You are on page 1of 21

‫اب ُن تيميّ َة‬

‫سالم ومحيي ال ُّ�سنّ ِة"‬


‫"�شيخُ الإ� ِ‬
‫د‪� .‬سناء �شعالن‬

‫ال ّ�شجر ُة ال ّطيب ُة‬


‫ابن تيم ّي َة �شجر ٌة طيب ٌة من‬ ‫تطرح (تُعطي) �إال �أ�شجار ًا طيب ًة‪ ،‬و�أحم ُد ُ‬ ‫الطيب ُة ال ُ‬ ‫أر�ض ّ‬
‫ال ُ‬
‫مري‬‫الم ِبن عبداهلل ِ ِبن تيم ّي ِة ال ّن ّ‬ ‫ال�س ِ‬
‫عبد ّ‬ ‫الحليم ِبن ِ‬
‫عبد ِ‬ ‫أر�ض طيب ٍة‪ ،‬فق ْد ُو َلد �أحم ُد ُبن ِ‬ ‫� ٍ‬
‫بالعلم والفق ِه‬‫ِ‬ ‫�شتهرت‬
‫ْ‬ ‫ا�س في عائل ٍة �أُ‬ ‫م�شقي‪ ،‬تق ّـي ال ّد ِين �أبو الع ّب ِ‬
‫اني ال ّد ّ‬ ‫الح ّر ّ‬
‫الم�شاهير‪،‬‬
‫ِ‬ ‫من العلما ِء‬‫أعمام ِه ْ‬
‫من � ِ‬ ‫كان �أبوه و�أجدا ُد ُه و�أخوا ُن ُه وكثي ٌر ْ‬
‫الحنبلي‪ ،‬فق ْد َ‬‫ّ‬
‫تن�صح‬
‫ُ‬ ‫(م ْن‬‫وكانت تُ�س ّمى تيم ّي ُة واعظ ًة َ‬ ‫محمد‪ْ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫جد ِه‬
‫كانت �أ ُّم ُه �أو والد ُة ِّ‬
‫كذلك ْ‬ ‫َ‬
‫رف ِب َها‪.‬‬ ‫وع َ‬ ‫ن�سب �إل َيها‪ُ ،‬‬‫المنكر) ُف َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالمعروف وتنهى عن‬ ‫وتذ ّك ُر وت�أم ُر‬
‫االثنين‬
‫ِ‬ ‫المبارك في ي��وم‬ ‫ُ‬ ‫��ان مول ُد اب ِ��ن تيم ّي َة‬
‫وك َ‬
‫للعام ‪661‬ه���ـ‪ ،‬الموافقِ‬ ‫ِ‬ ‫ال��م��واف��ق ‪ 10‬رب��ي�� ِع الأ ّولِ‬
‫����ك ف��ي ح���� َّر َان‪،‬‬ ‫‪ 12‬ك��ان��ون ال��ث��ان��ي ‪1263‬م‪ ،‬وذل َ‬
‫وه���ي ب��ل��د ٌة ت��ق�� َع ف��ي ال ّ�����ش��م��الِ ال ّ�����ش��رق ّ��ي م��ن ب�لا ِد‬
‫‪88‬‬
89
‫��رات‪ ،‬و�إليها ُن َ‬
‫�سب‪،‬‬ ‫بين دج��ل�� َة وال��ف ِ‬ ‫��ام ف��ي ج��زي��ر ِة اب ِ��ن عمرو َ‬ ‫ال��� ّ��ش ِ‬
‫دم�شق التي‬‫َ‬ ‫رحل وال�� ُد ُه ِب ِه �إلى‬
‫وقد �أم�ضى في ح ّر َان �سب َع �سنين‪َ ،‬ثم َ‬ ‫ْ‬
‫العلم؛ هرب ًا من جنو ِد‬ ‫وحلقات ِ‬ ‫ِ‬ ‫والمدار�س‬
‫ِ‬ ‫(تمتلئ) بالعلما ِء‬ ‫ُ‬ ‫كانت تزخ ُر‬ ‫ْ‬
‫المغولِ الذي ا�ستولوا على (احتلوا) ح ّر َان‪ ،‬وجاروا (ظلموا) بالعبا ِد‪.‬‬
‫وظهرت علي ِه‬‫ْ‬ ‫أطيب نما ًء‪،‬‬ ‫وهناك ن�ش�أَ الفتى �أحم ُد خي َر ن�ش�أ ٍة‪ ،‬ونما (كب َر) � َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫فتتلمذ على‬ ‫للعلم ولطل ِب ِه‪،‬‬‫مخاي ُل (جم ُع َمخ ِي َل ٍة‪ ،‬وهي الدالئ ُل) ال ّذكا ِء‪ ،‬ودالئ ُل العناي ِة ِب ِه‪ ،‬وتف ّر َغ ِ‬
‫عالم في �شتّى �ضروبِ (جم ُع‬ ‫قيل �إ ّنهم بلغوا مئتي ٍ‬ ‫ع�صر ِه‪ ،‬حتى َ‬ ‫يدي والد ِه َثم على �أيدي علما َء ِ‬ ‫ّ‬
‫وحفظ‬‫وتف�سير ِه‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫بحفظ القر�آنِ‬ ‫(عمل‪ ،‬وق�ضى وق َتهُ) ِ‬ ‫وا�شتغل َ‬‫َ‬ ‫العلم والمعرف ِة‪.‬‬ ‫�ضرب‪ ،‬وهو ال ّنو ُع) ِ‬ ‫ٍ‬
‫خ�ص ُه‬ ‫وكان اهلل ُ قد َّ‬ ‫والح�سابِ ‪َ ،‬‬ ‫ال�سير ِة ال ّنبو ّي ِة والفق ِه وال ّلغ ِة العرب ّية والخّ ِط ِ‬ ‫الحديث ودرا�س ِة ّ‬
‫ِ‬
‫دون العا�شر ِة‬ ‫العلوم‪ ،‬وهـ َو َ‬ ‫أتقن َ‬ ‫(الفهم)‪ ،‬ف� َ‬‫ِ‬ ‫أعطا ُه) بذاكر ٍة حافظ ٍة‪ ،‬وقلبٍ �سري ِع ال ِ‬
‫إدراك‬ ‫(م ّيزَ ُه و� َ‬
‫يكن ي�ستم ُع ل�شي ٍء �إال علقَ في‬ ‫فلم ْ‬ ‫من �ش ّد ِة ذكا ِئ ِه وحافظ ِت ِه‪ْ ،‬‬‫أ�ساتذ َت ُه و�شيوخَ ُه ْ‬ ‫أده�ش � َ‬ ‫عمر ِه‪ ،‬ف� َ‬
‫من ِ‬
‫يلعب ويلهو‪،‬‬ ‫ال�صبي ِة ُ‬ ‫كغير ِه من ّ‬ ‫يكن ِ‬ ‫نف�س ِه‪ْ � ،‬إذ لم ْ‬
‫ق�ش في ِ‬ ‫بلفظ ِه ومعنا ِه‪ ،‬وك�أ ّن ُه ُن َ‬ ‫(حفظهُ) ِ‬ ‫خاطر ِه َ‬ ‫ِ‬
‫دون مللٍ �أو كللٍ (تعبٍ ) ي�ستم ُع �إليهم‪ ،‬وي�ستفي ُد من ُهم‪ ،‬وما كا َد‬ ‫مجال�س العلما ِء َ‬ ‫َ‬ ‫يطلب‬
‫كان ُ‬ ‫بل َ‬
‫عمر ِه حتى ب َّز �أقرا َن ُه (تف ّوقَ على �أ�صحا ِب ِه وزمال ِئ ِه) وفاقَ (تف ّوقَ على)‬ ‫من ِ‬ ‫ال�سابع َة ع�شر َة ِ‬ ‫يبل ُغ ّ‬
‫ّدري�س بد ًال من ِ‬
‫والد ِه‬ ‫فات�سعت �شه َر ُتهُ‪ ،‬وذا َع �صي ُتهُ‪ ،‬وتو َّلى الت َ‬ ‫ْ‬ ‫ع�صر ِه‪ ،‬وتف ّر َغ للت� ِ‬
‫أليف‪،‬‬ ‫علما َء ِ‬
‫ال�شريع ِة الإ�سالم ّي ِة و َ�أ ِ‬
‫حكام َها)‬ ‫وكان من كبا ِر الفقها ِء (الفقي ِه‪ِ :‬‬
‫العالم ب�أ�صولِ َّ‬ ‫ُوفي‪َ ،‬‬ ‫الذي ت ّ‬
‫وكان‬
‫العلم والعملِ ‪َ ،‬‬ ‫بذلك الإمام ُة (الرئا�س ُة ال ّدين ّي ُة) في ِ‬ ‫وانتهت �إلي ِه َ‬ ‫ْ‬ ‫نبلي‬
‫الح ّ‬ ‫في الفق ِه ّ‬

‫‪90‬‬
91
‫بين المعقولِ (الذي يقب ُل ُه العق ُل) والمنقولِ (الوار ِد‬ ‫مذه ُب ُه (طريق ُتهُ) التّوفيقَ َ‬
‫ال�س ّن ِة ال ّنبوي ِة)‪.‬‬
‫الكريم وفي ّ‬ ‫ِ‬ ‫في القر�آنِ‬
‫كان‬
‫يهودي‪َ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫اعتر�ض ُه جا ٌر َل ُه‬
‫َ‬ ‫العلم‬
‫مجال�س ِ‬ ‫ِ‬ ‫هاب �إلى‬‫وكان �أحم ُد �إذا �أرا َد ال ّذ َ‬ ‫َ‬
‫فيجيب عنْها �أحم ُد �سريع ًا بفطن ٍة (بذكا ٍء)‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م�سائل‪،‬‬ ‫أحمد‪ ،‬وي�س�أ ُل ُه‬
‫منز ُل ُه في طريقِ � َ‬
‫أ�سلم‬
‫يلبث � ْأن � َ‬ ‫فلم ْ‬ ‫ودراية (معرف ٍة)‪ ،‬ويخب ُر ُه ب�أ�شيا ٍء تد ُّل على بطالنِ ما ه َو علي ِه‪ْ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫�صغر‬
‫غم من ِ‬ ‫ابن تيمي ِة على ال ّر ِ‬ ‫ذلك ببرك ِة ّ‬
‫ال�ش ِيخ ِ‬ ‫وكان َ‬ ‫وح�سن �إ�سال ُمهُ‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫اليهودي‪،‬‬
‫ُّ‬
‫�س ّن ِه‪.‬‬
‫للعلم‪ ،‬زاهد ًا (تارك ًا لحاللِ ال ّدنيا مخاف ِة ح�سابِها‪،‬‬ ‫كان �أحم ُد منقطع ًا ِ‬ ‫كذلك َ‬ ‫َ‬
‫�شيخ ِه الذي‬ ‫طلب وال ُد ُه من ِ‬ ‫وقد َ‬ ‫لحرام َها مخا َف َة عقا ِب َها) فيما غيره‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫وتارك ًا‬
‫كل �شهرٍ � ْإن �أحر َز‬ ‫الكريم وهو �صغي ٌر � ْأن ي ِع َد ُه ب�أربعين درهم ًا َّ‬
‫َ‬ ‫يعل ُم ُه القر� َآن‬
‫(رف�ض) عن قبو ِل َها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أحمد امتن َع‬
‫لكن � َ‬ ‫(حق َّق) تق ّدم ًا في ِ‬
‫حفظ القر�آنِ ‪َّ ،‬‬
‫عاهدت اهلل َ تعالى على �أن ال �آخذَ على‬ ‫ُ‬ ‫ل�شيخ ِه‪ " :‬يا �سيدي �إ ّني‬ ‫وقال ِ‬ ‫َ‬
‫القر�آنِ �أجر ًا "‪ .‬ولم ي�أخذَ َها‪ ،‬فا�ستب�ش َر (تو ّق َع خير ًا) �شيخُ ُه ووال ُد ُه ِب ِه‬
‫هذ ِه الحكاي ِة‪ ،‬وكذلك َ‬
‫كان‪.‬‬ ‫بعد ِ‬ ‫خير ًا َ‬
‫العلم والتّقوى‬
‫منار ُة ِ‬
‫علم ِه وجع َل ُه حج ًة (عالم ًا عارف ًا)‬ ‫بارك اهلل ُج َّل وعال ِ‬
‫البن تيم ّي َة في ِ‬ ‫َ‬
‫أ�صبح‬ ‫وعالم زما ِن ِه‪ّ ،‬‬
‫وي�س َر َل ُه التع ّم َق في ِ‬
‫العلوم‪ ،‬و� َ‬ ‫على �أهلِ ع�صرِ ِه‪َ ،‬‬
‫‪92‬‬
93
‫الجواب عما ُي َ�شك ُل‬ ‫ْ‬ ‫والباحثين َعن فتاوى (جم ُع فتوى‪ ،‬وهي‬ ‫َ‬ ‫مين‬‫قبل َة المتع ّل َ‬
‫كان‬
‫التالميذ الذين َ‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫كان َل ُه ٌ‬
‫جي�ش ْ‬ ‫ال�شرع ّي ِة والقانون ّي ِة)‪ ،‬حتى َ‬ ‫من الم�سائلِ ّ‬
‫علم ِه‪ ،‬و�إتقا ِن ِه‪،‬‬ ‫بفائ�ض ِ‬ ‫أكرم ُه اهلل ُ ِ‬ ‫للكثير من ُه ْم � أش� ٌن فيما بعد (تم ّيزوا و�أبدعوا) و� َ‬
‫قيل‪:‬‬ ‫علم ِه‪ ،‬وال �أرف َع ِم ْن دراي ِت ِه (معرف ِت ِه) حتى َ‬ ‫ّا�س �أو�س َع ِم ْن ِ‬ ‫إدراك ِه‪ ،‬فلم ي َر الن ُ‬ ‫و� ِ‬
‫إ�سالم"‪َ ،‬‬
‫كذلك‬ ‫ف�س ّم َي "�شيخُ ال ِ‬ ‫نف�س ِه" ُ‬
‫مثل ِ‬ ‫عين من ر� َأى مث َل ُه‪ ،‬وال ر� ْأت عي ُن ُه َ‬ ‫"لم ت َر ٌ‬
‫محمد –‬
‫ٍ‬ ‫�سنن الن ّبـي‬ ‫(يطلب ويق�ص ُد) َ‬ ‫ُ‬ ‫ـان يتح ّرى‬ ‫ال�س ّن ِة"؛ أل َن ُه ك َ‬ ‫"محيي َّ‬
‫ّ‬ ‫ُلق َّب بـ‬
‫ويرف�ض البد َع (جم ُع‬ ‫ُ‬ ‫نف�س ُه ِب َها‪ ،‬ويداف ُع عن َها‪،‬‬
‫لزم َ‬ ‫�ص ّلى اهلل ُعلي ِه و�س ّلم ‪ ،-‬فيط ّبقُها‪ ،‬و ُي ُ‬
‫أفعال النّبي و�أقوا َل ُه‬ ‫وال�سنَّة و� َ‬ ‫الحديث‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫بعد َ�أ ْن َ‬
‫در�س‬ ‫بدع ٍة‪ ،‬وهي ما أُ��ستحدثَ في ال ّد ِين) َ‬
‫ٍ‬
‫بحديث"‪.‬‬ ‫ابن تيم ّي َة َ‬
‫لي�س‬ ‫حديث ال يعر ُف ُه ُ‬ ‫وحيا َت ُه ومعجـزا ِت ِه‪ ،‬حــتى ِق َيل‪" :‬ك ُّل ٍ‬
‫يقوم فقرا ُء‬ ‫فرف�ض �أن َ‬ ‫َ‬ ‫جهد ِه في محارب ِة �أهلِ البد ِع‪،‬‬ ‫ابن تيم ّي َة غاي َة (ك َّل) ِ‬ ‫وبذل ُ‬ ‫َ‬
‫ات‪ ،‬والدخولِ في النّا ِر الم�شتعل ِة‪،‬‬ ‫بلب�س الأطواقِ الحديد ّي ِة في �أعنا ِقهِ م‪ ،‬و�أكلِ الح ّي ِ‬ ‫الأحمد ّي ِة ِ‬
‫من الخلقِ ‪ ،‬و إ� ّنما علي ِه‬ ‫أحد َ‬‫الم�سلم ب� ٍ‬
‫ُ‬ ‫العون والم�ساعدةَ)‬ ‫(يطلب َ‬ ‫َ‬ ‫رف�ض بقو ٍة �أن ي�ستغيثُ‬ ‫كما َ‬
‫قام‬
‫فقد َ‬ ‫ولذلك ْ‬ ‫بذلك) في جمو ِع الم�سلمين؛ َ‬ ‫(طالب َ‬ ‫َ‬ ‫ي�ستغيث باهلل ِوح َـد ُه‪ ،‬ونا َد ْى َ‬
‫بذلك‬ ‫َ‬ ‫� ْأن‬
‫ّا�س يتب ّركون بها (يطلبون منها‬ ‫ّارنج؛ ل َّأن الن َ‬
‫م�سجد الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال�صخر ِة التي ْ‬
‫كانت في‬ ‫باقتال ِع ّ‬
‫الخي َر والنّما َء وال��زي��ا ِدةَ)؛ أل ّنهم يعتقدون � َّأن الأث َر (العالم َة) الذي‬
‫لقدم النّبي –�ص ّلى اهلل ُ علي ِه‬ ‫علي َها ه َو ِ‬
‫(يهتم) بغ�ضبِ كثيرٍ‬ ‫ّ‬ ‫و�س ّل َم– ولم يبالِ‬
‫ّا�س ب�سببِ فع ِل ِه‪.‬‬ ‫من الن ِ‬
‫‪94‬‬
95
‫مجل�س ُه ك َّل يوم ب�صال ِة‬ ‫فكان يبد�أُ َ‬ ‫العلم والإفتا ِء‪َ ،‬‬ ‫لمجال�س ِ‬ ‫ِ‬ ‫ابن تيم ّي َة‬‫وتف ّر َغ ُ‬
‫الكريم‪ ،‬ثم ي�ش َر ُع (يبد�أُ)‬ ‫ِ‬ ‫ركعتين‪ ،‬ثم يحم ُد اهللَ‪ ،‬ويثني علي ِه‪ ،‬وعلى ر�سو ِل ِه‬
‫لب‪ ،‬وه َو ُ‬
‫العقل)‬ ‫ألباب (جم ُع ٍ‬ ‫تخطف � َ‬ ‫ُ‬ ‫فيغم�ض عيني ِه‪ ،‬ويتك ّل ُم بلغ ٍة �ساحر ٍة‬ ‫ُ‬ ‫بدر�س ِه‪،‬‬
‫ِ‬
‫نفو�س الحا�ضرين بهيب ِت ِه‪ ،‬حتى �إذا‬ ‫يفي�ض من بحرٍ ‪َ ،‬ف َت ْمت ِل ُئ ُ‬ ‫الحا�ضرين‪ ،‬وك أ� ّن ُه ُ‬
‫وكان‬
‫بلطيف القولِ ‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫در�س ِه فَتح عين ْي ِه‪ ،‬و�أق َب َل على الحا�ضرين‬ ‫ما فر َغ (انتهى) من ِ‬
‫مجل�س ُه خل ٌق كثي ٌر من العلما ِء والقاد ِة والفقها ِء والأدبا ِء و�سائرِ ِ‬
‫عوام‬ ‫يوافي (يح�ض ُر) َ‬
‫(عام ِة) الم�سلمين‪.‬‬
‫يف�س ُر َها‪ ،‬فينق�ضي‬ ‫الكريم َطف ََق (ب��د َ�أ) ّ‬ ‫ِ‬ ‫مجل�س ِه �آي ًة من القر�آنِ‬ ‫ِ‬ ‫وكان �إذا قر�أَ في‬ ‫َ‬
‫دون �أن يقر�أَ من‬ ‫تلك الآي ِة‪َ ،‬‬ ‫المجل�س بجمل ِت ِه (ك ِّل ِه) ومقدا ُر ُه رب ُع النّهارِ‪ ،‬وهو في تف�سيرِ َ‬ ‫ُ‬
‫�ضخم‪.‬‬‫ٍ‬ ‫وقد �أملى تف�سي َر �آي ِة "قل هو اهلل �أحد" في ٍ‬
‫مجلد‬ ‫كتاب‪ْ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫تالميذ ُه �أكث َر من‬ ‫مجل�س ُه من الإفتا ِء والإجاب ِة عن الم�سائلِ ‪ ،‬وقد جم َع‬ ‫كان يخلو ُ‬ ‫وما َ‬
‫يحتاج‬
‫ُ‬ ‫كتاب كبيرٍ ‪،‬‬ ‫تكون الإجاب ُة عن الواحد ِة منها في �أق ّل من ٍ‬ ‫ألف م�س�أل ٍة‪ ،‬ق َّل � ْأن َ‬ ‫�أربعين � َ‬
‫وكان ال ي�س� ُأم‬ ‫وقد ال يقد ُر‪َ .‬‬ ‫يكتب مث َل ُه‪ْ ،‬‬ ‫زمن طويلٍ ومطالع ٍة طويل ٍة ليقد َر على � ْأن َ‬ ‫غي ُر ُه �إلى ٍ‬
‫(يطلب فتوا ُه) �أو ي�س أ� َل ُه‪ ،‬بل يك ّل ُم ُه بب�شا�ش ٍة (بابت�سام ٍة)‪ ،‬حتى ُ‬
‫يكون‬ ‫ُ‬ ‫ممن ي�ستفتي ِه‬ ‫(ال يم ُّل) ْ‬
‫ٍ‬
‫وانب�ساط‪.‬‬ ‫واب ٍ‬
‫بلطف‬ ‫ال�ص ِ‬‫هو الذي يفار ُق ُه‪ ،‬بعد �أن ُيفه َم ُه الخط�أَ من ّ‬
‫البيوت وفي‬ ‫ِ‬ ‫كان يقط ُع ُه (يم�ضي ُه) في عياد ِة (زيار ِة) المر�ضى في‬ ‫فقد َ‬ ‫�أ ّما �سائ ُر نها ِر ِه‪ْ ،‬‬
‫المار�ستان (الم�ست�شفى)‪ ،‬وفي تفق ِّد المحتاجين والفقرا ِء ال �سيما من الفقها ِء والق ّرا ِء‪،‬‬
‫والغني والفقي َر‪ ،‬و ُيدني الفقي َر‬ ‫َّ‬ ‫وال�صغي َر‪،‬‬
‫يحترم الكبي َر ّ‬ ‫ُ‬ ‫ذلك كريم ًا متوا�ضع ًا‪،‬‬ ‫وكان في َ‬ ‫َ‬
‫‪96‬‬
97
‫كان‬ ‫الكرم‪� ،‬إذ َ‬ ‫ويقوم على خدم ِت ِه طلب ًا لمر�ضا ِة اهللِ‪ ،‬ويكر ُم ُه �أ�ش َّد ِ‬ ‫ؤن�س ُه‪ُ ،‬‬ ‫ال�صالح‪ ،‬وي� ُ‬
‫َ‬
‫ّف�س) الأ�صيل ِة‪ ،‬و� ْإن لم‬ ‫الطب ُع الأ�صي ُل في الن ِ‬ ‫الكرم من �سجاياه (جم ُع �سجي ٍة‪ ،‬وهي ّ‬
‫مالب�س ِه‪ ،‬وت�ص ّدقَ بِها متخفّي ًا كي ال يرا ُه �أح ٌد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يجد ما يت�ص ّدقُ ب ِه علي ِه‪ ،‬خل َع �شيئ ًا من‬ ‫ْ‬
‫ال�صدق ُة خال�ص ًة لوج ِه اهللِ‪.‬‬ ‫وتكون ّ‬‫ُ‬
‫ائم الم�ستم َّر) وال �صل ًة (هب ًة)‬ ‫اتب ال ّد َ‬‫وهو في �سائرِ �أمرِ ِه زاه ٌد ال يقب ُل جراي ًة (ال ّر َ‬
‫لنف�س ِه من �سلطانٍ �أو �أميرٍ �أو تاجرٍ ‪ ،‬وال ي ّدخ ُر دينار ًا �أو درهم ًا �أو متاع ًا �أو طعام ًا‪ ،‬بل‬ ‫ِ‬
‫يطلب طعام ًا ال�شتغا ِل ِه ِ‬
‫بالعلم �إلاّ‬ ‫كان ُ‬ ‫يطلب)‪ ،‬وما َ‬ ‫العلم ه َو ب�ضاع ُت ُه ِ‬
‫وط ْل َب ُت ُه (ما ُ‬ ‫كان ُ‬ ‫َ‬
‫مالب�س ُه حتى يبد ّل َها‬ ‫َ‬ ‫كذلك ال ي�شتري لبا�س ًا جديد ًا‪ ،‬وال يغ ّي ُر‬ ‫�أن ي�أتي �أه ُل ُه ِب ِه �إلي ِه‪َ ،‬‬
‫طلب الآخر ِة ومر�ضا ُة اهللِ‪،‬‬ ‫ّات ال ّدنيا‪ ،‬بل ه ُّم ُه ُ‬ ‫حديث عن ملذ ِ‬ ‫يخو�ض في ٍ‬ ‫ُ‬ ‫�أه ُل ُه َل ُه‪ ،‬وال‬
‫كل �ش�أ ِن ِه متوا�ض ٌع‪ ،‬جمي ُل الن ِ‬
‫ّف�س‪.‬‬ ‫وه َو في ِّ‬
‫ذهب ال ّل ُيل‪ ،‬وح�ض َر‬ ‫الكريم‪ ،‬حتى �إذا ما َ‬ ‫ِ‬ ‫�أ ّما لي ُل ُه فيق�ضي ِه بالتع ّب ِد‪ ،‬وقراء ِة القر�آنِ‬
‫م�س‪ ،‬ال يك ّل ُم �أحد ًا‬ ‫انقط َع لل ّدعا ِء ولذكرِ اهلل ِحتى �شروقِ ال�شّ ِ‬ ‫ّا�س �صال َة الفجرِ َ‬ ‫مع الن ِ‬
‫تن�صر علينا‪ ،‬وام ُكر َلنْا‪ ،‬وال‬ ‫غالب دعا ِئ ِه‪" :‬ال ّل ُه َّم ان�ص ْر َنا‪ ،‬وال ْ‬‫وكان ُ‬‫ذلك‪َ ،‬‬ ‫�أبد ًا �أثنا َء َ‬
‫لك ذاكرين‪ ،‬أ� ّواهين‬ ‫وي�س ْر الهدى َلنْا‪ ،‬ال ّل ُه َّم اجعلنَا َل َك �شاكرين َ‬ ‫تمك ُر علينا‪ ،‬واهد َنا‪ّ ،‬‬
‫ْ‬
‫وا�سلل‬ ‫حج َجنا‪ِ ،‬‬
‫واهد قلو َبنَا‪،‬‬ ‫إليك‪ ،‬راجين َل َك‪ ،‬ر ّبنا تق ّبل تو َب َتنا‪ ،‬وث ِّب ْت َ‬ ‫َل َك‪ ،‬راغبين � َ‬
‫�سخيم َة �صدو ِر َنا"‪.‬‬

‫‪98‬‬
99
‫قلب �أ�س ٍد‬
‫ُ‬
‫فقد‬
‫الخوف‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫بقلب ج�سورٍ‪ ،‬ال ُ‬
‫يعرف‬ ‫ابن تيم ّي َة ٍ‬ ‫أنعم علي ِه نعم ًة) على ِ‬ ‫َم َّن اهلل ُ(� َ‬
‫ويد ِه‪ ،‬وال‬‫ّا�س في قولِ الحقِّ ‪ ،‬يجاه ُد في �سبيلِ اهلل ِ بقلب ِه ول�سا ِن ِه ِ‬ ‫كان �أ�شج َع الن ِ‬ ‫َ‬
‫و�شن حرب ًا على‬ ‫طوال حيا ِت ِه البِد َع‪َّ ،‬‬ ‫جاهد َ‬‫فقد َ‬ ‫لذلك ْ‬ ‫الئم‪َ ،‬‬ ‫يخاف في اهلل ِ لوم َة ٍ‬ ‫ُ‬
‫ال�ضاللِ والنّفاقِ ‪.‬‬ ‫�أهلِ ّ‬
‫الموت‪،‬‬
‫َ‬ ‫الجيو�ش‪ ،‬ال ُ‬
‫يخاف‬ ‫َ‬ ‫يتقدم‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫فقد َ‬ ‫(الحرب) ْ‬ ‫ِ‬ ‫�أ ّما في �ساح ِة ال َوغى‬
‫�ضرب مثا ًال رائع ًا للبطول ِة‬ ‫وقد َ‬ ‫(الموت)‪ْ ،‬‬‫َ‬ ‫يهجم على الأعدا ِء‪ ،‬ك أ� ّن ُه يط ُلب المن ّي َة‬ ‫ُ‬
‫بب في تم ّل ِك‬ ‫ال�س ُ‬
‫وكان ّ‬ ‫فتح عكا (مدين ٍة �ساحلي ٍة فل�سطين ّي ٍة)‪َ ،‬‬ ‫في جها ِد ِه في ِ‬
‫كان َم ْن ي�ش ُّد �أز َر (ي�ساع ُد)‬ ‫وح�سن ر�أي ِه‪ ،‬كما َ‬ ‫ِ‬ ‫الم�سلمين �إ ّي َاه ْا بفع ِل ِه وم�شور ِت ِه‬
‫هيد‪.‬‬‫المجاهد وال�شّ ِ‬
‫ِ‬ ‫ف�ضل الجها ِد‪ ،‬و�أج َر‬‫المجاهدين الم�سلمين‪ ،‬ويب ِّي َن ل ُه ْم َ‬
‫ليكون في طليع ِة ِ‬
‫جيو�ش‬ ‫(ركب) ظهرِ ح�صا ِن ِه‪َ ،‬‬ ‫ابن تيم ّي َة �أ ّو َل َم ْن �ش َّد على َ‬ ‫وكان ُ‬ ‫َ‬
‫حيث انت�ص َر الم�سلمون‪،‬‬ ‫المغول في �شقحب جنوبي دم�شق ُ‬ ‫َ‬ ‫بت‬
‫الم�سلمين التي حا َر ْ‬
‫ِ‬
‫بوائق (جم ُع بائق ٍة‪،‬‬ ‫وفل�سطين وم�ص ُر والحجا ُز من َ‬ ‫ُ‬ ‫بذلك بال ُد ال�شّ ِام‬‫و�سلمت َ‬ ‫ْ‬
‫وهي ال�شّ ُر) المغولِ ‪.‬‬
‫ملك المغولِ ‪ ،‬و�أخذَ يخ ّو ُف ُه‬ ‫(قازان) َ‬‫َ‬ ‫وفد من العلما ِء‪َ ،‬‬
‫وقابل‬ ‫وذهب على ر� ِأ�س ٍ‬ ‫َ‬
‫جيو�ش ِه على‬ ‫زحف ِ‬ ‫إيقاف ِ‬ ‫��ازان) ب� ِ‬‫ت��ار ًة (م��رةً) ويقن ُع ُه أ�خ��رى‪ ،‬حتى اقتن َع (ق ُ‬
‫�سراح جمي ِع الأ�سرى الم�سلمين‪.‬‬ ‫أطلق َ‬ ‫دم�شق‪ ،‬و� َ‬ ‫َ‬
‫‪100‬‬
101
‫آالم‬
‫ال ّ�سج ُن وطري ُق ال ِ‬
‫ابن تيم ّي ٍة بفتن ِة‬‫متحن ُ‬‫وقد ُ�أ َ‬ ‫أحب اللهّ ُ عبد ًا‪ ،‬ف إ� ّن ُه يمتح ُن ُه ليرى مدى �إيما ِن ِه‪ْ ،‬‬ ‫�إذا � َ‬
‫كان من �أعظ ِـم �أهلِ ع�صرِ ِه قو ًة في قولِ‬ ‫عند اهللِ‪� ،‬إذْ َ‬ ‫واحت�سب �أج َر ُه َ‬
‫َ‬ ‫جن‪ ،‬ف�صب َر‪،‬‬ ‫ال�س ِ‬
‫ّ‬
‫بغ�ضب � ِّأي‬ ‫ٍ‬ ‫عا�ض ًا علي ِه بنواجذ ِه (متم�سك ًا ب ِه بقو ٍة) ال يعب ُ�أ (ال يبالي)‬ ‫الحـقِ ‪ ،‬وثبات ًا علي ِه‪ّ ،‬‬
‫فكره ُه الحا�سدون‪ ،‬وامتل ْأت قلو ُب ُهم غيظ ًا‪.‬‬ ‫ّا�س‪ ،‬والتفوا حو َل ُه‪َ ،‬‬ ‫فقد �أح َّب ُه الن ُ‬
‫لذلك ْ‬ ‫�إن�سانٍ ‪َ ،‬‬
‫إ�سالم من �أهل المذاهبِ الباطل ِة و�أهلِ البد ِع‪ ،‬فكادوا َل ُه‪ ،‬و�أوقعوا‬ ‫وه َو َم ْن ت�ص ّدى لأعدا ِء ال ِ‬
‫فنقل �إلى م�ص َر‪ ،‬وت ّم ْت‬ ‫بيبر�س الجا�شنكي َر‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ركن ال ّد ِين‬
‫وال�ش ِام ِ‬ ‫ين �سلطانِ م�صرِ ّ‬ ‫بي َن ُه و َب َ‬
‫بالحب�س �سن ًة ون�صف ًا في‬ ‫ِ‬ ‫محاكم ُت ُه بح�ضو ِر الق�ضا ِة وكبا ِر رجـالِ ال ّدول ِة‪ ،‬فحكموا علي ِه‬
‫وخ�صوم ِه‬
‫ِ‬ ‫جن‪ ،‬وعقدوا جل�س َة مناظر ٍة بي َن ُه َ‬
‫وبين مناف�سي ِه‬ ‫ال�س ِ‬ ‫القلع ِة‪ ،‬ثم �أخرجو ُه من ّ‬
‫ينج من ُه ْم‪ ،‬ف ُنفي �إلى ال�شّ ِام‪،‬‬ ‫ابن تيم ّي َة المناظرةَ‪ .‬لك ّن ُه لم ُ‬ ‫فك�سب ُ‬‫َ‬ ‫(مناف�سي ِه)‬
‫قل �إلى الإ�سكندر ّي ِة‬ ‫ب�س فيها‪ ،‬ثم ُن َ‬ ‫وح َ‬
‫ثم عا َد مر ًة �أخرى �إلى م�ص َر‪ُ ،‬‬
‫ابن تيم ّي َة‬ ‫هناك ثماني َة �شهورٍ‪ .‬وا�ستم ّر ْت محن ُة (�أزم ُة) ِ‬ ‫ب�س َ‬ ‫حيث ُح َ‬
‫ُ‬
‫بن‬ ‫الملك النّا�ص ُر محم ٌد ُ‬ ‫لطان ُ‬ ‫ال�س ُ‬ ‫�إلى � ْأن عا َد �إلى القاهر ِة‪ ،‬وق ّر َر ّ‬
‫الحق في معاقب ِة‬ ‫الموجه ِة �إلي ِه‪ ،‬و�أعطا ُه َّ‬ ‫هم ّ‬ ‫قالوون براء َت ُه من ال ّت ِ‬
‫َ‬
‫�شيخ‬
‫كان من ِ‬ ‫خ�صوم ِه الذين كانوا ورا َء �سج ِن ِه وتعذي ِب ِه‪ ،‬فما َ‬ ‫ِ‬
‫(�سامح ُه ْم)؛ �إكرام ًا هللِ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫إ�سالم الجليلِ �إ ّال �أن عفا عن ُه ْم‬
‫ال ِ‬

‫‪102‬‬
103
‫ال�سلطان � ْأن‬ ‫ورف�ض �أن يغ ّي َر فتوا ُه في م�س�أل ٍة‪َ � ،‬أم َر ُه ّ‬ ‫ابن تيم ّي َة‪ ،‬عندما عا َد �إلى دم�شقَ ‪َ ،‬‬ ‫دت محن ُة ِ‬ ‫ثم تج ّد ْ‬
‫لطان‬
‫ال�س ُ‬ ‫العلم "‪ ،‬ف�سج َن ُه ّ‬ ‫كتمان ِ‬ ‫وتم�س َك بر�أ ِي ِه قائ ًال‪ " :‬ال ي�سعني ُ‬ ‫ذلك بقو ٍة‪ّ ،‬‬ ‫رف�ض َ‬ ‫يغي ْر ر�أ َي ُه فيها‪ ،‬لك ّن ُه َ‬
‫لل�سفرِ ) �إلى قبور الأنبيا ِء‬ ‫�شد ال ّرحالِ (الته ّي أُ� ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬و ُيفتي بحرم ِة ِّ‬ ‫بعد َ‬ ‫ليخرج َ‬‫َ‬ ‫جديد ل�ست ِة �أ�شهرٍ ‪،‬‬
‫من ٍ‬
‫بحب�س ِه من‬ ‫فقام ِ‬ ‫لطان علي ِه مر ًة �أخرى‪َ ،‬‬ ‫ال�س َ‬ ‫وال�صالحين‪ ،‬فانتهزَ خ�صو ُم ُه الفر�ص َة‪ ،‬و�أ ّلبوا (ح ّر�ضوا) ّ‬
‫جن حتى توفّا ُه اهللُ‪.‬‬ ‫ال�س ِ‬ ‫ذلك ّ‬ ‫ومكث في َ‬ ‫ذلك في �سن ِة ‪726‬هـ‪َ ،‬‬ ‫وكان َ‬ ‫جديد و�أخاه الذي كان يخد ُمهُ‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫ّجاح والعطا ِء‪ ،‬وانقط َع في‬ ‫جن �إلى �سبيلٍ للن ِ‬ ‫ال�س ِ‬ ‫ابن تيم ّي َة محن َت ُه في ّ‬ ‫فقد �ص ّي َر ُ‬ ‫وك�ش�أنِ العظما ِء ْ‬
‫ال�سجونِ ‪ ،‬وهي‬ ‫الطويل ِة في ّ‬ ‫(معظم) م�ؤلفا ِت ِه في رحل ِت ِه ّ‬ ‫َ‬ ‫أليف والكتاب ِة‪ ،‬ف�أ ّل َف ُج َّل‬ ‫�سج ِن ِه للعباد ِة‪ ،‬وللت� ِ‬
‫(كتاب)‬ ‫ِ‬ ‫بلغت الخم�سمئ ِة م�صن ٍّف‬ ‫قيل �إ ّنها قد ْ‬ ‫وقد َ‬ ‫حد يتع ّذ ُر م َع ُه � ْأن تُح�صى (تع َّد)‪ْ ،‬‬ ‫كثير ٌة �إلى ٍّ‬
‫(ت�ضعف) عزيم ُت ُه‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫كتمان �صو ِت ِه‪ ،‬لم ت ِل ْن‬
‫َ‬ ‫�سجانو ُه من الحبرِ والورقِ ‪ ،‬و�أرادوا‬ ‫ومج ّل ٍد‪ ،‬وعندما من َع ُه ّ‬
‫يكتب من‬ ‫كتاب بل ُ‬ ‫يطل َع على ٍ‬ ‫دون �أن ّ‬
‫وهناك‪َ ،‬‬‫َ‬ ‫بالفحم على �أوراقٍ مبعثر ٍة هنا‬ ‫ِ‬ ‫يكتب‬
‫فكان ُ‬ ‫وتح ّداهم‪َ ،‬‬
‫�شيء‪ ،‬وترديد مقول ِت ِه‪ " :‬ما‬ ‫كل ٍ‬ ‫وكان ديد ُن ُه (عاد ُت ُه) في �سج ِن ِه �شك َر اهلل ِ على ِّ‬ ‫حافظ ِت ِه (ذاكر ِت ِه)‪َ ،‬‬
‫رحت‪ ،‬فهي معي ال تفارقني‪َّ � ،‬إن‬ ‫ي�صن ُع �أعدائي بي ؟!! �أنا جنتي وب�ستاني في �صدري أ� ّنى (�أينما) ُ‬
‫المحبو�س‬
‫ُ‬ ‫كذلك في �سج ِن ِه‪" :‬‬ ‫يقول َ‬ ‫حب�سي خلوةٌ‪ ،‬وقتلي �شهادةٌ‪ ،‬و�إخراجي من بلدي �سياح ٌة "‪َ .‬‬
‫وكان ُ‬
‫ب�س قل َب ُه عن ر ِب ِه‪ ،‬والم�أ�سو ُر َم ْن � َأ�س َر ُه هوا ُه "‪.‬‬ ‫َم ْن َح َ‬
‫جن �سبب ًا العتكا ِف ِه‬ ‫ال�س ُ‬ ‫يكون ّ‬ ‫ابن تي ّمي َة � ْأن َ‬ ‫المخل�ص ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والعابد‬ ‫ال�صادقِ‬
‫ؤمن ّ‬ ‫وقد ق�� ّد َر اهلل ُ للم� ِ‬ ‫ْ‬
‫كان �سج ِن ِه في ال ّديا ِر الم�صر ّي ِة �سبب ًا عظيم ًا النت�شا ِر م�صنّفا ِت ِه في‬ ‫أليف‪ ،‬كما َ‬ ‫(انقطاع ِه) على ال ّت� ِ‬ ‫ِ‬
‫علم ِه في البال ِد ال�شّ رق ّي ِة‪.‬‬ ‫كان وجو ُد ُه في بال ِد ال�شّ ِام �سبب ًا في انت�شا ِر ِ‬ ‫حين َ‬ ‫المغرب قاطب ٍة‪ ،‬في ِ‬ ‫ِ‬ ‫بال ِد‬
‫‪104‬‬
‫�أفو ُل ال ّ�ش ِ‬
‫م�س‬
‫وكان �أفو ُلها ب�إراد ِت ِه‬‫أ�شرقت ب�إراد ِة اهللِ‪َ ،‬‬ ‫وابن تيم ّي َة كان �شم�س ًا‪ْ � ،‬‬ ‫(غياب)‪ُ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الب َّد لل�شّ ِ‬
‫م�س من �أفولٍ‬
‫وانتقل �إلى جوا ِر ِه عن عمر‬ ‫َ‬ ‫�أي�ض ًا‪ ،‬ففي يوم ‪ 26‬من ذي القعد ِة �سنة ‪728‬هـ‪ ،‬ل ّبى ُ‬
‫ابن تيم ّي َة ندا َء ر ّب ِه‪،‬‬
‫ّا�س‪ ،‬الذين جزعوا (حزنوا ب�ش ّد ٍة)‬ ‫يعلم به �أكث ُر الن ِ‬‫دام ب�ضع ٍة وع�شرين يوم ًا‪ ،‬ولم ْ‬ ‫مر�ض َ‬
‫بعد ٍ‬ ‫‪ 67‬عام ًا‪َ ،‬‬
‫باب القلع ِة‪ ،‬التي امتل ْأت بالخلقِ ‪،‬‬ ‫دم�شق‪ ،‬وفتحوا َ‬ ‫حيث �سج ِن ِه في َ‬ ‫حول القلع ِة ُ‬ ‫من خبرِ مو ِت ِه‪ ،‬واجتمعوا َ‬
‫عندئذ‬ ‫ٍ‬ ‫حيث مرق ُد ُه الأخي ُر‪ ،‬وكانوا‬ ‫دم�شق ُ‬ ‫َ‬ ‫أر�ض المرتفع ِة)‬
‫الذين �ص ّلوا علي ِه‪ ،‬و�ش ّيعو ُه �إلى ظاهرِ (ال ِ‬
‫ٍ‬
‫ون�ساء‬ ‫وجند وعام ٍة من رجالٍ‬ ‫ألف من الم�شي ّعين من قاد ٍة وعلما َء ٍ‬ ‫يربون (يزيدون) على خم�سين � ٍ‬
‫و�صل ّي ْت علي ِه �صال ُة الغائبِ‬ ‫وعط ْلت ال ُ‬
‫أعمال‪ُ ،‬‬ ‫خلت دم�شقُ من �أه ِل َها‪ ،‬و�أُ ْ‬
‫غلقت الأ�سواقُ ‪ّ ،‬‬ ‫و�صبي ٍة‪ ،‬حتى ْ‬
‫ٍ‬
‫بق�صائد‬ ‫الختمات‪ ،‬ورثا ُه كثي ٌر من الف�ضال ِء‬
‫ُ‬ ‫في م�ص َر والعراقِ وكثيرٍ من ديا ِر الم�سلمين‪ ،‬وخُ ْ‬
‫تمت له‬
‫هلل ولنب ّي ِه‬ ‫كان ن�سي ًا من�س ّي ًا‪ ،‬بل خ ّلد ُه عم ُل ُه وجها ُد ُه ون�صر ُت ُه ِ‬ ‫راب‪ ،‬ولكن ما َ‬ ‫حزين ٍة‪َ ،‬‬
‫وغاب في ال ّت ِ‬
‫طالب ر�ضى ر ِّب ِه‪ ،‬فطوبى (خي ٌر‬ ‫مدافع عن دي ِن ِه‪ٍ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ؤمن‬
‫كل م� ٍ‬‫وم�صنفا ِت ِه في ِ�سفْر الخالدين‪ ،‬وفي قلبِ ِّ‬
‫آجل (الحيا َة الآخرةَ)‬ ‫البن تيم ّي َة‪ ،‬الذي كان ُح ّج َة ع�صرِ ِه‪ ،‬ومعيا َر الحقِ والباطلِ ‪ ،‬وم�ؤث َر ال َ‬ ‫وبرك ٌة) ِ‬
‫بابن تيم ّي َة �آخر يقو ُد‬ ‫ينعم اهلل ُعلينا ِ‬ ‫فهل ُ‬ ‫على العاجلِ (الحيا ِة ال ّدنيا) و�أعجوب َة زما ِن ِه‪ ،‬وبح َر ِ‬
‫العلوم‪ْ .‬‬
‫هم منيبين م�ستغفرين ؟؟؟‪.‬‬ ‫عود َة م�سلمي هذا الع�صرِ �إلى ر ّب ِ‬

‫‪105‬‬
‫ل ّون معنا‬

‫‪106‬‬
107

You might also like