لعب العلماء دورا كبيرا في تثبيت الوجود العثماني في الجزائر ،وإعطاء مصداقية شرعية للمواقف السياسية التي كان ينتهجها األتراك العثمانيون في داخل وخارج الجزائر. ولذلك فال غرابة أن تجدهم يحظون بمكانة واحترام كبيرين لدى كل من عروج وأخيه خير الدين بربروس .فعرفا لهم قدرهم وأهميتهم .وجعال منهم مستشارين لهم في الكثير من القضايا السياسية والدينية .فكان كل منهما ال يقطع بأمر هام دون الرجوع إلى رأيهم .األمر الذي أدى إلى تكوين تحالف قوي بينهم ساهم في تذليل الكثير من العقبات التي كانت تعرقل الدخول العثماني إلى الجزائر خالل هذه الفترة. وقد تجلت مكانة العلماء عند األخوين بربروس من خالل الدور المساند للعثمانيين ،والذي يمكن إبرازه فيما يلي: -1إعطاء الصبغة الشرعية لألعمال التي كان يقوم بها عروج ،وخير الدين في نضالها من أجل تحرير المدن الساحلية المحتلة من طرف اإلسبان ،وتقديم مختلف أشكال الدعم لمسلمي األندلس .وتأييد المواقف السياسية والعسكرية التي كان يتخذها األخوان بربروس في الجزائر .وذلك بإصدار الفتاوى الشرعية المتعلقة بالسلم ،والحرب، والصلح المؤيدة للقرارات التي كان تتخذها اإلدارة العثمانية في الجزائر .ومن أمثلة ذلك إفتاؤهم لخير الدين بعدم جواز ترك الجزائر واالنصراف عنها إلى غيرها بسبب حركات التمرد التي تصاعدت عقب استشهاد عروج .وبطالن جهاده في مكان آخر .ألن جهاده في الجزائر أصبح فرض عين في حقه ،وال يمكن ألحد أن يحل محله .بينما يوجد غيره ممن يمكن أن يجاهد في بالد الروم أو غيرها .فكان من نتيجة ذلك أن خضع خير الدين لرأي العلماء وقرر استئناف نضاله في الجزائر ،حتى تمكن من قمع تلك الثوارت .ومن ذلك أيضا أخذه بفتوى العلماء في أمر كبار القادة واألمراء اإلسبان الذين تم أسرهم عقب فشل إحدى الحمالت على الجزائر .وكان عددهم 36أميرا وضابطا .فأرسل الملك شرلكان في فدائهم 100ألف قطعة ذهبية .إال أن العلماء أفتوا بعدم جواز قبول فدائهم ألنهم عندما يرجعون إلى بالدهم سوف يكونون أكثر إيذاء للمسلمين .فلم يسع خير الدين سوی أن يقبل برأيهم ويأمر بإعدامهم جميعا. ثم أرسل الملك اإلسباني بعد ذلك عارضا 7.000قطعة ذهبية مقابل استعادة جثثهم .فأفتى العلماء بأنه ال يجوز بيع الميتة. فرفض خير الدين بناء على ذلك أيضا أن يعيد الجثث مقابل العرض الذي تقدم به اإلسبان -2الرجوع إلى العلماء في القضايا السياسية الهامة . كاستشارته لهم في إلحاق الجزائر بالدولة العثمانية، وإرساله لوفد يرأسه الشيخ أحمد بن القاضي الذي كان أحد علماء الدين وأميرا على إحدى المناطق البربرية الكبيرة في جبل کوکو وكذلك استشارتهم في أمر معاقبة أهالي مدينة الجزائر الذين تواطؤوا مع الثوار .فتدخل العلماء وأقنعوه بأن أهل المدينة لم يشتركوا جميعا في الثورة ،وإنما شارك فيها األوباش والسفلة .فقبل تدخلهم ،واكتفي بمعاقبة رؤساء الثورة .3قيام العلماء بمهمة الوساطة بين خير الدين وبين الثائرين ،سواء كانوا من الزعماء أو األهالي .فمن أمثلة ذلك توسطهم بين خير الدين وبين زعماء أهالي الجزائر الذين عقدوا اجتماعا تنظيميا للثورة على األتراك .فتدخل العلماء وبينوا لهم بأن ذلك ال يحل لهم .وعندما أصر الثائرون على تمردهم أفتوا لخير الدين بقتلهم فقام بإعدامهم. وكذلك توسطهم لسلطان تلمسان لدي خير الدين للعفو عنه. فقبل شفاعتهم وعفا عنه رغم خيانته ،وتحريضه لإلسبان و األعراب ضده. وهكذا يتضح لنا مما سبق أن العلماء كانوا يمثلون السند المعنوي للعثمانيين .ولذلك فإن سياسة خير الدين وقبله عروج كانت تقوم على إشراكهم في الفصل في الكثير من القضايا السياسية ،وااللتزام الشديد بفتاواهم فيما يتعلق بالمسائل الشرعية .فكان ذلك سببا في توثيق الصلة بين العثمانيين وبين العلماء .األمر الذي سهل بشكل كبير إعطاء الصبغة الشرعية والدينية للوجود العثماني بالجزائر.
السياسة العامة نحو الزعماء المحليين:
عرفنا سابقا أن الفراغ السياسي الذي كانت تعيشه الجزائر، واالحتالل اإلسباني لسواحلها ،ساهما بشكل كبير في دخول العثمانيين إليها .ولم يكن اإلسبان هم العقبة الوحيدة التي أعاقت تثبيت الوجود العثماني فحسب؛ بل إن الزعماء المحليين من أمراء وشيوخ قبائل لعبوا دورا كبيرا في عرقلة تحقيق الوحدة السياسية للجزائر ،وتحريرها من االحتالل اإلسباني. ولذلك فقد قضى خير الدين بعد استشهاد أخيه عروج سنوات حكمه للجزائر في صد الهجمات اإلسبانية على المدن والقالع التي تمكن من طردهم منها ،والتصدي للثورات التي كان يقودها الزعماء المحليون ضد األتراك. فقد شعر هؤالء الزعماء بأن الوجود العثماني يشكل خطرا على وجودهم ،ويسلبهم نفوذهم في المناطق الخاضعة لهم. كما رأى بعضهم في الوجود العثماني عائقا يحول دون تمكينهم من توسيع نفوذهم .ولذلك فقد رأينا ردود أفعال هؤالء الزعماء التي اتسمت بالمعارضة والسرية العلنية والتواطؤ مع اإلسبان ،واستغالل أي فرصة إلعالن التمرد والعصيان .حتى إذا تم إخماد تلك الثورات أعلن هؤالء الزعماء خضوعهم منتظرين الفرصة للتمرد مرة أخرى. وهذه المواقف المتذبذبة التي سار عليها هؤالء الزعماء هي التي تفسر لنا موافقهم المتناقضة التي سبقت اإلشارة إليها في مواضع مختلفة من هذا الكتاب .كتحريض األمير الزياني الذي نصبه عروج خلفا لعمه أبي حمو موسی بطلب من األهالي ،ثم لم يلبث هذا األمير أن شرع في تحريض أهالي تلمسان عليه .فما كان من عروج إال أن قام بإعدامه مع عدد من أمراء البيت الزياني الذين اشتركوا معه بناء على فتوی علماء تلمسان وكذلك نفس السلوك قام به الشيخ سالم التومي الذي شرع يحرض أهالي الجزائر ضد األتراك ،فأمر عروج بقتله بينا فر ابنه يحيى إلى وهران مستنجدا باإلسبان الستعادة زعامة أبيه ونفس الدوافع دفعت الشيخ ابن القاضي إلى التمرد على خير الدين بعد أن كان حليفه الرئيسي. فكانت السياسة العثمانية إزاء هؤالء الزعماء تتراوح بين محاولة کسب هؤالء الزعماء بإبقائهم في مواقعهم القيادية واالكتفاء بقبول تبعيتهم .ويتجلى ذلك في قراءة الخطبة باسم السلطان العثماني ،وسك العملة باسمه .باإلضافة إلى دفع االلتزام المالي السنوي إلى الخزينة ،والمساهمة في القتال إلى جانب العثمانيين ضد اإلسبان ،وقمع الثورات التي يمكن أن يعلنها بعض المغامرين من شيوخ العشائر أو األمراء المحليين. وإلى جانب ذلك اتبع العثمانيون سياسة شديدة ضد قادة حركات التمرد الذين ألبوا األهالي على الثورة .فقام عروج بإعدام أبي حمو الزياني ،والشيخ سالم التومي ،وكذلك أمير تنس الذين كان كل منهم يتولى تحريض األهالي للثورة على العثمانيين .وذلك بعد الرجوع إلى العلماء واستشارتهم بشأنهم .كما اتبع خير الدين نفس السياسة إزاء مؤججي الثورات وزعماء التمرد فقام بإعدام من تمكن منه .فقد أعدم زعماء التمرد الذين ثاروا في مدينة الجزائر عقب استشهاد عروج .وذلك بعد استفتاء العلماء في أمرهم .كما قام أيضا بإعدام قارة حسن الذي تحالف مع الشيخ ابن القاضي في ثورته على العثمانيين. وفي بعض األحيان كان كل من عروج وخير الدين يكتفيان بإضعاف زعيم التمرد دون القضاء عليه .لكسب والء قبيلته وأنصاره کما فعل خير الدين مع السلطان الزياني موالي عبد هللا الذي قام بتحريض اإلسبان ضد األتراك .فما كان من خير الدين إال أن قام بالتوجه إليه وتمكن من االنتصار عليه في ساحة الحرب .ففر السلطان إلى تلمسان حيث قام خير الدين بتعقبه إلى مشارفها .إال أن السلطان أرسل کبراء دولته ،ومشايخها ملتمسا الصلح وبعث معهم 30.000 دینار .لكن خير الدين رفض الصلح معلال ذلك -بأن هذا الرجل ألف التمرد والعصيان والخيانة .إما بتسويل من نفسه ،وإما بتحريض من النصارى -فلما بلغ السلطان رفض خير الدين للصلح خرج إليه بنفسه ورمى بنفسه بين يديه معتذرا راجيا العفو فعفا عنه. کما اتبع نفس السياسة مع أحد شيوخ القبائل في منطقة جيجل الذي كان يزود اإلسبان في بجاية ب 7.000دینار، 1000شاة ،و 700رأس من البقر ،و 14فرسا بسالحها سنويا .فضرب خير الدين عليه حصارا حتى اضطره إلى إعالن خضوعه وطلب الصلح على أن يدفع للعثمانيين هذا العدد الذي كان يدفعه لإلسبان ويقطع صلته بهم ،ويعلن تبعيته ووالءه للعثمانيين . وإلضعاف موقف هؤالء الزعماء سياسيا ،ودفعهم إلى الخضوع والتبعية لإلدارة العثمانية في الجزائر كانت سياسة األتراك تقوم في بعض األحيان على تأييد من يكون مستعدا للرضا بالتبعية لهم .فقد أيدوا مرارا أمراء البيت الزياني الذين كانوا يتصارعون على العرش .كما أيدوا الشيخ ابن القاضي ضد غريمه ومنافسه على منطقة القبائل البربرية الكبرى في قلعة بني عباس. وهكذا يمكن أن نقول إن سياسة العثمانيين نحو الزعماء المحليين لم تكن واحدة ،بل كانت تسير وفق المواقف التي يقفها هؤالء الزعماء من الدولة. السياسة العثمانية نحو االهالي: علمنا سابقا أن اإلخوة بربروس وغيرهما من البحارة األتراك قدموا إلى سواحل شمال إفريقيا للدفاع عن المسلمين في هذه المناطق . حيث كانت سواحلهم تتعرض للغزو واالحتالل اإلسباني باإلضافة إلى مساعدة مسلمي األندلس الذين كانوا يتعرضون إلى ألوان مختلفة من االضطهاد. وهذه الصورة التي قدم بها األتراك إلى الجزائر جعلت األهالي ينظرون إليهم بمنظار المدافع عن الدين المجاهد في سبيل هللا .وكان حصار عروج وخير الدين المدينة بجاية في أول محاولة لتحريرها سببا في استدعاء أهالي جيجل لهم، ثم تبعهم بعد ذلك أهالي الجزائر .قبل أن تتوالى الدعوات لهم لتحرير بقية المدن المحتلة .وقد حافظ األتراك العثمانيون على تأكيد هذا االنطباع في نفوس األهالي من خالل استمرارهم في سياسة التصدي لإلسبان طيلة فترة وجودهم مما أكسبهم محبة األهالي". ومن جهة أخرى أدرك كل من عروج وخير الدين مدى نفوذ العلماء لدى األهالي وثقتهم فيهم .وأعلمه األعيان أن البربر يحبون العلماء واألولياء ويبالغون في تعظيمهم. سواء كانوا أحياء أو أمواتا. وكانت سياسة العثمانيين في الجزائر الكتساب قلوب األهالي ووالئهم هي إظهار االحترام الكبير للعلماء واألولياء والرجوع لعبه للفصل في الكثير من القرارات الحاسمة مثل التبعية للدولة العثمانية ،أو إعالن الحرب ،أو القضاء على متمرد من المتمردين ،أو إرسالهم كوسطاء صلح .فكسبوا بذلك قلوب األهالي وثقتهم ووالءهم . وفي حال قيام ثورة أو حركة تمرد فإن العثمانيين لم يكونوا يقومون باالنتقام من تلك القبائل الثائرة ،بل كانوا يسعون إلى القضاء على الثورة وزعمائها أو إضعاف قدرتهم على إثارة األهالي من جديد .لكنهم كانوا بمجرد القضاء على الثورة يبادرون إلى رد ما استولوا عليه في أثناء الحرب، ويعوضون لهم قيمة ما أتلف أو دمر لقد كان الهدف من هذه السياسة هو استحالة هؤالء المغلوبين نحوهم ،وإعادة الطمأنينة إلى قلوبهم ،وإشعارهم بأن تلك الحرب إنها كانت إلعادة النظام .وقد أثرت هذه السياسة تأثيرا كبيرا في نفوس األهالي جعلتهم فعال يخضعون في النهاية السلطة العثمانيين عن رضا وطواعية فقد وقف األهالي موقفا مساندا لألتراك العثمانبين طيلة الفترة التي واكبت دخولهم .باستثناء حاالت نادرة ثار فيها األهالي وبعض األعيان استجابة لدعوات التمرد التي قادها الزعماء المحليون الذين وجدوا في األتراك خطرا على مصالحهم ونفوذهم .ولم يتردد هؤالء الزعماء في االستعانة باإلسبان وتحريضهم على غزو الجزائر من أجل أن يعود هؤالء الزعماء إلى مواقع النفوذ .وهكذا شهدت فترة عروج وخير الدين العديد من حركات التمرد ،واكبتها حمالت إسبانية تهدف إلى طرد األتراك وتنصيب زعماء موالين لهم و لكسب االهالي اتبع األتراك العثمانيون عند دخولهم إلى الجزائر سياسة متسامحة مع الزعماء المحليين تهدف إلى كسبهم إلى صفها بفضل تأثيرهم و مكانتهم عند األهالي لكي يقطعوا الطريق على اإلسبان الذين ما فتئوا يعملون بدورهم على کسب هؤالء الزعماء وتقديم مختلف أشكال الدعم لمواجهة األتراك العثمانيين .وهكذا الحظنا أن العثمانيين حاولوا جاهدين اإلبقاء على الزعماء المحليين في مناصبهم مقابل تبعيتهم للسلطة المركزية في الجزائر، والدعاء للسلطان على المنابر ،وصك العمه باسمه .إال أنه بعد استشهاد عروج أدرك خير الدين بربروس. لقد كان األهالي ينظرون إلى األتراك العثمانيين على أنهم مجاهدون جاءوا للدفاع عن دار اإلسالم ،وحماية إخوانهم في الدين .فعمل األتراك العثمانيون طيلة فترة وجودهم على ترسيخ هذه الصورة وتثبيتها في واقعهم من خالل حركة الجهاد التي تزعموها ضد االحتالل اإلسباني.كما ذكرنا سابقا وبالرغم من حاالت استثنائية استجاب فيها بعض األهالي لدعوات التمرد التي قادها الزعماء المحليون ،إال أن االنطباع العام عن موقف األهالي كان مساندا للوجود العثماني بالجزائر. المصادر والمراجع: -1حمدان بن عثمان خوجة .المرآة ،ترجمة محمد بن عبد الكريم ،بيروت1972، -2عبد هللا شريط ،مختصر تاريخ الجزائر السياسي والثقافي واالجتماعي .الجزائر.1985 ، -3التلمساني .محمد بن عبد الرحمن .الزهرة النائرة فيما جرى للجزائر حين أغارت عليها الجنود الكافرة ،مخطوط بالمكتبة الوطنية الجزائرية رقم 2523 -4مؤلف مجهول ،غزوات عروج وخير الدين ،تحقيق نور الدين عبد القادر ،الجزائر .1934 1881 بيروت، المغرب الكبير،جالل يحي-5 إستانبول، تحفة الكبار في اسفار البحار،كاتب جلبي6 .1329 7-braudel les ispangnol et lafrique de nord.alger 1928 8-ismail hakki uzuncarsili osmanli tarihi turk tarih kurmu.ankara 1988 9-danismend ismail hami izahli osmanli tarihi kronolijisi .istanbul.1947 10-mehmet zeki pakalin .osmanli tarih deyimleri ve terimleri sozlogu istanbul 1993