Professional Documents
Culture Documents
القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة
القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة
تأليف الشيخ
حممد بن صاحل الشاوي
غفر اهلل له ولوالدية وللمسلمني
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 2
للل
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 4
5 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
()1
ترمجةٌ مُوجَزةٌ للمؤلِّف
يمان ِ
بن بن ُس َل َ محم ِد ِ
بن عبد اهلل ِ بن عبد اهلل ِ
بن َّ محمدُ ب ُن صالحِ ِ سمهَّ : ا ُ
مي األَ ْز ُّ
دي. ُّ ْ
الشاوي ال َبق ُّ بن غانِ ٍم
محم ِد ِ
َّ
ِ
الموافق: ف يف ال ُب َك ْير َّي ِة ،بتاريخ1350/9/23( :هـ)، مولدُ هُ :ولِدَ المؤ ِّل ُ
(1932/1/31م).
أبو ْي ِن محافِ َظ ْي ِن ومتد ِّينَ ْين؛ فقد كان ِ
ف يف ال ُب َك ْير َّية بين َ نشأ ُته :نشأ المؤ ِّل ُ
عالما مِن علماء ً الشاوي ِّ بن عبد اهلل والده فضيل ُة الشيخِ صالحِ ِ
ف لما ُك ِّل َ والمنَّة؛ ولذلك َ ِ الب َكي ِرية ،وكان مِن الم ِ
اعتذ َر َّ وسري َن ،وهلل الحمدُ ُ ُ ْ َّ
االستمرار يف تحصي ِل ِ ألن القضا َء سوف َيش َغ ُل ُه عن مر َت ْين()2؛ َّ ِ
بالقضاء َّ
وإلقاء الدروس ،وعن أعمال ِ ِه التجار َّية. ِ العلم،
بالحفظ على يد ِ حيث بدأ ُ ِ
نعومة َأ ْظفاره؛ َ
القرآن منذ َح ِف َظ المؤ ِّل ُ
ف
للحر ِم
َ َ
يكون إما ًما الخ َليفي ،قبل أن
الشيخ عبد اهلل بن محمد ُ
المقرئ عبد الرحمن بن سالمِ أكم َل ِح ْف َظ ُه على الشيخِ
المكي ،ثم َ
الكريديس يف مسجد ُت ْركي(.)3
ب العلم؛ ُ
حيث اهت ََّم القرآن بدأ مسير َت ُه يف ط َل ِ
َ طل ُب ُه للعلم :وبعد أن َح ِف َظ
مجالس العلماء؛ ليتع َّل َم ويستفيدَ منهم ،وكان َّأو ُل ِ وأحض َر ُه إلى
َ به والدُ ُه،
العلم الذين ِ ِ
طلبة يجلس مع حيث كانُ ذلك عندما ب َل َغ التاسع َة من ُع ُمره؛
ُ
بفضيلة الشيخ صالح بن عبد اهلل الشاوي ؛ يف ُك ُت ِ ِ والد ِه
ون عند ِ
يدر ُس َُ
وكتب الس ِ
يرة ِ ِّ وكتب التفسير،ِ ِ
وكتب ابن الق ِّيم، شيخِ اإلسالم ابن تيم َّية،
بعض العلوم األو َل الذي تع َّلم عليه َ َ
شيخ ُه َّ النبو َّية؛ ولهذا ُيعت َب ُر والدُ ُه هو
الشرعية.
ولما ب َل َغ الحادي َة َع ْشر َة مِن ُعم ِره ،ر ِغب إليه والدُ ه أن ينضم إلى الح ْل ِ
قة َ َّ ُ ُ َ َ
محمد بن عبد اهلل يف المسجد الجامع الكبير يف ال ُب َك ْير َّية؛ ُ
ليدر َس على الشيخ َّ
الس َب ِّيل(،)1
الحر ِم المكي ،والشيخ عبد العزيز بن عبد اهلل ُّ َ الس َب ِّي ِل إما ِم
ُّ
المقبِل ،وغيرهم مِن علماء ذلك الزمان محمد بن ُمقبِ ِل ُ َّ العالمة
َّ والشيخِ
.
ِ
طلبة وانضم مع السنة الثالث َة َع ْشر َة مِن ُع ُم ِر ِه ،سافر إلى الرياض،
ِ ويف
َّ
العلم يف مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ،وأخيه الشيخ عبد ِ
وغيرهم من العلماء آن ََذاك . ِ اللطيف بن إبراهيم،
محمد بن عثمان الشاوي مِن َّ
ِ
ولما َقد َم عبد اهلل اب ُن ِّ
العم الشيخِ
ودر َس هبا ،وبعد ِ ِ
بااللتحاق ِ
فالتح َق َ
َ التوحيد يف الطائف؛ بدار الطائف ،أقنَ َع ُه
وأكم َل الثانوي َة
َ طة مِن دار التوحيد ،عاد إلى الرياض، أخ َذ شهاد َة المتوس ِ
ِّ أن َ
العلمي بالرياض. ِ
المعهد يف
ِّ
تسمى آن ََذ َ
اك: التح َق بكلية الشريعة ،والتي كانت َّ ويف عام (1372هـ) َ
تخرجه عام (1376هـ) ،وكان مِن واستمر فيها حتى ُّ
َّ «دار ال ُع ُلو ِم الشرع َّية»،
َ
ِِ ِِ ِ ٍ ِ
در َس
تخرجت يف الكلية ،وكان من مشايخه وأساتذته الذين َ ضمن َّأول ُد ْفعة َّ
ِ
تفسير (أضواء الشن ِْقيطي ،مؤ ِّل ُ
ف محمد األمين ِّ
َّ ُ
الشيخ عليهم يف الكلية:
الرزاق عفيفي ،وغيرهم من ُ
والشيخ عبد َّ ُ
والشيخ عبد العزيز بن باز، البيان)،
أهل العلم آنذاك .
تم تعيينُ ُه قاض ًيا يف تخرجه يف كلية الشريعة عام 1376هـَّ ، أعما ُله :وبعد ُّ
ِ
بتأسيس دة النُّ َع ْير َّي ِة بتاريخ1377/2/15( :هـ) ،وقام المنطقة الشرقية يف ب ْل ِ
َ
ال القضاء حتى المحكمة الشرع َّي ِة فيها ،و ُع ِّي َن رئيسا لها ،واستمر عم ُل ُه يف م َج ِ ِ
َ َ َّ َ ً
تاريخ1379/8/16( :هـ).
ويف أثناء وجوده يف النُّ َع ْير َّي ِة قاض ًيا تو َّلى إمام َة جامع النُّ َع ِير َّية ،وتو َّلى
والمناسبات. الجمعة ،ويف األعيادِ الخ َطاب َة يوم
َ
َ
ِ
هيئات تأسيس رية:
ُ توَّلها أثنا َء عمله قاض ًيا يف النُّ َع ْي ا ومن المها ِّم التي ا
رئيسا لها ،وتو َّلى أعمال والنهي عن المن َك ِر فيها ،ثم ُع ِّي َن ً ِ األمر بالمعروف، ِ
مستق ٍّل لها.ِ تم تعيي ُن رئ ٍ
يس ٍ ِ ِ
الح ْسبة فيها لفرتة وجيزة ،حتى َّ
ِ ِ عمل ِه يف
وبعد عامي ِن تقري ًبا من ِ
ب منه سماحة الشيخ مجال القضاء :ط َل َ َْ
ِ
كتابة ِ
لتأسيس وافتتاحِ َ
االنتقال إلى الرياض؛ محمدُ ب ُن إبراهيم
حيث لم يكن هناك كتاب ُة عَدْ ٍل رسم َّي ٌة هبذا ُ ال َعدْ ل ،والقيا ِم بعم ِل الالز ِم لها؛
الرياض وال َق ِصيم.
ِ ِ
منطقة ِ
االسم قبل ذلك يف
رئيسـا لهــا؛ ـيس وافتتــاحِ كتابـ ِـة َ ِ ِ
االنتهاء مِن عم َّليـ ِة تأسـ ِ
العـدْ لُ :عـ ِّي َن ً وبعد
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 8
حيث َع ِمل ُ حة بين الناس؛ بعقود األَنكِ ِِ توَّلها :قيا ُم ُه
األعمال التي ا ِ ومن ِ
نفس ِه مِن
يريد؛ وذلك بتاريخ1399/2/9( :هـ)؛ ألنه كان يريدُ إراح َة ِ
ِ
والعبادة ،وغير ذلك. لكتابة البحوث، ِ والتفر َغ ِ
األعمال الرسم َّية،
ُّ
9 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
َ
االنتقال إلى م َّك َة ِ
حر َسها اهلل، المكرم َة َ
َّ قرربعد التقا ُعد :وبعد التقا ُعد َّ
ويحض ُر
ُ الخمس، ِ
الصلوات الحر ِم المكي ،وكان يص ِّلي فيه ِ
بجوار وس َك َن
َ َ
استعادة ِح ْفظِ ِه لكتاب اهلل. ِ والمحاضرات ،وقد ساعَدَ ُه ذلك على َ الدروس
َ
الوالد حفظه اهلل أثنا َء إقامتِ ِه يف م َّك َة عناي ًة بكتاب اهلل؛ ِ رأيت مِنُ ولقد
جميع أعمال ِ ِه وتجاراتِه، َ وفهما وتد ُّب ًرا؛ حتى إنه َتر َك ألبنائِ ِهً تالو ًة وحف ًظا،
الحر ِم المكي ،حتى ال َيش َغ َل ُه شي ٌء عن َ ِ
بجوار منذ ُر ُب ِع َق ْر ٍن تقري ًبا ،وس َك َن
يه عن كل يو ٍم مرةً؛ ال ي ْثن ِ ِ القرآن يف َِّ ومدار َستِه ،وكان وال يزالَ :يختِ ُم ِ
القرآن
َ َ َّ َ
الصالة والقيا ِمِ بخالف عباداتِ ِه األخرى مِن ِ ذلك إال الضرور ُة القاهرة؛ هذا
الحر ِم المكي. وس َ وحضور در ِِ والطواف،
مشغوال يف َّأو ِل
ً كثيرا بالتأليف؛ ألنه كان مؤ الفاتُه :لم َيش َغ ِل الوالدُ َن ْف َس ُه ً
وغيرها مِن األعمال ،وبعد التقا ُع ِد ِ والخ َط ِ
ابة َ بالوظائف الحكوم َّي ِة
ِ حياتِ ِه
ِ ِ ِ الح َّر ِة ِ ِ ِ
وغيرها، بالعبادة، والتجارة ،مع االهتما ِم األعمال ُ بمجال ُشغ َل ً
كثيرا
ِ
المفيدة ،والتي ِ
والكتابات ِ
بحوث ِ
بعض ال ِ
تدوين ومع ذلك :لم َي ْغ ُف ْل عن
جم ْعناها يف المؤ َّلفات التالية: َ
َاب َر ِّب ال َب ِر َّي ِة.
الم ِّك َّي ِة فِي َت ْف ِس ِير كِت ِ
ات َ -1النَّ َف َح ُ
ات ُمنْتقا ٌة مِ ْن ُد ُر ِ
وس الحر ِم -فوائِدُ وو َق َف ٌ َ سات مِن وس و َق َب ٌ ُ -2د ُر ٌ
الح َر ِم الم ِّك ِّي و َغ ْي ِر ِه.
اآليات القرآن َّية. ِ ِ
بعض عليق على حات قرآن َّية -ت ٌ َ -3ن َف ٌ
اع ِد ِ ول وال َقو ِ ات الن َِّد َّية َع َلى َب ْع ِ -4ال َّت ْعلِي َق ُ
الف ْق ِه َّية. ض األُ ُص ِ َ َ
ِ ِ ِ ِ الم ِّك َّي ُة ِم ْن َ
ين َحدي ًثا َن َب ِو ًّيا َصح ً
يحا. كَال ِم َخ ْي ِر ال َب ِر َّيةَ ،ش ْر ُح َس ْبع َ -5الت ُّْح َف ُة َ
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 10
11 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
املقدمة
لق ِ
بعلمه ،وقدّ ر خلق َ
الخ َ ِ
المبدئ المعيد ،الف ّعال لما يريدَ ، الحمدُ هلل
ِ
يستقدمون ،قدّ ر ِ
يستأخرون عنها ساع ًة وال وضرب لهم ً
آجاال ،ال أقدارا، لهم
َ ً
واألرض بخمسين ألف سنة ،وكان
َ يخلق السموات
َ مقادير الخالئق قبل أن
َ
عرشه على الماء ،علِم ما كان وما سيكونّ ،
وكل شيء يجري بتقديره
ومشيئته ،ﮋﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺﯻ ﯼﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂﰃﰄﰅ ﰆﰇ ﰈﮊ [لقمان.]34:
ِ
وأشكره على القضاء ُحل ِوه ِّ
ومره، ُ وشره، أحمدُ ه سبحانه على القدَ ر ِ
خيره ِّ
وأستعين به يف الشدة والرخاء ،وأتوكل عليه فيما أجراه من القدر والقضاء.
اآليات الباهرة ،وأشهد أن
ُ وأشهد َّأال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،له
حق محمدً ا عبده ورسوله وصف ّيه وخليله وخير ُته من خلقهَ ،
جاهد يف اهلل َّ نبينا ّ
جهاده ،صلوات ر ّبي وسالمه عليه ،وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم ِ
الربيع ِ
بزهره. بقطرهّ ،
وطل َّ بإحسان ما جا َد السحاب ِ
أما بعد:
قال تعالى :ﮋﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﮊ
[البقرة ،]177:وقال تعالى :ﮋﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐﮊ [القمر.]49:
انَ :أ ْن ت ُْؤ ِم َن باهللَ ،و َمالَئِكَتِ ِهَ ،و ُك ُتبِ ِهَ ،و ُر ُس ِل ِه،
يم ُ وقال ِ « :
اإل َ
اآلخرَِ ،وا ْل َقدَ ِر ُك ِّل ِه َخ ْيرِ ِه َو َش ِّر ِه»(.)1
وا ْليو ِم ِ
َ َْ
( )1أخرجه البخاري برقم ( ،)50عن أبي هريرة ،وأخرجه مسلم برقم ( ،)8عن عمر بن
الخطاب .
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 12
فدلت هذه النصوص من الكتاب والسنة أنه يجب على كل مسلم أن
يؤمن هبذه األركان الستة ،وهي :اإليمان باهلل ،والمالئكة ،والكتب السماوية،
والرسل واألنبياء ،واليوم اآلخر ،والقضاء خيره وشره.
وذكر اهلل تعالى ركن اإليمان بالقدر منفر ًدا عن األركان الخمسة ،ألنه
فرع عن اإليمان باهلل وفرع معرفته ،فمن عرف اهلل حق المعرفة ،وعرف
صفاته من إرادة وقدرة وعلم ومشيئة وخلق آمن بالقدر ضرور ٌة ،إال أن السنة
النبوية ذكرته مع بقية األركان ،للداللة على أنه ركن أصيل من أركان
اإليمان ،وليأخذ نفس األهمية التي لبقية األركان.
كما دلت نصوص الكتاب والسنة على كفر من أنكر هذه األركان ،أو
أنكر ركنًا واحدً ا منها ،قال تعالى :ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗﮊ [النساء.]136:
ويف هذه الرسالة المختصرة سوف أتحدث عن الركن السادس من هذه
لوه و ُم ِّره ،وعن َخ ْل ِق
األركان ،وهو اإليمان بالقضاء والقدر خيره وشره ُح ِ
أفعال العباد ،والكسب ،والجرب ،واالختيار ،والمشيئة ،وذلك ألهمية هذا
الركن الذي ضلت فيه طوائف كثيرة ،وأخطأ فيه أناس كثيرون أفراد
وجماعات.
وقد نقلتها من عدد من مصنفات أهل العلم المعتربين من القدامى
والمعاصرين ،وأكثر ما نقلت من مصنفات شيخ اإلسالم ابن تيمية ؛
وأيضا نقلت
ً حيث إنه بحث هذا الموضوع يف مواضع كثيرة من مصنفاته،
عن تلميذه البار ابن قيم الجوزية وغيرهم من العلماء.
13 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
ي
او ُّ َقا َل ُه َو َك َت َب ُهُ :م َح امدُ ْب ُن َصالِحِ ْب ِن َع ْب ِد اهلل ِ ا
الش ِ
هذه المسألة اختلف فيها العلماء ،فذهب بعضهم إلى أن القضاء سابق
على القدر ،فالقضاء :هو ما َعلِ َم ُه اهلل وحكم به يف األزل ،والقدر :هو وجود
المخلوقات موافقة لهذا العلم والحكم.
ِ
اإلجمال يف ِ
بالكليات على سبي ِل الحكم قال ابن حجر(( :)1القضا ُء:
ُ
ِ
الكليات على سبي ِل َ
لتلك ِ
الجزئيات التي الحكم بوقو ِع والقدر: ِ
األزل،
ُ ُ
التفصي ِل).
البدر العيني(ُ ( :)2
الفرق َبين ال َق َضاء َوالقدر؟ وقال ُ
الذي حكم اهلل بِ ِه فِيالك ِّلي اإلجمالي ِ عبارة َعن األَمر ُ
قلت :ال َق َضاءَ :
الم ْجمل التِي ِ
الك ِّلي ،ومفصالت َذلك ُ عبارة َعن جزئيات َذلِك ُ األَ َزلَ ،والقدرَ :
ِ ِ ِ ِ
حكم اهلل بوقوعها َواحدً ا بعد َواحد في اإلن َْزالَ ،قا ُلواَ :و ُه َو ُ
الم َراد بقوله تعالى:
ﱣﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱢ [الحجر.)]21:
وقال الجرجان(( :)3القدر :خروج الممكنات من العدم إلى الوجود،
واحدً ا بعد واحد ،مطاب ًقا للقضاء ،والقضاء يف األزل ،والقدر فيما ال يزال،
والفرق بين القدر والقضاء :هو أن القضاء :وجود جميع الموجودات يف اللوح
المحفوظ مجتمعة ،والقدر :وجودها متفرقة يف األعيان بعد حصول شرائطها).
( )1ينظر :فتح الباري البن حجر ( ،)149/11وشرح مصابيح السنة البن الملك (.)23/1
( )2ينظر :عمدة القاري للعيني (.)259/21
( )3ينظر :التعريفات للجرجاين (ص.)174
17 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
القدرُ :ه َو وجودَ ويوافق هؤالء أبو هالل العسكري حيث يقول(( :)1إن
الحاجة إِ َل ْي َها ،والكفاية لما فعلت من أجلهَ ،ويجوز َأن ِ
األَ ْف َعال على م ْقدَ ار َ
الم َراد َع َل ْي ِه ،والمقدر الموجد َل ُه ِ
الو ْجه ا َّلذي أر ْدت إِي َقاع ُيكون القدرُ :ه َو َ
ِ
على َذلك َ
الو ْجه.
اعلَ ،و َح ِقي َقة
الفعل على مِ ْقدَ ار ما أراده ال َف ِ ِ
َوقيل :أصل القدر ُه َو :وجود ْ
المصلحةَ ،وال َق َضاءُ :ه َو فصل
َ وجودها على مِ ْقدَ ار
َ َذلِك فِي َأف َعال اهلل َت َعا َلى
األَمر على التَّمام).
ورأى فريق آخر من ،العلماء خالف هذا القول؛ فجعلوا القدر ساب ًقا
على القضاء ،فالقدر هو الحكم السابق األزلي ،والقضاء هو الخلق.
قال الراغب األصفهان(( :)2والقضاء من اهلل تعالى أخص من القدر؛
ألنه الفصل بين التقدير ،فالقدر هو التقدير ،والقضاء هو الفصل والقطع.
الم َعدِّ للكيل ،والقضاء بمنزلة
وقد ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة ُ
الكيل ،ويشهد لذلك قوله تعالى :ﱣﲧ ﲨ ﲩﱢ [مريم ،]21:وقوله:
ﱣﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉﱢ [مريم ،]71:وقوله :ﱣﲛ ﲜ ﲝ ﲞ
تنبيها أنه صار بحيث ال يمكن تالفيه).
ﲟﱢ [يوسف ،]41:أي :فصلً ،
ومنهم من قال :إنه َّل فرق بينهما؛ فالقضاء هو القدر والقدر هو القضاء.
قال الشيخ عبد العزيز ابن باز(( :)3القضاء هو القدر ،والقدر هو القضاء،
ومعناهما واحد ،وهو الشيء الذي قضاه اهلل ساب ًقا وقدره ساب ًقا ،يقال لهذا:
قضاء ،ولهذا :قدر ،يعني :ما سبق يف علم اهلل أنه قدره من موت وحياة ،وعز
قدرا).
وذل ،وأمن وخوف ،كله وغيره يسمى قضاء ،ويسمى ً
وذكر الشيخ ابن عثيمين أهنما مرتادفان يدل أحدهما على اآلخر
إذا افرتقا ،وأما إذا اجتمعا ،تفرد كل منهما بمعنى مغاير لآلخر.
قال الشيخ ابن عثيمين(( :)1القضاء هو :القدر إذا ذكر وحده ،والقدر
هو :القضاء إذا ذكر وحده؛ فإن اجتمعا وقيل :القضاء والقدر؛ صار القضاء ما
يقضي به اهلل من أفعاله أو أفعال الخلق ،والقدر ما كتبه يف األزل ،وكتبه
يف اللوح المحفوظ.
وهذا كثير يف اللغة العربية؛ أن تكون الكلمة لها معنى عام عند االنفراد،
ومعنى خاص عند االقرتان ،وذلك أن المقدور سبقه تقدير يف األزل ،أي:
فعال.
كتابة ،بأنه سيقع ،وقضاء من اهلل تعالى بوقوعه ً
وإن شئت فقل :الكتابة قدر ،والمشيئة قضاء؛ فاهلل تعالى كتب الشيء يف
اللوح المحفوظ ،ثم يشاؤه سبحانه يف الوقت الذي اقتضت حكمته إيجاده
فيه ،فالثاين قضاء واألول قدر ،فصارت هاتان الكلمتان ،إن انفردت إحداهما
عن األخرى شملت معنى األخرى ،وإن اجتمعتا صار لكل واحدة من
الكلمتين معنى).
وبعد أن ذكر الخطابي معنى الكلمتين أشار إلى أهنما ال ينفكان عن
( )1أخرجه البخاري برقم ( ،)4777-50ومسلم برقم ( ،)9عن أبي هريرة ،وأخرجه مسلم
برقم ( ،)1عن عمر بن الخطاب .
) (2ينظر :شرح السنة للبغوي (.)142/1
21 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
قال ابن عباس :الحرج :موضع الشجر الملتف ال تصل الراعية إليه(،)1
حرج وحرج.
ضيق ٌوكل ٍ
فقلب الكافر ال يصل إليه الحكمةُّ ،
وقد َّ
دل القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع المسلمين والفطرة
والعقل على وجوب اإليمان بالقدر ،وأن من أنكر اإليمان بالقدر فقد كفر
باهلل تعالى ،وخرج من ملة اإلسالم.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 24
ﳜﳝﳞﳟﱢ [القمر.]49-48:
ينزع من زمزم ،وقد
وعن عطاء بن أبي رباح ،قال :أتيت ابن عباس وهو ُ
أسافل ثيابه ،فقلت له :قد ُت ُك ِّلم يف القدر ،فقال :أو قد فعلوها؟ قلت:
ُ ابت َّلت
نعم ،قال :فواهلل ما نزلت هذه اآلية إال فيهم :ﱣﳗﳘﳙﳚﳛﳜﳝﳞ
ﳟﱢ ،أولئك شرار هذه األمة ،فال تعودوا مرضاهم ،وال تصلوا على
موتاهم ،إن رأيت أحدً ا منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين(.)1
وعن الوليد بن عبادة ،حدثني أبي قال :دخلت على عبادة وهو مريض
أتخايل فيه الموت ،فقلت :يا أبتاه ،أوصني واجتهد لي ،فقال :أجلسوين،
لما تطعم طعم اإليمان ،ولم تبلغ حق حقيقة
فلما أجلسوه قال :يا بني ،إنك َّ
العلم باهلل ،حتى تؤمن بالقدر خيره وشره ،قلت :يا أبتاه ،وكيف لي أن أعلم
ما خير القدر وشره؟ قال :تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ،وما أصابك
لم يكن ليخطئك ،يا بني ،إين سمعت رسول اهلل يقول« :إن أول
ما خلق اهلل القلم ،ثم قال له :اكتب ،فجرى يف تلك الساعة بما هو كائن إلى
يوم القيامة» ،يا بني ،إن مت ولست على ذلك دخلت النار(.)2
وقوله :ﱣﱁ ﱂ ﱃﱄﱅﱆﱢ ،وهو إخبار عن نفوذ مشيئته
يف خلقه ،كما أخرب بنفوذ قدره فيهم ،فقال :ﱣﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ
ٍ
بثانية، ﱆﱢ ،أي :إنما نأمر بالشيء مر ًة واحدة ،ال نحتاج إلى تأكيد
) (1أخرجه الاللكائي يف شرح أصول االعتقاد برقم ( ،)948والبيهقي يف القضاء والقدر برقم (،)406
ويف السنن الكربى برقم (.)20880
) (2أخرجه أحمد يف المسند ( ،)317/5رقم ( ،)22705وأبو داود برقم ( ،)4700والرتمذي برقم
( )2156بلفظ مقارب ،والطرباين يف مسند الشاميين برقم ( .)1949وصححه األلباين يف صحيح
الجامع برقم (.)2017
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 26
فيكون ذلك الذي نأمر به حاص ًال موجو ًدا كلمح البصر ،ال يتأخر طرفة عين،
وما أحسن ما قال بعض الشعراء:
يقــــول لــــه :كــــن قولــ ـ ًة فيكــــون). أمــــــــرا فإنمــــــــا
ً إذا مــــــــا أراد اهلل
وقال القرطبي(( :)1الذي عليه أهل السنة أن اهلل سبحانه قدَّ ر األشياء،
مقاديرها وأحوا َلها وأزما َنها قبل إيجادها ،ثم أوجد منها ما سبق يف
َ أي :علم
علمه أنه يوجده على نحو ما سبق يف علمه ،فال يحدث حدث يف العالم
صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه،
ٌ العلوي والسفلي إال وهو
وأن الخلق ليس لهم فيها إال نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة ،وأن ذلك
كله إنما حصل لهم بتيسير اهلل تعالى ،وبقدرته وتوفيقه وإلهامه ،سبحانه ال إله
إال هو ،وال خالق غيره ،كما نص عليه القرآن والسنة ،ال كما قالت القدرية
وغيرهم من أن األعمال إلينا واآلجال بيد غيرنا).
فشاء أن يكون هؤالء من أهل النار ،وشاء أن تكون أعمالهم أعمال أهل
النار ،فقال :ﱣﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭﱢ [األنعام ،]108:وقال :ﱣﭐ ﲬ ﲭ
ﲮﲯﲰﲱﲲﲳﲴﲵ
ﲶ ﲷﱢ [األنعام]137:؛ هذه أعمال أهل النار ﱣﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽﱢ
إلى ﱣﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞﱢ [األنعام]112: [األنعام ]137:قال:
قوله :ﱣﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭﱢ [األنعام ]112:وقرأ :ﱣﲷ ﲸ ﲹ ﲺ
أن [األنعام]111-109: ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ...ﱢ إلى:
ُ
الفعال لما يؤمنوا بذلك ،قال :فأخرجوه من اسمه الذي تسمى به ،قال :هو
يريد ،فزعموا أنه ما أراد).
29 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
قال ابن عباس( :أي :بأمر اهلل ،يعني :عن قدره ومشيئته).
قال السعدي(( :)1هذا عام لجميع المصائب ،يف النفس ،والمال ،والولد،
واألحباب ،ونحوهم ،فجميع ما أصاب العباد ،فبقضاء اهلل وقدره ،قد سبق
بذلك علم اهلل تعالى ،وجرى به قلمه ،ونفذت به مشيئته ،واقتضته حكمته،
والشأن كل الشأن ،هل يقوم العبد بالوظيفة التي عليه يف هذا المقام ،أم ال يقوم
هبا؟ فإن قام هبا ،فله الثواب الجزيل ،واألجر الجميل ،يف الدنيا واآلخرة.
فإذا آمن أهنا من عند اهلل ،فرضي بذلك ،وس َّلم ألمره ،هدى اهلل قلبه،
فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب ،كما يجري لمن لم يهد اهلل قلبه؛ بل يرزقه
ثواب عاجل،
ٌ الثبات عند ورودها والقيام بموجب الصرب ،فيحصل له بذلك
مع ما يدخر اهلل له يوم الجزاء من الثواب ،كما قال تعالى :ﱣﳡ ﳢ ﳣ
ﳤﳥﳦﱢ [الزمر.]10:
و ُعلم من هذا :أن من لم يؤمن باهلل عند ورود المصائب ،بأن لم يلحظ
قضاء اهلل وقدره؛ بل وقف مع مجرد األسباب ،أنه ُيخذل ،ويكله اهلل إلى
نفسه ،وإذا وكل العبد إلى نفسه ،فالنفس ليس عندها إال الجزع والهلع الذي
هو عقوبة عاجلة على العبد ،قبل عقوبة اآلخرة ،على ما فرط يف واجب
الصرب .هذا ما يتعلق بقوله :ﱣﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚﱢ [التغابن ]11:يف مقام
المصائب الخاص.
وأما ما يتعلق هبا من حيث العموم اللفظي ،فإن اهلل أخرب أن كل من آمن
أي :اإليمان المأمور به ،من اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر
والقدر خيره وشره ،وصدق إيمانه بما يقتضيه اإليمان من القيام بلوازمه
وواجباته ،أن هذا السبب الذي قام به العبد أكرب سبب لهداية اهلل له يف أحواله
وأقواله ،وأفعاله ويف علمه وعمله.
وهذا أفضل جزاء يعطيه اهلل ألهل اإليمان ،كما قال تعالى يف األخبار :أن
المؤمنين يثبتهم اهلل يف الحياة الدنيا ويف اآلخرة.
وأصل الثبات :ثبات القلب وصربه ،ويقينه عند ورود كل فتنة ،فقال:
ﱣﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱢ [إبراهيم]27:؛
فأهل اإليمان أهدى الناس قلو ًبا ،وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات،
وذلك لما معهم من اإليمان).
فقوله :ﮋﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﮊ [التغابن ،]11:أي :ومن
أصابته مصيبة فعلم أهنا بقضاء اهلل وقدره ،فصرب واحتسب واستسلم لقضاء
اهلل ،هدى اهلل قلبه ،وعوضه عما فاته من الدنيا هدى يف قلبه ،ويقينًا صاد ًقا،
خيرا منه(.)1
وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه ،أو ً
قال ابن كثير(( :)1أي :فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم
وجراحتهم آلخرين ،كان بقضاء اهلل وقدره ،وله الحكمة يف ذلك).
ﭹ ﭺﭻ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮊ [البقرة.]157-156:
قال السعدي(( :)1فالصابرون ،هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة،
والمنحة الجسيمة ،ثم وصفهم بقوله :ﱣﱞ ﱟ ﱠ ﱡﱢ ،وهي كل
ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره.
ﱣﱢﱣﱤﱢ ،أي :مملوكون هلل ،مد َّبرون تحت أمره وتصريفه ،فليس لنا
من أنفسنا وأموالنا شي ٌء ،فإذا ابتالنا بشيء منها ،فقد تصرف أرحم الراحمين
بمماليكه وأموالهم ،فال اعرتاض عليه؛ بل من كمال عبودية العبد علمه بأن
وقوع البلية من المالك الحكيم ،الذي أرحم بعبده من نفسه ،فيوجب له ذلك
الرضا عن اهلل ،والشكر له على تدبيره ،لما هو خير لعبده ،وإن لم يشعر
فمجاز كل عامل
بذلك ،ومع أننا مملوكون هلل ،فإنا إليه راجعون يوم المعادُ ،
موفورا عنده ،وإن جزعنا وسخطنا،
ً أجرنا
بعمله ،فإن صربنا واحتسبنا وجدنا َ
لم يكن ح ُّظنا إال السخط وفوات األجر ،فكون العبد هلل ،وراجع إليه ،من
أقوى أسباب الصرب).
أنواع اهلداية:
قال ابن حجر(( :)1عن مجاهد يف قوله تعالى :ﱣﲘ ﲙ ﲚﱢ ،قدر
لإلنسان الشقوة والسعادة ،وهدى األنعام لمراتعها.
وتفسير مجاهد هذا للمعنى ال للفظ ،وهو كقوله تعالى:ﭐﱣﳞ ﳟﳠ
ﳡﳢﳣﳤﳥﱢ.
قال الراغب :هداية اهلل للخلق على أربعة أضرب:
األول :العامة لكل أحد بحسب احتماله ،وإليها أشار بقوله :ﱣﳞ ﳟ
ﳠﳡﳢﳣﳤﳥﱢ.
والثان :الدعاء على ألسنة األنبياء ،وإليها أشار بقوله :ﱣﭐﱁ ﱂ
ﱃﱄﱢ [األنبياء.]73:
والثالث :التوفيق الذي يختص به من اهتدى ،وإليها أشار بقوله :ﭐﱣﱖ
له اللتان قبلها ،وقد تحصل األولى دون الثانية ،والثانية دون الثالثة ،واإلنسان
ال يهدي أحدً ا إال بالدعاء وتعريف الطرق دون بقية األنواع المذكورة ،وإلى
ذلك أشار بقوله تعالى :ﱣﱙﱚﱛﱜﱝﱢ [الشورى ،]52:وإلى بقية
الهدايات أشار بقوله :ﱣﱿﲀﲁﲂﲃﱢ [القصص.]56:
37 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
الحديث الثان :عن عبد اهلل بن عمرو ،قال :قال رسول اهلل :
«إن اهلل كتب مقادير الخالئق قبل أن يخلق السموات واألرض بخمسين ألف
سنة»( ،)1زاد ابن وهب :ﱣﱜﱝﱞﱟﱢ [هود.]7:
وقال ابن الجوزي(( :)4كأن اإلشارة هبذا إلى خلق اللوح والكتابة فيه،
وذلك قد كان قبل خلق السموات واألرض).
وسوف يأيت أن هذه هي المرتبة الثانية من مراتب القدر األربعة.
إرشاد عظيم ،وبيان شاف إلزالة ما طلب منه؛ ألنه يهدم منه قاعدة الحسن والقبح
أصال.
العقليين ،ألنه مالك الجميع ،فله أن يتصرف كيف شاء ،وال ظلم ً
خيرا لهم من أعمالهم» ،أي: ً قوله« :ولو رحمهم كانت رحمته
الصالحة؛ إشارة إلى أن رحمته ليست بسبب من األعمال وإيجاهبا إياها ،إذ
هي ال توجبها عليه ،كيف وهي من جملة رحمته هبم ،فرحمته إياهم محض
فضل منه تعالى عليهم ،فلو رحم األولين واآلخرين فله ذلك ،وال يخرج عن
ِحكمة ،غايته أنه أخرب أن المطيعين لهم الثواب ،وأن العاصين لهم العقاب،
كما هو مثبت يف أ ِّم الكتاب ،فاألمر المقدر ال يتبدل ،وال يتغير ،وهذا هو
الصواب يف الجواب.
قوله« :ولو أنفقت مثل أحد» :بضمتين جبل عظيم قريب المدينة
المعظمة« .ذه ًبا» :تمييز «يف سبيل اهلل» ،أي :مرضاته ،وطريق خيراته« .ما
َقبِ َل َها اهلل منك» ،أي :ذلك اإلنفاق ،أو مثل ذلك الجبل ،وهو تمثيل على
سبيل الفرض ال تحديد؛ إذ لو فرض إنفاق ملء السموات واألرض كان
كذلك« ،حتى تؤمن بالقدر» ،أي :بأن جميع األمور الكائنة خيرها ،وشرها،
وحلوها ،ومرها ،ونفعها ،وضرها ،وقليلها ،وكثيرها ،وكبيرها ،وصغيرها،
بقضائه وقدره ،وإرادته وأمره ،وأنه ليس فيها لهم إال مجرد الكسب،
ومباشرة الفعل ،والمراد هنا كمال اإليمان ،وسلب القبول مع فقده يؤذن بأن
المبتدعة ال تقبل لهم أعمال ،أي :ال يثابون عليها ما داموا على بدعتهم،
ويؤيده خرب« :أبى اهلل أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يتوب من بدعته»(.)1
) (1أخرجه ابن ماجه برقم ( ،)50وابن أبي عاصم يف السنة برقم ( ،)39عن ابن عباس ،
وإسناده مسلسل بالمجاهيل ،وضعفه األلباين يف ظالل الجنة.
41 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
وفيه إشعار بأن أهل البدعة ليسوا من المتقين؛ لقوله تعالى :ﱣﲇ ﲈ
ﲉﲊﲋﲌﱢ [المائدة ،]27:وأنه ال يحبهم فإن اهلل يحب المتقين.
«وتعلم» :تخصيص بعد تعميم« ،أن ما أصابك» من النعمة ،والبلية ،أو
الطاعة ،والمعصية مما قدره اهلل لك أو عليك« ،لم يكن ليخطئك» ،أي:
يجاوزك« ،وأن ما أخطأك» من الخير والشر« ،لم يكن ليصيبك» ،وهذا وضع
موضع المحال ،كأنه قيل :محال أن يخطئك.
وفيه ثالث مبالغات :دخول أن ،ولحوق الالم المؤكدة للنفي ،وتسليط
النفي على الكينونة ،وسرايته يف الخرب ،وهو مضمون قوله تعالى :ﱣﱶ ﱷ
ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽﱢ [التوبة ،]51:وفيه حث على التوكل والرضا،
ونفي الحول والقوة ،ومالزمة القناعة ،والصرب على المصائب.
«ولو ُمت» :بضم الميم مِ ْن :مات يموت ،وبكسرها مِ ْن :مات يميت،
«على غير هذا» ،أي :على اعتقاد غير هذا الذي ذكرت لك من اإليمان بالقدر
«لدخلت النار»).
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 42
ول اهللِ : الحديث الرابعَ :ع ْن َأبِي ُه َر ْي َرةََ ،ق َالَ :ق َال َر ُس ُ
يفَ ،وفِي ك ٍُّل َخ ْي ٌر، ب إِ َلى اهلل ِ ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِم ِن ا
الض ِع ِ
يَ ،خ ْي ٌر َو َأ َح ُّ
ِ
«ا ْل ُم ْؤم ُن ا ْل َق ِو ُّ
ك َش ْي ٌءَ ،ف َال َت ُق ْل: است َِع ْن بِاهلل ِ َو ََّل َت ْع َجزَْ ،وإِ ْن َأ َصا َب َ كَ ،و ْ احرِ ْص َع َلى َما َينْ َف ُع َ ْ
ت كَا َن ك ََذا َوك ََذاَ ،و َلكِ ْن ُق ْلَ :قدَ ُر اهلل ِ َو َما َشا َء َف َع َلَ ،فإِ ان َل ْو َت ْفت َُح َل ْو َأنِّي َف َع ْل ُ
الش ْي َط ِ
ان»(.)1 َع َم َل ا
هنى النبي ﷺ اإلنسان يف هذا الحديث (إذا أصابه شيء من حصول
ضرر أو فوات نفع عن أن يقول( :لو).
حتما ،وأنه لو فعل
قال بعض العلماء :هذا إنما هو لمن قال معتقدً ا ذلك ً
ذلك لم يصبه قط ًعا ،فأما من ر َّد ذلك إلى مشيئة اهلل ،وأنه ال يصيبه إال ما شاء
اهلل فليس من هذا.
واستدل له بقول أبي بكر يف الغار« :ولو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا»(،)2
وسكوته .
قال القاضي عياض( :)3ال حجة فيه؛ ألنه إنما أخرب عن أمر مستقبل،
وليس فيه دعوى لرد قدره بعد وقوعه .قال :وكذا جميع ما ذكره البخاري يف
باب ما يجوز من اللو ،كحديث« :لوَّل حدثان قومك بالكفر »...الحديث(،)4
( )1جزء من حديث أخرجه مسلم برقم ( ،)2664عن أبي هريرة .
) (2أخرجه البخاري برقم ( )4663بلفظ« :لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا» ،ومسلم برقم ()2381
بلفظ« :لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه».
) (3ينظر :سبل السالم (.)691/2
) (4أخرجه البخاري برقم ( ،)1583ومسلم برقم ( ،)1333عن عائشة .
43 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
) (1أخرجه البخاري برقم ( ،)5310ومسلم برقم ( ،)1497عن ابن عباس ،بلفظ« :لو رجمت أحدً ا
بغير بينة ،رجمت هذه».
) (2أخرجه البخاري برقم ( ،)887ومسلم برقم ( ،)252عن أبي هريرة .
) (3أخرجه البخاري برقم ( ،)7229ومسلم برقم ( ،)1211عن عائشة .
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 44
ثم إن اهلل ينفذ هذه األقدار يف أوقاهتا بحسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته،
الشاملتان لكل ما كان وما يكون ،الشاملتان للخلق واألمر ،وأنه مع ذلك،
ومع خلقه للعباد وأفعالهم وصفاهتم ،فقد أعطاهم قدر ًة وإرادة تقع هبا
أفعالهم بحسب اختيارهم ،لم يجربهم عليها.
خالق للمسبب؛
وهو الذي خلق قدرهتم ومشيئتهم ،وخالق السبب التام ٌ
فأفعالهم وأقوالهم تقع بقدرهتم ومشيئتهم اللتين خلقهما اهلل فيهم ،كما خلق
كال لما خلق له.
بقية قواهم الظاهرة والباطنة ،ولكنه تعالى َي َّس َر ً
وكره إليه الكفر
وقصدَ ه لربه :حبب إليه اإليمان وزينه يف قلبهّ ،
فمن َو َّجه وجهه ْ
والفسوق والعصيان ،وجعله من الراشدين ،فتمت عليه نعم اهلل من كل وجه.
ييس ْره لهذه
وجه وجهه لغير اهلل ،بل تولى عدوه الشيطان :لم ِّ
ومن ّ
سهل اهلل عليهم األمر ،فإذا ال خالص وال نجاة إال بالتسليم
فلما أسلموا َّ
لقضاء اهلل وقدره).
وغير ذلك من األحاديث الكثيرة.
=
فأتوا رسول اهلل ثم بركوا على الركب ،فقالوا :أي رسول اهللُ ،كلفنا من األعمال ما
نطيق للصالة والصيام والجهاد والصدقة ،وقد ُأنزلت عليك هذه اآلية وال نطيقها ،قال رسول اهلل
« :أتريدون أن تقولوا ،كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا:
سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» ،قالوا :سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير،
ﱣﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ فلما اقرتأها القوم ،ذلت هبا ألسنتهم ،فأنزل اهلل يف إثرها:
ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ ﲝ
ﲟ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﱢ [البقرة ،]285:فلما فعلوا ذلك نسخها اهلل تعالى ،فأنزل
ﲠ ﲞ
اهلل :ﱣﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ
ﲹ ﲺﱢ [البقرة ،]286:قال« :نعم» ﱣﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ
ﱣﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳆﱢ ،قال« :نعم» ﱣﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏﱢ ،قال« :نعم»
ﳕﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜﱢ [البقرة ،]286:قال« :نعم» ،أخرجه مسلم برقم
(.)125
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 48
( )1ينظر :ديوان عنرتة (ص ،)238وذكره ابن القيم يف كتاب اجتماع الجيوش اإلسالمية (ص.)505
( )2ينظر :ديوان زهير (ص.)4
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 50
ولم يقل أحد منهم بنفيه إطال ًقا ،كما صرح بذلك أحد كبار علماء
العربية ،وهو أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب بقوله( :ال أعلم عرب ًّيا قدر ًّيا،
قيل له :يقع يف قلوب العرب القول بالقدر؟ قال :معاذ اهلل ،ما يف العرب إال
مثبت القدر خيره وشره ،أهل الجاهلية واإلسالم ،وكالمهم كثير ب ِّين.
ثم أنشد:
مـــــا َتنْ ُفـــــ ُذ ِ
اإلبـــــر ُة إِ اَّل بِ َقـــــدَ ر)()1 اإل َبـ ـ ْر َتجـ ـرِي الم َقـ ـ ِ
اد ُير َع َلـ ـى َغـ ـ ْر ِز ِ
ْ ْ َ َ َ ْ
ومع ذلك فقد كانوا مخلطين يف مسائل القدر غير ضابطين لها ،ألن ذلك
ال يؤخذ إال عن طريق الرسل صلوات اهلل وسالمه عليهم ،ولذلك نجد نفس
الشاعر وهو زهير بن أبي سلمى يقول:
ُت ِم ْتــه ومــن ُتخطــي يعمــر َفيهــر ِم()2
ـب أيت ال َمنايا َخ َ
بط َعشوا َء من ُتصـ ْ َر ُ
ُ َ ا ْ َْ َ ُ ََ ْ
ففي هذا البيت يذكر أن المنايا التي تنزل بالناس فتقضي عليهم ،إنما هي
خبط عشواء ،ليس لها نظام ،والعشواء هي الناقة ضعيفة البصر ،تتخبط يف
ً
وشماال؛ ألهنا ال ترى ،لكن األمر ليس كذلك ،فاهلل تعالى يقول: المشي يمينًا
ﱣﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣ ﳤ ﳥ ﳦﱢ [فاطر]11:؛ فليس يف هذا
الكون خبط عشواء ،وإنما هو نظام دقيق محكم يجري بقدرة اهلل تعالى،
وعلى وفق حكمته ومشيئته.
( )1أخرجه عبد اهلل بن أحمد يف السنة برقم ( ،)925والاللكائي يف شرح االعتقاد برقم (،)1224
والفريابي يف القدر (ص ،)160-159واآلجري يف الشريعة (ص.)215
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 52
( )1ينظر :منهاج السنة النبوية البن تيمية ( ،)254/3وشفاء العليل البن القيم (ص ،)53ومجموع
الفتاوى البن تيمية ( ،)308/8وهي من قول عمر بن الخطاب قبل اإلمام أحمد؛ كما ذكره ابن
بطة يف اإلبانة الكربى برقم (.)1562
( )2ينظر :تذكرة المؤتسي للبدر (.)236/1
53 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
( )1ينظر :جامع العلوم والحكم البن رجب (.)103/1
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 54
من خالل تتبع العلماء لنصوص الكتاب والسنة؛ فقد ذكروا أن للقدر أربع
مراتب ،وقد جمع بعض أهل العلم هذه المراتب يف بيت من الشعر؛ فقال:
علــــــم كتابــــــ ُة موَّلنــــــا مشــــــيئتُه وخل ُقـــ ـه وهـــــو إيجـــــا ٌد وتكـــ ـوي ُن
ٌ
وهذه المراتب هي أركان اإليمان بالقدر ،وهي:
-1العلم السابق.
-2الكتابة.
-3المشيئة.
-4الخلق.
املرتبة األوىل :العلم السابق:
كل شيء ،فعلِم سبحانه ِ
بعلمه السابق َّ ٍ أي :سبق علم اهلل المحيط ِّ
بكل
َ َ
كل ح ِّي ،و َعلِ َم الخير والشر ،وقدَّ ر النفع والضر ،علم ما كان ٍ
شيء ،و َأ َج َل ِّ
يكون وما سيكون ،وما لم يكن لو كان كيف يكون؛ قال تعالى :ﮋﯾ ُ وما
ﯿ ﰀﰁﮊ [البقرة.]282:
وقال تعالى :ﱣﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﳀ ﳁ ﳂ ﳃ
ﳄ ﳅﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ
ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙﱢ [األنعام.]59 :
()1
علمه :فما علم أنه سيكون ،فال بد أن
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ( :أ ّما ُ
يكون ،وما علم أنه ال يكون ،فال يكون ،وهذا مما يعرتف به جميع الطوائف،
إال من ينكر العلم السابق؛ كغالة القدرية الذين تربأ منهم الصحابة).
ومن األدلة على العلم السابق قوله تعالى على لسان المسيح عيسى ابن
مريم :ﱣﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﱢ
ﲗ
وأنكرت الفالسفة علمه تعالى بالجزئيات ،وقالوا :إنه يعلم األشياء على
وجه كلي ثابت ،وحقيقة قولهم أ َّنه ال يعلم شي ًئا؛ فإن كل ما يف الخارج هو
جزئي.
علمه تعالى بأفعال العباد حتى يعملوها؛
كما أنكر الغالة من القدرية َ
توهما منهم أن علمه هبا يفضي إلى الجرب ،وقولهم معلوم البطالن بالضرورة
ً
يف جميع األديان).
اهلل َّل يحاسب العباد على علمه السابق بهم بل على أفعالهم:
قال ابن القيم(( :)1واهلل سبحانه قد علم قبل أن ي ِ
وجد عبا َده أحوالهم،
وما هم عاملون ،وما هم إليه صائرون ،ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر
معلو َمه الذي علمه فيهم كما علمه.
وابتالهم من األمر والنهي والخير والشر بما أظهر معلومه ،فاستحقوا
المدح والذم ،والثواب والعقاب؛ بما قام هبم من األفعال والصفات المطابقة
للعلم السابق ،ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي يف علمه قبل أن يعملوها،
إعذارا إليهم ،وإقامة للحجة عليهم،
ً فأرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه
لئال يقولوا :كيف تعاقبنا على علمك فينا ،وهذا ال يدخل تحت كسبنا
وقدرتنا؟
فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم ،حصل العقاب على معلومه الذي أظهره
االبتالء واالختبار.
وكما ابتالهم بأمره وهنيه ابتالهم بما زين لهم من الدنيا ،وبما ركب
فيهم من الشهوات ،فذلك ابتال ٌء بشرعه وأمره وهذا ابتالء بقضائه وقدره،
وقال تعالى :ﱣﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪﱢ
[الكهف ،]7:وقال :ﱣﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ
ﱞ ﱟﱢ [هود ،]7:فأخرب يف هذه اآلية أنه خلق السموات واألرض ليبتلي
عباده بأمره وهنيه ،وهذا من الحق الذي خلق به خلقه ،وأخرب يف اآلية التي
أيضا ،فأحياهم ليبتليهم بأمره وهنيه،
قبلها أنه خلق الموت والحياة ليبتليهم ً
وقدر عليهم الموت الذي ينالوا به عاقبة ذلك االبتالء من الثواب والعقاب.
وأخرب يف اآلية األولى أنه زين لهم ما على األرض ليبتليهم به أيهم يؤثر
ما عنده وابتلى بعضهم ببعض.
وابتالهم بالنعم والمصائب فأظهر هذا االبتالء علمه السابق فيهم
موجو ًدا عيا ًنا بعد أن كان غي ًبا يف علمه ،فابتلى أبوي اإلنس والجن كل منهما
باآلخر ،فأظهر ابتالء آدم ما علِمه منه ،وأظهر ابتالء إبليس ما علِمه منه؛ فلهذا
قال للمالئكة :ﱣﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞﱢ [البقرة ،]30:واستمر هذا االبتالء يف
أممهم هبم.
الذرية إلى يوم القيامة؛ فابتلى األنبياء بأممهم ،وابتلى َ
وقال لعبده ورسوله وخليله« :إِ ِّني ُم ْب َت ِل َي َ
ك َو ُم ْب َت ٍل بِ َ
ك»( ،)1وقال:
ﱣﳎ ﳏ ﳐ ﳑﳒ ﳓ ﳔﱢ [األنبياء ،]35:وقال :ﱣﲾ
ﲿﳀﳁﱢ [الفرقان.)]20:
[األنبياء ،]51:قال البغوي(( :)1إنه أهل للهداية والنبوة) ،وقال أبو الفرج(:)2
(أي :عالمين بأنه موضع إليتاء الرشد).
ً
أحواال بديعة وقال صاحب الكشاف(( :)1المعنى ع ْل ُمه به :أنه علم منه
أهله لمخا َّلته
وأسرارا عجيبة ،وصفات قد رضيها وحمدها ،حتى َّ
ً
حر من الناس :أنا عالم بفالن ،فكالمك هذا من
ومخالصته ،وهذا كقولك يف ٍّ
االحتواء على محاسن األوصاف).
وهذا كقوله :ﱣﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄﱢ [األنعام ،]124:وقوله :ﱣﭐ ﲝ
ﲋ ﲍ ﲎ ﲏﱢ [آل عمران،]33:
ﲌ ﲃﲄﲅﲆﲇﲈﲉﲊ
ﱖﱘ
ﱗ ﱎﱐﱑﱒﱓﱔﱕ
ﱏ ﱈﱉﱊﱋﱌﱍ
ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱢ [البقرة]216:؛ ب َّين سبحانه أن ما أمرهم به يعلم ما فيه من
المصلحة والمنفعة لهم التي اقتضت أن يختاره ويأمرهم به ،وهم قد
يكرهونه؛ إما لعدم العلم ،وإما لنفور الطبع ،فهذا علمه بما يف عواقب أمره
مما ال يعلمونه ،وذلك علمه بما يف اختياره من خلقه بما ال يعلمونه.
الحض على التزام أمر اهلل وإن شق على النفوس،
َّ فهذه اآلية تضمنت
وعلى الرضا بقضائه وإن كرهته النفوس.
كَ ،و َأ ْس َت ْق ِد ُر َك َخ ُير َك بِ ِع ْل ِم َويف حديث االستخارة« :ال ال ُهم إِنِّي َأست ِ
ْ ا
ت اك َت ْق ِد ُر َو ََّل َأ ْق ِد ُرَ ،و َت ْع َل ُم َو ََّل َأ ْع َل ُمَ ،و َأ ْن َ
ك؛ َفإِن َك ِم ْن َف ْض ِل َ كَ ،و َأ ْس َأ ُل َبِ ُقدْ َرتِ َ
ْت َتع َلم َأ ان ه َذا ْاألَمر َخير لِي ،فِي ِدينِي ،ومع ِ
اشي، ََ َ ْ َ ٌْ َ وب ،ال ال ُه ام إِ ْن ُكن َ ْ ُ َع اال ُم ا ْل ُغ ُي ِ
ْت َت ْع َل ُم ُه َش ًّراار ْك لِي فِي ِهَ ،وإِ ْن ُكن َ َو َعاقِ َب ِة َأ ْمرِيَ ،فا ْقدُ ْر ُه لِيَ ،و َي ِّس ْر ُه لِيُ ،ث ام َب ِ
اص ِر ْفن ِي َعنْ ُهَ ،وا ْقدُ ْر لِي اص ِر ْف ُه َعنِّيَ ،و ْ
ِ ِ ِ
لي ،في دينيَ ،و َم َعاشيَ ،و َعاق َبة َأ ْم ِري؛ َف ْ
ِ ِ ِ ِ
( )1أخرجه أحمد يف المسند برقم ( )1444والحاكم يف المستدرك برقم ( )1903وقال :صحيح
اإلسناد ولم يخرجاه.
( )2أورده ابن المبارك يف الزهد والرقاق (ص ،)32والقرطبي يف تفسيره (.)98/5
63 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
( )1ينظر :الزهد والرقائق البن المبارك ( ،)143/1وشرح السنة للبغوي ( ،)306/14وحلية
األولياء ( )271/7والرضا عن اهلل البن أبي الدنيا (ص.)65
( )2ذكره القرطبي يف تفسيره ( ،)39/3والثعلبي يف الكشف والبيان ( ،)138/2قال :وأنشد أبو سعيد الضرير:
خفـــي المحبـــوب منـــه وبـــدا المكـــروه فيـــه رب أمــــــر تتقيــــــه جــــ ـر أمــــــرا ترتضــــــيه
وأنشد محمد بن عرفة لعبد اهلل بن المعتز:
إن الحــــــــواد لــــــــم تــــــــزل متباينــــــــة َّل تكــــــــره المكــــــــروه عنــــــــد نزولــــــــه
هلل يف درج الحـــــــــــــــــواد كامنـــــــــــــــــة كــــــــم نعمــــــــة َّل تســــــــتقل بشــــــــكرها
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 64
ودخل يف ذلك الوقت يف اإلسالم قريب ممن دخل فيه إلى ذلك الوقت،
بغي المشركين وعداو ُتهم وعنا ُدهم ،وعلم الخاص والعام
وظهر لكل أحد ُ
أن محمدً ا وأصحابه أولى بالحق والهدى ،وأن أعداءهم ليس بأيديهم إال
العدوان والعناد.
فإن البيت الحرام لم ُيصدّ عنه حاج وال معتمر من زمن إبراهيم،
فتحققت العرب عنا َد قريش وعداو َتهم ،وكان ذلك داعية لبشر كثير إلى
اإلسالم ،وزاد عناد القوم وطغياهنم ،وذلك من أكرب العون على نفوسهم،
وزاد صرب المؤمنين واحتمالهم ،والتزامهم لحكم اهلل وطاعة رسوله
،وذلك من أعظم أسباب نصرهم ،إلى غير ذلك من األمور التي
فتحا وسئل النبي
علمها اهلل ولم يعلمها الصحابة ولهذا سماه ً
أفتح هو؟ قالَ « :ن َعم»(.))1
( )1يشير إلى حديث ُم َج ِّم ِع بن َجا ِر َي َة األنصاري َ -و َكا َن َأ َحدَ ا ْل ُق َّر ِاء ا َّل ِذي َن َق َرؤُ وا ا ْل ُق ْرآ َنَ ،-ق َالَ :ش ِهدْ نَا
ون األَبَا ِع َرَ ،ف َق َال بَ ْع ُض ا ْلحدَ يبِي َة مع رس ِ ِ
اس َي ُهزُّ َ ول اهلل َ ،ف َل َّما ان َْص َر ْفنَا َعنْ َها ،إِ َذا النَّ ُ ُ ْ َ َ َ َ ُ
ف، ِ
س نُوج ُ ِ ِ
س؟ َقا ُلواُ :أوحي إِ َلى َر ُسول اهلل َ ،ف َخ َر ْجنَا َم َع النَّا ِ ِ ِ
ضَ :ما للنَّا ِ س ل ِ َب ْع ٍ النَّا ِ
َ
َّاس َق َر َأ ِ اح َلتِ ِهِ ،عنْدَ ُك َرا ِع ا ْلغ َِم ِ َفوجدْ نَا النَّبِي واقِ ًفا َع َلى ر ِ
اجت ََم َع َع َليْه الن ُيمَ ،ف َل َّما ْ َ َ َّ َ َ
ِ
ول اهللَ ،أ َفتْ ٌح ُه َو؟ َق َالَ « :ن َع ْم، َع َل ْي ِه ْم :ﱣﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅﱢ [الفتحَ ،]1:ف َق َال َر ُج ٌلَ :يا َر ُس َ
والا ِذي َن ْفس محم ٍد بِي ِد ِه ،إِ انه لَ َفتْح»َ ،ف ُق ِسم ْت َخيبر َع َلى َأه ِل ا ْلحدَ يبِي ِةَ ،ف َقسمها رسو ُل اهللِ
َ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ َُْ َ ٌ ُ ُ ُ َ ا َ َ
س، ار ٍ ِ ِ
َث م َئة َف ِ ِ ٍ ِ ِ
َ ع َلى َث َمان َي َة ع ََش َر َس ْه ًماَ ،وكَا َن ا ْل َج ْي ُش َأ ْل ًفا َو َخ ْم َس مئَة ،في ِه ْم َثال ُ
اج َل َس ْه ًما .أخرجه أبو داود برقم ( ،)2736والطرباين يف الر ِ ار َس َس ْه َميْ ِنَ ،و َأ ْع َطى َّ َف َأ ْع َطى ا ْل َف ِ
األوسط برقم ( ،)3766وقال :ال يروى هذا الحديث عن مجمع بن جارية إال هبذا اإلسناد ،تفرد
به مجمع بن يعقوب ،وصححه الحاكم برقم ( ،)2593ووافقه الذهبي.
65 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
َان ِزن ُ
َاه َما ال ان َظ ُر، َع َلى ا ْب ِن آ َد َم ن َِصي ُب ُه ِم ْن الزِّ نَاُ ،مدْ ِر ٌك َذ ِل َك ََّل َم َحا َل َة؛ َفا ْل َع ْين ِ
ِ ِ األ ُذن ِ
الر ْج ُل َاها ا ْل َب ْط ُشَ ،و ِّ ان ِزنَا ُه ا ْلك ََال ُمَ ،وا ْل َيدُ ِزن َ اعَ ،وال ِّل َس ُ
َاه َما اَّل ْست َم ُ َان ِزن ُ َو ْ ُ
ب َي ْه َوى َو َيت ََمناىَ ،و ُي َصدِّ ُق ا ْل َف ْر ُج َذ ِل َك ُك ال ُه َو ُيك َِّذ ُب ُه»(.)1 ِزن َ
َاها ا ْل ُخ َطاَ ،وا ْل َق ْل ُ
ويف صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين ،قالَ :د َخ ْل ُت َع َلى
يمَ ،ف َق َال: َاس مِ ْن َبنِي َت ِم ٍ ابَ ،ف َأ َتا ُه ن ٌ ال َّنبِي َ ،و َع َق ْل ُت نَا َقتِي بِا ْل َب ِ
ِّ
«ا ْقب ُلوا ا ْلب ْشرى يا بنِي ت َِمي ٍم»َ ،قا ُلواَ :قدْ ب َّشر َتنَا َف َأ ْعطِنَا ،مر َتي ِنُ ،ثم د َخ َل َع َليهِ
ْ َّ َ َ َّ ْ َ ْ ُ َ َ َ َ
َاس مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َي َم ِنَ ،ف َق َال« :ا ْق َب ُلوا ا ْل ُب ْش َرى َيا َأ ْه َل ا ْل َي َم ِن ،إِ ْذ َل ْم َي ْق َب ْل َها َبنُو ن ٌ
اهللَ ،قا ُلواِ :ج ْئ َنا ن َْس َأ ُل َك َع ْن َه َذا األَ ْم ِرَ ،ق َال: ول ِ ت َِمي ٍم»َ ،قا ُلواَ :قدْ َقبِ ْلنَا َيا َر ُس َ
ب ِفي ال ِّذ ْك ِر ك اُل ِ
َان َع ْر ُش ُه َع َلى ا ْل َماءَ ،و َك َت َ اهللَ ،و َل ْم َيك ُْن َش ْي ٌء َغ ْي ُر ُهَ ،وك َ
ان ُ « َك َ
َادَ :ذ َه َب ْت نَا َق ُت َك َيا ا ْب َن ا ْل ُح َص ْي ِن،ات واألَر َض»َ .فنَادى من ٍ ِ ٍ
َ ُ الس َم َاو َ ْ َشيءَ ،و َخ َل َق ا
اهللَ ،ل َو ِد ْد ُت أنَّي ُكن ُْت َت َر ْك ُت َها(.)2 َفا ْن َط َل ْق ُتَ ،فإِ َذا ِهي ي ْق َطع دونَها السرابَ ،فو ِ
َ َ ُ ُ َ َّ َ ُ َ
فالرب سبحانه كتب ما يقوله وما يفعله ،وما يكون بقوله وفعله ،وكتب
مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها ،كما يف الصحيحين( )3من حديث أبي الزناد،
عن األعرج ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول اهلل َ « :ل اما َق َضى ُ
اهلل
َضبِى»(.)4
تغ َ ش :إِ ان َر ْح َمتِي َغ َل َب ْ
َاب؛ َف ُه َو ِعنْدَ ُه َف ْو َق ا ْل َع ْر ِ
َب ِفي ِكت ٍ
ا ْلخَ ْل َقَ ،كت َ
ويف الحديث عن عبادة بن الصامت ،قال :قال رسول اهلل
( )1أخرجه البخاري برقم ( ،)3208ومسلم برقم ( ،)2643عن ابن مسعود .
71 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
ت ،أو حي ٍ
اةَ ،و ِر ْز ٍقَ ،و َم َط ٍرَ ،حتَّى ا ْل ُح َّجاجِ ُ ،ي َق ُالَ :ي ُح ُّج فِي السن َِة ،مِن :مو ٍ
ََ ْ َْ َّ
ُف َال ٌنَ ،و َي ُح ُّج ُف َال ٌن)( ،)1وكذا قال الحسن ،وسعيد بن جبير ،ومقاتل ،وأبو
عبد الرحمن السلمي ،وغيرهم(.)2
ومنها التقدير اليومي :كما ذكره بعض أهل العلم واستدل له بقوله
تعالى :ﮋﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮊ [الرحمن ،]29:فهو كل يوم يغني
فقيرا ،ويفقر غن ًيا ،ويوجد معدو ًما ،ويعدم موجو ًدا ،ويبسط الرزق ويقدره،
ً
وينشئ السحاب والمطر ،وغير ذلك(.)3
( )1ينظر :مختصر قيام الليل للمقريزي (ص ،)250وأعالم السنة المنشورة للحكمي (ص،)84
ومعارج القبول للحكمي (.)937/3
( )2ينظر :المصدر السابق.
( )3ينظر :القول المفيد على كتاب التوحيد البن عثيمين (.)297/2
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 72
ﱯﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ
ﱰ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫﱬ ﱭ ﱮ
ﱺﱢ [البقرة ،]253:وقال تعالى :ﱣﱵﱶﱷﱸﱹﱢ [آل عمران.]40:
وقال :ﱣﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ
ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭﱮ ﱯ ﱰ ﱱﱢ
[األنعام ،]112:وقال :ﱣﱗﱘﱙﱚﱛﱜﱝﱞﱟﱢ [يونس.]99:
وقال :ﱣﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢﱢ [األنعام ،]35:وقال عن نوح أنه
قال لقومه :ﱣﲖ ﲗ ﲘ ﲙﱢ [هود ،]33:وقال إمام الحنفاء وأبو األنبياء
لقومه :ﱣﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ
ﲻﱢ [األنعام ،]80:وقال الذبيح له :ﱣﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣﱢ
[الصافات ،]102:وقال خطيب األنبياء شعيب :ﱣﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ
ﱰﱱﱲﱳﱴﱵﱶﱷﱸﱹﱺﱻﱼﱢ [األعراف.]89:
وقال الصديق الكريم ابن الكريم ابن الكريم :ﱣﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ
ﲽﲿ ﳀ
ﲾ ﱸﱢ [يوسف ،]99:وقال حمو موسى :ﱣﲹﲺﲻﲼ
ﳁ ﳂ ﳃ ﳄﱢ [القصص ،]27:وقال كليم الرحمن للخضر:
ﱣﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﱢ [الكهف ،]69:وقال قوم موسى
له :ﱣﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱢ [البقرة ،]70:وقال لسيد ولد آدم وأكرمهم عليه:
ﱣﭐﲊﲋﲌﲍﲎﲏﲐﲑﲒﲓﲔﲕﱢ [الكهف.]24 – 23:
وقال :ﱣﲕﲖﲗﲘﲙ ﲚﲛﲜ ﲝﲞﲟﱢ [يونس ،]49:وقال :ﱣﱭ
ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲﱢ [المدثر ،]56:ويف اآلية األخرى :ﱣﳅ ﳆ ﳇ ﳈ
ﳉ ﳊﱢ [التكوير]29:؛ فأخرب أن مشيئتهم وفعلهم موقوفان على مشيئته لهم
هذا وهذا ،وقال :ﱣﱷ ﱸﱹﱺ ﱻﱼ ﱽ ﱾ ﱿﲀ ﲁ ﲂ
ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈﱢ [آل عمران ،]26:وقال :ﱣﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ
ﳔﳕﳖﳗﳘﳙﱢ [يونس.)]25:
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 74
ﲮﲰﲱﲲﲳﲴﲵﲶﲷﲸﲹ
ﲯ ﲪﲬﲭ
ﲫ ﲩ
ﲼ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁﱢ [الشورى ،]50 ،49:وقال :ﱣﳁ
ﲽ ﲺﲻ
ﳂﳃﳄﳅﱢ [النور.]35:
وتقدم يف حديث حذيفة بن أسيد يف صحيح مسلم يف شأن الجنين:
ك»(.)2
َب ا ْل َم َل ُ « َف َي ْق ِضي َر ُّب َ
ك َما َي َشا ُءَ ،و ُي ْكت ُ
ويف صحيح البخاري ،من حديث علي بن أبي طالب ،حين َط َر َق ُه النبي
ان؟» ،فقال علي ،إِن ََّما َأ ْن ُف ُسنَا بِ َي ِد
ليال ،فقالَ « :أَّل ت َُص ِّل َي ِ
وفاطمة ً
اهللَِ ،فإِ َذا َشا َء َأ ْن َي ْب َع َثنَا َب َع َثنَا(.)2
أيضا -يف قصة نومهم يف الوادي ،-عنه صلى اهلل تعالى ويف صحيحه ً
ِ ِ
ين َشا َء»(.))3
ين َشا َءَ ،و َر اد َها ح َ عليه وسلم« :إ ان اهللَ َق َب َض َأ ْر َو َ
احك ُْم ح َ
فما شاء اهلل كان ،وما لم يشأ لم يكن؛ قال تعالى :ﮋﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧﮊ [السجدة ،]13:وقال تعالى :ﮋﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ
ﱯﱱ
ﱰ ﱢ ﱣﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ
ﱲﱳﱴﱵﱶﱷﱸﱹﱺﱢ [البقرة.]253:
فبين أن األمور كلها بمشيئة اهلل تعالى وإرادته.
*****
ﲫﱢ [األعراف ،]28:وال حاجة إلى تكلف تقديرَ :أ َم ْر َنا ُم ْت َرفِ َيها فيها
بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها؛ بل األمر ههنا أمر تكوين وتقدير ال أمر
تشريع).
*****
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 78
قال ابن القيم(( :)1وهذا أمر متفق عليه بين الرسل صلى اهلل تعالى عليهم
وسلم ،وعليه اتفقت الكتب اإللهية والفطر والعقول واالعتبار.
فمذهبهم جمع حق الطوائف بعضه إلى بعض والقول به ،ونصره ومواالة
أهله من ذلك الوجه ،ونفي باطل كل طائفة من الطوائف ،وكسره ومعاداة
أهله من هذا الوجه.
فهم حكام بين الطوائف ،ال يتحيزون إلى فئة منهم على اإلطالق ،وال
باطال
يردون حق طائفة من الطوائف ،وال يقابلون بدعة ببدعة ،وال يردون ً
بباطل ،وال يحملهم شنآن قوم يعادوهنم ويكفروهنم على أن ال يعدلوا فيهم؛
بل يقولون فيهم الحق ،ويحكمون يف مقااللتهم بالعدل.
واهلل أمر رسوله أن يعدل بين الطوائف ،فقال:
ﲽﲿﳀﳁﳂﳃﳄ
ﲾ ﲹﲻﲼ
ﲺ ﲵﲷﲸ
ﲶ ﱣﲴ
ﳅ ﳇ ﳈ ﳉﱢ [الشورى]15:؛ فأمره سبحانه أن يدعو إلى دينه
ﳆ
وكتابه ،وأن يستقيم يف نفسه كما أمرهَّ ،
وأال يتبع هوى أحد من الفرق ،وأن
يؤمن بالحق جميعه ،وال يؤمن ببعضه دون بعض ،وأن يعدل بين أرباب
المقاالت والديانات.
وأنت إذا تأملت هذه اآلية وجدت أهل الكالم الباطل وأهل األهواء
والبدع من جميع الطوائف أبخس الناس منها ح ًّظا ،وأقلهم نصي ًبا ،ووجدت
أحق هبا وأه ُلها ،وهم يف هذه المسألة
حزب اهلل ورسوله وأنصار سنته هم ُّ
وغيرها من المسائل أسعد بالحق من جميع الطوائف ،فإهنم يثبتون قدرة اهلل
على جميع الموجودات من األعيان واألفعال ،ومشيئته العامة ،وينزهونه أن
يكون يف ملكه ما ال يقدر عليه وال هو واقع تحت مشيئته ،ويثبتون القدر
السابق ،وأن العباد يعملون على ما قدره اهلل وقضاه وفرغ منه ،وأهنم ال
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 82
يشاؤون إال أن يشاء اهلل ،وال يفعلون إال من بعد مشيئته ،وأنه ما شاء كان ،وما
لم يشأ لم يكن ،وال تخصيص عندهم يف هاتين القضيتين بوجه من الوجوه.
والقدر عندهم :قدرة اهلل تعالى وعلمه ومشيئته وخلقه ،فال يتحرك ذرة
فما فوقها إال بمشيئته وعلمه وقدرته ،فهم المؤمنون بال حول وال قوة إال باهلل
على الحقيقة إذا قالها غيرهم على المجاز ،إذ العالم علو ُّيه وسفل ُّيه وكل حي
فعال ،فإن فعله بقوة منه على الفعل ،وهو يف حول من ترك إلى فعل،
يفعل ً
ومن فعل إلى ترك ،ومن فعل إلى فعل ،وذلك كله باهلل تعالى ال بالعبد.
ويؤمنون بأن من يهده اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادي له ،وأنه
كافرا ،والمصلي مصل ًيا ،والمتحرك
مسلما ،والكافر ً
ً هو الذي يجعل المسلم
متحر ًكا.
وهو الذي يسير عبده يف الرب والبحر ،وهو المسير والعبد السائر ،وهو
المحرك والعبد المتحرك ،وهو المقيم والعبد القائم ،وهو الهادي والعبد
المهتدي ،وأنه المطعم والعبد الطاعم ،وهو المحي المميت والعبد الذي
يحيى ويموت.
ويثبتون مع ذلك قدرة العبد ،وإرادته ،واختياره ،وفعله؛ حقيقة ال
مجازا.
ً
بغوي
وهم متفقون على أن الفعل غير المفعول ،كما حكاه عنهم ال ُّ
وغيره؛ فحركاهتم واعتقاداهتم أفعال لهم حقيقة ،وهي مفعولة هلل سبحانه
علمه وقدر ُته ومشيئ ُته وتكوينُه،
مخلوقة له حقيقة ،والذي قام بالرب ُ
والذي قام هبم هو فعلهم وكسبهم وحركاهتم وسكناهتم.
83 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
( )1ينظر تفاصيل الحديث عن هذه المراتب األربع التي تحدثنا عنها يف :الروضة الندية لزيد بن
فياض (ص ،)353والتنبيهات اللطيفة للسعدي م ع تعليقات الشيخ ابن باز ( ،)80-75وشرح
العقيدة الواسطية لصالح الفوزان (ص ،)156-150وشفاء العليل البن القيم (،)116-61
ومعارج القبول لحافظ الحكمي ( ،)238-225/2وأعالم السنة المنشورة للحكمي
(ص ،)129-126ورسائل يف العقيدة البن عثيمين (ص ،)37وتقريب التدمرية البن عثيمين
(ص ،)109-108والقضاء والقدر لعمر األشقر( ،ص ،)36-29و خالصة معتقد أهل السنة
لعبد اهلل المشعلي (ص.)30-29
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 84
كائنة بمشيئة اهلل وقدرته وخلقه ،فال بد أن يؤمن العبد بقضاء اهلل وقدره ،وأن
يوقن العبد بشرع اهلل وأمره.
فمن نظر إلى الحقيقة القدرية ،وأعرض عن األمر والنهي والوعد
والوعيد ،كان مشاهبًا للمشركين.
ومن نظر إلى األمر والنهي وكذب بالقضاء والقدر كان مشاهبًا
للمجوسيين.
ومن آمن هبذا وهبذا؛ فإذا أحسن حمد اهلل تعالى ،وإذا أساء استغفر اهلل
تعالى ،وعلم أن ذلك بقضاء اهلل وقدره ،فهو من المؤمنين.
فإن آدم لما أذنب تاب فاجتباه ر ُّبه وهداه ،وإبليس أصر واحتج
فلعنه اهلل وأقصاه ،فمن تاب كان آدم ًّيا ،ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليس ًّيا؛
فالسعداء يتبعون أباهم ،واألشقياء يتبعون عدوهم إبليس.
فنسأل اهلل أن يهدينا الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعم عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .آمين يا رب العالمين).
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 86
فإن مالك العبد أو األمة إذا أراد أن يتصرف هبما ويخرجهما عن ملكه،
لم تنكر العقول ذلك وال تأباه العادات الجارية بين العباد ،فكيف تصرف
الرب بمخلوقه ،فإنه المالك للعبد وسيده ،ولما يف األرضين والسموات من
وشق سمعه وبصره ورزقه ،وم َّن عليه بالنعم التي ال يقدر
العالم الذي خلقهَّ ،
على شيء منها إال هو تعالت قدرته ،وتقدس اسمه).
ومن خالل ما مضى يتبين لنا شيء يف عظم شأن القضاء والقدر ،وفيما
يلي مزيد بيان ألهميته وفوائده:
-1ارتباطه باإليمان باهلل؛ فالقدر قدرة اهلل ،والمؤمن به مؤمن بقدرة اهلل،
والمكذب به مكذب بقدرة اهلل ،ثم إنه مرتبط بحكمة اهلل وعلمه،
ومشيئته ،وخلقه.
-2ارتباط هذا الركن العظيم من أركان اإلسالم بنشأة الكون وبداية
الخلق ،فحين ننظر إلى هذا الكون ،ونشأته ،وخلق الكائنات فيه ،ومنها هذا
اإلنسان ،نجد أن كل ذلك مرتبط باإليمان بالقدر ،فـَ « :أ او َل َما َخ َل َق اهللُ ا ْل َق َل َم،
ُب َما ُه َو كَائِ ٌن إِ َلى َي ْو ِم ُبَ ،ف َق َالَ :ر ِّب َو َما َذا َأ ْكت ُ
ُب؟َ ،ق َال :ا ْكت ْ َف َق َال َل ُه :ا ْكت ْ
الق َي َام ِة»(.)1
ِ
واإلنسان يوجد على هذه األرض ،وينشأ تلك النشأة الخاصة ،ويعيش
ما شاء اهلل يف حياة متغيرة ،فيها الصحة والسقم ،والغنى والفقر ،والقوة
والضعف ،والنعم والمصائب ،والفرح والحزن ،وينظر اإلنسان من حوله
فيرى تفرق هذه الصفات على الناس ،وعلى الجماعات والدول ،ينظر إلى
كل ذلك فال يجد المخرج إال يف العقيدة الصحيحة ،وعلى رأسها اإليمان
بالقدر(.)1
-3كثرة وروده يف أدلة الشرع؛ فنصوص الكتاب والسنة حافلة ببيان
حقيقة القدر ،وتجلية أمره ،وإيجاب اإليمان به.
-4أنه من الموضوعات الكربى التي خاض فيها جميع الناس على
اختالف طبقاهتم وأدياهنم؛ والتي شغلت أذهان الفالسفة ،والمتكلمين،
وأتباع الطوائف من أهل الملل وغيرهم.
-5ارتباط القدر بحياة الناس وأحوالهم؛ فهو مرتبط بحياهتم اليومية
وما فيها من أحداث وتقلبات ليس لهم يف كثير منها إرادة أو تأثير.
ولو لم يكن هناك إال مسألة الحياة والموت ،وتفاوت الناس يف األعمال
والمواهب ،والغنى والفقر ،والصحة والمرض ،والهداية واإلضالل؛ لكان
ذلك كاف ًيا يف أن يفكر اإلنسان يف القدر.
أعوص أبواب العقيدة؛ فمع أن باب القدر معلوم بالفطرة -
َ -6كونه
كما مر -وأن نصوص الشرع قد بينته غاية البيان؛ إال أنه يظل أعوص أبواب
العقيدة؛ فدقة تفاصيله ،وتشعب مسائله ،وكثرة الخوض فيه ،وتنوع الشبهات
المثارة حوله؛ كل ذلك يوجب صعوبة فهمه ،وتعسر استيعابه.
فال غرو أن يحار الناس يف شأنه يف القديم والحديث؛ فلقد سلك العقالء
يف هذا الباب كل واد ،وأخذوا يف كل طريق ،وولجوا كل مضيق ،وقصدوا
( )1ينظر :منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي وجهوده يف تقرير العقيدة ،أحمد عسيري (ص.)509
89 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
إلى الوصول إلى معرفته ،والوقوف على حقيقته؛ فلم يرجعوا بفائدة ،ولم
يعودوا بعائده ،ألهنم التمسوا الهدى من غير مظانِّه ،فتعبوا وأتعبوا ،وحاروا
وتحيروا ،وضلوا وأضلوا.
-7ما يرتتب على اإليمان به على الوجه الصحيح؛ فذلك يثمر السعادة
يف الدنيا واآلخرة ،ويورث اليقين ،ويكسب األخالق الفاضلة ،والهمم
العالية ،واإلرادات القوية.
-8ما يرتتب على الجهل به؛ فالجهل به ،أو فهمه على غير الوجه
الصحيح يورث الشقاء ،والعذاب يف الدنيا واآلخرة ،والواقع يشهد بذلك يف
أمم الكفر؛ إذ يشيع فيها قلة التحمل ،واالنتحار ،والقلق.
وكذلك الحال يف أمة اإلسالم؛ فما تخلفت يف عصورها المتأخرة إال
أبرزهاُ :
جهل كثير من المسلمين ،وانحرافهم يف باب العقيدة - ألسبابُ ،
خصوصا.-
ً عمو ًما ،-ويف باب القدر -
وذلك عندما اتخذ كثير منهم من اإليمان بالقدر مسو ًغا واه ًيا لعجزهم،
واهنيارهم ،وإخالدهم إلى األرض ،تاركين األخذ باألسباب ،ناسين أو
متناسين أن أقدار اهلل إنما تجري َو ْف َق سنته الثابتة التي ال تتغير وال تتبدل ،وال
تحابي أحدً ا كائنًا من كان.
-9قال الشوكان(( :)1ومن فوائد رسوخ اإليمان هبذه الخصلة -أي:
اإليمان بالقضاء والقدر -أنه يعلم أنه ما وصل إليه من الخير على أي صفة
كان وبيد من اتفق فهو منه ،فيحصل له بذلك من الحبور والسرور ما ال
تصورها
قدره ،لما له سبحانه من العظمة التي تضيق أذهان العباد عن ِّ
ُيقا َد ُر ُ
وتقص ُر عقولهم عن إدراك أدنى منازلها.
وإذا كان للعطية من ملك من ملوك الدنيا ما يتأثر له المعطي ،ويفرح به
ويسر ألجله؛ لكونه من أعظم بني آدم؛ لجعل اهلل سبحانه بيده ِّ
الحل والعقد
يف طائفة من عباده ،فكيف العطاء الواصل من خالق الملوك ورازقهم
ومحييهم ومميتهم.
وما أحسن ما قاله الحربي ( :من لم يؤمن بالقدر لم ي َت َه ّن بعيشه)،
وهذا صحيح ،فما تعاظمت القلوب بالمصائب ،وضاقت هبا األنفس
وحرجت هبا الصدور إال من ضعف اإليمان بالقدر.
اللهم ارحمنا برحمت ك فإنا من الضعف ما أنت أعلم به ،ومن عدم
الصرب على حوادث الزمان ما ال يخفى عليك ،ومن عدم الثبات عند المحن
ما لديك حقيقته ،ولكننا نسألك العافية التي أرشدتنا إلى سؤالها منك).
فلعل األمة اإلسالمية تفيق من رقدهتا ،وتتولى قوامة البشرية ،وتأخذ
مكاهنا الالئق هبا ،وذلك بعودهتا إلى عقيدهتا الصافية النقية التي هي مصدر
مجدها ،ومنبع عزها.
91 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
قال الشيخ السيد سابق(( :)1وحكمة ذلك :أن تنطلق قوى اإلنسان وطاقاته
لتعرف هذه السنن ،ولتدرك هذه القوانين ،وتعمل بمقتضاها يف البناء والتعمير،
ويف استخراج كنوز األرض واالنتفاع بما أودع يف الكون من خيرات.
وبذلك يكون اإليمان بالقدر قوة باعثة على النشاط والعمل واإليجابية
يف الحياة ،كما أن اإليمان بالقدر يربط اإلنسان برب هذا الوجود ،فيرفع من
نفسه إلى معالي األمور :من اإلباء والشجاعة والقوة ،من أجل إحقاق الحق،
والقيام بالواجب.
واإليمان بالقدر يري اإلنسان أن كل ش ٍ
يء يف الوجود إنما يسير وفق حكمة ُ
مسه الضر فإنه ال يجزع ،وإذا صادفه التوفيق والنجاح فإنه ال يفرح وال
عليا ،فإذا ّ
يبطر ،وإذا برئ اإلنسان من الجزع عند اإلخفاق والفشل ،ومن الفرح والبطر
عند التوفيق والنجاح ،كان إنسانًا سو ًّيا متزنًا ،بال ًغا منتهى السمو والرفعة ،وهذا
هو معنى قول اهلل سبحانه :ﱣﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ
ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ
ﲼﲽﲾﲿﳀﳁﳂﳃﳄﳅﱢ [الحديد.]23 ،22:
هذا ما ينبغي أن نفهمه من القدر؛ وهو مقتضى فهم الرسول صلوات اهلل
وسالمه عليه ،وفهم أصحابه أجمعين.
سبيال إلى التواكل ،وال ذريعة إلى المعاصي ،وال
ً إن القدر ال يتخذ
( )1أخرجه البخاري برقم ( ،)5729ومسلم برقم ( ،)2219عن ابن عباس .
93 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
وصدورها عن تقدير منه تعالى ،وخلقه لها خيرها وشرها ،والقدر :اسم لما
صدر مقدَّ را عن فعل القادر.
وعلم اهلل سبحانه مما سيقع ،ووقوعه حسب هذا العلم ال تأثير له يف
إرادة العبد ،فإن العلم صفة انكشاف ال صفة تأثير(.)1
وللشيخ الشعراوي إضاءة يف هذا الموضع يحسن إيرادها ،ألهنا
تبين أن علم اهلل بما يكون من العبد وكتابته ذلك ،ال عالقة له بإرادة العبد
ومشيئته وفعله.
فقد سئل :)2(عن القدر الذي هو علم اهلل باألشياء قبل وقوعها،
هل هو صفة جرب؟
فأجاب :العلم ليس صفة جرب ،إنما هي صفة انكشاف فقط ،يكشف
مثال بسي ًطا؛ فقال :أنت جئت
األشياء على ما هي عليه ،وضرب لذلك ً
تزورين وعندي خادم؛ فأرسلته ليحضر لك شرا ًبا من البقال ،فتأخر؛ فقلت
لك :هل تعرف لماذا أبطأ؟ ،هناك ولد آخر على ناصية الشارع مستو ٍل على
خارجا لشراء حاجة يلعب معه ،ويأخذ نقوده ،والنقود
ً هذا الولد ،حينما يراه
ضاعت من الولد ،وهو خائف أن يأيت؛ فلما جاء الخادم سألناه ما الحكاية،
فقال :كما قلت أنا ،فهل ترى عندما قلت :إنه سيحصل منه كذا وكذا،
أرسلت معه قو ًة لرتغمه على فعل ما قل ُته لك؛ فكيف قلت أنا هذا الكالم؟
قلته :ألنني أعرف سوابقه ،ومعرفتي لسوابقه للعلم فقط.
) (1ينظر :كتاب التوحيد المسمى بـ «التخلي عن التقليد والتحلي باألصل المفيد» (ص.)203
) (2ينظر :منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري ،حمزة قاسم (.)155/4
95 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
أزال ما يكون من ِ
عبده كذلك وهلل المثل األعلى ،علِ َم اهلل تعالى ً
المختار ،فقال :سيكون من عبدي كذا وكذا ،فهو كتب ال ل ُيلزم ،ولكنه
كتب ألنه عالم بما يكون من العبد ،والفرق بين الصورتين أن العلم يف البشر
قديما،
ً فالحق كتب
ُّ الحق ال خطأ عنده يف علمه،
َّ قد يتخلف فيه شي ٌء ،لكن
ألنه علم ما يكون من عبده باختياره ،فهو ال يكتب ليلزم ،ألن العلم صفة
انكشاف وليس صفة تأثير كالقدرة).
قال الصابون(( :)1ويشهدون -يعني :أهل السنةَّ -
أن اهلل تعالى يهدي
من يشاء لدينه ،و ُيضل من يشاء عنه ،ال حجة لمن أضله عليه ،وال عذر لديه،
قال اهلل :ﮋﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮊ [األنعام ،]149:وقال:
ﮋﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱﮊ [السجدة.]13:
سبحانه خلق الخلق بال حاجة إليهم؛ فجعلهم فريقين :فري ًقا للنعيم
فضال ،وفري ًقا للجحيم ً
عدال ،وجعل منهم غو ًّيا ورشيدً ا ،وشق ًّيا وسعيدً ا، ً
وقري ًبا من رحمته وبعيدً ا ،ﮋﯮﯯﯰﯱﯲ ﯳﮊ [األنبياء.]23:
والنفع والض َّر؛
َ والشر
َ الخير
َ وقال :يشهد أهل السنة ،ويعتقدون َّ
أن
بقضاء اهلل وقدره ال مر َّد لها ،وال محيص وال محيد عنها ،ال يصيب المرء إال
ما كتبه ربه ،ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يقضه لم َي ْقدروا.
وقال :ومذهب أهل السنة والجماعة أن اهلل مريد لجميع أعمال
العباد خيرها وشرها ،ولم يؤمن أحدٌ إال بمشيئة اهلل ،ولو شاء لجعل الناس
ُ
وإيمان أم ًة واحدةً ،ولو شاء أال يعصى ما خلق إبليس؛ ف ُك ُ
فر الكافرين،
كل ذلك وشاءهالمؤمنين؛ بقضائه و َقدَ ِره وإرادته ومشيئته ،أراد َّ
وقضاه ،ويرضى اإليمان والطاعة ،ويسخط الكفر والمعصية.
قال اهلل :ﮋﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉﮊ [الزمر.)]7:
وقال ابن تيمية(( :)1مذهب أهل السنة والجماعة يف هذا الباب وغيره ما
دل عليه الكتاب والسنة ،وكان عليه السابقون األولون من المهاجرين
واألنصار ،والذين اتبعوهم بإحسان ،وهو أن اهلل خالق كل شيء ،وربه،
ومليكه ،وقد دخل يف ذلك جميع األعيان القائمة بأنفسها ،وصفاهتا القائمة
هبا ،من أفعال العباد ،وغير أفعال العباد ،وأنه سبحانه ما شاء كان ،وما لم يشأ
لم يكن ،فال يكون يف الوجود شيء إال بمشيئته ،وقدرته ،ال يمتنع عليه شيء
شاءه؛ بل هو قادر على كل شيء ،وال يشاء شي ًئا إال وهو قادر عليه ،وأنه
سبحانه يعلم ما كان ،وما يكون ،وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وقد دخل يف ذلك أفعال العباد وغيرها ،وقد قدر اهلل مقادير الخالئق قبل
أن يخلقهم؛ قدر آجالهم ،وأرزاقهم ،وأعمالهم ،وكتب ذلك ،وكتب ما
يصيرون إليه من سعادة ،وشقاوة ،فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء ،وقدرته
على كل شيء ،ومشيئته لكل ما كان ،وعلمه باألشياء قبل أن تكون ،وتقديره
لها ،وكتابته إياها قبل أن تكون.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 98
الواجب على العبد يف هذا الباب :أن ُيؤمن بقضاء اهلل وقدره ،وأن ُيؤمن
بشرع اهلل ،وأمره وهنيه ،فعليه تصديق الخرب ،وطاعة األمر.
فإذا أحسن َح ِمدَ اهلل ،وإذا أساء استغفر اهلل ،وعلم أن ذلك كله بقضاء اهلل
أصر
وقدره؛ فإن آدم لما أذنب تاب ،فاجتباه ربه وهداه ،وإبليس َّ
أصر واحتج بالقدر صار
واحتج فلعنه اهلل وأقصاه ،فمن تاب كان آدم ًّيا ،ومن َّ
إبليس ًّيا ،فالسعداء يتبعون أباهم ،واألشقياء يتبعون عدوهم إبليس.
وبالمراعاة الصحيحة لقدر اهلل وشرعه يصير اإلنسان عابدً ا -حقيقة-
فيكون مع الذين أنعم اهلل عليهم من أنبياء ،وصديقين ،وشهداء ،وصالحين،
وكفى هبذه الصحبة غبطة وسعادة.
وبالجملة :فعليه أن يؤمن بمراتب القدر األربع السابقة ،وأنه ال يقع
أيضا -بأن اهلل أمر
شيء إال وقد علمه اهلل ،وكتبه ،وشاءه ،وخلقه ،ويؤمن ً -
بطاعته ،وهنى عن معصيته ،فيفعل الطاعة ،ويرتك المعصية ،فإذا وفقه اهلل
لفعل الطاعة وترك المعصية فليحمد اهلل ،وليستمر على ذلك ،وإن ُخ ِذل
ووكل إلى نفسه َف َف َعل المعصية ،وترك الطاعة؛ فعليه أن يستغفر ويتوب.
ُ
ثم إن على العبد -أي ًضا -أن يسعى يف مصالحه الدنيوية ،ويسلك الطرق
الصحيحة الموصلة إليها ،فيضرب يف األرض ،ويمشي يف مناكبها ،فإن أتت
األمور على ما يريد حمد اهلل ،وإن أتت على خالف ما يريد تعزى بقدر اهلل،
وعلم أن ذلك كله واقع بقدر اهلل وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ،وما
أخطأه لم يكن ليصيبه.
99 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
وإذا علم العبد من حيث الجملة أن هلل فيما خلق وما أمر به حكمة
علما وإيمانًا ظهر له من حكمة اهلل ورحمته ما
عظيمة كفاه هذا ،ثم كلما ازداد ً
يبهر عقله ،ويبين له تصديق ما أخرب اهلل به يف كتابه.
وال يلزم كل أحد أن يعلم تفاصيل الحديث عن اإليمان بالقدر؛ بل
يكفي هذا اإليمان المجمل ،فأهل السنة والجماعة -كما هو مقرر عندهم-
ال يوجبون على العاجز ما يجب على القادر.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 100
َّ
ضل يف القدر طائفتان من الناس ،كالهما على طريف نقيض؛ أحداهما:
جنحت إلى ذات اليمين فغالت يف إثبات القدر؛ فضلت ،والثانية :جنحت
إلى ذات اليسار فنفته؛ فضلت هي األخرى.
الطائفة األوىل :اجلربية(:)1
الجربية من الطوائف التي ضلت يف القدر ،وهم الذين قالوا :إن العبد
مجبور على عمله ،وليس له فيه إرادة وال قدرة.
فالجبر :هو نفي الفعل حقيقة عن العبد ،وإضافته إلى الرب تعالى.
والجبرية أصناف:
الجبرية الخالصة:
أصال ،فعندهم أن وهي التي ال ُت ْثبِ ُت للعبد ً
فعال وال قدرة على الفعل ً
اإلنسان مجبور على أفعاله ،فليس له إرادة وال اختيار ،وهذا يؤدي إلى أن
العبد غير مؤاخذ أو محاسب على أفعاله.
بل إثبات الفعل للعبد هو عين الشرك عندهم؛ بل هو كالهاوي من أعلى
إلى أسفل ،وكالسعفة تحركها الريح ،لم يعمل باختياره طاعة وال معصية،
اختيارا
ً حمله ما ال طاقة له به ،ولم يخلق فيه
ولم يكلفه اهلل وسعه؛ بل َّ
( )1ينظر :الملل والنحل للشهرستاين ( ،)85/1وشرح الطحاوية البن أبي العز ( ،)797/2ولوامع
األنوار البهية للسفاريني ( )90/1ولوائح األنوار السنية للسفاريني ( )132/2ومعارج القبول
للحكمي (.)372/1
101 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
فاعال بدون
وغيرها محال أن تضاف إلى غير من قامت به ،ومحال أن يسمى ً
فعل يقوم به(.)1
والجبرية المتوسطة:
هي التي ُت ْثبِ ُت للعبد قدرة غير مؤثرة ً
أصال.
أثرا ما يف الفعل ،وسمى ذلك كس ًبا؛ فليس
فأما من أثبت للقدرة الحادثة ً
بجربي.
وبناء على هذا المذهب الفاسد فإنه ال فائدة من إرسال الرسل وإنزال
الكتب؛ فإن الرسل جاءت بشرائع ليعمل الناس هبا ،ويرتتب على ذلك
الثواب والعقاب ،فالثواب يكون لمن عمل خ ًيرا ،والعقاب يكون لمن أساء
شرا.
وعمل ًّ
( )1ينظر :التوحيد للماتريدي (ص ،)314والفرق بين الفرق لألسفراييني (ص ،)93وشرح الطحاوية
البن أبي العز ( ،)78/1ولوامع األنوار البهية للسفاريني ( ،)300/1وقطف الثمر لل ِقنَّوجي
(ص.)89
( )2ينظر :مختصر معارج القبول ،هشام آل عقدة (ص.)75
( )3ينظر :السنة البن أبي عاصم (ص ،)79والشريعة لآلجري (ص ،)238وأصول االعتقاد لاللكائي
( ،)15/1ومجموع الفتاوى البن تيمية (.)384/7
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 104
وكان غالة القدرية ينكرون مرتبتي العلم والكتابة ،ويقولون :إن اهلل ال
يعلم أفعال العبد إال بعد وجودها ،وأهنا لم تكتب ،ويقولون :إن األمر أنف؛
أي :مستأنف ،لكن متأخروهم أقروا بالعلم والكتابة ،وأنكروا المشيئة
والخلق ،وهذا بالنسبة ألفعال المخلوقين(.)1
أما بالنسبة ألفعال اهلل؛ فال أحد ينكر أن اهلل عالم هبا قبل وقوعها(.)2
قال الشيخ السعدي(( :)3فأما القدرية النفاة :فهم الذين يطلق عليهم أكثر
العلماء اسم (القدرية) ،وهم الذين ورد فيهم الحديث الذي يف السنن :أهنم
مجوس هذه األمة(.)4
وأكثر أهل (المعتزلة) على هذا المذهب الباطل ،وحقيقة مذهبهم أهنم
( )1جاء يف فتح الباري (( :)119/1قال القرطبي وغيره :قد انقرض هذا المذهب ،وال نعرف أحدً ا
ينسب إليه من المتأخرين ،قال :والقدرية اليوم مطبقون على أن اهلل عالم بأفعال العباد قبل
وقوعها ،وإنما خالفوا السلف يف زعمهم :بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة
باطال أخف من المذهب األول ،وأما المتأخرون منهم فأنكروا
االستقالل ،وهو مع كونه مذهبًا ً
تعلق اإلرادة بأفعال العباد فر ًارا من تعلق القديم بالمحدث ،وهم مخصومون بما قال الشافعي :إن
سلم القدري العلم ُخ ِص َم ،يعني :يقال له :أيجوز أن يقع يف الوجود خالف ما تضمنه العلم؛ فإن
منع وافق قول أهل السنة ،وإن أجاز لزمه نسبة الجهل تعالى اهلل عن ذلك).
( )2نظر :شرح العقيدة الواسطية البن عثيمين (.)203/2
( )3ينظر :الدرة البهية للسعدي (ص.)17
ِ ِ ِ
وس َهذه األُ امة :إِ ْن َمرِ ُضوا َفالَ ( )4يشير إلى حديث ابن عمر ،عن النبي ،قال« :الْ َقدَ ِر اي ُة َم ُج ُ
وه ْم» .أخرجه أبو داود برقم (.)4691 وه ْمَ ،وإِ ْن َماتُوا َفالَ ت َْش َهدُ ُ
َت ُعو ُد ُ
ِ ِ ِ ِ ٍ ِ
ينوس َهذه األُ امة ،الاذ َ وسَ ،و َم ُج ُ وحديث حذيفة ،قال :قال رسول اهلل « :لك ُِّل ُأ امة َم ُج ٌ
وه ْمَ ،و ُه ْم ِشي َع ُة ِ ي ُقولُونََّ :لَ َقدَ ر ،من م َ ِ
ات من ُْه ْم َفالَ ت َْش َهدُ وا َجنَا َز َت ُهَ ،و َم ْن َمرِ َض من ُْه ْم َفالَ َت ُعو ُد ُ َ َ ْ َ َ
ِ
الَ ،و َحق َع َلى اهلل َأ ْن ُي ْلح َق ُه ْم بِالدا اجال» .أخرجه أبو داود برقم ( ،)4692وهذا الحديث ِ ِ الدا اج ِ
ضعفه غير واحد من أهل العلم ،وحسنه بعضهم.
105 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
يقولون :إن أفعال العباد ،وطاعاهتم ومعاصيهم؛ لم تدخل تحت قضاء اهلل
وقدره.
فأثبتوا قدرة اهلل على أعيان المخلوقات وأوصافها ،ونفوا قدرته على
أفعال المكلفين ،وقالوا :إن اهلل لم يردها ولم يشأها منهم؛ بل هم الذين
ً
استقالال بدون مشيئة اهلل. أرادوها وشاءوها ،وفعلوها
ويزعمون :أهنم هبذا القول ينزهون اهلل عن الظلم ،ألنه لو قدر المعاصي
الما لهم ،وللزم من إثبات قدرة اهلل على
عليهم ،ثم عذهبم عليها ،لكان ظ ً
أفعالهم الجرب ،الذي هو باطل بالشرع والعقل ،كما تقدمت اإلشارة إليه.
نصوصا كثيرة من الكتاب والسنة تثبت
ً ولكنهم هبذا القول الباطل ر ُّدوا
وتصرح بأن جميع أعمال العباد من خير وشر ،وطاعة ومعصية بقضاء اهلل
وقدره.
كما أجمع المسلمون :أنه ما شاء اهلل كان ،وما لم يشأ لم يكن.
وسموا( :مجوس هذه األمة) ،ألهنم أشبهوا (المجو َس) الذين أثبتوا
ُ
خال ًقا للخير ،وخال ًقا للشر ،وهو إبليس على زعم المجوس(.)1
وهؤالء (القدرية) أثبتوا :أن اهلل خالق للعباد ألعياهنم وأوصافهم ،ولم
يثبتوا أنه خالق ألفعالهم.
فأخرجوا أفعال العباد عن قدر اهلل ،ولم يهتدوا إلى ما اهتدى إليه أهل
السنة ،من أن اهلل كما أنه الذي خلقهم ،خلق ما به يفعلون من قدرهتم
وإرادهتم ،ثم فعلوا األفعال المتنوعة من طاعة ومعصية بقدرهتم وإرادهتم
اللتين خلقهما اهلل باتفاق المسلمين.
حتى هؤالء (القدرية) يثبتون :أن قدرة العباد وإرادهتم مخلوقة له.
وحيث وقعت أفعال العباد بقدرهتم وإرادهتم اللتين خلقهما اهلل يف العبد
ليتمكن هبما من كل ما يريده من أقوال وأفعال.
فالعبد المؤمن :هو الذي يصلي ،ويصوم ،ويتصدق ،ويحج ،ويعمل
أعمال الرب ،بما مكنه اهلل ،وأعطاه من قدرة وإرادة يتمكن هبما من أفعال
الخير.
والعبد الكافر أو الفاجر :هو الذي يشرك ،ويقتل ،ويزين ،ويسرق ويعمل
أجناس المعاصي ،بما مكنه اهلل به ،وأعطاه من قدرة وإرادة يفعل هبما تلك
األفعال.
والقدرة واإلرادة اللتان أعطاهما اهلل للعبد خير ونعمة ،وفضل من اهلل،
وجه قواه وأفعاله إلى أعمال الشر.
لكن العبد العاصي هو الذي َّ
فلم يكن له على اهلل حجة؛ بل هلل عليه الحجة البالغة ،هنج اهلل له طريق
الخير فأباه ،وسلك بنفسه طريق الشر وارتضاه ،فال يلومن من بعد ذلك إال
نفسه.
107 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
( )1وينسب كذلك للشافعي ومالك جمي ًعا ،وسئل أحمد عن القدري هل يكفر؟ قال:
إن جحد العلم كفر ،قال ابن رجب يف جامع العلوم والحكم (( :)103/1وقد قال كثير من أئمة
السلف« :ناظِروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خصموا ،وإن جحدوا فقد كفروا» ،يريدون أن من
أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد ،وأن اهلل قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد ،وكتب ذلك
كذب بالقرآن؛ فيكفر بذلك ،وإن أقروا بذلك ،وأنكروا أن اهلل خلق عنده يف كتاب حفيظ؛ فقد َّ
ِ
أفعال العباد وشاءها ،وأرادها منهم إرادة كونية قدرية؛ فقد ُخص ُموا؛ ألن ما أقروا به حجة عليهم
فيما أنكروه ،ويف تكفير هؤالء نزاع مشهور بين العلماء ،وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي
وأحمد على تكفيره ،وكذلك غيرهما من أئمة اإلسالم) .وينظر :توضيح المقاصد ،أحمد بن
عيسى ( ،)408/2وغاية األماين لأللوسي (.)53/1
109 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
اعرتفوا بإحاطة علم اهلل بكل شيء ،وبأفعال العباد قبل وقوعها كما هو القول
الذي استقر عليه مذهبهم ُخ ِص ُموا.
ووجه ذلك :أهنم يقولون :إن أفعالهم ال تتعلق هبا مشيئة اهلل وإرادته،
وإنما هم مستقلون هبا من كل وجه.
إذا كان هذا قولهم يف مشيئة اهلل ،مع قولهم :وإن اهلل يعلم أعمال العباد
قبل أن يعملوها؛ فهذا تناقض محض!!
كيف يعلمها وهو لم يقدِّ رها ولم يردها؟ هذا محال ﱣﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ
ﱑﱒﱢ [الملك.]14:
فيلزم أحد األمرين:
-1إما أن ال يتناقضوا ،فينفوا األمرين :علم اهلل بأفعاله ،ومشيئته لها؛
فيتضح كفرهم.
-2وإما أن يرجعوا إلى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة ،وأجمع
عليه المسلمون ،وهو :أنه تعالى كما أنه بكل شيء عليم ،وبكل شيء محيط؛
فإنه على كل شيء قدير.
ومن جملة األشياء :أفعال العباد :طاعاهتم ومعاصيهم؛ فهو تعالى
وتفصيال قبل أن يعملوها.
ً ً
إجماال يعلمها
وأعمالهم وأفعالهم داخلة تحت مشيئة اهلل وإرادته؛ فقد شاءها منهم
وأرادها ،ولم يجربهم ال على الطاعات ،وال على المعاصي؛ بل هم الذين
فعلوها باختيارهم ،كما قال تعالى :ﱣﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ
ﳈﳉﳊﳋﳌﱢ [التكوير.]29 ،28:
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 110
فهذه اآلية فيها رد على القدرية النفاة وعلى القدرية المجربة ،وإثبات
للحق الذي عليه أهل السنة والجماعة.
وفعال
ً فقوله :ﱣﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃﱢ ،أثبتت أنه لهم مشيئة حقيقية
حقيق ًّيا ،وهو االستقامة باختيارهم ،فهذا رد على الجربية.
وقوله :ﱣﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊﱢ ،أخرب أن مشيئتهم تابعة لمشيئة
اهلل ،وأهنا ال توجد بدوهنا؛ فما شاء اهلل كان ،وما لم يشأ لم يكن.
ففيها رد على القدرية القائلين :إن مشيئة العباد مستقلة ،وليست نابعة
لمشيئة اهلل.
يشاؤ ُه اهلل وال يقدره.
بل عندهم :يشاء العباد ويفعلون ما ال ُ
ودلت اآلية على الحق الواضح ،وهو :أن العباد هم الذين يعملون
الطاعات والمعاصي حقيقة ،وليسوا مجبورين عليها.
وأهنا مع ذلك تابعة لمشيئة اهلل ،كما تقدم كيفية وجه ذلك ،واآليات
الداالت على هذا كثيرة جدًّ ا).
*****
111 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
يليق بغناه وحمده وكماله ما نزه نفسه عنه ،وحمد نفسه بأنه ال يفعله،
فالطائفتان متقابلتان غاية التقابل.
والقدرية أثبتوا له حكم ًة وغاية مطلوبة من أفعاله على حسب ما أثبتوه
لخلقه.
والجبرية نفوا حكمته الالئقة به التي ال يشاهبه فيها أحد.
والقدرية قالت :إنه ال يريد من عباده طاعتهم وإيماهنم ،وإنه ال يشاء
ذلك منهم.
والجبرية قالت :إنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضاه من فاعله.
والقدرية قالت :إنه يجب عليه سبحانه أن يفعل بكل شخص ما هو
األصلح له(.)1
والجبرية قالت :إنه يجوز أن يعذب أولياءه وأهل طاعته ومن لم يعصه
قط ،وينعم أعداءه ،ومن كفر به وأشرك ،وال فرق عنده بين هذا وهذا.
فليعجب العاقل من هذا التقابل والتباعد الذي يزعم كل فريق أن قولهم
هو محض العقل ،وما خالفه باطل بصريح العقل.
( )1وهذا قول المعتزلة ،وأجمعت األمة على أن اهلل يتفضل على بعض خلقه فيشرح صدورهم
لإلسالم ،وال يتفضل على آخرين فيحدث العكس ،وأنه سبحانه ال يجب عليه فعل األصلح
لعباده؛ بل يهدي من يشاء ،ويضل من يشاء ،ال يجب عليه إال ما أوجبه على نفسه ،وال يحرم عليه
إال ما حرمه على نفسه .قال صاحب الدرة المضية (ص:)63
َو ََّل الصــــ ـالح َو ْيــــ ـح مــــــن لــــــم يفلــــــح َفلــــــم يجــــــب َع َل ْيــــ ـ ِه فعــــــل ْاألَ ْصــــــ َلح
َوإِن يـــــــــرد ضـــــــــالل عبـــــــــد يعتـــــــــدي َفكـــــــل مـــــــن َشـــــــا َء هـــــــداه َي ْه َتـــــــ ِدي
113 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
وكذلك القدرية قالت :إنه ألقى إلى عباده زما َم االختيار ،وفوض إليهم
يخص أحدً ا منهم دون أحد بتوفيق وال لطف وال
ّ المشيئة واإلرادة ،وإنه لم
هداية؛ بل ساوى بينهم يف مقدوره ،ولو قدر أن يهدي أحدً ا ولم يهده كان
بخال ،وإنه ال يهدي أحدً ا وال يضله ،إال بمعنى البيان واإلرشاد ،وأما خلق
ً
الهدى والضالل فهو إليهم ليس إليه.
وقالت الجبرية :إنه سبحانه أجرب عباده على أفعالهم؛ بل قالوا :إن
أفعالهم هي نفس أفعاله ،وال فعل لهم يف الحقيقة ،وال قدرة وال اختيار وال
مشيئة ،وإنما يعذهبم على ما فعله هو ال على ما فعلوه ،ونسبة أفعالهم إليه
كحركات األشجار والمياه والجمادات.
فالقدرية سلبوه قدرته على أفعال العباد ومشيئته لها.
والجبرية جعلوا أفعال العباد نفس أفعاله ،وأهنم ليسوا فاعلين لها يف
الحقيقة ،وال قادرين عليها.
فالقدرية سلبته كمال ملكه ،والجبرية سلبته كمال حكمته.
والطائفتان سلبته كمال حمده.
وأهل السنة الوسط أثبتوا كمال الملك والحمد والحكمة؛ فوصفوه
بالقدرة التامة على كل شيء ،من األعيان وأفعال العباد وغيرهم ،وأثبتوا له
الحكمة التامة يف جميع خلقه وأمره ،وأثبتوا له الحمد كله يف جميع ما خلقه
وأمر به ،ونزهوه عن دخوله تحت شريعة يضعها العباد بآرائهم ،كما نزهوه
عما نزه نفسه عنه مما ال يليق به ،فاستولوا على محاسن المذاهب ،وتجنبوا
المع َّلى ،وغيرهم طاف على أبواب المذاهب ،ففاز
أرداها ،ففازوا بالقدح ُ
بأخس المطالب ،والهدى هدى اهلل يختص به من يشاء من عباده).
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 114
وألهمية هذا الركن فقد بذل أهل العلم من السلف والخلف
جهو ًدا كبيره يف الرد على منكري القدر؛ سواء الجربية أو القدرية ،بأدلة الكتاب
والسنة ،والحجج والرباهين الواضحة البينة ،من الواقع والعقل الذي يدل على
انحرافهم يف هذه المسألة المهمة ،فكان مما قالوا ورضي عنهم:
عن أبي بكر الصديق قال« :خلق اهلل الخلق فكانوا يف قبضته،
فقال لمن يف يمينه :ادخلوا الجنة بسالم ،وقال لمن يف يده األخرى :ادخلوا
هبت إلى يوم القيامة»(.)1
النار وال أبالي ،فذ ْ
وقال ابن عمر« :جاء رجل إلى أبي بكر ،فقال :أرأيت الزنا بقدر اهلل؟
فقال :نعم ،قال :فإ َّن اهلل قدَّ ره عل َّي ثم يعذبني؟ قال :نعم يا ابن ال َّلخناء(،)2
أما واهلل لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ( )3أنفك»(.)4
وقال عمر بن الخطاب « :القدر قدرة اهلل ،فمن كذب
بالقدر ،فقد جحد قدرة اهلل .)5(»
) (1أخرجه اآلجري يف الشريعة برقم ( ،)415والاللكائي برقم ( ،)1204وذكره ابن القيم يف طريق
الهجرتين (ص.)80
) (2اللخناء :اللخن :النتن ،وقيل معناه :يا دينء األصل ،يا لئيم األم ،ويف األثر ضعف ،ولو صح دل
على عظم وقبح ما قاله هذا الرجل.
) (3يجأ :أي :يطعن.
) (4أخرجه الاللكائي برقم ( ،)1205وذكره ابن القيم يف طريق الهجرتين (ص.)80
( )5ينظر :الشريعة لآلجري ( ،)39/2واإلبانة الكربى البن بطه (.)131/2
115 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
قال« :قام عمر بن الخطاب بالجابية( )1خطي ًبا وعن عبد اهلل بن الحار
فقال يف خطبته :من يهده اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادى له ،وعنده
ليق( )2يسمع ما يقول ،قال :فنفض ثوبه كهيئة المنكر ،فقال عمر :ما
الجا َث ُ
يقول؟ قالوا :يا أمير المؤمنين ،يزعم أن اهلل ال ُّ
يضل أحدً ا ،قال :كذبت يا عدو
اهلل؛ بل اهلل خلقك وهو أضلك ،وهو يدخلك النار إن شاء اهلل ،أما واهلل لوال
عهد لك لضربت عنقك ،إن اهلل خلق الخلق فخلق أهل الجنة وما هم
عاملون ،وخلق أهل النار وما هم عاملون ،قال :هؤالء لهذه ،وهؤالء
لهذه»(.)3
وعن عبد الرحمن بن أبي أبزى قال« :بلغ عمر أن رجلين تكلما
يف القدر ،فقام خطي ًبا ،فتهدد فيه وأوعد فيه وعيدً ا شديدً ا وقال :إنما هلك من
كان قبلكم حيث تك َّلموا فيه ،أعزم على متك ِّلم يتكلم فيه ،فلم يتكلم فيه حتى
كان زمن الحجاج»(.)4
وعن علي أنه قال« :إن أحدكم لن يخلص اإليمان إلى قلبه حتى
يستيقن يقينًا غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ،وأن ما أخطأه لم يكن
ليصيبه ويقر بالقدر كله»(.)5
وعنه « :أنه خطب الناس على منرب الكوفة فقال :ليس منا من لم
يؤمن بالقدر خيره وشره»(.)1
وعن عبد اهلل بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ،عن علي بن أبي طالب
أمير المؤمنين :أنه ذكر عنده القدر يو ًما فأدخل أصبعه السبابة
والوسطى يف فيه ،فرقم( )2هبما باطن يده ،فقال :أشهد أن هاتين الرقمتين
كانتا يف أم الكتاب»(.)3
وعن إسحاق بن هاني النيسابوري ،قال( :كنت يو ًما عند أبي عبد اهلل،
فجاء رجل فقال :إن فال ًنا قال :إن اهلل أجرب العباد على الطاعة ،فقال:
بئس ما قال ،لم يقل شي ًئا غير هذا ،وسئل عن القدر؟ فقال :القدر قدرة اهلل
على العباد ،فقال الرجل :إن زنى فبقدر؟ وإن سرق فبقدر؟ قال :نعم ،اهلل
قدَّ ر عليه)(.)4
وض ُع َك َيدَ َك على
أيضا« :كل شيء بقدر؛ حتى ْ
وقال ابن عباس ً
خدك»(.)5
وعن ابن عمر قال« :لكل أمة مجوس ،وإن مجوس هذه األمة الذين
يقولون :ال قدر»(.)6
وعنه قال« :أول ما يكفأ اإلسالم كما يكفأ اإلناء قول الناس يف
القدر»(.)1
()2
سموا قدرية؛ ألهنم أثبتوا القدر ألنفسهم ،ونفوه
قال البيهقي ( :وإنما ُّ
عن اهلل ،ونفوا عنه خلق أفعالهم ،وأثبتوه ألنفسهم ،فصاروا
بإضافة بعض الخلق إليه دون بعض مضاهين للمجوس يف قولهم باألصلين
النور والظلمة ،وأن الخير من فعل النور ،والشر من فعل الظلمة).
وعن ابن عون قال( :دخلنا على أبي وائل فقلنا :حدثنا ما سمعت من
عبد اهلل؟ قال :سمعت عبد اهلل يعني ابن مسعود يقول :الشقي من شقي يف
بطن أمه ،والسعيد من وعظ بغيره؛ فقلنا :يا أبا وائل ما تقول يف الحجاج؟
قال :سبحان اهلل نحن نحكم على اهلل؟)(.)3
وعن مسروق قال :قال عبد اهلل -وهو ابن مسعود« :-ال يؤمن العبد حتى
يؤمن بالقدر ،ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ،وما أخطأه لم يكن ليصيبه،
إلي من أن أقول ألمر قضاه اهلل :ليته
أحب َّ
أعض على جمرة حتى تطفأّ ،
ولئن ُّ
لم ي ُكن»(.)4
وعن خيثمة ،عن ابن مسعود قال« :إن العبد ليهم باألمر من
التجارة واإلمارة حتى يتيسر له نظر اهلل إليه من فوق سبع سموات فيقول
للمالئكة :اصرفوه عنه ،فإين إن يسر ُته له أدخلته النار ،قال :فيصرفه اهلل عنه،
فيقول العبد :من أين ُدهيت؟ أو نحو هذا ،وما هو إال فضل اهلل .)1(»
وعن أبي إسحاق قال( :سمعت أبا الحجاج األزدي قال :لقيت سلمان
الفارسي بأصبهان فقلت له :يا أبا عبد اهلل أال تخربين عن اإليمان بالقدر كيف
هو؟ قال :أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ،وما أخطأك لم يكن
ليصيبك :وال تقل :لو كان كذا لكان كذا)(.)2
وعن ثابت« :أن أبا الدرداء ذهب مع سلمان الفارسي
يخطب عليه امرأة من بني ليث ،فذكر فضل سلمان وسابقته وإسالمه ،وذكر
بأنه يخطب إليهم فتاهتم فالنة ،فقالوا :أما سلمان فال نزوجه ،ولكنا نزوجك،
ثم خرج ،فقال :يا أخي إنه قد كان شيء وإين ألستحي أن أذكره لك ،قال:
وما ذاك؟ قال :فأخربه أبو الدرداء بالخرب فقال سلمان :أنا أحق أن أستحي
منك أن أخطبها ،وكان اهلل تعالى قضاها لك»(.)3
وهذا من فوائد اإليمان بالقضاء والقدر؛ فإذا علم العبد أن لم يقدر له
هذا الشيء الذي أراده اسرتاحت نفسه ،وعلم أنه ال سبيل له إليه ،إال أن يشاء
اهلل ،وفيه حسن ظن سلمان بأخيه أبي الدرداء ،وأنه لم يطلب المرأة لنفسه
ً
أوال ،فرحمهم اهلل ورضي عنهم.
) (1أخرجه الاللكائي برقم ( ،)1219وذكره ابن القيم يف طريق الهجرتين (ص.)81
) (2أخرجه البيهقي يف القضاء والقدر برقم (.)484
) (3أخرجه البيهقي يف القضاء والقدر برقم (.)485
119 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
ٍ
محسن ،قد مقصر ،وما فوقهم من
ٌ يكفي ،ووصفوا ما يشفي ،فما دوهنم من
قصر قوم دوهنم فج َفوا ،وطمح عنهم أقوام فغ َل ْوا ،وإهنم بين ذلك لعلى هدى
مستقيم.
كتبت تسأل عن اإلقرار بالقدر ،فعلى الخبير بإذن اهلل وقعت ،ما أعلم
أمرا
أثرا ،وال أثبت ً
أحدث الناس من محدثة ،وال ابتدعوا من بدعة هي أبين ً
ذكره يف الجاهلية الجهالء ،يتكلمون يف كالمهم
من اإلقرار بالقدر ،لقد كان ُ
عزون به أنفسهم على ما فاهتم ،ثم لم يزده اإلسالم بعدُ إال
ويف شعرهمُ ،ي ُّ
شد ًة ،لقد ذكره رسول اهلل يف غير حديث وال حديثين ،قد سمعه
وتسليما لرهبم ،
ً منه المسلمون ،فتكلموا به يف حياته وبعد وفاته ،يقينًا
وتضعي ًفا ألنفسهم أن يكون شي ٌء لم ُيحط به علمه ،ولم ُيحصه كتابه بذلك،
لمنه اقتبسوه ِ
ولمنْ ُه ولم يمض فيه قدره ،وإنه لمع ذلك يف محكم كتابهِ ،
ُ ُ
تعلموه ،ولئن قلتم :ل ِ َم أنزل اهلل آية كذا ،ول ٍ َم قال اهلل كذا ،لقد قرؤوا منه
ٍ
بكتاب وقدر، جهلتم ،وقالوا بعد ذلك :كله ما قرأتم ،وعلموا من تأويله ما ِ
ضرا
وما يقدَّ ر يكن ،وما شاء اهلل كان ،وما لم يشأ لم يكن ،وال نملك ألنفسنا ًّ
وال نف ًعا ،ثم ر َّغبوا بعد ذلك ور َّهبوا(.)1
كذب باإلسالم)(.)1
كذب بالقدر فقد َّ
أيضا( :من َّ
وقال ً
مرضا ،وقدر
أجال ،وقدر معه ً
وقال يف مرضه الذي مات فيه( :إن اهلل قدر ً
كذب بالقرآن ،ومن َّ
كذب بالقرآن فقد كذب بالقدر فقد َّ
معه معافاة ،فمن َّ
كذب بالحق)(.)2
َّ
مطرف بن عبد اهلل( :ليس ألحد أن يصعد ،فيلقي نفسه من شاهق،
وقال ِّ
ويقول :قدَّ ر لي ربي ،ولكن يحذر ،ويجتهد ،ويتقي؛ فإن أصابه شيء علم أنه
لن يصيبه إال ما كتب اهلل له)(.)3
وعن أبي عصمة قال( :سألت أبا حنيفة من أهل الجماعة؟ قال :من
فضل أبا بكر وعمر ،وأحب عل ًّيا وعثمان ،وآمن بالقدر خيره وشره من اهلل،
َّ
ومسح على الخفين ،ولم يك ِّفر مؤمنًا بذنب ،ولم يتكلم يف اهلل بشيء)(.)4
ولإلمام الشافعي أبيات جميلة ذكر فيها القدر وما يتعلق به ،وصفها ابن
عبد الرب بقوله( :ومن شعره الذي ال يختلف فيه ،وهو أصح شيء
عنه) ،وهي قوله(:)5
تشـــ ْأ لـــم يكـــن
شـــئت إن لـــم َ
ُ ومـــا ـئت كـــــان وإن لـــــم َأ َشـــ ـ ْأ
مـــــا شــــ َ
والم ِســن
ففــي العلــ ِم يجــري الفتــى ُ ـت ت العبــــا َد علــــى مــــا ِ
علمـــ َ خلقـــ َ
أعنــــــت وذا لــــــم ُت ِعــــــن
َ وهــــــذا ـت وهـــــذا خــــ َـذ َ
لت علـــــى ذا مننــــ َ
يح ومــــــنهم حســــــن
ومــــــنهم قبـــــ ٌ فمــــــنهم شــــــقي ومــــــنهم ســــــعيدٌ
يضا( :المشيئة إرادة اهلل ،قال اهلل :
وقال الشافعي أ ً
ﱣﱨﱩﱪ ﱫﱬ ﱭ...ﱢ [اإلنسان]30:؛ فأعلم اهلل خلقه أن المشيئة له دون
خلقه ،وأن مشيئتهم ال تكون إال أن يشاء»(.)1
()1
مسائل حول القدر
ﲸﲹﲺﲻﲼﲽﲾﱢ [األنعام.]164:
قال ابن عباس يف قوله :ﱣﲺﱢَ ( :س ِّيدً ا َوإل ِ ًها)( ،)2يعني :فكيف
رب كل شيء؟.
أطلب ر ًّبا غيره ،وهو ُّ
وقال يف أول السورة :ﱣﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕﱢ
وملجا ،وهو من المواالة التي
ً وناصرا ومعينًا
ً [األنعام ،]14:يعني :معبو ًدا
تتضمن الحب والطاعة.
وتفسير الرضا باهلل ر ًّبا :أن يسخط عباد َة ما دونه ،هذا هو الرضا باهلل ر ًّبا،
وهو من تمام الرضا باهلل ر ًّبا؛ فمن أعطي الرضا به ر ًّبا حقه سخط عبادة ما
دونه قط ًعا؛ ألن الرضا بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته ،كما أن العلم
بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد اإللهية.
والنبي علق ذوق طعم اإليمان بمن رضي باهلل ر ًّبا ،كما قال
( )1هذه المسائل جمعتها واختصرهتا من :كتاب القدر ،البن تيمية ،وهو ضمن مجموع الفتاوى،
المجلد الثامن ،وكتاب مدارج السالكين ،والصواعق المرسلة ،والفوائد ،وشفاء العليل ،البن
القيم ،وكذلك من شروح العقيدة الواسطية ،وغيرها من كتب العقيدة.
( )2ذكره البغوي يف تفسيره ( ،)212/3وينظر :تفسير الطربي (.)48/10
125 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
فأما كونه يختار لنفسه خالف ما يختاره الرب ،فهذا موضع تفصيل ،ال
يسحب عليه ذيل النفي واإلثبات.
فاختيار الرب تعالى لعبده نوعان:
أحدهما :اختيار ديني شرعي ،فالواجب على العبد َّأال يختار يف هذا
النوع غير ما اختاره له سيده ،قال تعالى :ﱣﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ
ﱉﱊﱋﱌﱍﱎﱏﱐﱢ [األحزاب.]36:
فاختيار العبد ِخ َال َ
ف ذلك مناف إليمانه وتسليمه ،ورضاه باهلل ر ًّبا،
ً
رسوال. وباإلسالم دينًا ،وبمحمد
النوع الثان :اختيار كون قدري ،ال يسخطه الرب ،كالمصائب التي
يبتلي اهلل هبا عبده ،فهذا ال يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه،
ويدفعها ويكشفها ،وليس يف ذلك منازعة للربوبية ،وإن كان فيه منازعة للقدر
بالقدر.
مباحا مستوي
فهذا يكون تارة واج ًبا ،وتارة يكون مستح ًّبا ،وتارة يكون ً
مكروها ،وتارة يكون حرا ًما.
ً الطرفين ،وتارة يكون
ِ
المعائب والذنوب-؛ وأما القدر الذي ال يح ُّبه وال يرضاه -مثل ِ
قدر
فالعبد مأمو ٌر بسخطِها ومنهي عن الرضا هبا.
وهذا هو التفصيل الواجب يف الرضا بالقضاء.
عظيما ،ونجا منه أصحاب ال َف ْر ِق
ً وقد اضطرب الناس يف ذلك اضطرا ًبا
والتفصي ِل.
127 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
ِ
مقامات فإن لفظ الرضا بالقضاء لفظ محمو ٌد مأمور به ،وهو من
الصديقين؛ فصارت له حرم ٌة أوجبت لطائفة قبو َله من غير تفصي ٍل ،وظنوا أن
كل ما كان مخلو ًقا للرب تعالى فهو مقضي مرضي له ينبغي له الرضا به.
ثم انقسموا على فرقتين:
فقالت فرقة :إذا كان القضاء والرضا متالزمين؛ فمعلوم أ َّنا مأمورون
ببغض المعاصي ،والكفر والظلم ،فال تكون مقضي ًة مقدر ًة(.)1
وفرق ٌة قالت :قد دل العقل والشرع على أهنا واقعة بقضاء اهلل وقدره،
فنحن نرضى هبا(.)2
والطائفتان منحرفتان ،جائرتان عن قصد السبيل ،فأولئك أخرجوها عن
قضاء الرب وقدره ،وهؤالء رضوا هبا ولم يسخطوها ،هؤالء خالفوا الرب
تعالى يف رضاه وسخطه ،وخرجوا عن شرعه ودينه ،وأولئك أنكروا تعلق
قضائه وقدره هبا.
واجب ،وهو أساس
ٌ ف هذا ،فالرضا بالقضاء الديني الشرعي إذا ُع ِر َ
اإلسالم وقاعدة اإليمان؛ فيجب على العبد أن يكون راض ًيا به بال حرج ،وال
منازعة وال معارضة ،وال اعرتاض ،قال اهلل تعالى :ﱣﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ
ﲱﲲﲳﲴﲵﲶﲷﲸﲹﲺﲻﲼ
ﲽ ﲾﱢ [النساء]65:؛ فأقسم أهنم ال يؤمنون حتى يح ِّكموا رسوله
( )1وهؤالء هم القدرية الذين قالوا :إن العبد يخلق أفعاله ،وإن لم يشأ اهلل تعالى.
( )2يريد طائفة الجربية؛ فإهنم رضوا بالمعاصي والشرك والكفر؛ بل جعلوا ذلك طاعة لموافقته مشيئة
الرب تعالى ،ولم يفرقوا بين المحبة والمشيئة.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 128
ِ
حكمه ،وحتى يسلموا ،وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من
تسليما ،وهذا حقيقة الرضا بحكمه.
ً لحكمه
فالتحكيم :يف مقام اإلسالم.
وانتفاء الحرج :يف مقام اإليمان.
والتسليم :يف مقام اإلحسان.
ومتى خالط القلب بشاشة اإليمان ،واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين،
وحيِ َي بروح الوحي ،وتمهدت طبيعته ،وانقلبت النفس األمارة مطمئنة َ
الرب تعالى بصدر واسع منشرح مسلم؛ فقدِّ راضية وادعة ،وتلقى أحكام
رضي كل الرضا هبذا القضاء الديني المحبوب هلل ولرسوله.
والرضا بالقضاء الكون القدري ،الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه -
من الصحة ،والغنى ،والعافية ،واللذة -أمر الزم بمقتضى الطبيعة؛ ألنه مالئم
للعبد ،محبوب له؛ فليس يف الرضا به عبودية؛ بل العبودية يف مقابلته بالشكر،
يحب اهلل أن توضع فيها،
ُّ واالعرتاف بالمنة ،ووضع النعمة مواضعها التي
َّ
وأال يعصى المنعم هبا ،وأن يرى التقصير يف جميع ذلك.
والرضا بالقضاء الكون القدري ،الجاري على خالف مراد العبد ومحبته
-مما ال يالئمه ،وال يدخل تحت اختياره -مستحب ،وهو من مقامات أهل
اإليمان ،ويف وجوبه قوالن ،وهذا كالمرض والفقر ،وأذى الخلق له ،والحر
والربد ،واآلالم ونحو ذلك.
والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره -مما يكرهه اهلل ويسخطه ،وينهى
عنه -كأنواع الظلم والفسوق والعصيان :حرا ٌم يعاقب عليه ،وهو مخالف ٌة لربه
129 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
تعالى؛ فإن اهلل ال يرضى بذلك وال يحبه؛ فكيف تتفق المحبة ورضا ما
يسخطه الحبيب ويبغضه؟ فعليك هبذا التفصيل يف مسألة الرضا بالقضاء(.)1
تعالى( ،)1كما قال بعض العقالء :األمر أمران :أمر ال حيلة فيه؛ فال تجزع
منه ،وأمر فيه حيلة؛ فال تعجز عنه(.)2
وهذا ينطبق على قول المصطفى « :إِ ان اهللَ َي ُلو ُم َع َلى ال َع ْج ِز،
يل»(.)3 ك َأ ْم ٌرَ ،ف ُق ْلَ :ح ْسبِ َي اهللُ َونِ ْع َم ا ْل َوكِ ُ
سَ ،فإِ َذا َغ َل َب َ َو َلكِ ْن َع َل ْي َ
ك بِال َك ْي ِ
ومما يدل على ارتباط القدر بالعلم والقدرة ما ذكره اإلمام ابن القيم
منشؤه عن
ُ يف كتابه :طريق الهجرتين( )4حيث قال« :والقضا ُء والقدر
القدر قدرة اهلل)( ،)5واستحسن
علم الرب وقدرته ،ولهذا قال اإلمام أحمدُ ( :
اب ُن عقيل هذا الكالم من أحمد غاية االستحسان ،وقال :إنه شفى هبذه الكلمة
وأفصح هبا عن حقيقة القدر.
ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين :فرقة كذبت بالعلم السابق ونف ْته،
وهم غالهتم الذين ك َّفرهم السلف واألئمة وتربأ منهم الصحابة.
وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة هلل
تعالى ،وصرحت بأن اهلل ال يقدر عليها ،فأنكر هؤالء كمال قدرة الرب،
وأنكرت األخرى كمال علمه.
( )1لعل يف قصة عمر بن الخطاب مع أبي عبيدة بن الجراح عندما جاء عمر إلى الشام ،وكان قد
ثيرا منهم؛ فعلم عمر بالوباء قبل أن يصل إلى الجيش؛ فقرر
انتشر الطاعون بالجيش ،وأهلك ك ً
الرجوع لكيال يصاب هو ومن معه بالطاعون؛ فقال له أبو عبيدة :أتفر من قدر اهلل؛ فقال له لو غيرك
قالها يا أبا عبيدة ،نفر من قدر اهلل إلى قدر اهلل؛ فأقول :لعل هذه القصة تلقي ضو ًءا على الموضوع.
( )2ينظر :مجموع الفتاوى البن تيمية (.)285-284/8
( )3أخرجه أبو داود برقم ( ،)3627وأحمد يف المسند برقم ( ،)23983عن عوف بن مالك .
) (4ينظر :طريق الهجرتين البن القيم (ص.)92
( )5سبق تخريجه (ص.)52
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 132
) (1ورد مرفو ًعا ،أخرجه الرتمذي برقم ( ،)2687وابن ماجه برقم ( ،)4169وقال الرتمذي :غريب،
وضعفه األلباين .وقد ورد موقو ًفا على سعيد بن أبي برده ،أخرجه البيهقي يف المدخل إلى السنن
برقم ( ،)844وابن أبي شيبة يف المصنف برقم (.)35681
) (2أخرجه البخاري برقم ( ،)6045عن أبي بن كعب .
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 134
( )1ضارع :أي :شابه وجارى ،يقال :ضارع الرجل أباه ،أي :شاهبه؛ وضارع المشركين ،أي :شابه
المشركين وجاراهم؛ فقوله :ضارع المجوس ،أي :شابه المجوس وجاراهم؛ ألن المجوس
قالوا :إن للكون إلهين :إل َه النور :وهو خالق الخير ،وإل َه الظلمة :وهو خالق الشر .ينظر :معجم
اللغة العربية المعاصرة (ص ،)3123بابَ ( :ض َر َع).
( )2كما يف الحديث الذي أخرجه مسلم ،وقد سبق تخريجه (ص.)42
135 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
تربيرا للمعصية لما تاب منها ولما ندم عليها ،ولكنه نظر
ً بالقدر يف ذلك
محض إلى التوحيد ،وأن كل شيء إنما يجري بمشيئة اهلل وقدره.
قال ابن القيم(( :)1وقد يتوجه جواب آخر ،وهو أن االحتجاج بالقدر
على الذنب ينفع يف موضع ويضر يف موضع؛ فينفع إذا احتج به بعد وقوعه،
والتوبة منه ،وترك معاودته ،كما فعل آدم؛ فيكون يف ذكر القدر إذ ذاك من
التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛
أمرا وال هن ًيا ،وال يبطل به شريعة؛ بل يخرب بالحق ألنه ال يدفع بالقدر ً
المحض على وجه التوحيد والرباءة من الحول والقوة.
َان َم ْكتُو ًبا ومنِي َع َلى َأ ْن َع ِم ْل ُ
ت َع َم ًال ك َ يوضحه أن آدم قال لموسىَ « :أ َف َت ُل ُ
َع َل اي َق ْب َل َأ ْن ُأ ْخ َل َق؟»()2؛ فإذا أذنب الرجل ذن ًبا ،ثم تاب منه توبة ،وزال أمره
حسن منه أن يحتج بالقدر بعد
مؤنب عليه والمهُ ،
ٌ حتى كأن لم يكن؛ فأنبه
علي قبل أن أخلق ،فإنه لم يدفع بالقدر ُ
ذلك ،ويقول :هذا أمر كان قد قدِّ ر ّ
ح ًّقا وال ذكره حجة له على باطل ،وال محذور يف االحتجاج به).
()3
صح االحتجاج
ثم قال ابن القيم ( :ونكتة المسألة :أن اللوم إذا ارتفع َّ
بالقدر ،وإذا كان اللوم واق ًعا فاالحتجاج بالقدر باطل.
فإن قيل :فقد احتج علي بالقدر يف ترك قيام الليل ،وأقره النبي
ول اهللِ َ ط َر َق ُهأن َر ُس َ
،كما يف الصحيح عن عليَّ :
ثم قالَ « :و ََّل َت ْع َج ْز»؛ فإن العجز ينايف حرصه على ما ينفعه ،وينايف
استعانته باهلل ،فالحريص على ما ينفعه المستعين باهلل ضد العاجز.
فهذا إرشاد له قبل رجوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله،
وهو الحرص عليه مع االستعانة بمن أ ِز َّم ُة األمور بيده ومصدرها منه ومردها
إليه.
فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان:
حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان ،فيلقيه العجز إلى «لو» ،وال فائدة
يف «لو» ههنا؛ بل هي مفتاح اللوم والجزع ،والسخط واألسف والحزن،
وذلك كله من عمل الشيطان ،فنهاه عن افتتاح عمله هبذا
المفتاح.
وأمره بالحالة الثانية ،وهي النظر إلى القدر ومالحظته ،وأنه لو قدر له لم
يفته ،ولم يغلبه عليه أحد؛ فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ،ومشيئة
الرب النافذة التي توجب وجود المقدور ،وإذا انتفت امتنع وجوده ،فلهذا
َان ك ََذاَ ،و َلكِ ْن ُق ْلَ :قدا َر اهللُ َو َما ك َأ ْم ٌر َفالَ َت ُق ْلَ :ل ْو َأنِّى َف َع ْل ُ
ت َلك َ قالَ « :فإِ ْن َغ َل َب َ
َشا َء َف َع َل»؛ فأرشده إلى ما ينفعه يف الحالتين؛ حالة حصول مطلوبة ،وحالة
فواته.
فلهذا كان هذا الحديث مما ال يستغني عنه العبد أبدً ا؛ بل هو أشد شيء
إليه ضرورة ،وهو يتضمن إثبات القدر والكسب واالختيار والقيام والعبودية
ظاهرا وباطنًا ،يف حالتي حصول المطلوب وعدمه ،وباهلل التوفيق).
ً
139 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
ﳌﳎﳏﳐﳑﳒﳓﳔﳕﳖﳗﳘﱢ [لقمان.]34:
ﳍ
فإذا كان هذا هو الواقع بالنسبة للمشيئة :أن اهلل تعالى يشاء كل شيء،
لكن ال يجرب العباد؛ بل العباد مختارون فال ظلم حينئذ ،ولهذا إذا وقع فعل
ﱐﱑﱒﱓﱔﱕﱖﱗﱘﱙﱚﱛﱜﱢ [األنعام.]148:
ﱥﱢ [األنعام]148:؛ فلم تقبل منهم هذه الحجة ،ألن اهلل تعالى جعل ذلك
تكذي ًبا وجعل له عقوبة فقال :ﱣﱣﱤﱥﱢ).
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 142
ﱪ ﱫﱢ [المدثر ،]55:ﱣﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ
ﱸﱢ [المدثر.]56:
ونطق بإثبات فعله يف عامة آيات القرآن :ﱣﱸﱢ ،ﱣﱬﱢ،
ﱣﱔﱢ ،ﱣﲾﱢ ،ﱣﲸﱢ ،ﱣﲊﱢ ،ﱣﲉﱢ.
وكما أ َّنا فارقنا مجوس األمة بإثبات أنه تعالى خالق؛ فارقنا الجربية
بإثبات أن العبد كاسب فاعل صانع عامل.
( )1ومن هذا المنطلق تجد المؤمن بالقدر ال يعتمد على الد َّجالين والمشعوذين ،وال يذهب إلى
سالما
ً الكهان والمنجمين والعرافين ،فال يعتد بأقوالهم ،وال ينطلي عليه زيفهم ودجلهم؛ فيعيش
ررا من جميع تلك الخرافات واألباطيل.
من زيف هذه األقاويل ،متح ً
( )2ينظر :مجموع الفتاوى البن تيمية (.)399/8
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 150
هذه حال من شرع؛ يحيل الذنوب على المقادير وال يردها باالستغفار
والمعاذير؛ بل حاله أسوء من ذلك بالذنب الذي فعله من الشرارة؛ فإنه كما
أيضا ممكن
أنه من الممكن إخماد الشرارة قبل أن تستفحل وتنتشر ،كان ً
محو السيئات والجرائم باالستغفار واألعمال الصالحة وغير ذلك(.)1
فاهلل تعالى أعظم وأجل وأعز من أن يجرب أو ي ِ
عضل أو ُي ْك ِره ،ولكن ُ ُ
يقضي ويقدر ويجبل عبده على ما أحب ،وييسره لما خلقه له ،والمراد بقوله
:ﮋﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﮊ [النساء :]79:النعم
والمصائب ،وليس الطاعات والمعاصي.
فالنعم من اهلل وإن كانت بسبب أعمالك الصالحة؛ فهو الذي هداك
إليها ،وأعانك عليها ،ويسرها لك ،وم َّن عليك باإليمان ،وزينه يف قلبك.
أما المصائب وما ُيبتلى به العبد من الذنوب الوجودية؛ وإن كانت خل ًقا
هلل تعالى فهي عقوبة على ذنوب قبلها؛ فالذنب يكسب الذنب ،ومن عقاب
بعضا(.)2
السيئة السيئة؛ فالذنوب كاألمراض يورث بعضها ً
يبقى أن يقال :الذنب األول الجالب لما بعده من الذنوب كيف جاء؟
أيضا على عدم شغل القلب والجوارح والنفس فيما
فيقال :هو عقوبة ً
ُخلقت أو ُخلقن له ،و ُفطرن عليه؛ فإن اهلل خلق اإلنسان لعبادته وحده ال
شريك له ،وفطره على محبته وتأليهه ،واإلنابة إليه ،كما قال المصطفى
ود ُيو َلدُ اإَّل َع َلى ال ِف ْط َر ِة»( ،)1وقال : « :ما ِمن مو ُل ٍ
َ ْ َْ
ادي حنَ َفاء ُك ال ُهم ،وإِن ُاهم َأ َتت ُْهم ا ِ ت ِعب ِ
ين
الش َياط ُ ُ ْ َ ْ ُ َ ول اهللُ َت َعا َلى :إِ ِّني َخ َل ْق ُ َ « َي ُق ُ
ت َل ُه ْمَ ،و َأ َم َرت ُْه ْم َأ ْن ُي ْشرِكُوا
ت َع َل ْي ِه ْم َما َأ ْح َل ْل ُ اجتَا َل ْت ُه ْم َع ْن ِدين ِ ِه ْم(َ ،)2و َح ار َم ْ
َف ْ
،وقال تعالى :ﮋﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ
()3
بِي َما َل ْم ُأ ْن ِّز ْل بِ ِه ُس ْل َطانًا»
ﯛ ﯜﯝﯞﮊ [الروم.]30:
فلما لم يفعل ما ُخلِق له وفطر عليه من محبة اهلل وعبوديته واإلنابة إليه،
عوقب بأن َز ّين له الشيطان أنواع المعاصي والشرك فارتاح لها وقبلها؛ ألنه
صادف قل ًبا فار ًغا خال ًيا قا ًبال للخير والشر ،ولو كان فيه الخير الذي يمنع
ضده ،لم يتمكن من قبول الشر والرتحيب له(.)4
( )1جزء من حديث أخرجه مسلم برقم ( ،)2658عن أبي هريرة .قال شيخ اإلسالم ابن تيمية
يف درء التعارض (( :)362/8وكانت القدرية تحتج هبذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس
بقدر اهلل؛ بل مما فعله الناس؛ ألن كل مولود يولد خلقه على الفطرة ،وكفره بعد ذلك من الناس،
ولهذا قالوا لمالك بن أنس :إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث ،فقال :احتجوا عليهم
ِ
بآخره ،وهو قوله« :اهللُ َأ ْع َل ُم بِ َما كَا ُنوا َعام ِل َ
ين»؛ فبين األئمة أنه ال حجة فيه للقدرية؛ فإهنم ال
نص َره؛ بل هو هتود وتنصر باختياره ،لكن كانا سببًا يف ذلك يقولون :إن نفس األبوين َخ َلقا ُّ
هتو َده وت ُّ
بالتعليم والتلقين؛ فإذا أضيف إليهم هبذا االعتبار؛ فألن يضاف إلى اهلل الذي هو خالق كل شيء
سليما؛ فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك
ً بطريق األولى؛ ألن اهلل ،وإن خلقه مولو ًدا على الفطرة
من تغييره وعلم ذلك).
( )2فاجتالتهم عن دينهم :أي :استخفوهم فذهبوا هبم وأزالوهم عما كانوا عليه ،وجالوا معهم يف
شمر( :اجتال الرجل الشيء ذهب به ،واجتال أموالهم
الباطل ،كذا فسره الهروي وآخرون ،وقال َّ
ساقها وذهب هبا ،قال القاضي :ومعنى فاختالوهم بالخاء على رواية من رواه ،أي :يحبسوهنم عن
دينهم ،ويصدوهنم عنه) .ذكره النووي يف شرح مسلم (.)197/17
( )3جزء من حديث طويل أخرجه مسلم برقم ( ،)2865عن عياض المجاشعي .
( )4ينظر :مختصر الصواعق المرسلة للبعلي (ص.)241
153 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
ﲄﲅﲆﱢ [الرعد.]31:
فقول القدرية :لم يبق طريق إلى اإليمان إال بالقسر باطل؛ فإنه بقي إلى
إيماهنم طريق لم يرهم اهلل إياه ،وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه ،وإمالة قلوهبم
إلى الهدى ،وإقامتها على الصراط المستقيم.
وذلك أمر ال يعجز عنه رب كل شيء ومليكه؛ بل هو القادر عليه كقدرته
على خلقه ذواهتم وصفاهتم ،ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم ،وعدم
استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم ،كما منع السفل خصائص العلو ،ومنع
الحار خصائص البارد ،ومنع الخبيث خصائص الطيب.
وَّل يقال :فلم فعل هذا؟ فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته ،ومن
مقتضيات أسمائه وصفاته.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 154
فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على
األعين ،وهو سبحانه قد يعاقب بالضالل عن الحق عقوبة دائمة مستمرة،
وقد يعاقب به إلى وقت ثم يعايف عبده ويهديه ،كما يعاقب بالعذاب
كذلك(.)1
( )1ينظر :مختصر الصواعق المرسلة للبعلي (ص.)242
( )2قال ابن القيم يف طريق الهجرتين (ص( :)18واهلل سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين يف جوفه،
فبقدر ما يدخل القلب من هم وإرادة وحب يخرج منه هم وإرادة وحب يقابله؛ فهو إنا ٌء واحد
أله لم يبق فيه موضع لغيره ،وإنَّما يمتلئ اإلنا ُء ب َأعلى األَشربة إذا
واألَشربة متعددة ،ف َأي شراب م َ
صادفه خاليًا ،ف َأما إذا صادفه ممتلئًا من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه ،كما
قال بعضهم:
ف َق ْل ًبـــــــ ـا َخالِ ًيـــــــ ـا َفت ََمك َانـــــــ ـا
َف َصـــــــ ـا َد َ الهـــ ـ َوى
ف َ َأ َتـــ ـان َه َواهـــــا َقبـــــل َأن أعـــ ـرِ َ
ينظر :إغاثة اللهفان البن القيم ( ،)92/1ومفتاح دار السعادة البن القيم ( ،)183/1والجواب
الكايف البن القيم (ص.)157
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 158
ذلك ألن القلب ال يخلو قط من الفكر ،إما يف واجب آخرته وما يحب
اهلل ،وما يتقرب به إليه ،وإما يف مصالح دنياه ومعاشه ،وإما يف الوساوس
واألماين الباطلة ،والمقدرات المفروضة.
رحا تدور بما يلقى فيها؛ فإن ألقيت
وقديما قيل :إن النفس مثلها كمثل ً
ً
وبعرا دارت به ،وهي إن لم
وحصا ً
ً جاجا
فيها ح ًّبا دارت به ،وإن ألقيت فيها ز ً
حاضرا
ً ومستقبال شغلتك بما يضرك
ً حاضرا
ً تشغلها بما هو يف صالحها
ومستقبال.
ً
والنفس المشبهة بالرحى ال تدور بالرديء من األفكار والوساوس إال
إذا ألقاها الخبيث ،وهي فارغة خالية مما هو أنفع لها يف حاضرها ومستقبلها.
فإخالص القلب هلل مانع من فعل ما يضاده ،وإلهامه الرب والتقوى ثمرة
خلوه من اإلخالص(.)1
هذا اإلخالص ونتيجته ،وإلهامه الفجور عقوبة ّ
الشر العدمي والشر الوجودي:
وبين ابن القيم أن العدم ليس له فاعل ،فقال(( :)2فحقيقة نفس
اإلنسان جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة ،والشر الذي يحصل لها نوعان :عدم،
ووجود.
األول :الشر العدمي:
كعدم العلم واإليمان والصرب وإرادة الخيرات ،وعدم العمل هبا ،وهذا
العدم ليس له فاعل ،إذ العدم المحض ال يكون له فاعل؛ ألن تأثير الفاعل
) (1قال البيهقي يف االعتقاد (ص :)160وقد روينا يف حديث زيد بن ثابت ،ويف حديث أبي
الدرداء ،وغيرهما :أن النبي قال« :ما شاء اهلل كان ،وما لم يشأ لم يكن» ،وهذا كالم
أخذته الصحابة عن رسول اهلل ،وأخذه التابعون عنهم ولم يزل يأخذه الخلف عن
السلف من غير نكير وصار ذلك إجماعا منهم على ذلك .ويف كتاب اهلل ما شاء اهلل ال قوة إال
باهلل فنفى أن يملك العبد كسبا ينفعه أو يضره إال بمشيئة اهلل وقدرته.
161 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
وأما إذا أريد قياس الداللة ،فوجود المانع يستلزم عدم الحكم ،سواء كان
المقتضى موجو ًدا أو لم يكن.
والمقصود أن ما عدمته النفس من كمالها فمنها ،فإهنا ال تقتضي إال
العدم ،أي عدم استعداد ِ
نفسه وقوهتا هو السبب يف عدم هذا الكمال ،فإنه كما ُ
يكون أحد الوجودين سببا لآلخر فكذلك أحد العدمين يكون سببا لعدم
اآلخر.
والموجود الحادث يضاف إلى السبب المقتضي إليجاده ،وأما المعدوم
فال يحتاج استمراره على العدم إلى فاعل ُيحدث العدم ،بل يكفى يف
استمراره عدم مشيئة الفاعل المختار له ،فما شاء اهلل كان وما لم يشأ لم يكن،
النتفاء مشيئته ،فانتقاء مشي ِئة كونه سبب عدمه ،وهذا معنى قولهم :عدم ِ
علة ُ
الوجود علة العدم ،وهبذا االعتبار الممكن القابل للوجود والعدم ال يرتجح
مرجحه ،ومعنى
بمرجح ،فمرجح عدمه عد ُم ِّ ِّ أحد طرفيه على اآلخر إال
الرتجيح والسببية هاهنا االستلزام ال التأثير كما تقدم ،فظهر استحالة إضافة
هذا الشر إلى اهلل .)
الثان :الشر الوجودي:
قال ابن القيم ( :)1(وأما الشر الثان :وهو الشر الوجودي -
كالعقائد الباطلة واإلرادات الفاسدة-؛ فهو من لوازم ذلك العدم ،فإنه متى
عدم ذلك العلم النافع والعمل الصالح من النفس لزم أن يخلفه الشر والجهل
وموجبهما وال بد ،ألن النفس ال بد لها من أحد الضدين ،فإذا لم تشتغل
بالضد النافع الصالح ،اشتغلت بالضد الضار الفاسد ،وهذا الشر الوجودي هو
من خلقه تعالى إذ ال خالق سواه ،وهو خالق كل شيء ،لكن كل ما خلقه اهلل
فال بد أن يكون له يف خلقه حكمة ألجلها خلقه ،لو لم يخلقه فاتت تلك
الحكمة ،وليس يف الحكمة تفويت هذه الحكمة التي هي أحب إليه سبحانه من
الخير الحاصل بعدمها ،فإن يف وجودها من الحكمة والغايات التي يحمد
عليها سبحانه أضعاف ما يف عدمها من ذلك ،ووجود الملزوم بدون الزمه
ممتنع ،وليس يف الحكمة تفويت هذه الحكمة العظيمة ألجل ما يحصل
للنفس من الشر مع ما حصل من الخيرات التي لم تكن تحصل بدون هذا
الشر ،ووجود الشيء ال يكون إال مع وجود لوازمه وانتفاء أضداده ،فانتفاء
لوازمه يكون ممتن ًعا لغيره ،وحينئذ فقد يكون هد ُي هذه النفوس الفاجرة
وسعادهتا مشرو ًطا بلوازم لم تحصل ،أو بانتفاء أضداد لم تنتف.
فإن قيل :فهال حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك األضداد ،فهذا هو
السؤال األول ،وقد بينا أن لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالم ال بد
عالما آخر ونشأة أخرى وخل ًقا
منها ،فلو قدِّ ر عدمها لم يكن هذا العال؛ بل ً
آخر ،وبينا أن هذا السؤال بمنزلة أن يقال :هال تجرد الغيث واألهنار عما
يحصل به من تغريق وتعويق وتخريب وأذى؟
وسمو ٍم( )1وأذى؟
وهال تجردت الشمس عما يحصل منها من ح ٍّر َ
وهال تجردت طبيعة الحيوان عما يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟
وهال تجردت الوالدة عن مشقة الحمل والط ْلق وألم الوضع.
ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧﱢ
[األنفال.]23 -22:
فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير الربية وأزكى الخلق،
وبين شر الربية وشر الدواب يف دار واحدة يكونون فيها على حال واحدة من
النعيم أو العذاب؟ قال اهلل تعالى :ﱣﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ
ﲾﱢ [القلم ،]36 -35:فأنكر عليهم الحكم هبذا وأخرجه مخرج اإلنكار ال
مخرج اإلخبار لينبه العقول على هذا مما تحيله الفطر وتأباه العقول السليمة،
وقال تعالى :ﱣﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲﱳ ﱴ ﱵ ﱶ
ﱷﱢ [الحشر ،]20:وقال تعالى :ﱣﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ
ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ
ﳆﳇﳈﳉﳊﳋﳌﳍﱢ [الزمر]9:؛ بل الواحد من الخلق ال تستوى
أعاليه وأسافله ،فال يستوي عق ُبه وعينُه ،وال رأسه ورجاله ،وال يصلح
أحدهما لما يصلح له اآلخر ،فاهلل قد خلق الخبيث والطيب والسهل
والحزن والضار والنافع ،وهذه أجزاء األرض :منها ما يصلح جالء للعين،
ِ
لألتون والنار. ومنها ما يصلح
وهبذا ونحوه ُيعرف كمال القدرة وكمال الحكمة:
فكمال القدرة بخلق األضداد ،وكمال الحكمة تنزيلها منازلها ووضع
كل منها يف موضعه.
والعالم من ال يلقي الحرب بين قدرة اهلل وحكمته -فإن آمن بالقدرة
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 166
قدح يف الحكمة وعطلها ،وإن آمن بالحكمة قدح يف القدرة ونقصها-؛ بل
يربط القدرة بالحكمة ،ويعلم شمولها لجميع ما خلقه اهلل ويخلقه ،فكما أنه
ال يكون إال بقدرته ومشيئته ،فكذلك ال يكون إال بحكمته.
تفصيال ،فيكفيها
ً وإذا كان ال سبيل للعقول البشرية إلى اإلحاطة هبذا
اإليمان بما تعلم وتشاهد منه ،ثم تستدل على الغائب بالشاهد وتعترب ما
علمت بما لم تعلم).
167 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
( )1قال اإلمام الحسن بن علي َ ( :م ْن َل ْم ُيؤْ مِ ْن بِ َق َضا ِء اهللِ َو َقدَ ِر ِه َخيْ ِر ِه َو َش ِّر ِه؛ َف َقدْ َك َف َرَ ،و َم ْن
استِ ْك َر ًاهاَ ،و َال ُي ْع َصى بِ َغ َل َب ٍة؛ ِألَنَّ ُه َت َعا َلى َمالِ ٌك ِ
َح َم َل َذنْ َب ُه َع َلى َر ِّبه؛ َف َقدْ َك َف َرَ ،و َأ َّن َ
اهلل َت َعا َلى َال ُي َطا ُع ْ
ل ِ َما َم َّل َك ُه ْمَ ،و َقا ِد ٌر َع َلى َما َأ ْقدَ َر ُه ْم؛ َفإِ ْن ع َِم ُلوا بِال َّطاع َِة َل ْم َي ُح ْل بَيْنَ ُه ْم َوبَيْ َن َما ع َِم ُلواَ ،وإِ ْن ع َِم ُلوا
بِا ْل َم ْع ِص َي ِة َف َل ْو َشا َء َل َح َال َب ْينَ ُه ْم َو َب ْي َن َما ع َِم ُلوا؛ َفإِ ْن َل ْم َي ْف َع ْل َف َل ْي َس ُه َو ا َّل ِذي َج َب َر ُه ْم َع َلى َذلِ َك،
ابَ ،و َل ْو َجبَ َر ُه ْم َع َلى ا ْل َم ْع ِصيَ ِة َألَ ْس َق َط َعنْ ُه ُم ِ
اهلل ا ْل َخ ْل َق َع َلى ال َّطاعَة َألَ ْس َق َط َعنْ ُه ُم الثَّ َو ََو َل ْو َجبَ َر ُ
ِ ِ
يه ُم ا ْل َمشي َئ ُة ا َّلتي َغ َّي َب َها َعنْ ُه ْم؛ َفإِ ْن ِ ِ ِ ِ
َجزً ا في ا ْل ُقدْ َرةَ ،و َلك ْن َل ُه ف ِ ِ ابَ ،و َل ْو َأ ْه َم َل ُه ْم ك َ ِ
َان َذل َك ع ْ ا ْلع َق َ
ع َِم ُلوا بِال َّطاع َِة َف َل ُه ا ْل ِمنَّ ُة َع َليْ ِه ْمَ ،وإِ ْن ع َِم ُلوا بِا ْل َم ْع ِصيَ ِة َف َل ُه ا ْل ُح َّج ُة َع َليْ ِه ْم) ،ذكره الهروي يف مرقاة
المفاتيح (.)59/1
( )2ينظر :الفوائد البن القيم (ص.)25
171 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
والهداية ،وال يشاؤها وال يحبها وال يشكر اهلل عليها ،وال يثني على اهلل هبا،
فال يشاؤها له لعدم صالحية مح ِّله لها ،قال تعالى :ﮋﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ
ﯓﯔﯕﯖ ﯗﯘﯙﮊ [األنفال.]23:
وهو جزء من علم اهلل األزلي الذي قال فيه اإلمام أحمد( :ناظروا
القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خصموا ،وإن أنكروه وجحدوه كفروا)( ،)1وقال
القدر قدر ُة اهلل)( ،)2وهو أنه ً
أزال قد علم ما هم صائرون فيه ُ ( :
إليه ،وما هم مختارون له ،وما هم معتقدون وفاعلون ،ثم سطره وسجله.
ومن أجل المعذرة وترفعه عن الظلم أو الجرب أرسل الرسل،
وأبان الطريق ،وأوضح السبيل ،ومكن من أسباب الهداية؛ باألسماع
بعضهم على
وارحهم ،ويشهد ُ
واألبصار والعقول ،لكي تشهد عليهم ج ُ
بعض ،ولتشاهد عظم َة علمه وإحاطتِه وقدرتِه ،قال تعالى :ﮋﭒ ﭓ ﭔ
()3
ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﮊ
[األنعام ،]111:وقال :ﮋﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ
( )1ينظر :جامع العلوم والحكم البن رجب ( ،)27/1وشرح العقيدة الطحاوية البن أبي العز
(ص.)354
( )2سبق تخريجه (ص.)52
( )3أي :لو أراد جربهم على اإليمان لفعل ،وقد خلقهم مختارين ،وقد قادهتم نفوسهم
وشياطينهم إلى الضالل والكفر الذي ال يحيدون عنه ،ولو شاء اهلل َجبْ َر ُه ْم على الهدى لفعل.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 172
قال السندي(( :)4وأنت خبير بأنه ال مقابلة على ما ذكره بين سوء القضاء
وغيره؛ بل غيره كالتفصيل لجزئياته ،فالمقابلة ينبغي أن تعترب باعتبار أن
مجموع الثالثة األخيرة بمنزلة القدر ،فكأنه قال :من سوء القضاء والقدر،
لكن أقيم أهم أقسام سوء القدر مقامه ،يعني :أستعيذ بسوء القضاء ،ثم أتبع
بأهم أقسام سوء القدر ،فال مقابلة بين سوء القضاء وغيره؛ بل غيره
كالتفصيل لجزئياته.
مقضي من حيث القضاء أزلي ،فأي فائدة يف االستعاذة منه؟
َّ بقي أن ال
والظاهر أن المراد صرف المع َّلق منه ،فإنه قد يكون معل ًقا ،والتحقيق :أن
الدعاء مطلوب لكونه عبادة وطاعة ،وال حاجة لنا يف ذلك إلى أن نعرف
الفائد َة المرتتبة عليه سوى ما ذكرنا).
179 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
فأخربنا سبحانه أنه يجيب دعوة من دعاه ،بعد أن أمرنا بالدعاء يف آيات
كثيرة ،ومنها هذا الحديث القدسي الذي نحن بصدد شرحه ،فإنه قال فيه:
«لئن سألني ألعطينه ،ولئن استعاذن ألعيذنه»( ،)1وهو صادق وال يخلف
الميعاد كما أخربنا بذلك يف كتابه العزيز.
وقد أكد اإلجابة منه للعبد يف هذا الحديث القدسي بالقسم على نفسه
،فكيف تخلف ذلك؟!
مستقال ،فمن
ً وقد ورد من الرتغيب يف الدعاء ما لو جمع لكان مؤ َّلفا
ذلك ما هو يف الصحيحين وغيرهما ،ومنها ما هو صحيح كما ستقف عليه.
فمن ما يف الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ،قال :قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم ،قال اهلل « :أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه
إذا دعان»(.)2
ويف الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم وغيره ،عن أبي ذر« :يا عبادي
لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا يف صعيد فسألون فأعطيت كل
إ نسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إَّل كما ينقص المخيط إذا دخل
البحر»(.)3
وأخرج أهل السنن وابن حبان والحاكم ،وصححه الرتمذي وابن حبان
والحاكم من حديث النعمان بن بشير ،عن النبي صلى اهلل عليه وآله وسلم أنه
()1
ﱑﱓ
ﱒ ،ثم قرأ :ﱣﱍ ﱎ ﱏ ﱐ قال« :الدعاء هو العبادة»
ﱔﱕﱖﱗﱘﱙﱚﱢ.
وأخرج الرتمذي والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة ،أن رسول
اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم قال« :من سره أن يستجيب اهلل له عند الشدائد
فليكثر من الدعاء يف الرخاء»(.)2
وأخرج الرتمذي والحاكم وصححاه من حديث عبادة بن الصامت ،أن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم قال« :ما على األرض مسلم يدعو اهلل
بدعوة إَّل آتاه اهلل إياها ،أو صرف عنه من السوء مثلها ،ما لم يدع بإثم أو
قطيعة رحم ،فقال رجل من القوم :إ ًذا نكثر قال :اهلل أكثر»(.)3
وأخرج أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة والحاكم وصححه من
حديث أبي سعيد الخدري ،أن النبي صلى اهلل عليه وآله وسلم قال« :ما من
مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم وَّل قطيعة رحم إَّل أعطاه اهلل بها إحدى
يصرف
َ ثال :إما أن يعجل له دعوته ،وإما أن يدا خرها له يف اآلخرة ،وإما أن
عنه من السوء مث َلها ،قالوا :إذن ُنكثر ،قال :اهلل أكثر»(.)4
) (1أخرجه أبو داود برقم ( ،)1479والرتمذي برقم ( ،)2969وابن ماجه برقم ( ،)3828وأحمد يف
المسند برقم ( ،)18352والنسائي يف الكربى برقم ( .)11400قال الرتمذي :حسن صحيح.
) (2أخرجه الرتمذي برقم ( ،)3382والحاكم يف المستدرك برقم ( ،)1997وصححه ،وقال
الرتمذي :غريب ،وحسنه األلباين.
) (3أخرجه الرتمذي برقم ( ،)3573وقال :حسن صحيح غريب من هذا الوجه ،وقال األلباين :حسن
صحيح.
) (4أخرجه أحمد يف المسند برقم ( ،)11133وابن أبي شيبة يف المصنف برقم ( ،)29170وابن
الجعد يف مسنده برقم (.)3283
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 182
وأخرج أبو داود والرتمذي وحسنه ،وابن ماجه ،وابن حبان يف صحيحه،
والحاكم وصححه ،من حديث سلمان ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وآله وسلم« :إن اهلل حيي كريم ،يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن ير ادهما
ِص ْف ًرا خائبتين»(.)1
فلو لم يكن الدعاء ناف ًعا لصاحبه ،وأن ليس له إال ما قد كتب له دعا أو
لم يدع ،لم يقع الوعد باإلجابة وإعطاء المسألة يف هذه األحاديث ونحوها.
بل قد ثبت أن الدعاء يرد القضاء ،كما أخرجه الرتمذي وحسنه من
حديث سلمان أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم قالَّ« :ل يرد القضاء
إَّل الدعاء ،وَّل يزيد يف العمر إَّل البر»( .)2وأخرجه ً
أيضا ابن حبان يف
أيضا الطرباين يف الكبير ،والضياء يف
صحيحه ،والحاكم وصححه ،وأخرجه ً
المختارة.
وأخرج ابن أبي شيبة ،وابن حبان يف صحيحه ،والحاكم وصححه،
والطرباين يف الكبير ،من حديث ثوبانَّ« :ل يرد القدر إَّل الدعاء ،وَّل يزيد يف
العمر إَّل البر ،وإن الرجل ل ُيحرم الرزق بالذنب يصيبه»(.)3
وأخرج البزار والطرباين والحاكم وصححه من حديث عائشة ،قالت:
) (1أخرجه أبو داود برقم ( ،)1488والرتمذي برقم ( ،)3556وقال :حسن غريب وصححه األلباين.
أيضا :البزار برقم
) (2أخرجه الرتمذي برقم ( ،)2139وقال :حسن غريب ،وحسنه األلباين .وأخرجه ً
( ،)2540والطرباين يف الكبير برقم (.)6128
) (3أخرجه ابن ماجه برقم ( ،)4022وأحمد يف المسند برقم ( ،)22386والحاكم يف المستدرك برقم
( ،)1814وصححه.
183 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلمَّ« :ل يغني حذر من قدر ،والدعاء
ينفع مما نزل ومما لم ينزل ،وأن البالء لينزل ،فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم
القيامة»(.)1
فهذه األحاديث وما ورد موردها قد دلت على أن الدعاء ير ُّد القضاء فما
بقي بعد هذا؟
ومن األدلة التي تدفع ما قدمناه من قول أولئك القائلين ما ورد من
االستعاذة من سوء القضاء ،كما ثبت الصحيحين وغيرهما ،أنه كان صلى اهلل
عليه وآله وسلم يقول« :اللهم إن أعوذ بك من سوء القضاء ،ودرك الشقاء،
وجهد البالء ،وشماتة األعداء»( .)2وقد قدمنا هذا الحديث.
فلو لم يكن للعبد إال ما قد سبق به القضاء لم يستعذ رسول اهلل صلى اهلل
عليه وآله وسلم من سوء القضاء.
شر ما قضيت»( ،)3وهو
ومن ذلك حديث الدعاء يف الوتر ،وفيه« :وقني ا
حديث صحيح ،وإن لم يكن يف الصحيحين حسبما قدمنا اإلشارة إليه.
ومن األدلة التي ترد قول أولئك القائلين ما ورد يف صلة الرحم ،ففي
الصحيحين وغيرهما من حديث أنس ،أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم
نسأ له يف أثره فليصل رحمه»(.)4
قال« :من أحب أن يبسط له يف رزقه ،وي ا
نسأ :بضم الياء وتشديد السين المهملة مهموز ،أي :يؤخر له يف
قوله ُي َّ
أجله .وأخرجه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة(.)1
فلو لم يكن للعبد إال ما قد سبق له لم تحصل له الزيادة بصلة رحمه؛ بل
ليس له إال ما قد سبق به القضاء وصل رحمه أو لم يصل ،فيكون ما ورد يف
لغوا ال عمل عليه وال صحة له.
ذلك ً
ومن األدلة التي ترد قول أولئك ما ورد من األمر بالتداوي ،وهي
لغوا.
أحاديث ثابتة يف الصحيح ،فلوال أن لذلك فائدة كان األمر به ً
إذا عرفت ما قدمناه فاعلم أن اهلل سبحانه قال يف كتابه العزيز :ﱣﲥﲦ
ﱘﱚﱛﱜﱢ [األنعام.]2:
ﱙ
قلت :أفسرها بما هي مشتملة عليه ،فإنه قال :يف اآلية األولى :ﱣﲒ ﲓ
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 186
وقد بين شيخ اإلسالم ابن تيمية( )1أن اهلل تعالى وإن كان خالق
كل شيء ،إال أن الشر لم يضف إلى اهلل يف الكتاب والسنة إال على أحد وجوه
ثالثة:
األول :إما بطريق العموم ،كقوله :ﱣﲗﲘﲙﲚﲛﱢ [الرعد.]16:
الثان :وإما بطريقة إضافته إلى السبب ،كقوله :ﱣﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱢ
[الفلق.]2:
الثالث :وإما أن يحذف فاعله ،كقول الجن :ﱣﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ
ﲬﲭﲮﲯﲰﲱﱢ [الجن.]10:
قال( :وقد جمع يف الفاتحة األصناف الثالثة ،فقال :ﱣﱆ ﱇ ﱈ
ﱉﱢ [الفاتحة ،]2:وهذا عام ،وقال :ﱣﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ
ﱠ ﱡﱢ [الفاتحة ]7:فحذف فاعل الغضب ،وقال :ﱣﱢ
ﱣﱢ ،فأضاف الضالل إلى المخلوق ،ومن هذا قول الخليل :ﱣﲿ
وقد بسط الكالم على حقائق هذه األمور ،وبين أن اهلل لم يخلق شي ًئا إال
لحكمة ،قال تعالى :ﱣﲔ ﲕ ﲖ ﲗﲘﱢ [السجدة ،]7:وقال :ﱣﳘ ﳙ
ﳚﳛ ﳜﳝﱢ [النمل ،]88:فالمخلوق باعتبار الحكمة التي خلق ألجلها
خير وحكمة ،وإن كان فيه شر من جهة أخرى ،فذلك أمر عارض جزئي،
محضا؛ بل الشر الذي يقصد به الخير األرجح هو خير من الفاعل
ً شرا
ليس ًّ
شرا لمن قام به.
الحكيم ،وإن كان ًّ
ظان أن الحكمة المطلوبة التامة قد تحصل مع عدمه( ،)1إنما
وظن ال ِّ
يقوله لعدم علمه بحقائق األمور وارتباط بعضها ببعض ،فإن الخالق إذا خلق
الشيء فال بد من خلق لوازمه ،فإن وجود الملزوم بدون وجود الالزم ممتنع،
وال بد من ترك خلق أضداده التي تنافيه ،فإن اجتماع الضدين المتنافيين يف
وقت واحد ممتنع.
وهو سبحانه على كل شيء قدير ال يستثنى من هذا العموم شيء؛ لكن
مسمى الشيء ما ُت ُص ِّور وجوده ،فأما الممتنع لذاته فليس شي ًئا باتفاق
العقالء).
وزاد ابن القيم هذا المعنى بيا ًنا فقال(( :)2إذا عرفت هذا ُع ِر َ
ف
معنى قوله يف الحديث الصحيح« :لبيك وسعديك ،والخير يف يديك ،والشر
ليس إليك» ،وإن معناه أجل وأعظم من قول من قال :والشر ال يتقرب به
إليك ،وقول من قال :والشر ال يصعد إليك ،وأن هذا الذي قالوه وإن تضمن
تنزيهه عن صعود الشر إليه والتقرب به إليه ،فال يتضمن تنزيهه يف ذاته
شر ،بخالف لفظ المعصوم الصادق المصدَّ ق ،فإنه
وصفاته وأفعاله عن ال ِّ
يتضمن تنزيهه يف ذاته عن نسبة الشر إليه بوجه ما ،ال يف صفاته ،وال
يف أفعاله ،وال يف أسمائه ،وإن دخل يف مخلوقاته كقوله :ﱣﱔ ﱕ ﱖ ﱗ
ﱘﱙﱚﱛﱜﱢ [الفلق.]2-1:
وتأمل طريقة القرآن يف إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به ،كقوله:
ﱣﲏ ﲐ ﲑﱢ [البقرة ،]254:وقوله :ﱣﲽ ﲾ ﲿ ﳀ
ﳁﱢ [الصف ،]5:وقوله :ﱣﲠ ﲡ ﲢ ﲣﱢ [النساء ،]160:وقوله:
ﱣﳋﳌﳍﱢ [األنعام ،]146:وقوله :ﱣﳃﳄﳅﳆﳇ
ﳈﱢ [النحل ،]118:وهو يف القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره،
وإنما المقصود التمثيل.
وتارة بحذف فاعله ،كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن :ﱣﲥ ﲦ ﲧ
ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱﱢ ،فحذفوا فاعل الشر ومريده،
وصرحوا بمريد الرشد.
ونظيره يف الفاتحة :ﱣﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ
ﱣﱢ ،فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه ،والضالل منسو ًبا إلى من قام
به ،والغضب محذو ًفا فاعله.
ومثله قول الخضر يف السفينة :ﱣﲊ ﲋ ﲌﱢ ،ويف الغالمين :ﱣﲸ
ﲹﲺﲻﲼﲽﲾﲿﳀﱢ.
ومثله قوله :ﱣﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ
ﱹ ﱺﱢ [الحجرات ،]7:فنسب هذا التزيين المحبوب إليه ،وقال:
ﱣﲐﲑﲒﲓﲔﲕﲖﱢ فحذف الفاعل المزين.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 190
بل الشر يف مفعوالته ومخلوقاته ،وهو منفصل عنه ،إذ فعله غير مفعول،
ففعله خير كله ،وأما المخلوق المفعول ففيه الخير والشر ،وإذا كان الشر
منفصال غير قائم بالرب سبحانه ،فهو ال يضاف إليه ،وهو لم يقل:
ً مخلو ًقا
أنت ال تخلق الشر حتى يطلب تأويل قوله ،وإنما نفى إضافته إليه وص ًفا
وفعال وأسما ًء.
ً
وإذا ُع ِر َ
ف هذا فالشر ليس إال الذنوب وموجباهتا ،وأما الخير فهو
اإليمان والطاعات وموجباهتا ،واإليمان والطاعات متعلقة به سبحانه،
وألجلها خلق اهلل خلقه وأرسل رسله وأنزل كتبه ،وهي ثناء على الرب
وإجالله وتعظيمه وعبوديته ،وهذه لها آثار تطلبها وتقتضيها ،فتدوم
آثارها بدوام متعلقها ،وأما الشرور فليس مقصودة لذاهتا ،وال هي الغاية التي
خلق لها الخلق فهي مفعوالت قدرت ألمر محبوب وجعلت وسيلة إليه فإذا
حصل ما قدرت له اضمحلت وتالشت وعاد األمر إلى الخير المحض).
أيضا(( :)1فينبغي أن يعرف أن الشر الموجود ليس
وقال شيخ اإلسالم ً
محضا ،وإنما هو شر يف حق من تألم به ،وقد
ً ش ًّرا على اإلطالق ،وال ش ًّرا
تكون مصائب قوم عند قوم فوائد.
مسلسال« :آمنت بال َقدَ ر خيره وشره،
ً ولهذا جاء يف الحديث الذي ُرويناه
وم ِّره»( ،)2ويف الحديث الذي رواه أبو داود« :لو أنفقت ملء األرض
وحلوه ُ
َذ َه ًبا لما َقبِله منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره ،وتعلم أن ما أصابك لم يكن
ليخطئك ،وما أخطأك لم يكن ليصيبك»(.)1
والمر سواء،
ِّ فالخير والشر هما بحسب العبد المضاف إليه كالحلو
شرا ،ومن تنعم به فهو يف حقه
وذلك أن من لم يتألم بالشيء ليس يف حقه ًّ
خير ،كما كان النبي ُ ي َع ِّلم من َّ
قص عليه أخوه رؤيا أن يقول:
وشرا ألعدائنا»( ،)2فإنه إذا أصاب العبد شر
خيرا لنا ًّ
وشرا توقاهً ،
خيرا تلقاه ًّ
« ً
عدوا فليس
عدوه ،فهو خير لهذا وشر لهذا ،ومن لم يكن له ول ًّيا وال ًّ
ُس َّر قلب ِّ
دائما،
شرا ،وليس يف مخلوقات اهلل ما يؤلم الخلق كلهم ً
خيرا وال ًّ
يف حقه ال ً
دائما؛ بل مخلوقاته إ َّما من ِّعم ٌة لهم أو لجمهورهم يف
وال ما يؤلم جمهورهم ً
أغلب األوقات ،كالشمس والعافية ،فلم يكن يف الموجودات التي خلقها اهلل
ما هو شر مطل ًقا عا ًما.
الشر المخلوق الموجود شر مقيد خاص.
فعلم أن َّ
وفيه وجه آخر هو به خير وحسن ،وهو أغلب وجهيه ،كما قال تعالى:
ﱣﲕ ﲖ ﲗ ﲘﱢ [السجدة ،]7 :وقال تعالى :ﱣﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ
ﳝﱢ [النمل ،]88 :وقال تعالى :ﱣﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 194
ﲾﳀﳁﳂﳃ
ﲿ ﲷﲸﲹﲺ ﲻﲼﲽ
ﱁﱂﱃﱄﱅﱆﱇﱈﱉﱊﱋﱌﱍ
ﱓﱕﱖﱗﱢ [النساء ،]28-26:وقال :ﱣﱲﱳ
ﱔ ﱎﱏ ﱐ ﱑﱒ
ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾﱢ
[المائدة ،]6:وقال :ﱣﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ
ﲀﱢ [األحزاب.]33:
وسئل قدس اهلل روحه عن األقضية:
هل هي مقتضية للحكمة أم ال؟
وإذا كانت مقتضية للحكمة :فهل أراد من الناس ما هم فاعلوه أم ال؟
وإذا كانت اإلرادة قد تقدمت :فما معنى وجود العذر والحالة هذه()1؟
فأجاب :
الحمد هلل رب العالمين ،نعم هلل حكمة بالغة يف أقضيته وأقداره وإن لم
علما
علما وعلمه لعباده ،أو لمن يشاء منهم ،وعلم ً
يعلمه العباد ،فإن اهلل علم ً
ﳄ
ﳅ لم يعلمه لعباده؛ ﱣﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﳀ
ﲿﳁﳂﳃ
ﳈﳊﳋﳌﱢ [البقرة.]255:
ﳉ ﳆﳇ
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 198
مسألة حمرية
سئل الشيخ عبد اهلل بن جبرين عن مسألة محيرة لكثير من الناس،
فقال السائل(:)1
عندما يؤمر إنسان بمعروف وينهى عن منكر يف أي أمر من أمور الدين،
صغيرا ،فإنه يرد ذلك إلى القضاء والقدر ،ويقول :قدر اهلل علي
ً كبي ًرا كان أو
أن أفعل هذا الشر وهذه المعصية.
فإذا قلت له :أال تستطيع عمل الخير وترك الشر؟!
قال :بلى ،ولكن إذا قدر اهلل علي أن أكون من أهل النار فيسبق علي
الكتاب ال محال.
ثم يستدل بقول اهلل تعالى :ﱣﲆﲇﲈﲉﲊﲋﱢ [فاطر.]8:
أيضا بقوله « :إن أحدكم يجمع خلقه يف بطن أمه
ويستدل ً
يوما ،ثم يكون علقه مثل ذلك ،ثم يكون مضغة مثل ذلك ،ثم يرسل
أربعين ً
اهلل إليه الملك فينفخ فيه الروح ،ويؤمر بأربع كلمات :بكتب :رزقه ،وأجله،
وعمله ،وشقي أو سعيد.
فوالذي َّل إليه غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه
وبينها إَّل ذراع فيسبق عليه الكتاب ،فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ،وإن
( )1ينظر :رسالة بعنوان (مسألة محيرة) للشيخ عبد اهلل بن جربين ،وهي عبارة عن سؤال وجه
للشيخ عن االحتجاج بالقضاء والقدر على فعل المعاصي ،وقد أجاب الشيخ على السؤال بإجابة
مفصلة ،طبعت يف رسالة مستقلة ،وقد نقلتها هنا كاملة لالستفادة منها.
199 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ،حتى ما يكون بينه وبينها إَّل ذراع ،فيسبق
عليه الكتاب ،فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»(.)1
نرجو توجيه رد واضح على هذه المسألة المحيرة لكثير من الناس،
خاصة أنني لم أجد كتا ًبا مبس ًطا إلى عامة الناس يوضح المسألة ،ويرد على
خيرا؟!
الشبهات التي تعرتضهم ،وجزاكم اهلل ً
فأجاب فضيلته:
الحمد هلل وحده والصالة والسالم على من ال نبي بعده ،وعلى آله
كثيرا ،أما بعد:
ليما ً
وصحبه وسلم تس ً
إن هؤالء الذين يحتجون هبذه الحجج ،ال شك أهنم متناقضون ،فهم ال
يعملون هبا يف كل حال! فال يعملون بالقضاء والقدر ،ويسلمون له يف كل
أحوالهم! فألجل ذلك يقال :إهنم متناقضون!
ونحن نقول للجواب عن هذا السؤال :إن هذا السؤال قديم ،يحتج به
دائما! ويرددونه يف مجتمعاهتم ،ويرددونه إذا نصحوا! فهو ليس بجديد!
الفسقة ً
وقد ذكروا أن ذم ًّيا أو ملحدً ا دخل على شيخ اإلسالم ابن تيمية ،
وقدم له أبيا ًتا يحتج فيها بالقدر! فقال:
ذمـــــ ـ ُّي ديـــــــنكم
أيـــــــا علمـــــــا َء الـــــــدين ِّ
تحيـــــــــ اـر ُد ُّلـــــــــوه بأوضــــــــــحِ حجـــــــــ ِـة
ي بـــــزعمكم
ـي بكفـــ ـر ْ
إذا مـــــا قضـــــى ربــــ ْ
ولـــــم َي َ
رضــــ ُه منـــــي فمـــــا َو ْجــــ ُه حيلتـــــي
( )1أخرجه البخاري برقم ( ،)6594ومسلم برقم ( )2643من حديث عبد اهلل بن مسعود .
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 200
أيضا على
ثم إن شيخنا عبد الرحمن بن محمد الدوسري نظم ً
نمطها أبيا ًتا أخصر منها متضمنًا لمدلولها(.)1
كذلك لشيخ اإلسالم ابن تيمية رسالة مطبوعة يف المجلد الثامن
من الفتاوى عنواهنا( :أقوم ما قيل يف القضاء والقدر والحكمة والتعليل)(.)2
والعنوان يظهر أنه ليس من وضع شيخ اإلسالم ،وإنما هو من
بعض النساخ.
أيضا للعالمة ابن القيم كتاب كبير اسمه( :شفاء العليل)
كذلك ً
يدور حول القضاء والقدر ،وضح فيه المسألة وبين كيف يحتج بالقدر؟
ومتى؟
وأيضا ذكر شيخ اإلسالم القضاء والقدر بكالم مختصر يف كتابه:
ً
(العقيدة الواسطية)()3؛ حيث ذكر أن اإليمان بالقدر على درجتين ،كل درجة
تتضمن شيئين:
فالدرجة األولى :اإليمان بأن اهلل تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه
القديم ،الذي هو موصوف به أز ًال وأبدً ا ،وعلم جميع أحوالهم من الطاعات
والمعاصي واألرزاق واآلجال ،ثم كتب اهلل يف اللوح المحفوظ مقادير
الخلق ...الخ.
( )1وهي مطبوعة عند دار ابن الجوزي بعنوان التائية منظومة يف القدر ،اعتنى هبا أحمد بن صالح
الطويان.
( )2طبع هبذا العنوان مفر ًدا وهو يف مجموع الفتاوى (.)158-81/8
( )3ينظر :العقيدة الواسطية البن تيمية (ص.)105
203 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
وأما الدرجة الثانية :فهي مشيئة اهلل النافذة وقدرته الشاملة وهو اإليمان
بأن ما شاء اهلل كان ،وما لم يشأ لم يكن ...إلخ.
ثم قال :ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعة رسله ،وهناهم عن معصيته ،وهو
سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين.
ثم قال :وال يحب الكافرين وال يرضى عن القوم الفاسقين ،وال يأمر
بالفحشاء ،وال يرضى لعباده الكفر ...إلخ.
ثم قال شيخ اإلسالم :والعباد فاعلون حقيقة ،واهلل خالق
أفعالهم ،والعبد هو المؤمن والكافر ،والرب والفاجر ،والمصلي والصائم،
وللعباد قدرة على أعمالهم ،ولهم إرادة ،واهلل خالقهم وخالق قدرهتم
وإرادهتم ...إلخ.
ثم قال :وهذه الدرجة من القدر يكذب هبا عامة القدرية الذين سماهم
النبي مجوس هذه األمة ...إلخ.
أقسام الناس يف القدر:
واإليمان بالقدر ينقسم الناس حوله ثالثة أقسام:
القسم األول :نفوا قدرة اهلل:
وهم المعتزلة ،فقالوا :إن العبد يخلق فعله ،وليس هلل قدرة على أفعال
العباد ،بل العبد هو الذي يتحرك بنفسه ،وهو الذي يفعل بنفسه ،واهلل ال يقدر
أن يرده ،فلو أراد العبد شي ًئا وأراد اهلل ضده ،لم يقدر اهلل على أن يرده!
وهؤالء غلوا يف قدرة العبد ،ونفوا قدرة اهلل ،وادعوا أن ذلك تنزيه هلل،
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 204
) (1ينسب هذا البيت للحالج المتهم بالزندقة ،ينظر :وفيات األعيان ( ،)143/2والوايف بالوفيات
(.)46/13
) (2نسبت للشبلي كما يف تاريخ بغداد (.)95/12
205 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
معزوا لشيء من كتب السنة ،وإنما ذكره ابن تيمية يف منهاج السنة ( ،)234/3قال:
ًّ ( )1هذا األثر لم أجده
رجال سرق ...وذكر القصة).
(ويذكر أن ً
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 206
رجال كان يقود أعمى ،فجعل يقوده بعنف ،وجعل يمر به
كذلك ذكر أن ً
يف الحفر ،ويف الحجارة ،ونحوها ويقول :هذا بقدر! هذا مقدر!
أيضا بقدر ،فإذا كان
ثم إن الرجل األعمى ضربه بعصاه بقوة ،فقال :هذا ً
تعثرك بي وتعمدك إضراري بقدر ،فأنا أضربك بقضاء وقدر!
أيضا :إن العقوبة التي رتبها اهلل تعالى على هذه األفعال،
ونقول لهؤَّلء ً
ال شك أنكم تستحقوهنا؛ ألن اهلل رتب على من فعل كذا عقوبة كذا ،فالعقوبة
على أفعالكم بقضاء وقدر.
القسم الثالث :أهل السنة والجماعة:
إن عقيدة أهل السنة أن اهلل تعالى أعطى العباد قدرة يزاولون هبا
اختيارا يفضلون به بعض األعمال على بعض فلذلك
ً أعمالهم ،أو جعل لهم
تنسب إليهم أعمالهم ،وتضاف إليهم أفعالهم ،ولو كانت بقضاء اهلل وبقدره
قسرا ،وال يكون يف الوجود إال ما يريد،
وبمشيئته ،فإنه سبحانه ال يعصى ً
ولكن له الحجة البالغة.
دائما احتجاج المشركين بالقدر ،ثم يرد عليهم،
واهلل يذكر ً
وينكر عليهم ،مثل قوله تعالى :ﱣﱏﱐﱑﱒﱓﱔﱕﱖﱗ
نقول لهم :قد قال رسول اهلل « :ما منكم من أحد إَّل وقد
كتب مقعده من النار أو من الجنة» ،فقال رجل من القوم :أال نتكل؟ قال
()1
،ثم قرأ :ﱣﲢ ﲣ ﲤ َّ« :ل ،اعملوا فكل ميسر لما خلق له»
ﲥ ﲦ ﲧﲨ ﲩﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯﲰ ﲱﲲ ﲳ ﲴ ﱁ
ﱂﱢ [الليل.]10-5:
عمال فقال :ﱣﲤ ﲥ ﲦ
فقد أثبت اهلل تعالى يف هذه اآلية أن لإلنسان ً
صالحا
ً ﲧﱢ ،وهذه كلها أعمال ،ثم قال :ﱣﲪﲫﱢ ،أي :إذا عمل
كالتقوى والصدق ونحوها فإنا سنيسره لليسرى.
أيضا أعمال ،قال :ﱣﱁ
ثم قال :ﱣﲯ ﲰ ﲱ ﲲﱢ ،وهذه ً
ً
أعماال غير صالحة كالبخل والكذب ونحوها فإنا ﱂﱢ ،أي :إذا عمل
سنيسره للعسرى.
فاإلنسان إذن له عمل ،وعمله هو أنه يؤمر فيأتمر ويمتثل ،ويكون ذلك
بمشيئة اهلل ،فلو شاء اهلل تعالى لم يستطع ،ولو شاء اهلل لرده ،ولحال بينه وبين
خيرا
ذلك ،لكنه شاء ،وله مشيئته التامة ،فحلى بينه وبين هذا االختيار ،إن ً
شرا فشر ،وتوعدهم على ذلك:
فخير ،وإن ً
قادرا على هدايتهم.
فتوعدهم على الشر بأنه يعاقبهم عليه ،وإن كان اهلل ً
قادرا على إضاللهم.
ووعدهم على الخير بأنه يثيبهم عليه ،وإن كان اهلل ً
وله الحكمة البالغة بأن:
) (1أخرجه البخاري برقم ( ،)6605ومسلم برقم ( )2647من حديث علي .
209 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
خلق هؤَّلء للجنة وهداهم ،وأقبل بقلوهبم ،فله المنة عليهم ،فال
ينعمهم إال بفضله.
قادرا على أن يهديهم.
وخلق هؤَّلء للنار ،ويعذبهم بها ،وإن كان ً
ولكنه حال بينهم وبين ذلك ،ولم يوفقهم ألسباب الهداية ،وجعل لهم
االختيار يف أن فضلوا الشر على الخير ،فإن عملوا بالشر وصاروا من أهله،
ظلما :ﱣﲇ ﲈ ﲉ ﲊﱢ عاقبهم رهبم ،وعقوبتهم تكون ً
عدال منه وليس ً
[الكهف.]49:
وبالجملة :فإن الكالم يف هذا يطول ،ومن أراد أن يتوسع يف ذلك
فليراجع رسالة شيخ اإلسالم ،وغيرها من الرسائل.
واهلل أعلم ،وصلى اهلل على نبينا محمدً ا ،وآله وصحبه وسلم.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 210
وهذه خالصة يف مسألة القدر ذكرها شيخ اإلسالم ابن تيمية
حينما سئل عن الحديث الذي ورد« :إِ ان اهللَ َق َب َض َق ْب َض َت ْي ِن َف َق َالَ :ه ِذ ِه لِ ْل َجنا ِة
ار َو ََّل ُأ َبالِي»( .)1فهل هذا الحديث صحيح؟. َو ََّل ُأ َبالِيَ ،و َه ِذ ِه لِل ان ِ
واهلل قبضها بنفسه أو أمر أحدً ا من المالئكة ِ
بقبضها؟
الشم ِ
ال، والحديث اآلخر يفَ « :أ ان اهللَ َل اما َخ َل َق آ َد َم َأ َرا ُه ُذ ِّر اي َت ُه َع ِن ال َي ِم ِ
ين َو ِّ َ
الجنا ِة َو ََّل ُأ َبالِي»(.)2 ِ ِ
ار َو ََّل ُأ َباليَ ،و َه ُؤ ََّلء إِ َلى َ ُث ام َق َالَ :ه ُؤ ََّل ِء إِ َلى النا ِ
وقد اعتمد يف هذه الخالصة على األدلة من الكتاب والسنة،
ونصر هبا مذهب أهل الحق أهل السنة والجماعة يف مسألة القدر ،ور َّد هبا على
القدرية والجربية الذين ضلوا يف القدر؛ فأجاد وأفاد وبلغ المقصدَ والمراد.
ٍ
وجوه النبي من ()3
فقال ( : وهذا المعنى مشهور عن ِّ
( )1أخرجه أحمد يف المسند برقم ( ،)22077عن معاذ بن جبلَ :أ َّن َر ُسو َل اهللِ تالَ َه ِذ ِه
اآل َيةَ( :أصحاب اليمين)( ،وأصحاب الشمال)؛ َف َقبَ َض بِيَدَ ْي ِه َقبْ َضتَيْ ِنَ ،ف َق َالَ « :ه ِذ ِه فِي ا ْل َجن ِاة َوَّلَ
اار َوَّلَ ُأبَالِي» .وضعفه األرناؤوط يف تحقيق المسند .وأخرجه ابن بطة يف اإلبانة ُأبَالِيَ ،و َه ِذ ِه فِي الن ِ
الكربى ( )316/3برقم ( ،)1338عن ابن عباس ،موقو ًفا عليه.
( )2أخرجه أحمد يف المسند برقم ( ،)17660عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي ،أنه قالَ :س ِم ْع ُت
الجنا ِة ِ ِ ِ ِ
ول« :إِ ان اهللَ َخ َل َق آ َد َمُ ،ث ام َأخَ َذ الْخَ ْل َق م ْن َظ ْهرِهَ ،و َق َالَ :ه ُؤ ََّلء في َ ول اهللِ َ ي ُق ُ َر ُس َ
ِ
ول اهلل َف َع َلى َما َذا نَ ْع َم ُل؟ َق َالَ « :ع َلىار َو ََّل ُأبَالِي»َ ،ق َالَ :ف َق َال َقائِ ٌلَ :يا َر ُس َ
َو ََّل ُأبَالِيَ ،و َه ُؤ ََّل ِء فِي النا ِ
َم َواقِ ِع الْ َقدَ ِر» .وأخرجه ابن حبان يف صحيحه برقم ( ،)338والفريابي يف القدر برقم (.)26-25
قال الهيثمي يف مجمع الزوائد (( :)186/7رواه أحمد ورجاله ثقات) .وروي عن أبي سعيد
الخدري ،وابن عمر ؛ بألفاظ أخرى وطرق متعددة.
( )3ينظر :مجموع الفتاوى البن تيمية (.)77–65/8
211 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
متعددة ،مثل ما يف موطأ مالك ،وسنن أبي داود والنسائي وغيره ،عن مسلم
بن يسار ،ويف لفظ :عن نعيم بن ربيعة :أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه
اآلية :ﱣﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱢ [األعراف ]172:اآلية؛ فقال عمر :عن
رسول اهلل ،ويف لفظ :سمعت رسول اهلل سئل عنها،
فقال رسول اهلل « :إِ ان اهللَ َخ َل َق آ َد َمُ ،ث ام َم َس َح على َظ ْه َر ُه ِب َي ِمين ِ ِه؛
ت َه ُؤَّل َِء لِ ْل َجن ِاةَ ،و ِب َع َم ِل َأ ْه ِل ا ْل َجن ِاة َي ْع َم ُلو َن، استَخْ َر َج ِمنْ ُه ُذ ِّر اي ًة؛ َف َق َالَ :خ َل ْق َُف ْ
اارَ ،و ِب َع َم ِل َأ ْه ِل ت َه ُؤَّل َِء لِلن ِ استَخْ َر َج ِمنْ ُه ُذ ِّر ايةًَ ،ف َق َالَ :خ َل ْق ُ
ُث ام َم َس َح َظ ْه َر ُه؛ َف ْ
ون». الن ِ
اار َي ْع َم ُل َ
ول اهللِ : يم ا ْل َع َم ُل؟ َف َق َال َر ُس ُ َف َق َال رج ٌل :يا رس َ ِ ِ
ول اهلل! َفف َ َ ُ َ َ ُ
وت َع َلى لجنا ِة ْاس َت ْع َم َل ُه ِب َع َم ِل َأ ْه ِل ا ْل َجن ِاةَ ،حتاى َي ُم َ ِ
الر ُج َل ل َ «إِ ان اهللَ إِ َذا َخ َل َق ا
الر ُج َل لِلن ِ
اار ا ْس َت ْع َم َل ُه ِ ِ ِ ِ
َع َم ٍل م ْن َأ ْع َمال َأ ْه ِل ا ْل َجناة؛ َف ُيدْ خ ُل ُه ُّب ُه ا ْل َج انةََ ،وإِ َذا َخ َل َق ا
اار؛ ال َأ ْه ِل الن ِ وت َع َلى َعم ٍل ِم ْن َأ ْعم ِ اارَ ،حتاى َي ُم َ ال َأ ْه ِل الن ِ بِ َعم ِل ِم ْن َأ ْعم ِ
َ َ َ َ
َف ُيدْ ِخ ُل ُه ُّب ُه الناا َر»(.)1
ويف حديث الحكم بن سنان ،عن ثابت ،عن أنس بن مالك قال :قال
ِ
ال :إِ َل ا ْْلَنَّة بَِر ْْحَِِتَ ،وقَبَ َ
ض ضة؛ فَ َق َ
ض قَ ْب َ رسول اهلل « :إِ َّن َّ
اَّللَ قَ بَ َ
ال :إِ َل النَّا ِر َوََل أ ََُبِل»(.)2
ضة؛ فَ َق َ
قَ ْب َ
( )1أخرجه أحمد يف المسند برقم ( ،)311وأبو داود برقم ( ،)4703والرتمذي برقم (،)3075
والنسائي يف الكربى برقم ( ،)11126ومالك يف الموطأ برقم ( ،)1873والحاكم يف المستدرك
برقم ( )74وقال :صحيح.
( )2أخرجه أبو يعلى يف مسنده برقم ( ،)3453-3422وابن أبي عاصم يف السنة برقم ( ،)243قال
األلباين :حديث صحيح ،وإسناده ثقات غير الحكم بن سنان فهو ضعيف ،لكن الحديث صحيح؛
ألن له شواهد كثيرة ساق المصنف الكثير الطيب منها فيما تقدم.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 212
( )1ينظر :جامع العلوم والحكم البن رجب ( ،)103/1وتوضيح المقاصد ،أحمد بن عيسى
( ،)408/2وغاية األماين لأللوسي (.)53/1
( )2أخرجه مسلم برقم ( ،)2653عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص ،قال :سمعت رسول اهلل
،يقول« :كتب اهلل مقادير الخالئق قبل أن يخلق السماوات واألرض بخمسين ألف
سنة ،قال :وعرشه على الماء».
( )3أخرجه البخاري برقم (.)3191
( )4أخرجه البخاري برقم (.)7418
213 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
ينَ ،وإِ ان آ َد َم َل ُمن َْج ِد ٌل فِي طِينَتِ ِهَ ،و َس ُأ َن ِّب ُئك ُْم بِ َأ او ِل ِ ِ
وب بِخَ ا َت ِم النابِ ِّي َ
عنْدَ اهلل َم ْك ُت ٌ
ين َو َلدَ تْنِيَ :أ ان ُه ِ
يسىَ ،و ُرؤْ َيا ُأ ِّمي؛ َر َأ ْت ح َ
ِ
يمَ ،وبِ َش َار ُة ع َ
ِ َذلِ َ
كَ :د ْع َو ُة َأبِي إِ ْب َراه َ
ِ
الشا ِم»(.)1 ُور َأ َضا َء ْت َل ُه ُق ُص ُ
ور ا َخ َر َج من َْها ن ٌ
ول اهللَِ ،متَى ُكتِ ْب َت َنبِ ًّيا؟ -ويف ويف حديث ميسرة الفجر ،قلتَ :يا َر ُس َ
الروحِ َوا ْل َج َس ِد»(.)2
لفظَ :-م َتى ُكنْ َت َنبِ ًّيا؟ قالَ « :وآ َد ُم َب ْي َن ُّ
ويف الصحيحين ،عن عبد اهلل بن مسعود ،قال :حدثنا رسول اهلل
- وهو الصادق المصدوق« :-إِ ان َخ ْل َق َأ َحدَ ك ُْم ُي ْج َم ُع فِي َب ْط ِن
كُ ،ث ام ُون ُم ْض َغ ًة ِم ْث َل َذلِ َ كُ ،ث ام َيك ُ ُون َع َل َق ًة ِم ْث َل َذلِ َ
ين َي ْو ًماُ ،ث ام َيك ُ ِ ِ
ُأ ِّمه َأ ْر َبع َ
ٍ ث إِ َل ْي ِه ا ْل َم َل َ
ك؛ َف ُي ْؤ َم ُر بِ َأ ْر َب ِع ك َِل َماتَ ،ف ُي َق ُال :ا ْكت ْ
ُبِ :ر ْز َق ُهَ ،و َع َم َل ُهَ ،و َأ َج َل ُه، ُي ْب َع ُ
وح؛ َق َالَ :ف َوا ال ِذي ََّل إِ َل َه َغ ْي ُر ُه ،إِ ان َأ َحدَ ك ُْم ِ ِ ِ
َو َشقي َأ ْو َسعيدٌ ُ ،ث ام ُينْ َف ُخ فيه ال ُّر َ
ِ
ويف الصحيحين ،عن علي بن أبي طالب ،قال :كنا مع رسول اهلل
ِ ٍ ِ ِ
ب ،ببقيع الغرقد يف جنازة ،فقالَ « :ما منْك ُْم م ْن َأ َحد إِ اَّل َقدْ كُت َ
ول اهللَِ ،أ َف َال َنتَّكِ ُل َع َلى الجن ِاة»َ ،ف َقا ُلواَ :يا َر ُس َ ِ ِ
َم ْق َعدُ ُه م َن الناارَ ،و َم ْق َعدُ ُه م َن َ
َان ِم ْن
َاب َونَدَ ِع ا ْل َع َم َل؟َ ،ق َال« :ا ْع َم ُلواَ ،فكُل ُم َي اس ٌر لِ َما ُخ ِل َق َل ُهَ ،أ اما َم ْن ك َالكِت ِ
الش َقا َو ِة؛
الس َعا َد ِةَ ،و َأ اما َم ْن كَا َن ِم ْن َأ ْه ُل ا ِ ِ
الس َعا َدة؛ َف َس ُي َي اس ُر ل َع َم ِل َأ ْه ِل ا
َأ ْه ُل ا
وكذلك إذا علم اهلل أن هذا يشبع باألكل ،وهذا يروى بالشرب ،وهذا
يموت بالقتل؛ فال بد من األسباب التي علم اهلل أن هذه األمور تكون هبا.
وكذلك إذا علم أن هذا يكون سعيدً ا يف اآلخرة ،وهذا شق ًّيا يف اآلخرة،
قلنا :ذلك ألنه يعمل بعمل األشقياء ،فاهلل علم أنه يشقى هبذا العمل.
باطال؛ ألن اهلل ال يدخل النار أحدً ا
فلو قيل :هو شقي وإن لم يعمل كان ً
إال بذنبه ،كما قال تعالى :ﱣﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌﱢ [ص]85:؛
فأقسم أنه يملؤها من إبليس وأتباعه ،ومن اتبع إبليس فقد عصى اهلل تعالى،
وَّل يعاقب اهلل العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعم َله.
ولهذا لما سئل النبي عن أطفال المشركين ،قال« :هللاُ أَ ْعلَ ُم
ِِبَا َكانُوا َع ِاملِي»( ،)1يعني :أن اهلل يعلم ما يعملون لو بلغوا(.)2
=
الجن ِاة»؛ َف َقا َل ْت :بِ َغ ْي ِر ع ََملِ؟؛ فقال« :اهللُ َأ ْع َل ُم ِ ِ ِ
وس َأ َل ْت ُه َع ْن َأ ْو َالد َها منْ ُه؛ َف َق َال« :في َ ِِ
كَانُوا َعاملين»َ ،
ام ِلين» .أخرجه الطرباين يف الكبير برقم ( ،)27وأبو يعلى يف المسند برقم (،)7077 بِما كَا ُنوا ع ِ
َ َ
وضعفه األلباين يف السلسلة الضعيفة برقم (.)5791
ت َألَسمعتُكِ
وروى يحيى بن المتوكل ،عن هبية ،عن عائشة أن النبي ،قال« :لَو ِشئْ ِ
ْ َ ْ ْ
اغيَ ُه ْم فِي الن ِ
اار» .قال األثرم( :وحديث خديجة ليس بالقوي؛ ألنه مرسل ،ألن خديجة توفيت ت ََض ِ
يف عهد رسول اهلل ،ولم يلقها أحدٌ من التابعين ،وحديث هبية إسناده واه).
وقد أخرجه أحمد يف المسند برقم ( ،)25743قال األلباين يف السلسلة الضعيفة برقم (:)3898
موضوع ،وضعفه األرناؤوط يف تحقيق المسند.
والثالث :أهنم يمتحنون يف القيامة بنار تأجج لهم ،روى علي بن زيد ،عن أبي رافع ،عن أبي
ِ ِ ُوه و َ ِ ِ ِ ِ
الم ْولُودَ ،فت َُؤ اج َج َل ُهم ن ٌ
َار، الهالك في ال َفتْ َرة َو َ الم ْعت َ هريرة ،عن النبي َ « :أنه ُي ْؤتَى بِ َ
وها؛ َفيَ ُر اد َها؛ َم ْن َكا َن فِي ِع ْل ِم اهلل ِ َس ِعيدً ا؛ َفتَ ُكونَ َع َليْ ِه بَ ْر ًدا َو َس َال ًما،
ولُ :ر ُّد َ ث إِلَيْ ِهم َر ُس ٌ
ول؛ َفيَ ُق ُ َويبْ َع َ
ِ
َوت َْحبِ ُس َعن َْها َم ْن كَانَ في ع ْل ِم اهلل َشق ًّيا» ،وهذا الحديث ليس بشيء؛ فإن علي بن زيد ال يحتج به، ِ ِ ِ
قال أحمد ويحيى :ليس بشيء .وقد أورده ابن الجعد يف مسنده برقم (.)2038
والقول الرابع :أهنم خدم أهل الجنة؛ لحديث نقل وال يثبت .عن أنس بن مالك ،قال :قال
ين ُه ْم خَ دَ ُم َأ ْه ِل ا ْل َجن ِاة» ،أخرجه أبو يعلى يف مسنده برقمِ
رسول اهلل َ « :أ ْط َف ُال ا ْل ُم ْش ِرك َ
(.)4090
وأخرجه الطرباين برقم ( ،)2225عن سمرة بن جندب .وصححه األلباين يف صحيح
الجامع برقم ( ،)5355ويف السلسلة الصحيحة برقم ( .)1468وللشيخ األلباين تعليق نافع على
هذا الحديث.
والخامس :أهنم بين الجنة والنار ،إذ ال طاعة لهم وال معصية .وكان ابن عقيل ينصر أهنم ال
ﱣﱈ ﱉ ﱊﱢ يعذبون ،ويحتج بقوله :ﱣﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋﱢ [األنعام ،]164:وقوله:
[غافر .]17:قال :وهذا يعطي أن الظلم المؤاخذة بغير كسب ،وال صنع للطفل وال كسب ،وبقوله
ﱣﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﱢ تعالى:
[طه ،]134:وبقوله :ﱣﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽﱾ ﱿ ﲀ ﲁ
ﱣﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﲂﱢ [األعراف ،]173:وبقوله:
وطفال لم
ً ﱽﱢ [النساء ،]165:قال :فكما أنه ال يعذب بال ًغا لم تأته الرسالة ،ال يعذب مجنو ًنا
تأته الرسالة ،وهذا يخرب أنه ال يعذب إال بعد اإلرسال ،فلألطفال أن يحتجوا ويقولوا :ما جاءنا من
=
217 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
وقد روي أهنم يف القيامة يبعث إليهم رسول؛ فمن أطاعه دخل الجنة،
ومن عصاه دخل النار؛ فيظهر ما علمه فيهم من الطاعة والمعصية.
وكذلك الجنة خلقها اهلل ألهل اإليمان به وطاعته؛ فمن ُقدِّ ر أن يكون
يسره لإليمان والطاعة.
منهم َّ
كافرا إذا علم أين من
فمن قال :أنا أدخل الجنة سوا ًء كنت مؤمنًا أو ً
أهلها ،كان مفرت ًيا على اهلل يف ذلك؛ فإن اهلل إنما علم أنه يدخلها باإليمان؛ فإذا
لم يكن معه إيمان ،لم يكن هذا هو الذي علم اهلل أنه يدخل الجنة؛ بل من لم
كافرا؛ فإن اهلل يعلم أنه من أهل النار ال من أهل الجنة؛ ولهذا
يكن مؤمنًا بل ً
أمر الناس بالدعاء واالستعانة باهلل ،وغير ذلك من األسباب.
أيضا؛ ألن ً
اتكاال على القدر كان مخط ًئا ً ومن قال :أنا ال أدعو وال أسأل
اهلل جعل الدعاء والسؤال من األسباب التي ينال هبا مغفرته ورحمته وهداه
خيرا يناله بالدعاء ،لم يحصل بدون الدعاء،
ونصره ورزقه ،وإذا قدر للعبد ً
وما قدره اهلل وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم؛ فإنما قدره اهلل بأسباب
يسوق المقادير إلى المواقيت؛ فليس يف الدنيا واآلخرة شيء إال بسبب ،واهلل
خالق األسباب والمسببات.
ولهذا قال بعضهم :االلتفات إلى األسباب شرك يف التوحيد ،ومحو
=
رسول ،فإن قال قائل :أنا أعذبكم بمطلق المشيئة ،أفضى إلى أن يكون االعتالل بالرسل ليس
باعتالل وال احتجاج ،ألنه قد أبطله بتعذيب من لم يرسل إليه ،وال فعل ما يستحق به الجزاء ،ومن
يقيم الحجة للعدل بتلك اإلقامة ال يعود بتعذيب بغير حجة ،وحوشي من االختالف يف أقواله،
والتحريف يف أفعاله).
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 218
( )1أخرجه البخاري برقم ( ،)5673ومسلم رقم ( ،)2816عن أبي هريرة .
219 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
عن األسباب الشرعية واألعمال الصالحة ،وهؤالء يؤول هبم األمر إلى أن
يكفروا بكتب اهلل ورسله ودينه.
وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من اهلل ،كما يطلبه األجير من المستأجر ،متكلين
حولهم وقوهتم وعملهم ،وكما يطلبه المماليك ،وهؤالء جهال ضالل؛ فإن
على ْ
اهلل لم يأمر العباد بما أمرهم به حاج ًة إليه ،وال هناهم عما هناهم عنه ً
بخال به ،ولكن
صالحهم ،وهناهم عما فيه فسا ُدهم ،وهو سبحانه كما قالَ « :يا ُ أمرهم بما فيه
وني ،و َلن َتب ُلغُوا َن ْف ِعي َف َت ْن َفع ِ
وني»(.)1 ادي! ِإناكُم َلن َتب ُلغُوا َضري َفت َُضر ِ
ِعب ِ
ُ َ ْ ْ ُّ ِّ ْ ْ ْ َ
الملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم ،وهم فعلوه بقوهتم ف ِ
التي لم يخلقها لهم؛ فيطالبون بجزاء ذلك ،واهلل تعالى غني عن العالمين؛ فإن
أحسنوا أحسنوا ألنفسهم ،وإن أساءوا فلها ،لهم ما كسبوا ،وعليهم ما اكتسبوا:
ﳣﳥﳦﳧﳨﱢ [فصلت.]46: ﳤ ﳟﳡﳢ ﳠ ﱣﳜﳝﳞ
ت ادي! إِنِّي َح ار ْم ُويف الحديث الصحيح ،عن اهلل تعالى ،أنه قال« :يا ِعب ِ
َ َ
ادي! إِ انك ُْم ال ُّظ ْلم ع َلى َن ْف ِسي ،وجع ْل ُته بي َنكُم محرما؛ َفالَ َت َظا َلموا ،يا ِعب ِ
َ َ ُ َ َ َ ُ َْ ْ ُ َ ا ً َ َ
اس َتغ ِْف ُرونِي ِ ِ
ُوب َجمي ًعاَ ،و ََّل َأ َبالي؛ َف ْ الذن َ ارَ ،و َأ َنا َأغ ِْف ُر ُّ تُخْ طِئ َ
ُون بِال ال ْي ِل َوالن َاه ِ
است َْهدُ ونِي َأ ْه ِدك ُْمَ ،يا ِ ِ
َأغْف ْر َلك ُْمَ ،يا ع َبادي! ُك ُّلك ُْم َضال إَِّلا َم ْن َهدَ ْي ُت ُه؛ َف ْ
ِ
ادي! إِ انك ُْم ادي! ُك ُّل ُكم جائِع إَِّلا من َأ ْطعم ُته؛ َفاس َت ْط ِعمونِي ُأ ْط ِعمكُم ،يا ِعب ِ ِعب ِ
ْ ْ َ َ ُ َ ْ َْ ُ ْ ْ َ ٌ َ
ادي! َل ْو َأ ان َلن َتب ُلغُوا َضري َفت َُضرونِي ،و َلن َتب ُلغُوا َن ْف ِعي َف َتنْ َفعونِي ،يا ِعب ِ
َ َ ُ َ ْ ْ ُّ ِّ ْ ْ
ب َر ُج ٍل ِمنْك ُْمَ ،ما زَا َد آخ َرك ُْمَ ،وإِن َْسك ُْم َو ِجناك ُْم ،كَانُوا َع َلى َأ ْت َقى َق ْل ِ َأو َلكُم و ِ
ا ْ َ
ادي! َل ْو َأ ان َأ او َلك ُْم َوآ ِخ َرك ُْمَ ،وإِن َْسك ُْم َو ِجناك ُْم، ك فِي م ْلكِي َشيئًا ،يا ِعب ِ
ْ َ َ ُ َذلِ َ
ك ِمن م ْلكِي َشيئًا ،يا ِعب ِ ِ كَانُوا َع َلى َأ ْف َجرِ َق ْل ِ
ادي! َل ْو ْ َ َ ب َر ُج ٍل منكمَ ،ما َن َق َص َذل َ ْ ُ
اح ٍد َف َس َأ ُلونِي؛ يد و ِ ِ ٍ
اجت ََم ُعوا في َصع َ
ِ ِ
َأ ان َأ او َلك ُْم َوآخ َرك ُْمَ ،وإِن َْسك ُْم َو ِجناك ُْمْ ،
ك فِي ُم ْلكِي َش ْيئًا ،إَِّلا ك ََما َينْ ُق ُص ان َم ْس َأ َل َت ُهَ ،ما َن َق َص َذلِ َت ُك ال إِن َْس ٍ َف َأ ْع َط ْي ُ
ادي! إِن َاما ِه َي َأ ْع َما ُلك ُْم احدَ ةً ،يا ِعب ِ
َ َ
المخْ ي ُط َغمس ًة و ِ
ْ َ َ َ
يه ِ البحر َأ ْن يغْمس فِ ِ
ُ َ َ َ ْ ُ
اها؛ َف َم ْن َو َجدَ َخ ْي ًرا؛ َف ْل َي ْح َم ِد اهللََ ،و َم ْن َو َجدَ َغ ْي َر
ُأ ْحص َيها َلك ُْمُ ،ث ام ُأ َو ِّفيك ُْم إِ اي َ
ِ
تَ ،أ ُعو ُذ ِب َك ْتَ ،خ َل ْقتَنِي َو َأنَا َع ْبدُ َكَ ،و َأنَا َع َلى َع ْه ِد َك َو َو ْع ِد َك َما ْاس َت َط ْع ُ إِ َل َه إِ اَّل َأن َ
اغْف ْر ِلي ،إِ ان ُه ََّل َيغ ِْف ُر
تَ ،أبوء َل َك ِبنِعمتِ َك ع َلي ،و َأبوء ِب َذ ْنبِي؛ َف ِ
َ ا َ ُ ُ َْ م ْن َش ِّر َما َص َن ْع ُ ُ ُ
ِ
وافق األمر الشرعي أو خالفه؛ فقد جحد دين اهلل ،وكذب بكتبه ورسله،
ووعده ووعيده ،واستحق من غضبه وعقابه أعظم مما يستحقه األول.
فإن العبد قد يريد ما يرضاه اهلل ويحبه ،ويأمر به ويقرب إليه ،وقد يريد ما
يبغضه اهلل ويكرهه ويسخطه ،وينهى عنه ويعذب صاحبه؛ فكل من هذين قد
ُيسر له ذلك ،كما قال النبي « :ا ْع َم ُلوا ،فكُل ُم َي اس ٌر لِ َما ُخ ِل َق َل ُه(،)1
( )1قال ابن حجر يف فتح الباري (( :)498/11وهذا الحديث أصل ألهل السنة يف أن السعادة
والشقاء بتقدير اهلل القديم ،وفيه رد على الجربية؛ ألن التيسير ضد الجرب؛ ألن الجرب ال يكون إال
عن كره ،وال يأيت اإلنسان الشيء بطريق التيسير إال وهو غير كاره له ،واستدل به على إمكان
معرفة الشقي من السعيد يف الدنيا ،كمن اشتهر له لسان صدق وعكسه؛ ألن العمل أمارة على
الجزاء على ظاهر هذا الخرب ،ور َّد بما تقدم يف حديث ابن مسعود ،وأن هذا العمل الظاهر قد
ينقلب لعكسه على وفق ما قدر ،والحق أن العمل عالمة وأمارة فيحكم بظاهر األمر ،وأمر الباطن
إلى اهلل تعالى.
قال الخطابي :لما أخرب عن سبق الكائنات ،رام من تمسك بالقدر أن يتخذه حجة يف
ترك العمل؛ فأع لمهم أن هنا أمرين ال يبطل أحدهما باآلخر؛ باطن وهو العلة الموجبة يف حكم
الربوبية ،وظاهر وهو العالمة الالزمة يف حق العبودية ،وإنما هي أمارة مخيلة يف مطالعة علم
العواقب غير مفيدة حقيقة؛ فبين لهم أ َّن ًّ
كال ميسر لما خلق له ،وأن عمله يف العاجل دليل على
مصيره يف اآلجل ،ولذلك مثَّل باآليات ،ونظير ذلك الرزق مع األمر بالكسب ،واألجل مع اإلذن
يف المعالجة.
وقال يف موضع آخر :هذا الحديث إذا تأملته وجدت فيه الشفاء مما يتخالج يف الضمير من أمر
القدر ،وذلك أن القائل« :أفال نتكل وندع العمل» ،لم يدع شيئًا مما يدخل يف أبواب المطالبات
واألسئلة إال وقد طالب به وسأل عنه ،فأعلمه رسول اهلل أن القياس يف هذا الباب
مرتوك ،والمطالبة ساقطة ،وأنه ال يشبه األمور التي ُعقلت معانيها ،وجرت معاملة البشر فيما
بينهم عليها؛ بل طوى اهلل علم الغيب عن خلقه ،وحجبهم عن دركه ،كما أخفى عنهم أمر الساعة،
فال يعلم أحد متى حين قيامها انتهى .وقد تقدم كالم ابن السمعاين يف نحو ذلك يف أول كتاب
القدر ،وقال غيره :وجه االنفصال عن شبهة القدرية؛ أن اهلل أمرنا بالعمل ،فوجب علينا االمتثال،
=
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 224
َان ِم ْن
الس َعا َد ِةَ ،و َأ اما َم ْن ك َ ِ ِ
الس َعا َدة؛ َف َس ُي َي اس ُر ل َع َم ِل َأ ْه ِل ا
َان م ْن َأ ْه ُل ا
َأما من ك َ ِ
ا َ ْ
او ِة؛ َف َس ُي َي اس ُر لِ َع َم ِل َأ ْه ِل ال اش َق َاو ِة»(.)1 َأ ْه ُل ا
الش َق َ
وقد قال تعالى :ﱣﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ
ﱎﱏﱐﱑﱒﱓﱔﱕﱖﱗﱘﱙﱚﱛ
ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱨ ﱩ ﱪ
ﱫﱬﱭﱢ [اإلسراء.]20–18:
وقال تعالى :ﱣ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ
ﲢ ﲣﲤﲥﲦﲧﲨﲩﲪﲫﱢ [الفجر ،]16-15:بين سبحانه أنه ليس
كل من ابتاله يف الدنيا يكون قد أهانه؛ بل هو يبتلي عبده بالسراء والضراء.
خيرا له ،كما يف شكورا؛ فيكون هذا وهذا ً ً صبارا
ً فالمؤمن يكون
الصحيح عن النبي أنه قالََّ « :ل َي ْق ِضي اهللُ لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن َق َضا ًء ،إَِّلا
ك ِألَ َح ٍد إِ اَّل لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن ،إِ ْن َأ َصا َب ْت ُه َس ارا ُء َش َك َرَ ،فك َ
َان َخ ْي ًرا َان َخ ْي ًرا َل ُهَ ،و َل ْي َس َذلِ َ
ك َ
َان َخ ْي ًرا َل ُه»(.)2 َل ُهَ ،وإِ ْن َأ َصا َب ْت ُه َض ارا ُء َص َب َرَ ،فك َ
=
وغيب عنَّا المقادير لقيام الحجة ،ونصب األعمال عالمة على ما سبق يف مشيئته؛ فمن عدل عنه
ِ ِ
الجنَّ َة كشف ضل وتاه؛ ألن القدر سر من أسرار اهلل ال يطلع عليه إال هو؛ فإذا ُأ ْدخ َل أهل َ
الجنَّة َ
لهم عنه حينئذ ،ويف أحاديث هذا الباب أن أفعال العباد وإن صدرت عنهم لكنها قد سبق علم اهلل
صريحا ،واهلل أعلم).
ً بوقوعها بتقديره؛ ففيها بطالن قول القدرية
( )1سبق تخريجه (ص.)45
ِ
( )2أخرجه مسلم برقم ( ،)2999عن صهيب ،قال :قال رسول اهلل َ « :ع َجبًا ألَ ْمرِ الْ ُم ْؤم ِن،
اك ألَ َح ٍد إَِّلا لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن ،إِ ْن َأ َصا َبتْ ُه َس ارا ُء َشك ََر؛ َفكَا َن َخ ْي ًرا َل ُهَ ،وإِ ْن َأ َصا َبتْ ُه
إِ ان َأ ْم َر ُه ُك ال ُه َخ ْي ٌرَ ،و َل ْي َس َذ َ
َض ارا ُء َصبَ َر؛ َفكَا َن خَ يْ ًرا لَ ُه».
=
225 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
=
ويف المسند لإلمام أحمد برقم ( ،)20283عن أنس بن مالك ،قال :قال رسول اهلل :
جبًا لِ ْل ُم ْؤ ِمنََّ ،ل َي ْق ِضي اهللُ َل ُه َشيْئًا إِ اَّل َكا َن خَ يْ ًرا َل ُه».
« َع ِ
( )1أخرجه مسلم برقم ( ،)395عن أبي هريرة .
( )2أخرجه البيهقي يف شعب اإليمان برقم ( ،)2155عن الحسن .
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 226
( )1كما يف حديث أبي هريرة ،قال :سمعت رسول اهلل وهو يقول« :الدُّ ْنيَا َم ْل ُعو َنةٌَ ،م ْل ُعونٌ
َما فِ َيها ،إَِّلا ذِ ْك َر اهلل ِ َو َما َواَّلَ ُهَ ،أ ْو َعالِ ًماَ ،أ ْو ُم َت َع ِّل ًما» .أخرجه الرتمذي برقم ( ،)2322وابن ماجه
برقم ( .)4112قال الرتمذي :حسن غريب ،وحسنه األلباين.
227 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
وحال بعد الفعل ،وهو االستغفار من التقصير ،وشكر اهلل على ما أنعم به
من الخير.
وقال تعالى :ﱣﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁﱢ [غافر،]55:
أمره أن يصرب على المصائب المقدرة ،ويستغفر من الذنب ،وإن كان استغفار
كل عبد بحسبه؛ فإن حسنات األبرار سيئات المقربين(.)1
وقال تعالى :ﱣﲻﲼﲽﲾﲿﳀﳁﳂﱢ [آل عمران،]186:
( )1وقد شرح شيخ اإلسالم ابن تيمية هذه العبارة يف جامع الرسائل ( )251/1فقال( :أما معناه
الصحيح فوجهان:
أحدهما :أن األبرار يقتصرون على أداء الواجبات وترك المحرمات ،وهذا االقتصار سيئة يف
طريق المقربين ،ومعنى كونه سيئة :أن يخرج صاحبه عن مقام المقربين؛ فيحرم درجاهتم ،وذلك
مما يسوء من يريد أن يكون من المقربين؛ فكل من أحب شيئًا وطلبه إذا فاته محبوبه ومطلوبه
ساءه ذلك ،فالمقربون يتوبون من االقتصار على الواجبات ،ال يتوبون من نفس الحسنات التي
يعمل مثلها األبرار؛ بل يتوبون من االقتصار عليها ،وفرق بين التوبة من فعل الحسن ،وبين التوبة
من ترك األحسن واالقتصار على الحسن.
الثان :أن العبد قد يؤمر بفعل يكون حسنًا منه؛ إما واجبًا وإما مستحبًا؛ ألن ذلك مبلغ علمه
وقدرته ،ومن يكون أعلم منه وأقدر ،ال يؤمر بذلك؛ بل يؤمر بما هو أعلى منه ،فلو فعل هذا ما
فعله األول ،كان ذلك سيئة .مثال ذلك :أن العامي يؤمر بمسألة العلماء المأمونين على اإلسالم،
والرجوع إليهم بحسب قوة إدراكه ،وإن كان يف ذلك تقليد لهم ،إذ ال يؤمر العبد إال بما يقدر
عليه ،وأما العلماء القادرون على معرفة الكتاب والسنة واالستدالل هبما ،فلو تركوا ذلك وأتوا
قائما؛ فإن لم يستطع
بما يؤمر به العامي لكانوا مسيئين بذلك ،وهذا كما يؤمر المريض أن يصلي ً
فقاعدً ا؛ فإن لم يستطع فعلى جنب ،وكما يؤمر المسافر أن يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين
يف السفر ،وهذا لو فعله المقيم لكان مسيئًا تاركًا للفرض؛ بل فرضه أربع ركعات؛ فإن المرض
والسفر ال ينقص العبد عن كونه مقربًا ،إذا كان ذلك حاله يف اإلقامة؛ فقد ثبت يف الصحيحين عن
ِ ِ ِ
النبي أنه قال« :إِ َذا َمرِ َض الْ َع ْبدُ َ ،أ ْو َسا َف َر ،كُت َ
ب لَ ُه م َن ال َع َم ِل َما كَانَ َي ْع َم ُل َو ُه َو َصح ٌ
يح
ُم ِقيم» .أخرجه البخاري برقم (.)2996
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 228
ﲭ ﲮﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ
ﲾﱢ [الحديد.]23 – 22:
[التغابن ،]11:قال علقمة( )1وغيره :هو الرجل تصيبه المصيبة؛ فيعلم أهنا من
عند اهلل فيرضى ويسلم .واهلل أعلم).
( )1ينظر :تفسير الطربي ( ،)12/23وزاد المسير ( ،)293/4وتفسير ابن كثير (.)138/8
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 230
اخلامتة
ويف ختام هذا الرسالة المختصرة المتواضعة التي بذلت فيهه جهدَ
المقل ،وال أدعي أنني بلغت فيها الكمال ،أو أتيت على كل ما يتعلق هبذا
الموضوع ،ولكن لعل فيها إشارات لمن أراد الحق.
سا ًئال اهلل تعالى أن ينفع هبا ،وأن يجعله فيها ميزان أعمال كل من سعى
ونشرا.
ً وتنبيها وطباعة
ً وتصحيحا
ً يف إخراجها :مراجع ًة
وأن يهدي اهلل ضال المسلمين للعمل بكتابه العزيز ،وسنة نبيه
؛ إنه سميع مجيب.
َّ
وصل اهلل على نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه واهلل أعلم وأحكم،
وسلم.
231 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم بن عبد اهلل بن أبي
القاسم بن محمد ابن تيمية الحراين الحنبلي الدمشقي ،المحقق:
مجموعة من المحققين ،مجمع الملك فهد لطباعة المصحف
الشريف ،ط1426 ،1هـ.
-13تاريخ بغداد ،أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي
الخطيب البغدادي ،المحقق :الدكتور بشار عواد معروف ،دار الغرب
اإلسالمي ،بيروت ،ط1422 ،1هـ 2002 -م.
-14تأويل مشكل القرآن ،أبو محمد عبد اهلل بن مسلم بن قتيبة الدينوري،
تحقيق :إبراهيم شمس الدين ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان.
-15التائية البهية شرح القصيدة التائية يف حل المشكلة القدرية ،أبو عبد اهلل،
عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اهلل بن ناصر بن حمد آل سعدي،
المحقق :أبو محمد أشرف بن عبد المقصود ،أضواء السلف ،ط،1
الطبعة :األولى1419 :هـ 1998 -م.
-16التائية منظومة يف القدر ،للعالمة عبد الرحمن بن محمد الدوسري،
اعتنى هبا :د أحمد بن صالح الطويان ،دار ابن الجوزي ،ط2020 ،1م.
-17التبصير يف الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين ،طاهر بن
محمد األسفراييني ،أبو المظفر ،المحقق :كمال يوسف الحوت ،عالم
الكتب ،لبنان ،ط1403 ،1هـ 1983 -م.
-18تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي ،عبد الرزاق بن
عبد المحسن البدر ،غراس للنشر والتوزيع ،ط1424 ،1هـ 2003 -م.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 234
-30تفسير عبد الرزاق ،أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري
اليماين الصنعاين ،دار الكتب العلمية ،دراسة وتحقيق :د .محمود
محمد عبده ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط ،1سنة 1419هـ.
-31تفسير مقاتل بن سليمان ،أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير
األزدي البلخي ،المحقق :عبد اهلل محمود شحاته ،دار إحياء الرتاث،
بيروت ،ط1423 ،1هـ.
-32تفسير مكي = الهداية إلى بلوغ النهاية يف علم معاين القرآن وتفسيره،
وأحكامه ،وجمل من فنون علومه ،أبو محمد مكي بن أبي طالب
َح ّموش بن محمد بن مختار القيسي القيرواين ثم األندلسي القرطبي
المالكي ،المحقق :مجموعة رسائل جامعية بكلية الدراسات العليا
والبحث العلمي ،جامعة الشارقة ،بإشراف أ .د :الشاهد البوشيخي،
مجموعة بحوث الكتاب والسنة ،كلية الشريعة والدراسات اإلسالمية،
جامعة الشارقة ،ط1429 ،1هـ 2008 -م.
-33تقريب التدمرية ،محمد بن صالح بن محمد العثيمين ،دار ابن
الجوزي ،السعودية ،الدمام ،ط1419 ،1هـ.
-34التمهيد لما يف الموطأ من المعاين واألسانيد ،أبو عمر يوسف بن عبد
اهلل بن محمد بن عبد الرب بن عاصم النمري القرطبي ،تحقيق :مصطفى
بن أحمد العلوي محمد عبد الكبير البكري ،وزارة عموم األوقاف
والشؤون اإلسالمية ،المغرب1387 ،هـ.
-35التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة ،أبو
237 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
عبد اهلل ،عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اهلل بن ناصر بن حمد آل
سعدي ،دار طيبة ،الرياض ،ط1414 ،1هـ.
-36التوحيد ،محمد بن محمد بن محمود ،أبو منصور الماتريدي،
المحقق :د .فتح اهلل خليف ،دار الجامعات المصرية ،اإلسكندرية.
-37توضيح المقاصد وتصحيح القواعد يف شرح قصيدة اإلمام ابن القيم،
أحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد اهلل بن عيسى
1327هـ ،المحقق :زهير الشاويش ،المكتب اإلسالمي ،بيروت ،ط،2
1406هـ.
-38جامع األصول يف أحاديث الرسول ،مجد الدين أبو السعادات المبارك
بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباين الجزري ابن
األثير ،تحقيق :عبد القادر األرنؤوط ،التتمة تحقيق بشير عيون ،مكتبة
الحلواين ،مطبعة المالح ،مكتبة دار البيان ،ط.1
-39جامع الرسائل ،تقي الدين أبو ال َعباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد
السالم بن عبد اهلل بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراين الحنبلي
الدمشقي ،المحقق :د .محمد رشاد سالم ،دار العطاء ،الرياض ،ط،1
1422هـ 2001 -م.
-40جامع العلوم والحكم يف شرح خمسين حدي ًثا من جوامع الكلم ،زين
الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن ،ال َسالمي،
البغدادي ،ثم الدمشقي ،الحنبلي ،المحقق :شعيب األرناؤوط،
إبراهيم باجس ،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،ط1422 ،7هـ 2001 -م.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 238
-103الفوائد ،محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم
الجوزية ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط1393 ،2هـ 1973 -م.
-104القدر ،أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن بن المستَفاض ِ
الف ْريابِي، ُ ْ
المحقق :عبد اهلل بن حمد المنصور ،أضواء السلف ،السعودية ،ط،1
1418هـ 1997 -م.
-105القصيدة التائية يف القدر ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم
بن عبد السالم بن عبد اهلل بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراين
الحنبلي الدمشقي ،شرح وتحقيق :محمد بن إبراهيم الحمد ،دار ابن
خزيمة ،الرياض ،ط1424 ،1هـ 2003 -م.
-106القضاء والقدر ،أحمد بن الحسين بن علي بن موسى ال ُخ ْس َر ْو ِجردي
الخراساين ،أبو بكر البيهقي ،المحقق :محمد بن عبد اهلل آل عامر،
مكتبة العبيكان ،الرياض ،السعودية ،ط1421 ،1هـ 2000 -م.
-107القضاء والقدر ،عمر بن سليمان بن عبد اهلل األشقر العتيبي ،دار
النفائس للنشر والتوزيع ،األردن ،ط1425 ،13هـ 2005 -م.
-108قطر الولي على حديث الولي = والية اهلل والطريق إليها ،محمد بن
علي بن محمد بن عبد اهلل الشوكاين اليمني ،المحقق :إبراهيم إبراهيم
هالل ،دار الكتب الحديثة ،مصر ،القاهرة.
-109قطف الثمر يف بيان عقيدة أهل األثر ،أبو الطيب محمد صديق خان
بن حسن بن علي ابن لطف اهلل الحسيني البخاري ا ِلقنَّوجي 1307هـ،
وزارة الشؤون اإلسالمية واألوقاف والدعوة واإلرشاد ،السعودية،
ط1421 ،1هـ.
249 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
-116لوامع األنوار البهية وسواطع األسرار األثرية لشرح الدرة المضية يف
عقد الفرقة المرضية ،شمس الدين ،أبو العون محمد بن أحمد بن
سالم السفاريني الحنبلي ،مؤسسة الخافقين ومكتبتها ،دمشق ،ط،2
1402هـ 1982 -م.
-117لوائح األنوار السنية ولواقح األفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود
الحائية يف عقيدة أهل اآلثار السلفية ،محمد بن أحمد بن سالم
السفاريني الحنبلي ،دراسة وتحقيق :عبد اهلل بن محمد بن سليمان
البصيري ،مكتبة الرشد للنشر والتوزيع ،الرياض ،السعودية ،ط،1
1415هـ 1994 -م.
-118مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر
بن سليمان الهيثمي ،المحقق :حسام الدين القدسي ،مكتبة القدسي،
القاهرة1414 ،هـ 1994 -م.
-119مجموع الفتاوى ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن
تيمية الحراين ،المحقق :عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ،مجمع
الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ،المدينة النبوية ،السعودية،
1416هـ 1995 -م.
-120مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ،مؤلف األصل:
محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية،
اختصره :محمد بن محمد بن عبد الكريم بن رضوان البعلي شمس
الدين ،ابن الموصلي ،المحقق :سيد إبراهيم ،دار الحديث ،القاهرة،
مصر ،ط1422 ،1هـ 2001 -م.
251 القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة
-121مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر ،أبو عبد اهلل محمد بن
لم ْر َو ِزي ،اختصره :العالمة أحمد بن علي نصر بن الحجاج ا َ
المقريزي ،حديث أكادمي ،فيصل اباد ،باكستان ،ط1408 ،1هـ -
1988م.
-122مختصر معارج القبول ،أبو عاصم هشام بن عبد القادر بن محمد آل
عقدة ،مكتبة الكوثر ،الرياض ،ط1418 ،5هـ.
-123مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ،محمد بن أبي
بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية ،المحقق :محمد
المعتصم باهلل البغدادي ،دار الكتاب العربي ،بيروت ،ط1416 ،2هـ -
1996م.
-124المدخل إلى السنن أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ،اعتنى به
وخر َج ن ُقو َله :محمد عوامة ،دار اليسر للنشر والتوزيع ،القاهرة،
َّ
جمهورية مصر العربية ،دار المنهاج للنشر والتوزيع ،بيروت ،لبنان،
ط1437 ،1هـ 2017 -م.
-125مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ،أبو الحسن عبيد اهلل بن
محمد عبد السالم بن خان محمد بن أمان اهلل بن حسام الدين
الرحماين المباركفوري ،إدارة البحوث العلمية والدعوة واإلفتاء،
الجامعة السلفية ،بنارس ،الهند ،ط1404 ،3هـ 1984 -م.
-126مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ،علي بن سلطان محمد ،أبو
الحسن نور الدين المال الهروي القاري ،دار الفكر ،بيروت ،لبنان،
ط1422 ،1هـ 2002 -م.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 252
-146منهاج السنة النبوية يف نقض كالم الشيعة القدرية ،تقي الدين أبو
العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم بن عبد اهلل بن أبي القاسم
بن محمد ابن تيمية الحراين الحنبلي الدمشقي ،المحقق :محمد رشاد
سالم ،جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية ،ط1406 ،1هـ -
1986م.
-147منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي وجهوده يف تقرير العقيدة ،والرد على
المخالفين ،إعداد :أحمد بن علي الزاملي عسيري ،إشراف :عبد
الرحمن بن عبد اهلل بن عبد المحسن الرتكي ،رسالة مقدمة لنيل درجة
الماجستير يف العقيدة والمذاهب المعاصرة ،كلية أصول الدين ،جامعة
اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية ،السعودية1431 ،هـ.
-148موطأ اإلمام مالك ،مالك بن أنس بن مالك بن عامر األصبحي
المدين ،صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه :محمد فؤاد عبد
الباقي ،دار إحياء الرتاث العربي ،بيروت ،لبنان1406 ،هـ 1985 -م.
-149النبوات ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد اهلل بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراين الحنبلي
الدمشقي ،المحقق :عبد العزيز بن صالح الطويان ،أضواء السلف،
الرياض ،السعودية ،ط1420 ،1هـ 2000 -م.
-150الوايف بالوفيات ،صالح الدين خليل بن أيبك بن عبد اهلل الصفدي،
المحقق :أحمد األرناؤوط وتركي مصطفى ،دار إحياء الرتاث،
بيروت1420 ،هـ 2000 -م.
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 256
-151وفيات األعيان وأنباء أبناء الزمان ،أبو العباس شمس الدين أحمد بن
محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان الربمكي اإلربلي ،المحقق:
إحسان عباس ،دار صادر ،بيروت ،ط1994 ،1م.
الصفحة املوضوع
5
.............................................................................................................................................................................................................. ترمجة موجزة للمؤلف
11
...................................................................................................................................................................................................................................................... املقدمة
15
............................................................................................................................................................................................................. تعريف القضاء والقدر
16 الفرق بني القضاء والقدر
........................................................................................................................................................................................................
* قال الشيخ ابن عثيمين رحمه اهلل :القضاء :ما يقضي به اهلل عز وجل من
18
.............................................................................................أفاله أو أفعال الخلق ،والقدر :ما كتبه يف اللوح المحفوظ
20
...................................................................................................................................................... حكم اإلميان بالقضاء والقدر ،وأدلة وجوبه
20
......................................................................................................................................................... أوَّل :حكم اإليمان بالقضاء والقدر
ً
* يجب اإليمان بالقضاء والقدر ،وهو ركن من أركان اإليمان الستة
20
.......................................................................................................................... التي وردت يف حديث جبريل عليه السالم
24
..................................................................................................................... ثان ًيا :األدلة على وجوب اإليمان بالقضاء والقدر
24
.......................................................................................................................................................... أوَّل :األدلة من القرآن الكريم
ً
24
......................................................................................................................................... -1ﱣﳛﳜﳝﳞﳟﱢ
27
................................................................................................................................. -2ﱣﲡﲢﲣﲤﲥﱢ
29
...................................................................................................................... -3ﮋﮇ ﮈﮉﮊﮋﮊ
29
....................................................................................................................................................... -4ﮋﮝ ﮞ ﮟﮠﮊ
30
.................................................................................................................... -5ﮋﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢﭣﭤﮊ
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 258
32
................................................................... -6ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙﮊ
33
..................................................................................... 7ﮋﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﮊ
34
.................................................................................................................................................................. -8ﱣﲘﲙﲚﱢ
35
............................................................................................................................................................................ أنواع الهداية
37 ثان ًيا :األدلة من السنة النبوية
...............................................................................................................................................................
37 أن وت ُْؤ ِم َن بال َقدَ ِر :خَ يرِ ِه َو َش ِّر ِه»
................................................................................................... * حديثَ « :و ْ
* حديث« :إن اهلل كتب مقادير الخالئق قبل أن يخلق
38
................................................................................................................ السموات واألرض بخمسين ألف سنة»
44
.................................................................................. * حديث« :ك ُُّل َش ْي ٍء بِ َقدَ ٍرَ ،حتاى ا ْل َع ْج ِز َوا ْل َك ْي ِ
س»
48
...................................................................................................................................................................................... ثال ًثا :دليل اإلجماع
* قال النووي :وقد تظاهرت األدلة القطعيات من الكتاب،
والسنة ،وإجماع الصحابة ،وأهل الحل والعقد من السلف
48
....................................................................................................... والخلف؛ على إثبات قدر اهلل
49
......................................................................................................................................................................................... راب ًعا :دليل الفطرة
قديما وحدي ًثا ،ولم ينكره إال
ً * اإليمان بالقدر معلوم بالفطرة
الشوا ُّذ من المشركين من األمم ،ولم يقع الخطأ يف نفي القدر
49
..................................................................................... وإنكاره ،وإنما وقع يف فهمه على الوجه الصحيح
51
...................................................................................................................................................................................... خامسا :دليل العقل
ً
* العقل الصحيح يقطع بأن اهلل هو خالق هذا الكون ،ومدبره،
51
.......................................................................................................................................................................................................... ومالكه
53
..............................................................................................................................................................................................................درجات اإلميان بالقدر
53
...................................................................................................................... * قال ابن رجب :واإليمان بالقدر على درجتين
54
............................................................................................................................................................................................................... مراتب اإلميان بالقدر
54 المرتبة األولى :العلم السابق
.......................................................................................................................................................................
65
........................................................................................................................................................................................... المرتبة الثانية :الكتابة
العلم يف اللوح المح ِ
فوظ قبل خ ْلق ِ * وهي كتابته سبحانه لهذا
65
.................................................................................................................................................................................... السموات واألرض
70
..............................................................................................................................* التقدير يف المرتبتين -األولى والثانية-
72
........................................................................................................................................................................................ المرتبة الثالثة :المشيئة
* قال ابن القيم :وليس يف الوجود موجب ومقتض إال مشيئة اهلل
72
...........................................................................................................................وحده ،فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
78
.........................................................................................................* ال شيء كان وال يكون إال بمشيئة اهلل تعالى
79
......................................................................................................................................................................................... المرتبة الرابعة :الخلق
كل شيء ،فال يوجد شي ٌء إال بمشيئته خالق ِّ * وهي َّ
أن اهلل تعالى ُ
أفعال ِ
العباد ِ خالق
ُ وخلقه ،ومن ذلك أفعال ِ
العباد ،فهو تعالى
79
................................................................................................................................................................................................. خيرها وشرها
84
........................................................................................................................................................... * كن آدم ًّيا وال تكن إبليس ًّيا
86 أهمية موضوع اإلميان بالقضاء والقدر
.....................................................................................................................................................................
91
................................................................................................................................................................................................................. حكمة اإلميان بالقدر
* حكمة ذلك :أن تنطلق قوى اإلنسان وطاقاته لتعرف هذه السنن ،ولتدرك
91
........................................................................................................................ هذه القوانين ،وتعمل بمقتضاها يف البناء والتعمير
98
.............................................................................................................................................................. الواجب على العبد يف باب القضاء والقدر
* الواجب على العبد يف هذا الباب :أن ُيؤمن بقضاء اهلل وقدره ،وأن ُيؤمن
بشرع اهلل ،وأمره وهنيه ،فعليه تصديق الخرب ،وطاعة األمر .فإذا أحسن
98
َح ِمدَ اهلل ،وإذا أساء استغفر اهلل ،وعلم أن ذلك كله بقضاء اهلل وقدره
...............................................................
100
.............................................................................................................................................................................................. الطوائف اليت ضلت يف القدر
100
..................................................................................................................................................................................... الطائفة األولى :الجبرية
* وهم الذين قالوا :إن العبد مجبور على عمله ،وليس له فيه إرادة
103
.........................................................................................................................................................................................الطائفة الثانية :القدرية
107
...................................................................................................................* الرد على من احتج بالمعاصي على القدر
111
............................................................................................................................................. * وسطية أهل السنة بين الطائفتين
114
....................................................................................................................................................... مقتطفات من كالم العلماء يف القضاء والقدر
124
........................................................................................................................................................................................................................... مسائل حول القدر
124
...........................................................................................................................................المسألة األولى :الرضا بالقضاء والقدر
130
.................................................................................................................................................... المسألة الثانية :منشأ القضاء والقدر
139
....................................................................................................................... المسألة الرابعة :العباد مخيرون غير مجبورون
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 262
142
................................................................................................................................................... المسألة الخامسة :فعل العبد وكسبه
145
.....................................................................................................................المسألة السابعة :اآلثار المترتبة على فعل العبد
147
................................................................................................................................. المسألة التاسعة :إضافة الفعل إلى اإلنسان
150
............................................................................................... المسألة الحادية عشر :اإلرادة الشرعية واإلرادة الكونية
153
............................................................................................................... المسألة الثانية عشر :من أسباب إضالل اهلل للعبد
155
................................................................................................................................. المسألة الثالثة عشر :الطبع والختم والقفل
157
............................................................................................................................................................. المسألة الرابعة عشر :اإلخالص
158
....................................................................................................................................... المسألة الخامسة عشر :من خلق العدم؟
159
..................................................................................................................................................... الشر العدمي والشر الوجودي
167
.................................................................................................................................. المسألة السادسة عشر :العقوبة على العدم
169
......................................................................................................................................المسألة السابعة عشر :اهلل منزه عن الظلم
173
................................................................................................................. المسألة الثامنة عشر :العقوبة المترتبة على المنع
175
.............................................................................................................................................. المسألة التاسعة عشر :الرضا واإلعانة
177
.................................................................................................................................. المسألة العشرون :التعوذ من سوء القضاء
179
.................................................................................................... المسألة الحادية والعشرون :الدعاء سبب لرد القضاء
194
..................................................................................... المسألة الثالثة والعشرون :هل أراد اهلل المعصية من العبد؟
198
....................................................................................................................................................................................................................................... مسألة حمرية
210
........................................................................................................................................................................................................ اخلالصة يف مسألة القدر
230
................................................................................................................................................................................................................................................... اخلامتة
231 فهرس املصادر واملراجع
..............................................................................................................................................................................................................
257
.................................................................................................................................................................................................. فهرس املوضوعات والفوائد
*****
القضاء والقدر عند أهل السنة واجلماعة 264