You are on page 1of 23

2

‫الم‬
‫ال ِّع ُّز ب ُن عب ِد ال ّ�س ِ‬
‫الملوك)‬
‫ِ‬ ‫وبائع‬
‫(�سلطا ُن العلما ِء ُ‬

‫فقر و�أحال ٌم‬


‫ٌ‬
‫القا�سم بن‬
‫ِ‬ ‫الم بن �أبي‬
‫ال�س ِ‬
‫عبد ّ‬ ‫بن ِ‬ ‫الحرمان والب� َؤ�س وال�شّ قا َء ُو َِلد عب ُد العزيزِ ُ‬ ‫َ‬ ‫يعرف �إ ّال‬
‫بيت فقيرٍ لم ْ‬ ‫في ٍ‬
‫المغربي‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫محمد) عزِّ ال ّدين‪،‬‬ ‫أبي‬
‫محمد (الم�س ّمى ب� ّ‬ ‫ٍ‬ ‫م�شقي‪ ،‬المكنّى ب�أبي‬ ‫محمد بن المهذ ِّب ال ّد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الح�سن بن‬‫ِ‬
‫يجوب الأ�سواقَ بحث ًا عن عملٍ‬
‫وكان ُ‬ ‫الم فقير ًا جد ًا‪َ ،‬‬ ‫ال�س ِ‬ ‫كان �أبوه عب ُد ّ‬ ‫وذلك في دم�شق عام ‪577‬هـ‪َ ،‬‬ ‫الأ�صلِ ‪َ ،‬‬
‫من المالِ ‪.‬‬ ‫مقابل النّز ِر (القليلِ ) َ‬ ‫ق ّلما (قلي ًال) يج ُد ُه َ‬
‫با�سم عزِّ ال ّد ِين ِومن‬ ‫أ�صبح �شاب ًا) عب ُد العزيزِ الذي ا�شته َر ِ‬ ‫و�شب (� َ‬ ‫َّ‬
‫ديد)‪،‬‬ ‫(ال�ش ِ‬‫احن ّ‬ ‫الط ِ‬ ‫(ظلمات) الفقرِ ّ‬ ‫ِ‬ ‫با�سم العزِّ في غياهبِ‬ ‫َّثم ِ‬
‫و�صحب �أب��و ُه؛ لي�ساع َد ُه في حملِ الأمتع ِة‪ ،‬ونقلِ الأ�شيا ِء ال ّثقيل ِة‪،‬‬ ‫َ‬
‫ال�صال ِة‬‫أوقات ّ‬ ‫ال�سوقِ ‪ ،‬في حين كانَ ي�صح ُب ُه في � ِ‬ ‫وتنظيف �أمام متاجرِ ّ‬ ‫ِ‬
‫(قابل �صدف ًة) الع ٌّز‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫�صدف‬ ‫َ‬
‫وهناك‬ ‫أم��وي؛ لي�صليا في ِه‪.‬‬ ‫الجام ِع ال ِّ‬ ‫�إلى ّ‬
‫عجب بالعزِّ ؛ لما‬ ‫الجام ِع‪ ،‬الذي �أُ َ‬ ‫�شيوخ (رجلِ ال ّد ِين عن َد الم�سلمين) ّ‬ ‫�أح َد ِ‬
‫ديد)‪ ،‬كما أُ� َ‬
‫عجب‬ ‫ال�ش ِ‬ ‫وعالمات) ال ّنجاب ِة (الذكا ِء ّ‬ ‫ِ‬ ‫يبدو علي ِه من مخايلِ (دالئل‬
‫يبارك َلهُ‪.‬‬
‫اهلل � ْأن َ‬ ‫احن‪ ،‬فدعا َ‬ ‫الط ِ‬ ‫غم من فقرِ ِه ّ‬ ‫بب�شا�ش ِت ِه (بابت�سام ِت ِه الدائم ِة) على ال ّر ِ‬
‫(مالمح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الق�سمات‬ ‫الو�سيم‪ ،‬جمي ُل‬ ‫ُ‬ ‫يقوم به الع ُّز الفتى‬‫ال�شاقِ الذي ُ‬ ‫بين العملِ ّ‬ ‫وما َ‬
‫كان ُ‬
‫يده�ش ُه‬ ‫أموي َ‬ ‫الجام ِع ال ِّ‬ ‫بانتظام في ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وال�صال ِة‬ ‫الج�سد (نحيفٌ )‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫الوج ِه)‪� ،‬ضئي ُل‬
‫ينعم ( َي ْ�سع ُد) به الأغنيا ُء‪،‬‬ ‫ديد) الذي ُ‬ ‫(ال�ش ِ‬
‫الفاح�ش ّ‬ ‫ِ‬ ‫بين الغنى‬‫التناق�ض َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ذلك‬

‫‪3‬‬
‫ذات الرائح ِة‬
‫ذات الحدائقِ الفيحا ِء (المت�سع ِة ِ‬
‫المر�صع ِة بالذّهبِ ‪ ،‬والجيا ِد الأ�صيل ِة‪ ،‬والق�صو ِر ِ‬
‫ّ‬ ‫وال�س ِ‬
‫يوف‬ ‫المالب�س الزّاهي ِة‪ّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫أ�صحاب‬
‫ُ‬ ‫�‬
‫ٍ‬
‫�شديد)‪:‬‬ ‫أ�سى (بحزنٍ‬ ‫ُ‬
‫يت�ساءل ب� ً‬ ‫وكان‬ ‫أكلون) الأَ�سى وال َ‬
‫أحالم‪َ ،‬‬ ‫فيقتاتون (ي� َ‬
‫َ‬ ‫الطيب ِة)‪ ،‬والفقر الذي ُيغرقُ الكثي َر من �أمثا ِل ِه في الحرمانِ ‪،‬‬
‫الحزين‪.‬‬
‫ِ‬ ‫العلم؟! فال يج ُد �إجاب ًة �شافي ًة (مقنع ًة) على �س�ؤال ِه ِّ‬
‫الملح (كثيرِ التكرارِ)‬ ‫ال�صبي ِة الفقرا ِء كي ُيحرموا من ِ‬ ‫ما ذن ُب ُه و�أمثا ُل ُه من ّ‬

‫‪4‬‬
‫(يعي�ش في ِه)‪ ،‬وال َيد‬ ‫ُ‬ ‫مكان ي�أويه‬ ‫نف�س ُه يتيم ًا‪ ،‬ال َ‬ ‫مات والد ُه على حينِ ِغ َّر ٍة (ب�شكلٍ مفاجئٍ )‪َ ،‬‬
‫فوجد َ‬ ‫وزا َد �شقا ُء (ب� ُؤ�س) العزِّ عندما َ‬
‫عند ُه الم�ساعد َة في الح�صولِ‬ ‫يلتم�س (يبحثُ ) َ‬ ‫(تم�سح) على ر� ِأ�س ِه‪ ،‬فلج�أَ �إلى ال�شّ ِيخ الذي دعا ل ُه في الما�ضي؛ ُ‬ ‫ُ‬ ‫حاني ًة (حنون ًة) ّ‬
‫تم�س ُد‬
‫ليقوم ب�أعمالِ النّظاف ِة‪،‬‬ ‫أموي؛ َ‬ ‫بالجام ِع ال ّ‬ ‫فتو�س َط َل ُه ال�شّ يخُ ‪ ،‬و�ألح َق ُه ّ‬
‫(ينام) في ِه‪ّ ،‬‬ ‫يبيت ُ‬ ‫من َدخ ِل ِه)‪ ،‬ومكان ُ‬ ‫(يعي�ش ْ‬‫ُ‬ ‫يقتات من ُه‬
‫ُ‬ ‫على عملٍ‬
‫أحد دهاليز (جم ُع دهليز‪ ،‬وهو المم ُّر‬ ‫ينام في � ِ‬ ‫مح له ب�أن َ‬ ‫و�س َ‬
‫الجام ِع‪ُ ،‬‬ ‫باب ّ‬ ‫وبحرا�س ِة نعالِ (�أحذي ِة) الم�ص ّلين الذين يتركو َن َها على ِ‬
‫خام البار ِد‪.‬‬ ‫الجام ِع على ال ّر ِ‬ ‫الباب والداخلِ ) ّ‬ ‫بين ِ‬ ‫الوا�صل َ‬‫ُ‬
‫ي�صرف ه َّم ُه‬‫ُ‬ ‫ال�شديد‪ ،‬وكثير ًا ما َ‬
‫كان‬ ‫ِ‬ ‫العلم على ال ّرغم من فقر ِه‬ ‫حلقات ُط ّال ِب ِ‬ ‫ِ‬ ‫باالن�ضمام �إلى‬
‫ِ‬ ‫حلم العزِّ ْلم يفارقهُ‪ ،‬وظ َّل ُ‬
‫يحلم‬ ‫ولكن َ‬‫َّ‬
‫ويلهب �أ�شوا َق ُه (ي� ّشو ُقهُ) �إلى دنيا �أخرى‪ ،‬ال يجو ُع فيها وال‬ ‫كالم ُهم خيا َلهُ‪ُ ،‬‬ ‫الحلقات‪ ،‬فيثي ُر َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ال�شيوخ في‬ ‫باهتمام) �إلى ما يقو ُل ُه‬ ‫ٍ‬ ‫(ي�ستم ُع‬
‫ت�شج َع‬ ‫ذات ِيد ِه (فقرِ ِه)‪� ،‬إلى �أن ّ‬ ‫الحلقات ف�ض ًال (�إ�ضاف ًة �إلى) عن �ضيقِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫االن�ضمام �إلى َ‬
‫تلك‬ ‫ِ‬ ‫وكان ثو ُب ُه ال ُمم ّزقُ هو ما يمن ُع ُه من‬ ‫يعرى‪َ .‬‬
‫أموي‪ ،‬فر�آه �شيخُ الحلق ِة‪ ،‬ونه َر ُه‬ ‫الجام ِع ال ّ‬ ‫العلم في ّ‬‫حلقات ِ‬ ‫ِ‬ ‫(دخل بهدو ٍء) �إلى �إحدى‬ ‫َ‬ ‫يوم ًا‪ ،‬وت َر َك مكا َن ُه في حرا�س ِة الأحذي ِة‪ ،‬وت�س ّل َل‬
‫باب‬ ‫(رك�ض م�سرع ًا) الع ُّز �إلى ِ‬ ‫َ‬ ‫علم‪ ،‬فجرى‬ ‫ينا�سب) بطالبِ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫يلب�س ثوب ًا ممزّق ًا ال يليقُ (ال‬ ‫(ز ََج َر ُه و�أغ�ض َبهُ)‪ ،‬ثم طر َد ُه من الحلق ِة؛ أل ّن ُه ُ‬
‫بن ع�ساكر‪ ،‬وهو‬ ‫إمام الفخ ُر ُ‬
‫الجام ِع‪ ،‬وهو ال ُ‬ ‫ف�صادف � ْأن ر آ� ُه ال�شّ يخُ الذي �ألح َق ُه بخدم ِة ّ‬ ‫َ‬ ‫الجام ِع‪ ،‬و�ش َر َع (بد َ�أ) يبكي بحرق ٍة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ك�سيف‬ ‫حزين القلبِ ‪َ ،‬‬ ‫افعي‪ ،‬و�س�أ َل ُه عما يبكي ِه‪ ،‬فروى َل ُه الع ُّز ما جرى ل ُه َ‬ ‫�صاحب حلق ِة الفق ِه ال�شّ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ذلك ِ‬
‫الوقت)‬ ‫حينئذ (في َ‬ ‫ٍ‬
‫ووعد ُه ب�أن‬ ‫الكالم‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫(العبهُ) بط ّيبِ‬ ‫(�شديد الحزنِ )‪ ،‬فط ّيب ال�شّ يخُ خاط َر ُه (قالَ َل ُه كالم ًا لطيف ًا)‪ ،‬وداع َبه َ‬ ‫َ‬ ‫الخاطرِ‬
‫قلب العزِّ فرح ًا بهذا ِ‬
‫الوعد‪.‬‬ ‫يكون يوم ًا عالم ًا يفي ُد ا أل ّم َة والم�سلمين‪ ،‬فكا َد يطي ُر ُ‬ ‫العلم والتع ّل ِم‪ ،‬لع ّل ُه ُ‬ ‫بحلقات ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُيلح َق ُه‬
‫بحلقات تع ّل ِم القراء ِة والكتاب ِة‬‫ِ‬ ‫وعد ِب ِه)‪ ،‬و�ألحقَ الع َّز‬‫بوعد ِه (نفّذَ ما َ‬ ‫ابن ع�ساكر ِ‬ ‫وب َّر ال�شّ يخُ ُ‬
‫فاكب (� َ‬
‫أقبل‬ ‫بملب�س ِه وبحاجا ِت ِه‪َّ ،‬‬ ‫وحفظ القر�آنِ على نفق ِت ِه الخا�ص ِة‪ ،‬وتكف َّل ِ‬ ‫والخط ِ‬ ‫ِّ‬
‫يجل�س �إلى‬ ‫العلم‪ ،‬ال ينقط ُع ع ُنهُ‪ ،‬وال يخج ُل من �أن َ‬ ‫غل ب ِه) الع ُّز على ِ‬ ‫و�ش َ‬‫علي ِه ُ‬
‫�ساعد ُه‬ ‫ذلك قد َ‬ ‫علم ك ُّل من فيها �صبي ٌة‪ ،‬وهو فتى �أكب ُر منهم ِ�س ّن ًا‪ ،‬بل � ّإن َ‬ ‫حلقات ٍ‬ ‫ِ‬
‫حفظ‬ ‫وبفهم �أعمق‪ ،‬حتى أ� ّن ُه قد َ‬ ‫ٍ‬ ‫(يتقن) ما يتع ّل ُم في �أق�صرِ ٍ‬
‫وقت‪،‬‬ ‫َ‬ ‫على �أن يحذقَ‬
‫إعجاب‬ ‫أيام فقط‪ ،‬مما �أثا َر � َ‬ ‫افعي في ثالث ِة � ٍ‬ ‫كتاب “التنبيه” في الفق ِه ال�شّ ِّ‬ ‫وا�ستوعب َ‬ ‫َ‬
‫�شيخ ِه ابن ع�ساكر ِب ِه‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪5‬‬
‫العمل‪ ،‬فقالَ ‪ :‬بل العمل؛ لأ ّن ُه يهدي (يقو ُد) �إلى‬ ‫العلم �أم َ‬ ‫الم‪� ،‬أتري ُد َ‬ ‫ال�س ِ‬ ‫ابن ِ‬
‫عبد ّ‬ ‫يقول َل ُه‪“ :‬يا َ‬‫حلم ِه ُ‬‫و ِق َيل � َّإن الع َّز �سم َع ندا ًء في ِ‬
‫أ�صبحت رج ًال)‪ ،‬وهذا‬‫َ‬ ‫بلغت مبل َغ الرجالِ (�‬ ‫لقد َ‬ ‫الحلم‪ ،‬فقالَ َل ُه ال�شّ يخُ م�سرور ًا‪ْ “ :‬‬‫ل�شيخ ِه ابن ع�ساكر هذا َ‬ ‫أ�صبح روى ِ‬ ‫العلم”‪ .‬ولم ّا � َ‬ ‫ِ‬
‫نف�س َك ِ‬
‫للعلم”‪.‬‬ ‫تهب َ‬ ‫أمرك ب�أن َ‬ ‫ال�سما ِء‪ ،‬ي� َ‬ ‫الندا ُء هاتفٌ (ر�سال ٌة) من ّ‬
‫أتقن القراء َة‬‫فحفظ القر� َآن‪ ،‬و� َ‬ ‫َ‬ ‫دائم) �شيخَ ُه ابن ع�ساكر يتع ّل ُم من ُه‪،‬‬ ‫ولزم (راف َق ُه ب�شكلٍ ٍ‬ ‫للعلم‪َ ،‬‬ ‫نف�س ُه ِ‬
‫وهب (�أعطى) الع ُّز َ‬ ‫وقد َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫والفلك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫يا�ضيات‬ ‫والطب والكيميا ِء وال ّر‬
‫ِّ‬ ‫علم الطبيع ِة‬ ‫ِ‬
‫المترجمات في حقولِ ِ‬ ‫الح�سن والفل�سف َة‪ ،‬و� ّأطل َع على الكثيرِ من‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫والخط‬ ‫والكتاب َة‬
‫الكالم (العلم الذي‬‫ِ‬ ‫وكان له معرف ٌة كبير ٌة ِ‬
‫بعلم‬ ‫ال�شعرِ ‪َ ،‬‬ ‫رف والنّحوِ‪ِ ،‬‬
‫وحفظ ِّ‬ ‫ال�ص ِ‬‫علوم ال ّلغ ِة‪ّ :‬‬‫أتقن َ‬ ‫افعي‪ ،‬كما � َ‬‫المذهب ال�شّ ّ‬ ‫َ‬ ‫وف ِق َه (فَهِ َم)‬
‫هلل و�صفا ِت ِه و�أ�سما ِئ ِه)‪.‬‬‫يتك ّل ُم عن ا ِ‬
‫كان �شيخ ًا زاهد ًا (من ير�ضى بالقليلِ )‪،‬‬ ‫ب�شيخ ِه ابن ع�ساكر‪ ،‬و�أخذَ عن ُه كثير ًا من �صفا ِت ِه الحميد ِة (الجيد ِة)‪� ،‬إذ َ‬ ‫وقد ت�أ ّث َر ع ُّز ال ّد ِين ِ‬ ‫ْ‬
‫الحق مهما ك ّل َف ُه الأم ُر‪ ،‬وهو في‬ ‫يقول َّ‬ ‫الئم‪ُ ،‬‬ ‫هلل لوم َة ٍ‬ ‫ال�صدقات‪ ،‬وخطيب ًا ال يخ�شى في ا ِ‬ ‫ِ‬ ‫(يخاف اهلل)‪ ،‬ووا�س َع المعرف ِة‪ ،‬وكثي َر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وورع ًا‬
‫حك)‪.‬‬ ‫ال�ض َ‬‫(يحب ّ‬
‫ُّ‬ ‫ديد)‪ ،‬مرح ًا‬ ‫نف�س ِه �شدي ُد الحيا ِء (الخجلِ ال�شّ ِ‬ ‫الوقت ِ‬ ‫ِ‬
‫أحد من علما ِء دم�شق مث َل ُه‪،‬‬ ‫عند � ٍ‬
‫لي�س َ‬ ‫الحديث ما َ‬ ‫ِ‬ ‫علم‬ ‫عام ‪597‬هـ �ساف َر الع ُّز �إلى بغداد؛ ليلقى فيها �شيخ ًا ِق َيل � َّإن َ‬
‫عند ُه من ِ‬ ‫وفي ِ‬
‫علوم ِه على �أيدي كبا ِر علما ِئها‪ ،‬وهم‪ُ :‬‬
‫جمال‬ ‫ليكمل تلقّي ِ‬ ‫جديد �إلى دم�شق؛ َ‬ ‫الحديث عن ُه‪ ،‬ثم عا َد من ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وحفظ‬ ‫وقد التقى ِب ِه‪ ،‬و�سم َع ِمن ُه‪،‬‬ ‫ْ‬
‫الوقت جهابذ ُة (جم ُع جِ ْه ٍ‬
‫باذ‪،‬‬ ‫ذلك ِ‬ ‫آمدي‪ ،‬فقد اجتم َع في دم�شق في َ‬ ‫و�سيف ال ّد ِين ال ّ‬ ‫المر�ستاني‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ال�ص ِ‬
‫مد‬ ‫الحر�ستاني‪ ،‬وعب ُد ّ‬
‫ّ‬ ‫بن‬
‫ال ّد ِين ُ‬
‫العالم الخبي ُر المجي ُد) العلما ُء البارعين في فنونِ (�أنوا ِع) ِ‬
‫العلم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وهو‬
‫الحل ُم ي�صبحُ حقيق ًة‬
‫يدر�سون مع ُه)‪،‬‬
‫َ‬ ‫مجال�س العلما ِء‪ ،‬فب َّز �أقرا َن ُه (تف ّوقَ ع ّمن‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ين�صرف عن ُه) وعلى‬ ‫العلم ولم‬
‫أقبل على ِ‬‫العلم (� َ‬
‫نف�س ُه على ِ‬
‫عكف الع ُّز َ‬
‫َ‬
‫�شيخ ِه الفخرِ بن ع�ساكر وغيرِ ِه من‬ ‫يدي ِ‬ ‫يكد ينتهي من الدرا�س ِة على ّ‬ ‫�شيوخ ِه ِب ِه‪ .‬ولم ْ‬
‫إعجاب ِ‬ ‫�صفوف ط ّال ِب ِ‬
‫العلم‪ ،‬مما �أثا َر � َ‬ ‫َ‬ ‫وتق َّدم‬
‫وع ّي َن مدر�س ًا في دم�شق‪ ،‬ثم َ‬
‫انتقل �إلى مدر�س ٍة �أعلى‪ُ ،‬يد ّر ُ�س الفق َه‬ ‫بالتدري�س)‪ُ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ال�شيوخ في جام ِع دم�شق‪ ،‬حتى �أجازو ُه (�سمحوا ل ُه‬
‫ِ‬
‫حكم ا أل ّيوبيين‪.‬‬
‫الوقت في دم�شق �إ ّب َان ِ‬ ‫ذلك ِ‬
‫ال�سائ ُد (ال�شائ ُع) في َ‬
‫المذهب ّ‬
‫ُ‬ ‫وكان هو‬
‫افعي‪َ ،‬‬‫و�أ�صو َل ُه على المذهبِ ال�شّ ّ‬

‫‪6‬‬
‫خفي في ِه‪ ،‬ي�سخ ُر‬‫�شيء ٍّ‬ ‫يبحث عن ٍ‬ ‫تقتحم المجهولَ ‪ ،‬وك�أ ّن ُه ًُ‬ ‫ُ‬ ‫الطولِ ‪ ،‬نحي ًال‪ ،‬نظرا ُت ُه‬ ‫َ‬
‫متو�سط ّ‬ ‫وكان‬
‫الم‪َ ،‬‬‫ال�س ِ‬ ‫عبد ّ‬ ‫بن ِ‬‫ّا�س الع َّز َ‬ ‫وعرف الن ُ‬ ‫َ‬
‫وت �إذا‬ ‫ال�ص ِ‬
‫منخف�ض ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الحديث‪،‬‬ ‫وح ْل ِم ِه)‪َ ،‬‬
‫عذب‬ ‫ّا�س لرزان ِت ِه ُ‬ ‫التب�س ِم)‪ ،‬وقور ًا (يحتر ُم ُه الن ُ‬ ‫ال�سن (كثي َر ّ‬ ‫�ضاحك ّ‬ ‫َ‬ ‫ال�سخري َة‪،‬‬ ‫م ّما ي�ستح ُّق ّ‬
‫يجد ما يت�ص ّدقُ به قط َع جزء ًا من عمام ِت ِه (هي‬ ‫وب‪ ،‬ال ير ُّد �سائ ًال‪ ،‬ف� ْإن لم ْ‬ ‫وت) �إذا خَ َط َب‪َ ،‬‬
‫نظيف ال ّث ِ‬ ‫ال�ص ِ‬ ‫وت (مرتف َع ّ‬ ‫ال�ص ِ‬‫تك ّلم‪ ،‬جهي َر ّ‬
‫القما�ش يلفُّ بها الر� ُأ�س)‪ ،‬ودف َع بها (�أعطى) �إلى �سائ ِل ِه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫قطع ٌة من‬
‫(باهتمام ِه)‬
‫ِ‬ ‫وبي‪ ،‬وكان م�شهور ًا باحتفا ِئ ِه‬ ‫�صالح ال ّد ِين ا أل ّي ّ‬
‫ِ‬ ‫الملك الكاملِ ِبن العادلِ �شقيقِ‬ ‫حاكم م�ص َر ِ‬ ‫كان للعزِّ عالق ٌة طيب ٌة مع ِ‬ ‫وقد َ‬
‫الملك ال َ‬
‫أ�شرف‬ ‫الملك الكام ُل علي ِه ر ّد ًا ط ّيب ًا‪ ،‬و�أو�صى �أخا ُه َ‬ ‫ذلك‪ ،‬فر َّد ُ‬ ‫أر�سل الع ُّز كتاب ًا (ر�سال ًة) �إلي ِه‪ ،‬ي�شك ُر ُه على َ‬ ‫بالعلم وبالعلما ِء‪ ،‬وقد � َ‬ ‫ِ‬
‫(حاكم) دم�شق خير ًا ِب ِه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫�صاحب‬
‫َ‬
‫تعرف هواد ًة (ت�ساه ًال)‬ ‫و�شن حرب ًا ال ًُ‬ ‫بالمعروف‪ ،‬وينهى عن المنكرِ برحم ٍة وحكم ٍة وموعظ ٍة ح�سن ٍة‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫وانطلقَ الع ُّز �إلى الأ�سواقِ ‪ ،‬ي�أم ُر‬
‫المال لجهة ٍما) ال�ضرائبِ المرت�شين‪ ،‬وعلى الجائرين (جم ُع جائرٍ ‪،‬‬ ‫يقوم بجم ِع ٍِ‬ ‫جاب‪ ،‬وهو من ُ‬ ‫الظالمين‪ ،‬وعلى ُجبا ِة (جم ُع ٍ‬ ‫ِ‬ ‫على ال ّتجا ِر‬
‫وق�صد ُه ط ّال ُب ِ‬
‫العلم‪ ،‬ود�أبوا‬ ‫َ‬ ‫ّا�س‪ ،‬والتفّوا حو َل ُه‪،‬‬ ‫ّا�س)‪ ،‬ف�أح ّب ُه الن ُ‬ ‫(يحكمون الن َ‬
‫َ‬ ‫الظ ِلم) ممن يلون �أمر ًا من �أمو ِر الم�سلمين‬ ‫وهو �شدي ُد ّ‬
‫�شيوخ ع�صرِ ِه‪ ،‬فكادوا له (�أع ّدوا َل ُه مكيدةً) المر َة تل َو الأخرى‪،‬‬ ‫(غ�ضب) الكثيرِ من ِ‬ ‫َ‬ ‫(ا�ستم ّروا) على ح�ضو ِر حلقا ِت ِه‪ ،‬ف�أثا َر ذلك حفيظ َة‬
‫أ�شرف م ُن ُه‪ ،‬وع ّين ُه �شيخَ حلق ٍة في‬ ‫الملك ال ُ‬ ‫ملك دم�شق ُ‬ ‫كيد ِهم‪ ،‬فق ّر َب ُه ُ‬ ‫إيمان العزِّ بر ِب ِه‪ ،‬و�إ�صرا ِر ِه على موق ِف ِه جعال ِن ُِه ينجو من ِ‬ ‫لكن � َ‬ ‫َّ‬
‫الغزالي يد ّر ُ�س‪ ،‬وبد�أَ يد ّر ُ�س ط ّال َب‬
‫ّ‬ ‫إمام‬
‫كان ال ُ‬ ‫علمي في دم�شق‪ ،‬فاختا َر الع ُّز ال ّزاوي َة الغزال ّي َة‪ ،‬حيثُ َ‬ ‫من�صب ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أموي‪ ،‬وهو �أكب ُر‬ ‫الجام ِع ال ّ‬ ‫ّ‬
‫العلم‪ ،‬ثم ُع ّي َن خطيب ًا للجام ِع ال ّ‬
‫أموي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أموي تز ّو َج الع ُّز من امر أ� ٍة فا�ضل ٍة‬ ‫الجام ِع ال ِّ‬ ‫تدري�س ِه في ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫(مقابل)‬ ‫أ�صبح) الع ُّز يتقا�ضاه لقا َء‬‫وبالأجرِ (ال ّراتبِ ) الكبيرِ الذي غدا (� َ‬
‫دقات (ت�ص ّدقَ كثير ًا) على الفقرا ِء والم�ساكين وط ّال ِب ِ‬
‫العلم‬ ‫بال�ص ِ‬ ‫الجام ِع‪ ،‬و�أغدقَ ّ‬ ‫قرب ّ‬ ‫و�سكن في منزلٍ �صغيرٍ َ‬ ‫(�صاحب ِة خلقٍ ح�سنٍ )‪َ ،‬‬
‫ثمن‬‫زوجت ُه من ِ‬ ‫يملك من مالٍ قد ا ّدخر ْت ُه َ‬ ‫كل ما ُ‬ ‫ال�سبيل‪ ،‬وهو الم�ساف ُر المنقط ُع عن �أه ِل ِه وماله) حتى �أ ّن ُه �أنفقَ َّ‬ ‫ال�سبيلِ (جم ُع بن ّ‬ ‫و�أبنا ِء ّ‬
‫الح ّلي التي تتز ّي ُن بها المر�أةُ) على الفقرا ِء بدلَ �أن ي�شتري به بيت ًا �أكبر لزوج ِت ِه ولأبنا ِئ ِه‪ ،‬وقالَ لها با�سم ًا‪ :‬إ�نّه قد ا�شترى‬ ‫م�صاغ َها (هي ُ‬ ‫ِ‬
‫ودعت َل ُه بالبرك ِة (ال ّزياد ِة والنّما ِء)‪.‬‬ ‫ففرحت الزوج ُة ب�صني ِع (ت�ص ّر ِف) زوجِ َها‪ْ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫لها منز ًال �أكبر في الج ّن ِة‪،‬‬

‫‪7‬‬
8
‫الملك العادلِ �سلطانِ م�ص َر قا�ضي ًا للق�ضا ِة في دم�شقَ في ِ‬
‫عهد �أخي ِه‬ ‫عام ‪635‬هـ ُع ّي َن ب�أمرٍ المعزِّ من ِ‬ ‫وفي ِ‬
‫التقاليد البالي ِة‬
‫ِ‬ ‫من�صب ل ُه نفو ٌذ كبي ٌر‪ .‬وقد تح ّل َل (تخ ّل َ�ص) الع ُّز من‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫إ�سماعيل‪ ،‬وهو‬ ‫الح �‬ ‫الملك ّ‬
‫ال�ص ِ‬ ‫ِ‬ ‫الأ�صغرِ‬
‫(�صوف) م�ص َر‪ ،‬وهو غطا ُء الر� ِأ�س‬‫َ‬ ‫فطرح (خَ َل َع) العمام َة‪ ،‬وو�ض َع على ر� ِأ�س ِه قبع ًة من ل ّبا ِد‬
‫َ‬ ‫(القديم ِة) للق�ضا ِة‪،‬‬
‫الوقت)‪ ،‬وقد‬‫ال�سوا َد كعاد ِة الق�ضا ِة �آنذاك (في ذلك ِ‬ ‫يلب�س ّ‬ ‫ّا�س في م�ص َر وال�شّ ِام‪ ،‬ولم ْ‬ ‫الذي ال ي�ستعم ُل ُه إ� ّال فقرا ُء الن ِ‬
‫أمات ك َّل �ضالل ٍة‪،‬‬ ‫حارب ك َّل بدع ٍة (ك ِّّل ُم َ‬
‫�ستحد ٍث في ال ّد ِين)‪ ،‬و� َ‬ ‫ا�شته َر بالعدلِ في الق�ضا ِء‪ ،‬وبالجر�أ ِة في الحقِّ ‪ ،‬كما َ‬
‫نن”‪.‬‬ ‫أعان على �إمات ِة البد ِع و�إحيا ِء ّ‬
‫ال�س ِ‬ ‫الم�سلمين‪ ،‬ف� َ‬
‫َ‬ ‫يقول‪“ :‬طوبى (خي ٌر) لمن تو َّلى �شيئ ًا من �أمو ِر‬ ‫وكان ُ‬ ‫َ‬
‫الرحي ُل عن ِ‬
‫الوطن‬
‫ال�صالح �إ�سماعي ُل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الظلم والف�سقِ بعد � ْأن تو ّلى �أم َرها ُ‬
‫الملك‬ ‫�شرف في مهاوي ِ‬ ‫موت الملك الِأ ِ‬ ‫منذ ِ‬ ‫وقعت دم�شقُ ُ‬ ‫ْ‬
‫ملك م�ص َر‪ ،‬وتنازلَ لهم عن �صيدا‬ ‫الح �أ ّيوب ِ‬
‫ال�ص ِ‬ ‫�ضد ابن �أخيه ّ‬ ‫فتحالف معهم َ‬ ‫َ‬ ‫يميل �إلى ال�صليبيين‪،‬‬ ‫كان ُ‬ ‫الذي َ‬
‫حكم ِه‬
‫(رف�ض ِ‬
‫َ‬ ‫أعلن خل َع بيع ِت ِه‬
‫فعل‪ ،‬و� َ‬ ‫(يرف�ض) بما َ‬
‫ُ‬ ‫و�شقيف و�صفد (مدنٍ عربي ٍة)‪ ،‬عندها �شَ ر َع (بد�أَ) الع ُّز ين ّد ُد‬
‫ومن يف َعل‬
‫الح حرا ٌم‪ْ ،‬‬ ‫ال�س َ‬ ‫َ‬
‫التعامل مع ال�صليبيين �أو بي َع ُهم ّ‬ ‫ّا�س علي ِه‪ ،‬ون ّبه ُهم �إلى � ّأن‬ ‫لهم) على المنابـرِ ‪ ،‬وح ّر َ�ض الن َ‬
‫دم ِه (قت ِل ِه)‪.‬‬‫�سفك ِ‬ ‫بيح ُ‬ ‫خان اهلل ور�سو َل ُه‪ ،‬و�أُ َ‬ ‫ذلك فقد َ‬ ‫َ‬
‫أفرج عن ُه �شريط َة �أن يرحل من ليل ِت ِه �إلى م�ص َر؛‬ ‫وغ�ضب عليه ب�شد ٍة‪ ،‬و�أم َر ب�سج ِن ِه‪ ،‬ثم � َ‬ ‫َ‬ ‫فعلم ُ‬
‫الملك ب�أمرِ العزِّ ‪،‬‬ ‫َ‬
‫وحمل زوج َت ُه و�أبنا َء ُه على حمارين‪ ،‬وكان‬ ‫عام ‪638‬هـ‪َ ،‬‬ ‫ذلك في ِ‬ ‫ففعل الع ُّز َ‬ ‫ترك دم�شق‪َ ،‬‬ ‫عند ُه رغب ًة في ِ‬ ‫�إذ ع ِل َم � َّأن َ‬
‫ال�صالح‬
‫ُ‬ ‫أر�سل �إليه ُ‬
‫الملك‬ ‫فل�سطين‪َ � ،‬‬
‫َ‬ ‫وخرج بهم من دم�شق‪ ،‬حتى �إذا و�صل �إلى‬ ‫ال�ستين من عمرِ ِه‪َ ،‬‬ ‫عندها قد جاو َز ّ‬
‫كنت علي ِه وزياد ًة �أن تنك�س َر‬ ‫َ‬
‫منا�صبك وما َ‬ ‫وبين �أن تعو َد �إلى‬
‫بينك َ‬ ‫للملك قائ ًال للعزِّ ‪َ “ :‬‬ ‫أحد معاوني ِه؛ ليقن َع ُه باالعتذا ِر ِ‬ ‫� َ‬
‫يدي ف�ض ًال عن‬ ‫هلل يا م�سكين ما �أر�ضا ُه �أن يق ّب َل ّ‬ ‫(بكبرياء)‪“ :‬وا ِ‬
‫ٍ‬ ‫ب�شموخ‬
‫ٍ‬ ‫لل�سلطانِ ‪ ،‬وتق ّب َل َيد ُه ال غير”‪ ،‬فقالَ الع ُّز َل ُه‬ ‫ّ‬
‫هلل الذي عافاني مما ابتال ُكم ِب ِه”‪ ،‬فقالَ ل ُه الوزي ُر‪“ :‬قد �أمرني‬ ‫واد‪ ،‬والحم ُد ِ‬ ‫واد و�أنا في ٍ‬ ‫قوم �أنتم في ٍ‬ ‫�أن �أق ّب َل َي َد ُه‪ ،‬يا ُ‬
‫اعتقلتك”‪ ،‬فقال الع ُّز‪“ :‬افعلوا ما بدا (ما تريدون) لكم”‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بذلك‪ ،‬ف�إ ّما �أن تقب َل ُه‪ ،‬و�إ ّال‬
‫ال�سلطان َ‬ ‫ّ‬

‫‪9‬‬
‫المقد�س‬
‫ِ‬ ‫الروم في ِ‬
‫بيت‬ ‫جي�ش ِ‬ ‫ال�صالح بر ِّد ِه �أم َر باعتقا ِل ِه في خيم ٍة قريب ٍة من خيم ِت ِه‪ ،‬وكان عندها مرابط ًا مع ِ‬ ‫ُ‬ ‫علم ُ‬
‫الملك‬ ‫ول ّما َ‬
‫فقال في ليل ٍة ل�ضيو ِف ِه من ِ‬
‫ملوك‬ ‫الح ي�سم ُع ُه من خيم ِت ِه‪َ ،‬‬ ‫ال�ص ُ‬ ‫ُ‬
‫والملك ّ‬ ‫فكان الع ُّز يقط ُع (يم�ضي) ال ّل َيل والنَّها َر بتالو ِة القر�آنِ ‪،‬‬
‫(القد�س)‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫�شيوخ الم�سلمين‪ ،‬وقد حب�س ُت ُه لإنكا ِر ِه‬ ‫قال‪“ :‬هذا �أكب ُر ِ‬ ‫ال�شيخَ الذي يقر�أُ القر� َآن‪ ،‬قالوا‪“ :‬نعم”‪َ ،‬‬ ‫أت�سمعون هذا ّ‬
‫َ‬ ‫العرب)‪�“ :‬‬
‫ِ‬ ‫الفرنج (غيرِ‬
‫ِ‬
‫حب�سهُ‪،‬‬‫دت َ‬ ‫القد�س‪ ،‬وقد ج ّد ُ‬
‫ِ‬ ‫الم�سلمين‪ ،‬وعزل ُت ُه عن الخطاب ِة بدم�شق‪ ،‬وعن منا�ص ِب ِه‪ ،‬ثم �أخرج ُتهُ‪ ،‬فجا َء �إلى‬ ‫ِ‬ ‫ح�صون‬
‫َ‬ ‫(رف�ض ِه) ت�سليمي لكم‬
‫ِ‬
‫الم�سيحي) لغ�سلنا رجلي ِه‪ ،‬و�شربنا مرق َت َها (ما َء غ�سي ِل َها)”‪.‬‬‫ّ‬ ‫ق�سي�س ًا َ‬
‫(رجل ال ّد ِين‬ ‫كان هذا ّ‬ ‫الفرنج‪“ :‬لو َ‬ ‫ِ‬ ‫فقال ُ‬
‫ملوك‬ ‫واعتق ُل ُت ُه لأجلكم”‪َ .‬‬

‫‪10‬‬
‫�سلطا ُن العلما ِء‬
‫الفرنج ومن‬ ‫ِ‬ ‫المقد�س‪ ،‬وهزموا ُج ِند‬ ‫ِ‬ ‫بيت‬ ‫نجم ال ّد ِين �أ ّيوب �إلى ِ‬ ‫ال�صالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫الجديد ِ‬
‫الملك‬ ‫ِ‬ ‫الجيو�ش الم�صري ُة بقياد ِة ِ‬
‫ملك م�ص َر‬ ‫ُ‬ ‫جاءت‬
‫ْ‬
‫الم�صريون على‬
‫َ‬ ‫عام ‪639‬هـ‪ ،‬فقاب َل ُه‬ ‫وو�صل �إليها َ‬ ‫َ‬ ‫�سراح العزِّ ‪ ،‬فانطلقَ في طري ِق ِه �إلى القاهر ِة‪،‬‬ ‫العرب‪ ،‬و�أطلقوا َ‬ ‫من ِ‬ ‫واالها (�ساعدها) َ‬ ‫َ‬
‫الخيل المط ّهم َة (الأ�صيل َة) بدلَ‬ ‫َ‬ ‫الجي�ش‪ ،‬وقد �أع ّدوا َل ُه ولعيا ِل ِه‬ ‫ِ‬ ‫نف�س ُه وقاد ُة‬ ‫هم ُ‬
‫الملك ُ‬ ‫وبالهتاف‪ ،‬وعلى ر� ِأ�س ْ‬
‫ِ‬ ‫أبواب القاهر ِة بال ّز ِ‬
‫ينات‬ ‫� ِ‬
‫لطان �إلى جوا ِر ِه‪،‬‬‫وال�س ُ‬ ‫يزف ال�شّ يخَ بالتهليلِ وبالتّكبيرِ ّ‬ ‫الموكب ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُركب) المنهك ِة (المتعب ِة)‪ ،‬و�سا َر‬ ‫المطايا (جم ُع مطي ٍة‪ ،‬وهي ال ّداب ُة التي ت ُ‬
‫تتو�س ُط َها دا ٌر ف�سيح ٌة‬ ‫الموكب �إلى حديق ٍة وا�سع ٍة‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫(و�صل)‬ ‫أعيان والعلما ُء‪ ،‬وانتهى‬ ‫ومن خل ِف ِه �أمرا ُء ال ّدول ِة وال ُ‬
‫الم‪.‬‬
‫ال�س ِ‬ ‫عبد ّ‬‫للعالم الجليلِ العزِّ ِبن ِ‬ ‫الم�صري قد ا�شتراها‪ ،‬ووه َب َها هدي ًة ِ‬ ‫ُّ‬ ‫عب‬ ‫(مت�سع ٌة)‪َ ،‬‬
‫كان ال�شّ ُ‬
‫ال�سلطان �إمام ًا وخطيب ًا لجام ِع عمرو بن‬ ‫عين (�س ِع َد) المع ُّز بالإقام ِة في م�ص َر‪ ،‬وع ّين ُه ّ‬ ‫وق َّر ْت ُ‬
‫وقام ب�أمو ِر الإفتا ِء في م�ص َر‪ ،‬وانقط َع ِ‬
‫للعلم‬ ‫العا�ص‪َّ ،‬ثم قا�ضي ًا للق�ضا ِة (كبي َر الق�ضا ِة) َ‬ ‫ِ‬
‫أليف‪ ،‬فو�ض َع ك َّل م�صنفا ِت ِه (م�ؤ ّلفا ِت ِه) في م�ص َر‪ ،‬ف�أ ّل َف‬ ‫وللتدري�س وللت� ِ‬ ‫ِ‬ ‫وللعلما ِء‬
‫وال�سير ِة النّبو ّي ِة ال�شّ ريف ِة‬‫والحديث النّبوي ّ‬ ‫ِ‬ ‫وعلوم القر�آنِ‬
‫ِ‬ ‫في الفق ِه والتف�سيرِ‬
‫أحكام في‬ ‫التوحيد والأ�صولِ وال ّت� ّصو ِف‪ .‬ومن �أ�شهرِ كت ِب ِه‪“ :‬قواع ُد ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫وعلم‬
‫ِ‬
‫م�سلم”‪ ،‬و“تف�سي ُر القر�آنِ‬ ‫ٍ‬ ‫�صحيح‬
‫ِ‬ ‫ّا�س)”‪ ،‬و“مخت�ص ُر‬ ‫��ام (الن ِ‬ ‫م�صالح الأن ِ‬ ‫ِ‬
‫ال�صال ِة‬ ‫بع�ض �أنوا ِع المجا ِز” و“مقا�ص ُد ّ‬ ‫العظيم” و“الإ�شار ُة �إلى الإيجا ِز في ِ‬ ‫ِ‬
‫ال�ص ِوم”‪.‬‬ ‫ومقا�ص ُد ّ‬
‫بالمعروف‪ ،‬وينهى عن المنكرِ ‪ ،‬وير ُّد‬ ‫ِ‬ ‫وطاف الع ُّز في الأ�سواقِ ‪ ،‬ي�أم ُر‬ ‫َ‬
‫وق�صد ُه ط ّال ُب‬
‫َ‬ ‫ّا�س‪،‬‬‫المظالم (الحقوقَ الم�سروق َة) �إلى �أه ِل َها‪ ،‬ف�أح َّب ُه الن ُ‬ ‫َ‬
‫كل جه ٍة)‪ ،‬ف�أطلقَ علي ِه طال ُب ُه تقي ال ّد ِين‬ ‫و�صوب (من ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫كل ٍ‬
‫حدب‬ ‫العلم من ِّ‬ ‫ِ‬
‫لقب �سلطانِ العلما ِء‪.‬‬ ‫العيد‪ ،‬وهو من علما ِء م�ص َر‪َ ،‬‬ ‫ابن دقيقِ ِ‬ ‫ِ‬

‫‪11‬‬
12
‫الملوك‬
‫ِ‬ ‫بائع‬
‫ُ‬
‫عرف � َّأن �أمرا َء البال ِد وقاد َة الجي�ش لي�سوا من �أهلِ‬ ‫لم يط ُل المقا ُم بالعزِّ في م�ص َر حتى َ‬
‫بيت المالِ ‪ ،‬وع ّلم ُهم‬ ‫م�ص َر‪ ،‬بل هم مجلوبون (عبي ٌد م�شترون)‪ ،‬ا�شتراهم �سلطانُ م�ص َر من ِ‬
‫مماليك‬ ‫ٌ‬ ‫وفنون الفرو�سي ِة‪ ،‬وعندما �ش ّبوا ع ّين ُهم في منا�ص ِبهِم‪ ،‬فهم �أمرا ٌء‬ ‫وعلوم ال ّد ِين َ‬ ‫العربي َة َ‬
‫وال�شرا ِء والز ِ‬
‫ّواج‪.‬‬ ‫حقوق الأحرا ِر بالبي ِع ّ‬ ‫ولي�س لهم ُ‬ ‫�أر ّقاء (جم ُع رقيق‪ ،‬وهو العب ُد) ال �أحرا ٌر‪َ ،‬‬
‫المماليك من عقو ِد البي ِع وال�شّ را ِء والإيجا ِر‬ ‫ُ‬ ‫(عقد ُه)‬
‫أبرم ُه َ‬ ‫عندئذ � َ‬
‫أبطل الع ُّز ك َّل ما � َ‬ ‫ٍ‬
‫بيت المالِ‬ ‫ال�سوقِ ‪ ،‬و ُير ُّد ثم ُنهم �إلى ِ‬ ‫المماليك في ّ‬‫ُ‬ ‫واج‪ .‬و�ص َّم َِم على �أن ُيبا َع الأمرا ُء‬ ‫وال ّز ِ‬
‫ذلك‪ ،‬وينالون ما‬ ‫بعد َ‬‫(ي�صبحون �أحرار ًا) َ‬‫َ‬ ‫لطان من ما ِل ِه‪ّ ،‬ثم ُيعتقوا‬ ‫ال�س ُ‬ ‫الذي ا�شتراهم ّ‬
‫(ي�صبح حاكم ًا)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫واج والإيجا ِر والإمام ِة‬ ‫مثل البي ِع وال ّز ِ‬ ‫ينا ُل ُه (ي�أخُ ُذ ُه) الأحرا ُر من حقوقٍ ‪َ ،‬‬
‫من‬ ‫عرف حك ُم ُه َ‬ ‫(الجواب ع ّما ال ُي ُ‬
‫ِ‬ ‫فغ�ضب من فتوى‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫المماليك‪،‬‬ ‫ال�سلطانِ من‬ ‫نائب ّ‬ ‫وكان ُ‬ ‫َ‬
‫ونحن‬ ‫(يعر�ضنَا للبي ِع) هذا ال�شّ يخُ ؟ ُ‬ ‫ُ‬ ‫كيف ُينادي علينا‬ ‫الم�سائلِ ال�شّ رع ّي ِة) العزِّ ‪ ،‬وقالَ ‪َ “ :‬‬
‫بنف�س ِه في جماع ٍة من رجا ِل ِه‪ ،‬وهو‬ ‫وركب ِ‬ ‫هلل لأ�ضرب ّن ُه ب�سيفي هذا”‪َ .‬‬ ‫أر���ض! وا ِ‬ ‫ملوك ال ِ‬ ‫ُ‬
‫خاف‬ ‫بن العزِّ ‪َ ،‬‬ ‫باب بي ِت ِه‪ ،‬فلما ر آ� ُه عب ُد ال ّل ِ‬
‫طيف ُ‬ ‫يقتل الع َّز‪ ،‬وطرقَ َ‬ ‫م�شه ٌر �سي َف ُه‪ ،‬وينوي �أن َ‬
‫ابت�سم‪ ،‬وقالَ َل ُه‪“ :‬يا ولدي �أبوك �أق ُّل من � ْأن ُي َ‬
‫قتل‬ ‫َ‬ ‫لكن الع َّز‬ ‫ِ‬
‫بالهرب‪َّ ،‬‬ ‫والد ُه‬
‫ون�صح َ‬ ‫َ‬ ‫ب�ش ّد ٍة‪،‬‬
‫وا�ضطرب‪ ،‬وو َق َع هو‬ ‫َ‬ ‫يب�ست ي ُد ُه عندما ر�آ ُه‪،‬‬ ‫ال�سلطن ِة‪ ،‬الذي ْ‬ ‫هلل”‪ ،‬وخ َر َج لنائبِ ّ‬ ‫في �سبيلِ ا ِ‬
‫و�سي ُف ُه �أر�ض ًا‪ ،‬وبكى‪ ،‬و�س ّلم �أم َر ُه للعزِّ يفع ُل ِب ِه ما ي�شا ُء‪.‬‬
‫ألمح‬‫لملك م�ص َر‪ ،‬الذي � َ‬ ‫رف�ضهم لفتوى العزِّ ‪ ،‬و�شكوه ِ‬ ‫المماليك ظ ّلوا على ِ‬ ‫ِ‬ ‫لكن �أمرا َء‬‫ّ‬
‫غ�ض َب‬ ‫(قالَ ب�شكلٍ غير مبا�شرٍ ) للع َّز ب� ّْأن ال عالق َة َل ُه بهذا ال�شّ �أنِ (المو�ضو ِع)‪ ،‬عندها ِ‬
‫�ست�ضعف فيها �أه ُل ال�شّ ريع ِة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أر�ض ُي‬‫المقام ب� ٍ‬
‫ُ‬ ‫الع ُّز �أ�ش َّد الغ�ضبِ ‪ ،‬وقالَ ‪“ :‬فيم (لماذا)‬

‫‪13‬‬
14
‫علم‬ ‫حمل �أه َل ُه على ُحميرٍ (ت�صغيرِ حمارٍ)‪ ،‬وح َم َل َ‬
‫متاع ُه على حمارٍ‪ ،‬وغاد َر م�ص َر‪ ،‬فل ّما َ‬ ‫و ُيعتدي فيها على الق�ضا ِء؟” ثم َ‬
‫بنف�س ِه‬
‫فخرج ِ‬
‫َ‬ ‫بذهاب ال�شّ ِ‬
‫يخ”‬ ‫ِ‬ ‫الملك بالأمرِ ‪ ،‬و ِق َيل ل ُه‪“ :‬تداركْ (�أنقذْ ) مل َك َك و�إ ّال َ‬
‫ذهب‬ ‫�أه ُل َها برحي ِل ِه‪ ،‬لحقوا ِب ِه‪ ،‬ف َع ِل َم ُ‬
‫فر�س ِه‪ ،‬وتق ّد َم من ُه معتذر ًا‪ ،‬وقالَ َل ُه‪“ :‬ال تفارقنا‪ُ ،‬ع ْد يا �إمام‪ ،‬وا�صن ْع ما بدا‬
‫(و�صل �إلي ِه)‪ ،‬ونزَ لَ عن ِ‬
‫َ‬ ‫ورا َء العزِّ ‪ ،‬و�أدر َك ُه‬
‫أردت)”‪.‬‬
‫لك (ما � َ‬ ‫َ‬
‫(تحت ت�ص ّر ِف العزِّ )‪،‬‬
‫َ‬ ‫لطان ك َّل ا ألم��را ِء في القلع ِة ب�أمرِ الع ّز‬
‫ال�س ُ‬ ‫وجم َع ّ‬
‫���زاد‪ ،‬ون��ادى ال�شّ يخُ عليهم (عر�ضهم للبي ِع)‪ ،‬وغالى في‬ ‫وعر�ضوا في م ٍ‬ ‫ُ‬
‫الرتفاع ِه ِ‬
‫الفاح ِ�ش‬ ‫ِ‬ ‫ثمنهم‪ ،‬حتى �إذا امتن َع الحا�ضرون عن المزايد ِة في ال ّث ِ‬
‫من‬
‫الخا�ص‪ ،‬ال من‬
‫ِ‬ ‫ال�سعرِ ‪ ،‬ودف َع ُه من ما ِل ِه‬ ‫لطان‪ ،‬وزا َد في ّ‬ ‫ال�س ُ‬ ‫(الكبيرِ )‪ ،‬تق ّد َم ّ‬
‫بيت الم�سلمين‪ ،‬حتى ا�شترى جمي َع الأمرا ِء المماليك‪ ،‬و�أعتق ُهم لوج ِه ا ِ‬
‫هلل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ف�أ�صبحوا �أحرار ًا‪.‬‬
‫كان المع ُّز مهيب ًا جلي ًال وهو ينادي على �أمرا ِء ال ّدول ِة واحد ًا تل َو َ‬
‫(بعد)‬ ‫وكم َ‬
‫بعد هذ ِه الحادث ِة التاريخ ّي ِة ّ‬
‫الطريف ِة‬ ‫َ‬
‫ليحمل َ‬ ‫لل�سلطانِ ‪،‬‬
‫ا آلخ��رِ ‪َّ ،‬ثم يبيعهم ّ‬
‫ِ‬
‫الملوك‪.‬‬ ‫لقب بائ ِع‬
‫الحدوث) َ‬‫ِ‬ ‫(نادر ِة‬
‫ِ‬
‫أ�صحاب‬‫فقد وز َّع ُه على الفقرا ِء و�‬
‫الفاح�ش ْ‬
‫ِ‬ ‫قب�ض ُه الع ُّز من ثم ِنهم‬
‫�أ ّما ما َ‬
‫وعلوم‬
‫والخط ِ‬‫ِّ‬ ‫أقام ب ِه دور ًا ِ‬
‫لتعليم القر�آنِ‬ ‫العلم وط ّال ِب ِه‪ ،‬و� ِ‬
‫الحاجات من �أهلِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ال ّلغ ِة العرب ّي ِة‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫سبيل ال‬
‫الجها ُد في � ِ‬
‫بتحري�ض من � ِ‬
‫أحد‬ ‫ٍ‬ ‫الل�صو�ص‬
‫ِ‬ ‫هاج َم بي َت ُه جماع ٌة من‬
‫ال�سوقِ حتى َ‬ ‫ِ‬
‫المماليك في ّ‬ ‫بعد بي ِع ِه لأمرا ِء‬
‫ما كا َد الع ُّز ي�ستق ًِّر في دا ِر ِه َ‬
‫الل�صو�ص � ْأن يفتكوا بالعزِّ وب�أه ِل ِه َ‬
‫الذين ارتعدوا‬ ‫ُ‬ ‫المماليك الذين حنقوا (حقدوا) على العزِّ ب�سببِ فتوى بي ِعهِ م‪ ،‬وكا َد‬ ‫ِ‬ ‫�أمرا ِء‬

‫‪16‬‬
‫الطيب ِة‪ ،‬وع ّدهم‬ ‫طف وبال ّل ِين وبالكلم ِة ّ‬ ‫لكن الع َّز قابل ُه ْم بال ّل ِ‬
‫�شديد)‪َّ ،‬‬ ‫بخوف ٍ‬ ‫خوف ًا منهم(�شعروا ٍ‬
‫أكرم وفادت ُهم (ح�ضورهم)‪ ،‬فعادوا ع ّما هم عليه‬ ‫طعام الع�شا ِء‪ ،‬و� َ‬‫�ضيوف ًا ال ل�صو�ص ًا‪ ،‬وق ّد َم لهم َ‬
‫يدي العزِّ ‪ ،‬وطلبوا من ُه � ْأن ي�ستغف َر‬
‫بين ّ‬ ‫أنف�سهم‪ ،‬وبكوا َ‬ ‫(تراجعوا ع ّما جاءوا من �أجلِ فع ِل ِه)‪ ،‬وخجلوا من � ِ‬
‫(�سامحهم)‪،‬‬
‫َ‬ ‫بعد الو�ضو ِء‪ ،‬و�ص ّلى بهم (� َّأم بهم) �صال َة ال ّتوب ِة‪ ،‬وعفا عنهم‬ ‫ال�صال ِة َ‬ ‫فدعاهم �إلى ّ‬ ‫ُ‬ ‫ل ُهم‪،‬‬
‫لطان بفع ِلهِ م‪.‬‬ ‫ال�س َ‬ ‫ولم يبلغ ّ‬
‫هلل –ع َّز وج َّل‪ -‬و�أن�صا ِر‬‫حزب ا ِ‬‫نزعم �أنّا من جمل ِة ِ‬ ‫منهج العزِّ في الحيا ِة يتلخّ ُ�ص في جمل ِت ِه‪�“ :‬إنّا ُ‬ ‫وكان ُ‬ ‫َ‬
‫بجندي”‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بنف�س ِه‪َ ،‬‬
‫فلي�س‬ ‫والجندي �إذا لم يخاط ْر ِ‬ ‫ُّ‬ ‫دي ِن ِه ِ‬
‫وجند ِه‪،‬‬
‫ِ‬
‫الملك‬ ‫ال�سلطان‪ ،‬فقد ت�ص ّدى يوم ًا لموكبِ‬ ‫كان في ح�ضر ِة ّ‬ ‫يقول �إ ّال الحقَ ‪ ،‬ولو َ‬‫هلل‪ ،‬وال ُ‬ ‫يكن يخ�شى غي َر ا ِ‬ ‫لذلك لم ْ‬
‫تبيح الخمو َر؟”‬ ‫ملك م�ص َر ثم ُ‬ ‫لك َ‬ ‫لك �ألم �أبوئ َ‬ ‫هلل �إذا ق َال َ‬
‫عند ا ِ‬ ‫جتك َ‬ ‫وب‪ ،‬ما ُح َ‬ ‫وقال َلهُ‪“ :‬يا �أ ّي ُ‬ ‫عيد‪َ ،‬‬ ‫يوم ٍ‬ ‫في ِ‬
‫ِ‬
‫المنكرات‪،‬‬ ‫قال العزُّ‪“ :‬نعم‪ ،‬الحان ُة الفالني ُة تبي ُع الخمو َر‪ ،‬وغيرها من‬ ‫ذلك؟” َ‬ ‫لطان‪“ :‬هل جرى َ‬ ‫ال�س ُ‬ ‫َ‬
‫فقال ّ‬
‫(تنعم) في نعم ِة هذ ِه المملك ِة”‪.‬‬ ‫أنت تتق ّل ُب ُ‬ ‫و� َ‬
‫لطان‪“ :‬يا �سيدي هذا �أنا ما علم ُت ُه‪ ،‬هذا من زمانِ �أبي”‪ ،‬فقالَ ال�شّ يخُ ‪:‬‬ ‫ال�س ُ‬ ‫فقالَ ّ‬
‫دون‬
‫�سبقك َ‬ ‫َ‬ ‫أنت من الذين يقولون �إنّا وجدنا �آبا َء َنا على �أ ّم�� ٍة؟! (� ّأي تق ّل ُد من‬ ‫“�أ� َ‬
‫لطان ب�إغالقِ الحان ِة‪.‬‬ ‫ال�س َ‬ ‫تفكيرٍ )”‪ .‬ف� َأم َر ّ‬
‫تالميذ ِه ع ّما فع َل ُه‪ ،‬فقالَ ال�شّ يخُ ‪“ :‬ر�أي ُت ُه في‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫ان�صرف الع ُّز‪� ،‬س�أ َل ُه �أح ُد‬ ‫وبعد �أن‬
‫َ‬
‫التلميذ‪�“ :‬أما‬
‫ُ‬ ‫نف�س ُه‪ ،‬فت�ؤذي”‪ ،‬فقالَ‬ ‫أردت �أن �أهي َن ُه كي ال تكب َر ُ‬ ‫تلك العظم ِة‪ ،‬ف� ُ‬ ‫َ‬
‫ا�ستح�ضرت هيب َة ا ِ‬
‫هلل‬ ‫ُ‬ ‫لقد‬
‫بني ْ‬‫هلل يا َّ‬ ‫أجاب ال�شّ يخُ ب�إيمانٍ عميقٍ ‪“ :‬وا ِ‬ ‫خف َت ُه؟!” � َ‬
‫ِّ‬
‫كالقط”‪.‬‬ ‫لطان �أمامي‬ ‫ال�س ُ‬ ‫تعالى‪ ،‬ف�ص َار ّ‬

‫‪17‬‬
18
‫عي ُن جالو َت وهزيم ُة التّتا ِر‬
‫إ�سالم زحفان (جي�شان) خطيران‪� ،‬أخذا ينه�شانِ‬ ‫داهم ديا َر (بال َد) ال ِ‬ ‫زمن) �إقام ِة العزِّ في م�ص َر َ‬
‫�إ ّب َان (في ِ‬
‫ج�سد ال ّدول ِة الإ�سالم ّي ِة‪ ،‬ويطمعان في اال�ستيال ِء على (الح�صولِ على) مق ّد�سا ِتها‪� ،‬أحدهما ال�صليبيون‪ ،‬والآخر‬ ‫في ِ‬
‫نفو�س الم�سلمين‪ ،‬ف�أ ّل َّب (ح ّر َ�ض) الم�سلمين‬ ‫ونفوذ وت�أثيرٍ ح�سنٍ في ِ‬ ‫بكل ما أُ�وتي من قو ٍة ٍ‬ ‫ال ّتتا ُر‪ .‬وقد ت�ص ّدى الع ُّز لهما ِّ‬
‫ُ‬
‫جيو�ش‬ ‫وزحف مع المجاهدين �إلى المن�صور ِة (مدين ٍة في �شمالِ م�ص َر) حيثُ ت�ص ّد ْت‬ ‫َ‬ ‫العلم‪،‬‬
‫حلقات ِ‬ ‫َ‬ ‫عليهم‪ ،‬وهج َر‬
‫أ�سرت مل َكهم لوي�س ال ّتا�سع‪.‬‬ ‫الم�سلمين لل�صليبيين بقياد ِة م ِل ِكهم لوي�س ال ّتا�سع‪ ،‬وهزمتهم �ش َّر هزيم ٍة‪ ،‬و� ْ‬
‫ملك م�ص َر نجم ال ّدين‬ ‫بعد ِ‬ ‫الحكم َ‬ ‫َ‬ ‫ال�سلطان قطز الذي تو ّلى‬ ‫عندئذ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كما ح ّر َ�ض المع ُّز الم�صريين ومل َك ُهم‪َ ،‬‬
‫وكان‬
‫عام‬‫جيو�ش م�ص َر ِ‬ ‫ُ‬ ‫فخرجت‬
‫ْ‬ ‫الت�صدي للتتار‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫�أ ّيوب الذي توفّي في ح�صا ِر الم�سلمين لل�صليبيين في المن�صورة‪ ،‬على‬
‫وعاثت فيهما ف�ساد ًا وقت ًال‪ ،‬ذلك‬ ‫ْ‬ ‫ا�ستولت على بغداد عام ‪656‬هـ وعلى حلب‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫كانت قد‬ ‫‪658‬هـ لمالقا ِة ِ‬
‫جيو�ش ال ّتتا ِر التي ْ‬
‫بيت مالِ الم�سلمين‪ ،‬وذلك بقياد ِة الأميرِ‬ ‫المماليك ومن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال�سلطانِ ومن �أمرا ِء‬ ‫بعد � ْأن �أع ّد ْت الع ّد َة لذلك بتمويلٍ من ّ‬
‫َ‬
‫قطز‪.‬‬
‫بتحري�ض‬
‫ِ‬ ‫كان‬
‫لكن جها َد ُه َ‬ ‫الح‪ّ ،‬‬ ‫وكان الع ُّز عندها عجوز ًا في الثمانين‪ ،‬ال يقد ُر على حملِ ّ‬
‫ال�س ِ‬ ‫َ‬
‫وجي�ش ال ّتتا ِر في منطق ٍة‬ ‫ُ‬ ‫جي�ش الم�سلمين‬‫الم�سلمين على الجها ِد‪ ،‬والتقى الجي�شان‪ُ :‬‬ ‫ِ‬
‫الم�صري بقياد ِة قطز َ‬
‫جي�ش ال ّتتا َر‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫الجي�ش‬ ‫فل�سطين‪َ ،‬‬
‫وهزم‬ ‫َ‬ ‫جالوت في‬‫َ‬ ‫عين‬
‫تُ�س ّمى ُ‬
‫تقم لهم بعدها قائم ٌة‪.‬‬ ‫هزيم ًة نكرا َء‪ ،‬لم ْ‬
‫(هجم) القائ ُد بيبر�س‬ ‫َ‬ ‫الم�صري �إلى القاهر ِة َ‬
‫وثب‬ ‫ِّ‬ ‫الجي�ش‬
‫ِ‬ ‫وفي طريقِ عود ِة‬
‫أهل م�ص َر �إ ّال الع ّز الذي‬ ‫عر�ش م�ص َر‪ ،‬وباي َع ُه � ُ‬ ‫على قطز‪ ،‬وقتَل ُه‪ ،‬وج َل َ�س على ِ‬
‫(يقبل به حاكم ًا) إ� ّال عندما ت�أ ّك َد من �أ ّن ُه ح ٌّر قد ح ّرر ُه‬ ‫َ‬ ‫رف�ض �أن يباي َع ُه‬ ‫َ‬
‫يعد مملوك ًا (عبد ًا)‪.‬‬ ‫�سي ُد ُه‪ ،‬و�أ ّن ُه لم ْ‬

‫‪19‬‬
20
‫العلم‬
‫في حلق ِة ِ‬
‫أحد علما ِء م�ص َر‪ ،‬وتخ ّر َج‬ ‫طيف � َ‬ ‫أ�صبح اب ُن ُه عب ُد ال ّل ِ‬
‫وبل َغ الع ُّز من العمرِ الثالث َة والثمانين‪ ،‬وكب َر �أبنا ؤ�ُه و�أحفا ُد ُه‪ ،‬و� َ‬
‫الظ ِلم واالنت�صا ِر للمظلومين‪.‬‬ ‫التعليم وفي محارب ِة ّ‬ ‫ِ‬ ‫العلم وفي‬ ‫على يديه �أئم ٌة وعلما ُء بعد �أن �أنفَقَ عم َر ُه في طلبِ ِ‬
‫�سيموت‬
‫ُ‬ ‫كان قد تن ّب�أَ في �شبابه ب�أ َّن ُه‬
‫الموت‪� ،‬إذ �إنّه َ‬ ‫َ‬ ‫عف ال�شدي ُد)‪ ،‬وتو ّق َع‬ ‫(ال�ض ُ‬
‫الوه ُن ّ‬ ‫ومر�ض الع ُّز‪ ،‬وغل َب ُه َ‬
‫َ‬
‫العلم‪ .‬وفي يوم ‪ 10‬من جمادى الأولى عام ‪660‬هـ‬ ‫درو�س ِ‬
‫رف�ض �أن ينقط َِع عن ِ‬ ‫عندما يبل َغ الثالث َة والثمانين‪ ،‬لك ّن ُه َ‬
‫ال�صالحي ِة التي اعتا َد على التدري�س فيها على ال ّر ِ‬
‫غم‬ ‫درو�س ِه في مدر�س ِة ّ‬
‫لي�صل �إلى ِ‬
‫َ‬ ‫طلب من �أبنا ِئ ِه �أن ي�سندوه؛‬ ‫َ‬
‫ج�سد ِه)‬
‫(خرجت من ِ‬‫ْ‬ ‫فا�ضت‬
‫ْ‬ ‫روح ُه‬
‫لكن َ‬‫أر�ض ‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫ال�سموات وال ِ‬ ‫يف�س ُر الآي َة الكريم َة‪َ  :‬‬
‫اهلل نو ُر‬ ‫من �شد ِة وه ِن ِه‪ ،‬و�ش َر َع ّ‬
‫ولزم َها طوالَ عمرِ ِه‪.‬‬ ‫(�سقط) م ّيت ًا في حلق ِة ِ‬
‫العلم التي �أح َّبها‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫عند َها‪ ،‬وخ َّر‬
‫َ‬
‫نع�ش ِه‪،‬‬
‫�سلطان م�ص َر في حملِ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫و�شارك‬ ‫�سلطان م�ص َر وال�شّ ِام‪ ،‬بل‬
‫ُ‬ ‫وخرج �أه ُل القاهر ِة في جناز ِت ِه‪ ،‬و�ص ّلى عليه‬ ‫َ‬
‫يوم مو ِت ِه‪ُ “ :‬‬
‫اليوم ا�ستق َّر �أمري‬ ‫لطان بيبر�س َ‬ ‫ال�س ُ‬‫عظيم في القاهر ِة)‪ ،‬وقد قالَ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫المقط ِم (جبلٍ‬ ‫فح جبلِ‬
‫فن في َ�س ِ‬‫و ُد َ‬
‫ّا�س‪ :‬اخرجوا عليه (ثوروا عليه) النتز َع (�أخذَ ) َ‬
‫الملك منّي”‪.‬‬ ‫كان ُ‬
‫يقول للن ِ‬ ‫الملك؛ ل ّأن هذا ال�شّ َيخ لو َ‬ ‫في ِ‬
‫أنارت طريقَ الأ ّم ِة‪ ،‬وح ّثتها (�أمرت َها) على‬
‫كان منار ًة � ْ‬ ‫فقد َ‬ ‫الم‪ْ ،‬‬ ‫ال�س ِ‬
‫عبد ّ‬ ‫بن ِ‬ ‫َ‬
‫الجليل المع َّز َ‬ ‫رح َم ُ‬
‫اهلل �شيخَ نَا‬ ‫ِ‬
‫علم تهدي‬ ‫يحر�س �أحذي َة الم�ص ّلين �إلى منار ِة ٍ‬‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫�ضعيف ال حولَ وال قو ًة َل ُه‪،‬‬ ‫العلم الذي �ص ّي َر ُه (ح ّو َل ُه) من ٍ‬
‫يتيم‬ ‫ِ‬
‫أخل�ص ِ‬
‫هلل‬ ‫عالم � َ‬‫الطين بي�سا ِر ِه‪ ،‬فل ّله د ّر ُه (�أ�سلوب دعاء بالخير) من ٍ‬ ‫وال�س َ‬ ‫النّا�س‪ ،‬وجع َل ُه يه ُّز ال�شّ عوب بيمن ِه‪ّ ،‬‬
‫(كتاب كبيرٍ ) عظما ِء �أمت ِنَا الإ�سالم ّي ِة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عم ًال وقو ًال‪َ ،‬‬
‫فن�ص َر ُه‪ ،‬وخ ّل َد ُه في ِ�سفْرِ‬

‫‪21‬‬
‫ل ّون معنا‬

‫‪22‬‬
23

You might also like