Professional Documents
Culture Documents
1
المقدمة
يمتاز القرن الحالي بزيادة االهتمام بالبحث العلمي في مجاالت الحياة المختلفة بما يكفل الراحة و
الرفاهية لإلنسان وتضمن له التفوق على غيره في شتى مجاالت المعرفة االقتصادية واالجتماعي
والتكنولوجية وغيرها ،وقد 1أصبح ت الدول والمؤسسات العامة والكثير من الشركات تولي للبحث
العلمي االهتمام والرعاية وتخصص 1مبالغ كبير لهده الغاية وقد جاء دلك االهتمام نتيجة الثمار الملموسة
التيةا صبحت المؤسسات العامة والشركات تجنيها من نتائج البحث العلمي المبني على أسس اتعلمية
مدروسة كما يفرض التغيير المستمر في العوامل البيئية المحيطة والمؤسسات 1إلى سعي هده فللتزود1
بأكبر قدر ممكن من المعرفة من خالل استخدام مختلف األساليب العلمية في البحث تتناول المحاضرة
وما بعدها عموميا ت حول البحث العلمي تعرف فه ،وأنواعه وذلك من جهة نظر شمولية ،كما تعالج
اإلعتبارت العامة الواجب توافرها في البحث العلمي
2
المبحث االول :ماهية البحث العلمي
ي َُع ُّد البحث العلميّ (باإلنجليزية منهجا ً لوصف الوقائع عبر مجموع ٍة من المعايير التي ُتساهم في ُنموِّ المعرفة ،وتجدر
اإلشارة إلى أنه اختلفت ا ّتجاهات الباحثين في ما يتعلَّق بتعريفه؛ وفقا ً لميولهم ،وقناعاتهم العلميّة ،ومنها ما يأتي :عرَّ فه
ُنظمة ،يقوم بها شخصٌ يسمّى (الباحث)؛ من أجل تقصِّي الحقائق في مسألة، (عبد الباسط خضر) على أ ّنه" :عمليّة فكريّة م َّ
حلول
ٍ ُنظمة ُتسمّى (منهج البحث)؛ بغية الوصول إلى أو مشكلة مُعيَّنة ُتسمّى (موضوع البحث) ،با ّتباع طريقة علميّة م َّ
مالئمة للعالج ،أو إلى نتائج صالحة للتعميم على المشكالت المُماثِلة ُتسمَّى (نتائج البحث)" .عرَّ فه (محمد عناية) على أ ّنه:
"التقصِّي الم َّ
ُنظم با ّتباع اساليب ومناهج علميّة مُحدَّدة للحقائق العلميّة؛ بقصد التأ ُّكد من ص ّحتها ،وتعديلها ،أو إضافة
ت ُتح ِّدد طبيعة العالقات ُنظم ،ومضبوط الفتراضا ٍ ت جديدة لها" .عرَّ فه (فريدريك على أ ّنه" :تقصٍّ تجريبيّ ناقد ،وم َّ معلوما ٍ
بين مُتغيِّرات ظاهر ٍة مُعيَّنة" لوحظ وجود العديد من التعريفات لمفهوم البحث العلمي ،إاّل أن جميع تلك التعريفات تشترك
في عدّة نقاطٍ على النحو اآلتي
عدم اعتماد البحث العلمي على ا ّتباع الطرق غير العلمية كالخبرة ،فهو ي ّتبع منهجا ً وأسلوبا ً ّ
منظما ً في البحث)1( .
يمتلك البحث العلمي القدرة على التكيُّف ضمن البيئة التي يتم دراستها وبالتالي القدرة على السيطرة عليها ،فهو يهدف إلى
زيادة معرفة االنسان وتوسيعها)2(.
يهتم البحث العلمي باختبار جميع المعلومات التي يتوصّل إليها ويتحقق من ص ّحتها ،ويُثبتها تجريبياً ،وبعدها يتم نشرها
وإعالنها.
يُستخدم البحث العلمي في مختلف المجاالت سوا ًء التربوية ،واالجتماعية ،واالقتصادية ،والمهنية ،والمعرفية على ح ٍّد
سواء ،فهو يشمل ميادين الحياة جميعها بمشكالتها المختلفة .يمكن تعريف البحث العلميّ اعتماداً على ما سبق على أ ّنه
ط لها ،ت َّتسم بالموضوعيّة ،وتعتمد على مجموع ٍة من الخطوات؛ بهدف البحث في ظاهر ٍة معينة ،ومعرفة ُخط ٌ
عمليّة م َّ
حلول تتعلَّق بالمشكالت ،وفي المجاالت جميعها.
ٍ الحقائق ،والمبادئ الالزمة الكتشاف
/1محمود احمد درويش – مناهج البحث العلمي – معرض مألفين العرب – مصر – 2018ص 22
/2منصور بن عوض بن صالح – تمويل البحث العلمي –معهد البحوث العلمية) المملكة) العربية) السعودية – 2016ص 300
3
المطلب الثاني : نشاة البحث العلمي
يرتبط البحث العلمي في تاريخه العتيق بمحاولة اإلنسان الدائبة للمعرفة وفهم الكون الذي يعيش فيه ،وقد ظلت الرغبة
في المعرفة مالزمة لإلنسان منذ المراحل األولى لتطور الحضارة ..وعندما حمل المسلمون العرب شعلة الحضارة الفكرية
لإلنسان ،ووضعوها في مكانها السليم ،كان هذا إيذانا ً ببدء العصر العلمي القائم على المنهج السليم في البحث ،فقد تجاوز
الفكر العربي اإلسالمي الحدود التقليدية للتفكير اليوناني ،وأضاف العلماء العرب المسلمون إلى الفكر اإلنساني منهج
البحث العلمي القائم على المالحظة والتجريب ،بجانب ال ّتأمل العقلي ،كما اهتموا بالتحديد الكمي واستعانوا باألدوات
العلمية في القياس .وفي العصور الوسطى بينما كانت أوروبا غارقة في ظالم الجهل كان الفكر العربي اإلسالمي يفجر في
التراث اإلسالمي ،وأضاف إليه إضافات جديدة حتى اكتملت الصورة َ نقلة تاريخية كبرى ينابيع المعرفة .ثم نقل الغربُ
وظهرت معالم األسلوب العلمي السليم ،في إطار عام يشمل مناهج البحث المختلفة وطرائقه في مختلف العلوم ،التطبيقية
واإلنسانية()1
فقد تمثل المسلمون المنهجية في بحوثهم ودراساتهم في مختلف جوانب المعرفة ..والمنهجية التي اختطوها ألنفسهم تلتقي
كثيراً بمناهج البحث الموضوعي في عصرنا ،وشهد بذلك بعض المستشرقين الذين كتبوا مؤلفات يشيدون فيها بما يتمتع به
العلماء المسلمون من براعة فائقة في منهج البحث والتأليف ،ويبدو ذلك واضحا ً في كتاب (مناهج العلماء المسلمين في
البحث العلمي) للمستشرق (فرانتر روزنتال) ()2
ويذكر (الصباب ) 1413،أن (الدراسات المقارنة للمنهج العلمي الحديث والمنهج الذي سار عليه المسلمون في مجال علوم
الطبيعة والكون أثبتت أن المنهج العلمي الحديث وأسلوب التفكير المنطقي قد توفر لدى علماء المسلمين في بحوثهم
واكتشافاتهم في مجال الطب والكيمياء والصيدلة وعلوم الكون و
/1فريد انصاري -ابجاديات البحث العلمي – مطبعة النجاح الجديدة 1997مصر – ص 50
4
المطلب الثالث : اهمية البحث العلمي
تتمث ل أهمية البحث العلمي في عديد من األوجه التي سوف نتعرف عليها عبر فقرات المقال ،وقبل أن نتطرق لذلك ينبغي َّ
أن نوضح لباحثينا أن الفرق بيننا وبين اآلخرين أصبح شاسعً ا للغاية ،والدور المنوط بهم على قدر كبير من األهمية ،حيث
إن البحث العلمي هو طوق النجاة لجميع ما يواجهنا من مشكالت ،ويجب علينا بذل قصارى الجهد لتضييق الهوة،
واالرتقاء باألمة ،واالبتعاد عن األسلوب النمطي في البحث العلمي ،فنحن في أمس الحاجة إلى الجديد ،دون أن ال ننسى
هويتنا اإلسالمية ،وقيمنا وتقاليدنا التي نشأنا وتأثرنا بها ،والمجال مفتوح لإلبداع ،ويجب أن ال يوقفنا في ذلك إمكانيات،
فالعقول هي رأس المال الحقيقي ،والجهد في طليعة أهمية البحث العلمي مساعدة الباحث في التعرف على المعلومات
الجديدة التي يكتسبها عن طريق االطالع على المصادر والكتب في مجال التخصص المنوط به ،والعلم بال حدود وينبغي
على الباحث أن يُنمي من معارفه كل يوم ،فعلى سبيل المثال الطبيب يجب عليه أن يواكب الجديد كل يوم ،فهناك طفرات
علمية وتكنولوجية تحدث بوتيرة متسارعة ،ومن لم يطالع كل ما هو حديث سوف يتوقف عن النجاح حتمًا ،ويصبح في
طي النسيان ،وبالمثل كل المجالت األخرى
يُعد العلماء ورثة األنبياء ،ومن بين أوجه أهمية البحث العلمي للباحث تحقيق الشهرة والوجاهة داخل الدولة أو المجتمع،
وال شك أن الباحث العلمي ليس كغيره من األفراد ،فهو مميز بعلمه ومهارته في مجال التخصص المتعلق به ،وذلك األمر
أدعى الحترامه من جانب المحيطين ،وأمامنا كثير من األمثلة التي توضح ذلك من العلماء المحليين فهم بحق فخر وذخيرة
لنا ،وينبغي أن نسير علي دربهم)1(.
5
المبحث الثاني: تطور البحث العلمي
يمتلك اإلنسان غريزة حبِّ المعرفة والسعي للوصول إليها ،وفهم البيئة المحيطة به ،وتحليلها ،وتسجيل عناصرها ،وترتيب
أحداثها وظواهرها ،وفهم مضامينها الطبيعية والبشرية في مختلف توجُّ هات ميادين المعرفة .تطوّ َر سعي اإلنسان لفهم
بشكل بطيء جداً ،واستغرقت هذه العملية وقتا ً طويالً ،وكان
ٍ بشكل علمي عبر الزمن تدريجيا ً
ٍ الحقائق والبحث عن المعرفة
من الصعب تتبُّع تاريخ البحث العلمي وخطواته ب ِد ّقة عبر السنين ،إاّل أ ّنه ظهرت بعض المعالم للتطور في مجال البحث
عصور متتالية،وهي على النحو اآلتي:
ٍ العلمي عبر
إن نشأة البحث العلمي قديمة قدم اإلنسان على سطح األرض ،فمنذ أن خلق هللا آدم ،ونزوله األرض،
واإلنسان يُعمل عقله وفكره ويبحث عن أفضل السبل لممارسة الحياة فوق سطح األرض ،ومن ثم
ل رَ بُّكَ ِل ْل َم َ
ال ِئ َك ِة ِإنِّي لتحقيق وظيفة االستخالف التي خلق هللا اإلنسانَ من أجلها .قال تعالى( :وَ ِإ ْذ َقا َ
رض خَ ِلي َف ًة) ،سورة البقرة ،30 :ومنذ ذلك اليوم ،واإلنسان يمارس المحاوالت الدائبة ِ ل ِفي األَ
اع ٌ
جَ ِ
للمعرفة وفهم الكون الذي يعيش فيه.
وظلت البشرية على مدار قرون طويلة تكتسب المعرفة بطريقة تلقائية مباشرة عن طريق استخدام
الحواس األساسية لإلنسان ،وبالطبع لم تمارس أي منهج علمي في التوصل إلى الحقائق أو محاولة فهم
بعض الظواهر التي تحدث حول اإلنسانوقد تطور البحث العلمي عبر العصور ببطء شديد واستغرق
هذا التطور عدة قرون في التاريخ اإلنساني ،ومن الصعب تتبع تاريخ البحث العلمي بالتفصيل ،وغاية
ما يستطاع هو ذكر بعض معالم التطور في مجال البحث العلمي ونشاطاته ،وقد كان اتجاه التفكير لدى
قدماء المصريين اتجاها علميا تطبيقيا حيث برعوا في التخطيط والهندسة والطب والفلك والزراعة
/1ياقوت محمذ مسعد – البحث العلمي – دار النشر للجامعات – 2007مصر – ص 50
6
كما أسس المصريون القدماء حضارة علمية في الصيدلة والكيمياء ،يقول عنها المؤرخ جابين :) إن
المصريين كانوا منجما اغترف منه األقدمون العقاقير وأوصافها المذكورة في أعمال ديسقوريدس(
90-40م) وبلليني79-23(( م) وغيرهما ،وكان من الواضح أنها مأخوذة من المصريين القدماء
أما بالنسبة لقدماء اليونان فقد كان لهم اهتمام بالبحث العلمي ،حيث أنهم اعتمدوا على التأمل والنظر
العقلي المجرد ،وقد وضع أرسطو قواعد المنهج القياسي واالستداللي aفي التفكير العلمي ،كما فطن
أيضا لالستقراء ،وكان الطابع التأملي هو الغالب على تفكيره ،واعتمد اليونان أيضا في بنائهم العلميa
على االكتشافات السابقة التي سجلها المصريون والبابليون ،ومن أبرز علمائهم البارزين في هذا
المجال فيثاغورس 600( )Pythagoras( ق.م) ،وديمقراطيس 400( )Democritus( ق.م)،
وثيوفراستوس 300( )Theophrastus( ق.م) ،وسترابون 20( )Strabo ( ق.م) ،وكلوديوس
بطليموس()Claudius Ptolemy( حوالي 170-100م(.
أما التفكير العلمي aعند الرومان فقد ازدهر أيضا ،ويعتبر الرومان ورثة المعرفة اليونانية ،ويتركز
إسهامهم في الممارسة العلمية أكثر من متابعتهم لها ،وكانوا صناع قوانين ومهندسين أكثر منهم مفكرين متأملين.
تعود فترة العصور الوسطى إلى الحضارة العربية اإلسالمية وفترة عصر النهضة في أوروبا؛ حيث استفاد العرب من
صلت إليها حضارات العالم القديم ،وأضافوا إليها ك ّما ً هائالً من المعرفة التي نقلوها فيما بعد إلى أوروبا،
النتائج التي تو َّ
والتي اعتبرت نقطة انطالق ازدهار الحضارة األوروبية ،ويجدر بالذكر أن طريقة منهجهم البحثي خالفت منهجية
أرسطو؛ حيث اعتمدت أساليب جديدة ومبتكرة في البحث؛ كالتجريب واالستعانة بأدوات القياس للوصول إلى النتائج
العلمية)1(.
في العصور الوسطى فقد ازدهرت الحضارة االسالمية وفترة عصر النهضة في أوروبا ،وتمتد تلك
الفترة من حوالي القرن الثامن حتى القرن السادس عشر الميالدي ،وقد أفاد المسلمون aفي هذه الفترة
من العلوم السابقة للمصريين القدماء واإلغريق والرومان واليونان ،وتعتبر الحضارة االسالمية حلقة
االتصال بين الحضارات القديمة ،كحضارات المصريين واإلغريق والرومان واليونان وبين من بعدهم
في عصر النهضة الحديثة ،ولم يكتفوا بنقل حضارة من قبلهم فقط ،بل أضافوا إليها علوما وفنونا
تميزت باألصالة العلمية a،فالفكر اإلسالمي تجاوز الحدود الصورية لمنطق أرسطو ،أي أن العرب
عارضوا المنهج aالقياسي وخرجوا على حدوده إلى اعتبار المالحظة والتجربة مصدرا للبحث العلمي.
7
كما أن العرب قد اتبعوا في إنتاجيتهم العلمية أساليب مبتكرة في البحث ،فاعتمدوا على االستقراء
والمالحظة والتدريب العلمي واالستعانة بأدوات القياس ،للوصول إلى النتائج العلمية a،وقد نبغ الكثير
من العلماء المسلمين في مجال البحث العلمي مثل الحسن بن الهيثم وجابر بن حيان والخوارزمي
والبيروني وابن سينا وغيرهم.
وقد شهد على نبوغ العلماء العرب في هذا المجال الكثير من رواد النهضة األوروبيين
مثل العالم جورج سارتون )1840-1956( ،)George Sarton( الذي قال :أن العرب أعظم معلمين aفي
العالم في القرون الوسطى ،ولو لم تنقل إلينا كنوز الحكمة اليونانية لتوقف سير المدنية لبضعة قرون،
فالعرب قد أسهموا بإنتاجهم العلمي في تقدم الحضارة ،وأسهموا باصطناع منهج االستقراء ،واتخذوا
المالحظة والتجربة أساسا للبحث العلمي.
ولقد ساهم الفكر اإلسالمي في تأصيل الحضارة اإلنسانية تأصيال سويا وصائبا ،ووضعها في مسارها
الصحيح ،ونقلها من العشوائية والتخبط إلى المناهج العلمية الصائبة ،التي تعتمد على أسس وقواعد
ومبادئ ،كما أرسى الفكر اإلسالمي قواعد وأساليب التحصيل العلمي aلشتى العلوم اإلنسانية النظرية
والتطبيقية ،وأرسى قواعد الموضوعية والشكلية في البحث والكتابة واالستقصاء ،ومن تلك القواعد
واألسس التي وضعها العلماء المسلمون :قواعد منهج البحث العلمي التي يُعتمد aعليها في نقد المصادر،
وفي التجريح والتعديل a،وقواعد التصنيف للروايات واآلثار.
وقد أفاد رواد النهضة األوروبية مثل aروجر بيكون1214( )Roger Bacon ( م) وليوناردو دا فينشي(
1452( )Leonardo da Vinciم) وغيرهم من العلوم العربية ،واعتمدوا عليها في بناء أسس الحضارة
األوروبية الحديثة)1(.
ويمكن القول باطمئنان ،أنه ال يوجد شيء من المعارف اإلنسانية إال وللمسلمين aفيه بحث أو تطوير أو
إضافة أو إحاطة ومعرفة ،ولقد استخدم المسلمون في أبحاثهم العلمية aالمنطق القديم والمنطق الحديث
على حد سواء ,فلم يظنوا كما ظن مفكرو العصور الوسطى من األوربيين أن أرسطو قد وضع النظرية
النهائية لقواعد االستنتاج ,ولكنهم اهتدوا إلى أسلوب هام من أساليب التفكير هو ما يطلق عليه اآلن
اسم االستقراء ،)Induction( وعرفوا المنهج الرياضي الذي يعتمد aعلى المسلمات والبديهيات،
وعنهم نقل بيكون )Roger Bacon ( منهجه aالعلمي aألنه تتلمذ على علماء المسلمين.
عندما حمل المسلمون شعلة الحضارة الفكرية لإلنسانية؛ ووضعوها في مكانها السليم؛ كان هذا إيذانا
ببدء العصر العلمي القائم على المنهج aالسليم في البحث؛ فقد تجاوز الفكر العربي اإلسالمي الحدود
التقليدية للتفكير اليوناني ،وأضاف العلماء العرب المسلمون aإلى الفكر اإلنساني منهج aالبحث العلميa
القائم على المالحظة والتجريب ،بجانب التأمل العقلي ،كما اهتموا بالتحديد الكمي واستعانوا باألدوات
العلمية في القياس .وفي العصور الوسطى كان الفكر العربي اإلسالمي يفجر -في نقلة تاريخية كبرى
-ينابيع المعرفة ،بينما كانت أوربا غارقة في ظالم الجهل.
8
ثم نقل الغرب التراث اإلسالمي ،وأضاف إليه إضافات جديدة حتى اكتملت الصورة ،وظهرت معالم
األسلوب العلمي aالسليم ،في إطار عام يشمل مناهج البحث المختلفة وطرائقه في مختلف العلوم،
التطبيقية واإلنسانية.
فقد تمثل المسلمون المنهجية )Methodology ( aفي بحوثهم ودراساتهم في مختلف جوانب المعرفة،
والمنهجية aالتي اختطوها ألنفسهم تلتقي كثيرا بمناهج البحث الموضوعي في عصرنا ،وشهد بذلك
بعض المستشرقين الذين كتبوا مؤلفات يشيدون فيها بما يتمتع به العلماء المسلمون من براعة فائقة في
منهج aالبحث والتأليف[.]8
هذا ،وقد أثبتت الدراسات المقارنة أن المنهج aالعلمي aالحديث وأسلوب التفكير المنطقي قد توفر لدى
علماء المسلمين aفي دراساتهم وبحوثهم واكتشافاتهم في مجال الفلك والطب والكيمياء والصيدلة وبقية
فروع العلم التطبيقي.
وهكذا ،حقق العرب -على مدى ألف عام مضت -قفزات كبيرة في كافة مجاالت العلوم ،وأصبحت
بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة مراكز لإلشعاع الحضاري ،بينما كان الحال في أوروبا على عكس
ذلك ،حيث كانت أوروبا تعيش عصرها المظلم.
لقد أفاد العرب من علوم اإلغريق والرومان وحضارة آسيا ،وحققوا تقدما هائال في الرياضيات
والميكانيكا والطب والكيمياء والعلوم التطبيقية ،إضافة إلى البحث والتقنية النظريين ،وبين القرنين
الثامن والثالث عشر تم اكتشاف أهم االختراعات العلمية a،وتم إرساء أسس الحضارة الحديثة
9
المعرفة إلى األوروبيين عن طريق مراكز الحضارة اإلسالمية في إسبانيا قبل نهاية العصور الوسيطة ،حينما
ألحقت الحروب الصليبية aبالعالم اإلسالمي التدمير والخراب.
كان أول من استخدم هذا المنهج ألساليب البحث هم علماء النفس واالجتماع في القرن التاسع عشر ،إذ يُذكر أن
أرنست وبر الذي يعتبر من مؤسسي علم النفس التجريبي1878-1795( م) ،قد درس الحس واللمس ،واكتشف
أن مناطق الحس تختلف في جسم اإلنسان في كل منطقة في قوتها ،وأصبحت دراساته مصدرا لتعليم علم
النفس ،وكان أول من حاول قياس نماذج محددة من السلوك البشري في األربعينيات من ذلك القرن ،ممهدا
الطريق آلخرين تبعوه في استخدام الطريقة ذاتها ،ويمكن القول بأن تلك المحاوالت األولى هي التي قادت إلى
تأسيس معرفي جيد ،أدى في بداية القرن العشرين إلى وسم الخطوط العريضة لمعالم البحث العلمي في
الدراسات اإلنسانية)1(.
في تلك المرحلة المبكرة من نشأة هذا النوع من البحوث؛ كانت معظم طرق القياس مقصور على نماذج محدودة
من السلوكيات ،وذلك نظرا لمحدودية أساليب التحليل aوبدائيتها ،حيث اقتصرت معظم تلك الجهود على استخدام
طرق اإلحصاء الوصفي المعروف بضعفة في تقرير نتائج بحثية يعتد بها.
لم يدم األمر طويال بعد ذلك ،حتى قام علماء اإلحصاء بابتكار طرق جديدة ودقيقة في أساليب التحليل ،عُرفت
فيما بعد باإلحصاء االستنتاجي ،وفتحت الباب على مصراعيه للباحثين للدخول في دراسة تفصيالت أكثر،
واستطاعت تقديم نتائج أدق من ذي قبل ،وأصبح باإلمكان مع هذا المنهج االحصائي الجديد أن يتعرف الباحثون
على معلومات دقيقة وقيمة في بحوثهم ،مهما كان حجم مجتمع الدراسة ،وذلك من خالل النتائج التي يحصلون
عليها ،ولقد كان لنجاح الدراسات النفسية واالجتماعية في توظيف أسلوب البحث العلمي لخدمتها أثر كبير في
توجيه معظم الدراسات اإلنسانية إلى األخذ بهذا النهج
خاتمة
قبل الوصول الى خاتمة عن منهجية البحث العلمي يفترض التعرف على المقصود منها،
وخصوصاً أنها من األمور بالغة األهمية في أي بحث علمي ناجح ،فالتنظيم -والدقة شرط ال ب ّ
د
منه لقبول الدراسة العلمية ووصولها الى نتائج علمية منطقية صحيحة.
فال يمكن تصور بحث علمي جيد الى أي تخصص علمي انتمى ،دون أن يكون الباحث قد اعتمد
منهجية علمية واضحة ،فالدراسة العلمية تحتاج لمعايير ومقاييس وضوابط وخطوات يفترض
10
اتباعها من الباحث العلمي ،ليصل الى بحث علمي مميز ومتكامل قابل للنشر في المجالت
العلمية المحكمة.
وبذلك نجد االختالف الواضح بين األبحاث العلمية وأي موضوع إنشائي أو خبر أو مقال صحفي،
فالبحث العلمي يوصل الى نتائج تؤثر في التقدم العلمي وفي تطور الحياة البشرية ،ولذلك
يجب اتباع منهجية البحث العلمي التي ترتب وتنظم الدراسة من جميع نواحيها.
11
/2منصورفريد انصاري -ابجاديات البحث العلمي
12