Professional Documents
Culture Documents
زرياب
ا�س والمروء ِة"
"معلّ ُم النّ ِ
الأ�سمرُ المجهو ُل
فقد
يعرف) الكثي َر عنهماْ ، يجهل (ال ُ كان ُ نف�س ِه ،والعن �أ�ص ِل ِه ،بل َ يعرف الكثي َر عن ِ يكن ُ لم ْ
يعرف هوي َة كان ال ُ يعرف ل ُه �أب ًا �أو �أ ّم ًا �أو موطن ًا ،ح َّتى �أ َّن ُه َ
ويجهل �أه َلهُ ،وال ُ ُ يجهل َ
قومهُ، كان ُ َ
كان يعر ُف ُه هو ا�سم عليَ ،وم ْن الذي كنَّا ُه بكني ِة (�س ّما ُه) �أبي الح�سن ،ك ُّل ما َ الذي وه َب ُه (�أعطا ُه) َ
ا�سي(الحاكم) الع ّب ّ
ُ بزرياب ،و أ� ّن ُه غال ٌم �أ�سو ُد ،يمل ُك ُه الخليف ُة
َ نافع الملق ُّب�أ َّن ُه �أبو الح�سن علي بن ٍ
غم من و�ضاع ِة كان ي�شع ُر على ال ّر ِ العبيد في ق�صرِ الخالف ِة ،ولك َّن ُه َ المئات من ِ ِ بين المهدي ،و أ� ّن ُه ُ
يعي�ش َ ّ
تعرف كانت �آما ُل ُه كبيرةً ،ال ُ فقد ْ ِ
االختالفْ ، العبيد والموالي ك ّل ِ (حقار ِة) �أ�ص ِل ِه ب أ� ّن ُه مختلفٌ ع َّمن حو َل ُه من
عر�ش عر�ش مثل ِ لي�س على ٍ عر�ش ماَ ، يحلم ب�أن يتر َّب َع على ٍ وكان ُ للكفاح من �أجلِ تحقي ِق َهاَ ، ِ وكان م�ستعد ًا ك ّل اال�ستعدا ِد
الحدو َدَ ،
وي�سج ُل ا�س َم ُه في ِ�سفْرِ
عر�ش ٍ يجع ُل ُه بين الخالدينّ ، نوع �آخرٍ ، عر�ش من ٍ �شيد ،ولكن على ٍ المهدي �أو الخليف ِة هارون ال َّر ِّ الخليف ِة
لي�ست من النقو ِد والجواهرِ بل ثرو ًة من الألحانِ وال�شُّ هر ِة يملك ثرو ًة عظيم ًة ،ثرو ًة ْ كان يتمنَّى �أن َ (كتاب كبيرٍ ) عظما ِئ َهاَ ، ٍ
ِ
والمجد.
المو�سيقي
ّ ال�سعيد َة التي التحقَ بها ب�إ�سحاقَ المو�ص ّل ّي ،ذلك تلك ال ّلحظ َة ّ هو ال يذك ُر الكثي َر عن طفول ِت ِه ،ولك َّن ُه يذك ُر تمام ًا َ
(رئي�س) المغنين. َ إمام
كان � َ فقد َ والعزفْ ، َ والمغ ِّن ّي الم�شهور في بغداد ،والمق َّرب من الخليف ِة؛ لي�أخذَ ع ُن ُه (ليتع ّل َم م ُنهُ) الغنا َء
أم�سك لأ ّولِ مر ٍة في حيا ِت ِه عود ًا (�آل ًة مو�سيق ّي ًة �شرقي ًة) ،وجذ َب ُه �إلى �صد ِر ِه ،و�شر َع (بد َ�أ) ال�سعاد ِة؛ لأ َّن ُه � َيومها كا َد يطي ُر من ّ
كان ُ
يحفظ َها. ببع�ض الأغاني التي َ �صدح (غنَّى) ِ يح ِّر َك �أوتا َر ُه ،ثم َ
كان وت ،فقد َ ال�ص ِ زرياب ،وهو طائ ٌر �أ�سو ُد ال ّلونِ جمي ُل َّ َ يوم َها بلقبِ كان �صو ُت ُه جمي ًال رقيق ًا ،ي�سح ُر من ي�سم ُعهُ ،ف ُلق َِّب من ِ َ
العج ،وهو ما يدو ُر في قلبِ الإن�سانِ من م�شاعر) ولواعج (جم ُع ٍ َ زرياب قادر ًا على �أن يغ ِّر َد كالع�صافيرِ ،و�أن يح ِّولَ ال َ
أحزان ُ
ِ
والكلمات �إلى �ألحانٍ . القلبِ والأُ ِ
منيات
27
المزيد من �سحرِ الألحانِ التي
َ وكان على ثق ٍة من � ّأن هناك
أنغام والألحانِ َ ، أعذب ال ِويدا ُه كانتا قادرتين على مداعب ِة الأوتار و�صن ِع � ِ
يهب (يعطي) للب�ش ّر ّي ِة ما لم وتنغيم ك ّل ٍ
�صوت ي�سم ُع ُه ،لع َّل ُه ُ ِ كان يطي ُل اال�ستغراقَ في �سما ِع �ألحا ِن ِه، َ
ولذلك َ لم يكت�شف َها الب�ش ُر بعد،
تعرف ُه بعد من �ألحانٍ .
28
يملك ال ّدنيا وما فيها ،تمنّى بع�ض الألحانِ لي�شع َر ب أ� َّن ُه �سعي ٌد ،وب أ� َّن ُه ُ يعزف َ كان يكفيه �أن َ بالخوف َ ِ كان ي�شع ُر بالحزنِ �أو عندما َ
كان طوي ًال جد ًا. لكن الطريقَ �إلى �أمني ِت ِه َ رب (الغناء)ّ ، الط ِ ملك َّ ي�صبح َ َ عر�ش الألحانِ ،و�أن من ك ّل قل ِب ِه �أن يتر َّب َع على ِ
(تعب)� ،أ َّما في دون كللٍ ٍ �ستاذ ِه المبد ِع �إ�سحاق المو�ص ّلي َ يدي ُ�أ ِ (بحب) ،و ُيق ِب ُل على تعلُّ ِم َها على ّ ّ كان ي�سم ُع المو�سيقى ٍ
ب�شغف َ
أ�صبح) في فتر ٍة ق�صير ٍة على معرف ٍة كبير ٍة ووا�سع ٍة والعلم ،حتى غدا (� َ ِ الدرا�س ِة (يقبل) على ِّ ُ ينكب
فكان ُّ فراغ ِه القليل ِةَ ، أوقات ِ � ِ
ِ
وباختالف طبائع َها ال�سبع ِة، وبال�سيا�س ِة ،وبق�سم ِة ال ِ
أقاليم ّ وبالطبِ وبالفل�سف ِة ّ وبالفلك ِّ ِ ّجومآداب ،وعالم ًا بالن ِ رف وال ِ الظ ِبفنونِ ّ
الملوك).ِ وبلطف المعا�شر ِة ،وبمهار ِة الخدم ِة الملوكي ِة (خدم ِة َِ و�أهوي ِت َها (جم ُع هواء)،
وكان حل ُم ُه �أن يلتقي بالخليف ِة هارون ال ّر ِ
�شيد، آالف مقطوع ٍة من الأغاني ب�ألحا ِن َهاَ ، حفظ ع�شر َة � ٍ وكان �إلى جانب ذلك ك ّله قد َ َ
يتخذ ُه (يجع ُل ُه) هارون فقد ُ يعلم ْ كتلك التي يحظى ِب َها معل ُم ُه �إ�سحاقُ المو�ص ّليَ ،وم ِْن ُ عند ُه بمكان ٍة رفيع ٍة َ و�أن يحظى (ينالَ ) َ
نف�س ُه) لهذا اللقا ِء الذي �سيغ ِّي ُر مجرى حيا ِت ِه. وكان ُيع ّد ال ِعد َة (يج ّه ُز َ �شيد مغني ًا ل ُهَ ، ال ّر ِ
كتب ل ُه �أن يتك ّر َر،
لقاء لم ُي ْ (زرياب) في ٍ َ الط ِ
رب وملك ّ �شيد) ِ (هارون ال ّر ِ
َ ملك ِ
العرب التاريخي ال ُمنتظ ُر بين ِ ّ وكان ال ّلقا ُء
َ
ألزم �إ�سحاقُ المو�ص ّل ّي َ
نف�س ُه والطريف من الغنا ِء والمو�سيقى ،وقد � َ ِ ِ
الجديد هارون ال ّر�شيد �إلى �سما ِع ُ نف�س الخليف ِة
ا�شتاقت ُْ فقد
ْ
اب الأ�سو َد �شيد ال�شّ َهارون ال ّر ُ ُ �شيد لأ ّول مر ٍة� .س�ألَ فقد َم زرياب �إلى هارون ال ّر ِ �شيدَّ ، بتلبي ِة (تحقيقِ ) رغب ِة الخليف ِة هارون ال ّر ِ
عند َكيح�سن إ� َّال َ
ُ ّا�س ،و�أكث ُر ما أُ�ح�سن ُه ال يح�سنون ُه ،مما ال يح�سن الن ُُ ح�سن م ُن ُه ما زرياب :نعم ،أُ� ُ ُ يجيد الغنا َء؟ فقالَ كان ُ �إن َ
ّيتك ما لم ت�سمع ُه �أذ ٌن من قبل؟ (�سمحت) غن َ َ أذنت
لك ،ف� ْإن � َ بك) ،وال ُي َّدخ ُر ( ُيخ َّب�أ) �إ َّال َ (ال يليقُ �إ ّال َ
بنف�س ِه،
عود �صن َع ُه ِ يعزف على ٍ وف�ض َل �أن َ يعزف على عو ِد � ِ
أ�ستاذ ِهّ ، رف�ض �أن َ زرياب الذي َ أنغام َ تح َّم َ�س ال ّر�شي ُد ل�سما ِع � ِ
أ�ستاذ ِه� ،أوتا ُر ُه من الحريرِ الذي لم ُيغزلْ بما ٍء �ساخنٍ يك�س ُب ُه رخاوةً. ثلث وزنِ عو ِد � ِ كان عود ًا في ِ وقد َ ْ
زرياب يغني قائ ًال: ثم اندف َع ُ
ّا�س وابتكروا إليك الن ُراح � َ هارون َ ُ الميمون طائ ُر ُ هُ يا �أ ُّيها ُ
الملك
(مد َح ُه) ،و�شك َر زرياب َ
َ و أ� ّمت ق�صيد َت ُه املغنا َه ،عندها كا َد ال ّر�شي ُد يط ُري طرب ًا مبا �سم ُع ،و�أثنى على
تلميذ ِه �إلى حين يفر ُغ ل ُه؛ لأنّه َ
وجد عند ُه يح�سن �إلى ِ َ إ�سحاق املو�ص ّل ّي على هذا اللقاء ،و�أم َر �إ�سحاقَ ب�أن � َ
وح�سن الأدا ِء ،وتو ّق َع ل ُه م�ستقب ًال ِ حن، وت ،وعذوب ِة ال ّل ِ ال�ص ِعند غيرِ ِه من المغنين من جمالِ ّ ما لم يجده َ
�شيد ليق ّبلهما� ،أ ّماهارون ال ّر َِ يدي
كب (ينحني) على ّ زرياب بما �سم َع ،وكا َد ُي ُّ َ (فرح)
قلب َ باهر ًا .طا َر ُ
(حبال) قل ِب ِه تتمز َُّق غير ًة وح�سد ًا من طال ِب ِه الموهوبِ . ُ كانت ُ
نياط �إ�سحاق فق ْد ْ
29
الرّحي ُل عن بغداد
زرياب،
َ حد�س (تو ّق ُع)
ُ عيني � ِ
أ�ستاذ ِه ما لم ير ُه في عينيه من قبل ،و�صدقَ فقد ر�أى في ّ الرغم من �سعاد ِت ِهْ ، ِ زرياب قلق ًا على
ُ كان
َ
أقدم الأدواء الح�سد � َُ باد (ظاه ٌر) في عينيه :يا علي � َّإنوالغ�ضب ٍ
ُ ف�سرعان ما خال �إ�سحاق المو�ص ّل ّي بطال ِب ِه النّبيه (الذَّ كي) ،وقالَ ل ُه
َ
ال�صناع ِة عداوةٌ ،ال حيل َة (ال طريق َة) في ِ
ح�سم َها المر�ض) و�أدواها (�أ�ش ّدها فتك ًا) ،وال ّدنيا ف َّتان ٌة ،وال�شرك ُة في ِّ ُ (جم ُع ٍ
داء ،وهو
عند الخليف ِة هارون ال ّر ِ
�شيد� .أما ُم َك (الق�ضا ِء عليها) ،وقد �ساءني تفو ُق َك و�إجادت َُك ،و�أخ�شى �أن ت�أخذَ حظو ِتي (منزلتي المرتفع َة) َ
لك خبر ًا بعد �أن تعطيني على ذلك ال َ
أيمان المو َّثق َة أر�ض العري�ض ِة (ت�ساف ُر) ،ال �أ�سم ُع َتذهب عني في ال ِ ثالث لهما� ،إ َّما �أن َخياران ال َ
قاتلك ال محالة (بال َّت�أكيد). تقيم على كرهي ،و إ�نّي َ أردت من مالٍ ،و إ� ّما �أن َذلك بما � َأ�ساعدك) على َ َ (الأكيدةَ) ،و� َ
أنه�ضك (�
30
و�سوف يهج ُر �أ�ستاذَ ُه الذي تتلمذَ (تع َّل َم) زرياب قلي ًال ،و�شع َر بحزنٍ كبيرٍ ؛لأ ّن ًُه �سيفارقُ بغداد التي يح ّبهاَ ، �صمت ُ َ
يعلم
كان ُ �شيء ،كما َ أ�ستاذ ِه وغ�ض ِب ِه �أكب ُر من ك ّل ٍح�سد � ِ كان مت�أكد ًا من � ّأن َ أر�ض ال يعر ُف َها ،ولك ّن ُه َ و�سوف ي�ساف ُر �إلى � ٍ َ على يديه،
يملك ع ْون ًا ،عندها ق ّر َر �أن ي�أخذَ ال�ضعيف الأ�سو ُد الذي ال ُ ُ ُ
الرجل ال�سهلِ علي ِه �أن يقت َل ُه ،وهو � ّأن �أ�ستاذَ ُه ل ُه نفو ٌذ في ال ّدول ِة ،ومن ّ
ال�سالم ِة ،و�أن يغاد َر بغداد دون رجع ٍة ،فينجو ِ
بنف�س ِه وب�أه ِل ِه وبف ِّن ِه. درب (طريقَ ) ّ (ي�سلك) َ َ
أقبل يا معلمي بمغادر ِة أ�ستاذ ِه الذي كان ينتظ ُر قرار ُه بفار ِغ ال�صبرِ ،وقالَ بانك�سا ٍر وحزنٍ �شديدينُ � : زرياب في عيني � ِ ُ نظ َر
بغداد مع �أهلي.
َ
رحلتك. أعطيك) بالمالِ لأجلِ عظيم :و�أنا �س�أم ّد َك (�س� َ بارتياح ٍ
ٍ وقد �شع َرقالَ �إ�سحاقُ المو�ص ّل ّي ْ
حزم متاعي و�إخبا ِر زوجتي وعيالي. أيام عندما انتهي من ِ بعد � ٍ
زرياب� :س�أغاد ُر بغداد َ ُ قالَ
تكون بغداد لي وحدي. ال�صباح ُ
ِ ال�شم�س ،وفي
ِ ترحل الليل َة مع ِ
غياب بحزم :بل ُ ٍ قالَ �إ�سحاقُ
با�ست�سالم :كما ت�شا ُء يا �أ�ستاذي� ،س� ُ
أرحل الليل َة. ٍ زرياب
ُ قالَ
القليل ،ويخرجون مت�س ّللين متاعهم َ زرياب وزوجتُه و�أوال ُده يحملون َ كان ُ أمن ،و َ كانت بغداد تغرقُ في الن ِ
ّوم وال ِ تلك ال ّليل ِة ْ في َ
خارج �أ�سوا ِر بغداد ،و�ص ّر ُة المالِ التي وهبها (�أعطاها) رجال �إ�سحاقَ المو�ص ّل ّي الذين �أو�صلوهم �إلى ِ (�س ّر ًا) من بغداد ،يحر�س ُهم ُ
أدرك وداع �أخير ٍة على بغداد� ،إذ � َ كان ي�شع ُر بحزنٍ كبيرٍ وهو يلقي نظر َة ٍ زرياب ،الذي َ يملك ُ لتلميذ ِه المطرو ِد هي ك ّل ما ُ ِ �إ�سحاقُ
اليوم.
بعد ِ بعد ُه ،و أ� ّن ُه لن يرى بغداد َ بقل ِب ِه ال ّرقيقِ �أ ّن ُه فرا ٌق ال لقا َء َ
يملك غي َر َها ،و ُطر َد ب�سببها من زرياب عو َد ُه ،وغنَّى طوي ًال ،وق ّر َر � ّأن يو ّد َع بغداد ب�ألحا ِن ِه الجميل ِة التي ال ُ ُ ح�ضن
َ في ليل ِتها
المدين ِة التي يح ّبها.
زرياب ق ْد
َ زرياب ل�سما ِع �ألحا ِن ِه ،ف�أعلم ُه (�أخبر ُه) �إ�سحاقُ المو�ص ّل ّي � َّأن َ طلب ر�ؤي َة
ف�سرعان ما َ
َ �أ ّما الخليفة هارون ال ّر�شيد
زرياب
َ أ�سف على م�صيرِ هارون ال ّر�شيد �أ�ش َّد ال ِ
ُ (يدرك) ما يفع ُلَ � ،
أ�سف ُ بالجنونِ ) ،ولم يع ْد يعي �صيب ّ م�س من الجنونِ (�أُ َ �أ�صا َب ُه ٌّ
العربي ك ّله� ،إلى �أن ّ هارون ال ّر ِ
�شيد وفي الم�شرقِ َ لزرياب في ِ
بالط َ وكان هذا �آخر ذكرٍ (خبرٍ ) كان يتو ّق ُع ل ُه م�ستقب ًال زاهر ًاَ . الذي َ
أندل�س (�إ�سبانيا).
جديد في ال ِ �سط َع نج ُم ُه (�أُ�شتُه َر) من ٍ
31
الرّحل ُة الم�ضني ُة (المتعب ُة)
يعرف في ال ّدنيا �إ َّال بغداد ،و�أخير ًا ق َّر َر �أن ّ
يتوج َه �إلى كان حائر ًا ،فهو ال ُ أين يو ّلي وج َه ُه (ي َّتج ُه) ،فقد َ
زرياب يدري �إلى � َ
ُ يكن
لم ْ
كان بالد ًا جديد ًة يط ؤ� َُها (يدخُ ُل َها) ُ
العرب العربي ،الذي َ
ّ ِ
المغرب وتوج َه �إلى
أحالم ُه ،لذا �سرعان ما غادرهاّ ، ال�شّ ِام ،لكنّها لم ْ
تكن تل ّبي � َ
والخا�ص ِة (الح ّك ِام و�ساد ِة ِ
القوم). ّ كان يبحثُ ع ُن ُه في بغداد من �شهر ٍة و� ٍ
إبداع وتقديرٍ من العا ّم ِة يجد فيها ما َ الم�سلمون ،وتمنّى �أن َ
32
المغرب (�شمال �إفريقيا) ،تج�شَّ َم (تح َّم َل) فيها وزوج ُت ُه و�أوال ُد ُه الكثي َر من المتاعبِ ، ِ زرياب رحل ًة طويل ًة وم�ضني ًة (متعب ًة) �إلى وبد أَ� ُ
كان يحدو ُه أمل َ ولكن ال َ
زريابَّ ، ُ
المجهول ينتظ ُر ُ كان
ينفد (ينتهي)َ . المغرب �أن َ ِ وكا َد مالهم الذي �أنفقوا معظم ُه في رحل ِتهم الطويل ِة �إلى
ال�صمو ِد ،فلطالما وكان ح ّب ُه لأوالد ِه وزوجت ِه وعزف ِه على عود ِه طوالَ ال ّرحل ِة هما اللذان �ساعداه على ّ (يدفع ُه) �إلى موا�صل ِة رحلت ِهَ ،
العزف على العو ِد ،وير ّددون بع�ض ًا من الأغاني ِ (كثير ًا) ا�سترقَ النّظ َر (نظ َر خفي ًة) �إلى بنيه ،و�أ�سعد ُه �أن يراهم يحاولون تقليد ُه في
كان يطربهم بها. التي َ
وكانت الإقام ُة عند ُه
أغلبي �سلطانِ (حاكم) القيروانِ بجوا ِر تون�سْ ، هلل الأ ّولِ ال ّ ونزل في خدم ِة زياد ِة ا ِ المغربَ ، ِ زرياب �إلى
و�صل ُ و�أخير ًا َ
(طلب م�ساعد ِةال�س� َؤال َ لذلك فق ْد و�ص َل ُه (�أعطاه) بما يكفيه ّ زرياب وعز ِف ِه ،و َ لل�سلطانِ �أن ي�سم َع غنا َء َ (يطيب) ُّ وكان يل ّذطيب ًة وهادئ ًةَ ،
�سمح له ب�أن يطي َر في �سما ِء المو�سيقى التي يع�شقها. هلل الأ ّولِ ،ال ُي ُ قف�ص زياد ِة ا ِ زرياب بقي ي�شع ُر ب�أ ّن ُه طائ ٌر ك�سي ٌر في ِ ولكن َ ّا�س)َّ ، الن ِ
عر�ش بالط � ّأي �سلطانٍ � ،إذْ َ
كان يري ُد �أن ُيت َّو َج على ِ يكون مغنّي ًا متوا�ضع ًا (منزلت ُه �صغيرةٌ) في ِ زرياب يتجاو ُز �أن َ َ طموح
كان ُ فقد َ ْ
ي�صبح ح ّر ًا)؛ ليجري كالخيلِ الب ّر ّي ِة في حقولِ موهب ِت ِه الفذَّ ِة (المم ّيز ِة). َ العنان (�أن
َ رب ،و�أن ُيطلقَ له الط ِ ّ
زرياب �سواد ُه (�سخ َر من عاب على َ زرياب و�سلطانِ القيروانِ الذي َ و�شاءت حكم ُة اهلل تعالى �أن تق َع خ�صوم ٌة (�شجا ٌر وعداوةٌ) بين َ ْ
زرياب �إ َّال �أن غنّى ق�صيد ًة مطلعها (بداي ِت َها): كان من َ زرياب؛لأ ّن ُه �أ�سو ُد ال ّلونِ ) ،فما َ َ
مـن �أبـنــاء حــام بهـا عبتني فـ ـ� ْإن تـ ُـك � ِّأم ــي غــرابيـ ً ة
و�سم ــرِ الـعـوالي �إذا جئتـني ُ الظبا ف�إ ِّني لطيفٌ ببي�ض ِّ
الحرب �أو ُقدتنيِ لقدت َُك في يوم الوغى َ
فرارك َ ولــوال
�ضربت
ُ بعد ثالث ِة � ٍ
أيام �شيء من بلدي َ وجدتك في ٍ َ بجلد ِه ،ثم قالَ ل ُهْ � :إن
زرياب ،و�أم َر ِ َ ال�سلطان غ�ضب ًا �شديد ًا منُ غ�ضب
َ عندها
(قطعت) َ
عنقك. ُ
�ستكون نهايتها ،وق ّر َر �أن يتج َه هذه المرة ُ يعرف ماذا زرياب �أمتعت ُه ،وانطلقَ وزوج ُت ُه وعيا ُل ُه في رحل ًٍة جديد ٍة ال ُ ُ حزم
ومر ًة �أخرى َ
باالحترام وبالتّقديرِ ،وانطلقَ �إلى
ِ هناك ح�ضار ًة عظيم ًة ،وحيثُ ُيالقى العلما ُء والموهوبون العرب َ أندل�س (�إ�سبانيا) حيثُ ي�شه ُد ُ �إلى ال ِ
ُعرف با�سم الجزير ِة أطل�سي) ،ور�سا في منطق ٍة ت ُ (المحيط ال ّ َ فقد عب َر مع عائلت ِه بح َر الزِّ قاقِ العزم على فع ِل ِه)ْ ، عقد َ تنفيذ ني ِت ِه (ما َ ِ
ي�شرح له فيها موهبت ُه ومقدرت ُه ،ف�س َّر بن ه�شامٍُ ، الحكم الأ ّو ُل ُ
ُ لملك قرطبة ،وهو ٍ
حينئذ وكتب ر�سال ًة طويل ًة بلغ ٍة بليغ ٍة وجميل ٍة ِ الخ�ضرا َءَ ،
وطلب من ُه �أن ينزلَ عليه �ضيف ًا كريم ًا. كان معروف ًا ب�شغف ِه (بح ّب ِه) بالمو�سيقىَ ، الملك الذي َ بها ُ
33
و�صلت �أخبا ُر موت ِه �إلى َ
زرياب الملك الذي ْ تمهل َ
(الموت) لم ْ
َ زرياب بهذه ال ّدعو ِة ،وا َّتج َه وعيا ُل ُه �إلى قرطبةّ ،
ولكن المن ّي َة (فرح) ُُ�س َّر َ
المغني من�صور
ّ الحكم �إلي ِه
ِ لكن ر�سولَ
أدراج ُه (يرج ُع من حيث �أتى)ّ ، زرياب بخيب ِة �أملٍ كبير ٍة ،وكا َد يعو ُد � َ وهو في ّ
الطريقِ �إليه ،ف�شع َر ُ
أو�سط ،الذي يفوقُ �أباه حب ًا للمو�سيقى، الجديد عبدال ّرحمن الثاني الملقّب بال ِ ِ اليهودي حاولَ �أن يقنع ُه ب�أن ينزلَ في �ضياف ِة ِ
الملك ّ
وكتب َل ُه ر�سال ًة عاجل ًة يخبر ُه بالتوجه �إلى ِ
الملك عبدال ّرحمن الثانيَ ، ّ المغني �أخير ًا في �إقنا ِع َ
زرياب ّ ونجح
زريابَ ،ورغب ًة في ا�ست�ضاف ِة َ
ال�ضياف ِة.
وبح�سن ّ
ِ بال�ضيف ،وواعد ًا �إ ّيا ُه بال ِ
إكرام ِ الجديد مرحب ًا
ِ زرياب �إليه ،فجا َء ر ُّد ِ
الملك بها ب�سيره مع َ
34
ُّ
الحظ يبت�س ُم لزريا َب
عام 822 نف�س ُه في ِ خرج ُ
الملك ُ الملك عبدال ّرحمن الثاني� ،إذ َ عند ِ إكرام) َ (ح�سن ال ِ
َ زرياب �إذ تو ّق َع الحفاو َة
حد�س َ لقد �صدقَ ُ ْ
زرياب راتب ًا �شهري ًا ثابت ًا مقدار ُه مئتا دينا ٍر �شهري ًا،
للهجر ِة ال�ستقبال ِه على ر� ِأ�س جماع ٍة من الم�ستقبلين ،ثم �أجرى (�أعطى)على َ
كذلك �أجرى راتب ًا �شهري ًا مقدار ُه ع�شرون دينار ًا على بنيه الذين قدموا معه ،وكانوا حينها �أربع ًة ،وهم :عبدال ّرحمن ،وجعفر،
أر�ض وبيوت ًا تق َّدر ب�أربعين �ألف دينارٍ. وعبداهلل ،ويحيى .كما وهب ُه (�أعطاه) ق�صر ًا ُ
ي�سكن فيه و�أه ُل ُه ،وقطع َة � ٍ
الملك فيه ظرف ًا وذكا ًء و�أدب ًا وعلم ًا وموهب ًة مو�سيق ّي ًة فذَّ ًة
فوجد ُ الملكَ ، الطعام مع ِ ِ زرياب �إلى تناولِ
ُ وبعد ثالث ِة � ٍ
أيام ُدعي َ
(متف ّوق ًة) جعلت ُه يتخذ ُه �صديق ًا ونديم ًا.
ألحان والمو�سيقى في المكانِ ،بل وفي �أرجا ِء (�أنحا ِء) قرطب َة ،وطا َر زرياب هو قيثار ُة (�آل ٌة مو�سيق ّي ٌة) الق�صرِ التي تبعثُ ال َ
أ�صبح ُ و� َ
(الذين يعزفون ب�شكلٍ ج ّي ٍد) ،مثل :من�صور اليهودي، َ زرياب حتى لم يع ْد ُيذك ُر بوجو ِد ِه غيره من المغنين المجيدين نجم (ا�شتهر) َ ُ
المو�سيقي ،وليتر ّب َع عليه.
ّ (حان) ليبني عر�ش ُهالوقت قد � َآن َ
زرياب ،و�شع َر ب� ّأن َ
نف�س َ وطابت ُ ْ المغني.
ّ وعلون ،وزرقون ،وال ّن ّ
�سائي
زريا ُب يقي ُم معهد ًا مو�سيقياً
لزرياب ،وجعل ُه من �أ�صدقائ ِه،
َ بعد �أن ق َّد َم ُ
الملك المالَ وذلك َ الملك عبدال ّرحمن الثاني هانئ ًة و�سعيدةًَ ، كانت الحيا ُة بجوا ِر ِ
ْ
�شيء في حيات ِه) ،حتى أ� ّن ُه َ
كان أهم ٍ كل حوا�س ِه (� َ
أ�صبح � َّ ملك العو ُد عليه َّ ِ
للعزف والغنا ِء ،حتى َ زرياب
ُ عند َها انقط َع (تف َّر َغ)
َ
يكتمل،َ حلم به حتى
حن الذي َ بعزف ال ّل ِأخذ ثالثتهم ِ حلم بلحنٍ ما ،في�ستدعي جاريتيه غزالن وهنيدة ،وي� ُ وقد َ ُ
ي�ستيقظ لي ًال ْ
ّوم.
زرياب عنه يعو ُد �إلى الن ِ
وعندما ير�ضى ُ
أ�ضاف وتر ًا خام�س ًا �إلى العو ِد ،مما جعل ُه � َ
أعذب القرطبي ،ف� َ
ّ بزرياب
َ أ�صبح ُيلقّب ألقت عبقري ُة زرياب َفي قرطبة َ
بعد �أن � َ وت� ْ
ِ
(الري�شات لتحريك �أوتا ِر العو ِد) العو ِد من ِ
قوادم ِ ُ
ت�ستعمل م�ضراب (القطع َة التي
َ يزال كذلك حتى يومنا هذا .كما َ
جعل �صوت ًا ،وال ُ
�صوت العو ِد �أنقى رنين ًا� ،إلى جانبِ � ّأنأ�صبح ُوبذلك � َ َ الجناح) ال ّن�سرِ بد ًال من رقيقِ الخ�شبِ ،
ِ الكبير ِة في مقدم ِة
أدوم عمر ًا للوترِ .
أخف على الأ�صاب ِع من الخ�شبِ ،و� ُ َ
الري�ش � ّ
ِ
المقامات، العربي �أنواع ًا عديد ًة من
ّ زرياب � َ
أدخل �إلى الغنا ِء َ كما � ّأن
االلتزام
ُ أ�صبح
التزم بها المغنون فيما بعد ،و� َ غناء جديد ٍةَ ، قوانين ٍ َ وو�ض َع
35
36
زرياب على نقلِ خال�ص ِة ف ّن ِه وموهبت ِه �إلى ُ وحر�ص
َ �شروط الغنا ِء الج ّي ِد.ِ بها �شرط ًا من
ِ
�سقوط لتعليم المو�سيقى والغنا ِء في قرطبة بقي قائم ًا حتى ِ يفتح معهد ًا
الآخرين ،مما جعل ُه ُ
وكان نوا ًة لتعليم المو�سيقى والغنا ِء في ع�صرِ هَ ، معهد ِ وكان �أ�شه ُر ٍ أندل�سَ ، الخالف ِة العربي ِة في ال ِ
نف�س ِه في طليطلة وبلن�سية و�إ�شبيلية وغرناطة للغر�ض ِ ِ ن�شئت فيما بعد لمعاهد كثير ٍة أُ� ْ َ (�أ�سا�س ًا)
زرياب و قوانين ِه َ منهج
ِ وكانت ت�سي ُر َوفْقَ ْ العربي �أي�ض ًا، ّ ِ
المغرب أندل�س) بل وفي (مد ٌن في ال ِ
لدت الأغني ُة فقد ُو ْ العربيْ ، ّ زرياب عمود ًا من �أعمد ِة الغنا ِء َ العزف والغنا ِء ،وهذا ما َ
جعل ِ في
حات (هي الخا�ص الذي م َّه َد لظهو ِر المو�شّ ِ ُ أ�صبح لها طاب ُعها الأندل�سي ُة الم�ستق ّل ُة في مدر�س ِت ِه ،و� َ
الخا�ص ،كما ج ّد َد في �شكلِ ِ ق�صائ ٌد لها �أوزا ٌن مخ�صو�ص ٌة) ،وطب َع الأغني َة الأندل�سي َة بطاب ِعهِ ا
الألحانِ ،وم�ضمونِ الأغاني.
�صوت جميلٍ ،فيه �أث ُر الموهب ِة ،ولمعرف ِة ذلك كان ذا ٍ زرياب يقب ُل في معهد ِه �إ َّال من َ يكن ُ ولم ْ
حجام� ،أو �آه ،ف�إن ا�ستم َّر �صو ُت ُه ي�صيح ب�أعلى �صو ِت ِه :يا َّ َ المتقد ِم لاللتحاقِ بمعهد ِه �أن ِّ يطلب منكان ُ َ
احتراف الغنا ِء (جعلِ الغنا ِء مهن ًة). ِ بعدم
وين�صح ُه ِ ُ يرف�ضهُ، واحد ،يقب ُل ب ِه ،و�إ َّال ف�إ ّن ُه ُ بم�ستوى ٍ
والتمرين
ِ التعليم
ِ زرياب معهم رحل ًة طويل ًة من المعهد ،يبد أُ� ُ ِ قبول المتقدمين في وبعد �أن يت ُّم ُ َ
حن ،ثم حركات ال ّل ِ ِ ِ
ل�ضبط بتعليم الإيقا ِع ِ كان يبد�أُ ال�صعبِ ،فقد َ بالب�سيط و�صو ًال �إلى ّ ِ مبتدء ًا
تر�سلٍ ،ثم الغناء ب� ٍ
إيقاع. الغنا ِء على الإيقا ِع دون ّ
ِ
المغنيات أ�صبح مغني ًا وعازف ًا بارع ًا ،لذا ف�أكث ُر زرياب �إ َّال وقد � َ َ الطالب من ِ
معهد ُ يخرج
وال ُ
كان يع�شقها زرياب ،مثل :هنيدة ،وغزالن ،ومتعة التي َ َ ِ
تالميذ أندل�س كانوا من والمغنين في ال ِ
الملك عبدال ّرحمن ،وم�صابيح جارية الكاتبِ �أبي حف�ص. (يح ّبها ب�شد ٍة) ُ
وكان عددهم ع�شرة ،و ك ّل منهم معهد ِهَ ، تالميذ ِ ِ زرياب الذكور والإناث �أ ّولَ َ وكان �أوال ُد
َ
وحار�س ل�صناع ِة الغنا ِء ،ومع ِّل ٌم لها ،وقد بر َع (تف ّوقَ ) منهم عبدال ّرحمن االبن الأكبر، ٌ موهوب،
ٌ
عبدالعزيزِ ها�شم ِبن ِ ٍ كانت ابن ُت ُه حمدون ُة زوج ُة الوزيرِ و�أحمد ،وقا�سم ،وعبداهلل من الذكور ،كما ْ
لت�صبح فيما بعد َ كان العم ُر قد طالَ بعل َّية متف ّوق ًة في �صنع ِة الغنا ِء على �أختها الوحيد ِة عل َّية ،و�إن َ
والد َها. لمجد ِ ركن ًا من �أركانِ الغنا ِء ،ووريث ًة ِ
37
38
رب ،ومعلم ًا لأ�شهرِ � ِ
أعالم ِه الط ِ عر�ش ّنف�س ُه متربع ًا على ِ وليجد َ
َ القديم،
َ بزرياب ليحقّقَ حلم ُه
َ وقد امت َّد العم ُر
لحدا ِة (جمع ٍ
حاد، تقليد لأغاني النّ�صارى� ،أو محاكا ًة ُ أندل�سي من مجر ِد ٍ ّ بعد �أن ح َّولَ الغنا َء ال
(لأ�شهرِ المغنيين) َ
وهو الذي يغني للإبلِ وهي �سائر ٌة في رحل ِت َها) ِ
العرب �إلى فنٍ له قواعد ُه و�أ�صول ُه و�آداب ُه.
وكان مت�أكد ًا من �أ ّن ُه قد
بنف�س ِه واجتها ِد ِه وموهب ِت ِه الفذَّ ِةَ ،
بعر�ش ِه الذي �صنعه ِ زرياب فخور ًا و�سعيد ًا ِ ُ وكان
َ
(تموت)� ،أال وهي ثرو ُة الإبدا ِع.
ُ ح�صل على ثرو ٍة ال تفنىَ
معلّ ُم النّ ِ
ا�س والمروء ِة
�شيد في ق�صرِ هِ ، ملك قرطبة �أن يحاكي بق�صرِ ِه (ي�شابه) حيا َة هارون ال ّر ِ حلم عبدال ّرحمن الثاني ُ كان ُ لقد َ ْ
وكان قد تع ّلمها في زريابَ ، لمهارات الخدم ِة الملوكي ِة التي يتق ُنها (يجيدها) ُ ِ أ�شد المتح ّم�سينكان من � ِ فقد َ لذا ْ
زرياب قدو ًة (مثا ًال يقتدون به) فيما و�ض َع ُه لهم من أندل�س َ ملوك ال ِ فقد اتخذَ ُ لذلك ْ المهدي الذي تر ّبى فيهَ ، ّ ق�صرِ
كان رج ًال ُ
يحلم ببنا ِء يكن مو�سيقي ًا ومغني ًا موهوب ًا وح�سب بل َ فزرياب لم ُْ ن�شاطات الحيا ِة،
ِ وقواعد في ك ّل َ آداب� ٍ
ليتنا�سب مع مو�سيقاه الراقي ِة ،وغنا ِئ ِه ِ
العذب. َ عالم ك ّل ُه ظراف ٌة وذو ٌق وجما ٌل وهنا ٌء، ٍ
والقواعد لت�شي َع المو�سيقى ،ولي�شي َع الغنا ُء في بيئ ٍة ِّ
تقد ُر ِ قدم والرفاه وال ِ
آداب زرياب مقتنع ًا ب�أهمي ِة ال َّت ِ ُ وكان
َ
كل طرائقِ (جم ُع طريق ٍة، ّا�س في ِّ
أندل�س ،فق َّل ُد ُه الن ُ
العربي �إلى ال ِّ آداب الم�شرقِ زرياب جمي َع � ِ ُ فقد َ
نقل الفن؛ لذا ْ َّ
طف وال ّرق ِةّا�س والمروء ِة)؛ لما ع َّلمهم من ال ّل ِ المنهج) حيا ِت ِه ،ولقّب ُه الأندل�سيون بـ (مع ّل ِم الن ِ ُ أ�سلوب �أو
وهي ال ُ
(ح�سن التعاملِ والت�ص ّر ِف). ِ والذّوقِ
الطبيخ الم�س ّمى بالتفايا، ِ أندل�سَ ،
مثل: ال�شرق ّي ِة وطريق ِة �إعدا ِدها �إلى ال ِ زرياب كثير ًا من الأطعم ِة ّ ُ وقد َ
نقل
ُ
(القليل) من الما ِء ،كما �أ ّن ُه قد ع ّل ُم الملح والفلف ُل والي�سي ُر
ال�سمين ،و ُي�ضاف �إليه ُ ِ لحم ال�ض�أنِ
يح�ض ُر من ِ وهو َّ
فاف الرقيقِ ،وكانوا من قبل ي�شربون من الآني ِة المعدني ِة. ال�ش ِّجاج ّ
ؤو�س) من الز ِ أقداح (ك� ٍ الأندل�سيين �أن ي�شربوا في � ٍ
كذلك طرقِ العناي ِة بنظاف ِة نقل �إليهم طرقَ �صن ِع كثيرٍ من العطو ِر من �أوراقِ ال ّزهورِ ،وع ّلمهم َ من َ وهو ْ
المالب�س لتوافقَ الف�صلِ .
ِ وكان له �آرا ٌء م ّتبع ٌة في اختيا ِر مالب�سهِ مَ ،
39
40
كان الك ُّل يق ِّلده فيزرياب ظاهر ًة طريف ًة في غرناط َة ،فقد َ
ُ أ�صبح)
وقد غدا (� َ ْ
ِ
جديدات في بذلك مبتدع ًا ل ِ
أحدث ال ّت فكان َ ِ
ت�صفيف �شعرِ ِهَ ، ملب�س ِه وم�أكل ِه و طرا ِز
جديد والإبدا ِع والأناق ِة،
رائد قرطب َة في ال ّت ِ ِ
وت�صفيف ال�شّ عرِ َ ،
وكان َ ال ّل ِ
با�س والم�أكلِ
أندل�س �إ َّال ويذك ُر معها ُ
زرياب. تعد تُذكر ال ُ ولم ْ
عر�شٌ من الألحا ِن
وقبل وفا ِة الخليف ِة عبد ال ّرحمن الثاني ب�أربعين يوم 852/8/13للهجر ِةَ ، في ِ
(مات) ،وفارقَ ال ّدنيا بعد �أن تر َّب َع زمن ًا طوي ًال على ِ
عر�ش الروح َ زرياب َ أ�سلم ُ يوم ًا � َ
العزف.وقوانين ِ
َ وترك للب�ش ّر ّي ِة �إرث ًا عظيم ًا من الألحانِ والأغاني والأ�شعا ِر
ربَ ، الط ِّ
بعد ُه
وترك مو�سيقاه خالد ًة َ لقد نزلَ عن عر�ش ِه الذي �أم�ضى حيا َت ُه في بنا ِئ ِهَ ،
�صميم والإراد ِة والإبدا ِع .وقد � َ
أكمل وتحث الك َّل على ال ّت ِ الموهوبُّ ،
َ �إلى ال ِأبد ،تر�ش ُد
جديد بنا َء الغنا ِء على ال ِ
أ�سا�س بعد ِه ،و�أ�شادوا من ٍ زرياب وابنتاه الم�سير َة من ِ �أبنا ُء َ
زرياب علي ِه.
(القاعد ِة) الذي بناه والدهم ُ
حن والغنا ِء لأم ٍة كامل ٍة ،فخ َّل َد المو�سيقى،
أنارت طريقَ ال ّل ِ
زرياب �شمع ًة � ْ
كان ُ لقد َ
كل عمرِ ِه ،فوهبت ُه الخلو َد ،وجعلت ُه من الذين حملوا ال ِّن َ
برا�س (النّو َر) و�أح ّبها ووهبها َّ
ِ
الماجد. لأم ِتنَا العرب ّي ِة الإ�سالم ّي ِة عب َر ِ
تاريخ َها
41
ل ّون معنا
42
43