You are on page 1of 19

26

‫زرياب‬
‫ا�س والمروء ِة"‬
‫"معلّ ُم النّ ِ‬
‫الأ�سمرُ المجهو ُل‬
‫فقد‬
‫يعرف) الكثي َر عنهما‪ْ ،‬‬ ‫يجهل (ال ُ‬ ‫كان ُ‬ ‫نف�س ِه‪ ،‬والعن �أ�ص ِل ِه‪ ،‬بل َ‬ ‫يعرف الكثي َر عن ِ‬ ‫يكن ُ‬ ‫لم ْ‬
‫يعرف هوي َة‬ ‫كان ال ُ‬ ‫يعرف ل ُه �أب ًا �أو �أ ّم ًا �أو موطن ًا‪ ،‬ح َّتى �أ َّن ُه َ‬
‫ويجهل �أه َلهُ‪ ،‬وال ُ‬ ‫ُ‬ ‫يجهل َ‬
‫قومهُ‪،‬‬ ‫كان ُ‬ ‫َ‬
‫كان يعر ُف ُه هو‬ ‫ا�سم علي‪َ ،‬وم ْن الذي كنَّا ُه بكني ِة (�س ّما ُه) �أبي الح�سن‪ ،‬ك ُّل ما َ‬ ‫الذي وه َب ُه (�أعطا ُه) َ‬
‫ا�سي‬‫(الحاكم) الع ّب ّ‬
‫ُ‬ ‫بزرياب‪ ،‬و أ� ّن ُه غال ٌم �أ�سو ُد‪ ،‬يمل ُك ُه الخليف ُة‬
‫َ‬ ‫نافع الملق ُّب‬‫�أ َّن ُه �أبو الح�سن علي بن ٍ‬
‫غم من و�ضاع ِة‬ ‫كان ي�شع ُر على ال ّر ِ‬ ‫العبيد في ق�صرِ الخالف ِة‪ ،‬ولك َّن ُه َ‬ ‫المئات من ِ‬ ‫ِ‬ ‫بين‬ ‫المهدي‪ ،‬و أ� ّن ُه ُ‬
‫يعي�ش َ‬ ‫ّ‬
‫تعرف‬ ‫كانت �آما ُل ُه كبيرةً‪ ،‬ال ُ‬ ‫فقد ْ‬ ‫ِ‬
‫االختالف‪ْ ،‬‬ ‫العبيد والموالي ك ّل‬ ‫ِ‬ ‫(حقار ِة) �أ�ص ِل ِه ب أ� ّن ُه مختلفٌ ع َّمن حو َل ُه من‬
‫عر�ش‬ ‫عر�ش مثل ِ‬ ‫لي�س على ٍ‬ ‫عر�ش ما‪َ ،‬‬ ‫يحلم ب�أن يتر َّب َع على ٍ‬ ‫وكان ُ‬ ‫للكفاح من �أجلِ تحقي ِق َها‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫وكان م�ستعد ًا ك ّل اال�ستعدا ِد‬
‫الحدو َد‪َ ،‬‬
‫وي�سج ُل ا�س َم ُه في ِ�سفْرِ‬
‫عر�ش ٍ يجع ُل ُه بين الخالدين‪ّ ،‬‬ ‫نوع �آخر‪ٍ ،‬‬ ‫عر�ش من ٍ‬ ‫�شيد‪ ،‬ولكن على ٍ‬ ‫المهدي �أو الخليف ِة هارون ال َّر ِ‬‫ّ‬ ‫الخليف ِة‬
‫لي�ست من النقو ِد والجواهرِ بل ثرو ًة من الألحانِ وال�شُّ هر ِة‬ ‫يملك ثرو ًة عظيم ًة‪ ،‬ثرو ًة ْ‬ ‫كان يتمنَّى �أن َ‬ ‫(كتاب كبيرٍ ) عظما ِئ َها‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫والمجد‪.‬‬
‫المو�سيقي‬
‫ّ‬ ‫ال�سعيد َة التي التحقَ بها ب�إ�سحاقَ المو�ص ّل ّي‪ ،‬ذلك‬ ‫تلك ال ّلحظ َة ّ‬ ‫هو ال يذك ُر الكثي َر عن طفول ِت ِه‪ ،‬ولك َّن ُه يذك ُر تمام ًا َ‬
‫(رئي�س) المغنين‪.‬‬ ‫َ‬ ‫إمام‬
‫كان � َ‬ ‫فقد َ‬ ‫والعزف‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫والمغ ِّن ّي الم�شهور في بغداد‪ ،‬والمق َّرب من الخليف ِة؛ لي�أخذَ ع ُن ُه (ليتع ّل َم م ُنهُ) الغنا َء‬
‫أم�سك لأ ّولِ مر ٍة في حيا ِت ِه عود ًا (�آل ًة مو�سيق ّي ًة �شرقي ًة)‪ ،‬وجذ َب ُه �إلى �صد ِر ِه‪ ،‬و�شر َع (بد َ�أ)‬ ‫ال�سعاد ِة؛ لأ َّن ُه � َ‬‫يومها كا َد يطي ُر من ّ‬
‫كان ُ‬
‫يحفظ َها‪.‬‬ ‫ببع�ض الأغاني التي َ‬ ‫�صدح (غنَّى) ِ‬ ‫يح ِّر َك �أوتا َر ُه‪ ،‬ثم َ‬
‫كان‬ ‫وت‪ ،‬فقد َ‬ ‫ال�ص ِ‬ ‫زرياب‪ ،‬وهو طائ ٌر �أ�سو ُد ال ّلونِ جمي ُل َّ‬ ‫َ‬ ‫يوم َها بلقبِ‬ ‫كان �صو ُت ُه جمي ًال رقيق ًا‪ ،‬ي�سح ُر من ي�سم ُعهُ‪ ،‬ف ُلق َِّب من ِ‬ ‫َ‬
‫العج‪ ،‬وهو ما يدو ُر في قلبِ الإن�سانِ من م�شاعر)‬ ‫ولواعج (جم ُع ٍ‬ ‫َ‬ ‫زرياب قادر ًا على �أن يغ ِّر َد كالع�صافيرِ ‪ ،‬و�أن يح ِّولَ ال َ‬
‫أحزان‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫والكلمات �إلى �ألحانٍ ‪.‬‬ ‫القلبِ والأُ ِ‬
‫منيات‬
‫‪27‬‬
‫المزيد من �سحرِ الألحانِ التي‬
‫َ‬ ‫وكان على ثق ٍة من � ّأن هناك‬
‫أنغام والألحانِ ‪َ ،‬‬ ‫أعذب ال ِ‬‫ويدا ُه كانتا قادرتين على مداعب ِة الأوتار و�صن ِع � ِ‬
‫يهب (يعطي) للب�ش ّر ّي ِة ما لم‬ ‫وتنغيم ك ّل ٍ‬
‫�صوت ي�سم ُع ُه‪ ،‬لع َّل ُه ُ‬ ‫ِ‬ ‫كان يطي ُل اال�ستغراقَ في �سما ِع �ألحا ِن ِه‪،‬‬ ‫َ‬
‫ولذلك َ‬ ‫لم يكت�شف َها الب�ش ُر بعد‪،‬‬
‫تعرف ُه بعد من �ألحانٍ ‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫يملك ال ّدنيا وما فيها‪ ،‬تمنّى‬ ‫بع�ض الألحانِ لي�شع َر ب أ� َّن ُه �سعي ٌد‪ ،‬وب أ� َّن ُه ُ‬ ‫يعزف َ‬ ‫كان يكفيه �أن َ‬ ‫بالخوف َ‬ ‫ِ‬ ‫كان ي�شع ُر بالحزنِ �أو‬ ‫عندما َ‬
‫كان طوي ًال جد ًا‪.‬‬ ‫لكن الطريقَ �إلى �أمني ِت ِه َ‬ ‫رب (الغناء)‪ّ ،‬‬ ‫الط ِ‬ ‫ملك َّ‬ ‫ي�صبح َ‬ ‫َ‬ ‫عر�ش الألحانِ ‪ ،‬و�أن‬ ‫من ك ّل قل ِب ِه �أن يتر َّب َع على ِ‬
‫(تعب)‪� ،‬أ َّما في‬ ‫دون كللٍ ٍ‬ ‫�ستاذ ِه المبد ِع �إ�سحاق المو�ص ّلي َ‬ ‫يدي ُ�أ ِ‬ ‫(بحب)‪ ،‬و ُيق ِب ُل على تعلُّ ِم َها على ّ‬ ‫ّ‬ ‫كان ي�سم ُع المو�سيقى ٍ‬
‫ب�شغف‬ ‫َ‬
‫أ�صبح) في فتر ٍة ق�صير ٍة على معرف ٍة كبير ٍة ووا�سع ٍة‬ ‫والعلم‪ ،‬حتى غدا (� َ‬ ‫ِ‬ ‫الدرا�س ِة‬ ‫(يقبل) على ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ينكب‬
‫فكان ُّ‬ ‫فراغ ِه القليل ِة‪َ ،‬‬ ‫أوقات ِ‬ ‫� ِ‬
‫ِ‬
‫وباختالف طبائع َها‬ ‫ال�سبع ِة‪،‬‬ ‫وبال�سيا�س ِة‪ ،‬وبق�سم ِة ال ِ‬
‫أقاليم ّ‬ ‫وبالطبِ وبالفل�سف ِة ّ‬ ‫وبالفلك ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ّجوم‬‫آداب‪ ،‬وعالم ًا بالن ِ‬ ‫رف وال ِ‬ ‫الظ ِ‬‫بفنونِ ّ‬
‫الملوك)‪.‬‬‫ِ‬ ‫وبلطف المعا�شر ِة‪ ،‬وبمهار ِة الخدم ِة الملوكي ِة (خدم ِة‬ ‫َِ‬ ‫و�أهوي ِت َها (جم ُع هواء)‪،‬‬
‫وكان حل ُم ُه �أن يلتقي بالخليف ِة هارون ال ّر ِ‬
‫�شيد‪،‬‬ ‫آالف مقطوع ٍة من الأغاني ب�ألحا ِن َها‪َ ،‬‬ ‫حفظ ع�شر َة � ٍ‬ ‫وكان �إلى جانب ذلك ك ّله قد َ‬ ‫َ‬
‫يتخذ ُه (يجع ُل ُه) هارون‬ ‫فقد ُ‬ ‫يعلم ْ‬ ‫كتلك التي يحظى ِب َها معل ُم ُه �إ�سحاقُ المو�ص ّلي‪َ ،‬وم ِْن ُ‬ ‫عند ُه بمكان ٍة رفيع ٍة َ‬ ‫و�أن يحظى (ينالَ ) َ‬
‫نف�س ُه) لهذا اللقا ِء الذي �سيغ ِّي ُر مجرى حيا ِت ِه‪.‬‬ ‫وكان ُيع ّد ال ِعد َة (يج ّه ُز َ‬ ‫�شيد مغني ًا ل ُه‪َ ،‬‬ ‫ال ّر ِ‬
‫كتب ل ُه �أن يتك ّر َر‪،‬‬
‫لقاء لم ُي ْ‬ ‫(زرياب) في ٍ‬ ‫َ‬ ‫الط ِ‬
‫رب‬ ‫وملك ّ‬ ‫�شيد) ِ‬ ‫(هارون ال ّر ِ‬
‫َ‬ ‫ملك ِ‬
‫العرب‬ ‫التاريخي ال ُمنتظ ُر بين ِ‬ ‫ّ‬ ‫وكان ال ّلقا ُء‬
‫َ‬
‫ألزم �إ�سحاقُ المو�ص ّل ّي َ‬
‫نف�س ُه‬ ‫والطريف من الغنا ِء والمو�سيقى‪ ،‬وقد � َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الجديد‬ ‫هارون ال ّر�شيد �إلى �سما ِع‬ ‫ُ‬ ‫نف�س الخليف ِة‬
‫ا�شتاقت ُ‬‫ْ‬ ‫فقد‬
‫ْ‬
‫اب الأ�سو َد‬ ‫�شيد ال�شّ َ‬‫هارون ال ّر ُ‬ ‫ُ‬ ‫�شيد لأ ّول مر ٍة‪� .‬س�ألَ‬ ‫فقد َم زرياب �إلى هارون ال ّر ِ‬ ‫�شيد‪َّ ،‬‬ ‫بتلبي ِة (تحقيقِ ) رغب ِة الخليف ِة هارون ال ّر ِ‬
‫عند َك‬‫يح�سن إ� َّال َ‬
‫ُ‬ ‫ّا�س‪ ،‬و�أكث ُر ما أُ�ح�سن ُه ال يح�سنون ُه‪ ،‬مما ال‬ ‫يح�سن الن ُ‬‫ُ‬ ‫ح�سن م ُن ُه ما‬ ‫زرياب‪ :‬نعم‪ ،‬أُ� ُ‬ ‫ُ‬ ‫يجيد الغنا َء؟ فقالَ‬ ‫كان ُ‬ ‫�إن َ‬
‫ّيتك ما لم ت�سمع ُه �أذ ٌن من قبل؟‬ ‫(�سمحت) غن َ‬ ‫َ‬ ‫أذنت‬
‫لك‪ ،‬ف� ْإن � َ‬ ‫بك)‪ ،‬وال ُي َّدخ ُر ( ُيخ َّب�أ) �إ َّال َ‬ ‫(ال يليقُ �إ ّال َ‬
‫بنف�س ِه‪،‬‬
‫عود �صن َع ُه ِ‬ ‫يعزف على ٍ‬ ‫وف�ض َل �أن َ‬ ‫يعزف على عو ِد � ِ‬
‫أ�ستاذ ِه‪ّ ،‬‬ ‫رف�ض �أن َ‬ ‫زرياب الذي َ‬ ‫أنغام َ‬ ‫تح َّم َ�س ال ّر�شي ُد ل�سما ِع � ِ‬
‫أ�ستاذ ِه‪� ،‬أوتا ُر ُه من الحريرِ الذي لم ُيغزلْ بما ٍء �ساخنٍ يك�س ُب ُه رخاوةً‪.‬‬ ‫ثلث وزنِ عو ِد � ِ‬ ‫كان عود ًا في ِ‬ ‫وقد َ‬ ‫ْ‬
‫زرياب يغني قائ ًال‪:‬‬ ‫ثم اندف َع ُ‬
‫ّا�س وابتكروا‬ ‫إليك الن ُ‬‫راح � َ‬ ‫هارون َ‬ ‫ُ‬ ‫الميمون طائ ُر ُ ه‬‫ُ‬ ‫يا �أ ُّيها ُ‬
‫الملك‬ ‫ ‬
‫(مد َح ُه)‪ ،‬و�شك َر‬ ‫زرياب َ‬
‫َ‬ ‫و أ� ّمت ق�صيد َت ُه املغنا َه‪ ،‬عندها كا َد ال ّر�شي ُد يط ُري طرب ًا مبا �سم ُع‪ ،‬و�أثنى على‬
‫تلميذ ِه �إلى حين يفر ُغ ل ُه؛ لأنّه َ‬
‫وجد عند ُه‬ ‫يح�سن �إلى ِ‬ ‫َ‬ ‫إ�سحاق املو�ص ّل ّي على هذا اللقاء‪ ،‬و�أم َر �إ�سحاقَ ب�أن‬ ‫� َ‬
‫وح�سن الأدا ِء‪ ،‬وتو ّق َع ل ُه م�ستقب ًال‬ ‫ِ‬ ‫حن‪،‬‬ ‫وت‪ ،‬وعذوب ِة ال ّل ِ‬ ‫ال�ص ِ‬‫عند غيرِ ِه من المغنين من جمالِ ّ‬ ‫ما لم يجده َ‬
‫�شيد ليق ّبلهما‪� ،‬أ ّما‬‫هارون ال ّر ِ‬‫َ‬ ‫يدي‬
‫كب (ينحني) على ّ‬ ‫زرياب بما �سم َع‪ ،‬وكا َد ُي ُّ‬ ‫َ‬ ‫(فرح)‬
‫قلب َ‬ ‫باهر ًا‪ .‬طا َر ُ‬
‫(حبال) قل ِب ِه تتمز َُّق غير ًة وح�سد ًا من طال ِب ِه الموهوبِ ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كانت ُ‬
‫نياط‬ ‫�إ�سحاق فق ْد ْ‬

‫‪29‬‬
‫الرّحي ُل عن بغداد‬
‫زرياب‪،‬‬
‫َ‬ ‫حد�س (تو ّق ُع)‬
‫ُ‬ ‫عيني � ِ‬
‫أ�ستاذ ِه ما لم ير ُه في عينيه من قبل‪ ،‬و�صدقَ‬ ‫فقد ر�أى في ّ‬ ‫الرغم من �سعاد ِت ِه‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫زرياب قلق ًا على‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫َ‬
‫أقدم الأدواء‬ ‫الح�سد � ُ‬‫َ‬ ‫باد (ظاه ٌر) في عينيه‪ :‬يا علي � َّإن‬‫والغ�ضب ٍ‬
‫ُ‬ ‫ف�سرعان ما خال �إ�سحاق المو�ص ّل ّي بطال ِب ِه النّبيه (الذَّ كي)‪ ،‬وقالَ ل ُه‬
‫َ‬
‫ال�صناع ِة عداوةٌ‪ ،‬ال حيل َة (ال طريق َة) في ِ‬
‫ح�سم َها‬ ‫المر�ض) و�أدواها (�أ�ش ّدها فتك ًا)‪ ،‬وال ّدنيا ف َّتان ٌة‪ ،‬وال�شرك ُة في ِّ‬ ‫ُ‬ ‫(جم ُع ٍ‬
‫داء‪ ،‬وهو‬
‫عند الخليف ِة هارون ال ّر ِ‬
‫�شيد‪� .‬أما ُم َك‬ ‫(الق�ضا ِء عليها)‪ ،‬وقد �ساءني تفو ُق َك و�إجادت َُك‪ ،‬و�أخ�شى �أن ت�أخذَ حظو ِتي (منزلتي المرتفع َة) َ‬
‫لك خبر ًا بعد �أن تعطيني على ذلك ال َ‬
‫أيمان المو َّثق َة‬ ‫أر�ض العري�ض ِة (ت�ساف ُر)‪ ،‬ال �أ�سم ُع َ‬‫تذهب عني في ال ِ‬ ‫ثالث لهما‪� ،‬إ َّما �أن َ‬‫خياران ال َ‬
‫قاتلك ال محالة (بال َّت�أكيد)‪.‬‬ ‫تقيم على كرهي‪ ،‬و إ�نّي َ‬ ‫أردت من مالٍ ‪ ،‬و إ� ّما �أن َ‬‫ذلك بما � َ‬‫أ�ساعدك) على َ‬ ‫َ‬ ‫(الأكيدةَ)‪ ،‬و� َ‬
‫أنه�ضك (�‬

‫‪30‬‬
‫و�سوف يهج ُر �أ�ستاذَ ُه الذي تتلمذَ (تع َّل َم)‬ ‫زرياب قلي ًال‪ ،‬و�شع َر بحزنٍ كبيرٍ ؛لأ ّن ًُه �سيفارقُ بغداد التي يح ّبها‪َ ،‬‬ ‫�صمت ُ‬ ‫َ‬
‫يعلم‬
‫كان ُ‬ ‫�شيء‪ ،‬كما َ‬ ‫أ�ستاذ ِه وغ�ض ِب ِه �أكب ُر من ك ّل ٍ‬‫ح�سد � ِ‬ ‫كان مت�أكد ًا من � ّأن َ‬ ‫أر�ض ال يعر ُف َها‪ ،‬ولك ّن ُه َ‬ ‫و�سوف ي�ساف ُر �إلى � ٍ‬ ‫َ‬ ‫على يديه‪،‬‬
‫يملك ع ْون ًا‪ ،‬عندها ق ّر َر �أن ي�أخذَ‬ ‫ال�ضعيف الأ�سو ُد الذي ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫ال�سهلِ علي ِه �أن يقت َل ُه‪ ،‬وهو‬ ‫� ّأن �أ�ستاذَ ُه ل ُه نفو ٌذ في ال ّدول ِة‪ ،‬ومن ّ‬
‫ال�سالم ِة‪ ،‬و�أن يغاد َر بغداد دون رجع ٍة‪ ،‬فينجو ِ‬
‫بنف�س ِه وب�أه ِل ِه وبف ِّن ِه‪.‬‬ ‫درب (طريقَ ) ّ‬ ‫(ي�سلك) َ‬ ‫َ‬
‫أقبل يا معلمي بمغادر ِة‬ ‫أ�ستاذ ِه الذي كان ينتظ ُر قرار ُه بفار ِغ ال�صبرِ ‪ ،‬وقالَ بانك�سا ٍر وحزنٍ �شديدين‪ُ � :‬‬ ‫زرياب في عيني � ِ‬ ‫ُ‬ ‫نظ َر‬
‫بغداد مع �أهلي‪.‬‬
‫َ‬
‫رحلتك‪.‬‬ ‫أعطيك) بالمالِ لأجلِ‬ ‫عظيم‪ :‬و�أنا �س�أم ّد َك (�س� َ‬ ‫بارتياح ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وقد �شع َر‬‫قالَ �إ�سحاقُ المو�ص ّل ّي ْ‬
‫حزم متاعي و�إخبا ِر زوجتي وعيالي‪.‬‬ ‫أيام عندما انتهي من ِ‬ ‫بعد � ٍ‬
‫زرياب‪� :‬س�أغاد ُر بغداد َ‬ ‫ُ‬ ‫قالَ‬
‫تكون بغداد لي وحدي‪.‬‬ ‫ال�صباح ُ‬
‫ِ‬ ‫ال�شم�س‪ ،‬وفي‬
‫ِ‬ ‫ترحل الليل َة مع ِ‬
‫غياب‬ ‫بحزم‪ :‬بل ُ‬ ‫ٍ‬ ‫قالَ �إ�سحاقُ‬
‫با�ست�سالم‪ :‬كما ت�شا ُء يا �أ�ستاذي‪� ،‬س� ُ‬
‫أرحل الليل َة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫زرياب‬
‫ُ‬ ‫قالَ‬
‫القليل‪ ،‬ويخرجون مت�س ّللين‬ ‫متاعهم َ‬ ‫زرياب وزوجتُه و�أوال ُده يحملون َ‬ ‫كان ُ‬ ‫أمن‪ ،‬و َ‬ ‫كانت بغداد تغرقُ في الن ِ‬
‫ّوم وال ِ‬ ‫تلك ال ّليل ِة ْ‬ ‫في َ‬
‫خارج �أ�سوا ِر بغداد‪ ،‬و�ص ّر ُة المالِ التي وهبها (�أعطاها)‬ ‫رجال �إ�سحاقَ المو�ص ّل ّي الذين �أو�صلوهم �إلى ِ‬ ‫(�س ّر ًا) من بغداد‪ ،‬يحر�س ُهم ُ‬
‫أدرك‬ ‫وداع �أخير ٍة على بغداد‪� ،‬إذ � َ‬ ‫كان ي�شع ُر بحزنٍ كبيرٍ وهو يلقي نظر َة ٍ‬ ‫زرياب‪ ،‬الذي َ‬ ‫يملك ُ‬ ‫لتلميذ ِه المطرو ِد هي ك ّل ما ُ‬ ‫ِ‬ ‫�إ�سحاقُ‬
‫اليوم‪.‬‬
‫بعد ِ‬ ‫بعد ُه‪ ،‬و أ� ّن ُه لن يرى بغداد َ‬ ‫بقل ِب ِه ال ّرقيقِ �أ ّن ُه فرا ٌق ال لقا َء َ‬
‫يملك غي َر َها‪ ،‬و ُطر َد ب�سببها من‬ ‫زرياب عو َد ُه‪ ،‬وغنَّى طوي ًال‪ ،‬وق ّر َر � ّأن يو ّد َع بغداد ب�ألحا ِن ِه الجميل ِة التي ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫ح�ضن‬
‫َ‬ ‫في ليل ِتها‬
‫المدين ِة التي يح ّبها‪.‬‬
‫زرياب ق ْد‬
‫َ‬ ‫زرياب ل�سما ِع �ألحا ِن ِه‪ ،‬ف�أعلم ُه (�أخبر ُه) �إ�سحاقُ المو�ص ّل ّي � َّأن‬ ‫َ‬ ‫طلب ر�ؤي َة‬
‫ف�سرعان ما َ‬
‫َ‬ ‫�أ ّما الخليفة هارون ال ّر�شيد‬
‫زرياب‬
‫َ‬ ‫أ�سف على م�صيرِ‬ ‫هارون ال ّر�شيد �أ�ش َّد ال ِ‬
‫ُ‬ ‫(يدرك) ما يفع ُل‪َ � ،‬‬
‫أ�سف‬ ‫ُ‬ ‫بالجنونِ )‪ ،‬ولم يع ْد يعي‬ ‫�صيب ّ‬ ‫م�س من الجنونِ (�أُ َ‬ ‫�أ�صا َب ُه ٌّ‬
‫العربي ك ّله‪� ،‬إلى �أن‬ ‫ّ‬ ‫هارون ال ّر ِ‬
‫�شيد وفي الم�شرقِ‬ ‫َ‬ ‫لزرياب في ِ‬
‫بالط‬ ‫َ‬ ‫وكان هذا �آخر ذكرٍ (خبرٍ )‬ ‫كان يتو ّق ُع ل ُه م�ستقب ًال زاهر ًا‪َ .‬‬ ‫الذي َ‬
‫أندل�س (�إ�سبانيا)‪.‬‬
‫جديد في ال ِ‬ ‫�سط َع نج ُم ُه (�أُ�شتُه َر) من ٍ‬

‫‪31‬‬
‫الرّحل ُة الم�ضني ُة (المتعب ُة)‬
‫يعرف في ال ّدنيا �إ َّال بغداد‪ ،‬و�أخير ًا ق َّر َر �أن ّ‬
‫يتوج َه �إلى‬ ‫كان حائر ًا‪ ،‬فهو ال ُ‬ ‫أين يو ّلي وج َه ُه (ي َّتج ُه)‪ ،‬فقد َ‬
‫زرياب يدري �إلى � َ‬
‫ُ‬ ‫يكن‬
‫لم ْ‬
‫كان بالد ًا جديد ًة يط ؤ� َُها (يدخُ ُل َها) ُ‬
‫العرب‬ ‫العربي‪ ،‬الذي َ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫المغرب‬ ‫وتوج َه �إلى‬
‫أحالم ُه‪ ،‬لذا �سرعان ما غادرها‪ّ ،‬‬ ‫ال�شّ ِام‪ ،‬لكنّها لم ْ‬
‫تكن تل ّبي � َ‬
‫والخا�ص ِة (الح ّك ِام و�ساد ِة ِ‬
‫القوم)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كان يبحثُ ع ُن ُه في بغداد من �شهر ٍة و� ٍ‬
‫إبداع وتقديرٍ من العا ّم ِة‬ ‫يجد فيها ما َ‬ ‫الم�سلمون‪ ،‬وتمنّى �أن َ‬

‫‪32‬‬
‫المغرب (�شمال �إفريقيا)‪ ،‬تج�شَّ َم (تح َّم َل) فيها وزوج ُت ُه و�أوال ُد ُه الكثي َر من المتاعبِ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫زرياب رحل ًة طويل ًة وم�ضني ًة (متعب ًة) �إلى‬ ‫وبد أَ� ُ‬
‫كان يحدو ُه‬ ‫أمل َ‬ ‫ولكن ال َ‬
‫زرياب‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫المجهول ينتظ ُر ُ‬ ‫كان‬
‫ينفد (ينتهي)‪َ .‬‬ ‫المغرب �أن َ‬ ‫ِ‬ ‫وكا َد مالهم الذي �أنفقوا معظم ُه في رحل ِتهم الطويل ِة �إلى‬
‫ال�صمو ِد‪ ،‬فلطالما‬ ‫وكان ح ّب ُه لأوالد ِه وزوجت ِه وعزف ِه على عود ِه طوالَ ال ّرحل ِة هما اللذان �ساعداه على ّ‬ ‫(يدفع ُه) �إلى موا�صل ِة رحلت ِه‪َ ،‬‬
‫العزف على العو ِد‪ ،‬وير ّددون بع�ض ًا من الأغاني‬ ‫ِ‬ ‫(كثير ًا) ا�سترقَ النّظ َر (نظ َر خفي ًة) �إلى بنيه‪ ،‬و�أ�سعد ُه �أن يراهم يحاولون تقليد ُه في‬
‫كان يطربهم بها‪.‬‬ ‫التي َ‬
‫وكانت الإقام ُة عند ُه‬
‫أغلبي �سلطانِ (حاكم) القيروانِ بجوا ِر تون�س‪ْ ،‬‬ ‫هلل الأ ّولِ ال ّ‬ ‫ونزل في خدم ِة زياد ِة ا ِ‬ ‫المغرب‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫زرياب �إلى‬
‫و�صل ُ‬ ‫و�أخير ًا َ‬
‫(طلب م�ساعد ِة‬‫ال�س� َؤال َ‬ ‫لذلك فق ْد و�ص َل ُه (�أعطاه) بما يكفيه ّ‬ ‫زرياب وعز ِف ِه‪ ،‬و َ‬ ‫لل�سلطانِ �أن ي�سم َع غنا َء َ‬ ‫(يطيب) ّ‬‫ُ‬ ‫وكان يل ّذ‬‫طيب ًة وهادئ ًة‪َ ،‬‬
‫�سمح له ب�أن يطي َر في �سما ِء المو�سيقى التي يع�شقها‪.‬‬ ‫هلل الأ ّولِ ‪ ،‬ال ُي ُ‬ ‫قف�ص زياد ِة ا ِ‬ ‫زرياب بقي ي�شع ُر ب�أ ّن ُه طائ ٌر ك�سي ٌر في ِ‬ ‫ولكن َ‬ ‫ّا�س)‪َّ ،‬‬ ‫الن ِ‬
‫عر�ش‬ ‫بالط � ّأي �سلطانٍ ‪� ،‬إذْ َ‬
‫كان يري ُد �أن ُيت َّو َج على ِ‬ ‫يكون مغنّي ًا متوا�ضع ًا (منزلت ُه �صغيرةٌ) في ِ‬ ‫زرياب يتجاو ُز �أن َ‬ ‫َ‬ ‫طموح‬
‫كان ُ‬ ‫فقد َ‬ ‫ْ‬
‫ي�صبح ح ّر ًا)؛ ليجري كالخيلِ الب ّر ّي ِة في حقولِ موهب ِت ِه الفذَّ ِة (المم ّيز ِة)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫العنان (�أن‬
‫َ‬ ‫رب‪ ،‬و�أن ُيطلقَ له‬ ‫الط ِ‬ ‫ّ‬
‫زرياب �سواد ُه (�سخ َر من‬ ‫عاب على َ‬ ‫زرياب و�سلطانِ القيروانِ الذي َ‬ ‫و�شاءت حكم ُة اهلل تعالى �أن تق َع خ�صوم ٌة (�شجا ٌر وعداوةٌ) بين َ‬ ‫ْ‬
‫زرياب �إ َّال �أن غنّى ق�صيد ًة مطلعها (بداي ِت َها)‪:‬‬ ‫كان من َ‬ ‫زرياب؛لأ ّن ُه �أ�سو ُد ال ّلونِ )‪ ،‬فما َ‬ ‫َ‬
‫مـن �أبـنــاء حــام بهـا عبتني‬ ‫فـ ـ� ْإن تـ ُـك � ِّأم ــي غــرابيـ ً ة‬ ‫ ‬
‫و�سم ــرِ الـعـوالي �إذا جئتـني‬ ‫ُ‬ ‫الظبا ‬ ‫ف�إ ِّني لطيفٌ ببي�ض ِّ‬ ‫ ‬
‫الحرب �أو ُقدتني‬‫ِ‬ ‫لقدت َُك في‬ ‫يوم الوغى ‬ ‫َ‬
‫فرارك َ‬ ‫ولــوال‬ ‫ ‬
‫�ضربت‬
‫ُ‬ ‫بعد ثالث ِة � ٍ‬
‫أيام‬ ‫�شيء من بلدي َ‬ ‫وجدتك في ٍ‬ ‫َ‬ ‫بجلد ِه‪ ،‬ثم قالَ ل ُه‪ْ � :‬إن‬
‫زرياب‪ ،‬و�أم َر ِ‬ ‫َ‬ ‫ال�سلطان غ�ضب ًا �شديد ًا من‬‫ُ‬ ‫غ�ضب‬
‫َ‬ ‫عندها‬
‫(قطعت) َ‬
‫عنقك‪.‬‬ ‫ُ‬
‫�ستكون نهايتها‪ ،‬وق ّر َر �أن يتج َه هذه المرة‬ ‫ُ‬ ‫يعرف ماذا‬ ‫زرياب �أمتعت ُه‪ ،‬وانطلقَ وزوج ُت ُه وعيا ُل ُه في رحل ًٍة جديد ٍة ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫حزم‬
‫ومر ًة �أخرى َ‬
‫باالحترام وبالتّقديرِ ‪ ،‬وانطلقَ �إلى‬
‫ِ‬ ‫هناك ح�ضار ًة عظيم ًة‪ ،‬وحيثُ ُيالقى العلما ُء والموهوبون‬ ‫العرب َ‬ ‫أندل�س (�إ�سبانيا) حيثُ ي�شه ُد ُ‬ ‫�إلى ال ِ‬
‫ُعرف با�سم الجزير ِة‬ ‫أطل�سي)‪ ،‬ور�سا في منطق ٍة ت ُ‬ ‫(المحيط ال ّ‬ ‫َ‬ ‫فقد عب َر مع عائلت ِه بح َر الزِّ قاقِ‬ ‫العزم على فع ِل ِه)‪ْ ،‬‬ ‫عقد َ‬ ‫تنفيذ ني ِت ِه (ما َ‬ ‫ِ‬
‫ي�شرح له فيها موهبت ُه ومقدرت ُه‪ ،‬ف�س َّر‬ ‫بن ه�شامٍ‪ُ ،‬‬ ‫الحكم الأ ّو ُل ُ‬
‫ُ‬ ‫لملك قرطبة‪ ،‬وهو ٍ‬
‫حينئذ‬ ‫وكتب ر�سال ًة طويل ًة بلغ ٍة بليغ ٍة وجميل ٍة ِ‬ ‫الخ�ضرا َء‪َ ،‬‬
‫وطلب من ُه �أن ينزلَ عليه �ضيف ًا كريم ًا‪.‬‬ ‫كان معروف ًا ب�شغف ِه (بح ّب ِه) بالمو�سيقى‪َ ،‬‬ ‫الملك الذي َ‬ ‫بها ُ‬

‫‪33‬‬
‫و�صلت �أخبا ُر موت ِه �إلى َ‬
‫زرياب‬ ‫الملك الذي ْ‬ ‫تمهل َ‬
‫(الموت) لم ْ‬
‫َ‬ ‫زرياب بهذه ال ّدعو ِة‪ ،‬وا َّتج َه وعيا ُل ُه �إلى قرطبة‪ّ ،‬‬
‫ولكن المن ّي َة‬ ‫(فرح) ُ‬‫ُ�س َّر َ‬
‫المغني من�صور‬
‫ّ‬ ‫الحكم �إلي ِه‬
‫ِ‬ ‫لكن ر�سولَ‬
‫أدراج ُه (يرج ُع من حيث �أتى)‪ّ ،‬‬ ‫زرياب بخيب ِة �أملٍ كبير ٍة‪ ،‬وكا َد يعو ُد � َ‬ ‫وهو في ّ‬
‫الطريقِ �إليه‪ ،‬ف�شع َر ُ‬
‫أو�سط‪ ،‬الذي يفوقُ �أباه حب ًا للمو�سيقى‪،‬‬ ‫الجديد عبدال ّرحمن الثاني الملقّب بال ِ‬ ‫ِ‬ ‫اليهودي حاولَ �أن يقنع ُه ب�أن ينزلَ في �ضياف ِة ِ‬
‫الملك‬ ‫ّ‬
‫وكتب َل ُه ر�سال ًة عاجل ًة يخبر ُه‬ ‫بالتوجه �إلى ِ‬
‫الملك عبدال ّرحمن الثاني‪َ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫المغني �أخير ًا في �إقنا ِع َ‬
‫زرياب‬ ‫ّ‬ ‫ونجح‬
‫زرياب‪َ ،‬‬‫ورغب ًة في ا�ست�ضاف ِة َ‬
‫ال�ضياف ِة‪.‬‬
‫وبح�سن ّ‬
‫ِ‬ ‫بال�ضيف‪ ،‬وواعد ًا �إ ّيا ُه بال ِ‬
‫إكرام‬ ‫ِ‬ ‫الجديد مرحب ًا‬
‫ِ‬ ‫زرياب �إليه‪ ،‬فجا َء ر ُّد ِ‬
‫الملك‬ ‫بها ب�سيره مع َ‬

‫‪34‬‬
‫ُّ‬
‫الحظ يبت�س ُم لزريا َب‬
‫عام ‪822‬‬ ‫نف�س ُه في ِ‬ ‫خرج ُ‬
‫الملك ُ‬ ‫الملك عبدال ّرحمن الثاني‪� ،‬إذ َ‬ ‫عند ِ‬ ‫إكرام) َ‬ ‫(ح�سن ال ِ‬
‫َ‬ ‫زرياب �إذ تو ّق َع الحفاو َة‬
‫حد�س َ‬ ‫لقد �صدقَ ُ‬ ‫ْ‬
‫زرياب راتب ًا �شهري ًا ثابت ًا مقدار ُه مئتا دينا ٍر �شهري ًا‪،‬‬
‫للهجر ِة ال�ستقبال ِه على ر� ِأ�س جماع ٍة من الم�ستقبلين‪ ،‬ثم �أجرى (�أعطى)على َ‬
‫كذلك �أجرى راتب ًا �شهري ًا مقدار ُه ع�شرون دينار ًا على بنيه الذين قدموا معه‪ ،‬وكانوا حينها �أربع ًة‪ ،‬وهم‪ :‬عبدال ّرحمن‪ ،‬وجعفر‪،‬‬
‫أر�ض وبيوت ًا تق َّدر ب�أربعين �ألف دينارٍ‪.‬‬ ‫وعبداهلل‪ ،‬ويحيى‪ .‬كما وهب ُه (�أعطاه) ق�صر ًا ُ‬
‫ي�سكن فيه و�أه ُل ُه‪ ،‬وقطع َة � ٍ‬
‫الملك فيه ظرف ًا وذكا ًء و�أدب ًا وعلم ًا وموهب ًة مو�سيق ّي ًة فذَّ ًة‬
‫فوجد ُ‬ ‫الملك‪َ ،‬‬ ‫الطعام مع ِ‬ ‫ِ‬ ‫زرياب �إلى تناولِ‬
‫ُ‬ ‫وبعد ثالث ِة � ٍ‬
‫أيام ُدعي‬ ‫َ‬
‫(متف ّوق ًة) جعلت ُه يتخذ ُه �صديق ًا ونديم ًا‪.‬‬
‫ألحان والمو�سيقى في المكانِ ‪ ،‬بل وفي �أرجا ِء (�أنحا ِء) قرطب َة‪ ،‬وطا َر‬ ‫زرياب هو قيثار ُة (�آل ٌة مو�سيق ّي ٌة) الق�صرِ التي تبعثُ ال َ‬
‫أ�صبح ُ‬ ‫و� َ‬
‫(الذين يعزفون ب�شكلٍ ج ّي ٍد)‪ ،‬مثل‪ :‬من�صور اليهودي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫زرياب حتى لم يع ْد ُيذك ُر بوجو ِد ِه غيره من المغنين المجيدين‬ ‫نجم (ا�شتهر) َ‬ ‫ُ‬
‫المو�سيقي‪ ،‬وليتر ّب َع عليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(حان) ليبني عر�ش ُه‬‫الوقت قد � َآن َ‬
‫زرياب‪ ،‬و�شع َر ب� ّأن َ‬
‫نف�س َ‬ ‫وطابت ُ‬ ‫ْ‬ ‫المغني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وعلون‪ ،‬وزرقون‪ ،‬وال ّن ّ‬
‫�سائي‬
‫زريا ُب يقي ُم معهد ًا مو�سيقياً‬
‫لزرياب‪ ،‬وجعل ُه من �أ�صدقائ ِه‪،‬‬
‫َ‬ ‫بعد �أن ق َّد َم ُ‬
‫الملك المالَ‬ ‫وذلك َ‬ ‫الملك عبدال ّرحمن الثاني هانئ ًة و�سعيدةً‪َ ،‬‬ ‫كانت الحيا ُة بجوا ِر ِ‬
‫ْ‬
‫�شيء في حيات ِه)‪ ،‬حتى أ� ّن ُه َ‬
‫كان‬ ‫أهم ٍ‬ ‫كل حوا�س ِه (� َ‬
‫أ�صبح � َّ‬ ‫ملك العو ُد عليه َّ‬ ‫ِ‬
‫للعزف والغنا ِء‪ ،‬حتى َ‬ ‫زرياب‬
‫ُ‬ ‫عند َها انقط َع (تف َّر َغ)‬
‫َ‬
‫يكتمل‪،‬‬‫َ‬ ‫حلم به حتى‬
‫حن الذي َ‬ ‫بعزف ال ّل ِ‬‫أخذ ثالثتهم ِ‬ ‫حلم بلحنٍ ما‪ ،‬في�ستدعي جاريتيه غزالن وهنيدة‪ ،‬وي� ُ‬ ‫وقد َ‬ ‫ُ‬
‫ي�ستيقظ لي ًال ْ‬
‫ّوم‪.‬‬
‫زرياب عنه يعو ُد �إلى الن ِ‬
‫وعندما ير�ضى ُ‬
‫أ�ضاف وتر ًا خام�س ًا �إلى العو ِد‪ ،‬مما جعل ُه � َ‬
‫أعذب‬ ‫القرطبي‪ ،‬ف� َ‬
‫ّ‬ ‫بزرياب‬
‫َ‬ ‫أ�صبح ُيلقّب‬ ‫ألقت عبقري ُة زرياب َفي قرطبة َ‬
‫بعد �أن � َ‬ ‫وت� ْ‬
‫ِ‬
‫(الري�شات‬ ‫لتحريك �أوتا ِر العو ِد) العو ِد من ِ‬
‫قوادم‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ت�ستعمل‬ ‫م�ضراب (القطع َة التي‬
‫َ‬ ‫يزال كذلك حتى يومنا هذا‪ .‬كما َ‬
‫جعل‬ ‫�صوت ًا‪ ،‬وال ُ‬
‫�صوت العو ِد �أنقى رنين ًا‪� ،‬إلى جانبِ � ّأن‬‫أ�صبح ُ‬‫وبذلك � َ‬ ‫َ‬ ‫الجناح) ال ّن�سرِ بد ًال من رقيقِ الخ�شبِ ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الكبير ِة في مقدم ِة‬
‫أدوم عمر ًا للوترِ ‪.‬‬
‫أخف على الأ�صاب ِع من الخ�شبِ ‪ ،‬و� ُ‬ ‫َ‬
‫الري�ش � ّ‬
‫ِ‬
‫المقامات‪،‬‬ ‫العربي �أنواع ًا عديد ًة من‬
‫ّ‬ ‫زرياب � َ‬
‫أدخل �إلى الغنا ِء‬ ‫َ‬ ‫كما � ّأن‬
‫االلتزام‬
‫ُ‬ ‫أ�صبح‬
‫التزم بها المغنون فيما بعد‪ ،‬و� َ‬ ‫غناء جديد ٍة‪َ ،‬‬ ‫قوانين ٍ‬ ‫َ‬ ‫وو�ض َع‬

‫‪35‬‬
36
‫زرياب على نقلِ خال�ص ِة ف ّن ِه وموهبت ِه �إلى‬ ‫ُ‬ ‫وحر�ص‬
‫َ‬ ‫�شروط الغنا ِء الج ّي ِد‪.‬‬‫ِ‬ ‫بها �شرط ًا من‬
‫ِ‬
‫�سقوط‬ ‫لتعليم المو�سيقى والغنا ِء في قرطبة بقي قائم ًا حتى‬ ‫ِ‬ ‫يفتح معهد ًا‬
‫الآخرين‪ ،‬مما جعل ُه ُ‬
‫وكان نوا ًة‬ ‫لتعليم المو�سيقى والغنا ِء في ع�صرِ ه‪َ ،‬‬ ‫معهد ِ‬ ‫وكان �أ�شه ُر ٍ‬ ‫أندل�س‪َ ،‬‬ ‫الخالف ِة العربي ِة في ال ِ‬
‫نف�س ِه في طليطلة وبلن�سية و�إ�شبيلية وغرناطة‬ ‫للغر�ض ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن�شئت فيما بعد‬ ‫لمعاهد كثير ٍة أُ� ْ‬ ‫َ‬ ‫(�أ�سا�س ًا)‬
‫زرياب و قوانين ِه‬ ‫َ‬ ‫منهج‬
‫ِ‬ ‫وكانت ت�سي ُر َوفْقَ‬ ‫ْ‬ ‫العربي �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫المغرب‬ ‫أندل�س) بل وفي‬ ‫(مد ٌن في ال ِ‬
‫لدت الأغني ُة‬ ‫فقد ُو ْ‬ ‫العربي‪ْ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫زرياب عمود ًا من �أعمد ِة الغنا ِء‬ ‫َ‬ ‫العزف والغنا ِء‪ ،‬وهذا ما َ‬
‫جعل‬ ‫ِ‬ ‫في‬
‫حات (هي‬ ‫الخا�ص الذي م َّه َد لظهو ِر المو�شّ ِ‬ ‫ُ‬ ‫أ�صبح لها طاب ُعها‬ ‫الأندل�سي ُة الم�ستق ّل ُة في مدر�س ِت ِه‪ ،‬و� َ‬
‫الخا�ص‪ ،‬كما ج ّد َد في �شكلِ‬ ‫ِ‬ ‫ق�صائ ٌد لها �أوزا ٌن مخ�صو�ص ٌة)‪ ،‬وطب َع الأغني َة الأندل�سي َة بطاب ِعهِ ا‬
‫الألحانِ ‪ ،‬وم�ضمونِ الأغاني‪.‬‬
‫�صوت جميلٍ ‪ ،‬فيه �أث ُر الموهب ِة‪ ،‬ولمعرف ِة ذلك‬ ‫كان ذا ٍ‬ ‫زرياب يقب ُل في معهد ِه �إ َّال من َ‬ ‫يكن ُ‬ ‫ولم ْ‬
‫حجام‪� ،‬أو �آه‪ ،‬ف�إن ا�ستم َّر �صو ُت ُه‬ ‫ي�صيح ب�أعلى �صو ِت ِه‪ :‬يا َّ‬ ‫َ‬ ‫المتقد ِم لاللتحاقِ بمعهد ِه �أن‬ ‫ِّ‬ ‫يطلب من‬‫كان ُ‬ ‫َ‬
‫احتراف الغنا ِء (جعلِ الغنا ِء مهن ًة)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بعدم‬
‫وين�صح ُه ِ‬ ‫ُ‬ ‫يرف�ضهُ‪،‬‬ ‫واحد‪ ،‬يقب ُل ب ِه‪ ،‬و�إ َّال ف�إ ّن ُه ُ‬ ‫بم�ستوى ٍ‬
‫والتمرين‬
‫ِ‬ ‫التعليم‬
‫ِ‬ ‫زرياب معهم رحل ًة طويل ًة من‬ ‫المعهد‪ ،‬يبد أُ� ُ‬ ‫ِ‬ ‫قبول المتقدمين في‬ ‫وبعد �أن يت ُّم ُ‬ ‫َ‬
‫حن‪ ،‬ثم‬ ‫حركات ال ّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ل�ضبط‬ ‫بتعليم الإيقا ِع‬ ‫ِ‬ ‫كان يبد�أُ‬ ‫ال�صعبِ ‪ ،‬فقد َ‬ ‫بالب�سيط و�صو ًال �إلى ّ‬ ‫ِ‬ ‫مبتدء ًا‬
‫تر�سلٍ ‪ ،‬ثم الغناء ب� ٍ‬
‫إيقاع‪.‬‬ ‫الغنا ِء على الإيقا ِع دون ّ‬
‫ِ‬
‫المغنيات‬ ‫أ�صبح مغني ًا وعازف ًا بارع ًا‪ ،‬لذا ف�أكث ُر‬ ‫زرياب �إ َّال وقد � َ‬ ‫َ‬ ‫الطالب من ِ‬
‫معهد‬ ‫ُ‬ ‫يخرج‬
‫وال ُ‬
‫كان يع�شقها‬ ‫زرياب‪ ،‬مثل‪ :‬هنيدة‪ ،‬وغزالن‪ ،‬ومتعة التي َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫تالميذ‬ ‫أندل�س كانوا من‬ ‫والمغنين في ال ِ‬
‫الملك عبدال ّرحمن‪ ،‬وم�صابيح جارية الكاتبِ �أبي حف�ص‪.‬‬ ‫(يح ّبها ب�شد ٍة) ُ‬
‫وكان عددهم ع�شرة‪ ،‬و ك ّل منهم‬ ‫معهد ِه‪َ ،‬‬ ‫تالميذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫زرياب الذكور والإناث �أ ّولَ‬ ‫َ‬ ‫وكان �أوال ُد‬
‫َ‬
‫وحار�س ل�صناع ِة الغنا ِء‪ ،‬ومع ِّل ٌم لها‪ ،‬وقد بر َع (تف ّوقَ ) منهم عبدال ّرحمن االبن الأكبر‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫موهوب‪،‬‬
‫ٌ‬
‫عبدالعزيزِ‬ ‫ها�شم ِبن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫كانت ابن ُت ُه حمدون ُة زوج ُة الوزيرِ‬ ‫و�أحمد‪ ،‬وقا�سم‪ ،‬وعبداهلل من الذكور‪ ،‬كما ْ‬
‫لت�صبح فيما بعد‬ ‫َ‬ ‫كان العم ُر قد طالَ بعل َّية‬ ‫متف ّوق ًة في �صنع ِة الغنا ِء على �أختها الوحيد ِة عل َّية‪ ،‬و�إن َ‬
‫والد َها‪.‬‬ ‫لمجد ِ‬ ‫ركن ًا من �أركانِ الغنا ِء‪ ،‬ووريث ًة ِ‬

‫‪37‬‬
38
‫رب‪ ،‬ومعلم ًا لأ�شهرِ � ِ‬
‫أعالم ِه‬ ‫الط ِ‬ ‫عر�ش ّ‬‫نف�س ُه متربع ًا على ِ‬ ‫وليجد َ‬
‫َ‬ ‫القديم‪،‬‬
‫َ‬ ‫بزرياب ليحقّقَ حلم ُه‬
‫َ‬ ‫وقد امت َّد العم ُر‬
‫لحدا ِة (جمع ٍ‬
‫حاد‪،‬‬ ‫تقليد لأغاني النّ�صارى‪� ،‬أو محاكا ًة ُ‬ ‫أندل�سي من مجر ِد ٍ‬ ‫ّ‬ ‫بعد �أن ح َّولَ الغنا َء ال‬
‫(لأ�شهرِ المغنيين) َ‬
‫وهو الذي يغني للإبلِ وهي �سائر ٌة في رحل ِت َها) ِ‬
‫العرب �إلى فنٍ له قواعد ُه و�أ�صول ُه و�آداب ُه‪.‬‬
‫وكان مت�أكد ًا من �أ ّن ُه قد‬
‫بنف�س ِه واجتها ِد ِه وموهب ِت ِه الفذَّ ِة‪َ ،‬‬
‫بعر�ش ِه الذي �صنعه ِ‬ ‫زرياب فخور ًا و�سعيد ًا ِ‬ ‫ُ‬ ‫وكان‬
‫َ‬
‫(تموت)‪� ،‬أال وهي ثرو ُة الإبدا ِع‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ح�صل على ثرو ٍة ال تفنى‬‫َ‬

‫معلّ ُم النّ ِ‬
‫ا�س والمروء ِة‬
‫�شيد في ق�صرِ ه‪ِ ،‬‬ ‫ملك قرطبة �أن يحاكي بق�صرِ ِه (ي�شابه) حيا َة هارون ال ّر ِ‬ ‫حلم عبدال ّرحمن الثاني ُ‬ ‫كان ُ‬ ‫لقد َ‬ ‫ْ‬
‫وكان قد تع ّلمها في‬ ‫زرياب‪َ ،‬‬ ‫لمهارات الخدم ِة الملوكي ِة التي يتق ُنها (يجيدها) ُ‬ ‫ِ‬ ‫أ�شد المتح ّم�سين‬‫كان من � ِ‬ ‫فقد َ‬ ‫لذا ْ‬
‫زرياب قدو ًة (مثا ًال يقتدون به) فيما و�ض َع ُه لهم من‬ ‫أندل�س َ‬ ‫ملوك ال ِ‬ ‫فقد اتخذَ ُ‬ ‫لذلك ْ‬ ‫المهدي الذي تر ّبى فيه‪َ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ق�صرِ‬
‫كان رج ًال ُ‬
‫يحلم ببنا ِء‬ ‫يكن مو�سيقي ًا ومغني ًا موهوب ًا وح�سب بل َ‬ ‫فزرياب لم ْ‬‫ُ‬ ‫ن�شاطات الحيا ِة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وقواعد في ك ّل‬ ‫َ‬ ‫آداب‬‫� ٍ‬
‫ليتنا�سب مع مو�سيقاه الراقي ِة‪ ،‬وغنا ِئ ِه ِ‬
‫العذب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫عالم ك ّل ُه ظراف ٌة وذو ٌق وجما ٌل وهنا ٌء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫والقواعد لت�شي َع المو�سيقى‪ ،‬ولي�شي َع الغنا ُء في بيئ ٍة ِّ‬
‫تقد ُر‬ ‫ِ‬ ‫قدم والرفاه وال ِ‬
‫آداب‬ ‫زرياب مقتنع ًا ب�أهمي ِة ال َّت ِ‬ ‫ُ‬ ‫وكان‬
‫َ‬
‫كل طرائقِ (جم ُع طريق ٍة‪،‬‬ ‫ّا�س في ِّ‬
‫أندل�س‪ ،‬فق َّل ُد ُه الن ُ‬
‫العربي �إلى ال ِ‬‫ّ‬ ‫آداب الم�شرقِ‬ ‫زرياب جمي َع � ِ‬ ‫ُ‬ ‫فقد َ‬
‫نقل‬ ‫الفن؛ لذا ْ‬ ‫َّ‬
‫طف وال ّرق ِة‬‫ّا�س والمروء ِة)؛ لما ع َّلمهم من ال ّل ِ‬ ‫المنهج) حيا ِت ِه‪ ،‬ولقّب ُه الأندل�سيون بـ (مع ّل ِم الن ِ‬ ‫ُ‬ ‫أ�سلوب �أو‬
‫وهي ال ُ‬
‫(ح�سن التعاملِ والت�ص ّر ِف)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫والذّوقِ‬
‫الطبيخ الم�س ّمى بالتفايا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أندل�س‪َ ،‬‬
‫مثل‪:‬‬ ‫ال�شرق ّي ِة وطريق ِة �إعدا ِدها �إلى ال ِ‬ ‫زرياب كثير ًا من الأطعم ِة ّ‬ ‫ُ‬ ‫وقد َ‬
‫نقل‬
‫ُ‬
‫(القليل) من الما ِء‪ ،‬كما �أ ّن ُه قد ع ّل ُم‬ ‫الملح والفلف ُل والي�سي ُر‬
‫ال�سمين‪ ،‬و ُي�ضاف �إليه ُ‬ ‫ِ‬ ‫لحم ال�ض�أنِ‬
‫يح�ض ُر من ِ‬ ‫وهو َّ‬
‫فاف الرقيقِ ‪ ،‬وكانوا من قبل ي�شربون من الآني ِة المعدني ِة‪.‬‬ ‫ال�ش ِ‬‫ّجاج ّ‬
‫ؤو�س) من الز ِ‬ ‫أقداح (ك� ٍ‬ ‫الأندل�سيين �أن ي�شربوا في � ٍ‬
‫كذلك طرقِ العناي ِة بنظاف ِة‬ ‫نقل �إليهم طرقَ �صن ِع كثيرٍ من العطو ِر من �أوراقِ ال ّزهورِ‪ ،‬وع ّلمهم َ‬ ‫من َ‬ ‫وهو ْ‬
‫المالب�س لتوافقَ الف�صلِ ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وكان له �آرا ٌء م ّتبع ٌة في اختيا ِر‬ ‫مالب�سهِ م‪َ ،‬‬

‫‪39‬‬
40
‫كان الك ُّل يق ِّلده في‬‫زرياب ظاهر ًة طريف ًة في غرناط َة‪ ،‬فقد َ‬
‫ُ‬ ‫أ�صبح)‬
‫وقد غدا (� َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫جديدات في‬ ‫بذلك مبتدع ًا ل ِ‬
‫أحدث ال ّت‬ ‫فكان َ‬ ‫ِ‬
‫ت�صفيف �شعرِ ِه‪َ ،‬‬ ‫ملب�س ِه وم�أكل ِه و طرا ِز‬
‫جديد والإبدا ِع والأناق ِة‪،‬‬
‫رائد قرطب َة في ال ّت ِ‬ ‫ِ‬
‫وت�صفيف ال�شّ عرِ ‪َ ،‬‬
‫وكان َ‬ ‫ال ّل ِ‬
‫با�س والم�أكلِ‬
‫أندل�س �إ َّال ويذك ُر معها ُ‬
‫زرياب‪.‬‬ ‫تعد تُذكر ال ُ‬ ‫ولم ْ‬
‫عر�شٌ من الألحا ِن‬
‫وقبل وفا ِة الخليف ِة عبد ال ّرحمن الثاني ب�أربعين‬ ‫يوم ‪ 852/8/13‬للهجر ِة‪َ ،‬‬ ‫في ِ‬
‫(مات)‪ ،‬وفارقَ ال ّدنيا بعد �أن تر َّب َع زمن ًا طوي ًال على ِ‬
‫عر�ش‬ ‫الروح َ‬ ‫زرياب َ‬ ‫أ�سلم ُ‬ ‫يوم ًا � َ‬
‫العزف‪.‬‬‫وقوانين ِ‬
‫َ‬ ‫وترك للب�ش ّر ّي ِة �إرث ًا عظيم ًا من الألحانِ والأغاني والأ�شعا ِر‬
‫رب‪َ ،‬‬ ‫الط ِ‬‫ّ‬
‫بعد ُه‬
‫وترك مو�سيقاه خالد ًة َ‬ ‫لقد نزلَ عن عر�ش ِه الذي �أم�ضى حيا َت ُه في بنا ِئ ِه‪َ ،‬‬
‫�صميم والإراد ِة والإبدا ِع‪ .‬وقد � َ‬
‫أكمل‬ ‫وتحث الك َّل على ال ّت ِ‬ ‫الموهوب‪ُّ ،‬‬
‫َ‬ ‫�إلى ال ِأبد‪ ،‬تر�ش ُد‬
‫جديد بنا َء الغنا ِء على ال ِ‬
‫أ�سا�س‬ ‫بعد ِه‪ ،‬و�أ�شادوا من ٍ‬ ‫زرياب وابنتاه الم�سير َة من ِ‬ ‫�أبنا ُء َ‬
‫زرياب علي ِه‪.‬‬
‫(القاعد ِة) الذي بناه والدهم ُ‬
‫حن والغنا ِء لأم ٍة كامل ٍة‪ ،‬فخ َّل َد المو�سيقى‪،‬‬
‫أنارت طريقَ ال ّل ِ‬
‫زرياب �شمع ًة � ْ‬
‫كان ُ‬ ‫لقد َ‬
‫كل عمرِ ِه‪ ،‬فوهبت ُه الخلو َد‪ ،‬وجعلت ُه من الذين حملوا ال ِّن َ‬
‫برا�س (النّو َر)‬ ‫و�أح ّبها ووهبها َّ‬
‫ِ‬
‫الماجد‪.‬‬ ‫لأم ِتنَا العرب ّي ِة الإ�سالم ّي ِة عب َر ِ‬
‫تاريخ َها‬

‫‪41‬‬
‫ل ّون معنا‬

‫‪42‬‬
43

You might also like