Professional Documents
Culture Documents
فهرست
7 إهداء
ً
9 قريبا من الجدار
10 إضاءة على ظالم
11 وبكى الجدار
15 المقبرة
17 حالة أمومة
21 السري الصديق ّ ّ
26 شمس ومطر على جدار واحد
34 عندما ال يأتي العيد
40 الصراخ وادي ّ
ًّ
45 سر ا الغروب ال يأتي
49 ساللة ّالن ْور
53 ما قاله الجدار
ً ّ
53 السجان مسجون
أيضا
53 الرمثاوي ال ُيضام ّ قبر
54 ال قصة حب للجدار العازل ّ
55 ّبوابة واحدة ال تكفي
56 ضد األقدام العائدة ال قانون ّ
ً
56 الخيل األصيلة تعود دائما إلى أهلها
57 الموتى ال يرحلون
58 طائر الفينيق حقيقة ال أسطورة
حدث ذات جدار
58 المجانين ّ
ضد الجنو ن
59 الموت يساوي بين األشياء
60 ثورة العصافير خارج ّالتاريخ
60 على الجدار أن يرحل في ّالنهاية
ً
63 بعيدا عن الجدار
64 البوصلة واألظافر وأفول المطر
70 ُخ ّر ّ
افية أبو عرب
حدث ذات جدار
6
حدث ذات جدار
إهداء
وتجب ْ
رت. علت ّ إلى َم ْن ال تهزمهم األسوار مهما ْ
ّ
السامقة الطاهرة التي ال ُتهزم وال تنكسر.
إلى ّأمي (نعيمة المشايخ) القامة ّ
7
حدث ذات جدار
ً
قريبا من الجدار
حدث ذات جدار
10
قریب ـاً من الجدار
وبكى الجدار
ّ حزينــا ًّ ًّ ً ُ
يعــج بالخــوف والظلــم فلســطينيا ولــدا فــي يــوم واحــد ،كان يومــا
ً
ـرا مــن ُمــزن ّ ً
الســماء ومــن عيــون المآقــي، والقســوة والحرمــان ،كان يومــا ماطـ
ً ّ ً
محمــوال حينئــذ علــى ّ وكان ّ
خشــبية قديمــة ملفوفــا بالعلــم محفــة ٍ العــم نــور
ّ ً
ومشــيعا بترنيمــة الخلود»:اللــه أكبــر». الفلســطينيّ،
فــي طريقــه إلــى مثــواه األخيــر فــي بطــن ثــرى ّأمــه فلســطين ،كانــت ّالزغاريــد
لعمهــا البطــل المغوار.كانــا فتــى فــي انتظارهمــا ال ترحيبـ ًـا بهمــا ،بــل وداعـ ًـا ّ
وفتــاة ،مــن لحظاتهمــا األولــى فــي الحيــاة حمــا االســم نفســه ،ففــي خــاف
الشــهيد ألحــدعاجــل بيــن والديهمــا المتنازعيــن علــى وهــب اســم شــقيقهما ّ
ً ً ّ
المولوديــن الجديديــن ،قـ ّـررا أن يكــون اســم كل منهمــا نــورا نــزوال عنــد اقتــراح
ّ
ـرض البنيهــا فــي
ٍ ـ م ي
ّ ـ توفيق ـل ّأمهمــا الجـ ّـدة التــي أرادت أن تحســم الخــاف بحـ
آن.
ً
نهــار وال فــي ليــل ،يــأكالن ويشــربان ٍ لــم يفترقــا أبــدا منــذ ُولــدا ال فــي
ّ ّ
متحابيــن ،كل مــن رآهمــا ويســتيقظان وينامــان فــي لحظــة واحــدة كتوأميــن
ّ
ـن ّأنهمــا وليــدا رحــم واحــد ،قليــل مــن كان يعــرف ّأنهمــا أبنــاء عـ ّـم ،وأقــل ظـ ّ
ّ
ـاة؛ألن منهــم مــن يســتطيعون أن يجزمــوا إن كانــا صبييــن أم فتاتيــن أم صبـيّ وفتـ
الجـ ّـدة اعتــادت علــى ّالرغــم مــن احتجــاج أميهمــا علــى أن تلبســهما مالبــس
المتيســر عندهــا مــن ّ والديــة أم أثــواب ّ
بناتيــة وفــق بــزات ّ متشــابه أكانــت ّ
ً
خوالــف مالبــس باقــي الحفــدة ،وكان يســعدها أن تراهمــا يــكادان يطيــران فرحــا
بمالبســهما المتشــابه الموروثــة ّالرثــة الفاقــدة للونهــا األصلــيّ ّالزاهــي بفعــل
ّالتقــادم وطــوال االســتهالك.
11
حدث ذات جدار
كلمــا صــاح أحدهمــا باســم نــور ،طــارا كالهمــا إليــه مبتســمين بخبــث طفولـيّ
ّ مشــاكس ّ
يصمــم علــى أن يكونــا شــريكين فــي كل شــيء حتــى فــي تلبيــة
ً
ـن ـدا مهمــا كانــت األســباب ،ولكـ ّ صــوت ّالداعــي ،مــا كانــا ليقبــا بــأن يفترقــا أبـ
ّ
المــرض وحــده هــو مــن فـ ّـرق بينهما؛الجـ ّـدة أخــذت حفيدتهــا نــور إلــى الطبيــب
فــي البلــدة المجــاورة لقريتهــم ،يومهــا وعــدت حفيدهــا الباكــي نــور بــأن تعــود
ّ
بحفيدتهــا نــور فــي ظــرف ســاعات قليلــة بعــد أن تعرضهــا علــى الطبيــب
ألن مــرض نــور ألزمهــا البقــاء فــي ولكنهــا لــم تبـ ّـر بوعدهــا مكرهــة ّ ـصّ ، المختـ ّ
ُ
مستشــفى البلــدة أليــام أخــر.
الطعــام فــي انتظــار عــودة ابنــة ّ ّ
عمــه نــور ،ولــوال تهديــد أضــرب نــور عــن
ّ ً
والــده لــه بعــدم عــودة نــور إن لــم يــأكل لقضــى نحبــه جوعــا ،ومعدتــه الصغيــرة
ً
وجســده الهزيــل أضعــف مــن أن يحتمــا الجــوع لســاعات فضــا عــن أيــام.
ً طــال انتظــار نــور لعــودة ابنــة ّ
عمــه نــور ،ومــا عــاد أحــد قــادرا علــى أن يجيــب
ّ عــن ســؤاله الحائــر ّ
المفجع»:متــى تعــود نــور إلــى البيــت؟» فالــكل كان فــي
انشــغال وهـ ّـم بســبب ذلــك الجــدار اإلســمنتيّ األصـ ّـم الــذي ُزرع حــول قريتهــم
ً
علــى غفلــة بيــن ليلــة وضحاهــا بخرســانة جاهــزة ّتثبــت فــي األرض تثبيتــا
ً ـريعا فــي ســاعات قليلــة ،وتغـ ّـول حتــى وصــل إلــى عنــان ّ ً
الســماء حاجبــا سـ
ـورا ،بصعوبــة اســتطاعت ســنواته ّ ً الشــمس ّ خلفــه ّ
الســبع أن تســتوعب وجدتــه ونـ
وأنــه مــن ّ الصلــد العاتــيّ ،
ـورا مســجونتان خلــف الجــدار ّ ً ّأن ّ
الصعــب جدتــه ونـ
إن لــم يكــن مــن المســتحيل أن ُيســمح لهمــا بعبــور بوابــة الجــدار للعــودة إلــى
ّ ً قريتهمــاّ ،
ولكنــه أبــدا لــم يســلم إلــى هــذا الحكــم الجائــر الــذي يحرمــه مــن
أثيرتــه نــور.
12
قریب ـاً من الجدار
ّ ّ
والجــدة وعــا الجــدار أكثــر وأكثــر ،ومضــت األيــام الطــوال ببــطء قاتــل،
ّ ونــور مســجونتان خلــف الجــدار ،وهــوال ينفـ ّ
ـك يذهــب كل صبــاح إلــى الجــدار
الصهاينــة الذيــن ال يمكــن أن بالحــد الــذي ُيســمح لــه بــه الجنــود ّ ّ يالزمــه
ً ً
يفهمــوا معنــى أن ينتظــر أثيرتــه نــورا دون فتــور أو كلــل أو ابتعاد.كثيــرا مــا كان
ّ
نور؛لعلهــا تكــون قريبــة مــن الجــدار ،فتـ ّ
ـرد عليــه ،وعندمــا كان يصــرخ باســم
ً ّ
يعييــه صمتهــا كان يضــرب الجــدار بحجــر ،ويولــي هاربــا مــن الجنــود الــذي
ّ
والعبريــة يصلونــه بتوعداتهــم وســبابهم البــذيء الخليــط مــن العربيــة ّالركيكــة
ً ّ ّ
االنفعاليــة المضطربــة اللفــظ والمعنــى ،ثــم يهــرب بعيــدا ليعــود مــن والكلمــات
جديــد فــي أقــرب وقــت ليســتأنف نــداءه لنــور دون مجيــب أو رحيــم بحالــه.
ـدا عــن الجــدار ،وهــو يعـ ّ ً ً
ـض علــى كثيــرا مــا حملــه أبــوه بحــزم حنــون بعيـ
ّ ً حزنــه وانتظــاره ّ
ألمــه المســجونة خلــف الجــدار ،منكــودا بعجــزه وقلــة حيلتــه،
ّ حا بجملــة واحــدة ال ّ ّ ً
ـتعود جدتــك ونــور فــي القريــب تتغيــر ،وهي»:سـ متســل
ألــح نورعلــى معرفــة وقــت عودتهمــا ّ
بالتحديــد العاجــل ّإن شــاء الله».فــإن ّ
ـف نــور عــن إلحاحــه انخــرط أبــوه فــي بــكاء صامــت مخنــوق ّيبلــل لحيتــه ،فيكـ ّ
رحمــة منــه بأبيــه الباكــي المحــزون.
ً عــرف نــور ّأن جدتــه وابنــة ّ
عمــه نــورا تعيشــان فــي بيــت قريــب لهمــا فــي
ولكنــه لــم يســتطع أن تحســنّ ، صحــة نــور فــي ّ البلــدة خلــف الجــدار ،وعلــم ّأن ّ
يفــارق أملــه فــي أن يســمع صوتهــا يـ ّـرد علــى ندائــه اليومـيّ مــن خلــف الجــدار،
ّ ّ ّ
وفكــر فــي أن يلفــت نظرهــا بإطــاق طائرتــه الورقيــة إلــى أعلــى الجــدار ،لعلهــا
تطاولــه أو تعلــوه ،فتراهــا نــور ،وتعــرف ّأنــه فــي أقــرب نقطــة ممكنــة منهــا ،وكاد
ّ ّ
ينجــح فــي خطتــه التــي كلفتــه الكثيــر مــن الجهــد والخيــوط المســتعارة مــن
13
حدث ذات جدار
الصهاينــة صــادروا طائرتــه فــي ّأول تحليقــة لهــا، حيــه ،لكــن الجنــود ّ أبنــاء ّ
وأعدموهــا هنــاك فــي حجــرة المراقبــة المنتصبــة فــوق بوابــة الجــدار ،وهكــذا
الصغيــرة نــور. فقــد أملــه األخيــر فــي ّالتواصــل مــع أثيرتــه ّ
صمــم علــى أن ال يفــارق الجــدار دون أن يعــود بنــوره ،واعتكــف إلى جانبــه أليام ّ
ّ شـ ّ
ـتوية بــاردة ،فشــلت محــاوالت األســرة كلهــا فــي إعادتــه إلــى البيــت ،وكان
المصمميــن تتلقفــه أيــدي ّ يمضــي وقتــه هاربـ ًـا مــن ناحيــة إلــى ناحيــة كــي ال ّ
ّ ً
ضنــا بــه علــى هــذا العــذاب الموصــول فــي انتظــار ابنــة علــى إعادتــه إلــى بيتــه
والضنكعمــه نــور التــي لــن تعــود مهمــا كابــد مــن عنــاء البــرد والعــراء والجــوع ّ ّ
ّ
واالنتظــار المعــذب.
وحــده الجــدار مــن كان يعــرف أيــن يختبــئ نــور مــن مطارديــه مــن أســرته
حتــى يقفلــوا راجعيــن خائبيــن مــن حيــث أتــوا دون أن يعــودوا بــه علــى كــره
الصلــدة القاســية لــو يســتطيع أن ـمنتية ّ منــه ،وكــم كاد ّ
يتمنــى مــن أعماقــه اإلسـ ّ
الصغيــرة نــور التــي تنتظــره علــى يملــك نطقـ ًـا ليوصــل ســام نــور المشــتاق إلــى ّ
ً
الجهــة األخــرى منــه رافضــة أن تعــود مــع جدتهــا إلــى بيــت األقــارب هربــا مــن
ّ
هــذه الليلــة البــاردة.
وعندمــا كان يغلبــه ضعفــه كان يحــاول دون جــدوى أن يصـ ّـد بمنكبيــه تلــك
الســحابة تطاولــت عليه، ـن ّ الســوداء التــي تنــذر بليلــة ماطرة بــاردة ،لكـ ّ
الســحب ّ ّ
واســتهانت بمنكبيــه العمالقيــن ،وغشــيت المــكان ضـ ّـد رغبتــه ،وهيمنــت علــى
ً ّ ً
مخزيــا خجــا مــن قســوته الســماء مزبــدة مرعــدة ،فارتـ ّـد الجــدار إلــى نفســه ّ
ّ
علــى قلبــي طفليــن ال يريــدان مــن الحيــاة إال أن يلتقيــا.
بالصمــت والعجــز ،وأغرقــه فــي دفعــات ضخمــة مــن المطــر ألجــم المــكان ّ
14
قریب ـاً من الجدار
ّ
البلـ ّ ّ ّ
إال فــي ّ
ـوري الصبــاح وقــد غســل كل شــيء بطهــره شــآبيبه ،ومــا انجلــى
ّ
البــارد ،وهنــاك كان الجــدار يبكــي بحرقــة علــى طفليــن صغيريــن كل منهمــا
ّ ّ ّ
يحمــل اســم نــور ،وهــو يغشــاهما بظلــه اللئيــم األســود القابــض وكل منهمــا
ـجى علــى ناحيــة مختلفــة مــن جســده ّ
الصلــد البــارد. ّميــت مسـ ّ
ألنــه حــرم أحدهمــا من الطفليــن المتغاليــن حزنـ ًـا وحســرة ّ
ّ
حــزن الجــدار علــى
اآلخــر بجريمــة ّأنهمــا فلســطينيين ،لــم يســتطع الجــدار أن يمــد كفيــه ليلتقــط
ّ
الصغيريــن كــي ال ينجســهما بخطيئتــه تجاههمــا، هذيــن الجســدين الهزيليــن ّ
ً ّ
وفــي لحظــة غضــب شــعواء منــه شــرع يهتـ ّـز فــي مكانــه ،خالعــا كل مــا عليــه
للــدك ّ ً
مستســلما ّ مــن غــرف ومكامــن ومراقــب وجنــود ّ
والتهــاوي وبوابــات،
ـمنتية وفــي أحزانــه وندمــهـرا عــن ذنبــه األســود ،ومنداحـ ًـا فــي دموعــه اإلسـ ّ
ً
تكفيـ
الصغيريــن العاشــقين بتجبـ ٍـر وبطــش دون رحمــة. علــى قتــل ّ
المقبرة
ّ
الفلســطينية؛فأحزان رشــدية أن ُتحصــي أحزانهــا
ّ ّ
الحاجــة ال تســتطيع
الصهيونــيّ تنهــش ماضيــه الفلســطينيّ ال ُتحصــى مادامــت لعنــة االحتــال ّ
ْ
فقــدت مــن وحاضــره ومســتقبله ،كذلــك ال تســتطيع أن ُتحصــي عــدد مــن
أحبــة مــن أقــارب وجيــران وأصدقــاء بيــن قتــل وســجن ونفــي وتعذيــب ومــرض ّ
تصمــم علــى أن ال تذكــر بعدوهــا الغاشــم فهــي ّوتشــويه واختطــاف ،ونكايــة ّ
علنـ ًـا عــدد مــن ّقدمــت مــن أبنائهــا شــهداء فــي قوافــل ّ
الحر يــة ،وإن كان قلبهــا
الشــباب، يحصيهــم فــي ّكل لحظــة بحرقــة ّ
وتوجــد وفقــد ،فهــم ثالثــة مــن زينــة ّ
الصهيونــيّ شــهية عندمــا قصفهــم ّ
العــدو ّ ّ كانــوا مثــل ســنابل فرعــاء ّ
نديــة
15
حدث ذات جدار
16
قریب ـاً من الجدار
حالة أمومة
لــم تكــن تعلــم بــزرع الجــدار العــازل علــى أرض قريتهــا فــي فلســطين ،وهــي
17
حدث ذات جدار
18
قریب ـاً من الجدار
كابــوس تعيشــه بتفاصيلــه القبيحــة الموحشــة ،وهــا هــي قــد أصبحــت الجئــة
فــي وطنهــا ،وعلقــت مــع أبيهــا فــي بيــت حجــرة يســكنه أفــراد عشــرة مــن
أقاربهــا ،ومــن جديــد بــات عليهــا أن تحــارب ســرطان األلــم والوحــدة ّ
والنبــذ.
ّ
واشــتدت حاولــت دون جــدوى أن تعــود إلــى أســرتها خلــف الجــدار،
ً
محاوالتهــا إلحاحــا عندمــا علمــت ّأن زوجهــا قــد خــرج مــن المعتقــل ،واكترى
ً ً
بيتــا صغيــرا فــي أطــراف قريتــه ،وجمــع شــمل أســرته مــن جديــد ،وجعــل شــغله
الشــاغل أن يجــد طريقــة تســمح لزوجتــه بالعــودة إلــى بيتهــا وأســرتها وابنهــا، ّ
ولكنــه كان يخفــق المـ ّـرة تلــو األخــرى فــي تحقيــق مــراده ،ويعــود إلــى ســريره ّ
ً ً
الحزيــن مخــذوال محرومــا.
ّ
وكانــت الفرصــة الوحيــدة للقــاء هــي عبــر الحصــول علــى تصريــح زيــارة
للشــمس لــكان أيســر بشــق األنفــس ،ولــو كان هنــاك ســفر ّ حصلــت عليــه ّ
ً
مــن الحصــول عليــه ،وأخيــرا اســتطاعت أن تضـ ّـم طفلهــا إلــى صدرهــا تحــت
الصهاينــة ،بــدا لهــا ّأنــه بالــغ اإلعيــاء
عيــون ّالرقبــاء غيــر الوامقيــن مــن الجنــود ّ
ّ
الوراثيــة التــي تعلــو وجنتيــه ،جفــل منهــا عندمــا علــى ّالرغــم مــن تلــك الحمــرة
ً ّ أمطرتــه بقبلهــا الهوجــاء ّ
الملوعــة ،ولكنــه استســلم ســريعا إلــى رائحــة أمومتهــا
تدســه فــي حضنهــا بانفعــال واضطــراب. الفياضــة التــي تزكــم أنفــه وهــي ّ ّ
ّ
عينــاه موئــل لحــزن عتيــق ،ورائحتــه تعـ ّـج برائحــة عشــرات ّالنســاء اللواتــي
تناوبــن علــى إرضاعــه بعــد أن فقــد ّأمــه كــي يحافظــن علــى حياتــه مــن الهــاك،
ضمتــهبالرضاعــةّ ، فأصبحــت لــه عشــيرة مــن األمهــات المرضعــات واألخــوة ّ
ّ
أكثــر إلــى صدرها؛لعلهــا تكســوه برائحتهــا الحانيــة ،فتنــزع عنــه رائحــة األمهات
الصغيــر. الكثــر ّاللواتــي يشــاركنها أمومتهــا بوحيدهــا ُّ
المرضعــات
19
حدث ذات جدار
وتلقــف زوجهــا ابنهمــا منهــاّ ، ـريعا مــا انتهــى وقــت زيــارة ّالتصريــحّ ، ً
وضمه سـ
ّ
إليــه بشــجاعة يحــاول أن يصطنعهــا علــى كــره وإصــرار ،ولكنــه يخفــق فــي
ـت فــي أذنه»:ســأعود ـت قبلــة ســريعة علــى جبيــن ابنهــا ،وهمسـ ْ إتقانهــا ،طبعـ ْ
صدقني».ثــم غــادرت المــكان ،وهــي تخلــع قدميهــا المــرة تلــو فــي القريــبّ .
األخــرى مــن األرض التــي يصعــب عليهــا أن تغادرهــا ،ومزقــة مــن قلبهــا
ً ّ ً
مهدمــا ضعيفــا، تضطــرب بعجـ ٍـز بيــن يــدي زوجهــا الــذي يســير نحــو البعيــد
وكأنــه شــاخ بمقــدار قــرن أو اثنيــن فــي أســابيع قليلــة.ّ
مضــى يومــان وهــي تحلــم بــأن تضـ ّـم طفلهــا إلــى صدرهــا مــن جديــد ،وهــي
ـدو أن يعطيهــا أســيرة عينيــه ّالزائغتيــن فــي فــراغ مجهــول ،عندمــا رفــض العـ ّ
ّ
المتجبــر علــى طفــل تصريحـ ًـا ّ
للز يــارة ولــو لدقائــق قليلــة ،هــزأت مــن جبنــه
ـدو علــى ذلــك أم وأم مريضــة وحيــدة ،وقــررت أن تــرى ابنهــا أوافــق العـ ّ صغيــر ّ
أبــى.
فــي المســاء كانــت قــد عبــرت الجــدار الفاصــل رغــم أنــوف الجنــود ّ
الصهاينــة
حيــة علــىولكنهــا لــم تكــن تســعى ّ بالســاح والخــوف والحــذرّ ، المدججيــن ّ ّ
بالرصــاص ،وموصومــة مخرقــة ّ
قدميهــا عندمــا عبرتــه ،بــل كانــت جثــة هامــدة ّ
الضابــط المنــاوب علــى الحراســة ّ
الليليــة بحذائــه بجريمــة ّالتخريــب ،ركلهــا ّ
البوابــة ،ففعلــواّ ،
وكوموهــا ـكري الغليــظ ،وأمــر جنــوده بــأن يبعدوهــا عــن ّالعسـ ّ
متخشــبة علــى ثديهــا األيمــن الــذي كانــت ـف يدهــا ّ إلــى جانــب الجــدار وكـ ّ
تحلــم بــأن ترضــع ابنهــا منــه ولــو لمـ ّـرة واحــدة فــي حياتهــا المهــدورة علــى
بوابــة الجــدار العــازل.
20
قریب ـاً من الجدار
ّ
الصديق ّ
السري
ّ ً َ
صديــق بالمعنــى ّالدقيــق لهــذه الكلمــة ،ولعــل هــذه ٍ
يومــا ّ
بــأي يحــظ لــم
ً ً األرنوبيــة هــي ّ
ّ ّ
الســبب فــي هــذا األمر؛لــم يســتطيع أبــدا أن يديــر حــوارا الشــفة
ـزل مــع ّأي أحــد خــارج بيتــه كــي يختــزل لحظــات تحديــق العيــون غيــر مختـ ٍ
ّ ّ
األرنوبيــة التــي ُولــد بهــا ،البعــض يقــول إنهــا عيــب خلقـيّ ّ
الفضوليــة فــي شــفته
الســن قــد تجــاوز عمرهــا مــرده إلــى ّأن ّأمــه قــد أنجبتــه وهــي كبيــرة فــي ّ ّ
الشــفة هــي مــن مضاعفــات يرجــح ّأن هــذه ّ الخمســين ســنة بعاميــن ،والبعــض ّ
الشــوارع واألحيــاء بهــا الصهيونـيّ ّ
للدمــوع التــي يغــرق العــدو ّ القنابــل المســيلة ّ
مـ ّـرة تلــو األخــرى.
ّ ّ
ال يعــرف ســبب علتــه ونقصــه ،ولكــن مــا يعنيــه مــن كل مــا ســمعه حــول
ّ
تجميليــة ســهلة فــي ّأي عاصمــة ّ شـ ّـفته ّأنــه يســتطيع أن يتخلــص منهــا بعمليــة
ومتيســر ،ولكــن هــذا حلــم ـب ّالتجميــل متقـ ّـدم ّ عربيــة خــارج الوطــن حيــث طـ ّ ّ
مؤجــل بســبب ذلــك الجــدار العــازل الــذي خنــق قريتــه ،وعزلــه وقومــه عــن ّ
ّ ّالدنيــا وأهلهــا فــي جغرافيــة ّ
ضيقــة تناضــل لتظــل علــى قيــد الحيــاة فــي أصعــب
معطيــات االســتمرار.
الشــفة جعلتــه يصــادق ّالنــاي الخشــبيّ الــذي صنعــه جـ ّـده لــه منــذ زمــن هــذه ّ
ً ّ ّ
ـدار
طويــل ،هــذا النــاي هــو الصديــق الوحيــد الــذي يهبــه وجهــه كامــا غيــر متـ ٍ
فضوليــة قــد تطــرح عليــهّ ـت كــي يشــيح بشــفته عــن ّأي نظــرات الصمـ ًخلــف ّ
األســئلة المزعجــة الخانقــة عــن ســبب هــذا ّالتشــوية الخلقـيّ المزعــج.
ّ
العمليــة المنشــودة منــذ أشــهر لــوال هــذا الجــدار العــازل لســتطاع أن يجــري
ّ ّ طويلــةّ ،
ولكنــه مصلــوب علــى عــذاب يتلخــص فــي أن مــن يخــرج مــن بيتــه
21
حدث ذات جدار
ّ
خلــف الجــدار الفاصــل قــد ال يســتطيع العــودة إليــه ،إذن عليــه أن يظــل فــي
ّ انتظــار أملــه ّ
المجنــح المحلــق نحــو البعيــد ،وفــي انتظــار ذلــك يهمــس بأحالمــه
يحــول دواخــل نفســه ّالزاهيــة وآمالــه الملحاحــة إلــى نايــه الحبيــب الــذي ّ
ّ ّ
تتحــدى الجــدار ،وأن تحلــق المكلومــة إلــى موســيقى عذبــة قــادرة علــى أن
بفــرح نحــو البعيــد حيــث االنعتــاق ّ
والحر يــة دون أن تطالهــا يــد خانقــة ،أو
ّ ّ
يصادرهــا ظــل جــدار عــال ال ُيتخطــى.
جــزء مــن الجــدار العــازل ال يــزال غيــر إســمنتيّ بــل هــو أســاك شــائكة،
ً ً ً
وحراســة مشـ ّـددة فــي انتظــار دوره كــي ُيــزرع إســمنتا وصلبــا وحديــدا مثل ســائر
الشــرقيّ حيــث يمتـ ّـد في حقــول الحمضيــات بعد الجــدار ،ومــن أقصــى امتــداده ّ
ً
أن اكتســح األشــجار ،ونزعهــا ليلقــي بهــا بعيــدا يكشــف عــن تلــك المســتعمرة
أرض ســلبتها وجــوه غريبــة شــوهاء قادمــة مــن ّ ّ
الصهيونيــة التــي تربــض علــى ّ ٍ
والتاريــخ فــي البعيــد لينتصــر المــوت والبغــي والظلــم واألســلحة علــى الجغرافيــا ّ
ـتبدادية ســاخرة. معادلــة سياسـ ّـية اسـ ّ
الشــهوة فــي يتلصــص علــى المســتدمرة مــن بــاب ّ فــي البدايــة اعتــاد علــى أن ّ
ّ
كســر إســار الجــدار المضــروب حــول كل شــيء ،فيمــا بعــد غلبــه االستســام
ّ ّ الفضوليــة ّ ّ
الجهن ّميــة المسـ ّـماة مقارنــة ،أركان اللعبــة متوفــرة كاملــة ّ لتلــك اللعبــة
ّ ّ
فــي هــذه اللحظــة وفــي اللحظــات جميعهــا ،فعالمــه المقهــور المظلــوم فــي
ّ
مواجهــة ذلــك العالــم المرفــة الجميــل هنــاك فــي المســتدمرة ،هنــا تحاصــره
والســاح والمــوت واألرض المحروقــة والمعتقــات وجــوه الجنــود والــكالب ّ
والتعذيــب والقتــل والخــراب واليتــم والخــوف والفقــر والحرمــان وحظــر ّالتجــول ّ
الضيقــة والبيــوت القديمــة والخدمــات المعدومــة والغــاء والمعانــاة، والشــوارع ّ
ّ
22
قریب ـاً من الجدار
الســير الهوينــى وهنــاك فــي المســتدمرة علــى مســافة يقطعهــا بربــع ســاعة مــن ّ
الســعادة حاضــرة والســام واألمــن والغنــى وأســباب ّ فاهيــة ّ
والر ّ
يــرى ّالرخــاء ّ
الط ّ ّ جميعهــا ،قليــل مــن ّالت ّ
فوليــة الباســمة ّالرغيــدة فــرس فــي تلــك الوجــوه
ـبية الخضــراء، الســاحة العشـ ّ المترعــة ّصحــة وعافيــة ،وهــي تصهــل فــي تلــك ّ
وتتبــارى فــي صخــب وضحــك كفيلــة بــأن تقــوده إلــى صــور بؤســه المقيــم حيــث
إال ّ ّ الوجــوه الكالحــة فــي القريــة ،إذ ال تأتــي ّ
مهربــة تســتعجل الســعادة إليهــم
ّ ّ
صهيونيــة. المغــادرة ،ثــم تولــي هاربــة مــع ّأول طلقــة رصــاص مــن بندقيــة
كــم يحلــم بــأن يعيــش فــي هــذه العالــم الجميــل ،ومــن جديــد يتســاءل لمــاذا
يكرر ّ
الســؤال عليــه أن يكــون أســير عالمــه البائــس حيــث ظـ ّـل الجــدار العــازل؟! ّ
ّ ّ
علــى نفســه المـ ّـرة تلواألخــرى ،وتحــار اإلجابــات ،وتضــل طريقهــا عنــه ،ويظــل
الســؤال الــذي يقــدح زنــاد ســخطه وحقــده ،فيضيفــه إلــى جملــة أســير هــذا ّ
أســئلته ذات األقــدار المجهولــة.
ّ
لــم يكــن يتوقــع ّأن هنــاك عينيــن ترقبانــه منــذ أيــام طويلــة ،وتســعيان إلــى أن
ّ تقتربــا منــه إلــى أكبــر مســافة ممكنــة ،ولــم ّ
يتخيــل أن تســلله لبضــع خطــوات
الصغيرتيــن تقبضــان عليــه إلــى داخــل المســتدمرة ســوف تجعــل تلكــم اليديــن ّ
الشــديدة فــي ّالتواصــل ،كاد قلبــه والرغبــة ّ
ـوزع بيــن الحــذر والخــوف ّ بعطــف مـ ّ
الصغيرتــان علــى كتفــه ،ولكــن يطيــر خوفـ ًـا عندمــا هبطــت اليــدان ّالدافئتــان ّ
تلــك القبضــة الحنونــة البعيــدة عــن القســوة التــي ألفهــا وشــعبه مــن أيــادي
ّ ّ
الصهاينــة جعلتــه يستســلم لهــا ،ويلــزم مربضــه دون أن يفكــر فــي الهــرب.
لصبــي فــي العينــان ّاللتــان كانتــا ترقبانــه واليــدان ّاللتــان قبضتــا عليــه كانتــا ّ
مثــل عمــره ،هــو صهيونـيّ صغيــر مــن ذلــك العالــم حيــث ّالرفاهيــة ّ
والســعادة،
23
حدث ذات جدار
ّ
الصغيــر الظلمــة الــذي ســرقوا وطنــه ،ذلــك الغريــب ّ ّإنــه مــن أبنــاء الغاشــمين
ّ ً يعيــش فــي نــور ّ
الشــمسّ ،أمــا هــو فيعيــش قســرا فــي ظــل الجــدار العــازل،
عليــه أن يبتعــد عنــه ،وأن يغــادر المــكان ليعــود إلــى أهلــه وبيتــه ،وأن ال يثــق
ً ً ً فيــهّ ،
ولكنــه يــرى أمنــا غريبــا فــي عينيــه ّالرماديتيــن ،ورجــاء مخلصــا يســأله
ً ّ
بــذل أن يظــل معــه ،وأن ال يهــرب بعيــدا عنــه ،فــي نفســه حربــان ،وعليــه أن
ـاد؛إما أن يهــربينتصــر لواحــدة منهمــا ضـ ّـد األخــرى كــي يجــد طريــق ّالرشـ ّ
الصبـيّ نحــو البعيــد ،أو أن يصـ ّـدق قلبــه الــذي يهمــس لــه بــأن يبقــى مــع هــذا ّ
الصهيون ـيّ ولــو لبعــض الوقــت ،ونفســه تهتــف بــه أن يستســلم لهمــس قلبــه، ّ
ّ
وأن يقطــع أجمــل أوقــات اللعــب معــه فــي هــذه الحديقــة الجميلــة التــي يرتــع
فيهــا ليــل نهــار.
الســري الــذي وهبــه لــه الصديــق ّ مضــت أســابيع طويلــة وهــو يســعد بهــذا ّ
ً ّ
القــدر فــي لحظــة تخــل عــن قســوته ،لقــد حظــي أخيــرا بصديــق حقيقــيّ
الشــوهاء ،همــا مــن عالميــن األرنوبيــة ّ
ّ يحــدق فــي ّ
شــفته ال يخجــل مــن أن ّ
محبــة ّ
طفوليــة مختلفيــن ،بــل مــن معســكرين متحاربيــن ،ولكــن تجمعهمــا ّ
ُ ّ
كلهــا دهشــة وأنــس وألفــة وال تخضــع لحــروب الكبــار وخصوماتهــم ،وال
تعتــرف بجــدران أو فواصــل ،يجلســان لســاعات مختبئيــن فــي مربضهمــا بيــن
ّ
األشــجار فــي حديقــة المســتعمرة ،متواريــان عــن كل شــيء خــا حديثهمــا
ّ
والعبريــة يتحدثــان فــي ّكل شــيء بلهجــة خليــط مــن ّ
العربيــة العــذب الحنــونّ ،
ّ ّ
ويتمنيــان لــو يســتطيعان أن التــي يتوافــر كل منهمــا علــى أقــدار كافيــة منهمــا،
يجريــا فــي المــروج دون وجــل أو خــوف.
ّ
فــي لحظــة تخــل عــن ضوابــط عالميهمــا يقــرران أن يجريــا ويرمحــا فــي
24
قریب ـاً من الجدار
25
حدث ذات جدار
ً
عــن ابتســامة مســامحة يهبهــا لــه تكفيــرا عــن هــذه ّالرصاصــات التــي اغتصبــت
فرحــه وروحــه ،وعينــا ّ
الصبــي الفلســطينيّ تهربــان نحــو الجــدار العــازل حيــث
ً
وجــه ّأمــه مســجونا خلفــه فــي حــزن دائــم ،يبتســم لوجههــا ذي الحــزن ّالنبيــل
ّالدائــم وهــو يبــرق فــي ذاكــرة قلبــه ،ثــم يمضــي نحــو البعيــد حيــث ال جــدران
ّ
عازلــة أو بنــادق غــادرة أو صديــق صهيونـيّ اللعــب منــه يعنــي المــوت.
26
قریب ـاً من الجدار
ً الســحاب ،مــا كانــت ّ بأرديــة مــن ســحر ليجيــد ّالرقــص بيــن ّ
تتخيــل أبــدا أن
ّ ّ
المســتمر والخــوف تقودهــا الظــروف والخيبــات المتتابعــة والوحــدة والفشــل
الصهيونـيّ لتقــف مجنــدة فــي الجيــش ّ مــن العــودة إلــى هنغاريــا لتتطـ ّـوع لتكــون ّ
ً
علــى األبــواب ،وتعـ ّـد أنفــاس الفلســطينيين ،وتبادلهــم كرهــا بكــره دون أن تعــرف
ً ً
مسـ ّـوغا مقبــوال لذلــك ســوى موجبــات عملهــا الكريــه ،ثــم تعــود إلــى بيتهــا
ّ ً ً ّ
تســب وجههــا الجميــل الــذي مســاء محطمــة ،وتنــزف نفســها تقيــؤا وهــي
ّ يرضــى بــأن يعانــق هــذا القبــح ّكلــه صبــاح مســاء علــى تلــك ّ
البوابــة اللعينــة فــي
الجــدار العــازل.
ّ
تدريبيــة نفسـ ّـية مكثفــة لتقبــل بفكــرة ّأن هــذا الجــدار يحمي
ّ ـت لــدورات ُ أخضعـ ْ
الصهيونــيّ الــذي تنكــر فــي ســحيق أعماقهــا انتســابها لــه ،وتقنــع شــعبها ّ
ّ ً
ظاهريــا ّبأنهــا تقــف علــى هــذه البوابــة لتخــدم ّأمتهــا ،ولتقمــع أولئــك نفســها
المتوحشــين مــن الفلســطينيين الذيــن ينخــرون فــي أمــن كيانهــم ّالرابــض علــى ّ
هــذه األرض التــي تشــعر بأعماقهــا ّبأنهــا غريبــة عنهــا ،وال تنتمــي إليهــا بـ ّ
ـأي
ولكنهــا علــى ّالرغــم مــن ذلــك ال تــزال تشــعر بالقــرف شــكل مــن األشــكالّ ،
تفتــش األجســاد العابــرة مــن العســكرية ّ
ّ مــن نفســها ّكلمــا وقفــت ّ
ببزتهــا
والتحـ ّـدي فــي العيــون الفلسـ ّ والضغينــة ّ ً
ـرا رائحــة الكــره ّ
ـطينية ّبوابتهــا ،وتشـ ّـم جبـ
المتحفــزة لغضــب قابــل لالنــدالع فــي ّأي لحظــة. ّ
بوابــة ّالبوابــة يشــعرها ّبأنهــا فــي جهنم؛فهــي ّ كل شــيء فــي هــذه ّ ّ
متوحشــة
تفصــل بيــن عالميــن مشــتعلين ،وهــي حارســة عليهــا دون معنــى لوجودهــا هنــا
ّ ً
بعيــدا عــن عاصمــة الثلــج حيــث ُولــدت.
ّ ّ وحــده ذلــك ّ
الشــاب الفلســطينيّ هومــن يشــعرها بــدفء مكلــل بالمطــر كلمــا
27
حدث ذات جدار
تحفــز إليذائهــا ،تــرىمـ ّـر بالقــرب منهــا ،ال تشـ ّـم فيــه رائحــة حقــد أو كــره أو ّ
ً ّ ً ً
فــي عينــه غــزال نــادرا ال يجيــده إال مــن يملــك روحــا مثــل روحــه التــي تقــدر
ً
علــى أن تغلــي عاطفــة وحنـ ّـوا حتــى فــي ليلــة ماطــرة!
هــو مــن جعــل لوجودهــا فــي هــذا المــكان معنــى وغايــةّ ،النهــارات التــي
الــروح والجســد والكلمــة، تبــدأ بوجهــه تغــدو رؤومــة قابلــة لالمتــداد فــي ّ
ً ّ
عندمــا تــراه تفكــر دائمــا برقصــة باليــة مشــتركة مــع جســده ّالرجولـيّ المعجــون
ً
بشــقائه وعرقــه وســمرته المثيــرة علــى الجليــد الالمــع ّالزلق.أحيانــا كان يفوتهــا
الصبــاح النشــغالها بتدقيــق أوراق المناوبيــن أن تــراه فــي طابــور العابريــن فــي ّ
الســعيد ،فقــد اعتــادت علــى الصباحييــن ،ولكــي تتالفــى هــذا الحــدث غيــر ّ ّ
ســمية ،فيخلــو لهــا وجــه األســمر ّ لتدقــق األوراق ّالر ّ ّ ّ
تتفرســه أن تأتــي مبكــرة
العمــال الفلســطينيين قــدر مــا شــاءت حتــى يغــادر نحــو البعيــد مــع زمالئــه مــن ّ
الشــقاء فــي األراضــي المســتدمرة كــي الذيــن يعبــروا ّكل يــوم ّبوابــة الحــزن نحــو ّ
ّ
يالحقــوا لقمــة العيــش المغموســة بالخــوف والحــزن والــذل وســاعات ال تعـ ّـد
والتحميــل البوابــات والمعابــر ونقــاط ّالتفتيــش ّ وال ُتحصــى مــن االنتظــار علــى ّ
ّ
والتفريــغ.
تفتشــه بيديهــا العاشــقتين، تعمــدت أن ّ أصبحــت الحيــاة أجمــل بوجــوده ،مـ ّـرة ّ
تتلمــس هضــاب جســده الشــوق وهــي ّ فاحترقــت برعشــة االشــتهاء ،ولوعــة ّ
مســدت أكثــر مــن مـ ّـرة علــى وســهوله بضراعــة مــن يتبـ ّـرك بعبــاءة ولـيّ صالــحّ ،
عضــات صــدره ،وكادت تلمــس خفقــات قلبــه الــذي فضــح صمتــه ،وقــال لهــا
ّ
مه»:أحبــك». قهــر ّ
تكت
فيمــا بعــد عاهــدت نفســها علــى عــدم االقتــراب منــه أكثــر كــي ال تحتــرق
28
قریب ـاً من الجدار
ّ
بجمــر جســده ،واكتفــت بــأن تكــون فــي أقــرب نقاطهــا منــه فــي كل صبــاح،
تيســر لــه العبــور مــع مــن معــه مــن العمــال بأقــل قــدر مــن االنتظــار واإلزعــاج، ّ
وتســعد بادخــار نظراتــه فــي عميــق وجدانهــا حيــث تســكن اإليقاعــات
ّ
الموســيقية ممزوجــة برقــص الباليــه.
بــأي كلمــة ،ومــا كانــت تحلــم بــأن كانــت ترجــوه بصمــت أن يهمــس لهــا ّ
ً ً
يهديهــا ديوانــا شــعريا لشــاعر فلســطينيّ قــال لهــا ّإن اســمه محمــود درويــش،
ً يحبــه جـ ّـد ًا ،فــكان لزامـ ًـا عليهــا مــن تلــك ّاللحظــة أن ّ ّ
وإنــه ّ
تحبــه إكرامــا لحبيبها
وكأنهــا تريــد أن ّ
تنعــم الجميل.تفرســت فــي ّالديــوان علــى غيــر عجــلّ ،
ّ األســمر
ً مســها مــن قبلهــاّ ، ّ
أناملهــا بمــس كل صفحــة قــد يكــون قــد ّ
حدقــت طويــا
الصفحــة األولــى حيــث كتــب لهــا بخــط عربـيّ بديــع االنحناءات»:عندمــا فــي ّ
أراك يســقط المطــر فــي ســماء روحــي :مصلــح الــوادي».
ّ
قــرأت العبــارة عشــرات المـ ّـرات حتــى حفظــت انحنــاءات كل حــرف فيهــا،
ّ
وراق لهــا أن تجمــع مطــر قلبهــا مــع شــمس وجهــه كلمــا التقيــا فــي ّبوابــة هــذا
ّ الجــدار المقيــت الــذي باتــت ّ
تتقــزز مــن ظلــه ّالرابــض علــى صــدر ّالرجــل
الــذي تخشــى أن تعتــرف لنفســها ّبأنهــا ّ
تحبــه.
البوابــة ،وتحلــم أشــهر طويلــة مـ ّـرت وهــي تراقصــه رقصــة العشــق فــي هــذه ّ
ّ ّ ّ
دون توقــف بنهــار مشــمس يتخللــه مطــر مداهــم يــدك هــذا الجــدار ّببواباتــه
جميعهــا ،ويســمح لهــا بــأن تقتــرب منــه لتقــول لــه دون خــوف أو وجــل أو
ّ
ريبة»:أحبــك».
بجملة»:أحب َك».طــوال
ّ الصبــاح اســتيقظت مــن نومهــا وهــي تتمتــم هــذا ّ
البوابــة فــي ّ الطريــق وهــي فــي دربهــا إلــى ّ ّ
ســيارة الجيــش كانــت تحلــم
29
حدث ذات جدار
ّ
الــوردي ،وبشــفتيه الغليظتيــن ترســمان قبلــة علــى بأصابعــه تداعــب نمشــها
الصغيــر ّالناصــع البهــاء ،المطــر كان يقــرع زجــاج ّ
الســيارة ،وأشــعة جبينهــا ّ
الشــمس تتحـ ّـدى قطــرات المطــر الوليــدة ،وتشــاغب خصــات شــعرها األحمــر ّ
أنثويــة تعجــز عــن كتمانهــا فــي أعماقهــا ،وتشــرئب المجعــد ،فتبتســم ابتســامة ّ ّ
الصباحـيّ بمــن تحـ ّ
ـب البوابــة تقتــرب منهــا ،وموعــد لقائهــا ّ
نحــو البعيــد حيــث ّ
يقتــرب كذلــك.
والصخــب البوابــة كان المــكان يضطــرب بالجنــود ّ عندمــا وصلــت إلــى ّ
والكلمــات المتطايــرة التــي تشــير إلــى مشــكلة مــا ،ومــن خلــف جمــوع الجنــود
ّ
بوليســية شرســة تنهشــها ، مســجاة علــى األرض وكالب ّ كان تبــزغ أجســاد
مخربــون ،اقتربــت منهــم عمــال فلســطينيون ّ ّ
زمالؤهــا الجنــود قالــوا لهــا إنهــم ّ
مخــرب المزعومــة التــي ّيتخذهــا جنودهــم بوجل؛فهــي تــدرك معنــى كلمــة ّ
والتنكيــل بالبشــر ،وجــه ذلــك األســمر ذريعــة لممارســة موهبتهــم فــي القتــل ّ
ّ ـدرج بالـ ّـدم ّ
والزبــد وابتســامة هازئــة بــكل جبــروت ّأول مــا صفــع وجههــا، المـ ّ
بالصقيــع الالفــح المغــروز فــي العظــام والقلــبّ ،
تكومــت إلــى جانبــه وأشــعرها ّ
دون أن تجــرؤ علــى أن تدفــن رأســه فــي حضنهــا ولــو لمـ ّـرة واحــدة فــي حياتهــا،
ّ ّ ّ
كانــت مغمــورة بظــل الجــدار العــازل حيــث العفونــة والظــام والكآبــة والظلــم،
وكانــت العــودة إلــى هنغاريــا دون رجعــة إلــى هــذا المــكان هــي الفكــرة الوحيــدة
وتلــح عليهــا قبــل أن يقتلهــا الجــدار كمــا قتــل ّ التــي تملــك عليهــا ذاتهــا،
ّ
ّالرجــل الــذي عشــقتهَ .م ْن أطفــأ الشــمعة األخيــرة ؟!
السياسـيّ أو الفلســفيّ مثــل معظــم المناضليــن الفلســطينيين، ال تجيــد ّالتنظيــر ّ
تكتب؛فهــي مــن مواليــد القــرن الماضــي ،ولــم كذلــك ال تســتطيع أن تقــرأ أو أن ُ
30
قریب ـاً من الجدار
31
حدث ذات جدار
ّ
المعتقالت.فقــررت أن تكــون إلــى ّ
وبناتهــن فــي ّ
أبنائهــن الفلســطينيات عــن
صممــت علــى أن تمــارس ّ
جانــب المعتقليــن الفلســطينيين ضــد الجــدار ،كمــا ّ
أمومتهــا معهــم ،بــدأت الفكــرة بتجربــة ،ثــم أصبحــت ّالتجربــة واقعهــا المعيش،
ـا ومعتقلــة ،وقــد بات شــغلها ّ ً
الشــاغل فــي معتقــل البلــدة كان هنــاك 146معتقـ
ّ ً
أن تزورهــم الواحــد منهــم تلــو اآلخــر ،وأن تتعـ ّـرف عليهــم ،وأن تكــون أمــا لهــم
ّ
أجمعيــن بــدل ّأمهاتهــم المحرومــات مــن ّالز يــارة اللواتــي ال يســتطعن الوصــول
إليهــم .
وجنــد إمكاناتــه المحــدودة مــن الصليــب األحمــر مــع رغبتهــاّ ، تعاطــف ّ
والدعــم مــن أجــل أن يســاعدها علــى زيــارة األســير تلــو اآلخــر، الوســاطات ّ
الشــمعة الوحيــدة فــي حيــاة وكانــت أمومتهــا عونهــا فــي هــذا األمــر ،كانــت ّ
ً ً
الكثيــر مــن المعتقليــن ،تحفظهــم فــردا فــردا ،وتســأل عــن أحوالهــم ،وتعــرف
تذمــر أو ملــل، ظروفهــم ،وتتابــع قضاياهــم ،وتصغــي إلــى شــكواهم دون ّ
تخفــف عنهــم آالمهــم وقهرهــم حتــى باتــت األم وتحــاول مــا اســتطاعت أن ّ
ّ ّ
الحقيقيــة لــكل منهــم ،وغــدت زيارتهــا بلســم لــكل معتقــل ،فغــدت شــمعتهم
ّ
األخيــرة والوحيــدة فــي ظــام معتقلهــم القابــض علــى أرواحهــم الثائــرة ،ونالــت
باســتحقاق لقــب «أم األســرى».
كانــت تتشـ ّـفع عنــد اللــه بهــذه األمومــة الغامــرة ،وهــذا العطــاء الموصــول كــي
وييســر لهــا أمــر الحــج إلــى بيــت الله الحــرام قبــل أن يسـ ّ
ـترد ـك أســر أبنائهــاّ ، يفـ ّ
اللــه روحهــا األمانــة ،ويختارهــا إلــى جانبــه حيــث ّالرحمــة والعــدل ،وعلــى غير
ً ّ
متوقــع خــرج ابنهــا الكبيــر مــن المعتقــل ،وهــو المحكــوم مؤبــدا فــي صفقــة
ً
الصفقــة حيــثـذا لبنــود ّ الصهاينــةُ ،ونفــي إلــى بيــروت تنفيـ
تبــادل لألســرى مــع ّ
32
قریب ـاً من الجدار
ـتقر هنــاك ،وكان ّأول مــا عملــه هــو أن ســعى للحصــول علــى فرصــة لكــي سيسـ ّ
وتكللــت مســاعيه الحثيثــة ّ ّ
بالنجــاح، تحـ ّـج والدتــه ووالــده إلــى البيــت الحــرام،
الســفر وحجــز مكانيــن فــي حافلــة الحـ ّـج ونقــود كثيــرة ّأول مــا وكانــت تأشــيرة ّ
أرســل إليهــا مــن منفــاه الجديــد.
بالحــج الســيما مــع اقتــراب موعــد ّ بتحقــق حلمهــا فرحــت» أم األســرى» ّ
خــروج ابنيهــا اآلخريــن مــن المعتقــل ،وأعـ ّـدت العـ ّـدة كــي ّتتوجــه إلــى بيــت
وطوفــت ألســابيع علــى المعتقليــن كــي ّ
تودعهــم اللــه الحــرام برفقــة زوجهــاّ ،
الش ّ
ــفوية فحملوهــا بمحبتهــم وبدعواتهــم لهــا وبرســائلهم ّ قبــل ســفرهاّ ،
ألمهاتهــم وأســرهم إن تسـ ّـنى لهــا فــي خروجهــا مــن أســر الجــدار أن تقابلهــم
أو أن تزورهــم.
الحر يــة ّمتجهــة إلــى بيــت اللــه الحرام،
عندمــا خرجــت مــن بوابــة الجــدار نحــو ّ
ـفوية التــي ّالشـ ّ ً
ـدا ،وهــو ّالرســائل ّ ً ّ
حملهــا المعتقلــون لهــا، تذكــرت أمــرا واحـ
كانــت هــذه هــي المـ ّـرة الوحيــدة التــي تخــرج فيهــا منــذ ســنوات مــن أرض عزلــة
ً ّ
الجــدار ،ولعلهــا تكــون المـ ّـرة األخيــرة أيضــا قبــل أن ترحــل عــن هــذه الحيــاة.
ً
الســماء الممتـ ّـدة فــي األفــق دون قيــود ،وتــراءت أمامهــا ـا فــي ّ ّ
حدقــت طويـ
ّ
أبنائهــن قلــوب أمهــات األســرى الفلســطينيين التــي تتــوق إلــى أخبــار عــن
ّ ّ ّ المعتقليــنّ ،
ــفوية موشــاة وضجــت فــي خاطرهــا نصــوص آالف ّالرســائل الش
وقــررت فــي لحظــة بأصــوات أصحابهــا وبمشــاعرهم وباختــاج جوارهــمّ ،
حر يتهــا خــارج الجــدار فــي تضحيــة أن ال تذهــب إلــى الحـ ّـج ،وأن تســتثمر أيــام ّ
تبليــغ ّالرســائل إلــى أصحابهــا.
ّ لــم يكــن مــن ّ
الصعــب عليهــا أن تزجــر نفســها الطامحــة إلــى تحقيــق حلمهــا
33
حدث ذات جدار
فــي زيــارة بيــت اللــه الحــرام ،منحــازة بذلــك إلــى صــوت ّالرحمــة واألمومــة فــي
داخلها.ودعــت زوجهــا علــى تخــوم الجــدار وهــو يقصــد الحـ ّـج وحــده دونهــا،ّ
وهــو يلـ ّـوح لهــا بثوبــه األبيــض ،ويدعــو لهــا ولــه بالمغفــرة.
ّ ً
أيامــا موصولــة ّ
بالتطــواف فــي أرض وطنهــا ،دقــت قضــت « أم األســرى»
األبــواب وفــق العناويــن التــي تحفظهــا عــن ظهــر قلــب ،حتــى أوصلــت
ّ ً ّ
ّالرســائل إلــى أصحابهــا ،فمــا تركــت ّأمــا إال وواســتها ،وال زوجــة إال وأسـ ّـرت
ً ّ
لهــا بــكالم زوجهــا ،وال طفــا إال وحملــت لــه قبــات أبيــه ،وحفظــت قســماته
بعنايــة واقتــدار كــي ترســمها فــي مخيــال والــده الــذي لــم يــره منــذ زمــن.
ً
لقــد قـ ّـرت نفســا بعــد أن ّأدت ّالرســائل األمانــات إلــى أهلهــا ،وهــا قــد أزف
موعــد العــودة إلــى منزلهــا ،حزمــت تعبهــا واشــتياقها إلــى أبنائهــا األســرى،
ووقفــت فــي طابــور انتظــار طويــل كــي تعبــر ّبوابــة ّالدخــول عبــر الجــدار
ً
العــازل ،وطــال انتظارهــا كمــا طــال بالموجوديــن جميعهــم إمعانــا فــي إذاللهــم
والتضييــق عليهــم ،فانتبــذت مكانـ ًـا قريبـ ًـا لتريــح شــيخوختها ّالث ّ
مانينيــة المثقلــة ّ
ً ّ ً
قصيــاّ ،أمــا روحهــا بهمــوم المعتقــل والمعتقليــن ،وطــال انتبــاذ جســدها مكانــا
ً يحلــق نحــو ّربــه فــي مسـ ّ ً ّ ً
ـتقرة األخيــر بعيــدا عــن فكانــت طائــرا أبيــض طاهــرا
ّ
واســتعدت للقــاء ّ
الخاصــة، حجــت بطريقتهــا شــبح الجــدار العــازل بعــد أن ّ
الحنــان ّ
المنــان. ّربهــا ّ
34
قریب ـاً من الجدار
35
حدث ذات جدار
36
قریب ـاً من الجدار
فهــذا هــو هــادي الغالــي العزيــز ،ولــه أن يســعد ،ولــو كانــت عينــاه وعينــا زوجته
باكيتيــن حزينتيــن ،فمــا العيــد إن لــم يســعد هــادي بمالبســه الجديدة؟!ويطيــر
الصغيــرة. فيهــا فــي شــوارع الحــي ودروبــه ّ
الســاحة الكبــرى ّ
العامــة فــي الســابقة كان يرافقــه مــع ّأمــه إلــى ّ فــي األعيــاد ّ
القريــة لالحتفــال بالعيــد مــع أهــل القريــة ،ولكــن منــذ أن فصــل الجــدار بينهـم
الســاحة والكثيــر مــن أراضــي قريتهــم وبيوتهــا ،بــات يكتفــي بــأن يراقبـه وبيــن ّ
وهــو يلعــب علــى األرجوحــة الوحيــدة الموجــودة فــي الفنــاء الخلف ـيّ للبيــت،
ُ
ويقتســم المتعــة بهــا مــع أترابــه الكثــر مــن أبنــاء الجيران؛متعتهــم صغيــرة ،ولكن
الطاهــرة قــادرة علــى صنــع ّ ّ قلوبهــم ّ
الســعادة مــن أصغــر مسـ ّـبباتها، الصغيــرة
مثبتــة علــى أغصــان شــجرة تــوت عجــوز ـبية صغيــرة ّ ولــو كانــت أرجوحــة خشـ ّ
بحبــال مهترئــة.
ـب فــي قســمات وجــه هــادي وهــو يبتســم علــى ّ
أمــا ســعادته فهــي تنبــع وتصـ ّ
قــدر مــلء روحــه وهــو يلعــب مــع أترابــه ،ويســتقبل العيــد بغطرســة طاووسـ ّـية
اهيــة البهيجــة ،يراقبــه دون ملــل مــن ّالنافــذةوهــو يتبختــر بمالبســه الجديــدة ّالز ّ
ّ
الخلفيــة للبيــت التــي ُتطــل علــى مرجــة األرجوحــة ،ولــوال وجــوب أن يذهــب ّ
لصــاة العصــر جماعــة فــي مســجد القريــة لمــا كان يفارقــه لحظــة واحــدة دون
ً
أن يمــأ حواســه بحركاتــه وكلماتــه التــي ال يشــبع منهــا أبــدا مهمــا ارتــوى.
ّ
فــي المســجد لــم يســمع صــوت انفجــار كبيــر ،كمــا ســمعه المصلــون جميعهــم
ولكنــه أوجــس خيفــة لــم يألفهــا مــن قبــل بشــكل مفاجــئ تزحــف ؛فهــو أصـ ّـمّ ،
المصليــن ّالراكضيــن خــارج المســجد إلــى نفســه بدبيــب موجــع ،وعــرف مــن ّ
ّ ً
ّباتجــاه االنفجــار ّأن مكروهــا مــا حــل بالمــكان ،كان الجميــع يركضــون باتجــاه
37
حدث ذات جدار
38
قریب ـاً من الجدار
ّ تهريــب ّ
الســاح والطعــام إلــى القريــة مــن خــارج الجــدار العــازل الــذي حرمهــم
ّ
حتــى مــن لقمــة الطعــام ،وحاصرهــم حتــى فــي أقواتهم.
يؤجــل هــذه المهمــة ،فهنــاك ألــف هــادي أو يزيــد مــن أبنــاء القريــة لــن ّ
ّ جائعيــن ،ويجــب أن ّ
يمدهــم بالطعــام ،وهــادي ال يقبــل بــأن يجــوع األطفــال
ً
حــدادا علــى اغتيــال رأســه الجميــل ذي العينيــن ّالزرقاويــن ،ولذلــك عليــه أن
ّ
يقــوم بمهمتــه بــكل التــزام وإخــاص علــى ّالرغــم مــن احتجــاج زمالئــه فــي
ً ّ
الجماعــة ،وتصميمهــم علــى أن يعفــوه مــن هــذه المهمــة فــي هــذه الليلــة نظــرا
الصغيــرّ ،
ولكنــه يأبــى للظـ ّـروف القاســية التــي يمـ ّـر بهــا نتيجــة اغتيــال وحيــده ّ
الصغــار فــي هــذه ّالليلــة ّ
بالتحديــد.
ّ
إال أن يــأكل ّ
بمهمتــه بإتقــان ،وتدخــل األســلحة واألطعمــة إلــى القريــة بعــد رحلــة يقــوم ّ
عنــاء لعبــور ّالتخــوم الفاصلــة بســبب الجــدار العــازل ،يغــادر ّالرفــاق المــكان
الصبــاح ،ويعــود هــوـتحقيها فــي ّتوزيعهــا علــى مسـ ّ بأحمالهــم العزيــزة بغيــة أن ّ
ليصفــي حســابه مــع أولئــك األوغــاد القتلــة مــن جديــد إلــى الجــدار متسـ ّـل ًال ّ
ً ً ً ّ
الذيــن اغتالــوا ابنــه هــادي ،ال يملــك إال قنبلتيــن ومدفعــا صغيــرا محمــوال
المتفحــم المتخثــر الـ ّـدم علــى شــعره ّ
الملبــد ّ يخصــره ،فيــه رأس هــادي وجرابـ ًـا ّ
خرافيــة قــادرة علــى أن تجعلــه يقلــع هــذا الجــدار قــوة ّ يهبــه ّ ّ
األكــث الــذي ّ
ويحــول المــكانّ بأظافــره الحاقــدة ،بســرعة خاطفــة ينــزع فتيــل القنبلتيــن،
إلــى جهنــم حمــراء تصطلـيّ بأصــوات المســتنجدين والمحتضريــن مــن الجنــود
ّ ّ
الصهاينــة ،تنهــال الطلقــات عليــه مــن عشــرات الجهــات ،ويــده علــى زنــاد
ً ّ
مدفعــه ّالرشــاش تهــب المــوت جزافــا لــكل مــن يقتــرب منــه مــن الجنــود،
ً ورأس هــادي ّ
يترنــح فــي جرابــه طربــا بشــجاعة والــده.
39
حدث ذات جدار
الصبــاح تكــون المجــزرة قــد اســتوت علــى أجســاد العشــرات عندمــا يأتــي ّ
ً ّ ّ
فلســطينية وجــراب يحمــل رأســا مــن القتلــى ،وعلــى جثــة رجــل بمالبــس
ّ
المعــززة ّ الص ّالمدرعــات ّ
مــا ،عشــرات ّ ً ّ ً
تطــوق المــكان، هيونيــة صغيــرا متفح
فتودعهــا زغاريــد القريــة ّ
الجثــة محاطــة بالجنــود والــكالبّ ، ّ
الشــامتة وترحــل
المتفحــم يجهــل المصيرالــذي ُيقــاد إليــهّ ،
ولكنــه ّ بوجــع الجنــود ،ورأس هــادي
ال يبالــي بذلــك طالمــا ّأنــه ســيواجه مصيــر والــده الحبيــب.
ـوزع األطعمــة ّ
المهربــة علــى بيــوت القريــة جميعهــا ،يــأكل فــي المســاء ُتـ ّ
األطفــال حتــى يشــبعوا ،ويشــبع هــادي فــي قبــره عندمــا يــأكل أطفــال قريتــه،
ّ ّ
وفــي كل مســاء يأتــي الطعــام المهـ ّـرب علــى ميعــاده إلــى أطفــال القريــة ،وال
الطعــام إلــى بيوتهــمّ ، ّ
ولكنهــم يؤمنــون بحكايــة» أحــد يعــرف كيــف يصــل
ً ً ً ّ
ّالرجــل األصـ ّـم حامــل الطعــام» ،ويعرفــون تمامــا ّأن شــبحا شــجاعا ال يــزال
يســكن فــي جــوار الجــدار العــازل ،ويخـ ّـوف الجنــود الحــرس بجرابــه ذي الـ ّـرأس
ّ ّ
المتفحــم المحــروقُ ،ويدخــل إلــى القريــة كل مــا يشــاء مــن مــؤن ،وال أحــد
ً
يجــرؤ علــى منعــه ،وهــو يصــرخ بمــلء فيــه قائــا »:هــا هــا».
وادي ّ
الصراخ
ّ
ولكــن منــذ كان اســم المــكان منــذ ســنين طويلــة هــو»وادي ّالرمــان»،
ً
جــاء الجــدار العــازل ،وجـ ّـرف أراضــي الــوادي ،وقلــع أشــجاره ،وجعلــه بائــدا
ً ً
خاويــا علــى عروشــه أصبــح أرضــا فاصلــة بيــن طرفــي البلــدة التــي أصبحــت
بلدتيــن صغيرتيــن بعــد أن كانــت بلــدة واحــدة ذات تاريــخ طويــل موغــل فــي
القــدم ،فغــادرت البالبــل الــوادي بعــد أن خســرت أعشاشــها الوارفــة فــي حقــول
40
قریب ـاً من الجدار
ـرا اســم»وادي ّ ّ ً ّ ً
الصــراخ» حيــن أشــجار ّالرمــان ،وحمــل الــوادي متفجعــا محسـ
ّ
حرمــت اللقــاء أو أصبــح ملعبـ ًـا لألصــوات المتناجيــة عبــر الجــدار العــازل حيــن ُ
المشــاهدة أو الحديــث عــن قــرب.
اليوميــة فــي ّ ً
الصــراخ» تخليــدا لمعاناتهــم ّ الفلســطينيون أســموه «وادي ّ
الصــراخ
عبــر أراضيــه للحديــث عــن ّأي أمــر فــي ضــوء حرمانهــم مــن لقــاء أو تواصــل،
الصــوت هــو ألســنتهم ووجوههــم وجلودهــم وقلوبهــم وأطرافهــم وأزمانهــم غــدا ّ
والترانيــم واألشــواق ومســافاتهم وآمالهــم ،ففــي هــذا الــوادي ُتســمع ّالزغاريــد ّ
القرآنيــة بــل وبعــض المقطوعــات ّ ّ
واألدعيــة واآليــات واألخبــار ّ
والنــكات
ـيقية يتبادلهــا الفلســطينيون الذيــن حرمهــم الجــدار مــن حقهــم اإلنســانيّ الموسـ ّ
ً ً ً ً
المتواضــع فــي أن يوســدوا يــدا إلــى يــدا ،وقلبــا إلــى قلــب ،وعينــا إلى عيــن ،وأن
ـرا ،ولذلــك غــدا ًّ ً ّ
الصــراخ ـث إنســانيّ مهمــا كان محــدودا وقصيـ يديــروا أي حديـ ٍ
حقهــم المهــدور الفانــي. عبــر مســافة فاصلــة طويلــة آخــر مــا يملكــون مــن ّ
ً ً
فــي الــوادي ُتســمع ّأمــا تحـ ّـدث ابنتهــا التــي فصــل الجــدار بينهمــا ،وعجــوزا
أكلتهــا ســنوات ّ
الضنــى والمعانــاة تدعــو البنهــا بالعــودة إلــى بيتــه ،ويعبــق ّالدمع
فــي عينــي مــن يســمع صــوت طفلــة صغيــرة تطلــب مــن والدهــا أن يعيدهــا إلــى
بيتهــا بعــد أن علقــت خــارج الجــدار فــي رحلــة زيــارة لــدار عمومتهــا ،وتبكــي
يردهــا خائبــة وحيــدة ،فيغــرق األب فــي لــه متوسـ ّـلة أن يأخذهــا معــه ،وأن ال ّ
ـدا ًّ ً
يصبرهــا نشــيج موصــول متحشــرج ال يملــك قــوة فيــه ليصــوغ لهــا وعــدا جديـ
بــه ،وهــو يعلــم ّأن تحقيقــه بعيــد عســير ،وفــي أقصــى الــوادي فــي أقــرب
ً ّ ً الســياج ّ
نقاطــه مــن ّ
ملويــا متكئــا علــى عكازيــن خشــبيين الشــائك يقــف صالــح
ينغــرزان فــي تجويفــي إبطيــه ،وهــو يكابــد نفســه كــي تنتصــب واقفــة ،وال
41
حدث ذات جدار
ـاء بعــد رحلــة كادحــة مــن بيتــه حتــى الوصــول إلــى الجــدار ،وهــي تســقط إعيـ ً
ً
رحلــة تقتضيــه زمنــا أكثــر مــن ســاعتين ،وإن كانــت تنقضــي فــي عشــر دقائــق
ولكنــه بالــكاد يســتطيع أن يجرجــر نفســه ليصــل إلــى لمــاش بحــزم وقصــدّ ،
ٍ
الصارخيــن ،ثــم ينتبــذ بصعوبــة أقصــى الــوادي ـدس نفســه بيــن جمــوع ّ هنــا ،ويـ ّ
للصــراخ المســموع مــن هــدى تلكــم المــاك ليكــون فــي أقــرب نقطــة ممكنــة ّ
الحمائم ـيّ األبيــض الغــارق ليــل نهــار فــي نقيــع المــوت هنــاك فــي مستشــفى
الهــال األحمــر فــي مخيــم ّالدهيشــة حيــث قابلهــا ّأول مـ ّـرة.
ـن جســدها ّالنحيــل وعينيهــا الغائرتيــن هــدى تكبــره بأحــد عشــر عامـ ًـا ،ولكـ ّ
الصغيرتيــن بقــدر حفنــة لــوز أخضــر، الصغيــرة ،ويديهــا ّ فــي جمجمتهــا ّ
وزيهــا األبيــض ذا الياقــة المرتفعــة ،تجعلهــا تبــدو أصغــر وابتســامتها الخجولــةّ ،
ً ً
مــن عمرهــا بعقــد كامــل ،بــل تبــدو أحيانــا أصغــر منــه ســنا ببضــع ســنين،
ـليعيةّ ،
ولكنهــا آســرة ـويقية ّالتسـ ّ
ليســت جميلــة بمقاييــس الجمــال الباذخــة ّالتسـ ّ
الجمــال بمقاييــس الجمــال ّالروحـيّ ،حيــث طيبتهــا البيضــاء ،وقلبهــا الـ ّ
ـوردي،
ّ ً
ونفســها المنســرحة دائمــا فــي عــون مبــذول دائــم لــكل مــن يطلــب عونهــا
الســيما مــن المرضــى والجرحــى الذيــن تعـ ّـج بهــم المستشــفى ،لذلــك يراهــا
بالتســبيح للـ ّـرب والوطــن ـطينية بيضــاء ُخلقــت كــي تهــدل ّ صالــح حمامــة فلسـ ّ
واإلنســان ليــل نهــار.
يتمنــى لــو ّأنــه قابلهــا هنــاك فــي جامعتــه فــي القــدس القديمــة حيــث كان ّ
تخصصــهاألول فــي ّ ـورا ال يعــرف خوفـ ًـا أو ضعفـ ًـا أو جبنـ ًـا ،كان ّ ً ً
كان شــبال جسـ
واألول كذلــك فــي صفــوف واألول فــي بـ ّـر والديــه العجوزيــنّ ، فــي الجامعــةّ ،
ّ ّ والمحتجيــن علــى اســتبداد ّ ّ
الصهاينــة ،ولكــن حظهمــا غيــر المتظاهريــن
42
قریب ـاً من الجدار
ـوزا ًّ
والرحمة للشــفقة ّ الموفــور جعلهمــا يلتقيــان فــي أضعــف حاالتــه ،وأشـ ّـدها عـ
بندقيــة مســتدمر 1صهيونـيّ أصابتــه ّ ّ ّ
بالشــلل جرثوميــة واحــدة مــن والعون؛طلقــة
ـرطانية ّالدائمــة ،أشــهر طويلــة قضاهــاالسـ ّ ّ
ّالدائــم ،وبحشــد مــن أمــراض الـ ّـدم ّ
ّ
هنــاك علــى ســريره فــي المستشــفى أعــزل مــن كل شــيء ســوى قلبهــا الكبيــر،
ً ً
ورعايتهــا التــي ال تعــرف فتــورا أو انقضــاء أو رحيــا.
لــم يكــن فــي حاجــة إلــى أن يخبــره أهلــه علــى جرعــات مــن الحيــاء والحــزن
ً والعطــف ّأنــه أصيــب ّ
بالشــلل ّالدائــم ،ولــن يســير أبــدا علــى قدميه؛فهــو يعــرف
ً
هــذه الحالــة تمامــا ،ولطالمــا رآهــا فــي صفــوف أصدقائــه وأترابــه وجيرانــه مــن
ً ّ أبنــاء ّ
الشــعب الفلســطينيّ ،كان يعــرف ّأنــه ســيظل عاجــزا إلــى األبد علــى ّالرغم
الصهيون ـيّ ال والصحة؛فطلقــات العــدو ّ مــن دعــاء أمــه الموصــول لــه ّ
بالشــفاء ّ
ألي دعــاء أو اســتجداء أو اســترحامّ ، ً
ولكنــه كان يعــرف ّأن تلكــم ـدا ّ تنصــاع أبـ
ّالنظــرات التــي تمطــره بهــا الممرضــة هــدى ليســت نظــرات شــفقة أو رحمــة أو
عمــه أبــو حســين المرافــق لــه فــي المستشــفى ليــل نهــار واجــب كمــا كان يصـ ّـر ّ
علــى تســميتها ،فقلبــه الــذي لــم يكــن قــد قــرع بعــد قرعــات العشــق ،يســتطيع
ً
ـارا ّ
مقدســة مشــتعلة فــي قلبهــا كمــا هــي ذات أوار حــارق أن يــدرك ّأن هنــاك نـ
ّ
الســعادة إال ّالنــزر منهــا فــي الصغيــر العشــرينيّ الــذي لــم يــذق مــن ّ فــي قلبــه ّ
مخيمــه الغــارق فــي العــوز والكـ ّـد واالكتظــاظ واألحــام التــي ال ّ
تتحقــق.
عندمــا أخبــر أهلــه بنيتــه بالـ ّـزواج منهــا ،وقفــوا مشــدوهين ،ثــم عاجلــوا قلبــه
الممرضــة ّ
العفيــة ،وهــو تحبــه هــذه ّ بنخــزة لئيمــة علــى شــكل تشــكيك بــأن ّ
ً ّ ً
العاجــز كليــا حتــى عــن ضبــط بولــه فضــا عــن عجــزه عــن الحركــة أو عــن
43
حدث ذات جدار
44
قریب ـاً من الجدار
45
حدث ذات جدار
ولكننــي ال أخشــى ّ
الــدم ،بــل أســتمتع بــه يــرد عليــه بخجــل مــن حالتــهّ »: ّ
ٍ ً
وقمــة فخــري أن أســفحه مــن رقــاب الفلســطينيين ّ
المخربيــن الذيــن جــداّ ،
فســادا فــي دولتنــا ،ولكــن يــا للعــار ،أنــا أخشــى غــروب ّ ً
الشــمس، يعيثــون
ً أصــاب بهلــع عظيــم عندمــا تغيــب ّ
الشــمس ،وتتركنــي وحيــدا فــي ظلمــة هــذا
فأتخيــل ّأن ّكل الفضــاء حولــي يعـ ّـج بــاألرواح ّ
الشــريرة التــي تطاردنــي الكــونّ ،
اريــة ،وتحــاول أن تنهــش جســدي بمعاولهــا المسـ ّـننة ،وتســعى بمصائدهــا ّالن ّ
ّ لخطــف أرواح أبنائــيّ ،
لتجرهــا إلــى الجحيــم ،هــذا أمــر رهيــب ،أكــره الليــل،
وأخشــى لحظاتــه التــي أقضيهــا فــي صــراع مــع شــياطين ّ
وهميــة ال يراهــا
ســواي ،ولذلــك تمعــن فــي تعذيبــي».
ّ
«-حالــة غريبــة بحق.عليــك زيــارة طبيــب نفسـيّ الستشــارته فــي هــذا الشــأن»
ّ ً
يقــول صديقــه معلقــا علــى حالتــه.
ـت نفســي علــى أكثــر مــن طبيــب نفسـيّ ،ولكــن دون فائــدة ،فــا أحــد «-عرضـ ُ
الســماء ،والالشــمس تتشـ ّـبث بمكانهــا فــي ّ منهــم يســتطيع أن يســاعدني ،وال ّ
ّ الشـ ّ الغــروب يأتــي سـ ّـر ًا ،فــا يوقــظ األرواح ّ
ـيطانية التــي تتفلــت مــن عوالمهــا
الصهيونـيّ بهلــع ووجــع. ـدي ّ
تقصــد أن تطاردنــي بعذابهــا المســوم».يجيب الجنـ ّ
المرضيــة ّالنــادرة» .يســأل صديقــه
ّ « -ولكــن لمــاذا؟ مــا ســبب هــذه الحالــة
مــن جديــد؟
ً ّ ّ
«-ال أعــرف ،بحــق أنــا ال أعــرف لهــا ســببا ،ولكننــي أتمنــى أن يأتــي الغــروب
ـن. سـ ّـر ًا» .يهتــف الجنـ ّ
ـدي بنبــرة رجــاء وتمـ ٍّ
ٍ
ً يصمــت ّ
الصديــق ،وتــزوغ عينــاه بعيــدا نحــو األفــق ،ونحــو ذلــك اليــوم الــذي
يحــاول أن يبتلــع ذكــراه لحظــة بعــد لحظــة ،فيخفــق فــي ذلــك ،ويأتــي الغــروب
46
قریب ـاً من الجدار
وتحولــه إلــى ملعــون ســيزيفيّ ال يعــرف ـض مضجعــهّ ، ليخــزه بذكــراه التــي تقـ ّ
فــا ،يومهــا كانــت ّ ّ ً
الشــمس تــكاد تنزلــق خلــف عذابــه نهايــة أو عقابــه توق
ّ
الجــدار العــازل لتــردي المــكان فــي المزيــد مــن الظلمــة والوحشــة ،وكان هــو
الحــارس الليل ـيّ المســؤول عــن حراســة ّالبوابــة فــي المســاء بعــد عنــاء يــوم
والت ّفنــن فــي تعذيبهــم وتعطيلهــم طويــل مــن المراقبــة ،وتفتيــش العابريــنّ ،
ّ ّ
وتوقيفهــم وتأخيرهــم وإذاللهــم ،فهــو متــورط معهــم فــي هــذه اللعبــة الظالمــة
َ َ ً
بقــدر تعذيبــه لهــم؛إذ ال يمكــن أن تكــون ُم ِّع ِذبــا دون أن تكــون ُم َّعذبــا!
ً
البوابــة دخــوال إلــى منطقــة ُســكناها وجــاءت تلــك المــرأة الفلسـ ّ
ـطينية لتعبــر ّ
طوقهــا الجــدار مــن ّكل مــكان كشــريط سـ ّ
ـحري فــي المدينــة المعزولــة التــي ّ
ً ّ ً
لحميــا يمــور شــرير خانــق ،كانــت تجـ ّـر سـ ّـتة أطفــال ،وتحمــل فــي بطنهــا تــا
بجنيــن قــد أزف موعــد خروجــه إلــى الحيــاة ،كانــت مرهقــة وباديــة ّالتعــب،
ّ ّ
مســتفزة فــي مشاكســتها ،وتعطيلهــا وتلويعهــا وأبناءهــا وجــد لــذة خاصــة
البوابــة ،وعندمــا ّردته بشــموخ ال الصغــار قبــل أن يســمح لهــا ولهــم بالعبــور مــن ّ ّ
ّ
ُيتوقــع مــن قســماتها الكســيفة ،ومــن شــحوبها البــادي ،ومــن لهاثهــا الموصول،
تمتعــه بتعذيبهــا بــأن يمنعهــا مــن العبــور مــن ّ
البوابــة إلــى أن قـ ّـرر أن يبالــغ فــي ّ
وتتلحــف ّ
بالســماء يخيــم ظــام ّالليــل ،ليتشـ ّـفى ببؤســها وهــي تفتــرش األرضّ ، ّ
وبنوهــا علــى بــاب الجــدار حتــى ّ
الصبــاح.
تتضــرع لــه مــن أجــل العبــورّ ، ّ ّ ّ
ولكنهــا كان يتوقــع أن ترضــخ لذلــه ،أو أن
لــم تفعــل ذلــك ،بــل تفلــت فــي وجهــه غيــر آبهــة بجبروتــه ،وجمعــت أبناءهــا
علــى عجــل ،وأدارت ظهرهــا لتعــود بهــم مــن حيــث أتت.اشــتعلت نيــران
ً
الصــدئ ،وأطلــق حشــدا مــن رصاصــات نزقــة ّباتجاههــا، الغضــب فــي صــدره ّ
47
حدث ذات جدار
48
قریب ـاً من الجدار
ساللة ّ
الن ْور
ّ
دم ســالته المباركــة يتدفــق فــي أعماقــه ووجدانــه وشــرايينه ،فيدفــع حلمــه
إلــى أن يكبــر مــن أجــل أن يســافر إلــى القاهــرة ليســتكمل علومــه اإلسـ ّ
ـامية
ليفقــه نفســه ،وينفــع ّأمــة المســلمين ،منــذ أجيــال الشــريف ّ فــي األزهــر ّ
الشــريعة اإلسـ ّ
ـامية، طويلــة رجــال أســرته الواحــد تلــو اآلخــر يحملــون رايــة ّ
ويسـ ّـمون ّ
الشــيوخ فــي المدينــة ،أبــوه وجـ ّـده ورجــال أســرته جابــوا بقــاع الوطــن
الفلســطينيّ ،وحملــوا لــواء ّالديــن واإلحســان والخيــر والبنــاء ،وهــذه البــذرة
الصالحــة تنمــو فــي أعماقــه منــذ ُولــد ،فمنــذ صغــره هــو مفطــور علــى ّ
الصــاة ّ
49
حدث ذات جدار
ً ّ
والصــوم والعبــادة والبـ ّـر واإلحســان ،وقــد حفــظ القــرآن الكريــم كامــا منــذ
ً ّ ً
طفولتــه ،وكثيــرا مــا صلــى بالجماعــة إمامــا فــي صــاة الفجــر ،برامــج حياتــه
ّ كافــة ّّ
مكيفــة وفــق هــدف واحــد ،وهــو الذهــاب إلــى األزهــر الســتكمال علومــه
اإلســامية ،حتــى زهــر خطيبتــه اختارهــا وفــق هــذا البرنامــج ،فقــد كانــت ّ
صالحــة عابــدة مثلــه ،تحفــظ الكثيــر مــن أجــزاء القــرآن ،وتتــوق مثلــه إلــى
الشــريف. ـامية فــي األزهــر ّ
دراســة العلــوم اإلسـ ّ
كان عليــه أن يحــزم نفســه وكتبــه ،ويســافر إلــى القاهــرة بصحبــة خطيبتــه بعــد
حصــل لهمــا ـامية بعــد أن ّيتزوجهــا كــي ينخرطــا فــي دراســة العلــوم اإلسـ ّ أن ّ
ً
ـوال فــي الجامعــة ،ولكـ ّ
ـن الجــدار العــازل الــذي ُولــد مــن رحــم شــيطانيّ قبـ
ّ ً
وقــف حاجــزا أمامهمــا ،ومنعهمــا مــن ّ
الســفر خــارج مدينتــه القديمــة ،وحطــم
أحالمهمــاّ ،
وغيــر مشــاريع حياتهمــا إلــى األبــد.
وعلــى ّالرغــم مــن ذلــك كان مــن الممكــن أن يقبــل بواقعــه الجديــد لو لم يســرق
الجــدار معظــم أصدقائــه ،ويقتلهــم الواحــد تلــو اآلخــر علــى تخومــه ّ
وبواباتــه،
عندهــا قـ ّـرر أن يطعــم ســدنة الجــدار ّللنــار والمــوت ،هــدوءه الغامــر أجــاد أن
الضربــة القاســمة، مخططــه المزمــع ،وفــي ّاللحظــة المناســبة كانــت ّ ّ
ُيخفــي
اختارهــا أن تكــون فــي ليلــة زفافــه علــى المــرأة التــي اختارهــا شــريكة لحيــاة
ّ ّ ّ
الضنــك المريــرة ،خــرج منــذ الظهيــرة إلــى صــاة الظهــر ،وبعــد أن ّأداهــا بأنــاة
ّ ً وخشــوع ،خــرج إلــى مــراده ،كان يحمــل فــي كيســه ّ
مسدســا ومجموعة الصغيــر
ّ ّ
مــن القنابــل ،ويســتعيد فــي ذاكرتــه تفاصيــل خطتــه المرســومة ّللتســلل إلــى
والدلــوف إلــى قاعــة ّالتدريــس ّالرئيسـ ّـية ـودي ّالداخلــيّ ،
المعهــد ّالدينــي اليهـ ّ
ً ً
ليوســعهم موتــا ،انتقامــا منهــم ألصدقائــه الذيــن قتلوهــم ،ولحلــم دراســته الــذي
50
قریب ـاً من الجدار
أجهضــوه فــي تبرعمــه ،وألرضــه التــي قســمها الجــدار دون رحمــة أو وجــه
حــق ،ولخطيبتــه التــي يعشــقها ،ولــن يســتطيع أن يصطحبهــا معــه إلــى األزهــر
ً ً ّ
الشــريف كمــا وعدهــا مــرارا وتكــرارا.
ـهال بمســاعدة مالمحــه الخالسـ ّـية ًّ
الشــقراء كان أمــر ّالدخــول إلــى المعهــد سـ
ركيــة التــي تزوجهــا جـ ّـده
التــي يملكهــا وراثــة عــن جـ ّـدة أبيــه ذات األصــول ّالت ّ
ـامية فــي القاهــرة قبــل عقــود طويلــة ،وعــاد بهــا إلــىعنــد دراســته العلــوم اإلسـ ّ
مدينتــه القديمــة حيــث عاشــت وماتــت ُودفنــت.
بخفــة علــى األرض كــرذاذ علــى مــاء وصــل إلــى القاعــة بخطــوات ناقــرة ّ
الرئيســية ،وبســرعة خاطفــة شــرع ينثــر المــوت علــى الجميــع بقنابلــه ّ
ّ
وبمسدســه ،لــم يدركــه الحــرس برصاصهــم إال وكان قــد أرســل الجميــع إلــى
ّ جحيــم المــوت ،ثــم استســلم إلــى ّ
جنتــه الخضــراء الموعــودة ،وحلــق بأجنحــة
ّ
مــن نــور نحــو البعيــد ،وتــرك جثتــه لهــم ليركلونهــا بأقدامهــم ،ويمثلــون بهــا،
ً
ويســجنوها أيامــا فــي حافظــة مبـ ّـردة قبــل أن يســمحوا بدفنهــا علــى عجــل فــي
وكأنهــا فعــل محظــور البــوح بــه. ُجنــح ّالليــلّ ،
ّ ّ
لــم يــزف إلــى عروســه ،ولــم ُتــزف إليــه ،وبقيــت فــي ثوبهــا األبيــض تنتظــره
ـا دون أن تصـ ّـدق ّأنــه لــن يبـ ّـر بوعــده لهــا ،ولــن ّ ً
يتزوجهــا ،بــل ولــن يعــود طويـ
ً
إليهــا أبــدا ،فليــس مــن عادتــه أن ال يبـ ّـر بوعــد قطعــه علــى نفســه ،ولكــن يبــدو
ألول مـ ّـرة فــي حياتــه ،كذلــك لــن يســتطيع أن ّأنــه لــن يســتطيع أن يبـ ّـر بوعــده ّ
يعــود إليهــا ،لذلــك عليهــا أن تذهــب هــي إليــه ،وإن كان هــو مــن ســالة العلمــاء
ّ األبــرار ،فهــي مــن ســالة ّ
الشــهداء الطاهريــن ،فليــس هنــاك فــي أســرتها
ـهيدا؛فهي ابنــة شــهيد ،ووالدهــا كان ابــن شــهيدّ ، ً
وجدهــا بيــت لــم يقـ ّـدم شـ
51
حدث ذات جدار
َ
ابــن شــهيد ،بــل ابنهــا المنتظــر الــذي لــم تحــظ بــه منــه ال بـ ّـد ّأنــه ســيحلم
ً ّ
باالستشــهاد ،فمــا عليهــا إال أن تكــون شــهيدة أيضــا؟
خلعــت ثوبهــا األبيــض إلــى ميقــات ،وعندمــا حــان الوقــت المنتظــر،
وتحزمــت بحــزام ناســف ،ويممـ ْ وتزينــتّ ، وتعطــرتّ ،ّ ـتحمتّ ، اسـ ّ
ـت وتمشــطت،
ّ ُ ّ
ـب ،أمــرت بالوقــوف علــى نحــو الجــدار الفاصــل الــذي أخــذ منهــا كل مــن تحـ
ّ ّ عتبــة ّبوابتــهّ ،
لكنهــا لــم تفعــل ،وفــي اللحظــة المناســبة ،تحولــت إلــى جمــرة نار
ّ
تكــوي كل مــن حولهــا مــن جنــود صهاينــة ،وتهــزأ مــن الجــدار الــذي انهــارت
ً
أجــزاء منــه مــن شــظايا حزامهــا ّالناســف ،وحمــل علــى أكتافــه مكرهــا طرحــة
ملوحــة باألفــق لروحهــا التــي تحجــل فــي دربهــا نحــو ّ
الســماء لتلحــق عرســها ّ
ّ ّ ّ
ورانيــة الطاهــرة. بســالتها الن
52
قریب ـاً من الجدار
()1
ً ّ
السجان مسجون أيضا
ًّ ً
ـليا ،فليــس هنــاك متعــة أكثــر مــن أن يقــف كان يبــدو العمــل لــه ممتعــا ،ومسـ
السـ ّ
ـادية والداخــل ،ويمــارس عبرهــا متعتــه ّ علــى ّبوابــة يراقــب منهــا الخــارج ّ
ّ فــي تعذيــب ّالنــاس ّ
والتنكيــل بهــم ،اســتمتع ســنوات طويلــة بهــذه اللعبــة
ّ ـن ّأنــه ّ
العمــل؛إذ كان يظـ ّ
الســجان المعــذب للفلســطينيين ،ولكــن عندمــا أيقــن
ّأنــه ال فــرق كبيــر بيــن أن ُيســجن المــرء خلــف الجــدار أو أمامــه أو فــي ّبوابتــه،
إضافيــة مــن المخـ ّـدرات.
انتحــر بجرعــة ّ
()2
ُ ّ
الرمثاوي ال يضام قبر
ال أحــد يعــرف علــى وجــه ّالدقــة اســم ّ
الشــهيد ّالراقــد فــي هــذا القبــر ،ولكــن
مثــاوي ،فهــم يعرفــون ّأن صاحبــه جــاء مــن مدينــةّ الجميــع ّ
يســمونه قبــر ّالر
ّالرمثــا فــي شــمال األردن ليجاهــد إلــى جانــب الفلســطينيين ،فقضــى نحبــه فــي
ُ
هــذه المنطقــة ،فدفــن فــي بســتان البيــت الــذي كان يجــوزه ،ويدافــع عــن أهلــه
ّ
ســاعة استشــهاده ،القبــر ظــل محــراب البيــت ،وعامــود فخــر أهلــه ،بــل سـ ّـمي
ولقبــت األســرة نفســها بــآل ّالرمثـ ّ
ـاوي. ـاويّ ،
البيــت مــع الوقــت ببيــت ّالرمثـ ّ
الشــعب الفلســطينيّ بتــر القبــر عندمــا ُغــرز الجــدار العــازل فــي خاصــرة ّ
عــن البيــت ،فــكان البيــت فــي شــرق الجــدار ،والقبــر فــي غربــه ،حــزن أهــل
53
حدث ذات جدار
البيــت أشـ ّـد الحــزن لحرمانهــم مــن القبــر ،وحــزن القبــر لنفيــه عــن عائلتــه التــي
جاورهــا ســنين طويلــةّ ،
وألن ّالرمثـ ّ
ـاوي ال ُيضــام ،فقــد حمــل قبــره ،وانتقــل بــه
الصبــاح كان مــن إلــى جــوار البيــت فــي ّالناحيــة األخــرى مــن الجــدار ،وفــي ّ
جديــد فــي بســتان البيــت ينتظــر أهلــه ليســقوا زهــوره ّالنابتــة عليــه ،غيــر آبــه
برغبــة الجــدار الملعــون!
()3
ال قصة ّ
حب للجدار العازل
ّ
اليهوديــة مــن أقصــى واليــات الصحفــي األمريكــيّ ذو األصــول جــاء هــذا ّ
ُ ً
أمريــكا ُبعــدا مــن أجــل أن يقــوم بالوظيفــة التــي أســندت إليــه بحكــم شــهرته
ّ
اإلعالميــة الجريئــة ،كان عليــه أن يعايــن تجربــة الجــدار حفيــة وإنجازاتــه ّ
الص ّ
ّ
الفاصل؛ليكتــب عنــه المقــاالت والقصــص ّالداعمــة لــكل مــن يــرى وجــوده فــي
ً
هــذا المــكان عــدال وضــرورة لحمايــة اليهــود الغاصبيــن فــي أراضيهــم المســلوبة
مــن الفلســطينيين.
الحقيقــة ّأنــه معنـيّ بالمبلــغ المالــي الكبيــر ذي األصفــار الكثيــرة ُ
المتفــق عليــه
مقابــل هــذا العمــل ّالدعائــي اإلعالم ـيّ العــاري مــن الحقيقــة أو العــدل ،ومــن
همــه ،ورصيــده المتنامــي فــيقــال ّإنــه يبالــي بالحقيقــة وبالعــدل؟! المــال ّكل ّ
جنــة حياتــه.البنــك ّ
لكــن مشــكلته الكبــرى تكمــن فــي ّأن قلمــه يكتــب مــا يشــاء وعلــى هــواه
ّ دون االنصيــاع لــه ،حــاول أن يكتــب ّ
قصــة حـ ّ
ـب واحــدة فــي ظــل هــذا الجــدار،
فعجــز عــن ذلــك ،فكتــب مئــة قصــة حــزن بســبب هــذا الجــدارّ ،
ومــزق
54
قریب ـاً من الجدار
أمــر ّالدفــع ّ
(الشــيك) ذا األصفــار الكثيــرة ،وشــرع يعيــش قصتــه األولــى مــع
األول إلــى جانــب المتظاهريــن الفلســطينيين ضـ ّـد
الصــف ّالحقيقــة ،فــكان فــي ّ
ّ
العالميــة تحــت عنوان»:صحفيّ هــذا الجــدار ،وتصـ ّـدرت صــوره وســائل اإلعــام
أمريك ـيّ يقضــي نحبــه برصــاص قــوات االحتــال ّ
الصهيون ـيّ».
()4
ّبوابة واحدة ال تكفي
ّ ليــس لهــذه البلــدة منفــذ علــى ّالدنيــا ســوى هــذه ّ
البوابــة اللئيمــة فــي الجــدار
ً ُ
العــازل ،إن أغلقــت ،وكثيــرا مــا يحــدث ذلــك ،فأهــل البلــدة يغــدون مجــرد
ســجناء فــي ســجن كبيــر ،جدرانــه الجــدار العــازل ،وســقفه ّ
الســماء البعيــدة.
العمال الفلســطينيين فــي ّكل صبــاح كان يقــود شــاحنته القديمــة بحملهــا مــن ّ
ّ
البوابــة ليواجهــوا كبــد ســاعات مــن االنتظــار والــذل علــى أمــل أن ُيســمح نحــو ّ
ّ
البوابــة ،لعلهــم يعــودون إلــى عائالتهــم بأقــوات يومهم ّالتعــس ،وهو لهــم بمغــادرة ّ
ّ
يظــل قعيــد األرض ينتظــر أن يســمح لــه الجنــود بمغــادرة المــكان ،ليعــود إليها من
جديــد فــي اليــوم ّالتالــي.
ّ بوابــة واحــدة ال تكفــي لعبــور أولئــك ّ ّ
العمــال الفلســطينيين كلهــم ،حتــى عندمــا
ّ ً
ـا منهــم علــى ّ
البوابــة بســاحه ّالرشــاش ،فقــد قتــل مســتدمر لعيــن عشــرين عامـ
ظلــت ّ ّ
البوابــة الوحيــدة ال تكفــي ،لذلــك فقــد ركــب شــاحنته ،وأســرع بهــا ،وهوى
ً ّ بهــا علــى ّ
البوابــة ،فخلعهــا ،وحطــم جــزءا مــن الجــدار ،وســحق بعــض الجنــود
تحــت عجــات شــاحنته ،فوجــد األرض أرحــب دون ّبوابــة أو جــدار أو جنــود.
55
حدث ذات جدار
()5
ال قانون ّ
ضد األقدام العائدة
الســكري أكل القــدم اليمنــى لمـ ّـؤذن الجامــع فــي الحــارة القديمــة، مــرض ّ
ّ ّ
الصلبــة،الط ّبيــة ّ قيــل لــه ّإن مــن الممكــن أن ُتصنــع لــه قدمــان مــن اللدائــن
ولكــن هاتفـ ًـا فــي المنــام صــاح فيــه ّإن عليــه أن يصنــع لــه قدميــن مــن ّ
الســنديانة
ً
الكبيــرة فــي أرضــه التــي تقــع اآلن خلــف الجــدار العــازل ،حــاول كثيــرا أن يعبــر
ّ ّ
البوابــة ،وأن يصــل إلــى أرضــه ،ولكــن دون جــدوى ،ففــي كل مــرة كان الجنــود
ً ً ّ
يردونــه ردا قبيحــا.
الســنديانة ،وفــي لحظــة حلــم ســرقه المــوت، ظـ ّـل يحلــم بالقــدم الخشـ ّ
ـبية مــن ّ
تحقــق األمنيــة ،انشــلعت مــن جســده بليــن ودعــة، قدمــه اليتيمــة قـ ّـررت أن ّ
وســارت فــي ّالزقــاق القديمــة التــي تحفظهــا عــن ظهــر قــدم ،وعبــرت ّبوابــة
الســنديانة ّ
المعمــرة ويممــت نحــو ّ ـدي صهيونـيّّ ، الجــدار دون أن يوقفهــا ّأي جنـ ّ
وكبرت»:اللــه أكبــر».فــي البســتان الجبل ـيّّ ،
()6
ً
الخيل األصيلة تعود دائما إلى أهلها
ّ
الجســدي الصهيونــيّ مارســوا ّ
ضدهــم أعتــى أنــواع ّالتعذيــب فــي المعتقــل ّ
ّ ّ
والنفس ـيّ ،ولــم ينفكــوا عنهــم إال عندمــا جعلــوا منهــم جواســيس لهــم ،فــا
ً أحــد يشـ ّ
ـك فــي ّأن صبيــة صغــارا قــد يكونــون جواســيس علــى أهلهــم وجيرانهم
وشــعبهم.ولذلك أخرجوهــم مــن المعتقــل بهــذا ّ
الشــفيع المخــزي.
الصهاينــة الكثيــر مــن األخبــار ّ
الصغيــرة حــول ّ
الثــوار نقلــوا إلــى الجنــود ّ
56
قریب ـاً من الجدار
()7
الموتى ال يرحلون
ـاحية ولــؤم قنفــذ أجــرب »:ال أحــد الضابــط ّ
الصهيون ـيّ بســحنة تمسـ ّ قــال ّ
ٍ
ســيبقى فــي هــذا المــكان ،الجميــع عليــه أن يرحــل إلــى مــا خلــف الجــدار،
ّ ّ
الجميــع بــا اســتثناء ســيرحلون اآلن إال الموتــى ســكان القبــور».
ضحــك العجــوز الفلســطينيّ مــن جهــل ّ
الضابــط ،وتمـ ّـدد علــى أرضــه ،وقــال:
«إذن هنــا أموت».وأســبل عينيــه ،وراح فــي ســبات أبـ ّ
ـدي.
لكنــه لــم يقــدر علــى ذلــك؛ فقــد ليحركــهّ ،
الضابــط مــن العجــوز ّ اقتــرب ّ
تباعــدت األرض بــه ،وغــارت بالعجــوز فــي باطــن طبقاتهــاّ ،
وغيبتــه عــن
العيــون.
57
حدث ذات جدار
()8
طائر الفينيق حقيقة ال أسطورة
ّ
يحلقــان نحــو عنــان ّ ً
الســماء، منــذ صغــره يحلــم بــأن يكــون طائــرا بجناحيــن
ّ ّ ً
ـارا يجــوب العالــم ّ ً
زجاجيــة بطيــارة عندمــا كبــر قليــا بــات يحلــم بــأن يصبــح طيـ
كســروا لــه عظــام يديــه فــي المعتقــل ّ
الصهيون ـيّ كــي ال ّنفاثــة ،ولكــن عندمــا ّ
يحمــل مــن جديــد العلــم الفلســطينيّ فــي المظاهــرات ضـ ّـد الجــدار العــازل،
قــرر أن يصبــح طائــر فينيــق فــي ّالنــار ،وال يحتــرق، وغــدا عاجــز اليديــن ّ
الســماء ،وال يغادرهــا ،ضـ ّـم يديــه العاجزتيــن بضعــف علــى العلــم يطيــر فــي ّ
ّ
الفلســطينيّ بعــد أن وقــف علــى أعلــى مطــل جبلـيّ فــي مدينتــه ،وفــرد كتفيــه،
وحلــق دون أن يهبــط مــن جديــد علــى األرضّ ، ّ
وخيــم العلــم الفلســطينيّ وطــار،
ّ
علــى األفــق ،وغــاب الجــدار العــازل فــي ظلــه!
()9
المجانين ّ
ضد الجنون
ّ
« ال يفهــم المجانيــن إال المجانيــن مثلهــم» .هــذه هــي جملتــه الوحيــدة التــي
ـحرية علــى اجتيــاز الجــدار العــازل دون عبــور ّبوابتــه. السـ ّيفســر بهــا قدرتــه ّ
ّ
هــو مــن مجانيــن القريــة العتيقيــن الذيــن غــدوا مــن آثارهــا ومعالمهــا وأوابدها،
يعدونــه مــن ولكنهــم جميعـ ًـا فــي قريتــه ّ
ال أحــد يعــرف متــى بــدأ جنونــه أو لـ َـم؟ ّ
ِ
ّ ّ ّ ّ ً ّ
ـآت.
عقــاء المجانيــن إن جــاز التعبير؛فهــو ال ينطــق إال حقــا ،وال يتنبــأ إال بـ ٍ
ً عندمــا ُبنــي الجــدار العــازل أمطــره بوابــل مــن ّ
الســخرية ،وقــال مواســيا
الجميــع»:ال تخافــوا ،هــذا الجــدار ليــس أكثــر مــن جنــون ،وال أحــد يخشــى
58
قریب ـاً من الجدار
ّ ً
مجنونــا ،بــل ّإن المجانيــن عينهــم ضـ ّـد الجنــون» ،ومنــذ الوقــت تغلــب علــى
ً ّ
ـحر ال يعرفــه أحــد ،وظــل حـ ّـرا خــارج نطــاق ســلطة الجــدار،
الجــدار بســلطة سـ ٍ
ً
يخترقــه متــى شــاء ،ويعــود إلــى القريــة عبــره متــى شــاء حامــا الحلــوى
ّ
والســمك الطــازج مــن ســواحل عــكا ويافــا وغـ ّـزة.ّ
()10
الموت يساوي بين األشياء
ّ
حيــاة اإلنســان هــي األثمــن فــي هــذا العالــم ،هــذا مــا تعلمــه مــن أبويــه ومــن
ليخمــن ّأن رحلــة ّ ـري ،ومــا كان ّ الطــب البشـ ّ ّ ّ
ميدانيــة واحــدة مدرســيه فــي كليــة
ّ ّ ّ ّ
خــارج كليتــه ســوف تعلمــه مــا ينســف بــه مــا تعلمــه كلــه طــوال حياته؛كانــت
ّ
صهيونيــة فــي إحــدى ّ
عســكرية ّالرحلــة هــي مرافقــة ّ
ميدانيــة مــع طواقــم
جوالتهــا فــي أراضــي الفلســطينيين خلــف الجــدار العــازل ،يومهــا وقــع جريــح
فلســطينيّ فــي أيــدي الجنــود بعــد مواجهــات داميــة فــي باحــة أحــد المســاجد
ّ قــدم لــه اإلســعافات ّ يتوقــع أن ُت ّ ّ
اإلنســانية األوليــة مــن قبيــل القديمــة ،كان
ولكنــه فوجــئ بأســتاذه الجامعــيّ فــي وليــة لمعاملــة األســرىّ ، واألعــراف ّالد ّ
ّ ً مــادة ّالتشــريح ّ
رعــدي مــن يقــد جــزءا مــن بطنــه بمشــرطه وســط صــراخ
الجريــح ،فــي حيــن تذهــب اســتغاثاته المحزنــة أدراج ّالر يــح دون مجيــب ،ثــم
ً ّ ً
حيــا علــى تشــريح إنســان ح ـيّ ال علــى جثــة قديمــة يشــرع يعطيهــم درســا
تقيــأ مبادئــه جميعهــا علــى أرض المــوت ،وأيقــن ّأن الغايــة ّ
متعفنــة ،يومهــا ّ
ً
هــي األثمــن فــي هــذا الكــون! وإخالصــا لمبدئــه الجديــد الوليــد فقــد شــرع
ً ّ
يقتــل كل جريــح صهيونـيّ يقــع بيــن يديــه عندمــا ُع ّيــن طبيبــا فــي المستشــفى
59
حدث ذات جدار
ً
ـكري ،ليبيــع أعضــاءه سـ ّـرا لمــن يدفــع لــه المــال الوفيــر ،فــا قيمــة عنــده
العسـ ّ
ّ
للحيــاة ،والمــال هــو الغايــة الكبــرى فــي هــذه الحياة.هــذا مــا تعلمــه فــي رحلتــه
ّ
الميدانيــة الوحيــدة إلــى الجــدار العــازل.
()11
ّ
ثورة العصافير خارج التاريخ
الخاصــة ّ
المهمــة ،فهــم يجهلــون تاريخ ّ ّ
ألن البشــر ّ
يؤرخــون األعــوام بأحداثهــم
العصافيــر الــذي يقــول »:كانــت العصافيــر تعيــش بأمــن فــي غابــات وحقــول
الصهيون ـيّ ،وقطــع األشــجار ،وجـ ّـرف ـدو ّوســهول فلســطين ،إلــى أن جــاء العـ ّ
ً ّ ً ً
األراضــي ،وبنــى جــدارا عــازال بيــن البشــر ،ال تعــرف الطيــور ســببا لوجــوده ،وال
ّ ً
حقــا لــه ليحرمهــا مــن أعشاشــها وأوطانهــا.
ولمــا طــال بهــا االنتظــار ، ـردون ّ
حقهــا عليهــاّ ، قيــل لهــا ّإن البشــر ســوف يـ ّ
ً
شـ ّـنت حربــا شــعواء علــى الجــدار ،وبضربــة واحــدة مــن صدورهــا المجتمعــة
قــوة ضاربــة واحــدة ّدكــت الجــدار علــى الغاشــمين ّ
الصهاينــة، فــي ُجمــع ّ
ـتردت أرضهــا ،وبنــت أعشاشــها مــن جديــد علــى األشــجار ّالناميــة علــى واسـ ّ
ّ
رفــات األشــجار المقطوعــة ،وكتبــت لهــا تاريــخ نصــر تحتفــي فيــه فــي كل عــام.
()12
ّ
على الجدار أن يرحل في النهاية
ً ً
حـ ّـدق الجــدار العــازل فــي حياتــه المعيشــة ،فوجــد نفســه جــدارا كريهــا ،مــن
ّ
فكــر ثــم قـ ّـرر ثــم ّدبــر ،وفــي ّ ّ
الصبــاح باطنــه المظلــوم ،ومــن ظاهــره الظالــم،
60
قریب ـاً من الجدار
اســتيقظ الفلســطينيون ّ
والصهاينــة فلــم يجــدوا الجــدار ،فقــد رحــل دون عــودة
ً ّ ً
رافضــا أن يظــل شــريكا فــي هــذه الجريمــة ّالنكــراء.
61
حدث ذات جدار
ً
بعيدا عن الجدار
حدث ذات جدار
64
بعیــدا ً من الجدار
كان أبيــض فــي يــوم قــد ُنســي متــى كان هــي ّأمــه التــي ولدتــه ،وحملتــه تســعة
ّ ً أشــهر فــي أحشــائها قبــل أن يســرقه ّ
العــدو ّ
صبيــا الصهيونــيّ مــن حضنهــا
ـرا ،ويـ ّـزج بــه فــي غياهــب المعتقــات بتهمــة ّ ً
الشــروع فــي قتــل مســتدمر صغيـ
اســتولى علــى ّبياراتــه ،وشــرع يخلــع أشــجارها الواحــدة تلــو األخــرى بذنــب ّأن
زارعهــا فلســطينيّ!
ً ّ
ـرية فانيــة أن ّأمــه ،وأرى أن ّأمــا أسـ ّ ّ
ـن علــى أي امــرأة بشـ ّ ـت أضـ ّ كنـ ُ
ـطورية هــي
ـمعت الكثيــر مــن القصــص عــن مــن تليــق به؛فهــذا البطــل الغائــب الــذي سـ ُ
ّ ً
شــجاعته ال تليــق بــه إال ّأمــا بعظمــة ّالزبــاء أو ّأم ســيف بــن ذي يــزن أو أليســار
الحاجــة وطفــة المقتضبــة فــي نحــو خمســين كيلــو غــرام أو شــجرة الـ ّـدرّ ،أمــا ّ
ًّ ً
ـطوريا مثــل وفــي مئــات خطــوط الكبــر فــي وجههــا ّأنــى لهــا أن تلــد كائنــا أسـ
هاشــم؟!
ً ً
يــوم قيــل لنــا ّإن هاشــما قــد خــرج أخيــرا مــن المعتقــل شــعرت بحــزن أنانـيّ
عميــق ،فبعــد أن يخــرج مــن المعتقــل مــن ســيكون بطل ـيّ العائل ـيّ المأســور
الصديقــات والمعارف؛وعندمــا قيــل لنــا ّإنــه قــد وصــل الــذي أفاخــر بــه ّ
ً ً ّ ً
عائليــا حاشــدا فــي ديوانهــا إلــى األردن ،وســوف تقيــم لــه العائلــة اســتقباال
شــدة االنفعــال ثــم أصابنــي صــداع نصفــيّ أتقيــأ مــن ّ كــدت ُّ االجتماعــيّ
تورطــت فــي لعبــة االنتظــار مجهولــة األســباب. لســاعات طويلــة ،ثــم ّ
ٍ
ّ ّ
وكان الحفــل األســري الحاشــد بعــد أيــام قليلــة تواتــرت عليهــا أخبــار شــتى عن
ً
تفاصيــل عــودة هاشــم ،فعرفنــا ّأنــه عــاد وحيــدا عبــر معبــر الجســر إلــى األردن،
ـا عندمــا عرفنــا ّأن الحاجــة وطفــة ّ ً
الضريــرة عرفتــه مــن رائحتــه وانتحبنــا طويـ
قبــل أن يقــول ّأي كلمــة ،وخجلنــا مــن بخلنــا عليــه عندمــا عرفنــا ّأنــه اشــترى
65
حدث ذات جدار
بدنانيــره القليلــة التــي يملكهــا مــن حطــام ّالدنيــا متريــن مــن قمــاش الحبــر
ـب أخوتــه إن شاكســوها بقولها»:يــا ألمــه التــي لطالمــا ســمعها فــي طفولتــه تسـ ّ
أوالد الكلــب ،هــل اشــتريتم لــي ثــوب الحبــر كــي تزعجوننــي هكــذا؟! ّ
فخمــن
ً
ّأن غايــة مــا تحلــم ّأمــه بــه هــو أن تملــك ثــوب حبــر مطـ ّـرزا بالحريــر األحمــر
قصــرت دون أن يشــتري لهــا «طبــب» 2الحريــر ولكــن نقــوده ّ
ّ ّ
المونــس،1
المطلوبــة.
ً
مقيــداّ ، ً
يجــر بحبلــه نمــرا ّ ً ً ّ
كنــت أعتقــد أننــي ســأرى فارســا ّ
ذهبيــا ّ ُ
خمنــت
الضاربــة فــي األرض التــي ألفــت أن ّأن أرض ديــوان العائلــة ســتميد بخطواتــه ّ
تســخر مــن ثقــل األغــال الوقحــة التــي تنحــاز إلــى المعتــدي ضـ ّـد صاحــب
ً ّ
والحــق ،أغمضــت عينــي للحظــة كــي أفتحهمــا اســتعدادا لدخولــه األرض
ـدي العائــد الــذي بصحبــة رجــاالت العائلــة ،ثــم فتحتهمــا ،فلــم َأر الفــارس األسـ ّ
ـتوي قديـ ّـم بلحيــةمتكومـ ًـا فــي معطــف شـ ّ
ـا ّ ً تخيلتــهّ ،
وإنمــا رأيــت رجـ لطالمــا ّ
ً ً
ـزي مسـ ّـدل ،يســير بثقـ ٍـة مقصــودة تكابرعرجــا باديــا فــي قدمــه بيضــاء وشــعر عنـ ّ
كــد ُت أخــون يــدس يديــه فــي جيبــي معطفــهّ ، اليســرى ،ويحــرص علــى أن ّ
لحظــة اســتقباله ،وأهــرب مــن المــكان ،وطفقــت أنتظــر الفرصــة المناســبة
ـن صوتــه هــو مــن أخجلنــي مــن خيانتــي المزمعــة ،فوحــده للهــرب خارجـ ًـا ،ولكـ ّ
ً
صوتــه مــن جــاء علــى قــدر األمنيــة؛كان صوتــا فيــه أرث كامــل مــن الحكايــا
والشــهداء واألوجــاع والكفــاح الــذي ال يعــرف مهادنــة ،صوتــه والنضــال ّ ّ
والصرخــات واإلغفــاءات والت ّنهــدات ّ غابــة مــن ّالروائــح والكلمــات الوجــات ّ
ّ -1الحرير ّ
المونسّ :أي ّ
يتكون من درجتين من اللون ذاته.
-2طبب الحرير :كرات الحرير.
66
بعیــدا ً من الجدار
ً ّ ّ
واللمســات.من يســتطيع أن يهــرب مــن صــوت ابتلــع معتقــا بــكل مــا فيــه مــن
جنــود غواشــم وكالب عاديــة وأغــال وســياط وآالت تعذيــب؟! صوتــه مقبــرة
لألعــداء ،وترنيمــة للبدايــة ّ
والنهايــة.
ً ً ً ّ
تكلــم طويــا عــن تجربتــه فــي المعتقــل ،لــم يســتخدم كلمــة أنــا أبــدا ،دائمــا
ً
كان يقــول نحــن ،كلماتــه نقلتنــا إلــى المعتقــل ،هنــاك ّعرفنــا باألبطــال اســما
ً ً ً
اســما ،ووجهــا وجهــا ،وقصــة قصــةّ ،كنــا نســأله بفضــول وشــره ،فيجيبنــا عنهم
ً نكلمــه عــن هنــاّ ، ّ
فيحدثنــا عــن هنــاكّ ،كنــا جميعــا بإســهاب وتفصيــلّ ،كنــا
مــت علــى أن أكــون فــي أقــرب صم ُ
غائبــون ،وهــو وحــده الحاضر.يومهــا ّ
المتخيلــة فــيّ السـ ّ
ـماوي ،ودفنــت صورتــه الصــوت ّمســافة مــن هــذا ّالرجــل ذي ّ
الصــور الباذخــة ّالت ّمنــي ،وأمامــي أبعــد نقطــة خــارج ذاكرتي؛فمــا حاجتــي إلــى ّ
الصــدق؟! الحقيقــة وافــرة ّ
لــم أكــن الوحيــدة التــي أرادت أن تكــون فــي أقــرب مســافاتها مــن هاشــم،
فهنــاك الكثيــر مــن أفــراد العائلــة الذيــن أرادوا أن يقتربــوا مــن هــذا ّالرجــل
ّ ّ المثقــل ّ
الفطريــة فــي البــوح اآلســر المؤثــر، بالصمــت علــى ّالرغــم مــن موهبتــه
ّ ً ولكننــي كنـ ُ
ـت األكثــر حظــا فــي الحصــول علــى ّالنصيــب األكبــر في االســتماع ّ
ـعبية التــيالشـ ّ العائليــة والمحافــل ّ
ّ إليــه ،وفــي مرافقتــه فــي كثيــر مــن ّالدعــوات
الشــعبيّ ،وتســتعرض اســتضافته بفضــول مجلــوب مفتعــل لتزيــد مــن رصيدهــا ّ
ً
قائمــة جمهورهــا غيــر العريــض فــي غالــب األحيــان ،ثــم نســيته تمامــا بعــد أن
حققــت هدفهــا اإلعالم ـيّ منــه. ّ
ً ـرا خــا لــي وجــه هاشــم ووقتــه واهتمامــهّ ، ً
ولكنــه عندهــا كان وجهــا وأخيـ
ً
كســيفا فيــه خرائــط حــزن بائــد ال تضاريــس جبــال شـ ّـماء كمــا هــي نفســه األ ّبية
67
حدث ذات جدار
ً
بحســه المرهــف ّأن ـريعا ّ الصهــر أو االســتالب ،قـ ّـدر سـ
العصيــة علــى الكســر أو ّ ّ
ّ الجمــع قــد انفـ ّ
ـض مــن حولــه ،وخلــوا بينــه وبيــن أحزانــه ،ليجــرع منهــا مــا
شــاء ،فقــد ِنفـ َـد نصيبــه مــن االهتمــام المجتلــب المصنــوع ،أحــد لــم يســأله
عــن حاضــره أو مســتقبله ،قليــل مــن عرفــوا عــن وحدتــه وخــواء جيبــه مــن
ّأي قــرش ،وشــخصان أو ثالثــة هــم مــن ســألوه عــن سـ ّـر بوصلتــه ّالنحاسـ ّـية أو
أظافــره المنزوعــة مــن أصابعــه.
ّ ّ ّ ّ
خبث
ـارس أســطوري تفكر فــي ٍ أمــا أنــا فتحولــت أقــداري مــن امــرأة حالمــة بفـ ٍ
بــأن تحصــل مــن هاشــم علــى مــادة شـ ّـيقة لتقريــر صحفـيّ يصلــح ألن ينشــر فــي
يوميــة مشــهورة إلــى صديقــة مخلصــة تحــرص علــى عامــود بــارز فــي صحيفــة ّ
أن تســتمع باهتمــام موصــول لبطــل حقيق ـيّ قـ ّـرر الجميــع فــي خضـ ّـم صخــب
حيواتهــم أن يســرقوا فمــه منــه ،ليعتقلــوه مــن جديــد فــي صمــت خبيــث.
ّ
حكايــا هاشــم كانــت بوصلــة ال تشــير إال إلــى الوطــن فلســطين وإلــى العــودة،
ّ ُ
درب واحــد ،وهــو درب العــودة إلــى بيــت ّنتيــف، ٍ ـىـ إل ـود ـ تق ـا
ـ ه كل كانــت طرقــه
حريصــا فــي ّكل مــكان يذهــب إليــه علــى أن ّ ً
يمــد أصابعــه العاريــة مــن كان
األظافــر إلــى جيبــه ليخــرج بوصلتــه ّالنحاسـ ّـية القديمــة ،ويفتحهــا ليرقــب إبــرة
المؤشــر تشــير إلــى ّاتجــاه فلســطينّ ، ّ
وكأنــه فــي مســير مســتعجل نحــو العــودة،
ً
كان يقــول لــي دائمــا ّإنــه عائــد فــي القريــب إلــى قريتــه ،وهنــاك ســيعيش فــي
2
ـيتزوج مــن بنــات عائلــة أبــو حــاوة (التحتــى) ، 1وسـ ّ بيــت العائلــة فــي الحــارة ّ
ً ّ
ـن األشـ ّـد جمــاال وخصوبــة فــي نســاء القريــة ،وســيعيش وأوالده العشــرة ؛ألنهـ ّ
68
بعیــدا ً من الجدار
69
حدث ذات جدار
1 ُخ ّر ّ
افية أبو عرب
ووقعــوا» ،2يتعالــى صوتــه الموتــور بالحشــرجة ّ ّ
والزبد « باعوهــا بعلبــة ســردين
ّ ّ ّ ّ
والضحــكات المتدفقــة بتواتــر متقطــع محقــون ،وهــو يعيــد هــذه الجملــة كلمــا
ّ ً
أراد أن يبــدأ حديثــا ،أو أن ينهــي آخــر ،أو أن يعلــق علــى أمـ ٍـر مــا ،أو أن ينتقــد
ً ً ً
موقفــا ّأيــا كان حتــى ولــو كان انتقــادا ألزمــة المــرور الخانقــة فــي وســط المدينــة
ً
القديمــة حيــث ُيعســكر منــذ ســنوات ،ثــم يطيــر بعيــدا بمالبســه المهلهلــة،
عاميــة مســتعملة بكثــرة فــي ّ
الســياق اليوم ـيّ عنــد قصــة ،وهــي كلمــة ّافيــة :تعنــي حكايــة أو ّ -1كلمــة ُ
«خ ّر ّ
الســن منهــم ،وهــي مشـ ّ
ـتقة مــن كلمــة خرافــة ،والفعــل منهــا» خـ ّـرف» ، الفلســطينيين الســيما عنــد كبــار ّ
ويعنــي حكــى وقــال ورى ونقــل.
ّ
الســردين المعلــب التــي كانــت ُتــوزع علــى الفلســطينيين علــى
الســردين إشــارة إلــى علــب ســمك ّ -2علــب ّ
ّ ّ ّ
شــكل معونــات دوليــة فــي خضــم نكباتهــم ومآســيهم وتشــريدهم المتكــرر خــارج وطنهــم علــى أيــدي الصهاينة.
70
بعیــدا ً من الجدار
ــتوي ّ
المرقــع الش ّ ــكري ّ
العس ّ الجيفاريــة الخضــراء ّالداكنــة ،ومعطفــه ّ ّ وقبعتــه
ًّ ّ ّ
الــذي ال يخلعــه حتــى فــي أشــد أيــام الصيف حــرا ،وتطيــر خلفــه جملتــه العتيدة
جدتــي في التــي ال تهتــرئ فــي فمــه علــى ّالرغــم مــن تكــراره لهــا ،وتطـ ّـل صــورة ّ
والص ّ
باحيــة إن ـائية ّ ذاكرتــي مــن ركــن عزيــز أثيــر ،وهــي تختــم حكاياهــا المسـ ّ
الطيــرّ ، ّ ّ
وتتمســوا بالخيــر» . ألححنــا عليهــا بســرد إحداهــا فــي الظهيــرة »:وطــار
نلــح عليهــا بــأن تــروي لنــا مــن جديــد قصــة مجنــون وســط وعندمــا ّ
ّ المدينــة القديمــة صاحــب الجملــة ّ
الشــهيرة» باعوهــا بعلبــة ســردين ووقعــوا»،
ً ً
تقــول لنــا وهــي تـ ّـزم شــفتيها احتجاجــا مهزومــا علــى إجبارهــا علــى تكــرار
ّ خر ّ
القصــة ذاتهــا لعشــرات المـ ّـراتّ »:ّ
افيــة أبــو عــرب كلهــا عجــب يــا أوالدي،
الشــباب فــي قريتنــا فــي فلســطين قبــل اســمه أبــو عــرب ،وكان – واللــه -زينــة ّ
ّالنكســة ،طــوال عمــره وهــو فدائــيّ ،يحمــل ســاحه ،ويهيــم فــي الجبــال،
ً
الصهيون ـيّ ،ولكــن أحــدا الصهاينــة ،كان رأســه مطلوبـ ًـا دائمـ ًـا للجيــش ّ ويقاتــل ّ
ً
لــم يســتطع يومــا أن يقبــض عليــه ،كان أســرع حركــة مــن البــرق ،ولكــن أوالد
ً ُ ّ
وعــذب طويــا فــي المعتقــل الحــرام مــن الخونــة وشــوا بــهُ ،فقبــض عليــه،
ّ ولكنــه بقــي علــى مواقفــه ّالث ّالصهيون ـيّّ ، ّ
وريــة بــكل ثبــات وإصــرار ،ورفــض
ّ
ـأي معلومــة قــد تكشــف عــن هويــة ّأي مــن إخوانــه الثــوار ،عندمــا أن ُيدلــي بـ ّ
الســجن ُنفـيَ إلــى هنــا ،كان يعتقــد ّبأنــه ســيجد ّالرحمــة بيــن أهلــه خــرج مــن ّ
ً ً ً
مــن العــرب ،وهــو مــن كان يسـ ّـمي نفســه بأبــي عــرب تبـ ّـركا وتفــاؤال وإيمانــا
ّ
بالعــرب أجمعيــن ،ولكــن منــذ اللحظــة األولــى التــي وطئــت قدمــه فيهــا هــذه
الســجن األرض ُأعتقــل مــن جديــد بتهمــة ّأنــه مناضــل فلســطينيّ ،لبــث فــي ّ
ً
العربــيّ طويــا دون أن يعــرف أحــد مصيــره ،حتــى نســيه ّالنــاس ،وعندمــا
71
حدث ذات جدار
72
بعیــدا ً من الجدار
73
حدث ذات جدار
جدتــي التــي ماتــت أعتقــد ّأن أبــا عــرب ســيموت بمــوت ُخ ّرافيــات ّ ُ ُ
كنــت
ّ ّ
بعــد أن صلــت العشــاء ذات مســاء ،ودلكــت قدميهــا بزيــت ّالز يتــون الفلســطينيّ
ولكنــه لــم يمــت، الشــتاء ذاتــه الــذي قضــى أبــو عــرب نحبــه فيــهّ ، الحــار فــي ّ
ـت إليــه ،ومــا أكثــر األماكــن التــي ذهبــت إليهــا، بــل وجدتــه فــي ّكل مــكان ذهبـ ُ
ّ ً
حيــا مــن رمــاده ومــا أجمــل ّأن أبــا عــرب كطائــر الفينيــق ،ال يمــوت ،بــل ُيبعــث
المـ ّـرة تلــو األخــرى.
المهجريــن فــي األردن وســوريا ولبنــان ّ مخيمــات الفلســطينيين هنــاك فــي ّ
ً ً
وفلســطين قابلتــه وجهــا لوجــه ألــف مـ ّـرة ومـ ّـرة ،أحيانــا كان يصادفنــي بفعــل
المهجريــن فــي تلــك األماكن إعالميـ ًـا أحــوال الفلســطينيين ّ ّ ّ
بحثــي عنــه ألغطــي
تخرجــت العالميــة التــي أعمــل فيهــا منــذ ّ ّ بحكــم وظيفتــي فــي وكالــة األخبــار
ً ّ ّ للمعلميــن فــي ّ ّ
اإلنجليزيــة ،وكثيــرا تخصــص اللغــة مــن معهــد وكالــة الغــوث
ـخصيةالشـ ّ الفضوليــة ّ
ّ وترصــد منــه فــي جوالتــي مــا كان يقابلنــي بســبق إصــرار ّ
ّالراجلــة وحــدي أو مــع أصدقــاء أو أقــارب أو زمــاء عمــل الســيما فــي زيارتــي
ومدخراتــي أجــور ســفر بيــن وكيــة التــي كانــت تســتنفذ ُجـ ّـل راتبــي ّ ّ
المك ّ ّالدوريــة
والتصاريــح واألختــام المحملــة باالنتظــار ّ
ّ ّ
الحدوديــة تلــك الـ ّـدول ذات ّالتخــوم
ً ً ّ
والتواقيــع خروجــا ودخــوال إليهــا.
ُ
مادمــت والغــرم واالنتظــار الجهــد ّكلــه ّ كنــت ألبالــي بذلــك ُ ولكننــي مــا ُ ّ
ّ
افيــة تؤكــدســأكون وجهـ ًـا لوجــه مــع أبــي عــرب ،وفــي ّكل مـ ّـرة كانــت لــه ُخ ّر ّ
ـري ،وهــو أن يكــون أبــا عــرب بحيواتــه ّالن ّ
ضاليــة ّأنــه ُخلــق لقــدر واحــد جبـ ّ
ولكننــي المتجـ ّـدد ،ونهاياتــه المشـ ّـرفة ،كان يجيــد أن يلعــب معــي لعبــة ّالت ّخفــيّ ،
وأميــزه مــن بيــن الجميــع ،فيضحــك مــلء شــدقيه ـت فــي ّكل مــرة أكشــفهّ ، كنـ ُ
74
بعیــدا ً من الجدار
ّ
كمــا لــم أره يضحــك فــي حياتــه األولــى قبــل أن يتحـ ّـول إلــى روح محلقــة فــي
ّ
الخلــود ،ويقــول »:باعوهــا بعلبــة ســردين ووقعــوا» ،ثــم يختفــي حتــى يظهــر
فــي القريــب العاجــل مــن جديــد.
والنســاء واألطفــال؛ ّ جيشــا مــن ّالرجــال ّ ً
تخفــى فــي أبــو عــرب غــدا
ـن اإلبــاء ،فوجدتــهّ ، ّ
أرحــام الفلســطينيات اللواتــي يرضعــن أوالدهـ ّ
تخفــى فــي
لكننــي كشــفته ،نــام فــي مهــود حجــارة األرض التــي تصــرخ يــا فلســطينيّّ ،
ـتـت أســمع ترانيــم األمهــات ،كنـ ُ األطفــال الفلســطينيين فرأيتــه ،وعندمــا كنـ ُ
أســمع صــوت قهقهــات أبــي عرب.مـ ّـرة كان الحاجــة محفوظــة شــتية أم غالــب
للجرافــة ّ ّ
تتخلــى عنهــا ّ
الص ّ
هيونيــة التــي حضنــت شــجرة ّالز يتــون ،ورفضــت أن
لتقتلعهــا ،وتقذفهــا بعيــدة قتيلــة كمــا فعلــوا بابنهــا منــذ أيــام ،وقفــت وقالــت
ً الص ّ آللــة ّالدمــار ّ
هيونيــة أمــام أنظــار العالــم وحيــدة عجــوزا صامــدة »:ال»
تقمصتهــا. فعرفــت عندهــا ّأن روح أبــي عــرب قــد ّ
هيونيــة بجريمــة ّأنهمالص ّالعمــال الفلســطينيون علــى الحواجــز ّ وعندمــا ُأغتيــل ّ
ً
يســعون فــي مناكــب وطنهــم بحثــا عــن لقمــة عيــش كريمــة لهــم وألهاليهــم
بالشــهادة ،لــم يعــرف ّ مزهــو ّ
ّ ً
الصهاينــة لمــن كان لهــم جميعــا وجــه ضاحــك
ـت أعــرف ّأنــه ولكننــي كنـ ُ
يكــون هــذا الوجــه المتكـ ّـرر فــي الجماجــم جميعهــاّ ،
وجــه أبــي عــرب.
تصميمــي علــى أن أكــون فــي أقــرب نقاطــي مــن أبــي عــرب جعلنــي أحظــى
وهيــأ لــي العمــل فــي ـتثنائيةّ ،
والنــدرة واالسـ ّ األهميــة ّ
ّ ّ
إعالميــة بالغــة بعــروض
وعالميــة وتغطيــة ،وغــدا لــي برنامــج ّ ّ
اإلخباريــة شــهرة أكثــر وكاالت اإلعــام
ّ ّ أســبوعيّ جماهيـ ّ
ـري اســتقطابيّ واســتفزازي لــكل مــن ال يملــك أن يكــون أبــا
75
حدث ذات جدار
76
بعیــدا ً من الجدار
الشــاب الفلســطينيّ الوســيم الــذي يزخــر تحــزن و كــي تفخــر بــه ،وهــو عندهــا ّ
والصحــة محمــد فرحــات. بالحيــاة والعافيــة ّ
ّ
أضنانــي أبــو عــرب وأنــا أجــده فــي كل مــكان ،كان هنــاك فــي المقابــر يشـ ّـيع
ويلقنهــم إجاباتهــم لمالئكــة الحســاب ،وهــو مــن كان يضــرب طبــول الشــهداءّ ، ّ
الســحور فــي رمضــان ،وكان آخــر مــن يغــادر حقــول الحصــاد فــي موســم الجني، ّ
ّ ـت ّ وعلــى الجــدران كنـ ُ
أميــز خطــه المســهود المزهــو بعبــارة »:فلســطين حـ ّـرة
الصفــوف األولــى لصــاة الفجــر كان ّيتخــذ مكانــه ،وهــو مــن كان عربيــة» ،وفــي ّ
ّ
ّ
يقــرع نواقيــس الكنــاس فــي القــدس القديمــة ،وهــو مــن كان يــؤذن فــي آذان
المواليــد الجــدد ،وبفمــه كان يلــوك لهــم لقــم تمرهــم األولــى.
ً
حاولــت كثيــرا أن أحضــن أبــا عــرب ،ولــو لمـ ّـرة واحــدة فــي حياتــي ،ألقــول
أحبك ـت أريــد أن أقــول لــه »:أنــا ّ لــه مــا لــم أســتطع أن أقولــه لــه وأنــا صغيــر ،كنـ ُ
ّ ـرا يــا أبــا عــرب»ّ ، ً
ولكنــه فــي كل مــرة كان يهــرب منــي إلــى قــدره الــذي كثيـ
ً ً يجبــره علــى أن يكــون ّ
ســواحا فــي ســائر أرجــاء األرض ،وأن أكــون مطــاردا
ـكونا؛وفي هــذه المطــاردة اكتشـ ُ ً
ـفت عاداتــه الكثيــرة، لــه ال يعــرف هــدأة أو سـ
المتنوعــة ،وحيواتــه المتعـ ّـددة،
وطبائعــه المختلفــة ،وملكاتــه المتعـ ّـددة ،ولغاتــه ّ
ً ـودا فــي ّكل قلــب يؤمــن بعدالــة القضيــة الفلسـ ّ ً
ـطي ّنية أيــا كان ،وأينمــا كان موجـ
كان ،ومتــى كان.
ً ً ّ وفرحـ ُ
ـت إذ علمــت أن أبــا عــرب لــم يعــش وحيــدا ،ولــم يمــت فــردا أبتـ َـر كمــا
افيتــه ،بــل كان هنــاك عشــرات خر ّجدتــي فــي ّ حدثتنــي ّ ـت أعتقــد ،وكمــا ّ كنـ ُ
ً ّ
ـماؤهن جميعــا أم عــرب ،كذلــك ّ ّ
تزوجهــن ،وأسـ األلــوف مــن ّالنســاء اللواتــي
عنــده جيــش مــن البنــات والبنيــن الــذي يحملــون اســم عــرب ،ويحملــون
77
حدث ذات جدار
ّ
ـت أحـ ّـدق فــي الوجوه مضللــة كــي ال ُيفتضــح أمرهــم ،ولذلــك قمـ ُ أســماء ّ
وهميــة
ً ّ ّ
الصغيــرة فــي كل مــكان ،وأتســاءل ّأيهــم قــد يكــون ابــن أبــي عــرب؟ وحــا
الســؤال المجنــون الــذي ال يــدرك عقــل الحقيقــة تعاملــت مــع األطفــال لهــذا ّ
ّ خر ّجميعهــم علــى اعتبــار ّأنهــم أبنــاء أبــي عــرب ،ولــم أنفــك أحكــي ّ
افيتــه لــكل
طفــل ألقــاه لكــي يعــرف فــي يــوم مــن األيــام مــن تــراه يكــون ،وأخالـ ُـه ســيفعل.
ّ
ـجل ُخ ّر ّ
افيــات أبــي عــرب جميعهــا فــي كتــاب كان مشــروعي القــادم هــو أن أسـ
المهمــة قصصـيّ جامــع لألطفــال كــي يقــرأوا مــا عليهــم أن يكونــوا ،ولكــن تلــك ّ
اإلعالميــة العاجلــة فــي قطــاع غـ ّـزة جعلتنــي أتــرك ورقــي وأقالمــي ودواتــي ّ
علــى طاولــة مكتبــي ،وأطيــر إلــى هنــاك أســرع مــن نعامــة كــي أنقــل للعالــم
هيونيــة فــي حــق أبــي عــرب ،أعنــي فــي حــق الفلســطينيين العـ ّـزل، الص ّ جرائــم ّ
صممــت علــى مهمتــي أن أصـ ّـور مــا يحــدث بشــكل ميدانـيّّ ،
ولكننــي ّ لــم تكــن ّ
ّ ذلــك لتكــون عدســة آلــة تصويــري ّ
حجتــي عليهــم أمــام اللــه وأمــام العالــم كلــه،
ُ بعدســتي أخــذت آالف ّ
الصــور ألبــي عــرب ،ذبــح فــي يــوم واحــد آالف المــرات،
ّ
ورقــد على أسـ ّـرة المــرض جميعهــا بالعلل كلهــا والجــراح والحروق ،واســتصرخ
الصــدىّ ،
ولكنــه علــى ّالرغــم الصــدى ،والشــيء غيــر ّ العالــم ،فــكاد جوابهــم لــه ّ
ّ ً ّ ً ّ
المدفعيــة حيــا مـ ّـرة تلــو األخــرى ،وأخيــرا كانــت القذائــف مــن ذلــك ظــل ُيبعــث
ً ّ
التــي كانــت تســتهدف قدمــي اللتيــن قفزتــا بعيــدا عنــي شــهيدتين علــى األرض،
ّ
ووحدهــا آلــة تصويــري مــن بقيــت مخلصــة لــي فــي هــذه اللحظــة الغــادرة ،فــي
ً
البعيــد رأيــت أبــا عــرب يكـ ّـر ويفـ ّـر ،وقريبــا منــي كانــت قدمــاي ونزيــف دم
ضخــم ،وألــم خــارق ممـ ّـزق ال يخجــل مــن أن يتحالــف مــع قذائــف غاشــمة
ً ً
ضـ ّـدي ،وســيرا علــى أهـ ّـم عــادات أبــي عــرب الملغــزة الخالــدة ابتســمت هازئــا
78
بعیــدا ً من الجدار
ّ
مــن ألمــي الطاغــي ،وتســاءلت مــاذا تــراه يفعــل ابنــي عــرب اآلن؟ لقــد جــاء
إلــى ّالدنيــا قبــل أيــام قليلــة ،وســمعته ينطــق فــي المهــد ،ويقــول »:اصمــد يــا
ولكننــي ال أســتطيع أن أصمــد أكثــر ،فــي األفــق كانــت ُتفتــح بوابــة أبتــاه»ّ ،
ّ
المهجريــن كأطــواق ّ ّالزمــنُ ،وتطــل منهــا جيــوش العائديــن مــن الفلســطينيين
نديــة ،وأجــداث األرض ُتفتــح ليخــرج أمواتهــا الفلســطينيون عائديــن زنابــق ّ
جدتــي عــن ــرمدية فــي وطنهــم ،فــي حيــن جلســت ّ ّ ليرقــدوا رقدتهــم ّ
الس
ّ
يمينــي تــروي لــي ُخ ّرافيــة أبــي عــرب التــي أعشــقها لعلهــا تلهينــي عــن ألمــي
ّ
المتضخــم كمــا كانــت ُتلهينــي عــن جوعــي ومرضــي فــي صغــري ،ومــن شــمالي
صهيونيــة أخــرى تقصدنــي ،بــل تقصــد أبــا عــرب ،وكانّ ـخصت أرقــب قذيفــةشـ ُ
اســمي واســمه عندئــذ عمــاد غانــم مصـ ّـور قنــاة األقصــى الفلسـ ّ
ـطينية ،1وعـ ّـم
ّ ً
ـرا ّ الصمــت ،وغابــت ّ ّ
الســكون األزل ـيّ اللذيــذ. الصــور جميعهــا ،وغشــينا أخيـ
*****
ّ
القصصية انتهت المجموعة
ُك ْ
تبت في ّ
الشتات وأنا مع ّأمي الحبيبة نعيمة المشايخ
79
حدث ذات جدار
80
حدث ذات جدار
ّ
والفكريــة. والعالميــة ّالث ّ
قافيــة ّ شــريكة فــي الكثيــر مــن المشــاريع ّ
العربيــة
ّ
ُ ترجمــت أعمالهــا إلــى الكثيــر مــن اللغــات ،ونالــت الكثيــر مــن ّالتكريمــات
ّ
والحقوقيــة. ّ
والمجتمعيــة ّ
الثقافيــة الفخريــة ّ
والتمثيــات ّ والـ ّـدروع واأللقــاب
ّ
والبحثيــة ورســائل مشــروعها اإلبداعـيّ حقــل للكثيــر مــن ّالدراســات ّالن ّ
قديــة
ّالدكتــوراه والماجســتير فــي األردن والوطــن العربـيّ والعالــم.
-2روايات الفتيان:
-1أصدقاء ديمة.
ّ
القصصية: -3المجموعات
-1قافلة العطش.
-2تراتيل الماء.
-3الجدار ّالزجاجيّ.
-4حدث ذات جدار.
-5الذي سرق نجمة.
81
حدث ذات جدار
-6تقاسيم الفلسطينيّ.
-7عام ّالنمل.
-8رسالة إلى اإلله.
-9أرض الحكايا.
-10مقامات االحتراق.
-11ناسك الصومعة.
-12قافلة العطش.
-13الكابوس.
-14الهروب إلى آخر ّالدنيا.
ّ
-15مذكرات رضيعة.
-16أكاذيب ّالنساء.
ّ
القصصية الكاملة ،جزء1 -17األعمال
ّ
القصصية الكاملة ،جزء2 -18األعمال
القصصية الكاملة ،جزء3ّ -19األعمال
ّ
قصصية مشتركة مع أدباء عرب وعالميين: -4مجموعات
ّ
«القصــة فــي قصصيــة مشــتركة مــع ّ
قاصيــن أردنييــن بعنــوان ّ -1مجموعــة
األردن :نصــوص ودراســات».
ّ قصصيــة مشــتركة مــع ّ
قاصيــن عــرب بعنــوان «الضيــاع فــي عينــي ّ -2مجموعــة
رجــل الجبــل».
قاصين عرب بعنوان «في العشق». قصصية مشتركة مع ّ ّ -3مجموعة
82
حدث ذات جدار
ّ
مسرحيات للكبار: -5
ـرحية «صانعــة» المقتبســة عــن مسـ ّ
ـرحية (البيــت -1إعــداد وســنيوغرافيا لمسـ ّ
ّ
لألمريكيــة ســارة رول. ّالنظيــف)
ّ
-2دعوة على شرف اللون األحمر.
« -3سيلفي» مع البحر.
-4وجه واحد الثنين ماطرين.
-5محاكمة االسم (×).
السلطان ال ينام.ّ -6
سعدية ّأم الحظوظ. افية ّ ُ -7خ ّر ّ
ّ
مسرحيات للفتيان والفتيات: -6
-1اليوم يأتي العيد.
ّ
-2رحلة مع المعلمة فرحة.
-7قصص أطفال:
ّ ّ -1
قصة لألطفال بعنوان «زرياب :معلم الناس والمروءة».
83
حدث ذات جدار
قصة لألطفال بعنوان «هارون ّالرشيد :الخليفة العابد المجاهد». ّ -2
ّ
الفراهيــدي :أبــو العــروض قصــة لألطفــال بعنــوان «الخليــل بــن أحمــد ّ -3
والنحــو العربــيّ». ّ
الس ّنة».
قصة لألطفال بعنوان «ابن تيمية :شيخ اإلسالم ومحيي ّ ّ -4
ّ ّ ّ -5
المتصدق». قصة لألطفال بعنوان «الليث بن سعد :اإلمام
قصــة لألطفــال بعنــوان «العـ ِّـز بــن عبــد ّ
الســام :ســلطان العلمــاء وبائــع ّ -6
الملــوك».
«عباس بن فرناس :حكيم األندلس». قصة لألطفال بعنوان ّ ّ -7
ّ
قصة لألطفال بعنوان «زرياب :معلم ّالناس والمروءة». ّ -8
ّ ّ -9
قصة لألطفال بعنوان «صاحب القلب الذهبيّ».
ّ
-10مئــات القصــص المصــورة لألطفــال المبثوثــة والمنشــورة فــي مجــات
ّ
والعربيــة. ّ
المحليــة األطفــال
والنصوص ّالن ّ
ثرية: -8المقاالت ّ
سيد الكلمات. -1أبي ّ
-2الذين ال ينامون.
-3قالت ّالنساء.
-4غصون وتخوم.
ّ -5الدرب إليهم.
-6األعمال ّالن ّ
ثرية الكاملة.
84
حدث ذات جدار
ّ
حوارية: – 9لقاءات
-1الهدهــد والخاتــم :لقــاءات مــع مبدعيــن عراقييــن ،سلســلة حــوارات ّ
إبداعيــة
ّ
وفكرية ()1
ّ
إبداعيــة ّ -2
العرافــة والجبــل :لقــاءات مــع مبدعيــن عــرب ،سلســلة حــوارات
ّ
وفكريــة ()2
ّ
إبداعية ّ
حواريــة :لقــاءات مــع مبدعيــن عالمييــن ،سلســلة حــوارات -3لقــاءات
ّ
وفكرية ()3
ّ
متخصصة: - 10كتب ّ
نقدية
-1األسطورة في روايات نجيب محفوظ.
الســرد الغرائبـيّ والعجائبـيّ فــي ّالروايــة ّ
والقصــة القصيــرة فــي األردن-1970 ّ -2
2002م
-3دور جاللــة الملــك فــي مكافحــة اإلرهــاب :تفجيــرات عمــان فــي قصــص
ّ
المؤلــف وائــل الفاعـ ّ ّ
ـوري. بالشــراكة مــع
ّ -4الدواني والغواني :غصون في األدب المعاصر ونقده.
نقدية في األدب المعاصر.السراب وأهزوجة ّالنور :دراسات ّ ّ -5
نقدية في إبداعات معاصرة. الصدى :دراسات ّ الصوت وثورة ّ ترنم ّّ -6
So Close, Much Farther: Studies in Criticism -7
85
حدث ذات جدار
86
حدث ذات جدار
ّ
األردنيــة ســناء شــعالن» -8المشــاركة بفصــل بعنــوان «شــهادة ّ
إبداعيــة لألديبــة
نقديــة عــن األدب الكـ ّ
ـردي». فــي كتــاب «دراســات ّ
ّ
المنهجية: -12الكتب
ّ ّ ّ
العربيــة للناطقيــن بغيرهــا :المســتوى -1كتــاب بعنــوان «تعليــم اللغــة
ّ
الخامــس» ،كتــاب مشــترك مــع مجموعــة مــن المؤلفيــن األكاديمييــن.
87