم وﻫم في انتظام دقيق كأنهم حروف مرتبة متكاملة لكلمة واحدة ،انطلقت
من نقاط على جناحه شبيهة بعيون ضوئية أشعة نور ينفث في روعك أنها عين كلمه تسمع من به
صر األعمى فيرتد بصيرا.صمم وتب ِ ّ
ستتلو – قال طائر منهم -أنني شكيب أرسالن ،وقلمي سيال أمير البيان ،وسيلة أن خلقت
وجعلت في ﻫذه األمة للمجاﻫدين إماما ال للبيان .لقد كان ذلك النور وحده كافيا ليترسخ القول
ويحصل الوعي به ..وليزداد مع نور سليم نويهض ممثال بطائره :وﻫل يهتم في الهيجاء بوشي
السيف؟!
وتكلم ناصر الدين دينيه ومحمود شاكر وأنور عبد الملك ومالك بن نبي وكل من ذكر ﻫنا أو
طيورﻫم ومهدوا لطائر بينهم حين تكلم قال أنا الرائد في زمني لقومي العرب ما أنا بالجبان
وبقربه :أنا كذلك وعلى نفس التيار كان تحليقي ،قالها طائر رشدي راشد.
أيها األطفال ،في ﻫذا اليوم األغر في صحيفة الدﻫر ،ﻫكذا تكلم الطاووس :إن كل نيْل من اللغة
العربية ﻫي بادئ المنطق التاريخي الخيانة العظمى ألن العربية ﻫي اإلنسان ،ومحو العربية محو
للعرب وﻫالك ﻫذا الدين بهالك العرب؛ أليست ﻫذه ﻫي الفكرة العظمى لإلنتربولوجيا عليه قائم
موضوع اإلنسان العربي والمسلم في مكتبة التعليم الرسمي والفكر المكرس في الغرب؟
إن يوم الدخول المدرسي ﻫو أساس البناء على ما ليس للخيانة وال لالستعمار المستديم عليكم
فيه سبيل .إنه القاعدة المبرأة من تحكم شياطين االستعمار والخيانة في مصائر البشر ،أخطر ما
ﻫو في الجريمة في الوجود على اإلطالق .إنها ربوبية شيطان االستعباد االستعماري باألوصال،
يغذون أنانيتهم بمحض األسماء ،أسماء الجاللة بغير جالل .لو يُ َبصر األوصال لعلموا أنهم
537
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
خسروا أنفسهم شروﻫا للشيطان ،ﻫي عدوﻫم بين جنبيهم ،ما كان ألمة عزة إال بوحدة قضية
تدحر فيها األنانيات.
ﻫا نحن اليوم وال زلنا بقوة الحق على الوجود الحق وكذاك يكون الميالد ،أال ترون أن الوسيط
ﻫو ﻫو ،ال يتغير وصفه في معجم الذي يمكن الشيطان من وجودنا ﻫو ﻫذا السجن ،والسجان َ
اإلنسان ،ﻫذا ما كان رسالة واضحة ،أضحى بها بنفس قانون ابن سينا وبناء متسلسل من ابن قرة
إلى الطوسي ،أضحى ردمه وإقامة بنائنا المنقض بكن فيكون؛ فكنه الكون قانون الحق والحق
واحد؛
قال الطاووس :ﻫذا ما خلصنا إليه :كل دخول مدرسي في برنامج تعليم ﻫذا السجن ،ﻫو أكبر
جريمة ،األوصال فيه ،والساكت عن الحق شيطان أخرص ،كلهم أخطر المجرمين .إنه سجن
الوﻫم الوجودي وسجن خلق بشري وصناعة بشرية ﻫو منتهى ما يبلغه االستشراق؛ يحققون بكم
مشروعا يمحوكم من الوجود الحقيقي ليطفئوا نور هللا ،مشروع "المكتبة الشرقية"
معشر فلذات كبد الحقيقة الوجودية! أنتم األمناء عليها ،ﻫ ّد السجن وإقامة البناء المنقض ،إنما
ﻫو كن فيكون ،الحق واحد والحل قريب وما المسافة إليه إال إرادتنا؛ فليكن غضبنا على أنانيتنا،
تخافون الموت ،ولكنه موت األنانية وحياة األمة ،وأرواحكم ﻫي روح األمة ولكنكم بقصر
تصوركم للحياة في شخص أجسامكم ،موات يأكل ويشرب مستعبدين لمن ملكتم رقاب ملوكهم ّ
باألمس جد القريب باألندلس.
من طليطلة وصقلية بدأ الزحف وأول ما بدأ به أن تحقق أسطورة نار بروميثيوس ،أليست
العربية لسان القرآن والقرآن حكم السماء ،وبالعربية شع نور الحقيقة الوجودية وازدانت سماء
العلوم بنجوم ترييض العقل البشري للطبيعة وجبرية الهندسة ،وﻫما كل ما عند البشرية اليوم
عقال ذروة .زحف ال زحف االسترداد ،ولكن ليكون أول وأعظم ما يسعى إليه أن يكون نصيب
العربية حاملة ورسالة ابن الشاطر وبصريات ابن الهيثم وقانون ابن سينا طبيبا رئيسا للمسيحيين
وأوربا ومن دون طبيب ال قيمة لمشفى ،أن يكون جزاؤﻫا جزاء سنمار.
قال الطاووس :فال معنى للمدرسة عندنا بغير محورية العربية ..ضرب اللغة الغربية دليل
خيانة علنية!
538
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
معشر األطفال ،لتهنؤوا بأعظم يوم في هذا الوجود ،ليكن فك الحصار همكم وعلتكم الوجودية،
فال مصير لكم في هذا السجن االستعماري المستديم إال حياة االستعباد ،بالعربية استقالل المدرسة
واإلنسان ،وأن تكون الفتوحات اإلسالمية إلفريقيا وأوربا وآسيا كما ﻫي ببيان شكيب أرسالن
محور الدرس التاريخي بدل البرنامج التعليمي المفروض بمواده السلبية المقتصرة على الخالفات
السياسية التاريخية المفتتة للصف اإلسالمي ،والمؤثرة تأثيرا سلبيا خطيرا في نفوس النشء .وأن
يكون تاريخ العلوم من المواد األساسية حتى يعلم بطالن التقويم التاريخي الغربي ذي الصبغ
الصليبي بمرتكزه المفهو ماتي "القروسطية" و"الكالسيكية" .وأن يكون كتابا "رسالة في الطريق
إلى ثقافتنا" لمحمود شاكر ،و"تغريب العقل العربي اإلسالمي" لياسين عريبي مادتين محوريتين.
فبهما يدرك الوضع ويكتسب العقل التاريخي ،فهو القوة وبه والحياة ،وإن يعترض طريقكم
وإرادتكم من يخوفكم بالموت ،فإنه ليس موتا حقيقيا بل به تكون الحياة ،سوف يأتي زمن غير
بعيد ،فيعود إليكم نسق األولين الصالحين األعزة ،فتكون لكم نظمة نووية للقوة والتسخير باللسان
العربي أسبق للفتوحات من جديد ،وسيفاوضكم العدو على حقكم الطبيعي في عداد الرباط
النووي ،كما اليوم بعزة في األعراض والشرف عند اإليرانيين ،سوف تزدان األرض بمج ّرد أن
تحقق ما صدح به طائر رجل المستقبل من إبائه وإيمانه بقضيتكم بالذات حين حضرته الوفاة
وصية قطع األوصال بأن يدفن في مقبرة المساكين من مجمعات أكواخ جوار الفيالت الفاخرة
صا من شروط االحتقالل واالستعمار المستديم؛ الحق واحد ،وﻫو والقصور كما مراسيم البيعة ن ًّ
الحقيقة والوجودية ،وﻫو يؤخذ وال يعطى؛ قال المهدي المنجرة – رحمه هللا!:
667
الحرية ال تناقش وال تعطى وال توصف ،إنها تؤخذ"
ّ "إن
"واعتبر االنتفاضة الفلسطينية بمثابة روح جديدة لألمة ،والرؤية الوحيدة والصائبة والسليمة
مجرد ثورة على االحتالل ،وإنما ﻫي باألساسّ للعالم في المنطقة العربية واإلسالمية .وأنها ليست
ثورة على الحكومات العربية التي اختارت التحالف مع العدو .وأكد على الشرط الخطير للوحدة
العربية ،فهي مسالة وجود وحياة ،فال مستقبل ألي جماعة اقتصادية أو علمية إذا كان عدد سكانها
أقل من 122مليون نسمة؛ وأن األوروبيين فهموا ﻫذا األمر ،في حين بقي العالم العربي
واإلسالمي بعيدا عن ذلك يغط في نوم عميق.
667انتفاضات في زمن الذلقراطية :المهدي المنجرة -الطبعة الثالثة -0220مطبعة النجاح الجديدة -الدار البيضاء-
ص31
539
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
االن تفاضة ليست موجهة فحسب نحو العدو الصهيوني ،وإنما ﻫناك عدو أخطر منه ﻫو عدد من
األنظمة والحكومات العربية .أنا سبق لي في سنة 3333أن حضرت ندوة في نزل الهيلتون في
القاﻫرة ،كان يديرﻫا (وزير التخطيط والتعاون الدولي الفلسطيني) نبيل شعث ،وﻫو رئيس شركة
كبرى غسمها "تيب" ،وجاء ليتكلم عن الحجارة واالنتفاضةن فقلت له" :يا أخي االنتفاضة ليست
فقط ضد إسرائيل ،وإنما ﻫي أيضا ضد منظمة التحرير الفلسطينية "...وأخيرا قلت في الصحف،
تحررنا من بعض الزعماء العرب ،الذين يتلقون األوامر من
إنه اليمكننا أن نرى حال إال إذا ّ
668
وزارة الخارجية األمريكية ومن البنتاغون"
أخاطبكم أن ﻫذه ﻫي الرؤية الوحيدة الصائبة للعالم ،باألمس بمصر وعلى مشهد من العالمين
الركع السجد وفيهم النساء من أشرف نساء العالمين وأطفال وفتيات صغيرات ،في وعلى جثث ّ
ليلة القدر يُصب عليهم وابل من الرصاص ،بمباركة من الغرب سياسيين وكهنة ومنظمات حقوق
تحرر األمة العربية اإلسالمية من ﻫذا السجن المهين..
اإلنسان التماسيح لئال ت ّ
أال فليكن هذا اليوم العزيز عليكم أيها األطفال ،وأنتم ال زلتم أحرارا ً بكم من القوة ما تدكون به
األسوار ،لتحققوا ما استقر عليه عقل األمة من نهج العمل :الندوي ومحمد أسد وفهمي جدعان
ومنير شفيق والمنجرة...
ليكن يوم تقررون فيه رفع الحصار ! إنكم بقوة الحق ستتلون للعالمين بأن أوﻫن البيوت بيت
العنكبوت..
إنكم لو رأيتم وهج األنوار من األجنحة العظيمة المزينة وقد تكلمت كلها في لحظة واحدة كأنها
طرف الكالم" :فك الحصار" ،فعجبت لهذا االتفاق ،لكن بنور المشع لألجنحة وفي لمح البصر
رفعت أمام ناظري لوحة بخط يقرؤه األعمى والبصير يكفي شرط الحياة" :كما بدأنا أول خلق
نعيده" و"نسق التحليل والتركيب" و"العقل (متضمنا للذاكرة)" تحقق قانونا واحداً' :كن ! فيكون'،
وهذا مفسر االستخالف ،وبه يفهم حق الفهم ،أن لو أعيد الخلق من جديد لكان هذا عينه ،مما
ذكره ديكارت في "خطاب المنهج" وهوعينه عند الفارابي لو رجعت إليه.
هكذا ال تجعلوا نواصيكم بيد األوصال ،ارجعوا إلى قواعدكم ،حطموا األغالل ،الحق واحد،
والباطل زهوق ،والمؤمن بقضية الحق يفتح األرض ويبلغ الثريا؛ هذا ما كان روح الفتوحات في
540
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
األرض في بدر والفتح والقادسية واليرموك ،وفي الزالقة واألرك وحطين؛ وفي العقل ما بلغته
أمة الفا رابي وابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم ،ما بلغها قبلهم أهل الصين وال الهند وال
اليونان!
هذه الروح اليوم تناديكم يرفع لواءها لتعلو بأجنحة من نور فيها من أبدال سلمان وأبي ذر
ومصعب رضي هللا عنهم! فيها واإلنسان قضية وفكر ال جسدا يأكل بل يخدم أناه على حساب هذه
الروح ،فيها ناصر الدين دينيه ومحمد أسد ،فالحق واحد والطريق واضح:
« ...وبحيث لو افترضنا إنه لم يهبه في البداية إال صورة الهباء المنثور ،وأنه بعد أن وضع
قوانين الطبيعة اكتفى بمدها بعون منه كي تعمل كما هو معهود ،ألمكننا االعتقاد ،دون المس
مر الزمان ،أن بمعجزة الخلق ،أن كل األشياء التي هي مادية بحتة قد تستطيع بذلك وحده ،ومع ّ
تصور ،عندما نراها تتولد شيئا فشيئاتصبح فيه كما نراها اآلن .وإن طبيعتها أليسر بكثير على ال ّ
669
صنع».على هذا النحو ،منها عندما ال ننظر إليها وهي تامة ال ّ
" وأيها كان ،لزم ضرورة أن يكون الطبيعة على ما هي عليه اآلن موجودة وال يمكن غيرها.
وأنه ال كمال غير وجودها الذي هو لها اآلن ،وال يمكن أن يكون لها وجود آخر غير هذا الوجود
توهم اإلنسان لها غير ما هي عليه اآلن كان ذلك نقصا ً وإضالال ال وجوداً، أصال ،وأي وجود ّ
670
وشيئا ً ال يمكن أن يكون من فعل هللا تعالى وال الئقا ً به».
***
واليوم ﻫا ﻫم وقد رابت المتابعين المبصرين إغراق تونس في موجة كورونا ،ولم تكذب
الشكوك ،ففي غايتها وبتغطية حضيرية من أوامر صليبة ،وفرنسا قد تجاوزتها قوى التحكم
العالمية ،ويوم صدور قانون مراقبة المساجد في فرنسا ،فاجأ قيس سعيد ولم تكن في الحقيقة كما
ألمعنا مفاجأة ،أن حدث مثل ما يحدث في عمليات العصابات ال يمت بصلة إلى قانون أو سياسة
أو دولة .وماذا كان من موقف العالم الحصاري الديمقراطي!! نعني االتحاد األوروبي والخارجية
األمريكية ومنظمات حقوق اإلنسان التماسيح:
المتحدث الرسمي معلنا موقف الواليات المتحدة عن ﻫذا العمل اإلجرامي الذي له كل أوصاف
عمليات العصابات ،قال المتحدث بأن الواليات المتحدة ال تعتبر ما جرى في تونس انقالبا!
541
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
ولتزداد يقينا في زئبقية إنسانية الغرب ،فلك أن تعلم أن المتحدث أضاف قائال" :في بعض
األحيان األمر األﻫم من مسألة التسمية ﻫو العمل المهم لدعم تونس في عودتها إلى مسارﻫا
الديمقراطي" وﻫذا الدعم لالنقالب ﻫو ما كان موقف االتحاد األوروبي ومنظمات حقوق اإلنسان
التماسيح ،ال زالت عقدة االسترداد المسيحي لشمال إفريقيا وتونس خاصة تغص في حلق الغرب
الصليبي؛ وفي نفس السياق قال الجنرال حفتر" :تونس تخلصت من أكبر عثرة في طريق
671
تطورﻫا بعد االنتفاضة ضد اإلخوان"
إنه الحصار التاريخي المضروب على أمتنا ومجمع الحديث :فكل أمر ومنه التراث وجب أن
يكون في خدمة رفع ﻫذا الحصار ،من بدئه إلى غايته كلمة فهمي جدعان:
الراﻫنة .ألننا
"الحقيقة أن عملية «توجيه» التراث المبدع ليست أمرا يسيرا في ظروف العالم ّ
لسنا سادة أفعالنا جميعها رغم أننا بكل تأكيد نود أن نكون كذلك .كما أننا لسنا بمنأى عن عوامل
صواب إن قلت أننا «محاصرون» تاريخيا. الفعل واالنفعال الذاتية والخارجية .ولست أجانب ال ّ
محاصرون بأنماط الفهم التقليدية العقيمة ،ومحاصرون بأوﻫامنا ورغباتنا وأﻫوائنا األنانية
والطائفية والعشائرية واألسرية والقطرية والشوفينية ،..ومحاصرون بسوء توزيع ثرواتنا
وبسوء استخدام ﻫذه الثروات ،ومحاصرون بقيود أجهزة اإلعالم والثقافة والعلم ،ومحاصرون
اقتصاديا وصناعيا وتقنيا ،ومحاصرون بآالت القهر السّياسية واالجتماعية وبقوى التسلط
االستعماري الخارجية ..وبكلمة نحن محاصرون من كل الجهات! ومشكلتنا االستراتيجية األولى
ﻫي فك ﻫذا الحصار المضروب علينا .لذا فإن أية محاولة لوصف «التراث» الذي ينبغي أن
نبدعه ونورثه ﻫي محاولة عقيمة ابتداء .أو إنها ،على األقل ،ذات جدوى محدودة .وكل تراث
سينجم عنا في ظل ظروف الحصار القائمة ﻫو تراث متأزم أو مأزوم يكشف عن فوضى
األوضاع وتشابكها وعبثها أكثر مما يكشف عن منجزات أمة تحيا حياة طبيعية وتبدع منجزاتها
672
الحرية والفرادة .ﻫذا ﻫو الوجه العملي للمشكلة".
ّ بالقدر األدنى من
ونردد :وأنت يا من تقرأ هذا وتبتغي به عز وجودك ،اجعل شاكرا ً قدوة وفي آننا يحيى
السنوار!
542
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
صليبي إال بالنهوض إلى الجهاد ،ضمن أهداف "ال سبيل لخروج األمة من هذا السجن ال ّ
ومفاهيم وبرامح ال تمت بصلة لتلك المفاهيم التي كانت وراء ما نحن فيه ،أي مفاهيم وبرامج
673
دولة التجزئة والتغريب الفكري السائدة اآلن".
تراثنا خير ما ألمة من تراث وإرادتنا تخرق المستقبل ولو بحفر األنفاق ،ال تقف تك تابعا ً
لوعود السّياسة واألوهام ،وال ألدعياء العلم والجهاد يطعنون في خير رجال هذه األمة ،وال
ينتبهون أن تطابقت مواقفهم مع موافق أعداء اإلسالم! نحن بصواريخ اإلرادة من يحدد فيم تكون
األوفاق .وال تقل لمن يقتل في سبيل هللا أموات ! ذلك من ركبه الذل من حب حياة الدنيا وترك
الجهاد ،أال ترى أمتك مستباحة وهل حياة ذل حياة وما يغني التغني بالتراث؟ ! أجل إنما يزدان
صناعية التي تحمي األمة وبصواريخ نموذجا ً التراث ويكون قيمة إذا ما كنا ربانيين بالهندسة ال ّ
ت هو اليوم الذي ستعلم فيه َمن المجاهد قريبا ً نهج القسام ،آنها نعتز به كما سيعتز بنا التراث ..وآ ٍ
حقا فيما يرجى بميزان الحق ميزان السماء واألرضِ ،م ّمن حشر في حشد حرب وما كفى آية
جوانتناموا جزاء سنمار!
فما ﻫو إال بإيمان باهلل رب السماوات واألرض إيمان الجيل األول الذي حمل الدعوة تحقيقا
ِب لك ْم'﴾(آل عمران )160إال وقد ُدكت أسوار الحصار دكأ ،فال
ص ْرك ْم هللاُ فالغَال َ لنسق ﴿ ْ
إن يَن ُ
غالب إال هللاُ.
َ
...
ت َّم هذا العمل وفرغ منه بحول هللا وقوته صبيحة يوم األربعاء السادس عشر محرم للثالث
واألربعين وأربعمائة وألف للهجرة الموافق للخامس والعشرين من شهر غشت لواحد وعشرين
وألفين للميالد
منير شفيق :اإلسالم وتحديات االنحطاط المعاصر ..قضايا التجزئة والصهيونية – ص331 673
543
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
544
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
545
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
المصادر والمراجع
-كتاب أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة-
السلسلة الجديدة من مطبوعات دارالمعارف العثمانية ١١أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني المتوفى
٤٤٤ﻫ= ١٤٤١م صحح عن النسخة القديمة المحفوظة في المكتبة األهلية بباريز[مجموعة شيفر رقم ]٠٤١٤بإعانة
وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية -طبع بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن الهند
سرل الفلسفة علما دقيقا ترجمة وتقديم :محمود رجب المشروع القومي للترجمة -المجلس األعلى للثقافة -ه ّ
2002
-العربي -العدد -٨١۹ديسمبر -١۹١٨تقرير من داخل ثاني مؤتمر عالمي للقمة الثقافية :بقلم سليمان موسى
-مقاالت العالمة الدكتور محمود محمد الطناحي :صفحات في التراث والتراجم واللغة واألدب -القسم األول-
دار البشائر اإلسالمية -الطبعة الثالثة3410 -ه0231 -م
-رسالة في الطريق إلى ثقافتنا -محمود محمد شاكر -الهيئة المصرية العا ّمة للكتاب
هف ترجمة د .محمد عصفور -عالم -فجر العلم الحديث اإلسالم -الصين -الغرب (الطبعة الثانية) تأليف توبي أّ .
المعرفة ٨٠٤
-فلسفة الكوانتم فهم العلم المعاصر وتأويله :تأليف روالن أومنيس -ترجمة :أ .د .أحمد فؤاد باشا -أ.د .يمنى
طريف الخولي -عالم المعرفة 112أبريل 0228
-SOYEZ SAVANTS, DEVENEZ PROPHÈTES : GEORGES CHARPAK, ROLAND OMNÈS- ODILE JACOB
,2005, NOVEMBRE 2005
-أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه -إسالم أون الين -فقه المسلم -حديث العلماء ورثة األنبياء
-االستشراق للبروفيسور إدوارد سعيد -مكتبة ديوان العرب
-اإلسالم والمسيحية :أليكسي جورافسكي -أكاديمية العلوم الروسية ،موسكو -3332ترجمة :د ,خلف محمد
الجراد ،راجع المادة العلمية وقدم له /أ .د .محمود حمدي زقزوق -عالم المعرفة 031
-االستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي – نقد العقل التاريخي -3-الدكتور محمد ياسين عريبي -منشورات
المجلس القومي للثقافة العربية -الطبعة األولى 3333م
-إتيين دينيه سليمان إبراهيم :محمد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
-Stéphane Dinan: SCIENCES ET AVENIR : HORS-SERIE N 113 DCEMBRE 1997/ JANVIER
1998 : Les secrets de la Bible- Christianisme, judaїsm et islam. Les dictées divines
-الغارة المعاصرة على المسلمين منطلقاتها وغاياتها :أ .د /عبد الحليم عويس -دار الكلمة للنشر والتوزيع-
الطبعة األولى١٤٣١ﻫ٨٤١٤ -م
-رودنسون ،رسالة الجهاد الليبية -3388 ،االستشراق قراءة نقدية -د .صالح الجابري -الطبعة األولى :حزيران
0223الناشر :دار األوائل -سوريا -دمشق
-الفكر العربي العدد ( 10أبريل – يونيو) – 3381السنة الخامسة
-االستشراق :مالك بن نبي -دار اإلرشاد للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت -الطبعة األولى ١٣١١ﻫ١۹٠۹-م
-مالك بن نبي :إنتاج المستشرقين عن دار اإلرشاد للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت -الطبعة األولى١٣١١ﻫ
١۹٠۹ -م
546
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
-حاضر العالم اإلسالمي -تقدم نويهض بعد تمام الترجمة إلى شكيب أرسالن ،يسأله تقيريظ الكتاب؛ إال أن أرسالن
استرسل في التعليق وإلحاق البحوث بالكتاب ،حتى جاوزت حجم األصل ،لتصدر الطبعة العربية باسم "حاضر العالم
اإلسالمي" -المكتبة الوقفية
-تباين العدد 1/37صيف 0230
-كتاب المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا :أبو فهر محمود محمد شاكر -شركة القدس للنشر والتوزيع
-أباطيل وأسمار الجزءان ،األول والثاني :أبو فهر محمود محمد شاكر -الناشر :مكتبة الغانجي بالقاهرة
-العربي -العدد ٤٤٣رجب ١٤٨١ﻫ أكتوبر ٨٤٤٤م
-إدوارد سعيد تغظية اإلسالم ترجمة وتقديم :د .محمد عناني مكتبة طريق العلم
-شكيب أرسالن داعية العروبة واإلسالم -تأليف أحمد الشرباصي -أعالم العرب -03وزارة الثقافة واإلرشاد
العا ّمة التأليف والترجمة والطباعة والنشر القومي -المؤسّسة المصرية
-نظام الخطاب – ميشال فوكو -ترجمة د .محمد سبيال
-كوليج دي فرانس في المغرب -سلسلة محاضرات -آن شينغ بين االستشراق والحداثة :هل الصين مرآة
ألوروبا أم آخر لها؟ محاضرة في أكاديمية المملكة المغربية 08يونيو 0238
-مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين – آفاق جديدة للفكر اإلنساني -تحرير أوليفر ليمان -ترجمة :د.
مصطفى محمود محمد -مراجعة :د .رمضان بسطاويسي -عالم المعرفة 123مارس 0224
-جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي -رشيد بلواد
-العلوم والهندسة في الحضارة اإلسالمية تأليف :دونالد ر .هيل ترجمة :د .أحمد فؤاد زكريا باشا -عالم المعرفة
121يوليو 0224
-الجابري دون عتبة القرآن الكريم والمرجفون في الفلسفة -رشيد بلواد
-د .طه عبد الرحمان في الميزان -رشيد بلواد
-فلسفة الفارابي السّياسية "دراسة في عالقة الفيض بالعلم المدني" -ضرار علي بني ياسين
-السّياسة المدنية -الفارابي
-آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها -الفارابي
-الدكتور فهمي جدعان :نظرية التراث ودراسات عربية وإسالمية أخرى -دار الشروق -الطبعة األولى١۹١٤
-سنن الترمذي -إسالم ويب
-غوستاف لوبون :سيكولوجية الجماهير -ترجمة وتقديم هاشم صالح -دار الساقي -الطبعة األولى ١۹۹١
-إدموند هوسرل -أزمة العلوم األوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية -ترجمة د .إسماعيل المصدق
المنظمة العربية للترجمة -بدعم من مؤسّسة محمد بن راشد آل مكتوم -توزيع :مركز دراسات الوحدة العربية
-Discours de la méthode – 2001, mozambook
-حديث الطريقة – ترجمة وشرح وتعليق د .عمر الشارني -المنظمة العربية للترجمة -توزيع مركز دراسات
الوحدة العربية
-Fabien PERUCCA Gérard POURADIER -COMME UN POISON DANS L’EAU- La
Lyonnaise et la Générale… des eaux troubles
-روح السّياسة -جوستاف لوبون -ترجمة عادل زعيتر -كلمات عربية للترجمة والنشر -مصر
-رنيه ديكارت :تأ ّمالت ميتافيزيقية في الفلسفة األولى -ترجمة الدكتور كمال الحاج
سرل مباحث منطقية مقدمات في المنطق المحض -الكتاب األول -ترجمة موسى وهبة -كلمة- -إدموند ه ّ
المركز الثقافي العربي
547
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
548
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
549
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
550
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
551
االستشراق والتراث على ضوء المنطق السيكولوجي
552