Professional Documents
Culture Documents
net/publication/333024280
CITATIONS READS
0 6,925
2 authors, including:
SEE PROFILE
Some of the authors of this publication are also working on these related projects:
Project 8: Research, books, articles and achievements of participants in Researchgate Network (researchgate.net) ﻣﻨﺸﻮرات اﻟﺰﻣﻼء اﻟﻤﺸﺘﺮﻛﻴﻦ ﻓﻲView project
All content following this page was uploaded by Ehsan Ali Abdul-Ameer Al-Haidari on 11 May 2019.
1
deeds are evaluated, it contradicts the religious view prevailing
in most religious institutions, and not all of them, which state
that the moral value of human action stems from the source of
religious legislation, it also contradicts the social view that the
moral value of human action stems from social custom and
inherited tradition, as well as the utilitarian view that this value
is linked to the consequences of the humanitarian act.
المقدمة:
سأحاول في هذا البحث التحري عن ُكنه العالقة بين الدين واألخالق ،وقد
تكون عملية التحري غير ُمجدية لدى الكثيرين؛ ألن النتيجة معروفة ،وهي أن الدين
في مضمونه أخالق ،واألخالق نابعة من الدين ،لكن من ُينعم النظر يجد أن هذا
الفهم قد يخص الديانات السماوية؛ ألن كثي اًر من الديانات الوضعية وال سيما الشرقية
أُسست على األخالق وليس العكس صحيحاً ،ومثال على ذلك البوذية التي تُعد في
أساسها فلسفة أخالقية عند تأسيسها على يد بوذا ،واألتباع هم الذين حولوها إلى
ديانة وضعية عالمية ،حتى الديانات السماوية ال نستطيع القول :إن األخالق قد
نبعت منها فقط ،وان األخالق تؤسس على الدين وليس العكس صحيحاً ،فهذا نبي
اإلسالم محمد (ص) يقول« :إنما بعثت ألتمم مكارم األخالق»( ،)1ومن ينظر في
األمر يجد الشريعة المحمدية التي تُعد في نظر المسلمين الشريعة الخاتمة والناسخة
لكل الشرائع السابقة ،كانت في جوهرها تشتمل على مفهوم إتمام األخالق ال
صدى متفاوت النبرة والتردد على
ً إبداعها؛ لذلك كان للعالقة بين الدين واألخالق
صدى أكثر تفاوتاً عند
ً صعيد الديانات السماوية أو الوضعية ،وال غرابة في أن أجد
انتقالي إلى الرؤى الفلسفية؛ إذ وجدت فالسفة قد وحدوا بين الدين واألخالق ،وآخرين
فصلوا بينهما ،ومن جهة أخرى وجدت فالسفة قد جعلوا ميدان الدين سابقاً لميدان
مؤسساً على األخالق ،غير أن من أبرز من صال
األخالق ،وآخرين جعلوا الدين َ
وجال في موضوع صلة الدين باألخالق هو الفيلسوف األلماني كانط) ،)2وهو
2
الشخصية التي سأتناولها في هذا البحث ليمثل األنموذج المعبر عن العالقة الجدلية
بين الدين واألخالق.
خلود النفس ووجود اهلل:
طرح كانط رؤية فلسفية لألخالق تدعو إلى تأدية الواجب بوصفه غاية في
ذاته ،وذكر أن الدافع األعلى للعمل الخلقي هو الواجب من أجل الواجب ،ال الواجب
الذي ُيسفر عن مكافأة أو ثناء ،واال انحطت األخالق عن رتبتها؛ وهذا يؤدي إلى أن
لألخالق شأناً قائماً في ذاته ومستقالً عن الدين ،لكن كانط ال يقف عند هذا الحد ،إذ
سوغ األعلى للواجب ،فيتساءل عن جواز أن ُيض ّحي المرء بكل شيء
الم ّ
يبحث عن ُ
مسوغ لهذه التضحيات ويقدم في الوقت
من أجل الواجب؟! ووصل إلى قناعة بوجود ّ
نف سه معنى للحياة ،ووجد هذا المسوغ في مفهوم "الخير األقصى" ،لكن الخير
ال في هذه الحياة الفانية؛ لذلك ال بد من وجود حياة
األقصى ال يمكن تحقيقه كام ً
أخرى غير هذه الحياة تكون خالدة لتكتمل فيها صورة الخير األقصى ،وهنا تبدأ حالة
االنتقال من الواجب إلى اهلل ،ومن األخالق إلى الدين؛ ألن الخير األقصى بوصفه
مكافأة على الواجب غير ممكن بعيداً عن الكائن الخلقي األعلى الذي يضمنه،
فيتضح أن اإليمان بالخير األقصى المتمثل بالفضيلة والسعادة ُيفضي إلى اإليمان
بوجود اهلل(.)3
فسبب اإليمان بوجود اهلل ـ ـ بحسب رؤية كانط ـ ـ هو أن السعادة تمثل حالة
للكائن العاقل (اإلنسان) في العالم الحسي ،وتتوقف هذه الحالة على اتفاق الطبيعة
وارادة هذا الكائن العاقل ،وأمله في تحقيق الخير األقصى ،لكن هذا االتفاق ال يمكن
أن يتوصل إليه بنفسه؛ ألن القانون األخالقي الذي تُصدره إرادته مستقل عن الطبيعة
التي تحيط به ،كما أنه مستقل عن اتفاق هذه الطبيعة وأمله ،واذا كان ذلك الكائن
العاقل علة للقانون األخالقي بموجب حريته ،فهذا ال يعني أنه علة الطبيعة التي
ترتبط بها سعادته وهذا ما يؤدي إلى ضرورة وجود علة لكل الطبيعة تسمو عليها
وتملك مبدأ هذا االتفاق ،أي يكون بيدها سر الصلة بين الفضيلة والسعادة ،وتلك
العلة متمثلة باهلل(.)4
3
يعتقد كانط أن وجود عالم آخر يأتي بعد انتهاء عالمنا الحسي ،يمثل ضرورة
نابعة من مبدأ الكمال األخالقي الذي يسعى إليه العقل العملي ،إذ ال يمكن أن
يتحقق ذلك الكمال في هذه الحياة الدنيا ما دامت ميول اإلنسان الحسية تعرقل
سيطرة الواجب عرقلة متواصلة ،فاإلنسان مركب من طبيعتين متباينتين ،وهو يعجز
عن أن يصير قديساً باإلطالق عن طريق رقيه رقياً غير نهائي حتى يقترب من
القداسة؛ بسبب تغليبه الواجب على الميل والشهوة والمنفعة والعاطفة ،وهذا االقتراب
غير النهائي ال يمكن أن يحصل إال إذا أمكن دوام شخصيتنا ،أي إال إذا كانت
النفس اإلنسانية خالدة؛ ألن االنسجام بين الفضيلة والسعادة ال يمكن تحقيقه في
عالمنا الحسي (عالم الظواهر) ،وال بد من وجود حياة ثانية غير هذه الحياة الحسية
يحقق المرء فيها كماله ،وينال الثواب والعقاب اللذين يستحقهما بحسب أعماله
وأفعاله؛ لذا ينبغي لنا أن نسلّم بخلود النفس وان كنا ال نستطيع أن نعرف شيئ ًا عن
هذه النفس ،وال عن حياتها األخرى(.)5
إن البرهان األخالقي على وجود اهلل فرض ال تستقيم األخالق الكانطية إال
الخلقية تُسفر عن إيمان معقول بحقائق معينة ال يمكن أن يبرهن عليهابه ،فالتجربة ُ
الميتافيزيقيون وهي" :الحرية" و"خلود النفس" و"اهلل" ،وهي الفرضيات التي تقوم عليها
األخالق ،فال معنى لتأدية الواجب وال للمسؤولية عن تأديته أو عدم تأديته ما لم يكن
ويضحي بكل شيء في سبيله ،وال معنى في اإلنسان ح اًر؛ ليختار هذا الواجب ُ
ا لنهاية لهذه التضحية ،إال في سعادة كاملة يحصل عليها اإلنسان في حياة أخرى،
وهي حياة غير ممكنة إذا لم يكن اهلل موجوداً ،واذا كانت هذه المبادئ لم تجد ركيزة
في العقل النظري ،فقد وجدتها في العقل العملي ،فالقانون األخالقي ال يقوم بال هذه
الحقائق؛ وعلى هذا األساس يكون كانط قد أدخل إلى فلسفة الدين ما أسماه أحياناً
"الالهوت األخالقي" ،ومعناه أن القوانين األخالقية تفترض وجود اهلل ،إال أن العقل
ُيصحح مفاهيمنا عن اهلل بعد افتراض وجوده عملياً ،فإذا كان هو الذي يمنحنا
السعادة مكافأة على الفضيلة ،فهو كذلك مانح القانون المطلق ،أي أن الواجبات كلها
شرع المطلق ومانح القانون األخالقي الذي يستحق كل
الم ّ
تمثل أوامر إلهية ،فاهلل هو ُ
4
ويعلن القانون األخالقي عن نفسه في صوت الضمير الذي يمثل
إجالل واكرامُ ،
صوت اهلل(.)6
فالقانون األخالقي ـ ـ بحسب التعبير الكانطي ـ ـ يقودنا عبر مفهوم الخير
األقصى ـ ـ بوصفه موضوع العقل العملي المحض وغايته النهائية ـ ـ إلى الدين ،أي
إلى معرفة كل الواجبات بوصفها أوامر إلهية ال بوصفها عقوبات ،أي إنها اختيرت
بوصفها أحكاماً متوقفة على إرادة خارجية ،فضالً عن أنها قوانين جوهرية لكل إرادة
حرة من أجل ذاتها ،لكن مع ضرورة أن ُينظر إليها على أنها أوامر الكائن األسمى؛
ومنانة) ،وفي
ألنه ال يمكننا أن نعقد األمل إال على إرادة كاملة أخالقياً (مقدسة ّ
الوقت نفسه كلية القدرة ،وهكذا منسجمين مع هذه اإلرادة يمكننا أن نأمل الوصول
إلى الخير األقصى الذي يوجب القانون األخالقي علينا أن نجعله موضوع جهدنا،
ومؤسساً على الواجب فحسب ،ومن غير
َ ويبقى كل شيء هنا خالصاً من كل غرض
لدم ار كل
أن يسمح لدافعي الخوف واألمل بأن يكونا في أساسه ،فلو أصبحا مبدأين ّ
القيمة األخالقية(.)7
إن األخالق ـ ـ من وجهة نظر كانط ـ ـ ليست في حقيقتها المذهب الذي يعلّمنا
كيف نجعل أنفسنا سعداء ،بل الذي يعلمنا كيف نجعل أنفسنا جديرين بالسعادة،
وحين ُيزاد عليها الدين يتغلغل إلى نفوسنا األمل في أن نشارك ذات يوم في السعادة،
بالقدر الذي سعينا به في حياتنا الماضية ،وهنا يتضح أثر الدين في األخالق بعد أن
اتضح أثر األخالق في الدين ،إذ إن األمل في تحصيل السعادة ال يبدأ إال مع
الدين ،كذلك تتضح لنا اإلجابة عن سؤال ُيطرح دوماً يتعلق بغاية اهلل من خلقه
العالم ،وعندها ال نستطيع أن نقول إن اإلجابة تكمن في سعادة الكائنات العاقلة في
هذه الدنيا ،ولكنها تتجلى في مفهوم الخير األقصى ،أي أخالقية هذه الكائنات ،تلك
األخالقية التي تشتمل وحدها على مقياس يمكن به أن تأمل تلك الكائنات المشاركة
في السعادة بفضل خالق حكيم؛ لهذا فإن الذين جعلوا غاية الخليقة تمجيد اهلل ،قد
مجد اهلل غير ما هو األجدر بالتقدير في العالم،
وجدوا التعبير األصدق؛ ألنه ال ُي ّ
وأعني بتمجيد اهلل احترام أوامره ومراعاة الواجب المقدس الذي تفرضه علينا شريعته،
في حال ِّتو َجت هذه األوامر الجميلة بسعادة تناسبها(.)8
5
في ضوء ما سبق نجد أن كانط يميز بين نوعين من الخير :خير طبيعي
وخير أخالقي ،والخير الطبيعي هو السعادة بوصفها جملة مسرات حسية ،أما الخير
األخالقي فهو الفضيلة وقوامها الجهود التي تبذلها اإلرادة للتحرر من أسر الحواس؛
ولما كان العقل يميل بطبعه إلى
كي تستطيع القيام بأعمالها احتراماً للقانون وحدهّ ،
الوحدة ـ ـ بحسب رأي كانط ـ ـ فهو يود أن يوجد هذين النوعين من الخير ويرجعهما
إلى مبدأ واحد هو الخير األقصى ،فإذا أردنا أن نوفق بين السعادة والفضيلة؛ وجب
علينا التسليم بوجود الحارس األخالقي األعلى ،العالم بكل شيء ،والقادر على أن
يعرف معرفة دقيقة ما يستحقه كل إنسان ،أي أن نسلم بوجود اهلل تسليماً ،وبأن وجود
اهلل ُيعد موضوعاً من الموضوعات التي يفرضها علينا العقل العملي ،وال مندوحة لنا
منزه عن عالم
عن قبولها وان تعذر الوصول إلى فكرة واضحة عن اهلل؛ ألن اهلل ّ
الظواهر ،في حين أن معرفتنا محدودة قاصرة ال يمكن أن تتجاوز هذا العالم
الظاهر(.)9
تأسيس الدين على األخالق:
يؤسس على األخالق وليس العكسيرى كانط أن الدين العقلي المحض َ
مؤسساً على
تؤسس على العقل؛ ومن ثَم يكون هذا الدين َ
صحيحاً ،وأن األخالق َ
ال عن االلتزام
العقل ،لذلك يرفض كانط أن تكون ممارسة الشعائر والعبادات بدي ً
الخلقي؛ ولهذا جعل العبادة الحقيقية كامنة في السلوك ال ُخلقي القويم النابع عن
اإلرادة الحرة والتشريع الذاتي للعقل العملي المحض ،وليس معنى أن العبادة الحقيقية
عند كانط تكمن في السلوك األخالقي أن اهلل يحتاج إلى العبادة أو أن لديه رغبة في
ذلك ،فاهلل جدير بأن يكون موضوعاً للعبادة عن طريق االلتزام الخلقي من غير أن
ننسب إليه شيئاً من ذلك القبيل ،ويجب أن ال نفهم أن اهلل لديه رغبة أو ميل في أن
شرف مقابل خلقه العالم ،إذ إنه فعل ذلك ألسباب موضوعية ال لدوافع
وي ّ
مجد ُ
وي ّ
كرم ُ
ُي ّ
ذاتية ،فعل ذلك من منطلق كرمه وفضله ونعمته ،لم يفعله ألنه يريد تكريم نفسه؛
وعلى هذا فإن العبادة الحقيقية تكمن في االلتزام بالقانون األخالقي للعقل العملي
المحض ،وال تكمن في ممارسة طقوس وحركات شكلية(.)10
6
إذا كان الدين عند كانط يتحدد في االعتراف بجميع الواجبات األخالقية
بوصفها أوامر إلهية ،فإن هذا ال يعني أن األخالق تمثل فروضاً متعسفة إلرادة
خارجية أو تمثل فروضاً عرضية في ذاتها ،بل هي قوانين أساسية لكل إرادة حرة في
نعدها أوامر لكائن أعلى؛ وذلك لكونها صادرة عن
ذاتها ،وهذه القوانين يجب أن ّ
نعد تلك القوانين أو
إرادة كاملة خلقياً وكاملة القدرة في الوقت نفسه ،وينبغي ّأال ّ
الواجبات واجبات تجاه اهلل ،بل هي واجبات نراعي فيها اهلل؛ ألن اهلل هو غاية
الغايات ،ومن كان كذلك فليس من المعقول أن ينتظر منا شيئاً ،كما أن الواجب
يكون تجاه اإلنسان بوصفه ممثالً اإلنسانية العاقلة ،أما اهلل فهو منتهى الغايات
والهدف األقصى؛ ومن ثَم غني بذاته وال يحتاج إلينا أو إلى أي واجب .وهكذا فإن
السلوك األخالقي واجب نراعي فيه حق اهلل وليس واجباً نؤديه هلل ،وهو في الوقت
قدم على ممارسة الطقوس والشعائر والمناسك؛ لكونه يشتمل على المعنى نفسه ُم ّ
األمثل للعبادة الحق في مقابل العبادة الزائفة التي تحول فيها الطقوس والشعائر
موضوع العبادة صنماً ومن ثَم يصبح الدين وثنياً ( ،)11وال يقصد كانط هنا بالوثنية
عبادة األصنام الحجرية أو ما شاكلها ،بل يقصد أن إرضاء اهلل بالطقوس والشعائر
والقرابين من غير االلتزام الخلقي يجعل اهلل يبدو وكأنه صنم (.)12
يعتقد كانط أن العبادة الصحيحة هي تلك العبادة التي تُركز على الفضيلة
ونقاء الضمير واتساق الظاهر والباطن ،وليست العبادة التي تركز على الطقوس
والشعائر ،ولقد حاول تحرير الدين من المضامين التاريخية الوضعية التي زرعتها
بعض المؤسسات الدينية ،التي تُسهم في إبعاد المؤمن عن الدين العقلي المحض،
بتقديمها للعبادات الظاهرية والفروض والطقوس والشعائر والمناسك على الفضيلة
األخالقية النابعة من التشريع الذاتي للعقل العملي المحض ،وبهذا القلب لألولوية
كبل باألغالل ،مع أن الحرية اإلنسانية ضرورية للدين
تُ ّقيد الحرية اإلنسانية وتُ ّ
مؤسساً على األخالق ،ويؤدي قلب األولويات هذا إلى ما
َ الصحيح؛ لكونه ديناً
يسميه كانط "العبادة الزائفة" التي تسعى إلى نيل اللطف اإللهي بطرائق ال عالقة لها
بالفضيلة األخالقية؛ ألنها تقوم على االلتزام الشكلي الصوري ،وعلى الطقوس
الهوة بين الدين العقلي
والشعائر التي ال تتجاوز دائرة الحركة الجسدية ،وتتسع ّ
7
المحض والمؤسسة الدينية التاريخية إلى أقصى حد لها في ما يتعلق بالنظر إلى
الطقوس والشعائر؛ إذ يحكم كانط على المؤسسة الدينية التاريخية بأنها مؤسسة
تسودها عبادة زائفة ،نجدها دائماً هناك حيث ال توجد مبادئ لألخالقية ،إنما توجد
أوامر تنظيمية وقواعد إيمانية وفروض هي الجوهر واألساس لها .وتوجد أشكال
عديدة من مؤسسات العبادة تشتمل على النزعة الوثنية أو الصنمية بشكل متنوع
وآلي ،إلى درجة تبدو وكأنها تكاد تستبق كل أخالقية ،ومن ثَم تستبق كل دين وتحل
محله؛ وبهذا تقترب كل االقتراب من الوثنية (.)13
كذلك ينكر كانط مشروعية الدعاء ،إذ يرى أن الداعي يعتقد أن اهلل ذو وجود
مشخص أو أنه شخص ،مع أن هذا األمر ال يمكن إثباته ،واعالن الداعي عن ّ
رغباته أمام اهلل يكشف عن تناقض؛ فهو ُيعلن عنها أمام كائن ُيفترض فيه أنه ال
ٍ
إعالن عن المشاعر الداخلية؛ لعلمه بكل شيء ،غير أن الجدير باإلشارة يحتاج إلى
هو أن كانط يحاول أن يلتمس مشروعيةً ما للدعاء ،ال تتمثل في التأثير في اهلل ،وال
في اإلقرار بأن الدعاء من الواجبات األخالقية نحو اهلل ،وال في أنها تحقق رضاه،
إنما في إحياء الشعور األخالقي فحسب ،أي أن اإلنسان حين يدعو ال يؤثر إال في
نفسه بإعطائها دفعة شعورية نحو االلتزام الخلقي عن طريق استدعاء اهلل ،ومع ذلك
فإن كانط يرفض في ك ل األحوال استعمال األلفاظ والنطق بها ،ويكتفي بتأكيده النية
الباطنة .وهكذا نرى الدين العقلي المحض عند كانط ديناً خالياً من الدعاء والطقوس
والشعائر والمناسك؛ ألنه في جوهره عمل بالقانون األخالقي ،إذ إن السلوك األخالقي
شرعه العقل لذاته بذاته هو العبادة الحقيقية ،في حين
النابع من أداء الواجب الذي ّ
كنسية يقضي على حرية اإلنسان؛ ألنها غير ّ أن الخضوع لطقوس وشعائر ولوائح
مشتملة على قيمة أخالقية ،كما أن اإليمان بشيء غير مستنبط من العقل ومنتم إلى
عقائد أبلغتنا ّإياها الرواية التاريخية ،ال يستند إلى برهان كلي ودائم؛ ألن ُحجية مثل
هذه العقائد حجية مؤقتة تتعلق بزمن ظهور ذلك الدين ألولئك الذين عاصروه
وشاهدوا معجزاته ،أما الذين لم يعاصروه فليسوا ُملزمين بذلك ،ومحاولة إلزامهم
بإيمان تاريخي فيها قضاء على حريتهم العقلية واألخالقية(.)14
8
تأويل النصوص الدينية:
يضع كانط أربعة مبادئ فلسفية لتأويل النصوص المقدسة حين يقع الخالف
بين صريح المعقول وصحيح المنقول ،وهي (:)15
يلزم تأويل أي نص ديني متضمن لعقيدة متعدية على حدود العقل .1
المحض ،بشكل يجعلها في دائرته وداخل حدوده النظرية والعملية على السواء،
بحيث تأتي متضمنة لقيمة خلقية ذات تأثير في الحياة ،وفي هذا المجال يجب فهم
تقرب التصور اإللهي لإلنسان االعتيادي ،وأنهاأية عقيدة تشبيهية على أنها تريد أن ّ
ال تنص حقيقة على أية مشابهة بين اهلل واإلنسان ،ومن ثَم ينبغي تأويلها تأويالً
تنزيهياً ،كذلك ينبغي تأويل النصوص المتعلقة باإلرادة اإلنسانية وسبق القدر اإللهي
في ضوء تأكيد حرية اإلنسان ومسؤوليته؛ كي تتقوى األسس النظرية إلقامة
األخالق ،فمن غير الحرية والمسؤولية ال يمكن قيامها ،ومثال على ذلك :عقيدتا
تجسد ،فهما عقيدتان يلزم إعطاؤهما معنى أخالقياً ،واال فلن تكون لهما
التثليث وال ّ
()16
10
فكرة الفادي بوصفه القادم إلينا من السماء كي يخلصنا من خطيئة ارتكبها آباؤنا،
فالخطيئة التي طُرد من أجلها آدم من الجنة ليست خطيئتنا ،فضالً عن كوننا لم نقم
بعملية الفداء ،ولكي يخفف كانط من وطأة موقفه على عامة المؤمنين بعقيدة الفداء؛
يؤولها كي تصير مقبولة في حدود العقل المحض ،فيصرح بأن الفداء رمز لعملية
التسويغ التي يقوم بها اإلنسان التائب أمام اهلل ،ومن ثَم يتحمل اآلالم التي نتجت
عن أفعاله الشريرة ،وفي هذا يتمثل الرمز في عقيدة آالم المسيح ،وأن موت اإلنسان
القديم هو موت للنية الشريرة ،وصلب الجسد يرمز إلى وأد الشهوات غير الطيبة(.)20
ويؤول كانط فكرة ابن اهلل والكلمة والفادي للبشر تأويالً عقلياً أخالقياً محضاً،
وعلى النحو اآلتي :ابن اهلل أو كلمة اهلل أو اهلل المتجسد في إنسان ،يمثل المثل
األعلى للكمال األخالقي لإلنسانية ،وان فكرة المثل األعلى للكمال األخالقي
لإلنسانية قائمة في عقلنا وعلينا االلتزام بها ،وال بد لكل إنسان من أن يجد في نفسه
مثاالً على هذه الفكرة التي يوجد أُنموذجها األعلى في العقل ،وان ُيسائل نفسه:
أصحيح أن إنساناً من هذا النوع مزود بمشاعر إلهية قد نزل حقاً على ٍ
نحو ما من
السماء إلى األرض ،وأعطى بمذهبه وسلوكه وآالمه أنموذجاً لإلنسان المرضي عند
اهلل ،وأحدث في العالم خي اًر أخالقياً ضخماً بثورة أحدثها في الجنس البشري ،فال
محل ألن نصفه بأكثر من كونه إنساناً ولد والدة طبيعية ،ومع ذلك فلسنا نريد بهذا
أن ننكر إنكا اًر مطلقاً إمكان والدته والدة خارقة للطبيعة ،لكن من الناحية العملية ال
يكون لهذا الفرض األخير (الوالدة الخارقة للطبيعة) أية فائدة؛ ألن األنموذج األعلى
الذي نجعله أساساً لهذه الظاهرة يجب أن ُيبحث عنه بالضرورة في داخل قدراتنا ـ ـ
وان كنا أناساً طبيعيين ـ ـ ثم إن وجوده في النفس اإلنسانية غير مفهوم في نفسه،
بدرجة تصل إلى حد اإلقرار بتجسده في إنسان خاص ،بل األمر على العكس من
ذلك ،فرفع قديس كهذا فوق كل عجز الطبيعة اإلنسانية؛ سيكون عقبة في نظرنا أمام
التطبيق العملي لفكرته المقترحة في محاكاتنا إياه ،لذلك يكون من األفضل أن
نتصور ميالد هذا اإلنسان (األنموذج األعلى) ميالداً طبيعياً؛ ألن تصور ميالده
ميالداً خارقاً للطبيعة سيحول بينه وبين أن يكون قدوة لإلنسان الطبيعي ،واال فإن
اإلنسان الطبيعي سيطالب عندها بإعطائه اليقين التام لمشاركته في حياة أبدية
11
لتحمل كل أنواع
ّ سعيدة بعد قضاء مدة زمنية على األرض؛ كي يكون مستعداً
العذاب واآلالم مهما كانت قسوتها ،ما دام سيحظى بعد ذلك بالنعيم األبدي(.)21
إن الغرض األساس من قراءة الكتب المقدسة والبحث في مضمونها؛ هو
لجعل البشر في وضع إنساني أفضل ،ويؤكد كانط أن الكتب المقدسة ـ ـ على ما
بينها من فروق ـ ـ تتضمن جانبين :األول قواعد اإليمان التاريخي ،والثاني بواعث
اإليمان األخالقي النقي الذي يش ّكل وحده عنصر الدين الحقيقي في كل إيمان؛ لذلك
فإن كل فحص وتأويل للكتب المقدسة يجب أن يكون بحثاً عن بواعث ودوافع
اإليمان األخالقي النقي ( ،)22ويشير كانط هنا إلى األمر اإلنجيلي« :تتصفحون
الكتب ،تظنون أن لكم فيها الحياة األبدية فهي التي تشهد لي» (.)23
مفهوم الشر:
من الخطأ الفادح ـ ـ بحسب رؤية كانط ـ ـ أن ُيقال :إن الشر األخالقي ينتقل
ورثها آدم أبناءه جيالً
بالوراثة من اآلباء إلى األبناء ،أي القول بالخطيئة األولى التي ّ
بعد جيل حتى اليوم عند البحث عن األصل الزماني للشر ،وهو ما تقر به العقيدة
المسيحية؛ لهذا رأى الحكاية الواردة في الكتاب المقدس عن الخطيئة األصلية
المتوارثة تمثل تصوي اًر مجازياً ،ولو فُهمت فهماً عقلياً سليماً لتبين أنها تؤكد أن كل
فعل شرير إذا بحثنا عن أصله العقلي يجب أن ُيعد كما لو كان اإلنسان قد وصل
إليه مباشرة ابتداء من حالة البراءة؛ ألنه أياً كان سلوكه السابق وأياً كانت األسباب
السابقة التي أثرت فيه سواء أكانت في داخل نفسه أم في خارجها فإن ذلك ال يهم،
ألن فعله مع ذلك يبقى ح اًر ،وكان عليه ّأال يرتكبه مهما كانت الظروف الزمانية
واالرتباطات ؛ لعدم وجود علة في العالم تجعله يتوقف عن أن يكون كائناً فاعالً ح اًر،
لهذا ينبغي أن ال نبحث عن األصل الزماني لهذا الفعل ،وانما عن أصله العقلي
فقط؛ لنحدد الميل (األساس الذاتي) الذي جعلنا ننتهك قاعدتنا األخالقية ونفسره (.)24
ُيصرح كانط بأن التوبة هي نبذ الشر والولوج في الخير ،وبأن اإلنسان
يتخلص بهذه العملية من صورته السابقة ويصير إنساناً جديداً؛ ألن المرء عندها
سيتخلص تماماً من حالة الخطيئة ،ومن ثَم يتخلص من كل الرغبات التي تدفعه إلى
الخطيئة كي يعيش طبقاً للعدالة ،وعلى الرغم من هذا فإنه ال يوجد فعل أخالقي
12
منفصل عن فعل أخالقي آخر زمنياً ،والتوبة هي التي تجعلهما أم اًر واحداً ،ونبذ
الخيرة التي تُعد سبب الدخول إلى الخير
الشر ليس باألمر اليسير إال بفضل النية ّ
الخير متضمناً في نبذ الشر ،مثلما هو متضمن والعكس صحيح؛ لذلك يكون المبدأ ّ
في قبول النية الخيرة ،وينبع األلم المالزم للفعل األول من الفعل الثاني ،ونبذ النية
الشريرة لصالح النية الخيرة يمثل تضحية وبداية لمجموعة متوالية وطويلة من
مصائب الحياة التي يعانيها اإلنسان الجديد طبق ًا لعقلية ابن اهلل ،أي في سبيل حب
اء له ،أي إلى اإلنسان
الخير فقط ،وهي مصائب ترجع إلى إنسان آخر بوصفها جز ً
السابق؛ ألن هذا اإلنسان قد أصبح إنساناً جديداً مختلفاً أخالقياً ،فاإلنسان من
الناحية الجسدية (بوصفه كائناً ُم َح ّس تجريبياً) ،هو ذلك اإلنسان الخاطئ الذي
ينبغي أن يمثُل للمحاكمة أمام محكمة أخالقية ثم أمام نفسه ،لكنه بعد التوبة سيكون
ٍ
قاض إلهي ،والنية إنساناً آخر أخالقياً (بوصفه كائناً عقلي ًا) في نيته الجديدة أمام
تقوم في تقديره مقام الفعل ،وهذه النية في طهارتها مثل نية ابن اهلل الذي تقبله بنفسه
شخصة ـ ـ الذي يتحمل نجاسة
أو هي هذا االبن نفسه ـ ـ إن جعلنا هذه الفكرة ُم ّ
الخطيئة في سبيله ،وفي سبيل كل الذين يؤمنون به عملياً؛ بوصفه بديالً مرضي ًا
لهذه العدالة اإللهية ،وبوصفه مخلّصاً يتحمل اآلالم والموت ،ومتّبع ًا طريقة المحامي؛
ليساعدهم في تبرئة أنفسهم أمام قاضيهم ،لكن عند التمثيل فإن اآلالم التي يجب أن
وصورت في حالة
يتحملها اإلنسان الجديد الذي تخلص كلياً من اإلنسان القديمُ ،
تحمل مرة واحدة عوضاً عن جميع المرات ممثل اإلنسانية على أنها موت ،تُ ّ
األخرى(.)25
لقد فتح كانط المجال أمام المسؤولية الذاتية وحرية اإلرادة اإلنسانية عند بحثه
عن مصدر الشر في العقل ،وجعل اقتراف اإلنسان للفعل الشرير يأتي بعد استواء
إمكان الخير وامكان الشر وهي حالة البراءة ،وتظل حالة االستواء األخيرة غير
قابلة لالنتهاء؛ ألن اقتراف الشر والوقوع في الذنب يمكن تجاوزه دوماً وفي كل وقت
الخيرة ،ويمكن العودة تارة أخرى إلى حالة البراءة األولى،
ّ عن طريق األفعال
فالصراع بين مبدأي الخير والشر للسيطرة على اإلنسان يمكن أن يتجدد في أية
لحظة ،ويستطيع اإلنسان أن يحقق انتصار مبدأ الخير على مبدأ الشر بأن يصبح
13
مؤسساً على قوانين الفضيلة ،مجتمعاً
ح اًر من أسر قانون الخطيئة؛ ُلينشئ مجتمعاً َ
ُيقيم حكومة اهلل األخالقية وينتصر على الشر ،وليس هذا الحكم اإللهي حكم رجال
الدين ،بل حكم المبادئ األخالقية العقلية التي بها يتحقق انتصار الخير على الشر
وانشاء مدينة اهلل األخالقية في العالم ،لكن تأسيس مملكة اهلل األخالقية ال يأتي
مباشرة ،إنما يأتي بعد تحوالت عدة ،تبدأ من حالة الطبيعة بالنظر إلى األخالق وهي
مهددة بالحقد والنزوع للسيطرة والنزاع والتنافس واإلفساد المتبادل؛ وذلك يحتم االنتقال
والدخول في اتحاد أخالقي أو جماعة أخالقية شاملة ،وهذا االنتقال ال يقوم على عقد
اجتماعي فقط ،بل على عقد اجتماعي أخالقي ،فكانط هنا يؤكد قيام مجتمع مدني
أخالقي ال مجتمع مدني قانوني ،مجتمع يقوم على قوانين العقل والفضيلة ويحكمه
مبدأ الخير ،ويمثل هذا المجتمع اتحاداً أخالقياً يقوم على مبادئ العقل في إلزامها
الكلي ،ويسوده دين أخالقي ،وتنتشر فيه النزعة العالمية المتميزة من النزعة القومية
أو االتحاد السياسي(.)26
مفهوم الجماعة األخالقية:
إن مفهوم شعب اهلل عند كانط مرادف لمفهوم الجماعة األخالقية التي تحكمها
القوانين األخالقية ،ومن أجل تكوين هذه الجماعة؛ ال بد من أن يخضع جميع األفراد
توحد القوانين بينهم جميعاً ،وأن تمثل هذه القوانين أوامر صادرة
لتشريع عام ،وأن َ
عن مشرع مشترك ،واذا كانت الجماعة قانونية فالمشرع عندها سيكون المجموع،
والتشريع سيقوم على أساس الحد من حرية كل فرد عن طريق إخضاعه للشروط
التي تم ّكنه من التعايش مع حرية اآلخرين على وفق قانون عام ،لهذا تقرر اإلرادة
العامة قه اًر شرعياً خارجياً لكفالة تحقيق هذا المبدأ ،أما إذا كانت الجماعة أخالقية،
المشرع؛ ألن الغرض من
فال يمكن جعل الشعب بما هو شعب أن يكون في مقام ُ
القوانين في الجماعة األخالقية تقويم األخالق؛ لذلك ال بد من وجود موجود آخر
غير الشعب يتولى التشريع للجماعة األخالقية ،ومع ذلك ال يمكن تصور أن القوانين
األخالقية مستمدة فقط في األصل من إرادة هذا المشرع األعلى كما لو كانت لوائح
ال تلزم إال إذا ُسبقت بأمر صادر عنه ،واال لن تكون حينئذ قوانين أخالقية ،ولن
يكون الواجب المطابق لها فضيلة حرة ،بل سيكون التزاماً قانونياً قابالً للقهر؛ لهذا ال
14
يمكن تصور المشرع األعلى للجماعة األخالقية سوى ذلك الكائن الذي تُعد كل
الواجبات األخالقية أوامر له ،لذا يجب أن يكون هذا المشرع األعلى عالماً بخفايا
القلوب ،وذلك هو مفهوم اهلل من حيث هو الحاكم األخالقي للكون؛ لذلك ال يمكن
تصور الجماعة األخالقية إال شعباً تحكمه قوانين إلهية يمثل شعب اهلل المطيع
للقوانين األخالقية(.)27
وتتمثل فكرة الجماعة األخالقية القائمة على التشريع األخالقي هلل في صورة
كنيسة ،وهي ليست هذه الكنيسة التاريخية الحسية الموجودة في زمان ومكان معينين،
بل الكنيسة غير المرئية من حيث هي أُنموذج للكنائس المرئية ،يرأسها رئيس غير
مرئي ،وال ُيشبه نظامها األنظمة السياسية ،فهي ليست نظاماً ملكياً تحت سلطة البابا
أو نظاماً أرستقراطياً تحت سلطة األساقفة واألحبار أو نظاماً ديمقراطياً كما تتصور
بعض الطوائف الشرقية ،بل هي أسرة يرعاها أب أخالقي غير مرئي ،ارتبط
أعضاؤها بدم ابنه ،أي إنها تمثل ارتباطاً قلبياً شامالً ودائماً ،وتتصف هذه الكنيسة ـ ـ
توحد أفرادها على الرغم من تنوع آرائهم ،وتتصف ـ ـ من
من حيث الكم ـ ـ بكونها كلية ّ
حيث الكيف ـ ـ بنقاء البواعث أو الدوافع األخالقية وال مكان فيها للتعصب والخرافة،
وتتصف ـ ـ من حيث اإلضافة ( العالقات الداخلية والخارجية) ـ ـ بالحرية ،وأخي اًر
تتصف ـ ـ من حيث الجهة ـ بثبات نظامها وعدم تغير دستورها وعدم خضوعها
للتغيرات الطارئة والظروف العارضة؛ ألنها تقوم على مبادئ قبلية ،واذا كانت ثمة
صعوبة تقف أمام تحقق هذه المملكة غير المرئية فهي أن اإلنسان بطبيعته الضعيفة
يعجز عن التمسك بفضيلة عقلية محضة في سبيل مملكة عادلة غير مرئية ،وعلى
أساس هذا القصور أو العجز تُقيم الكنيسة المرئية هيكلها ومؤسساتها ونظامها،
بوصفها أدوات إلقامة الدين العقالني الخالص وتطبيق مبادئه ووصاياه ،وعند تحليل
الكنسية المرئية الحالية وقوانين إيمانها في جوهرها وهيكلها الشعائري
ّ األنظمة
مؤسسة على األخالق ،وتكتسب شرعيتها فقط
والطقسي ،يظهر أنها في نفسها غير َ
من ضعف الطبيعة اإلنسانية وقصورها وعجزها عن التمسك بمملكة غير مرئية(.)28
15
الفرق بين الدين األخالقي والدين التاريخي:
يميز كانط العبادة الحقيقية من العبادة الزائفة ،فاألخيرة تعمل على قلب
الترتيب بين العبادة والسلوك األخالقي ،فتجعل العبادة قبل السلوك أو بديالً عنه،
وهو أمر تمارسه المؤسسة الدينية القائمة على أمور الدين ،ويعتقد كانط أن الفروض
الدينية ال يمكن أن تكون مرضية عند اهلل إال من أجل السلوك األخالقي ،ومن الوهم
في الدين أن نجعل مراعاة العبادات هدف اإلنسان وغايته ،والشرط الذي بمقتضاه
يحول عبادة اهلل إلى
يكون اإلنسان مقبوالً عند اهلل وخليقاً بلطفه ،ومن يفعل ذلك ّ
مجرد خرافات ،وعبادته حينها ستكون كاذبة ،ومن شأنها أن تُصيب باإلخفاق كل
تطبيق يهدف إلى الدين الصحيح .وتميز الثقافة المستنيرة بين العبادة والسلوك
األخالقي ،جاعلة ّإياه قبلها ،وبه تصبح عبادة اهلل عبادة حرة أوالً ،وأخالقية ثانياً؛
سيفضي إلى أن يسلط اإلنسان على نفسه نير قانون تنظيمي واالنحراف عن هذا ُ
(العبادات) بدالً من حرية أبناء اهلل ،وهذا القانون التنظيمي من حيث هو إلزام مطلق
باعتقاد شيء ال يمكن أن ُيعرف إال تاريخياً ،إذ ال يستطيع إقناع الناس جميعاً؛ لهذا
يصير ني اًر أثقل من كل الفروض ،ومن ثَم سنجد المؤسسة الكهنوتية تسودها عبادة
زائفة بعيدة عن المبادئ األخالقية ومملوءة باألوامر التنظيمية والقواعد اإليمانية؛
وستصبح تلك الفروض ممثلةً جوهر الدين(.)29
ويميز كانط بين اإليمان الديني واإليمان التاريخي ،فاألول يتمثل باإليمان
الفلسفي القائم على العقل واالقتناع الشخصي ،ويتجلى هذا اإليمان في السلوك
الخلقي والعمل الصالح ،أما الثاني فيتمثل باإليمان الكنسي القائم على الكتاب
النظم العقائدية ،ويتجلى هذا اإليمان في
المقدس والمأثور من أقوال رجال الدين و ُ
ممارسة الطقوس والشعائر .كذلك يميز كانط بين الكنيسة الشاملة القائمة على
اإليمان الديني (اإليمان العقلي الخلقي) ،والكنيسة الزمنية القائمة على اإليمان
التاريخي؛ ألن اإلنسان قد يحتاج إلى عقيدة تاريخية تقوم على وقائع حسية وتجارب
تاريخية تعطي اإليمان أساساً واقعياً ،فضالً عن أساسه المثالي العقلي ،فتنشأ فكرة
الطقوس بجوار دين األخالق؛ وعندها سيكون ثمة طريقان لطاعة اهلل :طريق
األخالق كما هو الحال في اإليمان العقلي ،وطريق الشعائر والطقوس كما هو الحال
16
في اإليمان التاريخي ،وحقيقة األمر أن الدين واحد وهو دين األخالق ،الدين الذي
ُيعلن بمفرده قيام ملكوت اهلل؛ ألن اإليمان الديني القائم على العقل وحده الذي
يستطيع أن يؤسس الكنيسة الحقيقية (الكنيسة غير المرئية) ،ووحده الذي يؤدي إلى
النعيم األبدي؛ ألنه إيمان عقلي محض ،أما اإليمان التاريخي فيوقع اإلنسان في
العبودية فقط ،وهو إيمان األجير الذي يقوم على الخوف والرجاء من غير أي وازع
خلقي أو أي تطبيق للواجب(.)30
دية المشتملة على النزعة الزائفة،
التعب ّ
ُ توجد أشكال متعددة من المؤسسات
التي تحاول استباق المبادئ األخالقية ـ ـ من وجهة النظر الكانطية ـ ـ لتضع على وفق
معاييرها المبدأ األعلى ،فتفرضه على المؤمنين ،ومن ثَم تختفي حالة الشعور الحر
تجاه القانون األخالقي؛ ألن المبدأ األخالقي الجديد خاضع لعقيدة زائفة وليس
مؤسساً على عقيدة صحيحة ،وعندها ال يهم أن يكون عدد الفروض قليالً ما دامت
َ
تُعد ضرورية؛ ألن ما يحكم الجمهور هو هذه العقيدة الزائفة التي تسلبه حريته
األخالقية وتفرض عليه الطاعة للكنيسة ال للدين ،وسواء أكان دستور هذه المؤسسة
الدينية (الكنيسة) ملكياً أم أرستقراطياً أم ديمقراطياً فذاك أمر ليس بالمهم؛ ألن المهم
فأياً كان شكله فسيكون وسيظل دائماً تنظيماً استبدادياً ،وحين تصير
هو التنظيمّ ،
لوائح اإليمان جزءاً من القانون الدستوري ،فإن الكهنوت سيحكم ويسيطر وسيظن أنه
يقدر على االستغناء عن العقل ،وأخي اًر عن علم الكتاب؛ ألنه قد صار المحافظ
والمفسر المعتمد إلرادة المشرع الذي ال ُيرى ،ومن ثَم تكون له السلطة على أن يقرر
ولما كان قد تزود بهذه السلطة لم يكن عليه أن يقنع ،بل أن
وحده ما يقرره اإليمانّ ،
يأمر فقط ،وسيصل األمر إلى سيطرة المؤسسة الدينية على السلطة السياسية ال
بالقوة ،وانما بتأثيرها في نفوس الشعب ،فضالً عن التلويح براية الفائدة التي ستحصل
عود التنظيم الروحي عقلية الشعبعليها السلطة الحاكمة من الطاعة المطلقة التي ُي ّ
ستقوض عادة النفاق استقامة الرعايا وأخالقهم ،وتربيهم على المراءاة
عليها ،بعدها ّ
في الواجبات المدنية ،وتنتج شأنها شأن المبادئ الباطلة التي يتخذها المرء نتائج
معاكسة تماماً لما هدفت إليه ،وهذه النتيجة حدثت بسبب قلب الوضع؛ بجعل الغلبة
للطقس العبادي على األخالق(.)31
17
تعبر عن تفكير صامت؛ ألن اهلل قارئ ألفكارنا،
ويرى كانط أن العبادة الحق ّ
ومن يمارس هذه العبادة أشخاص تفتحت عقولهم في صمت ،فأصبحوا في غنى عن
العبادة اللفظية؛ ألن استعدادهم الخلقي قوي ،فال يجعلون عبادتهم ممثلة في كلمات
أو أصوات ،فأضحوا يحذفون تلك األشياء من العبادة؛ لتبقى روح العبادة ممثلة في
التأمل الذاتي ،فروح العبادة وحدها األمر المهم ،والعبادة النقية هي التي تلمس
وتمس االستعداد الخلقي عند البشر ،وهي عبادة غير مشروطة؛ ألن الشرط على اهلل
حماقة وجسارة ،وعلينا أن نقبل من اهلل ما يريد أن يعطينا ّإياه ،وتنم العبادة
المشروطة على عدم االعتقاد؛ ألن التماس شرط للعبادة ينطوي على الشك في أنها
ستجاب ،والعبادة المبنية على اإليمان ال يمكن أن تكون مشروطة ،ومن يضع مهمة
هلل ويرغب في تحقيقها على ما يشاء؛ فإنه ال يثق في اهلل على وجه الحقيقة(.)32
ويصرح كانط بأن الدين الصحيح ينبغي ّأال يقوم على االعتراف بما فعله اهلل
ويفعله لنا من أجل تحصيل النجاة ،إنما يقوم على ما يجب علينا أن نفعله حتى
نكون جديرين بالنجاة ،وما يجب علينا فعله ال يمكن أن يكون شيئاً آخر غير ما له
في ذاته قيمة مطلقة ال شك فيها ،ويمكنه وحده بعد ذلك أن يجعلنا مقبولين عند اهلل،
وضرورة هذا الشيء أمر يم ّكن من الحصول على اليقين الكامل من غير ادنى رجوع
إلى علم الكتاب المقدس ،وقد كانت غاية المسيح من تأسيس المسيحية ،الدعوة إلى
إيمان ديني محض قائم على األخالقية المحضة الموافقة للعقل ،لكن أتباع المسيحية
شوهوا دعوته منذ البداية(.)33
من بعده ّ
يتحدث كانط في محاضراته في التربية عن أسلوب التربية الدينية لألطفال،
وضرورة تقديم الدين لهم في صورة أخالق ،ال في صورة الهوت؛ ألن الطفل في
مراحله األولى ال يشعر بواجبه ،فكيف يشعر بواجبات اهلل؟! ويخشى كانط أن يرفض
الطفل الالهوت ،فيظل الدين عالقاً في ذهنه بوصفه مجموعة من المتناقضات
فيتركها ويقع في عدم المباالة ،أما التربية الخلقية فإنها تربط الدين بالطبيعة ،فيشعر
الطفل بقانون الواجب ،فالتربية تقوم على رد كل شيء إلى الطبيعة ،ثم رد الطبيعة
إلى اهلل ،وفي األخالق يسلك اإلنسان على وفق إرادته ،وفي الالهوت يسلك بداف ٍع
من الخوف أو الجزاء في صورة عبادات زائفة ،فاألخالق يجب أن تسبق الالهوت؛
18
ألن الدين بال أخالق خرافة ،لذلك يجب تعليم الطفل أن يكره الرذيلة لذاتها ،ال أن
يكرهها ألن اهلل حرمها ،وأن يحب الفضيلة لذاتها ،ال أن يحبها ألن اهلل أمر بها،
زود الطفل
دنس بشيء سواه ،ويجب أن ُي ّ ويجب ّأال ُيذكر اسم اهلل كثي اًر؛ حتى ال ُي ّ
ببعض األفكار عن الموجود األعظم؛ حتى يعرف لِ َم يصلي الناس ،وأن ُيقال له :إن
اهلل يعتني بالمخلوقات؛ حتى يصبح رؤوفاً بالحيوانات ،وأن يتعلم ّأال يحكم على
الناس بعباداتهم؛ ألن األديان في جوهرها واحدة على الرغم من اختالفها في الشعائر
والطقوس(.)34
الخاتمة:
إن ُخالصة الرؤية الكانطية في مجال األخالق ،تتمثل في أن باعث الفعل
الخلقي هو الواجب من أجل الواجب ،وليس هو الواجب المترتب على المكافأة ،وهذا
هو المتعارف عند الباحثين والنقّاد ،غير أن من ُينعم النظر في كتب كانط األخالقية
والدينية ،يجد أن الرؤية الكانطية لم تقتصر في نظرتها لألخالق على مجال العالم
الحسي (عالم الظواهر) ،بل امتدت إلى أبعد من ذلك حيث عالم الشيء في ذاته
مما نص عليه كانط سابقاً ـ ـ في مجال العقل النظري ـ ـ من
(النومين) ،على الرغم ّ
أننا لن نستطيع الولوج في العالم األخير ،وهو ما حدث حقاً في مجال العقل العملي؛
بسبب الحاجة الماسة إلى األخالق كي تكتمل صورتها ،فكان ينبغي له أن يسلّم
بوجود العالم اآلخر حيث خلود النفس اإلنسانية ووجود اهلل علة العالم ،والضامن
الخير من نية العمل
لألخالق ،والعالم بخبايا النفوس حيث التمييز بين نية العمل ّ
المعبر عن وجوب وجود من يكافئ
الشرير ،ومن أسباب التسليم إذعانه لألمر الواقع ُ
الخير.
صاحب الفعل الخلقي ّ
على الرغم من أن تعريف كانط للدين ينطوي على معرفة الواجبات بوصفها
أوامر إلهية ،هو في الوقت نفسه لم ِ
يعط أية سلطة خارجية الحق في التأثير في
سلوك اإلنسان بجعل إرادتها فوق إرادته ،إذ جعل إرادة اإلنسان حرة فاعلة غير
ال عن أفعاله ،بل يتضح لنا من التعريف ،أن كانط رفع مقام
مقيدة؛ كي يكون مسؤو ً
قدم األخالق
الواجب إلى مقام األمر اإللهي؛ ُليضفي عليه طابع التقديس ،ومع ذلك ُي ّ
على الدين من حيث السبق الزماني والمنطقي ،وعند تأمل األمر ،وجدت أن كانط
19
يصرح بأنه بدأ باألخالق لينتهي بالدين ،لكن واقع ما وصل إليه هو استناده إلى
الدين؛ كي يؤسس بنيان األخالق عليه ،إذ جعل من األوامر اإللهية قوانين جوهرية
لكل إرادة حرة في ذاتها ،وصرح بأن اإلنسان ال يستطيع أن يأمل الوصول إلى الخير
األقصى إال بوجود إرادة كاملة أخالقياً ،وذات قدرة مطلقة ،وعالمة بكل شيء ،ومن
أجل الخروج من مأزق التناقض حيث وصوله إلى واقع تأسيس األخالق على الدين؛
أجده يؤكد أن كل األفعال اإلنسانية ال توصف بالخلقية ما لم تكن خالية من باعثي
الخوف والرجاء.
جعل كانط العقل العملي المحض (الضمير) ممثالً صوت اهلل ،والقانون
األخالقي نابعاً من العقل العملي المحض ،وهو في الوقت نفسه مصدر الواجب،
وجعل كانط ذلك المبدأ الصوري شعا اًر ال بد من رفعه حين تأديتنا أي سلوك؛ كي
يتسم ذلك السلوك ِ
بالسمة األخالقية ،لكل ما تقدم أعود لتأكيد ما طرحته قبل قليل،
من أن كانط قد بنى بنيانه األخالقي على الدين ،واذا أردت الحكم بموضوعية ،قلت
مؤسس على األخالق وليس العكس صحيحاً ،لكن ما إن كانط صرح بأن الدين َ
أالحظه أن الهرم الكانطي قُ ّسم على ثالثة أقسام ،ثمة القاعدة الدينية ،والوسط
األخالقي ،ثم القمة الدينية ،وكان القصد من تأكيده أن األخالق سابقة للدين؛ تثبيت
سبق االلتزام الخلقي المتمثل بالفعل الحسن ،لاللتزام الديني المتمثل بممارسة الشعيرة
الدينية؛ خوفاً من االقتصار عليها ،وجعلها أم اًر تنظيمياً يرقى إلى مستوى القداسة
وان كانت خاوية الجوف ،وقد يكون كانط هنا محقاً ،فواقع الحال يؤكد حدوث تلك
المخاوف الكانطية ،فالعبادة اآلن ـ ـ في أغلب األحيان ـ ـ أصبحت عبادة شكلية تهتم
بالمظهر وكسب المنفعة المادية والمعنوية ،تاركة الجوهر خالي الوفاض ،لكن علينا
أن ال ننسى أن المبدأ الديني ثابت ومنه تؤخذ األحكام ،على الرغم من تغير
الممارسات الدينية؛ لكون األخيرة نسبية ،فتسري عليها أحكام التغير بحسب البيئة
الزمانية والمكانية ،فعند تصفح الكتب الدينية أجد المبدأ الديني يؤكد االلتزام الخلقي،
ومثال على ذل ك :الحوار الذي دار بين سائل ومجيب قبل أن يولد كانط بأحد عشر
هو السائل ،في حين كان المجيب نبي اإلسالم محمد ()35
قرناً ونيف ،وكان أبو ذر
20
(ص) ،إذ كان السؤال عن أكمل المؤمنين إيماناً ،وتجلت اإلجابة في« :أحسنهم
أخالقاً»( ،)36واعتقد أن الحوار المذكور ال يحتاج إلى تعليق.
يحاول كانط جاهداً التركيز على القيمة األخالقية ،ال على القيمة الدينية،
فيؤكد أن الفعل اإلنساني ـ ـ كالصدق مثالً ـ ـ ال ُيمثل فعالً حسناً ألن اهلل أمر به ،بل
الحسن في ذاته وال يكتسبها من سلطة خارجية؛ هو فعل حسن ألنه يحمل قيمة ُ
قوم األفعال ،وهو في هذا يخالف النظرة الدينية السائدة في أغلب
وعلى هذا المنوال تُ ّ
المؤسسات الدينية ـ ـ وليس جميعها ـ ـ التي تنص على أن القيمة األخالقية للفعل
اإلنساني نابعة من مصدر التشريع الديني ،كذلك يخالف وجهة النظر االجتماعية
العرف االجتماعي والتقاليد
التي ترى أن القيمة األخالقية للفعل اإلنساني نابعة من ُ
الموروثة ،فضالً عن مخالفته وجهة النظر النفعية التي ترى أن تلك القيمة مرتبطة
بالنتائج المترتبة على الفعل اإلنساني.
أراد كانط أن ُيخرج العقائد التاريخية من تناقضاتها ،وأن يفك قيد التعصب
عن اإليمان التاريخي؛ لما وجده في العقيدتين اليهودية والمسيحية من مؤشرات غير
منسجمة مع فكرة التنزيه اإللهي والتفكير العقالني ،فاستبدل بثوب العقائد التاريخية ـ ـ
وال سيما المسيحية ـ ـ ثوباً أكثر انسجاماً مع ما يمليه العقل المحض ،فاتخذ طريق
التأويل للوصول إلى تلك الغاية ،واعتمد على أدوات نهجه األخالقي في عملية
اإلبدال تلك ،وكانت النتيجة أن انتزع المسيحية من ثوبها التاريخي الموضوع ،وأفرغ
الكتاب المقدس من جوهره المرسوم ،ووصل به األمر أن كفّرته المؤسسة الدينية
المسيحية؛ بسبب قلبه األسس التي تستند إليها.
إن وضع كانط الموضوعات الدينية تحت المجهر النقدي على وفق رؤية
عقلية في كتابه (الدين في حدود العقل وحده) ،كان يمثل البداية الحقيقية النطالق
فلسفة الدين التي تعتمد في جوهرها على القراءة العقلية للنصوص الدينية ،وان
محاولة كانط فصل الدين عن األخالق وجعله تابعاً لها ،دليل على أن تلك المحاولة
تحاول سحب البساط من تحت أقدام المؤسسة الدينية ،واخضاع الموضوعات الدينية
للنظر الفلسفي ،كي يبحث في مكنونها؛ للكشف عن الحقيقة المتوارية خلف جدران
21
النصوص الدينية الموضوعة ،والمفضوحة تناقضاتها التي ال تُسهم في بناء مجتمع
أخالقي يرقى إلى المستوى الذي أراده اهلل.
زيادة على ما تقدم نالحظ تأكيد كانط حرية اإلرادة اإلنسانية ،ومفهوم
المسؤولية الفردية ،ورفضه فكرة الخطيئة المتوارثة؛ ألن اإلنسان عند والدته ال يحمل
معه أي موروث سلبي ،بل يولد طاهر السريرة ،ويعيش حالة البراءة النقية ،ولن
يخرج منها إال بعد تلوث تلك الحالة بالفعل الشرير ،وباإلمكان استرداد حالة البراءة
األولى بعد التكفير عن الذنب ،والعزم على اإلقالع عن ارتكاب الخطايا ،فيقلب
صفحة ماضيه ،ويبدأ صفحة جديدة من حياته إلنسان جديد ولد والدة جديدة،
وباجتماع هذا اإلنسان الجديد مع قُرنائه؛ يتكون المجتمع األخالقي الذي يسوده
الفضيلة وحب الخير ،ويسعى لعمل الواجب من أجل الواجب فقط ،فيكون بذلك
شعب اهلل الذي تحكمه األوامر اإللهية ،وهذا هو المفهوم الحقيقي للكنيسة الحقيقية
ورسله.
الشاملة ،وهو ما هدف إلى تحقيقه أنبياء اهلل ُ
كما نالحظ تأكيد كانط أن تكون عبادة اهلل عبادة باطنية تأملية صامتة،
تتجلى في صورة سلوك ُخلقي حسن ،بعيدة عن المنفعة الذاتية والخوف من العقاب،
وأنه كان ينهى عن العبادة الظاهرية المقصورة على الحركات الجسدية فقط التي
تحض على الرياء والتملّق ،كما يؤكد أن يكون الجانب التربوي للطفل ُمفعم ًا ّ
الخلقية بعيداً عن المسائل الالهوتية؛ كي ال تُحدث األخيرة ردة فعل لدى
بالتوجهات ُ
الطفل حين يكبر.
أخي اًر نجد أن البرهان األخالقي لوجود اهلل ـ ـ بحسب الرؤية الكانطية ـ ـ أُقيم
الخير يجب أن ُيكافأ ،واإلنسان الشرير
على وفق ما تقتضيه العدالة؛ ألن اإلنسان ّ
يجب أن ُيعاقَب ،وهذا لن يحدث إال في ظل وجود كائن أسمى ُيحاسب كل إنسان
على ما فعل ،كما أن البرهان قائم على وفق ما يقتضيه إمكان الجمع بين الفضيلة
والسعادة ،إذ ال يمكن الجمع بينهما إال في ظل وجود ما هو فوق الطبيعة ،العالم
بكل شيء والقادر على كل شيء ،وهذا الكائن األسمى والموجود ما فوق الطبيعة
الحجج المنطقية ،بل
يمثل اهلل ،واثباته عند كانط لم يكن بالمناقشات النظرية و ُ
باالعتقاد العملي على وفق ضرورة اقتضتها األخالق.
22
((مصادر البحث ومراجعه))
بدوي (عبد الرحمن) :األخالق عند كنت ،وكالة المطبوعات ،الكويت، .1
1979م.
بدوي (عبد الرحمن) :فلسفة التربية والدين عند كنت ،ط ،1المؤسسة .2
العربية للدراسات والنشر ،بيروت1980 ،م.
الحنبلي (زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب) :لطائف .3
المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ،ط ،1دار ابن حزم للطباعة والنشر
والتوزيع ،بيروت2004 ،م.
حنفي (حسن) :تطور الفكر الديني الغربي ،ط ،1دار الهادي للطباعة .4
والنشر والتوزيع ،بيروت2004 ،م.
حنفي (حسن) :قضايا معاصرة ،ج(2في الفكر الغربي المعاصر)، .5
دار الفكر العربي ،القاهرة1987 ،م.
الخشت (محمد عثمان) :المعقول والالمعقول في األديان (بين ُ .6
العقالنية النقدية والعقالنية المنحازة) ،ط ،2نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع،
القاهرة2008 ،م.
الخشت (محمد عثمان) :فلسفة الدين (في ضوء تأويل جديد للنقدية ُ .7
الكنطية) ،دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع ،القاهرة1993 ،م.
خليفة (فريال ـ حسن) :الدين والسالم عند كانط ،ط ،1مصر العربية .8
للنشر والتوزيع ،القاهرة2001 ،م.
الزيلعي (جمال الدين عبد اهلل بن يوسف) :تخريج األحاديث واآلثار .9
الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري ،ج ،2تحقيق :عبد اهلل بن عبد الرحمن السعد،
ط ،1دار ابن خزيمة ،الرياض1414 ،ه
.10صعب (أديب) :المقدمة في فلسفة الدين ،دار النهار للنشر ،بيروت،
1994م.
23
.11عبد الرحمن (طه) :سؤال األخالق (مساهمة في النقد األخالقي
للحداثة الغربية) ،ط ،2المركز الثقافي العربي( ،الدار البيضاء -المغرب)،
2005م.
العوا (عادل) :المذاهب األخالقية (عرض ونقد) ،ج ،1مطبعة
ّ .12
الجامعة السورية ،دمشق1958 ،م.
.13كانط (إيمانويل) :نقد العقل العملي ،ترجمة :غانم هنا ،ط ،1المنظمة
العربية للترجمة ،بيروت2008 ،م.
14. Kant, Immanuel: Religion within the limits of Reason
alone, Translated by Theodore M. Greene and Hoyt T.
Hudson, Harper Row, Publishers, New York, 1960.
الحنبلي (زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب) :لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ،ط،1 )(1
دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت2004 ،م ،ص .164
(إيمانويل كانط) )1804 - 1724( Kant, Immanuelم :فيلسوف ألماني وأستاذ الفلسفة في جامعة ()2
وعمق المعاني،
كينجسبركُ ،يعد من أهم فالسفة العصر الحديث؛ لما تمتاز به فلسفته من أصالة األفكار ُ
قسم العقل اإلنساني
شطر الفلسفة الحديثة على شطرين ،ما قبله وما بعده؛ نتيجة األثر البالغ الذي تركهّ .
في كتاباته على قسمين :األول العقل النظري ،والثاني العقل العمليُ ،يعنى العقل النظري بشؤون المعرفة
والعلم ،وامكانية تحديد حقيقة الشيء عن طريق التجربة اإلنسانية البعدية مع ُمعطيات العقل القبلية ،وهو في
هذا يحاول أن يوفق بين النزعتين العقلية والتجريبية في محاولة منه لبيان قدرة العقل على التفكير في قضايا
الخلقية
ما بعد الطبيعة ،أما العقل العملي ُفيعنى بشؤون السلوك اإلنساني (األخالق) ،وعند تحليله لألفعال ُ
وجد أن صورة الفعل األخالقي تكمن في إرادة العمل على وفق الواجب ،وال ُيعد الفعل ُخلقياً عنده إال إذا
كان متحر اًر من الدوافع وا لرغبات والميول الذاتية ،وأن الخير األعظم سيتحقق في عالم علوي يحكمه اهلل،
ويعد وجود اهلل ضرورة يستلزمها العقل العملي حين يعجز العقل النظري عن البرهنة عليه .من أعماله(( :نقد
ُ
العقل النظري)) ،و((تأسيس ميتافيزيقا األخالق)) ،و((نقد العقل العملي)) ،و((نقد ملكة الحكم)) ،و((الدين
وحده)). في حدود العقل
ُينظر :صعب (أديب) :المقدمة في فلسفة الدين ،دار النهار للنشر ،بيروت1994 ،م ،ص (.)239 - 236 )(3
24
ُينظر :عبد الرحمن (طه) :سؤال األخالق (مساهمة في النقد األخالقي للحداثة الغربية) ،ط ،2المركز )(4
الثقافي العربي( ،الدار البيضاء -المغرب) 2005 ،م ،ص (.)38 - 37
العوا (عادل) :المذاهب األخالقية (عرض ونقد) ،ج ،1مطبعة الجامعة السورية ،دمشق1958 ،م ،ص
ّ
)(5
.363
كانط (إيمانويل) :نقد العقل العملي ،ترجمة :غانم هنا ،ط ،1المنظمة العربية للترجمة ،بيروت2008 ،م ،ص )(7
(.)225 - 224
بدوي (عبد الرحمن) :األخالق عند كنت ،وكالة المطبوعات ،الكويت1979 ،م ،ص .154 )(8
الخشت (محمد عثمان) :فلسفة الدين (في ضوء تأويل جديد للنقدية الكنطية) ،دار غريب للطباعة والنشر
ُ
)(10
الخشت (محمد عثمان) :المعقول والالمعقول في األديان (بين العقالنية النقدية والعقالنية المنحازة) ،ط،2
ُ
)(11
نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ،القاهرة2008 ،م ،ص (.)125 - 124
)(12
Kant, Immanuel: Religion within the limits of Reason alone, Translated by
Theodore M. Greene and Hoyt T. Hudson, Harper Row, Publishers, New
York, 1960, p. 173.
)(14
See: Kant, Immanuel: Religion within the limits of Reason alone, pp. (182 -
186).
)ُ (15يقارن :بدوي (عبد الرحمن) :فلسفة التربية والدين عند كنت ،ط ،1المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
الخشت (محمد عثمان) :فلسفة الدين (في ضوء تأويل جديد
بيروت1980 ،م ،ص ( .)17 - 15معُ :
للنقدية الكنطية) ،ص (.)137 - 136
(التثليث أو الثالوث) :Trinityتُصرح هذه العقيدة بأن اإلله الواحد يكشف عن نفسه في ثالثة أقانيم هي: )(16
ويعد ترتليان أول من صاغ كلمة ثالوث واستعملها في القرن الثاني للميالد.
اآلب واالبن والروح القدسُ ،
25
(التعميد) :Baptismطقس مسيحي يتمثل بالغطس في الماء مع النطق بعبارة« :باسم يسوع المسيح»، )(17
ويدل هذا الطقس على توبة المتحول وايمانه بالمسيح ،وهو في تعاليم بولس يدل على وحدة المؤمن مع
وتعمد الكنيسة الشرقية األطفال
ّ المسيح في موته ودفنه وقيامه ،وهو عالمة االندماج بجسم المسيح،
بتغطيسهم في الماء ثالث مرات؛ إيذاناً بدخول الطفل في العقيدة المسيحية ،في حين تكتفي باقي الكنائس
برش الماء على جبهة الطفل ،ويتولى الكاهن بنفسه ممارسة هذا الطقس.
حنفي (حسن) :تطور الفكر الديني الغربي ،ط ،1دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت2004 ،م، )(18
ص (.)207 - 206
يميز كانط المسيحية الحقيقية من المسيحية التاريخية ،فاألولى تمثل العقيدة الدينية المبنية على األخالق )(19
التي نادى بها السيد المسيح ،أما الثانية فتمثل العقيدة الدينية التي وضعها رجال الدين المسيحي ،المملوءة
باألسرار المناقضة لمبادئ العقل العملي المحض.
)(21
Kant, Immanuel: Religion within the limits of Reason alone, pp. (57 - 58).
خليفة (فريال ـ حسن) :الدين والسالم عند كانط ،ط ،1مصر العربية للنشر والتوزيع ،القاهرة2001 ،م ،ص )(22
.107
الكتاب المقدس :العهد الجديد ،إنجيل يوحنا ،اإلصحاح الخامس ،آية ،39ص .304 )(23
بدوي (عبد الرحمن) :فلسفة التربية والدين عند كنت ،ص .32 )(24
)(25
Kant, Immanuel: Religion within the limits of Reason alone, pp. (68 - 69).
)(27
Kant, Immanuel: Religion within the limits of Reason alone, pp. (90 - 91).
)ُ (28يقارن بين حنفي (حسن) :قضايا معاصرة ،ج(2في الفكر الغربي المعاصر) ،دار الفكر العربي ،القاهرة،
الخشت (محمد عثمان) :المعقول والالمعقول في األديان ،ص .1701987م ،ص ( .)133 - 132معُ :
بدوي (عبد الرحمن) :فلسفة الدين والتربية عند كنت ،ص (.)55 - 54 )(29
ُينظر :حنفي (حسن) :تطور الفكر الديني الغربي ،ص (.)197 - 195 )(30
26
)(31
Kant, Immanuel: Religion within the limits of Reason alone, pp. (167 - 168).
خليفة (فريال ـ حسن) :الدين والسالم عند كانط ،ص (.)92 - 91 )(32
بدوي (عبد الرحمن) :فلسفة الدين والتربية عند كنت ،ص (.)89 - 88 )(33
حنفي (حسن) :قضايا معاصرة ،ج( 2في الفكر الغربي المعاصر) ،ص (.)125 - 124 )(34
عبد اهلل تعالى قبل مبعث النبي محمد (ص) بثالث سنين ،قال فيه الرسول الكريم محمد (ص)« :ما أظلّت
َ
الخضراء ،وال أقلّت الغبراء أصدق من أبي ذر» ،توفي عام اثنين وثالثين للهجرة في منطقة الربذة حيث
منفياً.
كان ّ
الزيلعي (جمال الدين عبد اهلل بن يوسف) :تخريج األحاديث واآلثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري، )(36
ج ،2تحقيق :عبد اهلل بن عبد الرحمن السعد ،ط ،1دار ابن خزيمة ،الرياض1414 ،ه ،ص (– 388
.)389
27