You are on page 1of 89

‫شناسنامه‪:‬‬

‫حدث ذات جدار‬

‫فهرست‬

‫‪7‬‬ ‫إهداء ‬
‫ً‬
‫‪9‬‬ ‫قريبا من الجدار ‬
‫‪10‬‬ ‫إضاءة على ظالم ‬
‫‪11‬‬ ‫وبكى الجدار ‬
‫‪15‬‬ ‫المقبرة ‬
‫‪17‬‬ ‫حالة أمومة ‬
‫‪21‬‬ ‫السري ‬ ‫الصديق ّ‬ ‫ّ‬
‫‪26‬‬ ‫شمس ومطر على جدار واحد ‬
‫‪34‬‬ ‫عندما ال يأتي العيد ‬
‫‪40‬‬ ‫الصراخ ‬ ‫وادي ّ‬
‫ًّ‬
‫‪45‬‬ ‫سر ا‬ ‫الغروب ال يأتي‬
‫‪49‬‬ ‫ساللة ّالن ْور ‬
‫‪53‬‬ ‫ما قاله الجدار ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫‪53‬‬ ‫السجان مسجون ‬
‫أيضا‬
‫‪53‬‬ ‫الرمثاوي ال ُيضام ‬ ‫ّ‬ ‫قبر‬
‫‪54‬‬ ‫ال قصة حب للجدار العازل ‬ ‫ّ‬
‫‪55‬‬ ‫ّبوابة واحدة ال تكفي ‬
‫‪56‬‬ ‫ضد األقدام العائدة ‬ ‫ال قانون ّ‬
‫ً‬
‫‪56‬‬ ‫الخيل األصيلة تعود دائما إلى أهلها ‬
‫‪57‬‬ ‫الموتى ال يرحلون ‬
‫‪58‬‬ ‫طائر الفينيق حقيقة ال أسطورة ‬
‫حدث ذات جدار‬

‫‪58‬‬ ‫المجانين ّ‬
‫ضد الجنو ن‬
‫‪59‬‬ ‫الموت يساوي بين األشياء ‬
‫‪60‬‬ ‫ثورة العصافير خارج ّالتاريخ ‬
‫‪60‬‬ ‫على الجدار أن يرحل في ّالنهاية ‬
‫ً‬
‫‪63‬‬ ‫بعيدا عن الجدار ‬
‫‪64‬‬ ‫البوصلة واألظافر وأفول المطر ‬
‫‪70‬‬ ‫ُخ ّر ّ‬
‫افية أبو عرب ‬
‫حدث ذات جدار‬

‫من واجب الجدار الفاصل أن يخجل من نفسه‪،‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬
‫سرا‪ -‬احتجاجا على طغيانه واشمئزازا من وجوده!‬ ‫وأن يبكي ‪-‬ولو‬

‫‪6‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫إهداء‬

‫وتجب ْ‬
‫رت‪.‬‬ ‫علت ّ‬ ‫إلى َم ْن ال تهزمهم األسوار مهما ْ‬
‫ّ‬
‫السامقة الطاهرة التي ال ُتهزم وال تنكسر‪.‬‬
‫إلى ّأمي (نعيمة المشايخ) القامة ّ‬

‫‪7‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ً‬
‫قريبا من الجدار‬
‫حدث ذات جدار‬

‫إضاءة على ظالم‬


‫ الجــدار العــازل أو الجــدار الفاصــل هــو عبــارة عــن حاجــز طويــل بنــاه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الضفــة ّ‬ ‫الصهيونــيّ فــي ّ‬
‫الكيــان ّ‬
‫الغربيــة مــن فلســطين المحتلــة قــرب الخــط‬
‫الضفــة ّ‬ ‫ّ‬
‫ســكان ّ‬
‫الغربيــة إلــى الكيــان‬ ‫األخضر؛لمنــع دخــول الفلســطينيين‬
‫هيونيــة القريبــة مــن الخــط ّاألخضــر‪.‬‬ ‫الصهيونــيّ أو إلــى المســتدمرات‪ّ 1‬‬
‫الص ّ‬ ‫ّ‬
‫دوريــات‪ ،‬أو مــن أســوار إسـ ّ‬ ‫ـكل هــذا الحاجــز مــن ســياجات وطــرق ّ‬ ‫ّ‬
‫ـمنتية‬ ‫يتشـ‬
‫ّ‬ ‫بــدل ّ‬
‫الســياجات فــي المناطــق المأهولــة بكثافــة مثــل منطقــة المثلــث أو منطقــة‬
‫القــدس‪.‬‬
‫ّ‬
‫ بــدأ بنــاء الجــدار فــي عــام ‪ 2002‬م فــي ظــل انتفاضــة األقصــى‪ ،‬وفــي نهايــة‬
‫عــام ‪2006‬م بلــغ طولــه ‪ 402‬كــم‪ ،‬ويمـ ّـر فــي مســار متعـ ّـرج يحيــط بمعظــم أراضي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الغربيــة‪ ،‬وفــي أماكــن معينــة‪ ،‬مثــل مدينــة قلقيليــة‪ ،‬يشــكل معــازل‪ّ ،‬أي‬ ‫الضفــة ّ‬
‫ً‬
‫مدينــة أو مجموعــة بلــدات محاطــة تقريبــا بالجــدار مــن جهاتهــا جميعهــا ‪.‬‬
‫والمنظمــات الفلسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫الوطنيــة الفلسـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ وبينمــا تعــارض ّ‬
‫ـطينية بنــاء‬ ‫ـطينية‬ ‫الســلطة‬
‫الضــم‬‫العنصــري»‪ ،‬أو «جــدار ّ‬‫ّ‬ ‫الجــدار‪ُ ،‬وتطلــق عليــه اســم «جــدار الفصــل‬
‫ً‬
‫تعبيــرا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫صهيونيــة إلعاقــة‬ ‫عمــا تــراه فيــه مــن محاولــة‬ ‫العنصــري»‪،‬‬ ‫والت ّوســع‬
‫الضفــة الغربيــة إلــى الكيــان‬ ‫ضــم أراض مــن ّ‬ ‫الســكان الفلســطينيين أو ّ‬ ‫حيــاة ّ‬
‫ٍ‬
‫الصهيون ـيّ علــى االســتمرار فــي ّالت ّوســع فــي بنــاء‬ ‫يصمــم الكيــان ّ‬
‫الصهيون ـيّ‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫هــذا الجــدار!!!‬
‫‪ -1‬المســتعمرة تحمــل معنــى اإلعمــار‪ّ ،‬أمــا مــا يبنيــه الكيــان ّ‬
‫الصهيونــيّ علــى أرض فلســطين ليــأوي فيــه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصهاينــة المرتزقــة هــو ليــس أكثــر مــن مســتدمرة تدمــر األرض والشــعب الفلســطينيّ بعــد أن‬ ‫المهاجريــن ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تســرق األرض الفلسـ ّ‬
‫ـطينية مــن أهلهــا بقــوة القهــر والظلــم‪ ،‬ثــم بعــد ذلــك تفســد كل شــيء‪.‬إذن فهــي مســتدمرة‬
‫ال مســتعمرة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫وبكى الجدار‬
‫ّ‬ ‫حزينــا ّ‬‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫يعــج بالخــوف والظلــم‬ ‫فلســطينيا‬ ‫ ولــدا فــي يــوم واحــد‪ ،‬كان يومــا‬
‫ً‬
‫ـرا مــن ُمــزن ّ‬ ‫ً‬
‫الســماء ومــن عيــون المآقــي‪،‬‬ ‫والقســوة والحرمــان‪ ،‬كان يومــا ماطـ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫محمــوال حينئــذ علــى ّ‬ ‫وكان ّ‬
‫خشــبية قديمــة ملفوفــا بالعلــم‬ ‫محفــة‬ ‫ٍ‬ ‫العــم نــور‬
‫ّ ً‬
‫ومشــيعا بترنيمــة الخلود‪»:‬اللــه أكبــر»‪.‬‬ ‫الفلســطينيّ‪،‬‬
‫ فــي طريقــه إلــى مثــواه األخيــر فــي بطــن ثــرى ّأمــه فلســطين‪ ،‬كانــت ّالزغاريــد‬
‫لعمهــا البطــل المغوار‪.‬كانــا فتــى‬ ‫فــي انتظارهمــا ال ترحيبـ ًـا بهمــا‪ ،‬بــل وداعـ ًـا ّ‬
‫وفتــاة‪ ،‬مــن لحظاتهمــا األولــى فــي الحيــاة حمــا االســم نفســه‪ ،‬ففــي خــاف‬
‫الشــهيد ألحــد‬‫عاجــل بيــن والديهمــا المتنازعيــن علــى وهــب اســم شــقيقهما ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫المولوديــن الجديديــن‪ ،‬قـ ّـررا أن يكــون اســم كل منهمــا نــورا نــزوال عنــد اقتــراح‬
‫ّ‬
‫ـرض البنيهــا فــي‬
‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫ـ‬ ‫توفيق‬ ‫ـل‬ ‫ّأمهمــا الجـ ّـدة التــي أرادت أن تحســم الخــاف بحـ‬
‫آن‪.‬‬
‫ً‬
‫نهــار وال فــي ليــل‪ ،‬يــأكالن ويشــربان‬ ‫ٍ‬ ‫ لــم يفترقــا أبــدا منــذ ُولــدا ال فــي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫متحابيــن‪ ،‬كل مــن رآهمــا‬ ‫ويســتيقظان وينامــان فــي لحظــة واحــدة كتوأميــن‬
‫ّ‬
‫ـن ّأنهمــا وليــدا رحــم واحــد‪ ،‬قليــل مــن كان يعــرف ّأنهمــا أبنــاء عـ ّـم‪ ،‬وأقــل‬ ‫ظـ ّ‬
‫ّ‬
‫ـاة؛ألن‬ ‫منهــم مــن يســتطيعون أن يجزمــوا إن كانــا صبييــن أم فتاتيــن أم صبـيّ وفتـ‬
‫الجـ ّـدة اعتــادت علــى ّالرغــم مــن احتجــاج أميهمــا علــى أن تلبســهما مالبــس‬
‫المتيســر عندهــا مــن‬ ‫ّ‬ ‫والديــة أم أثــواب ّ‬
‫بناتيــة وفــق‬ ‫بــزات ّ‬ ‫متشــابه أكانــت ّ‬
‫ً‬
‫خوالــف مالبــس باقــي الحفــدة‪ ،‬وكان يســعدها أن تراهمــا يــكادان يطيــران فرحــا‬
‫بمالبســهما المتشــابه الموروثــة ّالرثــة الفاقــدة للونهــا األصلــيّ ّالزاهــي بفعــل‬
‫ّالتقــادم وطــوال االســتهالك‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ كلمــا صــاح أحدهمــا باســم نــور‪ ،‬طــارا كالهمــا إليــه مبتســمين بخبــث طفولـيّ‬
‫ّ‬ ‫مشــاكس ّ‬
‫يصمــم علــى أن يكونــا شــريكين فــي كل شــيء حتــى فــي تلبيــة‬
‫ً‬
‫ـن‬ ‫ـدا مهمــا كانــت األســباب‪ ،‬ولكـ ّ‬ ‫صــوت ّالداعــي‪ ،‬مــا كانــا ليقبــا بــأن يفترقــا أبـ‬
‫ّ‬
‫المــرض وحــده هــو مــن فـ ّـرق بينهما؛الجـ ّـدة أخــذت حفيدتهــا نــور إلــى الطبيــب‬
‫فــي البلــدة المجــاورة لقريتهــم‪ ،‬يومهــا وعــدت حفيدهــا الباكــي نــور بــأن تعــود‬
‫ّ‬
‫بحفيدتهــا نــور فــي ظــرف ســاعات قليلــة بعــد أن تعرضهــا علــى الطبيــب‬
‫ألن مــرض نــور ألزمهــا البقــاء فــي‬ ‫ولكنهــا لــم تبـ ّـر بوعدهــا مكرهــة ّ‬ ‫ـص‪ّ ،‬‬ ‫المختـ ّ‬
‫ُ‬
‫مستشــفى البلــدة أليــام أخــر‪.‬‬
‫الطعــام فــي انتظــار عــودة ابنــة ّ‬ ‫ّ‬
‫عمــه نــور‪ ،‬ولــوال تهديــد‬ ‫ أضــرب نــور عــن‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫والــده لــه بعــدم عــودة نــور إن لــم يــأكل لقضــى نحبــه جوعــا‪ ،‬ومعدتــه الصغيــرة‬
‫ً‬
‫وجســده الهزيــل أضعــف مــن أن يحتمــا الجــوع لســاعات فضــا عــن أيــام‪.‬‬
‫ً‬ ‫ طــال انتظــار نــور لعــودة ابنــة ّ‬
‫عمــه نــور‪ ،‬ومــا عــاد أحــد قــادرا علــى أن يجيــب‬
‫ّ‬ ‫عــن ســؤاله الحائــر ّ‬
‫المفجع‪»:‬متــى تعــود نــور إلــى البيــت؟» فالــكل كان فــي‬
‫انشــغال وهـ ّـم بســبب ذلــك الجــدار اإلســمنتيّ األصـ ّـم الــذي ُزرع حــول قريتهــم‬
‫ً‬
‫علــى غفلــة بيــن ليلــة وضحاهــا بخرســانة جاهــزة ّتثبــت فــي األرض تثبيتــا‬
‫ً‬ ‫ـريعا فــي ســاعات قليلــة‪ ،‬وتغـ ّـول حتــى وصــل إلــى عنــان ّ‬ ‫ً‬
‫الســماء حاجبــا‬ ‫سـ‬
‫ـورا‪ ،‬بصعوبــة اســتطاعت ســنواته ّ‬ ‫ً‬ ‫الشــمس ّ‬ ‫خلفــه ّ‬
‫الســبع أن تســتوعب‬ ‫وجدتــه ونـ‬
‫وأنــه مــن ّ‬ ‫الصلــد العاتــي‪ّ ،‬‬
‫ـورا مســجونتان خلــف الجــدار ّ‬ ‫ً‬ ‫ّأن ّ‬
‫الصعــب‬ ‫جدتــه ونـ‬
‫إن لــم يكــن مــن المســتحيل أن ُيســمح لهمــا بعبــور بوابــة الجــدار للعــودة إلــى‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫قريتهمــا‪ّ ،‬‬
‫ولكنــه أبــدا لــم يســلم إلــى هــذا الحكــم الجائــر الــذي يحرمــه مــن‬
‫أثيرتــه نــور‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والجــدة‬ ‫ وعــا الجــدار أكثــر وأكثــر‪ ،‬ومضــت األيــام الطــوال ببــطء قاتــل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ونــور مســجونتان خلــف الجــدار‪ ،‬وهــوال ينفـ ّ‬
‫ـك يذهــب كل صبــاح إلــى الجــدار‬
‫الصهاينــة الذيــن ال يمكــن أن‬ ‫بالحــد الــذي ُيســمح لــه بــه الجنــود ّ‬ ‫ّ‬ ‫يالزمــه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يفهمــوا معنــى أن ينتظــر أثيرتــه نــورا دون فتــور أو كلــل أو ابتعاد‪.‬كثيــرا مــا كان‬
‫ّ‬
‫نور؛لعلهــا تكــون قريبــة مــن الجــدار‪ ،‬فتـ ّ‬
‫ـرد عليــه‪ ،‬وعندمــا كان‬ ‫يصــرخ باســم‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يعييــه صمتهــا كان يضــرب الجــدار بحجــر‪ ،‬ويولــي هاربــا مــن الجنــود الــذي‬
‫ّ‬
‫والعبريــة‬ ‫يصلونــه بتوعداتهــم وســبابهم البــذيء الخليــط مــن العربيــة ّالركيكــة‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االنفعاليــة المضطربــة اللفــظ والمعنــى‪ ،‬ثــم يهــرب بعيــدا ليعــود مــن‬ ‫والكلمــات‬
‫جديــد فــي أقــرب وقــت ليســتأنف نــداءه لنــور دون مجيــب أو رحيــم بحالــه‪.‬‬
‫ـدا عــن الجــدار‪ ،‬وهــو يعـ ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ـض علــى‬ ‫ كثيــرا مــا حملــه أبــوه بحــزم حنــون بعيـ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫حزنــه وانتظــاره ّ‬
‫ألمــه المســجونة خلــف الجــدار‪ ،‬منكــودا بعجــزه وقلــة حيلتــه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حا بجملــة واحــدة ال ّ‬ ‫ّ ً‬
‫ـتعود جدتــك ونــور فــي القريــب‬ ‫تتغيــر‪ ،‬وهي‪»:‬سـ‬ ‫متســل‬
‫ألــح نورعلــى معرفــة وقــت عودتهمــا ّ‬
‫بالتحديــد‬ ‫العاجــل ّإن شــاء الله»‪.‬فــإن ّ‬
‫ـف نــور عــن إلحاحــه‬ ‫انخــرط أبــوه فــي بــكاء صامــت مخنــوق ّيبلــل لحيتــه‪ ،‬فيكـ ّ‬
‫رحمــة منــه بأبيــه الباكــي المحــزون‪.‬‬
‫ً‬ ‫ عــرف نــور ّأن جدتــه وابنــة ّ‬
‫عمــه نــورا تعيشــان فــي بيــت قريــب لهمــا فــي‬
‫ولكنــه لــم يســتطع أن‬ ‫تحســن‪ّ ،‬‬ ‫صحــة نــور فــي ّ‬ ‫البلــدة خلــف الجــدار‪ ،‬وعلــم ّأن ّ‬
‫يفــارق أملــه فــي أن يســمع صوتهــا يـ ّـرد علــى ندائــه اليومـيّ مــن خلــف الجــدار‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وفكــر فــي أن يلفــت نظرهــا بإطــاق طائرتــه الورقيــة إلــى أعلــى الجــدار‪ ،‬لعلهــا‬
‫تطاولــه أو تعلــوه‪ ،‬فتراهــا نــور‪ ،‬وتعــرف ّأنــه فــي أقــرب نقطــة ممكنــة منهــا‪ ،‬وكاد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ينجــح فــي خطتــه التــي كلفتــه الكثيــر مــن الجهــد والخيــوط المســتعارة مــن‬

‫‪13‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫الصهاينــة صــادروا طائرتــه فــي ّأول تحليقــة لهــا‪،‬‬ ‫حيــه‪ ،‬لكــن الجنــود ّ‬ ‫أبنــاء ّ‬
‫وأعدموهــا هنــاك فــي حجــرة المراقبــة المنتصبــة فــوق بوابــة الجــدار‪ ،‬وهكــذا‬
‫الصغيــرة نــور‪.‬‬ ‫فقــد أملــه األخيــر فــي ّالتواصــل مــع أثيرتــه ّ‬
‫ صمــم علــى أن ال يفــارق الجــدار دون أن يعــود بنــوره‪ ،‬واعتكــف إلى جانبــه أليام‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫شـ ّ‬
‫ـتوية بــاردة‪ ،‬فشــلت محــاوالت األســرة كلهــا فــي إعادتــه إلــى البيــت‪ ،‬وكان‬
‫المصمميــن‬ ‫تتلقفــه أيــدي ّ‬ ‫يمضــي وقتــه هاربـ ًـا مــن ناحيــة إلــى ناحيــة كــي ال ّ‬
‫ّ ً‬
‫ضنــا بــه علــى هــذا العــذاب الموصــول فــي انتظــار ابنــة‬ ‫علــى إعادتــه إلــى بيتــه‬
‫والضنك‬‫عمــه نــور التــي لــن تعــود مهمــا كابــد مــن عنــاء البــرد والعــراء والجــوع ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫واالنتظــار المعــذب‪.‬‬
‫ وحــده الجــدار مــن كان يعــرف أيــن يختبــئ نــور مــن مطارديــه مــن أســرته‬
‫حتــى يقفلــوا راجعيــن خائبيــن مــن حيــث أتــوا دون أن يعــودوا بــه علــى كــره‬
‫الصلــدة القاســية لــو يســتطيع أن‬ ‫ـمنتية ّ‬ ‫منــه‪ ،‬وكــم كاد ّ‬
‫يتمنــى مــن أعماقــه اإلسـ ّ‬
‫الصغيــرة نــور التــي تنتظــره علــى‬ ‫يملــك نطقـ ًـا ليوصــل ســام نــور المشــتاق إلــى ّ‬
‫ً‬
‫الجهــة األخــرى منــه رافضــة أن تعــود مــع جدتهــا إلــى بيــت األقــارب هربــا مــن‬
‫ّ‬
‫هــذه الليلــة البــاردة‪.‬‬
‫ وعندمــا كان يغلبــه ضعفــه كان يحــاول دون جــدوى أن يصـ ّـد بمنكبيــه تلــك‬
‫الســحابة تطاولــت عليه‪،‬‬ ‫ـن ّ‬ ‫الســوداء التــي تنــذر بليلــة ماطرة بــاردة‪ ،‬لكـ ّ‬
‫الســحب ّ‬ ‫ّ‬
‫واســتهانت بمنكبيــه العمالقيــن‪ ،‬وغشــيت المــكان ضـ ّـد رغبتــه‪ ،‬وهيمنــت علــى‬
‫ً‬ ‫ّ ً‬
‫مخزيــا خجــا مــن قســوته‬ ‫الســماء مزبــدة مرعــدة‪ ،‬فارتـ ّـد الجــدار إلــى نفســه‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫علــى قلبــي طفليــن ال يريــدان مــن الحيــاة إال أن يلتقيــا‪.‬‬
‫بالصمــت والعجــز‪ ،‬وأغرقــه فــي دفعــات ضخمــة مــن‬ ‫ المطــر ألجــم المــكان ّ‬

‫‪14‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ّ‬
‫البلـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إال فــي ّ‬
‫ـوري‬ ‫الصبــاح وقــد غســل كل شــيء بطهــره‬ ‫شــآبيبه‪ ،‬ومــا انجلــى‬
‫ّ‬
‫البــارد‪ ،‬وهنــاك كان الجــدار يبكــي بحرقــة علــى طفليــن صغيريــن كل منهمــا‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫يحمــل اســم نــور‪ ،‬وهــو يغشــاهما بظلــه اللئيــم األســود القابــض وكل منهمــا‬
‫ـجى علــى ناحيــة مختلفــة مــن جســده ّ‬
‫الصلــد البــارد‪.‬‬ ‫ّميــت مسـ ّ‬
‫ألنــه حــرم أحدهمــا من‬ ‫الطفليــن المتغاليــن حزنـ ًـا وحســرة ّ‬
‫ّ‬
‫ حــزن الجــدار علــى‬
‫اآلخــر بجريمــة ّأنهمــا فلســطينيين‪ ،‬لــم يســتطع الجــدار أن يمــد كفيــه ليلتقــط‬
‫ّ‬
‫الصغيريــن كــي ال ينجســهما بخطيئتــه تجاههمــا‪،‬‬ ‫هذيــن الجســدين الهزيليــن ّ‬
‫ً ّ‬
‫وفــي لحظــة غضــب شــعواء منــه شــرع يهتـ ّـز فــي مكانــه‪ ،‬خالعــا كل مــا عليــه‬
‫للــدك ّ‬ ‫ً‬
‫مستســلما ّ‬ ‫مــن غــرف ومكامــن ومراقــب وجنــود ّ‬
‫والتهــاوي‬ ‫وبوابــات‪،‬‬
‫ـمنتية وفــي أحزانــه وندمــه‬‫ـرا عــن ذنبــه األســود‪ ،‬ومنداحـ ًـا فــي دموعــه اإلسـ ّ‬
‫ً‬
‫تكفيـ‬
‫الصغيريــن العاشــقين بتجبـ ٍـر وبطــش دون رحمــة‪.‬‬ ‫علــى قتــل ّ‬

‫المقبرة‬
‫ّ‬
‫الفلســطينية؛فأحزان‬ ‫رشــدية أن ُتحصــي أحزانهــا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحاجــة‬ ‫ ال تســتطيع‬
‫الصهيونــيّ تنهــش ماضيــه‬ ‫الفلســطينيّ ال ُتحصــى مادامــت لعنــة االحتــال ّ‬
‫ْ‬
‫فقــدت مــن‬ ‫وحاضــره ومســتقبله‪ ،‬كذلــك ال تســتطيع أن ُتحصــي عــدد مــن‬
‫أحبــة مــن أقــارب وجيــران وأصدقــاء بيــن قتــل وســجن ونفــي وتعذيــب ومــرض‬ ‫ّ‬
‫تصمــم علــى أن ال تذكــر‬ ‫بعدوهــا الغاشــم فهــي ّ‬‫وتشــويه واختطــاف‪ ،‬ونكايــة ّ‬
‫علنـ ًـا عــدد مــن ّقدمــت مــن أبنائهــا شــهداء فــي قوافــل ّ‬
‫الحر يــة‪ ،‬وإن كان قلبهــا‬
‫الشــباب‪،‬‬ ‫يحصيهــم فــي ّكل لحظــة بحرقــة ّ‬
‫وتوجــد وفقــد‪ ،‬فهــم ثالثــة مــن زينــة ّ‬
‫الصهيونــيّ‬ ‫شــهية عندمــا قصفهــم ّ‬
‫العــدو ّ‬ ‫ّ‬ ‫كانــوا مثــل ســنابل فرعــاء ّ‬
‫نديــة‬

‫‪15‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫المرتجــى أو بآمــال ّأمهــم التــي أفنــت‬


‫الواحــد تلــو اآلخــر دون أن يــرأف بشــبابهم ُ‬
‫ســنين شــبابهم عاكفــة علــى يتمهــم وفقرهــم‪.‬‬
‫ـدا مــن أبنائهــا‪ ،‬وكانــت ّ‬ ‫ً‬
‫تصمــم علــى أن‬ ‫ لــم يرهــا أحــد فــي يــوم تبكــي أحـ‬
‫ً‬
‫يناديهــا أهــل الحـيّ باســم ّأم الشــهداء‪ ،‬وتتيــه فخــرا كلمــا روت بالمــاء وبدمــوع‬
‫العينيــن زيتونــات قبورهــم‪ ،‬وداعبتهــا بانكســار يتعالــى علــى زفراتهــا الالهثــة‬
‫المفطــورة علــى ألــم عمــاق‪.‬‬
‫ أمــا اليــوم فلــم تخجــل مــن أن تنتحــب‪ ،‬وأن تبــذل دموعهــا سـ ّ‬
‫ـخية مــدرارة‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫وهــي تعانــق زيتونــات بســتانها‪ ،‬وتتشـ ّـبث بجــذع أكبرهــا لعلهــا تعصمهــا مــن‬
‫الشــمس‪ ،‬وعاثــوا‬ ‫القريــة مــن طلــوع ّ‬
‫الصهاينــة الذيــن داهمــوا ّ‬ ‫أيــدي جنــود ّ‬
‫ً‬ ‫ـا فــي أشــجارها قبــل أن ّ‬‫ً‬
‫يجرفــوا أرضهــا‪ ،‬ويلقــوا بأهلهــا جميعــا خارجهــا‬ ‫تقتيـ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حفــاة مذعوريــن بحجــة تملــك أراضيهــم مــن أجــل بنــاء الجــدار العازل‪.‬ولكنهــا‬
‫علــى ّالرغــم مــن جبــروت رفضهــا األبـيّ ّللرحيــل وجــدت نفســها شــعثاء غبــراء‬
‫دون غطــاء رأســها األبيــض ودون بيتهــا أو بســتانها أو زيتوناتهــا الوفيــرة بــل‬
‫دون قريتهــا كاملــة‪ ،‬ففــي ســاعات قليلــة كانــت معظــم أراضــي القريــة مصــادرة‪،‬‬
‫مجرفــة مــن أشــجارها ومــن‬ ‫وكانــت األراضــي ّالزراعيــة جــرداء مغتصبــة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فرحهــا‪ ،‬فغــدت القريــة دون ســكانها بعــد أن شــطر مخطــط الجــدار الفاصــل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫القريــة إلــى نصفين؛نصــف صغيــر يســجن خلفــه حشــدا عظيمــا مــن أهلهــا‪،‬‬
‫ّ‬
‫واآلخــر يعــزل أمامــه مقبــرة القريــة الباقــي الوحيــد منهــا بعــد أن غــدت كلهــا‬
‫الشــائكة والــكالب والبنــادق‬ ‫خــا المقبــرة خلــف الجــدار العــازل ذي األســاك ّ‬
‫والجنــود ّ‬
‫الصهاينــة‪.‬‬
‫ّ‬
‫رشــدية مــن بقيــت فــي القريــة المختزلــة فــي المقبــرة‬ ‫ وحدهــا ّ‬
‫الحاجــة‬

‫‪16‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ّ‬ ‫بعــد هــذا ّالتقســيم الجائــر ّ‬


‫الســريع الــذي نهشــها‪ ،‬إذ ظلــت متشـ ّـبثة بأرضهــا‪،‬‬
‫ّ‬
‫ورفضــت ّالرحيــل لتكــون شــهيدة جديــدة تــزف إلــى المقبــرة وإن كانــت ال تــزال‬
‫علــى قيــد الحيــاة! أمضــت أيامـ ًـا قصيــرة فــي مثواهــا الجديــد ّ‬
‫موزعــة بيــن أبنائها‬
‫ّ‬
‫األرواح الثاويــن فــي القبــور‪ ،‬وبيــن شــجراتها ّالز يتونــات المرســات قتلــى‬
‫علــى أرض المقبــرة بعــد أن ّرحلتهــم إلــى جانبهــا‪ ،‬وفــي جنباتهــا ذلــك الحقــد‬
‫المرجــل علــى ذلــك الجــدار الغاشــم الــذي بــات ينمــو ّ‬
‫بتوحــش أمــام عينيهــا‬
‫ليحرمهــا مــن قريتهــا وأهلهــا وتاريخهــا المديــد‪.‬‬
‫ً‬
‫ المقبــرة هــي آخــر مــن ّتبقــى لهــا مــن عالمهــا المتــواري قهــرا خلــف‬
‫الجــدار‪ ،‬وهــي هنــا وحيــدة ال تملــك ســوى شــجاعتها وإصرارهــا علــى البقــاء‪،‬‬
‫وفأســها آخــر مــن رافقهــا فــي دربهــا نحــو زيتوناتهــا‪ ،‬تحـ ّـدق فــي فأســها العتيــد‬
‫الموشــى بمــزق جلــد يديهــا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫تتأبطه‪،‬‬ ‫المخلــوع جانبــا‪ ،‬تتفـ ّـرس مقبضــه الخشـ ّـبي‬
‫وتحزمــه بأطــراف ثوبهــا‪ ،‬وتخطــو ّأول خطواتهــا‬ ‫وتحكــم ربــط غطــاء رأســها‪ّ ،‬‬
‫نحــو الجــدار‪ ،‬خطواتهــا ثابتــة وســريعة تقصــد أن تنهــال بفأســها علــى الجــدار‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تحطيمــا وتهميشــا‪ ،‬تقتــرب أكثــر مــن جنــود العـ ّـدو الذيــن يهرعــون هروبــا نحــو‬
‫البعيــد مــن وجــه امــرأة عجــوز تحمــل فأســها وغضبهــا وانتقامهــا المســتعر‪،‬‬
‫ـض‬ ‫وخلفهــا أجســاد تجـ ّـر أكفانهــا‪ ،‬وتحمــل فؤوسـ ًـا مهـ ّـددة بهــا وهــي تــكاد تنقـ ّ‬
‫الشــهداء‬‫علــى الجــدار‪ ،‬وفــي األفــق تلــوح المقبــرة بقبــور مفتوحــة قــد غادرهــا ّ‬
‫ـدية بغيــة مســاعدتها فــي تحطيــم الجــدار العــازل!‬ ‫إكرامـ ًـا لدمــوع الحاجــة رشـ ّ‬

‫حالة أمومة‬
‫ لــم تكــن تعلــم بــزرع الجــدار العــازل علــى أرض قريتهــا فــي فلســطين‪ ،‬وهــي‬

‫‪17‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫العربيــة‬‫الصغيــرة المعزولــة فــي مستشــفى إحــدى العواصــم ّ‬ ‫تقبــع فــي غرفتهــا ّ‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الخيريــة‬ ‫بعــد أن حصلــت علــى منحــة عــاج مــن إحــدى المنظمــات الط ّبيــة‬
‫الســرطان الخبيــث الــذي غــزا‬ ‫وليــة بعــد طــول انتظــار ُلتعالــج مــن مــرض ّ‬ ‫ّالد ّ‬
‫ثديهــا األيســر منــذ أن وضعــت ابنهــا الوحيــد هاشــم‪ ،‬ومنعهــا مــن أن ترضعــه‬
‫ّ‬ ‫ولــو لمـ ّـرة واحــدة فــي حياتهــا‪ ،‬ثــم ألجــأه إلــى حضــن ّ‬
‫عماتــه الثالثــة العوانــس‬
‫الســكنى فــي البيــت نفســه‪ ،‬كمــا يقاســمنها أعبــاء الحيــاة‬ ‫ّاللواتــي يشــاركنها ّ‬
‫ـدو اعتــاد جنــوده علــى مهاجمــة بيتهــم فــي دوريــات‬ ‫القاسـ ّـية فــي مواجهــة عـ ّ‬
‫ّ‬
‫احتجاجيــة‬ ‫تفتيشـ ّـية مداهمــة مكــرورة منــذ أن اعتقلــوا زوجهــا فــي مواجهــات‬
‫ّ‬ ‫فــي ّ‬
‫الشــهر الثانــي مــن حملهــا‪.‬‬
‫ً‬
‫ وكذلــك زوجهــا لــم يعــرف شــيئا عــن مرضهــا أو عــن ســفرها خــارج الوطــن‬
‫برفقــة والدهــا مــن أجــل العــاج‪ ،‬فقــد أخفــت أمــر مرضهــا عــن زوجهــا بنــاء‬
‫كتــم علــى هــذا الخبــر كــي ال يــزدن مــن‬ ‫علــى رغبــة شــقيقاته ّاللواتــي آثــرن ّالت ّ‬
‫عذابــات معتقلــه‪ ،‬وبوائــق أحزانــه وآالمــه‪.‬‬
‫ كانــت تحلــم بــأن تعــود إلــى بيتهــا بعــد طــول غيــاب كــي تضـ ّـم صغيرهــا إلــى‬
‫ً‬
‫صدرهــا الــذي فقــد ثديــه األيســر قربانــا للمــرض‪ ،‬فتشـ ّـمه‪ ،‬وتغيــب معــه فــي‬
‫يجفــف بــرد حرمانهــا منــه‪ ،‬ومــا كانــت تعلــم ّأنهــا ســتجد‬ ‫احتضــان طويــل دافــئ ّ‬
‫وطنهــا قــد ُســرق مــن جديــد‪ ،‬وأن بيتهــا قــد أصبــح محــض ذكــرى سـ ّ‬
‫ـرابية‬
‫مهجــرات بعــد‬ ‫توزعــن علــى بيــوت األقــارب ّ‬ ‫وأن شــقيقات زوجهــا قــد ّ‬ ‫بائــدة ‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫أن صــادر العـ ّـدو بيتهــم وأرضهــم‪ّ ،‬‬
‫وحولهــا إلــى مســاحة جــرداء تحتضــن جــدارا‬
‫ـمنتيا يحـ ّـول الوطــن إلــى ســرادق ضيقــة ومصائــد فئــران وســجن انفـ ّ‬ ‫ً‬
‫ـرادي‪.‬‬ ‫إسـ‬
‫الصغيــر‪ ،‬بعــد أن تحـ ّـول إلــى‬‫ـوردي بــأن تحتضــن طفلهــا ّ‬ ‫ تالشــى حلمهــا الـ ّ‬

‫‪18‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫كابــوس تعيشــه بتفاصيلــه القبيحــة الموحشــة‪ ،‬وهــا هــي قــد أصبحــت الجئــة‬
‫فــي وطنهــا‪ ،‬وعلقــت مــع أبيهــا فــي بيــت حجــرة يســكنه أفــراد عشــرة مــن‬
‫أقاربهــا‪ ،‬ومــن جديــد بــات عليهــا أن تحــارب ســرطان األلــم والوحــدة ّ‬
‫والنبــذ‪.‬‬
‫ّ‬
‫واشــتدت‬ ‫ حاولــت دون جــدوى أن تعــود إلــى أســرتها خلــف الجــدار‪،‬‬
‫ً‬
‫محاوالتهــا إلحاحــا عندمــا علمــت ّأن زوجهــا قــد خــرج مــن المعتقــل‪ ،‬واكترى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بيتــا صغيــرا فــي أطــراف قريتــه‪ ،‬وجمــع شــمل أســرته مــن جديــد‪ ،‬وجعــل شــغله‬
‫الشــاغل أن يجــد طريقــة تســمح لزوجتــه بالعــودة إلــى بيتهــا وأســرتها وابنهــا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ولكنــه كان يخفــق المـ ّـرة تلــو األخــرى فــي تحقيــق مــراده‪ ،‬ويعــود إلــى ســريره‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الحزيــن مخــذوال محرومــا‪.‬‬
‫ّ‬
‫ وكانــت الفرصــة الوحيــدة للقــاء هــي عبــر الحصــول علــى تصريــح زيــارة‬
‫للشــمس لــكان أيســر‬ ‫بشــق األنفــس‪ ،‬ولــو كان هنــاك ســفر ّ‬ ‫حصلــت عليــه ّ‬
‫ً‬
‫مــن الحصــول عليــه‪ ،‬وأخيــرا اســتطاعت أن تضـ ّـم طفلهــا إلــى صدرهــا تحــت‬
‫الصهاينــة‪ ،‬بــدا لهــا ّأنــه بالــغ اإلعيــاء‬
‫عيــون ّالرقبــاء غيــر الوامقيــن مــن الجنــود ّ‬
‫ّ‬
‫الوراثيــة التــي تعلــو وجنتيــه‪ ،‬جفــل منهــا عندمــا‬ ‫علــى ّالرغــم مــن تلــك الحمــرة‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أمطرتــه بقبلهــا الهوجــاء ّ‬
‫الملوعــة‪ ،‬ولكنــه استســلم ســريعا إلــى رائحــة أمومتهــا‬
‫تدســه فــي حضنهــا بانفعــال واضطــراب‪.‬‬ ‫الفياضــة التــي تزكــم أنفــه وهــي ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫ عينــاه موئــل لحــزن عتيــق‪ ،‬ورائحتــه تعـ ّـج برائحــة عشــرات ّالنســاء اللواتــي‬
‫تناوبــن علــى إرضاعــه بعــد أن فقــد ّأمــه كــي يحافظــن علــى حياتــه مــن الهــاك‪،‬‬
‫ضمتــه‬‫بالرضاعــة‪ّ ،‬‬ ‫فأصبحــت لــه عشــيرة مــن األمهــات المرضعــات واألخــوة ّ‬
‫ّ‬
‫أكثــر إلــى صدرها؛لعلهــا تكســوه برائحتهــا الحانيــة‪ ،‬فتنــزع عنــه رائحــة األمهات‬
‫الصغيــر‪.‬‬ ‫الكثــر ّاللواتــي يشــاركنها أمومتهــا بوحيدهــا ّ‬‫ُ‬
‫المرضعــات‬

‫‪19‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫وتلقــف زوجهــا ابنهمــا منهــا‪ّ ،‬‬ ‫ـريعا مــا انتهــى وقــت زيــارة ّالتصريــح‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫وضمه‬ ‫ سـ‬
‫ّ‬
‫إليــه بشــجاعة يحــاول أن يصطنعهــا علــى كــره وإصــرار‪ ،‬ولكنــه يخفــق فــي‬
‫ـت فــي أذنه‪»:‬ســأعود‬ ‫ـت قبلــة ســريعة علــى جبيــن ابنهــا‪ ،‬وهمسـ ْ‬ ‫إتقانهــا‪ ،‬طبعـ ْ‬
‫صدقني»‪.‬ثــم غــادرت المــكان‪ ،‬وهــي تخلــع قدميهــا المــرة تلــو‬ ‫فــي القريــب‪ّ .‬‬
‫األخــرى مــن األرض التــي يصعــب عليهــا أن تغادرهــا‪ ،‬ومزقــة مــن قلبهــا‬
‫ً‬ ‫ّ ً‬
‫مهدمــا ضعيفــا‪،‬‬ ‫تضطــرب بعجـ ٍـز بيــن يــدي زوجهــا الــذي يســير نحــو البعيــد‬
‫وكأنــه شــاخ بمقــدار قــرن أو اثنيــن فــي أســابيع قليلــة‪.‬‬‫ّ‬
‫ مضــى يومــان وهــي تحلــم بــأن تضـ ّـم طفلهــا إلــى صدرهــا مــن جديــد‪ ،‬وهــي‬
‫ـدو أن يعطيهــا‬ ‫أســيرة عينيــه ّالزائغتيــن فــي فــراغ مجهــول‪ ،‬عندمــا رفــض العـ ّ‬
‫ّ‬
‫المتجبــر علــى طفــل‬ ‫تصريحـ ًـا ّ‬
‫للز يــارة ولــو لدقائــق قليلــة‪ ،‬هــزأت مــن جبنــه‬
‫ـدو علــى ذلــك أم‬ ‫وأم مريضــة وحيــدة‪ ،‬وقــررت أن تــرى ابنهــا أوافــق العـ ّ‬ ‫صغيــر ّ‬
‫أبــى‪.‬‬
‫ فــي المســاء كانــت قــد عبــرت الجــدار الفاصــل رغــم أنــوف الجنــود ّ‬
‫الصهاينــة‬
‫حيــة علــى‬‫ولكنهــا لــم تكــن تســعى ّ‬ ‫بالســاح والخــوف والحــذر‪ّ ،‬‬ ‫المدججيــن ّ‬ ‫ّ‬
‫بالرصــاص‪ ،‬وموصومــة‬ ‫مخرقــة ّ‬
‫قدميهــا عندمــا عبرتــه‪ ،‬بــل كانــت جثــة هامــدة ّ‬
‫الضابــط المنــاوب علــى الحراســة ّ‬
‫الليليــة بحذائــه‬ ‫بجريمــة ّالتخريــب‪ ،‬ركلهــا ّ‬
‫البوابــة‪ ،‬ففعلــوا‪ّ ،‬‬
‫وكوموهــا‬ ‫ـكري الغليــظ‪ ،‬وأمــر جنــوده بــأن يبعدوهــا عــن ّ‬‫العسـ ّ‬
‫متخشــبة علــى ثديهــا األيمــن الــذي كانــت‬ ‫ـف يدهــا ّ‬ ‫إلــى جانــب الجــدار وكـ ّ‬
‫تحلــم بــأن ترضــع ابنهــا منــه ولــو لمـ ّـرة واحــدة فــي حياتهــا المهــدورة علــى‬
‫بوابــة الجــدار العــازل‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ّ‬
‫الصديق ّ‬
‫السري‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫صديــق بالمعنــى ّالدقيــق لهــذه الكلمــة‪ ،‬ولعــل هــذه‬ ‫ٍ‬
‫يومــا ّ‬
‫بــأي‬ ‫يحــظ‬ ‫ لــم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫األرنوبيــة هــي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الســبب فــي هــذا األمر؛لــم يســتطيع أبــدا أن يديــر حــوارا‬ ‫الشــفة‬
‫ـزل مــع ّأي أحــد خــارج بيتــه كــي يختــزل لحظــات تحديــق العيــون‬ ‫غيــر مختـ ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األرنوبيــة التــي ُولــد بهــا‪ ،‬البعــض يقــول إنهــا عيــب خلقـيّ‬ ‫ّ‬
‫الفضوليــة فــي شــفته‬
‫الســن قــد تجــاوز عمرهــا‬ ‫مــرده إلــى ّأن ّأمــه قــد أنجبتــه وهــي كبيــرة فــي ّ‬ ‫ّ‬
‫الشــفة هــي مــن مضاعفــات‬ ‫يرجــح ّأن هــذه ّ‬ ‫الخمســين ســنة بعاميــن‪ ،‬والبعــض ّ‬
‫الشــوارع واألحيــاء بهــا‬ ‫الصهيونـيّ ّ‬
‫للدمــوع التــي يغــرق العــدو ّ‬ ‫القنابــل المســيلة ّ‬
‫مـ ّـرة تلــو األخــرى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ ال يعــرف ســبب علتــه ونقصــه‪ ،‬ولكــن مــا يعنيــه مــن كل مــا ســمعه حــول‬
‫ّ‬
‫تجميليــة ســهلة فــي ّأي عاصمــة‬ ‫ّ‬ ‫شـ ّـفته ّأنــه يســتطيع أن يتخلــص منهــا بعمليــة‬
‫ومتيســر‪ ،‬ولكــن هــذا حلــم‬ ‫ـب ّالتجميــل متقـ ّـدم ّ‬ ‫عربيــة خــارج الوطــن حيــث طـ ّ‬ ‫ّ‬
‫مؤجــل بســبب ذلــك الجــدار العــازل الــذي خنــق قريتــه‪ ،‬وعزلــه وقومــه عــن‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّالدنيــا وأهلهــا فــي جغرافيــة ّ‬
‫ضيقــة تناضــل لتظــل علــى قيــد الحيــاة فــي أصعــب‬
‫معطيــات االســتمرار‪.‬‬
‫الشــفة جعلتــه يصــادق ّالنــاي الخشــبيّ الــذي صنعــه جـ ّـده لــه منــذ زمــن‬ ‫ هــذه ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـدار‬
‫طويــل‪ ،‬هــذا النــاي هــو الصديــق الوحيــد الــذي يهبــه وجهــه كامــا غيــر متـ ٍ‬
‫فضوليــة قــد تطــرح عليــه‬‫ّ‬ ‫ـت كــي يشــيح بشــفته عــن ّأي نظــرات‬ ‫الصمـ ً‬‫خلــف ّ‬
‫األســئلة المزعجــة الخانقــة عــن ســبب هــذا ّالتشــوية الخلقـيّ المزعــج‪.‬‬
‫ّ‬
‫العمليــة المنشــودة منــذ أشــهر‬ ‫ لــوال هــذا الجــدار العــازل لســتطاع أن يجــري‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫طويلــة‪ّ ،‬‬
‫ولكنــه مصلــوب علــى عــذاب يتلخــص فــي أن مــن يخــرج مــن بيتــه‬

‫‪21‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ّ‬
‫خلــف الجــدار الفاصــل قــد ال يســتطيع العــودة إليــه‪ ،‬إذن عليــه أن يظــل فــي‬
‫ّ‬ ‫انتظــار أملــه ّ‬
‫المجنــح المحلــق نحــو البعيــد‪ ،‬وفــي انتظــار ذلــك يهمــس بأحالمــه‬
‫يحــول دواخــل نفســه‬ ‫ّالزاهيــة وآمالــه الملحاحــة إلــى نايــه الحبيــب الــذي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتحــدى الجــدار‪ ،‬وأن تحلــق‬ ‫المكلومــة إلــى موســيقى عذبــة قــادرة علــى أن‬
‫بفــرح نحــو البعيــد حيــث االنعتــاق ّ‬
‫والحر يــة دون أن تطالهــا يــد خانقــة‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يصادرهــا ظــل جــدار عــال ال ُيتخطــى‪.‬‬
‫ جــزء مــن الجــدار العــازل ال يــزال غيــر إســمنتيّ بــل هــو أســاك شــائكة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وحراســة مشـ ّـددة فــي انتظــار دوره كــي ُيــزرع إســمنتا وصلبــا وحديــدا مثل ســائر‬
‫الشــرقيّ حيــث يمتـ ّـد في حقــول الحمضيــات بعد‬ ‫الجــدار‪ ،‬ومــن أقصــى امتــداده ّ‬
‫ً‬
‫أن اكتســح األشــجار‪ ،‬ونزعهــا ليلقــي بهــا بعيــدا يكشــف عــن تلــك المســتعمرة‬
‫أرض ســلبتها وجــوه غريبــة شــوهاء قادمــة مــن‬ ‫ّ ّ‬
‫الصهيونيــة التــي تربــض علــى ّ ٍ‬
‫والتاريــخ فــي‬ ‫البعيــد لينتصــر المــوت والبغــي والظلــم واألســلحة علــى الجغرافيــا ّ‬
‫ـتبدادية ســاخرة‪.‬‬ ‫معادلــة سياسـ ّـية اسـ ّ‬
‫الشــهوة فــي‬ ‫يتلصــص علــى المســتدمرة مــن بــاب ّ‬ ‫ فــي البدايــة اعتــاد علــى أن ّ‬
‫ّ‬
‫كســر إســار الجــدار المضــروب حــول كل شــيء‪ ،‬فيمــا بعــد غلبــه االستســام‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفضوليــة ّ‬ ‫ّ‬
‫الجهن ّميــة المسـ ّـماة مقارنــة‪ ،‬أركان اللعبــة متوفــرة كاملــة‬ ‫ّ‬ ‫لتلــك اللعبــة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فــي هــذه اللحظــة وفــي اللحظــات جميعهــا‪ ،‬فعالمــه المقهــور المظلــوم فــي‬
‫ّ‬
‫مواجهــة ذلــك العالــم المرفــة الجميــل هنــاك فــي المســتدمرة‪ ،‬هنــا تحاصــره‬
‫والســاح والمــوت واألرض المحروقــة والمعتقــات‬ ‫وجــوه الجنــود والــكالب ّ‬
‫والتعذيــب والقتــل والخــراب واليتــم والخــوف والفقــر والحرمــان وحظــر ّالتجــول‬ ‫ّ‬
‫الضيقــة والبيــوت القديمــة والخدمــات المعدومــة والغــاء والمعانــاة‪،‬‬ ‫والشــوارع ّ‬
‫ّ‬

‫‪22‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫الســير الهوينــى‬ ‫وهنــاك فــي المســتدمرة علــى مســافة يقطعهــا بربــع ســاعة مــن ّ‬
‫الســعادة حاضــرة‬ ‫والســام واألمــن والغنــى وأســباب ّ‬ ‫فاهيــة ّ‬
‫والر ّ‬
‫يــرى ّالرخــاء ّ‬
‫الط ّ‬ ‫ّ‬ ‫جميعهــا‪ ،‬قليــل مــن ّالت ّ‬
‫فوليــة الباســمة ّالرغيــدة‬ ‫فــرس فــي تلــك الوجــوه‬
‫ـبية الخضــراء‪،‬‬ ‫الســاحة العشـ ّ‬ ‫المترعــة ّصحــة وعافيــة‪ ،‬وهــي تصهــل فــي تلــك ّ‬
‫وتتبــارى فــي صخــب وضحــك كفيلــة بــأن تقــوده إلــى صــور بؤســه المقيــم حيــث‬
‫إال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الوجــوه الكالحــة فــي القريــة‪ ،‬إذ ال تأتــي ّ‬
‫مهربــة تســتعجل‬ ‫الســعادة إليهــم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫صهيونيــة‪.‬‬ ‫المغــادرة‪ ،‬ثــم تولــي هاربــة مــع ّأول طلقــة رصــاص مــن بندقيــة‬
‫ كــم يحلــم بــأن يعيــش فــي هــذه العالــم الجميــل‪ ،‬ومــن جديــد يتســاءل لمــاذا‬
‫يكرر ّ‬
‫الســؤال‬ ‫عليــه أن يكــون أســير عالمــه البائــس حيــث ظـ ّـل الجــدار العــازل؟! ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫علــى نفســه المـ ّـرة تلواألخــرى‪ ،‬وتحــار اإلجابــات‪ ،‬وتضــل طريقهــا عنــه‪ ،‬ويظــل‬
‫الســؤال الــذي يقــدح زنــاد ســخطه وحقــده‪ ،‬فيضيفــه إلــى جملــة‬ ‫أســير هــذا ّ‬
‫أســئلته ذات األقــدار المجهولــة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ لــم يكــن يتوقــع ّأن هنــاك عينيــن ترقبانــه منــذ أيــام طويلــة‪ ،‬وتســعيان إلــى أن‬
‫ّ‬ ‫تقتربــا منــه إلــى أكبــر مســافة ممكنــة‪ ،‬ولــم ّ‬
‫يتخيــل أن تســلله لبضــع خطــوات‬
‫الصغيرتيــن تقبضــان عليــه‬ ‫إلــى داخــل المســتدمرة ســوف تجعــل تلكــم اليديــن ّ‬
‫الشــديدة فــي ّالتواصــل‪ ،‬كاد قلبــه‬ ‫والرغبــة ّ‬
‫ـوزع بيــن الحــذر والخــوف ّ‬ ‫بعطــف مـ ّ‬
‫الصغيرتــان علــى كتفــه‪ ،‬ولكــن‬ ‫يطيــر خوفـ ًـا عندمــا هبطــت اليــدان ّالدافئتــان ّ‬
‫تلــك القبضــة الحنونــة البعيــدة عــن القســوة التــي ألفهــا وشــعبه مــن أيــادي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصهاينــة جعلتــه يستســلم لهــا‪ ،‬ويلــزم مربضــه دون أن يفكــر فــي الهــرب‪.‬‬
‫لصبــي فــي‬ ‫ العينــان ّاللتــان كانتــا ترقبانــه واليــدان ّاللتــان قبضتــا عليــه كانتــا ّ‬
‫مثــل عمــره‪ ،‬هــو صهيونـيّ صغيــر مــن ذلــك العالــم حيــث ّالرفاهيــة ّ‬
‫والســعادة‪،‬‬

‫‪23‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ّ‬
‫الصغيــر‬ ‫الظلمــة الــذي ســرقوا وطنــه‪ ،‬ذلــك الغريــب ّ‬ ‫ّإنــه مــن أبنــاء الغاشــمين‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يعيــش فــي نــور ّ‬
‫الشــمس‪ّ ،‬أمــا هــو فيعيــش قســرا فــي ظــل الجــدار العــازل‪،‬‬
‫عليــه أن يبتعــد عنــه‪ ،‬وأن يغــادر المــكان ليعــود إلــى أهلــه وبيتــه‪ ،‬وأن ال يثــق‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فيــه‪ّ ،‬‬
‫ولكنــه يــرى أمنــا غريبــا فــي عينيــه ّالرماديتيــن‪ ،‬ورجــاء مخلصــا يســأله‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫بــذل أن يظــل معــه‪ ،‬وأن ال يهــرب بعيــدا عنــه‪ ،‬فــي نفســه حربــان‪ ،‬وعليــه أن‬
‫ـاد؛إما أن يهــرب‬‫ينتصــر لواحــدة منهمــا ضـ ّـد األخــرى كــي يجــد طريــق ّالرشـ ّ‬
‫الصبـيّ‬ ‫نحــو البعيــد‪ ،‬أو أن يصـ ّـدق قلبــه الــذي يهمــس لــه بــأن يبقــى مــع هــذا ّ‬
‫الصهيون ـيّ ولــو لبعــض الوقــت‪ ،‬ونفســه تهتــف بــه أن يستســلم لهمــس قلبــه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫وأن يقطــع أجمــل أوقــات اللعــب معــه فــي هــذه الحديقــة الجميلــة التــي يرتــع‬
‫فيهــا ليــل نهــار‪.‬‬
‫الســري الــذي وهبــه لــه‬ ‫الصديــق ّ‬ ‫ مضــت أســابيع طويلــة وهــو يســعد بهــذا ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫القــدر فــي لحظــة تخــل عــن قســوته‪ ،‬لقــد حظــي أخيــرا بصديــق حقيقــيّ‬
‫الشــوهاء‪ ،‬همــا مــن عالميــن‬ ‫األرنوبيــة ّ‬
‫ّ‬ ‫يحــدق فــي ّ‬
‫شــفته‬ ‫ال يخجــل مــن أن ّ‬
‫محبــة ّ‬
‫طفوليــة‬ ‫مختلفيــن‪ ،‬بــل مــن معســكرين متحاربيــن‪ ،‬ولكــن تجمعهمــا ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كلهــا دهشــة وأنــس وألفــة وال تخضــع لحــروب الكبــار وخصوماتهــم‪ ،‬وال‬
‫تعتــرف بجــدران أو فواصــل‪ ،‬يجلســان لســاعات مختبئيــن فــي مربضهمــا بيــن‬
‫ّ‬
‫األشــجار فــي حديقــة المســتعمرة‪ ،‬متواريــان عــن كل شــيء خــا حديثهمــا‬
‫ّ‬
‫والعبريــة‬ ‫يتحدثــان فــي ّكل شــيء بلهجــة خليــط مــن ّ‬
‫العربيــة‬ ‫العــذب الحنــون‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويتمنيــان لــو يســتطيعان أن‬ ‫التــي يتوافــر كل منهمــا علــى أقــدار كافيــة منهمــا‪،‬‬
‫يجريــا فــي المــروج دون وجــل أو خــوف‪.‬‬
‫ّ‬
‫ فــي لحظــة تخــل عــن ضوابــط عالميهمــا يقــرران أن يجريــا ويرمحــا فــي‬

‫‪24‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫الحديقــة‪ ،‬يخرجــان مــن مكمنهمــا‪ ،‬وشــطيرة كل منهمــا فــي يــده‪ ،‬يقضــم‬


‫كل منهمــا قضمــات ســريعة مــن شــطيرته‪ ،‬ويمضــغ لقمــه علــى عجــل‪ ،‬ثــم‬
‫ّ‬
‫يستســلمان لرغبتهمــا األثيــرة فــي ّالركــض واللعــب‪ ،‬ويعلــو صــوت لهاثهمــا‬
‫والســعادة‪ ،‬ويطغــى ضجيــج لهوهمــا علــى أصــوات ّ‬
‫الصبيــة‬ ‫بالضحــك ّ‬ ‫المحمــل ّ‬
‫ّ‬
‫تمــر‪ ،‬وينتبــه الموجــودون إلــى الفتــى الفلســطينيّ األســمر‬ ‫حولهمــا‪ ،‬دقائــق ّ‬
‫الصهيونـيّ‪ ،‬فوضــى ســريعة تطغــى‬ ‫الــذي يصهــل فــي الحديقــة‪ ،‬ويعانــق الفتــى ّ‬
‫الصبــي الفلســطينيّ الموجــود فــي الحديقــة ّ‬
‫يطيــر فــي‬ ‫علــى المــكان‪ ،‬وخبــر ّ‬
‫المســتدمرة كمــا ّالنــار فــي الهشــيم‪ ،‬بنــادق تصـ ّـوب نحوهمــا‪ ،‬عيــون شــريرة‬
‫الصبــي الفلســطينيّ الــذي ّ‬
‫يتجمــد فــي‬ ‫كثيــرة تحاصــر المــكان القتنــاص ّ‬
‫ً ّ ً‬ ‫ً‬
‫مكانــه مبهوتــا مرعوبــا متذكــرا وصايــا ّأمــه بعــدم االقتــراب مــن المســتدمرة‪،‬‬
‫ً‬ ‫عشــرات ّ‬
‫الصــور والوجــوه تمـ ّـر ســريعا دون ســبب مبـ ّـرر فــي مخيلتــه البريئــة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأزيــز طلقــات يعلــو فــي المــكان‪ ،‬ثــم تســتقر الطلقــات جميعهــا فــي بطنــه‪،‬‬
‫ـض‪،‬‬ ‫الصغيــر الغـ ّ‬
‫ـتقر ّأنــى شــاءت فــي جســده ّ‬ ‫وتتوالــى أخــر مســرعة إليــه لتسـ ّ‬
‫ً‬
‫رغبــة جارفــة فــي االستســام للعــدم تجتاحــه‪ ،‬فيجثــو مهدومــا علــى األرض‪،‬‬
‫الصهيونـيّ الــذي يرفــع‬‫وعينــاه تبحثــان عــن أرض دون ألــم فــي عينــي صديقــه ّ‬
‫ـب جحيمهــا علــى جســد‬ ‫ـف عــن صـ ّ‬ ‫عقيرتــه برجــاء موصــول للبنــادق كــي تكـ ّ‬
‫ـف عــن إطــاق‬ ‫صديقــه الفلســطينيّ‪ ،‬وعندمــا يفشــل فــي إقنــاع البنــادق بــأن تكـ ّ‬
‫بتلقــي ّالرصاصــات‬ ‫رصاصهــا‪ ،‬يلقــي بنفســه علــى جســد صديقــه‪ ،‬ليشــاركه ّ‬
‫الواغلــة فــي جســديهما دون رحمــة ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ الصــور والوجــوه جميعهــا تغيــب عنهمــا‪ ،‬يســقطان أرضــا فــي مســاحة صغيــرة‪،‬‬
‫ً‬ ‫الصبــي ّ‬‫عينــا ّ‬
‫الصهيون ـيّ تجــوالن بوهــن فــي عينــي صديقــه الفلســطينيّ بحثــا‬

‫‪25‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ً‬
‫عــن ابتســامة مســامحة يهبهــا لــه تكفيــرا عــن هــذه ّالرصاصــات التــي اغتصبــت‬
‫فرحــه وروحــه‪ ،‬وعينــا ّ‬
‫الصبــي الفلســطينيّ تهربــان نحــو الجــدار العــازل حيــث‬
‫ً‬
‫وجــه ّأمــه مســجونا خلفــه فــي حــزن دائــم‪ ،‬يبتســم لوجههــا ذي الحــزن ّالنبيــل‬
‫ّالدائــم وهــو يبــرق فــي ذاكــرة قلبــه‪ ،‬ثــم يمضــي نحــو البعيــد حيــث ال جــدران‬
‫ّ‬
‫عازلــة أو بنــادق غــادرة أو صديــق صهيونـيّ اللعــب منــه يعنــي المــوت‪.‬‬

‫شمس ومطر على جدار واحد‬


‫يذكرهــا ّ‬‫ّ‬
‫بالشــمس الجميلــة المشــرقة علــى ّالرغــم‬ ‫ ال شــيء فــي هــذا المــكان‬
‫إال وجــه ذلــك ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫الشــاب الفلســطينيّ الــذي اعتــادت‬ ‫مــن ارتفــاع حــرارة الجــو‬
‫ّ‬
‫علــى أن تراقــب قســماته فــي كل صبــاح وهــو يعبــر بوابــة الجــدار العــازل حيــث‬
‫الســريع باتجــاه عملــه‪ ،‬منــذ وقعــت‬ ‫الطر يــق ّ‬‫جبريـ ًـا ليعبــر إلــى ّ‬
‫يمـ ّـر بالمــكان ّ‬
‫بالــدفء الحانــي بــدل الحــرارة‬‫عيناهــا عليــه فــي صبــاح مشــمس شــعرت ّ‬
‫ّ‬
‫الالفحــة التــي كانــت تحرقهــا فــي مكانهــا‪ ،‬وتجعلهــا تلعــن اللحظــة التــي‬
‫جعلتهــا تتــرك هنغاريــا‪ ،‬وتجــري خلــف أســاطير كاذبــة عــن أرض الميعــاد‪.‬‬
‫ فــي حقيقــة األمــر هــي كانــت تبحــث عــن فرصــة جديــدة للحيــاة والعمــل‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫والدراســة بعيــدا عــن صديقهــا البلجيك ـيّ الــذي خدعهــا وســرق أموالهــا مـ ّـرة‬
‫الســكير الــذي اعتــاد علــى ّالتحـ ّـرش‬ ‫تلــو األخــرى‪ ،‬وفــي منــأى عــن زوج ّأمهــا ّ‬
‫الجنس ـيّ بهــا منــذ كانــت صغيــرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ جــاءت إلــى هنــا طلبــا لفرصــة جديــدة فــي الحيــاة‪ ،‬فلــم تجــد إال القهــر‬
‫والخــوف والعمــل المضنــي ليــل نهــار‪ ،‬فــي هنغاريــا درســت رقــص الباليــة الذي‬
‫مجنــح‬‫ـطوري ّ‬‫خبـ ًـا كحصــان أسـ ّ‬‫ـب ّ‬ ‫ـري الــذي يخـ ّ‬ ‫تحبــه‪ ،‬ويليــق بجســدها المرمـ ّ‬‫ّ‬

‫‪26‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ً‬ ‫الســحاب‪ ،‬مــا كانــت ّ‬ ‫بأرديــة مــن ســحر ليجيــد ّالرقــص بيــن ّ‬
‫تتخيــل أبــدا أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المســتمر والخــوف‬ ‫تقودهــا الظــروف والخيبــات المتتابعــة والوحــدة والفشــل‬
‫الصهيونـيّ لتقــف‬ ‫مجنــدة فــي الجيــش ّ‬ ‫مــن العــودة إلــى هنغاريــا لتتطـ ّـوع لتكــون ّ‬
‫ً‬
‫علــى األبــواب‪ ،‬وتعـ ّـد أنفــاس الفلســطينيين‪ ،‬وتبادلهــم كرهــا بكــره دون أن تعــرف‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مسـ ّـوغا مقبــوال لذلــك ســوى موجبــات عملهــا الكريــه‪ ،‬ثــم تعــود إلــى بيتهــا‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً ّ‬
‫تســب وجههــا الجميــل الــذي‬ ‫مســاء محطمــة‪ ،‬وتنــزف نفســها تقيــؤا وهــي‬
‫ّ‬ ‫يرضــى بــأن يعانــق هــذا القبــح ّكلــه صبــاح مســاء علــى تلــك ّ‬
‫البوابــة اللعينــة فــي‬
‫الجــدار العــازل‪.‬‬
‫ّ‬
‫تدريبيــة نفسـ ّـية مكثفــة لتقبــل بفكــرة ّأن هــذا الجــدار يحمي‬
‫ّ‬ ‫ـت لــدورات‬ ‫ُ أخضعـ ْ‬
‫الصهيونــيّ الــذي تنكــر فــي ســحيق أعماقهــا انتســابها لــه‪ ،‬وتقنــع‬ ‫شــعبها ّ‬
‫ّ ً‬
‫ظاهريــا ّبأنهــا تقــف علــى هــذه البوابــة لتخــدم ّأمتهــا‪ ،‬ولتقمــع أولئــك‬ ‫نفســها‬
‫المتوحشــين مــن الفلســطينيين الذيــن ينخــرون فــي أمــن كيانهــم ّالرابــض علــى‬ ‫ّ‬
‫هــذه األرض التــي تشــعر بأعماقهــا ّبأنهــا غريبــة عنهــا‪ ،‬وال تنتمــي إليهــا بـ ّ‬
‫ـأي‬
‫ولكنهــا علــى ّالرغــم مــن ذلــك ال تــزال تشــعر بالقــرف‬ ‫شــكل مــن األشــكال‪ّ ،‬‬
‫تفتــش األجســاد العابــرة مــن‬ ‫العســكرية ّ‬
‫ّ‬ ‫مــن نفســها ّكلمــا وقفــت ّ‬
‫ببزتهــا‬
‫والتحـ ّـدي فــي العيــون الفلسـ ّ‬ ‫والضغينــة ّ‬ ‫ً‬
‫ـرا رائحــة الكــره ّ‬
‫ـطينية‬ ‫ّبوابتهــا‪ ،‬وتشـ ّـم جبـ‬
‫المتحفــزة لغضــب قابــل لالنــدالع فــي ّأي لحظــة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بوابــة ّ‬‫البوابــة يشــعرها ّبأنهــا فــي جهنم؛فهــي ّ‬ ‫ كل شــيء فــي هــذه ّ‬ ‫ّ‬
‫متوحشــة‬
‫تفصــل بيــن عالميــن مشــتعلين‪ ،‬وهــي حارســة عليهــا دون معنــى لوجودهــا هنــا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫بعيــدا عــن عاصمــة الثلــج حيــث ُولــدت‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ وحــده ذلــك ّ‬
‫الشــاب الفلســطينيّ هومــن يشــعرها بــدفء مكلــل بالمطــر كلمــا‬

‫‪27‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫تحفــز إليذائهــا‪ ،‬تــرى‬‫مـ ّـر بالقــرب منهــا‪ ،‬ال تشـ ّـم فيــه رائحــة حقــد أو كــره أو ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فــي عينــه غــزال نــادرا ال يجيــده إال مــن يملــك روحــا مثــل روحــه التــي تقــدر‬
‫ً‬
‫علــى أن تغلــي عاطفــة وحنـ ّـوا حتــى فــي ليلــة ماطــرة!‬
‫ هــو مــن جعــل لوجودهــا فــي هــذا المــكان معنــى وغايــة‪ّ ،‬النهــارات التــي‬
‫الــروح والجســد والكلمــة‪،‬‬ ‫تبــدأ بوجهــه تغــدو رؤومــة قابلــة لالمتــداد فــي ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫عندمــا تــراه تفكــر دائمــا برقصــة باليــة مشــتركة مــع جســده ّالرجولـيّ المعجــون‬
‫ً‬
‫بشــقائه وعرقــه وســمرته المثيــرة علــى الجليــد الالمــع ّالزلق‪.‬أحيانــا كان يفوتهــا‬
‫الصبــاح النشــغالها بتدقيــق أوراق المناوبيــن‬ ‫أن تــراه فــي طابــور العابريــن فــي ّ‬
‫الســعيد‪ ،‬فقــد اعتــادت علــى‬ ‫الصباحييــن‪ ،‬ولكــي تتالفــى هــذا الحــدث غيــر ّ‬ ‫ّ‬
‫ســمية‪ ،‬فيخلــو لهــا وجــه األســمر ّ‬ ‫لتدقــق األوراق ّالر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتفرســه‬ ‫أن تأتــي مبكــرة‬
‫العمــال الفلســطينيين‬ ‫قــدر مــا شــاءت حتــى يغــادر نحــو البعيــد مــع زمالئــه مــن ّ‬
‫الشــقاء فــي األراضــي المســتدمرة كــي‬ ‫الذيــن يعبــروا ّكل يــوم ّبوابــة الحــزن نحــو ّ‬
‫ّ‬
‫يالحقــوا لقمــة العيــش المغموســة بالخــوف والحــزن والــذل وســاعات ال تعـ ّـد‬
‫والتحميــل‬ ‫البوابــات والمعابــر ونقــاط ّالتفتيــش ّ‬ ‫وال ُتحصــى مــن االنتظــار علــى ّ‬
‫ّ‬
‫والتفريــغ‪.‬‬
‫تفتشــه بيديهــا العاشــقتين‪،‬‬ ‫تعمــدت أن ّ‬ ‫ أصبحــت الحيــاة أجمــل بوجــوده‪ ،‬مـ ّـرة ّ‬
‫تتلمــس هضــاب جســده‬ ‫الشــوق وهــي ّ‬ ‫فاحترقــت برعشــة االشــتهاء‪ ،‬ولوعــة ّ‬
‫مســدت أكثــر مــن مـ ّـرة علــى‬ ‫وســهوله بضراعــة مــن يتبـ ّـرك بعبــاءة ولـيّ صالــح‪ّ ،‬‬
‫عضــات صــدره‪ ،‬وكادت تلمــس خفقــات قلبــه الــذي فضــح صمتــه‪ ،‬وقــال لهــا‬
‫ّ‬
‫مه‪»:‬أحبــك»‪.‬‬ ‫قهــر ّ‬
‫تكت‬
‫ فيمــا بعــد عاهــدت نفســها علــى عــدم االقتــراب منــه أكثــر كــي ال تحتــرق‬

‫‪28‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ّ‬
‫بجمــر جســده‪ ،‬واكتفــت بــأن تكــون فــي أقــرب نقاطهــا منــه فــي كل صبــاح‪،‬‬
‫تيســر لــه العبــور مــع مــن معــه مــن العمــال بأقــل قــدر مــن االنتظــار واإلزعــاج‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وتســعد بادخــار نظراتــه فــي عميــق وجدانهــا حيــث تســكن اإليقاعــات‬
‫ّ‬
‫الموســيقية ممزوجــة برقــص الباليــه‪.‬‬
‫بــأي كلمــة‪ ،‬ومــا كانــت تحلــم بــأن‬ ‫ كانــت ترجــوه بصمــت أن يهمــس لهــا ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يهديهــا ديوانــا شــعريا لشــاعر فلســطينيّ قــال لهــا ّإن اســمه محمــود درويــش‪،‬‬
‫ً‬ ‫يحبــه جـ ّـد ًا‪ ،‬فــكان لزامـ ًـا عليهــا مــن تلــك ّاللحظــة أن ّ‬ ‫ّ‬
‫وإنــه ّ‬
‫تحبــه إكرامــا لحبيبها‬
‫وكأنهــا تريــد أن ّ‬
‫تنعــم‬ ‫الجميل‪.‬تفرســت فــي ّالديــوان علــى غيــر عجــل‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫األســمر‬
‫ً‬ ‫مســها مــن قبلهــا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫أناملهــا بمــس كل صفحــة قــد يكــون قــد ّ‬
‫حدقــت طويــا‬
‫الصفحــة األولــى حيــث كتــب لهــا بخــط عربـيّ بديــع االنحناءات‪»:‬عندمــا‬ ‫فــي ّ‬
‫أراك يســقط المطــر فــي ســماء روحــي‪ :‬مصلــح الــوادي»‪.‬‬
‫ّ‬
‫ قــرأت العبــارة عشــرات المـ ّـرات حتــى حفظــت انحنــاءات كل حــرف فيهــا‪،‬‬
‫ّ‬
‫وراق لهــا أن تجمــع مطــر قلبهــا مــع شــمس وجهــه كلمــا التقيــا فــي ّبوابــة هــذا‬
‫ّ‬ ‫الجــدار المقيــت الــذي باتــت ّ‬
‫تتقــزز مــن ظلــه ّالرابــض علــى صــدر ّالرجــل‬
‫الــذي تخشــى أن تعتــرف لنفســها ّبأنهــا ّ‬
‫تحبــه‪.‬‬
‫البوابــة‪ ،‬وتحلــم‬‫ أشــهر طويلــة مـ ّـرت وهــي تراقصــه رقصــة العشــق فــي هــذه ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫دون توقــف بنهــار مشــمس يتخللــه مطــر مداهــم يــدك هــذا الجــدار ّببواباتــه‬
‫جميعهــا‪ ،‬ويســمح لهــا بــأن تقتــرب منــه لتقــول لــه دون خــوف أو وجــل أو‬
‫ّ‬
‫ريبة‪»:‬أحبــك»‪.‬‬
‫بجملة‪»:‬أحب َك»‪.‬طــوال‬
‫ّ‬ ‫الصبــاح اســتيقظت مــن نومهــا وهــي تتمتــم‬ ‫ هــذا ّ‬
‫البوابــة فــي ّ‬ ‫الطريــق وهــي فــي دربهــا إلــى ّ‬ ‫ّ‬
‫ســيارة الجيــش كانــت تحلــم‬

‫‪29‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ّ‬
‫الــوردي‪ ،‬وبشــفتيه الغليظتيــن ترســمان قبلــة علــى‬ ‫بأصابعــه تداعــب نمشــها‬
‫الصغيــر ّالناصــع البهــاء‪ ،‬المطــر كان يقــرع زجــاج ّ‬
‫الســيارة‪ ،‬وأشــعة‬ ‫جبينهــا ّ‬
‫الشــمس تتحـ ّـدى قطــرات المطــر الوليــدة‪ ،‬وتشــاغب خصــات شــعرها األحمــر‬ ‫ّ‬
‫أنثويــة تعجــز عــن كتمانهــا فــي أعماقهــا‪ ،‬وتشــرئب‬ ‫المجعــد‪ ،‬فتبتســم ابتســامة ّ‬ ‫ّ‬
‫الصباحـيّ بمــن تحـ ّ‬
‫ـب‬ ‫البوابــة تقتــرب منهــا‪ ،‬وموعــد لقائهــا ّ‬
‫نحــو البعيــد حيــث ّ‬
‫يقتــرب كذلــك‪.‬‬
‫والصخــب‬ ‫البوابــة كان المــكان يضطــرب بالجنــود ّ‬ ‫ عندمــا وصلــت إلــى ّ‬
‫والكلمــات المتطايــرة التــي تشــير إلــى مشــكلة مــا‪ ،‬ومــن خلــف جمــوع الجنــود‬
‫ّ‬
‫بوليســية شرســة تنهشــها ‪،‬‬ ‫مســجاة علــى األرض وكالب‬ ‫ّ‬ ‫كان تبــزغ أجســاد‬
‫مخربــون‪ ،‬اقتربــت منهــم‬ ‫عمــال فلســطينيون ّ‬ ‫ّ‬
‫زمالؤهــا الجنــود قالــوا لهــا إنهــم ّ‬
‫مخــرب المزعومــة التــي ّيتخذهــا جنودهــم‬ ‫بوجل؛فهــي تــدرك معنــى كلمــة ّ‬
‫والتنكيــل بالبشــر‪ ،‬وجــه ذلــك األســمر‬ ‫ذريعــة لممارســة موهبتهــم فــي القتــل ّ‬
‫ّ‬ ‫ـدرج بالـ ّـدم ّ‬
‫والزبــد وابتســامة هازئــة بــكل جبــروت ّأول مــا صفــع وجههــا‪،‬‬ ‫المـ ّ‬
‫بالصقيــع الالفــح المغــروز فــي العظــام والقلــب‪ّ ،‬‬
‫تكومــت إلــى جانبــه‬ ‫وأشــعرها ّ‬
‫دون أن تجــرؤ علــى أن تدفــن رأســه فــي حضنهــا ولــو لمـ ّـرة واحــدة فــي حياتهــا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كانــت مغمــورة بظــل الجــدار العــازل حيــث العفونــة والظــام والكآبــة والظلــم‪،‬‬
‫وكانــت العــودة إلــى هنغاريــا دون رجعــة إلــى هــذا المــكان هــي الفكــرة الوحيــدة‬
‫وتلــح عليهــا قبــل أن يقتلهــا الجــدار كمــا قتــل‬ ‫ّ‬ ‫التــي تملــك عليهــا ذاتهــا‪،‬‬
‫ّ‬
‫ّالرجــل الــذي عشــقته‪َ .‬م ْن أطفــأ الشــمعة األخيــرة ؟!‬
‫السياسـيّ أو الفلســفيّ مثــل معظــم المناضليــن الفلســطينيين‪،‬‬ ‫ ال تجيــد ّالتنظيــر ّ‬
‫تكتب؛فهــي مــن مواليــد القــرن الماضــي‪ ،‬ولــم‬ ‫كذلــك ال تســتطيع أن تقــرأ أو أن ُ‬

‫‪30‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ّ ً‬ ‫للذهــاب إلــى ّ‬ ‫ّ‬


‫محرمــا على الفتيــات في‬ ‫الكتــاب‪ ،‬فقــد كان ذلــك‬ ‫تتــح لهــا فرصــة‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫اجتماعيــة صارمــة‪ ،‬وكان قصــرا علــى الذكــور‪ ،‬ومــن‬ ‫ذلــك الوقــت وفــق أعــراف‬
‫ّ‬ ‫ثــم أخذتهــا الحيــاة ّالز ّ‬
‫وجيــة المبكــرة واألمومــة المتكـ ّـررة لتســع مـ ّـرات متتابعــة‬
‫تعلــم القــراءة والكتابــة أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التفــرغ للجلســات‬ ‫الثقافيــة أو‬ ‫مــن متابعــة البرامــج‬
‫والوطنيــة والمقاومة الفلسـ ّ‬
‫ـطينية‬ ‫ّ‬ ‫ولكنهــا تعــرف ّأن البطولــة‬ ‫السياسـ ّـية‪ّ ،‬‬
‫الحواريــة ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬ ‫للعــدو ّ‬
‫الصهيونـيّ تكــون علــى قــدر الظــروف والمعطيــات والملــكات‪.‬‬
‫ّ‬
‫ وملكتهــا العظمــى تتمثــل فــي أمومتهــا التــي ّتتســع لســكان كوكــب‬
‫وتمتــد لتحتضــن األســرى الفلســطينيين فــي المعتقــات‬ ‫ّ‬ ‫األرض جميعهــم‪،‬‬
‫هيونية؛بــدأت حكايتهــا مــع أمومتهــا العمالقــة عندمــا ُز ّج بابنهــا البكرعبــد‬ ‫الص ّ‬ ‫ّ‬
‫بالســجن مــدى الحيــاة‪ ،‬ثــم‬ ‫وحكــم عليــه ّ‬ ‫الصهيونــي‪ُ ،‬‬ ‫المجيــد فــي المعتقــل ّ‬
‫المتوحــش‪ ،‬كانــت‬ ‫ّ‬ ‫لحقــه أخــواه األصغــران ليغــدو ثالثتهــم أســرى المعتقــل‬
‫والصليــب األحمــر كــي تحصــل‬ ‫تمضــي أســبوعها تالحــق الجهــات المســؤولة ّ‬
‫ً‬
‫علــى تصريــح زيــارة ألحدهــم أو لجميعهــم‪ ،‬وقليــا مــا كانــت تحصــل عليــه‬
‫دون تكــرار رفــض ومماطلــة وتنكيــد ومراوغــة ألوهــى األســباب‪ ،‬ومــن ثــم بــات‬
‫مــن المســتحيل أن تحصــل علــى تصريــح لزيــارة ابنهــا البكرعبــد المجيــد الــذي‬
‫حرمــت‬ ‫ـرادي إلــى األبــد‪ ،‬مــن ثــم ُ‬ ‫ُغ ّلظــت العقوبــات عليــه‪ُ ،‬ومـ ّـدد حبســه االنفـ ّ‬
‫مــن زيــارة ابنيهــا األصغريــن بســبب الجــدار الفاصــل الــذي قطــع األرض بينهــا‬
‫وبيــن معتقليهمــا‪ ،‬فتباعــدت األرض بينهــم علــى ّالرغــم مــن تقاربهــا‪ ،‬وأصبــح‬
‫ّ‬
‫العالــم فــي فلســطين ال ُيفهــم إال بمنطــق باطــن الجــدار وظاهــره‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ ومــن هــذا المنطــق الظالــم وجــدت نفســها ّأمــا يفصلهــا جــدار إســمنتيّ‬
‫ً‬
‫أصـ ّـم عــن أوالدهــا المعتقليــن‪ ،‬كمــا يفصــل الجــدار نفســه آالفــا مــن األمهــات‬

‫‪31‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ّ‬
‫المعتقالت‪.‬فقــررت أن تكــون إلــى‬ ‫ّ‬
‫وبناتهــن فــي‬ ‫ّ‬
‫أبنائهــن‬ ‫الفلســطينيات عــن‬
‫صممــت علــى أن تمــارس‬ ‫ّ‬
‫جانــب المعتقليــن الفلســطينيين ضــد الجــدار‪ ،‬كمــا ّ‬
‫أمومتهــا معهــم‪ ،‬بــدأت الفكــرة بتجربــة‪ ،‬ثــم أصبحــت ّالتجربــة واقعهــا المعيش‪،‬‬
‫ـا ومعتقلــة‪ ،‬وقــد بات شــغلها ّ‬ ‫ً‬
‫الشــاغل‬ ‫فــي معتقــل البلــدة كان هنــاك ‪ 146‬معتقـ‬
‫ّ ً‬
‫أن تزورهــم الواحــد منهــم تلــو اآلخــر‪ ،‬وأن تتعـ ّـرف عليهــم‪ ،‬وأن تكــون أمــا لهــم‬
‫ّ‬
‫أجمعيــن بــدل ّأمهاتهــم المحرومــات مــن ّالز يــارة اللواتــي ال يســتطعن الوصــول‬
‫إليهــم‪ .‬‬
‫وجنــد إمكاناتــه المحــدودة مــن‬ ‫الصليــب األحمــر مــع رغبتهــا‪ّ ،‬‬ ‫ تعاطــف ّ‬
‫والدعــم مــن أجــل أن يســاعدها علــى زيــارة األســير تلــو اآلخــر‪،‬‬ ‫الوســاطات ّ‬
‫الشــمعة الوحيــدة فــي حيــاة‬ ‫وكانــت أمومتهــا عونهــا فــي هــذا األمــر‪ ،‬كانــت ّ‬
‫ً ً‬
‫الكثيــر مــن المعتقليــن‪ ،‬تحفظهــم فــردا فــردا‪ ،‬وتســأل عــن أحوالهــم‪ ،‬وتعــرف‬
‫تذمــر أو ملــل‪،‬‬ ‫ظروفهــم‪ ،‬وتتابــع قضاياهــم‪ ،‬وتصغــي إلــى شــكواهم دون ّ‬
‫تخفــف عنهــم آالمهــم وقهرهــم حتــى باتــت األم‬ ‫وتحــاول مــا اســتطاعت أن ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحقيقيــة لــكل منهــم‪ ،‬وغــدت زيارتهــا بلســم لــكل معتقــل‪ ،‬فغــدت شــمعتهم‬
‫ّ‬
‫األخيــرة والوحيــدة فــي ظــام معتقلهــم القابــض علــى أرواحهــم الثائــرة‪ ،‬ونالــت‬
‫باســتحقاق لقــب «أم األســرى»‪.‬‬
‫ كانــت تتشـ ّـفع عنــد اللــه بهــذه األمومــة الغامــرة‪ ،‬وهــذا العطــاء الموصــول كــي‬
‫وييســر لهــا أمــر الحــج إلــى بيــت الله الحــرام قبــل أن يسـ ّ‬
‫ـترد‬ ‫ـك أســر أبنائهــا‪ّ ،‬‬ ‫يفـ ّ‬
‫اللــه روحهــا األمانــة‪ ،‬ويختارهــا إلــى جانبــه حيــث ّالرحمــة والعــدل‪ ،‬وعلــى غير‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫متوقــع خــرج ابنهــا الكبيــر مــن المعتقــل‪ ،‬وهــو المحكــوم مؤبــدا فــي صفقــة‬
‫ً‬
‫الصفقــة حيــث‬‫ـذا لبنــود ّ‬ ‫الصهاينــة‪ُ ،‬ونفــي إلــى بيــروت تنفيـ‬
‫تبــادل لألســرى مــع ّ‬

‫‪32‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ـتقر هنــاك‪ ،‬وكان ّأول مــا عملــه هــو أن ســعى للحصــول علــى فرصــة لكــي‬ ‫سيسـ ّ‬
‫وتكللــت مســاعيه الحثيثــة ّ‬ ‫ّ‬
‫بالنجــاح‪،‬‬ ‫تحـ ّـج والدتــه ووالــده إلــى البيــت الحــرام‪،‬‬
‫الســفر وحجــز مكانيــن فــي حافلــة الحـ ّـج ونقــود كثيــرة ّأول مــا‬ ‫وكانــت تأشــيرة ّ‬
‫أرســل إليهــا مــن منفــاه الجديــد‪.‬‬
‫بالحــج الســيما مــع اقتــراب موعــد‬ ‫ّ‬ ‫بتحقــق حلمهــا‬‫ فرحــت» أم األســرى» ّ‬
‫خــروج ابنيهــا اآلخريــن مــن المعتقــل‪ ،‬وأعـ ّـدت العـ ّـدة كــي ّتتوجــه إلــى بيــت‬
‫وطوفــت ألســابيع علــى المعتقليــن كــي ّ‬
‫تودعهــم‬ ‫اللــه الحــرام برفقــة زوجهــا‪ّ ،‬‬
‫الش ّ‬
‫ــفوية‬ ‫فحملوهــا بمحبتهــم وبدعواتهــم لهــا وبرســائلهم ّ‬ ‫قبــل ســفرها‪ّ ،‬‬
‫ألمهاتهــم وأســرهم إن تسـ ّـنى لهــا فــي خروجهــا مــن أســر الجــدار أن تقابلهــم‬
‫أو أن تزورهــم‪.‬‬
‫الحر يــة ّمتجهــة إلــى بيــت اللــه الحرام‪،‬‬
‫ عندمــا خرجــت مــن بوابــة الجــدار نحــو ّ‬
‫ـفوية التــي ّ‬‫الشـ ّ‬ ‫ً‬
‫ـدا‪ ،‬وهــو ّالرســائل ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫حملهــا المعتقلــون لهــا‪،‬‬ ‫تذكــرت أمــرا واحـ‬
‫كانــت هــذه هــي المـ ّـرة الوحيــدة التــي تخــرج فيهــا منــذ ســنوات مــن أرض عزلــة‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الجــدار‪ ،‬ولعلهــا تكــون المـ ّـرة األخيــرة أيضــا قبــل أن ترحــل عــن هــذه الحيــاة‪.‬‬
‫ً‬
‫الســماء الممتـ ّـدة فــي األفــق دون قيــود‪ ،‬وتــراءت أمامهــا‬ ‫ـا فــي ّ‬ ‫ّ‬
‫ حدقــت طويـ‬
‫ّ‬
‫أبنائهــن‬ ‫قلــوب أمهــات األســرى الفلســطينيين التــي تتــوق إلــى أخبــار عــن‬
‫ّ ّ ّ‬ ‫المعتقليــن‪ّ ،‬‬
‫ــفوية موشــاة‬ ‫وضجــت فــي خاطرهــا نصــوص آالف ّالرســائل الش‬
‫وقــررت فــي لحظــة‬ ‫بأصــوات أصحابهــا وبمشــاعرهم وباختــاج جوارهــم‪ّ ،‬‬
‫حر يتهــا خــارج الجــدار فــي‬ ‫تضحيــة أن ال تذهــب إلــى الحـ ّـج‪ ،‬وأن تســتثمر أيــام ّ‬
‫تبليــغ ّالرســائل إلــى أصحابهــا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ لــم يكــن مــن ّ‬
‫الصعــب عليهــا أن تزجــر نفســها الطامحــة إلــى تحقيــق حلمهــا‬

‫‪33‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫فــي زيــارة بيــت اللــه الحــرام‪ ،‬منحــازة بذلــك إلــى صــوت ّالرحمــة واألمومــة فــي‬
‫داخلها‪.‬ودعــت زوجهــا علــى تخــوم الجــدار وهــو يقصــد الحـ ّـج وحــده دونهــا‪،‬‬‫ّ‬
‫وهــو يلـ ّـوح لهــا بثوبــه األبيــض‪ ،‬ويدعــو لهــا ولــه بالمغفــرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أيامــا موصولــة ّ‬
‫بالتطــواف فــي أرض وطنهــا‪ ،‬دقــت‬ ‫ قضــت « أم األســرى»‬
‫األبــواب وفــق العناويــن التــي تحفظهــا عــن ظهــر قلــب‪ ،‬حتــى أوصلــت‬
‫ّ‬ ‫ً ّ‬
‫ّالرســائل إلــى أصحابهــا‪ ،‬فمــا تركــت ّأمــا إال وواســتها‪ ،‬وال زوجــة إال وأسـ ّـرت‬
‫ً ّ‬
‫لهــا بــكالم زوجهــا‪ ،‬وال طفــا إال وحملــت لــه قبــات أبيــه‪ ،‬وحفظــت قســماته‬
‫بعنايــة واقتــدار كــي ترســمها فــي مخيــال والــده الــذي لــم يــره منــذ زمــن‪.‬‬
‫ً‬
‫ لقــد قـ ّـرت نفســا بعــد أن ّأدت ّالرســائل األمانــات إلــى أهلهــا‪ ،‬وهــا قــد أزف‬
‫موعــد العــودة إلــى منزلهــا‪ ،‬حزمــت تعبهــا واشــتياقها إلــى أبنائهــا األســرى‪،‬‬
‫ووقفــت فــي طابــور انتظــار طويــل كــي تعبــر ّبوابــة ّالدخــول عبــر الجــدار‬
‫ً‬
‫العــازل‪ ،‬وطــال انتظارهــا كمــا طــال بالموجوديــن جميعهــم إمعانــا فــي إذاللهــم‬
‫والتضييــق عليهــم‪ ،‬فانتبــذت مكانـ ًـا قريبـ ًـا لتريــح شــيخوختها ّالث ّ‬
‫مانينيــة المثقلــة‬ ‫ّ‬
‫ً ّ ً‬
‫قصيــا‪ّ ،‬أمــا روحهــا‬ ‫بهمــوم المعتقــل والمعتقليــن‪ ،‬وطــال انتبــاذ جســدها مكانــا‬
‫ً‬ ‫يحلــق نحــو ّربــه فــي مسـ ّ‬ ‫ً ّ‬ ‫ً‬
‫ـتقرة األخيــر بعيــدا عــن‬ ‫فكانــت طائــرا أبيــض طاهــرا‬
‫ّ‬
‫واســتعدت للقــاء‬ ‫ّ‬
‫الخاصــة‪،‬‬ ‫حجــت بطريقتهــا‬ ‫شــبح الجــدار العــازل بعــد أن ّ‬
‫الحنــان ّ‬
‫المنــان‪.‬‬ ‫ّربهــا ّ‬

‫عندما ال يأتي العيد‬


‫موزعــة بيــن مخــارج الحــروف المشــبعة بزفيــر الهــواء‪،‬‬ ‫ إذا لفــظ بصعوبــة ّ‬
‫يزمــه بشـ ّـدة ليخــرج منــه كلمــة «هاهــا»‬
‫وحشــرجات دفعهــا خــارج فمــه الــذي ّ‬

‫‪34‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫فهــو يلفــظ دون ّ‬


‫شــك اســم ابنــه هــادي‪ ،‬لــم يفكــر يومــا فــي أن يحــاول أن‬
‫ّ‬
‫صهيونيــة مــن انفجــار‬ ‫ّ‬
‫إجباريــة‬ ‫يتحــدى بكمــه الــذي نالــه عطيــة ّ‬
‫مجانيــة‬ ‫ّ‬
‫ـدو لقنبلــة أفقــده ســمعه وهــو رضيــع‪ ،‬ولــم يجـ ّـرب فــي يــوم أن يلفــظ كلمــة‬ ‫مـ ّ‬
‫واحــدة‪ ،‬واكتفــى بالقــدر القليــل مــن اإلشــارات واإليمــاءات التــي أنتجهــا بفعــل‬
‫الشــرب أو ّالراحــة أو ّالنــوم أو‬ ‫روريــة مثــل الحاجــة إلــى األكل أو ّ‬
‫الض ّ‬ ‫حاجاتــه ّ‬
‫الصــم والبكم؛لبعــد تلــك‬ ‫قضــاء الحاجــة‪ ،‬فهــو لــم يتلـ َّـق ّأي دروس فــي لغــة ّ‬
‫الص ّ‬ ‫الذهــاب إليهــا بســبب الحواجــز ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫هيونيــة‬ ‫المؤسســات عــن قريتــه‪ ،‬ولتعــذر‬
‫تطوقــه وقريتــه مــن ّكل مــكان‪ ،‬ولكــن منــذ ّزفــت ّ‬
‫الســماء إليــه فرحــة قلبــه‬ ‫التــي ّ‬
‫عمــه تمــام‪ ،‬غــدت الحيــاة‬ ‫ابنــه هــادي بعــد زواج طــال لعقــد كامــل مــن ابنــة ّ‬
‫ً ّ ً‬
‫مقدســا كــي ينطــق اســمه ليــل نهــار‪،‬‬ ‫فــي عينيــه أجمــل‪ ،‬وأصبــح يملــك ســببا‬
‫وإن كان نطقــه لــه يخــرج علــى شــكل ترديــد ممطــوط مشــبع بالمـ ّـد لحــرف‬
‫الهــاء‪ ،‬ولكــن مــا يعنيــه فــي هــذا األمــر أن يعــرف ابنــه هــادي ّأنــه يناديــه‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يقصــده بكالمــه‪ ،‬وهــذا حســبه فــي الحيــاة كلهــا‪ ،‬فمــا الحيــاة عنــده إال ابنــه‬
‫هــادي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ منــذ أن ُولــد هــادي قبــل تســع ســنوات صــار يملــك ســببا للحيــاة‪ ،‬وهدفــا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫لالمتــداد‪ ،‬والتحــق سـ ّـرا بالكتائــب المســلحة فــي قريتــه لمواجهــة االحتــال‬
‫ً‬ ‫الصهيونـيّ‪ ،‬وتلقينــه ّ‬ ‫ّ‬
‫الضربــات الموجعــة الواحــدة تلــو األخــرى عقابــا لــه علــى‬
‫ــا لــه علــى الخــروج مــن وطنــه ّ‬ ‫ّ ً‬
‫الســليب‪ ،‬وعليــه أن‬ ‫جرائمــه وتنكيلــه‪ ،‬وحث‬
‫يفعــل ذلــك‪ ،‬فهــذا الوطــن ملــك البنــه هــادي وألبنــاء الفلســطينيين ال ألبنائهــم‬
‫الغربــاء‪ ،‬ابنــه هــادي وأبنــاء الفلســطينيين عليهــم أن يكبــروا هنــا‪ ،‬وأن يســعدوا‬
‫هنــا‪ ،‬وأن يدفنــوا هنــا بعــد أن يموتــوا‪ّ ،‬أمــا الغربــاء فــا مــكان لهــم فــي هــذه‬

‫‪35‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫األرض‪ ،‬ولذلــك عليــه أن يبــذل ّالنفيــس والغالــي مــن عمــره ونضالــه ّ‬


‫وصحتــه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كــي يهــب البنــه هــادي مســتقبال محـ ّـررا وعــادال دون شــبح شــيطانيّ اســمه‬
‫الصهيون ـيّ‪.‬‬‫االحتــال ّ‬
‫ـطينية لفكــرة تجنيــد رجــل‬ ‫ـلحة الفلسـ ّ‬‫تتحمــس الكتائــب المسـ ّ‬ ‫ فــي البدايــة لــم ّ‬
‫أصـ ّـم شــبه عاجــز عــن ّالتواصــل علــى حـ ّـد تقديرهــم‪ ،‬ولكــن عندمــا وضعــوه‬
‫ـاال ّ‬‫ً‬
‫والتضحيــة‬ ‫للشــجاعة واإلصــرار والعمــل ّ‬ ‫فــي اختبــارات متعـ ّـددة وجــدوه مثـ‬
‫الصعبــة‪ ،‬وكان‬ ‫بالمهمــات ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتكتــم‪ ،‬ولذلــك عهــدوا إليــه المـ ّـرة تلــو األخــرى‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫ـكل سـ ّ‬
‫ـان‪ ،‬وال يهمــس لبشــر بأمرهــا خــا ابنــه‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫وتف‬ ‫ـاص‬ ‫ـ‬ ‫وإخ‬ ‫ية‬ ‫ـر‬ ‫يقــوم بهــا بـ‬
‫ّ‬
‫هــادي الــذي كان يهمــس لــه فــي أذنــه اليمنــى وهــو نائــم بــكل مــا فعلــه ألجله‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويضمــه إلــى صــدره بــكل عطــف‬ ‫ّ‬ ‫ويطبــع قبلــة مديــدة علــى جبينــه ّالنوران ـيّ‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وفخــر بــه‪ ،‬وينــام قريــرا ســعيدا حالمــا بفجــر قريــب‪.‬‬
‫ً‬
‫ غــدا يكــون عيــد األضحــى المبــارك‪ ،‬وعيــده اليوم ـيّ المتكـ ّـرر هــو أن يــرى‬
‫ّ‬
‫ـافى مــن كل مــرض أو هـ ّـم‪ ،‬وزوجتــه‬ ‫عفيـ ًـا مشـ ً‬ ‫ً‬
‫ـعيدا ّ‬ ‫ً‬
‫وجــه ابنــه هــادي باســما سـ‬
‫تحملــه كباقــة زهــر‪ ،‬وتــدور بــه علــى بيــوت القريــة‪ ،‬تبــارك لهــم بالعيــد‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األشــد فقــرا مــن‬ ‫وتطمئــن علــى أحوالهــم‪ ،‬وتحمــل الحلــوى إلــى البيــوت‬
‫بيوتهــم‪ ،‬وتصلهــم ببرهــا وحنانهــا وتعاطفهــا مــع ســائر أحوالهــم‪ ،‬هــو وزوجتــه‬
‫لــم يلبســا مالبــس عيــد جديــدة منــذ ســنوات بســبب ضيــق اليـ ّـد الســيما بعــد‬
‫أن ُزرع هــذا الجــدار العــازل الــذي ابتلــع المزيــد مــن فــرص العمــل القليلــة التــي‬
‫تيســر لهــم‬‫يحصلونهــا بشـ ّـق األنفــس مــن هنــا وهنــاك أينمــا ّ‬ ‫كان الفلســطينيون ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ذلــك‪ ،‬ولكــن هــادي كان يزهــو بالمالبــس الجديــدة فــي كل عيــد‪ ،‬ولــو كلفهــم‬
‫ّ‬
‫ذلــك بيــع قطعــة مــن أثــاث البيــت‪ ،‬أو ّالتنــازل عــن أكل اللحــم أليــام طويلــة‪،‬‬

‫‪36‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫فهــذا هــو هــادي الغالــي العزيــز‪ ،‬ولــه أن يســعد‪ ،‬ولــو كانــت عينــاه وعينــا زوجته‬
‫باكيتيــن حزينتيــن‪ ،‬فمــا العيــد إن لــم يســعد هــادي بمالبســه الجديدة؟!ويطيــر‬
‫الصغيــرة‪.‬‬ ‫فيهــا فــي شــوارع الحــي ودروبــه ّ‬
‫الســاحة الكبــرى ّ‬
‫العامــة فــي‬ ‫الســابقة كان يرافقــه مــع ّأمــه إلــى ّ‬‫ فــي األعيــاد ّ‬
‫القريــة لالحتفــال بالعيــد مــع أهــل القريــة‪ ،‬ولكــن منــذ أن فصــل الجــدار بينهـم ‬
‫الســاحة والكثيــر مــن أراضــي قريتهــم وبيوتهــا‪ ،‬بــات يكتفــي بــأن يراقبـه ‬ ‫وبيــن ّ‬
‫وهــو يلعــب علــى األرجوحــة الوحيــدة الموجــودة فــي الفنــاء الخلف ـيّ للبيــت‪،‬‬
‫ُ‬
‫ويقتســم المتعــة بهــا مــع أترابــه الكثــر مــن أبنــاء الجيران؛متعتهــم صغيــرة‪ ،‬ولكن‬
‫الطاهــرة قــادرة علــى صنــع ّ‬ ‫ّ‬ ‫قلوبهــم ّ‬
‫الســعادة مــن أصغــر مسـ ّـبباتها‪،‬‬ ‫الصغيــرة‬
‫مثبتــة علــى أغصــان شــجرة تــوت عجــوز‬ ‫ـبية صغيــرة ّ‬ ‫ولــو كانــت أرجوحــة خشـ ّ‬
‫بحبــال مهترئــة‪.‬‬
‫ـب فــي قســمات وجــه هــادي وهــو يبتســم علــى‬ ‫ّ‬
‫ أمــا ســعادته فهــي تنبــع وتصـ ّ‬
‫قــدر مــلء روحــه وهــو يلعــب مــع أترابــه‪ ،‬ويســتقبل العيــد بغطرســة طاووسـ ّـية‬
‫اهيــة البهيجــة‪ ،‬يراقبــه دون ملــل مــن ّالنافــذة‬‫وهــو يتبختــر بمالبســه الجديــدة ّالز ّ‬
‫ّ‬
‫الخلفيــة للبيــت التــي ُتطــل علــى مرجــة األرجوحــة‪ ،‬ولــوال وجــوب أن يذهــب‬ ‫ّ‬
‫لصــاة العصــر جماعــة فــي مســجد القريــة لمــا كان يفارقــه لحظــة واحــدة دون‬
‫ً‬
‫أن يمــأ حواســه بحركاتــه وكلماتــه التــي ال يشــبع منهــا أبــدا مهمــا ارتــوى‪.‬‬
‫ّ‬
‫ فــي المســجد لــم يســمع صــوت انفجــار كبيــر‪ ،‬كمــا ســمعه المصلــون جميعهــم‬
‫ولكنــه أوجــس خيفــة لــم يألفهــا مــن قبــل بشــكل مفاجــئ تزحــف‬ ‫؛فهــو أصـ ّـم‪ّ ،‬‬
‫المصليــن ّالراكضيــن خــارج المســجد‬ ‫إلــى نفســه بدبيــب موجــع ‪ ،‬وعــرف مــن ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ّباتجــاه االنفجــار ّأن مكروهــا مــا حــل بالمــكان‪ ،‬كان الجميــع يركضــون باتجــاه‬

‫‪37‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫االتجــاه نفســه‪ ،‬ولكــن ّباتجــاه‬


‫الـ ّـدوي المزلــزل‪ ،‬وكان هــو يركــض معهــم فــي ّ‬
‫تمنــى أن يصــل إليــه بأســرع وقــت ممكــن ّ‬
‫ليضمــه إلــى صــدره‪،‬‬ ‫وحيــده هــادي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫وليشـ ّـم رائحتــه ّالنديــة دون توقــف‪ ،‬ولكــن مــا شــاهده حــال وصولــه المــكان‬
‫تمهــل‪ ،‬كانــت األرجوحــة قتيلــة علــى‬ ‫أعــدم أمنياتــه ّالثكلــى دون رحمــة أو ّ‬
‫المقطعــة المختلطــة ّ‬ ‫ّ‬
‫بالــدم‬ ‫األرض تغــرق فــي بحــر مــن ّالدمــاء واألشــاء‬
‫ً ًّ‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬
‫ـارا‪ ،‬لــم يســتطع أن يــرى وجــه هــادي بيــن الوجوه‬ ‫زالليــا رطبــا حـ‬ ‫المتدفــق منهــا‬
‫الصهيونـيّ الــذي طــاب‬ ‫بالســماء مــن البطــش ّ‬ ‫المحوقلــة بأســى‪ ،‬والمســتنجدة ّ‬
‫ـارا وهــم يلعبــون فــي صبيحــة العيــد‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فحولهــم‬ ‫نفســا بــأن يقصــف أطفــاال صغـ‬
‫فــي طرفــة عيــن وســهوة قلــب إلــى حطــام مــن أشــاء ودمــاء‪.‬‬
‫ّ‬
‫المتفحــم‬ ‫ لــم يطــل بحثــه عــن هــادي بيــن األشــاء المتناثــرة‪ ،‬فقــد وجــد رأســه‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫يميــزه إال مــن عينيــه ّالزرقاويــن‬ ‫متدحرجــا قــرب األرجوحــة القتيلــة‪ ،‬ولــم ّ‬
‫ّ‬ ‫ّاللتيــن ورثهمــا مــن ّ‬
‫جــده ّ‬
‫ألمــه الحــاج عبــد اللطيــف‪ ،‬فمــا كان فــي الحــيّ‬
‫وزمهــا‪ ،‬وذهــب بهــا‬ ‫طفــل بعينيــن زرقاويــن ســواه‪ ،‬حضــن رأســه إلــى صــدره‪ّ ،‬‬
‫نحــو البعيد؛فهــادي يخــاف مــن الـ ّـدم والمــوت والخــراب!‬
‫ـجي‬ ‫ فــي تلــك ّالليلــة لــم يبــك‪ ،‬ولــم ينـ َـع مــوت هــادي‪ ،‬فهــادي ال يمــوت وإن ُسـ ّ‬
‫ِ‬
‫ّ ّ ً‬
‫فــي القبــر بــرأس أو دون رأس‪ ،‬فمثلــه يجــب أن يظــل حيــا فــي نفــس والــده كــي‬
‫يتحــرر وطنــه‪ ،‬فرحيــل هــادي يعنــي أن ال معنــى‬ ‫ّ‬ ‫يســتمر فــي ّالنضــال حتــى‬
‫ّ‬
‫ّللنضــال أو األرض أو الوطــن‪ ،‬فمــا حاجتــه بغــد موعــود دون ابتســامة هــادي‪،‬‬
‫ّ‬
‫ولذلــك يجــب أن يظــل هــادي علــى قيــد الحيــاة ليكــون عنــده مبـ ّـرر ليســتيقظ‬
‫ّ‬
‫فــي كل صبــاح‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـكرية ُموكلــة إليــه مــن قبــل جماعتــه‪ ،‬وهــي تتمثــل فــي‬ ‫مهمــة عسـ ّ‬ ‫ الليلــة عنــده ّ‬

‫‪38‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ّ‬ ‫تهريــب ّ‬
‫الســاح والطعــام إلــى القريــة مــن خــارج الجــدار العــازل الــذي حرمهــم‬
‫ّ‬
‫حتــى مــن لقمــة الطعــام‪ ،‬وحاصرهــم حتــى فــي أقواتهم‪.‬‬
‫يؤجــل هــذه المهمــة‪ ،‬فهنــاك ألــف هــادي أو يزيــد مــن أبنــاء القريــة‬ ‫ لــن ّ‬
‫ّ‬ ‫جائعيــن‪ ،‬ويجــب أن ّ‬
‫يمدهــم بالطعــام‪ ،‬وهــادي ال يقبــل بــأن يجــوع األطفــال‬
‫ً‬
‫حــدادا علــى اغتيــال رأســه الجميــل ذي العينيــن ّالزرقاويــن‪ ،‬ولذلــك عليــه أن‬
‫ّ‬
‫يقــوم بمهمتــه بــكل التــزام وإخــاص علــى ّالرغــم مــن احتجــاج زمالئــه فــي‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الجماعــة‪ ،‬وتصميمهــم علــى أن يعفــوه مــن هــذه المهمــة فــي هــذه الليلــة نظــرا‬
‫الصغيــر‪ّ ،‬‬
‫ولكنــه يأبــى‬ ‫للظـ ّـروف القاســية التــي يمـ ّـر بهــا نتيجــة اغتيــال وحيــده ّ‬
‫الصغــار فــي هــذه ّالليلــة ّ‬
‫بالتحديــد‪.‬‬
‫ّ‬
‫إال أن يــأكل ّ‬
‫بمهمتــه بإتقــان‪ ،‬وتدخــل األســلحة واألطعمــة إلــى القريــة بعــد رحلــة‬ ‫ يقــوم ّ‬
‫عنــاء لعبــور ّالتخــوم الفاصلــة بســبب الجــدار العــازل‪ ،‬يغــادر ّالرفــاق المــكان‬
‫الصبــاح‪ ،‬ويعــود هــو‬‫ـتحقيها فــي ّ‬‫توزيعهــا علــى مسـ ّ‬ ‫بأحمالهــم العزيــزة بغيــة أن ّ‬
‫ليصفــي حســابه مــع أولئــك األوغــاد القتلــة‬ ‫مــن جديــد إلــى الجــدار متسـ ّـل ًال ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الذيــن اغتالــوا ابنــه هــادي‪ ،‬ال يملــك إال قنبلتيــن ومدفعــا صغيــرا محمــوال‬
‫المتفحــم المتخثــر الـ ّـدم علــى شــعره ّ‬
‫الملبــد‬ ‫ّ‬ ‫يخصــره‪ ،‬فيــه رأس هــادي‬ ‫وجرابـ ًـا ّ‬
‫خرافيــة قــادرة علــى أن تجعلــه يقلــع هــذا الجــدار‬ ‫قــوة ّ‬ ‫يهبــه ّ‬ ‫ّ‬
‫األكــث الــذي ّ‬
‫ويحــول المــكان‬‫ّ‬ ‫بأظافــره الحاقــدة‪ ،‬بســرعة خاطفــة ينــزع فتيــل القنبلتيــن‪،‬‬
‫إلــى جهنــم حمــراء تصطلـيّ بأصــوات المســتنجدين والمحتضريــن مــن الجنــود‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصهاينــة‪ ،‬تنهــال الطلقــات عليــه مــن عشــرات الجهــات‪ ،‬ويــده علــى زنــاد‬
‫ً ّ‬
‫مدفعــه ّالرشــاش تهــب المــوت جزافــا لــكل مــن يقتــرب منــه مــن الجنــود‪،‬‬
‫ً‬ ‫ورأس هــادي ّ‬
‫يترنــح فــي جرابــه طربــا بشــجاعة والــده‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫الصبــاح تكــون المجــزرة قــد اســتوت علــى أجســاد العشــرات‬ ‫ عندمــا يأتــي ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فلســطينية وجــراب يحمــل رأســا‬ ‫مــن القتلــى‪ ،‬وعلــى جثــة رجــل بمالبــس‬
‫ّ‬
‫المعــززة ّ‬ ‫الص ّ‬‫المدرعــات ّ‬
‫مــا‪ ،‬عشــرات ّ‬ ‫ً ّ ً‬
‫تطــوق المــكان‪،‬‬ ‫هيونيــة‬ ‫صغيــرا متفح‬
‫فتودعهــا زغاريــد القريــة ّ‬
‫الجثــة محاطــة بالجنــود والــكالب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫الشــامتة‬ ‫وترحــل‬
‫المتفحــم يجهــل المصيرالــذي ُيقــاد إليــه‪ّ ،‬‬
‫ولكنــه‬ ‫ّ‬ ‫بوجــع الجنــود‪ ،‬ورأس هــادي‬
‫ال يبالــي بذلــك طالمــا ّأنــه ســيواجه مصيــر والــده الحبيــب‪.‬‬
‫ـوزع األطعمــة ّ‬
‫المهربــة علــى بيــوت القريــة جميعهــا‪ ،‬يــأكل‬ ‫ فــي المســاء ُتـ ّ‬
‫األطفــال حتــى يشــبعوا‪ ،‬ويشــبع هــادي فــي قبــره عندمــا يــأكل أطفــال قريتــه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وفــي كل مســاء يأتــي الطعــام المهـ ّـرب علــى ميعــاده إلــى أطفــال القريــة‪ ،‬وال‬
‫الطعــام إلــى بيوتهــم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ولكنهــم يؤمنــون بحكايــة»‬ ‫أحــد يعــرف كيــف يصــل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ّالرجــل األصـ ّـم حامــل الطعــام»‪ ،‬ويعرفــون تمامــا ّأن شــبحا شــجاعا ال يــزال‬
‫يســكن فــي جــوار الجــدار العــازل‪ ،‬ويخـ ّـوف الجنــود الحــرس بجرابــه ذي الـ ّـرأس‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المتفحــم المحــروق‪ُ ،‬ويدخــل إلــى القريــة كل مــا يشــاء مــن مــؤن‪ ،‬وال أحــد‬
‫ً‬
‫يجــرؤ علــى منعــه‪ ،‬وهــو يصــرخ بمــلء فيــه قائــا‪ »:‬هــا هــا»‪.‬‬

‫وادي ّ‬
‫الصراخ‬
‫ّ‬
‫ولكــن منــذ‬ ‫ كان اســم المــكان منــذ ســنين طويلــة هــو»وادي ّالرمــان»‪،‬‬
‫ً‬
‫جــاء الجــدار العــازل‪ ،‬وجـ ّـرف أراضــي الــوادي‪ ،‬وقلــع أشــجاره‪ ،‬وجعلــه بائــدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خاويــا علــى عروشــه أصبــح أرضــا فاصلــة بيــن طرفــي البلــدة التــي أصبحــت‬
‫بلدتيــن صغيرتيــن بعــد أن كانــت بلــدة واحــدة ذات تاريــخ طويــل موغــل فــي‬
‫القــدم‪ ،‬فغــادرت البالبــل الــوادي بعــد أن خســرت أعشاشــها الوارفــة فــي حقــول‬

‫‪40‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ـرا اســم»وادي ّ‬ ‫ّ ً ّ ً‬
‫الصــراخ» حيــن‬ ‫أشــجار ّالرمــان‪ ،‬وحمــل الــوادي متفجعــا محسـ‬
‫ّ‬
‫حرمــت اللقــاء أو‬ ‫أصبــح ملعبـ ًـا لألصــوات المتناجيــة عبــر الجــدار العــازل حيــن ُ‬
‫المشــاهدة أو الحديــث عــن قــرب‪.‬‬
‫اليوميــة فــي ّ‬ ‫ً‬
‫الصــراخ» تخليــدا لمعاناتهــم ّ‬ ‫ الفلســطينيون أســموه «وادي ّ‬
‫الصــراخ‬
‫عبــر أراضيــه للحديــث عــن ّأي أمــر فــي ضــوء حرمانهــم مــن لقــاء أو تواصــل‪،‬‬
‫الصــوت هــو ألســنتهم ووجوههــم وجلودهــم وقلوبهــم وأطرافهــم وأزمانهــم‬ ‫غــدا ّ‬
‫والترانيــم واألشــواق‬ ‫ومســافاتهم وآمالهــم‪ ،‬ففــي هــذا الــوادي ُتســمع ّالزغاريــد ّ‬
‫القرآنيــة بــل وبعــض المقطوعــات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واألدعيــة واآليــات‬ ‫واألخبــار ّ‬
‫والنــكات‬
‫ـيقية يتبادلهــا الفلســطينيون الذيــن حرمهــم الجــدار مــن حقهــم اإلنســانيّ‬ ‫الموسـ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫المتواضــع فــي أن يوســدوا يــدا إلــى يــدا‪ ،‬وقلبــا إلــى قلــب‪ ،‬وعينــا إلى عيــن‪ ،‬وأن‬
‫ـرا‪ ،‬ولذلــك غــدا ّ‬‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الصــراخ‬ ‫ـث إنســانيّ مهمــا كان محــدودا وقصيـ‬ ‫يديــروا أي حديـ ٍ‬
‫حقهــم المهــدور الفانــي‪.‬‬ ‫عبــر مســافة فاصلــة طويلــة آخــر مــا يملكــون مــن ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ فــي الــوادي ُتســمع ّأمــا تحـ ّـدث ابنتهــا التــي فصــل الجــدار بينهمــا‪ ،‬وعجــوزا‬
‫أكلتهــا ســنوات ّ‬
‫الضنــى والمعانــاة تدعــو البنهــا بالعــودة إلــى بيتــه‪ ،‬ويعبــق ّالدمع‬
‫فــي عينــي مــن يســمع صــوت طفلــة صغيــرة تطلــب مــن والدهــا أن يعيدهــا إلــى‬
‫بيتهــا بعــد أن علقــت خــارج الجــدار فــي رحلــة زيــارة لــدار عمومتهــا‪ ،‬وتبكــي‬
‫يردهــا خائبــة وحيــدة‪ ،‬فيغــرق األب فــي‬ ‫لــه متوسـ ّـلة أن يأخذهــا معــه‪ ،‬وأن ال ّ‬
‫ـدا ّ‬‫ً‬ ‫ً‬
‫يصبرهــا‬ ‫نشــيج موصــول متحشــرج ال يملــك قــوة فيــه ليصــوغ لهــا وعــدا جديـ‬
‫بــه‪ ،‬وهــو يعلــم ّأن تحقيقــه بعيــد عســير‪ ،‬وفــي أقصــى الــوادي فــي أقــرب‬
‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫الســياج ّ‬
‫نقاطــه مــن ّ‬
‫ملويــا متكئــا علــى عكازيــن خشــبيين‬ ‫الشــائك يقــف صالــح‬
‫ينغــرزان فــي تجويفــي إبطيــه‪ ،‬وهــو يكابــد نفســه كــي تنتصــب واقفــة‪ ،‬وال‬

‫‪41‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ـاء بعــد رحلــة كادحــة مــن بيتــه حتــى الوصــول إلــى الجــدار‪ ،‬وهــي‬ ‫تســقط إعيـ ً‬
‫ً‬
‫رحلــة تقتضيــه زمنــا أكثــر مــن ســاعتين‪ ،‬وإن كانــت تنقضــي فــي عشــر دقائــق‬
‫ولكنــه بالــكاد يســتطيع أن يجرجــر نفســه ليصــل إلــى‬ ‫لمــاش بحــزم وقصــد‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫الصارخيــن‪ ،‬ثــم ينتبــذ بصعوبــة أقصــى الــوادي‬ ‫ـدس نفســه بيــن جمــوع ّ‬ ‫هنــا‪ ،‬ويـ ّ‬
‫للصــراخ المســموع مــن هــدى تلكــم المــاك‬ ‫ليكــون فــي أقــرب نقطــة ممكنــة ّ‬
‫الحمائم ـيّ األبيــض الغــارق ليــل نهــار فــي نقيــع المــوت هنــاك فــي مستشــفى‬
‫الهــال األحمــر فــي مخيــم ّالدهيشــة حيــث قابلهــا ّأول مـ ّـرة‪.‬‬
‫ـن جســدها ّالنحيــل وعينيهــا الغائرتيــن‬ ‫ هــدى تكبــره بأحــد عشــر عامـ ًـا‪ ،‬ولكـ ّ‬
‫الصغيرتيــن بقــدر حفنــة لــوز أخضــر‪،‬‬ ‫الصغيــرة‪ ،‬ويديهــا ّ‬ ‫فــي جمجمتهــا ّ‬
‫وزيهــا األبيــض ذا الياقــة المرتفعــة‪ ،‬تجعلهــا تبــدو أصغــر‬ ‫وابتســامتها الخجولــة‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مــن عمرهــا بعقــد كامــل‪ ،‬بــل تبــدو أحيانــا أصغــر منــه ســنا ببضــع ســنين‪،‬‬
‫ـليعية‪ّ ،‬‬
‫ولكنهــا آســرة‬ ‫ـويقية ّالتسـ ّ‬
‫ليســت جميلــة بمقاييــس الجمــال الباذخــة ّالتسـ ّ‬
‫الجمــال بمقاييــس الجمــال ّالروحـيّ‪ ،‬حيــث طيبتهــا البيضــاء‪ ،‬وقلبهــا الـ ّ‬
‫ـوردي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ونفســها المنســرحة دائمــا فــي عــون مبــذول دائــم لــكل مــن يطلــب عونهــا‬
‫الســيما مــن المرضــى والجرحــى الذيــن تعـ ّـج بهــم المستشــفى‪ ،‬لذلــك يراهــا‬
‫بالتســبيح للـ ّـرب والوطــن‬ ‫ـطينية بيضــاء ُخلقــت كــي تهــدل ّ‬ ‫صالــح حمامــة فلسـ ّ‬
‫واإلنســان ليــل نهــار‪.‬‬
‫يتمنــى لــو ّأنــه قابلهــا هنــاك فــي جامعتــه فــي القــدس القديمــة حيــث‬ ‫ كان ّ‬
‫تخصصــه‬‫األول فــي ّ‬ ‫ـورا ال يعــرف خوفـ ًـا أو ضعفـ ًـا أو جبنـ ًـا‪ ،‬كان ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كان شــبال جسـ‬
‫واألول كذلــك فــي صفــوف‬ ‫واألول فــي بـ ّـر والديــه العجوزيــن‪ّ ،‬‬ ‫فــي الجامعــة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمحتجيــن علــى اســتبداد ّ‬ ‫ّ‬
‫الصهاينــة‪ ،‬ولكــن حظهمــا غيــر‬ ‫المتظاهريــن‬

‫‪42‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ـوزا ّ‬‫ً‬
‫والرحمة‬ ‫للشــفقة ّ‬ ‫الموفــور جعلهمــا يلتقيــان فــي أضعــف حاالتــه‪ ،‬وأشـ ّـدها عـ‬
‫بندقيــة مســتدمر‪ 1‬صهيونـيّ أصابتــه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالشــلل‬ ‫جرثوميــة واحــدة مــن‬ ‫والعون؛طلقــة‬
‫ـرطانية ّالدائمــة‪ ،‬أشــهر طويلــة قضاهــا‬‫السـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ّالدائــم‪ ،‬وبحشــد مــن أمــراض الـ ّـدم ّ‬
‫ّ‬
‫هنــاك علــى ســريره فــي المستشــفى أعــزل مــن كل شــيء ســوى قلبهــا الكبيــر‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ورعايتهــا التــي ال تعــرف فتــورا أو انقضــاء أو رحيــا‪.‬‬
‫ لــم يكــن فــي حاجــة إلــى أن يخبــره أهلــه علــى جرعــات مــن الحيــاء والحــزن‬
‫ً‬ ‫والعطــف ّأنــه أصيــب ّ‬
‫بالشــلل ّالدائــم‪ ،‬ولــن يســير أبــدا علــى قدميه؛فهــو يعــرف‬
‫ً‬
‫هــذه الحالــة تمامــا‪ ،‬ولطالمــا رآهــا فــي صفــوف أصدقائــه وأترابــه وجيرانــه مــن‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أبنــاء ّ‬
‫الشــعب الفلســطينيّ‪ ،‬كان يعــرف ّأنــه ســيظل عاجــزا إلــى األبد علــى ّالرغم‬
‫الصهيون ـيّ ال‬ ‫والصحة؛فطلقــات العــدو ّ‬ ‫مــن دعــاء أمــه الموصــول لــه ّ‬
‫بالشــفاء ّ‬
‫ألي دعــاء أو اســتجداء أو اســترحام‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ولكنــه كان يعــرف ّأن تلكــم‬ ‫ـدا ّ‬ ‫تنصــاع أبـ‬
‫ّالنظــرات التــي تمطــره بهــا الممرضــة هــدى ليســت نظــرات شــفقة أو رحمــة أو‬
‫عمــه أبــو حســين المرافــق لــه فــي المستشــفى ليــل نهــار‬ ‫واجــب كمــا كان يصـ ّـر ّ‬
‫علــى تســميتها‪ ،‬فقلبــه الــذي لــم يكــن قــد قــرع بعــد قرعــات العشــق‪ ،‬يســتطيع‬
‫ً‬
‫ـارا ّ‬
‫مقدســة مشــتعلة فــي قلبهــا كمــا هــي ذات أوار حــارق‬ ‫أن يــدرك ّأن هنــاك نـ‬
‫ّ‬
‫الســعادة إال ّالنــزر منهــا فــي‬ ‫الصغيــر العشــرينيّ الــذي لــم يــذق مــن ّ‬ ‫فــي قلبــه ّ‬
‫مخيمــه الغــارق فــي العــوز والكـ ّـد واالكتظــاظ واألحــام التــي ال ّ‬
‫تتحقــق‪.‬‬
‫ عندمــا أخبــر أهلــه بنيتــه بالـ ّـزواج منهــا‪ ،‬وقفــوا مشــدوهين‪ ،‬ثــم عاجلــوا قلبــه‬
‫الممرضــة ّ‬
‫العفيــة‪ ،‬وهــو‬ ‫تحبــه هــذه ّ‬ ‫بنخــزة لئيمــة علــى شــكل تشــكيك بــأن ّ‬
‫ً‬ ‫ّ ً‬
‫العاجــز كليــا حتــى عــن ضبــط بولــه فضــا عــن عجــزه عــن الحركــة أو عــن‬

‫يعمرون بل يهدمون‪.‬‬ ‫ّ‬


‫مستعمرون؛ألنهم ال ّ‬ ‫‪ -1‬هم مستدمرون ال‬

‫‪43‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫حبهمــا‬ ‫‪.‬ولكنــه ّأكــد لهــم ّأن ّ‬ ‫ً‬


‫مثال ّ‬ ‫ـري كمضاجعــة جنسـ ّـية‬ ‫ّأي ســلوك طبيعـيّ فطـ ّ‬
‫الوضعيــة‪ ،‬باختصارهو يعشــقها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة والمعطيــات‬ ‫أكبــر مــن ّالتوصيفــات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وهــي تعشــقه‪ ،‬ومــن يعشــق ال يعــرف مســتحيال أو مانعــا‪ ،‬ولذلــك ســيكون معهــا‬
‫إلــى األبــد‪ ،‬وهــي قـ ّـررت صراحــة وبوضــوح أن تكــون معــه حتــى آخــر لحظــة‬
‫ً‬ ‫مــن حياتهــا‪ّ ،‬‬
‫مضحيــة بحقهــا فــي الجنــس أو اإلنجــاب انتصــارا لقلبهــا علــى‬
‫مطالــب جســدها وحياتهــا وعالمهــا‪.‬‬
‫ رثــى أهلــه لســذاجة ثقتــه فــي هــذا العشــق المأمــول‪ ،‬وتركــوا األمــر للوقــت‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ليداويــه بطريقتــه‪ ،‬وكثيــرا مــا تكــون مداواتــه مؤلمــة وكاويــة‪ ،‬ولكنهــم تفاجــأوا‬
‫عندمــا علمــوا علــم اليقيــن ّأن الممرضــة هــدى توافــق علــى هــذا الـ ّـزواج‪ ،‬وتعـ ّـده‬
‫الكفيــل األوحــد لســعادتها‪ ،‬وباركــوا هــذا الـ ّـزواج بحملــة ّتبرعــات مــن األســرة‬
‫لجمــع مهــر العــروس‪ ،‬فجمعــوا بصعوبــة ألــف دوالر كــي تكــون ّأول عــون لهمــا‬
‫علــى الـ ّـزواج‪ ،‬وكاد األمــر يتـ ّـم فــي القريــب بعــد أن غــادر صالــح المستشــفى‪،‬‬
‫ـش‬ ‫وعــاد إلــى بيتــه الســتكمال تجهيــز غرفتــه فــي بيــت ّأمــه حيــث ســيكون عـ ّ‬
‫ّالز ّ‬
‫وجيــة المنتظــر‪.‬‬
‫ وجــاء الجــدار العــازل فــي ليلــة وضحاهــا ليحبســه فــي بيتــه‪ ،‬ويحبــس حبيبتــه‬
‫ّ‬
‫فــي مستشــفاها بعــد أن قطــع الطريــق بينهمــا‪ ،‬وجعــل األرض أرضيــن‪ ،‬وصنــع‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫بينهمــا برزخــا مــن الحرمــان والقطيعــة‪ ،‬ليكــون كل منهمــا حبيســا خلــف جهــة‬
‫مــن الجــدار‪ ،‬حــاول دون جــدوى أن يســتقدم حبيبتــه إليــه‪ ،‬أو أن يذهــب إليهــا‬
‫الصليــب األحمــر‪ّ ،‬‬
‫ولكنــه مــا فتــئ‬ ‫عبــر تصاريــح عــاج يحصــل عليهــا بمعونــة ّ‬
‫يخفــق فــي ذلــك المـ ّـرة تلــو األخــرى‪ ،‬حتــى أدرك ّأنــه ُحــرم مــن هــدى إلــى‬
‫األبــد‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ الطريقــة الوحيــدة ّللتواصــل معهــا كانــت عبــر ّ‬ ‫ّ‬


‫الصــراخ فــي واديــه الحزيــن‪،‬‬
‫ّ‬
‫تأتــي هــي كل صبــاح‪ ،‬ويجـ ّـر نفســه منــذ الفجــر حتــى يصــل إليهــا فــي الموعــد‬
‫الشــائك‪،‬‬ ‫المضــروب كــي يقــف مهدومـ ًـا علــى عكازيتــه بالقــرب مــن الجــدار ّ‬
‫‪...‬ك»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪...‬ك ِ‬ ‫ـك ِ‬ ‫ويصــرخ بأعلــى صوتــه‪« :‬هــدى» أنــا أحبـ ِ‬
‫ً‬ ‫ فتـ ّ‬
‫ـرد عليــه بجــرأة عاشــقة ال تعــرف خوفــا‪ ،‬وال لومــة الئــم فــي عشــقها‪« :‬وأنــا‬
‫أحبــك أكثــر يــا صالح»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ألول مـ ّـرة‪ »:‬هــل تقبليــن‬‫الشــهي الحلــو ّ‬ ‫ فيســألها بلـ ّـذة مــن يطــرح ســؤاله ّ‬
‫بالـ ّـزواج بــي؟»‬
‫بالزواج َبك»‪.‬‬‫ فترد عليه بفرح شقيّ مرح‪ »:‬نعم‪ ،‬أقبل ّ‬ ‫ّ‬
‫ألول مـ ّـرة فــي حياتــه‪ ،‬ويشـ ّـد علــى‬ ‫ يســعد صالــح ٍبموافقتهــا‪ّ ،‬‬
‫وكأنهــا يســمعها ّ‬
‫األلــف دوالر التــي يدفنهــا فــي عميــق جيــب بنطالــه ّ‬
‫الكتانــيّ القديــم‪ ،‬فــا ‬
‫ً‬
‫تفارقــه ليــل نهــار علــى أمــل أن ينقدهــا فــي القريــب المداهــم لحبيبتــه مهــرا‬
‫لهــا‪ ،‬ويبتســم وهــو يحلــم بمالكــه األبيــض وهــي ترتــدي ثــوب ّالزفــاف األبيــض‪،‬‬
‫جبــار ال يرحــم قلــب عاشــقين‪ ،‬ويصــرخ بعقيــرة‬ ‫وتجــري نحــوه دون جــدار عــازل ّ‬
‫‪...‬ك»‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪...‬ك ِ‬
‫ـك ِ‬ ‫مشــدودة كوتــر قــوس متحفــز لالنطــاق‪ »:‬هــدى» أنــا أحبـ ِ‬
‫ًّ‬
‫سرا‬ ‫الغروب ال يأتي‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬
‫معز يــا ومواســيا لــه‪ »:‬ال تجــزع يــا صديقــي‪ ،‬فعنــد كل‬ ‫ يقــول لــه صديقــه‬
‫الجيــش يخــاف مــن الـ ّـدم‪ ،‬ويفــزع‬ ‫ّ‬
‫ـاه‪.‬أتصدق ّأن قائدنــا فــي ّ‬ ‫إنســان أمــر يخشـ‬
‫ّ‬
‫جماعيــة‬ ‫منــه أشـ ّـد الفــزع علــى ّالرغــم مــن ّأنــه تــرأس أكثــر مــن ّ‬
‫عمليــة إبــادة‬
‫للفلســطينيين؟!»‬

‫‪45‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ولكننــي ال أخشــى ّ‬
‫الــدم‪ ،‬بــل أســتمتع بــه‬ ‫يــرد عليــه بخجــل مــن حالتــه‪ّ »:‬‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫وقمــة فخــري أن أســفحه مــن رقــاب الفلســطينيين ّ‬
‫المخربيــن الذيــن‬ ‫جــدا‪ّ ،‬‬
‫فســادا فــي دولتنــا‪ ،‬ولكــن يــا للعــار‪ ،‬أنــا أخشــى غــروب ّ‬ ‫ً‬
‫الشــمس‪،‬‬ ‫يعيثــون‬
‫ً‬ ‫أصــاب بهلــع عظيــم عندمــا تغيــب ّ‬
‫الشــمس‪ ،‬وتتركنــي وحيــدا فــي ظلمــة هــذا‬
‫فأتخيــل ّأن ّكل الفضــاء حولــي يعـ ّـج بــاألرواح ّ‬
‫الشــريرة التــي تطاردنــي‬ ‫الكــون‪ّ ،‬‬
‫اريــة‪ ،‬وتحــاول أن تنهــش جســدي بمعاولهــا المسـ ّـننة‪ ،‬وتســعى‬ ‫بمصائدهــا ّالن ّ‬
‫ّ‬ ‫لخطــف أرواح أبنائــي‪ّ ،‬‬
‫لتجرهــا إلــى الجحيــم‪ ،‬هــذا أمــر رهيــب‪ ،‬أكــره الليــل‪،‬‬
‫وأخشــى لحظاتــه التــي أقضيهــا فــي صــراع مــع شــياطين ّ‬
‫وهميــة ال يراهــا‬
‫ســواي‪ ،‬ولذلــك تمعــن فــي تعذيبــي»‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪«-‬حالــة غريبــة بحق‪.‬عليــك زيــارة طبيــب نفسـيّ الستشــارته فــي هــذا الشــأن»‬
‫ّ ً‬
‫يقــول صديقــه معلقــا علــى حالتــه‪.‬‬
‫ـت نفســي علــى أكثــر مــن طبيــب نفسـيّ‪ ،‬ولكــن دون فائــدة‪ ،‬فــا أحــد‬ ‫‪«-‬عرضـ ُ‬
‫الســماء‪ ،‬وال‬‫الشــمس تتشـ ّـبث بمكانهــا فــي ّ‬ ‫منهــم يســتطيع أن يســاعدني‪ ،‬وال ّ‬
‫ّ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫الغــروب يأتــي سـ ّـر ًا‪ ،‬فــا يوقــظ األرواح ّ‬
‫ـيطانية التــي تتفلــت مــن عوالمهــا‬
‫الصهيونـيّ بهلــع ووجــع‪.‬‬ ‫ـدي ّ‬
‫تقصــد أن تطاردنــي بعذابهــا المســوم»‪.‬يجيب الجنـ ّ‬
‫المرضيــة ّالنــادرة» ‪.‬يســأل صديقــه‬
‫ّ‬ ‫‪ « -‬ولكــن لمــاذا؟ مــا ســبب هــذه الحالــة‬
‫مــن جديــد؟‬
‫ً ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ «-‬ال أعــرف‪ ،‬بحــق أنــا ال أعــرف لهــا ســببا‪ ،‬ولكننــي أتمنــى أن يأتــي الغــروب‬
‫ـن‪.‬‬ ‫سـ ّـر ًا»‪ .‬يهتــف الجنـ ّ‬
‫ـدي بنبــرة رجــاء وتمـ ٍّ‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ يصمــت ّ‬
‫الصديــق‪ ،‬وتــزوغ عينــاه بعيــدا نحــو األفــق‪ ،‬ونحــو ذلــك اليــوم الــذي‬
‫يحــاول أن يبتلــع ذكــراه لحظــة بعــد لحظــة‪ ،‬فيخفــق فــي ذلــك‪ ،‬ويأتــي الغــروب‬

‫‪46‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫وتحولــه إلــى ملعــون ســيزيفيّ ال يعــرف‬ ‫ـض مضجعــه‪ّ ،‬‬ ‫ليخــزه بذكــراه التــي تقـ ّ‬
‫فــا‪ ،‬يومهــا كانــت ّ‬ ‫ّ ً‬
‫الشــمس تــكاد تنزلــق خلــف‬ ‫عذابــه نهايــة أو عقابــه توق‬
‫ّ‬
‫الجــدار العــازل لتــردي المــكان فــي المزيــد مــن الظلمــة والوحشــة‪ ،‬وكان هــو‬
‫الحــارس الليل ـيّ المســؤول عــن حراســة ّالبوابــة فــي المســاء بعــد عنــاء يــوم‬
‫والت ّفنــن فــي تعذيبهــم وتعطيلهــم‬ ‫طويــل مــن المراقبــة‪ ،‬وتفتيــش العابريــن‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتوقيفهــم وتأخيرهــم وإذاللهــم‪ ،‬فهــو متــورط معهــم فــي هــذه اللعبــة الظالمــة‬
‫َ َ‬ ‫ً‬
‫بقــدر تعذيبــه لهــم؛إذ ال يمكــن أن تكــون ُم ِّع ِذبــا دون أن تكــون ُم َّعذبــا!‬
‫ً‬
‫البوابــة دخــوال إلــى منطقــة ُســكناها‬ ‫ وجــاءت تلــك المــرأة الفلسـ ّ‬
‫ـطينية لتعبــر ّ‬
‫طوقهــا الجــدار مــن ّكل مــكان كشــريط سـ ّ‬
‫ـحري‬ ‫فــي المدينــة المعزولــة التــي ّ‬
‫ً ّ ً‬
‫لحميــا يمــور‬ ‫شــرير خانــق‪ ،‬كانــت تجـ ّـر سـ ّـتة أطفــال‪ ،‬وتحمــل فــي بطنهــا تــا‬
‫بجنيــن قــد أزف موعــد خروجــه إلــى الحيــاة‪ ،‬كانــت مرهقــة وباديــة ّالتعــب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مســتفزة فــي مشاكســتها‪ ،‬وتعطيلهــا وتلويعهــا وأبناءهــا‬ ‫وجــد لــذة خاصــة‬
‫البوابــة‪ ،‬وعندمــا ّردته بشــموخ ال‬ ‫الصغــار قبــل أن يســمح لهــا ولهــم بالعبــور مــن ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫ُيتوقــع مــن قســماتها الكســيفة‪ ،‬ومــن شــحوبها البــادي‪ ،‬ومــن لهاثهــا الموصول‪،‬‬
‫تمتعــه بتعذيبهــا بــأن يمنعهــا مــن العبــور مــن ّ‬
‫البوابــة إلــى أن‬ ‫قـ ّـرر أن يبالــغ فــي ّ‬
‫وتتلحــف ّ‬
‫بالســماء‬ ‫يخيــم ظــام ّالليــل‪ ،‬ليتشـ ّـفى ببؤســها وهــي تفتــرش األرض‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وبنوهــا علــى بــاب الجــدار حتــى ّ‬
‫الصبــاح‪.‬‬
‫تتضــرع لــه مــن أجــل العبــور‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولكنهــا‬ ‫ كان يتوقــع أن ترضــخ لذلــه‪ ،‬أو أن‬
‫لــم تفعــل ذلــك‪ ،‬بــل تفلــت فــي وجهــه غيــر آبهــة بجبروتــه‪ ،‬وجمعــت أبناءهــا‬
‫علــى عجــل‪ ،‬وأدارت ظهرهــا لتعــود بهــم مــن حيــث أتت‪.‬اشــتعلت نيــران‬
‫ً‬
‫الصــدئ‪ ،‬وأطلــق حشــدا مــن رصاصــات نزقــة ّباتجاههــا‪،‬‬ ‫الغضــب فــي صــدره ّ‬

‫‪47‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ً‬ ‫فخـ ّـرق جســدها وأجســاد بنيهــا فــي لحظــات‪ّ ،‬‬


‫تكومــوا جميعــا علــى األرض‬
‫ً‬ ‫غارقيــن فــي بركــة دم حــار مــن جــداول أجســادهم‪ ،‬وغربــت ّ‬
‫الشــمس تمامــا‬
‫ـروع‪ ،‬وبقيــت عينــا تلــك المــرأة تشــخصان نحــو‬ ‫هروبـ ًـا مــن هــذا المشــهد المـ ّ‬
‫الســماء‪ ،‬وترفضــان أن ُتغلقــا‪ ،‬وتتوعــدان بانتقــام‪ ،‬هكــذا فهــم نظراتهــا‪ّ ،‬‬
‫وصمــم‬ ‫ّ‬
‫تحدثــه وتتوعـ ّـده بالثــأر‪ ،‬وعندمــا عجــز الجنــود عــن إغــاق عينيهــا‬ ‫علــى ّأنهــا ّ‬
‫انهــال عليهــا بوابــل جديــد مــن ّالرصاصــات حتــى بــدا بطنهــا كمصفــاة ّ‬
‫معدنيــة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قديمــة‪ ،‬ولكنهــا علــى ّالرغــم مــن ذلــك ظلــت شــاخصة العينيــن تتوعـ ّـده بانتقــام‬
‫قريــب‪.‬‬
‫يروعــه؛إذ يكشــف لــه عــن عينيهــا‬ ‫الشــمس ّ‬ ‫ مــن يومهــا بــات غــروب ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشــاخصتين‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ويتوعــده بالعــذاب‪ ،‬وزاد الطيــن بلــة حمــل زوجتــه بطفلهمــا‬
‫وأن االنتقــام قــد أزف‪ ،‬البـ ّـد ّأن االنتقــام‬ ‫ّالثالــث‪ ،‬هــو يعــرف ّأن المــوت قريــب‪ّ ،‬‬
‫الشــريرة ســتفتك ببنيــه‬ ‫ســيكون مــن جنــس العمــل‪ ،‬ولذلــك ال بـ ّـد ّأن األرواح ّ‬
‫وبزوجتــه الحامــل لتحــرق قلبــه كمــا أحــرق قلــب ذلــك األب الفلســطينيّ علــى‬
‫زوجتــه وأوالده‪.‬‬
‫الصغــار بمــا اقترفــت يداي؟!»يســأل‬ ‫ «ولكــن مــا ذنــب زوجتــي وأطفالــي ّ‬
‫الشــريرة التــي تطــارده‪ ،‬فتـ ّـرد عليــه بســؤال تنفخــه فــي وجهــه بلســان‬ ‫األرواح ّ‬
‫الصغــار لتقتلهــم دون‬ ‫الفلســطينية وأوالدهــا ّ‬
‫ّ‬ ‫لهيب‪»:‬ومــا ذنــب تلــك المــرأة‬
‫رحمــة؟!»‬
‫وأوالدي ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الصغــار‪ ،‬دعوهــم‬ ‫‪ «-‬ال ‪...‬ال ‪ ...‬لــن يقتــل أحــد ّأيــا كان زوجتــي‬
‫يعيشــون‪ ،‬دعوهــم يأكلــون ويشــربون ويكبــرون‪ ،‬هــم ســيموتون فــي يــوم مــا‪،‬‬
‫ّ ً‬ ‫ّ‬
‫متضرعــا‪.‬‬ ‫الجنــدي األرواح‬ ‫ولكــن ليــس اآلن؟» يرجــو‬

‫‪48‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫تجلجــل األرواح بضحــكات خشــنة ‪ ،‬وتقــول بحــزم‪ »:‬بــل عليهــم أن يموتــوا‬


‫اآلن»‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ « -‬ال ‪...‬لــن يكــون ذلــك أبــدا‪ ،‬ابنتــي ّ‬
‫الصغيــرة راحيــل تخــاف مــن المــوت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أحبهــا أكثــر مــن كل البشــر‪ ،‬هــي أشـ ّـد رقــة مــن نســمة صيــف‪ ،‬لــن‬ ‫والقبــور‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يقتلهــا ّأي أحــد‪ ،‬ويجــب أن تعيــش مديــدا وأن تســعد كثيرا»‪.‬يزمجــر الجنـ ّـدي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ثــم يغــادر غرفتــه كالمجنــون حامــا مدفعــه ّالرشــاش‪ ،‬ويهبــط ســلم البيــت‬
‫ّ‬ ‫ً ّ ً‬
‫متوجهــا إلــى المطبــخ حيــث يجــد زوجتــه الحامــل وطفليــه متحلقيــن‬ ‫ســريعا‬
‫يخرقهــم برصاصــات‬ ‫حــول مائــدة العشــاء‪ ،‬يشـ ّـيع دهشــتهم بــا مبــاالة‪ ،‬ويشــرع ّ‬
‫مدفعــه مبتــدئ بابنتــه راحيــل التــي تخــاف المــوت والقبــور‪ّ ،‬‬
‫ويحبهــا أكثــر مــن‬
‫الشــاخصة العينيــن تقدحــان‬ ‫ـطينية القتيلــة ّ‬
‫البشــر أجمعيــن‪ ،‬وعينــا المــرأة الفلسـ ّ‬
‫بهســتيرية‪»:‬هؤالء زوجتــي وطفلــي‪ ،‬أنــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫أحبهــم‪ ،‬لــن‬ ‫شــررا‪ ،‬وهــو يصــرخ‬
‫يقتلهــم أحــد ســواي‪ّ ،‬هيــا اغربــي عــن وجهــي ّأيتهــا المــرأة الملعونــة»‪.‬‬

‫ساللة ّ‬
‫الن ْور‬
‫ّ‬
‫ دم ســالته المباركــة يتدفــق فــي أعماقــه ووجدانــه وشــرايينه‪ ،‬فيدفــع حلمــه‬
‫إلــى أن يكبــر مــن أجــل أن يســافر إلــى القاهــرة ليســتكمل علومــه اإلسـ ّ‬
‫ـامية‬
‫ليفقــه نفســه‪ ،‬وينفــع ّأمــة المســلمين‪ ،‬منــذ أجيــال‬ ‫الشــريف ّ‬ ‫فــي األزهــر ّ‬
‫الشــريعة اإلسـ ّ‬
‫ـامية‪،‬‬ ‫طويلــة رجــال أســرته الواحــد تلــو اآلخــر يحملــون رايــة ّ‬
‫ويسـ ّـمون ّ‬
‫الشــيوخ فــي المدينــة‪ ،‬أبــوه وجـ ّـده ورجــال أســرته جابــوا بقــاع الوطــن‬
‫الفلســطينيّ‪ ،‬وحملــوا لــواء ّالديــن واإلحســان والخيــر والبنــاء‪ ،‬وهــذه البــذرة‬
‫الصالحــة تنمــو فــي أعماقــه منــذ ُولــد‪ ،‬فمنــذ صغــره هــو مفطــور علــى ّ‬
‫الصــاة‬ ‫ّ‬

‫‪49‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ً‬ ‫ّ‬
‫والصــوم والعبــادة والبـ ّـر واإلحســان‪ ،‬وقــد حفــظ القــرآن الكريــم كامــا منــذ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫طفولتــه‪ ،‬وكثيــرا مــا صلــى بالجماعــة إمامــا فــي صــاة الفجــر‪ ،‬برامــج حياتــه‬
‫ّ‬ ‫كافــة ّ‬‫ّ‬
‫مكيفــة وفــق هــدف واحــد‪ ،‬وهــو الذهــاب إلــى األزهــر الســتكمال علومــه‬
‫اإلســامية‪ ،‬حتــى زهــر خطيبتــه اختارهــا وفــق هــذا البرنامــج‪ ،‬فقــد كانــت‬ ‫ّ‬
‫صالحــة عابــدة مثلــه‪ ،‬تحفــظ الكثيــر مــن أجــزاء القــرآن‪ ،‬وتتــوق مثلــه إلــى‬
‫الشــريف‪.‬‬ ‫ـامية فــي األزهــر ّ‬
‫دراســة العلــوم اإلسـ ّ‬
‫ كان عليــه أن يحــزم نفســه وكتبــه‪ ،‬ويســافر إلــى القاهــرة بصحبــة خطيبتــه بعــد‬
‫حصــل لهمــا‬ ‫ـامية بعــد أن ّ‬‫يتزوجهــا كــي ينخرطــا فــي دراســة العلــوم اإلسـ ّ‬ ‫أن ّ‬
‫ً‬
‫ـوال فــي الجامعــة‪ ،‬ولكـ ّ‬
‫ـن الجــدار العــازل الــذي ُولــد مــن رحــم شــيطانيّ‬ ‫قبـ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وقــف حاجــزا أمامهمــا‪ ،‬ومنعهمــا مــن ّ‬
‫الســفر خــارج مدينتــه القديمــة‪ ،‬وحطــم‬
‫أحالمهمــا‪ّ ،‬‬
‫وغيــر مشــاريع حياتهمــا إلــى األبــد‪.‬‬
‫ وعلــى ّالرغــم مــن ذلــك كان مــن الممكــن أن يقبــل بواقعــه الجديــد لو لم يســرق‬
‫الجــدار معظــم أصدقائــه‪ ،‬ويقتلهــم الواحــد تلــو اآلخــر علــى تخومــه ّ‬
‫وبواباتــه‪،‬‬
‫عندهــا قـ ّـرر أن يطعــم ســدنة الجــدار ّللنــار والمــوت‪ ،‬هــدوءه الغامــر أجــاد أن‬
‫الضربــة القاســمة‪،‬‬ ‫مخططــه المزمــع‪ ،‬وفــي ّاللحظــة المناســبة كانــت ّ‬ ‫ّ‬
‫ُيخفــي‬
‫اختارهــا أن تكــون فــي ليلــة زفافــه علــى المــرأة التــي اختارهــا شــريكة لحيــاة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الضنــك المريــرة‪ ،‬خــرج منــذ الظهيــرة إلــى صــاة الظهــر‪ ،‬وبعــد أن ّأداهــا بأنــاة‬
‫ّ ً‬ ‫وخشــوع‪ ،‬خــرج إلــى مــراده‪ ،‬كان يحمــل فــي كيســه ّ‬
‫مسدســا ومجموعة‬ ‫الصغيــر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مــن القنابــل‪ ،‬ويســتعيد فــي ذاكرتــه تفاصيــل خطتــه المرســومة ّللتســلل إلــى‬
‫والدلــوف إلــى قاعــة ّالتدريــس ّالرئيسـ ّـية‬ ‫ـودي ّالداخلــي‪ّ ،‬‬
‫المعهــد ّالدينــي اليهـ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ليوســعهم موتــا‪ ،‬انتقامــا منهــم ألصدقائــه الذيــن قتلوهــم‪ ،‬ولحلــم دراســته الــذي‬

‫‪50‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫أجهضــوه فــي تبرعمــه‪ ،‬وألرضــه التــي قســمها الجــدار دون رحمــة أو وجــه‬
‫حــق‪ ،‬ولخطيبتــه التــي يعشــقها‪ ،‬ولــن يســتطيع أن يصطحبهــا معــه إلــى األزهــر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الشــريف كمــا وعدهــا مــرارا وتكــرارا‪.‬‬
‫ـهال بمســاعدة مالمحــه الخالسـ ّـية ّ‬‫ً‬
‫الشــقراء‬ ‫ كان أمــر ّالدخــول إلــى المعهــد سـ‬
‫ركيــة التــي تزوجهــا جـ ّـده‬
‫التــي يملكهــا وراثــة عــن جـ ّـدة أبيــه ذات األصــول ّالت ّ‬
‫ـامية فــي القاهــرة قبــل عقــود طويلــة‪ ،‬وعــاد بهــا إلــى‬‫عنــد دراســته العلــوم اإلسـ ّ‬
‫مدينتــه القديمــة حيــث عاشــت وماتــت ُودفنــت‪.‬‬
‫بخفــة علــى األرض كــرذاذ علــى مــاء وصــل إلــى القاعــة‬ ‫ بخطــوات ناقــرة ّ‬
‫الرئيســية‪ ،‬وبســرعة خاطفــة شــرع ينثــر المــوت علــى الجميــع بقنابلــه‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫وبمسدســه‪ ،‬لــم يدركــه الحــرس برصاصهــم إال وكان قــد أرســل الجميــع إلــى‬
‫ّ‬ ‫جحيــم المــوت‪ ،‬ثــم استســلم إلــى ّ‬
‫جنتــه الخضــراء الموعــودة‪ ،‬وحلــق بأجنحــة‬
‫ّ‬
‫مــن نــور نحــو البعيــد‪ ،‬وتــرك جثتــه لهــم ليركلونهــا بأقدامهــم‪ ،‬ويمثلــون بهــا‪،‬‬
‫ً‬
‫ويســجنوها أيامــا فــي حافظــة مبـ ّـردة قبــل أن يســمحوا بدفنهــا علــى عجــل فــي‬
‫وكأنهــا فعــل محظــور البــوح بــه‪.‬‬ ‫ُجنــح ّالليــل‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ لــم يــزف إلــى عروســه‪ ،‬ولــم ُتــزف إليــه‪ ،‬وبقيــت فــي ثوبهــا األبيــض تنتظــره‬
‫ـا دون أن تصـ ّـدق ّأنــه لــن يبـ ّـر بوعــده لهــا‪ ،‬ولــن ّ‬ ‫ً‬
‫يتزوجهــا‪ ،‬بــل ولــن يعــود‬ ‫طويـ‬
‫ً‬
‫إليهــا أبــدا‪ ،‬فليــس مــن عادتــه أن ال يبـ ّـر بوعــد قطعــه علــى نفســه‪ ،‬ولكــن يبــدو‬
‫ألول مـ ّـرة فــي حياتــه‪ ،‬كذلــك لــن يســتطيع أن‬ ‫ّأنــه لــن يســتطيع أن يبـ ّـر بوعــده ّ‬
‫يعــود إليهــا‪ ،‬لذلــك عليهــا أن تذهــب هــي إليــه‪ ،‬وإن كان هــو مــن ســالة العلمــاء‬
‫ّ‬ ‫األبــرار‪ ،‬فهــي مــن ســالة ّ‬
‫الشــهداء الطاهريــن‪ ،‬فليــس هنــاك فــي أســرتها‬
‫ـهيدا؛فهي ابنــة شــهيد‪ ،‬ووالدهــا كان ابــن شــهيد‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫وجدهــا‬ ‫بيــت لــم يقـ ّـدم شـ‬

‫‪51‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫َ‬
‫ابــن شــهيد‪ ،‬بــل ابنهــا المنتظــر الــذي لــم تحــظ بــه منــه ال بـ ّـد ّأنــه ســيحلم‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫باالستشــهاد‪ ،‬فمــا عليهــا إال أن تكــون شــهيدة أيضــا؟‬
‫ خلعــت ثوبهــا األبيــض إلــى ميقــات‪ ،‬وعندمــا حــان الوقــت المنتظــر‪،‬‬
‫وتحزمــت بحــزام ناســف‪ ،‬ويممـ ْ‬ ‫وتزينــت‪ّ ،‬‬ ‫وتعطــرت‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫ـتحمت‪ّ ،‬‬ ‫اسـ ّ‬
‫ـت‬ ‫وتمشــطت‪،‬‬
‫ّ ُ‬ ‫ّ‬
‫ـب‪ ،‬أمــرت بالوقــوف علــى‬ ‫نحــو الجــدار الفاصــل الــذي أخــذ منهــا كل مــن تحـ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عتبــة ّبوابتــه‪ّ ،‬‬
‫لكنهــا لــم تفعــل‪ ،‬وفــي اللحظــة المناســبة‪ ،‬تحولــت إلــى جمــرة نار‬
‫ّ‬
‫تكــوي كل مــن حولهــا مــن جنــود صهاينــة‪ ،‬وتهــزأ مــن الجــدار الــذي انهــارت‬
‫ً‬
‫أجــزاء منــه مــن شــظايا حزامهــا ّالناســف‪ ،‬وحمــل علــى أكتافــه مكرهــا طرحــة‬
‫ملوحــة باألفــق لروحهــا التــي تحجــل فــي دربهــا نحــو ّ‬
‫الســماء لتلحــق‬ ‫عرســها ّ‬
‫ّ ّ ّ‬
‫ورانيــة الطاهــرة‪.‬‬ ‫بســالتها الن‬

‫‪52‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ما قاله الجدار‬

‫(‪)1‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫السجان مسجون أيضا‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫ـليا‪ ،‬فليــس هنــاك متعــة أكثــر مــن أن يقــف‬ ‫ كان يبــدو العمــل لــه ممتعــا‪ ،‬ومسـ‬
‫السـ ّ‬
‫ـادية‬ ‫والداخــل‪ ،‬ويمــارس عبرهــا متعتــه ّ‬ ‫علــى ّبوابــة يراقــب منهــا الخــارج ّ‬
‫ّ‬ ‫فــي تعذيــب ّالنــاس ّ‬
‫والتنكيــل بهــم‪ ،‬اســتمتع ســنوات طويلــة بهــذه اللعبــة‬
‫ّ‬ ‫ـن ّأنــه ّ‬
‫العمــل؛إذ كان يظـ ّ‬
‫الســجان المعــذب للفلســطينيين‪ ،‬ولكــن عندمــا أيقــن‬
‫ّأنــه ال فــرق كبيــر بيــن أن ُيســجن المــرء خلــف الجــدار أو أمامــه أو فــي ّبوابتــه‪،‬‬
‫إضافيــة مــن المخـ ّـدرات‪.‬‬
‫انتحــر بجرعــة ّ‬

‫(‪)2‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الرمثاوي ال يضام‬ ‫قبر‬
‫ ال أحــد يعــرف علــى وجــه ّالدقــة اســم ّ‬
‫الشــهيد ّالراقــد فــي هــذا القبــر‪ ،‬ولكــن‬
‫مثــاوي‪ ،‬فهــم يعرفــون ّأن صاحبــه جــاء مــن مدينــة‬‫ّ‬ ‫الجميــع ّ‬
‫يســمونه قبــر ّالر‬
‫ّالرمثــا فــي شــمال األردن ليجاهــد إلــى جانــب الفلســطينيين‪ ،‬فقضــى نحبــه فــي‬
‫ُ‬
‫هــذه المنطقــة‪ ،‬فدفــن فــي بســتان البيــت الــذي كان يجــوزه‪ ،‬ويدافــع عــن أهلــه‬
‫ّ‬
‫ســاعة استشــهاده‪ ،‬القبــر ظــل محــراب البيــت‪ ،‬وعامــود فخــر أهلــه‪ ،‬بــل سـ ّـمي‬
‫ولقبــت األســرة نفســها بــآل ّالرمثـ ّ‬
‫ـاوي‪.‬‬ ‫ـاوي‪ّ ،‬‬
‫البيــت مــع الوقــت ببيــت ّالرمثـ ّ‬
‫الشــعب الفلســطينيّ بتــر القبــر‬ ‫ عندمــا ُغــرز الجــدار العــازل فــي خاصــرة ّ‬
‫عــن البيــت‪ ،‬فــكان البيــت فــي شــرق الجــدار‪ ،‬والقبــر فــي غربــه‪ ،‬حــزن أهــل‬

‫‪53‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫البيــت أشـ ّـد الحــزن لحرمانهــم مــن القبــر‪ ،‬وحــزن القبــر لنفيــه عــن عائلتــه التــي‬
‫جاورهــا ســنين طويلــة‪ّ ،‬‬
‫وألن ّالرمثـ ّ‬
‫ـاوي ال ُيضــام‪ ،‬فقــد حمــل قبــره‪ ،‬وانتقــل بــه‬
‫الصبــاح كان مــن‬ ‫إلــى جــوار البيــت فــي ّالناحيــة األخــرى مــن الجــدار‪ ،‬وفــي ّ‬
‫جديــد فــي بســتان البيــت ينتظــر أهلــه ليســقوا زهــوره ّالنابتــة عليــه‪ ،‬غيــر آبــه‬
‫برغبــة الجــدار الملعــون!‬

‫(‪)3‬‬
‫ال قصة ّ‬
‫حب للجدار العازل‬
‫ّ‬
‫اليهوديــة مــن أقصــى واليــات‬ ‫الصحفــي األمريكــيّ ذو األصــول‬ ‫ جــاء هــذا ّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أمريــكا ُبعــدا مــن أجــل أن يقــوم بالوظيفــة التــي أســندت إليــه بحكــم شــهرته‬
‫ّ‬
‫اإلعالميــة الجريئــة‪ ،‬كان عليــه أن يعايــن تجربــة الجــدار‬ ‫حفيــة وإنجازاتــه‬ ‫ّ‬
‫الص ّ‬
‫ّ‬
‫الفاصل؛ليكتــب عنــه المقــاالت والقصــص ّالداعمــة لــكل مــن يــرى وجــوده فــي‬
‫ً‬
‫هــذا المــكان عــدال وضــرورة لحمايــة اليهــود الغاصبيــن فــي أراضيهــم المســلوبة‬
‫مــن الفلســطينيين‪.‬‬
‫ الحقيقــة ّأنــه معنـيّ بالمبلــغ المالــي الكبيــر ذي األصفــار الكثيــرة ُ‬
‫المتفــق عليــه‬
‫مقابــل هــذا العمــل ّالدعائــي اإلعالم ـيّ العــاري مــن الحقيقــة أو العــدل‪ ،‬ومــن‬
‫همــه‪ ،‬ورصيــده المتنامــي فــي‬‫قــال ّإنــه يبالــي بالحقيقــة وبالعــدل؟! المــال ّكل ّ‬
‫جنــة حياتــه‪.‬‬‫البنــك ّ‬
‫ لكــن مشــكلته الكبــرى تكمــن فــي ّأن قلمــه يكتــب مــا يشــاء وعلــى هــواه‬
‫ّ‬ ‫دون االنصيــاع لــه‪ ،‬حــاول أن يكتــب ّ‬
‫قصــة حـ ّ‬
‫ـب واحــدة فــي ظــل هــذا الجــدار‪،‬‬
‫فعجــز عــن ذلــك‪ ،‬فكتــب مئــة قصــة حــزن بســبب هــذا الجــدار‪ّ ،‬‬
‫ومــزق‬

‫‪54‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫أمــر ّالدفــع ّ‬
‫(الشــيك) ذا األصفــار الكثيــرة‪ ،‬وشــرع يعيــش قصتــه األولــى مــع‬
‫األول إلــى جانــب المتظاهريــن الفلســطينيين ضـ ّـد‬
‫الصــف ّ‬‫الحقيقــة‪ ،‬فــكان فــي ّ‬
‫ّ‬
‫العالميــة تحــت عنوان‪»:‬صحفيّ‬ ‫هــذا الجــدار‪ ،‬وتصـ ّـدرت صــوره وســائل اإلعــام‬
‫أمريك ـيّ يقضــي نحبــه برصــاص قــوات االحتــال ّ‬
‫الصهيون ـيّ»‪.‬‬

‫(‪)4‬‬
‫ّبوابة واحدة ال تكفي‬
‫ّ‬ ‫ ليــس لهــذه البلــدة منفــذ علــى ّالدنيــا ســوى هــذه ّ‬
‫البوابــة اللئيمــة فــي الجــدار‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫العــازل‪ ،‬إن أغلقــت‪ ،‬وكثيــرا مــا يحــدث ذلــك‪ ،‬فأهــل البلــدة يغــدون مجــرد‬
‫ســجناء فــي ســجن كبيــر‪ ،‬جدرانــه الجــدار العــازل‪ ،‬وســقفه ّ‬
‫الســماء البعيــدة‪.‬‬
‫العمال الفلســطينيين‬ ‫ فــي ّكل صبــاح كان يقــود شــاحنته القديمــة بحملهــا مــن ّ‬
‫ّ‬
‫البوابــة ليواجهــوا كبــد ســاعات مــن االنتظــار والــذل علــى أمــل أن ُيســمح‬ ‫نحــو ّ‬
‫ّ‬
‫البوابــة‪ ،‬لعلهــم يعــودون إلــى عائالتهــم بأقــوات يومهم ّالتعــس ‪ ،‬وهو‬ ‫لهــم بمغــادرة ّ‬
‫ّ‬
‫يظــل قعيــد األرض ينتظــر أن يســمح لــه الجنــود بمغــادرة المــكان‪ ،‬ليعــود إليها من‬
‫جديــد فــي اليــوم ّالتالــي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ بوابــة واحــدة ال تكفــي لعبــور أولئــك ّ‬ ‫ّ‬
‫العمــال الفلســطينيين كلهــم‪ ،‬حتــى عندمــا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ـا منهــم علــى ّ‬
‫البوابــة بســاحه ّالرشــاش‪ ،‬فقــد‬ ‫قتــل مســتدمر لعيــن عشــرين عامـ‬
‫ظلــت ّ‬ ‫ّ‬
‫البوابــة الوحيــدة ال تكفــي‪ ،‬لذلــك فقــد ركــب شــاحنته‪ ،‬وأســرع بهــا‪ ،‬وهوى‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بهــا علــى ّ‬
‫البوابــة‪ ،‬فخلعهــا‪ ،‬وحطــم جــزءا مــن الجــدار‪ ،‬وســحق بعــض الجنــود‬
‫تحــت عجــات شــاحنته‪ ،‬فوجــد األرض أرحــب دون ّبوابــة أو جــدار أو جنــود‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫(‪)5‬‬
‫ال قانون ّ‬
‫ضد األقدام العائدة‬
‫الســكري أكل القــدم اليمنــى لمـ ّـؤذن الجامــع فــي الحــارة القديمــة‪،‬‬ ‫ مــرض ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصلبــة‪،‬‬‫الط ّبيــة ّ‬ ‫قيــل لــه ّإن مــن الممكــن أن ُتصنــع لــه قدمــان مــن اللدائــن‬
‫ولكــن هاتفـ ًـا فــي المنــام صــاح فيــه ّإن عليــه أن يصنــع لــه قدميــن مــن ّ‬
‫الســنديانة‬
‫ً‬
‫الكبيــرة فــي أرضــه التــي تقــع اآلن خلــف الجــدار العــازل‪ ،‬حــاول كثيــرا أن يعبــر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫البوابــة‪ ،‬وأن يصــل إلــى أرضــه‪ ،‬ولكــن دون جــدوى‪ ،‬ففــي كل مــرة كان الجنــود‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫يردونــه ردا قبيحــا‪.‬‬
‫الســنديانة‪ ،‬وفــي لحظــة حلــم ســرقه المــوت‪،‬‬ ‫ ظـ ّـل يحلــم بالقــدم الخشـ ّ‬
‫ـبية مــن ّ‬
‫تحقــق األمنيــة‪ ،‬انشــلعت مــن جســده بليــن ودعــة‪،‬‬ ‫قدمــه اليتيمــة قـ ّـررت أن ّ‬
‫وســارت فــي ّالزقــاق القديمــة التــي تحفظهــا عــن ظهــر قــدم‪ ،‬وعبــرت ّبوابــة‬
‫الســنديانة ّ‬
‫المعمــرة‬ ‫ويممــت نحــو ّ‬ ‫ـدي صهيونـيّ‪ّ ،‬‬ ‫الجــدار دون أن يوقفهــا ّأي جنـ ّ‬
‫وكبرت‪»:‬اللــه أكبــر»‪.‬‬‫فــي البســتان الجبل ـيّ‪ّ ،‬‬

‫(‪)6‬‬
‫ً‬
‫الخيل األصيلة تعود دائما إلى أهلها‬
‫ّ‬
‫الجســدي‬ ‫الصهيونــيّ مارســوا ّ‬
‫ضدهــم أعتــى أنــواع ّالتعذيــب‬ ‫ فــي المعتقــل ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والنفس ـيّ‪ ،‬ولــم ينفكــوا عنهــم إال عندمــا جعلــوا منهــم جواســيس لهــم‪ ،‬فــا ‬
‫ً‬ ‫أحــد يشـ ّ‬
‫ـك فــي ّأن صبيــة صغــارا قــد يكونــون جواســيس علــى أهلهــم وجيرانهم‬
‫وشــعبهم‪.‬ولذلك أخرجوهــم مــن المعتقــل بهــذا ّ‬
‫الشــفيع المخــزي‪.‬‬
‫الصهاينــة الكثيــر مــن األخبــار ّ‬
‫الصغيــرة حــول ّ‬
‫الثــوار‬ ‫ نقلــوا إلــى الجنــود ّ‬

‫‪56‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫والمتظاهريــن مــن الفلســطينيين‪ ،‬ثــم نقلــوا إليهــم تفاصيــل أكبــر ّ‬


‫عمليــة مقاومــة‬
‫وأمدوهــم بالمعلومــات ليحاصــروا عشــرين‬ ‫ســيقوم بهــا ّالثــوار الفلســطينيون‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫الفدائيــة قبــل أن يقومــوا‬ ‫العمليــة‬ ‫بطــا مــن أبطــال الثــورة‪ ،‬ليبيدوهــم فــي أرض‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بهــا‪ ،‬أخــذوا مبلغــا كبيــرا مقابــل هــذه الوشــاية ّالدســمة‪.‬‬
‫ّ ً‬
‫مدججــا بالجنــود‬ ‫ّ‬
‫الفدائيــة كان الفنــدق الهــدف‬ ‫ّ‬
‫للعمليــة‬ ‫ فــي الوقــت المحـ ّـدد‬
‫ّ‬ ‫الصهاينــة ّ‬‫ّ‬
‫واآلليــات فــي انتظــار إلقــاء القبــض علــى الثــوار‪ ،‬ولــم يطــل بهــم‬
‫ُ‬ ‫االنتظــار‪ ،‬فقــد جاءتهــم اســتنجادات ّ‬
‫ملحــة وعاجلــة مــن معســكرهم الــذي أبيد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عــن بكــرة أبيــه علــى أيــدي الثــوار الذيــن خدعوهــم عبــر المعلومــات المضللــة‬
‫ّ‬ ‫مــن خيلهــم ّ‬
‫الصغيــرة األصيلــة التــي ال يمكــن إال أن تعــود إلــى أهلهــا‪.‬‬

‫(‪)7‬‬
‫الموتى ال يرحلون‬
‫ـاحية ولــؤم قنفــذ أجــرب‪ »:‬ال أحــد‬ ‫الضابــط ّ‬
‫الصهيون ـيّ بســحنة تمسـ ّ‬ ‫ قــال ّ‬
‫ٍ‬
‫ســيبقى فــي هــذا المــكان‪ ،‬الجميــع عليــه أن يرحــل إلــى مــا خلــف الجــدار‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجميــع بــا اســتثناء ســيرحلون اآلن إال الموتــى ســكان القبــور»‪.‬‬
‫ ضحــك العجــوز الفلســطينيّ مــن جهــل ّ‬
‫الضابــط‪ ،‬وتمـ ّـدد علــى أرضــه‪ ،‬وقــال‪:‬‬
‫«إذن هنــا أموت»‪.‬وأســبل عينيــه‪ ،‬وراح فــي ســبات أبـ ّ‬
‫ـدي‪.‬‬
‫لكنــه لــم يقــدر علــى ذلــك؛ فقــد‬ ‫ليحركــه‪ّ ،‬‬
‫الضابــط مــن العجــوز ّ‬ ‫ اقتــرب ّ‬
‫تباعــدت األرض بــه‪ ،‬وغــارت بالعجــوز فــي باطــن طبقاتهــا‪ّ ،‬‬
‫وغيبتــه عــن‬
‫العيــون‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫(‪)8‬‬
‫طائر الفينيق حقيقة ال أسطورة‬
‫ّ‬
‫يحلقــان نحــو عنــان ّ‬ ‫ً‬
‫الســماء‪،‬‬ ‫ منــذ صغــره يحلــم بــأن يكــون طائــرا بجناحيــن‬
‫ّ‬ ‫ّ ً‬
‫ـارا يجــوب العالــم ّ‬ ‫ً‬
‫زجاجيــة‬ ‫بطيــارة‬ ‫عندمــا كبــر قليــا بــات يحلــم بــأن يصبــح طيـ‬
‫كســروا لــه عظــام يديــه فــي المعتقــل ّ‬
‫الصهيون ـيّ كــي ال‬ ‫ّنفاثــة‪ ،‬ولكــن عندمــا ّ‬
‫يحمــل مــن جديــد العلــم الفلســطينيّ فــي المظاهــرات ضـ ّـد الجــدار العــازل‪،‬‬
‫قــرر أن يصبــح طائــر فينيــق فــي ّالنــار‪ ،‬وال يحتــرق‪،‬‬ ‫وغــدا عاجــز اليديــن ّ‬
‫الســماء‪ ،‬وال يغادرهــا‪ ،‬ضـ ّـم يديــه العاجزتيــن بضعــف علــى العلــم‬ ‫يطيــر فــي ّ‬
‫ّ‬
‫الفلســطينيّ بعــد أن وقــف علــى أعلــى مطــل جبلـيّ فــي مدينتــه‪ ،‬وفــرد كتفيــه‪،‬‬
‫وحلــق دون أن يهبــط مــن جديــد علــى األرض‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وخيــم العلــم الفلســطينيّ‬ ‫وطــار‪،‬‬
‫ّ‬
‫علــى األفــق‪ ،‬وغــاب الجــدار العــازل فــي ظلــه!‬

‫(‪)9‬‬
‫المجانين ّ‬
‫ضد الجنون‬
‫ّ‬
‫ « ال يفهــم المجانيــن إال المجانيــن مثلهــم» ‪.‬هــذه هــي جملتــه الوحيــدة التــي‬
‫ـحرية علــى اجتيــاز الجــدار العــازل دون عبــور ّبوابتــه‪.‬‬ ‫السـ ّ‬‫يفســر بهــا قدرتــه ّ‬
‫ّ‬
‫ هــو مــن مجانيــن القريــة العتيقيــن الذيــن غــدوا مــن آثارهــا ومعالمهــا وأوابدها‪،‬‬
‫يعدونــه مــن‬ ‫ولكنهــم جميعـ ًـا فــي قريتــه ّ‬
‫ال أحــد يعــرف متــى بــدأ جنونــه أو لـ َـم؟ ّ‬
‫ِ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ ّ ً‬ ‫ّ‬
‫ـآت‪.‬‬
‫عقــاء المجانيــن إن جــاز التعبير؛فهــو ال ينطــق إال حقــا‪ ،‬وال يتنبــأ إال بـ ٍ‬
‫ً‬ ‫ عندمــا ُبنــي الجــدار العــازل أمطــره بوابــل مــن ّ‬
‫الســخرية‪ ،‬وقــال مواســيا‬
‫الجميــع‪»:‬ال تخافــوا‪ ،‬هــذا الجــدار ليــس أكثــر مــن جنــون‪ ،‬وال أحــد يخشــى‬

‫‪58‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫ّ‬ ‫ً‬
‫مجنونــا‪ ،‬بــل ّإن المجانيــن عينهــم ضـ ّـد الجنــون»‪ ،‬ومنــذ الوقــت تغلــب علــى‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ـحر ال يعرفــه أحــد‪ ،‬وظــل حـ ّـرا خــارج نطــاق ســلطة الجــدار‪،‬‬
‫الجــدار بســلطة سـ ٍ‬
‫ً‬
‫يخترقــه متــى شــاء‪ ،‬ويعــود إلــى القريــة عبــره متــى شــاء حامــا الحلــوى‬
‫ّ‬
‫والســمك الطــازج مــن ســواحل عــكا ويافــا وغـ ّـزة‪.‬‬‫ّ‬

‫(‪)10‬‬
‫الموت يساوي بين األشياء‬
‫ّ‬
‫ حيــاة اإلنســان هــي األثمــن فــي هــذا العالــم‪ ،‬هــذا مــا تعلمــه مــن أبويــه ومــن‬
‫ليخمــن ّأن رحلــة ّ‬ ‫ـري‪ ،‬ومــا كان ّ‬ ‫الطــب البشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ميدانيــة واحــدة‬ ‫مدرســيه فــي كليــة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خــارج كليتــه ســوف تعلمــه مــا ينســف بــه مــا تعلمــه كلــه طــوال حياته؛كانــت‬
‫ّ‬
‫صهيونيــة فــي إحــدى‬ ‫ّ‬
‫عســكرية‬ ‫ّالرحلــة هــي مرافقــة ّ‬
‫ميدانيــة مــع طواقــم‬
‫جوالتهــا فــي أراضــي الفلســطينيين خلــف الجــدار العــازل‪ ،‬يومهــا وقــع جريــح‬
‫فلســطينيّ فــي أيــدي الجنــود بعــد مواجهــات داميــة فــي باحــة أحــد المســاجد‬
‫ّ‬ ‫قــدم لــه اإلســعافات ّ‬ ‫يتوقــع أن ُت ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلنســانية‬ ‫األوليــة مــن قبيــل‬ ‫القديمــة‪ ،‬كان‬
‫ولكنــه فوجــئ بأســتاذه الجامعــيّ فــي‬ ‫وليــة لمعاملــة األســرى‪ّ ،‬‬ ‫واألعــراف ّالد ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مــادة ّالتشــريح ّ‬
‫رعــدي مــن‬ ‫يقــد جــزءا مــن بطنــه بمشــرطه وســط صــراخ‬
‫الجريــح‪ ،‬فــي حيــن تذهــب اســتغاثاته المحزنــة أدراج ّالر يــح دون مجيــب‪ ،‬ثــم‬
‫ً ّ ً‬
‫حيــا علــى تشــريح إنســان ح ـيّ ال علــى جثــة قديمــة‬ ‫يشــرع يعطيهــم درســا‬
‫تقيــأ مبادئــه جميعهــا علــى أرض المــوت‪ ،‬وأيقــن ّأن الغايــة‬ ‫ّ‬
‫متعفنــة‪ ،‬يومهــا ّ‬
‫ً‬
‫هــي األثمــن فــي هــذا الكــون! وإخالصــا لمبدئــه الجديــد الوليــد فقــد شــرع‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يقتــل كل جريــح صهيونـيّ يقــع بيــن يديــه عندمــا ُع ّيــن طبيبــا فــي المستشــفى‬

‫‪59‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ً‬
‫ـكري‪ ،‬ليبيــع أعضــاءه سـ ّـرا لمــن يدفــع لــه المــال الوفيــر‪ ،‬فــا قيمــة عنــده‬
‫العسـ ّ‬
‫ّ‬
‫للحيــاة‪ ،‬والمــال هــو الغايــة الكبــرى فــي هــذه الحياة‪.‬هــذا مــا تعلمــه فــي رحلتــه‬
‫ّ‬
‫الميدانيــة الوحيــدة إلــى الجــدار العــازل‪.‬‬

‫(‪)11‬‬
‫ّ‬
‫ثورة العصافير خارج التاريخ‬
‫الخاصــة ّ‬
‫المهمــة‪ ،‬فهــم يجهلــون تاريخ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ ألن البشــر ّ‬
‫يؤرخــون األعــوام بأحداثهــم‬
‫العصافيــر الــذي يقــول‪ »:‬كانــت العصافيــر تعيــش بأمــن فــي غابــات وحقــول‬
‫الصهيون ـيّ‪ ،‬وقطــع األشــجار‪ ،‬وجـ ّـرف‬ ‫ـدو ّ‬‫وســهول فلســطين‪ ،‬إلــى أن جــاء العـ ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫األراضــي‪ ،‬وبنــى جــدارا عــازال بيــن البشــر‪ ،‬ال تعــرف الطيــور ســببا لوجــوده‪ ،‬وال‬
‫ّ ً‬
‫حقــا لــه ليحرمهــا مــن أعشاشــها وأوطانهــا‪.‬‬
‫ولمــا طــال بهــا االنتظــار ‪،‬‬ ‫ـردون ّ‬
‫حقهــا عليهــا‪ّ ،‬‬ ‫ قيــل لهــا ّإن البشــر ســوف يـ ّ‬
‫ً‬
‫شـ ّـنت حربــا شــعواء علــى الجــدار‪ ،‬وبضربــة واحــدة مــن صدورهــا المجتمعــة‬
‫قــوة ضاربــة واحــدة ّدكــت الجــدار علــى الغاشــمين ّ‬
‫الصهاينــة‪،‬‬ ‫فــي ُجمــع ّ‬
‫ـتردت أرضهــا‪ ،‬وبنــت أعشاشــها مــن جديــد علــى األشــجار ّالناميــة علــى‬ ‫واسـ ّ‬
‫ّ‬
‫رفــات األشــجار المقطوعــة‪ ،‬وكتبــت لهــا تاريــخ نصــر تحتفــي فيــه فــي كل عــام‪.‬‬

‫(‪)12‬‬
‫ّ‬
‫على الجدار أن يرحل في النهاية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ حـ ّـدق الجــدار العــازل فــي حياتــه المعيشــة‪ ،‬فوجــد نفســه جــدارا كريهــا‪ ،‬مــن‬
‫ّ‬
‫فكــر ثــم قـ ّـرر ثــم ّدبــر‪ ،‬وفــي ّ‬ ‫ّ‬
‫الصبــاح‬ ‫باطنــه المظلــوم‪ ،‬ومــن ظاهــره الظالــم‪،‬‬

‫‪60‬‬
‫قریب ـاً من الجدار‬

‫اســتيقظ الفلســطينيون ّ‬
‫والصهاينــة فلــم يجــدوا الجــدار‪ ،‬فقــد رحــل دون عــودة‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫رافضــا أن يظــل شــريكا فــي هــذه الجريمــة ّالنكــراء‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ً‬
‫بعيدا عن الجدار‬
‫حدث ذات جدار‬

‫البوصلة واألظافر وأفول المطر‬


‫ً‬
‫ـما‪ ،‬وكنـ َ‬
‫ـت تملــك بوصلــة نحاسـ ّـية قديمــة مربوطــة بجيبك‬ ‫ إن كان اســمك هاشـ‬
‫ـزم ّبأنــك ســتموت فــي أشـ ّـد‬‫ـت تجـ ُ‬‫بخيــط صــوف أزرق غليــظ‪ ،‬فــا تفارقــه‪ ،‬وكنـ َ‬
‫ـدس يديــك فــي غالــب األحيــان فــي‬ ‫ـت تـ ّ‬ ‫مربعانيــة‪ّ 1‬‬
‫الشــتاء بــرودة‪ ،‬وكنـ َ‬ ‫ّ‬ ‫أيــام‬
‫جيبــي معطفــك أوفــي جيبــي بنطالــك كــي ال يــرى أحــد أصابــع يديــك العاريتيــن‬
‫النتيفيّ‪.2‬الكثيــرون يعرفونــه ويجهلونــه‬ ‫ـك هاشــم ّ‬ ‫ـت بــا شـ ّ‬
‫مــن األظافــر‪ ،‬فأنـ َ‬
‫ً‬
‫فــي الوقــت ذاتــه؛كان اســما بــا وجــه لســنوات طويلــة‪ ،‬فطــوال ســنين ســجنه‬
‫الطويلــة فــي غياهــب المعتقــل ّ‬ ‫ّ‬
‫الصهيونـيّ كان يذكــره أفــراد عائلتــه دون انقطــاع‬
‫باســم البطــل‪ ،‬وكان يقــرن اســمه دائمـ ًـا بجملــة» فـ ّ‬
‫ـك اللــه أســره»‪.‬‬
‫يتجســد فــي مخيلتــي حينهــا علــى شــكل فــارس أسـ ّ‬
‫ـطوري قامتــه ممتــدة‬ ‫ كان ّ‬
‫الســماء‪ ،‬ويــداه مغروســتان فــي األرض علــى شــكل زيتونــة ّ‬
‫ألفيــة‪ ،‬وعيناه‬ ‫حتــى ّ‬
‫ـدادي‪ ،‬كان –فــي نفســي‪-‬أكبر مــن ّأن‬ ‫ـري البغـ ّ‬ ‫مســكونتان بأســراب الحمــام البـ ّ‬
‫ّ‬
‫المتكومــة فــي‬ ‫أتمنــى أن ألقــاه‪ ،‬وبقيــت أرفــض أن أصـ ّـدق ّأن الحاجــة وطفــة‬ ‫ّ‬
‫ـال‬ ‫ّ‬
‫ثــوب فلســطينيّ أزرق قديــم فيــه آثــار دارســة لقصــب ذهب ـيّ‪ ،‬والمتلفعــة بشـ ٍ‬

‫الشتاء‪.‬‬‫األشد برودة في فصل ّ‬ ‫العامة األيام األربعون ّ‬


‫المربعانية ‪:‬هي عند ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -1‬أيام‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ -2‬نســبة إلــى قريــة بيــت نتيــف‪ :‬تقــع إلــى الشــمال الغربــيّ مــن مدينــة الخليــل‪ ،‬وتبعــد عنهــا ‪ 21‬كــم‪،‬‬
‫وترتفــع عــن ســطح البحــر ‪425‬م‪ ،‬وتقــوم علــى ّقمــة جبــل فــي المنطقــة الغربيــة مــن جبــال الخليل‪.‬تبلــغ‬
‫ّ‬ ‫ً ُ‬
‫مســاحة أراضيهــا ‪ 44587‬دونمــا‪ .‬وقــدر عــدد ســكانها عــام ‪ 1922‬بحوالــي (‪ )1112‬نســمة‪ ،‬وفــي عــام ‪1945‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بحوالــي(‪ )2150‬نســمة‪ ،‬وفــي عــام ‪1948‬بلــغ عددهــم (‪)2499‬نســمة‪.‬قامت المنظمــات الص ّ‬
‫هيونيــة المســلحة‬
‫بهــدم القريــة‪ ،‬وتشــريد أهلهــا البالــغ عددهــم عــام ‪ )2499( 1948‬نســمة‪ ،‬وكان ذلــك فــي‪.1948 /10/21‬ويبلــغ‬
‫مجمــوع الالجئيــن مــن هــذه القريــة فــي عــام ‪ 1998‬حوالــي ( ‪ )18995‬نســمة‪.‬وقد أقــام ّ‬
‫الصهاينــة علــى أرضهــا‬
‫(نتيــف هالمــدة) ‪ ،1949‬ومســتدمرة(افيعيزر) ‪ ،1958‬ومســتدمرة (روجيلــت) ‪ ،1958‬ومســتدمرة (نفــي‬ ‫مســتدمرة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مخائيــل) ‪.1958‬وتعــد القريــة ذات موقــع أثــري يحتــوي علــى خربــة أم الـ ّـروس وخربــة أم الحــاج والنبــي بولــس‬
‫واليرمــوك والعبــد وجداريــا ّ‬
‫والشــيخ غــازي ّ‬
‫والتبانــة وغيرهــا‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫بعیــدا ً من الجدار‬

‫كان أبيــض فــي يــوم قــد ُنســي متــى كان هــي ّأمــه التــي ولدتــه‪ ،‬وحملتــه تســعة‬
‫ّ ً‬ ‫أشــهر فــي أحشــائها قبــل أن يســرقه ّ‬
‫العــدو ّ‬
‫صبيــا‬ ‫الصهيونــيّ مــن حضنهــا‬
‫ـرا‪ ،‬ويـ ّـزج بــه فــي غياهــب المعتقــات بتهمــة ّ‬ ‫ً‬
‫الشــروع فــي قتــل مســتدمر‬ ‫صغيـ‬
‫اســتولى علــى ّبياراتــه‪ ،‬وشــرع يخلــع أشــجارها الواحــدة تلــو األخــرى بذنــب ّأن‬
‫زارعهــا فلســطينيّ!‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ـرية فانيــة أن ّأمــه‪ ،‬وأرى أن ّأمــا أسـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ـن علــى أي امــرأة بشـ ّ‬ ‫ـت أضـ ّ‬‫ كنـ ُ‬
‫ـطورية هــي‬
‫ـمعت الكثيــر مــن القصــص عــن‬ ‫مــن تليــق به؛فهــذا البطــل الغائــب الــذي سـ ُ‬
‫ّ ً‬
‫شــجاعته ال تليــق بــه إال ّأمــا بعظمــة ّالزبــاء أو ّأم ســيف بــن ذي يــزن أو أليســار‬
‫الحاجــة وطفــة المقتضبــة فــي نحــو خمســين كيلــو غــرام‬ ‫أو شــجرة الـ ّـدر‪ّ ،‬أمــا ّ‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫ـطوريا مثــل‬ ‫وفــي مئــات خطــوط الكبــر فــي وجههــا ّأنــى لهــا أن تلــد كائنــا أسـ‬
‫هاشــم؟!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ يــوم قيــل لنــا ّإن هاشــما قــد خــرج أخيــرا مــن المعتقــل شــعرت بحــزن أنانـيّ‬
‫عميــق‪ ،‬فبعــد أن يخــرج مــن المعتقــل مــن ســيكون بطل ـيّ العائل ـيّ المأســور‬
‫الصديقــات والمعارف؛وعندمــا قيــل لنــا ّإنــه قــد وصــل‬ ‫الــذي أفاخــر بــه ّ‬
‫ً‬ ‫ً ّ ً‬
‫عائليــا حاشــدا فــي ديوانهــا‬ ‫إلــى األردن‪ ،‬وســوف تقيــم لــه العائلــة اســتقباال‬
‫شــدة االنفعــال ثــم أصابنــي صــداع نصفــيّ‬ ‫أتقيــأ مــن ّ‬ ‫كــدت ّ‬‫ُ‬ ‫االجتماعــيّ‬
‫تورطــت فــي لعبــة االنتظــار مجهولــة األســباب‪.‬‬ ‫لســاعات طويلــة‪ ،‬ثــم ّ‬
‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ وكان الحفــل األســري الحاشــد بعــد أيــام قليلــة تواتــرت عليهــا أخبــار شــتى عن‬
‫ً‬
‫تفاصيــل عــودة هاشــم‪ ،‬فعرفنــا ّأنــه عــاد وحيــدا عبــر معبــر الجســر إلــى األردن‪،‬‬
‫ـا عندمــا عرفنــا ّأن الحاجــة وطفــة ّ‬ ‫ً‬
‫الضريــرة عرفتــه مــن رائحتــه‬ ‫وانتحبنــا طويـ‬
‫قبــل أن يقــول ّأي كلمــة‪ ،‬وخجلنــا مــن بخلنــا عليــه عندمــا عرفنــا ّأنــه اشــترى‬

‫‪65‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫بدنانيــره القليلــة التــي يملكهــا مــن حطــام ّالدنيــا متريــن مــن قمــاش الحبــر‬
‫ـب أخوتــه إن شاكســوها بقولها‪»:‬يــا‬ ‫ألمــه التــي لطالمــا ســمعها فــي طفولتــه تسـ ّ‬
‫أوالد الكلــب‪ ،‬هــل اشــتريتم لــي ثــوب الحبــر كــي تزعجوننــي هكــذا؟! ّ‬
‫فخمــن‬
‫ً‬
‫ّأن غايــة مــا تحلــم ّأمــه بــه هــو أن تملــك ثــوب حبــر مطـ ّـرزا بالحريــر األحمــر‬
‫قصــرت دون أن يشــتري لهــا «طبــب»‪ 2‬الحريــر‬ ‫ولكــن نقــوده ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المونــس‪،1‬‬
‫المطلوبــة‪.‬‬
‫ً‬
‫مقيــدا‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫يجــر بحبلــه نمــرا ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ كنــت أعتقــد أننــي ســأرى فارســا ّ‬
‫ذهبيــا ّ‬ ‫ُ‬
‫خمنــت‬
‫الضاربــة فــي األرض التــي ألفــت أن‬ ‫ّأن أرض ديــوان العائلــة ســتميد بخطواتــه ّ‬
‫تســخر مــن ثقــل األغــال الوقحــة التــي تنحــاز إلــى المعتــدي ضـ ّـد صاحــب‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫والحــق‪ ،‬أغمضــت عينــي للحظــة كــي أفتحهمــا اســتعدادا لدخولــه‬ ‫األرض‬
‫ـدي العائــد الــذي‬ ‫بصحبــة رجــاالت العائلــة‪ ،‬ثــم فتحتهمــا‪ ،‬فلــم َأر الفــارس األسـ ّ‬
‫ـتوي قديـ ّـم بلحيــة‬‫متكومـ ًـا فــي معطــف شـ ّ‬
‫ـا ّ‬ ‫ً‬ ‫تخيلتــه‪ّ ،‬‬
‫وإنمــا رأيــت رجـ‬ ‫لطالمــا ّ‬
‫ً ً‬
‫ـزي مسـ ّـدل‪ ،‬يســير بثقـ ٍـة مقصــودة تكابرعرجــا باديــا فــي قدمــه‬ ‫بيضــاء وشــعر عنـ ّ‬
‫كــد ُت أخــون‬ ‫يــدس يديــه فــي جيبــي معطفــه‪ّ ،‬‬ ‫اليســرى‪ ،‬ويحــرص علــى أن ّ‬
‫لحظــة اســتقباله‪ ،‬وأهــرب مــن المــكان‪ ،‬وطفقــت أنتظــر الفرصــة المناســبة‬
‫ـن صوتــه هــو مــن أخجلنــي مــن خيانتــي المزمعــة‪ ،‬فوحــده‬ ‫للهــرب خارجـ ًـا‪ ،‬ولكـ ّ‬
‫ً‬
‫صوتــه مــن جــاء علــى قــدر األمنيــة؛كان صوتــا فيــه أرث كامــل مــن الحكايــا‬
‫والشــهداء واألوجــاع والكفــاح الــذي ال يعــرف مهادنــة‪ ،‬صوتــه‬ ‫والنضــال ّ‬ ‫ّ‬
‫والصرخــات واإلغفــاءات‬ ‫والت ّنهــدات ّ‬ ‫غابــة مــن ّالروائــح والكلمــات الوجــات ّ‬

‫ّ‬ ‫‪ -1‬الحرير ّ‬
‫المونس‪ّ :‬أي ّ‬
‫يتكون من درجتين من اللون ذاته‪.‬‬
‫‪ -2‬طبب الحرير‪ :‬كرات الحرير‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫بعیــدا ً من الجدار‬

‫ً ّ‬ ‫ّ‬
‫واللمســات‪.‬من يســتطيع أن يهــرب مــن صــوت ابتلــع معتقــا بــكل مــا فيــه مــن‬
‫جنــود غواشــم وكالب عاديــة وأغــال وســياط وآالت تعذيــب؟! صوتــه مقبــرة‬
‫لألعــداء‪ ،‬وترنيمــة للبدايــة ّ‬
‫والنهايــة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ تكلــم طويــا عــن تجربتــه فــي المعتقــل‪ ،‬لــم يســتخدم كلمــة أنــا أبــدا‪ ،‬دائمــا‬
‫ً‬
‫كان يقــول نحــن‪ ،‬كلماتــه نقلتنــا إلــى المعتقــل‪ ،‬هنــاك ّعرفنــا باألبطــال اســما‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اســما‪ ،‬ووجهــا وجهــا‪ ،‬وقصــة قصــة‪ّ ،‬كنــا نســأله بفضــول وشــره‪ ،‬فيجيبنــا عنهم‬
‫ً‬ ‫نكلمــه عــن هنــا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫فيحدثنــا عــن هنــاك‪ّ ،‬كنــا جميعــا‬ ‫بإســهاب وتفصيــل‪ّ ،‬كنــا‬
‫مــت علــى أن أكــون فــي أقــرب‬ ‫صم ُ‬
‫غائبــون‪ ،‬وهــو وحــده الحاضر‪.‬يومهــا ّ‬
‫المتخيلــة فــي‬‫ّ‬ ‫السـ ّ‬
‫ـماوي‪ ،‬ودفنــت صورتــه‬ ‫الصــوت ّ‬‫مســافة مــن هــذا ّالرجــل ذي ّ‬
‫الصــور الباذخــة ّالت ّمنــي‪ ،‬وأمامــي‬ ‫أبعــد نقطــة خــارج ذاكرتي؛فمــا حاجتــي إلــى ّ‬
‫الصــدق؟!‬ ‫الحقيقــة وافــرة ّ‬
‫ لــم أكــن الوحيــدة التــي أرادت أن تكــون فــي أقــرب مســافاتها مــن هاشــم‪،‬‬
‫فهنــاك الكثيــر مــن أفــراد العائلــة الذيــن أرادوا أن يقتربــوا مــن هــذا ّالرجــل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المثقــل ّ‬
‫الفطريــة فــي البــوح اآلســر المؤثــر‪،‬‬ ‫بالصمــت علــى ّالرغــم مــن موهبتــه‬
‫ّ ً‬ ‫ولكننــي كنـ ُ‬
‫ـت األكثــر حظــا فــي الحصــول علــى ّالنصيــب األكبــر في االســتماع‬ ‫ّ‬
‫ـعبية التــي‬‫الشـ ّ‬ ‫العائليــة والمحافــل ّ‬
‫ّ‬ ‫إليــه‪ ،‬وفــي مرافقتــه فــي كثيــر مــن ّالدعــوات‬
‫الشــعبيّ‪ ،‬وتســتعرض‬ ‫اســتضافته بفضــول مجلــوب مفتعــل لتزيــد مــن رصيدهــا ّ‬
‫ً‬
‫قائمــة جمهورهــا غيــر العريــض فــي غالــب األحيــان‪ ،‬ثــم نســيته تمامــا بعــد أن‬
‫حققــت هدفهــا اإلعالم ـيّ منــه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫ـرا خــا لــي وجــه هاشــم ووقتــه واهتمامــه‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ولكنــه عندهــا كان وجهــا‬ ‫ وأخيـ‬
‫ً‬
‫كســيفا فيــه خرائــط حــزن بائــد ال تضاريــس جبــال شـ ّـماء كمــا هــي نفســه األ ّبية‬

‫‪67‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ً‬
‫بحســه المرهــف ّأن‬ ‫ـريعا ّ‬ ‫الصهــر أو االســتالب‪ ،‬قـ ّـدر سـ‬
‫العصيــة علــى الكســر أو ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫الجمــع قــد انفـ ّ‬
‫ـض مــن حولــه‪ ،‬وخلــوا بينــه وبيــن أحزانــه‪ ،‬ليجــرع منهــا مــا‬
‫شــاء‪ ،‬فقــد ِنفـ َـد نصيبــه مــن االهتمــام المجتلــب المصنــوع‪ ،‬أحــد لــم يســأله‬
‫عــن حاضــره أو مســتقبله‪ ،‬قليــل مــن عرفــوا عــن وحدتــه وخــواء جيبــه مــن‬
‫ّأي قــرش‪ ،‬وشــخصان أو ثالثــة هــم مــن ســألوه عــن سـ ّـر بوصلتــه ّالنحاسـ ّـية أو‬
‫أظافــره المنزوعــة مــن أصابعــه‪.‬‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خبث‬
‫ـارس أســطوري تفكر فــي ٍ‬ ‫ أمــا أنــا فتحولــت أقــداري مــن امــرأة حالمــة بفـ ٍ‬
‫بــأن تحصــل مــن هاشــم علــى مــادة شـ ّـيقة لتقريــر صحفـيّ يصلــح ألن ينشــر فــي‬
‫يوميــة مشــهورة إلــى صديقــة مخلصــة تحــرص علــى‬ ‫عامــود بــارز فــي صحيفــة ّ‬
‫أن تســتمع باهتمــام موصــول لبطــل حقيق ـيّ قـ ّـرر الجميــع فــي خضـ ّـم صخــب‬
‫حيواتهــم أن يســرقوا فمــه منــه‪ ،‬ليعتقلــوه مــن جديــد فــي صمــت خبيــث‪.‬‬
‫ّ‬
‫ حكايــا هاشــم كانــت بوصلــة ال تشــير إال إلــى الوطــن فلســطين وإلــى العــودة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫درب واحــد‪ ،‬وهــو درب العــودة إلــى بيــت ّنتيــف‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ـى‬‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـود‬ ‫ـ‬ ‫تق‬ ‫ـا‬
‫ـ‬ ‫ه‬ ‫كل‬ ‫كانــت طرقــه‬
‫حريصــا فــي ّكل مــكان يذهــب إليــه علــى أن ّ‬ ‫ً‬
‫يمــد أصابعــه العاريــة مــن‬ ‫كان‬
‫األظافــر إلــى جيبــه ليخــرج بوصلتــه ّالنحاسـ ّـية القديمــة‪ ،‬ويفتحهــا ليرقــب إبــرة‬
‫المؤشــر تشــير إلــى ّاتجــاه فلســطين‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وكأنــه فــي مســير مســتعجل نحــو العــودة‪،‬‬
‫ً‬
‫كان يقــول لــي دائمــا ّإنــه عائــد فــي القريــب إلــى قريتــه‪ ،‬وهنــاك ســيعيش فــي‬
‫‪2‬‬
‫ـيتزوج مــن بنــات عائلــة أبــو حــاوة‬ ‫(التحتــى)‪ ، 1‬وسـ ّ‬ ‫بيــت العائلــة فــي الحــارة ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ـن األشـ ّـد جمــاال وخصوبــة فــي نســاء القريــة‪ ،‬وســيعيش وأوالده العشــرة‬ ‫؛ألنهـ ّ‬

‫الجنوبية‪ ،‬إذ كانت قرية بيت ّنتيف قبل هدمها ّ‬


‫تتكون من ثالثة حارات ّ‬
‫رئيسية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حتى‪:‬أي‬‫‪ّ -1‬الت‬
‫‪ -2‬أبو حالوة‪ :‬هي إحدى عائالت قرية بيت ّنتيف‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫بعیــدا ً من الجدار‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫الذيــن يريــد أن ينجبهــم مــن ريــع األرض‪ ،‬فهــو فــاح ابــن فــاح‪ ،‬وال يتقــن إال‬
‫خديــه‪ّ ،‬‬ ‫الحمــرة علــى ّ‬ ‫ً‬
‫ـاال‪ ،‬فتغلــب ُ‬
‫وكأن‬ ‫أن يكــون كذلك‪.‬وعندهــا يشــتاط انفعـ‬
‫الحيــاة ّردت إليــه فجــأة بعــد رحيــل وهــو يرفــل فــي أمنياتــه‪ ،‬كان يحـ ّـرر يديــه‬
‫ّ‬
‫مــن ســجنهما الجيــب‪ ،‬ويشــرع يســتنطقهما فــي حركاتــه وهــو يتكلــم بإســهاب‬
‫بالســعادة عــن أدق ّالتفاصيــل قريــة بيــت ّنتيــف‪ ،‬فيطـ ّـوف بــي‬ ‫أخضــر مــورق ّ‬
‫ويعــدد أســماء ســاداتها‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويتتبــع أنســابها‪،‬‬ ‫علــى عائــات حاراتهــا الثالثــة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تصديهــا‬‫ـرا مــن أفخــاذ عائالتهــا كادت تنقــرض فــي ّ‬ ‫ويؤكــد فــي كل مـ ّـرة ّأن كثيـ‬
‫الشــجاع لعصابــات اليهــود الواغلــة فــي أراضيهــم فــي عــام ‪ ،1984‬ثــم يطـ ّـوف‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫الســحلة والمالحــة وبيــر ّ‬ ‫بــي علــى قاعــة ّ‬
‫الصفصــاف وخربــة أم الذيــاب وخربــة‬
‫جهنــم وســهل ّ‬
‫حمــادة‪.3‬‬ ‫أم الـ ّـروس وجســر األربعيــن ومــراح أبــو ّ‬
‫ـا ّ‬ ‫ً‬ ‫ وعندمــا يحيــن وقــت المســاء ّ‬
‫بحجــة‬ ‫يصمــم علــى أن يعــود إلــى بيتــه راجـ‬
‫رغبتــه فــي بعــض ّالر ياضــة‪ ،‬وأنــا أعلــم علــم اليقيــن ّأنــه ال يملــك ثمــن أجــرة‬
‫الشــكوى‬ ‫حافلــة تنقلــه إلــى بيتــه‪ ،‬فأصمــت رحمــة بحاجتــه األ ّبيــة علــى ّ‬
‫واالســتجداء‪.‬‬
‫ّ‬
‫ لــم تطــل صحبتــي مــع هاشــم‪ ،‬فقــد ألبــت خيبــات األمــل األمــراض عليــه‪،‬‬
‫ً‬
‫وكان ســهال عليهــا أن تتحالــف ضـ ّـد نفســه المفطــورة علــى اإلبــاء حتــى أمــام‬
‫الطبيــب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬
‫يؤجــل ذلــك‬ ‫عرضــت عليــه أن أصحبــه إلــى‬ ‫كنــت كلمــا‬ ‫األلــم‪،‬‬
‫ً‬
‫قائال‪»:‬ســأذهب فيمــا إلــى حكيــم الوكالــة‪ 4‬ليكشــف علــيّ‪ ،‬ال تخافــي‪ ،‬لــن‬
‫مربعانيــة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـدا فــي ّ‬ ‫ً‬
‫الشــتاء‪ ،‬ألدفــن فــي‬ ‫الصيــف‪ ،‬أنــا لــن أمــوت إال فــي‬ ‫أمــوت أبـ‬

‫جغرافية في قرية بيت ّنتيف‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -3‬أسماء أماكن‬
‫‪ -4‬طبيب عيادة وكالة الغوث(األونروا)‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫زخ مــن الـ ّـرب»‪.‬‬‫ليلــة ماطــرة ّكلهــا ّ‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ فأضحــك عندهــا‪ ،‬ويضحــك هــو‪ ،‬ونتكلــم فــي ّأي موضــوع إال عــن أظافــر‬
‫أؤجــل ّ‬
‫الســؤال‬ ‫الصهيونـيّ التــي ّ‬ ‫يديــه المنزوعــة بالكامــل تعذيبـ ًـا فــي المعتقــل ّ‬
‫عنهــا إلــى وقــت آخــر ال أعــرف متــى يكــون‪ ،‬دون أن أعــرف ّأن ال مزيــد مــن‬
‫ً‬
‫الوقــت أمامــي‪ ،‬بــل أمامه؛فقــد مــات هاشــم بهــدوء وحيــدا فــي بيتــه الغرفــة فــي‬
‫المخيــم بعــد أن ســافرت ّأمــه ّ‬
‫لتحقــق حلمهــا بــأن تــزور البيــت الحــرام قبــل أن‬ ‫ّ‬
‫ترحــل إلــى العالــم اآلخــر‪.‬‬
‫ مــات هاشــم وفــي ّكفــه بوصلتــه‪ ،‬وعلــى شــفتيه ابتســامة صافيــة كروحــه‬
‫المهــر التــي ال تبالــي بــأن تفــارق جســده فــي ليلــة ّ‬
‫صيفيــة ال ممطــرة مــن ليالــي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المربعانيــة كمــا كان يتوقــع‪ ،‬مادامــت طليقــة تحلــق نحــو وطنــه فلســطين لتخلــد‬
‫هنــاك إلــى األبــد‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫ُخ ّر ّ‬
‫افية أبو عرب‬
‫ووقعــوا»‪ ،2‬يتعالــى صوتــه الموتــور بالحشــرجة ّ‬ ‫ّ‬
‫والزبد‬ ‫ « باعوهــا بعلبــة ســردين‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والضحــكات المتدفقــة بتواتــر متقطــع محقــون‪ ،‬وهــو يعيــد هــذه الجملــة كلمــا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أراد أن يبــدأ حديثــا‪ ،‬أو أن ينهــي آخــر‪ ،‬أو أن يعلــق علــى أمـ ٍـر مــا‪ ،‬أو أن ينتقــد‬
‫ً‬ ‫ً ً‬
‫موقفــا ّأيــا كان حتــى ولــو كان انتقــادا ألزمــة المــرور الخانقــة فــي وســط المدينــة‬
‫ً‬
‫القديمــة حيــث ُيعســكر منــذ ســنوات‪ ،‬ثــم يطيــر بعيــدا بمالبســه المهلهلــة‪،‬‬
‫عاميــة مســتعملة بكثــرة فــي ّ‬
‫الســياق اليوم ـيّ عنــد‬ ‫قصــة‪ ،‬وهــي كلمــة ّ‬‫افيــة‪ :‬تعنــي حكايــة أو ّ‬ ‫‪ -1‬كلمــة ُ‬
‫«خ ّر ّ‬
‫الســن منهــم‪ ،‬وهــي مشـ ّ‬
‫ـتقة مــن كلمــة خرافــة‪ ،‬والفعــل منهــا» خـ ّـرف» ‪،‬‬ ‫الفلســطينيين الســيما عنــد كبــار ّ‬
‫ويعنــي حكــى وقــال ورى ونقــل‪.‬‬
‫ّ‬
‫الســردين المعلــب التــي كانــت ُتــوزع علــى الفلســطينيين علــى‬
‫الســردين إشــارة إلــى علــب ســمك ّ‬ ‫‪-2‬علــب ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫شــكل معونــات دوليــة فــي خضــم نكباتهــم ومآســيهم وتشــريدهم المتكــرر خــارج وطنهــم علــى أيــدي الصهاينة‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫بعیــدا ً من الجدار‬

‫ــتوي ّ‬
‫المرقــع‬ ‫الش ّ‬ ‫ــكري ّ‬
‫العس ّ‬ ‫الجيفاريــة الخضــراء ّالداكنــة‪ ،‬ومعطفــه ّ‬ ‫ّ‬ ‫وقبعتــه‬
‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الــذي ال يخلعــه حتــى فــي أشــد أيــام الصيف حــرا‪ ،‬وتطيــر خلفــه جملتــه العتيدة‬
‫جدتــي في‬ ‫التــي ال تهتــرئ فــي فمــه علــى ّالرغــم مــن تكــراره لهــا‪ ،‬وتطـ ّـل صــورة ّ‬
‫والص ّ‬
‫باحيــة إن‬ ‫ـائية ّ‬ ‫ذاكرتــي مــن ركــن عزيــز أثيــر‪ ،‬وهــي تختــم حكاياهــا المسـ ّ‬
‫الطيــر‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتتمســوا بالخيــر» ‪.‬‬ ‫ألححنــا عليهــا بســرد إحداهــا فــي الظهيــرة ‪»:‬وطــار‬
‫نلــح عليهــا بــأن تــروي لنــا مــن جديــد قصــة مجنــون وســط‬ ‫ وعندمــا ّ‬
‫ّ‬ ‫المدينــة القديمــة صاحــب الجملــة ّ‬
‫الشــهيرة» باعوهــا بعلبــة ســردين ووقعــوا»‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تقــول لنــا وهــي تـ ّـزم شــفتيها احتجاجــا مهزومــا علــى إجبارهــا علــى تكــرار‬
‫ّ‬ ‫خر ّ‬
‫القصــة ذاتهــا لعشــرات المـ ّـرات‪ّ »:‬‬‫ّ‬
‫افيــة أبــو عــرب كلهــا عجــب يــا أوالدي‪،‬‬
‫الشــباب فــي قريتنــا فــي فلســطين قبــل‬ ‫اســمه أبــو عــرب‪ ،‬وكان – واللــه‪ -‬زينــة ّ‬
‫ّالنكســة‪ ،‬طــوال عمــره وهــو فدائــيّ‪ ،‬يحمــل ســاحه‪ ،‬ويهيــم فــي الجبــال‪،‬‬
‫ً‬
‫الصهيون ـيّ‪ ،‬ولكــن أحــدا‬ ‫الصهاينــة‪ ،‬كان رأســه مطلوبـ ًـا دائمـ ًـا للجيــش ّ‬ ‫ويقاتــل ّ‬
‫ً‬
‫لــم يســتطع يومــا أن يقبــض عليــه‪ ،‬كان أســرع حركــة مــن البــرق‪ ،‬ولكــن أوالد‬
‫ً‬ ‫ُ ّ‬
‫وعــذب طويــا فــي المعتقــل‬ ‫الحــرام مــن الخونــة وشــوا بــه‪ُ ،‬فقبــض عليــه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ولكنــه بقــي علــى مواقفــه ّالث ّ‬‫الصهيون ـيّ‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وريــة بــكل ثبــات وإصــرار‪ ،‬ورفــض‬
‫ّ‬
‫ـأي معلومــة قــد تكشــف عــن هويــة ّأي مــن إخوانــه الثــوار‪ ،‬عندمــا‬ ‫أن ُيدلــي بـ ّ‬
‫الســجن ُنفـيَ إلــى هنــا‪ ،‬كان يعتقــد ّبأنــه ســيجد ّالرحمــة بيــن أهلــه‬ ‫خــرج مــن ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مــن العــرب‪ ،‬وهــو مــن كان يسـ ّـمي نفســه بأبــي عــرب تبـ ّـركا وتفــاؤال وإيمانــا‬
‫ّ‬
‫بالعــرب أجمعيــن‪ ،‬ولكــن منــذ اللحظــة األولــى التــي وطئــت قدمــه فيهــا هــذه‬
‫الســجن‬ ‫األرض ُأعتقــل مــن جديــد بتهمــة ّأنــه مناضــل فلســطينيّ‪ ،‬لبــث فــي ّ‬
‫ً‬
‫العربــيّ طويــا دون أن يعــرف أحــد مصيــره‪ ،‬حتــى نســيه ّالنــاس‪ ،‬وعندمــا‬

‫‪71‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫خــرج مــن ّ‬


‫الســجن كان قــد خلــع فيــه مكرهــا ومغبونــا شــبابه وذاكرتــه ونضالــه‪،‬‬
‫ّ‬
‫فنســي ّالنــاس أجمعيــن إال جريمــة تشــريد الفلســطينيين‪ ،‬وتواطــؤ الخونــة مــع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قــوى االحتــال والظــام‪ ،‬ولــم يعــد ينطــق إال بجملتــه الوحيــدة « باعوهــا بعلبــة‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ووقعــوا» التــي ّ‬ ‫ّ‬
‫يكررهــا تعليقــا علــى كل موقــف فــي الحياة؛فهــي ترنيمة‬ ‫ســردين‬
‫ويلخــص بهــا فجيعــة ّ‬ ‫ّ‬
‫الشــعب الفلســطينيّ‪ .‬يــا‬ ‫جرحــه ّالنــازف دون شــفاء‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ـيظل زيــن ّ‬ ‫ّ‬
‫الشــباب حتــى ولــو كان مجنونــا ضائعــا‬ ‫أوالدي‪ ،‬أبــو عــرب كان وسـ‬
‫الشــوارع ّ‬‫ـردا فــي ّ‬ ‫ً‬
‫والزقــاق‪.‬‬ ‫مشـ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ وألننــي ّكن ُ‬
‫ــت أثــق بحمــاس طفولــيّ مطلــق بمصداقيــة كل كلمــة تقولهــا‬
‫ُ ُ ّ‬ ‫جدتــي الحاجــة إلــى بيــت اللــه الحــرام ثــاث ّ‬ ‫ّ‬
‫كنــت أجــل أبــا‬ ‫مــرات‪ ،‬فقــد‬
‫وتكتـ ٍـم محــزون‪ ،‬وأنظــر إليــه علــى ّأنــه رمــز‬ ‫أحبــه بصمــت ّ‬ ‫عــرب وأقـ ّـدره‪ ،‬بــل ّ‬
‫أصمــم علــى أن ألقــي عليــه ّ‬
‫تحيــة‬ ‫وكنــت ّ‬ ‫ُ‬ ‫مــن رمــوز الكفــاح الفلســطينيّ‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الســام كلمــا مــررت بــه فــي طريقــي ذهابــا وإيابــا إلــى المدرســة‪ ،‬مخاطــرا‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫بــأن يطاردنــي بحجارتــه الطائشــة التــي غالبــا مــا ُتصيــب هدفهــا شــأني فــي‬
‫ولكنــه مــا فعــل ذلــك‬ ‫ذلــك شــأن األطفــال الذيــن يزعجونــه بمالحقتهــم لــه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫قط؛ألنــه علــى ّالرغــم مــن تحليقــه خــارج العقــل إال ّأنــه كان يملــك‬ ‫ّ‬ ‫معــي‬
‫ـب مباشــرة فــي فراســته التــي ال تخطــئ حيــال نيــة مــن أمامــه‬ ‫نظــرة ســابرة تصـ ّ‬
‫الســام‪ ،‬ثــم‬‫تجاهــه‪ ،‬ولذلــك كان يكتفــي بــأن يصمــت عندمــا ألقــي عليــه تحيــة ّ‬
‫فتكررهــا ّالزقــاق ّ‬ ‫الشــهيرة‪ّ ،‬‬ ‫يكــرر جملتــه ّ‬ ‫ّ‬
‫الصغيــرة‬ ‫يجنــح إلــى االبتعــاد‪ ،‬وهــو‬
‫بالصــدى الــذي ال يفارقهــا‪.‬‬ ‫اآلســنة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫صقيعيــة بــاردة‪ ،‬وتركتــه جثــة هامــدة‬ ‫ وعندمــا داســته سـ ّـيارة مجهولــة فــي ليلــة‬
‫جدتــي أن تكــون هــذه‬ ‫الطريــق‪ ،‬أبــت ّ‬ ‫ّ‬
‫متجمــدة علــى قارعــة‬ ‫ـب دمهــا قطعـ ًـا ّ‬ ‫تهـ ّ‬

‫‪72‬‬
‫بعیــدا ً من الجدار‬

‫ـت علــى أن تصنــع لــه نهايــة‬ ‫وصممـ ُ‬


‫افيــة هــذا البطــل المجهــول‪ّ ،‬‬ ‫هــي نهايــة ُخ ّر ّ‬
‫ّ‬
‫هبيــة األ ّبيــة؛ فـــأبو عــرب ال يمكــن أن ينتهــي مثــل ســائر‬‫الذ ّ‬ ‫تليــق بروحــه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫البشــر مهزومــا مجهــوال وحيــدا‪ ،‬ال يمكــن أن تــأكل األرض جســده بشــهيتها‬
‫محــرم علــى األرض‪ ،‬وعلــى الفنــاء‪ ،‬ولذلــك‬ ‫ّ‬ ‫المتوحشــة ّالنهمــة‪ ،‬بــل هــو‬ ‫ّ‬
‫افيتــه عندهــا تقــول ّإن أبــا عــرب لــم يمــت‪ّ ،‬‬
‫ولكنــه عــاد‬ ‫أصبحــت نهايــة ُخ ّر ّ‬
‫بطوليــة‪ُ ،‬ودفــن‬
‫فدائيــة ّ‬ ‫متسـ ّـل ًال إلــى فلســطين‪ُ ،‬وأستشــهد هنــاك فــي عمليــة ّ‬
‫ّ‬ ‫فــي مــكان سـ ّـر ّي فــي أعالــي جبــال ّ‬
‫الشــمال الفلســطينيّ‪ ،‬وفــي كل ليلــة تخــرج‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫روحــه‪ ،‬وتحمــل الســاح وتقاتــل‪ ،‬وســيظل كذلــك حتــى يبعــث يــوم القيامــة‬
‫ـرد ًدا « اللــه أكبــر‪ ،‬فلســطين حـ ّـرة ّ‬
‫عربيــة»‪.‬‬ ‫ـا ســاحه وروحــه‪ ،‬ومـ ّ‬ ‫ً‬
‫حامـ‬
‫ً‬
‫ كفرنــا جميعــا‪ ،‬أنــا وأخوتــي وأبنــاء عمومتــي وأوالد الجيــران وأترابنــا فــي‬
‫ـتوية البــاردة‪ّ ،‬‬
‫وآمنــا‬ ‫المدرســة‪ ،‬بنهايــة أبــي عــرب الفاجعــة فــي تلــك ّالليلــة ّ‬
‫الشـ ّ‬
‫بــد أن يحظــى بالميتــة التــي‬ ‫جدتي؛فهــي ال تكــذب‪ ،‬وأبــو عــرب ال ّ‬ ‫بحكايــة ّ‬
‫ـتحقها‪ ،‬وروحــه البـ ّـد ّأنهــا تركــض اآلن فرحــة ســعيدة فــي أحــراش جبــال‬ ‫يسـ ّ‬
‫فلســطين‪.‬‬
‫المعبــدة بالحجــارة ّ‬
‫الص ّ‬ ‫ّ‬
‫ظلــه فبقــي يســعى هنــاك فــي الطرقــات ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫خريــة‬ ‫ أمــا‬
‫ّ‬
‫البيضــاء‪ ،‬وفــي ّالزقــاق الطينيــة ّالزلقــة‪ ،‬أقســم علــى ّأننــي صادفتــه هنــاك مئــات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المــرات بــل يزيــد‪ ،‬كان يتبختــر دون توقــف بخيــاء تليــق بقامتــه المديــدة‬
‫ورقبتــه ّالزاهيــة االنتصــاب‪ ،‬وعندمــا ألقــي عليــه ّالتحيــة‪ ،‬يبتســم‪ ،‬ويديــر ظهــره‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويغــذ الخطــى نحــو البعيــد‪ ،‬ويختفــي فــي طرفــة عيــن‪ ،‬فأتسـ ّـمر مكانــي أقــرأ‬
‫حضتنــي‬‫الفاتحــة علــى روحــه‪ ،‬ثــم أقصــد مبتغــاي دون أن ألتفــت ورائــي مهمــا ّ‬
‫ّ‬
‫الفضوليــة‪.‬‬ ‫نفســي علــى ذلك؛فأبــو عــرب يكــره ّالنظــرات الفاحصــة‬

‫‪73‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫جدتــي التــي ماتــت‬ ‫أعتقــد ّأن أبــا عــرب ســيموت بمــوت ُخ ّرافيــات ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ كنــت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بعــد أن صلــت العشــاء ذات مســاء‪ ،‬ودلكــت قدميهــا بزيــت ّالز يتــون الفلســطينيّ‬
‫ولكنــه لــم يمــت‪،‬‬ ‫الشــتاء ذاتــه الــذي قضــى أبــو عــرب نحبــه فيــه‪ّ ،‬‬ ‫الحــار فــي ّ‬
‫ـت إليــه‪ ،‬ومــا أكثــر األماكــن التــي ذهبــت إليهــا‪،‬‬ ‫بــل وجدتــه فــي ّكل مــكان ذهبـ ُ‬
‫ّ ً‬
‫حيــا مــن رمــاده‬ ‫ومــا أجمــل ّأن أبــا عــرب كطائــر الفينيــق‪ ،‬ال يمــوت‪ ،‬بــل ُيبعــث‬
‫المـ ّـرة تلــو األخــرى‪.‬‬
‫المهجريــن فــي األردن وســوريا ولبنــان‬ ‫ّ‬ ‫مخيمــات الفلســطينيين‬ ‫ هنــاك فــي ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وفلســطين قابلتــه وجهــا لوجــه ألــف مـ ّـرة ومـ ّـرة‪ ،‬أحيانــا كان يصادفنــي بفعــل‬
‫المهجريــن فــي تلــك األماكن‬ ‫إعالميـ ًـا أحــوال الفلســطينيين ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بحثــي عنــه ألغطــي‬
‫تخرجــت‬ ‫العالميــة التــي أعمــل فيهــا منــذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫بحكــم وظيفتــي فــي وكالــة األخبــار‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للمعلميــن فــي ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلنجليزيــة‪ ،‬وكثيــرا‬ ‫تخصــص اللغــة‬ ‫مــن معهــد وكالــة الغــوث‬
‫ـخصية‬‫الشـ ّ‬ ‫الفضوليــة ّ‬
‫ّ‬ ‫وترصــد منــه فــي جوالتــي‬ ‫مــا كان يقابلنــي بســبق إصــرار ّ‬
‫ّالراجلــة وحــدي أو مــع أصدقــاء أو أقــارب أو زمــاء عمــل الســيما فــي زيارتــي‬
‫ومدخراتــي أجــور ســفر بيــن‬ ‫وكيــة التــي كانــت تســتنفذ ُجـ ّـل راتبــي ّ‬ ‫ّ‬
‫المك ّ‬ ‫ّالدوريــة‬
‫والتصاريــح واألختــام‬ ‫المحملــة باالنتظــار ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحدوديــة‬ ‫تلــك الـ ّـدول ذات ّالتخــوم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫والتواقيــع خروجــا ودخــوال إليهــا‪.‬‬
‫ُ‬
‫مادمــت‬ ‫والغــرم واالنتظــار‬ ‫الجهــد ّكلــه ّ‬ ‫كنــت ألبالــي بذلــك ُ‬ ‫ ولكننــي مــا ُ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫افيــة تؤكــد‬‫ســأكون وجهـ ًـا لوجــه مــع أبــي عــرب‪ ،‬وفــي ّكل مـ ّـرة كانــت لــه ُخ ّر ّ‬
‫ـري‪ ،‬وهــو أن يكــون أبــا عــرب بحيواتــه ّالن ّ‬
‫ضاليــة‬ ‫ّأنــه ُخلــق لقــدر واحــد جبـ ّ‬
‫ولكننــي‬ ‫المتجـ ّـدد‪ ،‬ونهاياتــه المشـ ّـرفة‪ ،‬كان يجيــد أن يلعــب معــي لعبــة ّالت ّخفــي‪ّ ،‬‬
‫وأميــزه مــن بيــن الجميــع‪ ،‬فيضحــك مــلء شــدقيه‬ ‫ـت فــي ّكل مــرة أكشــفه‪ّ ،‬‬ ‫كنـ ُ‬

‫‪74‬‬
‫بعیــدا ً من الجدار‬

‫ّ‬
‫كمــا لــم أره يضحــك فــي حياتــه األولــى قبــل أن يتحـ ّـول إلــى روح محلقــة فــي‬
‫ّ‬
‫الخلــود‪ ،‬ويقــول‪ »:‬باعوهــا بعلبــة ســردين ووقعــوا»‪ ،‬ثــم يختفــي حتــى يظهــر‬
‫فــي القريــب العاجــل مــن جديــد‪.‬‬
‫والنســاء واألطفــال؛ ّ‬ ‫جيشــا مــن ّالرجــال ّ‬ ‫ً‬
‫تخفــى فــي‬ ‫ أبــو عــرب غــدا‬
‫ـن اإلبــاء‪ ،‬فوجدتــه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫أرحــام الفلســطينيات اللواتــي يرضعــن أوالدهـ ّ‬
‫تخفــى فــي‬
‫لكننــي كشــفته‪ ،‬نــام فــي مهــود‬ ‫حجــارة األرض التــي تصــرخ يــا فلســطينيّ‪ّ ،‬‬
‫ـت‬‫ـت أســمع ترانيــم األمهــات‪ ،‬كنـ ُ‬ ‫األطفــال الفلســطينيين فرأيتــه‪ ،‬وعندمــا كنـ ُ‬
‫أســمع صــوت قهقهــات أبــي عرب‪.‬مـ ّـرة كان الحاجــة محفوظــة شــتية أم غالــب‬
‫للجرافــة ّ‬ ‫ّ‬
‫تتخلــى عنهــا ّ‬
‫الص ّ‬
‫هيونيــة‬ ‫التــي حضنــت شــجرة ّالز يتــون‪ ،‬ورفضــت أن‬
‫لتقتلعهــا‪ ،‬وتقذفهــا بعيــدة قتيلــة كمــا فعلــوا بابنهــا منــذ أيــام‪ ،‬وقفــت وقالــت‬
‫ً‬ ‫الص ّ‬ ‫آللــة ّالدمــار ّ‬
‫هيونيــة أمــام أنظــار العالــم وحيــدة عجــوزا صامــدة ‪»:‬ال»‬
‫تقمصتهــا‪.‬‬ ‫فعرفــت عندهــا ّأن روح أبــي عــرب قــد ّ‬
‫هيونيــة بجريمــة ّأنهم‬‫الص ّ‬‫العمــال الفلســطينيون علــى الحواجــز ّ‬ ‫ وعندمــا ُأغتيــل ّ‬
‫ً‬
‫يســعون فــي مناكــب وطنهــم بحثــا عــن لقمــة عيــش كريمــة لهــم وألهاليهــم‬
‫بالشــهادة‪ ،‬لــم يعــرف ّ‬ ‫مزهــو ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الصهاينــة لمــن‬ ‫كان لهــم جميعــا وجــه ضاحــك‬
‫ـت أعــرف ّأنــه‬ ‫ولكننــي كنـ ُ‬
‫يكــون هــذا الوجــه المتكـ ّـرر فــي الجماجــم جميعهــا‪ّ ،‬‬
‫وجــه أبــي عــرب‪.‬‬
‫ تصميمــي علــى أن أكــون فــي أقــرب نقاطــي مــن أبــي عــرب جعلنــي أحظــى‬
‫وهيــأ لــي العمــل فــي‬ ‫ـتثنائية‪ّ ،‬‬
‫والنــدرة واالسـ ّ‬ ‫األهميــة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إعالميــة بالغــة‬ ‫بعــروض‬
‫وعالميــة وتغطيــة‪ ،‬وغــدا لــي برنامــج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلخباريــة شــهرة‬ ‫أكثــر وكاالت اإلعــام‬
‫ّ ّ‬ ‫أســبوعيّ جماهيـ ّ‬
‫ـري اســتقطابيّ واســتفزازي لــكل مــن ال يملــك أن يكــون أبــا‬

‫‪75‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ّ‬ ‫عــرب‪ ،‬وقــد أســميت البرنامــج» ُخ ّر ّ‬


‫افيــة أبــو عــرب»‪ ،‬كل حلقــة كانــت حــول‬
‫الصمــود‪ ،‬كانــت األســماء‬ ‫فلســطينية علــى ثغــور ّ‬
‫ّ‬ ‫بطــل فلســطينيّ أو بطلــة‬
‫ً‬ ‫والوجــوه فــي ظاهرهــا مختلفــة‪ّ ،‬‬
‫ولكنهــا فــي باطنهــا كانــت جميعــا ألبــي عرب‪.‬‬
‫ مـ ّـرة كان اســم أبــو عــرب دالل المغرب ـيّ‪ ،‬ومـ ّـرة كان ينشــد أناشــيد إسـ ّ‬
‫ـامية‬
‫ـهادية‪ ،‬ويكــون اســمه مـ ّـرة آصف‬‫العربيــة‪ ،‬قبــل أن يقــوم بعمليــة استشـ ّ‬‫بلغتــه غيــر ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫محمــد ّ‬
‫الفلســطينية‪،‬‬ ‫ومــرة عمــر خــان شــريف اللذيــن آمنــا بعدالــة القضيــة‬
‫وأصبــح اســمهما أبــا عــرب‪ ،‬وإن لــم يكونــا مــن العــرب‪.‬‬
‫ـرت عــن أن‬‫وقصـ ُ‬ ‫ أجــاد أبــو عــرب أن يملــك األســماء جميعهــا و الوجــوه ّكلهــا‪ّ ،‬‬
‫ولكننــي عرفت ّأنــه كان ّمرة هاشــم‬‫أحيــط بــه علمـ ًـا فــي ّكل مــكان وزمان وفعــل‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫ّالنجــار‪ ،‬ومـ ّـرات أخــر كان محمــد صــاح حبيشــي‪ ،‬ومحمــد فرحــات‪ ،‬وحاتــم‬
‫السيســي‪ ،‬وعمــاد عقــل‪ ،‬ورائــد زكارنــه‪ ،‬وعــاء أبــو دهيــم‪ ،‬وريــم ّالر ياش ـيّ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وفاطمــة ّالنجــار‪ ،‬وعجبــت مــن حصافتــه عندمــا كان اســمه يحيــى ّعيــاش‪،‬‬
‫الكهربائيــة فــي العمليــات االستشـ ّ‬
‫ـهادية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فابتكــر وســائل ّالتفخيــخ والـ ّـدارات‬
‫ثــم ابتكــر تقنيــة ّالتفجيــر عــن بعــد بواســطة الهاتــف ّالنقــال عندمــا كان محيــي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّالديــن ّ‬
‫الشــريف‪ ،‬وهللــت كمــا هلــل العالــم كلــه لشــجاعته وهــو يتصـ ّـدى وحــده‬
‫ويفجــر نفســه بهــم فــي رام اللــه عندمــا كان ســليمان‬ ‫الصهيونـيّ‪ّ ،‬‬ ‫الشــرك ّ‬‫لمعشــر ّ‬
‫زيــدان‪ ،‬أو فــي بيســان عندمــا كان ســاهر ّالتمــام‪ ،‬أو فــي نتانيــا عندمــا كان اســمه‬
‫ّ ً‬
‫عبــد الباســط عــودة‪ ،‬أو عندمــا أطلــق ّأول صــاروخ ُيصنــع محليــا فــي فلســطين‬
‫ُ‬ ‫وهــو عندئــذ نضــال فرحــات‪ ،‬وكــم شـ ُ‬
‫ـعرت بالقهــر وخيبــة األمــل عندمــا أغتيــل‬
‫ـت وبكــى‬ ‫ألول طائــرة ُتصنــع فــي فلســطين‪ ،‬وكــم بكيـ ُ‬ ‫قبــل أن يكمــل صناعتــه ّ‬
‫الموجهــة ألمــه كــي ال‬‫ـجلة بالفيديــو ّ‬ ‫وصيتــه المسـ ّ‬‫العالــم معــي وهــو يســمع ّ‬

‫‪76‬‬
‫بعیــدا ً من الجدار‬

‫الشــاب الفلســطينيّ الوســيم الــذي يزخــر‬ ‫تحــزن و كــي تفخــر بــه‪ ،‬وهــو عندهــا ّ‬
‫والصحــة محمــد فرحــات‪.‬‬ ‫بالحيــاة والعافيــة ّ‬
‫ّ‬
‫ أضنانــي أبــو عــرب وأنــا أجــده فــي كل مــكان‪ ،‬كان هنــاك فــي المقابــر يشـ ّـيع‬
‫ويلقنهــم إجاباتهــم لمالئكــة الحســاب‪ ،‬وهــو مــن كان يضــرب طبــول‬ ‫الشــهداء‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫الســحور فــي رمضــان‪ ،‬وكان آخــر مــن يغــادر حقــول الحصــاد فــي موســم الجني‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ـت ّ‬ ‫وعلــى الجــدران كنـ ُ‬
‫أميــز خطــه المســهود المزهــو بعبــارة‪ »:‬فلســطين حـ ّـرة‬
‫الصفــوف األولــى لصــاة الفجــر كان ّيتخــذ مكانــه‪ ،‬وهــو مــن كان‬ ‫عربيــة»‪ ،‬وفــي ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫يقــرع نواقيــس الكنــاس فــي القــدس القديمــة‪ ،‬وهــو مــن كان يــؤذن فــي آذان‬
‫المواليــد الجــدد‪ ،‬وبفمــه كان يلــوك لهــم لقــم تمرهــم األولــى‪.‬‬
‫ً‬
‫ حاولــت كثيــرا أن أحضــن أبــا عــرب‪ ،‬ولــو لمـ ّـرة واحــدة فــي حياتــي‪ ،‬ألقــول‬
‫أحبك‬ ‫ـت أريــد أن أقــول لــه ‪»:‬أنــا ّ‬ ‫لــه مــا لــم أســتطع أن أقولــه لــه وأنــا صغيــر‪ ،‬كنـ ُ‬
‫ّ‬ ‫ـرا يــا أبــا عــرب»‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ولكنــه فــي كل مــرة كان يهــرب منــي إلــى قــدره الــذي‬ ‫كثيـ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫يجبــره علــى أن يكــون ّ‬
‫ســواحا فــي ســائر أرجــاء األرض‪ ،‬وأن أكــون مطــاردا‬
‫ـكونا؛وفي هــذه المطــاردة اكتشـ ُ‬ ‫ً‬
‫ـفت عاداتــه الكثيــرة‪،‬‬ ‫لــه ال يعــرف هــدأة أو سـ‬
‫المتنوعــة‪ ،‬وحيواتــه المتعـ ّـددة‪،‬‬
‫وطبائعــه المختلفــة‪ ،‬وملكاتــه المتعـ ّـددة‪ ،‬ولغاتــه ّ‬
‫ً‬ ‫ـودا فــي ّكل قلــب يؤمــن بعدالــة القضيــة الفلسـ ّ‬ ‫ً‬
‫ـطي ّنية أيــا كان‪ ،‬وأينمــا‬ ‫كان موجـ‬
‫كان‪ ،‬ومتــى كان‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ وفرحـ ُ‬
‫ـت إذ علمــت أن أبــا عــرب لــم يعــش وحيــدا‪ ،‬ولــم يمــت فــردا أبتـ َـر كمــا‬
‫افيتــه‪ ،‬بــل كان هنــاك عشــرات‬ ‫خر ّ‬‫جدتــي فــي ّ‬ ‫حدثتنــي ّ‬ ‫ـت أعتقــد‪ ،‬وكمــا ّ‬ ‫كنـ ُ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ـماؤهن جميعــا أم عــرب‪ ،‬كذلــك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تزوجهــن‪ ،‬وأسـ‬ ‫األلــوف مــن ّالنســاء اللواتــي‬
‫عنــده جيــش مــن البنــات والبنيــن الــذي يحملــون اســم عــرب‪ ،‬ويحملــون‬

‫‪77‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ّ‬
‫ـت أحـ ّـدق فــي الوجوه‬ ‫مضللــة كــي ال ُيفتضــح أمرهــم‪ ،‬ولذلــك قمـ ُ‬ ‫أســماء ّ‬
‫وهميــة‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصغيــرة فــي كل مــكان‪ ،‬وأتســاءل ّأيهــم قــد يكــون ابــن أبــي عــرب؟ وحــا‬
‫الســؤال المجنــون الــذي ال يــدرك عقــل الحقيقــة تعاملــت مــع األطفــال‬ ‫لهــذا ّ‬
‫ّ‬ ‫خر ّ‬‫جميعهــم علــى اعتبــار ّأنهــم أبنــاء أبــي عــرب‪ ،‬ولــم أنفــك أحكــي ّ‬
‫افيتــه لــكل‬
‫طفــل ألقــاه لكــي يعــرف فــي يــوم مــن األيــام مــن تــراه يكــون‪ ،‬وأخالـ ُـه ســيفعل‪.‬‬
‫ّ‬
‫ـجل ُخ ّر ّ‬
‫افيــات أبــي عــرب جميعهــا فــي كتــاب‬ ‫ كان مشــروعي القــادم هــو أن أسـ‬
‫المهمــة‬ ‫قصصـيّ جامــع لألطفــال كــي يقــرأوا مــا عليهــم أن يكونــوا‪ ،‬ولكــن تلــك ّ‬
‫اإلعالميــة العاجلــة فــي قطــاع غـ ّـزة جعلتنــي أتــرك ورقــي وأقالمــي ودواتــي‬ ‫ّ‬
‫علــى طاولــة مكتبــي‪ ،‬وأطيــر إلــى هنــاك أســرع مــن نعامــة كــي أنقــل للعالــم‬
‫هيونيــة فــي حــق أبــي عــرب‪ ،‬أعنــي فــي حــق الفلســطينيين العـ ّـزل‪،‬‬ ‫الص ّ‬ ‫جرائــم ّ‬
‫صممــت علــى‬ ‫مهمتــي أن أصـ ّـور مــا يحــدث بشــكل ميدانـيّ‪ّ ،‬‬
‫ولكننــي ّ‬ ‫لــم تكــن ّ‬
‫ّ‬ ‫ذلــك لتكــون عدســة آلــة تصويــري ّ‬
‫حجتــي عليهــم أمــام اللــه وأمــام العالــم كلــه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بعدســتي أخــذت آالف ّ‬
‫الصــور ألبــي عــرب‪ ،‬ذبــح فــي يــوم واحــد آالف المــرات‪،‬‬
‫ّ‬
‫ورقــد على أسـ ّـرة المــرض جميعهــا بالعلل كلهــا والجــراح والحروق‪ ،‬واســتصرخ‬
‫الصــدى‪ّ ،‬‬
‫ولكنــه علــى ّالرغــم‬ ‫الصــدى‪ ،‬والشــيء غيــر ّ‬ ‫العالــم‪ ،‬فــكاد جوابهــم لــه ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬
‫المدفعيــة‬ ‫حيــا مـ ّـرة تلــو األخــرى‪ ،‬وأخيــرا كانــت القذائــف‬ ‫مــن ذلــك ظــل ُيبعــث‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫التــي كانــت تســتهدف قدمــي اللتيــن قفزتــا بعيــدا عنــي شــهيدتين علــى األرض‪،‬‬
‫ّ‬
‫ووحدهــا آلــة تصويــري مــن بقيــت مخلصــة لــي فــي هــذه اللحظــة الغــادرة‪ ،‬فــي‬
‫ً‬
‫البعيــد رأيــت أبــا عــرب يكـ ّـر ويفـ ّـر‪ ،‬وقريبــا منــي كانــت قدمــاي ونزيــف دم‬
‫ضخــم‪ ،‬وألــم خــارق ممـ ّـزق ال يخجــل مــن أن يتحالــف مــع قذائــف غاشــمة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ضـ ّـدي‪ ،‬وســيرا علــى أهـ ّـم عــادات أبــي عــرب الملغــزة الخالــدة ابتســمت هازئــا‬

‫‪78‬‬
‫بعیــدا ً من الجدار‬

‫ّ‬
‫مــن ألمــي الطاغــي‪ ،‬وتســاءلت مــاذا تــراه يفعــل ابنــي عــرب اآلن؟ لقــد جــاء‬
‫إلــى ّالدنيــا قبــل أيــام قليلــة‪ ،‬وســمعته ينطــق فــي المهــد‪ ،‬ويقــول‪ »:‬اصمــد يــا‬
‫ولكننــي ال أســتطيع أن أصمــد أكثــر‪ ،‬فــي األفــق كانــت ُتفتــح بوابــة‬ ‫أبتــاه»‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫المهجريــن كأطــواق‬ ‫ّ‬ ‫ّالزمــن‪ُ ،‬وتطــل منهــا جيــوش العائديــن مــن الفلســطينيين‬
‫نديــة‪ ،‬وأجــداث األرض ُتفتــح ليخــرج أمواتهــا الفلســطينيون عائديــن‬ ‫زنابــق ّ‬
‫جدتــي عــن‬ ‫ــرمدية فــي وطنهــم‪ ،‬فــي حيــن جلســت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليرقــدوا رقدتهــم ّ‬
‫الس‬
‫ّ‬
‫يمينــي تــروي لــي ُخ ّرافيــة أبــي عــرب التــي أعشــقها لعلهــا تلهينــي عــن ألمــي‬
‫ّ‬
‫المتضخــم كمــا كانــت ُتلهينــي عــن جوعــي ومرضــي فــي صغــري‪ ،‬ومــن شــمالي‬
‫صهيونيــة أخــرى تقصدنــي‪ ،‬بــل تقصــد أبــا عــرب‪ ،‬وكان‬‫ّ‬ ‫ـخصت أرقــب قذيفــة‬‫شـ ُ‬
‫اســمي واســمه عندئــذ عمــاد غانــم مصـ ّـور قنــاة األقصــى الفلسـ ّ‬
‫ـطينية‪ ،1‬وعـ ّـم‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ـرا ّ‬ ‫الصمــت‪ ،‬وغابــت ّ‬ ‫ّ‬
‫الســكون األزل ـيّ اللذيــذ‪.‬‬ ‫الصــور جميعهــا‪ ،‬وغشــينا أخيـ‬

‫*****‬
‫ّ‬
‫القصصية‬ ‫انتهت المجموعة‬
‫ُك ْ‬
‫تبت في ّ‬
‫الشتات وأنا مع ّأمي الحبيبة نعيمة المشايخ‬

‫حقيقيــة‪ ،‬وبطوالتهــم المدرجــة فــي ّ‬


‫القصــة هــي‬ ‫ّ‬ ‫‪ -1‬أســماء األبطــال ّ‬
‫والشــهداء الــواردة فــي القصــة هــي أســماء‬
‫حقيقيــة ال ّ‬
‫خياليــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بطــوالت‬

‫‪79‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫د‪ .‬سناء شعالن (بنت نعيمة)‬


‫ـطينية‪ ،‬وكاتبــة ســيناريو‪،‬‬ ‫أردنيــة مــن أصــول فلسـ ّ‬ ‫وإعالميــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وأكاديميــة‬ ‫ أديبــة‬
‫العربيــة‪ ،‬وناشــطة فــي قضايــا حقــوق‬ ‫صحفيــة لبعــض المجــات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومراســلة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬تعمــل أســتاذة لــأدب‬ ‫اإلنســان والمــرأة والطفولــة والعدالــة‬
‫الحديــث فــي الجامعــة األردنيــة‪ /‬األردن‪ ،‬حاصلــة علــى درجــة ّالدكتــوراه فــي‬
‫األدب الحديــث ونقــده بدرجــة امتيــاز‪ ،‬عضــو فــي كثيــر مــن المحافــل األدبيــة‬
‫ّ‬
‫والعربيــة‬ ‫ّ‬
‫المحليــة‬ ‫ّ‬
‫والحقوقيــة‬ ‫ّ‬
‫البحثيــة‬ ‫ّ‬
‫واإلعالميــة والجهــات‬ ‫ّ‬
‫واألكاديميــة‬
‫ّ‬
‫والعالميــة‪.‬‬
‫ومحليــة فــي حقــول ّالروايــة‬ ‫ّ‬ ‫دوليــة ّ‬
‫وعربيــة‬ ‫ حاصلــة علــى نحــو‪ 63‬جائــزة ّ‬
‫والقصــة القصيــرة وأدب األطفــال والبحــث العلم ـيّ والمســرح‪ ،‬كمــا تـ ّـم تمثيــل‬ ‫ّ‬
‫وعربيــة‪.‬‬ ‫محليــة ّ‬ ‫ـرحياتها علــى مســارح ّ‬ ‫الكثيــر مــن مسـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ـورا بيــن كتــاب نقـ ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫متخصــص وروايــة ومجموعــة‬ ‫ـدي‬ ‫ لهــا نحــو ‪ 70‬مؤلفــا منشـ‬
‫ونــص مســرحيّ مــع رصيــد كبيــر مــن األعمــال‬ ‫وقصــة أطفــال ّ‬ ‫قصصيــة ّ‬ ‫ّ‬
‫المخطوطــة التــي لــم ُتنشــر بعــد‪ ،‬إلــى جانــب المئــات مــن ّالدراســات والمقاالت‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫واألبحــاث المنشــورة‪ ،‬فضــا عــن الكثيــر مــن األعمــدة الثابتــة فــي كثيــر مــن‬
‫ّ‬
‫والعربيــة‪ .‬‬ ‫ّ‬
‫المحليــة‬ ‫والدوريــات‬ ‫الصحــف ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫محليــة ّ‬ ‫ّ‬
‫وعالميــة فــي قضايــا‬ ‫وعربيــة‬ ‫ لهــا مشــاركات واســعة فــي مؤتمــرات‬
‫والتــراث العرب ـيّ‬ ‫االجتماعيــة ّ‬
‫ّ‬ ‫والنقــد وحقــوق اإلنســان والبيئــة والعدالــة‬ ‫األدب ّ‬
‫عضويتهــا فــي لجانهــا‬ ‫ّ‬ ‫اإلنســانية واآلداب المقارنــة‪ ،‬إلــى جانــب‬ ‫ّ‬ ‫والحضــارة‬
‫ّ‬
‫واإلعالميــة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫حكيميــة‬ ‫العلميــة ّ‬
‫والت‬ ‫ّ‬
‫والحقوقيــة‪ ،‬كمــا ّأنهــا‬
‫ّ‬ ‫قافيــة‬ ‫المؤسســات والجهــات ّالث ّ‬ ‫ممثلــة لكثيــر مــن ّ‬ ‫ّ‬
‫ هــي‬

‫‪80‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ّ‬
‫والفكريــة‪.‬‬ ‫والعالميــة ّالث ّ‬
‫قافيــة‬ ‫ّ‬ ‫شــريكة فــي الكثيــر مــن المشــاريع ّ‬
‫العربيــة‬
‫ّ‬
‫ُ ترجمــت أعمالهــا إلــى الكثيــر مــن اللغــات‪ ،‬ونالــت الكثيــر مــن ّالتكريمــات‬
‫ّ‬
‫والحقوقيــة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫والمجتمعيــة‬ ‫ّ‬
‫الثقافيــة‬ ‫الفخريــة ّ‬
‫والتمثيــات‬ ‫ّ‬ ‫والـ ّـدروع واأللقــاب‬
‫ّ‬
‫والبحثيــة ورســائل‬ ‫ مشــروعها اإلبداعـيّ حقــل للكثيــر مــن ّالدراســات ّالن ّ‬
‫قديــة‬
‫ّالدكتــوراه والماجســتير فــي األردن والوطــن العربـيّ والعالــم‪.‬‬

‫من أعمالها المنشورة‪:‬‬


‫‪ّ -1‬الروايات‪ :‬‬
‫‪ -1‬أعشقني‪.‬‬
‫ّ‬
‫السقوط في الشمس‪.‬‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫‪ - 3‬أدركها ّالنسيان‪.‬‬

‫‪ -2‬روايات الفتيان‪:‬‬
‫‪ -1‬أصدقاء ديمة‪.‬‬

‫ّ‬
‫القصصية‪:‬‬ ‫‪ -3‬المجموعات‬
‫‪ -1‬قافلة العطش‪.‬‬
‫‪ -2‬تراتيل الماء‪.‬‬
‫‪ -3‬الجدار ّالزجاجيّ‪.‬‬
‫‪ -4‬حدث ذات جدار‪.‬‬
‫‪ -5‬الذي سرق نجمة‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫‪ -6‬تقاسيم الفلسطينيّ‪.‬‬
‫‪ -7‬عام ّالنمل‪.‬‬
‫‪ -8‬رسالة إلى اإلله‪.‬‬
‫‪ -9‬أرض الحكايا‪.‬‬
‫‪ -10‬مقامات االحتراق‪.‬‬
‫‪ -11‬ناسك الصومعة‪.‬‬
‫‪ -12‬قافلة العطش‪.‬‬
‫‪ -13‬الكابوس‪.‬‬
‫‪ -14‬الهروب إلى آخر ّالدنيا‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -15‬مذكرات رضيعة‪.‬‬
‫‪ -16‬أكاذيب ّالنساء‪.‬‬
‫ّ‬
‫القصصية الكاملة‪ ،‬جزء‪1‬‬ ‫‪ -17‬األعمال‬
‫ّ‬
‫القصصية الكاملة‪ ،‬جزء‪2‬‬ ‫‪ -18‬األعمال‬
‫القصصية الكاملة‪ ،‬جزء‪3‬‬‫ّ‬ ‫‪ -19‬األعمال‬

‫ّ‬
‫قصصية مشتركة مع أدباء عرب وعالميين‪:‬‬ ‫‪ -4‬مجموعات‬
‫ّ‬
‫«القصــة فــي‬ ‫قصصيــة مشــتركة مــع ّ‬
‫قاصيــن أردنييــن بعنــوان‬ ‫ّ‬ ‫‪ -1‬مجموعــة‬
‫األردن‪ :‬نصــوص ودراســات»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قصصيــة مشــتركة مــع ّ‬
‫قاصيــن عــرب بعنــوان «الضيــاع فــي عينــي‬ ‫ّ‬ ‫‪ -2‬مجموعــة‬
‫رجــل الجبــل»‪.‬‬
‫قاصين عرب بعنوان «في العشق»‪.‬‬ ‫قصصية مشتركة مع ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ -3‬مجموعة‬

‫‪82‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫قصصيــة مشــتركة مــع ّ‬


‫قاصيــن أردنييــن بعنــوان «مختــارات مــن‬ ‫ّ‬ ‫‪ -4‬مجموعــة‬
‫ّ‬
‫األردنيــة»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫القصــة‬
‫‪ -5‬مجموعــة قصصيــة مشــتركة مــع ّ‬
‫قاصيــن مصرييــن بعنــوان «مجموعــة نجــوم‬
‫القلــم الحـ ّـر فــي ســماء اإلبــداع»‪.‬‬

‫ّ‬
‫مسرحيات للكبار‪:‬‬ ‫‪-5‬‬
‫ـرحية «صانعــة» المقتبســة عــن مسـ ّ‬
‫ـرحية (البيــت‬ ‫‪ -1‬إعــداد وســنيوغرافيا لمسـ ّ‬
‫ّ‬
‫لألمريكيــة ســارة رول‪.‬‬ ‫ّالنظيــف)‬
‫ّ‬
‫‪ -2‬دعوة على شرف اللون األحمر‪.‬‬
‫‪« -3‬سيلفي» مع البحر‪.‬‬
‫‪ -4‬وجه واحد الثنين ماطرين‪.‬‬
‫‪ -5‬محاكمة االسم (×)‪.‬‬
‫السلطان ال ينام‪.‬‬‫‪ّ -6‬‬
‫سعدية ّأم الحظوظ‪.‬‬ ‫افية ّ‬ ‫‪ُ -7‬خ ّر ّ‬

‫ّ‬
‫مسرحيات للفتيان والفتيات‪:‬‬ ‫‪-6‬‬
‫‪ -1‬اليوم يأتي العيد‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -2‬رحلة مع المعلمة فرحة‪.‬‬

‫‪ -7‬قصص أطفال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪ّ -1‬‬
‫قصة لألطفال بعنوان «زرياب‪ :‬معلم الناس والمروءة»‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫قصة لألطفال بعنوان «هارون ّالرشيد‪ :‬الخليفة العابد المجاهد»‪.‬‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫ّ‬
‫الفراهيــدي‪ :‬أبــو العــروض‬ ‫قصــة لألطفــال بعنــوان «الخليــل بــن أحمــد‬ ‫‪ّ -3‬‬
‫والنحــو العربــيّ»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الس ّنة»‪.‬‬
‫قصة لألطفال بعنوان «ابن تيمية‪ :‬شيخ اإلسالم ومحيي ّ‬ ‫‪ّ -4‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ّ -5‬‬
‫المتصدق»‪.‬‬ ‫قصة لألطفال بعنوان «الليث بن سعد‪ :‬اإلمام‬
‫قصــة لألطفــال بعنــوان «العـ ِّـز بــن عبــد ّ‬
‫الســام‪ :‬ســلطان العلمــاء وبائــع‬ ‫‪ّ -6‬‬
‫الملــوك»‪.‬‬
‫«عباس بن فرناس‪ :‬حكيم األندلس»‪.‬‬ ‫قصة لألطفال بعنوان ّ‬ ‫‪ّ -7‬‬
‫ّ‬
‫قصة لألطفال بعنوان «زرياب‪ :‬معلم ّالناس والمروءة»‪.‬‬ ‫‪ّ -8‬‬
‫ّ‬ ‫‪ّ -9‬‬
‫قصة لألطفال بعنوان «صاحب القلب الذهبيّ»‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -10‬مئــات القصــص المصــورة لألطفــال المبثوثــة والمنشــورة فــي مجــات‬
‫ّ‬
‫والعربيــة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫المحليــة‬ ‫األطفــال‬

‫والنصوص ّالن ّ‬
‫ثرية‪:‬‬ ‫‪ -8‬المقاالت ّ‬
‫سيد الكلمات‪.‬‬ ‫‪ -1‬أبي ّ‬
‫‪ -2‬الذين ال ينامون‪.‬‬
‫‪ -3‬قالت ّالنساء‪.‬‬
‫‪ -4‬غصون وتخوم‪.‬‬
‫‪ّ -5‬الدرب إليهم‪.‬‬
‫‪ -6‬األعمال ّالن ّ‬
‫ثرية الكاملة‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ّ‬
‫حوارية‪:‬‬ ‫‪ – 9‬لقاءات‬
‫‪ -1‬الهدهــد والخاتــم‪ :‬لقــاءات مــع مبدعيــن عراقييــن‪ ،‬سلســلة حــوارات ّ‬
‫إبداعيــة‬
‫ّ‬
‫وفكرية (‪)1‬‬
‫ّ‬
‫إبداعيــة‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫العرافــة والجبــل‪ :‬لقــاءات مــع مبدعيــن عــرب‪ ،‬سلســلة حــوارات‬
‫ّ‬
‫وفكريــة (‪)2‬‬
‫ّ‬
‫إبداعية‬ ‫ّ‬
‫حواريــة‪ :‬لقــاءات مــع مبدعيــن عالمييــن‪ ،‬سلســلة حــوارات‬ ‫‪ -3‬لقــاءات‬
‫ّ‬
‫وفكرية (‪)3‬‬

‫ّ‬
‫متخصصة‪:‬‬ ‫‪ - 10‬كتب ّ‬
‫نقدية‬
‫‪ -1‬األسطورة في روايات نجيب محفوظ‪.‬‬
‫الســرد الغرائبـيّ والعجائبـيّ فــي ّالروايــة ّ‬
‫والقصــة القصيــرة فــي األردن‪-1970‬‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫‪2002‬م‬
‫‪ -3‬دور جاللــة الملــك فــي مكافحــة اإلرهــاب‪ :‬تفجيــرات عمــان فــي قصــص‬
‫ّ‬
‫المؤلــف وائــل الفاعـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ـوري‪.‬‬ ‫بالشــراكة مــع‬
‫‪ّ -4‬الدواني والغواني‪ :‬غصون في األدب المعاصر ونقده‪.‬‬
‫نقدية في األدب المعاصر‪.‬‬‫السراب وأهزوجة ّالنور‪ :‬دراسات ّ‬ ‫‪ّ -5‬‬
‫نقدية في إبداعات معاصرة‪.‬‬ ‫الصدى‪ :‬دراسات ّ‬ ‫الصوت وثورة ّ‬ ‫ترنم ّ‬‫‪ّ -6‬‬
‫‪So Close, Much Farther: Studies in Criticism -7‬‬

‫‪85‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نقدية في كتب ّ‬ ‫‪ -11‬المشاركة في فصول ّ‬


‫متخصصة‪:‬‬ ‫نقدية محكمة‬
‫«الســرد الجميــل لتأثيــث عالــم قبيــح» فــي كتــاب‬ ‫‪ -1‬المشــاركة بفصــل بعنــوان ّ‬
‫بعنــوان «حنــون مجيــد فــي منجــزه القصصــيّ»‪ ،‬جمــع وإعــداد وتحريــر د‪.‬‬
‫ســمير الخليــل‪.‬‬
‫‪ -2‬مشــاركة بفصــل بعنــوان «لقــاء مــع العالمــة علــي القاســميّ‪ :‬أبــو المعاجــم‬
‫«الدكتــور علــي القاســميّ ســيرة ومســيرة‪:‬‬ ‫العربيــة الحديثــة» فــي كتــاب ّ‬
‫مجموعــة بحــوث ودراســات مهــداة إليــه بمناســبة عيــد ميــاده الخامــس‬
‫والســبعين»‪ ،‬جمــع وإعــداد د‪ .‬منتصــر أميــن عبــد ّالرحيــم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -3‬المشــاركة بفصــل بعنــوان «عبــد الكريــم غرايبــة العمــاق الــذي ينيــر ّالدرب‬
‫ّ ً ًّ‬
‫عربيا»‪.‬‬ ‫للجميــع» فــي كتــاب «عبــد الكريــم غرايبــة مؤرخــا‬
‫‪ -4‬المشــاركة بفصــل بعنــوان «مســاحة ّالت ّوتــر بيــن االنتظــار والخيبــة عنــد‬
‫ّ‬
‫القصصيــة «واجهــات ّبراقــة» فــي‬ ‫ـاص العراقـيّ فــرج ياســين فــي مجموعتــه‬ ‫القـ ّ‬
‫والتشــكيل‬‫والنــص ّ‬ ‫الهويــة ّ‬
‫كتــاب» فــي آفــاق ّالنــص القصصـيّ‪ :‬مقاربــات فــي ّ‬
‫عنــد فــرج ياســين»‪.‬‬
‫‪ -5‬المشــاركة بفصــل بعنــوان «البطــل فــي قصــص زيــاد أبــو لبــن» فــي كتــاب‬
‫ّ‬
‫«القصــة القصيــرة فــي الوقــت ّالراهــن»‪.‬‬
‫‪ -6‬المشــاركة بفصــل بعنــوان «الذيــن ال يموتــون» فــي كتــاب «المبــدع ّالراحــل‬
‫محيــي ّالديــن زنكنــه بأقــام أصدقائــه»‪.‬‬
‫ّ‬
‫القصصيــة‬ ‫‪ -7‬المشــاركة بفصــل بعنــوان «الفنتازيــا رداء ّللتثويــر فــي ّالتجربــة‬
‫ـدي بعنــوان «نظــرات ّ‬
‫نقديــة فــي عالــم‬ ‫عنــد محيــي ّالديــن زنكنــة» فــي كتــاب نقـ ّ‬
‫محيــي ّالديــن زنكنــه اإلبداعـيّ»‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫حدث ذات جدار‬

‫ّ‬
‫األردنيــة ســناء شــعالن»‬ ‫‪ -8‬المشــاركة بفصــل بعنــوان «شــهادة ّ‬
‫إبداعيــة لألديبــة‬
‫نقديــة عــن األدب الكـ ّ‬
‫ـردي»‪.‬‬ ‫فــي كتــاب «دراســات ّ‬

‫ّ‬
‫المنهجية‪:‬‬ ‫‪ -12‬الكتب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العربيــة للناطقيــن بغيرهــا‪ :‬المســتوى‬ ‫‪ -1‬كتــاب بعنــوان «تعليــم اللغــة‬
‫ّ‬
‫الخامــس»‪ ،‬كتــاب مشــترك مــع مجموعــة مــن المؤلفيــن األكاديمييــن‪.‬‬

‫‪87‬‬

You might also like