You are on page 1of 20

‫هارونُ الرّ�شيد ُ‬

‫"الخليفةُ العابد ُ المجاهد ُ"‬


‫د‪� .‬سناء �شعالن‬
‫قدر ُ هارو َن الرّ�شي ِد‬
‫ٍ‬
‫محمد‬ ‫ذهبي لل ّدول ِة الإ�سالم ّي ِة في الع�صرِ الع ّب ّ‬
‫ا�سي‪ُ -‬و َلد الأمي ُر هارو ُن ب ُن‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬كانت بداي َة ع�صرٍ‬
‫ْ‬ ‫في ليل ٍة مبارك ٍة‬
‫وذلك في مدين ِة ال ّر ِّي (مدين ٍة تق ُع‬‫�شيد‪َ ,‬‬‫بهارون ال ّر ِ‬
‫َ‬ ‫عبد اهلل ِ بن ِ الع ّب ِ‬
‫ا�س‪ ,‬الملق ِّب‬ ‫علي بن ِ ِ‬ ‫ٍ‬
‫محمد بن ِ ٍّ‬ ‫عبداهلل ِ بن ِ‬
‫بن ِ ِ‬
‫نف�س ُه �أمير ًا في‬
‫ليجد َ‬
‫وفتح عينيه على ال ّدنيا َ‬ ‫عام ‪ 148‬هـ‪َ ,‬‬ ‫إيران) في ِ‬‫طهران عا�صم ِة � َ‬ ‫َ‬ ‫رقي من مدين ِة‬ ‫الجنوب ال�شّ ِ‬‫ِ‬ ‫في‬
‫الوقت) والي ًا (حاكم ًا) على‬ ‫ِ‬ ‫حينئذ (في َ‬
‫ذلك‬ ‫ٍ‬ ‫وكان‬
‫المهدي‪َ ,‬‬ ‫ّ‬ ‫عبد اهلل ِ ٍ‬
‫محمد‬ ‫ح�ضن ِ الخالف ِة العبا�س ّي ِة؛ فوال ُدهُ �أبو ِ‬

‫‪130‬‬
‫والد ِه الخليف ِة‬
‫إيران) من قبلِ ِ‬ ‫تركمان�ستان وجزء ًا من � َ‬ ‫َ‬ ‫أفغان�ستان و�أجزا َء من‬
‫َ‬ ‫وخرا�سان (هو �إقلي ٌم ي�ض ُّم �‬
‫َ‬ ‫ال ّر ّي‬
‫العبا�سي ال ّراب َع‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أ�صبح فيما بعد الخليف َة‬ ‫المن�صورِ‪ ,‬ثم � َ‬
‫كان طف ًال في‬ ‫�شيد �أم��ر ًا عادي ًا‪� ,‬ش�أنُ ُه �ش�أ ُن � ِّأي طفلٍ �آخر في هذ ِه ال ّدنيا‪ ,‬بل َ‬ ‫يكن مول ُد ه��ارو َن ال ّر ِ‬
‫لم ْ‬
‫فقد‬
‫لذلك ْ‬ ‫ؤوليات ج�سيم ٌة (عظيمةٌ)‪َ ،‬‬ ‫انتظا ِر ِه �أمو ٌر عظيمةٌ‪ ,‬وم�س� ٌ‬
‫طفق (بد�أَ) وال ُدهُ من ُذ نعوم ِة �أظفار ِه (من ُذ طفول ِت ِه) يع ّدهُ لمهم ِت ِه‬ ‫َ‬
‫العظيم ِة المنتظر ِة‪ ,‬وهي قياد ُة الم�سلمين‪.‬‬
‫�شيد‪ ,‬فوه َب ُه (�أعطاهُ) وجه ًا جمي ًال‪,‬‬ ‫هارون ال ّر ِ‬
‫َ‬ ‫وقد َم ّن اهلل ُعلى‬
‫يعرف‬ ‫ُ‬ ‫وفطن ًة (ذك��ا ًء) كبيرةً‪ ,‬ورغب ًة عظيم ًة في ال ّتع ّل ِم‪ ,‬وح ّب ًا ال‬
‫إ�سالم والم�سلمين‪.‬‬ ‫يحب ال ّدفا َع عن ال ِ‬ ‫حدود ًا للعلما ِء‪ ,‬وقلب ًا �شجاع ًا ّ‬
‫والدهُ الخليف َة ي�ستب�ش ُر ِب ِه خير ًا‪ ,‬ويع ّدهُ‬ ‫جعلت َ‬
‫فات الفريد ُة ْ‬ ‫ال�ص ُ‬‫وهذه ّ‬
‫المنا�صب القياد ّي ِة في ال ّدول ِة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لتولّي‬
‫��ان الطف ُل ه��ارو ُن‬ ‫��ان ا ألط��ف��ا ُل يلهون ويلعبون‪ ,‬ك َ‬ ‫وف��ي حين ِ ك َ‬
‫بجد‬‫�شيد يعي�شُ حيا ًة ع�سكر ّيةً‪ ,‬ويقط ُع (يم�ضي) �أوقا َت ُه يعم ُل ٍّ‬ ‫ال ّر ُ‬
‫والحرب م ّمن حو َل ُه من القاد ِة الأكْفا ِء‬ ‫ِ‬ ‫ومثابر ٍة في تعل ِّم فنون ِالقتالِ‬
‫ؤٍ‬
‫دبير) الذين يت� ّأ�سى‬ ‫ّ َ‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫َ‬
‫العمل‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫يجي‬ ‫الذي‬ ‫ء‬
‫ُ‬ ‫المر‬ ‫(جم ُع كف� َ‬
‫و‬ ‫وه‬ ‫‪,‬‬
‫بهم (يقتدي بِهِ م)‪ ،‬ويتع ّل ُم من تجاربِهِ م وخبرا ِتهِ م‪� ,‬أمثا ُل يحيى‬
‫ال�شيباني‪,‬‬
‫ّ‬ ‫ويزيد بن ِ ٍ‬
‫مزيد‬ ‫َ‬ ‫يون�س‪,‬‬
‫البرمكي‪ ,‬وال ّربي ِع بن ِ َ‬ ‫ّ‬ ‫بن ِ ٍ‬
‫خالد‬
‫لمي‪ ,‬حتى غدا‬ ‫ال�س ّ‬
‫�سيد ّ‬ ‫ويزيد بن ِ �أ ُ ٍ‬
‫َ‬ ‫ائي‪,‬‬
‫الط ّ‬ ‫والح�سن ِ بن ِ قحطب ِة ّ‬
‫وخطط َها‪ ,‬ويتمنّى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحرب‬ ‫أ�صبح) فار�س ًا قو ّي ًا �شجاع ًا يتق ُن َ‬
‫فنون‬ ‫(� َ‬
‫هلل‪.‬‬‫�أن يحظى بال�شّ هاد ِة في �سبيلِ ا ِ‬
‫‪131‬‬
‫ال�صيف‪,‬‬ ‫ِ‬
‫للجهاد في ّ‬ ‫ال�صوائف"؛لأنّها تخر ُج‬‫اب �أمير ًا لحمل ٍة ع�سكر ّي ٍة تُ�س ّمى " ّ‬
‫و�سرعان ما ُع ّين هارو ُن ال ّر�شي ُد ال�شّ ُ‬
‫َ‬
‫البيزنطي‪ ,‬وتخويف ًا َل ُه‪ ,‬ثم‬
‫ّ‬ ‫لتهديد العد ِّو‬
‫َ‬ ‫للجهاد في ِه؛‬
‫ِ‬ ‫وكذلك �أمير ًا لحمل ِة "ال�شّ واتي" ن�سب ًة �إلى ال�شّ تا ِء الذي تخر ُج‬
‫المغرب ك ّل َها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫و ّالهُ �أبوهُ بال َد‬

‫‪132‬‬
‫للعلم‬
‫محب ِ‬ ‫قلب ٌّ‬
‫ٌ‬
‫أقبل على العلم ِ‬ ‫فقد � َ‬ ‫ولذلك ْ‬ ‫َ‬ ‫إ�سالم ح ّب ًا عظيم ًا؛‬ ‫أحب هارو ُن ال ّر�شي ُد دي َن ُه ال َ‬ ‫� ّ‬
‫(يحث على الأمرِ ب�ش ّد ٍة) على ال ّتعل ِّم‪,‬‬ ‫ُّ‬ ‫ون�شاط؛ ل َّأن الإ�سال ُم ُّ‬
‫يح�ض‬ ‫ٍ‬ ‫بكل رغب ٍة‬
‫ِّ‬
‫ح�شد كبيرٍ من علما ِء‬ ‫المهدي �إلى ٍ‬ ‫ّ‬ ‫عهد ِب ِه �أبوهُ الخليف ُة‬ ‫حظ ِه �أن َ‬ ‫طيب ّ‬ ‫وكان ِمن ِ‬
‫الك�سائي‬
‫ّ‬ ‫وتعليم ِه وتثقي ِف ِه‪ ,‬وعلى ر�أ�سهم العالمان‬ ‫ِ‬ ‫ع�صرِ ِه يقومون بتهذي ِب ِه‬
‫العربي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بي‪ ,‬وهما من �أ�شهرِ علما ِء اللغ ِة وال ِ‬
‫أدب‬ ‫ال�ض ّ‬ ‫والمف�ضل ّ‬
‫ّ‬
‫�شيد بالعلما ِء �أن َّ‬
‫�ضم‬ ‫هارون ال ّر ِ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫�شديد)‬ ‫(حب‬
‫�شغف ٍّ‬ ‫وبل َغ من ِ‬
‫الملوك والخلفا ِء من العلما ِء‬ ‫ِ‬ ‫ق�ص ُرهُ ما لم ي�ض ّم ُه ق�ص ُر غيرِ ِه من‬
‫وال�شّ عرا ِء والفقها ِء وال��ق�� ّرا ِء (جم ُع ق��ارئٍ‪ ,‬وه َ��و َم ْ��ن يقر�أ ُ‬
‫اب والمو�سيقيين والنّدما ِء‬ ‫ويحفظ ُه) والق�ضا ِة والك ّت ِ‬ ‫ُ‬ ‫القر� َآن‬
‫ال�سهرِ )‪.‬ويكفي القو ُل � ّإن‬ ‫الم�صاحب في ّ‬ ‫ُ‬ ‫نديم‪ ,‬وه َو‬ ‫(جم ُع ٍ‬
‫مروان‬
‫َ‬ ‫قد حوى من العلما ِء القا�ضي �أبا يو�سف وال�شّ َ‬
‫اعر‬ ‫مجل�س ُه ْ‬ ‫َ‬
‫إبراهيم‬
‫َ‬ ‫ابن ال ّربي ِع و�‬‫والف�ضل َ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫محمد‪,‬‬ ‫بن‬‫ا�س َ‬ ‫بن ِ حف�ص َة والع ّب َ‬
‫المو�صلي‪.‬‬
‫ّ‬
‫�شيد الكثي ُر من كبا ِر‬ ‫هارون ال ّر ِ‬ ‫َ‬ ‫عا�ش في ع�صرِ‬ ‫وقد َ‬ ‫ْ‬
‫ومالك بن ِ � ٍ‬
‫أن�س‬ ‫ٍ‬ ‫ّيث بن ِ ٍ‬
‫�سعد‬ ‫مبارك والل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫عبد اهلل ِ بن ِ‬
‫العلما ِء �أمثال ِ‬
‫�صاحب �أبي حنيفةَ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ومحمد بن ِ الح�سن ِ‬ ‫و�سيبوي ِه‬
‫ي�صب الما َء َ‬
‫بعد‬ ‫ُّ‬ ‫كان‬ ‫�شيد للعلما ِء‪ ,‬وح ّب ِه ِ‬
‫للعلم‪� ,‬أ ّن ُه َ‬ ‫هارون ال ّر ِ‬
‫َ‬ ‫وبل َغ من �إجاللِ‬
‫عام على �أيدي العلما ِء الذين كانوا هم �أي�ض ًا يجلّو َن ُه ّ‬
‫(يعظ ُم ُه)‪ ،‬ويحترمو َن ُه‪,‬‬ ‫الط ِ‬‫ّ‬

‫‪133‬‬
‫‪133‬‬
‫دون ٍ‬
‫خوف من ُه‪,‬‬ ‫ويق ّدرون مكان َت ُه ال ّرفيع َة في ِ‬
‫العلم‪ ,‬ويعظو َن ُه (ين�صحو َن ُه) َ‬
‫وير�شدو َن ُه �إلى الخيرِ ‪ ,‬فيبكي بحرق ٍة خوف ًا من اهللِ؛ �إذ هو راعي الم�سلمين والم�س�ؤو ُل‬
‫وجل‪.‬‬
‫عز َّ‬ ‫أمام الخال ِق َّ‬
‫عنهم � َ‬

‫‪134‬‬
‫أن�س‪,‬‬ ‫إمام ِ‬
‫مالك بن ِ � ٍ‬ ‫كتاب لل ِ‬‫الموط�أ (ه َو ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ل�سماع‬
‫ِ‬ ‫كان يرح ُل بولدي ِه الأمين ِ والم�أمون ِ �إلى المدين ِة المن ّور ِة‬ ‫كذلك َ‬ ‫َ‬
‫إمام ٍ‬
‫مالك بن ِ‬ ‫أحاديث النّبوي ُة م�صنف ًة ومبوبةً‪ ,‬وا�ستغرقَ ت�ألي ُف ُه �أربعين �سنةً) من ال ِ‬ ‫ُ‬ ‫�ضعت في ِه ال‬‫كتاب ُو ْ‬ ‫وه َو أ� ّو ُل ٍ‬
‫رف عن خليف ٍة غيره ال ّرحي ُل من �أجلِ ِ‬
‫العلم‪.‬‬ ‫أن�س‪ ,‬وما ُع َ‬ ‫� ٍ‬
‫فكان حازم ًا كريم ًا متوا�ضع ًا عاد ًال �صادق ًا‬ ‫وجه‪َ ,‬‬ ‫�شيد على خيرِ ٍ‬ ‫هارون ال ّر َ‬
‫َ‬ ‫وهذا العل ُم الوفي ُر قد �شحذَ (�شك َّل)‬
‫ولذلك ك ّل ِه لُق َّب بـ "ج ّبا ِر بني الع ّب ِ‬
‫ا�س"‪.‬‬ ‫َ‬ ‫مح ّب ًا للحكم ِة وكاره ًا للجدالِ والنّفاقِ والغد ِر �شهم ًا فار�س ًا �شجاع ًا‪,‬‬
‫أعداد كبي����ر ٍة من ِ‬
‫الكتب‬ ‫بيت الحكم���� ِة‪ ,‬وز ّودها ب� ٍ‬ ‫فقد �أن�ش�أَ َ‬ ‫كل الم�سلمي����ن‪ْ ,‬‬ ‫العلم �إلى ِّ‬
‫وك����ي ينق���� َل هارو ُن ال ّر�شي���� ُد ِ‬
‫ركن في ندو ٍة للتالقي‬ ‫وكانت ت�ض ُّم غرف ًا كثي����ر ًة تمت ُّد بينها �أروق ٌة (جم ُع رواقٍ ‪ ,‬وه َو ٌ‬ ‫بقاع ال ّدنيا‪ْ ,‬‬ ‫����ات من �ش ّتى ِ‬ ‫والم�ؤ ّلف ِ‬
‫أ�صبحت منار ًة‬
‫ْ‬ ‫للمحا�ضرات‪ ,‬والأخرى للنّا�سخي����ن والمترجمين والمج ّلدين‪.‬ف�‬ ‫ِ‬ ‫وال ّت�ش����اورِ) طويلةٌ‪ ,‬وخُ ّ�ص ْ‬
‫�صت بع�ضها‬
‫االهتمام والعناي ِة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�شيد َّ‬
‫كل‬ ‫للعلم‪ ,‬يوليها هارو ُن ال ّر ِ‬ ‫ِ‬
‫الخليفةُ المجاهد ُ‬
‫خرج على‬ ‫بد�أَ هارو ُن ال ّر�شي ُد حيا َت ُه مجاهد ًا‪ ,‬ففي �سن ِة ‪165‬هـ َ‬
‫وم‪ ,‬وعا َد منت�صر ًا منها‪ ,‬فكوفئَ‬ ‫ر� ِأ�س حمل ٍة ع�سكر ّي ٍة َّ‬
‫�ضد ال ّر ِ‬
‫ٍ‬
‫محمد‬ ‫بعد �أخي ِه �أبي‬ ‫والدهُ الخليف ُة ولي ًا ثاني ًا ِ‬
‫للعهد َ‬ ‫ب� ْأن جع َل ُه ُ‬
‫مو�سى الهادي‪.‬‬
‫هارون ال ّر ِ‬
‫�شيد كلُّ َها جها ٌد‪,‬‬ ‫َ‬ ‫و�شا َء اهلل ُ�أن َ‬
‫تكون حيا ُة‬
‫بعد �أخي ِه الخليف ِة‬‫أ�صبح خليف ًة َ‬‫العام ‪ 170‬هـ � َ‬ ‫ففي ِ‬
‫العبا�سي‬
‫ّ‬ ‫بذلك الخليف َة‬‫ليكون َ‬
‫ال ُمتوفّى الهادي‪َ ,‬‬
‫ا�س الذين‬ ‫الخام�س من �سالل ِة بني الع ّب ِ‬ ‫َ‬
‫جعلوا بغدا َد عا�صم ًة لهم‪.‬‬

‫‪135‬‬
136
‫�شيد الذي كان ي�ؤم ُن بقو ِة ب� ّأن‬ ‫هارون ال ّر ِ‬‫َ‬ ‫كان الجها ُد في انتظا ِر‬ ‫ومن ُذ اللحظ ِة الأولى َ‬
‫كتب على قلن�سو ِت ِه (قبع ِة ال ّر� ِأ�س)‬ ‫فقد َ‬‫ولذلك ْ‬ ‫َ‬ ‫العدلَ والجها َد هما دعامتا � ّأي دول ٍة �إ�سالم ّي ٍة عزيز ٍة‪,‬‬
‫ٍ‬
‫تهديد يواج ُه‬ ‫هلل‪ ,‬والق�ضا ِء على � ِّأي‬ ‫نف�س ُه لإعال ِء كلم ِة ا ِ‬ ‫عب)‪ ،‬ونذ َر َ‬ ‫ات وال ّله َو (ال ّل َ‬ ‫حاج ًا"‪ .‬وهج َر الملذّ ِ‬ ‫"غازٍ ّ‬
‫حديث ال ّر�سولِ ‪" :‬والذي‬ ‫َ‬ ‫وكان ك ّلما �سم َع‬‫إ�سالم‪َ ,‬‬ ‫أمام � ِّأي عد ٍّو لل ٍ‬ ‫ي�ضعف � َ‬ ‫َ‬ ‫ورف�ض �أن‬ ‫َ‬ ‫الإمبراطوري ِة الإ�سالم ّي ِة‪,‬‬
‫ينتحب‬
‫َ‬ ‫لوددت �أنّي �أغزو في �سبيلِ اهلل ِ ف�أُقت ُل‪ ,‬ثم �أغزو ف�أقت ُل‪ ,‬ثم �أغزو ف�أُقت ُل" يبكي بقو ٍة حتى‬ ‫ُ‬ ‫محمد بيد ِه‬ ‫ٍ‬ ‫نف�س‬
‫ُ‬
‫مرتفع)‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ب�صوت‬ ‫(يبكي‬
‫حرب طويل ٌة لم تتو ّق ْف طوالَ حيا ِت ِه مع ال ّر ِوم‪ ,‬بد�أت َها "�إيريني" ملك ُة ال ّر ِوم ِ‬
‫بطلب‬ ‫�شيد ٌ‬ ‫لهارون ال ّر ِ‬ ‫َ‬ ‫وكان‬
‫َ‬
‫العام ‪181‬هـ‪,‬‬ ‫وذلك في ِ‬ ‫ال�ص ِلح ودف ِع الجزي ِة (هي ما ٌل ي�ؤخ ُذ من �أهلِ الذّم ِة) للم�سلمين‪َ ,‬‬ ‫ّ‬
‫قف عن دف ِع الجزي ِة‪ ,‬ثم � َ‬
‫أر�سل‬ ‫بنق�ض الهدن ِة‪ ,‬والت ّو ِ‬ ‫الجديد "نقفو ُر" ِ‬ ‫ِ‬ ‫ملك ال ّر ِوم‬ ‫قام ُ‬ ‫�إلى �أن َ‬
‫ملك ِ‬
‫العرب‪� ,‬أ ّما‬ ‫ملك ال ّر ِوم �إلى ِ‬ ‫�شيد يقو ُل في ِه‪" :‬من نقفو َر ِ‬ ‫هارون ال ّر ِ‬ ‫َ‬ ‫كتاب ًا (ر�سال ًة) �إلى‬
‫أ�سطوري عمالقٍ )‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫مقام ال ّر ِخ (طائرٍ �‬ ‫أقامتك َ‬ ‫كانت قبلي � َ‬ ‫بع ُد؛ف� ّإن الملك ِة �إيريني التي ْ‬
‫إليك من �أموا ِل َها �أحما ًال‪َ ,‬‬
‫وذلك‬ ‫فحملت � َ‬
‫ْ‬ ‫ال�صغيرِ )‪،‬‬ ‫(الطائرِ ّ‬ ‫مقام البيدقِ ّ‬ ‫نف�س َها َ‬ ‫أقامت َ‬ ‫و� ْ‬
‫قبلك من �أموا ِل َها‪ِ ,‬‬
‫وافتد‬ ‫َ‬
‫ح�صل َ‬ ‫وحمقهن‪ ,‬ف� ْإن ق��ر� َأت كتابي ف��ارد ْد ما‬ ‫ّ‬ ‫ل�ضعف النّ�سا ِء‬ ‫ِ‬
‫وبينك"‪.‬‬ ‫فالحرب بيننا َ‬ ‫ُ‬ ‫نف�س َك‪ ,‬و�إ ّال‬ ‫َ‬
‫(غ�ضب بقو ٍة) حتى لم يتم ّك ْن‬ ‫َ‬ ‫ا�ست�شاط غ�ضب ًا‬ ‫َ‬ ‫الكتاب‬
‫َ‬ ‫فل ّما قر�أَ هارو ُن ال ّر�شي ُد‬
‫كتب �إلي ِه‬‫�أح ٌد من ال ّنظرِ �إلى وجهِ ِه ف�ض ًال عن �أن يك ّل َم ُه‪ ,‬وتف ّرقَ جل�سا ؤ�هُ‪ ,‬ثم َ‬
‫ذل �أو‬
‫اف�ض ل ِّأي ٍّ‬‫القوي الواثقِ بر ّب ِه ال ّر ِ‬ ‫الم�سلم ِّ‬
‫ِ‬ ‫مبا�شر ًة على ظهرِ كتا ِب ِه بقو ِة‬
‫هارون �أميرِ الم�ؤمنين �إلى "نقفو َر"‬ ‫َ‬ ‫حيم‪ ,‬من‬ ‫ب�سم اهلل ِ ال ّرحمن ِ ال ّر ِ‬ ‫مهان ٍة‪ِ " :‬‬
‫والجواب ماتراهُ ال مات�سم ُع ُه"‪.‬‬‫ُ‬ ‫ابن الكافر ِة‪,‬‬ ‫كتابك يا َ‬ ‫فقد قر� ُأت َ‬ ‫كلبِ ال ّر ِوم‪ْ ,‬‬

‫‪137‬‬
‫بالقرب من الق�سطنطيني ِة‬ ‫ِ‬ ‫وج ّه َز هارو ُن ال ّر�شي ُد جي�ش ًا عمالق ًا من الم�سلمين طا َر ِب ِه �إلى مدين ِة هرقل َة (مدين ٍة‬
‫وحمل �إلي ِه مالَ الجزي ِة‪,‬‬
‫َ‬ ‫هارون ال ّر ِ‬
‫�شيد‪,‬‬ ‫َ‬ ‫يتو�س ُل الهدن َة ّ‬
‫وال�ص َلح مع‬ ‫في تركيا) وحار َب ُه حرب ًا �ضاري ًة (قو ّيةً) جعل ْت ُه ّ‬
‫بجي�ش ج ّرا ٍر (كبيرٍ )‪،‬‬
‫جديد في عام ‪ 188‬هـ ٍ‬ ‫ال�ص ِلح‪ ,‬ف�سا َر هارو ُن ال ّر�شي ُد �إلي ِه من ٍ‬ ‫نق�ض ّ‬
‫�سرعان ما عا َد �إلى ِّ‬
‫َ‬ ‫ولكنّه‬
‫ال�ص ِلح‪,‬‬
‫طلب ّ‬‫جديد �إلى ِ‬ ‫وجرح "نقفو َر" الذي �سار َع من ٍ‬ ‫ألف رجلٍ‪َ ,‬‬ ‫جند ِه �أربعين � َ‬‫قتل من ِ‬‫وهزم ُه �ش َّر هزيم ٍة حتى �إ ّن ُه َ‬
‫َ‬
‫وم‪ ,‬فابته ُج الم�سلمون َ‬
‫بذلك‪.‬‬ ‫م�سلم في �سجون ِ ال ّر ِ‬
‫ٍ‬ ‫وقبل بفدا ِء �أ�سرى الم�سلمين‪ ,‬فلم َ‬
‫يبق � ُّأي �أ�سيرٍ‬ ‫َ‬

‫‪138‬‬
‫حدود ال ّدول ِة‬ ‫جندي لمهاجم ِة ِ‬ ‫ّ‬ ‫ألف‬
‫�ضخم عدده ‪َ � 135‬‬ ‫ٍ‬ ‫ال�ص ِلح‪ ,‬وعا َد ٍ‬
‫بجي�ش‬ ‫نق�ض ّ‬ ‫جديد �إلى ِ‬ ‫�إ ّال � ّأن نقفو َر عا َد من ٍ‬
‫يجر ذيولَ الخيب ِة والهزيم ِة‪,‬‬ ‫بلد ِه ُّ‬
‫جديد‪ ,‬فعا َد وجي�شُ ُه �إلى ِ‬ ‫المر�صاد‪ ,‬وهزمو ُه من ٍ‬ ‫ِ‬ ‫العبا�س ّي ِة‪َ ,‬‬
‫فكان َل ُه الم�سلمون في‬
‫�شيد على �أن ال يعم َر مدين َة هرقل َة من ٍ‬
‫جديد‪.‬‬ ‫هارون ال ّر ِ‬‫َ‬ ‫واتفق مع‬ ‫هد بدف ِع الجزي ِة �صاغر ًا (ذلي ًال) َ‬ ‫وت ّع َ‬
‫ففتح مدين َة‬ ‫يعرف كل ًال (مل ًال) �أو تهاون ًا‪َ ,‬‬ ‫دون �أن َ‬ ‫الجهاد َ‬ ‫ِ‬ ‫المزيد من‬ ‫ِ‬ ‫�شيد �إلى‬
‫هارون ال ّر َ‬
‫َ‬ ‫الن�ص ُر قا َد‬
‫وهذا ّ‬
‫وتعظ ُم �ش� َأن‬ ‫إ�سالم‪ّ ,‬‬ ‫تجوب الآفاقَ ‪ ,‬وتفت ُح البال َد‪ ,‬وتن�ش ُر ال َ‬ ‫تحت �إمار ِة خيرِ ق ّو ِاد ِه ُ‬ ‫الجيو�ش الإ�سالم ّي َة َ‬
‫َ‬ ‫هرقلةَ‪ ,‬و� َ‬
‫أر�سل‬
‫أر�ض‬‫الكثير من � ِ‬ ‫َ‬ ‫وفتح‬
‫إيران) وما ورا َء النّهرِ ‪َ ,‬‬ ‫بالد � َ‬ ‫يلم (ناحي ٍة من ِ‬ ‫أر�ض ال ّد ِ‬ ‫ففتح � َ‬‫الم�سلمين في عيون ِ الآخرين‪َ ,‬‬
‫ّروم وجزير ِة كريت‪.‬‬ ‫ال ِ‬
‫متب�صر ًا‬‫ّ‬ ‫�شيد على رعي ِت ِه وعلى �سالم ِتها جعلت ُه‬ ‫��ارون ال ّر ِ‬ ‫و�ش ّد ُة حر�صِ ه َ‬
‫كانت تظه ُر � ُّأي ثور ٍة إ� ّال � َ‬
‫أر�سل‬ ‫ف�ساد �أو تم ّر ٍد �أو ثور ٍة‪ ,‬وما ْ‬ ‫ب�أحوالها‪ ,‬الي�سم ُح ب� ّأي ٍ‬
‫قام بها‪ ,‬وي�صل ُح الأحوالَ من ٍ‬
‫جديد‪.‬‬ ‫�إليها جي�ش ًا يخم ُد َها‪ ,‬ويق�ضي على من َ‬
‫نفوذ البرامك ِة في دول�� ِت�� ِه‪,‬‬ ‫لفرط (ل�ش ّد ِة) ِ‬ ‫ِ‬ ‫وعندما تن ّب َه ه���ارو ُن ال ّر ِ‬
‫�شيد‬
‫كادت �سلطتُهم‬ ‫و�سيطرتهم على الأمورِ‪ ,‬وم�آلِ الكلم ِة العليا في ال ّدول ِة �إليهم‪ ,‬حتى ْ‬
‫هدم �سلط ِتهم‪,‬‬ ‫فار�سي‪� ,‬سار َع �إلى ِ‬ ‫ّ‬ ‫نف�س ِه‪ ,‬وكانوا من �أ�صلٍ‬ ‫�شيد ِ‬ ‫هارون ال ّر ِ‬
‫َ‬ ‫تطغى على‬
‫الحكم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وجعل مكا َن ُهم عرب ًا ي�ساعدون ُه في‬ ‫الحكم‪َ ,‬‬ ‫ِ‬ ‫إبعادهم عن‬ ‫وت�شريدهم و� ِ‬ ‫ِ‬
‫لل�سال ِم‪ ,‬و�ساعي ًا �إليه مع‬ ‫يكون مح ّب ًا ّ‬ ‫�شيد لم تمنعه من �أن َ‬ ‫هارون ال ّر ِ‬
‫َ‬ ‫وقو ُة‬
‫إ�سالم‪ ,‬والي�ضم ُر �شر ًا للم�سلمين‪ ,‬فذا َع �صيت ُه (� َ‬
‫أ�صبح‬ ‫كل من يحتر ُم ال َ‬ ‫ِّ‬
‫تطلب‬
‫ُ‬ ‫بالط ِه‬
‫وال�صي ُن و�أوروبا ر�س َل َها �إلى ِ‬ ‫أر�سلت الهن ُد ّ‬ ‫م�شهور ًا)‪ ،‬و� ْ‬
‫ملك فرن�سا‬ ‫�شيد مع ِ‬ ‫هارون ال ّر ِ‬‫َ‬ ‫وكانت �صداق ُة‬ ‫ْ‬ ‫و َّدهُ و�صداق َت ُه‪,‬‬
‫ب�شارلمان هي الأ�شه ُر‪ ,‬ويقا ُل‬ ‫َ‬ ‫كارلو�س الكبيرِ الملق ِّب‬ ‫َ‬
‫وقد �أهداهُ‬ ‫�إنّهما كانا يتبادالن الهدايا النّادر َة‪ْ ,‬‬
‫‪139‬‬
‫المطلي‬
‫ّ‬ ‫و�شمعدانات‪ ,‬و�ساع ٌة كبير ٌة من البرونزِ‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫حيوانات نادرةً‪ ,‬منها في ٌل عمالقٌ ‪ ,‬و�أقم�ش ٌة فاخرةٌ‪,‬‬ ‫هارو ُن ال ّر ُ‬
‫�شيد‬
‫الظهير ِة‪ ,‬يخر ُج منها اثنا ع�ش َر فار�س ًا من اثنتي ع�شر َة نافذ ًة تُغل ُق‬ ‫هب م�صنوع ٍة في بغدا َد‪ ,‬وحينما تدقُّ �ساع َة ّ‬ ‫بالذّ ِ‬
‫ال�ساع ِة‪ ,‬وفزعوا من َها؛�إذ ظنّوا � َّأن فيها �سحر ًا‪.‬‬
‫العجب �شارلمان وحا�شيت ُه من هذ ِه ّ‬
‫ُ‬ ‫من خل ِفهم‪ ,‬وقد تمل َّك‬

‫‪140‬‬
‫الرّعيّةُ ال ّ�سعيدةُ‬
‫كل الخيرِ والبرك َة والقو َة‬ ‫هارون ال ّر ِ‬
‫�شيد َّ‬ ‫َ‬ ‫عرفت الإمبراطور ّي ُة الإ�سالمي ُّة الع ّبا�س ّي ُة في �إ ّبان ِ (في زمنِ ) خالف ِة‬
‫ْ‬
‫أ�سباب ال ّرخا ِء وال ّرفاهي ِة والنّما ِء في �إمبراطوري ِت ِه‬
‫كل � ِ‬ ‫أمن‪ ,‬فهارو ُن ال ّر�شي ُد الخليف ُة المجاه ُد العاب ُد قد وف َّر َّ‬‫وال َ‬
‫العرو�س" لكثر ِة خيرِ َها وخ�ص ِب َها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫حكم ِه بـ "� ِ‬
‫أيام‬ ‫يت فتر ُة ِ‬
‫حتى �س ّم ْ‬
‫وكانت الإمبراطور ّي ُة الإ�سالم ّي ُة حي َن َها كبير ًة مترامي َة ال ِ‬
‫أطراف‪ ,‬ممت ّد ًة‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫البيئات‪ ,‬ومتع ّدد َة‬ ‫المحيط الأطلنطي‪ ,‬ومختلف َة‬ ‫ِ‬ ‫من ِ‬
‫و�سط �آ�سيا �إل��ى‬
‫ليح�سن‬
‫َ‬ ‫�شيد؛‬ ‫قاليد‪ ,‬وتحتا ُج �إل��ى خليف ٍة مثلِ ه َ‬
‫��ارون ال ّر ِ‬ ‫ال��ع ِ‬
‫��ادات وال ّت ِ‬
‫كانت فيه و�سائ ُل اال ّت�صالِ �صعبةً‪ ,‬ومتابع ُة الأمو ِر‬ ‫وقت ْ‬ ‫�سيا�س َت َها في ٍ‬
‫مجهدةً‪.‬‬
‫��ان ع��م�� ُرهُ لم يتجاو َز الخام�س َة‬ ‫�شيد ال��ذي ك َ‬ ‫���ارون ال ّر َ‬
‫ولكن ه َ‬ ‫ّ‬
‫ملك ِه‪ ,‬و� َ‬
‫أقام العدلَ وال ّرحم َة في رع ّي ِت ِه‪,‬‬ ‫أح�سن �سيا�س َة ِ‬
‫والع�شرين قد � َ‬
‫المظالم �إلى �أه ِل َها‪ ,‬وا�ستق�صى (تح ّرى في الأمرِ ‪ ,‬وعر َف ُه ب�شكلٍ‬ ‫َ‬ ‫ور َّد‬
‫بنف�س ِه‪ ,‬حتى �إ ّن ُه َ‬
‫كان ينز ُل �إلى الأ�سواقِ‬ ‫�صحيح) �أحوالَ الم�سلمين ِ‬ ‫ٍ‬
‫والأحيا ِء ليتفق َّد الأحوالَ ‪.‬‬
‫الحدود مع الأعدا ِء)‪،‬‬‫ِ‬ ‫مدن ال ّثغو ِر (هي المد ُن الواقع ُة على‬ ‫وقد ع ّم َر َ‬
‫كان ال ّرو ُم قد ه ّدموا‬ ‫أبواب القو ّي ِة‪ ,‬بعد �أن َ‬‫والقالع والح�صون ِ وال ِ‬ ‫ِ‬ ‫و� َ‬
‫أحاط َها بالأ�سوا ِر‬
‫إ�سالمي قو َت ُه‪ ,‬و�أعا َد بنا َءهُ‪ ,‬كما‬
‫ّ‬ ‫البحري ال‬
‫ّ‬ ‫بت�شييد مدنٍ جديد ٍة‪ ,‬كما �أعا َد �إلى الأ�سطولِ‬ ‫ِ‬ ‫وقام‬
‫أحرقوها‪َ ,‬‬
‫َ‬ ‫معظم َها و�‬
‫َ‬
‫�أن�ش�أَ دار ًا ل�صناع ِة ّ‬
‫ال�سفنِ ‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫ّا�س من‬ ‫رائب من الن ِ‬ ‫وحر�ص هارو ُن ال ّر�شي ُد على �أن يخف َّف الأعبا َء المالي َة عن ال ّرعي ِة‪ ,‬ومن َع جم َع الأموالِ ّ‬
‫وال�ض ِ‬ ‫َ‬
‫يو�سف‪,‬‬‫َ‬ ‫وعهد �إلى القا�ضي �أبي‬ ‫ّ�صف‪َ ,‬‬ ‫بعد الن ِ‬ ‫غيرِ وج ِه حقٍ ‪ ,‬و�ألغى �ضريب َة ال ّ ُع�شرِ التي كانت تُ�ؤخ ُذ من الفالحين َ‬
‫للخراج‬
‫ِ‬ ‫الخراج" وا�ضع ًا فيه نظام ًا �شام ًال‬ ‫ِ‬ ‫وكان قا�ضي الق�ضاة في بغداد‪ ,‬بتنظيم �أمو ِر ال ّدول ِة المال ّي ِة‪ ,‬ف�أل َّف َ‬
‫كتاب "‬ ‫َ‬
‫�سنوي) بما ي ّتف ُق مع ال�شّ ريع ِة الإ�سالم ّي ِة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(هو الما ُل الذي يُدف ُع عن ال ِ‬
‫أر�ض ب�شكلٍ‬
‫وفا�ضت الأموا ُل في خزين ِة دا ِر مالِ الم�سلمين‪ ,‬وا�ستغل ّْت في‬ ‫ْ‬ ‫فقد �شهدت ال ّدول ُة رخا ًء كبير ًا‪,‬‬
‫وب�سبب هذا العدلِ ‪ْ ,‬‬‫ِ‬
‫العلوم والفنونِ ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بنا ِء الحيا ِة االقت�صاد ّي ِة‪ ,‬وتمويلِ العمرانِ ‪ ,‬وازدها ِر‬
‫الطريقِ �إلى مك ِة المك ّرم ِة؛طلب ًا‬ ‫ونظ َم هارو ُن ال ّر�شي ُد طرقَ الو�صولِ �إلى الحجازِ‪ ,‬وبنى الق�صو ِر والمنازلِ على طولِ ّ‬ ‫ّ‬
‫دت‬ ‫ماء تبع ُد عنها نح َو ثالثين مي ًال‪ ,‬ثم ح ّد ْ‬ ‫وعملت زوجتُ ُه زبيد ُة على �إي�صالِ الما ِء �إلى مك َة من عين ِ ٍ‬ ‫ْ‬ ‫لراح ِة ّ‬
‫الحجاج‪,‬‬
‫فرت على طو ِل َها الآبا ُر والعيو ُن‪.‬‬ ‫وح ْ‬ ‫قطعوها‪ُ ,‬‬
‫َ‬ ‫الم�سافات التي‬
‫َ‬ ‫الحجا ُج‬ ‫َ‬
‫؛ليعرف ّ‬ ‫الطريقِ بالأميالِ‬ ‫معالم ّ‬
‫َ‬

‫‪142‬‬
‫وتناف�س‬ ‫َ‬ ‫كانت فريد ًة في ح�ضار ِت َها وعمار ِت َها‪,‬‬ ‫أعظم مدن ِ ال ّدنيا؛فقد ْ‬ ‫وغدت بغدا ُد من � ِ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫وت�شييد‬ ‫رع والأنهارِ‪,‬‬ ‫الأغنيا ُء وكبا ُر رجالِ ال ّدنيا في �إقام ِة الم�شاريع فيها‪ ,‬مث ُل حفرِ ال ّت ِ‬
‫فات�سعت بغدا ُد‪ ,‬حتى بل َغ عد ُد �سكا ِن َها‬ ‫ْ‬ ‫الطرقِ ‪ ,‬وبنا ِء الق�صو ِر الجميل ِة‪,‬‬ ‫ِ‬
‫وتعبيد ّ‬ ‫ِ‬
‫الم�ساجد‪,‬‬
‫نفي�س‪,‬‬ ‫ّفائ�س (جم ُع ٍ‬ ‫و�ضج ْت بالب�ضائ ِع والن ِ‬ ‫كل مكانٍ ‪ّ ,‬‬ ‫التجا ُر من ِّ‬
‫وق�صد َها ّ‬
‫َ‬ ‫مليون ن�سم ٍة‪,‬‬
‫العلم الذين تحت�ضنُ ُهم الم�ساج ُد‬ ‫غدت قبل َة طالبي ِ‬ ‫رغب في ِه)‪ ،‬كما ْ‬ ‫وهوال�شّ ي ٌء عظي ُم القيم ِة‪ ,‬يُ ُ‬
‫كانت‬ ‫وق�صد َها الأطبا ُء والعلما ُء والمهند�سون و�سائ ُر ال�صن ِّاع؛�إذ ْ‬ ‫َ‬ ‫والجامعات وزوايا ِ‬
‫العلم‪,‬‬ ‫ُ‬
‫خلف‬ ‫وكان هارو ُن ال ّر�شي ُد ورجا ُل دول ِت ِه يقفون َ‬ ‫والعلم والجدلِ والمناق�ش ِة‪َ .‬‬ ‫ِ‬ ‫�أر�ض ًا للحر ّي ِة‬
‫أدب والعملِ بالمالِ والهدايا والعطايا (جم ُع‬ ‫العلم واالبتكا ِر وال ِ‬
‫أهل َ‬ ‫هذ ِه النّه�ض ِة‪ ,‬ويدعمون � َ‬
‫�أعطي ٍة‪ ,‬وهي الهب ُة)‪.‬‬
‫خالد البرمكي على الوزار ِة‪,‬‬ ‫بن ٍ‬ ‫جعل يحيى َ‬ ‫وا�ستهل (بد�أَ) هارو ُن ال ّر�شي ُد خالف َت ُه ب�أن َ‬ ‫َّ‬
‫بيت‬ ‫الخراج الذي كان يدخ ُل �إلى ِ‬ ‫ِ‬ ‫و�ضاعف من �أموالِ‬‫َ‬ ‫فنه�ض ب�أعبا ِء ال ّدول ِة على خيرِ ٍ‬
‫وجه‪,‬‬ ‫َ‬
‫مليون‬
‫َ‬ ‫الخراج نحو ‪400‬‬ ‫َ‬ ‫بعد �أن تق�ضي الأقالي ُم الإ�سالم ّي ُة حاج َت َها منُ ُه‪ ,‬حتى بل َغ‬ ‫المالِ َ‬
‫حيث‬ ‫ال�سما ِء‪ ,‬ويقو ُل ل َها بفخرٍ ‪" :‬امطري ُ‬ ‫‪.‬وكان هارو ُن ال ّر�شي ُد ينظ ُر �إلى الغيم ِة في ّ‬ ‫درهم َ‬ ‫ٍ‬
‫خراج ُك"‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إلي‬
‫ف�سوف ي�أتي � ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫�شئت‬
‫الخليفةُ العابد ُ‬
‫يكن هارو ُن ال ّر�شي ُد خليف ًة اله ّي ًا العب ًا غارق ًا في المتع ِة‪ ,‬فهذ ِه هي ّ‬
‫ال�صور ُة الم� ّشوه ُة‬ ‫لم ْ‬
‫إ�سالم والم�سلمين‪,‬‬‫�شيد‪ ,‬ليف�سدوا �صور َة ال ِ‬ ‫لهارون ال ّر ِ‬
‫َ‬ ‫التي حاولَ �أعدا ُء الم�سلمين �أن يعطوها‬
‫كان مثا ًال م�شرق ًا للخليف ِة‬
‫ال�ساطع َة المدعوم َة بالحقائقِ ال ّتاريخ ّي ِة تقو ُل �إ ّن ُه َ‬
‫ولكن الحقيق َة ّ‬
‫العابد الذي يخ�شى اهلل‪ َ,‬ويعم ُل جاهد ًا لمر�ضا ِت ِه‪.‬‬ ‫الم�سلم الم�ؤمن ِ ِ‬
‫ِ‬

‫‪143‬‬
‫يوم مئ َة ركع ٍة‪,‬‬
‫كل ٍ‬ ‫كان ي�صلّي في ِّ‬ ‫الح؛ فقد َ‬ ‫بكل �صو ِر الإيمان ِ والخيرِ والعباد ِة ّ‬
‫وال�ص ِ‬ ‫�شيد حافل ٌة ِّ‬‫هارون ال ّر ِ‬
‫َ‬ ‫و�سير ُة‬
‫َ‬
‫كذلك للعلما َء‬ ‫كثير العطا ِء للفقرا ِء ّ‬
‫وال�سائلين‪ ,‬ويح�س ُن‬ ‫كان َ‬ ‫درهم‪ ,‬كما َ‬
‫ٍ‬ ‫يوم ب� ِ‬
‫ألف‬ ‫ويت�ص ّد ُق من ما ِل ِه الخا�صِ في كلَّ ٍ‬
‫وال�سال ُم �إ ّال وقالَ ‪�":‬صلّى اهلل ُعلى �سيدي"‪.‬‬
‫ال�صال ُة ّ‬‫ذكر النّبي علي ِه ّ‬
‫العلم ولل�شّ عرا ِء‪ ,‬ويجز ُل ل ُهم العطا َء‪ ,‬وما َ‬ ‫ولطالبي ِ‬
‫أحج م َع ُه مئة من الفقها ِء و�أبنا ِئهم‪,‬‬ ‫يحج عام ًا‪ ,‬ويغزو عام ًا‪ ,‬ف� ْإن َّ‬
‫حج � َّ‬ ‫وقد د� َأب (اعتا َد وا�ستم َّر) هارو ُن ال ّر�شي ُد على � ْأن َّ‬ ‫ْ‬
‫عام ‪179‬هـ ما�شي ًا‪ ,‬ولم ّ‬
‫يحج خليف ٌة‬ ‫(المالب�س)‪َ ،‬‬
‫وقيل �إ ّن ُه قد َّ‬
‫حج في ِ‬ ‫ِ‬ ‫أحج ثالثمئ ٍة بالنّفق ِة الكامل ِة والك�سو ِة‬‫يحج � َّ‬
‫و� ْإن لم ّ‬
‫قب َل ُه ما�شي ًا‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫محمد وعلى‬‫ٍ‬ ‫ال�صامتين‪ِّ ,‬‬
‫�صل على‬ ‫ال�سائلين‪ ,‬ويعل ُم �ضمي َر ّ‬ ‫حوائج ّ‬
‫َ‬ ‫يام ْن ُ‬
‫يملك‬ ‫ول ّما َ‬
‫و�صل الكعبةَ‪ ,‬تع ّل َق ب�أ�ستار َِها‪ ,‬وقالَ ‪َ " :‬‬
‫العيوب‪ ,‬وال تنق�ص ُه مغفر ُة الخطايا‪,‬‬ ‫ُ‬ ‫نوب‪ ,‬وال تخفى علي ِه‬ ‫يام ْن ال ت�ض ّرهُ الذّ ُ‬ ‫ٍ‬
‫محمد‪ ,‬واغف ْر لنا ذنو َبنَا‪ ,‬وك ّف ْر عنَا �سيئاتنا‪َ ,‬‬ ‫�آلِ‬
‫الحاجات‪ّ � ,‬إن ِم ْن حاجتي � َ‬
‫إليك �أن تغف َر‬ ‫ِ‬ ‫أنواع ال ّل ِ‬
‫غات‪ ,‬ي�س�ألو َن ُه‬ ‫خ�شعت َل ُه ال ُ‬
‫أ�صوات ب� ِ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫محمد‪ .‬يا من‬ ‫ٍ‬
‫محمد وعلى �آلِ‬ ‫ِّ‬
‫�صل على‬
‫الحمد‪ ,‬كف�ض ِل َك‬
‫ِ‬ ‫كل‬‫لك الحم ُد حمد ًا يف�ض ُل َّ‬ ‫اللهم َ‬
‫رت في لحدي‪ ,‬وتف ّرقَ عني �أهلي وولوا؛ َ‬ ‫و�ص ّي ُ‬
‫لي ذنوبي �إذا توفيتني‪ُ ,‬‬
‫و�صل علي ِه �صال ًة تكو ُن َل ُه ذخر ًا‪ ,‬واجز ِه عنّا‬
‫محمد �صال ًة تكو ُن َل ُه ر�ضا‪ِّ ,‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫محمد وعلى �آلِ‬ ‫�صل على‬‫اللهم ِّ‬ ‫على جمي ِع الخلقِ ‪َ ,‬‬
‫اللهم �أحينا �سعدا َء‪ ,‬وتوفّنا �شهدا َء‪ ,‬واجعلنَا �سعدا َء مرزوقين‪ ,‬وال تجعلنَا �أ�شقيا َء مرجومين"‪.‬‬ ‫الجزا َء الأوفى‪َ .‬‬

‫تغيب‬
‫شم�س ُ‬
‫� ٌ‬
‫كان عظيم ًا فم�صي ُرهُ �إلى زوالٍ ‪,‬‬ ‫لي�ست �إال طريق ًا �إلى الآخر ِة‪ ,‬وب� ّأن مل َك ُه مهما َ‬ ‫آمن بقو ٍة ب� َّأن الحيا َة ْ‬ ‫�شيد � َ‬ ‫هارو ُن ال ّر َ‬
‫ارحم من زالَ مل ُك ُه"‪.‬‬
‫يام ْن اليزو ُل مل ُك َك ْ‬ ‫كان يدعو اهلل َباكي ًا بحرار ٍة‪ ,‬وهو يقو ُل‪َ " :‬‬ ‫َ‬
‫ولذلك َ‬ ‫الح‪,‬‬
‫ال�ص ِ‬ ‫وال بقا َء �إ ّال للعملِ ّ‬
‫فقب�ض‬
‫َ‬ ‫عز وجلَّ لدعا ِئ ِه ّ‬
‫ال�صادقِ ‪,‬‬ ‫ا�ستجاب اهلل ُ َّ‬
‫َ‬ ‫كذلك �أن يتوفّاهُ �شهيد ًا مقات ًال في �سبي ِل ِه‪ ,‬وقد‬ ‫وكان يدعو اهلل َ َ‬ ‫ّ‬
‫عام‬
‫فن فيها في ِ‬ ‫خرا�سان‪ ,‬و ُد َ‬
‫َ‬ ‫إيران) في‬
‫خرا�سان في � َ‬
‫َ‬ ‫للجهاد في مدين ِة طو�س (هي مدين ٌة من مدن ِ‬ ‫ِ‬ ‫روح ُه وهو خار ٌج‬ ‫َ‬
‫خم�س و�أربعون �سن ٍة‪ .‬ف�صلّى عليه ابنُ ُه ّ‬
‫ال�صال ُح‪ ,‬وبُوي َع ( َقب َِل‬ ‫عندئذ ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫مفاجىء � َّألم ِب ِه (�أ�صا َب ُه) وعم ُرهُ‬
‫ٍ‬ ‫بعد ٍ‬
‫مر�ض‬ ‫‪193‬هـ َ‬
‫حينئذ في بغدا َد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لولد ِه الأمين ِ في الع�سكرِ ‪ ,‬وه َو‬ ‫يكون الخليفةَ) ِ‬ ‫ّا�س �أن َ‬ ‫الن ُ‬
‫أمر بحفرِ قبرٍ‬ ‫يموت في طو�س‪ ,‬فبكى‪ ,‬و� َ‬ ‫منام ِه أ� ّن ُه ُ‬
‫قد ر�أى في ِ‬ ‫كان ْ‬‫�شيد َ‬‫هارون ال ّر َ‬ ‫َ‬ ‫ويروى � ّأن‬
‫أعدهُ‪.‬‬
‫دفن في القبرِ الذي � َّ‬ ‫يموت‪ ,‬ويُ َ‬ ‫قبل �أن َ‬ ‫َل ُه فيه َ‬
‫أ�ضاءت الح�ضار َة الإ�سالم ّي َة‬ ‫ال�ساطع ُة القو ّي ُة التي � ْ‬ ‫�شم�س ُه ّ‬
‫غابت ُ‬ ‫�شيد ْ‬ ‫هارون ال ّر ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫وبموت‬
‫طريق المعرف ِة والح�ضار ِة ِّ‬
‫لكل‬ ‫َ‬ ‫علم ت�ضي ُء‬ ‫وجعلت بغدا َد منار َة ٍ‬ ‫ْ‬ ‫يقارب رب َع قرنٍ ‪,‬‬ ‫ُ‬ ‫لما‬
‫يمن اهلل ُ‬ ‫ِ‬
‫المجاهد‪.‬فهل ُّ‬ ‫ِ‬
‫العابد‬ ‫الم�سلم‬
‫ِ‬ ‫العالم‪ ,‬تارك ًة للإن�سان ّي ِة �صور ًة م�شرق ًة للخليف ِة‬ ‫ِ‬
‫جديد؟‬ ‫�شم�س الم�سلمين من ٍ‬ ‫يبعث َ‬‫بهارون �آخر ُ‬ ‫َ‬ ‫على الم�سلمين‬

‫‪145‬‬
‫ل ّون معنا‬

‫‪146‬‬
147
‫��رف �آراءك���م في ه��ذه الق�ص ِة‪.‬‬
‫ال�صغار ي�سعدني �أن �أع َ‬ ‫�أح ّبتي ّ‬
‫توا�صلوا معي على العنوان ِ التالي‪:‬‬
‫عنوان الم�ؤ ّلفة‪� :‬سناء �شعالن‬
‫الأردن – عمان – ‪11942‬‬
‫�ص‪.‬ب ‪13186‬‬
‫البريد االلكتروني‪Selenapollo@hotmail.com :‬‬

‫تذ ّكروا دائم ًا �أح ّبكم كثير ًا‬

You might also like