You are on page 1of 12

‫أحمد شوقي والمارتين‬

‫ما الذي يجمع بين أحمد شوقي والمارتين؟ هل تمكن‬


‫المقارنة بين أحمد شوقي وألفونس دو المارتين‪ ،‬أي‬
‫بين شاعر عربي «تقليدي مجدّد» وشاعر ينتمي الى‬
‫المدرسة الرومنطيقية الفرنسية؟ هذان الشاعران‬
‫تباعد بينهما قضايا شعرية عدّة هي أكثر من الشؤون‬
‫التي تجمع بينهما‪ ،‬على رغم التقارب الزمني الذي‬
‫يجعل من المارتين «والدًا» في المعنى الزمني فقط‬
‫ألحمد شوقي‪ .‬فعندما توفي المارتين عام ‪ 1869‬كانت‬
‫مضت سنة على والدة «أمير الشعراء» (‪.)1868‬‬
‫وعندما سافر شوقي الى فرنسا عام ‪ 1887‬كان مرّ‬
‫على وفاة المارتين ثماني عشرة سنة‪ .‬عندما رحل‬
‫المارتين الى الشرق عام ‪ 1832‬لم يكن شوقي قد‬
‫ولد‪ ،‬وكتب الشاعر الفرنسي عقب عودته كتابه‬
‫الشهير «رحلة الى الشرق» الذي يُعد من أهم ما‬
‫وضع في أدب الرحالت الى الشرق‪ ،‬لكن شوقي قصد‬
‫فرنسا للدراسة وقد أرسله اليها شخصيًا الخديوي‬
‫توفيق‪ ،‬فأمضى سنتين في مونبلييه ودرس الحقوق‬
‫واآلداب في جامعتها‪ ،‬ثم انتقل الى باريس وقضى فيها‬
‫سنتين أيضًا وحاز االجازة في الحقوق‪ .‬الفترة التي‬
‫أمضاها شوقي بين مدينة مونبلييه والعاصمة‬
‫الفرنسية باريس لم يُلق عليها ضوء كافٍ‪ ،‬ولم يُعرف‬
‫تمامًا ماذا فعل شوقي الشاعر «العباسي» الهوى‪ ،‬في‬
‫عاصمة األدب والفن التي كانت تتهيأ العالن ثوراتها‬
‫المتتالية عشية بزوغ القرن العشرين‪ .‬جلّ ما عُرف‬
‫عن شوقي إعجابه الشديد بشعراء فرنسيين ثالثة هم‪:‬‬
‫فيكتور هيغو‪ ،‬المارتين والفرد دوموسيه‪ ،‬وثالثتهم‬
‫ينتمون الى المدرسة الرومنطيقية التي كانت أفلت‬
‫حينذاك بعد إشراق شمس المدرسة البرناسية‬
‫والمدرسة الرمزية‪ .‬وكان شعراء كبار من أمثال‬
‫بودلير ورامبو وماالرمه قد دقوا المسامير األخيرة في‬
‫«نعش» المدارس التي سبقتهم ال سيّما الرومنطيقية‪.‬‬
‫وكان الشاعر غيّوم أبولينير باشر في تأسيس‬
‫المدرسة المافوق ‪ -‬واقعية التي مهدت الطريق أمام‬
‫الثورة السوريالية التي أطلقها اندريه بروتون الحقًا‬
‫في مرحلة ما بين الحربين العالميتين‪ .‬يقول شوقي في‬
‫معرض كالمه عن «شعرائه» الثالثة‪« :‬ولقد كدت أفني‬
‫هذا الثالوث ويفنيني»‪ .‬هذا الكالم يعني أن شوقي لم‬
‫يقرأ إال هؤالء الرومنطيقيين – إن قرأهم كما يجب –‬
‫متغاضيًا عن الحوادث الجسام التي شهدها المعترك‬
‫الشعري الفرنسي في تلك اآلونة‪ .‬أو لعله قصد فرنسا‬
‫وفي نيته أن يقرأ هؤالء الثالثة الذين كان عرف بهم‬
‫في مطلع مساره الشعري‪.‬هل كان شوقي عاجزًا عن‬
‫قراءة بودلير أو رامبو؟ أم تراه لم يطّلع على الجديد‬
‫في الشعر الفرنسي مكتفيًا بالماضي الرومنطيقي؟ لكنّ‬
‫القراءة الدقيقة لنتاج شوقي الشعري الغزير تبيّن أن‬
‫شاعر «الشوقيات» لم يسمح لنفسه في أن يتأثر مثالً‬
‫بشاعر مثل هيغو أو دوموسيه أو المارتين نفسه‪.‬‬
‫فشعره يميل الى «الصناعة» و «الموضوعية» و‬
‫«المناسبات» التي أبعدته عن مضارب «الذات» التي‬
‫احتفل بها الشعراء الرومنطيقيون وسبروا أعماقها‬
‫ورصدوا لواعجها ومآسيها وتجلياتها‪ .‬ولئن كتب‬
‫هؤالء الثالثة ال سيما هيغو قصائد «مناسباتية»‬
‫كثيرة‪ ،‬فأنّ شعريتهم تبدّت في قصائدهم الذاتية‪ ،‬ذات‬
‫البعد الديني والميتافيزيقي والوجداني والفلسفي‪ .‬كان‬
‫شوقي يقول‪« :‬الشعر ابن أبوين‪ :‬التاريخ والطبيعة»‪.‬‬
‫وهو أولى التاريخ كبير اهتمام فنظم المطوالت في‬
‫حوادث تاريخية عدة‪ .‬وتكفي العودة الى «الشوقيات»‬
‫للوقوع على هذا الهم التاريخي الذي أرهق شعر‬
‫شوقي وشعريته‪ .‬أما الطبيعة فتحضر في ما يمكن‬
‫تسميته «اللطائف» في ديوانه الضخم‪ ،‬والمقصود بها‬
‫تلك القصائد اللطيفة ذات االيقاع الموسيقي السلس‬
‫والعذب وفيها يتغنّى بالطبيعة وعناصرها‪ .‬لكن الطبيعة‬
‫لديه ظلّت «موضوعًا» على خالف عالقة‬
‫الرومنطيقيين بها وهم جعلوها مرآة للذات االنسانية‬
‫والذات العليا‪ .‬ويؤخذ – هنا – على الشاعر المصري‬
‫فاروق شوشة الذي أعدّ‪ ،‬في مناسبة «دورة شوقي‬
‫والمارتين» مختارات من شعر شوقي‪ ،‬سوء اختياره‬
‫القصائد الشوقية‪ .‬فهو أكْثَرَ من قصائد المناسبات‬
‫الرتيبة والمملة وذات التوجه السياسي واالجتماعي‬
‫والمديحي والتعليمي‪ ،‬وقلل من القصائد القصيرة‬
‫الموسومة بااليقاع الجميل واأللفة والشجو الوجداني‪.‬‬
‫وليت فاروق شوشة ركّز على الوجه الحقيقي ألحمد‬
‫‪ d‬عن شعر المناسبات متيحًا الفرصة‬ ‫شوقي وابتعد‬
‫لقراءة قصائده الجميلة وشبه المجهولة‪ .‬وكان ينبغي‬
‫له أن ينطلق من سؤال ملح‪ :‬ماذا يبقى من أحمد‬
‫شوقي؟ وعلى هذا السؤال كان في إمكانه أن يجيب‬
‫من خالل المختارات التي يمكن أن تُقرأ اليوم في منأى‬
‫عن أي سأم او تململ‪ .‬وهذا السؤال ال يقلل من أهمية‬
‫«أمير الشعراء» الذي دخل «متحف» عصر النهضة‬
‫وبات ملمحًا من مالمح الذاكرة الشعرية العربية‪.‬‬
‫وبدت مختارات شوشة مختلفة في جوهرها ورؤيتها‬
‫عن «المختارات» التي أنجزها الشاعر بول شاوول‬
‫للشاعر المارتين بالفرنسية وقدّم لها بمقالة نقدية هي‬
‫أشبه بمقاربة حديثة لشاعر «البحيرة»‪ ،‬توليه حقه‬
‫بقدر ما تأخذ عليه‪ ،‬بعض الشوائب واضعة إياه في‬
‫سياقه التاريخي‪ .‬وعودة الى إقامة شوقي في باريس‬
‫طوال سنتين يتضح أنه كان يتردد على مسرح‬
‫«الكوميدي فرانسيز» المتخصص بالمسرح‬
‫الكالسيكي‪ .‬ولكن لم يُعرف ماذا شاهد شوقي من‬
‫مسرحيات أو اذا كان تأثر بها في منظوماته الدرامية‬
‫مثل «مصرع كليوباترا» و «مجنون ليلى» و «قمبيز»‬
‫وسواها‪ .‬وهذه األعمال المأسوية لم تعد تجذب القارئ‬
‫الجديد وال تثير فيه أي فتنة‪ ،‬بعدما فقدت وهجها‪،‬‬
‫‪ d‬المصطنعة وأسلوبها التقليدي‪ .‬وهي‬ ‫عطفًا على لغتها‬
‫أيضًا لم تعد تثير فضول المخرجين المسرحيين العرب‪،‬‬
‫نظرًا الى اغراقها في االنشائية والرتابة‪ .‬في هذا‬
‫الصدد يقول طه حسين‪ ،‬أحد نقاد شوقي‪« :‬لسوء حظ‬
‫األدب الحديث لم يعاشر شوقي قدماء اليونان كما‬
‫عاشر قدماء العرب‪ ،‬ولو قد فعل ألهدى الى مصر‬
‫شاعرها الكامل»‪ .‬ويأخذ حسين عليه في كتابه «حافظ‬
‫وشوقي» ضآلة ثقافته االغريقية أو انعدامها‪ .‬وعن‬
‫ثقافته الفرنسية يقول حسين إنه أخذ من الثقافة‬
‫الفرنسية نماذج من الشعر ولم يلتفت الى الفكر‬
‫والمفكرين‪ .‬ويرى أنه تأثر بالقديم الفرنسي أكثر مما‬
‫تأثر بالجديد‪ .‬ويقول أيضًا‪ ،‬إن شوقي‪ ،‬لو قرأ األلياذة‬
‫واألوديسة كاملتين وفهمهما حق الفهم ألنشأ الشعر‬
‫القصصي في اللغة العربية‪ .‬ولو قرأ المسرحيات‬
‫االغريقية واألوروبية المعاصرة له لـ «عني بالتمثيل‬
‫شعرًا ونثرًا في شبابه وألعطى اللغة العربية من هذا‬
‫الفنّ حظًا له قيمة صحيحة‪ ،‬ولتغيّر مثله األعلى في‬
‫الشعر»‪.‬‬
‫«سهام» النقد ‪-:‬‬
‫ليس طه حسين وحده مَن وجّه سهام النقد بشدة الى‬
‫«أمير الشعراء» بل هناك مَن كان أشدّ قسوة منه‪،‬‬
‫على رغم تهكمه أحيانًا من بعض قصائد شوقي‪ ،‬ال‬
‫سيما قصيدته التي كتبها في نصر حققته تركيا على‬
‫اليونان في إحدى المعارك‪ ،‬وكانت القصيدة في أكثر‬
‫من مئتين وخمسين بيتًا‪ .‬رأى عباس محمود العقاد أن‬
‫«شوقي يزحف الى الشهرة زحف الكسيح وله في كل‬
‫يوم زفة وعلى كلّ باب وقفة‪ .»...‬وكتب يخاطبه مرة‬
‫بلهجة «االستاذ» قائالً‪« :‬فاعلم أيها الشاعر العظيم أن‬
‫الشاعر مَن يشعر بجوهر األشياء ال مَن يعدّدها‬
‫‪ d‬وألوانها‪ .»...‬وسبّب نقد العقاد‬
‫ويحصي أشكالها‬
‫لشوقي وعشاقه الكثير من الغصص خصوصًا عندما‬
‫نزع عن رأسه إكليل االمارة وجعله «شاعرًا من‬
‫خزف» مثيرًا عليه الشفقة‪ .‬ولم يوفّر عبدالرحمن‬
‫شكري وابراهيم المازني وميخائيل نعيمة ومارون‬
‫عبّود «أمير الشعراء» من نقدهم‪ ،‬فقسوا عليه حيث‬
‫يستحق القسوة ومنحوه حقه حين يستحق‪ .‬وعندما‬
‫بويع شوقي «إمارة» الشعر عام ‪ 1927‬كتب مارون‬
‫عبود ساخرًا‪« :‬لعنة اهلل على هذه اإلمارة الجوفاء‪،‬‬
‫فهي سخافة بلقاء‪ .»...‬لكن حافظ ابراهيم نظم فيه‬
‫قصيدة عصماء يقول في مطلعها‪« :‬أمير القوافي قد‬
‫أتيت مبايعًا‪ /‬وهذي وفود الشرق قد بايعت معي»‪.‬‬
‫وأخذ الكثيرون على شوقي مآخذ سياسية أيضًا‪ ،‬ومنها‬
‫عالقته السيئة بالقوى الوطنية التي كانت تنادي‬
‫حينذاك بالدستور والجالء البريطاني عن مصر‪ ،‬وكذلك‬
‫وقوفه الى جانب الخديوي عباس ومهادنته االنكليز‪.‬‬
‫وانتُقد شوقي كثيرًا في مدائحه التي نظمها للسالطين‬
‫العثمانيين ال سيما قصيدته الطويلة التي مدح فيها‬
‫السلطان عبدالحميد المعروف بـ «الطاغية»‪ ،‬وقد‬
‫وجد شوقي فيه مثاالً للعدل واالنسانية‪ .‬وأُخذ عليه‬
‫كذلك التزامه «سياسة الحياد» و «سياسة القصر»‬
‫وتحاشي كلّ ما يؤذي البريطانيين أو يغضبهم‪ .‬وقد‬
‫تجاهل للوهلة األولى حادثة «دنشواي» المأسوية‬
‫الشهيرة التي هزت مصر عام ‪ 1906‬وحرّضت‬
‫الجماهير ضد االحتالل البريطاني‪ ،‬لكنه ما لبث أن كتب‬
‫بعد سنة قصيدة قصيرة عن الشهداء والمساجين‬
‫المصريين‪ .‬وعندما نُفي الى اسبانيا في العام ‪1915‬‬
‫عقب إقالة البريطانيين الخديوي عباس عن العرش‪،‬‬
‫اصطحب معه عائلته والخدم‪ ،‬فكان المنفى «رغيدًا»‪،‬‬
‫وفيه عاش شوقي حاالً من االنعتاق الشعري حفزه‬
‫‪d‬‬
‫على نظم قصائد شخصية ذات منحى غنائي‪ ،‬وانثيال‬
‫عاطفي متغنيًا فيها باآلمال الجريحة واالحالم الكئيبة‬
‫والمشاعر الشجية‪ .‬ولئن تعرّض شوقي لحمالت نقدية‬
‫قاسية نالت من شعريته وكادت تحطمه‪ ،‬فهو عاش‬
‫المجد مفتوح العينين‪ ،‬سواء في القصر الخديوي‬
‫والسلطة‪ ،‬أم في حياة الشعب المصري‪ .‬وفاز بألقاب‬
‫لم يعرفها شاعر سواه في تاريخ مصر والعرب‪ :‬نابغة‬
‫مصر‪ ،‬شاعر األمير‪ ،‬أمير البيان‪ ،‬صاحب الصولجان‪،‬‬
‫أمير دولة البيان‪ ،‬شاعر النيل الكبير‪ ،‬نابغة شعراء‬
‫العصر‪ ،‬صناجة العرب‪ ...‬عطفًا على لقب «أمير‬
‫الشعراء»‪ .‬لكن هذه األلقاب وما تخللها من حظوة‬
‫ومجد‪ ،‬لم تشفع به شعريًا‪ ،‬فظل في نظر النقد «شاعرًا‬
‫تقليديًا ينظم أكثر مما يشعر»‪ .‬غير أن النقد لم يستطع‬
‫أن يلغي مكانة هذا الشاعر في تاريخ الشعر المصري‬
‫والعربي‪ ،‬وال أن ينال من مرتبته المتقدمة في الحركة‬
‫الشعرية النهضوية‪ ،‬حتى العقاد نفسه ما لبث أن‬
‫«امتدحه» في كلمة ألقاها في المهرجان الذي أقيم في‬
‫القاهرة عام‪ 1958‬احتفاء بأحمد شوقي‪ ،‬ويقول في‬
‫مطلعها‪« :‬كان أحمد شوقي علمًا في جيله‪ ،‬كان علمًا‬
‫للمدرسة التي انتقلت بالشعر من دور الجمود‬
‫والمحاكاة اآللية الى دور التصرّف واالبتكار‪.»...‬‬
‫"المارتين" العربي ‪-:‬‬
‫لم يحظ شاعر أجنبي بما حظي به‬
‫‪ d‬العربي من ترحاب‬‫المارتين في العالم‬
‫شعري وترجمة أو تعريب ومدائح‪ .‬فمنذ‬
‫الثالثينات من القرن المنصرم انطلق‬
‫االحتفاء بهذا الشاعر الذي سمّاه العرب‬
‫«أمير الشعراء الفرنسيين»‪ ،‬وكان الشاعر اللبناني‬
‫الياس أبو شبكة أول مَن وضع كتابًا عنه حمل اسمه‬
‫عنوانًا وكان من أربع وتسعين صفحة وصدر في العام‬
‫‪ .1933‬وكان الشاعر اللبناني ترجم له ديوان‬
‫«جوسلين» (‪ )1926‬وديوان «سقوط مالك» (‬
‫‪ .)1927‬وبعد بضع سنوات ترجم الكاتب المصري‬
‫أحمد حسن الزيات كتابين لالمارتين «رفائيل» و‬
‫«جنفييف»‪ .‬لكن الظاهرة الفريدة التي تميّز بها‬
‫‪ d‬العرب‬‫المارتين تمثلت في إنكباب الشعراء والكتّاب‬
‫على ترجمة قصيدته الرومنطيقية الشهيرة «البحيرة»‪.‬‬
‫فقد عرفت هذه القصيدة نحو عشرين ترجمة أو صيغة‬
‫معرّبة‪ ،‬ويقال إن أحمد شوقي هو أول من ترجمها‪،‬‬
‫لكن ترجمته ضاعت أو فقدت ولم يبقَ منها بيت واحد‪.‬‬
‫لكن اختفاء هذه الترجمة يطرح سؤاالً‪ :‬هل ترجمها‬
‫شوقي حقًا؟ يسأل سليم سركيس أحمد شوقي مرّة في‬
‫حوار أجراه معه‪« :‬هل ترجمت شيئًا من شعر‬
‫‪d‬‬
‫االفرنج؟»‪ ،‬فيجيبه‪« :‬إنني أجلّ الترجمة واستعمّ‬
‫فوائدها‪ ،‬لكنّ نفسي ال تميل الى التعريب‪ ،‬بل ميلي كله‬
‫الى الخلق واالنشاء»‪ .‬قد يُفهم من هذا الجواب أن‬
‫شوقي لم يقدم علي أي تعريب وأن ترجمته «البحيرة»‬
‫عمل لم يتم‪ .‬ولكن بعيدًا من هذا األمر‪ ،‬نعمت قصيدة‬
‫المارتين «البحيرة» بخيرة األقالم الشعرية تتفنّن في‬
‫تعريبها و «خيانتها» جاعلة منها حافزًا لنظم قصيدة‬
‫هي في آن واحد‪ ،‬وفية لألصل وخائنة إياه‪ .‬ترجمة‬
‫الشاعر المصري على محمود طه كانت من أولى‬
‫الترجمات وأشهرها وقد نشرها في جريدة «السياسة»‬
‫األسبوعية (القاهرة) عام ‪ .1926‬واستهلها بهذا‬
‫البيت‪« :‬ليت شعري أهكذا نحن نمضي‪ /‬في عباب الى‬
‫شواطئ غمضِ»‪ .‬ثم تاله الشاعر المصري ابراهيم‬
‫ناجي ونشر ترجمته في «السياسة» أيضًا عام ‪1926‬‬
‫واستهلها‪« :‬من شاطئ لشواطئ جدد‪ /‬يرمي بنا ليل‬
‫من األبد»‪ .‬وراح الشعراء يتبارون في تعريب هذه‬
‫القصيدة التي غدت عربية من فرط ما أعمل‬
‫المترجمون أقالمهم فيها بالغة وبيانًا وعروضًا‪ .‬ومن‬
‫الذين عرّبوها‪ :‬عبدالعزيز السيد مطر‪ ،‬نقوال فياض‪،‬‬
‫محمد أسعد دالية‪ ،‬الياس عبداهلل طعمة‪ ،‬فهد بن علي‬
‫النفيسة‪ ،‬شحادة عبداهلل اليازجي‪ ،‬أحمد حسن الزيات‪،‬‬
‫عبدالعزيز صبري‪ ،‬محمد مهدي البصير‪ ،‬عبدالرزاق‬
‫حميدة‪ ،‬أحمد أمين وزكي نجيب محمود‪ ،‬محمد غالب‪،‬‬
‫محمد غنيمي هالل‪ ،‬محمد مندور‪ ،‬محمد منير‬
‫العجالني‪ ،‬رجاء الشلبي‪ ...‬وقد جعل الشاعر اللبناني‬
‫نقوال فياض ترجمته البديعة لهذه القصيدة في مستهل‬
‫ديوانه «رفيف االقحوان» (‪ ،)1950‬وكأنه آثرها على‬
‫قصائده الشخصية‪ .‬وقد عرّبت هذه القصيدة في صيغ‬
‫عدة‪ ،‬موزونة ومقفاة‪ ،‬شعرًا حرًا وفق نظام التفعيلة‬
‫ونثرًا‪ .‬أما قصيدة «الوحدة» أو «العزلة» وهي من‬
‫قصائد المارتين الشهيرة أيضًا‪ ،‬فشهدت سبع ترجمات‬
‫‪« d‬الخلود» ست ترجمات‪ ،‬و «الوادي‬ ‫عربية‪ ،‬وقصيدة‬
‫الصغير» أربعًا و «المساء» ثالثًا‪ .‬هكذا حضر‬
‫المارتين بين الثالثينات واالربعينات من القرن‬
‫الماضي‪ ،‬وكأنه شاعر عربي‪ .‬وبلغت الحماسة ببعض‬
‫‪ d‬الى «تعريب» المارتين‬ ‫الشعراء والنقاد حدًا دفعهم‬
‫‪ 1935 d‬كتب أحمد حسن الزيات مقالة‬ ‫نفسه‪ .‬في العام‬
‫‪d‬‬
‫في «الرسالة» عنوانها‪« :‬هل المارتين عربي؟» وفيها‬
‫بحث عن جذور «عربية» للشاعر الفرنسي‪ .‬وردّه‬
‫بعضهم الحقًا الى بلدة «مارتين» السورية‪ ...‬واعتمد‬
‫هؤالء على جملة قالها المارتين وهي‪« :‬ولدت شرقيًا‬
‫وأموت شرقيًا»‪ .‬ليس المهم أن يكون المارتين فرنسيًا‬
‫أو عربيًا‪ ،‬المهم أن أثره كان بينًا في الجيل‬
‫الرومنطيقي العربي الذي أعقب جيل أحمد شوقي‬
‫وجميل صدقي الزهاوي وخليل مطران ومعروف‬
‫الرصافي وسواهم من الشعراء «المقلدين المجددين»‪.‬‬
‫ها هو الياس أبو شبكة يكتب عن المارتين وكأنه‬
‫يتماهى به أو يرتكز عليه ليرسّخ نظرته الخاصة الى‬
‫العمل الشعري فيقول‪« :‬لم يحدث المارتين ثورة في‬
‫االنشاء أو في الوزن والقافية‪ ،‬بل أحدث ثورة في‬
‫المخيالت والقلوب»‪ .‬وكان أبو شبكة يرى أن الشعر‬
‫هو ابن «دم القلب» وليس وليد الصنعة والكلفة‪.‬‬
‫وتجلى أثر المارتين أكثر ما تجلّى في شعر‬
‫الرومنطيقيين العرب‪ ،‬خافتًا حينًا وصارخًا حينًا آخر‪.‬‬
‫ولم يكن إقبال الشعراء على قراءة شعره وترجمته إال‬
‫تشبعًا منه ومن روحه الرومنطيقية وحنينه العميق‬
‫ونزعته الصوفية التي تجلّت في ديوانه «تأمالت‬
‫‪ d‬مثل‪:‬‬‫شعرية» (‪ )1820‬وقد ضم أجمل قصائده‬
‫البحيرة‪ ،‬العزلة‪ ،‬الخريف‪ ،‬الغابة وسواها‪ .‬وليس من‬
‫المستغرب أن يلتمع أثر المارتين في بعض قصائد‬
‫الياس ابو شبكة‪ ،‬صالح لبكي‪ ،‬علي محمود طه‪ ،‬أحمد‬
‫زكي أبو شادي وسواهم من الشعراء الذين حققوا‬
‫الثورة التجديدية في الشعر النهضوي‪ .‬إال أن الشعراء‬
‫والنقاد الذين «عشقوا» المارتين لم يلتفتوا الى النقد‬
‫الذي وُجّه اليه وهو يشبه بعض الشبه ما وُجّه من نقد‬
‫الى احمد شوقي‪ .‬ويكفي أن يكون من أبرز نقاد‬
‫المارتين مثالً سانت بوف الذي كان ناقد المرحلة‪،‬‬
‫وستاندال‪ ،‬وفلوبير الذي قال‪« :‬ال‪ ،‬ليس لديّ أي‬
‫انجذاب الى هذا الكاتب‪ ...‬إنه عقل مخصيّ»‪.‬‬
‫أما السؤال الذي يطرح بألحاح فهو‪ :‬كيف نقرأ اليوم‬
‫هذين الشاعرين‪ ،‬أحمد شوقي و‪...‬‬

You might also like