You are on page 1of 191

‫سعد هللا الجابري‬

‫وحوار مع التاريخ‬
‫(أوراق مضيئة)‬

‫ـ‪1‬ـ‬
‫الحقوق كافة‬
‫مـحــــفــــوظـة‬
‫التـحــاد الـكـتـّاب الــعـرب‬

‫‪unecriv@net.sy E‬ـ ‪mail‬‬ ‫البريد االلكتروني‪:‬‬


‫‪aru@net.sy‬‬
‫موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة اإلنترنت‬
‫‪ dam.org‬ـ‪www.awu‬‬

‫‪‬‬

‫ـ‪2‬ـ‬
‫رياض الجابري‬

‫سعد هللا الجابري‬


‫و‬
‫حوار مع التاريخ‬

‫(أوراق مضيئة)‬

‫منشورات اتحاد الكتاب العرب‬


‫دمشق ـ ‪2006‬‬

‫ـ‪3‬ـ‬
‫ـ‪4‬ـ‬
‫المقدمة‬

‫الحــوار مع التــاريخ شــاق‪ ...‬عســير‪...‬ـ فنحن ال نســتطيع أن نعيــده ونســترجعه‬


‫لنناقشه‪ ،‬إال من خالل ما كتب عنه أو قيل‪.‬‬
‫ثم إن التـ ــاريخ حركة دائبة هـ ــادرة‪ ،‬متغـ ــيرة غـ ــير ثابتـ ــة‪ ...‬تنتابها انفعـ ــاالت اللحظة‬
‫الحاسمة التي تسقط فيها خطا الموقف لتسجل في التاريخ‪.‬‬
‫وهكــذا يصــبح عــالم األمس‪...‬ـ عــالم اآلبــاء واألجــداد‪ ،‬عالمـاً تتالشى فيه بعض‬
‫وتحرف حقائق‪ ،‬وتطمس حقائق‪ ،‬وتزول األلوان‪ ...‬فالكل باهت‪ ،‬ويزول‬ ‫الحقائق‪ّ ،‬‬
‫ما رسمته يد األيام‪...‬‬
‫بيد أن ص ـ ــدق مواقفنا في واقعنا المتغ ـ ــير‪ ،‬ومن خالل أمتنا العربية وحرص ـ ــنا‬
‫وحسنا القومي‬‫على جيل يترعرع في عهد سريع التغير‪ ،‬وإ دراكاً لواجباتنا الوطنية ّ‬
‫الـ ــذي يمـ ـ ّـدنا بمعـ ــنى االنتسـ ــاب إلى الـ ــوطن‪ ،‬كل هـ ــذا يحفزنا لـ ــدرس أعمـ ــال رجالنا‬
‫األبط ــال ال ــذين قض ــوا وترك ــوا لنا ما نتعظ به في الت ــاريخ‪ ،‬ثم س ــبر حي ــاتهم ل ــنزداد‬
‫إيمانـ ـاً بحبنا وتعاطفنا مع وطن وش ــعب‪ ،‬ولنخلق في روح الجيل وض ــميره إحساسـ ـاً‬
‫باالعتبــار والتمسك بالجــذور الــتي تثبت النبتة في أرضــها والفــرد بقومه وهو يحمل‬
‫مس ــؤولية المس ــتقبل‪ ،‬وت ــراه بأشد الحاجة لمعرفة الس ــبل الرش ــيدة ال ــتي تصل به إلى‬
‫شاطئ العزة والكرامة اإلنسانية‪.‬‬
‫إن تفكيرنا الص ـ ـ ــحيح في مس ـ ـ ــتقبل األمة العربي ـ ـ ــة‪ ،‬وحرص ـ ـ ــنا على مس ـ ـ ــتقبلها‬
‫ـاء في العــزم‪،‬‬ ‫الوطــني يحفزنا إلى دراسة أعمــال رجالنا وأبطالنا وبعثها لــنزداد مضـ ً‬
‫وثباتـاً على المبــادئ الوطنية ولنخلق لــدى النشء الطــالع إحساسـاً بالقــدرة واالعتبــار‬
‫وتواصل العمل النضالي‪.‬‬
‫من ه ـ ــذا المنطل ـ ــق‪ ،‬نفتش عن أبطالنا في ثنايا تاريخن ـ ــا‪ ،‬في ماض ـ ــينا وتراثن ـ ــا‪،‬‬
‫ال ـ ــذي اكتسب بعض الثب ـ ــات في المواق ـ ــف‪ ،‬بينما الحاضر ال يملك ه ـ ــذه الص ـ ــفة إال‬
‫عندما يصبح ماضياً‪ ،‬نفتش في ثنايا التاريخ منذ أن وعيناه جهــاداً ومقاومــة‪ ،‬أي منذ‬
‫نهاية االستعمار‪...‬‬

‫ـ‪5‬ـ‬
‫وقد نبحث كــذلك‪ ،‬عمن كــانت على يــده هــذه النهاية لــنراه في شــخص ســعد اهلل‬
‫الجابري‪ ،‬مع نخبة من أصدقاء الدرب وحاملي المشعل‪ ،‬والذين ُيعدون بحق أبطاالً‬
‫تفخر بهم األمة العربية من محيطها إلى خليجها‪...‬‬
‫ولما ك ــانت لشخصــية س ــعد اهلل الج ــابري صــفات القيــادة والريــادة‪ ،‬واإلخالص‬
‫المطلق لمبادئــه‪ ،‬فقد وقع اختيارنا على هــذا الشــاب المنطلــق‪ ،‬والــذي كــان الجــريء‬
‫الحلبي األول الذي لم يتسلل الخوف إلى قلبه مطلقاً‪ ،‬والذي بدأ نضـاله الوطـني وهو‬
‫ال يزال على مقاعد الدراسة في اآلستانة (تركيا)‪.‬‬
‫يقول باتريك سيل ‪:)1(Patric Seal‬‬
‫"إن سعد اهلل كان أشجع رجل في الكتلة الوطنية وأكثرهم استقامة"‪.‬‬
‫ولئن ك ــان ت ــاريخ األمم هو من ت ــاريخ رجاله ــا‪ ،‬فرجل س ــورية ـ ـ س ــعد اهلل ـ ـ قد‬
‫ارتبط بالحركة القومية العربية منذ نشـ ـ ــأتها‪ ،‬وال ينكر الشـ ـ ــعب السـ ـ ــوري والعـ ـ ــربي‬
‫على امتـ ــداد أبعـ ــاده‪ ،‬أن سـ ــعد اهلل الجـ ــابري كـ ــان صـ ــاحب كلمـ ــة‪ ،‬وصـ ــاحب قـ ــرار‪،‬‬
‫وص ــاحب رأي في المواقف السياســية الحاس ــمة‪ .‬وله ــذا فنحن في حوارنا مع ت ــاريخ‬
‫رج ـ ــل‪ ،‬سنصل إلى رجل ت ـ ــاريخ‪ ،‬ت ـ ــاريخ حيك نس ـ ــيجه بالوطنية وتش ـ ــابكت خيوطه‬
‫باإلخالص والصبر والثبــات‪ ،‬وأهم ما في هــذا التــاريخ أنه فتح بــاب القضــية العربية‬
‫بوحدة تخلق القوة وتكون أكثر خلوداً من الحضارات‪....‬ـ‬

‫رياضـ الجابري‬
‫حلب‪ /‬سورية‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫باتريك سيل ـ الصراع على سورية‪.Patric Seal - The Struggle of Syria .‬‬

‫ـ‪6‬ـ‬
‫‪1947 – 1894‬‬
‫ما فكر إال في بالد الشام وطنه الصغير‬
‫وبالد العرب وطنه الكبير‬

‫"ما كـ ــان لنا أن نختـ ــار عنـ ــدما فـ ــرض علينا االنتـ ــداب‪،‬‬
‫ولكن ك ــان لنا االختي ــار أن نحاربه ح ــتى نقضي علي ــه‪،‬‬
‫وقد فعلنا ما يقضيه علينا الواجب الوطني"‪.‬‬

‫سعد هللا الجابري‬

‫ـ‪7‬ـ‬
‫ـ‪8‬ـ‬
‫كيف أرسم صورة الجابري؟‬

‫إذا كـانت األنثروبولوجيا الحديثــة‪ ،‬تحـاول رسم صـورة الشــعوب واألشـخاص‪،‬‬


‫بخطوطها الك ـ ــبرى ع ـ ــبر الت ـ ــاريخ‪ ،‬فس ـ ــأحاول في دراس ـ ــتي ه ـ ــذه أن أرسم ص ـ ــورة‬
‫ألبين معالمها وأخ ـ ــرج مواقفها شـ ـ ــفافة ص ـ ــافية‪ ،‬وأحاورها‬‫الج ـ ــابري عـ ـ ــبر تاريخه ّ‬
‫بصــدق في ضــوء األحــداث الوطنية الــتي عاشــها‪ ،‬والمرحلة الحاســمة والفاصــلة بين‬
‫استعمار واستقالل‪...‬‬
‫وســوف أدخل على الجــابري من بــاب التسلسل الزمــني لحوادثــه‪ ،‬علّــني أشــرح‬
‫التوافق البطيء أو التن ـ ـ ــافر بين األش ـ ـ ــياء وال ـ ـ ــزمن‪ ،‬وس ـ ـ ــأواجه س ـ ـ ــعد اهلل من خالل‬
‫منعطفــات حيــاة تــركت بصــماتها في نفسه وأثــرت في ســلوكه وتجلّت في تعامله مع‬
‫النــاس‪ ،‬وبــرزت صــريحة واضــحة في مواقفه الوطنيــة‪ ،‬وتلك نتيجة طبيعية لوجــود‬
‫وشائج قربى شبكية بين الجابري ونشأته‪.‬‬
‫وهذه الدراسة تدعوني ألن أشرح بعض المواقف والظروف العائلية والنفســية‬
‫الــتي تهم الموضــوع‪ ،‬والــتي أحــاطت بالجــابري وأنشــأته على إحــدى الصــور‪ ،‬ولهــذا‬
‫تعد هذه الدراسة خارطة نفسية للمشــاعر الوطنية الـتي حفــرت فيها قنــوات ورســمت‬
‫الطـ ـ ــرق الـ ـ ــتي سـ ـ ــلكها س ـ ـ ــعد اهلل‪ ،‬ثم اقتادته بحكم إرادة الوج ـ ـ ــود‪ ،‬وخالل الس ـ ـ ــهول‬
‫والجبــال الشــاهقة الــتي يتــألف منها مجــرى التــاريخ الخالــد‪ ،‬وذلك منذ والدته وحــتى‬
‫وفاته عــام ‪ ،1947‬وما رســمته من تخطيط وطــني تجلّى في انــتزاع االســتقالل من‬
‫براثن االستعمار‪.‬‬
‫وله ـ ــذا س ـ ــيكون ح ـ ــواري مع الت ـ ــاريخ س ـ ــنة إثر س ـ ــنة حيث تتواصل الح ـ ــوادث‬
‫لتكشف عن جــذور الحــدث في تمــددات الواقع الــذي يبتــدئ قبيل القــرن التاسع عشر‬
‫وحيث ك ـ ــانت البالد العربي ـ ــة‪ ،‬كله ـ ــا‪ ،‬عالمـ ـ ـاً غ ـ ــير مس ـ ــتقر‪ ،‬كما يش ـ ــير التيليس ـ ــكوب‬
‫التــاريخي الكبــير‪ ،‬والــذي هـ ّـز العــالم العــربي كلّــه‪ ،‬ألن هــذا الــوطن كــان بوابة العــالم‬
‫ومصدر الطاقة‪.‬‬

‫ـ‪9‬ـ‬
‫‪ ‬من هو الجابري‪...‬؟‬
‫في يـ ـ ـ ــوم من أيـ ـ ـ ــام ‪ 1894‬اسـ ـ ـ ــتيقظ حي (السـ ـ ـ ــويقة)‪ ،‬في قلب مدينة حلب في‬
‫سورية‪ ،‬على صرخة طفل جميل‪ ،‬سماه والده (سعد اهلل)‪.‬‬
‫وإ ذا ك ــان الطفل ع ــادة يولد م ــرتين‪ :‬األولى والدة بيولوجية عض ــوية‪ ،‬والثانية‬
‫والدة ثقافيـ ــة‪ ،‬يتحـ ـ ّـول فيها إلى كـ ــائن ثقـ ــافي وأخالقي‪ ،‬فنحن سـ ــوف نـ ــدرس الـ ــوالدة‬
‫الثقافية واألخالقية من خالل المنــاخ األســري الــذي عاشه ومن خالل المنــاخ البيــئي‬
‫الذي أثر في إكسابه جزءاً من شخصيته‪.‬‬
‫وإ ذا ك ــان األطف ــال يرض ــعون الحليب منذ أول ص ــرختهم‪ .‬فهم يرض ــعون من‬
‫ثقافة األس ــرة‪ ،‬واألم خصوصـ ـاً‪ ،‬كما يرض ــعون من ثقافة المجتمع ش ــيئاً فش ــيئاً ومن‬
‫خالل امتصاصهم التاريخي بعض عناصر البيئة‪.‬‬
‫وت ـ ــأثرت (أن ـ ــا) س ـ ــعد اهلل بالبيئة االجتماعية بجميع أطرها المتداخلة وذلك من‬
‫اإلطار الحضاري العام إلى اإلطار األسري الخاص‪.‬‬

‫‪ ‬المناخ األسري‪:‬‬
‫حبا سـ ــعد اهلل الطفل في جو عـ ــائلي جيـ ــد‪ ،‬فالنسـ ــيج الـ ــتربوي والثقـ ــافي المتمثل‬
‫بعناصر عائلت ــه‪ ،‬ثم الحق ــائق واآلراء واألفك ــار واألحاس ــيس واالتجاه ــات قد انتقلت‬
‫في معظمها إليـ ـ ـ ـ ـ ــه‪ ،‬بعد أن اختـ ـ ـ ـ ـ ــار منها ما يناسب نفسه ويرضي منطقـ ـ ـ ـ ـ ــه‪ ،‬على‬
‫مدى األيام‪.‬‬
‫ونما سعد اهلل في ظالل وارفة‪ ،‬عطف أبيه الحاج (عبد القادر لطفي الجـابري)‬
‫مفــتي حلب‪ ،‬ووالدته الســيدة (حســنى ملــك) وهي شركســية األصــل‪ ،‬والــتي حضــنته‬
‫حبـاً وأكســبته رهفـاً في المشــاعر‪ ،‬كما أســهم والــده في إغنــاء شــغفه بوطنه وإ حساسه‬
‫بقومه‪.‬‬
‫وتربية الطفل عـ ـ ـ ـ ـ ــادة تنبع من نبعين اثـ ـ ـ ـ ـ ــنين‪ :‬الفطـ ـ ـ ـ ـ ــرة‪ ،‬والتربية أو الوراثة‬
‫واالكتس ــاب‪ ،‬بيد أن العامل الفط ــري عند س ــعد اهلل‪ ،‬واس ــتعداداته النفس ــية األولى‪ ،‬قد‬
‫تغلّب على االكتس ــاب‪ ،‬وبمع ــنى آخ ــر‪ ،‬إذا ك ــان الم ــاء يأخذ ش ــكل اإلن ــاء‪ ،‬واإلنس ــان‬
‫يطبع بالمك ـ ــان‪ ،‬ف ـ ــإن المك ـ ــان ال ـ ــذي درج في ـ ــه‪ ،‬قد ك ـ ــان لـه مفعول ـ ــه‪ ،‬ولكن طغي ـ ــان‬
‫العناصر الذاتية‪ ،‬كان أشد وضوحاً عنده‪.‬‬
‫وب ـ ــرزت عناصر الص ـ ــدق واألمانة واإلخالص في مس ـ ــلكه‪ ،‬ونشأ وهو يحمل‬
‫شــعوراً غنيـاً بــالحب لقومه وشــعبه وعروبته منذ صــغره‪ .‬وهـذا دليل على أن روحه‬
‫قد أشـ ـ ـ ـ ــبعت وامتألت بحب اهلل والـ ـ ـ ـ ــوطن وغمر جوانحه ونفسـ ـ ـ ـ ــه‪ ،‬ثـ ـ ـ ـ ــراء العاطفة‬

‫ـ ‪ 10‬ـ‬
‫عبر عن مشـ ـ ــاعره‬
‫ومسـ ـ ــؤولية المسـ ـ ــتقبل والمصـ ـ ــير‪ ،‬ألنه منذ إيقـ ـ ــاع حياته األولى ّ‬
‫وهواجسه الوطنية‪ ،‬كما سنرى‪.‬‬
‫ت ــروي قريبة لـ ــه‪( ،‬وهي مص ــدر ثقة كب ــير) أن س ــعد اهلل ك ــان في الس ــابعة من‬
‫ويتفج ــر‪ ،‬قـ ــالت‪" :‬في يـ ــوم كـ ــانت أمه تحتضـ ــنه في‬
‫ّـ‬ ‫عمـ ــره عنـ ــدما كـ ــان يتقد وطنية‬
‫حجرها حب ـ ـاً ورعايـ ــة‪ ،‬فما كـ ــان من سـ ــعد اهلل بعد صـ ــمت طويل وهو يتأمل وجهها‬
‫تأوه من أعماقه وقال‪(" :‬أماه ليتك كنت عربية)"‪.‬‬ ‫سوى أن ّ‬
‫في السـ ــابعة وهو يحمل هـ ــذا الشـ ــعور المتقد وطنيـ ــة‪ ،‬وهـ ــذا الوجـ ــدان الملتهب‬
‫حماسة في الس ــابعة حيث الطفولة تس ــيطر على كي ــان الطف ــل‪ ،‬وال ت ــترك متس ــعاً من‬
‫الوقت إال للعب واللهو‪ ،‬كان سعد اهلل يطـرق بـاب عـالم آخر هو عـالم الرجـال‪ ،‬عـالم‬
‫عاشه قبل األوان‪ .‬وراح الي ــافع ينم ــو‪...‬ـ وي ــترعرع‪ ...‬ومظ ــاهر النباهة والزعامة‬
‫القيادية واالس ـ ــتقامة تس ـ ــيطر عليه في أك ـ ــثر مواقف ـ ــه‪ ،‬وبين رفاق ـ ــه‪ ،‬ح ـ ــتى إن أك ـ ــثر‬
‫ـاء أف ــاد منها فيما بعد تج ــاه وطن ــه‪ ،‬وذلك عن ــدما‬ ‫انفعاالته قد اس ــتخدمها اس ــتخداماً بن ـ ً‬
‫احتقر الشهوات‪ ،‬وجابه األلم والحرمان‪ ،‬وهو يتطلع إلى هدف وغرض رفيع‪...‬ـ‬
‫ك ــان وال ــده عبد الق ــادر لطفي الج ــابري رجالً عص ــامياً‪ ،‬يعمل بش ــكل متواصل‬
‫ليستطيع أن يعيش جيداً ويؤمن حياة أوالده التسعة وزوجتيه االثنتين‪...‬‬
‫ودارت األيـ ــام‪...‬ـ ومـ ــات والـ ــده ووالدتـ ــه‪ ...‬وعـ ــاش وحيـ ــداً في داره‪ ،‬منعـ ــزالً‬
‫متفرغـاً إلى قراءاته واتصـاالته مع شــلة من األصــدقاء‪ ،‬كـان يـرى فيهم بريقـاً وطنيـاً‬
‫وطموحـاً لتحقيق اســتقالل البالد الــتي كــان يحســها تئن وتتلــوى تحت نــير االســتعمار‬
‫العثماني‪...‬ـ‬
‫وإ ذ يخلو إلى نفسه ك ــان يتوجه بكل قلبه إلى الن ــور ال ــذي مأل وج ــوده إلى ن ــور‬
‫اهلل حيث يص ــلي ويطلب الرحمة لوالدي ــه‪ ،‬والكرامة والع ــزة لش ــعبه ووطن ــه‪ .‬وك ــان‬
‫يقـ ــرأ القـ ــرآن الكـ ــريم الـ ــذي كـ ــان يـ ــدعو النـ ــاس إلى النظر في األرض والسـ ــماء‪ ،‬في‬
‫األحياء وفي أنفسهم‪ ...‬بحثاً عن آالء اهلل‪.‬‬
‫تكيفه مع عصــره وولوعه بأحــدث األزيــاء‬
‫كــان مؤمن ـاً بصــدق وإ خالص رغم ّ‬
‫توخياً ألناقة اشتهر بها‪.‬‬
‫لم يـ ـ ــتزوج‪ ،‬وكأنه منذ صـ ـ ــغره يثـ ـ ــير (قلـ ـ ــق) مطلب السـ ـ ــعادة األعمى‪،‬ـ مطلب‬
‫إرضاء الغرائز الحيوية الضيقة‪ ،‬حتى قال فيه أصدقاؤه الشعراء‪:‬‬
‫قال الشاعر بدر الدين الحامد‪:‬‬
‫ود ِد‬ ‫ولم تُ ِرد متع اً من ل ٍ‬
‫ذة َ‬ ‫لم تُل ِ‬
‫ق ب االً إلى ال دنيا وزخرفها‬

‫ـ ‪ 11‬ـ‬
‫كما قال الشاعر عادل عفنبان‪:‬‬

‫ٍ‬
‫وطن نم اه‪ ،‬فع اش في الع ّزاب‬ ‫ذهب ال ذي وقف الحي اة على ه وى‬

‫وكأن سعد اهلل كان يوازن في (شعوره وال شعوره) في إعطــاء كيانه ووجــوده‬
‫إلى وطن وأرض أو إلى أس ـ ــرة وأوالد‪ ،‬وغلبه حب ال ـ ــوطن وش ـ ــغله عن كل أم ـ ــور‬
‫الشباب من لهو ومـال ونسـاء‪ ...‬فليست حيـاة اللـذة واالسـتمتاع بالعـالم ك َّـل شـيء في‬
‫الـ ــدنيا‪ .‬وانصـ ــرف إلى تعبئة نفسه إلعطائها كاملة إلى الـ ــوطن‪ ،‬وربما كـ ــانت أكـ ــثر‬
‫أمواله التي ورثها عن أسرته تصرف على قضـية وطنــه‪ ،‬فـالوطن هو الكرامة وهو‬
‫الحرية وهو الحب‪.‬‬
‫من هــذه الينــابيع األعمــق‪ ،‬الــتي تــتيح لكل فكر أن يلقى معنــاه وتــبريره‪ ،‬اســتمد‬
‫سعد اهلل الجواب عن المسائل األساسية في الحياة والتي تتوجها (عزة الوطن)‪.‬ـ‬

‫‪ ‬المناخ االجتماعي‪:‬‬
‫تنفذ آث ــار البيئة إلى النفس وت ــؤثر في نض ــجها ونموها وس ــرعة ارتقائه ــا‪ ،‬كما‬
‫أنها تعين إيقاع ارتقائها إلى الصفات العامة للشخصية‪.‬‬
‫وكـ ــان أن ُوِلد سـ ــعد اهلل في أحضـ ــان القلق االجتمـ ــاعي واالضـ ــطراب السياسي‬
‫والذي كان وراء آالم معاناة شعبه األعزل المقهور‪.‬‬
‫وكبر سعد اهلل وصحا على ما كــان يحيطه من اجتماعــات واتصــاالت تقــوم بها‬
‫عائلته الســيما أخــوه الكبــير فــاخر الجــابري‪ ،‬حيث كــان يجتمع مع رجــاالت البلد في‬
‫داره في األنص ــاري أو في (قن ــاق) الش ــيخ عبد الحميد الج ــابري في الس ــويقة‪ ،‬حيث‬
‫كــان (الليــوان) يضم الوطنــيين كما أن تنقالت أخيه الكبــير إحســان الجــابري وســفره‬
‫مع بعض رجـ ـ ـ ــاالت السياسة من أجل قضـ ـ ـ ــية الـ ـ ـ ــوطن قد أغنت مشـ ـ ـ ــاعره الوطنية‬
‫وعبأتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫شــهد ســعد اهلل كيف كــان (الليــوان) يضم العديد من بيت الجــابري في حلب "إذ‬
‫(‪)1‬‬
‫ـاء‬
‫إنها كــانت أكــبر عائلة حلبية وأوســعها ســلطة" ‪ .‬وكــان أكــثر أفرادها رجــاالً ونسـ ً‬
‫يحمل ـ ــون في قل ـ ــوبهم الش ـ ــعور الوط ـ ــني الص ـ ــادق‪ .‬وفي اجتماع ـ ــاتهم اليومية ك ـ ــانوا‬
‫يت ـ ـ ــداولون في أم ـ ـ ــور البالد وما آلت إليه الح ـ ـ ــال من اس ـ ـ ــتبداد الس ـ ـ ــالطين ومالحقة‬
‫الوطنيين والمفكرين‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫حلب الحلم‪ ،‬انترانيك زاروكيان‪.‬‬

‫ـ ‪ 12‬ـ‬
‫ك ــان س ــعد اهلل يحضر معظم ه ــذه االجتماع ــات‪ ،‬ويص ــغي بانتب ــاه ش ــديد إلى ما‬
‫يــدور فيها ويلتقط كل خـبر‪ ،‬ويمتلئ بـذلك إحساسه بـالقهر الشـديد من حلم جـائر‪ ،‬في‬
‫قوة ومضاء في سبيل خدمة وطنه‪.‬‬ ‫الوقت الذي يزداد فيه ّ‬
‫وك ــان ي ــنزعج أشد االنزع ــاج للسياسة ال ــتي يطبقها الس ــالطين في حق األف ــراد‬
‫الس ـ ــوريين والع ـ ــرب‪ ،‬وامتأل قلبه الكبـ ــير بالتص ـ ــميم على محاربة الظلم بأية وس ـ ــيلة‬
‫كــانت‪ ،‬وتلـ ّـونت اتصــاالته الجماهيرية بمواقف التفاعل بينه وبين أفــراد عائلته الــتي‬
‫تشــهد االجتماعــات الوطنيــة‪ ،‬وبين عــدد كبــير من األشــخاص‪ ،‬وفي هــذه االتصــاالت‬
‫كلّها كانت قضية تحرير الوطن تتوج هام الجهاد‪.‬‬

‫‪ ‬المناخ السياسي‪:‬‬
‫كــانت ســورية واحــدة من أعظم اإلمبراطوريــات الــتي عرفها التــاريخ‪ ،‬وكــانت‬
‫التغير‬
‫ملتقى الحضـ ـ ـ ــارات ومهد الـ ـ ـ ــديانات‪ ،‬وفي نهاية القـ ـ ـ ــرن العشـ ـ ـ ــرين اعتراها ّ‬
‫وتطــورت أوضــاعها السياســية منذ تقلبها في أحضــان اســتعمار عثمــاني ثم فرنســي‪،‬‬
‫وكادت تفقد هويتها وتنسحق ذاتها لوال مبادرة بعض الوطنيين من رجالها‪.‬‬
‫كما كانت سورية جزءاً من الوطن العربي‪ ،‬الــذي كــان يــرزح تحت اجتياحــات‬
‫الدول األجنبية منذ انهيار الخالفة اإلسالمية‪ ،‬فقد انحسرت كل حضــارة‪ ،‬وأصــبحت‬
‫في عصر انحطــاط علمي وسياسي وثقــافي‪ ،‬تفــاقم التخلف الحضــاري ووقفت عجلة‬
‫االزدهار والكسب وتقوقع كل تقدم‪.‬‬
‫وســاد االس ــتعمار العثم ــاني الــذي اشــتهر بض ــغوط كث ــيرة س ــوف نراه ــا‪ ،‬وكــان‬
‫استعمال القسـوة والسـحق والنفي والتشـريد ووسـائل القمع الفردية والجماعيـة‪ ،‬حـتى‬
‫استكان الشعب للهوان‪.‬‬
‫وراح العــرب يســعون إلى تــأليف جمعيــات ســرية داخل وخــارج نطــاق الــوطن‬
‫العربي في بغـداد واســتنبول والقـاهرة وبــاريس‪ ...‬إلنقـاذ البالد‪ ،‬بعد أن لجأ األتـراك‬
‫إلى سياسة التتريك في كل مظـ ـ ــاهر الحيـ ـ ــاة بأسـ ـ ــاليب قمعية وجـ ـ ــائرة وقـ ـ ــام كتـ ـ ــاب‬
‫وطــنيون يجاهــدون من خالل قصــائدهم الســتثارة الحمــاس وإ لهــاب المشــاعر وتقوية‬
‫الحماسة والروح الوطنية‪.‬‬
‫وهكذا انصرف سعد اهلل في هذه األجواء نحو الجهاد‪.‬‬
‫‪ ‬دراسته‪:‬‬
‫في هذه األجواء المحيطة القاتمة التي ذكرت؛ راح سعد اهلل يدرس في مدرسة‬
‫الرشـ ـ ـ ــدية الثانويـ ـ ـ ــة‪ ،‬وقد الحظ كيف انحبست الـ ـ ـ ــروح الوطنية في صـ ـ ـ ــدور بعض‬

‫ـ ‪ 13‬ـ‬
‫المدرسين الوطنيين الذين لم يسـتطيعوا أن يعلنــوا عن نوايــاهم في سـبيل الجهـاد ضد‬
‫موجة التتريك المنتشرة في جهاز التعليم‪.‬‬
‫وك ـ ّـرس جه ــوده في دراس ــته ح ــتى اس ــتطاع أن ي ــبرز ويتف ــوق ويتخ ــرج مبك ــراً‬
‫وبعد الدراسة الثانوية ذهب إلى اآلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتانة (اسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتنبول) والتحق بالكلية الملكية‬
‫الس ــلطانية لي ــدرس الحق ــوق‪ .‬وإ لى ج ــانب دراس ــته‪ ،‬ك ــان ي ــراقب بعين بص ــيرة وعن‬
‫كثب‪ ،‬ما ي ــدور في أج ــواء السياسة التركي ــة‪ ،‬وال ــتي ك ــانت وراءها جماع ــات يهودية‬
‫غنية متمكنة من قوتها المادية وحنكتها السياسـ ـ ـ ـ ــية‪ ،‬والـ ـ ـ ـ ــتي كـ ـ ـ ـ ــانت تحلم بشـ ـ ـ ـ ــراء‬
‫األراضي العربي ــة‪ ...‬وراح س ــعد اهلل يت ــابع ه ــذا الموض ــوع‪ ،‬وهو مقه ــور الش ــعور‪،‬‬
‫وعلم أن المستشــرق الهنغــاري (أرمينــوس فــامبيري) وكــان صــديقاً حميمـاً للســلطان‬
‫عبد الحميد الثاني‪ ،‬هو الذي رتب لـ(تيودور هرتزل) لقــاءه مع الســلطان عبد الحميد‬
‫س ــنة ‪ ،1901‬حيث ع ــرض عليه فك ــرة ش ــراء فلس ــطين وهج ــرة اليه ــود إليه ــا‪ ،‬كما‬
‫نصح القومــيين األتــراك بضــرورة التخلي عن اإلســالم‪ ،‬ألنه يــنزع عنهم شخصـيتهم‬
‫القومية‪.‬‬
‫وهكذا لمس ســعد اهلل األجــواء السـيما تلك الـتي خلقتها جمعية االتحـاد والــترقي‬
‫منذ عام ‪ ،1908‬والتي كــان وراءها اليهــود الــذين عبثــوا في أمن البالد وتــدخلوا في‬
‫شــؤونها ســراً‪ ،‬وشــكلوا جمعيــات كثــيرة‪ ،‬حــتى أن اليهــوديين‪( :‬نســيم روســو‪ ،‬ونســيم‬
‫مازليــاح) كانا من العناصر المؤسسة والفعالة في حركة (تركيا الفتــاة) الــتي عــرفت‬
‫بأنها (حصان طروادة الماسوني)(‪.)1‬‬
‫على الـ ــرغم من القهر من السياسة (التركية اليهوديـ ــة) والـ ــتي تسـ ــتهدف البالد‬
‫العربية وفي مق ـ ــدمتها س ـ ــورية‪ ،‬فقد مضى في دراس ـ ــته بجد ومث ـ ــابرة‪ ،‬ولعل أق ـ ــرب‬
‫األشـ ــخاص إليه هو الـ ــذي يسـ ــتطيع أن يصـ ــفه بتجـ ــرد وكـ ــان هـ ــذا الشـ ــخص صـ ــديقه‬
‫الع ـ ــراقي (توفيق الس ـ ــويدي) زميله ال ـ ــذي وص ـ ــفه بموض ـ ــوعية بعي ـ ــدة عن كل غاية‬
‫يقــول‪" :‬عرفته عــام ‪ 1910‬وكــان شــاباً يلتهب حماسـةً ويتــدفق فطنــة‪ ،‬كــان يميل إلى‬
‫الدعابة ويسـ ـ ــتلطف النكتـ ـ ــة‪ ،‬ولكنه كـ ـ ــان منصـ ـ ــرفاً بكليته إلى الـ ـ ــدرس والمطالعـ ـ ــة‪.‬‬
‫وش ـ ــغوفاً ب ـ ــاألدب عامة وبالش ـ ــعر خاص ـ ــة‪ ،‬وك ـ ــان مي ـ ــاالً إلى التج ـ ــدد في االجتم ـ ــاع‬
‫والسياسة واالقتصـاد وعلى قـدر عظيم من الكياسة على الـرغم من صـغر سـنه‪ ،‬كما‬
‫عبء عظيم بعد‬ ‫ٍ‬ ‫كـان طموحـاً إلى العال‪ ،‬فكأنه أدرك‪ ،‬منذ صـغره‪ ،‬أنه مـدعو لتحمل‬
‫ذلك في سبيل وطنه"‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫صالح زهر الدين ـ اليهود في تركيا‪ .‬ص‪.22‬‬

‫ـ ‪ 14‬ـ‬
‫في عــام ‪ 1912‬وعنــدما بلغ الثامنة عشــرة من عمــره‪ ،‬اتصل بالشــباب العــرب‬
‫وأسس ـ ـ ــوا (الجمعية الفت ـ ـ ــاة) وأقس ـ ـ ــموا اليمين للعمل على اس ـ ـ ــتقالل البالد العربي ـ ـ ــة‪،‬‬
‫والســيما وهم يــرون نــزاع (الرجل المــريض) ويــرون كيف بــرزت أطمــاع دول في‬
‫غـ ـ ــزو واسـ ـ ــتالب بالده وأرضه الواسـ ـ ــعة األبعـ ـ ــاد وكيف انكشف قنـ ـ ــاع االسـ ـ ــتعمار‬
‫وتعرى باطله‪.‬‬
‫ومضى مع رفـ ـ ــاق الطريـ ـ ــق‪ ،‬وزاد في حماسـ ـ ــته موقف أخيه الكبـ ـ ــير إحسـ ـ ــان‬
‫الجابري‪ ،‬الذي كان يحضر المؤتمر العربي في باريس عام ‪.1913‬‬
‫وبقي تحرير البالد العربية هو األمل األول عن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــده‪ ،‬بل هو الحلم واله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدف‬
‫األسمى‪...‬ـ‬
‫عــاد إلى حلب بعد تخرجه من المدرسة الملكية الشــهيرة‪ ،‬وراح يعيش في قلب‬
‫العواصف السياس ـ ــية الك ـ ــبرى‪ ،‬ولمس بمش ـ ــاعره رغبة المس ـ ــتعمرين س ـ ــواء َأك ـ ــانوا‬
‫أتراك ـ ـاً أو فرنسـ ــيين أو بريطـ ــانيين‪ ،‬في السـ ــيطرة على بالده الخـ ــيرة والغنيـ ــة‪ ،‬أمـ ــام‬
‫ضعف السلطة وتخاذل المسؤولين‪.‬‬
‫ومنذ ذلك الـ ــوقت وحـ ــتى عـ ــام ‪ 1922‬كـ ــان يجـ ــري التالعب بمصـ ــير الـ ــوطن‬
‫العــربي‪ ،‬ومن جـانب تركيا بشــكل خــاص‪ ،‬والسـيما بعد توديع اســتنبول آخر ســلطان‬
‫عثماني‪.‬‬
‫وأراد سعد اهلل الجابري أن يشكل نواة من القوى الوطنية لمحاربة االستعمار‪،‬‬
‫فجدد اتصاالته بمن كان معه في الكلية‪ ،‬ومنهم شكري القوتلي وغــيره من العناصر‬
‫الوطنية‪ ،‬ولم يهرب سعد اهلل من واقعه‪ ،‬إنه فكر حر ال يتيح للمــرء أن ينطــوي على‬
‫ذاته‪.‬‬
‫وفي هذا العمر‪ ،‬وقد تفتحت شخصـيته ونضـجت؛ وتـوازنت مقوماتها وسـمت‪،‬‬
‫وثبتت دعــائم طباعها واســتقرت‪ ،‬نســتطيع أن نرسم بوضــوح أطر الكيــان الخــالص‪،‬‬
‫الروحي والنفسي لسعد اهلل وانعكاس ذلك في سياسته‪.‬‬

‫‪ ‬صفاته الشخصية‪:‬‬
‫‪1‬ـ مظه ره‪ :‬كــان جميالً حسن الهيئة أنيق المظهــر‪ ،‬يصــفه بعض معارفــه‪ :‬أن‬
‫ســعد اهلل كــان أنيقـاً في الكالم واللبــاس‪ .‬وعلى الــرغم من مظهــره الجــاد أو (الجــاف)‬
‫أحياناً‪ ،‬فقد كانت الحيوية الفياضة تشع من حركاته‪ ،‬فإذا تكلّم تكلمت الحياة فيه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ذاته‪ :‬من أبــرز صــفاته الــتي تنبع من نفس شــفافة صــدق وطنيته وإ خالص‬
‫جهــاده ورائع شــجاعته‪ ،‬إذ لم يكن يخشى شــيئاً ولم يحس بــالخوف في أي موقف في‬

‫ـ ‪ 15‬ـ‬
‫حياتــه‪ ،‬ألن الخـوف شـعور بـالموت المعنــوي‪ ،‬ولـذا لم يجد الخـوف منفـذاً إلى أعماله‬
‫أو طريق ـ ـ ـاً إلى كالمه أو سـ ـ ــبيالًَ لتعاملـ ـ ــه‪ .‬وكـ ـ ــان ذا حساسـ ـ ــية مرهفة جعلته يـ ـ ــرى‬
‫األخطـ ـ ــاء حوله ويحس بـ ـ ــااللتواءات االجتماعية ويـ ـ ــرى االعوجـ ـ ــاج في كثـ ـ ــير من‬
‫المواقــف‪ ،‬ويتجلى تذبــذب األشــياء بين القيم لتضــارب ما يــرى وما يشــعر وهنا كــان‬
‫القلق يتجسد في نفسه تجـ ـ ـ ــاه وطنه ومعانـ ـ ـ ــاة شـ ـ ـ ــعبه من ظلم المسـ ـ ـ ــتعمرين وبطش‬
‫السالطين منهم‪ ،‬وهذا ناتج عن وعيه بمصير بالده العربية‪.‬‬
‫يصـ ــفه محمد علي علوية باشـ ــا‪" :‬أما الخلق فكـ ــان مثـ ــال الرجولة في الوطنيـ ــة‪،‬‬
‫والتواضع وعــزة النفس وعفة اليد واللســان‪ ،‬كــان هادئ ـاً لين الطبــع‪ ،‬ال هــدوء الكسل‬
‫وال لين االستخذاء‪ ،‬بل هدوء الشفيق الرحيم ولين الوادع الكريم"(‪.)1‬‬
‫أما عفة اليد والنزاهـ ـ ــة‪ ،‬فيـ ـ ــذكر أنه قد أعـ ـ ــاد إلى خزينة الدولة مبلغ ‪ /6/‬سـ ـ ــتة‬
‫آالف ليرة سورية زادت عن مصروف الوفد السوري الـذي ترأسه إلى اإلســكندرية‬
‫الجتمـ ــاع وتأسـ ــيس الجامعة العربيـ ــة‪ ،‬في الـ ــوقت الـ ــذي مـ ــرض فيه وهو على رأس‬
‫عملــه‪ ،‬فــدخل مستشــفى المواســاة في اإلســكندرية‪ ،‬وخــرج مــديناً بما يزيد عن ‪/12/‬‬
‫ألف ل ــيرة س ــورية‪ ،‬ولم يس ــمح لنفسه أن تمتد ي ــده إلى الم ــال ال ــذي ف ــاض عن حاجة‬
‫الوفد‪.‬‬
‫إنها كبرياء النفس‪ .....‬وقد قال فيه عمر أبو ريشة‪:‬‬

‫داد‬ ‫اء واألج‬ ‫اء اآلب‬ ‫كبري‬ ‫يئة تغفو‬ ‫في محاريبك الوض‬
‫‪ 3‬ـ جرأته‪ :‬لم يسـ ــكت عن الحـ ــق‪ ،‬وهـ ــذا ما جعله جسـ ــوراً في تنفيذ خططـ ــه‪،‬‬
‫ونظيف ـ ـ ـ ـاً في رأيه ومخـ ـ ـ ــبره‪ ،‬ونظافة النفس واليد والسـ ـ ـ ــمعة تكسب الجـ ـ ـ ــرأة في كل‬
‫موقف‪.‬‬
‫وك ــان في جميع المحافل األجنبية مث ــال الرجل الج ــريء في ص ــراحته‪ ،‬الق ــوي‬
‫في حجت ـ ــه‪ ،‬الص ـ ــلب في حق وطنه وأمت ـ ــه‪" :‬وبج ـ ــرأة س ـ ــعد اهلل وإ قدامه وص ـ ــراحته‬
‫وتض ــحيته اس ــتطعنا أن نس ــترد االس ــتقالل من غاص ــبيه‪ ،‬وتمكنا من الس ــير بالقض ــية‬
‫العربية‪ ،‬خطوات إلى األمام"(‪.)2‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫محمد علي علوية باشا ـ في كلمته التأبينية‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫نجيب الراوي‪ ،‬وزير العدل العراقي‪ ،‬في كلمته التأبينية‪.‬‬

‫ـ ‪ 16‬ـ‬
‫وتلك الجـ ـ ـ ــرأة أودت بسـ ـ ـ ــعد اهلل إلى المنفى والسـ ـ ـ ــجن‪ ،‬كما حصل في محاكمة‬
‫الـ ــزعيم هنـ ــانو‪ ،‬تلك الجـ ــرأة كلفته غالي ـ ـاً عنـ ــدما نفي في سـ ــبيل عقيدتـ ــه‪ ،‬وفي سـ ــبيل‬
‫إيمانه بضرورة تحرير البالد من كل ضغط أجنبي ونير استعماري‪.‬‬
‫والواق ــع‪ ...‬ك ــان س ــعد اهلل يعيش بص ــدق في مركز الح ــوادث السياس ــية‪ ،‬حيث‬
‫تلعب فيه مشـ ــاعره وتتفاعـ ــل‪ ،‬وترفعه من مسـ ــتوى الحيـ ــاة اليومية إلى مسـ ــتوى من‬
‫المعاناة الجماهيرية الصعبة لتنسكب في سلوك مقدام جريء ال يهاب شيئاً‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تفكيره‪ :‬إنه صاحب عقيدة‪ ،‬ثابت الرأي‪ ،‬واثق الخطوة‪ .‬يقــول فيه الشــاعر‬
‫خير الدين الزركلي‪:‬‬
‫عرفت فيه القوي اإليمان يوم تغلبت الشكوك‬
‫والثابت على العهد يوم زلّت األقدام‬
‫والصريح الصادع بالحق يوم عقدت األلسنة‬
‫نعم كان صريحاً جداً حتى قال فيه مصطفى النحاس‪:‬‬
‫"ولعل أب ــرز ما في ص ــفات الج ــابري‪ ،‬أنه ص ــريح إلى أبعد ح ــدود الص ــراحة‪،‬‬
‫صراحة مقترنة بصالبة وممتزجة ببســمة خالبة ال تفارقه في أحلك الســاعات وأشد‬
‫األزمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‪ ،‬تجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذب إليه رائيه ألول نظـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرة‪ ،‬وتحبب فيه من يحدثه‬
‫أول مرة"(‪.)1‬‬
‫كـان سـعد اهلل شـديد الميل إلى الحيـاة (الجـادة) ولـذلك كـان قليل المجاملـة‪ ،‬قـوي‬
‫اإلرادة ثاقب الفكر شديد اإلخالص لرأيه وموقفه بين الناس‪.‬‬
‫يص ــفه بعض إخوان ــه‪ :‬إنه مح ــدث من الط ــراز األول‪ ،‬وس ــريع االنتق ــال وذكي‬
‫الفـ ــؤاد وحـ ــاد الـ ــذهن‪ .‬ووصـ ــفه أحد أصـ ــدقائه‪" :‬كـ ــان يجمع إلى علو كعبه في ثقافة‬
‫عصــره تمســكه بثقافة دينية مؤدي ـاً للفــرض والنفل في طاعة ربــه‪ ،‬فكــان بــذلك حجة‬
‫قارعة على من أسرهم التقليد األعمىـ بزخارف المدينة"(‪.)2‬‬
‫والخالص ـ ـ ــة‪ ،‬إن نفسه مليئة بالص ـ ـ ــفاء والروع ـ ـ ــة‪ .‬وال يمكن إدراكها بمج ـ ـ ــرد‬
‫التفكير‪ ،‬فإنه مرهف وال يدركه إال الحكيم‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ص فاته االجتماعية‪ :‬تتجلى الصــفات االجتماعية عــادة بمعــنى التعامل مع‬
‫النـ ــاس ولعل أول ما لمسه الشـ ــعب عند سـ ــعد اهلل هو التواضع الحقيقي الـ ــذي صـ ــبغ‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫مصطفى النحاس عن كتاب أحمد الجندي‪ .‬ذكرى سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫األستاذ الشيخ أحمد رضا في كلمته التأبينية‪.‬‬

‫ـ ‪ 17‬ـ‬
‫أعماقه النفسية‪ ،‬وارتبط بسلوكه األخالقي الذي ينقّي الحياة كلّها‪ .‬ورغم أن بعضهم‬
‫يص ــفه ب ــالتعجرف والك ــبر‪ ،‬فه ــذا الكالم مرف ــوض أص ـالً‪ ،‬وألنه في الواقع يميل إلى‬
‫ظن الناس أنه يتصف بالفوقية والتعالي‪.‬‬ ‫(الجد) في أكثر تصرفاته‪ ،‬فقد ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫بأخوتــه‪،‬‬
‫ويصــفه الســيد مصــطفى النحــاس بقولــه‪" :‬أنست بصــداقته‪ ،‬و ُسـعدت ّ‬
‫فأعجبت بخلقه الجذاب وروحه الوثاب‪ ،‬ونفسه الصافية وقلبه الكبير"‪.‬‬
‫وك ــانت معامالته االجتماعية تتجلى بالس ــمو والص ــدق مع كل األف ــراد‪ ،‬أي أنه‬
‫كان يحقق جوهر إنسانيته‪ ،‬ويتضاعف عطاؤه لكل من يطلب مساعدته‪.‬‬
‫كان يعطي حتى لو كان في ضيق‪ ،‬كما كـان يـوزع راتبه الـذي يتقاضـاه عنـدما‬
‫كان وزيراً للداخلية‪ ،‬على مستخدمي أوتيل (أوريان باالس)‪.‬‬
‫يــروى عن ســعد اهلل أنه كــان راكبـاً ســيارته‪ ،‬مــاراً فــوق جسر فيكتوريــا‪ ،‬فــرأى‬
‫السـ ــيد (س) يمشي مطرق ـ ـاً مفكـ ــراً‪ ،‬فطلب من السـ ــائق أن يقف وينـ ــادي السـ ــيد (س)‬
‫ليجلس قربــه‪ .‬ســأله ما بك يا ســيد (س)؟ أراك على غــير عادتــك‪ .‬فقــال (س)‪ :‬علي‬
‫أن أدفع مبلغ ‪/5000/‬ل‪.‬س قبيل الس ــاعة ‪ /12/‬ظه ــراً وإ ال ف ــالموقف ص ــعب ج ــداً‪.‬‬
‫فما كــان من ســعد اهلل إال أن قــال ل ــه‪ :‬تعــال إلى األوتيل قبيل الســاعة ‪ /12/‬على أن‬
‫تسـ ــعى اآلن لتجمع ما تسـ ــتطيع‪ ...‬وقبيل الـ ــوقت المحـ ــدد جـ ــاء السـ ــيد (س) ومعه ‪/‬‬
‫‪/1500‬ل‪.‬س فقط‪ ،‬فأعطاه سعد اهلل مبلغ ‪ /5000/‬وقــال‪ :‬أعطــني ما عنــدك‪ :‬وذلك‬
‫ليشــعره بجــدوى ســعيه وعــدم االعتمــاد الكلي على غــيره‪ .‬أخذ (س) المبلغ وهــرول‬
‫إلى حيث يدعوه الموعد‪.‬‬
‫كان ـ رجل السـاعة ـ لمواطنيـه‪...‬ـ وصـديق السـاعة لكل من حظــوا بـأن يكونــوا‬
‫ألول مرة من عارفيه‪.‬‬
‫وإ ذا كانت الصداقة تقاس بمقياس الزمن عادة‪ ،‬فإن سعد اهلل كان يهب صــداقته‬
‫ألي ام ـ ــرئ يقابله وهبـ ـ ـاً مخلصـ ـ ـاً لدرجة أنه يبعث في نفسه ش ـ ــعوراً ب ـ ــالود والمحبة‬
‫يالزمه طوال حياته‪.‬‬
‫كان يصمت أحياناً مع محدثيه‪ ...‬ولكن الحياة كانت تنفــرج من بين بســماته أو‬
‫عمق نظراتـ ـ ـ ـ ـ ــه‪ ،‬وإ ذا ما ضـ ـ ـ ـ ـ ــحك فملء فـ ـ ـ ـ ـ ــؤاده‪ ،‬حـ ـ ـ ـ ـ ــتى يبعث المـ ـ ـ ـ ـ ــرح والطهر‬
‫بين خالنه‪.‬‬
‫وص ــديق ع ــراقي ك ــريم من أص ــدقائه يص ــفه ويق ــول‪" :‬ك ــان س ــعد اهلل الج ــابري‬
‫مجموعة فخمة من السـ ــجايا والفضـ ــائل‪ ،‬ينـ ــافس بعضـ ــها بعض ـ ـاً فـ ــإذا نشـ ــدته كإنس ــان‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫رئيس حزب الوفد المصري‪ ،‬في كلمته التأبينية‪.‬‬

‫ـ ‪ 18‬ـ‬
‫وجــدت بين ضــلوعه من نزعــات الكــرم والنبل واألريحية والتســامح والرحمة وطيب‬
‫العنصر ما يشــبه أوصــاف األوليــاء‪ ،‬وإ ذا بلوته رجل دولة لقيت الشــجاعة والمــروءة‬
‫وبعد النظر والصـ ــالبة في موقف ـ ــه‪ ،‬والحنكة وسـ ــعة اإلطالع‪ ،‬مما جعله في مص ـ ــاف‬
‫كب ــار الرج ــال في أمتنا العربي ــة‪ ،‬بل في عص ــرنا الحاض ــر‪ ،‬وإ ذا نش ــدته قومي ـًا عربي ـًا‬
‫لقيته من ه ــؤالء ال ــذين أنش ــؤوا القومية وراض ــوها‪ ،‬فقد ك ــانت جنينـ ـاً في حلم ال ــدهر‪،‬‬
‫يحـ ـ ــذق فهمهـ ـ ــا‪ ،‬ويتعصب لها ويغـ ـ ــالي بوالئها ويقـ ـ ــامر في سـ ـ ــبيلها‪ ،‬ففي بالد الشـ ـ ــام‬
‫واألردن وفلسـ ـ ــطين والعـ ـ ــراق ومصر والحج ـ ـ ــاز وغيرها من بالد العـ ـ ــرب‪ ،‬في كل‬
‫هاتيك البالد‪ ،‬لم تخل زاوية من آثاره في خدمة القضية الكبرى"(‪.)1‬‬
‫تلك األوصـ ــاف جليلة القيمة نـ ــدر وجودها آنـ ــذاك في العصر الـ ــذي عـ ــاش فيه‬
‫وذلك لك ــثرة الض ــغط ال ــذي ك ــان يقهر أشد النفـ ــوس‪ ،‬وله ــول المعانـ ــاة ال ــتي ض ــيقت‬
‫الخن ـ ــاق على أص ـ ــحابها‪ ،‬والقهر واإلذالل الل ـ ــذين يس ـ ــيطران على المن ـ ــاخ الفك ـ ــري‬
‫والنفسي في ظل االستعمار‪.‬‬
‫وفي الواقع إن المعانـ ــاة قد خلقت سـ ــعد اهلل الجـ ــابري خلق ـ ـاً جديـ ــداً‪ ،‬ونفخت في‬
‫روحه‪ ،‬مما جعله مارداً في وجه الفرنسيين‪.‬‬
‫ويصـ ـ ــفه رشـ ـ ــيد الحـ ـ ــاج إبـ ـ ــراهيم‪ ،‬رئيس اللجنة القومية في حيفا سـ ـ ــنة ‪1948‬‬
‫ويقـ ــول‪" :‬وكما تصـ ــمد قمة جبل الشـ ــيخ للعواصف والزوابع والريـ ــاح والثلـ ــوج‪ ،‬فال‬
‫تزيدها الزعـازع إال ثلجـاً ونقـاء‪ ،‬كـذلك كـانت الخطـوب‪ ،‬ما كـانت لتسـتطيع زعزعة‬
‫قـ ــدم سـ ــعد اهلل عن كل ما كـ ــان يـ ــؤمن بـ ــه‪ ،‬فينصـ ــرف إلى تنفيـ ــذه‪ ،‬بـ ــالقوة واإليمـ ــان‬
‫والصمود واإلقدام"‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫من كلمة حكومة العراق في تأبينه‪.‬‬

‫ـ ‪ 19‬ـ‬
‫جهاد‪....‬‬
‫ونضال ‪....‬‬
‫لو أن اإلنســـانـ يتقيد باألفكـــارـ‬
‫(الحــــق) لــــبزغ فجر الخالصـ‬
‫على األرض‪....‬‬

‫أخالق السياسة‬
‫ولكن‪ !...‬هل للسياسة أخالق؟ ألم يحسم الت ـ ـ ـ ــاريخ ه ـ ـ ـ ــذا الس ـ ـ ـ ــؤال؟ ألم يكشف‬
‫الت ـ ــاريخ على أن األخالق في السياسة هي (المص ـ ــلحة)؟ ألم يقل لنا (ميك ـ ــافيلي) إن‬
‫الكذب والمخاتلة والدس والدهاء واالحتيال كلها فضائل في ميدان السياسة من أجل‬
‫المصلحة؟‬
‫نعم‪ ...‬إن كل سنبلة في تاريخ السياسة عليها ط ّل من دهــاء‪ ...‬أفلم يكن شــراء‬
‫الض ــمائر والجرائد أه ــدافاً م ــبررة تب ــاح للح ــاكم المس ــتعمر ولم ــاذا؟ في س ــبيل س ــحق‬
‫الشعب‪ ...‬إذن ما جدوى أن تطلع شمس وال حرية يملكها هذا الشعب؟‬
‫وت ــترنح حض ــارة األخالق‪ ...‬ويص ــبح الوص ــول إلى (ع ــدم إنس ــانية) في سياسة‬
‫الناس مسألة زمن فحسب‪ ...‬وهنا قد تتالمس أبعاد األشياء فال يبقى من شيء‪...‬‬
‫ويلخص لنا تاريخ البشرية أن الصفة المسيطرة على حيــاة الشــعوب‪ ،‬هي عــدم‬
‫مراعـ ــاة حقـ ــوق اإلنسـ ــان‪ ،‬بل طمسـ ــها في بعض األحيـ ــان‪ ،‬وفي قـ ــرن العلم والنـ ــور‬
‫ازدادت ضمائر الدول الكبرى إفالساً وتقهقراً‪ ،‬وازدادت تصـرفاتهم سـحقاً وتجـبراً‪،‬‬
‫وبــذلك ابتُلعت الحقــوق‪ ،‬ولم تبق مســألة نوالها ســهل‪ ،‬بل أصــبح من أصــعب القضــايا‬
‫استرداد الحق سلوكاً وحواراً وجهاداً‪.‬‬
‫وراح ســعد اهلل‪ ،‬أمــام تلك الجــدران السياســية الصــماء‪ ،‬راح يجاهد منذ أن كــان‬
‫على مقاعد الدراسـ ــة‪ ،‬وفي رؤاه المسـ ــتقبلية المستش ـ ـفّة‪ .‬كـ ــان يـ ــرى أن أي شـ ــيء ذا‬
‫قيمة وكرامة إنسـ ـ ــانية لن يتحقق إال بالنضـ ـ ــال والتضـ ـ ــحية بـ ـ ــالنفس فأقسم بينه وبين‬
‫نفسه أال يســكت عن الحــق‪ ،‬ألن الحقــوق اإلنســانية هي ضــرورات فطرية لإلنســان‪،‬‬
‫من حيث هو إنسان‪.‬‬
‫لن يسكت عن الحق‪ ،‬وإ ال فسوف يولد في الصمت انفجار‪...‬ـ‬

‫ـ ‪ 20‬ـ‬
‫جهاد التحرر‪....‬‬
‫عام بعد عام‪....‬‬

‫‪:1911‬‬
‫أسست جمعية س ـ ـ ـ ــرية في بـ ـ ـ ــاريس عن طريق مجموعة من الشـ ـ ـ ــباب المثقف‬
‫س ـ ــميت‪( :‬الجمعية العربية الفتـ ــاة)‪ .‬وهـ ــدف هـ ــذه الجمعية تحرير األراضي العربية‬
‫من الهيمنة العثمانية واألجنبية‪.‬‬
‫‪:1912‬‬
‫وت ــداعى الش ــباب الع ــرب للعمل تحت ش ــعار ه ــذه الجمعية وأسست لها ف ــروع‬
‫سرية في بعض األقطار العربية‪ ،‬خوفاً من بطش االستعمار‪.‬‬

‫‪:1913‬‬
‫وقد كانت البالد العربية تعيش هذه الفترة في ركام من الظلمات‪ ،‬التي مارسها‬
‫الحكـ ــام االتحـ ــاديون من جماعة االتحـ ــاد والـ ــترقي في تركيـ ــا‪ ،‬والـ ــذين اسـ ــتولوا على‬
‫الحكم بعد أن تم لهم خلع السلطان عبد الحميد‪.‬‬
‫ومنذ ذلك الـ ـ ــوقت اكفهـ ـ ــرت سـ ـ ــماء البالد العربية وراحت تجتـ ـ ــاز سلسـ ـ ــلة من‬
‫العقب ـ ــات واألح ـ ــداث والتح ـ ــديات الخط ـ ــرة والمن ـ ــذرة بالس ـ ــوء‪ ،‬في ميادينها الداخلية‬
‫والخارجية‪ ،‬حيث لعبت بها أهواء بالد ودول كثيرة ومطامعها‪.‬‬
‫وبـ ــدأت سـ ــورية تتصـ ــدى لهـ ــذه السياسة الغاشـ ــمة‪ ،‬وراح الوطـ ــنيون يطـ ــالبون‬
‫بإعالم الدول الحيادية بما يمارسه االستعمار في سورية وفي العالم العربي‪.‬‬
‫وانعقد مـ ـ ـ ـ ـ ــؤتمر عـ ـ ـ ـ ـ ــربي في بـ ـ ـ ـ ـ ــاريس عـ ـ ـ ـ ـ ــام ‪ ،1913‬وافتتح أعماله في‬
‫‪ 18‬حزيــران في قاعة الجمعية الجغرافية ‪ 186‬شــارع (بولف ــار س ــان جرمــان) وقد‬
‫تم التعب ـ ــير عن إرادة التح ـ ــرر واالتف ـ ــاق بص ـ ــورة واض ـ ــحة وبص ـ ــيغ معتدلة ولكنها‬
‫حازم ـ ـ ــة‪ ،‬وإ ن ق ـ ـ ــرارات الم ـ ـ ــؤتمر ال ـ ـ ــتي أبلغت إلى ال ـ ـ ــدول العظمى‪،‬ـ وإ لى الس ـ ـ ــفير‬
‫العثماني في باريس‪ ،‬قد وضعت (وللمرة األولى) القضــية العربية أمــام الــرأي العــام‬
‫العالمي‪.‬‬
‫وحضر هــذا المــؤتمر الســوريون وعلى رأســهم إحســان الجــابري األخ األكــبر‬
‫لسعد اهلل الجابري وكان ارتكاس هذا الحضور في نفس ســعد اهلل كبــيراً بحيث عــزز‬
‫وشد عزائمه في المضي في جهاده‪.‬‬ ‫موقفه ّ‬

‫ـ ‪ 21‬ـ‬
‫وك ــان الع ــداء‪ ،‬وك ــانت البغض ــاء تنتشر وتستش ــري بين الش ــعب الع ــربي وبين‬
‫األتراك منذ أن انفجر بارود الحقد في نفوسهم‪ ،‬إثر حادثة (الصفعة)(‪.)1‬‬
‫كانت صفعة كالها شفيق مؤيد العظم لطلعت باشا التركي‪،‬ـ وأصبحت الشــرارة‬
‫الحامية الــتي فجــرت بركــان الغضب في نفــوس الحــاكمين‪ ،‬وال ســيما وهم معبــؤون‬
‫تعبئة قوية بفعل النشاط اليهودي السري في تركيا‪.‬‬
‫وتض ـ ـ ــافرت جه ـ ـ ــود ن ـ ـ ــواب الع ـ ـ ــرب في مجلس (المبعوث ـ ـ ــان) في تركي ـ ـ ــا‪ ،‬مع‬
‫الجمعيات واألحزاب التي أسسها العرب منذ مطلع القــرن العشــرين‪ ،‬منهــا‪( :‬جمعية‬
‫اإلخـ ــاء العـ ــربي اإلسـ ــالمي)ـ و(حـ ــزب الحريـ ــة) و(االئتالف العثمـ ــاني) و(المنتـ ــدى‬
‫األدبي) ال ــذي ك ــان في ظ ــاهره ثقافيـ ـاً‪ ،‬وفي حقيقته سياس ــياً‪ ،‬و(الجمعية القحطاني ــة)‬
‫و(جمعية العهـ ــد) و(الجمعية الفتـ ــاة) الـ ــتي انتسب إليها المغفـ ــور لـه الملك فيصل بن‬
‫الحسين‪.‬‬

‫‪:1914‬‬
‫وفي هذا العام دقت نواقيس الحرب العالمية األولى‪ ،‬وجند سعد اهلل في الجيش‬
‫العثماني (كوجوك ضابط) أي ضابط صــغير‪ ،‬وعين مراقبـاً على األرزاق وقوافلها‬
‫في بل ـ ــدة (أرض روم) وقضى م ـ ــدة الح ـ ــرب بعي ـ ــداً عن ال ـ ــوطن‪ .‬ك ـ ــان مخلصـ ـ ـاً في‬
‫خدمته للجيش‪ ،‬أمين ـ ـاً على ماله وأرزاقه وتلك عهـ ــود وذمم‪ ،‬كما كـ ــان وفي ـ ـاً للعهـ ــود‬
‫العسكرية‪ ،‬على الرغم من شعوره بـأن األتـراك كـانوا يظلمـون قومـه‪ ،‬وأبت كرامته‬
‫أن يخـون األمة الـتي يخـدم في جيشـها‪ .‬ولعل اإلخالص في العمل مبـدأ أخالقي يـدل‬
‫على عمق الت ــوازن النفسي وال ــروحي‪ ،‬فليس في داخل ال ــذات ص ــراع أو ن ــزاع بين‬
‫الفكرة والعمل‪ ،‬وإ نما توجد وحدة سيكولوجية تجمع النية والعزم والتنفيذ‪.‬‬
‫وعن ـ ــدما انتهت خدمته وأص ـ ــبح ح ـ ــراً يعيش المب ـ ــادئ ال ـ ــتي تنمو في ـ ــه‪ ،‬ان ـ ــبرى‬
‫خيم بظلمه وظالمه على البالد العربيــة؛ واآلن‪،‬‬ ‫لمحاربة االســتعمار العثمــاني الــذي ّ‬
‫وفي جو من حرية التص ــرف س ــار في درب الجهـ ــاد وفي رأسه قبس من ن ــور وفي‬
‫قلبه وثبة وطن‪.‬‬
‫وك ــان يفهم من االتفاق ــات الدولية منذ ع ــام ‪ 1914‬أو قبله بقلي ــل‪ ،‬أنه في ح ــال‬
‫تفكك اإلمبراطورية العثمانيـ ـ ـ ــة‪ ،‬فـ ـ ـ ــإن منطقة النفـ ـ ـ ــوذ الفرنسي في الشـ ـ ـ ــرق األدنى‪،‬‬
‫ستتناول سـورية كاملة بحـدودها الطبيعيـة‪ ،‬وإ ن من شـأن ذلك تـأمين التـوازن العـادل‬
‫بين الـ ـ ـ ــدولتين الفرنسـ ـ ـ ــية والبريطانية وفي الواقع تعرضت اإلمبراطورية العثمانية‬
‫لخسارة أراضيها وقد ألغيت امتيازاتها بقرار وحيد الطرف أصــدرته تركيا في عــام‬
‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫نصوح بابيل ـ صحافة وسياسة سورية في القرن العشرين‪.‬‬

‫ـ ‪ 22‬ـ‬
‫‪ 1914‬أي بعد أن دخلت فيها ضد الحلفـ ـ ـ ـ ـ ــاء‪ ،‬ولكن اإللغـ ـ ـ ـ ـ ــاء التعاقـ ـ ـ ـ ـ ــدي لم يتم إال‬
‫بموجب معاهدة (لوزان) في ‪ 24‬تموز ‪.1923‬‬
‫‪:1915‬‬
‫وأمــام أطمــاع فرنسا بــامتالك منــاطق نفــوذ بحرية وبرية صــرح وزير البحرية‬
‫الفرنسي في أيـ ــار ‪" 1915‬أن البحر لن يكـ ــون مفتوح ـ ـاً إال إذا بقيت سـ ــورية ضـ ــمن‬
‫دائــرة نفوذنــا" وهنا وقفت تركيا في صف اإلمبريالية األلمانية والنمســاوية‪ ،‬كما لجأ‬
‫الحلفاء إلى التقرب من العرب‪ ،‬وســرعان ما حصــلوا على مســاندتهم في وقت مبكر‬
‫مقابل تعهـ ــدات ووعـ ــود حازمة باالسـ ــتقالل‪ ،‬ومن أجل ذلك جـ ــرت مفاوضـ ــات بين‬
‫الشــريف حســين شــريف مكــة‪ ،‬وبين الســيد هــنري مكمــاهون‪ ،‬المقيم العــام البريطــاني‬
‫في القاهرة‪.‬‬
‫ابت ـ ـ ــدأت هـ ـ ــذه المفاوضـ ـ ــات في شـ ـ ــهر تمـ ـ ــوز ‪ 1915‬وانتهت إلى اتفـ ـ ــاق في‬
‫‪ 10‬تمــوز ‪ ،1916‬وقد تضــمن هــذا االتفــاق في بنــوده إعــادة األراضي الــتي كــانت‬
‫دائم ـاً لألمة العربيــة‪ ،‬وتعهد العــرب مقابل ذلك بتقــديم العــون للحلفــاء من أجل كسب‬
‫الحرب‪.‬‬
‫عين جم ـ ــال باشا الس ـ ــفاح قائ ـ ــداً عامـ ـ ـاً للجيش الث ـ ــالث‪ ،‬نصب‬
‫ولكن‪...‬ـ عن ـ ــدما ّ‬
‫أعـ ـ ــواد المشـ ـ ــانق في كل من دمشق وعاليـ ـ ــه‪ ،‬لشـ ـ ــنق خـ ـ ــيرة الشـ ـ ــباب الوطـ ـ ــني في‬
‫عام ‪.1915‬‬

‫‪:1916‬‬
‫وفي ‪ 11‬أيار من هذا العـام تخلّت فرنسا بمـوجب اتفاقية (سـايكس ـ بيكـو) عن‬
‫جميع حقـ ــوق سـ ــورية في فلسـ ــطين وشـ ــرق األردن‪ ،‬وتنـ ــازلت إلنكلـ ــترا عن أراض‬
‫تغطي مساحتها سبعين ألف كم‪.2‬‬
‫ونص هـ ـ ـ ـ ـ ــذا االتفـ ـ ـ ـ ـ ــاق على تجزئة عجيبة لألراضي العربية المنسـ ـ ـ ـ ـ ــلخة عن‬
‫اإلمبراطورية العثمانية حيث تم إش ـ ـ ــباع األطم ـ ـ ــاع جميعه ـ ـ ــا‪ ،‬وقد خصصت منطقة‬
‫على الس ــاحل الس ــوري لفرنس ــا‪ ،‬ومنطقة في الجزي ــرة لبريطاني ــة‪ ،‬ومنطقة تتض ــمن‬
‫عدت دولية‪.‬‬ ‫فلسطين ّ‬
‫أما سـ ــورية الداخليـ ــة‪ ،‬فقد قسـ ــمت إلى منطقة تخضع للنفـ ــوذ الفرنسـ ــي‪ ،‬ولكنها‬
‫ذات س ـ ـ ــيادة عربي ـ ـ ــة‪ ،‬وأخ ـ ـ ــرى تخضع للنف ـ ـ ــوذ البريط ـ ـ ــاني مع احتفاظها بس ـ ـ ــيادتها‬
‫احتج اإليطــاليون‪ ،‬أضــيفت منطقة تخضع للنفــوذ اإليطــالي‪ ،‬وذلك‬ ‫العربيــة‪ ،‬وعنــدما ّ‬
‫من جنوب األناضول في مناطق أضاليا وأضنة وقونية‪.‬‬

‫ـ ‪ 23‬ـ‬
‫ثـار الشـعب العـربي لهـذه التقسـيمات الـتي تجـري دون علمـه‪ ،‬وقـام بمظـاهرات‬
‫وحشد ق ــواه إلى أن ك ــان ي ــوم ‪ 10‬حزي ــران حيث أعلنت ث ــورة الش ــريف حس ــين بن‬
‫علي ش ـ ــريف مكة وال ـ ــذي أعلنها من بط ـ ــاح مكة ث ـ ــورة عربية تحريرية ضد الحكم‬
‫العثماني‪.‬‬
‫وأطلّت تباشــير الفــرح إثر هــذا اإلعالن‪ ،‬وبــادر المثقفــون العــرب إلى االلتحــاق‬
‫بالثورة‪ ،‬وتحملوا الكثير في اجتياز الفيـافي والصـحارى‪ ،‬سـيراً على األقـدام أو على‬
‫ظهــور الجمــال‪ .‬وكــان الضــباط وبعض الجنــود في الجيش العثمــاني‪ ،‬أســبق الجميع‬
‫في االلتحاق بالثورة‪ ،‬على الرغم مما ال قوه من تعذيب حتى الموت‪.‬‬
‫وكان رد فعل اإلمبراطورية العثمانية عنيفاً‪ ،‬فاستمرت تنصب أعواد المشانق‬
‫وحاصـ ــرت المـ ــدن وجـ ــوعت السـ ــكان‪ ،‬ولعل تجويع النـ ــاس كـ ــان واحـ ــداً من ألـ ــوان‬
‫السياسة الغاشــمة الــتي مارســوها في بالد العــرب‪ ،‬بالد القمح والخــيرات‪ ...‬وكــذلك‬
‫نفوا بعض المواطنين العرب من مناطقهم‪ ،‬ودكوا مدينة (الحلة) في (العراق)‪.‬‬
‫وعلى ال ــرغم من ه ــذا كله ت ــابع الش ــعب مس ــيرته‪ ،‬ولما اكتمل ع ــدد المجاه ــدين‬
‫المقـ ــاتلين بـ ــدأت الجحافل تتوجه إلى الـ ــديار الشـ ــامية عن طريق ـ ـ ـ العقبة ـ ـ ـ عمـ ــان ـ ـ ـ‬
‫دمش ـ ــق‪ ،‬ومن ثم س ـ ــارت إلى منطقة الث ـ ــورة‪ ،‬وانض ـ ــمت إليها بعض القبائل العربية‬
‫لمواصـ ــلة الجهـ ــاد وبلغ عـ ــدد المتطـ ــوعين الملتحقين بـ ــالثورة ما يقـ ــارب ‪100,000‬‬
‫متطوع‪.‬‬
‫‪:1917‬‬
‫ولم تـ ــزل الحـ ــرب العالمية في لظاها وعنفوانهـ ــا‪ ،‬واسـ ــتولت الثـ ــورة الشـ ــيوعية‬
‫على الحكم في روســيا‪ ،‬ولم تتــورع عن إفشــاء (السر الكبــير) عنــدما نشــرت معاهــدة‬
‫سايكس بيكو حيث تم فيها اقتسام البالد العربية من قبل الحلفاء (سراً)‪.‬‬
‫في ‪ 2‬تشــرين الثــاني في العــام نفسه صــدر وعد (بلفــور) القاضي بإنشــاء وطن‬
‫قومي يهودي في فلسطين‪ ،‬تعهدته الحكومة البريطانية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن العـرب ناصـروا الحلفـاء أثنـاء الحـرب‪ ،‬ولكنهم نـالوا أسـوأ‬
‫معاملة منهم باقتسام أراضيهم وضرب حقوقهم عرض الحائط‪...‬‬
‫كــانت القــوى الغاشــمة هي الــتي تتحــرك وتحــرك الشــعوب‪ ،‬فما جــدوى التفكــير‬
‫وما ج ـ ــدوى المقاومة أم ـ ــام (ثعالبة السياسة االس ـ ــتعمارية)‪ ..‬س ـ ــتبقى مقاومة س ـ ــلبية‬
‫النتائج وسيبقى عمل المجاهدين تجديفاً عبثي اإلقناع‪...‬‬

‫ـ ‪ 24‬ـ‬
‫الـ ـ ـ ــدول العظمى تتحـ ـ ـ ــرك‪ ،‬تـ ـ ـ ــدير المـ ـ ـ ــؤتمرات‪ ...‬تخطـ ـ ـ ــط‪ ...‬تـ ـ ـ ــبرر بمنطق‬
‫االستعمار وال شأن للبالد الضعيفة والتي ال تملك من أمرها شيئاً‪...‬‬
‫وكــانت صــدمة قوية لســعد اهلل وهو يــرى ويش ــهد ما تم من مــؤامرات في ســنة‬
‫واحدة‪( ...‬سايكس بيكو‪ ،‬وعد بلفور)‪...‬ـ‬
‫لن يرضى أن يخضع لهذا المصير‪ ...‬ولكن‪ ...‬ما هو الحل‪...‬؟ـ‬
‫توحد جهود العرب‪ ...‬تكتل العرب‪ ...‬توحد كلمة العـرب‪ ...‬تشـكل رأي عـام‬
‫عربي موحد وكان يرى أن سورية ـ خصوصاً ـ والتي استطاع شعبها أن يهضم في‬
‫تاريخه أصفى الحضارات لن يخضع أو يعيش في ظل العبوديات‪...‬ـ‬

‫‪:1918‬‬
‫وانتهت الحـ ـ ــرب العالمية األولى‪ ،‬زال الحكم العثمـ ـ ــاني عن سـ ـ ــورية‪ ،‬وراحت‬
‫القوى المنتصرة تتالعب بمصير العالم العربي‪...‬ـ‬
‫وأمعن الحكم الع ـ ــربي ال ـ ــذي تالعب به االس ـ ــتعمار كما يريد تش ـ ــويهاً وتم ـ ــثيالً‬
‫وقامت أول حكومة عربية‪ ،‬وفتحت صفحة جديدة في تاريخ سورية الحــديث‪ ...‬بــدا‬
‫ألول وهلة أن الدولة الفتيـ ــة‪ ،‬أضـ ــعف من أن تتحمل عبء التبعـ ــات الجسـ ــيمة الـ ــتي‬
‫فرضتها مسؤوليات الحكم‪...‬‬
‫وراح األمــير فيصل بن الحســين يطــالب الحلفــاء بتحقيق الوعــود الــتي قطعوها‬
‫ألبيه الشريف حسـين خالل الحـرب العالمية األولى من أجل إعطـاء سـورية حريتها‬
‫واســتقاللها‪ ،‬وكــبر األمل في نفس ســعد اهلل الجــابري وهو يــرقب من بعيد الخطــوات‬
‫السياسية الكبرى‪ .‬وسرعان ما انكشف (البرقع السياسي) أمام األمير فيصــل‪ ،‬حيث‬
‫طمست تواقيع الصـ ـ ــكوك والوعـ ـ ــود وتفـ ـ ــاقمت أطمـ ـ ــاع الـ ـ ــدول‪ ،‬واتضح لفيصل أن‬
‫فرنسا وإ نكلترا اتفقتا على اقتسام األراضي المحررة من اإلمبراطورية العثمانية‪.‬‬
‫وحـ ـ ـ ــول هـ ـ ـ ــذه األراضي سـ ـ ـ ــال لعـ ـ ـ ــاب الـ ـ ـ ــدول األوروبية االسـ ـ ـ ــتعمارية ذات‬
‫االحتكارات البترولية والتي تمارس نشاطها بموجب اتفاقيات مجحفة‪ ،‬انــتزعت من‬
‫حك ــام البالد دون موافقة الشــعب‪ ،‬ولع ـ ّل االحتكــارات البترولية هي أخطر أخطبــوط‬
‫اسـ ـ ــتعماري في العـ ـ ــالم وقد امت ـ ـ ــدت أذرعه إلى البالد العربية ومنها س ـ ـ ــورية‪ .‬وفي‬
‫الواقع اشترك االستعمار الفرنسي مع االستعمار اإلنكليزي في اقتســام أمالك ألمانيا‬
‫وتركيا فكان لفرنسا االنتداب على سورية ولبنان‪ ،‬ولإلنكليز فلسطين والعراق‪.‬‬
‫أما في داخل سورية فال زال الجيش العربي يتقــدم حــتى دخل مدينة دمشق في‬
‫‪ 30‬أيلـ ــول ‪ ،1918‬واسـ ــتقبله الشـ ــعب بالتصـ ــفيق والزغاريـ ــد‪ .‬دخل األمـ ــير فيصل‬

‫ـ ‪ 25‬ـ‬
‫دمشق مع المتطــوعين العــرب‪ ،‬وح ـ ّل هو في دار البــارودي والد فخــري البــارودي‪،‬‬
‫الذي اشترك في الثورة منذ أيامها األولى‪.‬‬
‫شرع فيصل في أول وصوله في تأليف حكومة عربية‪ ،‬وعهد إلى اللــواء علي‬
‫رضا باشا الرك ـ ــابي أحد أبن ـ ــاء دمشق أحد ق ـ ــواد الجيش العثم ـ ــاني‪ ،‬بمنصب الح ـ ــاكم‬
‫العس ـ ــكري لم ـ ــدينتي دمشق وحلب‪ ،‬وكل مدينة يحتلها الجيش الع ـ ــربي‪ .‬وبينما ك ـ ــان‬
‫الجيش العـ ـ ــربي يواصل زحفه نحو الشـ ـ ــمال السـ ـ ــوري‪ ،‬سـ ـ ــقطت مدينة بـ ـ ــيروت بيد‬
‫الحلف ـ ـ ــاء‪ ،‬فأرس ـ ـ ــلت الحكومة العربية في دمش ـ ـ ــق‪ ،‬برقية إلى رئيس بلدية ب ـ ـ ــيروت‪،‬‬
‫تطلب فيها رفع العلم العربي فوق دار الحكومة‪.‬‬
‫وأقيم احتفــال كبــير في هــذه المناســبة‪ ،‬بعد وصــول اللــواء شــكري باشا األيــوبي‬
‫من دمشق‪ ،‬الذي احتل دار الحكومة‪ ،‬وأعلن انضمام بيروت إلى الدول العربية‪.‬‬
‫بيد أن القائد اإلنكل ـ ــيزي‪ ،‬أص ـ ــدر أمـ ــراً إلى الل ـ ــواء األي ـ ــوبي بمغ ـ ــادرة بـ ــيروت‬
‫والع ـ ــودة إلى دمشق خالل أربعة أي ـ ــام‪ .‬وأن ـ ــزلت الراية العربية عن دار الحكوم ـ ــة‪،‬‬
‫وعين الجنرال (بياباب) الفرنسي حاكماً على مدينة بيروت‪.‬‬
‫كان هـذا التصـرف أول تنكر للحكم العـربي في سـورية من جـانب البريطـانيين‬
‫والفرنسـ ــيين‪ ،‬وقد اكتشف بصـ ــورة واضـ ــحة التواطؤ السـ ــري الـ ــذي تم بين الحلفـ ــاء‬
‫على اقتســام ســورية األجــزاء المحــررة من االســتعمار العثمــاني‪ ،‬وال ســيما ما يتعلق‬
‫باألراضي السورية‪ ،‬وكأنهم يريدون بــذلك طمس الهوية الســورية ومحوها ووضع‬
‫ســورية موضع التبعية واالســتالب‪ ،‬والفتن واالغــتراب‪ ،‬وســورية لم تكن تعلم بهــذه‬
‫الخطوات‪.‬‬
‫ودخل الفرنســيون ســورية باسم االنتــداب دخلوها دخــول الظــافر ليحتلــوا البالد‬
‫ويظلمـ ـ ـ ــوا العبـ ـ ـ ــاد‪ .‬ولكن الجيش العـ ـ ـ ــربي اسـ ـ ـ ــتطاع أن يحتل مدينة حمص في ‪14‬‬
‫تشـ ـ ــرين األول ‪ ،1918‬ومدينة حمـ ـ ــاه في ‪ 16‬منه ومدينة حلب في ‪ 25‬منـ ـ ــه‪ ،‬كما‬
‫بدأت ثورات سورية متفرقة منها ثورة الشيخ صــالح العلي في جبــال العلــويين الــذي‬
‫أعلنها ضد الفرنس ــيين منذ ع ــام ‪ 1918‬واس ــتمرت ح ــتى ع ــام ‪ 1921‬وك ــانت ألوية‬
‫النصر تُعقد لـه في أكثر المعارك‪.‬‬
‫ثم حـ ــدثت اشـ ــتباكات ومناوشـ ــات مع الجيش الـ ــتركي‪،‬ـ إلى أن تم جالؤه نهائي ـ ـاً‬
‫عن سورية في ‪ 31‬تشرين األول ‪.1918‬‬
‫وأعلنت الهدنة بين األتـ ـ ــراك والحلفـ ـ ــاء‪ ،‬وصـ ـ ــدر تصـ ـ ــريح بريطـ ـ ــاني فرنسي‬
‫مشترك يؤكد أن أهــداف الحلفــاء من الحــرب هي التحرير النهــائي والكامل للشــعوب‬

‫ـ ‪ 26‬ـ‬
‫التي عانت مدة طويلة من االضطهاد التركي‪.‬ـ وتم إعالن تنـازل تركية عن واليـات‬
‫الشام وبغداد والحجاز وعسير واليمن‪.‬‬
‫‪:1919‬‬
‫وتلقى العـرب خـبر افتتــاح مــؤتمر الصــلح بين الحلفــاء والعــرب‪ ،‬وقد افتتح هــذا‬
‫المـ ـ ـ ــؤتمر في ‪ 18‬كـ ـ ـ ــانون الثـ ـ ـ ــاني ‪ 1919‬في قاعة (السـ ـ ـ ــاعة) بـ ـ ـ ــوزارة الخارجية‬
‫الفرنس ــية‪ ،‬وقد حضر الملك فيصل ليطـ ــالب الحلفـ ــاء بتنفيذ وعـ ــودهم الـ ــتي كـ ــانت قد‬
‫أعطيت للعرب‪.‬‬
‫ولكن روح المماطلة والتسويف أقضت مضــجع الشــعوب العربية في مثل هــذه‬
‫المــؤتمرات‪ ،‬وكــانت أن عمت الثــورات الســورية تعــبر عن غضب الشــعب‪ ،‬فقــامت‬
‫ث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــورة مس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــلحة بقيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــادة الـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزعيم إبـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراهيم هنـ ـ ـ ـ ـ ـ ــانو(‪ ،)1‬في ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــمال حلب‬
‫(جبل الزاويـ ــة) وكـ ــان هنـ ــانو ال يقاتل الفرنسـ ــيين كـ ــرئيس عصـ ــابة‪ ،‬بل كقائد جيش‬
‫مسلح تابع للدولة العربية‪ ،‬وكذلك قامت ثورة البيطار‪.‬‬
‫وقد اتفق صـ ــالح العلي مع إبـ ــراهيم هنـ ــانو وتعاونـ ــا‪ ،‬واتفق مع الشـ ــهيد يوسف‬
‫العظم ـ ــة‪ ،‬وقد عجز الفرنسـ ــيون في القبض عليه حيـ ـ ـاً أو ميت ـ ـاً‪ ،‬وص ـ ــدر الحكم عليه‬
‫باإلعــدام‪ ،‬ثم تــوارى عن األنظــار‪ ،‬اضــطر الفرنســيون للعفو عنه بعد عــام‪ ،‬وأصــدر‬
‫المفوض السامي الجنرال غورو قراراً بذلك‪.‬‬
‫عاش سعد اهلل مع هذه الثورات‪ ،‬وقد تفتحت أمام بصــيرته أبعــاد القضــية كلهــا‪،‬‬
‫وتفتحت خطوات االستعمار الفرنسي والبريطاني كــأغوار مغلقة على الفهم‪ ،‬أتراها‬
‫أغ ـ ــواراً ماثلة في ظالم فكر الش ـ ــعب؟ أم في تج ـ ــاوز الس ـ ــلطات الحاكمة والغاص ـ ــبة‬
‫لحقوق هذا الشعب؟‬
‫ولكن الش ـ ـ ــعب ك ـ ـ ــان يعيش ه ـ ـ ــزة وطنية على أهبة االس ـ ـ ــتعداد لتلبية أي ن ـ ـ ــداء‬
‫للث ـ ــورة‪ ،‬وك ـ ــان التالحم قويـ ـ ـاً بين س ـ ــعد اهلل وهن ـ ــانو‪ ،‬فس ـ ــعد اهلل يع ـ ــبئ ويوقظ روح‬
‫الجمــاهير‪ ،‬في الــداخل وهنــانو يقــود الحركة عســكرياً من الريــف‪ ،‬ويعتمد على ســعد‬
‫اهلل كســند مــادي إلى حد كبــير‪ ...‬وكــان يثق برأيــه‪ ،‬ويحبه من أعماقــه‪ ،‬وكــان يقــول‪:‬‬
‫"سعد اهلل حبيبي‪ ،‬ويا لسعادة من كان سعد اهلل أخاه وصديقه"‪.‬‬

‫(?) إبراهيم هنانو كردي األصل‪ ،‬سوري الموطن‪ ،‬ولد في كفر تخاريم من قرى محافظة حلب‬ ‫‪1‬‬

‫(عام ‪ 1899‬وتوفى عام ‪ )1935‬ودخل الثانوية في حلب‪ ،‬وذهب إلى استنبول وانتسب إلى كلية‬
‫الحقوق اإلدارية وحصل على شهادتها وتدرج في الوظائف اإلدارية من مدير ناحية فقائمقام‪ ،‬ثم عين‬
‫(مكتوبجي) في مدينة حلب‪ ،‬كان يتعاون مع صبحي بركات إلى أن استسلم بركات للفرنسيين‪ ،‬فعاداه‬
‫ال‪.‬‬
‫هنانو إلى األبد‪ ،‬كما عاداه سعد اهلل الجابري‪ ،‬ألن بركات في نظرهما يعد عمي ً‬

‫ـ ‪ 27‬ـ‬
‫في هــذا الــوقت أراد األمــيركيون‪ ،‬وخصوص ـاً الــرئيس (ويلســون) أن يســتطلع‬
‫رغبة ســورية الــتي وضع نظــام االنتــداب من أجلهــا‪ .‬ولــذلك قــامت لجنة أميركية منذ‬
‫‪ 10‬حزي ــران وح ــتى ‪ 21‬تم ــوز ‪ 1919‬وقد أرس ــلت تحت قي ــادة (ك ــراين‪ ،‬وكين ــغ)‬
‫باستش ــارة األهلين‪ ،‬وقد ك ــان من الص ــعب التفك ــير ب ــأن الس ــوريين يمكن أن يرجع ــوا‬
‫عن اس ـ ــتقاللهم‪...‬ـ إن الس ـ ــيادة الوطنية هي النظ ـ ــام ال ـ ــذي يفض ـ ــلونه على أي نظ ـ ــام‬
‫آخـ ــر‪ ..‬وقد وقعت معاهـ ــدة فرسـ ــاي في ‪ 28‬حزيـ ــران ‪ ،1919‬ولـ ــذلك قصد الملك‬
‫فيصل أوروبا مرة ثانية على أمل االتفاق مع فرنسا‪.‬‬
‫وقد اسـ ـ ـ ــتقبل الملك فيصل اسـ ـ ـ ــتقباالً حسـ ـ ـ ــناً من قبل كليمنصو رئيس الحكومة‬
‫الفرنسية وهيأ لـه مشروع اتفاق فرنسي ـ سوري‪ .‬وهو أول مشــروع تمت مراجعته‬
‫على أســاس من الســيادة‪ ،‬وفي هــذه األثنــاء جــرى تعــيين الجــنرال (غــورو) مفوض ـاً‬
‫سامياً‪.‬‬
‫‪:1920‬‬
‫وعــاد األمــير فيصل إلى دمشق في ‪ 13‬كــانون الثــاني ‪ 1920‬وعــرض اتفــاق‬
‫كليمنصو على رجال السياسة في اجتماع سري عقد في منزل الدكتور أحمد قــدري‬
‫ولكن الوطنــيين رفضــوه باإلجمــاع‪ ،‬وكــان اإلحســاس التــاريخي يتضــمن موقفـاً نقــدياً‬
‫في مواجهة األحداث القريبة والبعيدة على حد سواء‪.‬‬
‫وقـ ــام األمـ ــير بجولة في المحافظـ ــات السـ ــورية‪ ،‬وازداد بهـ ــذه الزيـ ــارة يقين ـ ـاً أن‬
‫الشعب السوري بكامله يرفض وجود فرنسا‪.‬‬
‫واجتمع المـ ـ ــؤتمر السـ ـ ــوري في آذار ‪ 1920‬وقـ ـ ــرر إعالن اسـ ـ ــتقالل سـ ـ ــورية‬
‫بحدودها الطبيعية بما فيها فلسطين‪ ،‬والمناداة باألمير فيصل ملكاً دستورياً‪.‬‬
‫وفي ‪ 18‬آذار ‪ 1920‬أقيم احتفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال بمدينة دمشق بحضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــور ممثلي فرنسا‬
‫وإ نكل ــترا وقناصل ال ــدول‪ ،‬تمت خالله مبايعة األم ــير فيصل ملكـ ـاً على س ــورية وقد‬
‫وضع الم ـ ــؤتمر الس ـ ــوري في جلس ـ ــته التاريخية من ه ـ ــذا الش ـ ــهر‪ ،‬م ـ ــذكرة سياس ـ ــية‬
‫خطيرة قال فيها‪:‬‬
‫"إن األمة العربية ذات المجد الق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــديم والمدنية الزاه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرة‪ ،‬لم تقم جمعياتها‬
‫وأحزابها السياس ـ ـ ــية في زمن ال ـ ـ ــترك‪ ،‬بمواص ـ ـ ــلة جهادها السياس ـ ـ ــي‪ ،‬ولم ت ـ ـ ــرق دم‬
‫شـ ــهدائنا ولم تـ ــثر على حكومة األتـ ــراك إال طلب ـ ـاً لالسـ ــتقالل التـ ــام والحيـ ــاة الحـ ــرة‪،‬‬
‫بصــفتها أمة ذات وجــود مســتقل وقومية خاصة لها الحق في أن تحكم نفســها بنفســها‬
‫أسوة بالشعوب األخرى‪ ،‬التي ال تزيد عنها مدنية ورقياً‪."...‬‬

‫ـ ‪ 28‬ـ‬
‫وك ـ ــان ه ـ ــذا حلم س ـ ــعد اهلل لتوحيد البالد العربية كله ـ ــا‪ ،‬والرج ـ ــوع إلى مص ـ ــدر‬
‫سياسي واحد يشمل سماء هذه البالد‪.‬‬
‫ولكن‪...‬ـ أح ــدث ه ــذا الق ــرار رد فعل ع ــنيف في األوس ــاط السياس ــية الفرنس ــية‬
‫واإلنكليزية‪ ،‬وأعلن (لويد جورج) رئيس الوزارة البريطانية أمام مجلس العموم أن‬
‫بريطانية وفرنسا أبلغت األمير فيصل أنهما ال تستطيعان االعتراف بقــرار المــؤتمر‬
‫السوري‪.‬‬
‫وت ــوالت البرقي ــات المماثلة على فيصل من ال ــرئيس الفرنسي ميل ــران والل ــورد‬
‫اللن ـ ــبي‪ ،‬تبلغه رس ـ ــمياً ق ـ ــرارات م ـ ــؤتمر الحلف ـ ــاء المنعقد في ‪ 20‬نيس ـ ــان ‪ 1920‬في‬
‫مدينة سان ريمو اإليطالية‪ ،‬وقد عهد لفرنسا بموجبها االنتداب على سورية ولبنــان‪،‬‬
‫وعهد إلى بريطانية االنتداب على العراق وفلسطين‪.‬‬
‫تــوتر الجو العــربي‪...‬ـ عصــفت الريــاح المنــذرة بالشــؤم في كل مكــان‪ ،‬ســقطت‬
‫حكومة علي باشا الركـ ـ ـ ـ ــابي‪ ،‬نهضت حكومة هاشم األتاسـ ـ ـ ـ ــي‪ ،‬وكـ ـ ـ ـ ــان من أبـ ـ ـ ـ ــرز‬
‫أعض ــائها رضا الص ــلح‪ ،‬عبد ال ــرحمن ش ــهبندر‪ ،‬يوسف العظم ــة‪ ،‬ف ــارس الخ ــوري‪،‬‬
‫ساطع الحصري‪ ،‬جورج رزق اهلل‪...‬‬
‫في هـ ـ ـ ــذا العـ ـ ـ ــام ازدادت السـ ـ ـ ــحب قتامة وتصـ ـ ـ ــاعدت في جو مكفهر وقـ ـ ـ ــامت‬
‫الثورات في كل مكان‪.‬‬
‫وبقي زعيم الشمال إبراهيم هنـانو يتــابع قيــادة الثــورة في الريف حيث تالحمت‬
‫مع ث ــورة الش ــيخ (ص ــالح العلي) في اجتم ــاع (مرعي ــان) في ش ــباط ‪ 1920‬في جبل‬
‫الزاوية‪ ،‬قرب حلب التي راحت تسبح في غضب عاصف‪.‬‬
‫ولكن‪...‬ـ م ـ ــاذا يك ـ ــون الموقف عن ـ ــدما يخ ـ ــرج من أبن ـ ــاء الش ـ ــعب من يح ـ ــارب‬
‫أصحاب الرساالت العليا؟‬
‫كان جبل (بيالن) مسرحاً لثـورة صــبحي بركـات‪ ،‬ولكن ما أن تمت الهدنة بين‬
‫األتراك والفرنسـيين حـتى ألقى بركـات الســالح وانضم إلى الجيش الفرنسـي‪ ،‬وخــان‬
‫الرسالة وأفلست قيمه الروحية والوجدانية‪ ،‬وبدأ يتعقب جيش هنانو ويضايقه‪.‬‬
‫وهــذا هو السـبب الـدفين في قلب ســعد اهلل الجــابري في كرهه لبركــات‪ ...‬الـذي‬
‫لجأ إلى الفرنس ــيين في سياس ــته وثورت ــه‪ ،‬بعد أن طغت مص ــلحته على كل القض ــية‪.‬‬
‫ورغم تحسن العالق ــات فيما بعد بين أعض ــاء الكتلة الوطنية وص ــبحي برك ــات‪ ،‬ف ــإن‬
‫هنانو والجابري لم يغيرا موقفهما‪.‬‬

‫ـ ‪ 29‬ـ‬
‫وكـ ــان سـ ــعد اهلل ي ــرى أن اإلنسـ ــان لن تكـ ــون لـه قيمة حقيقية بوصـ ــفه شخص ــية‬
‫إنسانية إال من خالل كفاحه ليكون ذا خلق وخالل حسنة‪.‬‬
‫وفي الواقع لم يكن من السـ ـ ــهل نجـ ـ ــاح الثـ ـ ــورات لـ ـ ــوال تهيئة األجـ ـ ــواء وشـ ـ ــحذ‬
‫النفوس وإ ثارة الوجدان الذي أصيب بالخدر‪...‬‬
‫وكان سعد اهلل يشحذ الهمم قدر اإلمكان‪ ،‬ويبعث الحماسة في نفــوس الشــعب إذ‬
‫عليه تتوقف األمــور وتقع مســؤوليات كــبرى للتعــاون مع القيــادة؛ وبكل مثــابرة على‬
‫المب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدأ المخلص‪ ،‬وتص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــلب عنيد دون تراجع في المواقف الوطنية مع النزاهة‬
‫والسـ ــمو‪ ،‬راح سـ ــعد اهلل يعمل على خلق القـ ــوة الالزمة من اتحـ ــاد األفـ ــراد والتحاقها‬
‫بالقي ــادة‪ ،‬ورأى أن أية ق ــوة على األرض ال تس ــتطيع الوق ــوف أم ــام أمة تمأل نف ــوس‬
‫شـ ـ ــعبها وقادتها قـ ـ ــوة اإليمـ ـ ــان وجـ ـ ــرأة القلب ونزاهة الضـ ـ ــمير‪ .‬كما أن الحضـ ـ ــارة‬
‫تفترض أناساً أحراراً ألن باألحرار وحدهم تتحقق الحضارة وتصنع‪.‬‬
‫ويفجر أطر الجهــاد‬ ‫شــعر الفرنســيون بمن كــان يحشد الطاقــات ويلهب النفــوس ّ‬
‫ويغلي مراجل المشـ ــاعر الوطنيـ ــة‪ ،‬ولمسـ ــوا عن قـ ــرب أن سـ ــعد اهلل وراء ذلك كلـ ــه‪،‬‬
‫وآمن ـ ـ ــوا بما ك ـ ـ ــان لـه من ص ـ ـ ــفات خلقية ووطنية حببته إلى الش ـ ـ ــعب بل إلى الع ـ ـ ــالم‬
‫العربي الذي راح ينقاد لمبادئه وأول مبدأ هو (الحرية)‪.‬‬
‫وكـان إيمانه بنـوال الحرية ـ ولو طـال الـزمن وتشـبث العــدو ـ هـذا اإليمـان كــان‬
‫يغذيه بنش ــاط إرادي وسط ان ــدفاع ج ــارف للق ــوى االجتماعية وه ــذا يع ــني نمو ق ــدرة‬
‫التصميم الذاتي المستقل وسط دوافع نفسية‪.‬‬
‫وفي كتابه "اإلسالم ـ وآسيا" ذكر (أوجين يونغ) أن المسيو (دي جوفتيل) ألقى‬
‫خطابـاً في مدينة تــولي عــام ‪ 1920‬ذكر فيه "ليعلم النــاس أن ســورية ولبنــان قطــران‬
‫متمم ــان لفرنسا وإ ن ث ــورة بالدنا وث ــورة اللبن ــانيين والس ــوريين (مش ــتركة) ويص ــبح‬
‫االنتداب المعزز بالقوة المسلحة معززاً بقوة أعظم هي المصالح المشتركة"‪.‬‬
‫وهكــذا كــان‪ ...‬فقد قــرر مــؤتمر (ســان ريمــو) في ‪ 19/20‬نيســان ‪ 1920‬منح‬
‫فرنسا االنت ــداب على كيليكيا وس ــورية‪ ،‬كما منحت بريطانيا االنت ــداب على فلس ــطين‬
‫وشـ ـ ـ ــرق األردن‪ ،‬واحتلت جيـ ـ ـ ــوش فرنسا دمشق وقضت على االسـ ـ ـ ــتقالل وأعلنت‬
‫االنتداب‪ ،‬ووضعت يدها على زمام األمور ومرافق البالد‪.‬‬
‫وفي ‪ 9‬تم ـ ــوز ‪ 1920‬وقعت معركة ميس ـ ــلون بين الق ـ ــوات الفرنس ـ ــية الغازية‬
‫بقي ـ ـ ــادة الج ـ ـ ــنرال غ ـ ـ ــورو وبين الق ـ ـ ــوات العربية ال ـ ـ ــتي قادها وزير الحربية يوسف‬
‫العظمـة‪ ،‬وانتهت بانتصـار الجـنرال غـورو واستشـهد يوسف العظمة وتشـتت قواتـه‪،‬‬
‫وكــأن هــذه المعركة قد وضــعت حــداً للســيادة الســورية‪ .‬وســرعان ما توجه الجــنرال‬

‫ـ ‪ 30‬ـ‬
‫غــورو وفي دمائه تغلي روح التحــدي والعــدوان إلى ضــريح الســلطان صــالح الــدين‬
‫األي ــوبي وق ــال‪" :‬ها نحن ع ــدنا يا ص ــالح ال ــدين‪...‬ـ إن وقف ــتي ه ــذه تك ــرس انتص ــار‬
‫الصليب على الهالل"‪.‬‬
‫وفي تاريخ ‪ 14 ،13‬تموز أصدر الجنرال غورو إنذاراً وطلب‪:‬‬
‫ً‪ 1‬ـ استالم الخط الحديدي‪.‬‬
‫ً‪ 2‬ـ قبول العملة الفرنسية‪.‬‬
‫ً‪ 3‬ـ تسريح الجيش العربي‪.‬‬
‫وتحركت جيوش فرنسا نحو الشمال‪ ،‬واستســلمت حلب يــوم ‪ 13‬تمــوز ‪1920‬‬
‫للجـ ـ ـ ــنرال (دي المـ ـ ـ ــوت) الـ ـ ـ ــذي عين كامل باشا القدسي واليـ ـ ـ ـ ـاً على حلب‪ ،‬وأعلن‬
‫انفصال حكومة حلب عن حكومة دمشق‪.‬‬
‫وفي ‪ 31‬آب ‪ 1920‬أنشأ الجنرال غورو (المفـوض السـامي)ـ بمـوجب القـرار‬
‫(‪ )318‬دولة لبنــان الكبــير بمســاحة ‪/10170/‬كم‪ ،2‬ولكن لجــان الحــدود بقيت تعمل‬
‫أكثر من عشرين عاماً حتى أصبحت مساحة لبنان ‪/10400/‬كم‪.2‬‬
‫وقد أعلن غ ـ ــورو من قصر الح ـ ــرش في ب ـ ــيروت دولة لبن ـ ــان الكب ـ ــير بض ـ ــمان‬
‫فرنسا وحمايتهــا‪ .‬وضم إليه أقضــية بعلبك والبقــاع وحاصــبيا وراشــيا‪ ،‬بعد أن كــانت‬
‫تابعة لحكومة دمش ــق‪ ،‬وه ــذا العمل السياسي يج ّسـ ـد مع ــنى االغتي ــال الحق ــوقي ووأد‬
‫حرية التملك الوطني‪.‬‬
‫واحتجت دمشق رسـ ــمياً‪ .‬ولكن‪ ...‬من يسـ ــمع؟‪ ...‬وتـ ــوالت التقسـ ــيمات تباع ـ ـاً‪،‬‬
‫ففي ‪ 8‬أيل ــول اص ــدر المف ــوض الس ــامي إعالن حلب دولة مس ــتقلة باسم دولة حلب‪،‬‬
‫لها علمها الخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاص وتنتهي ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدودها الجنوبية عند الكيلو ‪ 115‬أي بعد‬
‫خان شيخون‪.‬‬
‫في هـذه الفــترة بالــذات كــان الملك فيصل قد أبــرق إلى اللــورد (كــرزون) وزير‬
‫الخارجية البريطانية ـ ـ ـ ـ بواسـ ـ ــطة اللـ ـ ــورد (اللنـ ـ ــبي) موضـ ـ ــحاً أن هـ ـ ــدف الفرنسـ ـ ــيين‬
‫إخراجه من س ـ ـ ــورية وإ رغامه التخلي عن الع ـ ـ ــرش‪ ،‬ومما قاله في البرقي ـ ـ ــة‪" :‬أنا ال‬
‫يوجه إلى أمــتي من‬ ‫أرغب في البقاء في هذه البالد مهاناً ذليالً‪ ،‬وال أطيق الــذم الــذي ّ‬
‫غير حق"‪.‬‬
‫وفي مسـ ــاء اليـ ــوم نفسه جـ ــاء الكولونيل (تـ ــوال) وسـ ــلم الملك فيصل كتاب ـ ـاً باسم‬
‫الحكومة الفرنسية جاء فيه‪" :‬أتشرف بإبالغ سموكم الملكي قرار الحكومة الفرنسية‬
‫أنها ترجو منكم أن تغ ـ ــادروا دمشق بأس ـ ــرع ما يس ـ ــتطاع‪ ،‬بس ـ ــكة حديد الحج ـ ــاز مع‬

‫ـ ‪ 31‬ـ‬
‫عائلتكم وحاشيتكم‪ ،‬وسيكون تحت تصرف سموكم والذين معكم قطار خــاص يــبرح‬
‫محطة الحجاز بدمشق غداً ‪ 28‬تموز الساعة الخامسة صباحاً"‪.‬‬
‫وذهب فيصل وج ــرى وداع لـ ــه‪ ،‬وذهب معه س ــاطع الحص ــري وال ــدكتور عبد‬
‫الــرحمن شــهبندر‪ .‬غــادر الملك إلى درعا في قطــار خــاص حمله إلى حيفــا‪ ،‬ثم توجه‬
‫في بـ ـ ــاخرة متجهة نحو إيطاليا وكـ ـ ــان معه إحسـ ـ ــان الجـ ـ ــابري وسـ ـ ــاطع الحصـ ـ ــري‬
‫ونوري السعيد وتحسين قدري‪.‬‬
‫وانطوت صفحة جهاد وتضحية في أول خطوة تخطوها سورية نحو التحــرر‪،‬‬
‫وانطوى أمل سعد اهلل في أن يكون الملك فيصل هو الرمز لوحدة البالد العربية‪.‬‬
‫وتـ ــوالت التقسـ ــيمات باسـ ــتمرار‪...‬ـ ففي ‪ 23‬أيلـ ــول أصـ ــدر المفـ ــوض السـ ــامي‬
‫(الجـنرال غـورو) قـراراً بإنشـاء دولة العلـويين على أن تكـون الالذقية عاصـمة لهـا‪،‬‬
‫كما جــرى تعــيين الحــدود الســورية الفلســطينية باتفــاق (فرنسي ـ ـ بريطــاني) وقع في‬
‫بـاريس بتــاريخ ‪ 23‬كـانون األول ‪ .1920‬على أن الكارثة الكـبرى لســورية هو حل‬
‫الجيش الوطني‪ ،‬واعتبار أسلحته وذخائره وما لديه من أوائل غنيمة حربية‪....‬‬
‫وألّف المف ــوض الس ــامي غـ ــورو حكومة جدي ــدة برئاسة (األلشـ ــي) وألغيت من‬
‫الــوزارة الجديــدة وزارتا الــدفاع والخارجية (وهما أهم وزارتين بالنســبة للمســتعمر)‬
‫وأصبح المندوب السامي هو الحاكم الفعلي للبالد‪.‬‬
‫‪:1921‬‬
‫ثم بــدأت تنــازالت من الفرنســيين لألتــراك إلرضــائهم وكسب تعــاونهم‪ .‬ففي ‪9‬‬
‫آذار عـ ــام ‪ 1921‬وقّع (أريسـ ــتيد بريـ ــان) الـ ــرئيس الفرنسي معاهـ ــدة في لنـ ــدن تعيد‬
‫فرنسا بموجبها لتركيا إقليم كيليكيا‪...‬ـ وبموجب هذه المعاهــدة ُمنحت األقلية التركية‬
‫في س ــنجق إس ــكندرون نظامـ ـاً إداريـ ـاً خاصـ ـاً مع اعتب ــار اللغة التركية بالنس ــبة له ــذه‬
‫األقلية لغة رسمية كالعربية والفرنسية‪.‬‬
‫وبعد ذلك قـ ــام الفرنسـ ــيون بتجهـ ــيز ‪ /5/‬خمس حمالت يقـ ــود أحـ ــدها الجـ ــنرال‬
‫غـ ــورو لمحاصـ ــرة الثـ ــوار في جبل الزاوية شـ ــمال حلب‪ .‬فاضـ ــطر إبـ ــراهيم هنـ ــانو‬
‫لمغـ ــادرة الجبل في ‪ 12/7/1921‬وبرفقته ‪ /55/‬جنـ ــدياً وضـ ــابطاً‪ ،‬غـ ــير أن أربعة‬
‫من ضباطه وقعوا أسرى في أيدي الفرنسيين وقد أعدموا على الفور‪.‬‬
‫تابع هنانو سيره على جواده جنوباً في بادية الشام‪ ،‬يــأوي إلى منــازل البــدو في‬
‫النهـ ـ ـ ــار‪ ،‬ويسـ ـ ـ ــير ليالً‪ ،‬حـ ـ ـ ــتى بلغ عمـ ـ ـ ــان في رحلة طويلة شـ ـ ـ ــاقة خوف ـ ـ ـ ـاً من بطش‬
‫الفرنسيين‪.‬‬

‫ـ ‪ 32‬ـ‬
‫وفي عمـ ــان آواه األمـ ــير عبد اهلل بن الحسـ ــين‪ ،‬أمـ ــير األردن‪ ،‬وشـ ــاء هنـ ــانو أن‬
‫يـ ــذهب إلى القـ ــدس لزيارتها رغم نصح أصـ ــدقائه بالعـ ــدول عنهـ ــا‪ ،‬ولكنه أصر على‬
‫ذلك واعتقلته هنـ ـ ــاك السـ ـ ــلطات البريطانية بنـ ـ ــاء على طلب من القنصل الفرنسـ ـ ــي‪.‬‬
‫واحتج األم ــير عبد اهلل إلى الحكومة البريطانية طالب ـاً إطالق ســراح ضــيفه وج ــاره‪،‬‬
‫فلم تس ـ ــتجب الس ـ ــلطات البريطانية لطلب ـ ــه‪ ،‬مما أدى إلى قي ـ ــام مظـ ــاهرات كب ـ ــيرة في‬
‫األردن‪ ،‬وقد أرسل هنانو مخفوراً إلى بيروت‪.‬‬
‫وهكذا غدر به اإلنكليز باالتفاق مع الفرنسيين وسلموه لهم على الـرغم من كل‬
‫قانون عرفي أو دولي‪.‬‬
‫نقله الفرنسيون إلى حلب وحـاكموه أمـام المجلس العـرفي‪ ،‬متهمين إيـاه بجـرائم‬
‫عادية (سلب‪ ،‬نهب‪ ،‬قطع طرق‪ ،‬قتل)‪.‬‬
‫ك ـ ــان س ـ ــعد اهلل ال يف ـ ــارق هن ـ ــانو‪ ،‬وفي رفقته ك ـ ــان ي ـ ــذكي الحماسة واالن ـ ــدفاع‬
‫للقضــية الوطنية حــتى في أحلك الســاعات وأشــدها هــوالً‪ ،‬كــان ال يغمض لـه جفن إذا‬
‫كان هنانو في متاعب أو معاناة‪...‬ـ‬

‫وهن انو على ف راش القت اد‬ ‫كيف أغفو على ف راش األق احي‬

‫في هــذا العــام بالــذات‪ ،‬دعا الجميع إلى عقد مــؤتمر عــام في جــنيف أثنــاء انعقــاد‬
‫الجمعية العامة لعصـ ـ ــبة األمم‪ .‬وفي يـ ـ ــوم ‪ 2‬آب ‪ 1921‬انعقد المـ ـ ــؤتمر في جـ ـ ــنيف‬
‫ورص الصفوف‪.‬‬‫ّ‬ ‫وكانت غايته توحيد األحزاب االستقاللية‬
‫واش ــترك إحس ــان الج ــابري من ــدوب ح ــزب االس ــتقالل الع ــربي مع كث ــيرين في‬
‫سبيل تلك الغاية‪ ،‬ووضعوا نداء ينشد المطاليب اآلتية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ االعتراف باالستقالل والسلطان القومي لسورية ولبنان وفلسطين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االع ــتراف بحق ه ــذه البالد في أن تتحد معـ ـاً بحكومة مدنية مس ــؤولة أم ــام‬
‫مجلس نيـ ـ ـ ـ ــابي منتخب من الشـ ـ ـ ـ ــعب وأن تتحد مع بـ ـ ـ ـ ــاقي البالد العربية‬
‫المستقلة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إعالن إلغاء االنتداب حاالً‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ جالء الجنود الفرنسيين واإلنكليز عن سورية ولبنان وفلسطين‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ إلغاء تصريح (بلفور) المتعلق بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين‪.‬‬

‫ـ ‪ 33‬ـ‬
‫لم تثمر ه ـ ــذه المس ـ ــاعي في ال ـ ــوقت ال ـ ــذي وقع فيه (ف ـ ــرانكلين بوي ـ ــون) اتفاقية‬
‫أعطت فرنسا بموجبها لسـ ـ ــكان إسـ ـ ــكندرون وأنطاكية الحق برفع علم يحتـ ـ ــوي على‬
‫األلوان والشعارات التركية‪ .‬وفي ‪ 20‬تشرين األول ‪ 1921‬تنازل كذلك (فرانكلين‬
‫بويــون) عن أغــنى إقليم في شــمال ســورية‪ ،‬يشــكل المســيحيون أكثرية الســكان فيــه‪،‬‬
‫وهو إقليم (كيليكي ـ ـ ــا) وال ـ ـ ــذي يمتد ف ـ ـ ــوق مس ـ ـ ــاحة خمس ـ ـ ــين ألف كم‪ 2‬من األراضي‬
‫الخصبة‪.‬‬
‫‪:1922‬‬
‫وبعد ذلك اتجه المفـ ـ ـ ــوض السـ ـ ـ ــامي من جديد إلى السياسة الداخلية وأمر بـ ـ ـ ــأن‬
‫تجرى محاكمة الـزعيم هنـانو‪ .‬وفي ‪ 15/5/1922‬ـ وكــان عـام التحــدي والكبريـاء ـ‬
‫انعق ـ ــدت محكمة رهيب ـ ــة‪ ،‬ولكن هن ـ ــانو لم يرهبها وك ـ ــان كل الحك ـ ــام من الفرنس ـ ــيين‬
‫العسكريين‪( ،‬فهم الخصوم وهم الحكام) وكــان ســعد اهلل ال يغيب‪ ،‬عن تلك المحاكمة‬
‫العلنية‪...‬‬
‫وافتتحت المحاكمة‪...‬ـ وحين قال رئيس المحكمة (المجلس العسكري) للــزعيم‬
‫هنـ ــانو‪" :‬إن الشـ ــعب السـ ــوري لم يطلب منك إعالن الثـ ــورة‪ :‬فهل يمكنك أن تـ ــأتيني‬
‫بشخص واحد سوري كلفك هذه المهمة؟"‪.‬‬
‫وهنا فرق السكون الذي ران على جو المحكمة صوت شــاب أنيق وقف ليقــول‬
‫فجر ألمه جــرأة وإ قــداماً‪" :‬يا ســيدي الــرئيس‪ ...‬أنا أدعى ســعد‬ ‫بلغة فرنســية‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫اهلل الجـ ــابري‪ ،‬من أبنـ ــاء هـ ــذا البلد ومن مثقفيـ ــه‪ ...‬أنا واأللـ ــوف معي كلفنا إبـ ــراهيم‬
‫هنـ ـ ـ ــانو مقاتلة فرنسا الـ ـ ـ ــتي دخلت بالدنا دون حـ ـ ـ ــق‪ ،‬ومن حقنا أن نقـ ـ ـ ــاوم االحتالل‬
‫األجنــبي بقوتنا المســلحة‪ ،‬وإ ن المجــرم يا ســيدي الــرئيس هو من يعتــدي على ســالمة‬
‫الن ـ ـ ــاس وحرية الش ـ ـ ــعوب ال ذلك ال ـ ـ ــذي ي ـ ـ ــدافع عن اس ـ ـ ــتقالل بالده ويجابه ح ـ ـ ــراب‬
‫السنغاليين في سبيل تحرير أراضي آبائه وأجداده‪ .‬إننا نحن الذين طلبنا من الــزعيم‬
‫الكبير مقاتلتكم ونحن لن نتخلى عن مقاتلتكم ما دام فينا وطني واحد‪ ،‬حتى تخرجــوا‬
‫من بالدنا"‪.‬‬
‫دوت قاعة المحكمة بالتصـ ـ ــفيق‪ ،‬فغضب رئيس المحكمة وصـ ـ ــاح بـ ـ ــالحراس‪:‬‬ ‫ّ‬
‫"أوقفـ ــوا كل من صـ ــفق هنـ ــا"‪ ،‬ثم التفت إلى سـ ــعد اهلل الجـ ــابري وقـ ــال ل ـ ــه‪" :‬تلك هي‬
‫نظريتك‪ ،‬ولكن إبراهيم هنانو قتل وفتك ودمر‪ ،‬فماذا ترى في ذلك؟"‪.‬‬
‫ـرد الج ــابري‪ :‬لقد أعلن إب ــراهيم هن ــانو الح ــرب عليكم باسم الش ــعب الس ــوري‬
‫فـ ّ‬
‫العربي‪ ،‬والقتل والفتك والتدمير نتيجة طبيعية للحرب التي خضتم غمارها‪.‬‬
‫فقاطعه رئيس المحكمة قائالً‪" :‬شكراً لمعلوماتك التي نحن بغنى عنها"‪.‬‬
‫ـ ‪ 34‬ـ‬
‫وانتهت المحاكمة بعد صراع مرير بين الحق والباطل‪...‬ـ‬
‫ه ــذه الج ــرأة الكب ــيرة في ذلك ال ــوقت ك ــانت مبعث ـاً لثقة الش ــعب بس ــعد اهلل وك ــان‬
‫الوطــنيون ال يقضــون أمــراً إال بإرشــاده ورأيــه‪ ...‬ويصف شــاعر ســورية عمر أبو‬
‫ريشة موقفه هذا ويقول‪:‬‬
‫اد‬ ‫راب واألجن‬ ‫بين الح‬ ‫ما نس يناه ي وم جيء ب إبراهيم‬
‫من ه‪ ،‬من جرح ه‪ ،‬من األص فاد‬ ‫ّدة الحكم خجلى‬ ‫وتلقته س‬
‫زرق مدية الجالد‬ ‫داقها ال‬ ‫اة تلمع في أح‬ ‫ان القض‬ ‫وهج‬
‫يقفر الغ اب من حمى اآلس اد‬ ‫س ألوه عن ص حبه ف أبى أن‬
‫فس رى الص مت يحبس النفس المتعب في رهبة القض اء الب ادي‬
‫وت دوي ص خابة األرع اد‬ ‫وج لها الجمع‬ ‫وإ ذا زأرة يم‬
‫ث ابت الع زم مطمئن الف ؤاد‬ ‫عد األبي مطل‬ ‫وإ ذا س‬
‫هرته كف العال للجالد‬ ‫ش‬ ‫ص اح‪ :‬إني فرن ُد كل حس ام‬
‫وهن انو على ف راش القت اد‬ ‫كيف أغفو على ف راش األق احي‬
‫اد‬ ‫دة وعت‬ ‫ام فينا من ع‬ ‫أنا زودته بما ألقت األي‬
‫واحمل وا ه امتي على األع واد‬ ‫فاغس لوا ذل كي دكم ب دمائي‬
‫م وتي حي اة ألم تي وبالدي‬ ‫وت إن رأيت على‬ ‫ذا الم‬ ‫حب‬

‫أم ــام تخ ــوف الفرنس ــيين من تخطيطه ونش ــاطه‪ ،‬ب ــدأت سلس ــلة طويلة من القهر‬
‫واإلذالل بإصدار أوامر وأنظمة تقيد كل فكر وحركة‪.‬‬
‫وراحت س ـ ــورية تغ ـ ــرق ش ـ ــيئاً فش ـ ــيئاً تحت ن ـ ــير حدي ـ ــدي ظ ـ ــالم‪ ،‬وب ـ ــدا ه ـ ــدف‬
‫االسـ ـ ــتعمار واضـ ـ ــحاً‪ ،‬وهو تفريق البالد والمحافظـ ـ ــات وعـ ـ ــزل بعضـ ـ ــها عن بعض‬
‫إدارياً ـ واجتماعياً وإ قامة حواجز وحدود بين فكر وفكر وعائلة وعائلة‪.‬‬
‫ولعل سياسة تمزيق األوص ـ ـ ـ ــال في الجسم الواحـ ـ ـ ــد‪ ،‬يض ـ ـ ـ ــعف بل يميت ه ـ ـ ـ ــذا‬
‫الجسـ ــم‪ ،‬وال سـ ــيما عنـ ــدما يغـ ــذى جـ ــزء على حسـ ــاب جـ ــزء آخـ ــر‪ .‬وبسياسة التفريق‬
‫والمحابـ ــاة‪ ،‬وتـ ــدليل بعض العناصر وإ غـ ــرائهم بالوظـ ــائف والرشـ ــاوى‪ ،‬اسـ ــتطاعت‬
‫السلطة أن تشتري بعض األفراد بينما صعب شراء البعض وصعبت مساومتهم‪.‬‬

‫ـ ‪ 35‬ـ‬
‫وعندما انتهت المناوشات بين فرنسا وتركيا في كيليكيا وتم التفــاهم بينهما عقد‬
‫مؤتمر في لوزان ـ سويسرا‪ ،‬لحل قضايا الشرق‪.‬‬
‫فتوجه األمير شكيب أرسالن وإ حسان الجابري إلى اســتنبول في شــهر تشــرين‬
‫الثــاني واتصال بالسياســيين األتــراك ليبقى التنــازل عن البالد العربية للعــرب ذاتهم‪،‬‬
‫ال لفرنســا؛ ولكن تركيا رفضت وتمـردت‪ ،‬فقــويت فرنسا بهــذا الـرفض وراحت تلجأ‬
‫إلى سياسة التف ــتيت والتقس ــيم‪...‬ـ وأص ــبح الش ــعب الس ــوري ال ــذي ال يملك جيش ـاً وال‬
‫سالحاً كالتائه على صدر الرصيف يهاجر من استعمار إلى استعمار‪.‬‬
‫وســارت الســلطة على مبــدأ (فـ ّـرق تســد) في كل مســالكها‪ ،‬وقســمت ســورية إلى‬
‫دويالت أربع وهي‪ :‬دولة دمشـ ـ ــق‪ ،‬دولة حلب‪ ،‬دولة العلـ ـ ــويين‪ ،‬دولة جبل الـ ـ ــدروز‬
‫وأم ــام تقطيع األوص ــال التعس ــفي راح س ــعد اهلل يس ــعى لجمع الكلم ــة‪ ،‬ولكن الس ــلطة‬
‫االسـ ـ ـ ــتعمارية راحت تـ ـ ـ ــراقب تحركاته وتتجسس على تجمعاتـ ـ ـ ــه‪ ،‬بيد أنه لم يبـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ـال‬
‫فمضى يشـ ـ ــيع في النفـ ـ ــوس تقبل مبـ ـ ــدأ (الوحـ ـ ــدة) بين المحافظـ ـ ــات والـ ـ ــتي ال يمكن‬
‫إلحداها أن تستغني عن األخرى‪.‬‬
‫ولكن الفرنســيين زادوا في الضــغط‪ ،‬وأوجــدوا المحــاكم المختلطة وأكــثروا من‬
‫األزالم والعمالء السـ ــيما من الطوائف المختلفـ ــة‪ ،‬وكـ ــان سـ ــعد اهلل يسـ ــتغرب سياسة‬
‫التفريق الـ ــتي تقـ ــوم على أسـ ــاس األديـ ــان‪ ،‬وكـ ــان يقـ ــول‪" :‬في العـ ــراق مـ ــذاهب دينية‬
‫كثيرة‪ ،‬ولكنهم لم يقسموا البالد تبعاً للمذاهب والعــرق‪ ،‬ولم يكن اختالف األديــان في‬
‫سورية يقوم بوجه الوحدة واالتحاد"‪.‬‬
‫ولم يكتف الفرنس ـ ــيون بس ـ ــلوكهم ه ـ ــذا وإ نما زادوا في التح ـ ــدي إذ عم ـ ــدوا إلى‬
‫عملية تخريبية وهي غسل األدمغة وتفريغ الشـ ـ ــعب السـ ـ ــوري من ال ـ ــداخل‪ .‬وأدمغة‬
‫الجيل هي (الغاي ــة) االس ــتعمارية‪ ،‬فعن ــدما تمأل ه ــذه األدمغة بقيم ومف ــاهيم ال ج ــذور‬
‫لها وال أسـ ــاس في تكـ ــوين الفـ ــرد السـ ــوري وتربيتـ ــه‪ ،‬فسـ ــوف يشب الجيل كما يريد‬
‫التبشير المدرسي االستعماري‪ ،‬والذي خلق في الواقع‪ ،‬جيالً مضــطرباً مخلوعـاً من‬
‫تراثه وروابطه واتص ــاالته النفس ــية واالجتماعي ــة‪ ،‬ألن ب ــرامج الت ــدريس في األصل‬
‫وضعت بنهج استعماري‪...‬‬
‫وك ــثرت الم ــدارس ه ــذه والتحق كث ــير من أبن ــاء الش ــعب به ــا‪ ،‬ح ــتى نش ــأت فئة‬
‫ترعرعت في معاهد األجانب وهي بعيدة جدًا عن التفكير القومي الصحيح واالنتمـاء‬
‫إلى ال ـ ــوطن والج ـ ــذور؛ واتجه الت ـ ــدريس نحو تمجيد فرنس ـ ــا‪ ،‬وكرست كتب الت ـ ــاريخ‬
‫لدراسة ت ـ ــاريخ فرنسا وبعض البالد ال ـ ــتي غفت تاريخيـ ـ ـاً ون ـ ــامت حض ـ ــارتها‪ ،‬كبالد‬
‫الفـ ـ ــرس وبابل وآشـ ـ ــور‪ ،‬وألغي تـ ـ ــدريس التـ ـ ــاريخ الوطـ ـ ــني لخلق فجـ ـ ــوة بين حاضر‬

‫ـ ‪ 36‬ـ‬
‫وم ـ ــاض‪ ،‬ولحق األذى فكر التالمي ـ ــذ‪ ،‬إذ نش ـ ــؤوا وأفك ـ ــارهم وقل ـ ــوبهم مزروعة بحب‬
‫فرنسا وحضــارتها؛ ويشــهد الكثــيرون حــتى من األســاتذة الــذين أرغمــوا على تــدريس‬
‫هذه المواد؛ كيف أن الطالب يعرف عن ظهر قلب كيف يرسم خريطة فرنسا‪ ،‬ولكنه‬
‫يجهل أن يرسم خريطة سورية أو أي بلد عربي آخر‪...‬‬
‫ونتيجة ل ــذلك غس ــلت األدمغ ــة‪ ،‬وبع ــدت المس ــافات بين الجيلين وذاب التج ــانس‬
‫في الــرأي والمواقف واضــمحلّت المفــاهيم المتقاربة والمتوحــدة‪ ،‬وضــاع فهم األمــور‬
‫على حقيقتها‪.‬‬
‫وهك ـ ــذا اس ـ ــتطاع االس ـ ــتعمار الفرنسي أن يح ـ ــدث ش ـ ــروخاً في نفس ـ ــية الش ـ ــعب‬
‫الواحـ ــد‪ ،‬وأن يحـ ــدث اختالالً في التـ ــوازن االجتمـ ــاعي القـ ــائم؛ وظهـ ــرت ارتكاسـ ــات‬
‫اعتقادية وسياســية متنــافرة بين األفــراد‪ .‬ولكن الشــعب تــابع نضــاله من أجل الوحــدة‬
‫بين المحافظات‪.‬‬
‫وفي ‪ 22‬حزيران أعلن مجلس االتحاد الوحدة التامة لســورية بنــاء على تقرير‬
‫ف ـ ــاخر الج ـ ــابري كما أعلن عن المجلس التأسيسي بن ـ ــاء على طلب الحكوم ـ ــة‪ ،‬وبعد‬
‫شــهر تقريبـاً‪ ،‬وفي ‪ 24‬تمــوز ‪ 1922‬تقـ ّـرر في عهــدة لونــدرة (صك االنتــداب)‪ ،‬وقد‬
‫جاء في مادته األولى‪:‬‬
‫ـ تضع الدولة المنتدبة في خالل (‪ )3‬س ــنوات تبت ــدئ من دخ ــول ه ــذا االنت ــداب‬
‫دور التنفيـ ــذ‪ ،‬دسـ ــتوراً أساسـ ــياً لسـ ــورية ولبنـ ــان وهـ ــذا الدسـ ــتور األساسي يوضع مع‬
‫الس ــلطة المحلي ــة‪ .‬ويجب أن ي ــراعي فيه حق ــوق وأم ــاني جميع الس ــكان الق ــاطنين في‬
‫البالد المذكورة‪.‬‬
‫يقول سعد اهلل الجابري‪:‬‬
‫"هــذا الصك في ثالثة أربــاع مــواده ـ ـ إشــارة واضــحة للتنقيب عن اآلثــار ولــذلك‬
‫كــان حــذراً وقلق ـاً في رؤاه المســتقبلية‪ .‬فقد تكــون هــذه المــواد جســراً لســيطرة سياسة‬
‫من نوع جديـد‪ .‬ونصت المـادة الخامسة من هـذا الصك على أن المزايا والحصـانات‬
‫ال ــتي ك ــان األج ــانب قد حص ــلوا عليها س ــابقاً لن تك ــون ناف ــذة تحت االنت ــداب؛ ولكنها‬
‫تعود بمجرد زواله؛ وهكذا فإن صك االنتداب أعطى فرنسا وبريطانيا العظمى حق‬
‫التدخل في الشؤون الداخلية حتى بعد زوال االنتداب"‪.‬‬
‫وتابع غورو سياسته في تمزيق سورية حيث أصدر قراراً بتاريخ ‪ 24‬تشرين‬
‫األول ‪ 1922‬أقــام فيه دولة الــدروز ـ ـ ولم يكن عــدد ســكان الجبل وقتئذ يتجــاوز ‪40‬‬
‫ألف نسمة‪.‬‬

‫ـ ‪ 37‬ـ‬
‫ذكر الكـ ـ ــاتب السياسي باتريك سـ ـ ــيل "‪ "Patric Seal‬في كتابه "بالد العـ ـ ــرب‬
‫‪ "The Arab Countries‬رأي س ــعد اهلل في سياسة ش ــاءت أن تقضي على البالد‬
‫العربيـ ــة؛ يقـ ــول سـ ــيل (مترجم ـ ـاً) رأي سـ ــعد اهلل‪" :‬إن تجزئة سـ ــورية‪ ،‬يتعـ ــارض مع‬
‫بنيتها السياسـ ـ ـ ــية والطبيعية والجغرافية وقد كـ ـ ـ ــانت التجزئة نتيجة لتحـ ـ ـ ــالف قـ ـ ـ ــوى‬
‫أجنبية‪ ،‬تمت بشكل سري وعلني وفرضت على الشعب السوري بالقوة‪.‬‬
‫والســوريون‪ ،‬كب ــاقي العــرب المخلصــين‪ ،‬يرغبــون في الوحــدة خاصة في هــذا‬
‫العصر الـ ــذي يشـ ــهد ذوبـ ــان الكيانـ ــات الصـ ــغيرة‪ ،‬والقضـ ــية السـ ــورية تشـ ــمل أربعة‬
‫كيانات هي‪ :‬سورية‪ ،‬لبنان‪ ،‬فلسطين‪ ،‬وشرق األردن‪.‬‬
‫وهن ــاك عوامل أساس ــية تأخذ دورها في تش ــكيل مط ــالب الوح ــدة في المنطق ــة‪،‬‬
‫بغض النظر عن شكل الوحـدة المنشـودة‪ ،‬وهي الـتي وجهت نضـالنا في السـابق ضد‬
‫جميع المعيقات‪.‬‬
‫وبعد مضي عشـ ــرين عام ـ ـاً أضـ ــحت كل دولة تعيش على نمط عـ ـ ّـودت شـ ــعبها‬
‫على أن يناسب أسلوب معيشته الحاضرة وحسب قيمه الخاصة‪.‬‬
‫نغير سياســتنا طبق ـاً لهــذا التغيــير‬
‫وتبع ـاً لهــذا التغــير المفــروض‪ ،‬تعين علينا أن ّ‬
‫المستجد وذلك بأن نسعى لقبول التســوية وإ قنــاع الطــرف اآلخر بــذلك؛ على أن تبقى‬
‫دمشق (العاصــمة) وأن يكــون الحكم فيها جمهوري ـاً؛ ونحن نصـ ّـر على الوحــدة على‬
‫أن نترك اختيار شكلها للمواطنين‪.‬‬
‫إن ش ــعب لبن ــان بما فيه من أقلية مس ــيحية وغالبية إس ــالمية وذلك في المن ــاطق‬
‫التي ألحقت بلبنان بعد الحرب الكبرى‪ ،‬يرغبــون في االنضــمام إلى ســورية دون قيد‬
‫أو شــرط‪ ،‬ونحن نت ــوق إلى إقامة س ــورية الك ــبرى‪ ،‬وإ لغ ــاء التقس ــيم المف ــروض علينا‬
‫ب ــالقوة‪ ،‬وبالمن ــافع األجنبية وطمع خص ــوم سياس ــيين؛ ونحن نريد الوص ــول إلى هــذه‬
‫الغاية بكل وس ــيلة ممكن ــة‪ ،‬يختارها أهل المن ــاطق المس ــلوخة عن س ــورية‪ ،‬ونحن ال‬
‫ننكر العقبات الكبيرة التي تعيق حركتنا‪ .‬يقول سعد اهلل‪" :‬إن هذا الشكل من التعاون‬
‫بيننا وبين لبنــان‪ ،‬يمكن أن يتخذ مثــاالً ُيحتــذى لشــكل التعــاون بين بقية المنــاطق الــتي‬
‫سلخت عن سورية؛ إلى أن تتم الوحدة وتنتهي هذه التجزئة التعسفية‪ ...‬وفي الواقع‬
‫وغير موقعها من مكانها الصــحيح‪ .‬ومن‬ ‫أخر نموها وتقــدمها ّ‬ ‫فــإن تقســيم ســورية قد ّ‬
‫خالل رغبتنا في تحقيق هذه الوحدة‪ ،‬باإلقناع المسالم والتفاهم المتبادل نود أن نؤكد‬
‫على ضــرورة إبقــاء دمشق عاصــمة والنظــام جمهوريـاً لكل المؤسســات القائمة على‬
‫سورية"‪.‬‬

‫ـ ‪ 38‬ـ‬
‫‪:1923‬‬
‫ولكن على الــرغم من المســاعي السياســية كلها والمــؤتمرات جميعها بين البالد‬
‫العربيـ ــة‪ ،‬فقد أعلن تطـ ــبيق صك االنتـ ــداب في سـ ــورية ولبنـ ــان في ‪ 5‬تشـ ــرين األول‬
‫‪ ،1923‬أيام الجنرال (ويغاند)‪.‬‬
‫بيد أن فرنسا لم تقم بتعهـ ـ ـ ـ ـ ــدها وفق صك االنتـ ـ ـ ـ ـ ــداب‪ ،‬بل تمـ ـ ـ ـ ـ ــادت في حكمها‬
‫المباشر محتفظة لنفسـ ــها بحق التشـ ــريع والتنفيـ ــذ‪ ،‬وكـ ــان سـ ــعد اهلل يكتب العـ ــرائض‪،‬‬
‫عــرائض احتجــاج على حق االنتــداب؛ ولكن االســتعمار ســادر في حركته السياســية‬
‫التي رسمتها الدول العظمى‪.‬ـ‬
‫تـ ـ ـ ــرى هل أخـ ـ ـ ــذت فرنسا بعين االعتبـ ـ ـ ــار احترامها ومراعاتها لحق الشـ ـ ـ ــعب‬
‫وأمانيه وهل كان يسمح للوطــنين اإلعــراب عن رأيهم ســلباً أو إيجابـاً؟ في الواقــع‪...‬‬
‫ك ــان ع ــام ‪ 1923‬مس ــرحاً لث ــورات كث ــيرة‪ ،‬ولم تنطفئ ن ــار الث ــوار وحسب تص ــريح‬
‫الج ــنرال (س ــاراي) المن ــدوب الس ــامي الث ــالث لس ــورية ولبن ــان ق ــال‪" :‬لقد ق ــامت في‬
‫س ــورية ولبنــان ع ــام ‪ 1922‬خمس وثالث ــون ثــورة ودفن فيها من الجيش الفرنسي ‪/‬‬
‫‪ /5‬آالف جندي"‪.‬‬

‫‪:1924‬‬
‫وفي ه ـ ــذا الع ـ ــام وافقت عص ـ ــبة األمم في ‪ 29‬أيل ـ ــول على صك االنت ـ ــداب في‬
‫يفجر‬
‫قصر س ـ ــان جيمس في لن ـ ــدن؛ وك ـ ــان س ـ ــعد اهلل الج ـ ــابري في حلب؛ وأراد أن ّ‬
‫إطــار اإلمكــان اإلنســاني والوطـني لــدى الحلــبي‪ ،‬وراح يســعى لتهيئة النفــوس ويجمع‬
‫المخلصين للقضية ـ حتى بدت وكأنها هوس وطني مضفور مع أواصر الحياة‪....‬ـ‬
‫بيد أن الخوف من السلطة الفرنسية كان مسيطراً على النفوس‪ ،‬والخوف على‬
‫ال ــراتب ك ــان يقلق الب ــال‪ ،‬ق ــال س ــعد اهلل‪" :‬إن أك ــثر الن ــاس في حلب ي ــودون ال ــذهاب‬
‫للسالم على ملك الحجاز ولكن الخوف مؤثر عليهم"‪.‬‬
‫وراح بعض الوطنـ ـ ـ ـ ــيين يسـ ـ ـ ـ ــعون معه لتمكين قيـ ـ ـ ـ ــام الوحـ ـ ـ ـ ــدة؛ وضم شـ ـ ـ ـ ــمل‬
‫المحافظات التي سـلخت‪ ،‬وكـان أن سـافر عبد الـرحمن الشـهبندر إلى أميركـا‪ ،‬ووجه‬
‫ن ــداء إلى الشـ ــعب األم ــيركي يطلب فيه وح ــدة سـ ــورية وي ــرفض الصـ ــهيونية‪ ،‬وذكر‬
‫سـ ـ ــعد اهلل في يومياتـ ـ ــه‪" :‬ق ـ ــرأت أن عبد الـ ـ ــرحمن الشـ ـ ــهبندر قد عـ ـ ــاد‪ ،‬واسـ ـ ــتقبل من‬
‫الشــعب‪ ،‬ولكنه أنــزل من قبل الســلطة في محطة (القــدم) عوضـاً عن محطة الحجــاز‬
‫كي ال ينطلق وال يكــدر‪ ...‬ولكنه خطب بالش ــعب‪ ،‬ورأيت بين ســطور الخطبة شــيئاً‬
‫من الجرأة بالمطالبة باالستقالل والحرية‪ ،‬أرجو أن يكون زعيماً حقيقياً للبالد‪."...‬ـ‬

‫ـ ‪ 39‬ـ‬
‫وأرسـ ـ ــلت ثالث برقيـ ـ ــات للشـ ـ ــهبندر تهنئه بالوصـ ـ ــول كما أرسـ ـ ــلت برقية لعبد‬
‫الحميد كـرامي في طـرابلس الشـام ولشـكري الجنـدي في حمص لعـودتهم من منفـاهم‬
‫وهـ ـ ــذه صـ ـ ــورة برقية للشـ ـ ــهبندر‪" :‬سـ ـ ــرت البالد بمقـ ـ ــدم ابنها البـ ـ ــار وركن وحـ ـ ــدتها‬
‫واستقاللها؛ الزلتم حاملي لواء الجهاد المفدى المقدس"‪.‬‬
‫واستبشر سعد اهلل خيراً إذ انعقد أمله براقاً في شخص عبد الـرحمن الشـهبندر‪،‬‬
‫ولكن ازداد ضـ ـ ــيق االسـ ـ ــتعمار من نشـ ـ ــاط سـ ـ ــعد اهلل وتحركاته فحـ ـ ــاولوا اسـ ـ ــتمالته‬
‫وتقريبه منهم‪ ،‬ولكنه لن يخضع لمستعمر؛ قالوا عنه إنه عنيد متصلب‪ ،‬ويذكر ســعد‬
‫اهلل في يومياتــه‪" :‬نقل إلي الطــبيب صــبري فــرح أن الفرنســيين يعــيروني (كالخشــبة)‬
‫ال تقبل المرونة؛ ويريدون المذاكرة‪ ،‬ولكنها تبدو صعبة معي‪ ...‬فأجبته‪" :‬هم الــذين‬
‫رس ـ ـ ــوا ه ـ ـ ــذه الخش ـ ـ ــبة واض ـ ـ ــطروها ل ـ ـ ــترك مرونتها بش ـ ـ ــرائط سياس ـ ـ ــتهم وإ دارتهم‬
‫المتحضرة"‪.‬‬
‫"والواقع أنه ال يمكن أن يمر ي ـ ــوم وال ن ـ ــرى وال نس ـ ــمع ما يزعجن ـ ــا‪ ،‬بما يأتيه‬
‫الفرنسـ ـ ــيون في البالد‪ ،‬دعت التجـ ـ ــار لتسـ ـ ــألهم رأيهم في الوحـ ـ ــدة‪ ،‬فما كـ ـ ــانت توجه‬
‫سـ ــؤال الوحـ ــدة إال وتضـ ــيف إليه من التهديد والتخويف بأسـ ــاليب مختلفة لكي يكـ ــون‬
‫الج ـ ــواب س ـ ــلبياً؟ فمن جملة ذلك لما س ـ ــألت عبد الق ـ ــادر جزم ـ ــاتي وك ـ ــوزم وهما من‬
‫أغنيـ ـ ــاء التجـ ـ ــار في حلب أضـ ـ ــافت قائلـ ـ ــة‪ :‬دمشق واردها أقل من وارد حلب فحلب‬
‫تضــطر للبــذل وإ نفــاق واردها على دمشــق؛ وبــذلك ستضــيع ثروتها بغــير موضــعها؛‬
‫فهل تطلبــون الوحــدة؟ أمــام هــذا الســؤال والتهديــد‪ ،‬وأمــام التــاجر النفعي الخــائف البد‬
‫وأن يك ــون الج ــواب س ــلبياً ومع ذلك ف ــاألمر كله ك ــان خديع ــة؛ وما تري ــده فرنسا هو‬
‫إســكاتنا عن مطاليبنــا‪ ،‬ولكن إن شــاؤوا أو أبــوا البد أن يــأتي يــوم ننــال ما نتمنــاه رغم‬
‫أنوفهم"‪.‬‬
‫وبــدأ ســعي جديد وأســلوب جديد في التعامل مع بعض الشخصــيات‪ ،‬في ســبيل‬
‫إيج ــاد ت ــوازن جدي ــد؛ وفي تص ــور س ــعد اهلل أن يتع ــاون األف ــراد في تكامل اجتم ــاعي‬
‫وسيكولوجي ليظهر للفرنسـيين أن أهل حلب يد واحــدة وصــوت واحــد‪ .‬قـال‪" :‬يشـاع‬
‫بــأن الوحــدة تقــررت بين الواليــتين حلب ودمشــق‪ ،‬ولكن دون أراضي الالذقيــة‪ ،‬وما‬
‫عـ ـ ـ ــدا أراضي اسـ ـ ـ ــكندرون وإ نطاكيـ ـ ـ ــة‪ ،‬لم أفهم معـ ـ ـ ــنى هـ ـ ـ ــذا إال ما هو مـ ـ ـ ــأمول من‬
‫الفرنسـ ـ ـ ــيين‪ ،‬ومع ذلك أرضى بالوحـ ـ ـ ــدة الـ ـ ـ ــتي أطلبها أنـ ـ ـ ــا‪ ،‬ولو كـ ـ ـ ــانت بين دمشق‬
‫وحلب‪."...‬ـ‬
‫"ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرارات‪ !...‬ونعمم الق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرارات‪...‬ـ ولكن هل ينف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذونها؟ أم تهمل كبقية‬
‫القرارات‪...‬؟"‬

‫ـ ‪ 40‬ـ‬
‫يقول‪" :‬أتاني كتاب من حسني البرازي‪ ،‬يكلفني الذهاب إلى عمان‪ ،‬وهذه نيتي‬
‫وقصدي‪ ،‬ولكن مشاغلي وقلة دراهمي‪ ...‬كيف العمل بهم؟"‪.‬‬
‫كـ ـ ــان ينفق من جيبه الخـ ـ ــاص ما يسـ ـ ــتطيع "أرسـ ـ ــلت برقية إلى الملك وحفظت‬
‫األصل عن ـ ـ ــدي‪ ،‬ودفعت ‪ /704/‬ق ـ ـ ــروش س ـ ـ ــورية‪ ،‬ولم يت ـ ـ ــبرع أحد من أص ـ ـ ــحاب‬
‫اإلمضاء بشيء‪"..‬‬
‫ك ــان ينف ــرد بحمل المس ــؤولية‪ ،‬وإ رس ــال البرقي ــات على نفقته الخاص ــة؛ يق ــول‪:‬‬
‫" ُكلفت بالسفر وكنت أود ذلك من صميم نفسي‪ ،‬ولكنني أخاف من الشــغل العــالق بي‬
‫وهو مشكلة الوقف قاتل اهلل هذه األمور تنسي اإلنسان أفعاله الوطنية وواجباته"‪.‬‬
‫وعنـ ـ ــدما كـ ـ ــان يق ـ ـ ــارن بين الحركة والتحـ ـ ــرك الوطـ ـ ــني في حلب وغيرها من‬
‫المحافظ ــات؛ ك ــان ي ــرى أن المحافظ ــات تنشط وتعم ــل‪ ،‬ما ع ــدا حلب ال ــتي لعبت بها‬
‫األهـ ـ ــواء والنـ ـ ــوازع السـ ـ ــيئة‪ ،‬بحيث فـ ـ ــرقت حـ ـ ــتى بين األهـ ـ ــالي في الحي الواحـ ـ ــد‪،‬‬
‫وأض ــاعت كلمتهم وم ــزقت وح ــدتهم‪ ،‬وخلقت بينهم كث ــيراً من الجواس ــيس ح ــتى من‬
‫بين الفئة المثقفة من أهالي حلب‪.‬‬
‫"والي ــوم مس ــاء في اجتم ــاع أحد الجوام ــع‪ ،‬جمعتنا الص ــدف مع بعض العلم ــاء‪،‬‬
‫فطلبت إليهم أن يه ـ ـ ـ ـ ـ ــنئوا الملك حس ـ ـ ـ ـ ـ ــين بقدومه إلى س ـ ـ ـ ـ ـ ــورية‪ ،‬فما رأيت منهم إال‬
‫االس ــتنكار معللين ب ــأن ه ــذا الرجل غ ــير محب ــوب من الن ــاس؛ ب ــدعوى أنه ك ــان ضد‬
‫األتـ ــراك؛ وأبـ ــدى هـ ــذه الفكـ ــرة الشـ ــيخ أحمد الزرقا ولكن ذلك كـ ــان تفسـ ــيراً آلرائه‬
‫ال الشعب"‪.‬‬
‫وأدرك الفرنســيون ذلك حــتى صــرح مــدير االســتخبارات الفرنسي عنــدما قــال‬
‫لنجيب الـ ــريس‪" :‬إيـ ــاك والشـ ــغل بالسياسة هنا في حلب؛ ألن حلب غـ ــير دمشـ ــق‪ ،‬ما‬
‫يجوز هناك ال يجوز هنا؟ ال تفسد األهالي‪ ،‬وال تعلمهم أفكاراً هم بعيدون عنها"‪.‬‬
‫وح ــار الفرنس ــيون وك ــان البد لهم من أن يوقظ ــوا حركة تفسد ما بين الش ــعب‪،‬‬
‫وبع ــدما أعلنت الوح ــدة الكاذبة أوع ــزوا إلى بعض األش ــخاص في حلب ب ــأن يط ــالب‬
‫أن تك ــون حلب (عاص ــمة الدول ــة) وه ــذا أمر البد من أن يص ــيب ه ــوى في نفس كل‬
‫حلبي؛ ألن المنفعة تقضي بذلك‪ ،‬والناس ال تدرك أن هذا العمل منــاورة لإليقــاع بين‬
‫دمشق وحلب‪ ،‬ويكون ذلك واسطة لإلدعاء بأن الشعب ممــزق ومفــرق ال يتفق على‬
‫شيء حتى وال على العاصمة(‪ )1‬وال يملك وحدة الكلمة‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليوميات‪:‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 41‬ـ‬
‫وكـ ـ ــبرت الشـ ـ ــائعة وراجت‪ ،‬وفـ ـ ــرح بعض الحلبـ ـ ــيين بجعل مـ ـ ــدينتهم عاصـ ـ ــمة‬
‫و"الشائعة قوية في قضية العاصمة ونقلها إلى حلب‪ ،‬حتى جرائد دمشق تكتب ذلك‪،‬‬
‫فإذا تحقق هذا دل على أن الفرنسيين يصارحوننا بالتالعب(‪.)1‬‬
‫وفي الواقع بــدأت األهــواء الشخصــية تلعب في نفــوس الشــعب المستســلم للواقع‬
‫الم ــريض طمعـ ـاً في قض ــاء مص ــالحه؛ وك ــان هم فرنسا الوحيد أن تزع ــزع الثقة في‬
‫التفك ــير الف ــردي المس ــتمر بكل الط ــرق والوس ــائل‪ ،‬وتراها نجحت لحد كب ــير الس ــيما‬
‫شبه ســعد اهلل وضع ســورية في ذاك‬ ‫وقد استمالت شخصيات كبيرة إلى جانبها‪ .‬وقد ّ‬
‫الحين لألن ـ ـ ــدلس أي ـ ـ ــام االنحط ـ ـ ــاط ق ـ ـ ــال‪" :‬اهلل يأخذ بيد ه ـ ـ ــذه األمة ال ـ ـ ــتي أص ـ ـ ــبحت‬
‫كاألندلس ـ ـ ــيين أي ـ ـ ــام انحط ـ ـ ــاطهم تتق ـ ـ ــاذفهم مط ـ ـ ــامع األج ـ ـ ــانب وتض ـ ـ ــاربهم بعض ـ ـ ــهم‬
‫ببعض"(‪.)2‬‬
‫وإ ذا كـ ــانت الحضـ ــارة في جوهرها أخالقيـ ــة‪ ،‬فـ ــإن األخالق فسـ ــدت وأصـ ــابتها‬
‫الميوعة ودخلت المنفعة قلـ ــوب النـ ــاس وأوصـ ــلت الشـ ــعب إلى واد غـ ــير ذي قـ ــرار‪.‬‬
‫وأراد الفرنسـ ــيون من جديد أن يزيلـ ــوا الروابط األخوية بين األفـ ــراد فـ ــدخلوا عليهم‬
‫من بـ ــاب الـ ــدين حين ـ ـاً ومن بـ ــاب التنـ ــافس الـ ــوظيفي حين ـ ـاً آخـ ــر‪ ،‬ومن بـ ــاب المراكز‬
‫الحساسة في قيادة البلد! وهذه كلها أسـلحة فتاكـة‪ ،‬إلى جـانب إفسـاد الـذمم والضـمائر‬
‫مع تفقـ ـ ــير الشـ ـ ــعب والتقتـ ـ ــير عليـ ـ ــه‪ ،‬وإ لى جـ ـ ــانب تـ ـ ــأليب عناصر الفتنة والخـ ـ ــراب‬
‫والتخــريب بأيد مجهولة وشــحن النفــوس بــالقهر واإلذالل أمــام مخالفــات بســيطة‪ ،‬ال‬
‫تشـ ـ ــكل أي جـ ـ ــرم أو جنحة في األحـ ـ ــوال العاديـ ـ ــة‪ ،‬وهكـ ـ ــذا كـ ـ ــانوا يثـ ـ ــيرون المواقف‬
‫ويشعلونها دون أن تتلوث أيديهم‪...‬‬
‫وكــان البــاب الخطر الــذي دخلــوا منه هو بــاب الــدين فــرغم أن الحلبــيين كــانوا‬
‫يعيشون بانسجام وحب مع األقليات والطوائف كلها؛ فقد تمكن الفرنسيون وقد نبتوا‬
‫في كل مكان‪ ،‬من ذر الغبـار في عيـونهم‪ ،‬وزرع النكد بينهم؛ وأرادوا بـذلك تفـرقتهم‬
‫عن طريق الدين (وتلك نقطة حساسة جــداً ألنها تتعلق بــالمزاج والكرامة الشخصــية‬
‫عند كل فرد)‪.‬‬
‫ولجأ الفرنس ــيون إلى أس ــاليب وط ــرق منوعة لتفـ ــتيت الش ــعب من ال ــداخل عن‬
‫طريق أخالقه ودينه وراح ينتظر ارتكاس الشعب وردود أفعاله‪.‬‬
‫يـذكر ســعد اهلل في يومياتــه‪" :‬شــاهدت البارحة أمـراً يـدل على ما للفرنسـيين من‬
‫التعصب الــديني‪ ،‬ويتظــاهرون في بالدهم بإنكــاره‪ ،‬وهو أن مطــران الكلــدان النــازل‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليوميات‪:‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليوميات‪:‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 42‬ـ‬
‫في أوتيل بــارون‪ ،‬ذهب إليه الجــنرال الفرنســي‪ ،‬فأركبه ســيارته وأجلسه إلى يمينــه‪،‬‬
‫وأوصله حتى النزل؟ ونزل قبله وودعه بكل احترام وعاد"‪.‬‬
‫"أمر تافه ألول وهل ـ ـ ــة‪ ...‬ولكن لو قس ـ ـ ــنا ه ـ ـ ــذه المعاملة بما يعامل به المف ـ ـ ــتي‬
‫والقاضي وبقية علمـ ــاء اإلسـ ــالم‪ ،‬وما يصـ ــيبهم من اإلهانة واالحتقـ ــار منه ومن بقية‬
‫السلطة "التضح الفرق في المعاملة وفي التعصب"(‪.)1‬‬
‫هــذه بعض مظــاهر التفرقة وإ شــعار فريق بتمــيزه على فريق آخر حــتى أصــبح‬
‫هـذا التفريق رســمياً؛ في مـذكرات ســعد اهلل الجــابري قولـه‪" :‬اليــوم ‪ 1/1/1924‬اليـوم‬
‫عيد رأس السـ ــنة عند الغربـ ــيين‪ ،‬وأجـ ــري لـه احتفـ ــال في دوائر الفرنسـ ــيين‪ ،‬وعطلت‬
‫دوائر الحكومة على اإلطالق؛ وصــار لـه مظهر كبــير في هــذا البل ــد؛ ولم يكن لـه في‬
‫األول كذلك؛ ال أقول هـذا لسـبب يبـنى على التعصب الـديني مطلقـاً‪ ،‬بل مما يـدل على‬
‫تسـ ــلط الفرنسـ ــيين على البالد وأزالـ ــوا صـ ــبغتها؛ كنا نبتهج بأعيـ ــاد المسـ ــيحيين أكـ ــثر‬
‫منهم‪ ،‬ولكن هذا األمر لم يكن(‪.")2‬‬
‫وفي الواقع ليس لدى الجابري أي تعصب ديني؛ والدليل أن رفقاءه في الجهاد‬
‫وفي المواقف الوطنيـ ــة‪ ،‬بل حـ ــتى في االنتخابـ ــات فيما بعـ ــد‪ ،‬كـ ــانوا من المسـ ــيحيين‪،‬‬
‫فهنــاك أدمــون حمصي وميخائيل ليــان وســليم جنــبرت وكــان يعتمد عليهم في مواقف‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫وأدرك سـ ــعد اهلل أن فرنسا تسـ ــعى بإلحـ ــاح إلى التفرقة الدينية في سـ ــبيل تفكيك‬
‫األســرة الســورية وفتح هــوة بين األقليــات؛ وتعــريض المســافات وإ كثــار الفــروق بين‬
‫مختلف الطبق ـ ـ ـ ـ ــات‪ ،‬ألنها تريد أن تج ـ ـ ـ ـ ــزئ س ـ ـ ـ ـ ــورية باسم (األقلي ـ ـ ـ ـ ــات) والطوائف‬
‫واألديان‪ ،‬على الرغم من أنها ال تطبق سياسة التفريق العنصري على أرضها وفي‬
‫بالدهــا‪ .‬إنها تخلق ســوء التفــاهم بين األقليــات وتــدعو إلى تفريغ البعد التــاريخي‪ ،‬بيد‬
‫أن فلس ــفة الش ــارع‪ ،‬ال ــتي تنبع من عمق المش ــاعر واألحاس ــيس الش ــعبية المتأص ــلة‪،‬‬
‫والـ ــتي يشـ ــعر بها الزعمـ ــاء المخلصـ ــون‪ ،‬هي الـ ــتي تتجلى باألغنيـ ــات و(الشـ ــديات)‬
‫وتنطلق بها أفواه وحناجر الشعب والمتظــاهرين‪ ،‬وهي تنــادي بحماسة شــديدة‪" :‬بــدنا‬
‫الوحدة السورية‪ ،‬إسالم ومسيحية"‪.‬‬
‫أي أن الشــعب في الواقع لم يفــرق بين إســالم ومســيحية‪ ،‬وذلك دليل على روح‬
‫اإلخاء المنتشرة بين المواطنين‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليومياتـ عام ‪ 1924‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليومياتـ عام ‪ 1924‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 43‬ـ‬
‫ولكن السلطة ال تزال تتخذ مختلف األساليب للتفرقة النفســية بأســلوب تعســفي‪،‬‬
‫حـ ــتى اسـ ــتطاعت أن تفتح فجـ ــوة بين اإلسـ ــالم والمسـ ــيحية عنـ ــدما علقت ـ ـ ـ رسـ ــمياً ـ ـ ـ‬
‫األعالم الفرنسـ ــية على المؤسس ـ ــات والم ـ ــدارس يـ ــوم عيد المولد النب ـ ــوي وكأنه عيـد‬
‫الميالد المســيحي‪ :‬ولما اعــترض ســعد اهلل وانتقد مــدير إحــدى المــدارس أجابــه‪" :‬أنا‬
‫تحت الحماية الفرنسية والبالد كذلك"‪.‬‬
‫كما رغبت السلطة في "مسايرة السياسة المسيحية التي أخذت تســير بكل متانة‬
‫واطمئن ــان بحيث ال يع ــزل م ــأمور أو يس ــتقيل إال وينصب مكانه مس ــيحي‪ ،‬ونحن ال‬
‫نقول شيئاً"(‪.)1‬‬
‫وامتــدت هـذه السياسة إلى خـارج الحــدود الســورية ووصــلت لبنــان؛ فبعد أشــهر‬
‫قالئل اسـ ــتطاعت السـ ــلطة أن تمـ ــزق وحـ ــدة اإلخـ ــاء الدينية وبشـ ــكل رسـ ــمي‪ ،‬أيض ـ ـاً؛‬
‫بحيث فرقت بين المسلمين والمسيحيين بعيد استقالل لبنـان الكبـير‪" ،‬وعلى ما يظهر‬
‫أن اللبن ــانيين أنفس ــهم ليس ــوا براض ــين عن ذل ــك‪ ،‬بعد أن ش ــعروا بض ــغط الض ــرائب‬
‫واإلدارة‪ ،‬ولم تكتف السـ ــلطة بهـ ــذا العمـ ــل‪ ،‬بل أعطت لهـ ــذه الدولة صـ ــبغة مسـ ــيحية‬
‫رسـ ـ ــمياً؛ فتغلق الحكومة وتتوقف األعمـ ـ ــال يـ ـ ــوم األحـ ـ ــد‪ ،‬وتعيد باألعيـ ـ ــاد الرسـ ـ ــمية‬
‫المسيحية‪...‬ـ هذا ما وصلنا إليه"(‪.)2‬‬
‫وبعد م ـ ــدة اس ـ ــتفاقت بعض الجرائد ح ـ ــتى أن "ال ـ ــرأي الع ـ ــام كتبت مق ـ ــاالً هامـ ـ ـاً‬
‫طالبت فيه بحقوق المسيحيين بلبنان"(‪.)3‬‬
‫وفي الش ـ ــهر العاشر من ع ـ ــام ‪ ،1924‬ف ـ ــاز الموارنة والفرنس ـ ــيون‪ ،‬واألصح‬
‫(اده)‬
‫اإلكل ـ ــيروس والمفوض ـ ــية‪ ،‬بانتخ ـ ــاب المجلس التنفي ـ ــذي في ب ـ ــيروت‪ ،‬انتخب ـ ــوا ّ‬
‫مرشـ ــحهم وديست الطائفة اإلس ـ ــالمية‪ ،‬وه ـ ــذه الطائفة حـ ــائرة في أي طريق تسـ ــلك؟‬
‫اإلئتالف مع السلطة؟ أم التباعد عنه؟(‪.)4‬‬
‫والخالصة‪ ،‬كان سعد اهلل يســعى إلى إقامة التــوازن بين المصـالح لـدى اإلســالم‬
‫والمس ــيحية عن طريق (الش ــمولية اإلس ــالمية) ال ــتي تس ــتهدف تحقيق المقصد األول‬
‫للش ــريعة وهو (الع ــدل) وب ــذلك ال ت ــترك الض ــعفاء فريسة لألقوي ــاء ولعل ه ــذا يحقق‬
‫قول أبي بكر الصديق‪" :‬القوي فيكم ضعيف عندي حـتى آخذ الحق منـه‪ ،‬والضـعيف‬
‫فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له"‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليومياتـ عام ‪ 1924‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليومياتـ عام ‪1924‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪3‬‬
‫اليومياتـ عام ‪1924‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪4‬‬
‫اليومياتـ عام ‪ 1924‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 44‬ـ‬
‫فصل سوريةـ عن لبنان‪:‬‬
‫وزادت فرنسا من عملياتها السـ ـ ــلطوية لفصل سـ ـ ــورية عن لبنـ ـ ــان‪( ،‬فصل األم‬
‫ـداء من طــرابلس وحــتى صــيدا‪ .‬ويقــول ســعد‬‫عن ابنها الــذي نشأ في أحضــانها)‪ .‬ابتـ ً‬
‫اهلل‪" :‬وأهم خطوة في هــذا الفصل قــدرتها على إثــارة التعصب الطــائفي وخاصة عند‬
‫الموارنة"(‪.)1‬‬
‫ح ـ ــتى دخل ه ـ ــذا الص ـ ــراع ميـ ـ ــدان األدب والشـ ـ ــعر‪ ،‬بين اليـ ـ ــازجي والجن ـ ــدي‪.‬‬
‫"وانتقاد فتى العرب للشـاعر خليل مطـران‪ ،‬أخذ دوراً تعصــبياً طائفيـاً لم نكن نحسب‬
‫أن يقع شيء من ذلك"(‪.)2‬‬
‫وهكـ ـ ــذا نجحت فرنسا مـ ـ ــرة أخـ ـ ــرى في التفريق والعـ ـ ــزل وجعل الطائفة األقل‬
‫تسـ ــود الطائفة األكـ ــثر عـ ــدداً‪ .‬وعـ ــاش سـ ــعد اهلل فـ ــترة تفـ ــتيت القـ ــرارات في الزمـ ــان‬
‫وتفتيت البالد في المكان؛ وقد أعطوا صبغة جديدة لونوا بها وجه بــيروت الوطــني‪،‬‬
‫فأضاعت صبغتها الشرقية‪ ،‬وأصــبحت كما يقـول سـعد اهلل‪" :‬تفرنجها تقليـدي‪ ،‬اقتفـاء‬
‫أعجمي ال طبيعي"(‪.)3‬‬
‫"بيد أن س ــكان لبن ــان‪ ،‬بما فيهم العديد من المس ــيحيين وكافة المس ــلمين وخاصة‬
‫في األقس ــام ال ــتي ض ــمت إلى لبن ــان بعد الح ــرب العالمي ــة‪ ،‬يرغب ــون باالنض ــمام إلى‬
‫س ـ ــورية دون قيد أو ش ـ ــرط"(‪ .)4‬وس ـ ــيطر الفرنس ـ ــيون على مقاليد األم ـ ــور‪ ،‬وأداروا‬
‫البالد كما شـ ــاؤوا السـ ــيما بعد أن حلـ ــوا الجيش وأخرجـ ــوا الضـ ــباط وأوصـ ــلوهم إلى‬
‫حال من الوهن وتجريد من قوة السالح‪ ،‬بحيث ال تمكنهم من الـدفاع؛ وراح الشــعب‬
‫يعيش في عالم ال تسوده السلوكية األخالقية بل شريعة الغاب والظفر والناب وكأنه‬
‫يطبق نظرية (ماكيافيلي) في أخالق السياسة‪.‬‬
‫والزالت فرنسا تواصل تقطيع أوصــال الجسم الســوري‪ ،‬إذ فصـلت ـ السـنجق ـ‬
‫ل ــواء اس ــكندرون عن حلب ع ــام ‪ 1924‬حيث أص ــدر المف ــوض الس ــامي ق ــراراً ج ــاء‬
‫فيه‪" :‬يتمتع سنجق اسكندرون ـ مع بقائه تابعاً لألمة السورية ـ بنظــام إداري خــاص؛‬
‫وتعتـ ــبر اللغة التركية رسـ ــمية إلى جـ ــانب العربية والفرنسـ ــية ويعين رئيس السـ ــنجق‬
‫من قبل الحكومة السورية بناء على اقتراح مندوب المفوض السامي"‪.‬ـ‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليومياتـ عام ‪ 1924‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليومياتـ عام ‪ 1924‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪3‬‬
‫اليومياتـ عام ‪ 1924‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?) هذا ما يؤكده باتريك سيل ‪ Patrric Seal‬في كتابه الصراع على سورية ‪The Sruggle of‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪.Syria‬‬

‫ـ ‪ 45‬ـ‬
‫وكـ ــذلك أصـ ــدر الجـ ــنرال (ويغانـ ــد) في ‪ 5‬كـ ــانون األول ‪ 1924‬قـ ــراراً بإلغـ ــاء‬
‫االتحـ ــاد السـ ــوري بين دولـ ــتي دمشق وحلب‪ .‬وبإنشـ ــاء دولة موحـ ــدة منهـ ــا‪ ،‬على أن‬
‫تبقى دولة العل ـ ــويين مس ـ ــتقلة‪ .‬تن ـ ــاقض وتذب ـ ــذب في تقطيع األوص ـ ــال‪ ،‬ولكنه منطق‬
‫القوة الذي ال يرتكز إلى أسباب معقولة‪.‬‬
‫بل ازدادت ســطوة فرنسا وســيطرتها عنــدما كــانت الســلطة تــراقب الشخصــيات‬
‫الهامة وترصد تحرك ـ ــاتهم‪ ،‬وتخ ـ ــاف من اتص ـ ــاالتهم ب ـ ــدول أجنبية أخ ـ ــرى‪ .‬ول ـ ــذلك‬
‫أصبحت تراقب السفر‪ ،‬وجعلته تحت وصايتها‪ ،‬بحيث يجب على كل مسافر خــارج‬
‫ـتدعاء مسـتأذناً بالسـفر‪ .‬يقـول سـعد اهلل‪" :‬كتبت اسـتدعاء وطلبت‬ ‫ً‬ ‫الحـدود أن يكتب اس‬
‫السماح لي رسمياً للســالم على جاللة الملك حســين‪ ،‬وأحالته الشــرطة لألمن في قسم‬
‫الجوازات؛ حياتنا كلها في يد األجانب وعلى حســابهم إننا أصــحاب البالد‪ ،‬ما أهــزل‬
‫وأفجع هذا التمثيل"‪.‬‬
‫وأدرك سـ ـ ــعد اهلل أن الشـ ـ ــعب أصـ ـ ــبح لعبة طيعة في يد الفرنسـ ـ ــيين‪ ،‬هم ربـ ـ ــان‬
‫السـ ـ ـ ــفينة‪ ،‬هم القـ ـ ـ ــادة يتصـ ـ ـ ــرفون كما يحلو لهم‪ ،‬وإ ذا اسـ ـ ـ ــتتب لهم أمر من األمـ ـ ـ ــور‬
‫تحركـ ــوا لغـ ــيره؛ وبعد أن فرقـ ــوا بين الطوائف بـ ــدؤوا بوضع ضـ ــرائب جديـ ــدة على‬
‫البلد‪ ،‬وكان ذلك ليشغلوا الناس بشيء جديد في كل يوم‪.‬‬
‫"في ‪ 1/6/1924‬قـ ـ ـ ـ ــررت السـ ـ ـ ـ ــلطة إرسـ ـ ـ ـ ــال هيئة إلى بـ ـ ـ ـ ــاريس لتمثيل حلب‬
‫وأرسلت أشخاصـاً غـير الئقين للتمثيل من أعضـاء جهالء‪ ...‬ولكن‪...‬ـ لمـاذا‪..‬؟ هل‬
‫يقصد أخذ عهد عليهم ب ــأمر يفيد الس ــلطة أم م ــاذا؟ الن ــاس ت ــرفض ولكن في بيوته ــا‪،‬‬
‫وال تتجاوز حيطان الغرفة‪ .‬حسبنا اهلل"(‪.)1‬‬
‫ولعل أخطر ما في الموض ـ ـ ــوع هو تكبيل الحرية الفكري ـ ـ ــة‪ ،‬حرية الص ـ ـ ــحافة‪،‬‬
‫حرية الكالم‪ ،‬وه ـ ـ ــذا يع ـ ـ ــني ظـ ـ ــاهرة توسع وانتش ـ ـ ــار تفضي إلى (امتص ـ ـ ــاص كلي)‬
‫لروحانيــات البلــد؛ وتســيره كما يريد االســتعمار‪ .‬أو يفضي إلى الســيطرة على روح‬
‫البلد تحت اإلرهــاب والقســوة الــتي يعيش فيها الشــعب‪ .‬يقــول ســعد اهلل‪" :‬مع األسف‬
‫أن لساننا مقيد‪ ،‬ووسائطنا مفقودة وحريتنا محجوزة"(‪.)2‬‬
‫أمعن ــوا في الض ــغوط‪ ،‬فقد أغلق ــوا بعض الجرائد ال ــتي تج ــرأت على التع ــرض‬
‫لفضح سياسة االستعمار‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليومياتـ ‪ 1924‬سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليوميات ‪ 1924‬سعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 46‬ـ‬
‫وهكـ ــذا كـ ــان التعطيل سـ ــالح الحـ ــاكمين وسـ ــالح الحقد األسـ ــود على الصـ ــحف‬
‫األكـ ـ ــثر عنف ـ ـ ـاً في هجومها على المحتـ ـ ــل‪ .‬يقـ ـ ــول سـ ـ ــعد اهلل‪" :‬المقتبس(‪ )1‬أغلقوهـ ـ ــا‪،‬‬
‫والخوف على غيرها؛ أخذت السلطة تضرب على وتر االستبداد والشــدة(‪ .)2‬ثم إنها‬
‫وض ــعت الجواســيس والشــرطة لمراقبة بعض الشخص ــيات؛ وهــذا حــال ال يطــاق ال‬
‫يطاق(‪.")3‬‬
‫وكانت جريدة القبس واأليام تؤلفان جزءاً مهماً من تاريخ النضال الوطــني في‬
‫سورية‪ ،‬ولذلك كانتا هدفاً رئيساً لنقمة السلطة الحاكمة األجنبية وقد ُعطلتا أكــثر من‬
‫م ــرة واعتقل نجيب الــريس صــاحب القبس وح ــوكم وســجن م ــرات عديــدة في س ــبيل‬
‫عقيدته الوطنية وتفانيه في خدمة وطنه‪.‬‬
‫ولعل أفـ ــدح المصـ ــائب الـ ــتي قـ ــامت بها السـ ــلطة‪ ،‬هو اجتثـ ــاث لغة الشـ ــعب من‬
‫ج ـ ـ ـ ــذورها‪ ،‬فقد فرضت تعليم اللغة الفرنس ـ ـ ـ ــية منذ أول عهد الطفل ب ـ ـ ـ ــالتعليم‪ ،‬وذلك‬
‫لتنشئ جيالً جديداً متعاطفاً معهــا‪ ،‬يتنفس ويفكر بمفــاهيم لغتها ومفرداتها وما تعكسه‬
‫من قيم تخلق شخصـ ـ ــية الطفل وتكـ ـ ـ ّـون أحاسيسه الداخليـ ـ ــة؛ وهـ ـ ــذا معنـ ـ ــاه "االنتمـ ـ ــاء‬
‫القسري" إلى شعب المستعمر واالبتعــاد بالجيل الجديد عن انتمائه وجــذوره ومعرفة‬
‫تاريخ أجداده‪.‬‬
‫وأصــبحت دروس التــاريخ في المــدارس (وســيلة رســمية) لإلنحــراف بالشــباب‬
‫عن خط آب ــائهم‪ ،‬يق ــول س ــعد اهلل في يوميات ــه‪" :‬جري ــدة األح ــرار ترفع ص ــوتها عاليـ ـاً‬
‫وتحتج على تســليط اللغة الفرنســية في حلب ولبنــان‪ ،‬وانــدثار اللغة العربيــة‪ ،‬وتطلب‬
‫المحافظة على اللغة العربية وقبولها رسميةً وحــدها‪ .‬والشــاهد على ذلك ما نــراه في‬
‫دواوين الحكومة من (التفــرنس) حــتى أن مــدير المعــارف أرسل لــديوان االمتحانــات‬
‫في المـ ــدارس الرسـ ــمية باللغة الفرنسـ ــية‪ .‬ولكن كم الـ ــذين تـ ــألموا لهـ ــذا الخـ ــبر؟ قليل‬
‫جداً(‪.")4‬‬
‫ويعجب سـ ــعد اهلل من الـ ــذين يتفـ ــاخرون بـ ــأنهم يتكلمـ ــون اللغة الفرنسـ ــية يقـ ــول‪:‬‬
‫"أحد المعلمين يهـ ـ ـ ــودي وصـ ـ ـ ــهيوني‪ ..‬يعـ ـ ـ ــرف العربيـ ـ ـ ــة‪ ..‬أتى وس ـ ـ ـ ـلّم علي باللغة‬
‫الفرنسية فرفضته‪ ..‬وطلبت إليه أن يكلمني باللغة العربية‪ ،‬فزعل وانصرف"(‪.)5‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫المقتبسـ ـ صاحبها نجيب الريس‪ .‬ثم أصبحت القبس‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫المقتبسـ ـ صاحبها نجيب الريس‪ .‬ثم أصبحت القبس‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪3‬‬
‫اليوميات‪.‬ـ‬
‫(?)‬ ‫‪4‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬
‫(?)‬ ‫‪5‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬

‫ـ ‪ 47‬ـ‬
‫وفي الش ـ ــهر التاسع من ع ـ ــام ‪ 1924‬ق ـ ــرأت في (ألف ب ـ ــاء) لمراس ـ ــلها الس ـ ــيد‬
‫(أك ـ ـ ــرم) في الالذقية خ ـ ـ ــبراً يجب أن ته ـ ـ ــتز لـه البالد‪ ،‬وذلك أن البرن ـ ـ ــامج للمدرسة‬
‫التجهيزية الرســمية أرسل إلى المفوضــية‪ ،‬وبقــرار تــدريس الرياضــيات والطبيعيــات‬
‫وغيره من الـدروس (ما عــدا الديانة واللغة العربيــة) باللغة الفرنسـية‪ .‬خـبر يجب أن‬
‫تهتز لـه البالد‪...‬ـ ولكن‪...‬ـ لم ينهض أحد لمعارضته(‪.)1‬‬
‫ونشط بعض الوطنيين‪ ،‬لتشكيل جمعيات متنوعة األهــداف‪ ،‬علهم ينفــذون منها‬
‫إلى جمع كلمة الشــعب وتوحيد الــرأي‪ ...‬فــأرادوا إنشــاء جمعية الــدفاع عن األوقــاف‬
‫(‪)2‬‬
‫اإلسالمية والقضايا الدينية وأوضاعها‪" ...‬لنرى‪...‬ـ هل ننجح فيها‪...‬؟ـ‬
‫إن مساعدة الشعب الفقير وتقوية دور األيتام والعطف على العجزة كــان ينظر‬
‫إليه بعين الح ـ ــذر من قبل الس ـ ــلطة‪ ،‬ح ـ ــتى أص ـ ــبح أمر جمع التبرع ـ ــات ممنوعـ ـ ـاً من‬
‫قبلها‪" .‬كما إن رفض السـلطة للتـبرع يـدل على العـداء المسـتحكم‪ ،‬ونحن في الميـدان‬
‫نتخبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــط‪ ...‬حسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــبنا اهلل"(‪ )3‬وليالً اجتمعنا ودخلنا في جمعية خيرية لتربية أوالد‬
‫لنحضر ناشئة مفيدة للبلد"(‪.)4‬‬‫ّ‬ ‫اليتامى‪ ...‬وسنجعل لها مراكز‪ ،‬نوسعها‬
‫ولعل أهم األمـ ــور جميع ـ ـاً هو حركة التجنيـ ــد‪ ...‬ومعـ ــروف أن سـ ــورية لم يكن‬
‫عنــدها جيش‪ ،‬فموضــوع التجنيد بيد فرنســا‪ ،‬وكــانت تجند الغربــاء واألرمن والــترك‬
‫والجنـ ــاة واألشـ ــقياء في الجيش المختلـ ــط‪ ،‬وتبعد الشـ ــبان الوطنـ ــيين‪ ،‬كما تبعد شـ ــباب‬
‫العـ ــائالت عن التجنيـ ــد‪ ،‬خوف ـ ـاً من سـ ــلطتهم وسـ ــيطرتهم على مقاليد األمـ ــور عنـ ــدما‬
‫يصــلون إلى مــراتب القــوة‪ ،‬فيقضــون على المســتعمر‪ ،‬لــذلك منعتهم من الــدخول في‬
‫الجيش‪ ،‬بأسـ ــاليبها المختلفة وحججها الواهيـ ــة‪ ،‬حـ ــتى أن الشـ ــرطة كـ ــانت منتمية إلى‬
‫الفرنس ـ ــيين‪ ،‬وك ـ ــانت تعيش في فوضى وطيش "ومن فوضى الش ـ ــرطة أن مأموريها‬
‫ضـربوا ضــرباً‬ ‫يركبون المركبات ويتنزهون بها بال أجرة؛ وإ ذا شكت الحوذية ذلك ُ‬
‫مبرحـ ـ ـاً وحرم ـ ــوا من رواتبهم؛ والق ـ ــانون ووس ـ ــائطه ال يق ـ ــول ش ـ ــيئاً‪ ،‬ألن أش ـ ــخاص‬
‫الشرطة منتمون إلى الفرنسيين"(‪.)5‬‬
‫وفي الواقع كـ ـ ـ ــانت الجيـ ـ ـ ــوش الفرنس ـ ـ ــية هي المع ـ ـ ــول عليهـ ـ ـ ــا‪ ،‬ألن الجي ـ ـ ــوش‬
‫المس ــاعدة وال ــدرك لم تت ــألف على ش ــكل ث ــابت‪...‬ـ بقطع النظر عن بعض الفص ــائل‪،‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬
‫(?)‬ ‫‪3‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬
‫(?)‬ ‫‪4‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬
‫(?)‬ ‫‪5‬‬
‫اليومياتـ ‪.1942‬‬

‫ـ ‪ 48‬ـ‬
‫الـ ــتي تعد من بـ ــاب الشـ ــواذ‪ ،‬وال يـ ــؤمن جانبها مخافة أن يكـ ــون بينها وبين الثـ ــائرين‬
‫تواطؤ(‪.)1‬‬
‫واألنكى من هذا كله أن سورية كانت مجــبرة على دفع نفقــات جندية مؤلفة من‬
‫عناصر مختلفة أجنبيـ ـ ــة‪ .‬وهـ ـ ــؤالء لم يخـ ـ ــدموا األمن‪ ،‬بل على العكس لقد أتـ ـ ــوا من‬
‫األعمال المنكرة ما ال تنساه البالد‪ ،‬وما قبحته عصبة األمم ذاتها‪.‬‬
‫وانفردت حمص فقط في اتخاذ موقف جيد؛ قال سعد اهلل‪" :‬لم أر جريــدة أبــانت‬
‫الح ــال ومط ــالب الش ــعب بأس ــلوب ي ــترجم عواطف الش ــعب‪ ،‬ومطاليبه الحقيقية مثل‬
‫جري ــدة (ف ــتى الش ــرق) ال ــتي تص ــدر في حمص ومقالها الخ ــاص بقض ــية التجني ــد‪...‬‬
‫وردت على الجرائد ال ـ ــتي تطلب التجنيد ألجل فرنسا بال عـ ـ ــوض‪ ،‬وفيه دافعت عن‬
‫الوطنيين كيف إذا حان الوقت يقفون مواقفهم الوطنيــة‪ ،‬وفيه كيف اشــترطت للتجنيد‬
‫مط ـ ــالب حق ـ ــة‪ ،‬مثل االس ـ ــتقالل وحرية االنتخ ـ ــاب وتش ـ ــكيل الحكومة الوطني ـ ــة‪ .‬لقد‬
‫أعجبني مقالها جداً"(‪.)2‬‬
‫وفي هــذه الفــترة ظهر تــدخل تــركي جديــد‪ ،‬واعتــداء على ســورية‪ :‬كما ظهــرت‬
‫عــداوة لم تكن تخطر على بــال الســوريين‪ ،‬فلم تقف تركيا ســاكنة هادئة مســالمة‪ ،‬بل‬
‫زادت مناوشـ ـ ـ ــاتها على الحـ ـ ـ ــدود‪ ،‬وتضـ ـ ـ ــاعفت موجة التنكيل في الجرائـ ـ ـ ــد‪ ،‬ورمت‬
‫سورية بكل سوء‪ ،‬وتناولتها بكل إزعاج‪.‬‬
‫(وكـ ــانت السـ ــلطة تسـ ــمح ب ــدخول الجرائد التركية الـ ــتي ت ــذم الع ــرب والشـ ــهداء‬
‫بلسان بذيء‪ ،‬والناس تقرأ هذه الجرائد وليس هنا من يحرك ساكناً)(‪.)3‬‬
‫كـ ـ ــانت حلب بالـ ـ ــذات تتلقى ضـ ـ ــربات متواصـ ـ ــلة؛ فتـ ـ ــارة من تركيا وتـ ـ ــارة من‬
‫فرنسـ ــا‪ ،‬وراح سـ ــعد اهلل يـ ــدعو إلى المقاومة السـ ــلبية‪ ،‬وعوض ـ ـاً عن تقـ ــديم عـ ــرائض‬
‫االسترحام والتوسالت واالحتجاجات‪ ،‬نادى بسياسة أكثر جذرية هي (المقاطعة)‪.‬‬
‫أراد بعض المسـ ــؤولين الوطنـ ــيين أن يجعل سـ ــورية همـ ــزة وصل بين السـ ــعود‬
‫واألت ــراك؛ ولكن "إذا كنا ن ــود االش ــتراك مع ابن الس ــعود فيجب أن نش ــترك للع ــرب‬
‫وألجل العرب ومن العرب وحدهم وال ندخل األتراك في األمر"(‪.)4‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليومياتـ ‪.1942‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬
‫(?)‬ ‫‪3‬‬
‫اليوميات‪.‬ـ‬
‫(?)‬ ‫‪4‬‬
‫اليوميات‪.‬ـ‬

‫ـ ‪ 49‬ـ‬
‫وكــثرت الدســائس من طــرف األتــراك وامتألت صــحفهم بكلمــات جوفــاء وزاد‬
‫تــدخلهم كقــوة منع وردع‪ ،‬وكل هــذا يــدل على أن األتــراك ضد العــرب؟" ويــدل على‬
‫أن األتراك ليسوا أبداً خلف شعار اإلسالم تلك هي الحقيقة"(‪.)1‬‬
‫وتنــوعت أســاليب التقســيم‪ ،‬وتلــونت طــرق التفــتيت‪...‬ـ وأصــبحت البالد العربية‬
‫تحتـ ــاج من أقصـ ــاها إلى أقصـ ــاها إلى من يضم أغصـ ــانها ويجمع ثمارها وأزهارها‬
‫ويوحد مواقفها لتتــآخى الشــعوب العربية كلها في ســبيل أن تولد رســالة واحــدة وهــذا‬
‫كله يتطلب بالضرورة زعامة شخصية قوية‪ ،‬شخصية وطنية تتمتع بصفة القيادة‪.‬‬
‫يقــول ســعد اهلل‪" :‬أليس من الــواجب أن نخلق رمــزاً بشــخص أحــدنا كي نســتميل‬
‫األفكــار إليــه؛ فــأروني الشــخص ألقبلــه‪ ،‬اتفقــوا عليه ألثبت دعــواه؛ وإ ذا لم ينصــحوا‬
‫بواحــد‪ ،‬فمضــطر أنا أن أقبل بملك الحج ــاز ـ ـ على كل عالّته ـ ـ وأنا أمين أنه ال يــأتي‬
‫إلى هـ ـ ــذه البالد‪ ،‬ولن يملكهـ ـ ــا‪ ،‬ولكننا نسـ ـ ــتفيد من إمالة األفكـ ـ ــار إليـ ـ ــه؛ وهـ ـ ــذا لتهديد‬
‫السلطة"(‪.)2‬‬
‫وخــافت الســلطة من هــذه الصــرخة والنــداء الحــار إلى مختلف طبقــات الشــعب‪،‬‬
‫واستدعت االستخبارات صالح الجابري (قريبه) وســألوه عن أمر الوحـدة فأجــابهم‪:‬‬
‫أهل حلب يطلبونه ـ ـ ــا؛ ومن ثم بحث ـ ـ ــوا عن س ـ ـ ــعد اهلل وموقفه منه فق ـ ـ ــال لهم ص ـ ـ ــالح‬
‫الج ــابري‪ :‬هل طلبتم إليه الم ــذاكرة ورفض ح ــتى تحكم ــوا علي ــه؟ فق ــالوا لـ ــه‪ :‬إنه ال‬
‫يحبه أح ـ ــد‪ ،‬أجـ ـ ــابهم صـ ـ ــالح‪ :‬بـ ـ ــالعكس‪ ...‬غـ ـ ــير المـ ـ ــأمورين الـ ـ ــذين ال يخلـ ـ ــون من‬
‫ضرباته‪ ،‬وكل الناس تلتف حوله‪.‬‬
‫وفي الواقع راح سـ ــعد يسـ ــعى ألمر المبايعة لـ ــزعيم عـ ــربي يحكم البالد حكم ـ ـاً‬
‫عربي ـ ـاً إسـ ــالمياً‪ ،‬فالـ ــدين يجمع األفـ ــراد عن طـ ــوع ودون إكـ ــراه‪ ،‬ويجمع عن رغبة‬
‫داخلية وخضـ ــوع ذاتي محبب؛ يجمع النـ ــاس حـ ــول مبـ ــدأ أو دعـ ــوة‪ ،‬وهـ ــذا ليس عند‬
‫شعب سورية فقط بل عند أكثر الشعوب واألمم‪.‬‬
‫وراح الخطب ــاء في الجوامع يش ــيدون ب ــأمر المبايع ــة‪ :‬الي ــوم ق ــرأت الخطبة في‬
‫الج ــامع األم ــوي في حلب باسم (جاللة الحس ــين)‪ ،‬وابتهجت له ــذا الخ ــبر‪ ،‬ولم أنتظر‬
‫البرقية العامـ ــة‪ ،‬فأرسـ ــلت برقية باسـ ــمي ه ــذا نصـ ــها‪" :‬في اليـ ــوم الـ ــذي جـ ــرى خطبة‬
‫الجمعة باسم جاللتكم في الجـ ـ ـ ـ ــامع األمـ ـ ـ ـ ــوي في حلب‪ ،‬خليفة للمسـ ـ ـ ـ ــلمين وأمـ ـ ـ ـ ــيراً‬
‫للمؤمنين دعاني واجبي الوطني واإلخالص أن أرفع لجاللتكم أسمى التهاني مبايعـاً‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليوميات‪.‬ـ‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليومياتـ ـ عام ‪ 1924‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 50‬ـ‬
‫بخالفة جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدكم األعلى‪،‬ـ متمنيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً إرجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاع مجد العـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرب باسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتقاللهم‬
‫بظل جاللتكم"(‪.)1‬‬
‫ونهض ــت‪ ،‬دمش ــق‪ ،‬حمص‪ ،‬حم ــاة نهضة واح ــدة لتب ــايع وتك ــره المتخلفين على‬
‫المبايعة لجاللة الحسين وتبرق وتكتب(‪.)2‬‬
‫أغـ ــرب ش ـ ــيء قرأته لخطيب جـ ــامع س ـ ــوق س ـ ــاروجة‪ ،‬لما وصل إلى ذكر اسم‬
‫الخليفة قــال‪" :‬بأننا نغض عن ذكر الخليفة وأمــير المؤمــنين حســين بن علي‪ ،‬فــادعوا‬
‫اهلل في قلوبكم"(‪.)3‬‬
‫ومعــنى هــذا أن الخــوف من الســلطة الجــائرة كــان يمنع النــاس عن إبــداء رأيهم‬
‫صراحة‪ ،‬حفظاً على وظائفهم وهيبة من الخروج عما يأمر به الحكام‪.‬‬
‫وراحت بعض الجرائد ـ ـ ـ ـ األحـ ـ ــرار مثالً ـ ـ ـ ـ بتغليف الموقف بغالف خطـ ـ ــر؛ إذ‬
‫طلبت من المسيحيين أال يتداخلوا بأمر الخالفة ألنه من متعلقات المسلمين وحدهم‪.‬‬
‫ولكن س ـ ــعد اهلل ق ـ ــال‪" :‬بل يت ـ ــداخلون‪ ،‬ألن األمر لـه وجهة سياس ـ ــية ـ ـ ـ وهي إذا‬
‫ع ـ ــادت الخالفة إلى الع ـ ــرب‪ ،‬وب ـ ــايعت س ـ ــورية الحس ـ ــين فه ـ ــذه ت ـ ــؤثر على وض ـ ــعية‬
‫المسيحيين"(‪.)4‬‬
‫وهكــذا أراد أن يشــركهم بــاألمور السياســية ألنها تشــمل كل من يســتظل بســماء‬
‫سـ ـ ــورية‪ .‬ويقـ ـ ــول سـ ـ ــعد اهلل‪" :‬أهجت النـ ـ ــاس في كثـ ـ ــير من األمـ ـ ــاكن بلـ ـ ــزوم اتبـ ـ ــاع‬
‫الحسين"(‪.)5‬‬
‫"ومن المثـ ـ ــير حق ـ ـ ـاً أن تكتب جريـ ـ ــدة (ألف بـ ـ ــاء) بـ ـ ــأن الـ ـ ــزعيم الهنـ ـ ــدي (علي‬
‫ش ـ ــوكت) يب ـ ــايع الخليفة حس ـ ــين بن علي ش ـ ــرط أن يؤسس مجلسـ ـ ـاً للش ـ ــورى يخص‬
‫اإلس ــالم في مك ــة‪ ،‬وأتت برقية من مف ــتي حيفا في الهند تؤكد أن الهند تبايعه إذا قبل‬
‫بالمجلس المذكور‪ ...‬ولكن‪...‬ـ ما هو موقف السلطة"(‪)6‬؟ والذين يهابون السلطة؟‬
‫وراح س ـ ـ ــعد اهلل بجه ـ ـ ــوده الفردية يس ـ ـ ــعى لمقابلة بعض المل ـ ـ ــوك أو الرؤس ـ ـ ــاء‬
‫المسـ ــؤولين‪ ،‬وعنـ ــدما سـ ــمع بوصـ ــول الملك حس ــين إلى عمـ ــان ذهب لمقابلتـ ــه‪ ،‬فلعله‬
‫يكون من تتجمع حوله الكلمة وتتوحد القلوب واألهداف‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليوميات‪.‬ـ‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليوميات‪.‬ـ‬
‫(?)‬ ‫‪3‬‬
‫اليوميات‪.‬ـ‬
‫(?)‬ ‫‪4‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪5‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪6‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 51‬ـ‬
‫يقـ ــول سـ ــعد اهلل في يومياته ‪" :3/2/1924‬قـ ــابلت الملك مقابلة طويلة وحـ ــدي‪.‬‬
‫دامت ســاعتين وســألته عن أمر المعاهــدة والمــذاكرة مع البريطــانيين فقــال إنه يعمل‬
‫لتـ ـ ــأمين حقـ ـ ــوق العـ ـ ــرب"(‪ .)1‬وبقي جاللة الملك مع المنـ ـ ــدوب السـ ـ ــامي البريطـ ـ ــاني‬
‫هربــارت صــوئيل(‪ )2‬ست ســاعات بعد الظهر يتــذاكرون‪ ،‬ولم يترشح شــيء للخــارج‬
‫مطلقاً ولم نفهم شيئاً"(‪.)3‬‬
‫وك ـ ــان اختالف في وجه ـ ــات النظر بالنس ـ ــبة إلى تقوية البالد بأس ـ ــاليب حديث ـ ــة؛‬
‫"ولكن الملك كــان يراها بشــكلها االبتــدائي‪ ،‬على أن الملك ذكي ال يـترك لمخاطبه أن‬
‫ينال منه أكثر مما هو يريد"(‪.)4‬‬
‫كنت أركض وراء بيعة الحسين ال حباً بالحسين وأمالً به‪ ،‬بل بغضاً باألجانب‬
‫وخوفاً على الكيان اإلسالمي الذي يكاد يضمحل وال يشعر به أحد(‪.)5‬‬
‫على أن الشـ ــيء الـ ــذي الحظته أن التنابذ والتحـ ــزب والتخـ ــالف هو السـ ــائد بين‬
‫الجميع تألمت جداً‪...‬ـ ولكن ما الفائدة؟(‪.)6‬‬
‫وقد يتساءل المرء‪ :‬وما هو موقف الحكومة؟‬
‫نهضت حكومة دمشق بـ ــأمر السـ ــلطة الفرنسـ ــية وبـ ــالقوة العسـ ــكرية والشـ ــرطة‬
‫ومنعت الخطب ــاء ي ــوم الجمعة من ذكر اسم جاللة الملك والخليفة حس ــين بن علي ثم‬
‫عزلت رئيس العلماء بقرار مدعية التوفير في الميزانية‪.‬‬
‫أقفلت دمشق إذ امتنع الخطباء عن ذلــك؛ ورغم هــذا فقد ذكر أحد الخطبــاء أمر‬
‫المنع على المنبر؛ وربما كان هذا أهم من ذكر االسم‪.‬‬
‫وك ـ ـ ــانت الس ـ ـ ــلطة الفرنس ـ ـ ــية تش ـ ـ ــدد بق ـ ـ ــوة على المن ـ ـ ــع‪ ،‬وقد نقل رئيس تحرير‬
‫األح ــرار إلى س ــعد اهلل ما يلي‪" :‬إن أحد الزعم ــاء الفرنس ــيين ق ــال لـ ــه‪ :‬كيف ترضى‬
‫ب ـ ــأن الن ـ ــاس تب ـ ــايع الحس ـ ــين بن علي بالخالف ـ ــة؟ ألنه إذا أراد الخليفة زي ـ ــارة الم ـ ــدن‬
‫السورية‪ ،‬وهو بصفة خليفة فماذا يكون وضعنا؟"‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫هربارت صموئيل يهودي األصل‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪3‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪4‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪5‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪6‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 52‬ـ‬
‫واختلف األمر في حمص وحمـ ـ ـ ــاه‪ ،‬إذ لم تعبأ بـ ـ ـ ــأمر السـ ـ ـ ــلطة‪ ،‬ورفض مفتيها‬
‫وعلماؤها ووجوهها وأهاليها الخضـ ـ ـ ــوع لألوامر غ ـ ـ ــير الالئق ـ ـ ــة‪ ،‬وص ـ ـ ــرحت باسم‬
‫الخليفة الحسين بن علي وأكدت وأجابت رسمياً على طلبات الحكومة بذلك‪.‬‬
‫يق ــول س ــعد اهلل‪" :‬ب ــارك اهلل فيهم؛ وأما في ب ــيروت‪ ،‬فقد اس ــتطاعت الس ــلطة أن‬
‫تخ ــرج سـ ــامي الفـ ــاخوري والـ ــزعيم الحقيقي لط ــرابلس عبد الحميد كـ ــرامي‪،‬ـ خـ ــارج‬
‫البالد من أجل موض ــوع الخالفة وهك ــذا يص ــادرون الحري ــة"‪ )1(،‬في الم ــدن المختلفة‬
‫وي ــدخلون بي ــوت اهلل ويه ــددون األئمة والخطب ــاء ويأخ ــذون وث ــائق عليهم‪ ،‬يخرج ــون‬
‫الرجـ ـ ــال المتنـ ـ ــورين‪ ،‬ويسـ ـ ــجنون الشـ ـ ــباب المتحمسـ ـ ــين‪ ،‬ولم تنجح السـ ـ ــلطة بحمـ ـ ــاه‬
‫وحمص‪ ،‬بل أص ـ ــيبت بإخف ـ ــاق فظيع(‪ ،)2‬أما في حلب والالذقية وقسم من دمشق فقد‬
‫نجحت السلطة‪.‬‬
‫ـ نعم نشـطت الســلطة من جديـد‪ ،‬ومنعت الخطبــاء في جميع المـدن الســورية بما‬
‫فيها حمـ ـ ــاه وحمص من ذكر الخالفة والمبايعة للملك حسـ ـ ــين بن علي؛ وذلك بـ ـ ــأمر‬
‫"ويغ ـ ــان"‪ .‬وعن ـ ــدما تلك ـ ــأت حمص‪ ،‬في تنفيذ أمر الس ـ ــلطة‪ ،‬دخلت الش ـ ــرطة الج ـ ــامع‬
‫وأخرجت الناس بعد الضرب والجرح‪.‬‬
‫وازدادت الحماسة في حمص ف ــازداد ب ــذلك قمع الس ــلطة‪ ،‬فقد أبع ــدوا المناضل‬
‫شـ ــكري الجنـ ــدي إلى بيت الـ ــدين‪ ،‬وهـ ــددوا هاشم األتاسي وفطين أرسـ ــالن وأبعـ ــدوا‬
‫عزت الجندي إلى جهة غير معلومة‪ ،‬وهكذا بدأ تشريد ونفي وتعــذيب لئال تقــوم بين‬
‫البالد العربية وحدة تكسبها مناعة وقوة وغنى‪.‬‬
‫يقـ ــول الجـ ــابري‪" :‬إن هنـ ــاك عوامل أساسـ ــية تعمل للوحـ ــدة في هـ ــذه المنطقـ ــة‪،‬‬
‫بغض النظر عن طبيعة أو شكل هذه الوحدة وأن هذه الوحدة هي الهدف الذي بحثنا‬
‫عنه في الماضي‪ ،‬عملنا إلنجازه دون قيد أو شرط في وجه كل العراقيل؛ ولكن بعد‬
‫مضي عشـ ــرين عام ـ ـاً فـ ــإن كل بلد اعتـ ــاد على نمطه الـ ــذاتي في الحيـ ــاة وشخصـ ــيته‬
‫الذاتية‪ .‬يجب علينا اآلن إعادة المساومة ومحاولة إقنــاع كل منا اآلخــر‪ .‬ومع دمشق‬
‫كعاصــمة‪ ،‬والنظــام الجمهــوري كأســاس‪ ،‬فإننا نصر على الوحــدة ولكننا نــترك شــكل‬
‫اختيار الوحدة للمواطنين"(‪.)3‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪3‬‬
‫اليومياتـ ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 53‬ـ‬
‫وكث ــيراً ما ك ــانت تث ــار القض ــية الفلس ــطينية في ه ــذه الف ــترة‪ .‬وقد أراد س ــعد اهلل‬
‫جمع شـمل الفلسـطينيين‪ ،‬لتتشـكل منهم نـواة متينة مسـؤولة أمـام القضـية الـتي عـدوها‬
‫قضية األمة العربية‪.‬‬
‫ورغب أن يبعثها قوة جديدة تقف عثرة وعقبة فعلية أمام إسرائيل‪...‬ـ ولكن‪...‬ـ‬
‫لم يـ َـر ما يــترجم حلمه إلى واقع فقد "أظهر الفلســطينيون اختالفهم حــتى أمــام الملــك‪.‬‬
‫وهــذا مما يزيل الثقة ويمنعهم من العمل معهم واالعتمــاد عليهم"(‪ .)1‬وســعى ســعد اهلل‬
‫لتمكين الفلسطينيين من رؤية الملك ومقابلته والتعاون معه‪ ،‬بعد إزالة سوء التفــاهم‪.‬‬
‫ولكنه لم ينجح "ألسـ ــباب بعضـ ــها كـ ــامن في قلب الفلسـ ــطينيين وبعضـ ــها موجـ ــود في‬
‫الملك نفسه"(‪.)2‬‬
‫يق ــول س ــعد اهلل‪ :‬الص ــدف جمعتنا مع كث ــير من الفلســطينيين‪ ،‬وفي دار إب ــراهيم‬
‫هاشم وكلنا اتفقنا على أننا لم نفهم شيئاً من الملك؛ وأرسلنا المفتي األكبر لكي يســأل‬
‫الملك عن م ـ ــذاكرة مع ـ ــه؛ وي ـ ــذهب إليه ثالثة أش ـ ــخاص‪ ،‬يص ـ ــارحونه في كل ش ـ ــيء‬
‫ولكن‪ ...‬ال نتيجة وال ثمرة منها"(‪.)3‬‬
‫ولم يقنط سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــعد اهلل‪ ،‬بل حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاول عن طريق معارفه وأعوانه أن يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدفع‬
‫بالفلسـطينيين لزيـارة الملـك‪" ،‬زار أخي والفلسـطينيون برئاسة أمين الحسـيني‪ ،‬الملك‬
‫وطــال جلوســهم عنــده‪ ،‬وتناقشــوا في كل األمــور؛ ولكن‪...‬ـ ال زالــوا لم يفهمــوا أكــثر‬
‫مما فهمت"(‪.)4‬‬
‫ومن جهة أخـرى كــانت الســلطة الفرنسـية تـدير أمــور البالد دون أية استشــارة؛‬
‫فمثالً قبلت اللجنة المالية لمجلس االتحـ ـ ـ ــاد تأسـ ـ ـ ــيس المصـ ـ ـ ــرف المركـ ـ ـ ــزي وقدمته‬
‫للمجلس؛ والمجلس قبله مب ـ ــدئياً‪ ...‬واخت ـ ــاروا له ـ ــذا المجلس ص ـ ــبحي برك ـ ــات؛ وقد‬
‫احتج على ه ــذا التص ــرف أكـ ــثر المحافظ ــات؛ "ح ــتى جري ــدة القبس الدمش ــقية ب ــدأت‬
‫بطعن صــبحي بركــات؛ ولكن ال أعلم‪ ،‬هل يشــتري الجريــدة؟ والجريــدة تــبيع نفســها‬
‫وتسكت"؟(‪.)5‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬
‫(?)‬ ‫‪3‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬
‫(?)‬ ‫‪4‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬
‫(?)‬ ‫‪5‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬

‫ـ ‪ 54‬ـ‬
‫ك ــانت فرنسا تخشى إجم ــاع ال ــرأي وتوحيد الكلم ــة‪ ،‬ف ــراحت ت ــراقب تحرك ــات‬
‫النـ ــاس وب ـ ــدأت االس ـ ــتخبارات تسـ ــعى لتفهم أفك ـ ــار (بعض الن ـ ــاس) بالوحـ ــدة‪ ،‬وعلى‬
‫انفراد؟"(‪.)6‬‬
‫‪:1925‬‬
‫وابت ــدأت تحرك ــات جدي ــدة من قبل الس ــلطة الفرنس ــية‪ ،‬وانضم رج ــال وط ــنيون‬
‫كثــيرون إلى حــزب الشــعب الــذي أعلن في ‪ 1925‬الثــورة ضد االحتالل الفرنســي‪،‬‬
‫وعندما شعر زعماء النضال الوطني بضعف هذا الحــزب تنــادوا إلى العمل جميعـاً‪،‬‬
‫العمل المشــترك وال ــذي ع ــرف في الت ــاريخ الســوري باسم الكتلة الوطني ــة‪ ،‬وأســندت‬
‫الرئاسة في هــذه الكتلة الوطنية للســيد هاشم األتاسي وربحت البالد في هــذه الخطــوة‬
‫وجود الكتلة الوطنية كقوة عظيمة‪ ،‬والتي اعتبرها الشعب الممثل الشرعي للدولة‪.‬‬
‫واعت ـ ــبر ي ـ ــوم ‪ 1‬ك ـ ــانون الث ـ ــاني ‪ 1925‬مبـ ــدأ لقيـ ــام الدولة الس ـ ــورية الجديـ ــدة؛‬
‫ويسمى رئيس السلطة التنفيذية (رئيس دولة سورية)‪.‬‬
‫وحصل تغير مراكز في السلطة الفرنسية‪ ،‬فقد حل المسـيو (دو جوفنيـل) محل‬
‫الجنرال (سراي) المعزول‪ ،‬وكان قد وصل إلى بيروت حيث مركزه الرئيسي‪.‬‬
‫وفي اليوم الثالث توجه إلى مجلس التمثيل اللبناني وألقى فيه خطابـاً‪ ،‬أعلن فيه‬
‫سياسته‪( :‬الحرب لمن يريد الحرب‪ ،‬والسالم لمن يريد السالم)‪.‬‬
‫وع ــادت فك ــرة المطالبة باألقض ــية األربعة (البق ــاع‪ ،‬بعلب ــك‪ ،‬راش ــيا‪ ،‬حاص ــبيا)‬
‫التي سلخت عن سورية أيام الجنرال (غورو)‪.‬ـ‬
‫في ه ــذا الع ــام اس ــتقال ص ــبحي برك ــات‪ ،‬وب ــدأ التف ــاوض مع الش ــيخ ت ــاج ال ــدين‬
‫الحســيني ولكن (دو جوفنيــل) رفض مطاليبــه‪ ،‬ولما اتصل بهاشم األتاسي وإ بــراهيم‬
‫هنانو‪ ،‬أبدياً إعراضـاً تامـاً‪ ،‬ما لم يبــدأ الجالء الفرنسـي‪ ،‬ثم تعقبه المفاوضــات؛ وكـان‬
‫األتاسي وهنانو يعمالن بشعار (ال مفاوضة قبل الجالء)‪.‬‬
‫أصـ ّـر دو جوفنيل على إجــراء االنتخابــات في كل محافظة على حــدة‪ ،‬ثم تجمع‬
‫النت ـ ــائج ولكن الش ـ ــعب الس ـ ــوري لم يس ـ ــتجب إلى ذلك ف ـ ــراحت الس ـ ــلطة تقبض على‬
‫الوجه ـ ــاء في كل محافظة وق ـ ــامت في حلب ث ـ ــورة احتجاجـ ـ ـاً على ه ـ ــذه االنتخاب ـ ــات‬
‫وســرعان ما قبضت الســلطة على كل من ســعد اهلل الجــابري وأحمد الرفــاعي ومنــير‬
‫العمـ ــادي وربيع المنقـ ــاري‪ .‬وثـ ــارت ثـ ــائرة حلب وخـ ــرج النـ ــاس إلى الشـ ــوارع بعد‬

‫(?)‬ ‫‪6‬‬
‫اليومياتـ ‪.1924‬‬

‫ـ ‪ 55‬ـ‬
‫صـ ــالة العصـ ــر‪ ،‬وخطب فيهم الشـ ــيخ طـ ــاهر الكيـ ــالي‪ ،‬وحرضـ ــهم على اقتحـ ــام دار‬
‫الحكومة إلنقاذ المعتقلين‪ ،‬وسارت مظاهرة كبرى‪.‬‬
‫خــرج مــرعي باشا المالح ـ ـ وكــان حاكم ـاً على حلب ـ ـ وطلب من المتظــاهرين‬
‫التفـ ـ ـ ـ ــرق لكي يعمل على إخالء المعتقلين؛ وأعطيت اإلشـ ـ ـ ـ ــارة إلى حامية القلعـ ـ ـ ـ ــة‪،‬‬
‫فــأطلقت رشاشــاتها باتجــاه المتظــاهرين فســقط ‪ /80/‬قــتيالً وجــرح ‪ /200/‬شــخص‪،‬‬
‫ثم جاء فريق من جنود السنغال‪ ،‬وأعملوا سيوفهم في المتظاهرين حتى شتتوهم‪.‬‬
‫لم تهـ ــدأ فتنة االسـ ــتعمار‪ ،‬بل أشـ ــعلوها ثانيـ ــة‪ ،‬وقد قـ ــام الفرنسـ ــيون بـ ــدك المـ ــدن‬
‫بالمـ ــدافع‪ ،‬فأصـ ــبح سـ ــعد اهلل مع جماعته ـ ـ ـ بعد أن أفـ ــرج عنه ـ ـ ـ ورفعـ ــوا المـ ــذكرات‬
‫لجمعية األمم؛ وكـ ـ ـ ــان رئيس الكتلة الوطنية هاشم األتاسـ ـ ـ ــي‪ ،‬هو الـ ـ ـ ــذي يأخذ هـ ـ ـ ــذه‬
‫المذكرات واالحتجاجات‪.‬‬
‫ثــارت أكــبر المــدن الســورية ثــورة كــبرى‪ ،‬الســيما جبل الــدروز الــذي ثــار من‬
‫أقصــاه إلى أقصــاه؛ مطالبـاً باالنضــمام إلى ســورية ـ بعد أن أعلنــوا انفصــاله‪ ،‬ليصــبح‬
‫دولة مستقلة ـ‪.‬‬
‫وفي ‪ 8‬آذار ‪ 1925‬احتج وفد سوري منتخب يمثل جميع المناطق واألحزاب‬
‫واالتجاهات وأعلن استقالل سـورية بحــدودها الطبيعيـة؛ وقد كــان هـذا اإلعالن يتفق‬
‫مع تأكيدات الحلفاء ومع أهدافهم من الحرب‪.‬‬
‫وفي أوائل تم ـ ـ ـ ــوز‪ ،‬أطلقت الرصاص ـ ـ ـ ــات األولى للث ـ ـ ـ ــورة الس ـ ـ ـ ــورية من جبل‬
‫العـرب‪ ،‬وقـام سـلطان باشا األطـرش‪ ،‬زعيم هـذه الثـورة وقائـدها‪ ،‬ينـادي بشن الحـرب‬
‫على الفرنسـ ــيين؛ وكـ ــانت معركة الجـ ــنرال (ميشـ ــو) في ‪ 1‬آب‪ ،‬والـ ــتي انهـ ــزمت فيها‬
‫فرنسا أمام الثوار‪ ،‬وتلتها معارك أخرى في مختلف بقاع الوطن العربي‪.‬‬
‫وكــان فــوزي القــاوقجي ـ وهو من أهــالي طــرابلس الشــام ـ في الجيش الفرنسي‬
‫في حمـ ــاه؛ وكـ ــان بعض الرجـ ــال والشـ ــباب يتصـ ــلون به ويـ ــبيتون أمر الثـ ــورة معـ ــه‪،‬‬
‫وكانت األيام األخيرة من شهر أيلول‪ ،‬أيام حركات واجتماعات‪.‬‬
‫وسافر المجاهدان مظهر السباعي ومنير الريس من حمص‪ ،‬إلى جبل الدروز‬
‫بطريق شـ ــرق األردن‪ ،‬يحمالن صـ ــورة اتفـ ــاق وقعه بعض رجـ ــاالت حمـ ــاه‪ ،‬للقيـ ــام‬
‫بالثورة في حماه على أن يمهد لها بمناوشات تمهيدية في الغوطة‪.‬‬
‫وفي مسـ ـ ـ ــاء األحد ‪ 4‬تش ـ ـ ــرين األول ‪ 1925‬دخل القـ ـ ـ ــاوقجي حمـ ـ ـ ــاه من جهة‬
‫الحاض ــر؛ وس ــلم رج ــال مخ ــافره أس ــلحتهم‪ ،‬فاس ــتطاع الث ــوار ح ــرق الس ــراي قبل أن‬
‫تصل النجــدات الفرنســية؛ وفي ‪ 5‬تشــرين األول نشــبت معركة بين خيالة الفرنســيين‬
‫والثـ ــوار؛ وقد أبلـ ــوا بالء حسـ ــناً وعلى رأسـ ــهم فـ ــوزي القـ ــاوقجي ـ ـ ـ على الـ ــرغم من‬

‫ـ ‪ 56‬ـ‬
‫القنابل اليدوية الـ ــتي أشـ ــعلت األسـ ــواق وقنابل الطـ ــائرات على المدينة حـ ــتى سـ ــيطر‬
‫الفرنســيون على الثــورة‪ .‬وانس ــحب القــاوقجي خــارج المدينــة‪ ،‬واتصل بالبــدو الــذين‬
‫لبــوا النــداء‪ ،‬وهــاجموا قضــاء معــرة‪ ،‬وقــامت معركة حامية الــوطيس‪ ،‬وكــانت هنــاك‬
‫استحالة لالستيالء على المواقع العسكرية؛ فانسحب إلى خارج المدينة حرصاً على‬
‫سالمتها‪.‬‬
‫وانتقلت الثورة السورية إلى الغوطة‪ ،‬وجبال بعلبك والنبك؛ أما ثوار حمــاه فقد‬
‫تمركز أكثرهم في ميدان القلمون تحت قيادة سعيد العاص وفوزي القــاوقجي اللــذين‬
‫دافعا عن النبك بـ ‪ /800/‬مقاتل‪.‬‬
‫وتــوالت المعــارك في مختلف بقــاع الــوطن؛ وفي ظل هــذا الجو المشــبع بغيــوم‬
‫المفاجـ ــآت واألحـ ــداث؛ وفي وسط المعانـ ــاة‪ ،‬بعد القضـ ــاء على ثـ ــورة الشـ ــيخ صـ ــالح‬
‫العلي والزعيم إبراهيم هنانو‪ ،‬وما تملك اليأس من قلوب المواطنين واألحرار‪ ،‬كان‬
‫الفرنسيون في غاية الحذر من الغيوم الدكناء في سماء هذا البلد‪.‬‬
‫‪:1926‬‬
‫واسـ ــتمرت الثـ ــورة‪ ،‬ودخل مشـ ــاة المجاهـ ــدين (قـ ــارة)‪ .‬يـ ــوم ‪ 11‬آذار ‪،1926‬‬
‫وقصد فرسانهم دير عطية لإلحداق بجنــاح العــدو األيســر‪ ،‬واشــتبكوا مع الفرنســيين‪،‬‬
‫وانتهت بارتدادهم إلى النبك‪ ،‬وذهب القاوقجي إلى الغوطة لمساعدتها‪.‬‬
‫ولكن الفرنسيين وضعوا أيديهم الخشنة على جميع المناطق السورية‪.‬‬
‫وبعد أن احتل الجـ ـ ـ ــنرال (أنـ ـ ـ ــدريا) مدينة السـ ـ ـ ــويداء في ‪ 25‬نيسـ ـ ـ ــان ‪،1926‬‬
‫أص ــدر المف ــوض الس ــامي (دو جوفني ــل) ق ــراراً بتع ــيين ال ــداماد أحمد ن ــامي [ال ــداماد‬
‫اصـ ــطالح تـ ــركي معنـ ــاه صـ ــهر السـ ــلطان‪ .‬وأحمد نـ ــامي مـ ــتزوج من إحـ ــدى بنـ ــات‬
‫الس ــلطان عبد الحمي ــد] رئيس ـاً للدولة الس ــورية وك ــان من وزرائها ف ــارس الخ ــوري‪،‬‬
‫حسـ ــني ال ــبرازي‪ ،‬لطفي الحفـ ــار إلى أن يجتمع المجلس ليختـ ــار رئيس ـ ـاً للدولـ ــة؛ وقد‬
‫اتفق معه على معاهـ ـ ــدة وقـ ـ ــال عنهـ ـ ــا‪ :‬إنها وثيقة رسـ ـ ــمية وسـ ـ ــميت‪/‬معاهـ ـ ــدة تمـ ـ ــوز‬
‫‪ /1926‬تنص على‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ االعتراف باستقالل سورية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إن فرنسا ب ـ ــالنظر إلى الص ـ ــداقة والتح ـ ــالف الل ـ ــذين يربطانها بس ـ ــورية‪ ،‬تتعهد‬
‫باقتراح قبولها عضواً في عصبة األمم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إن دول سـورية يجب أن تشـكل منها دولة واحــدة‪ .‬وبعبـارة أخـرى ينبغي إعـادة‬
‫تأليف وحدة األراضي السورية بما فيها بالد العلويين‪.‬‬

‫ـ ‪ 57‬ـ‬
‫‪ 4‬ـ يجــري اســتفتاء في األراضي الملحقة بلبنــان ويكــون لســكان تلك المنــاطق الحق‬
‫في اختيار الدولة التي يتبعونها اختياراً حراً‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ تنتخب جمعية تأسيسية انتخاباً حراً لسن دستور البالد ووضع القوانين‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ينسـ ــحب الجيش الفرنسي من األراضي السـ ــورية ت ــدريجياً عنـ ــدما تشـ ــكل نـ ــواة‬
‫الجيش الوطـ ــني بمسـ ــاعدة مـ ــدربين فرنسـ ــيين تطلبهم الحكومة الجديـ ــدة لهـ ــذه‬
‫الغاية ويكون للجيش الفرنسي الخيار بإقامة حامية في لبنان‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ تتفضل فرنسا بتخص ــيص مبلغ من الم ــال في س ــبيل إع ــادة بن ــاء المن ــاطق ال ــتي‬
‫خربتها القنابل‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ تعلن الحكومة عفــواً عامـاً دون قيد وال شــرط‪ ،‬وال يكــون للحكومة الفرنسـية أي‬
‫اعتراض أو طلب في هذا الموضوع‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ يحق لسوريا تعيين ممثلين دبلوماسيين لها في الخـارج‪ ،‬على أنه في البالد الـتي‬
‫ال يكون لها فيها ممثلون‪ ،‬يقوم الدبلوماسيون الممثلون الفرنسيون بتمثيلها‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ تقبل سـ ــورية في حكومتها وفي دوائرها مستشـ ــارين فنـ ــيين فرنسـ ــيين تـ ــابعين‬
‫للحكومة السورية بموجب عقود تعقد معهم بملء الحرية‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ يكــون للصــناعة رؤوس األمــوال الفرنســية حق الرجحــان في جميع المشــاريع‬
‫التجارية والص ــناعية وفي اس ــتخراج الــثروات الطبيعية في البالد‪ .‬وه ــذا في‬
‫حال عدم استطاعة ورؤوس األموال الوطنية القيام بهذه المشاريع‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ تعقد القروض عامة مع فرنسا أو بواسطة الحكومة الفرنسية‪.‬‬
‫‪ 13‬ـ تعقد محالفة بين فرنسا وسـ ــورية تتعهد فيها فرنسا بالـ ــدفاع عن سـ ــورية إزاء‬
‫كل اعتــداء خــارجي‪ ،‬ومقابل ذلك تتعهد ســورية في حالة نشــوب حــرب ضد‬
‫فرنسا بوضع قسم من جيشها تحت تصرف فرنسا‪ ،‬على أن تتــولى الحكومة‬
‫الفرنسية تجهيزه وتسليحه‪.‬‬
‫وعلى الـ ــرغم من هـ ــذه المعاهـ ــدة الـ ــتي اعتـ ــبرت رسـ ــمية‪ ،‬فقد أنكر دو جوفنيل‬
‫مضمونها بل على العكس فقد تطـور تـدخل الفرنسـيين في سـلوك النـاس ومعـاملتهم‪،‬‬
‫ووص ـ ــلوا إلى إش ـ ــعال ن ـ ــار الطائفية ال ـ ــتي راحت تلهب النف ـ ــوس وتح ـ ــرق الض ـ ــمائر‬
‫وزرع ــوا الفس ــاد ورب ــوا الطائفية واس ــتهانوا بقداسة كل ش ــيء‪ .‬وقد ك ــان ه ــذا ش ــأنهم‬
‫منذ أن وجدوا على أرض سورية‪.‬‬
‫ونتيجة لتــوالي النكبــات‪ ،‬كــثرت اإلفالســات التجارية ووقعت الخســائر الماليــة‪،‬‬
‫وهجر الفالحون والمزارعون قراهم ورحلوا إلى فلسطين والعــراق وتركيا ومصر‬

‫ـ ‪ 58‬ـ‬
‫ولبنــان هرب ـاً من انتقــام الفرنســيين أو خوف ـاً من هجــوم الثــوار‪ ،‬ألن من يــؤويهم كــان‬
‫يهاجم أو يقتل‪.‬‬
‫في ه ـ ــذا ال ـ ــوقت نفت الس ـ ــلطة العس ـ ــكرية الس ـ ــادة‪ :‬ف ـ ــارس الخ ـ ــوري‪ ،‬حس ـ ــني‬
‫الـ ــبرازي‪ ،‬لطفي الحفـ ــار‪ ،‬فـ ــوزي الغـ ــزي‪ ،‬سـ ــعد اهلل الجـ ــابري إلى الحسـ ــكة‪ .‬وكـ ــان‬
‫(فـ ــارس‪ ،‬وحسـ ــني‪ ،‬ولطفي) وزراء في حكومة الـ ــداماد الـ ــتي عينها (دو جوفنيـ ــل)‪،‬‬
‫ولما أرادت السـ ــلطة العسـ ــكرية أخذ موافقة الحكومة على ضـ ــرب دمشـ ــق‪ ،‬أبـ ــوا‪...‬ـ‬
‫فألقت القبض عليهم ونفتهم مع إخوانهم‪.‬‬
‫عــاد الــداماد فــألف وزارته من جديــد‪ ،‬مما د ّل على أن رئيس الدولــة‪ ،‬كــان همه‬
‫األول البقاء في الوزارة ضارباً عرض الحائط كرامة األمة‪.‬‬
‫ق ـ ــال بي ـ ــير تنجة ‪ P. Tanget‬ن ـ ــائب رئيس ب ـ ــاريس للجنة المس ـ ــتعمرات‪" :‬قد‬
‫عرفنا كيف نقيم في س ــورية ولبن ــان نظ ــام (ع ــدم المس ــؤولية وع ــدم الكف ــاءة‪ ،‬ال ــذي ال‬
‫يضع في يد المندوب السامي صالحية واسعة ليقوم بأعمال جديدة فعالة‪.‬‬
‫واألس ـ ــوأ من ه ـ ــذا كله مع ـ ــنى التن ـ ــاقض ال ـ ــذي ظهر في سياس ـ ــته (ه ـ ــنري دي‬
‫جوفني ـ ــل) فقد وافق قبالً على إع ـ ــادة األقض ـ ــية األربعة إلى س ـ ــورية‪ ،‬ثم تنصـ ـ ـ ّل من‬
‫وعـده ومواقفه مـدعياً أن الدسـتور اللبنـاني يـرفض التنـازل عن أي جـانب من أرض‬
‫لبنــان‪ .‬قــال‪" :‬ال أرى فرقـاً بين الدســتور اللبنــاني وبيــان الحكومة الســورية‪ ،‬ما دامت‬
‫وزارة الخارجية الفرنسية وعصبة األمم لم توافقها عليهما"‪.‬‬
‫ولعصبة األمم والوزارة الفرنسية حق البت في هذه الشؤون‪.‬‬
‫"وعلى كل حال فأنا ذاهب إلى باريس وجنيف لهذه الغاية"‪.‬‬
‫وفي يــوم ‪ 28‬أيــار ‪ 1926‬غــادر جوفنيل بــيروت إلى بــاريس‪ ،‬ولم يعــد‪ .‬وهنا‬
‫وضــعت الســلطات الفرنســية البالد العربية تحت كــابوس الحكم العســكري واألحكــام‬
‫الفرنســية وكــان الجيش يخــرب القــرى والمــزارع ويــدمر الــبيوت والمســاكن‪ ،‬ويقــوم‬
‫رج ــال األمن بتوقيف األح ــرار كما ش ــاءت أه ــواؤهم؛ ويمل ــؤون بهم الس ــجون‪ ،‬وفي‬
‫السجن كانوا يقتلون بعض الموقوفين دون محاكمة‪.‬‬
‫وعين (هــنري بونســو) مفوضـاً ســامياً للجمهورية الفرنســية في ســورية ولبنــان‬
‫لما دخل سورية في ‪ 13‬تشرين األول ‪ 1926‬وتقلد منصــبه كــان المنتظر أن يعــالج‬
‫األمور بأسرع ما يمكن‪.‬‬
‫وصــفت سياســته بأنها (سياسة الصــمت) حــتى إذا اســتتب لـه األمر فاجأ النــاس‬
‫بالنكاي ــات والمشاكس ــات تحطيمـ ـاً لق ــوتهم المعنوي ــة‪ ،‬وك ــان من المف ــروض أن يع ــالج‬

‫ـ ‪ 59‬ـ‬
‫األمور بأسرع ما يمكن فيضع ح ًـد للحكم العســكري ويمنع ضــباط االســتخبارات من‬
‫اإلتي ـ ــان ب ـ ــأي عمل إداري كيفي‪ ،‬ويص ـ ــون القض ـ ــاء من المداخلة والعبث باألحك ـ ــام‬
‫والحكـ ـ ــام ويطهر الحكومة ويطلق وثـ ـ ــاق الجرائد ويعفو عن المبع ـ ــدين السياس ـ ــيين‪،‬‬
‫ولكنه لم يفعل على الرغم من وعوده‪.‬‬
‫وعجب السياسيون‪ ،‬وتساءل ســعد اهلل‪ :‬أتكــون هـذه الجهــود السـاكنة هي لكسب‬
‫الـ ـ ـ ـ ــوقت وتـ ـ ـ ـ ــرويض المعارضة وتخـ ـ ـ ـ ــدير األعصـ ـ ـ ـ ــاب أم مـ ـ ـ ـ ــاذا‪...‬؟ إن فرنسا لن‬
‫تروضـ ـ ـ ــنا‪ ...‬ولن نخضـ ـ ـ ــع‪ ...‬ولن يخـ ـ ـ ــدعنا بونسو ولن يرغمنا على التسـ ـ ـ ــليم ولو‬
‫استعمل قوة الجيش واالضطهاد والنفي والسجون‪...‬ـ وقد اعتــدنا ذلك كلــه‪ ...‬ولكننا‬
‫لن نخضع‪...‬ـ سنتحرك‪ ...‬سنصمد‪ ...‬وسوف نتحدى"‪.‬‬
‫في تش ــرين الث ــاني ‪ 1926‬أش ــار الج ــنرال (ويغان ــد) في اجتم ــاع عقدته جمعية‬
‫العلـ ــوم االس ــتعمارية إلى بقـ ــاء البالد على تقس ــيماتها ال ــتي أنشـ ــأتها فرنسـ ــا؛ وتخويل‬
‫المفــوض الســامي ســلطة تكــاد تكــون مطلقــة‪ ،‬مع االحتفــاظ بحق الــرفض (فيتــو) من‬
‫الدولة المنتدبــة‪ ،‬للقــوانين األساســية‪ .‬ثم قــال‪" :‬لو كــانت هــذه البالد قــادرة على تــولي‬
‫ش ـ ــؤونها بنفس ـ ــها في اجتي ـ ــاز المراحل الطويلة في الطريق المق ـ ــدر له ـ ــا‪ ،‬لما ك ـ ــانت‬
‫وضعت تحت الوصاية التي يسمونها االنتداب"‪.‬‬
‫وس ــاءت األح ــوال عام ــة؛ وتيقن س ــعد اهلل كيف ك ــان (بونس ــو) يس ــعى ويتوسل‬
‫إلرضــاء أنصــاره بإغــداق وظــائف الدولة عليهم وإ عطــائهم المعاشــات‪ ،‬وإ ن خــالفت‬
‫الق ــانون‪ ،‬حــتى فــرغت خزينة الدولة من الم ــال االحتي ــاطي البــالغ ‪ /800/‬ألف لــيرة‬
‫ذهب‪.‬‬
‫في ه ــذا العهد ض ــاعت المس ــؤوليات تبلبلت األفك ــار أفلست القيم عن ــدما ه ـ ّـدموا‬
‫المقومـ ــات األدبية والروحية بنتيجة التـ ــدخل في خصوصـ ــيات األفـ ــراد ولما تـ ــدخلت‬
‫بعض الصحف باإلشـارة إلى إفالس الحكم وسـوء التصـرف‪ ،‬كـان جزاؤها اإلغالق‬
‫والمحاكمة والتعطيل‪.‬‬
‫وأحبطت الهمم والنف ــوس من جديد بعد أن انتشر التش ــاؤم بين الن ــاس وس ــاءت‬
‫ظــروف معيشــتهم وكــثرت معانــاتهم من الحكــام الـذين لبســوا غــير ثيــابهم بين النــاس‪،‬‬
‫وحسب ما فعلته العقلية االسـ ــتعمارية‪ .‬وبـ ــدأت تحركـ ــات بونسو السياسـ ــية؛ وكـ ــانت‬
‫تصــدر أوامر من مركــزه في بــيروت منطقة الحــرش‪ ،‬وكــانت قــوى األمن والحــرس‬
‫الخ ــاص يتمتع ــون بن ــوع من الحرية ال ــتي تتج ــاوز الح ــدود‪ ،‬ح ــتى تع ــدت على حرية‬
‫الشــعب وداست كرامتــه‪ ،‬وجــارت على القــرويين ومخــاتير الحــارات‪ ،‬بل حــتى على‬
‫الن ـ ــواب ال ـ ــذين وال ـ ــوا الوطن ـ ــيين‪ ،‬فك ـ ــانوا يتعرض ـ ــون لهم على مس ـ ــمع من الحكومة‬

‫ـ ‪ 60‬ـ‬
‫ومعرفة رجـ ـ ــال القضـ ـ ــاء‪ .‬وزاد اضـ ـ ــطراب الحركة المعاشـ ـ ــية‪ ،‬وصـ ـ ــادرت فرنسا‬
‫خ ـ ــيرات س ـ ــورية وقد نش ـ ــرت جري ـ ــدة (المات ـ ــان ‪ )Matin‬رس ـ ــالة من م ـ ــدير اللجنة‬
‫الوطنية إلى مستشـ ــاري تجـ ــارة فرنسا الخارجية يق ـ ــول‪" :‬قد نسـ ــتطيع أن نج ـ ــني من‬
‫مستعمراتها مقادير من الدخان الالزمة من اللفائف الشــرقية لجميع حــوانيت الــدخان‬
‫في فرنسا‪ .‬والدخان من أكبر موارد الثروة في الجزائر ولبنان وسورية"‪.‬‬
‫ويقول جورج فوشي الفرنســي‪" :‬إذا نظرنا إلى الجهة االقتصــادية وجــدنا القسم‬
‫األكبر من البالد في حالة الشقاء"‪.‬‬
‫وتزداد الحالة سوءاً ففظــائع الحــرب الوطنية وقتل الجماعــات وإ تالف المواسم‬
‫وإ طالق الم ـ ــدافع على دمشق والق ـ ــرى المج ـ ــاورة‪ ،‬والس ـ ــلب والنهب‪ ،‬قد أوجد ه ـ ــوة‬
‫عميقة بين ممثلي فرنسا والسكان‪.‬‬
‫واضـ ـ ــطر الوطـ ـ ــنيون ـ ـ ـ ـ باسم الكتلة الوطنية ـ ـ ـ ـ وأمـ ـ ــام هـ ـ ــذا التـ ـ ــدهور إلى عقد‬
‫اجتماعـ ــات لدراسة الوضع في سـ ــورية ولبنـ ــان‪ ،‬وتوحيد الصـ ــفوف وكـ ــان سـ ــعد اهلل‬
‫يساهم في دراسة هذه الموضوعات مساهمة فعالة‪.‬‬
‫‪:1927‬‬
‫وبدأت تحركات بونسو ونشطت‪.‬‬
‫ففي ‪ 26‬تمـ ـ ــوز أصـ ـ ــدر (هـ ـ ــنري بونسـ ـ ــو) بيان ـ ـ ـاً نشـ ـ ــرته الصـ ـ ــحف السـ ـ ــورية‬
‫واللبنانيـة‪ ،‬أوضح فيه نتـائج دراسـاته وتحركاتــه‪ .‬وأكد فيه حـرص فرنسا على تأدية‬
‫واجبها نحو البالد السورية بموجب المادة األولى من صك االنتداب‪.‬‬
‫ك ـ ــانت الحكومة المحلية في ه ـ ــذا الع ـ ــام مؤلفة من‪ :‬ال ـ ــداماد أحمد ن ـ ــامي‪ ،‬واثق‬
‫المؤيـ ــد‪ ،‬يوسف الحكيم‪ ،‬شـ ــاكر حنبلي‪ ،‬عبد الق ــادر العظم‪ ،‬رش ــيد المـ ــدرس‪ ،‬ش ــكيب‬
‫الميسر ومن خالل ترص ـ ـ ــده كل الوطن ـ ـ ــيين ومراقبة أفع ـ ـ ــالهم ومعرفة تص ـ ـ ــلبهم في‬
‫المواقـ ـ ــف‪ ،‬أوعز إلى السـ ـ ــلطة في دمشق إلبع ـ ـ ــاد س ـ ـ ــعد اهلل الج ـ ـ ــابري عن السـ ـ ــاحة‬
‫السياسية ونفيه‪.‬‬
‫وفي أوائل آب نفي س ـ ــعد اهلل إلى حص ـ ــرون في لبن ـ ــان تنفي ـ ــذاً ألوامر بونس ـ ــو‪.‬‬
‫وانعقد الم ـ ــؤتمر الوط ـ ــني في ب ـ ــيروت في ‪ 25‬تش ـ ــرين األول(‪ )1‬واجتمع الوط ـ ــنيون‬
‫الســادة‪ :‬هاشم األتاســي‪ ،‬فــاخر الجــابري‪ ،‬عبد الـرحمن الكيــالي‪ ،‬عبد الحميد كــرامي‪،‬ـ‬
‫عبد اللطيف بيســار‪ ،‬عبد الــرحمن بيهم‪ ،‬عبد القــادر كيالني‪ ،‬نجيب الــبرازي‪ ،‬مظهر‬
‫رسالن‪ ،‬يوسف عيسـى‪ ،‬األمـير سـعيد الجزائـري‪ ،‬عفيف الصـلح‪ ،‬إحسـان الشـريف‪،‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫المراحل ـ عبد الرحمن الكيالي‪.‬‬

‫ـ ‪ 61‬ـ‬
‫عارف الحسن‪ ،‬عبد اهلل اليافي‪ ،‬وتخلف إبراهيم هنانو عن الحضور بسبب مرضــه‪.‬‬
‫وسعد اهلل الجابري بسبب إبعاده‪.‬‬
‫أصــدر المجتمعــون بيــانهم باإلجمــاع وهــو‪" :‬لما وجــدنا الوضــعية السياســية في‬
‫ســورية لم تنكشف غياهبها منذ ثمــاني ســنوات وأن الدولة الفرنسـية المنتدبة ال تـزال‬
‫تلجأ إلى تج ــارب متنوع ــة‪ ،‬ولم تنتج ح ــتى اآلن التف ــاهم المرغ ــوب في ــه‪ ،‬وش ــعرنا أن‬
‫البالد مقبلة على تطور جديد‪ ،‬ال يتفق وأمــاني ســورية‪ ،‬هــذا فضـالً عن وجــود عامل‬
‫آخر كفقـ ــدان الحريـ ــات‪ ،‬لـ ــذا وجـ ــدنا أن واجب اإلخالص يـ ــوجب علينا التـ ــداول في‬
‫األم ـ ـ ــور كلها(‪ .)1‬ثم ق ـ ـ ــالوا في التع ـ ـ ــاون النزيه مع الحكومة الفرنس ـ ـ ــية على أس ـ ـ ــاس‬
‫ميث ـ ــاقهم الق ـ ــومي؛ـ ودعا البي ـ ــان الش ـ ــعب الس ـ ــوري النبيل إلى الح ـ ــذر والحيط ـ ــة‪ ،‬فال‬
‫ينتخب إال رج ـ ــاالً مع ـ ــروفين بص ـ ــدق وط ـ ــنيتهم وس ـ ــالمة مب ـ ــادئهم‪ ،‬ليك ـ ــون المجلس‬
‫المنتخب مظهـ ـ ـ ــراً إلرادته ومـ ـ ـ ــرآة تنعكس فيها أمـ ـ ـ ــانيهم القومية والوطنية والمحبة‬
‫والسالم"‪.‬‬
‫وبعد فترة دعت المفوضية العليا اثنين من الزعماء الوطنيين وهما‪ :‬األتاســي‪،‬‬
‫وهنانو‪ ،‬وفاوضتهما في أمور ذات بال‪.‬‬
‫أما س ــعد اهلل‪...‬ـ وهو مبعد ه ــذه اآلون ــة‪ ،‬ك ــان ي ــرى أن اإللح ــاح على الحكومة‬
‫الفرنســية بتحقيق آمــال الشــعب‪ ،‬إنما يعد مطلبـاً حقـاً كــانت فرنسا قد ضــمنته للشــعب‬
‫الس ـ ــوري ولكن بعض الم ـ ــوظفين الفرنس ـ ــيين تج ـ ــاوزوا الح ـ ــدود‪ ،‬مما أدى إلى ج ـ ـ ّـر‬
‫فرنسا إلى مواجهة المواقف المضـ ـ ــطربة في سـ ـ ــورية وقـ ـ ــال سـ ـ ــعد اهلل‪" :‬هل يتمكن‬
‫(بونسـ ــو) أن يخـ ــدع الوطنـ ــيين ويـ ــرغمهم على التسـ ــليم والتصـ ــديق بما يريـ ــد؟ أم أنه‬
‫سـ ــيعمد إلى اسـ ــتعمال قـ ــوة الجيش وقـ ــوة المـ ــال وقـ ــوة االضـ ــطهاد والتشـ ــريد والنفي‬
‫والسجن لحل القضية؟ في الواقع فنحن اعتدنا على التشريد والنفي والسجن"‪.‬‬
‫‪:1928‬‬
‫أسـ ـ ــقط المسـ ـ ــيو "بونسـ ـ ــو" وزارة الـ ـ ــداماد في ‪ 9‬شـ ـ ــباط ‪ .1928‬وقد دامت في‬
‫الحكم حولين كاملين‪ ،‬لم تقم خاللهما بأي عمل يذكر‪.‬‬
‫وصـ ـ ـ ــرف بونسو رئيس الحكومة ومن معه من وزراء وهم‪( :‬واثق المؤي ـ ـ ـ ــد‪،‬‬
‫يوسف الحكيم‪ ،‬شــاكر الحنبلي‪ ،‬عبد القــادر العظم‪ ،‬رشــيد المــدرس‪ ،‬شــكيب ميســر)‪.‬‬
‫وسبب صرف هؤالء أنهم لم يحققوا ما تصبو إليه فرنسا وتحلم به‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫أخذت بتصرف‪.‬‬

‫ـ ‪ 62‬ـ‬
‫إن ال ـ ــداماد (أحمد ن ـ ــامي)ـ وإ ن ك ـ ــان طيب القلب فإنه لم يكن رجل الس ـ ــاعة في‬
‫خدمة بالده ولم يع ــرف لـه ل ــون سياس ــي؛ ولم يم ــارس السياسة من قب ــل‪ ،‬وقد اعت ــاد‬
‫حياة البذخ أيام إقامته في استنبول كصهر للسلطان‪.‬‬
‫ولم يخ ـ ــدم ال ـ ــداماد الفرنس ـ ــيين كما أرادوا‪ ،‬بل ك ـ ــان ض ـ ــعيف اإلرادة‪ ،‬لعب به‬
‫الفرنس ـ ــيون‪ ،‬ولم تكن تظهر شخص ـ ــيته إال في الم ـ ــآدب والحفالت‪ ،‬فلم يتقبل ال ـ ــرأي‬
‫الع ــام الس ــوري مثل ه ــذه الشخص ــية‪ ،‬وك ــذلك لم يكن وزراؤه على قسط ملح ــوظ من‬
‫تحمل المسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــؤولية؛ وربما كـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان يوسف الحكيم هو الوحيد من وزرائه من يمكن‬
‫االعتماد عليه‪ ،‬ألنه رجل قانون‪.‬‬
‫ومما الشك فيه أن دس ـ ـ ـ ــائس (ك ـ ـ ـ ــولي) و(ك ـ ـ ـ ــاترو) وض ـ ـ ـ ــباط االس ـ ـ ـ ــتخبارات‬
‫والمرتزقة من رجال دمشـق‪ ،‬عجلت بســقوط الـداماد وإ خفاقـه‪ ،‬ولــذلك كــان عزله مع‬
‫وزرائه مخرجاً لمعالجة الوضع‪.‬‬
‫وفي ‪ 15‬ش ــباط ‪ 1928‬أص ــدر المف ــوض الس ــامي بيانـ ـاً مقتص ــراً على إج ــراء‬
‫االنتخابــات‪ ،‬وأعلن عفــواً اســتثنى منه عــدداً من رجــال ســورية العــاملين‪ :‬الشــهبندر‪،‬‬
‫إحســان الجــابري ســلطان باشا األطــرش وجماعة جبل الــدروز وســعيد حيــدر وفــاتح‬
‫المرعشي وغـ ــيرهم؛ الـ ــذين أبقـ ــاهم ولم يعف عنهم حـ ــتى سـ ــنة ‪ 1936‬حينما تـ ــولت‬
‫جماعة الكتلة الوطنية الحكم‪ ،‬فأصدرت العفو عنهم واستقبلتهم استقبال الفاتحين‪.‬‬
‫وفي ‪ 16‬شباط ‪ 1928‬أتى بونسو بالشيخ تاج الـدين الحســيني ابن الشـيخ بالل‬
‫الـ ـ ـ ــدين واشـ ـ ـ ــترك معه في الـ ـ ـ ــوزارة سـ ـ ـ ــعيد محاسن للداخلية وجميل األلشي للمالية‬
‫ومحمد كـ ــرد علي للمعـ ــارف وصـ ــبحي النيـ ــال للعدلية وعبد القـ ــادر كيالني للزراعة‬
‫وتوفيق شامية لألشغال العامة‪.‬‬
‫وكــانت غاية المفــوض الســامي تهيئة الجو السياسي كما يريــد‪ ،‬وإ ذا اطمئن إلى‬
‫حكومة الشيخ تـاج عـزم على إجـراء االنتخابـات والـدعوة إلى جمعية تأسيسـية تضع‬
‫للبالد دستوراً جديداً‪.‬‬
‫وق ــامت أول جمعية تأسيس ــية‪ ،‬وك ــان الدس ــتور ال ــذي وض ــعته مؤلفـ ـاً من ‪115‬‬
‫م ــادة‪ ،‬أض ــاف إليها الفرنس ــيون بعد م ــدة الم ــادة ‪ 116‬الش ــهيرة‪ ،‬فعطل ــوا من ــدرجات‬
‫الدستور كله‪.‬‬
‫وكــان أن صــدر قــانون ســمي (قــانون قمع الجــرائم) بحجة أنه لقمع الشــيوعيين‬
‫ومقاومة الشـ ـ ـ ـ ــيوعية‪ ،‬لكنه في الواقع صـ ـ ـ ـ ــدر لمقاومة الوطنـ ـ ـ ـ ــيين وقمع حركـ ـ ـ ـ ــاتهم‬
‫ونشاطهم‪.‬‬

‫ـ ‪ 63‬ـ‬
‫وأوع ـ ــزت فرنسا إلى س ـ ــلطاتها في دمشق إلقامة حكم دس ـ ــتوري للبالد‪ ،‬ولكن‬
‫المفــوض الســامي أصــدر قــراراً يؤجل اجتماعــات الجمعية التأسيســية ثالثة أشــهر ثم‬
‫ثالثة أشهر أخرى وقد اعترض المفوض السامي على ‪ /6/‬مواد من الدستور الــذي‬
‫وضـ ـ ــعته الجمعية التأسيسـ ـ ــية وتتعلق نصوصـ ـ ــها بالسـ ـ ــيادة ووحـ ـ ــدة البالد‪ ،‬وبس ـ ــبب‬
‫إصـ ـ ــرار المجلس على عـ ـ ــدم مس هـ ـ ــذه المـ ـ ــواد فقد قـ ـ ــرر المفـ ـ ــوض السـ ـ ــامي تعليق‬
‫الدستور وحل الجمعية التأسيسية‪.‬‬
‫وما لبثت أن م ــاتت سياسة االنفت ــاح ال ــتي ب ــدرت من الج ــانب الفرنسي وقضي‬
‫على الجمعية التأسيس ــية بق ــرار من المف ــوض الس ــامي‪،‬ـ وع ــاد الوط ــنيون الس ــتئناف‬
‫المقاومة السـ ــلبية الـ ــتي دعا إليها سـ ــعد اهلل أمـ ــام االنتـ ــداب الفرنسي وسـ ــارت سياسة‬
‫بونسو والشيخ تاج على تقييد الصحافة والمطبوعات‪ ،‬وتعطيل جريدة األيام وعــزل‬
‫أركـ ــان القضـ ــاء الـ ــنزيهين وسـ ــحب رئاسة الشـ ــرطة في المـ ــدن السـ ــورية من أيـ ــدي‬
‫السوريين وتعيين فرنسيين محلهم‪ .‬وإ لغاء مجالس البلدية المنتخبة‪ ،‬وتعيين أعضــاء‬
‫موالين لفرنسا‪.‬‬
‫وزادت الضـ ـ ـ ــرائب في عهد الش ـ ـ ــيخ تـ ـ ـ ــاج وزادت المهرجان ـ ـ ــات حد الكراهية‬
‫ضج الشعب وشعر الشيخ وسمع بما يقال بحقه بين الناس(‪ )1‬فأمر‬ ‫واإلسراف؛ حتى ّ‬
‫أحد كتابه بـأن يعمل لـه كتابـاً يمــدح أعماله ويعـدد مشـاريعه‪ ،‬ولكن لم يصـدر الكتـاب‬
‫إال في ع ــام ‪ 1931‬وفيه ذكر مفصل لمش ــاريع الش ــيخ ت ــاج وما أنش ــأته الحكومة في‬
‫عهده‪.‬‬
‫قال سعد اهلل عن الكتاب‪" :‬إن فحواه مخالف للحقيقة‪ ،‬وكل كالمه غــير صــحيح‬
‫ألن معظم المشاريع كان قد ابتدئ بها بعهد من سبقه؛ وانتهت في عهده‪.‬‬
‫إن الكتــاب حيلة مكشــوفة‪ ،‬والشــعب يعــرف معــنى إصــدار هــذا الكتــاب لتغطية‬
‫الموقف"‪.‬‬
‫ويذكر سعد اهلل بأن الشـيخ تـاج لم يـأت لسـورية بمشـروع أو عمل أفادها علميـاً‬
‫أو زراعيـاً أو اقتصـادياً‪ ،‬وال ينكر النـاس ما عـانوه أيـام حكم الشـيخ من عـدم النزاهة‬
‫وع ــدم التج ــرد في سياسة البالد‪ ،‬ولم يهمه أن يمنع الرش ــوة واالرتكاب ــات‪ ،‬ف ــالطرق‬
‫العامة والجسـ ــور كجسر الرقة وبنـ ــاء تجهـ ــيز دير الـ ــزور وتجفيف مسـ ــتنقع حمص‪،‬‬
‫وبناء مستشفى الرازي بحلب وغير ذلك كثــير كلّف الدولة نفقــات طائلة هي ضــعف‬
‫وأضعاف ما يصرف بحق‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫المراحل ـ عبد الرحمن الكيالي‪.‬‬

‫ـ ‪ 64‬ـ‬
‫وق ـ ــام بعض الوطن ـ ــيين يط ـ ــالبون بالحص ـ ــول على ت ـ ــرخيص لجري ـ ــدة تتح ـ ــدث‬
‫باســمهم‪ .‬واســتطاع نجيب الــريس في هــذا العــام أن يحصل على تــرخيص بإصــدار‬
‫جريدة يومية سياسـية باسم القبس‪ ،‬وقد صــدر العـدد األول منها يــوم السـبت ‪ 1‬أيلــول‬
‫يحمل مكان الصدارة في الصفحة األولى صورة شكري العسلي أحد الشـهداء الـذين‬
‫أعدمهم جمال باشا السفاح؛ وبقيت القبس وحدها تحمل راية الدفاع والكفاح‪.‬‬
‫وج ـ ــدد الس ـ ــيد بونسو دعوته النتخ ـ ــاب جمعية تأسيس ـ ــية لوضع دس ـ ــتور البالد‪،‬‬
‫ف ـ ـ ـ ــانتخبت في الع ـ ـ ـ ــام ‪ 1928‬في ش ـ ـ ـ ــهر آب وانتخب هاشم األتاسي رئيسـ ـ ـ ـ ـاً له ـ ـ ـ ــا؛‬
‫ووضعت مشروع الدستور على أساس ديمقراطي وجمهوري‪.‬‬

‫‪:1929‬‬
‫وعادت الجهود الوطنية تتركز على الدعوة إلى الجمعية التأسيسية‪.‬‬
‫وعن ـ ــدما نش ـ ــأت بعد عمل متواص ـ ــل‪ ،‬ت ـ ــابعت مس ـ ــيرتها ودخل الوط ـ ــنيون في‬
‫االنتخابات‪.‬‬
‫وانتخب هن ـ ــانو وس ـ ــعد اهلل الج ـ ــابري ألول مجلس تأسيس ـ ــي؛ كما انتخب هاشم‬
‫األتاسي رئيسـ ـاً له ــذا المجلس فش ــكر من انتخبه وتم ــنى من اهلل التوفيق لسن دس ــتور‬
‫البالد‪ ،‬ليضع األسس في بنيان اقتصادها وحريتها‪.‬‬
‫ولم يس ــتمر ه ــذا المجلس ط ــويالً‪ ،‬س ــرعان ما ألغ ــاه الفرنس ــيون‪ ،‬ألنه ال يخ ــدم‬
‫مصالحهم‪ ،‬فعــاد الوطــنيون إلى النضـال‪ ،‬وقـامت المظــاهرات واالحتجاجـات في كل‬
‫المدن وتحت قيادة الزعماء هنانو والجابري والقوتلي واألتاسي‪.‬‬
‫وصــعب على الفرنســيين هــذا الموقف الوطــني الثــائر ولم يكن منهم إال أن نفــوا‬
‫إلى جزيـرة أرواد كالً من سـعد اهلل الجـابري وهاشم األتاسي وجماعة غـير قليلة من‬
‫الوطنيين‪.‬‬
‫وبقوا مدة من الزمن فيها‪ ...‬والفرنسيون ال زالوا يســعون إلى الفوضى وخلق‬
‫ـردونا‬ ‫الفتن وش ــراء الض ــمائر وتف ــتيت األخ ــوة بين الش ــعب ك ــان س ــعد اهلل يق ــول‪" :‬ش ـ ّ‬
‫عزلونـ ـ ـ ــا‪ ...‬يريـ ـ ـ ــدون نشر الفتنة في غيابنا وإ ذا كـ ـ ـ ــانت الفوضـ ـ ـ ــوية عملية تفـ ـ ـ ــتيت‬
‫المعـ ـ ــايير في القيم والسـ ـ ــلوك البشـ ـ ــري فقد نجح الفرنس ـ ــيون إلى حد كبـ ـ ــير في هـ ـ ــذه‬
‫العملية التي أدت إلى الضعف وعدم التوازن في كل حركة"‪.‬‬
‫واشـ ــتدت سياسة المعارضـ ــة‪ ،‬وواكبت سياسة رئيس الجمعية التأسيسـ ــية هاشم‬
‫األتاسي لتوزيع مناشير أذيعت على الشعب‪ ،‬وكان آخرها عام ‪.1930‬‬

‫ـ ‪ 65‬ـ‬
‫‪:1930‬‬
‫في هــذا الع ــام ك ــثرت المناش ــير الــتي أذيعت وطلبت فيها (المعارض ــة) بسياسة‬
‫تشـ ـ ـ ـ ــبه سياسة العـ ـ ـ ـ ــراق الـ ـ ـ ـ ــتي حققت كثـ ـ ـ ـ ــيراً من مطاليبها الوطنية رغم السـ ـ ـ ـ ــلطة‬
‫اإلنكليزية‪ ،‬ولكن فرنسا لم تستجب بل زادت إمعاناً في سياستها االستعمارية‪.‬‬
‫ونشر المف ـ ــوض الس ـ ــامي الدس ـ ــتور ال ـ ــذي وض ـ ــعته الجمعية التأسيس ـ ــية بعد أن‬
‫أضـاف إليه مـادة اشـتهرت بالمـادة ‪ /116/‬وردت بعنـوان (أحكـام موقتـة) وبمـوجب‬
‫ه ـ ـ ـ ــذا النص‪ ،‬يمنع على مجلس الن ـ ـ ـ ــواب الس ـ ـ ـ ــوري أن يلغي أو يع ـ ـ ـ ــدل الق ـ ـ ـ ــرارات‬
‫واالتفاقـ ــات الدولية والمعاهـ ــدات المعقـ ــودة باسم سـ ــورية ولحسـ ــابها كما يحظر عليه‬
‫تعـ ــديل التشـ ــريعات الصـ ــادرة عن المفـ ــوض السـ ــامي أو إلغاءها بتـ ــاريخ سـ ــابق دون‬
‫الحصول على موافقته‪.‬‬
‫وب ـ ـ ــدأت نش ـ ـ ــاطات إنش ـ ـ ــائية مريبة لتقوية وجودها العس ـ ـ ــكري في المنطقة فقد‬
‫كررت إنشاء وبناء قواعد جديدة بحرية‪ ،‬وموانئ آمنة ألسطولها في البحر األبيض‬
‫المتوسط‪ ،‬طمعاً منها باستمرار استعمارها لسورية أطول مدة ممكنة‪.‬‬
‫وعـ ــادت من جديد إلى تقطيع أوصـ ــال سـ ــورية‪ ،‬وهو المبـ ــدأ الـ ــذي تسـ ــير عليه‬
‫إلض ــعاف الوح ــدة وتفريق ش ــمل األم ــة‪ ،‬وك ــانت تنتظر بعض ال ــوقت لدراسة ردود‬
‫أفعال الشعب تجاه التقسيم‪.‬‬
‫وس ـ ـ ــرعان ما أص ـ ـ ــدر المف ـ ـ ــوض الس ـ ـ ــامي (بونس ـ ـ ــو) ق ـ ـ ــراراً بت ـ ـ ــاريخ ‪25‬‬
‫أيـ ـ ـ ــار ‪ 1930‬أعلن فيه خمسة دسـ ـ ـ ــاتير لكل من سـ ـ ـ ــورية ولبنـ ـ ـ ــان وجبل الـ ـ ـ ــدروز‬
‫والعلــويين‪ ،‬ولــواء اســكندرون‪ .‬وكــان من إجــراءات المفــوض الســامي والشــيخ تــاج‬
‫تقييد حرية الصحافة والمطبوعات‪ ،‬وتعطيل بعض الجرائد‪ ،‬وعــزل أركــان القضــاء‬
‫النابهين‪ ،‬وسحب رئاسة الشـرطة من المــدن الســورية‪ ،‬من أيــدي الســوريين‪ ،‬وتعــيين‬
‫فرنسيين محلهم‪ ،‬وإ لغاء المجالس البلدية المنتخبة وتعيين أعضاء موالين للسلطة‪.‬‬
‫وبعد ف ــترة قص ــيرة ع ــزل (بونس ــو) الش ــيخ ت ــاج من سياسة الحكوم ــة‪ ،‬وأص ــدر‬
‫ق ـ ـ ـ ــراراً ح ـ ـ ـ ــدد فيه موع ـ ـ ـ ــداً إلج ـ ـ ـ ــراء االنتخاب ـ ـ ـ ــات العامة للمجلس الني ـ ـ ـ ــابي‪ ،‬وذلك‬
‫من ‪ 4‬كانون األول ‪ 1931‬وحتى ‪ 8‬كانون الثاني ‪.1932‬‬
‫وكــان ع ــزل الشــيخ تــاج ذريعة سياســية وقف وراءها بونســو‪ ،‬ليظهر في ل ــون‬
‫سياسي جديد‪ ،‬وليوهم الشعب أن نيته حسنة ويطمح إلى إصالح الوضع‪.‬‬
‫ثم عين مس ــيو (س ــولومياك) في ‪ 1‬كـ ــانون األول ‪ 1931‬من ــدوباً ممتـ ــازاً لـ ــدى‬
‫الحكومة السورية وعهد إليه بدرس القضية‪.‬‬

‫ـ ‪ 66‬ـ‬
‫تلك كـ ــانت سياسة المماطلة والتسـ ــويف وهـ ــدر الطاقـ ــات الوطنية الـ ــتي تبتـ ــدئ‬
‫بمعرفة جديـ ــدة لكل مسـ ــؤول اسـ ــتعماري والتعـ ـ ّـرف على سياسـ ــته الحقيقيـ ــة؛ ولـ ــذلك‬
‫كانت السلطة تغير وجوه موظفيها فقـط؛ ولكن المبـدأ االسـتعماري واحد وثـابت؛ إنه‬
‫إذالل الشعب وقهره ليستسلم إلرادته دون قيد أو شرط‪.‬‬
‫وجد الوطـ ــنيون أن البالد تواجه تحـ ــدياً وصـ ــراعاً جديـ ــداً يتطلب تعبئة الشـ ــعب‬
‫ك ـ ـ ــامالً والبد من تنظيمه تحت قي ـ ـ ــادة وطنية قويـ ـ ــة؛ وهنا نشـ ـ ــطت الكتلة الوطني ـ ـ ــة‪،‬‬
‫وأدركت حاجتها إلى صحيفة يومية تنطق بلسانها وتفتح آفاق الــوعي السياسي لــدى‬
‫شعبها‪.‬‬
‫وبعد جهود جبارة حصــلت على تــرخيص بإصــدار جريــدة يومية باسم (األيـام)‬
‫كما حصـ ـ ـ ــلت في الـ ـ ـ ــوقت نفسه على تـ ـ ـ ــرخيص آخر باسم جريـ ـ ـ ــدة (اليـ ـ ـ ــوم)‪ ،‬ومنح‬
‫االمتياز إلى كل من هاشم األتاسـي‪ ،‬إبـراهيم هنـانو‪ ،‬سـعد اهلل الجـابري‪ ،‬جميل مـردم‬
‫بك‪ ،‬لطفي الحفار‪ ،‬فخري البارودي‪.‬‬
‫‪:1931‬‬
‫وفي ‪ 10‬أي ـ ــار ‪ 1931‬ص ـ ــدر الع ـ ــدد األول من جري ـ ــدة األي ـ ــام‪ ،‬وك ـ ــان موقف‬
‫السلطة الحاكمة الفرنسية مشوباً بالحذر والتربص؛ بدت األيــام صــحيفة قوية الحجة‬
‫رافعة الصــوت‪ .‬حــتى أن مســيو (روبــيردوكي) منــدوب فرنسا في عصــبة األمم في‬
‫جـ ـ ـ ــنيف ذكر في تقريـ ـ ـ ــره عن الصـ ـ ـ ــحافة السـ ـ ـ ــورية في عهد االحتالل الفرنسي "إن‬
‫صــحيفة األيــام كــانت بال شــك‪ ،‬أقــوى الصــحف في ســورية رغم معارضــتها لفرنســا!‬
‫وقد عطلتها السـلطات الفرنسـية في تمـوز ‪ 1931‬إلى أجل غـير مسـمى بسـبب مقـال‬
‫هـ ـ ــاجمت فيه السياسة الفرنسـ ـ ــية الـ ـ ــتي ينتهجها الحـ ـ ــاكم السـ ـ ــوري الممـ ـ ــالئ للسياسة‬
‫الفرنس ــية‪" .‬وفي ‪ 6‬حزي ــران ذهب بونسو إلى فرنسا بعد أن وضع برنامجـ ـاً خاصـ ـاً‬
‫ليطبق في غيابه وزادت السياسة عنفـاً وقهـراً عنـدما رفعت نسـبة الضـرائب في هـذا‬
‫ـج الشـ ــعب كثـ ــيراً وبعد ذهـ ــاب‬‫العـ ــام‪ ،‬وزاد القهر واإلذالل إلى حد اإلسـ ــراف‪ ،‬فضـ ـ ّ‬
‫وإ يـ ــاب مسـ ــيو بونسو من فرنسا عـ ــدة مـ ــرات حضر بونسو إلى حلب في ‪ 8‬شـ ــباط‪،‬‬
‫وقابل األنصار وموظفي االنتداب؛ ودرس الموقف درساً دقيقاً وعاد إلى دمشق‪.‬‬
‫ثم أص ـ ــدر المف ـ ــوض الس ـ ــامي ثالثة ق ـ ــرارات في ‪ 20‬تش ـ ــرين الث ـ ــاني ‪:1931‬‬
‫القرارات الثالثة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ يتعلق الق ــرار األول ب ــالمجلس االستش ــاري‪ ،‬وقد عين أعض ــاؤه بق ــرار من‬
‫المسيو بونسو وهم‪:‬‬
‫‪ ‬جميل األلشي رئيس الحكومة المؤقتة سنة ‪.1920‬‬
‫ـ ‪ 67‬ـ‬
‫‪ ‬حقي العظم حاكم دولة دمشق سنة ‪.1920‬‬
‫‪ ‬مصطفى برمدا حاكم دولة حلب سنة ‪.1923‬‬
‫‪ ‬ص ـ ـ ــبحي برك ـ ـ ــات رئيس اتح ـ ـ ــاد دول س ـ ـ ــورية س ـ ـ ــنة ‪ 1923‬ورئيس دولة‬
‫سورية سنة ‪ 1926‬لمدة قصيرة‪.‬‬
‫‪ ‬الداماد أحمد نامي رئيس دولة سورية ‪.1926‬‬
‫‪ ‬الشيخ تاج الدين الحسيني رئيس الوزارة السورية سنة ‪.1928‬‬
‫‪ ‬رضا بك سعيد رئيس جامعة دمشق‪.‬‬
‫‪ ‬إبراهيم مؤمن رئيس مجلس سنجق‪.‬‬
‫‪ ‬سليم جنبرت رئيس غرفة تجارة حلب‪.‬‬
‫‪ ‬عارف الحلبوني رئيس غرفة تجارة دمشق‪.‬‬
‫‪ ‬هاشم األتاسي رئيس الكتلة الوطنية ورئيس الجمعية التأسيسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــية سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــنة‬
‫‪ 1928‬ورئيس الحكومة العربية أيام الفيصل سنة ‪.1919‬‬
‫‪ 2‬ـ يتعلق القــرار الثــاني بتنظيم مصــالح الحكومة الســورية تنظيم ـاً جديــداً إلى أن‬
‫ينفذ دستور سورية الجديد‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ يتعلق القرار الثالث باالنتخابات وتعين موعــدها في ‪ 9‬كــانون األول ‪.1931‬‬
‫وتستمر حتى نهاية ‪ 8‬كانون الثاني ‪ ،1932‬كما أشرنا‪.‬‬
‫وطلب أن تتهيأ األمة لهـ ـ ــذا الن ـ ـ ــداء‪ ،‬وقد طلبت المفوض ـ ـ ــية أن تلصق جـ ـ ــداول‬
‫االنتخابـ ـ ــات على جـ ـ ــدران المـ ـ ــدن‪ .‬وجـ ـ ــرت االنتخابـ ـ ــات في جو مكفهـ ـ ــر‪ ،‬فـ ـ ــالجنود‬
‫السنغاليون كانوا مزروعين في كل مكان‪ ،‬والســيما في ســاحة االنتخابــات وعلى أتم‬
‫اسـ ــتعداد ويـ ــدهم على الزنـ ــاد‪ ،‬أي أن االنتخابـ ــات جـ ــرت بقـ ــوة السـ ــالح وكم األفـ ــواه‬
‫وتقييد الصـ ـ ــحافة ومنع االجتماعـ ـ ــات وملء السـ ـ ــجون باألبريـ ـ ــاء ومن جهة أخـ ـ ــرى‬
‫جرت االنتخابات ببذل المال والتزوير ومخالفة القانون‪.‬‬
‫ك ــانت المنافسة ش ــديدة بين ق ــوائم الكتلة الوطنية والق ــوائم ال ــتي ش ــكلت بمعرفة‬
‫ضـ ــباط المصـ ــالح الخاصة والـ ــتي ضـ ــمت من كـ ــانوا يسـ ــمون بالمعتـ ــدلين أو أنصـ ــار‬
‫التفـ ـ ــاهم‪ .‬وزورت االنتخابـ ـ ــات ووقعت حـ ـ ــوادث دامية بين الشـ ـ ــعب وقـ ـ ــوات األمن‬
‫الفرنسـ ـ ـ ــية وسـ ـ ـ ــقط ‪ 7‬قتلى وأربعـ ـ ـ ــون جريح ـ ـ ـ ـاً؛ واضـ ـ ـ ــطرت السـ ـ ـ ــلطة إلى توقيف‬
‫االنتخابــات في دمشق فقــط؛ وكــان أن فــازت بعد فــترة قائمة صــبحي بركــات‪ ،‬وكــان‬
‫ذلك متوقعـاً ولم ينجح في حلب (إبــراهيم هنــانو زعيم الشــعب بال منــازع) ولم ينجح‬

‫ـ ‪ 68‬ـ‬
‫ســعد اهلل الجــابري (ذو المواقف الوطنية المشــهورة) وهــذا يــدل على معــنى التالعب‬
‫في كل العمليات االنتخابية‪.‬‬
‫قررت الكتلة الوطنية مقاطعة المجلس النيابي احتجاجـاً على الــتزوير وتزييف‬
‫إرادة الناخبين وهذا ما حمل السلطة على تأجيل الجلسة األولى للمجلس‪.‬‬
‫وبعد ح ـ ــوالي س ـ ــتة أش ـ ــهر ج ـ ــرت انتخاب ـ ــات في دمشق ونجح فيها الوط ـ ــنيون‬
‫وف ــازت الكتلة الوطنية ‪ 17‬نائبـ ـاً من ن ــواب دمشق وحمص وحم ــاه‪ .‬ومن أص ــحاب‬
‫العلم والثقافة‪.‬‬
‫في هــذا الــوقت بالــذات دعا مفــتي فلســطين األكــبر إلى عقد مــؤتمر إســالمي في‬
‫القدس‪ ،‬غايته استنهاض العالم العربي وبعث العالم اإلسالمي؛ـ إلنقاذ فلســطين وقتئذ‬
‫من وعد (بلفور) ويتبع ذلك إضراب عام في البالد العربية قاطبة‪.‬‬
‫واجتمع رجــال القضــية العربية ووضــعوا (الميثــاق القــومي العــربي) وأقســموا‬
‫جميعاً على احترامه‪.‬‬
‫ه ــذا ما ك ــان في ال ــداخل‪ ...‬أما خ ــارج ح ــدود البالد العربية فقد ك ــانت السياسة‬
‫االس ــتعمارية تت ــابع لعبتها في تع ــيين ح ــدود س ــورية؛ وقد ج ــرى تع ــيين ح ــدودها مع‬
‫شرق األردن بموجب بروتوكول مــؤرخ في ‪ 31‬تشــرين األول ‪ ،1931‬وموقع من‬
‫قبل المفــوض الســامي البريطــاني الســيد همفــري‪ ،‬والمفــوض الســامي الفرنسي الســيد‬
‫بونس ـ ــو‪ ،‬وقد ص ـ ــدق عليه في ‪ 30‬ك ـ ــانون الث ـ ــاني من ع ـ ــام ‪ 1932‬ومن قبل جمعية‬
‫األمم‪.‬‬

‫‪:1932‬‬
‫ولم يكد يحل عـ ــام ‪ 1932‬حـ ــتى دعا المفـ ــوض السـ ــامي السـ ــيد بونسو بتـ ــاريخ‬
‫‪ 6‬و‪ 7‬المجلس النيــابي إلى انتخــاب رئيس الجمهوريــة‪ ،‬وطرحــوا مشــروع معاهــدة‬
‫تكــريس االحتالل‪ .‬فرفضــها الوطــنيون وألقى ســعد اهلل الجــابري خطاب ـاً في الجــامع‬
‫حث فيه الناس على رفض المعاهدة‪.‬‬ ‫األموي َّ‬
‫وج ـ ــاءت س ـ ــلطة (النكاي ـ ــة) وهي سياسة بونسو في س ـ ــورية‪ ،‬وأم ـ ــرت في أول‬
‫أيلــول بــالقبض على جميل إبــراهيم باشــا‪ ،‬وعلى أخيه الشــيخ الوقــور الــدكتور حسن‬
‫فؤاد إبراهيم باشا‪ ،‬وعلى المحامي راشد مرعشي‪ ،‬وتحرت بيوتهم‪.‬‬
‫واعتقل ســعد اهلل الجــابري‪ ،‬بعد أن حوصــرت داره قبل الشــمس بقــوة هائلة من‬
‫الـدرك والشـرطة ومعهم رجـال التحـري؛ ولكنهم لم يجـدوا شـيئاً؛ كما اعتقل أقربــاؤه‬
‫شكيب الجابري وشكري الجابري بتهمة التحريض على سالمة الدولة‪.‬‬

‫ـ ‪ 69‬ـ‬
‫ثم سجنت الشرطة ‪ 14‬شخصاً وحــاكمتهم بتهمة التحــريض أيضـاً على ســالمة‬
‫الدول ــة‪ .‬وفي دمشق اعتقل زعم ــاء كث ــيرون‪ ،‬واهتــاج الش ــعب وهبت البالد‪ ،‬وق ــامت‬
‫بمظاهرات رداً على ذلك واستعملت القذائف اليدوية على المخافر ودور الفرنسيين‬
‫والمتعاونين معهم‪.‬‬
‫أف ــرج بعد م ــدة عن س ــعد اهلل الج ــابري‪ ،‬فخ ــرج وهو أشد عزم ـاً ومض ــاء‪ ،‬وفي‬
‫حزيـ ـ ـ ــران ‪ 1932‬وصل بونسو إلى دمشق ونـ ـ ـ ــزل في قصر المفوضـ ـ ـ ــية إلجـ ـ ـ ــراء‬
‫االنتخابـ ـ ـ ــات‪ ،‬وإ خـ ـ ـ ــراج مجلس تمـ ـ ـ ــثيلي يالئم مقاصد فرنسـ ـ ـ ــا‪ .‬وأعلن قـ ـ ـ ــرار (قمع‬
‫الج ــرائم) المس ــمى ق ــرار رقم (‪ .)4‬وأراد بونسو ت ــأليف ال ــوزارة الجدي ــدة لتم ــارس‬
‫الحكم النيـ ــابي في ظل المـ ــادة ‪ /116/‬الـ ــتي تلغي كل سـ ــلطة محلية وتـ ــترك المجـ ــال‬
‫للسلطة العليا (فرنسا)‪.‬‬
‫ولما حـ ــان الـ ــوقت المحـ ــدد لالنتخابـ ــات اصـ ــطف الجنـ ــود بسـ ــالحهم ودبابـ ــاتهم‬
‫وأح ــاطوا ببناية المجلس الني ــابي ومنع ــوا الم ــرور ونص ــبت الرشاش ــات على مف ــترق‬
‫الطـ ـ ــرق‪ .‬ورتب كل من الشـ ـ ــرطة والـ ـ ــدرك ورجـ ـ ــال التحـ ـ ــري في جميع األمـ ـ ــاكن‬
‫والممرات المؤدية إلى ساحة المرجة وإ لى قصر المجلس‪.‬‬
‫وفي ‪ 2‬حزي ــران ‪1932‬؛ وكـ ــان اليـ ــوم المقـ ــرر لالجتمـ ــاع أراد الوطـ ــنيون أن‬
‫يجتمعوا للتشاور والتذاكر في دخول المجلس أو مقاطعته‪ ،‬بعد علمهم بما خطط‪.‬‬
‫وقر رأيهم على دخول المجلس وخوض المعركة ومواجهة الموقف‪.‬‬
‫توافد النـ ــواب وافتتحت الجلسـ ــة‪ ،‬وكـ ــانت القاعة محاطة بالجواسـ ــيس ورجـ ــال‬
‫األمن‪ ،‬كما كانت محاطة من الخارج بالجنود والدبابات والرشاشات‪.‬‬
‫انتخب السيد صبحي بركــات رئيسـاً للمجلس‪ ،‬وتم انتخـاب نـائب الــرئيس وبقية‬
‫موظفي المكتب‪ ،‬على أن تعقد الجلسة في اليوم الثاني النتخاب رئيس الجمهورية‪.‬‬
‫وقبل الوط ــنيون رئاسة محمد علي العاب ــد‪ ،‬ن ــزوالً عند الظ ــروف الش ــديدة ال ــتي‬
‫تمر بها البالد‪.‬‬
‫في ص ـ ــباح ‪ 9‬حزي ـ ــران ‪ ،1932‬وفي تم ـ ــام الس ـ ــاعة الثامن ـ ــة‪ ،‬فتحت أب ـ ــواب‬
‫المجلس‪ ،‬وتوافد النـواب واحتلـوا مقاعـدهم‪ ...‬وبعد قـراءة ضـبط الجلسة وقف نـائب‬
‫حم ــاه ال ــدكتور توفيق الشيش ــكلي‪ ،‬وف ــاه بخط ــاب طويل تع ــرض فيه إلى الظلم ال ــذي‬
‫لحق بشباب حلب وقال‪" :‬ليت النائب العام الوطني يعلم كيف عذب شباب حلب أيام‬
‫االنتخابــات‪ ،‬وكيف كــانت حالة الموقــوفين في الســجن والمتهمين بالوطنيــة‪ ،‬والــذين‬
‫نــالوا أنــواع العــذاب الخــاص بــالقرون الوســطى"‪ ،‬ولعله يتــذكر قــول الوجيه الــدرزي‬
‫الذي قال‪" :‬نحن مستقلون ولكن يحكمنا شرطي"‪.‬‬

‫ـ ‪ 70‬ـ‬
‫ثم دعا المف ــوض الســامي إلى تــأليف وزارة جديــدة (وزارة النكايــة) من‪ :‬حقي‬
‫العظم‪ ،‬شــاكر شــعباني‪ ،‬ســليمان جوخــدار‪ ،‬والحــاج محمد أضه لي‪ ،‬ولطيف غنيمــة‪.‬‬
‫وكـ ــان وراء تعـ ــيين اثـ ــنين من الكتلة الوطنية السـ ــيد جميل مـ ــردم بك والسـ ــيد مظهر‬
‫رسالن في وزارة حقي العظم إلتمام المفاوضات؛ ولكنهما استقاال بناء على ضــغط‬
‫الكتلة الوطنية‪.‬‬
‫وهك ــذا س ــقط الوط ــنيون في االنتخاب ــات ‪ 1932‬نتيجة ال ــتزوير لمنع الوطن ــيين‬
‫من النجــاح؛ ولم يفز إبــراهيم هنــانو وال ســعد اهلل الجــابري وإ خوانهما وفــاز صــبحي‬
‫بركات والشعباني وأمثالهما وكل هذا كان نتيجة التهديد واالضطهاد والتزوير‪.‬‬
‫بعد ه ــذه المعانـ ــاة القاس ــية والتح ــدي الس ــافر من قبل الس ــلطة الحاكمة ومن في‬
‫ذيولهــا‪ُ ،‬دعي جماعة الوطنــيين إلى وضع ميثــاق الكتلة الوطنية ونظامها األساســي‪،‬‬
‫ولما ك ــان له ــذا الميث ــاق دوره الوط ــني ورس ــالته المش ــرفة؛ فقد اقتضى ذلك أن نن ــوه‬
‫بأهم مضامينه‪.‬‬
‫ميثاق الكتلة الوطنية‪:‬ـ‬
‫ك ــان االجتم ــاع في حمص في ‪ 4‬تش ــرين الث ــاني‪ ،‬على ش ــكل م ــؤتمر‪ ...‬وبه ــذا‬
‫االجتماع تم إعطاء الصورة الرسمية للكتلة الوطنية‪.‬‬

‫المبادئ العامة‪:‬‬
‫المادة ‪ 1‬ـ الكتلة الوطنية هيئة سياسية غايتها‪:‬‬
‫‪ ‬تحرير البالد الس ـ ـ ـ ـ ــورية المنفص ـ ـ ـ ـ ــلة عن الدولة العثمانية من كل س ـ ـ ـ ـ ــلطة‬
‫أجنبيــة‪ ،‬وإ يصــالها إلى االســتقالل التــام والســيادة الكاملــة‪ ،‬وجمع أراضــيها‬
‫المجـ ـ ـ ـ ــزأة في دولة ذات حكومة واحـ ـ ـ ـ ــدة‪ ،‬على أن يبقى للبنـ ـ ـ ـ ــان الحق في‬
‫تقرير مصيره ضمن حدوده القديمة‪.‬‬
‫‪ ‬ت ـ ــأليف المس ـ ــاعي مع العمل الق ـ ــائم في األقط ـ ــار العربية األخ ـ ــرى لت ـ ــأمين‬
‫االتحـ ــاد بين هـ ــذه األقطـ ــار على أال يتح ـ ــول هـ ــذا المسـ ــعى دون األهـ ــداف‬
‫الواجب بلوغها في كل قطر‪.‬‬
‫‪ ‬ت ــأمين الحرية والمس ــاواة في الحق ــوق والواجب ــات بين أف ــراد الش ــعب كافة‬
‫على اختالف طوائف ـ ـ ــه؛ ورفع مس ـ ـ ــتوى الحي ـ ـ ــاة االجتماعية واالقتص ـ ـ ــادية‬
‫ونشر الثقافة وبث األخالق القومية بين جميع الطبقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات مع إنمائها‬
‫وتغذيتها‪.‬‬

‫ـ ‪ 71‬ـ‬
‫المادة ‪ 2‬ـ ـ تعتــبر الكتلة الوطنية أن األمة جمعــاء بكل ما لــديها من قــوة معنوية‬
‫ومادية وقف على هذا الجهاد الوطني حتى تبلغ أهدافها‪.‬‬
‫الم ادة ‪ 3‬ـ ـ ـ من ال ـ ــواجب جمع ق ـ ــوى األم ـ ــة‪ ،‬وتوجيه جهودها لتحقيق اآلم ـ ــال‬
‫الوطنية ولـ ـ ــذلك تعتـ ـ ــبر الكتلة الوطنية تـ ـ ــأليف األحـ ـ ــزاب السياسـ ـ ــية مخالف ـ ـ ـاً لوحـ ـ ــدة‬
‫الجهود‪.‬‬
‫المادة ‪ 4‬ـ ال يجــوز مس وال تعــديل هـذه المبــادئ‪ ،‬باعتبارها جوهرية في حيــاة‬
‫األمة وكي ـ ــان الكتلة الوطني ـ ــة‪ ،‬وكل مخالفة لها تس ـ ــقط ص ـ ــاحبها من حق االنتس ـ ــاب‬
‫إليها‪.‬‬

‫التشكيالت‪:‬‬
‫المادة ‪ 5‬ـ تقوم األوضاع السياسية على ثالث هيئات‪:‬‬
‫ـ المكتب الدائم‪.‬‬
‫ـ مجلس الكتلة الوطنية‪.‬‬
‫ـ المؤتمر العام‪.‬‬
‫المكتب الدائم‪:‬‬
‫الم ادة ‪ 6‬ـ ـ ـ يتـ ــألف مكتب الكتلة من سـ ــبعة أعضـ ــاء‪ ،‬ينتخبهم مجلس الكتلة من‬
‫بين أعضائه لمدى الحياة؛ وقد تألف هذا المكتب من السادة‪:‬‬
‫هاشم أتاسي‪ :‬رئيساً‪.‬‬
‫إبراهيم هنانو‪ :‬زعيماً‪.‬‬
‫سعد اهلل الجابري‪ :‬نائباً للرئيس‪.‬‬
‫وشكري القوتلي‪ ،‬فارس الخوري‪ ،‬جميل مردم‪ ،‬عبد الرحمن كيالي‪ :‬أعضاء‪.‬‬
‫وبعد وفاة إبراهيم هنانو انتخب لطفي الحفار عضواً مكانه‪.‬‬
‫أعمال المكتب الدائم‪:‬‬
‫الم ادة ‪ 7‬ـ ـ ـ يشـ ــرف المكتب الـ ــدائم على مجـ ــرى السياسة العامـ ــة‪ ،‬ويمارسـ ــها‬
‫مباشـ ـ ــرة‪ ،‬ويـ ـ ــؤمن الصـ ـ ــالت الدائمة في الـ ـ ــداخل والخـ ـ ــارج‪ ،‬ويسـ ـ ــهر على تطـ ـ ــبيق‬
‫المبـ ـ ـ ــادئ‪ ،‬وينفذ مقـ ـ ـ ــررات المجلس والمـ ـ ـ ــؤتمر العـ ـ ـ ــام‪ ،‬ويصـ ـ ـ ــدر البيانـ ـ ـ ــات ويقبل‬
‫الشــكايات‪ ،‬ويفصل في االختالفــات كافــة؛ ويــدعو مجلس الكتلة لالجتماعــات العادية‬
‫واالس ــتثنائية‪ ،‬وي ــراقب س ــيرة األعض ــاء وتط ــبيق النظ ــام وأعم ــال اللج ــان الرئيس ــية‬

‫ـ ‪ 72‬ـ‬
‫والفرعية ويقبل التبرعـ ـ ــات ويعين وجهة صـ ـ ــرفها على أن يوضع ذلك في تقريـ ـ ــره‬
‫العام لمجلس الكتلة الوطنية‪.‬‬
‫الم ادة ‪ 8‬ـ ـ ـ ـ ـ رئيس المكتب الـ ـ ـ ــدائم هو رئيس الكتلة الوطنيـ ـ ـ ــة‪ ،‬وهو يـ ـ ـ ــرأس‬
‫اجتماع ـ ــات المكتب والمجلس والم ـ ــؤتمر‪ ،‬وعند تس ـ ــاوي األص ـ ــوات يك ـ ــون ص ـ ــوته‬
‫المرجح‪.‬‬
‫المادة ‪ 9‬ـ إذا انقطع أحد أعضاء المكتب الدائم عن عمله بدون معذرة شــرعية‬
‫مقبولة من المكتب مـ ـ ــدة ‪ 3‬أشـ ـ ــهر‪ ،‬عد مسـ ـ ــتقيالً من المكتب ويـ ـ ــدعى مجلس الكتلة‬
‫الوطنية النتخــاب من يحل مكانــه؛ وأما إذا كــان عــذره مقبــوالً أو كلف بمهمة أخــرى‬
‫من قبل المكتب؛ ينت ـ ــدب من أعض ـ ــاء المجلس وكيالً عن ـ ــه‪ ،‬إلى حين عودته وزوال‬
‫المعذرة أو انتهاء المهمة‪.‬‬
‫الم ادة ‪ 10‬ـ ـ ـ ـ إذا خال مركز في المكتب ال ـ ـ ــدائم لس ـ ـ ــبب من األس ـ ـ ــباب ينتخب‬
‫المجلس من بين أعضائه عوضـاً عنـه‪ ،‬ويكــون االنتخـاب باألكثرية المطلقـة‪ ،‬ويجب‬
‫أن يتم انتخاب العضو في خالل شهرين على األقل‪.‬‬

‫مجلس الكتلة الوطنية‪:‬‬


‫المادة ‪ 11‬ـ ـ يتــألف مجلس الكتلة الوطنية من األشــخاص المــوقعين أيــام إقــرار‬
‫النظام وهم‪:‬‬

‫‪ 20‬ـ عبد الوهاب ميسر‬ ‫‪ 1‬ـ هاشم األتاسي‪.‬‬


‫‪ 21‬ـ نوري فتيح‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ إبراهيم هنانو‪.‬‬
‫‪ 22‬ـ نعيم أنطاكي‪.‬ـ‬ ‫‪ 3‬ـ سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫‪ 23‬ـ إدمون رباط‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ عبد الرحمن كيالي‪.‬‬
‫‪ 24‬ـ جميل مردم بك‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ لطفي الحفار‪.‬‬
‫‪ 25‬ـ توفيق الشيشكلي‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ شكري القوتلي‪.‬‬
‫‪ 26‬ـ نجيب البرازي‪.‬‬ ‫‪ 7‬ـ نسيب البكري‪.‬‬
‫‪ 27‬ـ نجيب الباقي‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ الشيخ عبد القادر سرميني‪.‬‬
‫‪ 28‬ـ أحمد منير وفائي‪.‬‬ ‫‪ 9‬ـ فارس الخوري‪.‬‬
‫‪ 29‬ـ ميخائيل ليان‪.‬‬ ‫‪ 10‬ـ إحسان الشريف‪.‬‬
‫‪ 30‬ـ أحمد خليل مدرس‪.‬‬ ‫‪ 11‬ـ أحمد اللحام‪.‬‬

‫ـ ‪ 73‬ـ‬
‫‪ 31‬ـ نجيب الريس‪.‬‬ ‫‪ 12‬ـ محمد إسماعيل‪.‬‬
‫‪ 32‬ـ فخري البارودي‪.‬‬ ‫‪ 13‬ـ عفيف الصلح‪.‬‬
‫‪ 33‬ـ حسن فؤاد إبراهيم باشا‪.‬‬ ‫‪ 14‬ـ ناظم القدسي‪.‬‬
‫‪ 34‬ـ جميل إبراهيم باشا‪.‬‬ ‫‪ 15‬ـ رشدي الكيخيا‪.‬‬
‫‪ 35‬ـ عبد القادر شريتح‪.‬‬ ‫‪ 16‬ـ سعد الدين الجابري‪.‬‬
‫‪ 36‬ـ سليمان المعصراني‪.‬‬ ‫‪ 17‬ـ فائز الخوري‪.‬‬
‫‪ 37‬ـ عبد الواحد هارون‪.‬‬ ‫‪ 18‬ـ مظهر رسالن‪.‬‬
‫‪ 38‬ـ مجد الدين أزهري‪.‬‬ ‫‪ 19‬ـ إسماعيل كنخدا‪.‬‬

‫وك ــان على جميع أعض ــاء الكتلة الوطنية أن يقس ــموا اليمين اآلتي ــة‪" :‬أقسم باهلل‬
‫العظيم على المحافظة على مب ـ ـ ـ ــادئ الكتلة الوطني ـ ـ ـ ــة‪ ،‬وعلى توطيد التض ـ ـ ـ ــامن بين‬
‫أعضائها‪ ،‬والتضــحية في ســبيل المبـادئ وإ طاعة النظم والمقــررات الصـادرة عنهــا‪،‬‬
‫والحرص على كيان الكتلة وعلى األخالق القومية"‪.‬‬
‫الم ادة ‪ 12‬ـ ـ ـ ـ ـ يشـ ـ ـ ــترك المكتب الـ ـ ـ ــدائم مع المجلس في وضع الخطط العامة‬
‫ويص ـ ـ ــادق على الموازنة ويفصل في جميع القضـ ـ ــايا الـ ـ ــتي يعرضـ ـ ــها عليه المكتب‬
‫ويؤازره في جميع أعماله‪.‬‬
‫المادة ‪ 13‬ـ يجتمع المجلس في دمشق مــرتين في الســنة إحــداهما في أول آذار‬
‫والثانية في أول تش ــرين األول؛ إال إذا ق ــرر المكتب عقد االجتم ــاع في مك ــان آخ ــر‪،‬‬
‫وللمكتب في الظـ ــروف االسـ ــتثنائية أن يـ ــدعو المجلس الجتمـ ــاع طـ ــارئ يعين مكانه‬
‫وزمان ـ ـ ـ ــه؛ وينتخب المجلس من بين أعض ـ ـ ـ ــائه كل دورة يعق ـ ـ ـ ــدها‪ ،‬كاتبـ ـ ـ ـ ـاً لوق ـ ـ ـ ــائع‬
‫الجلسات‪ ،‬تنتهي مدته بانتهاء الدورة‪.‬‬
‫الم ادة ‪ 14‬ـ ـ ـ إذا خال مركز في مجلس الكتلة الوطني ـ ــة‪ ،‬يرشح المكتب ال ـ ــدائم‬
‫ثالثة أسماء عن كل عضو‪ ،‬ويقترع المؤتمر على أحدهم باألكثرية المطلقة؛ ويجب‬
‫أن يتم االقتراع أثناء انعقاد المؤتمر‪.‬‬
‫المؤتمر العام‪:‬‬
‫المادة ‪ 15‬ـ يتـألف أعضــاء المــؤتمر العــام من أعضــاء المكتب الـدائم وأعضــاء‬
‫اللجان‪ ،‬ومندوبي اللجان الرئيسية والفرعية‪.‬‬

‫ـ ‪ 74‬ـ‬
‫الم ادة ‪ 16‬ـ ـ ـ ـ تنت ـ ـ ــدب كل لجنة رئيس ـ ـ ــية أو فرعية من ـ ـ ــدوباً واح ـ ـ ــداً يمثلها في‬
‫المؤتمر العام‪.‬‬
‫الم ادة ‪ 17‬ـ ـ ـ يبحث المـ ــؤتمر العـ ــام في القضـ ــايا الـ ــتي يعرضـ ــها عليه المكتب‬
‫ال ـ ــدائم؛ وين ـ ــاقش األعم ـ ــال ال ـ ــتي تط ـ ــرح عليه بقصد تط ـ ــبيق مب ـ ــادئ الكتلة الوطنية‬
‫ونظامها العام‪ ،‬وإ نعاش الفكرة الوطنية في البالد وإ ظهار قوة األمة المتحدة‪.‬‬
‫الم ادة ‪ 18‬ـ ـ إذا أراد أحد الم ــؤتمرين أم ــوراً خارجة عن نط ــاق القض ــايا ال ــتي‬
‫يهيئها المكتب الـ ــدائم فعليه أن يعلم المكتب بـ ــذلك وينـ ــال موافقته على عرضـ ــه‪ ،‬قبل‬
‫انعقاد المؤتمر بخمسة عشر يوماً‪.‬‬
‫الم ادة ‪ 19‬ـ ـ ـ يجتمع المـ ــؤتمر العـ ــام بـ ــدعوة من المكتب الـ ــدائم‪ ،‬والمكتب يعين‬
‫مكان االجتماع وزمانه‪.‬‬
‫الم ادة ‪ 20‬ـ ـ ـ تؤلف الكتلة الوطنية لجانـ ـ ـاً رئيس ـ ــية وفرعية في جميع األم ـ ــاكن‬
‫ال ــتي ت ــرى لزومـ ـاً لها ويعين المكتب ال ــدائم بتعليم ــات خاصة بكل مركز من مراكز‬
‫اللجان الرئيسية‪ ،‬وما يتبع كل مركز من لجان فرعية(‪.)1‬‬
‫وتعاطف األكثرية الساحقة من الشعب السوري مع مبادئ الكتلة الوطنية الــتي‬
‫مارست عملها السياسي‪ ،‬منذ عام ‪ 1926‬وحتى عام ‪.1936‬‬
‫والكتلة الوطنية في الواقع هي حركة تحريري ـ ــة‪ ،‬ولم تكن حزبـ ـ ـاً سياس ـ ــياً‪ ،‬وال‬
‫مجموعة من رجـ ـ ـ ــال المقاومـ ـ ـ ــة‪ ،‬وإ نما هي مجـ ـ ـ ــرد تكتل لمجموعة من الزعمـ ـ ـ ــاء‪،‬‬
‫جميعهم من الرعيل األول من رواد القضية العربية‪ .‬وقد اتفقوا فيما بينهم على حل‬
‫األح ـ ــزاب ال ـ ــتي ينتم ـ ــون إليه ـ ــا‪ ،‬وتوحيد نض ـ ــالهم من أجل الوص ـ ــول بس ـ ــورية إلى‬
‫االس ــتقالل الت ــام مع المث ــابرة على ع ــدم االع ــتراف باالنت ــداب‪ .‬انعقد مجلس الن ــواب‬
‫يوم ‪ 6‬تشرين األول ‪ 1932‬ودخله النواب الوطنيون باستثناء هاشم األتاسي‪.‬‬
‫وك ــان أول بي ــان أذاعته الكتلة الوطنية على الش ــعب الس ــوري الك ــريم هو ال ــرد‬
‫على بيــان ألقــاه المفــوض الســامي أمــام لجنة االنتــداب في جــنيف في ‪ 1‬كــانون األول‬
‫‪ 1932‬وأذاعت الكتلة في هذا البيان تمسـكها بحق البالد القـائم على أسـاس الوحـدة‪،‬‬
‫ضمن سياسة قومية واحدة‪.‬‬

‫‪:1933‬‬
‫شهد هذا العــام صــوراً كثــيرة من المآسي الــتي مــرت بها ســورية‪ ،‬مما اســتدعى‬
‫أن تمتد جلسات مجلس النــواب إلى دورات اســتثنائية‪ ،‬وانصــرفت إلى دراسة البيــان‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫نكتفي بذكر أهم المواد المندرجة ـ ألن عدد المواد يربو عن ‪ 45‬مادة‪.‬‬

‫ـ ‪ 75‬ـ‬
‫ال ــذي ألق ــاه المف ــوض الس ــامي أم ــام لجنة االنت ــداب؛ ولكن مجلس الن ــواب لم يجد فيه‬
‫جديداً‪.‬‬
‫وعقد اجتمـ ـ ـ ــاع خـ ـ ـ ــاص في حلب‪ ،‬ورد فيه سـ ـ ـ ــعد اهلل الجـ ـ ـ ــابري على البيـ ـ ـ ــان‬
‫المذكور‪.‬‬
‫وق ــال‪" :‬إن الكتلة الوطنية تعلن للش ــعب الك ــريم في ال ــداخل والس ــاحل‪ ،‬تمس ــكها بحق‬
‫البالد القـ ـ ــائم على أسـ ـ ــاس الوحـ ـ ــدة ضـ ـ ــمن سـ ـ ــيادة قومية واحـ ـ ــدة‪ ،‬وإ ن كل معاهـ ـ ــدة‬
‫أو مفاوضة تعقد مع فرنسا غير قائمة على هذه األسس ال تكون جديرة بالقبول"‪.‬‬
‫وق ـ ــرر الوط ـ ــنيون في حلب في م ـ ــؤتمر‪ 7‬ش ـ ــباط ‪ 1933‬أال يش ـ ــتركوا في أية‬
‫مفاوضة غــير قائمة على أســاس الحقــوق القومية للشــعب الســوري ووحدته الشــاملة‬
‫واستقالله‪.‬‬
‫وقد أمضت حلب والبالد السـ ـ ـ ــورية جميعها األشـ ـ ـ ــهر الثالثة األولى من هـ ـ ـ ــذا‬
‫العام‪ ،‬وهي في غليان وقلق واضطراب‪ .‬وكانت كلمة المعاهدة تتردد على األلسن‪،‬‬
‫وكـ ــان النـ ــاس يتسـ ــاءلون‪" :‬مـ ــاذا يفعل الـ ــوزيران الوطنيـ ــان في الـ ــوزارة؟ ولمـ ــاذا ال‬
‫يستقيالن؟"‬
‫وكـ ــان إبـ ــراهيم هنـ ــانو في مقدمة هـ ــؤالء المتسـ ــائلين؛ فجـ ــاء إلى دمشق في ‪18‬‬
‫نيســان ‪ 1933‬وطلب جميل مــردم بك لمقابلته في أوتيل فيكتوريــا‪ ،‬فلما وصل وجَّه‬
‫إليه السـ ـ ـ ـ ــؤال‪" :‬لمـ ـ ـ ـ ــاذا أنت في الحكم؟" وكـ ـ ـ ـ ــان هنـ ـ ـ ـ ــانو قد علم أن رئيس الحكومة‬
‫الفرنسية السيد (أريستيد بريان) لم تكن لديه أية نية بالتنازل عن االنتداب‪.‬‬
‫كانت نتيجة المقابلة مع هنانو أن مــردم بك ذهب مع زميله مظهر رســالن إلى‬
‫القصر الجمهوري يوم ‪ 19‬نيسان وقدما استقالتهما دون ذكر األسباب‪.‬‬
‫ولما شـ ــاع الخـ ــبر تنـ ــادى الشـ ــباب وقد حمال الـ ــوزيرين على األعنـ ــاق‪ ،‬وعمت‬
‫الهتافات بحياتهما وحياة الكتلة الوطنية‪ ،‬واستقال بعد ذلك سليم جنــبرت رغم تهديد‬
‫السلطات لـه‪.‬‬
‫انس ــحب رج ــال الكتلة الوطنية من المفاوض ــة‪ ،‬وأعلن في نيس ــان ع ــدم التع ــاون‬
‫مع الحكومة والمجلس منتظـ ـ ـ ــرين البـ ـ ـ ــوادر الـ ـ ـ ــتي تظهر من الجـ ـ ـ ــانب الفرنسي في‬
‫سياسة البالد‪.‬‬
‫وكـ ــانت أول بـ ــادرة أن أغلقت جريـ ــدة االتحـ ــاد‪ ،‬ففي ‪ 26‬أيـ ــار ‪ 1933‬أصـ ــدر‬
‫المفوض السامي قـراراً بـإغالق جريـدة االتحـاد بحلب وجريـدة الجزيـرة في دمشـق‪،‬‬

‫ـ ‪ 76‬ـ‬
‫بداعي أنهما تنشران مقاالت تخل باألمن العـام وتـدعو إلى هيـاج الشـعب وحثه على‬
‫المقاومة واألحزاب وإ غالق األسواق‪.‬‬
‫وفي ‪ 26‬حزيــران ص ــدر أمر وزاري آخر ب ــإغالق جري ــدة األي ــام في دمشــق‪،‬‬
‫وص ــدر أمر المف ــوض الس ــامي ب ــإغالق جري ــدة القبس إلى أجل غ ــير مس ــمى ألنهما‬
‫تنشــران مقــاالت مخلة بــاألمن‪ .‬وطــيرت الشــهباء في ‪ 24‬تمــوز برقية احتجــاج على‬
‫صـ ــبحي بركـ ــات‪ ،‬فهو من النـ ــواب الـ ــذين انتخبتهم فرنسا بقـ ــوة السـ ــالح‪ ،‬ولم ينتخبه‬
‫الشــعب العــربي؛ وعنــدما ســافر إلى بــاريس كــان يــدافع عن حكومة فرنسا وسياســتها‬
‫في سورية‪ ،‬ولم يكن يدافع عن شعبه وبالده‪.‬‬
‫وأعلن راديو باريس في ‪ 15‬تموز ‪ 1933‬أن السيد (دومارتيل) عين مفوضاً‬
‫سامياً في سورية ولبنان بعد أن نقل المفوض السامي بونسو‪.‬‬
‫وج ـ ــاء الك ـ ــونت دومارتيل ووضع معاه ـ ــدة س ـ ــميت بمعاه ـ ــدة ‪ 1933‬بت ـ ــاريخ‬
‫‪ 16‬آب وتكريس هذه المعاهدة االحتالل‪.‬‬
‫رفضت الكتلة الوطنية باإلجمـ ـ ــاع هـ ـ ــذه المعاهـ ـ ــدة‪ ،‬رفضـ ـ ــها إبـ ـ ــراهيم هنـ ـ ــانو‪،‬‬
‫رفض ــها س ــعد اهلل الج ــابري في خطابهما في المجلس الني ــابي وأم ــام وف ــود الش ــباب‪،‬‬
‫ألنها كـ ــانت معاهـ ــدة بـ ــتراء ال تحقق الوحـ ــدة الـ ــتي تنشـ ــدها البالد‪ .‬رفضت معاهـ ــدة‬
‫‪ 1933‬بق ــرار موقع من ‪ 46‬نائب ـاً بينهم ‪ 17‬نائب ـاً من الكتلة الوطني ــة‪ ،‬وك ــان الن ــاس‬
‫في الجامع يقيمـون شـعائر الصــالة عنـدما جـاء قـرار الـرفض قدمه نعيم أنطـاكى إلى‬
‫الج ــامع األم ــوي‪ ،‬بتوقيع ال ــزعيم هن ــانو؛ ويخ ــبرهم ب ــرفض المعاه ــدة‪ ،‬فعالً التكب ــير‬
‫والتهليل من المص ـ ــلين‪ ،‬وارتفعت ب ـ ــذلك أس ـ ــهم الكتلة الوطنية وزاد نفوذها انتش ـ ــاراً‬
‫شمل جميع طبقات الشعب‪.‬‬
‫وأضربت أكثر المدن السورية وأغلقت أسواقها مشاركة مع قرار الرفض من‬
‫وطيـ ـ ــرن‬
‫قبل الكتلة الوطنيـ ـ ــة؛ كما سـ ـ ــاهمت سـ ـ ــيدات دمشق وحلب في المشـ ـ ــاركة‪ّ ،‬‬
‫برقيات استنكارية‪.‬‬
‫أراد الش ـ ــعباني أن ي ـ ــزور حلب‪ ،‬فق ـ ــام في ‪ 17‬آب وك ـ ــان وزي ـ ــراً للمالية به ـ ــذه‬
‫الزي ـ ــارة وك ـ ــان أن أع ـ ــدت لـه الع ـ ــدة لجعل االس ـ ــتقبال فخمـ ـ ـاً؛ ولكن خ ـ ــاب الس ـ ــعي‪،‬‬
‫إذ لم يخـ ـ ــرج لمالقاته والسـ ـ ــالم عليه غـ ـ ــير المـ ـ ــوظفين الـ ـ ــذين بـ ـ ــاتوا يخشـ ـ ــون على‬
‫مراكزهم من انتقامه‪.‬‬
‫وفي آب ‪ 1933‬التجأ إلى األراضي السورية ‪ /500/‬شــخص من اآلشــوريين‬
‫الكلــدان من قبيلة (طيــارى) آتين من العــراق‪ ،‬فعرضت مســألة التجــائهم على جمعية‬

‫ـ ‪ 77‬ـ‬
‫األمم‪ .‬وبن ــاء على طلب ص ــريح منها قبلتهم فرنسا بص ــورة اس ــتثنائية‪ ،‬قبلت دخ ــول‬
‫النساء واألطفال‪ .‬ووضع تصميم ثالث قرى إليوائهم على نهر الخابور‪.‬‬
‫ق ــال س ــعد اهلل‪" :‬منطق غ ــريب‪ !..‬هل من اإلنس ــانية إفق ــار ال ــزراع ـ ـ زراعنا ـ ـ‬
‫وت ــركهم يه ــاجرون دي ــارهم ب ــدالً من إقط ــاعهم األراضي ال ــتي آلب ــائهم؛ بينما ن ــؤوي‬
‫اآلشوريين ونتعهدهم؟ إن هذا تناقض سياسي واضح"‪.‬‬
‫وكــان قد وصل دومارتيل إلى بــيروت في ‪ 12‬تشــرين األول ‪ ،1933‬ثم جــاء‬
‫إلى دمشــق‪ ،‬فــزاره نــواب الكتلة للتهنئة بالوصــول‪ ،‬وكــان يــوم مجيئه عرضـاً شــامالً‬
‫لكافة الهيئات السياسية والوفود المحلية من وجوه ونواب وزعماء‪.‬‬
‫ثم توجه إلى حلب‪ ،‬ومر بحمص وحم ـ ــاه‪ ،‬وهيـ ـ ــأت لـه السـ ـ ــلطات الفرنس ـ ــية ما‬
‫هي ــأت لـه في العاص ــمة تقريب ـاً‪ .‬وبقي في س ــورية ثالثة أي ــام ثم ع ــاد إلى مرك ــزه في‬
‫بيروت‪ ،‬وأخذ يستعد لعمله؛ وص ّـرح للصــحفيين بأنه ســوف يعمل على أســاس الحق‬
‫ومراعاة حقوق السوريين‪.‬‬
‫وفي ‪ 27‬تشـ ــرين األول احتفل السـ ــوريون بحفل تـ ــأبين المرحـ ــوم جاللة الملك‬
‫فيصل وكان لهذا أثر عميق في نفوس الشعب الـذي نـزل إلى الشــوارع وهو ينــادي‪:‬‬
‫"في ذمة اهلل يا فيصل في ذمة ال ـ ــوطن يا فيص ـ ــل‪ ،‬ض ـ ــجت عليك الش ـ ــام يا فيص ـ ــل"‪.‬‬
‫أجج شعورهم القومي وذكرهم باستقاللهم الضـائع ونبهت أذهـانهم‬ ‫وهذا االحتقال قد ّ‬
‫إلى وحدة الشعور واألماني‪.‬‬
‫وح ـ ــدد موعد افتت ـ ــاح المجلس الني ـ ــابي في ‪ 18‬تش ـ ــرين الث ـ ــاني ‪ ،1933‬ولكن‬
‫دومارتيل لم يف بوعده‪ ،‬بل كانت تلك سياسته الجديدة‪ ،‬وأول مظاهرها كانت‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تعطيل صحيفة النداء الوطنية‪ ،‬وذاك تعطيل ال مبرر لـه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ توقيف النائب الوطني ذكي الخطيب والمحــامي األمــير أحمد الشــهابي‪ ،‬بتهمة‬
‫مخالفتهما لقانون االجتماعات العامة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إرهاب السكان‪ ،‬وفي بيان المفوض الســامي يؤكد فيه أنه ســينزل العقــاب بكل‬
‫شخص مهما كان مقامه ومركزه االجتماعي‪.‬‬
‫وبعد أن خلق المفـ ـ ــوض السـ ـ ــامي جو اإلرهـ ـ ــاب هـ ـ ــذا‪ ،‬أراد أن يحمل المجلس‬
‫النيــابي والــرأي العــام على القبــول بتوقيع معاهــدة لخمس وعشــرين ســنة‪ .‬وبمــوجب‬
‫نصـوص هـذه المعاهـدة؛ تتعهد سـورية بـأن تنشئ في مـدة ثالث سـنوات جيشـاً مؤلفـاً‬
‫من‪ /25/‬ألف جندي‪ ،‬وأن تدفع النفقات الــتي بـذلتها فرنسا منذ ابتــداء االنتــداب حــتى‬

‫ـ ‪ 78‬ـ‬
‫اليـ ـ ــوم؛ وأن تقـ ـ ــدم جماركها ضـ ـ ــماناً للـ ـ ــدفع‪ ،‬أما العلويـ ـ ــون وجبل الـ ـ ــدروز فيبقيـ ـ ــان‬
‫مستقلين‪ ،‬ويمكن لسورية بعد أربع سنوات أن تطلب دخولها في جمعية األمم‪.‬‬
‫ه ــذه هي الخط ــوط الك ــبرى للمعاه ــدة‪ ،‬وقد أعطيت ال ــوزارة م ــدة ‪ /48/‬س ــاعة‬
‫لتجيب بنعم أو ال‪ ،‬قد قبل هـ ـ ــذا اإلنـ ـ ــذار الـ ـ ــوزير حقي بـ ـ ــك‪ .‬واألضه لي بـ ـ ــك‪ ،‬دون‬
‫مناقشــة‪ ،‬أما الشــعباني والجو خــدار وســليم جنــبرت فقد تمنعــوا‪ .‬وحيــال هــذا الــرفض‬
‫اقترح المفوض السامي أن يضم إلى المعاهدة رسالة يتعهد فيها بـأن ُيـدخل العلــويين‬
‫وجبل الـ ـ ـ ــدروز خالل مـ ـ ـ ــدة معينة في الوحـ ـ ـ ــدة السـ ـ ـ ــورية‪ ،‬إذا قبل س ـ ـ ـ ــكان هـ ـ ـ ــاتين‬
‫المنطقــتين؛ وقد رضي الســيدان الجوخــدار والشــعباني بهــذا الحــل؛ أما ســليم جنــبرت‬
‫فقد رفض المعاهدة وقدم استقالته‪.‬‬
‫وكــان أن حضر ممثلو حلب وحمــاة وحمص ودير الــزور وبــيروت وطــرابلس‬
‫ـاء في‬
‫والالذقية وبعلبك في ‪ 19‬تشـ ــرين الثـ ــاني ‪ 1933‬إلى دمشـ ــق‪ .‬فـ ــاجتمعوا مسـ ـ ً‬
‫"كنا قد قررنا في مـ ــؤتمر‬‫قصر األسـ ــتاذ فـ ــارس الخـ ــوري وأصـ ــدروا البيـ ــان اآلتي‪ّ :‬‬
‫حلب ‪ 7‬شـ ــباط ‪ 1933‬أال نشـ ــترك في أية مفاوضة غـ ــير قائمة على أسس الحقـ ــوق‬
‫القومية للش ـ ــعب الس ـ ــوري‪ ،‬ووحدته الش ـ ــاملة واس ـ ــتقالله؛ ولما تع ـ ــذر ذلك انس ـ ــحب‬
‫رجالنا من المفاوضة وأعلنا في نيس ــان ‪ 1933‬ع ــدم التعامل مع الحكومة والمجلس‬
‫منتظرين البوادر التي تظهر من الجانب الفرنسي في سياسة البالد"‪.‬‬
‫وهيأ الن ــواب الوط ــنيون في ‪ 23‬تش ــرين الث ــاني ق ــرار ال ــرفض؛ وك ــانت حلب‬
‫على أشد ما تك ــون من القلق والهي ــاج والحماس ــة‪ ،‬ولما ق ــامت المظ ــاهرات احتجاج ـاً‬
‫على المعاهــدة‪ ،‬كــان المتظــاهرون الخــارجون من الجــامع األمــوي في حلب يهتفــون‬
‫هتافـ ـ ـ ـ ــات فيها سـ ـ ـ ـ ــخط على السـ ـ ـ ـ ــلطة الفرنس ـ ـ ـ ــية وسياس ـ ـ ـ ــتها المـ ـ ـ ـ ــترددة وذلك منذ‬
‫ســنة ‪ 1918‬وحــتى اآلن‪ ،‬ومنذ أن مثلها ســبعة من أبــرز الشخصــيات جــورج بيكــو‪،‬‬
‫غورو‪ ،‬ويغاند‪ ،‬ساراي‪ ،‬دوجوفنيل‪ ،‬بونسو‪ ،‬وأخيراً الكونت دومارتيل‪.‬‬
‫وقد حـ ـ ــاول هـ ـ ــؤالء جميع ـ ـ ـاً أن يحلـ ـ ــوا القضـ ـ ــية السـ ـ ــورية ولكنهم أخفقـ ـ ــوا في‬
‫مس ــعاهم‪ .‬وهك ــذا رفضت المعاه ــدة وفي ‪ 24‬تش ــرين الث ــاني ‪ 1933‬أخ ــذت الوف ــود‬
‫الشـ ـ ــعبية تـ ـ ــؤم منـ ـ ــازل أركـ ـ ــان الكتلة الوطنية معربة عن تهانيها بـ ـ ــرفض المعاهـ ـ ــدة‬
‫وانتصار إرادة الشعب‪.‬‬
‫ونشــطت الصــحف‪ ،‬وزار الســيد نصــوح بابيل الــزعيم هنــانو ألخذ حــديث منه‬
‫تنشــره األيــام‪ .‬وفجــأة دخل عليهما ســعد اهلل الجــابري‪ ،‬لزيــارة الــزعيم كعادته في كل‬
‫يـ ــوم؛ ووقف يسـ ــتمع إلى ما يقـ ــول الـ ــزعيم لنصـ ــوح بابيـ ــل‪ ،‬ح ــتى إذا وجد في كالمه‬
‫عبـ ــارة أو عبـ ــارات تحتـ ــاج في رأيه إلى بعض التغيـ ــير أو التعـ ــديل‪ ،‬بـ ــادر بـ ــالقول‪:‬‬

‫ـ ‪ 79‬ـ‬
‫"األفضل يا حض ـ ــرة ال ـ ــزعيم أن تك ـ ــون ه ـ ــذه الجملة بش ـ ــكل آخ ـ ــر‪ ،‬هو ك ـ ــذا وك ـ ــذا"؛‬
‫وتك ـ ــررت مالحظ ـ ــات الج ـ ــابري وض ـ ــاق بها ال ـ ــزعيم وق ـ ــال‪" :‬س ـ ــعد اهلل‪ ...‬كفى‪...‬‬
‫علي رأيــه"‪ .‬يقــول نصــوح بابيل‬ ‫كفى‪ ...‬لن أسمح ألي مخلـوق في الـدنيا أن يفـرض ّ‬
‫وساورني الخــوف من أن يـرد ســعد اهلل على الصـيحة بمثلها و بأقل منها لكن صــفاء‬
‫مقصد س ــعد اهلل واحترامه لزعيمه وق ــوة انض ــباطيته‪ ،‬وتطلعه إلى اله ــدف األس ــمى‪،‬ـ‬
‫الـ ـ ــذي يسـ ـ ــمو فـ ـ ــوق كل خالف؛ صـ ـ ــغيراً كـ ـ ــان أم كبـ ـ ــيراً‪ ،‬كل ذلك أبى عليه إال أن‬
‫يخ ـ ـ ــاطب هن ـ ـ ــانو بلهجة هادئة محبب ـ ـ ــة‪ " :‬زعيمن ـ ـ ــا‪ ...‬حبيبن ـ ـ ــا‪ ...‬واهلل ما قص ـ ـ ــدت‬
‫إزعاجك‪ ...‬فليكن ما تريد‪ ..‬ولن يكون إال ما تريــد‪ ...‬أرجو أن تتــابع حــديثك وإ ني‬
‫ذاهب إلى ص ـ ــالة العص ـ ــر"‪ .‬وغ ـ ــادر الغرفة مبتس ـ ــماً إلى غرفة مج ـ ــاورة حيث أدى‬
‫الصالة‪.‬‬
‫كـ ــان كالم سـ ــعد اهلل بـ ــرداً وسـ ــالماً على إبـ ــراهيم‪ ،‬فقد انفـ ــرجت أسـ ــارير وجهه‬
‫وافترت شفتاه عن ابتسامة صادقة‪ ،‬وقال‪" :‬ســعد اهلل حبيـبي‪ ،‬يا ســعادة من كــان ســعد‬
‫اهلل أخ ـ ــاه وص ـ ــديقه"‪ .‬وع ـ ــاد س ـ ــعد اهلل من ص ـ ــالته كما ع ـ ــاد حديثه مع ال ـ ــزعيم على‬
‫طبيعته وصفائه كأن شيئاً لم يحدث‪.‬‬
‫ودعت الـ ـ ـ ــرجلين وانصـ ـ ـ ــرفت وأنا أردد في طـ ـ ـ ــريقي‪" :‬يا لها من انضـ ـ ـ ــباطية‬
‫مثالية‪ ،‬بل يا لها من صورة رائعة عن أخالق رجل أو عن رجل أخالق"‪.‬‬
‫‪: 1934‬‬
‫في هـ ــذا العـ ــام كـ ــان الصـ ــراع يـ ــدور شـ ــديداً بين الوطنـ ــيين والفرنسـ ــيين حـ ــول‬
‫األقضــية األربعة الــتي ســلخها الجــنرال (غــورو) عن جسم ســورية‪ ،‬وألحقها بلبنــان‬
‫وأطلق عليها اسم (لبن ـ ـ ــان الكب ـ ـ ــير) كما ك ـ ـ ــان الص ـ ـ ــراع ي ـ ـ ــدور بينهما ح ـ ـ ــول مدينة‬
‫ط ـ ــرابلس ال ـ ــتي ك ـ ــانت تط ـ ــالب بلس ـ ــان زعيميها عبد الحميد ك ـ ــرامي وال ـ ــدكتور عبد‬
‫اللطيف بيسار بإلحاقها بسورية‪.‬‬
‫وقد أبى الوطنيون آنـذاك‪ ،‬الـدخول في محادثــات مع الفرنسـيين إال على أسـاس‬
‫إعـ ــادة األقضـ ــية األربعة وتحقيق رغبة أهـ ــالي طـ ــرابلس بضم مـ ــدينتهم إلى سـ ــورية‬
‫األم‪ .‬وأراد الوطنيون تكثيفاً إعالمياً ليشرحوا للشعب وللعالم العـربي والــدولي على‬
‫أرض سورية كيف يفتتون أعضاءها عضواً إثر عضو‪.‬‬
‫وعلى الصعيد الخـارجي لم يجهل المفـوض السـامي (دو مارتيـل) قيمة الصـلح‬
‫بين الملك ابن الس ــعود واإلم ــام يح ــيى‪ ،‬وعمق وقع ه ــذا الح ــادث على الس ــوريين‪ ،‬إذ‬
‫علقت األندية الس ـ ــورية بكث ـ ــير من االرتي ـ ــاح واالغتب ـ ــاط على ذل ـ ــك‪ ،‬وعلى ما القته‬
‫الوفود السورية التي أمت الحجاز‪ ،‬من الحفاوة واإلكرام في هذا العام‪.‬‬

‫ـ ‪ 80‬ـ‬
‫في ‪ 15‬آذار اســتقالت وزارة حقي العظم‪ ،‬وتــألفت وزارة تــاج الــدين الحســيني‬
‫ورئيس الدولة محمد علي العابد المسلوب اإلرادة‪ ،‬والحريص على جمع المال‪.‬‬
‫وفي هــذا العــام اعــتزل ســليم جنــبرت وزير األشــغال العامة عن الــوزارة خوفـاً‬
‫فحياه الشعب بتظاهرة وراحوا يهتفون‪" :‬ال إله إال اهلل ســليم جنــبرت‬
‫من سخط األمة ّ‬
‫حبيب اهلل"‪.‬‬
‫وبعد اسـ ــتقالة جنـ ــبرت حل لطيف غنيمة (صـ ــنيعة االنتـ ــداب) محلـ ــه؛ وأشـ ــرك‬
‫هــنري هندية في الماليــة‪ ،‬وحســني الــبرازي في المعــارف وعطا األيــوبي في العدلية‬
‫والحـ ــاج محمد أضه لي في الزراعـ ــة‪ ،‬وجميل األلشي في األشـ ــغال العامـ ــة‪ ،‬وتـ ــولى‬
‫الشــيخ تـاج وزارة الداخلية عالوة ليكــون حــراً في األمــور الداخليــة‪ ،‬وفي ســبيل خلق‬
‫جو اإلرهــاب للســيطرة على الشــعب ومقــاديره بــدأ بنكاية بعض الزعمــاء الوطنــيين‪،‬‬
‫ولهــذا أرسل تهديــداً إلبــراهيم هنــانو يعلمه بإصــدار قــرار بــأمر إطالق ســراح (أحمد‬
‫كوسا وصبري كوسا) اللذين تآمرا على قتله‪ ،‬بعد أن كانت قد حكمت عليهما بتهمة‬
‫التآمر وحبسهما مدة عشر سنوات‪.‬‬
‫أص ــدر الش ــيخ ت ــاج ه ــذا األمر الخ ــاص مخالف ـاً ب ــذلك مب ــادئ الدس ــتور وحق ــوق‬
‫رئيس الجمهوري ــة؛ مما أث ــار س ــخط البالد؛ ف ــأغلقت الم ــدن احتجاجـ ـاً‪ ،‬وأرس ــلت كل‬
‫مدينة برقيتها الشــديدة؛ ولكن الشــيخ تــاج ظن أن تهديــده قد تــرك الشــعب يــذعن ل ــه‪.‬‬
‫وأراد زيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــارة حلب مع رئيس الدولة محمد علي عابد وجاءاها على مضض ألن‬
‫ســعد اهلل الجــابري احتج على هــذه الزيــارة ونفقــات األبهة والمصــاريف الــتي ترافقها‬
‫في الوقت الذي تشكو فيه حلب الضيق الشديد‪.‬‬
‫في ‪ 19‬أيـ ــار تح ــرك المـ ــوكب من دمشق وبطليعته وزير المالية ه ــنري هندية‬
‫فج ـ ـ ـ ــاء ومعه الس ـ ـ ـ ــيارات الم ـ ـ ـ ــأجورة فوصل حلب ووراءه س ـ ـ ـ ــيارات أخوته وذويه‬
‫والمستأجرين من المنافقين‪.‬‬
‫وفي ‪ 20‬أي ـ ــار وص ـ ــلت قافلة الحكومة وفي مق ـ ــدمتها رئيس الجمهورية محمد‬
‫علي العابد واتبعهم الش ــيخ ت ــاج وص ــحبهم من م ــوظفي الحكومة والبلدية واألوق ــاف‬
‫الـ ــذين خرجـ ــوا على الـ ــرغم منهم وانضم إليهم النـ ــواب المزيفـ ــون ووجـ ــوه األقضـ ــية‬
‫اصطف الدرك والشرطة والحراس على طرفي الطريق‪.‬‬
‫وفي مســاء األحد وصــلوا إلى داخل البلــدة وحلــوا في أوتيل بــارون‪ ،‬وكــان قبل‬
‫يوم قد دوت قنبلة هائلة بالقرب منه أعقبتها قنابل أخرى في محالت متعددة‪.‬‬
‫في الي ـ ـ ــوم الت ـ ـ ــالي ق ـ ـ ــام الوفد ببعض الزي ـ ـ ــارات دون أن يلقى من الش ـ ـ ــعب أي‬
‫ترحاب وكانت جماهير األوالد والشباب تتجمع وتصــرخ شــاتمة بال خــوف أو وجل‬

‫ـ ‪ 81‬ـ‬
‫وفي يــوم زيــارة الــرئيس وصــحبه لمدرسة التجهــيز صــفر لهم األوالد ورمــوا الشــيخ‬
‫تاج بكأس من البول فخرجا من المدرسة مدحورين مقهورين‪...‬‬
‫وكان يوم ‪/ 25‬ـ ‪/5‬ـ ‪ 1934‬وأرادوا الصالة في الجامع الكبير في حلب غــير‬
‫أن الوطن ـ ــيين تص ـ ــدوا له ـ ــذه الزيـ ـ ــارة واحتل ـ ــوا كامل الج ـ ــامع رغم وجـ ـ ــود القـ ـ ــوات‬
‫العس ـ ـ ــكرية وق ـ ـ ــوى األمن ال ـ ـ ــتي رابطت داخل المس ـ ـ ــجد وخارجه وفتشت كل داخل‬
‫للصالة‪.‬‬
‫حين حضر رئيس الحكومة ورئيس الدولة‪ ،‬دخال من باب الخدم بجانب البــاب‬
‫الغــربي خوف ـاً من غضــبة الشــعب‪ ...‬وما إن حضر ســعد اهلل وجماعته حــتى أخليت‬
‫السدة المخصصة لكبار الزوار والمصلين‪.‬‬
‫أما الرئيس ــان فقد ص ــليا ولم يتجاســرا على دخ ــول القبلية والجل ــوس في الســدة‪.‬‬
‫ووقف سـ ــعد اهلل ‪ ،‬وس ــاد الس ــكون‪ ...‬وراح يخطب خطبة جريئة قوية ب ــدت كهـ ــدير‬
‫اإلشـ ـ ــعاع‪...‬ـ ولما انتهت الصـ ـ ــالة‪ ،‬ولى الرئيسـ ـ ــان األدبـ ـ ــار فصـ ـ ــاح المصـ ـ ــلون في‬
‫وج ــوههم وبعض ــهم ق ــذف الش ــيخ ت ــاج بنعل ــه؛ ولما رأت الس ــلطة ما حل بهم اركبتهم‬
‫وأبعــدتهم ـ ـ بعد أن كــانوا قد أنفقــوا لهــذه الرحلة عشــرة آالف لــيرة ســورية في ســبيل‬
‫تنقالتهم وموائدهم‪...‬‬
‫وب ــدأ االنتق ــام‪ ...‬أوقفت الس ــلطة ‪ /70/‬شخص ـاً‪ ،‬واعتقلت س ــعد اهلل وجماعت ــه‪،‬‬
‫حسن فؤاد إبراهيم باشا‪ .‬ناظم القدسي‪ ،‬الشيخ عبد القادر سرميني‪ ،‬الحاج مصــطفى‬
‫شباق‪ ،‬الحاج علي سيرجية‪ ،‬وأحــالتهم إلى المحكمة البدائية األجنبيـة‪ ،‬وكــان رئيســها‬
‫فرنسياً‪ ،‬وأصدرت القرار التالي‪:‬‬
‫إن المحكمة البدائية المنعق ــدة في قصر البلدية في حلب‪ ،‬المش ــكلة وفقـ ـاً للق ــرار‬
‫‪ 1820‬المتمم والمكمل لق ـ ـ ــرار المف ـ ـ ــوض الس ـ ـ ــامي رقم ‪ 228‬من أكثرية فرنس ـ ـ ــية‬
‫والمؤلفة من المسـ ـ ــيو (موغـ ـ ــان)ـ القاضي المعه ـ ــود إليه بالرئاسة ب ـ ــدالً من ال ـ ــرئيس‬
‫(برتران) والعضو السوري الياس بليط والعضو الفرنسي (ســبيز) وبحضــور ايتــان‬
‫هندية النـ ــائب الشـ ــاغل مك ـ ــان مـ ــدعي الحق العـ ــام ومسـ ــاعده جوزيف دادور ك ـ ــاتب‬
‫الضبط والترجمان كميل اجقباش‪ ،‬في الجلسة العمومية المنعقدة في ‪ 31‬أيار لرؤية‬
‫القضـ ــايا الجزائية بين الحق العـ ــام من جهـ ــة‪ ،‬وبين المتهمين السـ ــبعة والخمسـ ــين من‬
‫جهة أخــرى وبعد ســماع أقــوال المتهمين األخــيرة علن ـاً في المــواد الجزائية والجــرم‬
‫المش ـ ــهود وجاهيـ ـ ـاً في أول درج ـ ــة‪ ،‬وبإجم ـ ــاع اآلراء‪ ،‬وبن ـ ــاء على ق ـ ــرار المف ـ ــوض‬
‫الســامي بتــاريخ ‪ 18‬شــباط ‪ 1932‬ـ المخــول صــالحية المحــاكم األجنبية بحلب باسم‬
‫الشعب السوري حيث أن النيابة العامة تسند إلى المخالفين ثالث مخالفات‪:‬‬

‫ـ ‪ 82‬ـ‬
‫‪ 1‬ـ اإلخالل باألمن العام والنظام‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ العصيان والتمرد‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ استعمال العنف مع موظفي الدولة‪.‬‬
‫وحيث أنه ينتج من مطالع ـ ــات الن ـ ــائب الع ـ ــام الش ـ ــفاهية في الجلس ـ ــة‪ ،‬أن التهمة‬
‫األولى تتألف من أربعة أعمال‪:‬‬
‫أ ـ اجتماع غير مــأذون صــباح يــوم الجمعة الواقع في ‪ 25‬أيــار عــام ‪ 1934‬في‬
‫دار الدكتور حسن فؤاد إبراهيم باشا؛ تاله سير موكب إلى الجامع‪.‬‬
‫ب ـ ـ ـ ـ ـ احتالل السـ ـ ـ ــدة في الج ـ ـ ـ ــامع المحفوظة بعلم الجميع لـ ـ ـ ــرئيس الجمهورية‬
‫ورئيس الوزراء‪ ،‬مما يشكل إثارة لبغض الحكومة وازدراء األهالي‪.‬‬
‫ج ـ خطاب مهيج ألقاه سعد اهلل الجابري في الجامع‪.‬‬
‫ء ـ تجمهر غير مأذون عند الخروج من الجامع‪.‬‬
‫وحيث ارتكاب العنف ضد الدرك‪.‬‬
‫وحيث احتالل الســدة من قبل ســعد اهلل الجــابري والــدكتور حسن فــؤاد والشــيخ‬
‫عبد الق ـ ــادر س ـ ــرميني وال ـ ــدكتور ن ـ ــاظم القدسي ومحمد المح ـ ــايري ومقيم الج ـ ــابري‬
‫وعزت هنانو وغالب عياشي‪ ،‬وعادل صواف ومنير العماري‪.‬‬
‫وحيث أن سـ ــعد اهلل الجـ ــابري ألقى خطبة انتقد فيها بشـ ــدة قـ ــرار عضو قـ ــريب‬
‫عهد ـ وحمل حملة منكرة على ما يسميه المستعمر‪.‬‬
‫وحيث أن خطاب سعد اهلل بالنظر لما يحيط به من ظروف يشكل خطاب ـاً مخالً‬
‫ب ـ ــاألمن‪ ،‬وحيث أنه توجد أس ـ ــباب مخففة بحق المتهمين ما ع ـ ــدا الش ـ ــيخ عبد الق ـ ــادر‬
‫س ــرميني وس ــعد اهلل الج ــابري وب ــاقي األخ ــوان الم ــذكورة أس ــماؤهم‪ :‬له ــذه األس ــباب‪،‬‬
‫وبإجماع اآلراء‪ ،‬يعلن مذنبين‪:‬‬
‫أ ـ ـ ســعد اهلل الجــابري الــدكتور حسن فــؤاد إبــراهيم باشــا‪ .‬عبد القــادر ســرميني‬
‫مقيم الج ــابري ن ــاظم القدس ــي‪ ،‬ظ ــافر س ــرميني ع ــزت هن ــانو غ ــالب عياش ــي‪ ،‬ع ــادل‬
‫س ـ ــياف من ـ ــير عم ـ ــادي لك ـ ــونهم في ‪ 25‬أي ـ ــار ع ـ ــام ‪ 1934‬ارتكب ـ ــوا في حلب ج ـ ــرم‬
‫اإلخالل باألمن واحتاللهم سدة مخصصة لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء‪.‬‬
‫ب ـ ـ يعلن م ــذنباً س ــعد اهلل الج ــابري بكونه في الظ ــروف عينه ــا‪ ،‬والمك ــان عينه‬
‫ألقى خطاباً مخالً باألمن العام‪.‬‬
‫تـ ــوالت البرقيـ ــات من كافة المـ ــدن السـ ــورية للمفـ ــوض السـ ــامي احتجاج ـ ـاً على‬
‫فظائع االسـتبداد واألحكـام الجـائرة في حق الوطنـيين‪ ،‬وأبـرق الـزعيم إبـراهيم هنـانو‬

‫ـ ‪ 83‬ـ‬
‫إلى وزارة الخارجية وإ لى العميد الفرنسي يق ـ ـ ـ ـ ــول‪" :‬في أثن ـ ـ ـ ـ ــاء اجتماعنا األول في‬
‫حلب‪ ،‬أظهـ ـ ــرتم أنكم راغب ـ ــون في ب ـ ــذل مجه ـ ــوداتكم إلق ـ ــرار الثقة المتبادلـ ـ ــة‪ ،‬ولكن‬
‫عفــوكم عمن اعتــدى على حيــاتي ثم إصــداركم األوامر باعتقــال ســبعين شخص ـاً من‬
‫الوطن ـ ــيين عند خ ـ ــروجهم من مس ـ ــجد حلب كل ه ـ ــذه األم ـ ــور تخ ـ ــالف تص ـ ــريحاتكم‬
‫وتمحو الثقة ال ـ ــتي كنتم تنش ـ ــدونها للتع ـ ــاون بينن ـ ــا‪ .‬أؤكد لفخ ـ ــامتكم أن سياسة العنف‬
‫والتهديد تقيم في طريق ذوي النيات الحسنة عقبات كأداء يصعب تذليلها"‪.‬‬
‫وطــيرت حمــاه في ‪ 30‬أيــار ‪ 1934‬برقية تقــول للمفــوض الســامي‪،‬ـ "أضــربت‬
‫حمـ ــاه اسـ ــتنكاراً لفظـ ــائع االسـ ــتبداد بحلب بعد فشل الرحلة المصـ ــطنعة تحـ ــدياً لألمة‬
‫وعقيدتها الشـاملة أرجـوكم القضـاء على هـذه المآسي بمباشـرة اإلصــالح ووضع حد‬
‫للتجارب غير المنتجة"‪.‬‬
‫ووقع أربعـون وجيهـاً من أطبـاء ومحـامين وتجـار ووجـوه ورؤسـاء نقابـات في‬
‫حماه البرقية التالية‪:‬‬
‫"حم ــاه بكاملها مض ــربة الي ــوم اس ــتنكاراً لتح ــدي ال ــوزارة الالدس ــتورية لألم ــة‪،‬‬
‫برحلتها المص ـ ــطنعة‪ ،‬ال ـ ــتي س ـ ــببت انته ـ ــاك حرمة المعابد المقدسة وتعطيل المعاهد‬
‫الدينية واعتقال مئة من األحرار بحلب تشفياً وانتقاماً فنحتج بشدة على هــذه المظــالم‬
‫راجين إبالغ احتجاجنا إلى وزارة الخارجية الفرنسية وعصبة األمم"‪.‬‬
‫(نائب حماه نجيب البرازي)‬

‫وأرســلت حمص برقية موقعة من وجهائها وتجارها ومحاميها وأطبائها تقــول‬


‫فيها‪:‬‬
‫"مهاجمة القــوى المســلحة لجــامع حلب‪ ،‬اعتقــال الزعمــاء واألبريــاء أثــار ســخط‬
‫األمـ ـ ــة‪ ،‬حمص المغلقة أمس احتجاج ـ ـ ـاً تطلب إبالغ احتجاجها جمعية األمم ووزارة‬
‫الخارجية الفرنسية"‪.‬‬
‫وط ــيرت ط ــرابلس الش ــام برقية أيضـ ـاً موقعة من أعيانها ومحاميها وأطبائه ــا‪،‬‬
‫وهذا نصها‪:‬‬
‫"الق ــوى المس ــلحة ال ــتي هتكت حرمة المعاب ــد‪ ،‬القبض على الرج ــال المخلص ــين‬
‫مخالف للعدل والحق‪ ،‬نحتج بكل قوانا على ذلك"‪.‬‬
‫ولم تقف حلب سـ ــاكنة بل أرسل محاموها وهم المـ ــدافعون عن كل حق البرقية‬
‫االحتجاجية التالية‪:‬‬

‫ـ ‪ 84‬ـ‬
‫" توقيــف‪ /70/‬شخصـاً‪ ،‬في صــالة الجمعــة‪ ،‬بينهم محــامون ووجهــاء‪ ،‬وســوقهم‬
‫كالجنـ ـ ـ ـ ــاة إلى السـ ـ ـ ـ ــجن‪ ،‬هو انتهـ ـ ـ ـ ــاك لحرمة المعابد والحرية الشخصـ ـ ـ ـ ــية وكرامة‬
‫المحاماة؛ نحتج على هذا اإلرهاق"‪.‬‬
‫وشاركت دمشق المدن السورية احتجاجها فأرسلت برقيات بهذا المعنى‪.‬‬
‫واس ـ ـ ــتأنف المحكوم ـ ـ ــون الحكم حسب األص ـ ـ ــول القانونية وفي ‪ 19‬حزي ـ ـ ــران‬
‫‪ 1934‬اجتمعت محكمة االسـ ـ ــتئناف األجنبية في بهو البلدية واتخـ ـ ــذت اإلجـ ـ ــراءات‬
‫اإلرهابية المعتادة؛ وبعد أن داومت المحكمة من الساعة الثامنة صـباحاً إلى السـاعة‬
‫مساء أصدرت قرارها وخالصته‪:‬‬ ‫ً‬ ‫العاشرة‬
‫تنزيل ش ـ ـ ــهرين من الحكم على س ـ ـ ــعد اهلل الج ـ ـ ــابري‪ .‬وش ـ ـ ــهر عن عبد الق ـ ـ ــادر‬
‫ســرميني مع زيــادة ‪ 25‬لــيرة نقــدياً‪ ،‬والعفو عن الجــزاء النقــدي وقــدره خمســون لــيرة‬
‫س ـ ــورية والمحك ـ ــوم على الح ـ ــاج علي س ـ ــيرجية؛ وزي ـ ــادة ش ـ ــهرين في س ـ ــجن عمر‬
‫الضـ ــبيط على جزائه السـ ــابق؛ وهكـ ــذا كـ ــانت قـ ــرارات االسـ ــتئناف عجيبة غريبة ال‬
‫منطقية؛ حار المحامون في تعليلها‪.‬‬
‫وحــوكم ســعد اهلل بمــوجب القــانون ‪ 4‬الــذي أصــدره الفرنســيون والمســمى بقمع‬
‫الجـرائم واتهم النـائب العـام سـعد اهلل بقولـه‪" :‬ومما سـاعد على هيـاج النـاس واألفكـار‬
‫واضطرابها الخطاب الذي ألقاه سعد اهلل الجـابري في مثل هـذا الوسط وهـذا المحيط‬
‫وفي مثل هـ ــذه السـ ــاعة"‪ .‬ويقصد أن الخطـ ــاب ألقي بعد صـ ــالة الجمعـ ــة‪ ،‬وقد حضر‬
‫الصــالة ما يقــارب ‪ /15/‬ألف شــخص‪ .‬ورد ســعد اهلل بكالم مــوزون وكالمه جــواب‬
‫لبيان المدعي العام‪.‬‬
‫يا حضرة الرئيس‪:‬‬
‫"إن التربية التي يبحث عنها النائب العــام ال نريد أن نأخــذها منــه؛ وال ممن هو‬
‫أعلى منه‪ ،‬لقد تكلم محامو الدفاع عما أورد من نقاط فال أرى موجباً للرجوع إليها‪،‬‬
‫وكنت أحب أن أتع ـ ــرض لنقطـ ــتين لهما عالقة بقضـ ــية الرئيسـ ــين‪ ،‬وبيانـ ــات الن ـ ــائب‬
‫العــام؛ النقطة األولى أن الرئيســين رئيس الجمهورية ورئيس الــوزراء كانا يزحفــان‬
‫إلينا ويســتجديان حياتهم ــا؛ فهما والحالة هــذه أولى ب ــترك الســدة لن ــا؛ وأما التهم ال ــتي‬
‫نسبها حضرة النائب العام إلي‪ ،‬فأنا ال أقبلها وأرفضــها؛ وهل يعلم حضــرته أنــني لو‬
‫لم أكن مســؤوالً أدبي ـاً عن هــؤالء النــاس الحاضــرين وعن الــذين وجــدوا في الجــامع‬
‫لك ــان ح ــدث ما ال ي ّسـ ـره وما ال ي ّسـ ـر غ ــيره؛ ولك ــانت أريقت ال ــدماء وج ــرت أنه ــاراً‬
‫والمتألت الشوارع بأشالء القتلى‪.‬‬

‫ـ ‪ 85‬ـ‬
‫ـدأت الشـ ــوارع وه ــدأت الن ــاس وه ــدأ معي ال ــزعيم هن ــانو ورفقـ ــائي‪ ،‬كما‬
‫لقد ه ـ ُ‬
‫يشهد بذلك جميع شهود الحق العام إنني أريد أن أقــول للنــائب العــام إذا كــان يريد أن‬
‫يضــعني في الســجون‪ ،‬فال يكــون ذلك بواســطة المحكمــة‪ ،‬ألنها يجب أن تكــون فــوق‬
‫كل شــيء؛ وعنــدها قــانون تســير عليــه؛ إن لــديك الطــرق اإلدارية والوســائل العرفية‬
‫الــتي ما برحــوا يســتعملونها معنا منذ أربعة عشر عام ـاً؛ ولم ترهبــني أبــداً‪ ،‬وما كــان‬
‫على حضــرة النــائب أن يلجأ إلى محكمتكم الــتي أريد أن أراها غيــورة على القــانون‬
‫بعيدة عن األهواء"‪.‬‬
‫وقال السيد ناظم القدسي عنـدما سـئل عن سـبب قعـوده وقعـود إخوانه في السـدة‬
‫قال‪" :‬لقد أتينا لنحتلها‪ ،‬ولو كلف األمر أن نحتلها بالقوة لفعلنا؛ إن الســدة ليست ملكـاً‬
‫لرئيس أو غـيره"‪ .‬وقـال الشـيخ عبد القـادر السـرميني عنــدما اتهم بأنه حقر مــأموري‬
‫الحكومـ ـ ــة‪ ،‬وجلس في محل معد لرجاالتهـ ـ ــا‪" :‬إن الصـ ـ ــالة عند المسـ ـ ــلمين يشـ ـ ــترط‬
‫لص ــحتها األذن الع ــام‪ ،‬وه ــذا ي ــبيح لكل مس ــلم أن يجلس في المك ــان ال ــذي يري ــده في‬
‫الجامع وال يميز الدين اإلسالمي تخصيص مكان ألحد من الناس‪ .‬بل الدين يساوي‬
‫بين الرئيس والمرؤوس وال فرق في اإلسالم بين الصغير والكبير إال بالتقوى"‪.‬‬
‫وانتهت المحاكمــة‪...‬ـ وصــدر الحكم على‪ /61/‬شخصـاً وعلى رأســهم ســعد اهلل‬
‫الجـ ــابري‪ ،‬وأودعتهم في إسـ ــطبل كـ ــان معـ ــداً للخيـ ــل‪ ،‬ثم هجرته للـ ــدرك‪ ،‬واسـ ــتعمل‬
‫مستودعاً لألخشاب والمتروكات الباقية‪.‬‬
‫تلك هي سياسة استعمار دولة تسمي نفسها دولة العلم والنور والقانون‪.‬‬
‫بقي هــؤالء في اإلســطبل خمسة أيــام‪ ،‬ومنعــوا أثناءها من االختالط واالتصــال‬
‫وحرم ــوا عليهم الق ــراءة ك ــأنهم مجرم ــون آثم ــون ثم نقل ــوا إلى‬
‫باألهل واألص ــحاب‪ّ ،‬‬
‫مكان آخر‪.‬‬
‫في ‪ 29‬أي ـ ـ ــار تق ـ ـ ــررت مح ـ ـ ــاكمتهم في قاعة البلدي ـ ـ ــة‪ ،‬بعد أن أخذ المس ـ ـ ــتنطق‬
‫األجن ــبي إف ــادة كل منهم‪ .‬ولما ح ــان ال ــوقت أض ــربت البل ــدة إض ــراباً ش ــامالً‪ ،‬وعطل‬
‫النـ ــاس أعمـ ــالهم وأغلقـ ــوا حـ ــوانيتهم وخرجـ ــوا إلى الشـ ــوارع‪ ،‬وكلهم آذان يلتقطـ ــون‬
‫األخبار بلهفة‪.‬‬
‫ســاروا نحو دار البلدية (تحت القلعــة) وهم يعــددون مســاوئ الحكومة ويلعنــون‬
‫الفرنسيين االستعماريين‪ ،‬وكانت دار البلدية قد أحيطت بالجنود المــدججين بالســالح‬
‫خوفـ ـاً من هي ــاج الش ــعب وثورته وج ــابت ال ــدبابات والمص ــفحات الطرق ــات؛ عنوانـ ـاً‬
‫وإ نذاراً بالتهديد والوعيد حتى أن الطائرات في السماء مألت بأزيزها الفضاء‪.‬‬

‫ـ ‪ 86‬ـ‬
‫لم يب ــال الن ــاس بكل ه ــذا بل ك ــان الش ــبان ينش ــرون األغ ــاني الش ــعبية الحماس ــية‬
‫ويهتفون للموقوفين بحياتهم‪ ،‬وال يبالون بالسلطة وهيبتها وجيشها المــدجج‪ ،‬بل على‬
‫ـديات) واألشـ ـ ـ ـ ـ ــعار المرتجلة الحكومة التاجية‬‫العكس راحـ ـ ـ ـ ـ ــوا يهـ ـ ـ ـ ـ ــاجمون (بالشـ ـ ـ ـ ـ ـ ّ‬
‫والفرنسية وينعتونهم بأقذر الصفات‪.‬‬
‫ولما حـ ـ ــانت السـ ـ ــاعة الثالثة صـ ـ ــباحاً‪ ،‬فتحت أبـ ـ ــواب المحكمة وأعلن الـ ـ ــرئيس‬
‫بدءها‪:‬‬
‫دخل المحـ ــامون المتطوعـ ــون للـ ــدفاع‪ ،‬وعـ ــددهم ‪ /65/‬وهم األسـ ــاتذة الـ ــدكتور‬
‫إدمــون ربــاط‪ ،‬ونعيم األنطــاكي‪ ،‬وأدولف كيعكــاتي ووجيه الحالج وفتح اهلل قاســيون‬
‫وأسـ ــعد المحفل والـ ــدكتور منـ ــير العجالني والمحمصـ ــاني وغـ ــيرهم‪ ،‬ودافعـ ــوا دفـ ــاع‬
‫األبطـ ـ ــال الشـ ـ ــرفاء؛ ولكن أبت السياسة إال أن تصم آذانها عن أقـ ـ ــوالهم وأن تـ ـ ــرغم‬
‫المحكمة على إصدار القرار كما يحلو لها‪ .‬ودخل المسـتمعون الـذين سـمح لهم بـإذن‬
‫خـ ــاص‪ ،‬وأدخل المتهمـ ــون واحـ ــداً بعد واحد وجلس الحكـ ــام وراء قـ ــوس المحكمـ ــة؛‬
‫وت ـ ــرأس الجلسة ح ـ ــاكم فرنس ـ ــي‪ ،‬ووقف الح ـ ــراس وراء المتهمين ش ـ ــاكي الس ـ ــالح‪،‬‬
‫وكأنهم يقفون وراء جناة‪.‬‬
‫لم تكن المحكمة تعير انتباهاً ألقوال محامي الـدفاع‪ ،‬ألنها كـانت محكمة شــكلية‬
‫فقـ ــط‪ ،‬وكـ ــان كل همها تنفيذ التعليمـ ــات الـ ــتي أعطيت سـ ــلفاً من المفوضـ ــية بواسـ ــطة‬
‫الهاتف؛ ودامت المحكمة حتى الهزيع األول من الليل‪.‬‬
‫ختمت الجلســة‪ ...‬واختلى الحكــام للمــذاكرة ـ ـ وكــأنهم يقومــون بتمثيلية ومكثــوا‬
‫ســاعة ونصف ثم عــادوا إلى جلســتهم وأعلنــوا قــرارهم القاضي بحبس المتهمين كما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ 50‬ليرة سورية‪.‬‬ ‫‪ 8‬أشهر‬ ‫سعد اهلل الجابري‬
‫‪ 25‬ليرة سورية‪.‬‬ ‫‪ 1‬شهر‬ ‫ظافر سرميني‬
‫‪ 10‬ليرات سورية‪.‬‬ ‫‪ 3‬أشهر‬ ‫شاكر حاضري‬
‫‪ 50‬لير سورية‪.‬‬ ‫‪ 3‬أشهر‬ ‫الحاج علي سيرجيية‬
‫‪ 5‬أيام‬ ‫زاهد سواح‬
‫‪ 25‬ليرة سورية‬ ‫‪ 15‬يوماً‬ ‫عزة هنانو‬
‫‪ 50‬ليرة سورية‬ ‫‪2‬‬ ‫الشيخ عبد القادر سرميني‬
‫شهران‬
‫‪ 3‬أشهر‬ ‫رشيد رستم‬
‫‪ 3‬أسابيع‬ ‫وحيد العمادي‬

‫ـ ‪ 87‬ـ‬
‫‪ 3‬أشهر‬ ‫عادل سياف‬
‫‪ 20‬يوماً‬ ‫عبد الجواد السرميني‬
‫‪ 25‬ليرة سورية‬ ‫‪2‬‬ ‫منير العمادي‬
‫شهران‬
‫‪ 3‬أشهر‬ ‫جميل غازي‬
‫‪ 25‬ليرة سورية‬ ‫‪ 4‬أشهر‬ ‫محمود محايري‬
‫‪ 3‬أسابيع‬ ‫ناصح مقيد‬
‫‪ 50‬ليرة سورية‬ ‫‪.....‬‬ ‫الحاج مصطفى شبارق‬
‫‪ 25‬ليرة سورية‬ ‫‪ 4‬أشهر‬ ‫صبحي زلط‬
‫‪ 25‬ليرة سورية‬ ‫‪ 6‬أشهر‬ ‫الحاج قاسم جنيد‬
‫‪ 5‬أشهر‬ ‫الدكتور حسن إبراهيم باشا‬
‫‪ 50‬ليرة سورية‬ ‫‪........‬‬ ‫ناظم قدسي‬
‫براءة‬ ‫يوسف يزبك‬

‫أما بـ ــاقي المتهمين وعـ ــددهم ‪ /35/‬فقد حكم عليهم بأحكـ ــام متفاوتة بين جـ ــزاء‬
‫وحبس لمدد مختلفة‪.‬‬
‫وذهب س ــعد اهلل إلى الس ــجن دون أن يب ــالي بظلماته وتص ــلب أزالمه ولم يحفل‬
‫بالرزايا مهما اشــتدت إذ كــان صــلب العــود صــلب الــرأي صــلب المبــدأ ولن يتنــازل‬
‫عن كرامة وطن‪ .‬كان يقول‪" :‬إن احتمال الظلم خير من اقترافه"‪.‬‬
‫في ‪ 19‬حزيران ‪ 1934‬أصيب الزعيم هنانو باشتداد المرض وارتفاع درجة‬
‫الحــرارة لتــأثره بــالحوادث وتعرضه لمشــقات الســفر وركــوب الخيــل‪ ،‬وأصــبح أســير‬
‫الف ــراش م ــدة طويلــة‪ ،‬ولم تتحسن حالته بل اش ــتدت عليه وطــأة الــداء‪ ،‬داء الســل‪....‬‬
‫وعز الشــفاء فنصــحوه بــالهواء العليــل‪ ...‬وســرعان ما دعــاه ســعد اهلل الجــابري الــذي‬
‫كـ ــان صـ ــديقه المخلص والـ ــذي كـ ــان يقيم في جبل األنصـ ــاري دعـ ــاه ليقيم في داره‪.‬‬
‫ذهب وأقام عنده شهراً قبيل وفاته‪.‬‬
‫وفي ‪ 5‬أيلول ‪ ،1934‬حيث كان سعد اهلل ال يزال في السجن‪ ،‬سمحت السلطة‬
‫الفرنس ـ ــية ل ـ ـ ـ ‪ /1400/‬ش ـ ــخص آش ـ ــوري من العراق ـ ــيين ال ـ ــذين ث ـ ــاروا على حكومة‬
‫العـ ـ ـ ـ ـ ــراق‪ ،‬أن تقطعهم أرضـ ـ ـ ـ ـ ـاً زراعية من أمالك الدولـ ـ ـ ـ ـ ــة‪ ،‬ولم يكن علم للحكومة‬
‫السـ ـ ـ ـ ـ ـ ــورية بـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذلك‪ ،‬ولم يصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدر عن رئيس الجمهورية السـ ـ ـ ـ ـ ـ ــورية مرسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوم‬
‫بهذا الشأن‪.‬‬

‫ـ ‪ 88‬ـ‬
‫ولم يخف على رجـ ــال الكتلة الوطنية وزعمائها ما أرادته السـ ــلطة المنتدبة من‬
‫ه ــذا الت ــدبير وك ــان قد س ــبق للس ــلطة أن س ــمحت ل ـ ـ ‪ /500/‬ش ــخص من اآلش ــوريين‬
‫بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدخول سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــورية واالسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتيطان فيها في العـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام السـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــابق ‪ 1933‬وفي‬
‫‪ 10‬أيلـ ـ ـ ــول ‪ 1934‬رفعت الكتلة الوطنية احتجاج ـ ـ ـ ـاً على هجـ ـ ـ ــرة اآلشـ ـ ـ ــوريين إلى‬
‫سـ ــورية ال ــتي لم يكن من صـ ــالحها اس ــتقبال فيض من الشـ ــعب األجن ــبي‪ ،‬في الـ ــوقت‬
‫الــذي تعــاني فيه من جفــاف وقلة المــوارد ومتــاعب مالية كثــيرة وضــرائب تتصــاعد‬
‫في كل مناسـبة فأصـبحت بمجموعها كميـات باهظة وكـانت السـلطة قد بـددت مـوارد‬
‫سـ ــورية بشـ ــكل عشـ ــوائي ومتعمـ ــد‪ ،‬لتفقر الخزينة والشـ ــعب‪ ،‬وهكـ ــذا نفـ ــذت المـ ــوارد‬
‫وضاق مداها الحيوي‪ ،‬وتضايق الناس من صعوبة الحصول على لقمة العيش‪.‬‬
‫ال يخفى أن س ـ ـ ــكن اآلش ـ ـ ــوريين على الح ـ ـ ــدود يع ـ ـ ــرض س ـ ـ ــورية إلى مش ـ ـ ــاكل‬
‫ومتاعب مع الحكومة المجاورة (العراق) التي نبــذت هــؤالء اآلشــوريين حفظـاً على‬
‫قوميتها ومصلحة شعبها وضماناً لحقوقها‪.‬‬
‫ولكن المفوض السـامي لم يأبه لهـذا االحتجـاج‪ ،‬بل منح اآلشـوريين ثالث قـرى‬
‫إلي ـ ــوائهم على نهر الخ ـ ــابور على رافد من روافد الف ـ ــرات في الجزي ـ ــرة العلي ـ ــا؛ ولم‬
‫يقتصر األمر على وع ـ ـ ــود منهم وتطمينهم بص ـ ـ ــيغ جوف ـ ـ ــاء تخ ـ ـ ــدع العق ـ ـ ــول‪ ،‬ألنهم‬
‫الحظـ ــوا أن البـ ــوادر تـ ــدل على مسـ ــتقبل أسـ ــود محتـ ــوم‪ .‬وفي هـ ــذا العـ ــام وفي أوائل‬
‫كــانون األول صــرح أحد كبــار الفرنســيين "بــأن األحــداث في ســورية‪ ،‬لم تبعث كبــير‬
‫أمل وأي أثر في الـ ــرأي العـ ــام الفرنسـ ــي‪ .‬ويا لألسف أن المسـ ــيو دو مارتيل قد أتى‬
‫على نقض العهود المعتبرة لتسيير سورية على االســتقالل‪ ،‬متــذرعاً بحجج تتنــاقض‬
‫مع الحق والعــدل؛ ويجب أال ننسى بــأن اســتقالل ســورية كــان ينبغي أن يكــون مهيئـاً‬
‫في عــام ‪ 1934‬حسب منطــوق وأفعــال االنتــداب لجامعة األمم؛ واســتطرد‪ :‬أن هــذه‬
‫الكيفية (المحص ــنة) في معاملة الجمهورية الس ــورية‪ ،‬بعد كل الوع ــود ال ــتي قطعتها‬
‫فرنسا على نفسها لهي معاملة في منتهى الخطأ والتعنت"‪.‬‬
‫وكــاد ينتهي عــام ‪ 1934‬وخــرج ســعد اهلل وصــحبه من الســجن في يــوم ‪/ 18‬‬
‫‪ /11‬ـ ـ ‪ 1934‬بعد أن لبثـ ــوا فيه ‪ /6/‬أشـ ــهر في سـ ــبيل مقـ ــاومتهم عبيد االنتـ ــداب في‬
‫حادثة الجامع الكبير‪...‬‬
‫اجتمعت الكتلة الوطنية ووضـ ــعت بيان ـ ـاً قـ ــالت فيـ ــه‪" :‬تـ ــرى الكتلة الوطنية من‬
‫واجبها‪ ،‬أن تعلن للشعب السوري الكريم شـكرها وامتنانها من المظهر الرائع النبيل‬
‫ال ــذي ظهر به بمناسـ ــبة خ ــروج المواط ــنين الك ــريمين سـ ــعد اهلل الجـ ــابري وال ــدكتور‬
‫حسن فــؤاد إبــراهيم باشا من الســجن‪ ،‬تــدليالً على الغبطة العامة بعودتهما إلى ســاحة‬

‫ـ ‪ 89‬ـ‬
‫الجهاد الوطني‪ ،‬أصلب عــوداً وأمضى نفوسـاً؛ مغتنمة هـذه الفرصة لتكــرر للـرجلين‬
‫الكريمين احترامها وتقديرها"‪.‬‬
‫‪:1935‬‬
‫اس ـ ــتغل ه ـ ــذا الع ـ ــام بالض ـ ــغط على الش ـ ــباب إلره ـ ــابهم‪ ،‬ففي ‪ 1‬ش ـ ــباط ‪1935‬‬
‫أصدرت الحكومة قراراً بـإغالق نـادي (بـني حمـدان) الرياضي في حلب وفيه أكـثر‬
‫من ‪ /200/‬شاب‪.‬‬
‫وفي ‪ 4‬ش ــباط أص ــدر العميد ق ــراره بالنظ ــام ال ــذي رفعته المفوض ــية الحتك ــار‬
‫التبغ والتنباك‪.‬‬
‫وفي ‪ 17‬ش ـ ــباط أرس ـ ــلت لجنة ال ـ ــدفاع عن األوق ـ ــاف اعتراضـ ـ ـاً إلى المف ـ ــوض‬
‫السامي تعلن فيه أن أكثر القرارات الصادرة كــانت مصـادمة رأسـاً ألحكــام الشـريعة‬
‫اإلسـ ــالمية‪ ،‬فض ـ ـالً عن أنها ليست من صـ ــالحية المفوضـ ــية بل من صـ ــالحية األمة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫وكــانت التواقيــع‪ :‬نــاظم القدس ــي‪ ،‬س ــعد الــدين الجــابري‪ ،‬عبد القــادر الســرميني‬
‫مصطفى الزرقا وغيرهم‪.‬‬
‫كما وضع تقرير احتجاج في شهر شباط على‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ سوء الوضع في البالد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ هجرة اآلشوريين التي سمحت بها فرنسا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قبول الصهيونيين للعمل في سورية‪.‬‬
‫وبلغ النضال الوطني ذروتــه‪ ،‬وأضــربت المــدن الســورية ولغطت الجرائــد‪ :‬إن‬
‫المفوضـ ـ ــية العليا سـ ـ ــمحت آلالف المهـ ـ ــاجرين الصـ ـ ــهيونيين األجـ ـ ــانب بالسـ ـ ــكن في‬
‫س ــورية‪ ،‬وذك ــرت اتف ــاق الحكومة الس ــورية (التاجي ــة) والس ــلطة الفرنس ــية على بيع‬
‫أراضي (البطيحة والحولة)‪.‬‬
‫وراح الوطنيون يطالبون بإصدار بيان رسمي يطمن الشــعب الـذي كـان يغلي‪،‬‬
‫كما يطــالب باتخــاذ تــدابير فعالة لصــيانة حقــوق الشــعب الســوري وتمكينه من التثبت‬
‫في أراضيه واإلسراع بإعطاء أهل البالد مطاليبهم الوطنية‪.‬‬
‫وت ـ ــألف وفد من الوطن ـ ــيين وعلى رأس ـ ــهم الش ـ ــيخ عبد الحميد الج ـ ــابري ق ـ ــاموا‬
‫بواجبهم بإبالغ المفوض السامي ورئيس الجمهورية السورية بصورة االحتجاج‪.‬‬
‫وعليه أص ـ ـ ــدر العميد الس ـ ـ ــامي ورئيس ال ـ ـ ــوزارة تص ـ ـ ــريحين ينفي ـ ـ ــان فيه أمر‬
‫المفاوضـ ـ ـ ـ ـ ــات أو عـ ـ ـ ـ ـ ــزم السـ ـ ـ ـ ـ ــلطات المسـ ـ ـ ـ ـ ــؤولة بيع األراضي أو منح الهجـ ـ ـ ـ ـ ــرة‬

‫ـ ‪ 90‬ـ‬
‫للصهيونيين‪ .‬ولكن‪ ..‬ظهر دور الثعلب من جديد‪ ،‬إذ سمحت المفوضية لألشــخاص‬
‫الع ـ ــاديين من اليه ـ ــود‪ ،‬أن يف ـ ــدوا للبالد مع أم ـ ــوالهم وأعم ـ ــالهم ش ـ ــرط أال يضر ذلك‬
‫بمصلحة الوطنيين‪.‬‬
‫وتالحقت الح ـ ـ ــوادث‪ ...‬ففي ‪ 21‬تش ـ ـ ــرين األول ‪ ،1938‬م ـ ـ ــات زعيم البالد‬
‫إبـ ــراهيم هنـ ــانو في قرية (الحامضـ ــة) في قضـ ــاء حـ ــارم؛ حيث كـ ــان معتكف ـ ـاً يعـ ــاني‬
‫المرض‪.‬‬
‫ونقل جثمـ ــان الـ ــزعيم إلى حلب وظل مسـ ــجى في منزله ‪ 3‬أيـ ــام حـ ــتى أنجـ ــزت‬
‫ترتيبات التشييع ووصول الوفود من جميع المدن واألقطار العربية‪.‬‬
‫وفي ي ــوم التش ــييع س ــار في الم ــوكب أك ــثر من ‪ /150/‬ألف واتبع في التش ــييع‬
‫نظام دقيق‪ ،‬وامتد التشييع من الجامع األموي في حلب إلى مقبرة الشـيخ الثعلـبي في‬
‫الجهة الغربية من المدينة حيث ووري التراب‪.‬‬
‫لم يحضر ســعد اهلل الــدفن حيث كــان في الســجن‪ ،‬وإ نما حضر حفل التــأبين وقد‬
‫ّأبن صديقه وحبيبه مخاطباً جموع الحاشدين في التأبين‪:‬‬
‫"لعلكم تريدون من رفيقه (سعد اهلل الجــابري) الـذي عاشـره سـنوات طــواالً‪ ،‬أن‬
‫يحدثكم عن المزايا والخصائص التي قامت بنفس إبــراهيم‪ ،‬فمكنته من القيــام بالعمل‬
‫الكبـ ــير الـ ــذي قـ ــام بـ ــه‪....‬ـ كـ ــانت من أبـ ــرز مزايـ ــاه الشـ ــجاعة المقترنة بالصـ ــبر‪ ،‬أما‬
‫تهول ـ ــه‪ .‬أما األخط ـ ــار فتح ـ ــدق به وال تقلق ـ ــه‪ .‬أما المس ـ ــؤولية‬
‫الح ـ ــوادث فتمر به وال ّ‬
‫فيحتملها خفيفة عليه‪ ،‬وإ ن ثقل حملها"‪.‬‬
‫وح ــزنت البالد من أقص ــاها إلى أقص ــاها على فقد دعامة وطنية قوية األس ــاس‬
‫متينة األصل‪ .‬ونشط الفرنسيون من جديد وبدأ لعبهم بالنار‪.‬‬
‫ونشط الوطنيون أيضاً ولم يزدهم اعتقال زعمائهم إال تأججاً واندفاعاً وثــورة‪،‬‬
‫واستمرت حرب الشوارع بين الشــعب المناضل وفرنسا المعتدية إلى أن انتهت إلى‬
‫اإلضــراب الســتيني‪ ،‬الــذي عدته الصــحافة العالمية ومنها الصــحافة الفرنســية أروع‬
‫عمل سلبي ضد المحتل الغاصب وهذا بالذات ما كان يدعو إليه سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫كما نشـ ـ ـ ـ ــطت المقـ ـ ـ ـ ــابر بفتح فوهاتها لتضم األجسـ ـ ـ ـ ــاد الطـ ـ ـ ـ ــاهرة للمناضـ ـ ـ ـ ــلين‬
‫والشهداء‪ ،‬كما غصت السجون وامتألت المستشفيات وتعطلت مرافق الحياة‪.‬‬
‫وتراجع (دي مارتيل) عن غروره وسطوته؛ ووجه إلى الشعب السوري نــداء‬
‫استهله بقوله‪" :‬إنني ألنحني احتراماً وتقديراً أمام وطنية السوريين"‪.‬‬
‫ودعا الزعماء الوطنيين للسفر إلى باريس إلجراء المفاوضات مع حكومتها‪.‬‬

‫ـ ‪ 91‬ـ‬
‫ووص ــلت برقية إلى إح ــدى الجرائد في ب ــاريس ومص ــدرها من بــيروت تق ــول‪:‬‬
‫"إن رجــال الشــرطة اكتشــفوا في ســورية جمعية خطــيرة تعمل للقضــاء على الســلطة‬
‫الفرنس ــية في البالد؛ وقد ع ــرف أن له ــذه الجمعية فروعـ ـاً كث ــيرة منتش ــرة في أنح ــاء‬
‫البالد الس ــورية واللبناني ــة‪ ،‬واألعض ــاء الق ــائمون فيها أك ــثرهم من الطبقة المثقفة في‬
‫بيروت ودمشق وحلب"‪.‬‬
‫وسـ ــاءت األحـ ــوال الداخلية كثـ ــيراً وراح النـ ــاس يشـ ــكون من جمـ ــود األسـ ــواق‬
‫التجارية ومن األزم ــات الخانقة ونثبت هنا ق ــول (بي ــير آليب) ال ــذي تكلم في ب ــاريس‬
‫أمــام لجنة المحاصــيل وفي غيرها من لجــان المــؤتمر االقتصــادي االســتعماري قــال‪:‬‬
‫في سورية أزمة اقتصـادية شـديدة تثـير تـذمر السـكان وشـكاويهم من جمـود األسـواق‬
‫التجارية‪ ،‬وتسـرب اليـأس واإلحبـاط إلى نفـوس كثـيرة كـادت تفقد إيمانها بانتصـارها‬
‫أمـ ـ ــام غـ ـ ــدر السـ ـ ــلطة الفرنسـ ـ ــية الحاكمة وكيـ ـ ــدها ومعها فئة غـ ـ ــير قليلة من الخونة‬
‫والمرتزقة‪.‬‬
‫ولكن ســعد اهلل لم يــيئس أبــداً كــان يــؤمن إيمانـاً قاطعـاً بــأن لألمة العربية رســالة‬
‫مقدسة في هذا العالم؛ ويجب أن تتحقق‪.‬‬
‫ه ــذا اإليم ــان العنيد والج ــبروت في إدارة ال تع ــرف الكلل واالنخ ــذال‪ ،‬ك ــان لـه‬
‫دور فعال كبير في إذكاء نار الحماسة الذي راح يخبو في قلوب بعض الوطنيين‪.‬‬
‫يــذكر األســتاذ (توفيق الســويدي) (العــراق) حادثة بينه وبين ســعد اهلل الجــابري‬
‫يقـ ــول فيهـ ــا‪" :‬كنت أحادثه ذات يـ ــوم في أتعابنا ومشـ ــاكلنا؛ وما نقاسـ ــيه من أوصـ ــاب‬
‫بســبب جهل مجتمعاتنا وقلة خبرتها في الحيــاة الحديثــة؛ وضــراوتها‪ .‬فقــال‪" :‬ال شك‬
‫إن في اسـ ـ ــتطاعة كل منا أن يختـ ـ ــار بالداً غـ ـ ــير بالدنا ليقضي حياته فيها بكل راحة‬
‫واطمئنــان‪ ،‬خصوص ـاً فيما يــؤمن حاجاته المادية والمعنويــة‪ ،‬غــير أننا ال نفعل هــذا؛‬
‫بل نرضى أن نقاسي كثـ ـ ـ ـ ــيراً من الحرمـ ـ ـ ـ ــان في بالدنا ونرجحه على راحة نحصل‬
‫عليها في بالد أجنبي ــة‪ .‬قد نك ــون مخط ــئين فيما يخص مص ــالحنا الشخص ــية؛ ولكننا‬
‫على صواب فيما يخص خدمة أمتنا خدمة صادقة مهما كلفنا ذلك من تضحية"‪.‬‬
‫وتـ ــواردت التقـ ــارير عن سـ ــوء الحالة االقتصـ ــادية‪ ،‬وأصـ ــدرت نقابة المحـ ــامين‬
‫بياناً تنتقد فيه السلطة الفرنسية على انتهاك الحرية الشخصية‪.‬‬
‫وقـ ـ ـ ـ ـ ــال المسـ ـ ـ ـ ـ ــيو بيـ ـ ـ ـ ـ ــير تنجة نـ ـ ـ ـ ـ ــائب رئيس بـ ـ ـ ـ ـ ــاريس ورئيس لجنة الجزائر‬
‫والمســتعمرات والمحميــات‪" :‬إننا قد أثقلنا كاهل هــذه البالد بواجبــات ثقيلــة‪ ،‬إذ أردنا‬
‫أن نمهرها بتشــريع رأينــاه صــالحاً في نظرنــا"‪ .‬وقــال‪" :‬لقد خصصت لجنة األعمــال‬
‫الخارجية في البرلمـ ــان الفرنسي جلسة طويلة لـ ــدرس شـ ــؤون سـ ــورية ولبنـ ــان‪ ،‬فلقد‬

‫ـ ‪ 92‬ـ‬
‫هب اإلسـ ــالم اآلن من رقـ ــاده بعد أن أيقظته حـ ــرب الحبشـ ــة‪ .‬ولهـ ــذا انصـ ــرفت لجنة‬
‫الشؤون الخارجية إلى درس المشكلة السورية بكل اهتمام"‪.‬‬
‫وفي ‪ 21‬شـ ــباط ‪ 1935‬كتب الكـ ــونت (بـ ــيرون) مقـ ــاالً قـ ــال فيـ ــه‪" :‬لقد كـ ــثرت‬
‫متاعب فرنسا في سورية في األعوام األخيرة‪ .‬حتى بـات يعتقد كثـير من الفرنسـيين‬
‫بـ ــأن الـ ــنزول عن االنتـ ــداب أصـ ــبح أمـ ــراً (ال مفر منـ ــه) وفي الواقع قد فكر بعضـ ــهم‬
‫كيف تستطيع فرنسا أن تترك سورية‪ ،‬وأن تكتفي بنفوذها الثقافي التاريخي فيها"‪.‬‬
‫غ ــير أن فرنسا ع ــادت فع ــدلت عن ه ــذا ال ــرأي ألن األمر ليس بي ــدها‪ ،‬فهي إذا‬
‫تــركت ســورية‪ ،‬فــإن الســوريين لن يصــبحوا أحــراراً ألن االنتــداب موجــود‪ ،‬وهو إذا‬
‫لم يكن لفرنسا فقد يك ــون لس ــواها‪ ،‬والراغب ــون من ال ــدول في س ــورية ليس ــوا قالئ ــل‪،‬‬
‫فهناك إنكلترا التي تنتظر أقل فرصة لتحل مكاننا‪.‬‬

‫ـ ‪ 93‬ـ‬
‫سعد هللا الجابري‬
‫أول رئيس للحرس الوطني‬

‫ـ ‪ 94‬ـ‬
‫‪: 1936‬‬
‫أمام النشاط المستمر والمندفع للوطنيين فقد أمرت السلطة الضــغط على الكتلة‬
‫الوطنية ورجالهـ ـ ـ ــا‪ ،‬وقد أغلق الفرنسـ ـ ـ ــيون مكـ ـ ـ ــاتب الكتلة الوطنية في أوائل عـ ـ ـ ــام‬
‫‪.1936‬‬
‫اش ـ ــتد الطغي ـ ــان‪...‬ـ عمت االعتق ـ ــاالت برج ـ ــاالت حلب ودمشق وب ـ ــاقي الم ـ ــدن‬
‫السورية وانتشر الذعر والهلع في النفوس حتى أضربت جميع المدن الســورية لمــدة‬
‫‪ /6/‬أشهر‪.‬‬
‫وخ ــرجت في حلب بعض النس ــوة الل ــواتي تنك ــرن بأزي ــاء مختلفة لئال يع ــرفن‪،‬‬
‫وراحت تتجـ ـ ـ ـ ــول في األسـ ـ ـ ـ ــواق لـ ـ ـ ـ ــتراقب وتتأكد من إغالق الـ ـ ـ ـ ــدكاكين والمحـ ـ ـ ـ ــال‬
‫التجارية‪...‬‬
‫وألقي القبض على سـ ــعد اهلل الجـ ــابري‪ ،‬فهو في رأي السـ ــلطة وراء كل نشـ ــاط‬
‫وطني متحد ألنه رفض هو وإ خوانه التوقيع على ورقة يتعهدون فيها للفرنسـيين أن‬
‫يفتحوا البالد‪.‬‬
‫ونفي إلى الجزيـرة (عين ديـوار) مع السـيد حسن إبـراهيم باشـا‪ ،‬وأودعا إحـدى‬
‫ُ‬
‫الحظائر مع الحيوانات بعد أن ربط الرجالن ظهراً لظهر وتركا ليموتا‪.‬‬
‫مضى النهار وخيم الظالم وساد الصمت‪ ...‬وفجأة دخلت عليهما ســيدة أرمنية‬
‫كــانت تقطن قريبـاً‪ .‬واســتطاعت أن تفك إســارهما وتقــدم لهما ما يــأكالن وســاعدتهما‬
‫على الهرب‪...‬‬
‫كـ ــان الحبس في عين ديـ ــوار لهـ ــذين الوطنـ ــيين انتقام ـ ـاً لرفضـ ــهما التوقيع على‬
‫تعهد للفرنسيين لفتح البالد‪.‬‬
‫وهـ ــاجت البالد كلهـ ــا‪ .‬ودعت الكتلة الوطنية لإلضـ ــراب العـ ــام‪ ،‬ولبت الـ ــدعوة‬
‫المدن السورية جميعها‪ ،‬وسارت مظاهرات ضخمة تمأل الشوارع‪....‬ـ‬
‫اسـتمر اإلضـراب حــوالي شـهرين‪ ،‬انتهى بعد أن عقد اتفـاق بين الكتلة الوطنية‬
‫والمفــوض الســامي الكــونت دو مارتيــل‪ :‬وينص االتفــاق على أن يــذهب وفد ســوري‬
‫إلى باريس للمفاوضة من أجل إبرام معاهدة تضمن استقالل سورية‪.‬‬
‫وأفــرجت عن ســعد اهلل‪ .‬فتــألف الوفد برئاسة هاشم األتاسي وعضــوية ســعد اهلل‬
‫الج ــابري(‪ )1‬وف ــارس الخ ــوري‪ ،‬جميل م ــردم‪ ،‬وال ــوزيران أدم ــون حمصي واألم ــير‬
‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫صدر عفو عام عن الوطنيين ومنهم سعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 95‬ـ‬
‫مصـ ــطفى الشـ ــهابي ونعيم األنطـ ــاكي‪ ،‬كسـ ــكرتير عـ ــام للوفـ ــد‪ ،‬وأحمد اللحـ ــام كخبـ ــير‬
‫عسكري وفي اليوم نفسه سافر المفوض السامي (دو مارتيل) إلى باريس‪.‬‬
‫في ‪ 21‬من الش ـ ـ ــهر س ـ ـ ــافر الوفد الس ـ ـ ــوري مودعـ ـ ـ ـاً ب ـ ـ ــأفخم مظ ـ ـ ــاهر الحماسة‬
‫الشعبية‪.‬‬
‫ش ــاهد أعض ــاء الوفد وهم في ب ــاريس ب ــرامج انتخابية ملتصـ ــقة على الجـ ــدران‬
‫لمرشــحين عديــدين‪ ،‬كــان في جملة بــرامجهم االنتخابية إعطــاء الســوريين اســتقاللهم‬
‫بعد المظــالم الــتي تعرضــوا لها من الطغمة االســتعمارية الــتي شــوهت ســمعة فرنسا‬
‫في الخـ ــارج‪ .‬وكـ ــان الفضل في ذلك لنشـ ــاط الطالب السـ ــوريين الـ ــذين ناضـ ــلوا وهم‬
‫خارج سورية‪.‬‬
‫ته ـ ــرب المف ـ ــوض الس ـ ــامي (دو مارتي ـ ــل) من الوف ـ ــد‪ ،‬وتوجه إلى فيشي بقصد‬
‫االستشـ ــفاء‪ ،‬وراح يخـ ــبر الصـ ــحفيين بـ ــأن هـ ــذا الوفد هم عناصر تمثل نفسـ ــها فقـ ــط‪.‬‬
‫وسـ ــوف يتفق عنـ ــدما يعـ ــود مع رج ــال ال ــدين المسـ ــيحيين والمسـ ــلمين الـ ــذين يمثلـ ــون‬
‫البالد‪.‬‬
‫وعلم الوفد الس ـ ــوري ب ـ ــذلك عن طريق الطالب الع ـ ــرب‪ .‬واطلع ـ ــوا على نص‬
‫التص ـ ــريح المـ ـ ــذيل بتوقيع (دو مارتيـ ـ ــل)‪ ،‬فاغتـ ـ ــاظ أعضـ ـ ــاء الوفد كثـ ـ ــيراً‪ ،‬وقـ ـ ــرروا‬
‫مواجهته بهذه األالعيب فوراً‪.‬‬
‫طلب ســعد اهلل الجــابري عضو الوفــد‪ ،‬من الطــالب الصــحفي (حسن عبد العــال)‬
‫أخذ صورة عن التصريح وإ رسـاله إلى صـحف سـورية‪ ،‬وقصد الجـابري بـذلك إثـارة‬
‫الناس في سورية بغية أن يقوموا بعمل جديد يدعم موقف الوفد في باريس‪.‬‬
‫وبدأت حملة من الدسائس الداخليــة‪ ،‬فقد قــامت حركة اســمها "األمر بــالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر" تعيث باألرض فساداً‪ ،‬وهي مدفوعة من جهة السلطة‪ .‬وما هـذا‬
‫الشعار الديني إال تغطية لموقفها‪.‬‬
‫وراحت الصحف تنشر أخبارها ومســلكها الخشن في معاملة النــاس وأصــحاب‬
‫البارات وأصحابها كلهم من المسيحيين‪ ،‬واستغلها ضباط المخــابرات وفعلــوا فعلتهم‬
‫في إثارة حفيظة المسيحيين‪ ،‬وكان ما كان من إرسال البرقيات إلى باريس‪.‬‬
‫حمل الطالب السـ ـ ـ ــوريون الصـ ـ ـ ــحف الحلبية وذهبـ ـ ـ ــوا إلى أوتيل (كونتننتـ ـ ـ ــل)‬
‫وقـ ـ ــابلوا سـ ـ ــعد اهلل الجـ ـ ــابري؛ وأطلعـ ـ ــوه على الصـ ـ ــحف‪ ،‬فلما قرأها كـ ـ ــاد يختنق من‬
‫الغضب والغيظ فقد ازدادت توتراته النفس ــية من حياكة الدس ــائس‪ ،‬وارتفعت درجة‬
‫معاناته حـ ـ ــتى اسـ ـ ــتقطبت كل ما في نفسه من شـ ـ ــحنات وجدانية وطلب قلم ـ ـ ـاً وورقة‬
‫وحـ ــرر رسـ ــالة إلى جميل إب ــراهيم باشا من قـ ــادة الكتلة الوطنية في حلب‪ ،‬وقـ ــال في‬
‫رسـ ــالته‪" :‬بصـ ــفتي رئيس الكتلة الوطنية في حلب‪ ،‬أكلفك قطع لس ـ ــان كل من يقـ ــول‬

‫ـ ‪ 96‬ـ‬
‫ب ـ ــاألمر ب ـ ــالمعروف والنهي عن المنك ـ ــر‪ .‬إن ما فعله (فالن وفالن) ك ـ ــانت لـه ردود‬
‫فعل سـ ـ ـ ــيئة على المفاوضـ ـ ـ ــات‪ ،‬ويجب أن تعلمـ ـ ـ ــوا جميع ـ ـ ـ ـاً أننا لم نحصل بعد على‬
‫اس ــتقاللنا ح ــتى تفعل ــوا ه ــذه األفاعي ــل؛ ولو نلنا اس ــتقاللنا فلن نس ــمح بش ــيء من ه ــذا‬
‫القبيل"‪.‬‬
‫وختم الج ــابري الرس ــالة‪ ،‬وطلب من أحد الطالب الحلب ــيين وض ــعها في البريد‬
‫الجوي ففعل‪.‬‬
‫وعلى ال ــرغم من الض ــباب والتع ــثرات ال ــتي واجهت الوفد الس ــوري وت ــأرجح‬
‫الموقف بين صعوبة وسهولة وتعثر وانطالق‪ ،‬توصل الطرفان الســوري والفرنسي‬
‫إلى اتف ــاق على جميع الجزئي ــات؛ وج ــرى االحتف ــال في (قاعة الس ــاعة)‪ ،‬في وزارة‬
‫الخارجية الفرنســية بتوقيع المعاهــدة (معاهــدة ‪ )1936‬في ‪ 9‬أيلــول‪ ،‬ولكن البرلمــان‬
‫الفرنسي لم يناقش هذه المعاهدة قط‪.‬‬
‫وبتوقيع هـ ــذه المعاهـ ــدة انتهت مرحلة الصـ ــراع بين الكتلة والوطنية والجـ ــانب‬
‫الفرنسي‪ .‬بيد أن سعد اهلل لم يكن متحمسـاً أو مرتاحـاً لهــذه المعاهــدة‪ ،‬كــان يقــول‪ :‬إن‬
‫القضــية مع فرنسا يجب أن تكــون بطريقة أخــرى غــير المعاهــدة؛ ألن هــذه المعاهــدة‬
‫ال تحتوي على ما نطمح لـه‪.‬‬
‫وال ننسى أنه بتــاريخ ‪/24‬ـ ‪ 6‬حزيــران ‪ 1936 /‬اتفق الفرنســيون مع األتــراك‬
‫على ســلخ لــواء اســكندرون بتركيــا‪ ...‬وتقطيع جسم الدولة الســورية بشــكل (ســري)‬
‫ح ـ ــتى إذا اس ـ ــتتبت األم ـ ــور للس ـ ــلطة‪ ،‬وض ـ ــعوا الش ـ ــعب الس ـ ــوري تحت األمر الواقع‬
‫وقامت المظاهرات في كل محافظات سـورية وتـوالت االحتجاجـات وذهب سـعد اهلل‬
‫وجميل مردم إلى فرنسا في سبيل ذلك‪.‬‬
‫وفي ‪ 27‬أيلـ ـ ـ ــول وصل الوفد السـ ـ ـ ــوري إلى حلب فجـ ـ ـ ــرى لـه احتفـ ـ ـ ــال كبـ ـ ـ ــير‬
‫واس ـ ـ ــتقبل اس ـ ـ ــتقبال الف ـ ـ ــاتحين‪ ،‬وك ـ ـ ــان في مقدمة المس ـ ـ ــتقبلين المف ـ ـ ــوض الس ـ ـ ــامي‬
‫(دو مارتي ـ ــل) ال ـ ــذي س ـ ــبق الوفد إلى البالد ليك ـ ــون في ش ـ ــرف اس ـ ــتقباله‪ .‬بعد توقيع‬
‫المعاهدة أصبح المفوض السامي يحمل لقب (سفير فرنسا)‪.‬‬

‫ـ ‪ 97‬ـ‬
‫أجــريت االنتخابــات إثر ذلك وفــاز الوطــنيون فــوزاً ســاحقاً بفضل يقظة األمــة؛‬
‫وكانت قائمة سعد اهلل في حلب هي الفائزة‪ .‬وبذلك اندحر عمالء االستعمار‪.‬‬
‫ت ــألفت أول حكومة وطنية وك ــان رئيس الجمهورية هاشم األتاسي وش ــغل فيها‬
‫سعد اهلل الجــابري الداخلية ثم الخارجيــة؛ ولكن الفرنســيين نكثــوا بوعــودهم كعــادتهم‪،‬‬
‫وبــدؤوا بالدســائس والفتن وتــأليب األقليــات والنعــرات الطائفيــة‪ ،‬فمثالً كــانوا يقيمــون‬
‫الحفالت وي ـ ـ ــدعون إليها اإلخ ـ ـ ــوان المس ـ ـ ــيحيين فق ـ ـ ــط؛ فربما أيقظ ه ـ ـ ــذا في نف ـ ـ ــوس‬
‫المسلمين الكراهية لهم والبغض‪ ،‬واالبتعاد عنهم‪.‬‬
‫وبعد أن كشف (لونفي ـ ــه) في حديثه مع الطالب الس ـ ــوريين والع ـ ــرب عن وجه‬
‫فرنسا الغ ـ ـ ـ ــامض وموقفها الجديد من المعاه ـ ـ ـ ــدة بعد توقيعهـ ـ ـ ــا‪ ،‬نش ـ ـ ـ ــطت األجهـ ـ ـ ــزة‬
‫االسـ ـ ــتعمارية في العمل ضد الحكم الوطـ ـ ــني سـ ـ ــراً وعلن ـ ـ ـاً؛ وأثـ ـ ــارت في حلب فتنة‬
‫(الشــارة البيضــاء) وهي جمعية لها طابعها الكــاثوليكي؛ وذات طــابع عســكري؛ ولها‬
‫فــرع في محافظة الجزيــرة‪ ،‬وقد أسســها رجل عــرف بخدماته ووالئه لفرنسا واســمه‬
‫(عبود قنبـاز) ففي ‪ 11‬تشـرين األول ‪ 1936‬بـدأت الفتنة في سـوق األحـد‪ ،‬وأن أحد‬
‫المســيحيين اعتــدى على امــرأة مســلمة تــبيع البرغــل‪ ،‬وقد شــتمها وضــربها وقيل إن‬
‫الش ــتيمة ك ــانت موجهة إلى دينه ــا؛ وهنا انفجر برميل الب ــارود وق ــام أعض ــاء الش ــارة‬
‫البيضاء باستعمال األسلحة المهداة لهم من دائرة االستخبارات الفرنسية‪.‬‬
‫ولوال تدخل العقالء لحدثت الفتنة الكبرى‪ ،‬والتي ال تنطفئ نيرانها بسرعة‪.‬‬
‫بـ ـ ــدأت األوسـ ـ ــاط الرسـ ـ ــمية خطة تدميرية غايتها تـ ـ ــدمير العهد الوطـ ـ ــني أحيل‬
‫(دو مارتيل) إلى التقاعد وجـاء (غابريل بيـو) مفوضـاً سـامياً في سـورية ولبنـان ولم‬
‫يحمل ص ـ ـ ــفة س ـ ـ ــفير بحجة أن المعاه ـ ـ ــدة لم تص ـ ـ ــدق في مجلس الن ـ ـ ــواب والش ـ ـ ــيوخ‬
‫الفرنسيين‪.‬‬
‫ولم يستقبل (بيو) بحفاوة في دمشـق‪ ،‬ولكنه اسـتقبل في السـويداء باحتفـال كبـير‬
‫ســاهم في إعــداده المنــدوب الســامي وضــباط االســتخبارات وفي حفلة اســتقباله أنــزل‬

‫ـ ‪ 98‬ـ‬
‫العلم الس ـ ــوري إي ـ ــذاناً بانفص ـ ــال جبل ال ـ ــدروز عن س ـ ــورية‪ .‬وه ـ ــذا تقطيع آخر من‬
‫أوصال الجسم السوري‪.‬‬
‫لم يه ــدأ الفرنس ــيون ح ــتى عطل ــوا الدس ــتور‪ ،‬وحل ــوا الحكوم ــة‪ ،‬فاس ــتقال رئيس‬
‫الجمهورية وكانت نهاية العهد الوطني‪.‬‬
‫وبعد ف ــترة ج ــرت االنتخاب ــات وأعيد العمل بدس ــتور ‪ ،1928‬وت ــألفت حكومة‬
‫وطنية بعد انتخ ـ ــاب ال ـ ــرئيس هاشم األتاسي رئيسـ ـ ـاً للجمهوري ـ ــة‪ ،‬وت ـ ــألفت ال ـ ــوزارة‬
‫برئاسة جميل مـ ـ ـ ـ ــردم‪ ،‬وتـ ـ ـ ـ ــولى سـ ـ ـ ـ ــعد اهلل الجـ ـ ـ ـ ــابري وزارتي الداخلية والخارجية‬
‫وش ــكري الق ــوتلي وزارتي ال ــدفاع والمالية وال ــدكتور عبد ال ــرحمن الكي ــالي وزارتي‬
‫العدلية والمعـ ــارف‪ ،‬وللمـ ــرة األولى بعد زوال عهد فيصل األول تشـ ــكل في سـ ــورية‬
‫وزارتان للخارجية والدفاع‪ .‬وهذا أمر على جــانب من األهمية والخطــورة‪ ،‬لتشــكيل‬
‫جيش عربي مخلص بعناصره قوي بعتاده‪.‬‬
‫ومنذ اسـ ــتالم سـ ــعد اهلل الخارجيـ ــة‪ ،‬رسم بوضـ ــوح اسـ ــتعداده المـ ــزدوج وقـ ــال‪:‬‬
‫"يجب أوالً أن نكون متأهبين للعمل إيجابياً في العـالم والحيـاة؛ ويجب ثانيـاً أن نكـون‬
‫أخالقيين في الدرجة األولى"‪.‬‬

‫سعد هللا الجابري‪ ،‬في وزارة الداخلية‪:‬‬


‫كـ ـ ـ ــانت المهمة صـ ـ ـ ــعبة جـ ـ ـ ــداً‪ ،‬في الظـ ـ ـ ــروف الشرسة والقاسـ ـ ـ ــية الـ ـ ـ ــتي خلفها‬
‫االستعمار وترك بصماته السوداء في نفوس األفراد ووجدان بعض الجماعات‪...‬‬
‫أما الوج ـ ـ ــدان المس ـ ـ ــلكي واألخالق الشخص ـ ـ ــية ال ـ ـ ــتي تجلت بالمن ـ ـ ــافع الخاصة‬
‫والوصـ ــول إلى المناصب بـ ــأي ثمن‪ ،‬فقد أثـ ــرت تـ ــأثيراً سـ ــيئاً على الجو االجتمـ ــاعي‬
‫العام حيث انشغلت بمصـالحها الفردية دون المصـلحة العامـة؛ ولم تعط أي تنـازالت‬
‫شخصية في سبيل صيانة االستقالل الوليد‪....‬ـ‬
‫ال شك أن االسـ ـ ـ ــتعمار خلق طبقة وصـ ـ ـ ــولية أنانية تـ ـ ـ ــاهت في طـ ـ ـ ــرق الكسب‬
‫الس ـ ــريع وعميت عن أداء ال ـ ــواجب الوط ـ ــني‪ ،‬وأن قي ـ ــادة ش ـ ــعب تلك ص ـ ــفاته تك ـ ــون‬
‫صعبة وشاقة إذ ال تستجيب ألي نداء مخلص‪...‬‬
‫وال يخفى أن وزارة الداخلية ضخمة المسؤولية فكل أمور الشــعب متعلقة بهــا‪،‬‬
‫وال يمكن في مدة قصيرة إصالح ما أفسدته سنين وسنين‪ ،‬وتعداداً ال حصراً‪ ،‬نقــول‬
‫إن الـ ـ ـ ــدرك والشـ ـ ـ ــرطة واإلدارة والنفـ ـ ـ ــوس والجـ ـ ـ ــوازات واألمن ومراقبة األخالق‬
‫وقض ـ ـ ـ ــايا العمـ ـ ـ ــال والطالب والمـ ـ ـ ــدارس هـ ـ ـ ــذه كلها مثالً تعـ ـ ـ ــاني أزم ـ ـ ـ ــات ومآسي‬
‫وتســتوجب إعــادة البنــاء أو التقــويم واإلصــالح‪ ،‬كما تســتوجب تعليم حمل المســؤولية‬

‫ـ ‪ 99‬ـ‬
‫لكل العناصر ال ـ ــتي تعمل فيها واختي ـ ــار المواقف الجي ـ ــدة والمحافظة على اس ـ ــتقالل‬
‫البالد‪...‬‬
‫الحمل صعب‪...‬ـ وثقيل‪...‬ـ ويحتاج إلى أناة وصبر‪ ،‬بل يحتاج إلى زمن‪.‬‬
‫وفي س ـ ــبيل المب ـ ــدأ الوط ـ ــني وإ ع ـ ــادة الهمة إلى نف ـ ــوس المس ـ ــؤولين والعناصر‬
‫العاملة وإ لى الم ــوظفين فقد منع س ــعد اهلل كل اتص ــال بالمستش ــارين وهم من ط ــرف‬
‫المس ـ ـ ــتعمر وح ـ ـ ــرم عليهم وضع مخالف ـ ـ ــاتهم أو إب ـ ـ ــداء آرائهم أو م ـ ـ ــواقفهم على أية‬
‫معامل ـ ــة؛ بحيث رد اعتب ـ ــار الم ـ ــوظفين وأع ـ ــاد المهابة إلى دوائر الدول ـ ــة‪ ،‬وف ـ ــرض‬
‫االحترام لها‪ ،‬حتى شــعر رؤســاء الـدوائر بكيــانهم الشخصي وبســلطتهم في دائــرتهم‪،‬‬
‫فقويت إمكانياتهم وازدادوا عمالً وحماسة وفرضوا سلطان وظيفتهم‪ .‬كل هـذا لـدعم‬
‫الثقة بالنفس والتقويم اإليجابي للذات‪.‬‬
‫ك ــان س ــعد اهلل ي ــراقب كل اعوج ــاج أو انح ــراف عن الخط الوط ــني‪ .‬وأراد أن‬
‫يقوم اإلدارة بشكل عام‪ ،‬وأن يطهر الدوائر من أنصاف الرجال ومشوهي الوطنية‪،‬‬
‫وصــرف بعض الرؤســاء (المــيئوس من إصــالحهم) من وظــائفهم وكــانوا بـذلك قـدوة‬
‫وعـ ـ ــبرة‪ .‬قـ ـ ــال عنه صـ ـ ــبري العسـ ـ ــلي‪" :‬كـ ـ ــان سـ ـ ــعد اهلل معلم ـ ـ ـاً للـ ـ ــوزراء والنـ ـ ــواب‬
‫والموظفين والرعية"‪.‬‬
‫وع ــانى س ــعد اهلل من نقطة ض ــعف ك ــانت في كي ــان الس ــلطة التنفيذي ــة‪ ،‬وهي أن‬
‫ثالث قــوى‪ :‬القــوى الضــابطة‪ ،‬وقــوى العشــائر‪ ،‬والحــرس الســيار‪ ،‬بقيت بيد ضــباط‬
‫االستخبارات والمستشارين؛ وكانت تهيمن على األقضية والقرى والعربان وســكان‬
‫البوادي؛ وهذه كــانت كالملجأ األمين الــذي يعتمد عليه الفرنسـيون إذا أرادوا الشــطط‬
‫والعبث في أمن البالد‪ ،‬وب ـ ـ ـ ــذلك ك ـ ـ ـ ــانوا يث ـ ـ ـ ــيرون الفوضى ويخلق ـ ـ ـ ــون المش ـ ـ ـ ــكالت‬
‫ويقضون على هيبة الحكم‪.‬‬
‫أراد سعد اهلل إلغاء الحرس السيار ليخفف شــيئاً من تســلط الفرنســيين وأراد في‬
‫الوقت ذاته أن يسلح قوة من الدرك تكون مســؤولة عن األمن؛ ولكنه لم يتوصل إلى‬
‫تس ــليحها؛ فالس ــالح العس ــكري بيد الجيش الفرنسي وب ــأمر الس ــلطة الفرنس ــية؛ ولكنه‬
‫أنشأ الح ــرس الوط ــني‪ .‬وت ــولى رئاس ــته س ــعد ال ــدين الج ــابري‪ ،‬وبالتع ــاون مع ن ــادر‬
‫الساطي‪.‬‬
‫أبت إرادة س ــعد اهلل أن تستس ــلم للس ــلطة‪ ،‬ف ــراح يعمل على كل األص ــعدة فربما‬
‫تنجح خطته أم ــام التس ــلط الغاشم والم ــترقب لكل تحركاته وص ــادف مس ــيو (دري ــك)‬
‫سعد اهلل الجابري فقال لـه‪" :‬إنني أحترمك لوطنيتك‪ ،‬ولكني ال أحبك"‪.‬‬

‫ـ ‪ 100‬ـ‬
‫اسـ ــتدعي سـ ــعد اهلل "هـ ــراج بابازيـ ــان" إلى بيته وكـ ــانت المدينة تغلي والنفـ ــوس‬
‫مش ـ ـ ـ ــحونة أم ـ ـ ـ ــام أص ـ ـ ـ ــوات الطلقـ ـ ـ ــات النارية المتوالية إلرهـ ـ ـ ــاب الشـ ـ ـ ــعب وإ ذالله‬
‫وإ خضاعه‪.‬‬
‫كــان ســعد اهلل جالس ـاً خلف مائــدة عمله عنــدما دخل عليه بابازيــان‪ .‬وكــان يقف‬
‫بجانب المنضدة أخوه "إحسان الجابري" الذي بقي صامتاً أثناء المقابلة‪.‬‬
‫بدأ سعد اهلل الكالم‪:‬‬
‫ـ أكاد ال أفهم هؤالء الفرنسيين‪ .‬إن أرادوا أم ال‪ ،‬فإن عليهم الرحيل‪....‬ـ عليهم‬
‫أن يرحلــوا من هــذه البالد؛ وســوف يرحلــون وكل ما يفعلــون ما هو ســوى (رزالــة)‬
‫إنهم يــدركون هــذا جيــداً ولكنهم يســتمرون في البقــاء إلســالة الــدماء فحســب؛ ويوجد‬
‫بينهم عــدد ال بــأس به من جنــود األرمن‪ ،‬وطالما يســمح الــوقت أخــبروا شــبانكم بــان‬
‫يتركوا ويخرجوا من الجندية‪.‬‬
‫قال بابازيان فيما بعد‪:‬‬
‫"ولم ننتظر أن يقنعنـ ـ ــا‪...‬ـ كنا قد اتخـ ـ ــذنا كل اإلجـ ـ ــراءات الممكنة بـ ـ ــأن يخـ ـ ــرج‬
‫جميع الجن ــود األرمن ال ــذين ك ــانوا يخ ــدمون في الجيش الفرنسي ي ــوم األحد المقب ــل‪،‬‬
‫وعلى نحو جماعي من الثكنات‪ ،‬وكان سعد اهلل راضياً"‪.‬‬
‫وتكلم إحس ــان ألول م ــرة ق ــائالً‪" :‬ال تنس ــوا أن يجلب الجن ــود األرمن أس ــلحتهم‪،‬‬
‫لربما نحتاجها‪."...‬‬
‫وهنا ع ـ ــرفت س ـ ــعد اهلل الج ـ ــابري على حقيقت ـ ــه‪ ،‬إنه اإلنس ـ ــان الكب ـ ــير والش ـ ــهم‬
‫الشريف إذ التفت إلى أخيه وتكلم وهو مسـتاء‪ ،‬قـائالً‪" :‬كال‪...‬ـ ال نحتـاج لألسـلحة‪...‬‬
‫قد يج ـ ــبر البعض أن يس ـ ــتخدم أولئك الش ـ ــباب األرمن تلك األس ـ ــلحة ضد الفرنس ـ ــيين‬
‫الـ ـ ــذين راعـ ـ ــوهم ولمـ ـ ــدة عشـ ـ ــرين سـ ـ ــنة ليس من الحكمة أن يرفع األرمن السـ ـ ــالح‬
‫ضدهم"‪.‬‬
‫ويتــابع بابازيــان كالمــه‪ :‬طــوال حيــاتي لم أســمع من سياســي‪ ،‬بل لم أقــرأ أيض ـاً‬
‫درس ـ ـاً أخالقي ـ ـاً كهـ ــذا‪ .‬وفي الواقع كـ ــان سـ ــعد اهلل يحتـ ــاج إلى السـ ــالح‪ ،‬ولكن المبـ ــدأ‬
‫األخالقي كان قائده‪.‬‬

‫النضال الداخلي‪:‬‬
‫كــان ســعد اهلل في نضــاله الــداخلي الصــعب هاديـاً ومعلمـاً ألبنــاء قومه في قيــادة‬
‫س ـ ــفينة األم ـ ــة‪ ،‬فمنع الفوضى وأق ـ ــام النظ ـ ــام وأعطى كل ذي حق حق ـ ــه؛ مت ـ ــأثراً من‬
‫ترسبات حضارية وأسرية‪ ،‬بعيدة الغور والعمق من تاريخنا وزمن طفولته‪.‬‬

‫ـ ‪ 101‬ـ‬
‫والواقع أن الش ـ ــعب لن ينسى ي ـ ــوم ث ـ ــارت وطنيته أم ـ ــام ت ـ ــدخل بعض األم ـ ــراء‬
‫الذين عمدوا إلى الشعب ليحدثوا الفوضى ويخلّوا باألمن‪ ،‬فقاومهم مقاومة شــديدة ال‬
‫هــوادة فيهــا‪ ،‬وقضى على الفســاد في مهــده‪ ،‬فكــان ذلك درس ـاً في السياسة الداخلية ال‬
‫ينســى؛ درسـاً تناسب مع ما يحمله من مشــاعر المست فكر المجتمع وآمــال اإلنســان‬
‫في حياة حرة كريمة؛ واسـتطاع الجــابري أن يـدركها وهي تتذبـذب بين نجــاح وفشل‬
‫واس ــتطاع أن يلمس ــها ويفهم لغته ــا‪ ،‬وب ــذلك ك ــان يالمس األغ ــوار الس ــحيقة في روح‬
‫الشعب‪.‬‬
‫كــان ســعد اهلل أثنــاء حكمه نزيه ـاً نظيف اليد عف اللســان؛ يرتفع عن السفاسف‬
‫ويتعالى عن المغريات؛ استغل المنصب لخير وطنه ورفعة مواطنيه‪.‬‬
‫كـ ــان يـ ــدفع تجـ ــاه القضـ ــية كل ما يملـ ــك؛ ومـ ــات فقـ ــيراً واضـ ــطر أخـ ــوه فـ ــاخر‬
‫الجابري أن يدفع عنه فواتير (أوتيل) أوريان باالس حيث كان ينزل‪.‬‬

‫سعد هللا في وزارة الخارجية‪:‬‬


‫نشأ س ــعد اهلل في السياسة وللسياس ــة‪ ،‬واش ــتغل في القض ــية العربية منذ أن ك ــان‬
‫طالب ـ ـ ـاً في مدرسة الحقـ ـ ــوق باألسـ ـ ــتانة؛ وصـ ـ ــرف معظم حياته يرعاها بماله وعقله‬
‫وقلبه‪.‬‬
‫عنــدما تــولى الــوزارتين الداخلية والخارجية اشــتغل على كل المســتويات الــتي‬
‫يتطلبها العمل السياسـ ـ ــي‪ .‬واسـ ـ ــتطاع أن يسـ ـ ــيطر على كل شـ ـ ــيء حـ ـ ــتى يوجهه في‬
‫الطريق الصحيحة‪ ،‬ويسرع الخطا لتحقيق ما يــراد من االســتقالل والســيادة وقد أفلح‬
‫في أك ـ ـ ــثر أعمال ـ ـ ــه‪ ،‬وال س ـ ـ ــيما في إج ـ ـ ــراء المفاوض ـ ـ ــات ألخذ الص ـ ـ ــالحيات وتنفيذ‬
‫المعاهدة‪.‬‬
‫إلى جـ ـ ـ ــانب عمله في وزارتي الداخلية والخارجيـ ـ ـ ــة‪ ،‬قـ ـ ـ ــام بالوكالة عن جميل‬
‫مردم بك في الرئاسة؛ وتـرأس الكتلة الوطنيــة‪ .‬وكل مجــاالت العمل هـذه تحتـاج إلى‬
‫ثبــات في العمل وأصــالة في الــرأي والحــزم مع الحكمة والتــدبير‪ ،‬كما كــانت تحتــاج‬
‫إلى فهم ودراية وعلم جم وإ دراك عميق لألمـ ـ ــور الدوليـ ـ ــة‪ ،‬كما تحتـ ـ ــاج في الـ ـ ــوقت‬
‫نفسه إلى لياقة في المعامالت والمخاطبات وحل المشكالت؛ وكان سـعد اهلل في هـذه‬
‫الميادين صاحب مزايا بارزة ومدارك واسعة تؤهله لتمثيل بالده خير تمثيل‪...‬‬
‫وأراد أن يمثل سـ ــورية في الـ ــدول األخـ ــرى؛ فـ ــألحق بعض األشـ ــخاص الـ ــذين‬
‫تمرنـ ـ ــوا جيـ ـ ــداً على الـ ـ ــبروتوكول بسـ ـ ــفارات فرنسا في مصر والعـ ـ ــراق وبـ ـ ــاريس‪،‬‬
‫وأرسلهم إليها لمدة معينة‪ ،‬وأحدث في العاصمة الدوائر الالزمة لها‪.‬‬

‫ـ ‪ 102‬ـ‬
‫تسلم الصالحيات الخارجية من يد الفرنسيين‪ ،‬وفي أثنــاء وجــوده في الخارجية‬
‫تم االتفـ ـ ــاق بين سـ ـ ــورية والعـ ـ ــراق على عقد معاهـ ـ ــدة (حسن جـ ـ ــوار) وقبالً كـ ـ ــانت‬
‫المعاهدات تعقد مع ممثلي فرنسا‪.‬‬
‫وأثن ــاء انش ــغال س ــعد اهلل بالخارجي ــة‪ ،‬ب ــدأ مكتب الكتلة الوطنية يض ــعف ش ــأنه‪،‬‬
‫بســبب اســتقالة الرؤســاء الـذين تعــاونوا عليــه‪ ،‬فمنهم عفيف الصــلح ثم نسـيب البكــري‬
‫ثم ش ــكري الق ــوتلي‪ ،‬وب ــذلك اختلت أم ــور المكتب‪ ،‬بينما ك ــان أي ــام رئيسه س ــعد اهلل‪،‬‬
‫يمثل الكتلة ويمثل قوتها ووحـ ـ ــدة كلمتهـ ـ ــا‪ ،‬حـ ـ ــتى أص ـ ــبح مكتب الكتلة محط اآلمـ ـ ــال‬
‫ومظهر التضامن ورمز اإلخاء‪.‬‬
‫وأحــدث ســعد اهلل في أيــام وزاراته مصــلحة االســتطالعات واالســتخبارات تمد‬
‫الحكومة بالمعلومات الصادقة واألخبار‪ ،‬وتساعدهم في التحقق من صحة الحــوادث‬
‫والوقوعـ ــات والحركـ ــات السياسـ ــية‪ ...‬كـ ــان سـ ــعد اهلل يبـ ــني كل هـ ــذا واألوقـ ــات تمر‬
‫عصــيبة قاســية ال ســيما عنــدما تفــرق رأي الــوزراء واختفى التجــانس بين األعضــاء‬
‫وظهرت الفردية في بعض تصــرفاتهم‪ ،‬وهــذا ما أغــاظ ســعد اهلل كثــيراً وجعله ينقطع‬
‫عن أعماله في الوزارتين‪ ،‬فقد يفهم من حوله‪.‬‬
‫وثبت لـه أن هذا العهد من أصعب العهود‪ ،‬وال سيما أن الفرنسـيين يعملـون في‬
‫الخفـ ــاء ويشـ ــترون بعض الـ ــرؤوس والضـ ــمائر؛ بحيث ال يـ ــتركون سـ ــعد اهلل يرسي‬
‫قواعد دولته على أس ـ ــاس ث ـ ــابت حر ينشر الهيبة والحرمة واالح ـ ــترام؛ وك ـ ــثر ع ـ ــدد‬
‫المأجورين الــذين راحــوا يدســون ويخربــون في كل اإلدارات‪ ،‬وكيف اشــترت فرنسا‬
‫ضـ ـ ــمائر وذمم وعهـ ـ ــود لتفـ ـ ــرغ األمة من الـ ـ ــداخل‪ ،‬وتجعل البنـ ـ ــاء مهلهالً ليتصـ ـ ــدع‬
‫كجدران خالطها الغش وهنا أحس سعد اهلل باإلحباط‪.‬‬
‫ولكن‪...‬ـ صـ ــوت الـ ــوطن‪ ...‬أنين الـ ــوطن‪...‬ـ كـ ــان يمـ ـ ّـده بكل قـ ــوة وينقـ ــذه من‬
‫اإلحباط الذي هو فيه‪ ،‬وتتجدد فعاليته ويعود‪...‬ـ‬
‫وهكذا كان سعد اهلل في نضاله الـداخلي والخــارجي كالســيف المســلول في وجه‬
‫عدو الوطن سيف ال يفل وال يمل‪ ،‬حـتى إذا دب اليـأس في قلـوب النــاس لم يـزدد هو‬
‫إال إمعانـ ـاً في ثباته وعن ــاداً في س ــيره وتحف ــزاً في ثبات ــه‪ ،‬والحي ــاة كلها قد ت ــوثبت في‬
‫جنباته وجعلته أول شاعر في الحياة وحكمها وأول ثائر على الدنيا وظلمها‪.‬‬

‫في رئاسة الوزارة‪:‬‬


‫ك ـ ـ ــان حريصـ ـ ـ ـاً على تط ـ ـ ــبيق ال ـ ـ ــبروتوكوالت السياس ـ ـ ــية مع الرس ـ ـ ــميين ومع‬
‫الم ـ ـ ــوظفين ومع النقاب ـ ـ ــات‪ ،‬بحيث لم يكن يهمل أح ـ ـ ــداً‪ ،‬وهو ب ـ ـ ــذلك يحفظ حق ـ ـ ــوقهم‬

‫ـ ‪ 103‬ـ‬
‫ويصـ ــون كـ ــرامتهم ويشـ ــعرهم عملي ـ ـاً بقيمتهم االجتماعية ومركـ ــزهم الـ ــذي يجب أن‬
‫يحافظوا عليه بعيداً عن أية شبهة أو تقصير أولومة الئم‪.‬‬
‫يــذكر نقيب المحــامين قصة جــرت بين ســعد اهلل وبينــه‪ ،‬وهي تُــروى في الواقع‬
‫للتاريخ كشاهد على قـوة الشخصـية وصـالبة الشـكيمة وحسن التفهم لألمـور‪ ،‬وعمق‬
‫تفهم األشخاص الذين حوله‪.‬‬
‫يقول نصوح بابيل نقيب الصــحفيين آنــذاك‪ :‬في يــوم من أيــام رمضــان المبـارك‬
‫أقـ ــام الـ ــرئيس الجـ ــابري بوصـ ــفه رئيس ـ ـاً للـ ــوزارة السـ ــورية مأدبة إفطـ ــار في فنـ ــدق‬
‫الشرق‪ ،‬ودعا عدداً من الشخصيات المعروفة الرســمية والشــعبية؛ وكــان المــدعوون‬
‫يتجهـ ــون إلى (خارطة المائـ ــدة) لترشـ ــيد كل واحد إلى مقعـ ــده واتجهت بـ ــدوري إلى‬
‫الخارطة‪ ،‬فوجـدت مقعــدي بوصـفي نقيبـاً للصـحافة دون مســتوى مقاعد السـادة نقبـاء‬
‫المحـ ــامين والمهندسـ ــين واألطبـ ــاء؟ وكـ ــان المشـ ــرف على تنظيم الخارطة الصـ ــديق‬
‫الدكتور أنور حاتم‪ ،‬مدير مكتب رئيس الوزارة‪.‬‬
‫قلت ل ـ ــه‪ :‬أنـ ــور بك إن مقعد نقيب الصـ ــحافة ليس هنـ ــا؛ بل يجب أن يكـ ــون في‬
‫مسـ ــتوى مقاعد النقبـ ــاء الممـ ــاثلين‪ ،‬قـ ــال‪ :‬ليس في مقـ ــدوري أن أحـ ــدث أي تغيـ ــير أو‬
‫تعديل في المقاعد؛ فال تحرجـني‪ .‬الــوقت ضــيق وموعد اإلفطــار أمسى وشــيكاً؛ قلت‬
‫أنا لم أحرج ـ ــك‪ ،‬بل أنت أح ـ ــرجت نفس ـ ــك‪ ،‬وس ـ ــأنتظر خمس دق ـ ــائق فق ـ ــط؛ ح ـ ــتى إذا‬
‫وجـ ــدت المقعد المالئم بكرامة الصـ ــحافة وبكرامـ ــتي الشخصـ ــية فبهما ونعمت‪ ،‬وإ ال‬
‫أنسحب وأعود إلى منزلي‪ ...‬وهكذا كان فقد انسحبت‪...‬ـ‬
‫بعد أن جلس المــدعوون في مقاعــدهم‪ ،‬وبــدأ تنــاول الطعــام‪ ،‬لفت نظر ســعد اهلل‬
‫وجــود مقعد ال يجلس عليه أحــد‪ ،‬فأومأ للســيد أنــور حــاتم الــذي جــاءه بســرعة فهمس‬
‫في أذنه س ــائالً عن أس ــباب خلو المقعد ومن هو ص ــاحبه؛ أج ــاب‪ :‬ه ــذا مقعد األس ــتاذ‬
‫نصوح بابيل وقد انسحب محتجاً على مكان المقعد‪ ،‬فقد اعتــبره دون مســتوى مقاعد‬
‫النقباء أمثاله؛ وأن هذا ال يليق بكرامة الصحافة التي يمثلها‪.‬‬
‫رن ج ـ ــرس‬
‫هز سـ ـ ــعد اهلل رأس ـ ــه‪ ،‬دون أي تعليـ ـ ــق‪ ،‬وقبل ظهر اليـ ـ ــوم الثـ ـ ــاني‪ّ ،‬‬
‫الهاتف في مكتبي في جريدة األيام‪ ،‬وقال لي موظف الهاتف في سراي المرجة‪:‬‬
‫تكلموا مع دولة الرئيس‪:‬‬
‫ـ نصوح‪ ..‬أريدك لخمس دقائق فقط‪...‬ـ أنا في انتظارك‪...‬ـ‬
‫دخلت عليه‪ ،‬فاستقبلني بابتسامة عريضة وقال‪:‬‬

‫ـ ‪ 104‬ـ‬
‫ـ آسف النسـ ـ ــحابك أمس من مائـ ـ ــدة اإلفطـ ـ ــار‪ ،‬لكن في نفس الـ ـ ــوقت أكـ ـ ــبرت‬
‫احتجاجك وغضـ ــبك‪ ،‬الواقع أن الخطأ الـ ــذي وقع ليس خطـ ــئي ولست مسـ ــؤوالً عنه‬
‫إنما هو خطأ جماعة ال ــبروتوكول‪...‬ـ له ــذا ق ــررت دع ــوة جميع أص ــحاب الص ــحف‬
‫ورؤساء التحرير إلى مأدبة إفطار تقام غداً في نفس المكان (فندق الشرق) اعتــذاراً‬
‫عن الخطأ ال ــذي ح ــدث وتكريمـ ـاً للص ــحافة في ش ــخص نقيبه ــا‪ ،‬وسترسل ال ــدعوات‬
‫إليهم اآلن‪.‬‬
‫ش ـ ــكرته على اهتمامه الس ـ ــريع بالموض ـ ــوع‪ ،‬واعت ـ ــبرت ه ـ ــذا كافيـ ـ ـاً ليمحو من‬
‫نفسي خطأ جماعة الـ ـ ــبروتوكول‪ .‬حـ ـ ــاولت االعتـ ـ ــذار عن المأدبـ ـ ــة‪ ،‬لكنه أصر على‬
‫إقامتها‪.‬‬
‫في غ ــروب الي ــوم الث ــاني‪ ،‬ك ــان جميع أص ــحاب الص ــحف ورؤس ــاء التحري ــر‪،‬‬
‫يجلسون حول مائدة كريمة يتصدرها الرئيس سعد اهلل‪...‬ـ‬
‫وحـدث أن ازدحـام حركة السـير قد أعـاقني عن الوصـول متـأخراً خمس دقـائق‬
‫فس ــمح صــاحب الــدعوة لنفسه وللم ــدعوين بتنــاول شــراب اإلفطــار وال ــتريث بتنــاول‬
‫الطعام ريثما يصل النقيب؛ وما هي إال لحظات حتى أخذت مقعدي في المائــدة‪ ،‬وقد‬
‫أب ــديت اعت ــذاري عن ت ــأخري االض ــطراري‪ .‬خالل تن ــاول الطع ــام تح ــدث ال ــرئيس‬
‫الجـ ــابري عن كرامة اإلنسـ ــان وأثرها في حياتـ ــه؛ ومما قالـ ــه‪ :‬ال خـ ــير في إنسـ ــان ال‬
‫يغضب لكرامت ــه‪ ،‬إلى أن خ ــاطب الم ــدعوين بقول ــه‪ :‬اس ــمحوا أن أه ــنئكم بنقيبكم من‬
‫صــميم قلــبي‪ ،‬فانســحابه بــاألمس من وليمــتي قد أعلى قــدر الصــحافة ورفع مكانتهــا‪،‬‬
‫وإ ذا د ّل على ش ـ ـ ـ ـ ــيء فقد دل على مق ـ ـ ـ ـ ــدار إخالصه لمهنته وغيرته عليها وحرصه‬
‫ال ـ ــدائم على جعلها في المس ـ ــتوى الالئق بها ومن ال يخلص لمهنته ال يخلص لوطنه‬
‫وال ألصدقائه وزمالئه‪.‬‬

‫ـ ‪ 105‬ـ‬
‫أوش ــكت م ــدة رئاسة الس ــيد ش ــكري الق ــوتلي على االنته ــاء‪ ،‬وهنا انقسم إخوانه‬
‫وأصدقاؤه إلى فريقين‪ :‬األول يقول بالتجديد لـه والثاني يرى العكس‪...‬‬
‫ذهب سـ ــعد اهلل إلى القصر ليجتمع بالسـ ــيد شـ ــكري القـ ــوتلي‪ .‬ويتحـ ــدث معه في‬
‫موضــوع التجديــد؛ وعنــدما دخل عليه وجــده يتحــدث مع (فالن) الــذي يطمح هو في‬
‫استالم الرئاسة؛ وعندما سأل السيد القوتلي سعد اهلل عن رأيه أجاب‪:‬‬
‫ـ ال أبــدي رأي قبل أن تــأتوني بنســخة من كتــاب اهلل‪...‬ـ قــال الــرئيس القــوتلي‪:‬‬
‫وما عالقة موض ـ ــوع التجديد بكت ـ ــاب اهلل؟ ق ـ ــال س ـ ــعد اهلل‪ :‬ه ـ ــذا ال ـ ــذي أري ـ ــد‪ ،‬فطلب‬
‫ال ــرئيس نس ــخة من الق ــرآن العظيم‪ ،‬فتناولها س ــعد اهلل ووضع كفه عليها وأقسم على‬
‫أنه لن يرشح نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية ما دام ال ـ ـ ـ ـ ـ ــرئيس الق ـ ـ ـ ـ ـ ــوتلي على قيد‬
‫الحياة‪...‬‬
‫وتابع حديثه مع الرئيس قائالً‪:‬‬
‫ـ يا فخامة الـ ــرئيس إننا نأخذ عن بعض حكـ ــام العـ ــرب حرصـ ــهم على ديمومة‬
‫البقـ ــاء في مقاعد الحكم‪ ،‬وننتقـ ــدهم بشـ ــدة واسـ ــتمرار‪ ،‬فهل نسـ ــمح لآلخـ ــرين بانتقادنا‬
‫لنفس السـ ــبب‪ ،‬إن لك من شـ ــعبيتك ومن تقـ ــدير المواطـ ــنين إلخالصك وجهـ ــادك‪ ،‬ما‬
‫يجعلك وأنت في منزلك أن توجه إلى أي رئيس جمهورية يـأتي إلى هــذا المقــام نحو‬
‫الطريق التي ترسمها لـه وبكلمة موجزة إنك تبقى الرئيس األعلى غير المتوج‪...‬‬
‫وهنا قطع عليهما الحديث (فالن) متهكماً‪:‬‬
‫ـ ومن يك ــون يا س ــعد اهلل بك الش ــخص األليق واألفضل باش ــغال ه ــذا المنصب‬
‫الكبير من شخص فخامة الرئيس؟‬
‫أدرك سعد اهلل قصده فانتفض صائحاً‪:‬‬
‫ـ (فالن)‪ ...‬رئيسان يتكلمان فال تتدخل بينهما‪...‬‬
‫انس ــحب (فالن) إثر ذل ــك‪ ،‬وبقي مع ال ــرئيس الق ــوتلي ال ــذي وقع كالم س ــعد اهلل‬
‫من نفسه موقع الرضا واالرتياح‪ ،‬وقال لـه الرئيس‪:‬‬
‫ـ حسناً‪ ...‬خير إن شاء اهلل‪...‬ـ سنستمر في بحث الموضوع لنهتدي إلى القرار‬
‫الالزم‪.‬‬
‫في هـ ــذه الفـ ــترة صـ ــادق مجلس النـ ــواب باإلجمـ ــاع على المعاهـ ــدة بتـ ــاريخ ‪26‬‬
‫كانون األول وكان أن بدأت تحركــات جديـدة من قبل الســلطة الفرنسـية واألتـراك‪...‬‬
‫ولعل أهم األحداث التي جرت بعد توقيع المعاهدة قيام تركيا بطلب لواء اسـكندرون‬
‫طلباً ملحاً قائلة‪:‬‬

‫ـ ‪ 106‬ـ‬
‫"إنه ال يسـ ـ ــعها أن ت ـ ــترك ه ـ ــذا اإلقليم للسـ ـ ــوريين لكي يحكمـ ـ ــوه ويتحكمـ ـ ــوا في‬
‫الفريق ال ـ ـ ــتركي من سـ ـ ـ ــكانه"‪ .‬أي أن تركيا ترضى أن يبقى (السـ ـ ـ ــنجق) تحت حكم‬
‫فرنسا‪ ،‬ولكنها تعارض أن يبقى تحت حكم سورية‪.‬‬

‫‪:1937‬‬
‫وراحت قضية اللواء تقض مضجع الشعب السوري‪ ،‬وثارت ثائرة أهل اللواء‬
‫النسالخهم عن سورية‪.‬‬
‫وفي ‪ 25‬أيـ ــار ‪ 1937‬تحـ ــدث سـ ــعد اهلل وكـ ــان وزيـ ــراً للخارجيـ ــة‪ ،‬تحـ ــدث في‬
‫مجلس الن ـ ــواب عن قض ـ ــية الل ـ ــواء‪ ،‬وهو يحمل في أعماقه غض ـ ــباً وث ـ ــورة أش ـ ــعلتها‬
‫فرنسا بتصرفاتها الغادرة‪ ،‬قال سـعد اهلل‪ :‬تعلمـون يا سـادتي أن قضـية اسـكندرون قد‬
‫أث ــيرت بغ ــير علم من ــا‪ ،‬وقبل أن نســتلم الحكم‪ ،‬وقبل أن يجتمع مجلس ــكم الكــريم‪ ،‬وقد‬
‫كــانت إثــارة هــذه المســألة مفاجــأة غــير منتظــرة‪ ،‬ليس لنا فحســب‪ ،‬بل لفرنسا أيض ـاً‪.‬‬
‫وقد كان أمر هذه القضية (اسكندرون) مفروغاً منه طبقـاً لمعاهـدة (أنقــرة)‪ ،‬غــير أن‬
‫األحداث السياسية قضت بأن يتطــور هــذا الخالف وينتقل إلى عصــبة األمم‪ .‬فعالجه‬
‫مجلس العصبة‪ ،‬وانتهى إلى قرار (ساندالر)‪.‬‬
‫وهــذا التقرير ينقسم إلى قســمين ويشــترط في بعض مــواده وضع نظــام أساسي‬
‫لهذا اللواء‪.‬‬
‫وعن ـ ــدما جاءتنا ه ـ ــذا الح ـ ــوادث مفاج ـ ــأة؛ ذهبت الحكومة إلى بـ ــاريس وج ـ ــنيف‬
‫وتـابعت األمر وفقـاً لرغـائب األمة ودفاعـاً عن مصـلحتها؛ وقد أدت المناقشـات الـتي‬
‫دارت بيننا إلى تق ــديم م ــذكرة غ ــير رس ــمية‪ ،‬وع ــدنا نحمل أمالً قويـ ـاً بالوص ــول إلى‬
‫تحقيق ما قدمناه‪.‬‬
‫ولكن لجنة الخـ ــبراء المؤلفة من منـ ــدوب فرنسي ومنـ ــدوب إنكلـ ــيزي ومنـ ــدوب‬
‫بلجيكي ومن ـ ــدوب هولن ـ ــدي‪ ،‬ومن ـ ــدوب س ـ ــوري ومن ـ ــدوب ت ـ ــركي‪ ،‬اجتمعت ودارت‬
‫األبحاث فيها ألول مرة؛ فكــان االختالف ســائداً ولم تصل أبحاثها إلى نتيجة حاســمة‬
‫بسبب تصادم وجهات النظر بين فرنسا وتركيا‪.‬‬
‫وع ــادت اللجنة م ــرة أخ ــرى لالجتم ــاع‪ ،‬ولكن لجنة الخ ــبراء اتجهت اتجاهـ ـاً ال‬
‫يضمن تحقيق المطلب الذي قدمناه‪.‬‬
‫هذا‪ ..‬ولما علم السوريون بعد فترة بما وضعت لجنة الخبراء بخصوص لواء‬
‫اس ـ ــكندرون‪ ،‬ق ـ ــامت المظ ـ ــاهرات الص ـ ــاخبة في كل الم ـ ــدن‪ ،‬ح ـ ــتى األقض ـ ــية‪ .‬وعقد‬
‫المجلس النيابي جلسته في ‪ 31‬أيار ‪ ،1937‬وأعلن قراره على الشعب وأرسله إلى‬

‫ـ ‪ 107‬ـ‬
‫عصـ ــبة األمم‪ ،‬ولم يكن لسـ ــورية جيش وطـ ــني تحت إمرتها وال أراد الفرنسـ ــيون أن‬
‫يناقشــوا أو يقــاوموا هــذا القــرار ال سياســياً وال إداري ـاً‪ ،‬فنفذ القــرار لصــالح األتــراك‬
‫ومؤامرة فرنسا ومهزلة عصبة األمم‪.‬‬
‫وفي ‪ 29‬تش ــرين الث ــاني ‪ 1937‬أن ــزل العلم الس ــوري عن مب ــاني الحكومة ولم‬
‫يرفع بع ــدها م ــرة أخ ــرى‪ .‬وبمناس ــبة إنزاله ألقى وزير الخارجية س ــعد اهلل الج ــابري‬
‫الكلمة التالية‪:‬‬
‫ال يمكن للحكومة إال أن تشـ ـ ـ ــارككم في األثر األليم في ذكـ ـ ـ ــرى هـ ـ ـ ــذا اليـ ـ ـ ــوم‪.‬‬
‫ال تسـ ـ ــتطيع أية حكومة كـ ـ ــانت إال أن تشـ ـ ــارككم فيـ ـ ــه‪ ،‬أما من حيث وجهة الحكومة‬
‫وعمله ــا‪ ،‬فإنها احتجت وق ــدمت لكل من يرجع إليه األمر ما يجب أن يعم ــل‪ ،‬وأن ــزل‬
‫العلم الس ــوري لمخ ــاوف ث ــارت في النف ــوس وتوس ــعت أك ــثر من حقيقته ــا؛ ولم يمنع‬
‫رفع العلم الس ــوري فحسب بل منعت جميع اإلعالم في ه ــذا الي ــوم خوفـ ـاً من وق ــوع‬
‫الحــوادث‪ .‬وهــاج الشــعب وصــرح ســعد اهلل‪ :‬لو كــان لســورية في ذلك الــوقت جيش‬
‫خاضع ألمر الوطن ـ ـ ــيين‪ ،‬لتغ ـ ـ ــير الموق ـ ـ ــف‪ ،‬ح ـ ـ ــتى ربما لم تتغ ـ ـ ــير خريطة س ـ ـ ــورية‬
‫الجغرافية‪ ،‬ولم يتبدل وجهها التاريخي‪..‬ـ ولكن‪...‬ـ‬
‫وبـ ــدأت الخطب في حلب في الجـ ــامع األمـ ــوي منـ ــددة بإنشـ ــاء أحـ ــزاب أخـ ــرى‬
‫تن ـ ــاوئ الحركة الوطنية ال ـ ــتي ق ـ ــامت على أس ـ ــاس أنها الحركة الوحي ـ ــدة لتجمع كافة‬
‫القوى فيها‪ ،‬وكانت تهاجم الشهبندر الذي كان يسعى لتشكيل حزب جديد‪.‬‬
‫وأراد سـ ــعد اهلل أن يؤكد للشـ ــعب رأيـ ــه‪ :‬تأكـ ــدوا أنه ال توجد في البالد أحـ ــزاب‬
‫غــير (الكتلة الوطنيــة) حــزب واحد هو األمة بأســرها‪" :‬إن مصــلحة الــوطن تقتضي‬
‫أن نقــاوم كل حــزب وكل عمل من شــأنه أن يشــوش على هــذا الــدور اإلنشــائي؛ وإ ذا‬
‫قاومنا فال نقاوم بالدرك والشرطة‪ ،‬بل نقاوم بكم أنتم ألنكم قوتنا"‪.‬‬
‫وفي الواقع أن تعدد األحزاب ولو كــان فيه شــيء من الديمقراطيــة‪ ،‬في التعبــير‬
‫عن االتجاه ــات السياس ــية‪" ،‬ولكن لم ي ــأت ال ــوقت له ــذا االنفت ــاح والبالد بأشد الحاجة‬
‫إلى قــوة واحــدة وصــوت واحد ومقاومة واحــدة تقف في وجه االســتعمار الــذي ربما‬
‫تغلغل بين صفوف األحزاب ليفرق بين أبناء الشعب الواحد؟"(‪.)1‬‬
‫وكـ ـ ــان أن تم توقيع ملحق للمعاهـ ـ ــدة في ‪ 12‬كـ ـ ــانون األول ‪ 1937‬مع السـ ـ ــيد‬
‫فرانس ـ ــوا دو تيس ـ ــان وفي ه ـ ــذا الملحق إيض ـ ــاح لبعض النق ـ ــاط الغامضة (كما ادعت‬
‫فرنســا)‪ .‬وعلى الــرغم من ذلك فــإن مشــروع المعاهــدة بقي غــير مصــادق عليه من‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫سعد اهلل الجابري‪ ،‬في بعض خطبه في الجامع األموي‪.‬‬

‫ـ ‪ 108‬ـ‬
‫فرنســا‪ ،‬وهــذا معنــاه أن ســورية ســتواجه متــاعب جديــدة من العقبــات الــتي توضع في‬
‫طريق سيرها‪.‬‬
‫‪:1938‬‬
‫ولم يكن الوط ــنيون في ي ــوم من األي ــام يع ــترفون باالنت ــداب‪ ،‬ومع ه ــذا فقد وقع‬
‫الفرنس ـ ــيون واألت ـ ــراك في ك ـ ــانون الث ـ ــاني اتفاقـ ـ ـاً س ـ ــموه (اتف ـ ــاق أنق ـ ــره) ينص على‬
‫أن تشترك تركيا في احتالل السنجق مع فرنسا؛ وأجريت االنتخابـات ونـال األتـراك‬
‫‪ /22/‬مقعداً من أربعين ‪ /40/‬مقعداً‪.‬‬
‫وت ـ ــراجعت فرنس ـ ــا‪ ،‬وتس ـ ــاهلت من جديد على حس ـ ــاب س ـ ــورية‪ ،‬وتعاق ـ ــدت مع‬
‫تركيا أن تترك لها اللواء‪ ،‬وانسحب الفرنسيون وضمت تركيا اللــواء إلى أراضــيها‪،‬‬
‫وأطلقت عليه اسم (هاتـ ــاي) ونـ ــزح عنه معظم سـ ــكان العـ ــرب ولجـ ــؤوا إلى سـ ــورية‬
‫ولبنـان وازدادت االنسـالخات من األراضي السـورية‪ ،‬وقـامت المصـاعب والعقبـات‬
‫في كيفية تــدبير أمورها الداخليــة‪ ،‬حــتى اضــطر رئيس الحكومة الســورية الســفر إلى‬
‫فرنسا في شهر آب ‪.1938‬‬
‫وفي بــاريس تفــاوض مع هيئــات كثــيرة من سياســيين ورجــال أعمــال وزعمــاء‬
‫روحـ ــيين ورجـ ــال الكنيسـ ــة‪ ،‬حـ ــتى مع العسـ ــكريين الكبـ ــار وأسـ ــاتذة الجامعـ ــات‪ ،‬عله‬
‫باتص ــاالته المكثفة ه ــذه أن يعطي أك ــثر رج ــال فرنسا ص ــورة ناطقة وواض ــحة عن‬
‫الوضع السياسي في سورية‪.‬‬
‫ومنذ ‪ 22‬تشــرين األول ‪ 1938‬عــرف الســيد (غبرييل بيــو) بأنه ســيتوجه إلى‬
‫الشـ ــرق لتنفيذ السياسة الجديـ ــدة لفرنسـ ــا‪ ،‬وراح يسـ ــعى بين الـ ــوزارات ليتفهم مهمته‬
‫جيداً‪ ،‬وكان أن علم أن الرأي العسكري هو استمرار الوجود العسكري في سورية‪،‬‬
‫أما الـ ــرأي السياسي فهو التأجيل لتوقيع المعاهـ ــدة تحت شـ ــعار الدراسـ ــة‪ ،‬كما كـ ــانت‬
‫تعليمـ ـ ـ ــات رئيس الحكومة الفرنسـ ـ ـ ــية (داالدييـ ـ ـ ــة)‪" :‬انظر واعمل لما هو أفضـ ـ ـ ــل"‪.‬‬
‫وبالطبع لمصلحة فرنسا‪.‬‬
‫وفي ‪ 14‬تشـ ـ ــرين الثـ ـ ــاني وقع رئيس الحكومة السـ ـ ــورية مع (جـ ـ ــورج بونيـ ـ ــة)‬
‫وزير الخارجية تص ــريحاً تم بموجبه التسـ ــليم بـ ــأن من مصـ ــلحة الط ــرفين اس ــتعجال‬
‫وضع النظام الذي نصت عليه المعاهدة الموقعة في عام ‪ ،1936‬موضع التنفيذ‪.‬‬
‫وقـ ــارب عـ ــام ‪ 1938‬على االنتهـ ــاء‪ ،‬دون أن تعـ ــرض المعاهـ ــدة على اللجـ ــان‪،‬‬
‫وأجلت الحكومة الفرنســية طلب التصــديق على المعاهــدة‪ ،‬وعلى األثر أعلن مجلس‬
‫الن ــواب بت ــاريخ ‪ 31‬ك ــانون األول ‪ 1938‬التوقف عن إج ــراء أي تعاقد مع فرنس ــا‪،‬‬
‫وجالء آخر جندي أجنبي عنها‪.‬‬

‫ـ ‪ 109‬ـ‬
‫واتخذ المجلس القرار اآلتي‪:‬‬
‫"إن مجلس النـ ـ ـ ــواب يأسف لتسـ ـ ـ ــويف الحكومة الفرنسـ ـ ـ ــية في تنفيذ تعهـ ـ ـ ــداتها‪،‬‬
‫ويش ـ ــجب ما يص ـ ــدر عنها من ت ـ ــردد في تص ـ ــديق المعاه ـ ــدة وتأجيل الوضع موضع‬
‫التنفي ـ ــذ"‪ ،‬والمجلس يطلب من الحكومة الس ـ ــورية المحافظة على الحق ـ ــوق ال ـ ــتي من‬
‫ش ــأنها تأكيد اس ــتقالل س ــورية ووح ــدتها وأن تتخذ (ب ــدون ت ــأخير) الت ــدابير الحازمة‬
‫التي من شأنها تأمين تسليم جميع الصالحيات التي لم يتم انتقالها‪.‬‬

‫‪:1939‬‬
‫ك ــانت الح ــرب العالمية الثاني ــة‪ ،‬وتعطلت الحي ــاة الدس ــتورية‪ ،‬وأبعد الوط ــنيون‬
‫عن الحكم‪ ...‬وزاد إمع ـ ـ ــان الفرنس ـ ـ ــيين في اض ـ ـ ــطهادهم‪ ،‬فاس ـ ـ ــتولوا على الس ـ ـ ــلطة‬
‫مباشرة وأنشؤوا حكومة موالية‪.‬‬
‫وأذاع سـ ــيد (بيـ ـ ّـو) خطبته في ‪ 9‬كـ ــانون الثـ ــاني ‪ ،1939‬قبيل تعطيل المجلس‬
‫النيابي وقال بعد أن تحدث عن قــوة فرنسـا‪" :‬إن االنتـداب قد أعطي لفرنسا من أكـبر‬
‫مجموعة دولية عرفها التاريخ‪ ،‬وبرضاء أهل البالد"‪.‬‬
‫ولكن النواب ّفندوا هذه البيانات‪ ،‬ومما قاله شكري القوتلي آنئذ‪:‬‬
‫"ليس في وسعنا أن ننكر أو نتجاهل يا حضرة السفير قوة فرنسا وثقة حلفائها‪.‬‬
‫ولكن ال ــذي تنك ــره ه ــذه البالد وال يحتويه س ــجلها الق ــومي‪ ،‬هو رض ــاء األهلين‬
‫الــودي باالنتــداب؛ ولعلكم تــذكرون تلك الثــورات وما كــان يضــطرم فيها وفي نفــوس‬
‫الشعب منذ عام ‪ 1920‬وحتى عام ‪ ،1936‬وإ ن هدفها األوحد وغايتها القصـوى لم‬
‫تكن إال إعالن السـ ــخط على هـ ــذا النظـ ــام الـ ــذي فـ ــرض علينـ ــا‪ ،‬ولم تكن لنا آراء في‬
‫اختياره وال تطبيقه ولم تقره ولم تعترف البالد به"‪.‬‬
‫وتــألفت حكومة جديــدة في ‪ 28‬شــباط ‪ 1939‬برئاسة الســيد لطفي الحفــار وهو‬
‫من أعضـ ــاء الكتلة الوطنيـ ــة‪ ،‬وبعد أيـ ــام أفـ ــاقت سـ ــورية على إضـ ــراب شـ ــامل‪ ،‬وقد‬
‫أرسل لطفي الحفــار مــذكرة للمفــوض الســامي مضــمونها أن فرنسا تحــرض الــدروز‬
‫والعلــويين وأهــالي الجزيــرة على عصــيان أوامر الحكومة في دمشــق؛ كما جــاء في‬
‫المــذكرة أنه ال يجــوز تــأخير تطــبيق المعاهــدة‪ ،‬وأنه يجب دون أي تــأخير نقل جميع‬
‫الصالحيات التي مازالت تدار باسم سورية‪.‬‬
‫واستلم المفوض السامي المذكرة‪ ،‬لم يرفض ما جاء في محتواها‪ ،‬وإ نما قال‪:‬‬

‫ـ ‪ 110‬ـ‬
‫"ســوف أحملها معي إلى بــاريس لدراســتها"‪ .‬ال شك أن هــذا التصــرف هو نــوع‬
‫من التس ــويف والت ــأخير واله ــرب من مواجهة الموق ــف‪ ...‬وذهب إلى ح ــوران لتفقد‬
‫وضع الشعب فيها ولما عاد فوجئ باستقالة حكومة لطفي الحفار‪.‬‬
‫وبقيت البالد تـ ـ ــدار بغـ ـ ــير حكومة شـ ـ ــرعية مـ ـ ــدة شـ ـ ــهرين‪ ،‬حـ ـ ــتى طلب رئيس‬
‫الجمهورية من الس ــيد نص ــوح البخ ــاري ت ــأليف حكوم ــة‪ ،‬فوافق على ش ــرط أن تضم‬
‫شخصيات حيادية‪ ،‬وأن توضع المعاهــدة الفرنســية ـ الســورية موضع تنفيــذ؛ ورفض‬
‫البخاري باالتفاق مع رئيس الجمهورية الدخول مع فرنسا بأية مفاوضات‪.‬‬
‫ال‪ ،‬فقد استقال هو ووزراؤه في ‪ 4‬حزيران ‪.1939‬‬
‫ولم تدم هذه الحكومة طوي ً‬
‫أما سياسة فرنسا في الخــارج فقد وقع الســفير الفرنسي (ماســيغلي)ـ مع (ســراج‬
‫أوغل ـ ـ ــو) وزير تركي ـ ـ ــا‪ ،‬في ‪ 23‬حزي ـ ـ ــران تن ـ ـ ــازالً عن إقليم الس ـ ـ ــنجق بما فيه مدينة‬
‫أنطاكية العاص ـ ــمة الروحية للمسـ ـ ــيحيين‪ ،‬وبما فيها من الس ـ ــهول الخصـ ـ ــبة (س ـ ــهول‬
‫العمق)‪.‬‬
‫وفي أوائل تم ـ ــوز ‪ ،1939‬ك ـ ــان المف ـ ــوض الس ـ ــامي قد أعلن عن فك الوح ـ ــدة‬
‫الســورية وعن تأســيس دولــتي العلــويين وجبل الــدروز‪ ،‬ولم يعلن انفصــال الجزيــرة‪،‬‬
‫وإ نما أصدر قراراً بتعيين أحد الضـباط الفرنسـيين محافظـاً لهـا‪ .‬وكـذلك صـدر قـرار‬
‫(بيــو) في ‪ 10‬تمــوز بتــأليف حكومة من المــديريين‪ ،‬من‬ ‫آخر من المفــوض الســامي ّ‬
‫بهيج الخطيب (الـ ـ ـ ــذي وصف بأنه أحد المـ ـ ـ ــوظفين األكيفـ ـ ـ ــاء المـ ـ ـ ــوالين‪ ،‬لالنتـ ـ ـ ــداب‬
‫الفرنســي)‪ ،‬ومن خليل رفعت وغيرهمــا‪ ،‬فرجعــوا بــالبالد عشــرين ســنة إلى الــوراء‪،‬‬
‫إنهم كانوا يحكمونها حكماً مباشراً فيه لون من اإلذالل‪.‬‬
‫ومنذ تس ـ ــلم بهيج الخطيب مهمت ـ ــه‪ ،‬ق ـ ــام بجولة في المحافظ ـ ــات‪ ،‬ومع أن الكتلة‬
‫الوطنية كـ ــانت في وضع حـ ــرج ومتفكـ ــك‪ ،‬فـ ــإن أحـ ــداً من الوطنـ ــيين لم يشـ ــترك في‬
‫االستقباالت الرسمية‪.‬‬
‫وهكـ ـ ــذا سـ ـ ــيطر الفرنسـ ـ ــيون مـ ـ ــرة أخـ ـ ــرى على الحكم‪ ،‬وكـ ـ ــان الـ ـ ــوزير الفعلي‬
‫للــوزارة هو المستشــار الفرنسي واضــطر المحــافظون إلى تــرك مناصــبهم‪ ،‬كما فعل‬
‫إحسان الجابري محافظ الالذقية‪ ،‬ونسيب البكري محافظ جبل الدروز‪.‬‬
‫وبعد ف ــترة قص ــيرة‪ ،‬ص ــدر ق ــرار آخر بتعليق الدس ــتور وتعطيل الحي ــاة النيابية‬
‫استناداً إلى ما سماه (فراغ السلطة)‪.‬‬
‫اســتغل األتــراك الموقــف‪ ،‬وبــدأت المناوشــات التركيــة‪ ،‬ولكن فرنسا لم تتحــرك‬
‫ولم تحم اس ــكندرون‪ ،‬ولم تق ــاوم األت ــراك عن ــدما دخلوها في ‪ 23‬تم ــوز ‪ ،1939‬بل‬
‫كانت وراءهم تطبق ما خططه (ما سيغلي الفرنسي وسراج أوغلو التركي)ـ وكــانت‬

‫ـ ‪ 111‬ـ‬
‫فرنسا ت ــداريهم كث ــيراً في س ــبيل مط ــامع أخ ــرى؛ وأولها مطمع وق ــوف تركيا (على‬
‫الحيــاد) أثنــاء الحــرب‪ ،‬وذلك بنــاء على طلب بريطانيــا‪ ...‬وســلمت فرنسا إلى تركيا‬
‫اسكندرون بشكل نهائي؛ ولم تخجل من تبرير موقفها بأنها ال تستطيع الدفاع عنهــا‪،‬‬
‫في الــوقت الــذي كــانت تخطط منذ ســنين لهــذا التنــازل النهــائي وكــانت ـ ـ لو أرادت ـ ـ‬
‫تستطيع الدفاع بجيشها بعتاده وعدته‪ ،‬وفي هذا اليوم أنـزل العلم الفرنســي‪ ،‬واحتفلت‬
‫تركيا احتفاالً رسمياً‪...‬‬
‫وث ــار الش ــعب الس ــوري ث ــورة عارم ــة‪ ،‬ومشى الش ــعب في الش ــوارع‪ ،‬وق ــامت‬
‫بشديات‪:‬‬‫المظاهرات في كل مكان؛ وأضرب الطلبة ومشوا في الطرقات يهتفون ّ‬
‫احترتم واهلل‪ ...‬وحيرتونا‬
‫بين انطاكية واسكندرونا‬
‫شفتونا جماعة ضعاف‬
‫تموتونا؟‬
‫يعني بدكم ّ‬
‫تالحقت االحتجاج ـ ــات‪ ...‬عمت الفوض ـ ــى‪ ...‬واش ـ ــتعل اإلض ـ ــراب بركانـ ـ ـاً‪...‬‬
‫ولكنه انطفأ في صقيع االستعمار‪.‬‬
‫(بيو) في أوائل تشرين األول ‪ 1939‬زيارة دمشق‪ ،‬وكان سعد اهلل‬ ‫أراد المسيو ّ‬
‫قد خ ــرج من المنفى‪ ،‬ف ــاقترح أن يس ــتقبلوه كض ــيف ي ــأتي إلى العاص ــمة ال كمف ــوض‬
‫ليظهر قوته وبطشه؛ ونفذ هذا االقتراح وجاء بيو إلى دمشق ولم يجر لـه أي اســتقبال‬
‫من قبل الحكومة أو الشـ ـ ـ ـ ــعب؛ واكتفى بـ ـ ـ ـ ــأن دعـ ـ ـ ـ ــاه رئيس الجمهورية إلى العشـ ـ ـ ـ ــاء‬
‫بحضــور ســعد اهلل الجــابري الــذي بحث معه في أمــور البالد وقضــية المعاهــدة‪ .‬ولكن‬
‫المسيو (بيـو) أراد من جديد تسـويف الموضـوع فقـال‪" :‬اسـمحوا لي بهدنة ‪ /3/‬أشـهر‬
‫ثم أرفع تقريري‪ ...‬وسوف نرى ما يمكن عمله"‪.‬‬
‫(بيــو) إلى ب ــيروت بعد تب ــادل ال ــوالئم‪ ،‬وأذاع بيان ـاً س ــيئ الوق ــع‪،‬‬‫وع ــاد المس ــيو ّ‬
‫ك ـ ــرد فعل الس ـ ــتقباله في دمشق بش ـ ــكل ع ـ ــادي ج ـ ــداً؛ وقد وصف اس ـ ــتقباله ه ـ ــذا في‬
‫مذكراته فق ــال‪" :‬إن االس ــتقبال في دمشق قد ج ــرى ب ــبرود‪ ،‬ولكن تم إخراجه بمنتهى‬
‫البراع ـ ــة؛ لقد دش ـ ــنت الحكومة الس ـ ــورية سياسة (الم ـ ــدن المقفل ـ ــة) وأعطت األوامر‬
‫بإقفال المحالت التجارية؛ ومصاريع النوافذ في البيوت‪ ،‬ال إنسان في الطريق الذي‬
‫يجب أن يمر فيه المـ ـ ــوكب وهكـ ـ ــذا دخلت دمشق بين صـ ـ ــفين من الجند على طـ ـ ــول‬
‫األرصفة الخالية والواجهــات المتينــة‪ ،‬لقد كــان الصــمت ثقيالً تقطعه عند المنعطفــات‬
‫أص ـ ــوات األب ـ ــواق النحاس ـ ــية والطب ـ ــول‪ ،‬وفي الج ـ ــادة ال ـ ــتي ك ـ ــانت تص ـ ــعد نحو مقر‬
‫المفوضية في الصالحية‪ .‬كانت الخيول تعدو كأنها هاربة من شيء‪.‬‬

‫ـ ‪ 112‬ـ‬
‫كنت أسمع أصوات الحوافر تضرب حجــارة الطريق وصــليل سالسل األلجمة‬
‫خيل لي بأني أقود حملة من الفرسان ضد عدو ال تراه العين"‪.‬‬
‫وأغمدة السيوف لقد ّ‬
‫(بيــو) زيــارة بعض المحافظــات‪ ،‬فــذهب إلى جبل الــدروز وألقى خطاب ـاً‬ ‫وتــابع ّ‬
‫على األهلين الس ـ ـ ـ ــتثارة حماس ـ ـ ـ ــهم‪ ،‬وأن ـ ـ ـ ــزل العلم الس ـ ـ ـ ــوري بإيع ـ ـ ـ ــاز الفرنس ـ ـ ـ ــيين‬
‫العسكريين‪ ،‬وانتهك حرمة الدولة‪.‬‬
‫احتج ســعد اهلل الجــابري لهــذا التصــرف‪ ،‬وعــاد إلى الخطة الســلبية في سياســته‬
‫المض ــادة لس ــيادة العمي ــد‪ ،‬وك ــانت النتيجة أن أبعد س ــعد اهلل عن الس ــاحة‪ ،‬وأرسل إلى‬
‫منفى في ريف ــون ليخلو الجو لسياسة العمي ــد‪ ،‬فيقلع وي ــزرع كما ش ــاء ل ــه؛ في ال ــوقت‬
‫ال ــذي راح فيه س ــعد اهلل يع ــاني ـ ـ ح ــتى جس ــمانياً ـ ـ رغم مقاومته الداخلية وعن ــاده في‬
‫الموقف ليتصدى لكل مجابهة‪.‬‬
‫‪:1940‬‬
‫في ‪ 6‬تمــوز اغتيل الــدكتور عبد الــرحمن الشــهبندر في عيادته بدمشــق‪ ،‬وكــان‬
‫المفوض السامي في بيروت قد أرسل في اليوم نفسه برقية إلى حكومته يقــول فيهــا‪:‬‬
‫"إن الش ـ ـ ـ ــهبندر المنـ ـ ـ ــافس األول للكتلة الوطني ـ ـ ـ ــة‪ ،‬والمعروفة ارتباطاته بالمص ـ ـ ـ ــالح‬
‫البريطانية‪ ،‬قد قتل من قبل مجهول"‪.‬‬
‫وأضـ ـ ـ ـ ــاف‪" :‬أنه من الواضح أن الجريمة سياسـ ـ ـ ـ ــية وأنه يجب التحـ ـ ـ ـ ــري عن‬
‫الفـ ــاعلين في الـ ــدوائر الوطنيـ ــة"‪ .‬وهكـ ــذا قـ ــرر المفـ ــوض السـ ــامي قبل أن يتوجه إلى‬
‫دمشق أن يلصق الجريمة بالوطنيين ليجد من جماعة الشهبندر حلفاء طبيعــيين؛ ولم‬
‫يخطر ببال أحد أن هناك مؤامرة معينة للتخلص من الشهبندر على أساس أنه ٍ‬
‫موال‬
‫للبريطــانيين الــذين تتخــوف منهم فرنسا في أن تحل محلها في ســورية‪ ،‬ومن طــرف‬
‫آخر فهم يعتق ــدون أنهم ال يتمكن ــون من الوص ــول إلى الس ــلطة إال عن طريق فق ــدان‬
‫الكتلة الوطنية لســمعتها ولثقة الشــعب بهــا‪ .‬وهنــاك شــكوك واســتفهامات حــول تــورط‬
‫الفرنسـ ــيين في حادثة االغتيـ ــال‪ ،‬فقد ذكر المفـ ــوض السـ ــامي "لقد اجتمعت بالـ ــدكتور‬
‫ش ــهبندر‪ ،‬وقد ب ــدا لي أنه رجل موض ــوعيـ ومثق ــف‪ ،‬وقد درس في ب ــيروت الجامعة‬
‫األمريكي ــة‪ ،‬فأخذ عنها مثالية محترم ــة‪ ،‬وثقافة انكلو سكس ــونية‪ .‬وفي نظر كث ــير من‬
‫الفرنس ـ ـ ــيين ك ـ ـ ــان يؤخذ على أنه عميل (لالنتليجنس س ـ ـ ــرفيس) وك ـ ـ ــان ينتقد سياسة‬
‫فرنسا بشدة وقوة‪ ،‬وكان يريد لسورية معاهدة كمعاهدة العراق مع اإلنكليز"‪.‬‬
‫أمام هذه التصريحات‪ ،‬تزداد الشبهات حول تـورط فرنسا في عملية االغتيـال‪،‬‬
‫والتي ألّفوا لها تمثيلية معينة إللصاق التهمة بالزعماء الوطنيين الشرفاء‪ ،‬وال ننسى‬
‫أن ضـ ـ ــباط المصـ ـ ــالح الخاصة أصـ ـ ــبحوا خـ ـ ــبراء أذكيـ ـ ــاء في إشـ ـ ــعال الفتن وصـ ـ ــنع‬

‫ـ ‪ 113‬ـ‬
‫األح ــداث وتمثيل المواقف ال ــتي يتص ــورونها في ص ــالح فرنسا وخيره ــا‪ .‬ول ــذا ف ــإن‬
‫عنصر المفاجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــأة في قضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــية االغتيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال لم يكن وارداً بالنسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــبة‬
‫إلى فرنسا‪.‬‬
‫وعلى كل حال فقد سارت فرنسا في تحقيقاتها أمام ضغط عائلة الشهبندر‪.‬‬
‫وسرعان ما عين المفوض السامي ضــابط الــدرك الفرنسي الكولونيل (كويتــو)‬
‫م ــديراً عام ـاً للش ــرطة‪ ،‬وقائ ــداً عام ـاً للــدرك الس ــوري‪ ،‬وعهد إليه التحقيق في قضــية‬
‫القتل‪.‬‬
‫على إثر هذه الحادثة األليمة اضطر سعد اهلل الذي غادر المنفى في ريفــون أن‬
‫يغــادر لتـ ّـوه ســورية إلى العــراق كالجئ سياســي‪ ،‬إذ صــدرت األوامر إلى الكولونيل‬
‫كويتو بإص ـ ــدار م ـ ــذكرات توقيف بحق زعم ـ ــاء الكتلة الوطني ـ ــة‪ ،‬وك ـ ــان ذلك في ليل‬
‫‪ 16 /15‬تشرين األول ‪.1940‬‬
‫وتتلخص الحادثة ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــأن بهيج الخطيب وك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان رئيس مجلس الم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــديرين‬
‫(في الحكومة الفرنس ـ ـ ــية) وهو بمثابة رئيس ال ـ ـ ــوزارة‪ ،‬وعد قاتل الوط ـ ـ ــني الكب ـ ـ ــير‬
‫الــدكتور عبد الــرحمن الشــهبندر بــالعفو عنه إذا قــال‪" :‬إنه كــان مــدفوعاً إلى القتل من‬
‫قبل رجال الكتلة الوطنية"‪ .‬وهم سعد اهلل الجابري‪ ،‬ولطفي الحفار‪ ،‬وجميل مردم‪.‬‬
‫ـدبريها وكــانوا كالــذئاب‬‫ال شك أن الفرنسيين هم الذين كانوا رأس المــؤامرة ومـ ّ‬
‫في المواسم القاحلة وقد ص ــبغوها بص ــباغ كتل ــوي تغطية وتض ــليالً‪ ،‬والمؤسف أنهم‬
‫نجح ـ ــوا في ذل ـ ــك‪ ،‬وذهب االعتق ـ ــاد بالن ـ ــاس إلى أن الم ـ ــؤامرة كتلوي ـ ــة‪ .‬وتمت ه ـ ــذه‬
‫المؤامرة الشنعاء‪ ،‬والـتي شــوهت سـمعة ســورية ومــزقت صـفوف قادتها وزعمائهــا‪.‬‬
‫وخسـ ــرت البالد بفقد الـ ــدكتور عبد الـ ــرحمن الشـ ــهبندر رجالً عظيم ـ ـاً ليس أمثاله إال‬
‫النادر بين الرجال‪.‬‬
‫وهك ــذا ك ــان بهيج الخطيب يحتمي بالس ــلطة وينفذ أوامرها بش ــكل غ ــير مباشر‬
‫منتهــزاً ظــروف الكتلة الوطنية الــتي كــانت تــدعو إلى ســيادة حــزب واحــد‪ ...‬وكــانت‬
‫غايتها توحيد الصف والكلمة والموقف في ظ ـ ـ ــروف تتطلب ذل ـ ـ ــك‪ ،‬ظ ـ ـ ــروف خلقها‬
‫الفرنسيون من أجل تفريق الشعب واألفراد على مبدأ (فرق تسد)‪.‬‬
‫وظهـ ــرت هنا قسـ ــوة الحكم وقذارته بأيد تلبس قفـ ــازات الحريـ ــر‪ .‬كما ظهـ ــرت‬
‫شراسة الس ــلطة وظلم المس ــؤولين في أمر تث ــبيت (التهم ــة) وإ لباس ــها الكتلة الوطنية‬
‫جــرائم ال يعقل أن تقــوم بهــا‪ ،‬وال ســيما في شخصــية الــزعيم ســعد اهلل الجــابري الــذي‬

‫ـ ‪ 114‬ـ‬
‫كــان أول من أبــرق إلى الشــهبندر بعد عودته من أميركــا‪ ،‬وأول من طلب منه (وهو‬
‫ابن سورية البار)(‪ )1‬أن يكون زعيم البالد‪.‬‬
‫وض ـ ــغطت الس ـ ــلطة وأث ـ ــارت ال ـ ــرأي العـ ـ ــام ال ـ ــذي زادت شـ ـ ــكوكه إزاء الكتلة‬
‫الوطني ــة‪ ،‬كما زادت ش ــكوك جماعة الش ــهبندر‪ ،‬وقد تس ــعى إلى االنتق ــام بالمثل (ألن‬
‫جريمة القتل قد أحكمت أسبابها واستقرت) وهذا ما دفع بعض المواطنين الكتلــويين‬
‫إلى السفر إلى العراق‪...‬ـ‬
‫وعندما غادر سـعد اهلل سـورية‪ ،‬أصـبح الجو خاليـاً من جديـد‪ ،‬لتخطيط عـدواني‬
‫جديد‪ ،‬يتم فيه سحق ما تبقى من قيم وطنية تعيش في بعض النفوس‪.‬‬
‫وأدركت الســلطة الفرنســية مــدى تهلهل بعض فئــات الشــعب‪ ،‬فقد أفلست قيمها‬
‫األخالقيـ ـ ــة‪ ،‬وراحت بعيـ ـ ــداً عن منبعهـ ـ ــا‪ ،‬تجـ ـ ــوس أنحـ ـ ــاء العـ ـ ــالم فقـ ـ ــيرة شـ ـ ــريدة ال‬
‫مأوى لها‪.‬‬
‫بقي سعد اهلل في العراق‪ ،‬واستطاع أن يكتسب بعض األصدقاء بســرعة فائقــة‪،‬‬
‫وقد أحبـ ــوه الحب كله إلعجـ ــابهم بأخالقه واسـ ــتماتته في سـ ــبيل وطنـ ــه‪ ،‬وإ قدامه على‬
‫مالحقة االستعمار ومقاومته‪.‬‬
‫ولعل وزير العــدل العــراقي آنــذاك (نجيب الــراوي) يــذكره دائم ـاً ويقــول‪" :‬إني‬
‫ألحمل بين جنــبي من حبه الصــميم وذكــراه العــاطرة وأقواله وآرائه ما يجعله يعيش‬
‫معي بالروح ما حييت"‪.‬‬
‫كما يـ ــذكره توفيق باشا السـ ــويدي العـ ــراقي‪" :‬دعوته ذات يـ ــوم لتنـ ــاول الطعـ ــام‬
‫ظهـ ــراً في داري؛ فـ ــأتى مع بعض رفقائـ ــه‪ ،‬وكـ ــان مسـ ــروراً إذ وجد الـ ــدار مسـ ــتوفية‬
‫جميع وسائل الراحة‪ ،‬بقاعتها المنعشة ذات الطراوة الكافية للترويح‪ ،‬فقال سعد اهلل‪:‬‬
‫قاتل اهلل الغاصب األجنبي‪ ،‬فقد قضى على استقاللنا وأبـاد ثرواتنـا‪ ،‬ولم يبق لنا شــيئاً‬
‫نتمتع به في الحيـ ـ ـ ــاة‪ ،‬ولكننا سنقضي عليـ ـ ـ ــه‪ ،‬ونقصـ ـ ـ ــيه عن بالدنـ ـ ـ ــا‪ ،‬وحينئذ نعيش‬
‫أحــراراً و نتمتع بخيراتنا وحــدنا‪ ،‬كما تتمتعــون أنتم هنــا؛ وإ ذا اتحــدنا معكم فســنكون‬
‫أنداداً في السياسة والمال"‪.‬‬
‫في هـ ــذا الـ ــوقت كـ ــان سـ ــعد اهلل يسـ ــعى مع رفيقه جميل مـ ــردم بك لجمع شـ ــمل‬
‫القــوى العربية في الخــارج‪...‬ـ وكــانت فرصة وجودهما في العــراق داعية لالتصــال‬
‫بين الوطنيين السوريين‪ ،‬وبين الحركات القومية العربية‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫الحبيب بورقيبة ـ في كلمته التأبينية‪....‬‬

‫ـ ‪ 115‬ـ‬
‫وكــان يريد الوحــدة بين البالد العربية لتشــكيل مصــدر قــوة كبــيرة‪ ،‬ألن خريطة‬
‫البالد العربيـ ــة‪ ،‬بما تملك من خـ ــيرات‪ ،‬كـ ــانت تغـ ــري االسـ ــتعمار بتقطيع األوصـ ــال‬
‫واالس ــتيالء على البالد ج ــزءاً فج ــزءاً بيد أن األمة العربية ك ــانت تجت ــاز سلس ــلة من‬
‫العقب ـ ـ ـ ــات المخيفة في كل خط ـ ـ ـ ــوة من خطواتها الداخلية والخارجي ـ ـ ـ ــة؛ ولم يكن من‬
‫السـ ــهل اجتيازها ما لم تتـ ــوفر في قادتها كفـ ــاءات وشـ ــروط ممتـ ــازة من أبرزها قـ ــوة‬
‫الشخص ــية وس ــالمة القي ــادة والص ــالبة في المب ــدأ والنزاهة والس ــمو‪" .‬وتلك الص ــفات‬
‫كــان يتمتع بها ســعد اهلل الجــابري‪ ،‬كمــا‪ ،‬رأينا في مواقفه الكثــيرة وبــاعتراف الــوطن‬
‫العــربي كلــه‪ ،‬وشــهادة أبطــال ســورية العظــام وحكومتها ومجلس نوابها وكل أوســاط‬
‫الجهاد التي عمل فيها(‪.)1‬‬
‫وفي ش ـ ــهر تش ـ ــرين األول أرسل (المس ـ ــيو ـ ـ ـ ّبي ـ ــو) لحكومته يق ـ ــول‪ :‬إن نتيجة‬
‫اعترافات القتلة‪ ،‬طلبت عائلة الشهبندر اتهام بعض زعماء الكتلة الوطنية وهم سعد‬
‫اهلل الجابري‪ ،‬ولطفي الحفار‪ ،‬وجميل مردم بك‪ ،‬وإ ن السلطات عجــزت عن تــوقيفهم‬
‫ألنهم غادروا البالد‪ .‬كما تقدمت عائلة الشهبندر بتجريم شكري القوتلي لكن قاضي‬
‫التحقيق أسقط االتهام‪.‬‬
‫وقد اجتمع مجلس الم ـ ــديرين‪ :‬بهيج الخطيب وم ـ ــدير ع ـ ــام العدلية خليل رفعت‬
‫ب ـ ــالمتهم (عصاص ـ ــة) ووع ـ ــداه بتخفيف العقوبة في ح ـ ــال إقـ ــراره عن المحرضـ ــين‪،‬‬
‫ولكن الفضيحة الكــبرى كــانت عند اســتجواب المتهم (غنــدور) فقد أخــذوه أول األمر‬
‫لــدار نزيه المؤيــد‪ ،‬وجــاء بهيج الخطيب وابن عمه حســين الخطيب‪ ،‬وطلبــوا منه أن‬
‫يتهم الكتلة الوطنيــة‪ ،‬وأعطــوه اسم ســعد اهلل الجــابري ولطفي الحفــار وجميل مــردم‪.‬‬
‫وقد هـ ـ ــددوه وشـ ـ ــتموه وقـ ـ ــال لـه صـ ـ ــفوح المؤيـ ـ ــد‪" :‬إن عصاصة قد فهم الموضـ ـ ــوع‬
‫بكلمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتين‪ ،‬وأنت على الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرغم من كل هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذا الضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرب ال تريد‬
‫أن تفهم"‪.‬‬
‫وتت ـ ــابعت األخبـ ــار واحتل األلم ـ ــان فرنسا ع ـ ــام ‪ ،1940‬وبقيت س ـ ــورية تابعة‬
‫لحكومة فيشي الخاضعة لأللمان‪ ،‬غير أن إنكلترا التي كانت قد أخمدت ثــورة رشــيد‬
‫عـ ــالي الكيالني في العـ ــراق‪ ،‬لم يـ ــرق لها وجـ ــود جيب لفيشي األلمانية في سـ ــورية؛‬
‫ولــذلك غــزت ســورية وفي جيشــها تشــكيلة صــغيرة من جيش ديغــول (فرنسا الحــرة)‬
‫وما أن وصــلت الجيــوش (مــرج عيــون) في لبنــان‪ ،‬حــتى خــرج الجــنرال كــاترو قائد‬
‫الفرقة الفرنسية وقال بأنه ال يرى مانعاً من استقالل سورية‪.‬‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫الحبيب بورقيبة ـ في كلمته التأبينية‪.‬‬

‫ـ ‪ 116‬ـ‬
‫وعلى إثر ذلك زار الج ـ ــنرال ديغ ـ ــول س ـ ــورية‪ .‬وك ـ ــان س ـ ــعد اهلل ورفق ـ ــاؤه في‬
‫العراق وهم المتهمون باغتيال الشهبندر‪ .‬وأخيراً‪ ....‬أصدر المجلس العــدلي قــراراً‬
‫ببراءة الكتلة الوطنية والحكم على القتلة‪.‬‬

‫‪: 1941‬‬
‫إن المهادنة بين الكتلة الوطنية والفرنس ــيين‪ ،‬وال ــتي أملتها الظ ــروف المختلف ــة‪،‬‬
‫ويلحـ ــون على تنفيذ‬
‫ال يمكن أن ت ـ ــدوم؛ ومنذ ب ـ ــدء ‪ 1941‬ب ـ ــدأ الوط ـ ــنيون يش ـ ــددون ّ‬
‫مطاليبهم‪ ،‬ويجاهرون بالعداء للحكومة التي أقامتها السلطة الفرنسية‪.‬‬
‫وك ـ ــان الج ـ ــابري ومـ ـ ــردم بك ما زاال في الع ـ ــراق مع غ ـ ــيرهم من الوطن ـ ــيين‪،‬‬
‫فراحوا يطالبون بمساندة حكومة العراق ومصر والسعودية‪.‬‬
‫وفي أوائل ‪ 1941‬كــانت بغــداد مركز القومية العربيــة‪ ،‬ألنها اســتقبلت في ذلك‬
‫الوقت جميع الالجئين العرب من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين‪.‬‬
‫وكــان أن اســتحوذ القلق على الســلطة الفرنســية الفيشــية في ســورية‪ ،‬وســاورها‬
‫الخـ ــوف من نقمة الشـ ــعب السـ ــوري‪ ،‬بسـ ــبب إخفـ ــاق مفاوضـ ــات المعاهـ ــدة‪ ،‬وتنكرها‬
‫عم اإلض ــراب في محافظ ــات سـ ــورية‪،‬‬ ‫لألمـ ــاني والمط ــالب السـ ــورية‪ .‬ولم يلبث أن ّ‬
‫وبدا واضحاً للجنرال (دانــتز) أن ال بد من التفــاهم مع الوطنـيين على األقل من أجل‬
‫وضع حد لإلضــراب العــام؛ ومن أجل ذلك اضــطر للتخلي عن الــداماد أحمد نــامي‪،‬‬
‫وطلب إلى خالد العظم أن يؤلف حكومة يك ـ ـ ــون بين أعض ـ ـ ــائها بعض الشخص ـ ـ ــيات‬
‫الموالية للكتلة الوطنيــة‪ ،‬وشخصــيات درزية وأخــرى علويــة‪ .‬وبعد اتصــاالت كثــيرة‬
‫مع بعض الشخصــيات في ســورية‪ ،‬أبــدت الســلطة الفرنسـية ارتياحها لتشــكيل وزارة‬
‫خالد العظم‪ ،‬وقد عهد إليه الجــنرال (دانــتز) الفيشي بتشــكيل الــوزارة وأصــدر قــراراً‬
‫بذلك يوم ‪ 5‬نيسان ‪.1941‬‬
‫وتوقف اإلض ـ ــراب إثر ذلك في انتظ ـ ــار تش ـ ــكيل ال ـ ــوزارة؛ بيد أن المؤش ـ ــرات‬
‫ك ـ ــانت ت ـ ــدل على أن الحكومة لم تتمكن من العمل بص ـ ــورة إيجابية من أجل تلطيف‬
‫آالم الشعب‪.‬‬
‫ولم تعمر وزارة العظم طـ ـ ـ ـ ــويالً‪ .‬إذ أدرك خالد العظم أنه غـ ـ ـ ـ ــير قـ ـ ـ ـ ــادر على‬
‫السـ ـ ــيطرة على الموقـ ـ ــف؛ وأبلغ الجـ ـ ــنرال (دانـ ـ ــتز) بـ ـ ــذلك‪ .‬واعـ ـ ــترف لـه أن بعض‬
‫المستشـ ــارين الفرنسـ ــيين يضـ ــعون العراقيل في طريقـ ــه‪ .‬واشـ ــتدت موجة المعـ ــارك‬
‫الضارية‪ ،‬حتى تم توقيع هدنة في ‪ 14‬تمــوز ‪ 1941‬بين البريطــانيين وبين التــابعين‬
‫لحكومة فيشــي‪ ،‬ولكن األمــور الداخلية كــانت مضــطربة وقد غضب الشــعب غضــبة‬
‫كــبرى عنــدما ُمنع الــزعيم ســعد اهلل الجــابري من دخــول ســورية قادمـاً من بغــداد عند‬

‫ـ ‪ 117‬ـ‬
‫نقطة الح ــدود في (أبو ش ــامات) وق ــارن الش ــعب بين منع الج ــابري من دخ ــول بالده‬
‫وبين ما أعدوه الستقبال الشيخ تاج‪.‬‬
‫وتالحقت األحـ ــداث‪ ،‬واجتـ ــاحت سـ ــورية قـ ــوات الحلفـ ــاء اإلنكليزية والفرنسـ ــية‬
‫الديغولية في ‪ 8‬حزي ــران ‪ 1941‬تحت قي ــادة الج ــنرال (ويلس ــون)‪،‬ـ ورحل الج ــنرال‬
‫دانتز مع أصحابه وحاشــيته‪...‬ـ وفي صــباح ‪ 8‬حزيــران ألقيت أوراق من الطــائرات‬
‫تحمل تصريح الجنرال (كاترو)‪ .‬وكانت هـذه الطــائرات تحلق فــوق المــدن الســورية‬
‫واللبنانية‪.‬‬
‫يق ــول ك ــاترو في ه ــذه األوراق‪ :‬أيها الس ــوريون واللبن ــانيون‪ ،‬جئت أضع ح ــداً‬
‫لنظ ـ ــام االنت ـ ــداب‪ ،‬وألعلمكم وأعلنكم أح ـ ــراراً مس ـ ــتقلين‪...‬ـ إن االس ـ ــتقالل والس ـ ــيادة‬
‫سيكونان مضمونين بمعاهدة تحدد فيها عالقاتنا المتبادلة‪.‬‬
‫وفي ‪ 24‬حزيــران وصل الجــنرال ديغــول إلى دمشــق‪ ،‬وأرسل الجــنرال كــاترو‬
‫مــذكرة إلى مــردم بك يقــول فيهــا‪ :‬إن الجــنرال ديغــول وصل دمشــق‪ ،‬وبما أنه يــرغب‬
‫في االجتماع بكم فإنني أقترح عليكم الحضور إلى مكتبي بعد ظهر اليوم‪.‬‬
‫ولما تســلم الجــنرال كــاترو زمــام األمــور باسم فرنسا الحــرة‪ ،‬أبقى على وزارة‬
‫خالد العظم بعض الـ ــوقت؛ وتتـ ــابعت االجتماعـ ــات بين الجـ ــنرال كـ ــاترو وبين الكتلة‬
‫الوطنية طوال شهر تموز ‪.1941‬‬
‫وفي نهاية الش ــهر ع ــاد ديغ ــول إلى س ــورية واجتمع بجميع الزعم ــاء الوطن ــيين‬
‫فيهــا‪ ،‬وفي خطابه أكد عزيمته على إقامة نظــام جديد في ســورية‪ ،‬قــال‪" :‬رأينا أنه قد‬
‫حان الوقت لالتفاق على وضع حد لالنتداب وللتعاقد معكم"‪.‬‬
‫ولم يلبث أن أنهى الج ــنرال ك ــاترو خدمة خالد العظم في ‪ 2‬أيل ــول ‪ 1941‬بعد‬
‫أن عاشت وزارته خمسة أش ـ ــهر وسـ ــبعة أي ـ ــام‪ .‬وأص ـ ــدر أمـ ــراً بتع ـ ــيين الشـ ــيخ تـ ــاج‬
‫الحسـ ـ ــيني رئيس ـ ـ ـاً للجمهورية السـ ـ ــورية وسـ ـ ــرعان ما طلب الشـ ـ ــيخ تـ ـ ــاج من حسن‬
‫الحكيم‪ ،‬وهو من أنص ــار الش ــهبندر‪ ،‬أن يؤلف الحكوم ــة‪ .‬وك ــان من الش ــائع في ذلك‬
‫الـ ـ ـ ــوقت أن حسن الحكيم هو من أنصـ ـ ـ ــار األمـ ـ ـ ــير عبد اهلل‪ ،‬ويؤيد المنـ ـ ـ ــاداة به على‬
‫عرش سورية‪.‬‬
‫ودعي الوطـ ــنيون لالنسـ ــحاب من السـ ــاحة‪ ،‬وتـ ــذرعت السـ ــلطات الحليفة بحالة‬
‫ُ‬
‫الحــرب من أجل أن تــبرر لهم طلبها باالمتنــاع عن أي نشــاط سياســي؛ وهنا اضــطر‬
‫القــوتلي أن يســافر إلى الســعودية‪ ،‬وانســحب الجــابري إلى حلب وأقــام مــردم بك في‬
‫مزرعته بضواحي دمشق‪.‬‬

‫ـ ‪ 118‬ـ‬
‫تم اجتم ـ ــاع في وزارة الخارجية البريطانية في ت ـ ــاريخ ‪ 28‬تش ـ ــرين‬
‫وك ـ ــان أن ّ‬
‫األول ‪ ،1942‬وتســلمت فرنسا الحــرة من الســيد (ايــدن) وزير الخارجية البريطانية‬
‫م ــذكرة ه ــذا نص ــها‪" :‬بعد الم ــذاكرة مع حكوم ــات ص ــاحبة الجاللة في جميع أرج ــاء‬
‫الدومنيون‪ ،‬قــررت حكومة صــاحبة الجاللة في المملكة المتحــدة إيفــاء تعهــدها بشــكل‬
‫حازم وذلك باالعتراف باستقالل سورية كما أعلن من قبل الجنرال كاترو"‪.‬‬
‫وتمكن الوط ــنيون من الع ــودة إلى الس ــاحة واس ــتئناف نش ــاطهم في ‪ 21‬تش ــرين‬
‫الثاني بمناسبة تخليد الذكرى الســابعة لرحيل الــزعيم إبــراهيم هنــانو في مدينة حلب‪،‬‬
‫وتعـ ــاقب على المنـ ــبر هاشم األتاسي ومطـ ــران حمـ ــاه أغنـ ــاطيوس حريكة وسـ ــعد اهلل‬
‫الجابري الذي قال‪:‬‬
‫"نحن مسـ ــتقلون‪...‬ـ مسـ ــتقلون منذ ‪ 22‬عـ ــام‪ ،‬أي منذ ‪ 8‬أيـ ــار ‪ ،1920‬ألننا لم‬
‫نقبل بعد ذلك الت ـ ـ ــاريخ كل ما فرض ـ ـ ــته علينا الق ـ ـ ــوة من أن ـ ـ ــواع الحكم واالنت ـ ـ ــداب؛‬
‫وقد قاومنا ذلــك‪ .‬ولما لم يتمكنــوا من إقناعنا اعــترفوا باســتقاللنا عــام ‪ ،1936‬ثم ما‬
‫لبثوا أن نكثوا بعهودهم وهذا االســتقالل ليس منحة وال هبـة‪ ،‬وال يعطى بـإرادة دولة‬
‫من الـدول؛ كما صـرح بـذلك أحد األجـانب في الصـيف الماضـي‪ ،‬هـذا االسـتقالل قـام‬
‫بــإرادة البالد وســكانها‪ ،‬وإ ذا لم يعطونا إيــاه اليــوم فســنأخذه غــداً‪ ،‬ليست هنــاك أنــواع‬
‫وأش ــكال لالس ــتقالل‪ ،‬عليهم أن يقول ــوا كلمة ص ــريحة‪ ،‬إننا نريد أن نحكم ه ــذه البالد‬
‫ب ــاحتالل عس ــكري؛ وليس هن ــاك طريق وس ــط؛ إما احتالل عس ــكري وإ ما اس ــتقالل‬
‫كامل؛ أما أن يسمى االحتالل استقالالً فهذا ال نقبل به وال نرضاه"‪.‬‬
‫ثم ه ــاجم الج ــابري ال ــذين يس ــألون عن موقفنا من الح ــرب‪" :‬لو أنهم س ــلموا لنا‬
‫باسـ ــتقاللنا لم ينقصـ ــوا منه ويشـ ــوهوه لقلنا ما هو موقفنـ ــا‪ ،‬لكننا أمة محرومة من كل‬
‫شــيء‪ ،‬وال نســتطيع في الــوقت الحاضر أن نعــرب عن كلمتنا في المجمــوع الــدولي‪،‬‬
‫أما أن يتهمونا بأش ــرف ما نع ــتز به من وطنية وقومي ــة‪ ،‬وأما أن يتح ــدثوا عن ميولنا‬
‫بأنها نازية فاشيس ــتية ش ــيوعية روسـ ــية إنكليزي ــة‪ ،‬فه ــذا ما لم نقبل به أبـ ــداً ألننا نحن‬
‫العرب ال نقبل شيئاً إال أن نكون نحن"‪.‬‬
‫وقد تبــنى رئيس مجلس الــوزراء حســني الــبرازي األفكــار الــتي كــانت موضع‬
‫خطاب الجابري‪ ،‬وأثار خطاب البرازي حنق الفرنسيين والشيخ تاج وأجــبروه على‬
‫االسـ ــتقالة وفيما بعد أسـ ـ ّـر الجـ ــنرال (كوليـ ــه) للجـ ــابري ما يلي‪" :‬على الـ ــرغم من أن‬
‫البرازي لم يكن نزيهـاً إال أنه لم يكن عنــدي أي اعــتراض عليــه؛ ولكنه كــان مرتبطـاً‬
‫بالبريطـ ــانيين‪ ،‬ولما طلبت منه أن يس ــتقيل رفض؛ عنـ ــدها أص ــدرت األوامر بتوقيفه‬
‫في السرايا"‪.‬‬

‫ـ ‪ 119‬ـ‬
‫‪:1942‬‬
‫صدر في هذا العام من الجنرال (كاترو) قــرار في ‪ 12‬كــانون الثــاني يعلن فيه‬
‫إلغاء التجزئة ودعوة الالذقية والسويداء إلى الحظيرة السورية‪.‬‬
‫وفي ‪ 20‬كــانون الثــاني أقيمت حفلة في الســراي ابتهاجـاً بهــذا القــرار‪ ،‬ولكن لم‬
‫يمض زمن طويل حــتى وقع خالف بين الشــيخ تــاج وحسن الحكيم رئيس الحكومــة‪.‬‬
‫فاستقال هذا في ‪ 18‬نيسان وخلفه السيد حسني البرازي‪.‬‬
‫ول ــدى تس ــلم ف ــارس الخ ــوري زمــام وزارة الخارجي ــة‪ ،‬أب ــرق إلى ممثلي ال ــدول‬
‫العربية واألجنبية بــإعالن اســتقالل ســورية رســمياً في ‪ 27‬أيلــول ‪ ،1942‬وتــوالت‬
‫االعتراف ــات باس ــتقالل س ــورية من مصر والمملكة العربية الس ــعودية واليمن؛ ومنذ‬
‫ذلك التــاريخ لم يعد في ســورية عســكري فرنســي‪ .‬إذ كــانت تنتهي تصــفية عالقــاتهم‬
‫في مطار المزة‪ ،‬ثم انتقلت إلى زحلة في لبنان‪.‬‬
‫وكانت بريطانيا‪ ،‬أسبق الــدول الغربية لالعــتراف باســتقالل ســورية‪ ،‬فلم يمض‬
‫شــهر تــام على إعالن االســتقالل‪ ،‬حــتى أرسل (جــورج الســادس) برقية تهنئة تحمل‬
‫معنى االعتراف‪.‬‬
‫‪:1943‬‬
‫في مطلع هـ ــذا العـ ــام أخذ جميل األلشي مكـ ــان الـ ــبرازي في رئاسة الحكومـ ــة‪،‬‬
‫وبعد أسبوع من تسلمه السلطة أصيب الشــيخ تـاج بالتهــاب كلــوي‪ ،‬ما لبث أن تطــور‬
‫إلى تعطيل كلي عن العمل ثم أعلن عن وفاته بصورة مفاجئة‪.‬‬
‫وفي مطلع شــهر شــباط عقــدت الكتلة الوطنية مــؤتمراً في دمشق برئاسة هاشم‬
‫األتاسي وفي ه ــذا األس ــبوع أض ــربت دمشق والم ــدن الس ــورية وس ــارت مظ ــاهرات‬
‫احتجاجاً على ارتفاع سعر الخبز وإ دانة ضعف الحكومة‪.‬‬
‫وفي ‪ 24‬آذار نشر الج ــنرال ك ــاترو مراس ــيم ألف بموجبها الحكومة من الس ــيد‬
‫عطا األيــوبي رئيسـاً للدولة ورئيسـاً للحكومــة؛ وفي شــهر نيســان بــدأت االســتعدادات‬
‫لالنتخابات‪.‬‬
‫ونش ـ ــرت الحكومة ق ـ ــوائم الن ـ ــاخبين في ‪ 20‬حزي ـ ــران‪ ،‬وفي العاشر من تم ـ ــوز‬
‫جــرت المرحلة األولى من االنتخابــات‪ ،‬وبعد أســبوعين جــرت المرحلة الثانية حيث‬
‫أن االنتخابات كانت تجري على درجتين‪..‬ـ وفازت قوائم الكتلة الوطنية‪.‬‬
‫فـ ــازت قائمة القـ ــوتلي في دمشق في ‪ 26‬تمـ ــوز‪ ،‬وانتخب رئيس ـ ـاً للجمهوريـ ــة‪،‬‬
‫وفـ ــاز فـ ــارس الخـ ــوري رئيس ـ ـاً لمجلس النـ ــواب‪ .‬وبعد المشـ ــاورات من أجل تـ ــأليف‬

‫ـ ‪ 120‬ـ‬
‫الحكومة وقع االختيار على سعد اهلل الجابري كرئيس لمجلس الوزراء‪ ،‬بــالنظر إلى‬
‫أن األطمـاع التركية كـانت على أشـدها في تلك األيـام وتسـتهدف مدينة حلب وشـمال‬
‫سورية؛ وكان الجابري من أبرز الزعماء‪.‬‬
‫وفي ‪ 22‬آب أعلن عن تش ــكيل الحكومة كما يلي‪ :‬الج ــابري رئيسـ ـاً للحكوم ــة‪،‬‬
‫م ــردم بك نائبـ ـاً لل ــرئيس ووزير الخارجي ــة‪ ،‬لطفي الحف ــار وزي ــراً للداخلي ــة‪ ،‬نص ــوح‬
‫البخـ ــاري للـ ــدفاع والمعـ ــارض خالد العظم للماليـ ــة‪ ،‬مظهر رسـ ــالن لألشـ ــغال العامة‬
‫واإلعاشة والتموين‪ ،‬عبد الرحمن الكيالي للعدلية توفيق شامية للزراعة والتجارة‪.‬‬
‫قوبل تـأليف الحكومة بـالترحيب‪ ،‬ال في سـورية وحـدها‪ ،‬وإ نما في معظم العـالم‬
‫العـ ـ ـ ــربي حـ ـ ـ ــتى أن العـ ـ ـ ــراق رفع درجة التمثيل الدبلوماسي من قنصـ ـ ـ ــلية عامة إلى‬
‫مفوضية؛ وقد أرسل جميع رؤساء الدول برقيات تهنئة للحكم الجديد‪.‬‬
‫ســحبت فرنسا الجــنرال (كــولين)ـ من ســورية وقبل مغادرته قـام بزيــارة لــرئيس‬
‫مجلس الـ ـ ــوزراء سـ ـ ــعد اهلل الجـ ـ ــابري‪ ،‬وعـ ـ ــبر لـه عن اغتباطه برؤيته وقد عـ ـ ــاد إلى‬
‫الحكم‪ ،‬وقد جامله الج ـ ــابري وأب ـ ــدى إعجابه بش ـ ــجاعته ونزاهت ـ ــه؛ كما ع ـ ــبر لـه عن‬
‫تع ــاطف الحكومة الس ــورية مع آم ــال الفرنس ــيين بتحرير بالدهم من الحكم الن ــازي‪،‬‬
‫وطالبه الجـ ـ ــابري بـ ـ ــإطالق سـ ـ ــراح المعتقلين السـ ـ ــوريين‪ ،‬وأضـ ـ ــاف بأنه ال يعـ ـ ــرف‬
‫المسؤول الحقيقي عن اعتقالهم‪.‬‬
‫وفي نهاية اللقـ ـ ــاء كـ ـ ــرر الجـ ـ ــابري مطالبته بـ ـ ــاإلفراج عن المعتقلين‪ ،‬وقد وعد‬
‫الجنرال (كولين)ـ أن يبذل كل ما في وسعه‪.‬‬
‫اس ـ ـ ــتهل س ـ ـ ــعد اهلل الج ـ ـ ــابري أعم ـ ـ ــال حكومته ببي ـ ـ ــان ّأيد فيه كل التأييد تمسك‬
‫حكومته وحرص ـ ــها على تنفيذ السياسة الـ ــتي رسـ ــمها ش ـ ــكري الق ـ ــوتلي‪ ،‬ال سـ ــيما ما‬
‫يتصل بها بوحدة صف األمة‪.‬‬
‫وعقب الجابري على بيانه بتصريح أدلى به إلى رجال الصحافة جاء فيه‪:‬‬
‫"إن سياسة الــوزارة الجديــدة مســتمدة من سياسة رئيس الجمهوريــة‪ ،‬فال حزبية‬
‫وال خصومة بل صفحة جديدة لسياسة جديدة ترمي إلى خدمة األمة كلها‪ ،‬واالنتفاع‬
‫من جميع عناصـرها وأفرادها ليكـون العمل واحــداً والتوجيه واحـداً‪ ،‬وأنه من الخــير‬
‫أن تط ـ ــوى ص ـ ــفحات الماضي وأن ننظر جميعـ ـ ـاً إلى ص ـ ــفحة العهد الجدي ـ ــد‪ ،‬فنعمل‬
‫جــادين مخلصــين متكــاتفين متضــامنين‪ ،‬على كل ما يرفع من شــأن الــوطن وكرامته‬
‫ويحقق لـه أمانيـ ـ ــه‪ ،‬وكل إنسـ ـ ــان بعد اليـ ـ ــوم مسـ ـ ــؤول على ما يفعـ ـ ــل‪ ،‬فالمحسن على‬
‫إحس ــانه‪ ،‬والمس ــيء على إس ــاءته‪ ،‬ونحن البشر ن ــدرك ب ــالفكر وح ــده أس ــمى إمكانن ــا‪،‬‬
‫ولكن ما هو أسمى من الفكر هو الخير‪.‬‬

‫ـ ‪ 121‬ـ‬
‫وازداد حم ــاس الع ــراق لن ــوال س ــورية أمانيه ــا‪...‬ـ وج ــرت محاولة عراقية من‬
‫أجل الوحــدة فقد أرسل نــوري باشا الســعيد منــدوباً خاصـاً الســيد جميل المــدفعي‪،‬ـ إلى‬
‫الزعم ــاء الوطن ــيين في س ــورية لمناقشة مقترح ــات ن ــوري الس ــعيد‪ .‬والتقى الم ــدفعي‬
‫بــالقوتلي والجــابري ومــردم ولكنهم رفضــوا االلــتزام ببرنــامج نــوري الســعيد؛ وقــال‬
‫سـ ـ ــعد اهلل الجـ ـ ــابري‪" :‬نحن نتطلع إلى وحـ ـ ــدة أكـ ـ ــثر شـ ـ ــموالً واتسـ ـ ــاعاً مما جـ ـ ــاء في‬
‫مقترحات نوري السعيد"‪.‬‬
‫وقد كان الوطنيون وال سـيما الجــابري يعتقـدون اعتقــاداً جازمـاً بـأن الـدفاع عن‬
‫العـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرب ضد أي تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدخل أجنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــبي‪ ،‬ال يمكن تأمينه إال باتحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاد قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوي بين‬
‫سورية ومصر‪.‬‬
‫وفي ه ـ ــذه الف ـ ــترة ج ـ ــرت االنتخاب ـ ــات النيابية في لبن ـ ــان‪ ،‬ونجح الش ـ ــيخ بش ـ ــارة‬
‫الخـ ــوري رئيس ـ ـاً للجمهوريـ ــة‪ .‬وعهد برئاسة مجلس الـ ــوزراء إلى الـ ــزعيم ريـ ــاض‬
‫الصلح‪ ،‬وهو من الوطنيين العرب المتحمسين‪ .‬واستقبل العهد الجديد بترحيب حــار‬
‫في سورية‪ ،‬وتوجه سعد اهلل الجابري وجميل مردم إلى لبنان في ‪ 24‬تشــرين األول‬
‫‪ 1943‬لعقد أول جلسة مباحثات مع الحكومة اللبنانية‪ .‬وكان محضر االجتماع كما‬
‫يلي‪:‬‬
‫بعد اجتمـ ــاع تمهيـ ــدي بين الجـ ــابري ومـ ــردم بك والصـ ــلح‪ ،‬قصد الجميع قصر‬
‫الشـ ـ ــيخ بشـ ـ ــارة الخـ ـ ــوري في عاليه وانضم إليهم السـ ـ ــيد سـ ـ ــليم تقال وزير الخارجية‬
‫اللبنانية‪.‬‬
‫وطلب الجـ ـ ـ ـ ــابري من مـ ـ ـ ـ ــردم بك أن يسـ ـ ـ ـ ــتعرض الموقف السياسي من جميع‬
‫نواحي ـ ــه‪ ،‬وس ـ ــاد ال ـ ــرأي لت ـ ــأليف لجنة مش ـ ــتركة تت ـ ــألف من رئيس ال ـ ــوزراء ووزير‬
‫الخارجية في كل من سورية ولبنان للعمل الوطني المشترك‪.‬‬
‫وبحث في موض ــوع ت ــأليف مجلس مش ــترك لي ــدير الص ــالحيات‪ ،‬ويجتمع ه ــذا‬
‫المجلس بالتنـ ــاوب في سـ ــورية ولبنـ ــان‪ ،‬وعنـ ــدما يجتمع في سـ ــورية يرأسه سـ ــوري‪،‬‬
‫وعنـ ــدما يجتمع في لبنـ ــان يرأسه لبنـ ــاني‪ ،‬وهـ ــذه الصـ ــالحيات هي "المصـ ــالح العامة‬
‫والجمارك"‪.‬‬
‫وصـ ـ ـ ــرح الجـ ـ ـ ــابري بعد ذلك أن رئيس الجمهورية السـ ـ ـ ــورية وجميع رجـ ـ ـ ــال‬
‫الحكومة يؤي ــدون اس ــتقالل لبن ــان وي ــدافعون عن ــه؛ ش ــرط أن يك ــون اس ــتقالالً حقيقيـ ـاً‬
‫وكـ ـ ــامالً‪ ،‬وأال يكـ ـ ــون لألجنـ ـ ــبي أي تـ ـ ــدخل في شـ ـ ــؤونه أو مجـ ـ ــال السـ ـ ــتغالله ضد‬
‫البلدين معاً‪.‬‬

‫ـ ‪ 122‬ـ‬
‫ويعتبر هـذا االجتمـاع (تاريخيـاً) حيث حـددت فيه المبـادئ األساسـية الـتي تقـوم‬
‫عليها العالقات بين البلدين‪ ،‬وأهم هذه المبادئ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ كل من البلدين يتمتع باستقالل تام ويمارس سيادته الكاملة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ يتعهد لبنان أال يكون مقراً أو ممراً ألية قوة تهدد استقالل سورية‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ يتع ــاون البل ــدان إلى أقصى الح ــدود في الش ــؤون االقتص ــادية وغيرها على‬
‫قدم مساواة‪.‬‬
‫وفي ي ــوم ‪ 13‬تش ــرين األول‪ ،‬وبعد االنته ــاء من مأدبة الغ ــداء ال ــتي ُدعي إليها‬
‫السفير الفرنسي ومعـاونوه‪ ،‬قـال السـيد ســعد اهلل الجــابري للسـيد شــاتينيو القــادم حـديثاً‬
‫من الجزائر‪:‬‬
‫م ــاذا يفك ــرون بش ــؤوننا في الجزائــر؟ فــأعطي ش ــاتينيو جواب ـاً غامض ـاً‪ ،‬ثم تكلم‬
‫الس ـ ــفير عن الح ـ ــديث ال ـ ــذي تبادله مع الحكومة اللبناني ـ ــة‪ ،‬فق ـ ــال س ـ ــعد اهلل‪ :‬إن وزير‬
‫الخارجية اللبنانية يتكلم من وجهة نظرنا‪ .‬قال السفير‪ :‬إن مصر قد عقــدت معاهــدة‪،‬‬
‫وفي هذه الفترة اســتلمت مصر جميع الصــالحيات ومارست جميع الحقــوق‪ .‬فأجــاب‬
‫السيد سعد اهلل‪ :‬إننا كنا مكــرهين على عقد هــذه المعاهــدة ـ ألن البالد الســورية كــانت‬
‫في عهد اض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــطراب وفوضى ثم أنه ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوال حكومة‬
‫(لي ــون بل ــوم) لما ك ــان قد تم ذل ــك‪ .‬ثم أض ــاف‪ :‬أريد أن أتكلم بص ــورة واقعي ــة‪ ،‬م ــاذا‬
‫يضـ ــيركم أن تسـ ــلمونا كثـ ــيراً من الـ ــدوائر الـ ــتي بأيـ ــديكم كمصـ ــلحة الحـ ــدود واألمن‬
‫ال ـ ـ ــداخلي ومراقبة الص ـ ـ ــحف والش ـ ـ ــركات ذات االمتي ـ ـ ــاز؟ وأعطى أمثلة عملية عن‬
‫ضـ ــرورة قيـ ــام الحكومة بأمرهـ ــا؛ ثم قـ ــال سـ ــعد اهلل‪ :‬إننا بصـ ــفتنا حكومة وطنيـ ــة‪ ،‬ال‬
‫يمكننا إال المطالبة بجميع هذه األمور ونرغب في استالمها‪.‬‬
‫وهنا وجه السيد أوليفا روجيه سؤاالً‪ :‬بصفتك رئيساً للــوزراء ورجالً صــريحاً‬
‫هل أنت على اسـ ــتعداد للتعاقد مع فرنسـ ــا؟ وقبل أن يجيب سـ ــعد اهلل سـ ــرعان ما تكلم‬
‫هيللو وق ـ ـ ــال‪ :‬إنه سيس ـ ـ ــافر قريبـ ـ ـ ـاً إلى الجزائر ليبحث مع اللجنة وس ـ ـ ــيعرض ه ـ ـ ــذه‬
‫القضايا‪.‬‬
‫ومع ب ـ ــزوغ العهد الجديد في س ـ ــورية ق ـ ــال س ـ ــعد اهلل الج ـ ــابري‪ :‬إن الس ـ ــوريين‬
‫ككافة العـ ــرب المخلصـ ــين يرغبـ ــون بالوحـ ــدة‪ ،‬وخاصة في هـ ــذه الحقبة الـ ــتي تشـ ــهد‬
‫الذوبان التدريجي لألمم الصغيرة‪.‬‬
‫وتحـ ـ ـ ــركت مصر نحو الوحـ ـ ـ ــدة العربي ـ ـ ـ ــة‪ ،‬وتلقى س ـ ـ ـ ــعد اهلل الج ـ ـ ـ ــابري رئيس‬
‫الــوزراء‪ ،‬دعــوة من مصــطفى النحــاس باشا رئيس الــوزارة المصــرية لزيــارة مصر‬

‫ـ ‪ 123‬ـ‬
‫للتب ــاحث بش ــأن الوح ــدة العربي ــة‪ ،‬ف ــرد الج ــابري مرحبـ ـاً ومؤك ــداً أنه س ــيلبي ال ــدعوة‬
‫حالما تسمح لـه ظروف العمل‪.‬‬
‫وفي هــذه الفــترة الــتي كــانت فيها الحكومة الســورية تســتكمل اعترافــات الــدول‬
‫بها كــانت عجلة المحادثــات في موضــوع الوحــدة العربية تــدور في القــاهرة وتتقــدم‪،‬‬
‫وتنمو فكرة الوحدة يوماً بعد يوم‪.‬‬
‫وسافر الوفد السوري إلى القاهرة في يوم ‪ 12‬تشرين األول‪ ،‬وكان مؤلفاً من‪:‬‬
‫سـ ــعد اهلل الجـ ــابري رئيس مجلس الـ ــوزراء وجميل مـ ــردم وزير الخارجيـ ــة‪ ،‬ونجيب‬
‫أرمنازي أمين السر العـام لرئاسة الجمهوريـة‪ ،‬وصــبري العسـلي نـائب مدينة دمشق‬
‫وحيدر الركابي رئيس ديوان رئاسة الجمهورية‪.‬‬

‫ـ ‪ 124‬ـ‬
‫فؤاد سراج الدين ـ أحمد نجيب الهاللي باشا ـ جميل مردم بك‬
‫أثناء وجودهم في القاهرة‬

‫ـ ‪ 125‬ـ‬
‫استقبل الوفد استقباالً ودياً من الحكومة والشعب المصري؛ وبمجرد وصــولهم‬
‫اســتقبلهم الملك فـاروق وأعــرب عن ســروره الشخصي برؤية الوطنــيين وقد تسـلموا‬
‫الس ـ ــلطة وبرؤية س ـ ــورية على طريق االس ـ ــتقالل‪ .‬وقد دع ـ ــاهم إلى مرافقته في الغد‬
‫لتأدية ص ــالة الجمعة في ج ــامع األزه ــر‪ ،‬وعلى ط ــول الطريق من دار الض ــيافة في‬
‫قصر الزعف ــران وح ــتى المس ــجد؛ ك ــان الش ــعب المص ــري يح ــيي الش ــعب الس ــوري‪،‬‬
‫بمنتهى الحماسـ ــة‪ ،‬وكـ ــان كثـ ــيرون يحملـ ــون الفتـ ــات كتب عليهـ ــا‪ :‬تحيـ ــات لزعمـ ــاء‬
‫سورية المستقلة‪.‬‬
‫وقد خصصت خطبة الجمعة للحـ ـ ـ ــديث عن الوحـ ـ ـ ــدة العربية وما تفيض به من‬
‫مزايا على الشــعب العــربي‪ ،‬وقد أقــام الملك وليمة غــداء على شــرف الوفد الســوري‬
‫بعد الصالة مباشرة‪ ،‬وأعرب عن اهتمامه الخاص بتحقيق الوحدة‪.‬‬
‫أمضى الجـ ــابري والوفد عـ ــدة أيـ ــام في القـ ــاهرة وفي هـ ــذا الـ ــوقت تبـ ــادل الوفد‬
‫الســوري وجهـات النظر مع مصــطفى النحــاس باشا حـول العالقـات العربية بصـورة‬
‫عامة وحول إمكانية قيام منظمة للسير بالعرب نحو الوحدة‪.‬‬
‫وقــدمت ســورية مــذكرة تعــبر عن رغبتها بتمهيد الطريق إلى الوحــدة العربيــة‪،‬‬
‫بالقضــاء على جميع االنقســامات المصــطنعة الــتي فرضــتها دســائس وأطمــاع القــوى‬
‫األجنبيــة‪ ،‬وتؤكد المــذكرة رغبة ســورية في إقامة فيديرالية عربيــة‪ ،‬تحتضن تعاون ـاً‬
‫سياس ـ ـ ــياً واقتص ـ ـ ــادياً واجتماعيـ ـ ـ ـاً وثقافيـ ـ ـ ـاً؛ وتضم ه ـ ـ ــذه الفيديرالية س ـ ـ ــورية ومصر‬
‫والعراق والسعودية واليمن وفلسـطين وشـرق األردن ولبنــان؛ ويقع على عــاتق هـذه‬
‫البالد تق ـ ـ ــديم المس ـ ـ ــاعدة الخاصة الض ـ ـ ــرورية للبالد الخاض ـ ـ ــعة للحماي ـ ـ ــة‪ ،‬من أجل‬
‫انضمامها إلى هذه الفيديرالية في المستقبل‪.‬‬
‫وب ــدأت مش ــاورات الوح ــدة في مس ــاء ‪ 26‬تش ــرين األول ‪ ،1943‬بين النح ــاس‬
‫باشا والوفد السـ ـ ـ ــوري واسـ ـ ـ ــتمر حـ ـ ـ ــتى ظهر ‪ 30‬تشـ ـ ـ ــرين األول؛ واختتم بـ ـ ـ ــالبالغ‬
‫المشترك التالي‪:‬‬
‫"تمت اليوم المشاورات التي بدأت يوم الثالثاء ‪ 26‬تشرين األول؛ بين حضرة‬
‫صـ ـ ــاحب المقـ ـ ــام الرفيع مصـ ـ ــطفى النحـ ـ ــاس باشـ ـ ــا؛ رئيس مجلس الـ ـ ــوزراء ووزير‬
‫الخارجية المصرية وبين صاحب الدولة سعد اهلل الجــابري رئيس الــوزارة الســورية‬
‫وجميل مردم بك وزير خارجيتها بشأن الوحدة العربية والتعاون بين العرب‪.‬‬
‫وقد عق ــدت الهيئة أربع جلس ــات درست فيها ه ــذا الموض ــوع من جميع نواحيه‬
‫في جو من المحبة الصادقة ومشاعر الود التي تربط القطرين الشقيقين‪.‬‬

‫ـ ‪ 126‬ـ‬
‫وقد س ـ ـ ــادت مباحث ـ ـ ــات الج ـ ـ ــانبين روح اإلخالص نحو المي ـ ـ ــول المتبادلة لربط‬
‫البالد العربية ببعضها والعمل لخيرها وخير العالم بأسره‪.‬‬
‫وأثناء وجود سعد اهلل الجابري ومردم بك في مصر‪ ،‬اجتمعنا بــاللورد (مــوين)‬
‫وهو ال ــوزير البريط ــاني المقيم في الش ــرق األوس ــط؛ وال ــذي كتب ل ــوزارة خارجيته‬
‫يقول‪:‬‬
‫"إنه بس ـ ـ ــبب ما ن ـ ـ ــراه من انبع ـ ـ ــاث القومية العربي ـ ـ ــة‪ ،‬س ـ ـ ــيكون مما يس ـ ـ ــيء إلى‬
‫اعتبارنا أن يقف رئيس الحكومة الس ـ ــورية ليعلن بأننا نح ـ ــاول أن نم ـ ــارس ض ـ ــغطاً‬
‫على بالده‪ ،‬من أجل عقد معاه ـ ـ ــدة حص ـ ـ ــرية لمص ـ ـ ــلحة فرنس ـ ـ ــا‪ .‬إنه من مص ـ ـ ــلحتنا‬
‫والحالة هذه أن نبتعد عن مثل هذه الخصومة"‪.‬‬
‫ثم أكد الل ـ ــورد (م ـ ــوين)ـ للج ـ ــابري بأنه ليست هن ـ ــاك أية قض ـ ــية تتعلق بمحاولة‬
‫بريطانية من أجل فرض أية معاهدة‪" .‬وليس هنـاك أي أسـاس لإلشـارة إلى اتفاقيـات‬
‫سرية كما ورد في رسالة الرئيس السوري إلى رئيس الواليات المتحدة"‪.‬‬
‫ثم أبلغ اللـ ــورد (م ــوين) بأنه يجتمع بالسـ ــوريين ألول مـ ــرة‪ ،‬وقد "ت ــأثر بم ــوقفهم‬
‫الثابت الذي ال يتزعزع" وأثار الجابري أثناء هـذا اللقـاء موضـوع تسـليم الـدرك الـذي‬
‫كان البريطانيون قد وعدوا به‪ ،‬منذ شهر حزيران‪ ،‬والذي لم يتم حتى اآلن‪.‬‬
‫وفي رواية اللورد (موين)ـ بأن موضوع التسلح ال اعتراض عليه‪.‬‬
‫وع ـ ــاد الوفد إلى دمشق وتوجه في ‪ 12‬تش ـ ــرين األول إلى البرلم ـ ــان وص ـ ــرح‬
‫الـ ـ ـ ــرئيس الج ـ ـ ـ ــابري لرجـ ـ ـ ــال الصـ ـ ـ ــحافة بـ ـ ـ ــأن رحلة الوفد ك ـ ـ ـ ــانت موفقة وناجحة‬
‫كل النجاح‪.‬‬
‫وبدأ خطابه باستعراض النجاحات التي حققتها حكومتـه‪ ،‬منذ أن تـألفت في آب‬
‫‪ 1943‬وقال‪:‬‬
‫"إن القيود الـتي يعــاني منها االســتقالل مرجعها أوضـاع الحـرب"‪ .‬وأكـ َّـد أنه في‬
‫هذه األوضــاع المضـطربة احتلت األمـور الداخلية الدرجة الثانية من بـرامج العمـل‪،‬‬
‫بعد القض ـ ـ ــايا ال ـ ـ ــتي تمس السياسة الخارجية للبالد‪ .‬وق ـ ـ ــال‪" :‬إن س ـ ـ ــورية مص ـ ـ ــممة‬
‫للحصول على جميع السـلطات اإلدارية وأنها ســوف تجــبر األجنـبي على االعــتراف‬
‫به ــذا الح ــق؛ ولقد اس ــتطعنا أن نحقق الج ــزء األعظم من أمانين ــا‪ ،‬ولم يبق بيننا وبين‬
‫الفرنسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيين إال قضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــية واحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدة ال تحتمل جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدالً وال مناقشة وهي‬
‫قضية الجيش"‪.‬‬

‫ـ ‪ 127‬ـ‬
‫وكشف الجابري النقاب أمام البرلمان عن المراحل المختلفة للمفاوضــات الــتي‬
‫ج ـ ــرت بين الحكومة والفرنس ـ ــيين عن موض ـ ــوع الجيش وق ـ ــال‪" :‬لقد تلقينا طلبـ ـ ـاً من‬
‫الفرنس ــيين لعقد معاه ــدة ت ــؤمن لهم مرك ــزاً متم ــيزاً عن جميع ال ــدول األخ ــرى"‪ .‬وقد‬
‫أوضح أن حكومته في ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذا الموض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوع ليست مس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتعدة ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتى لدراسة‬
‫هذا الطلب‪.‬‬
‫ثم تكلم عن اجتم ــاع الوح ــدة العربية وعن بروتوك ــول اإلس ــكندرية‪ ،‬ال ــذي وقع‬
‫باسم سورية‪ ،‬وقال‪ :‬إن الوطنيين السـوريين ليسـوا معنــيين بمظـاهر بسـيطة‪ ،‬ولكنهم‬
‫يتطلعـ ـ ــون إلى مركزية تامـ ـ ــة‪ ،‬وبـ ـ ــأنهم قد بينـ ـ ــوا بوضـ ـ ــوح مـ ـ ــوقفهم في االجتمـ ـ ــاع؛‬
‫وأضــاف‪" :‬إن القــرار النهــائي الــذي تبنــاه المــؤتمر ليس على مســتوى تطلعــات الوفد‬
‫الس ـ ـ ـ ـ ــوري‪ ،‬ومرجع ذلك إلى أن كل بلد لـه أس ـ ـ ـ ـ ــبابه الخاص ـ ـ ـ ـ ــة؛ وعلينا أن نك ـ ـ ـ ـ ــون‬
‫متســاهلين ونقبل األســباب"‪ .‬ثم تحــدث عن مبــادئ الوحــدة العربية فقــال‪" :‬هنا مبــادئ‬
‫عامة تحفظت سورية من أجلها‪ ،‬بحقوقها‪ ،‬هذه المبــادئ تتعلق بالوحــدة العربية الــتي‬
‫يجب تحقيقها‪ ،‬وبالوحدة السورية التي تريد سورية تحقيقها"‪.‬‬
‫وتعــرض الج ــابري لقض ــية حيوية في نظــره وهي قضــية فلس ــطين‪ .‬قــال‪" :‬إننا‬
‫نـ ــرفض أن تقتطع فلسـ ــطين منـ ــا‪ ،‬ونريد أن نحتفظ بالنظـ ــام الجمهـ ــوري‪ ،‬وأن تكـ ــون‬
‫دمشق هي العاصمة"‪.‬‬
‫وأنهى الج ـ ـ ــابري خطابه بقول ـ ـ ــه‪" :‬إنه س ـ ـ ــيفاجئ المجلس والحكومة وال ـ ـ ــرئيس‬
‫بإعالن استقالته"‪.‬‬
‫وفـوجئ الجميـع‪ ،‬ألنه لم يكن هنـاك مـبرر لالسـتقالة؛ ولم يكن يعلم مسـبقاً بـأمر‬
‫هــذه االســتقالة إال القــوتلي ومــردم بــك‪ .‬ومنذ أن علم مــردم بك بموقف الجــابري من‬
‫االسـ ـ ــتقالة‪ ،‬حـ ـ ــاول أن يقنعه بالعـ ـ ــدول عنهـ ـ ــا‪ ،‬وجاهد ليثنيه عن عزمـ ـ ــه‪ ،‬ولكن دون‬
‫جدوى‪.‬‬
‫وأس ـ ّـره الجـ ــابري بموقفه وقـ ــال‪" :‬إن رئيس الجمهورية يريد تغي ــير الحكومـ ــة‪،‬‬
‫من أجل إقناع الفرنسيين بالعودة إلى مفاوضات تسليم الجيش"‪.‬‬
‫على أن تغيــير الحكومة لم يكن في الواقع أكــثر من تعــديل؛ وكــان ذلك في ‪14‬‬
‫تشرين األول ‪.1944‬‬
‫وقد أق ـ ـ ــام بعد ذلك مأدبة فخمة في فن ـ ـ ــدق أوري ـ ـ ــان ب ـ ـ ــاالس على ش ـ ـ ــرف الوفد‬
‫الص ـ ــحفي العائد من ال ـ ــديار المصـ ــرية؛ وقد حض ـ ــرها ع ـ ــدد من الن ـ ــواب وال ـ ــوزراء‬
‫ومـ ـ ــدير المطبوعـ ـ ــات واإلذاعة شـ ـ ــكيب الجـ ـ ــابري وأصـ ـ ــحاب الصـ ـ ــحف ورؤسـ ـ ــاء‬
‫التحرير‪.‬‬

‫ـ ‪ 128‬ـ‬
‫هــذا وكــانت دمشق قد دعمت موقف لبنــان وســاندت ريــاض الصــلح في موقفه‬
‫المنس ــجم مع الوح ــدة العربية وس ــاندته الص ــحافة ال ــتي ك ــانت تلعب دوراً رئيس ــياً في‬
‫موضوع الوحدة‪.‬‬
‫ويعد ي ــوم ‪ 23‬ك ــانون األول ‪ 1943‬يوم ـاً مشــهوداً في تــاريخ ســورية ولبن ــان‪،‬‬
‫فقد عقد فيه مجلس البل ــدين جلس ــتين خط ــيرتين حض ــرهما ممثلو الس ــفارات األجنبية‬
‫وس ــفراء ال ــدول ووجه ــاء البالد‪ ...‬وتكلم عن مجلس س ــورية س ــعد اهلل الج ــابري كما‬
‫تكلم عن لبنــان ريــاض الصــلح‪ .‬وشــرح ســعد اهلل بيانه الــذي ألقــاه في مجلس النــواب‬
‫الس ــوري بإس ــهاب‪ ،‬تفاص ــيل المفاوض ــات ال ــتي ج ــرت بين س ــورية ولبن ــان وفرنس ــا؛‬
‫والتي أدت إلى االتفاق على أن تتسلم حكومتا سورية ولبنان من فرنسا الصالحيات‬
‫التي كانت تمارسها بوصفها دولة منتدبة وتكلم الجابري عن تلك المصالح فقال‪:‬‬
‫"إنها تنقسم إلى قسمين‪ :‬القسم األول ما يسمى المصـالح المشـتركة" وهـذه نفسـها‬
‫تنقسم إلى قسـ ــمين‪ :‬فمنها ما هو مشـ ــترك بيننا وبين لبنـ ــان‪ ،‬ومنها ما هو بيد الجـ ــانب‬
‫الفرنسي باسم الجانبين والطرفين؛ والمصالح المشتركة العائدة للدول هي‪:‬‬
‫ـ مراقبة الش ـ ــركات ذوات االمتي ـ ــاز‪ :‬فمن ه ـ ــذه الش ـ ــركات ما هو موج ـ ــود في‬
‫سورية ومنها ما هو في لبنان؛ وإ ني ألقرأ عليكم أسماء هذه الشركات لتطلعوا على‬
‫ما تم بشأن ســورية ولبنـان معـاً‪ ،‬مع العلم أن هـذا ال يكــون سـبباً لالشـتراك في العمل‬
‫واإلدارة"‪.‬‬
‫وبعد س ـ ـ ـ ــرد التفاص ـ ـ ـ ــيل انتهى إلى الق ـ ـ ـ ــول‪" :‬واآلن أيها الس ـ ـ ـ ــادة قبل أن اختتم‬
‫كالمي‪،‬ـ أريد أن أقـ ــرأ عليكم نص االتفـ ــاق بـ ــاللغتين العربية والفرنسـ ــية‪ ،‬إذا أردتم"‪.‬‬
‫وهـ ـ ــذه أول مـ ـ ــرة يوضع فيها عقد سياسي رسـ ـ ــمي باللغة العربيـ ـ ــة‪ ،‬ويوقعه الفرقـ ـ ــاء‬
‫الثالثة‪.‬‬

‫البيان المشترك‬
‫تم االتفــاق بتــاريخ هــذا اليــوم بين فخامة قائد الجيش الجــنرال (كــاترو) مفــوض‬
‫الدولة المكلف بمهمة‪ ،‬وبين ممثلي الحكومتين السورية واللبنانية‪ ،‬على تسليم هاتين‬
‫الحكوم ــتين الص ــالحيات ال ــتي تمارس ــها اآلن الس ــلطات الفرنس ــية باس ــمها؛ وس ــتنقل‬
‫حسب هــذا االتفــاق المصــالح المشــتركة وموظفوها إلى الــدولتين الســورية واللبنانية‬
‫مع حق التشــريع واإلدارة‪ ،‬وذلك اعتبــاراً من أول كــانون الثــاني القــادم‪ .‬واألســاليب‬
‫المتعلقة بانتقال هذه الصالحيات ستكون موضوع اتفاقية خاصة‪.‬‬
‫دمشق‪ 22/‬كانون األول ‪1943‬‬

‫ـ ‪ 129‬ـ‬
‫التواقيع‪:‬‬
‫سعد اهلل الجابري‬ ‫جميل مردم بك‬ ‫خالد العظم‬
‫الجنرال كاترو‬ ‫رياض الصلح‬ ‫سليم تقال‬

‫وتـ ـ ــابع الجـ ـ ــابري كالمـ ـ ــه‪" :‬كـ ـ ــان المجتمعـ ـ ــون للمباحثة والتفـ ـ ــاوض من الجهة‬
‫الفرنسية‪ ،‬الجنرال كاترو‪ .‬والوزير المفوض الكونت (اوســتروروغ) وممثل فرنسا‬
‫في سـ ـ ــورية الكولونيل أوليفا ـ ـ ـ ـ روجيه والخبـ ـ ــير الفرنسي المسـ ـ ــيو (لـ ـ ــودوك)‪ ،‬ومن‬
‫الجــانب اللبنــاني دولة ريــاض الصــلح رئيس الــوزراء ومعــالي وزير الخارجية ســليم‬
‫تقال‪ ،‬والخبـ ــير المـ ــالي األمـ ــير جميل شـ ــهاب ومن الجـ ــانب السـ ــوري أنا (سـ ــعد اهلل)‬
‫وجميل مردم‪ ،‬وخالد العظم‪.‬‬
‫هـذا ما لـدي‪....‬ـ عرضـته على مجلسـكم الكـريم بصــورة سـريعة؛ وإ نـني أعتـبر‬
‫نفسي سـ ــعيداً أنا وزمالئي إذ تمكنا من تقـ ــديم هـ ــذا إليكم‪ ،‬وفي الجلسة القادمة سـ ــأقدم‬
‫ص ــورة االتف ــاق بين س ــورية ولبن ــان‪ ،‬وما يتبعه من النظم لتتمكن اإلدارة المش ــتركة‬
‫بصورة مستعجلة من تسلم ما كان عائداً إلينا‪ ،‬وما كان مشتركاً بيننا وبين لبنان كي‬
‫نتمكن من ممارسته"‪.‬‬
‫عمت األف ـ ــراح والته ـ ــاني كالً من س ـ ــورية ولبن ـ ــان‪ ،‬وهـ ــرعت وف ـ ــود المهن ـ ــئين‬
‫لتعرب عن غبطتها ووالئها‪.‬‬
‫لم تكد تسـ ــتقر األوضـ ــاع حـ ــتى حصـ ــلت أزمة لبنانية سياسـ ــية مشـ ــتركة‪ .‬كـ ــان‬
‫للحكومة السورية تحفظات حول حـدود لبنـان الكبـير والمعـترف بها من قبل فرنسـا؛‬
‫وأصـبح النص المعـدل الجديد أن لبنـان دولة مسـتقلة موحـدة وذات سـيادة؛ وحـدودها‬
‫هي التي تحدده حالياً‪...‬‬
‫إن لبنان بعد هذا التعديل‪ ،‬يضع سورية أمـام األمر الواقـع؛ ألن سـورية لم تكن‬
‫قد اع ـ ــترفت ب ـ ــأن ح ـ ــدود لبن ـ ــان هي نهائي ـ ــة؛ وقد ق ـ ــال س ـ ــعد اهلل الج ـ ــابري للمن ـ ــدوب‬
‫الفرنسي في دمشـ ــق؛ "إن حكومته قد انـ ــزعجت كثـ ــيراً من التصـ ــرف الفرنسي ومن‬
‫بالغ اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني‪ .‬ألنه إذا كان هنــاك بلد يحق لـه أن يشــكو من‬
‫تع ــديل الدس ــتور اللبن ــاني‪ ،‬فهو س ــورية‪ ،‬ولكن الحكومة الس ــورية عن ــدما علمت ب ــأن‬
‫رئيس الحكومة اللبنانية قد حصل على التأييد اإلجم ــاعي لل ــرأي الع ــام اللبن ــاني؛ فقد‬
‫قررت دعمــه‪ .‬إن الحكومة الوطنية في ســورية‪ ،‬قد فهمت أن هـذا التعــديل هو لتبديد‬
‫مخاوف اللبنانيين الذين كانوا يخشون سيطرة السوريين‪...‬‬
‫ومنذ أول اجتماع بين الحكومتين السورية واللبنانية‪ ،‬قــال الســوريون بوضــوح‬
‫لـ ــزمالئهم اللبنـ ــانيين بـ ــأن عليهم أن يتبعـ ــوا سياسة حـ ــذرة وأن يتجنبـ ــوا أي نـ ــزاع مع‬

‫ـ ‪ 130‬ـ‬
‫الفرنس ــيين وك ــان هم الحكومة الس ــورية تجنب أي ت ــدخل بريط ــاني في عالقاتها مع‬
‫فرنســا؛ ولم تكن الحكومة اللبنانية في لبنــان تحظى بالتأييد المتجــانس الــذي تتمتع به‬
‫سورية‪.‬‬
‫وأصــبحت لبنــان مســرحاً لصــراع السياســتين الفرنســية والبريطانيــة‪ .‬وأرادت‬
‫سورية أن تتوسط لحل األزمة؛ وقد كان الرئيس القوتلي قلقاً بشأنها‪ ،‬وبعد المذاكرة‬
‫معه ثم مع رئيس الحكومة سـ ــعد اهلل الجـ ــابري‪ ،‬تم االتفـ ــاق على أن يقصد مـ ــردم بك‬
‫ب ـ ـ ـ ــيروت لزي ـ ـ ـ ــارة رئيس الدولة ورئيس الحكومة على أن يص ـ ـ ـ ــحبه عبد ال ـ ـ ـ ــرحمن‬
‫الكيالي‪ .‬وعفيف الصــلح‪ ،‬وأن يلتقي بســبيرس وكــاترو والممثل األمــيركي؛ـ وبعد أن‬
‫تم حل األزمة اللبنانية أص ـ ـ ــبحت الحكومة الس ـ ـ ــورية مهي ـ ـ ــأة لمعالجة قض ـ ـ ــاياها مع‬
‫فرنسا‪.‬‬
‫ووصل كـ ــاترو في ‪ 25‬تشـ ــرين الثـ ــاني إلى دمشـ ــق‪ .‬حيث اجتمع إلى الـ ــرئيس‬
‫ورئيس الحكومة س ـ ـ ــعد اهلل الج ـ ـ ــابري ووزير الخارجي ـ ـ ــة‪ ،‬ال ـ ـ ــذين ط ـ ـ ــالبوه بتس ـ ـ ــليم‬
‫السلطات اإلدارية بأسرع وقت ممكن‪...‬ـ‬
‫وكـ ــان الجـ ــابري قد ألقى خطاب ـ ـاً في حلب قبل يـ ــومين اعتـ ــبر بمثابة إعالن عن‬
‫سياسة الحكومة ق ـ ــال في ـ ــه‪" :‬إننا نطلب إلى الس ـ ــلطات األجنبية ب ـ ــأن ت ـ ــترك لنا جميع‬
‫حقوقن ــا‪ ،‬إننا نعمل بجد على الص ــعيدين اإلداري واالجتم ــاعي من أجل أن يس ــتطيع‬
‫بل ــدنا حكم نفس ــه‪ .‬وإ ني أحب أن أذكر الم ــوظفين ب ــأن م ــرجعهم الوحيد هو الحكومة‬
‫الوطنية المســتقلة؛ إنهم يتكلمــون عن االنتــداب ومن قــال لهم أن هــذا البلد قد اعــترف‬
‫في ي ــوم من األي ــام باالنت ــداب؟ إننا مس ــتقلون‪ ،‬وإ ننا نطلب إليهم أن ينقل ــوا إلى أي ــدينا‬
‫وسـ ــائل االسـ ــتقالل‪ .‬أما فيما يتعلق بالمعاهـ ــدة‪ ،‬فـ ــإن المفاوضـ ــات تجـ ــري بين األمم‬
‫على أسـ ـ ـ ــاس الشـ ـ ـ ــريعة والحريـ ـ ـ ــة‪ ،‬يجب أن نمسك بأيـ ـ ـ ــدينا قبل كل شـ ـ ـ ــيء قبل أن‬
‫نفاوض"‪.‬‬
‫كـ ــانت الحكومة تـ ــدرك أن حل قضـ ــاياها مع الفرنسـ ــيين ال يحتمل التأجيل وأن‬
‫معالجة القضــايا تتم عن طريق التحــذيرات شــبه الرســمية؛ فمثالً كــان التحــذير األول‬
‫في الم ــذكرة ال ــتي وزعت في الم ــؤتمر الص ــحفي في ‪ 22‬تش ــرين الث ــاني؛ والتح ــذير‬
‫الثــاني كــان في خطــاب الجــابري‪ ،‬بمناســبة شــبه رســمية في حلب؛ والثــالث كــان في‬
‫الصحف بقلم مردم بك‪.‬‬
‫وفي ‪ 1‬كانون األول ألقى الجابري خطاباً هاماً في مجلس النواب قال فيه‪:‬‬
‫"إن حكومته ال تع ـ ـ ـ ــترف باالنت ـ ـ ـ ــداب‪ ،‬وليس في نيتها عقد أية معاه ـ ـ ـ ــدة‪ ،‬وأنها‬
‫طالبت بتسليم السلطات اإلدارية حاالً‪ ،‬وأضاف‪ :‬بأن حكومته ستتبنى سياسة تهدف‬

‫ـ ‪ 131‬ـ‬
‫إلى الوحــدة العربيــة‪ ،‬وأنها مســتمرة في المجهــود الحــربي مع الحلفــاء؛ وختم خطابه‬
‫بـالقول‪ :‬إن الحكومة قد أبلغت الفرنسـيين بأنها ال تقبل من اآلن فصـاعداً أي نص ال‬
‫يسنه مجلس النواب السوري"‪.‬‬
‫كــان ســعد اهلل يضع النقــاط فــوق الحـروف عن الموقف الرســمي للحكومــة‪ .‬قبل‬
‫المباشرة بالمفاوضات مع الفرنسيين‪.‬‬
‫وجاء في مطلع الشــهر نفسه الكــونت (اوســتروروغ) كممثل شخصي للجــنرال‬
‫ديغول في ســورية ولبنــان؛ وكتب لـه عن مقابالته مع القــوتلي والجــابري ومــردم بك‬
‫وقــال‪" :‬إن القــوتلي قد بادله بعض الــدعابات؛ األمر الــذي جعله يفهم بــأن البحث في‬
‫األمور السياسية يجب أن يتم مع الحكومة؛ وقال عن مقابلته للجابري‪" :‬إن الحــديث‬
‫كان عاماً‪ ،‬وإ ن كان بدون شك حسن النوايــا‪ ،‬وال يخفي رغبته بالتوصل إلى التفــاهم‬
‫مع فرنسا؛ ويسمح لسورية كدولة بأن تصمد أمام الطموحــات البريطانية "وقــال عن‬
‫مقابلته مع م ــردم ب ــك‪ :‬ك ــان الح ــوار مختلفـ ـاً وقد ع ــبر عن آماله ب ــأن يحقق الج ــنرال‬
‫كاترو ما تعهد به من أجل أن يوضع قيد التنفيذ"‪.‬‬
‫وأعلن الجابري‪ ،‬في ‪ 23‬كانون األول أمام مجلس النواب‪ ،‬أن حكومته عقدت‬
‫اتفاقاً مع الفرنسيين من أجل المصالح المشتركة‪ ،‬وأشاد بروح التفهم الــتي يتمتع بها‬
‫الجنرال كاترو وكتب الجنرال كاترو إلى الجنرال ديغول يحيطه علماً بالمفاوضات‬
‫التي جرت في دمشق ويقول‪" :‬لقد خضع الفريق اللبناني كليـاً لهيمنة رجــال دمشــق‪،‬‬
‫إن الفريق الدمشقي الذي يحركه سعد اهلل الجابري‪ ،‬كان لـه مظهر حكومة‪ .‬لقد تعلم‬
‫غير في أس ــلوبه وتكتيك ــه؛‬ ‫من تقل ــده الس ــلطة‪ ،‬وهو ث ــابت على رأيه وأهداف ــه‪ ،‬ولكنه ّ‬
‫ك ــان يتحاشى الش ــطط ويحسن اس ــتثمار األوض ــاع وكسب الف ــرص‪ :‬وك ــان حريصـ ـاً‬
‫على تص ــريحاته وأقواله ال ــتي تؤكد تحقيق اس ــتقالل س ــورية بالنس ــبة للع ــالم ال س ــيما‬
‫بالنسبة إلى فرنسا وإ نكلترا وأنه بتحرره من االرتهــان األجنــبي يــرمي إلى الظهــور‬
‫أمام العـالم العـربي كحلم يتمتع باسـتقالل أكـثر مفعـوالً وكمـاالً وتحقيقـاً من الحكم في‬
‫مصر والعراق"‪.‬‬

‫‪:1944‬‬
‫في اليوم األول من عام ‪ 1944‬حول الفرنسـيون أكـثر الســلطات اإلدارية (بعد‬
‫اإللحاح الشـديد من قبل الجــابري) إلى الحكومــتين السـورية واللبنانيـة‪ ،‬وقد احتفظـوا‬
‫بـاألمن العـام وبـالقوات الخاصة (الجيش) بانتظـار عقد اتفاقيـات خاصة يجب أن تتم‬
‫بين الحكوم ــتين وبين الس ــلطات الحليفة بحجة أن وضع الح ــرب ال يس ــمح بالتحويل‬
‫اآلني لهذه السلطات‪.‬‬

‫ـ ‪ 132‬ـ‬
‫كـ ــانت الحكومة السـ ــورية تـ ــدرك بـ ــأن الفرنسـ ــيين لن يسـ ــلموا بسـ ــهولة وبطـ ــوع‬
‫خ ـ ــاطر هـ ــذه الس ـ ــلطات؛ وب ـ ــأن خـ ــير وس ـ ــيلة للوص ـ ــول إلى هـ ــذه الغاية هو ممارسة‬
‫(الضـ ـ ــغط) العـ ـ ــام على الفرنسـ ـ ــيين‪ .‬ولـ ـ ــذلك وبعد اإللحـ ـ ــاح المتكـ ـ ــرر من سـ ـ ــعد اهلل‬
‫الجابري وطلبه الدائم تسليم الجيش قبل الجنرال كــاترو أن يبحث موضــوع الجيش‪.‬‬
‫وســرعان ما كتب الجــنرال كــاترو إلى الجــنرال ديغــول‪" :‬لم يكن في اإلمكــان دراسة‬
‫قض ــية الجيش ال ــتي ط ــرحت في الش ــارع وفي الص ــحافة وفي مجلس الن ــواب بش ــكل‬
‫ع ـ ــنيف‪ ...‬وقد ب ـ ــدا لي وكأنه من المس ـ ــتحيل أن يجابه ب ـ ــالرفض الق ـ ــاطع لئال ن ـ ــرى‬
‫الهيــاج وهو يشــتد والــذي علينا أن نــدفع ثمنه في معظم الحــاالت‪ .‬وقد اقــترحت أمر‬
‫تسليم نظري للقــوات الخاصة إلى الحكومة الــتي تضــعها مباشــرة تحت ســلطتنا‪ .‬إلى‬
‫أن تنتهي العمليات الحربية على األقل فيما يتعلق بسورية"‪.‬‬
‫وأرسل تق ـ ــارير كثـ ـ ــيرة بعد ذلك يقـ ـ ــول في إح ـ ــداها إلى الج ـ ــنرال ديغـ ـ ــول‪ :‬إن‬
‫الفريق الحــاكم القــوتلي والجــابري ومــردم بك يتعامل معنا بنية حســنة‪ ،‬ولكن أفكــاره‬
‫مشـ ـ ــبعة بوطنيـ ـ ــة‪ ،‬وال سـ ـ ــيما الجـ ـ ــابري‪ ،‬حيث أن وطنيته عنيـ ـ ــدة وصـ ـ ــلبة؛ ويظهر‬
‫الصــالبة في كل ما يمس متعلقــات السياسة الوطنيــة‪ ،‬ويظهر أنه قــادر على أن يملك‬
‫ناصية األمور فيما يتعلق باألمن وفيما يتعلق بالقوات العسكرية‪.‬‬
‫وح ـ ــذر الج ـ ــنرال ك ـ ــاترو من الخفة واالس ـ ــتهانة في معالجة القض ـ ــايا الس ـ ــورية‬
‫وكان هذا آخر تقرير رفعه عن سورية بعد أن وصلت مهمته إلى نهايتها‪.‬‬
‫ومنذ أوائل ‪ 1944‬أصــبحت اللجنة الفرنســية للتحرير الوطــني بنظر الحلفــاء‪،‬‬
‫هي الســلطة الشــرعية الوحيــدة‪ ،‬وظهــرت حقيقة الحكومة الفرنســية الــتي تبنت موقفـاً‬
‫وهب الشــعب وتعــاظم الهيــاج وامتــدت المظــاهرات إلى أكــثر‬ ‫أكــثر تصــلباً من قبــل؛ ّ‬
‫المناطق السـورية‪ ،‬وحــدثت اضـطرابات جدية في جبل الـدروز‪ ،‬ولم يلبث أن وصل‬
‫في ‪ 2‬شــباط ســلطان باشا األطــرش قائد الثــورة الســورية عــام ‪ 1922‬وعــرض على‬
‫الحكومة أن يقـ ــود ثـ ــورة ضد الفرنسـ ــيين‪ ...‬بيد أن السـ ــلطة الفرنسـ ــية بـ ــدأت تتبـ ــدل‪.‬‬
‫وأول إشـارة كـانت في تسـمية الجـنرال (بينـه) منـدوباً عامـاً في الشـرق‪ ،‬وقائـداً أعلى‬
‫لجيش الشـ ـ ــرق‪ ،‬وذلك دون استشـ ـ ــارة الحكومة السـ ـ ــورية؛ ولكنها تبلغت ذلك في ‪8‬‬
‫شباط ‪ 1944‬وأعلمت بهذا التبديل‪.‬‬
‫ووصل الج ــنرال بينه إلى س ــورية‪ ،‬في أوائل آذار‪ ،‬وق ــدم أوراق اعتم ــاده إلى‬
‫رئيس الجمهورية كمنــدوب عــام (مطلق الصــالحية) لفرنســا؛ وســيتابع المهمة الــتي‬
‫ب ــدأها ك ــاترو "بغية الوف ــاء ب ــالعهود ال ــتي أعطيت للش ــعب الس ــوري‪ ،‬وال ــتي لن تحيد‬
‫اللجنة عن الوفاء بها"‪.‬‬

‫ـ ‪ 133‬ـ‬
‫وكــان اللقــاء األول بين القــوتلي وبينه وديـاً‪ ،‬وفي هــذا اللقــاء طلب الجــابري من‬
‫(بينــه) وشــاتينيو التوصل إلى حل عــادل لقضــية الجيش واألمن العــام" وقد ألح على‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ال شك أن الجيش واألمن الع ـ ـ ــام من أص ـ ـ ــعب المش ـ ـ ــاكل‪ ،‬ولم يكن في خ ـ ـ ــاطر‬
‫فرنسا أو إنكلترا تسليمها إلى سورية وحجتها أن العالم في حالة حرب‪.‬‬
‫ولكن فرنسا في الواقع كـ ـ ـ ـ ــانت تخشى أن تسـ ـ ـ ـ ــلم القطعـ ـ ـ ـ ــات الخاصـ ـ ـ ـ ــة‪ ،‬فربما‬
‫تستعملها سورية لطردها من البالد‪.‬‬
‫ولكن تم تب ـ ـ ــادل المقترح ـ ـ ــات بين س ـ ـ ــورية وبين القي ـ ـ ــادة الحليفة خالل ش ـ ـ ــهر‬
‫شباط ‪ 1944‬دون الوصول إلى أية نتيجة‪ ،‬كانت سورية تـرى أن االنتقـال يجب أن‬
‫يك ــون واس ــعاً وش ــامالً في القطع ــات الخاصة وأس ــلحتها وتجهيزاتها والمس ــتودعات‬
‫والثكنـ ـ ــات وجميع المنشـ ـ ــآت العسـ ـ ــكرية وتنتقل إلى الجيش السـ ـ ــوري وتحت قيـ ـ ــادة‬
‫سورية وترتبط بوزارة الدفاع‪ ،‬يكون رئيس الجمهورية هو القائد األعلى؛ وفي مدة‬
‫الحرب يسـاهم الجيش السـوري في الـدفاع عن سـورية وفقـاً للخطط الـتي توضع من‬
‫قبل القيادة العليا للحلفاء ومن قبل األمم المتحدة‪.‬‬
‫وفي ‪ 15‬آذار ‪ 1944‬في أثنـ ـ ـ ــاء االجتمـ ـ ـ ــاع بين القـ ـ ـ ــوتلي والجـ ـ ـ ــابري‪ ،‬وبين‬
‫سـ ــبيرس والقائد البريط ــاني األعلى الجـ ــنرال (هـ ــولز) ن ــوقش النص الفرنسي لمـ ــدة‬
‫‪ /9/‬ســاعات متواصــلة‪ ،‬وقد أبــدى الجــابري رغبته في الوصــول إلى حل وسط فيما‬
‫يتعلق ببعض النق ـ ــاط التفص ـ ــيلية‪ ،‬ولكن فيما يتعلق ب ـ ــاألمور الجوهرية ك ـ ــاالعتراف‬
‫بالقيادة الفرنسية‪ ،‬فقد رفضوا التنازل؛ وكان أن هاجم الجابري بمرارة البريطــانيين‬
‫وقال لسبيرس "عند ابتداء الحرب كان السوريون معــادين لبريطانيــا‪ ،‬والبريطــانيون‬
‫كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــانوا مكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــروهين في مصر والعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراق ومحتقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرين‬
‫في الشرق"‪.‬‬
‫وقع حــادث بتــاريخ ‪ 20‬أيــار ‪ 1944‬وكــان يمكن أن تكــون لـه عــواقب خطــيرة‬
‫يســتغلها الفرنســيون لــوال أن رئيس الحكومة ســعد اهلل الجــابري قد اســتطاع الســيطرة‬
‫عليه بسرعة فائقة‪.‬‬
‫أسست جمعية (نقطة الحليب) وهي جمعية خيري ـ ــة‪ ،‬بتش ـ ــجيع من الفرنس ـ ــيين؛‬
‫وتقوم على إدارتها نخبة من فضيالت سيدات المجتمع الدمشــقي؛ـ ومهمة اللجنة هي‬
‫تق ـ ــديم الحليب مجانـ ـ ـاً وتحت إش ـ ــراف ط ـ ــبي لألطف ـ ــال ال ـ ــذين ال تتمكن أمه ـ ــاتهم من‬
‫إرضــاعهم لســبب من األســباب‪ ،‬أو الــذين فقــدوا أمهــاتهم‪ .‬وجــرت العــادة على إقامة‬
‫حفل راقص سـ ــنوي‪ ،‬وكـ ــان موعد الحفلة السـ ــنوي في ذلك اليـ ــوم‪ .‬فقـ ــامت مجموعة‬

‫ـ ‪ 134‬ـ‬
‫من الشــباب المتــدين‪ ،‬الــذين ينتمــون إلى (الجمعية الغــراء) بالتظــاهر احتجاج ـاً على‬
‫مسـ ـ ـ ــاهمة سـ ـ ـ ــيدات مسـ ـ ـ ــلمات في هـ ـ ـ ــذا الحفـ ـ ـ ــل‪ ،‬وغاية الجمعية الغـ ـ ـ ــراء هي األمر‬
‫بـ ـ ــالمعروف والنهي عن المنكر كما هي معلنـ ـ ــة‪ ،‬وتطـ ـ ــورت المظـ ـ ــاهرة إلى فوضى‬
‫عامة وح ــدثت اعت ــداءات علنية في الطرق ــات على س ــيدات محجب ــات‪ ،‬كما ه ــوجمت‬
‫قاعة أحد المســارح الــتي كــانت تضم اجتماع ـاً نســائياً؛ وألقيت عليهن األحجــار‪ ،‬كما‬
‫أطلقت عيارات نارية‪.‬‬
‫اتخذ الج ـ ــابري ت ـ ــدابير عاجلة للس ـ ــيطرة على الموق ـ ــف‪ ،‬فقد تم توقيف زعم ـ ــاء‬
‫المتظاهرين وصدرت األوامر إلى رجال الشـرطة بـإطالق النــار على المحرضـين‪،‬‬
‫وأذاع الجـ ـ ــابري في الحـ ـ ــال بيان ـ ـ ـاً قـ ـ ــال فيـ ـ ــه‪" :‬لقد اتخـ ـ ــذت الحكومة جميع التـ ـ ــدابير‬
‫الضــرورية لتــأمين النظــام‪ ،‬وهي مصــممة على الوقــوف بوجه كل محاولة لإلخالل‬
‫بـاألمن‪ ،‬عن طريق اتخـاذ تـدابير سـريعة وشـديدة؛ وسـتلجأ إلى القـوة من أجل تفريق‬
‫كل تجمع غير مشروع"‪.‬‬
‫وطلب الج ـ ـ ــابري في أعق ـ ـ ــاب ذلك التص ـ ـ ــويت على الثقة بالحكومة فيما يتعلق‬
‫بالتــدابير الحازمة الــتي اتخــذها وأكد بــأن الضــمير الوطــني ال يســمح لهــؤالء النــاس‬
‫بأن يبثوا روح التفرقة بين الطوائف وقــال‪" :‬إن الحكومة طالما دافعت عن األخالق‬
‫وال ـ ــدين والفض ـ ــيلة‪ ،‬وأن ال ـ ــدين لم يكن أداة لالنتق ـ ــام"‪ .‬وت ـ ــابع‪" :‬إننا سنض ـ ــمن دائمـ ـ ـاً‬
‫الحرية لجميع األديان"‪.‬‬
‫وقد أعطى المجلس الثقة التامة لحكومة الجـ ـ ـ ـ ـ ـ ــابري‪ ،‬وباإلجمـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاع‪ ،‬وأجازها‬
‫باستعمال جميع سلطاتها من أجل الوقوف بوجه هذه األحداث‪.‬‬
‫وهدأت األمور واستقرت األوضاع وعادت الحياة إلى طبيعتها‪.‬‬
‫كـ ــان الـ ــرئيس القـ ــوتلي يلح على حضـ ــور سـ ــعد اهلل الجـ ــابري في كل اجتمـ ــاع؛‬
‫ولذلك طلبه إلى اجتماع خاص يعرض فيه (مزاج) مجلس النواب‪.‬‬
‫ق ـ ــال الج ـ ــابري‪ :‬إن الن ـ ــواب قد تكلم ـ ــوا فعالً عن ض ـ ــعف الحكوم ـ ــة‪ ،‬ونحن مع‬
‫الشــدة تجــاه من يتحــدانا‪ ،‬ولن نستســلم‪ ...‬ثم أخــبر الجــابري بــأن البرلمــان سيصــوت‬
‫على الموازنة العامة في ‪ 24‬كـ ــانون الثـ ــاني‪ ،‬وأن عـ ــدداً من النـ ــواب يريـ ــدون تقـ ــديم‬
‫اقتراح يطلبون بموجبه من الحكومة بــأن تخصص مبلغـاً هامـاً من أجل إنشــاء جيش‬
‫جديد ما دام الفرنسيون غير مستعدين لتسليم القطعات الخاصة‪.‬‬
‫في تلك الف ـ ــترة كتب الج ـ ــنرال (بين ـ ــه) إلى اللجنة الفرنس ـ ــية للتحرير الوط ـ ــني‪،‬‬
‫يق ــول‪" :‬إن الحكومة الس ــورية هي على (مس ــتوى المهم ــة) ال ــتي تض ــطلع به ــا‪ ،‬وأن‬
‫ونبه‬
‫الجابري استطاع أن يؤكد سلطته في أثناء األحداث التي وقعت في شهر أيار‪ّ ،‬‬

‫ـ ‪ 135‬ـ‬
‫إلى أنه في مجلس النـ ـ ـ ـ ــواب يوجد بعض المعارضـ ـ ـ ـ ــين الـ ـ ـ ـ ــذين يشوشـ ـ ـ ـ ــون في أمل‬
‫االسـ ـ ــتيالء على السـ ـ ــلطة؛ وهم على اتصـ ـ ــال مع عمالء شـ ـ ــبه رسـ ـ ــميين للمفوضـ ـ ــية‬
‫البريطاني ـ ــة‪ ،‬ولكن (الج ـ ــابري) يختل ـ ــف‪ ،‬والمص ـ ــلحة الشخص ـ ــية ال تت ـ ــدخل مطلقـ ـ ـاً‬
‫في قراراته"‪.‬‬
‫وفي مجال آخر قال‪ :‬إنه لو كان في عداد الحكومة رجل مثل (كميل شمعون)ـ‬
‫لكان قد أمكن استغالل الموقف؛ ولكن الجابري كان من عيار مختلف‪.‬‬
‫ورغم موقفه هذا من حكومة الجــابري فقد حـاول أيضـاً تأجيل المفاوضــات من‬
‫أجل الجيش ولكن س ـ ـ ــعد اهلل ك ـ ـ ــان يـ ـ ــرى أن تسـ ـ ــليم الجيش ال ـ ـ ــذي هو نتيجة طبيعية‬
‫لالعـ ــتراف باسـ ــتقالل سـ ــورية ال يمكن أن يكـ ــون معلَق ـ ـاً على إبـ ــرام معاهـ ــدة‪ .‬ولـ ــذا‬
‫حذرت حكومة الجابري الجنرال (بينه) من حيث أن الوضع الحـالي للـرأي العـام ال‬
‫يستبعد معه نشوب ثورة إذا لم يتم االتفاق في الحال‪ ،‬ودون أية مهلة‪.‬‬
‫اس ـ ــتؤنفت المفاوض ـ ــات في ‪ 15‬حزي ـ ــران‪ ،‬ولكن لم يتم تحقيق أي تق ـ ــدم‪ .‬وهنا‬
‫ه ــددت الحكومة الس ــورية بقطع المفاوضـ ــات‪ .‬ولـ ــذلك اض ــطرت السـ ــلطة الفرنس ــية‬
‫الس ــتئناف المفاوض ــات على أس ــاس (المراح ــل) وتم التوصل إلى اتف ــاق م ــؤقت بين‬
‫السـ ــوريين والفرنسـ ــيين على أن يسـ ــلم (نصـ ــف) الجيش قبل الهدنة والنصف اآلخر‬
‫في اليوم ذاته الذي يتم فيه التوقيع على الهدنة‪.‬‬
‫ونكث الجـ ــنرال (بينـ ــه) بوعـ ــده ولم يوقع االتفـ ــاق‪ ،‬وقـ ــال‪" :‬إن حكومـ ــتي ليست‬
‫ضد تســليم الجيش إلى ســورية‪ ،‬ولكنها تريد من هــذه الحكومة إيضــاحات عن وضع‬
‫فرنسا في سورية بعد تسليم الجيش"‪ .‬هذه المراوغـات كـان وراءها ســبب قـوي لـدى‬
‫الفرنسيين‪ ،‬وكله يتعلق باالتفاق الثقافي‪.‬‬
‫فقد رأى الفرنس ـ ــيون أنهم س ـ ــوف يجل ـ ــون عن س ـ ــورية‪ ،‬فطلب من ـ ــدوب فرنسا‬
‫مقابلة الـ ــرئيس القـ ــوتلي؛ وس ــرعان ما اس ــتدعى القـ ــوتلي سـ ــعد اهلل الجـ ــابري‪ ،‬وكـ ــان‬
‫السـ ـ ــيد وحيد دويـ ـ ــدري نـ ـ ــائب إدلب حاضـ ـ ــراً‪ ،‬وروى مـ ـ ــادار من حـ ـ ــديث‪ ،‬إذ طلب‬
‫المنــدوب الفرنسي أن تق ــوم بين ســورية وفرنسا معاهــدة ثقافيــة‪ ،‬تق ــوم فرنسا بإنشــاء‬
‫مركز ثقـ ـ ــافي في كل من دمشق وحلب دون مقابـ ـ ــل؛ وكـ ـ ــان الـ ـ ــرافض الوحيد لهـ ـ ــذه‬
‫المعاه ــدة الثقافية س ــعد اهلل الج ــابري الــذي قــال‪" :‬س ــوف تجل ــون دون قيد وال ش ــرط‪.‬‬
‫وبعد ذلك قد نتفاوض"‪.‬‬
‫فوت سعد اهلل على الفرنســيين آخر فرصة للعــودة؛ كما كــان ســعد اهلل قد‬ ‫وهكذا ّ‬
‫رفض قبالً اتفاقـاً مع المنــدوب اإلنكلــيزي‪ ،‬عنــدما اجتمع معه ســراً في قرية (تريــدم)‬
‫في حلب ومجمل الحادثة أنه حينما دخل الجيش البريطــاني ســورية مع جيش فرنسا‬

‫ـ ‪ 136‬ـ‬
‫الحرة‪ ،‬اتصل أحد عمالء اإلنكليز (الدكتور أرنست التونيان) مع سـعد اهلل الجـابري‬
‫وطلب منه أن يقابل أحد كبـ ـ ـ ــار المسـ ـ ـ ــؤولين اإلنكلـ ـ ـ ــيز‪ ،‬وتهيأ االجتمـ ـ ـ ــاع في (قرية‬
‫تريدم) قـرب حلب‪ ،‬سـراً‪ ،‬فقــال المنــدوب البريطــاني لســعد اهلل‪" :‬نحن نسـاعدكم على‬
‫نوال استقاللكم‪ ،‬ونحن نرغب أن تجـري عالقة بين إنكلــترا وسـورية" منوهـاً برغبة‬
‫حكومته في إيجاد معاهدة بينهما؛ فرفض سعد اهلل رفضاً قاطعاً‪ ،‬وانســحب الطرفــان‬
‫دون ارتباط؛ والسبب أن فرنسا كانت تلح على إنشــاء مراكز ثقافية مقابل تســليم كل‬
‫المصالح دون تحفظ‪.‬‬
‫وفي الواقع كان هـذا الموضـوع (االتفـاق الثقـافي) يقلق الفرنسـيين كثــيراً‪ ،‬وهو‬
‫يتعلق أصـ ـالً بالتوجيه والتربية ال ــذي يش ــكل عم ــاد الش ــعب وثقافته وقد يك ــون ملونـ ـاً‬
‫بلون الثقافة الفرنسية وخلق اتجاهات عاطفية وودية نحوها‪.‬‬
‫وزاد القلق الفرنسي منذ أن وضع س ــاطع الحص ــري بعد مجيئه من بغ ــداد إلى‬
‫دمشق ب ـ ــرامج تعليمية وطني ـ ــة‪ ،‬حيث أص ـ ــبح المستش ـ ــار الف ـ ــني ل ـ ــوزارة المع ـ ــارف؛‬
‫وي ـ ــرمي ه ـ ــذا المش ـ ــروع الوط ـ ــني إلى تع ـ ــريب جميع ب ـ ــرامج التعليم في الم ـ ــدارس‬
‫السورية‪.‬‬
‫وإ ذا تحقق هـ ــذا األمر في رأي الفرنسـ ــيين‪ ،‬فإنه يهـ ــدد حض ـ ــورهم الثقـ ــافي في‬
‫البالد وقد م ــارس وزير المع ــارف ض ــغطاً على الحكومة من أجل ع ــرض مش ــروع‬
‫الق ــانون على مجلس الن ــواب بأس ــرع وقت ممكن‪،‬ـ رغم أن م ــردم بك ك ــان معارض ـاً‬
‫التخاذ قرارات سريعة‪.‬‬
‫وبعد فـترة وجـيزة قـدمت فرنسا ـ من حرصـها الشـديد ـ مـذكرة للـرئيس شـكري‬
‫القوتلي تحتج فيها على التطـبيق الفـوري للـبرامج الجديـدة للتعليم الثـانوي الـذي تبنته‬
‫الحكومة السورية في ‪ 4‬كانون األول ‪.1944‬‬
‫وقد أكـ ّـد الجــنرال (بينــه) على أن تطــبيق هــذه الــبرامج "يعــدل بشــكل محســوس‬
‫نظــام التعليم وتعطيه طابع ـاً مختلف ـاً عما كــان عليه اليــوم"‪ .‬وعليه فــإن حكومته تــرى‬
‫بأن هذا الموضوع يشكل عائقاً أمام إبرام االتفاقية الجامعية بين فرنسا وسورية‪.‬‬
‫ولكن الحكومة السـ ــورية بعد دراسة أحكـ ــام االتفاقية الـ ــتي قـ ــدمها الفرنسـ ــيون‪،‬‬
‫قررت رفضها ألنها تشكل انتهاكاً لالستقالل السوري‪.‬‬
‫لقد طلبت فرنسا أن تدرس جميع المدارس اللغة الفرنسية بصــورة إلزامية منذ‬
‫المرحلة االبتدائيـة‪ ،‬وأن تعتمد المـدارس السـورية الكتب نفسـها المعتمـدة في فرنسـا‪،‬‬
‫وأن يكـ ــون للبعثة الثقافية الفرنسـ ــية (المراكز الثقافيـ ــة) اعتب ــار أكـ ــثر قيمة من جميع‬
‫البعثات الثقافية األخرى‪.‬‬

‫ـ ‪ 137‬ـ‬
‫ولكن الحكومة الس ــورية أج ــابت‪ :‬إن موض ــوع إص ــالح التعليم هو من األم ــور‬
‫الداخلية الصرفة للبالد‪.‬‬
‫وع ـ ــاد موض ـ ــوع الجيش الس ـ ــوري إلى الس ـ ــاحة‪ ...‬وازداد إلح ـ ــاح الن ـ ــواب في‬
‫المجلس على مناقشة هــذا الموضــوع‪ ،‬ولــذلك طلبــوا دراســته‪ ،‬ومناقشة قــانون يــرمي‬
‫إلى تشـ ــكيل جيش وطـ ــني سـ ــوري إذا كـ ــان الفرنسـ ــيون يرفضـ ــون تسـ ــليم القطعـ ــات‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫وقامت مظاهرات في دمشق وسائر المحافظات‪ ،‬مطالبة بإنشاء جيش وطــني؛‬
‫وعندما رأى الفرنسيون ذلك أعطوا األوامر لقواتهم تســيير دبابــات في بعض أحيــاء‬
‫العاصـ ــمة؛ وبإيعـ ــاز من الجـ ــابري أرسل مـ ــردم بك مـ ــذكرة احتجـ ــاج إلى الفرنسـ ــيين‬
‫وسلم نسخة منها إلى جميع الممثلين الدبلوماسيين تطالبهم بإجالء جميع القــوات عن‬
‫أحياء دمشق‪.‬‬
‫وطلب رئيس الجمهورية شكري القوتلي في ‪ 30‬حزيران؛ كما طلب ســعد اهلل‬
‫الجـ ــابري رئيس الحكومة من السـ ــيد مـ ــردم بك أن ينقل رسـ ــالة إلى (بينـ ــه) يطلبـ ــان‬
‫بموجبها توقيع االتفاقـ ـ ــات على نقل الجيش واألمن العـ ـ ــام قبل سـ ـ ــفره إلى الجزائ ـ ــر؛‬
‫وإ ذا لم تتوصل الحكومة إلى حل مع الفرنس ـ ـ ــيين خالل ‪ 48‬س ـ ـ ــاعة‪ ،‬ف ـ ـ ــإن الحكومة‬
‫السورية ستشكل مصلحة لألمن العام‪.‬‬
‫وحضر شاتينيو إلى دمشق‪ ،‬وتوصل إلى اتفاق نهائي مع الســوريين حــول نقل‬
‫األمن العام باعتبار أنه يشكل جزءاً من االتفاقات المتعلقة بالمصالح المشتركة‪.‬‬
‫ورأى ســعد اهلل أن الــوقت قد حــان بالنســبة لسياســته الخارجيــة‪ ،‬أن يطلب إقامة‬
‫عالقـ ــات دبلوماسـ ــية مع جميع الـ ــدول العظمى؛ ولـ ــذا بـ ــدأ تحركاته وأعطى اإليعـ ــاز‬
‫لمــردم بك باالتصــال بالســفير الصــيني في بغــداد‪ ،‬كما طلب منه أن يتصل بحكومته‬
‫من أجل أن تعلن اعترافها باستقالل سورية‪.‬‬
‫وفي شـ ـ ــهر أيـ ـ ــار قـ ـ ــام السـ ـ ــفير الصـ ـ ــيني بزيـ ـ ــارة إلى دمشـ ـ ــق‪ ،‬وأبلغ الحكومة‬
‫السـ ـ ــورية عن رغبة حكومته بإقامة عالقـ ـ ــات دبلوماسـ ـ ــية مع سـ ـ ــورية‪ ،‬وفي شـ ـ ــهر‬
‫حزيـران أوفـدت الحكومة الســورية األسـتاذ نعيم أنطـاكي لالتصـال بالســفير الروسي‬
‫لـ ــدى مصـ ــر‪ ،‬السـ ــيد (نيفيكـ ــوف) وبلغه دعـ ــوة الحكومة السـ ــورية لزيـ ــارة دمشق في‬
‫أق ـ ــرب وقت ممكن لمناقشة تبـ ـ ــادل العالقـ ـ ــات الدبلوماسـ ـ ــية بين االتحـ ـ ــاد السـ ـ ــوفياتي‬
‫وسورية ولبنان‪ ،‬وأحيطت زيارته بالسرية التامة‪.‬‬
‫وأثنــاء المحادثــات بين الســيد أنطــاكي وســفير روســيا (نيفيكــوف)‪ ،‬عــبر الســفير‬
‫عن رغبة حكومته باالعتراف باستقالل سورية‪.‬‬

‫ـ ‪ 138‬ـ‬
‫وفي ‪ 11‬تمـ ــوز وصل نيفيكـ ــوف إلى دمشـ ــق‪ ،‬ضـ ــيفاً على الحكومة السـ ــورية‪،‬‬
‫ولكن لم يعلن عن زيارتــه‪ ،‬وقد تــأمنت إقامته في بلــودان لبعــدها عن دمشــق‪ ،‬وأبــرق‬
‫ه ــذا إلى حكومته يوصي ب ــاالعتراف باس ــتقالل س ــورية وإ قامة عالق ــات دبلوماس ــية‬
‫معها‪.‬‬
‫وفي أثنــاء زيــارة نيفيكــوف لســورية‪ ،‬حــدث نــزاع شــديد بين ســورية والســلطات‬
‫الفرنسية التي طلبت من سورية إجراء عرض عسكري في دمشق وبــيروت في ‪14‬‬
‫تموز (العيد الوطني لفرنسا) ولكن سورية رفضت؛ فتحدتها السـلطات الفرنسـية لهـذا‬
‫االمتنـ ـ ــاع‪ ،‬وشـ ـ ــعرت سـ ـ ــورية ولبنـ ـ ــان بالمهانة لهـ ـ ــذا التحـ ـ ــدي؛ وطلبت إلى الممثلين‬
‫المحلـ ـ ــيين للقـ ـ ــوى األجنبية بمقاطعة االحتفـ ـ ــاالت الـ ـ ــتي تعد انتهاك ـ ـ ـاً السـ ـ ــتقالل البالد‬
‫وسيادتها‪ ،‬ولوجاهة السبب طلب السلك الدبلوماسي المقاطعة‪.‬‬
‫وتجــاهلت الســلطة الفرنســية االحتجــاج الســوري اللبنــاني‪ ،‬واســتمرت في تنظيم‬
‫االحتفــاالت في المــدن الرئيســية في كل من ســورية ولبنــان؛ ولكن حكومة الجــابري‬
‫وحكومة الصـ ــلح‪ ،‬أصـ ــدرتا األوامر الصـ ــارمة إلى جميع المـ ــوظفين باالمتنـ ــاع عن‬
‫حض ـ ـ ــور االحتف ـ ـ ــاالت؛ ح ـ ـ ــتى نقلت الس ـ ـ ــلطة الفرنس ـ ـ ــية إلى س ـ ـ ــبيرس وإ لى الممثل‬
‫الدبلوماسي األمـ ــيركي الموقف السـ ــوري اللبنـ ــاني‪ ،‬وقيـ ــل‪" :‬أن العـ ــالم كله يقـ ــول إن‬
‫الحكومة السورية تطبق النهج اإلنكليزي في اإلثارة والتحدي"‪.‬‬
‫وتعقّد س ـ ــوء التف ـ ــاهم ال ـ ــذي نشأ بعد ح ـ ــادث ‪ 14‬تم ـ ــوز‪ ،‬وت ـ ــوقفت االتص ـ ــاالت‬
‫المتعلقة بتس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــليم الجيش‪ ،‬فطلب الج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــابري من م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــردم بك ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــأن يتصل ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫(أوليفا ـ ـ ـ ـ ـ ـ روجيـ ـ ـ ـ ــه) ليحضر إلى وزارة الخارجية للمقابلـ ـ ـ ـ ــة‪ ،‬فأجـ ـ ـ ـ ــاب روجيه "إن‬
‫الفرنسـ ــيين مسـ ــتاؤون من تصـ ــرفات وسـ ــلوك الحكومة السـ ــورية وإ نهم يعتقـ ــدون أن‬
‫اإلنكليز يقفون وراء تصـرفات الحكومــة"‪ .‬ومن هنا يظهر الخــوف الـذي ت ّكــون لــدى‬
‫الفرنسيين من أن يأخذ اإلنكليز مكانهم‪.‬‬
‫وفي المس ـ ــاء أح ـ ــاط م ـ ــردم بك الس ـ ــيد الج ـ ــابري بجميع ما خلص إليه من ه ـ ــذه‬
‫المقابل ــة‪ ،‬وفي مس ــاء الي ــوم نفسه وأثن ــاء أحد االس ــتقباالت الرس ــمية‪ ،‬التفت س ــعد اهلل‬
‫الجــابري إلى أوليفا ـ ـ روجيه وقــال ل ــه‪ :‬إنه ألمر مؤسف أنكم ال تريــدون أن تفهمــوا‬
‫مطلق ـاً‪ ...‬لم ــاذا ال تت ــوفر عن ــدكم الثق ــة؟ لم ــاذا ال تري ــدون أن تص ــدقوا رج ــاالً مثلن ــا؟‬
‫رجاالً معروفين بأنهم ال يركنون إلى األجنبي مثلي أنــا؟ أو مثل رئيس الجمهوريــة؟‬
‫هل تعتقدون أن جميل مردم بك يوالي اإلنكليز؟‬
‫كانت هذه األسـئلة مفاجئة وجريئة وصـريحة‪ ،‬لم يتوقعها أوليفا ـ روجيه ولكنه‬
‫فهم ما يجب أن يفهم‪.‬‬

‫ـ ‪ 139‬ـ‬
‫واستمر الفرنسيون في دفـاعهم‪ ،‬بخلق أقـوال ملفقة وكالم غـير مـوزون‪ ،‬وكـأن‬
‫المنطق الس ــليم قد جــانب أق ــوالهم؛ وس ــجلت تق ــارير فرنس ــية تق ــول‪" :‬ليس هن ــاك شك‬
‫بأن سعد اهلل أصــبح مجنونـاً‪ ...‬إن رئيس الحكومة لم يعد يعــرف مــاذا يفعل من أجل‬
‫االنتقـ ــام"‪ .‬واتهم الس ــيد (بينـ ــه) سـ ــعد اهلل الجـ ــابري بأنه كـ ــذاب‪" .‬لقد تحـ ــدث عن وعد‬
‫مزعــوم بــأن الســلطات الفرنســية قد الــتزمت باالمتنــاع عن القيــام باالحتفــاالت تتنــافى‬
‫مع االستقالل كاالستعراضات والمواكب"‪ .‬وقد غالى في الكــذب وقــال‪ :‬إن اإلخالل‬
‫بالوعد كـ ــان لـه صـ ــداه في الصـ ــحافة وفي تصـ ــرف الحكومـ ــة‪ ،‬وهـ ــذا األمر قد أفسح‬
‫المجال لتأخير المباحثات التي ينتظرها السوريون بشأن الجيش‪.‬‬
‫يقـول مـردم بـك‪" :‬في الواقع أن بينه هو الـذي لم يقل الحقيقة (كـذاب) والوثـائق‬
‫نفس ــها هي ال ــتي تكذب ــه‪ ،‬ح ــتى أن أوليفا ـ ـ روجيه قد أقر لل ــرئيس الق ــوتلي بأنه وح ــده‬
‫المســؤول وقد كــان هنــاك تقصــير في إيفــاء ما تعهــدت بــه‪ ،‬لقد ســارت مجموعة من‬
‫جيش الشرق بعرض في طريق الصـالحية تتقــدمها الموســيقى‪ ،‬وكنت قد قلت ألنــور‬
‫حاتم بأن أحداً لن يرى جنوداً في شوارع دمشق"‪ .‬وهكذا ثبت كذب بينه‪.‬‬
‫حاول الرئيس القوتلي تهدئة الجو‪ ،‬وتبديد المخاوف فيما يتعلق بالتــآمر األنكلو‬
‫س ــوري فقــال ألوليفا ـ ـ روجيــه‪" :‬إن ســورية يحكمها اليــوم أحسن فريق عمل مت ــوفر‬
‫في البالد‪ .‬وإ ن رج ــاالً من أمثاله وأمث ــال س ــعد اهلل الج ــابري وم ــردم بك ال يفك ــرون‬
‫بتب ـ ــديل الفرنس ـ ــيين بغ ـ ــيرهم إن ذلك يعت ـ ــبر خيانة لبل ـ ــدنا‪ .‬ولن نص ـ ــبح خونة قبل أن‬
‫نموت"‪.‬‬
‫وكتب أوليفا ـ روجيه بعد مقابلته الــرئيس القــوتلي إلى حكومته لتغيــير السياسة‬
‫الفرنسـ ـ ــية في سـ ـ ــورية وأراد في الواقع إسـ ـ ــقاط الحكومـ ـ ــة‪ ،‬قـ ـ ــال‪ :‬إن رئيس مجلس‬
‫النواب سعد اهلل الجابري يهاجم الحكومة السورية بســبب عالقاتها بنــا‪ ،‬وأنها لم تكن‬
‫حازمة في موض ـ ـ ــوع اس ـ ـ ــتالم الجيش؛ وه ـ ـ ــذا معن ـ ـ ــاه أن الفريق الح ـ ـ ــالي (الق ـ ـ ــوتلي‬
‫الجابري مردم بك) إذا سقط أمـام مجلس النـواب فـإن الرجـال الـذين سـيحلون محلهم‬
‫ســيكونون أكــثر صــالبة أو أكــثر إزعاج ـاً‪ .‬ولكنهم في نظرنا ليس لهم االعتبــار ذاته‬
‫وال القيمة نفسـ ــها ال عند الحلفـ ــاء وال عند الشـ ــعب السـ ــوري‪ ،‬ولـ ــذلك لن يـ ــدوم هـ ــذا‬
‫الفريق طـ ـ ــويالً‪ ،‬وسـ ـ ــوف نـ ـ ــربح الـ ـ ــوقت‪ ،‬وسـ ـ ــوف تقـ ـ ــوم االضـ ـ ــطرابات حـ ـ ــتى في‬
‫الشوارع‪ ،‬وسـوف يتـأثر اعتبـار سـعد اهلل الجـابري وقد ينـال ذلك من الـرئيس أيضـاً‪.‬‬
‫إن موقف الحكومة ليس قويـ ـ ـاً‪ ،‬وه ـ ــذه الحكومة يجب أن ت ـ ــذهب‪ ،‬وإ ذا لم ت ـ ــذهب من‬
‫نفسها فإن المعارضة التي تقوى بصمودنا وتنشط كفيلة بأن تطردها‪.‬‬

‫ـ ‪ 140‬ـ‬
‫ومن الملفت للنظر أن عــداوة أوليفا ـ ـ روجيــه‪ ،‬كــانت كلها منصــبة نحو الــزعيم‬
‫س ــعد اهلل الج ــابري؛ إذ يعتقد (روجي ــه) أنه ص ــاحب القي ــادة الفعلية للش ــعب الس ــوري‬
‫كله فهو صــلب عنيد أمــام وطنية واســتقالل بالده‪ ،‬ولن يحيد عن أهدافه ما بقي على‬
‫قيد الحياة‪.‬‬
‫وفي ‪ 17‬تم ـ ـ ــوز طلب الج ـ ـ ــابري من م ـ ـ ــردم بك إرس ـ ـ ــال م ـ ـ ــذكرة إلى أوليفا ـ ـ ـ ـ‬
‫روجيه‪ .‬يسجل فيها مختلف التصرفات التي صدرت عن الفرنسيين‪ ،‬وهي وال شك‬
‫تتعارض مع نص إعالن االستقالل ومع االتفاقات التي تم توقيعها من قبل الجــنرال‬
‫كاترو في كانون األول‪ .‬وأهم ما جاء في المذكرة‪:‬‬
‫"إن أسـ ــلوب بعض المـ ــوظفين الفرنسـ ــيين‪ ،‬يتعـ ــارض بشـ ــكل فاضح مع سياسة‬
‫االســتقالل؛ كــذلك جــرى االحتفــال بعيد ‪ 14‬تمــوز دون أية مراعــاة للشــعور الوطــني‬
‫وقد ظه ـ ــرت ع ـ ــروض عس ـ ــكرية ومش ـ ــاهد استعراض ـ ــية؛ وتظ ـ ــاهرات طائفي ـ ــة‪ ،‬في‬
‫محاولة لبعث أوضاع ال يرغبها الشــعب الســوري؛ وكــان متفقـاً على إلغائهـا؛ ولكنها‬
‫مع األسف ج ــرت ف ــوق ت ــراب ال ــوطن"‪ ...‬إن الحكومة الس ــورية تلفت انتب ــاه الس ــيد‬
‫المن ــدوب الع ــام إلى ه ــذه األفع ــال ال ــتي تنتهك حرمة االس ــتقالل والس ــيادة‪ ،‬وال يمكن‬
‫بالمقابل أن تعتبر مسؤولة أبداً عن أي نزاع يمكن أن يحدث نتيجة لــذلك؛ وال يخفى‬
‫أن طبيعة عمل المنـ ــدوبين أصـ ــبحت على مس ـ ــتوى الدبلوماسي والقنصـ ــلي؛ ولـ ــذلك‬
‫أص ـ ـ ــدرت الحكومة الس ـ ـ ــورية تعليم ـ ـ ــات ب ـ ـ ــأن جميع ما يص ـ ـ ــدر عن المن ـ ـ ــدوبين من‬
‫نصوص بعد تاريخ ‪ 22‬كانون األول ‪ ،1943‬نصوص الغية؛ وباإلضافة إلى ذلك‬
‫فقد اتخـ ــذت التـ ــدابير الضـ ــرورية من أجل أال يتكـ ــرر في المسـ ــتقبل حـ ــدوث األفعـ ــال‬
‫المشار إليها في هذه المذكرة‪.‬‬
‫كـ ــان له ـ ــذه المـ ــذكرة وقع عميق في نفس السـ ــلطة الفرنسـ ــية وال س ـ ــيما أوليفا ـ ـ ـ‬
‫روجيه‪.‬‬
‫وفي ‪ 21‬تمـ ـ ـ ـ ــوز طلب الجـ ـ ـ ـ ــابري من مـ ـ ـ ـ ــردم بك أن يرسل برقية إلى الرفيق‬
‫مولوتـ ــوف وزير الشـ ــؤون الخارجية السـ ــوفياتية يعـ ــرب عن اإلعجـ ــاب الـ ــذي تبديه‬
‫س ــورية تج ــاه الش ــعب الس ــوفياتي ال ــذي ناضل في كفاحه من أجل الديمقراطي ــة‪ ،‬وأن‬
‫سورية ترغب أن يكون لها عالقات دبلوماسية ودية مع االتحاد السوفياتي‪.‬‬
‫وفي ‪ 23‬تموز جاء الرد من موسكو‪:‬ـ "إن الحكومة السوفياتية ترحب بــاقتراح‬
‫الحكومة الس ــورية إلقامة عالق ــات دبلوماس ــية ودية وح ــارة‪ ،‬بين االتح ــاد الس ــوفياتي‬
‫وسورية"‪.‬‬

‫ـ ‪ 141‬ـ‬
‫وفي ‪ 24‬تم ــوز أق ــامت الحكومة الس ــورية وليمة على ش ــرف الوفد الس ــوفياتي‬
‫وأعلنت البالغ التالي‪:‬‬
‫"إن اعتراف االتحاد السوفياتي بالجمهورية السورية دولة مستقلة وذات سيادة‬
‫هو اع ـ ــتراف ت ـ ــام ودون تحف ـ ــظ" وإ ن له ـ ــذا االع ـ ــتراف أهمية بالغة بالنس ـ ــبة للحي ـ ــاة‬
‫السياسـ ــية في سـ ــورية وله مـ ــدلول خـ ــاص لـ ــدى سـ ــورية‪ ،‬وهي الدولة العربية الثانية‬
‫ال ــتي يع ــترف بها االتح ــاد الس ــوفياتي‪ ،‬وأن س ــورية ال ــتي لم يكن لها أي شك بعطف‬
‫االتحاد السـوفياتي على الشـعوب الصـغيرة لفخـورة بـأن تكــون موضع اعــتراف مثل‬
‫هذه القــوة الــتي كــان لها األثر الحاسم في اتجــاه الحـرب والــتي ســيكون لها أثر عميق‬
‫فيما يتعلق باالعتراف بعالم ما بعد الحرب‪.‬‬
‫اس ـ ـ ــتمرت زي ـ ـ ــارة الوفد الس ـ ـ ــوفياتي لس ـ ـ ــورية أس ـ ـ ــبوعين؛ وعلمت الس ـ ـ ــلطات‬
‫الفرنسية بذلك‪ ،‬وكتب الكونت (اوستروروغ) إلى حكومته يقول‪:‬‬
‫"إن الحـذر الـذي أبـداه مسـيو نوفيكـوف كـان مسـيئاً‪ ،‬لقد أعطى الـدولتين (سـورية‬
‫ولبنــان) حجة تقــوي موقفهمــا‪ .‬لقد أقــام نوفيكــوف في الشــرق مــدة أســبوعين دون أن‬
‫يجـ ــري أي اتصـ ــال مع المنـ ــدوب العـ ــام‪ ،‬ولم يكن مسـ ــتحباً من طرفنـ ــا‪ ،‬ومن مهـ ــازل‬
‫الــدهر أننا ال نسـتطيع أن نشــكو"‪ .‬وكتب اوســتروروغ مــرة أخـرى‪" .‬إن الســوريين قد‬
‫ربحوا‪ ...‬لقد برز الوجود السوفياتي وكأنه يوازن الوجود الفرنسي واإلنكليزي"‪.‬‬
‫رغب الفرنسيون من جديد باستئناف المفاوضــات مع الحكومة الســورية‪ ،‬وفي‬
‫مطلع شهر أيلول طلب أوليفا ـ روجيه أن يـزور الجــابري الـذي فــوجئ بهــذا الطلب؛‬
‫ولما كــان الجــابري ال يعلم بعد في حينه بخــبر االتفــاق الفرنسي اإلنكل ــيزي‪ ،‬فقد بــدا‬
‫لـه أن زيارة روجيه هي مجرد إصالح العالقات مع السوريين‪.‬‬
‫وعنـ ــدما اسـ ــتقبل سـ ــعد اهلل أوليفا ـ ـ ـ روجيه قـ ــال ل ـ ــه‪" :‬لقد مضت مـ ــدة طويلة لم‬
‫نجتمع خاللها؛ فهل أن القط األسود الذي كان يقف بيننا ولى هارباً؟"‪.‬‬
‫وح ـ ــاول الج ـ ــابري بعد ذلك أن يب ـ ــدد الت ـ ــوتر؛ وبم ـ ــوجب المحضر ال ـ ــذي أع ـ ــده‬
‫الجــابري أصــبح اللقــاء وديـاً‪ ،‬ولكن أثــيرت فيه قضــايا شــائكة‪ ،‬مثل شــكوك الفرنســيين‬
‫حــول ما يســمونه اتفــاق ســوري بريطــاني وقضــية تســليم الــدرك؛ وقد أبــدى الجــابري‬
‫دهشته من موقف الجنرال (بينه) والذي لم يقم بزيارة بروتوكولية للحكومة‪.‬‬
‫ولفت الجــابري نظر أوليفا ـ ـ روجيه إلى أن هــذا الســلوك الفرنسي بالتحديد هو‬
‫الذي يشجع التدخالت البريطانية‪.‬‬
‫وفي ‪ 19‬أيل ـ ـ ــول‪ ،‬التقى الج ـ ـ ــنرال بينه والك ـ ـ ــونت اوس ـ ـ ــتروروغ مع ال ـ ـ ــرئيس‬
‫القــوتلي والســيد الجــابري‪ ،‬ومــردم بك من أجل اســتئناف المفاوضــات‪ ،‬ويبــدأ القــوتلي‬

‫ـ ‪ 142‬ـ‬
‫الح ـ ــديث بالس ـ ــؤال عن النوايا الفرنس ـ ــية ح ـ ــول تس ـ ــليم الجيش‪ .‬األمر ال ـ ــذي وعد به‬
‫الجنرال كاترو منذ عـام ‪ ،1943‬ورد بينه هـذا التأكيد وقـال‪" :‬إن هـذا االتفـاق يتعلق‬
‫ببعض المصــالح وليس لـه أية إشــارة للجيش"‪ .‬فقــال ســعد اهلل‪" :‬إن اتفــاق ‪ 22‬كــانون‬
‫األول قد تضمن تسليم الجيش والمصــالح المشــتركة أيضـاً‪ ،‬ولكن الحكومة الفرنســية‬
‫تماطل وتنفي تسليم الجيش"‪.‬‬
‫وأنهى الق ــوتلي كالمه ب ــالقول بأنه يريد جواب ـاً س ــريعاً ح ــول تس ــليم الجيش ألن‬
‫على الحكومة أن تقدم جواباً لمجلس النواب الذي سيعقد جلسة قريبة‪.‬‬
‫أجاب بينه أن عليه أن يتصل بحكومته قبل إعطاء الجواب‪.‬‬
‫وما أن جــاء شــهر أيلــول ‪ 1944‬حــتى اعــترفت أميركا اعتراف ـاً غــير مشــروط‬
‫باستقالل سورية ولبنان‪ ،‬بناء على محاولة البريطانيين إلقناعهم بهذا االعتراف‪.‬‬
‫وج ـ ــرى تع ـ ــديل أو تغي ـ ــير في الحكومة بن ـ ــاء على طلب س ـ ــعد اهلل الج ـ ــابري‪،‬‬
‫ففي ‪ 14‬تش ـ ــرين األول حل ف ـ ــارس الخ ـ ــوري محل الج ـ ــابري في رئاسة الحكوم ـ ــة‪،‬‬
‫وانتخب الجــابري رئيس ـاً لمجلس النــواب‪ ،‬وبقي تشــكيل الحكومة على وضــعه؛ إنما‬
‫تسلم مردم بك باإلضافة إلى وزارة الخارجية‪ ،‬وزارتي الدفاع واالقتصاد الوطني‪.‬‬
‫وفي ‪ 26‬تشرين األول ‪ 1944‬قدم سولور الوزير السـوفياتي‪ ،‬أوراق اعتمـاده‬
‫للرئيس وأبلغه رســالة شـفهية من سـتالين‪ ،‬جوابـاً على رسـالة القــوتلي‪ ،‬والــتي يعـرب‬
‫فيها عن أن االتحـ ــاد السـ ــوفياتي يريد أن يـ ــرى سـ ــورية مسـ ــتقلة دون أن يكـ ــون فيها‬
‫وضع مميز ألية دولة أجنيبة‪.‬‬
‫ومن جديد أراد أوليفا ـ ـ روجيه أن يضع حكومة ســورية تحت األمر الواقع في‬
‫الح ـ ــادث ال ـ ــذي ج ـ ــرى في نهاية ‪ ،1944‬وذلك بمناس ـ ــبة احتف ـ ــال س ـ ــاهر للص ـ ــليب‬
‫األحمر‪ .‬وكان يفترض أن يحضره رئيس الجمهورية‪.‬‬
‫وأصر الفرنس ـ ـ ـ ـ ـ ــيون على أن تتم تحية ال ـ ـ ـ ـ ـ ــرئيس عند قدومه من قبل ق ـ ـ ـ ـ ـ ــوات‬
‫عســكرية فرنســية‪ ،‬ولكن القــوتلي رفض حضــور الحفل الســاهر‪ ،‬وعلى األثــر‪ ،‬قــالت‬
‫الحكومة السـ ــورية‪" :‬وهكـ ــذا فـ ــإن الحكومة السـ ــورية تعد هـ ــذا األسـ ــلوب في معاملة‬
‫رئيس الدولة القوتلي‪ ،‬تعلن أنها لن تقيم البتة أية عالقة مع المسؤول األول عن هــذا‬
‫الحادث وهو السيد أوليفا ـ روجيه"‪.‬‬

‫ـ ‪ 143‬ـ‬
‫في مكتب رئاسة مجلس النواب‬
‫‪24/11/1944‬‬

‫ـ ‪ 144‬ـ‬
‫‪:1945‬‬
‫في ‪ 1‬آذار ‪ 1945‬ك ـ ــان س ـ ــعد اهلل الج ـ ــابري في بغ ـ ــداد‪...‬ـ ثم ع ـ ــاد إلى دمشق‬
‫ليعـ ــاود النضـ ــال من جديد بعد أن تحـ ــرك ونشط الوضع السياسي في العـ ــراق تجـ ــاه‬
‫سورية‪.‬‬
‫وتحرك معظم العرب وراحوا يشعرون بحاجتهم إلى االتحاد‪ .‬فــوقعت كل من‬
‫مصر وش ــرق األردن ولبن ــان وس ــورية والعربية الس ــعودية واليمن؛ ميث ــاق الجامعة‬
‫العربية في ‪ 22‬آذار ‪ .1945‬وك ـ ـ ــان ه ـ ـ ــذا الميث ـ ـ ــاق ي ـ ـ ــدعو إلى اجتماع ـ ـ ــات دورية‬
‫للدبلوماســيين المكلفين بتــأمين التعــاون بين الــدول العربية األعضــاء؛ وكــان الكشف‬
‫عن األهداف المشتركة تتخطى حدود الجماعة الواحدة وتتطلب التعاون‪.‬‬
‫وتعاظمت فرحة الجابري يوم كوفئ خير مكافأة‪ ،‬فوقف مع إخــوان لـه ورفقــاء‬
‫في الجهـ ـ ـ ـ ــاد‪ ،‬وزمالء في السياسة في الـ ـ ـ ـ ــوطن العـ ـ ـ ـ ــربي‪ ،‬وهم يوقعـ ـ ـ ـ ــون (ميثـ ـ ـ ـ ــاق‬
‫اإلسكندرية) وعلم الجامعة العربية يرفرف فوق رؤوسهم‪.‬‬
‫وخـ ــاف الفرنسـ ــيون من هـ ــذا االتحـ ــاد الـ ــذي يشـ ــكل قـ ــوة عربية كـ ــبرى‪ ،‬ولـ ــذلك‬
‫أرادوا أن يطيح ــوا بس ــعد اهلل الج ــابري‪ ،‬وك ــان آنئذ في فن ــدق الش ــرق عن ــدما حوصر‬
‫ـزي ب ـ ــزي راهب‬‫من قبل الفرنس ـ ــيين‪ ،‬فاض ـ ــطر س ـ ــعد اهلل إلى ت ـ ــرك الفن ـ ــدق‪ ،‬وقد ت ـ ـ ّ‬
‫وخـ ــرج مسـ ــتتراً بسـ ــيارة السـ ــفير الروسي (سـ ــولور) ووصل إلى حيفـ ــا؛ ومن هنـ ــاك‬
‫أبــرق إلى لنــدن ومجلس األمن‪ ،‬فــأمرت القيــادة البريطانية في فلســطين بالتــدخل في‬
‫أحداث سورية‪.‬‬
‫ودخلت المصـ ـ ـ ــفحات اإلنكليزية دمشق في ‪ 17‬نيسـ ـ ـ ــان ‪ 1945‬والـ ـ ـ ــذي أعلن‬
‫بدخولها استقالل البالد‪.‬‬
‫كــان ذلك اليــوم عيــداً وطني ـاً قومي ـاً لســورية‪ ،‬و"كــان لســعد اهلل الجــابري الفضل‬
‫األول في تحقيق نتائجه وتأكيد أثـ ـ ــاره‪ .‬وكـ ـ ــان سـ ـ ــعد اهلل موقن ـ ـ ـاً بـ ـ ــأن صـ ـ ــيانة هـ ـ ــذا‬
‫االس ـ ـ ــتقالل ليست أخف عبئـ ـ ـ ـاً من الس ـ ـ ــعي لـ ـ ـ ــه‪ ،‬والحص ـ ـ ــول علي ـ ـ ــه‪ ،‬ال س ـ ـ ــيما وأن‬
‫التطـ ــورات الس ــريعة في الع ــالم تقيم ال ــدليل على أن االس ــتقالل إذا لم تحرسه قلـ ــوب‬
‫مؤمنة بالسيادة والكرامة والعزة الوطنية تعرض للضياع في معترك األطماع‪.‬‬

‫ـ ‪ 145‬ـ‬
‫شكري القوتلي ـ سعد هللا الجابري ـ جميل مردم بك‬

‫ـ ‪ 146‬ـ‬
‫ـ ‪ 147‬ـ‬
‫وفقد الفرنسيون وعيهم بــدخول المصــفحات اإلنكليزيــة‪ ،‬وبــدؤوا في مشاكســات‬
‫مع الش ــعب وبتجه ــيزات وتهيئة لتعزيز جيش ــهم في س ــبيل ض ــربة قاض ــية‪ ،‬كما يريد‬
‫أوليفا ـ روجيه‪.‬‬
‫ففي ‪ 5‬أيـار وصل ‪ 900‬سـنغالي من القـوات الفرنسـية إلى بـيروت‪ .‬وسـرعان‬
‫ما قـ ـ ـ ــدمت الحكومة السـ ـ ـ ــورية والحكومة اللبنانية في ‪ 6‬أيـ ـ ـ ــار مـ ـ ـ ــذكرتي احتجـ ـ ـ ــاج‬
‫للفرنســيين محــذرة من تعزيز قواتهــا‪ .‬وطلب من الســيد أرمنــازي الــوزير المفــوض‬
‫في لن ــدن أن يس ــتفهم من الخارجية البريطانية عن ممارسة نفوذها ل ــدى الفرنس ــيين‪،‬‬
‫علها تمنعهم من إرس ـ ـ ــال تعزي ـ ـ ــزات إلى س ـ ـ ــورية؛ وك ـ ـ ــان ج ـ ـ ــواب بريطانيا أنها ال‬
‫تسـ ـ ـ ــتطيع الت ـ ـ ـ ــدخل ألن فرنسا قد اسـ ـ ـ ــتعادت القيـ ـ ـ ــادة التامة على قواتها العسـ ـ ـ ــكرية‬
‫والبحرية‪.‬‬
‫وأذاعت بعد ذلك الرئاسة الفرنس ـ ـ ــية بالغ ـ ـ ـ ـاً‪ ،‬ص ـ ـ ــرحت بموجبه أن الجـ ـ ـ ــنرال‬
‫ديغ ــول قد اســتقبل الج ــنرال بينه وس ــلمه تعليم ــات ح ــول المفاوض ــات مع الحكوم ــتين‬
‫السورية واللبنانية‪ ،‬معلناً‪" :‬إن أهـداف المفاوضـات هو التوصل إلى إبـرام معاهـدات‬
‫لتسـ ـ ـ ــوية القضـ ـ ـ ــايا المطروحـ ـ ـ ــة‪ ،‬بسـ ـ ـ ــبب االنتقـ ـ ـ ــال من وضع االنتـ ـ ـ ــداب إلى وضع‬
‫االستقالل‪ .‬والتي لم تتم تسويتها بعد؛ هذا من جهة‪ ،‬والمصالح الثقافية واالقتصادية‬
‫واالستراتيجية لفرنسا من جهة أخرى"‪.‬‬
‫وفي ‪ 9‬أيــار صــدرت برقية من ســان فرنسيســكو مرســلة من قبل الســيد فــارس‬
‫الخ ــوري يق ــول فيه ــا‪" :‬قابلنا (بي ــدو) وك ــان ممعنـ ـاً في إقناعنا بق ــوة فرنسا ومكانه ــا‪،‬‬
‫وعلى ض ــرورة اعتمادنا على ص ــداقتها أك ــثر من غيره ــا؛ وأن تعليماته لمس ــيو بينه‬
‫(جازمــة) بوجــوب إدارة حســنة واســتقالل ثــابت؛ وفرنسا تســاعد على جعلنا مركــزاً‬
‫للبالد العربية"‪.‬‬
‫كـ ـ ـ ــان ما ورد في البرقية تغطية وذر الرمـ ـ ـ ــاد في العيـ ـ ـ ــون؛ إذ لما عـ ـ ـ ــاد بينه‬
‫في ‪ 12‬أيـ ــار إلى ب ــيروت اجتمع بهـ ــنري فرعـ ــون وزير الخارجية اللبنانية إلعالمه‬
‫بأن سفينة تحمل تعزيزات عسكرية ستبحر من تونس‪ .‬كان الجنرال أوليفا ـ روجيه‬
‫قد أنـ ــذر سـ ــعد اهلل الجـ ــابري‪ ،‬وكـ ــان رئيس ـ ـاً للمجلس الني ــابي يهـ ــدده ويتوعـ ــده بتسـ ــليم‬
‫المجلس وزمالئ ــه‪ ،‬ولكن س ــعد اهلل رفض ه ــذا التهدي ــد‪ ،‬وس ــرعان ما ألقيت قنبلة في‬
‫‪ 13‬أيـ ــار على مجلس النـ ــواب وقـ ــذفت المـ ــدافع المجهـ ــزة سـ ــلفاً المجلس بقـ ــذائف من‬
‫المزة‪ ،‬وقتلت حاميته؛ ثم دخل الجنود وأحرقوا ما رأوا من أوراق ووثائق وأختام‪.‬‬

‫ـ ‪ 148‬ـ‬
‫وفي اليـ ــوم ذاته اجتمع مجلس النـ ــواب‪ ،‬وتم التصـ ــويت باإلجمـ ــاع على قـ ــانون‬
‫"حماية االســتقالل"‪ .‬وفــرض هــذا القــانون عقوبــات قاســية على كل من يقــوم بأعمــال‬
‫من شـ ــأنها إثـ ــارة المشـ ــاعر الدينية أو الطائفية أو اإلقليمية أو العنصـ ــرية‪ ،‬بغية النيل‬
‫من الوحــدة الوطنيــة؛ وكل من يثــير االضــطراب أو يقــوم بعمل لمصــلحة قــوة أجنبية‬
‫أو تجسس لحسـ ــاب مثل هـ ــذه القـ ــوى سـ ــتطبق عليه عقوبة اإلعـ ــدام؛ وأن السـ ــوريين‬
‫العاملين في خدمة قوى أجنبية‪ ،‬سواء في داخل البالد أو خارجها‪ ،‬إذا لم يلبـوا طلب‬
‫حكــومتهم بــترك الخدمة خالل المــدة الممنوحــة‪ ،‬فســوف يفقــدون جنســيتهم وســتحجز‬
‫أموالهم‪.‬‬
‫وهـ ــذا النص أعطى الحكومة وسـ ــيلة للضـ ــغط المباشر على القطعـ ــات الخاصة‬
‫الخاضعة للقيادة الفرنسية‪.‬‬
‫وفي ‪ 17‬أيار أنـزل الفرنسـيون قـوات جديـدة في بـيروت‪ ،‬ألن الجـنرال ديغـول‬
‫كــان قد وجه رســالة إلى وزير الحربية في حكومته تتضــمن تعليمــات باإلســراع في‬
‫إرسـ ــال التعزيـ ــزات المخصصة للشـ ــرق؛ وأن يتم النقل على طـ ــراد‪ .‬وتنقل القـ ــوات‬
‫مباشرة من ميناء فرنسي (بنزرت) إلى ميناء فرنسي (بــيروت) على شــرط أال تمر‬
‫بمينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء اإلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــكندرية واجتمع الرئيسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان السـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوري واللبنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاني‬
‫في ‪ 19‬أي ــار‪ ،‬مع رئيسي حكومتيهما في ش ــتورا لم ــدة أربع س ــاعات؛ وتمت دراسة‬
‫المواض ــيع المتعلقة بالبل ــدين‪ ،‬وقررتا أال ت ــدخل س ــورية أو لبن ــان في أية مفاوض ــات‬
‫مع الفرنس ـ ــيين دون استشـ ـ ــارة إح ـ ــداهما األخ ـ ــرى كما اتفق الطرف ـ ــان على إرسـ ـ ــال‬
‫مـ ـ ـ ــذكرات إلى رؤسـ ـ ـ ــاء الـ ـ ـ ــدول العربية والقـ ـ ـ ــوى العظمى تشـ ـ ـ ــرح بصـ ـ ـ ــورة كافية‬
‫أوضاعهما‪.‬‬
‫وفي ‪ 21‬أيار التقى رئيس مجلس النواب ســعد اهلل الجــابري ومــردم بك بالســيد‬
‫(تـ ــرفس آلن شـ ــون) الـ ــوزير المفـ ــوض البريطـ ــاني وبـ ــالجنرال بـ ــاجيت وسـ ــأاله عن‬
‫موقف الحكومة البريطانية إذا تــدهورت الحالة في س ــورية إلى أس ــوأ وض ــع‪ ،‬وك ــان‬
‫الجواب‪" :‬إن حكومة صاحبة الجاللة قد أصرت على الفرنســيين بــأن يأخــذوا الحــذر‬
‫ويتجنب ــوا كل اس ــتفزاز ي ــؤدي إلى تف ــاقم األوض ــاع كما تأمل الحكومة البريطانية أن‬
‫تخطو سورية تلك الخطوة أيضاً"‪.‬‬
‫وأراد الج ـ ــابري أن يع ـ ــرف إذا ك ـ ــانت التعزي ـ ــزات الفرنس ـ ــية قد ن ـ ــالت موافقة‬
‫بريطانيا فأج ـ ـ ــاب ب ـ ـ ــاجيت‪ :‬مع األسف لقد ح ـ ـ ــاول ردع فرنسا ولكن دون ج ـ ـ ــدوى؛‬
‫فحـ ـ ـ ّذره الج ـ ــابري عندئذ بأنه ال يس ـ ــتطيع أن يلجم مجلس الن ـ ــواب؛ ويجب أال تنسى‬

‫ـ ‪ 149‬ـ‬
‫فرنسا‪ ،‬أن سورية تتمتع بتأييد جميع الدول العربية والدليل هو قيــام المظــاهرات في‬
‫شوارع بغداد وعمان‪.‬ـ‬
‫وفي ‪ 23‬أيار وصلت برقية من المفوضية السورية في العراق تقول‪" :‬عشــرة‬
‫آالف بندقية جــاهزة رتبــوا وعينــوا األشــخاص والمكــان المالئم الســتالمها‪ .‬أعلمونا‬
‫النتيجة حاالً"‪.‬‬
‫وفي هــذا اليــوم بالــذات كــانت المحافظــات الســورية تهــيئ نفســها العتــداء مســلح‬
‫من قبل القوات الفرنســية؛ وفي حلب اقتحم ضــباط فرنســيون مكتب المحافظ قــائلين‪:‬‬
‫إن لـ ـ ــديهم أوامر بتفـ ـ ــتيش المكـ ـ ــان‪ .‬وتهيأ أهل حلب وأقيمت المتـ ـ ــاريس في مختلف‬
‫أنحاء المدينة وأصبح الوضع عسكرياً وليس دبلوماسياً‪ .‬وقد استعد شباب سـوريون‬
‫مسـ ـ ــلحون للـ ـ ــدخول إلى حمص وحمـ ـ ــاه؛ كما تأكد في جبل الـ ـ ــدروز أن الجنـ ـ ــود في‬
‫القطعـ ـ ـ ــات الخاصة لجـ ـ ـ ــؤوا إلى الف ـ ـ ــرار من الخدمـ ـ ـ ــة‪ ،‬ووصـ ـ ـ ــلوا دمشق لمسـ ـ ـ ــاعدة‬
‫الحكومــة‪ .‬كما شــاركت لبنــان في مظــاهرات كــبرى في كل من طــرابلس وبــيروت‪،‬‬
‫ح ـ ـ ــتى أن بعض طالب الجامعة األميركية في ب ـ ـ ــيروت انض ـ ـ ــموا إلى المظ ـ ـ ــاهرات‬
‫الطالبية أمام سراي الحكومة‪.‬‬
‫وســرعان ما أرسل الجــنرال بــاجيت برقية لــوزارة الحــرب يعلن فيها عن شــدة‬
‫الخطر ويقـ ــول‪" :‬إن مـ ــدرعات مسـ ــلحة ودوريـ ــات تجـ ــوب الشـ ــوارع باسـ ــتمرار في‬
‫دمشق وحلب‪ ،‬وأن الطـ ـ ـ ــائرات تحلق فـ ـ ـ ــوق المسـ ـ ـ ــاجد في أوق ـ ـ ـ ــات الصـ ـ ـ ــالة؟ وإ ن‬
‫الرشاش ــات منص ــوبة ف ــوق الس ــطح؛ إن ــني أعتقد أن الفرنس ــيين يري ــدون وعن س ــابق‬
‫تصور وتصميم ـ إثــارة نــزاع مع الــدولتين‪ ،‬اطلب منكم توجيه من يمثلنا إلى بــاريس‬
‫لمحاولة الحصول على أمر بوضع حد لهذه األعمال"‪.‬‬
‫واشـ ــتعلت االضـ ــطرابات في حمص وحمـ ــاه في ‪ 27‬أيـ ــار وسـ ــقط عـ ــدة جنـ ــود‬
‫جرحى وكــانت القــوات السـنغالية تطلق النــار دون تميـيز‪ ،‬إرهابـاً وتحـدياً كما أخـذت‬
‫التعليمـ ـ ــات من سـ ـ ــلطاتها‪...‬ـ وفي الواقع فقد أضـ ـ ــاعت السـ ـ ــلطة الفرنسـ ـ ــية التـ ـ ــوازن‬
‫والتعقل في سياستها حتى أنهم ضربوا المجلس النيابي في ‪ 29‬أيار؛ وكان ســعد اهلل‬
‫الجابري قد علم مسبقاً أن فرنسا تحذر‪ ،‬وسوف تضرب البرلمان؛ وسرعان ما أمر‬
‫الج ــابري بفض الجلسة قبل انعقاده ــا؛ وتف ــرق الن ــواب وغ ــادروا‪ ،‬ول ــوال ذلك لك ــانت‬
‫كارثة كـ ـ ــبرى ال يعلم مـ ـ ــداها إال اهلل‪ .‬ففي السـ ـ ــاعة السـ ـ ــابعة مسـ ـ ــاء رفعت القـ ـ ــوات‬
‫الفرنســية العلم الفرنسي فــوق بنــاء رئاسة األركــان المواجه لمجلس النــواب؛ وطلبــوا‬
‫من الشـ ـ ـ ـ ــرطة السـ ـ ـ ـ ــوريين المكلفين بحراسة المجلس أن يحيـ ـ ـ ـ ــوا العلم‪ .‬ولما رفض‬
‫مفوض الشرطة‪ ،‬ألقى عسكري فرنسي قنبلة على المجلس وكانت هي اإلشــارة إلى‬

‫ـ ‪ 150‬ـ‬
‫بــدء القصف الشــديد‪ .‬وبحمد اهلل كــان ســعد اهلل الجــابري قد تــرك المكــان قبل دقــائق؛‬
‫فــاقتحم الجنــود مجلس النــواب فهــدموا وأتلفــوا محتوياته وهم يحــاولون التفــتيش عن‬
‫أعضــاء الحكومة أو عن بعض النــواب؛ وقد دخل الفرنســيون مكتب رئيس المجلس‬
‫وصادروا جميع األوراق وحملوا الصندوق الحديدي‪.‬‬
‫وتولى سالح الطيران الفرنسي قصف السجن المدني بالقنابــل‪ ،‬فقتل كثــيراً من‬
‫المساجين وتحرك النائب فخري البارودي الذي تطــوع في الــدرك‪ ،‬وأصــدر أوامــره‬
‫بـإطالق جميع السـجناء حفظـاً على حيــاتهم؛ وكـان عــددهم كبـيراً‪ .‬ولــوال هـذا التـدبير‬
‫السريع من البارودي لقتل معظم السجناء‪...‬‬
‫كان هم الفرنسيين التخلص من (الثالثي الحكــومي)ـ القـوتلي ـ الجــابري ـ مــردم‬
‫بك وألنهم لم يتمكن ــوا منهم بــدؤوا بقصف فن ــدق أوري ــان بــاالس حيث يقيم الج ــابري‬
‫عنــدما يكــون في دمشــق‪ .‬واحتلت القــوات الفرنســية بعد ذلك مركز توزيع الكهربــاء‬
‫ومركز الهـ ــاتف ليقطعـ ــوا كل اتصـ ــال خـ ــارجي ويضـ ــمنوا عـ ــدم خـ ــروج أي نبأ من‬
‫سورية‪.‬‬
‫أما في المـ ــدن األخـ ــرى فقد أبـ ــدت حمـ ــاه مقاومة ضـ ــارية وأوقعت الهزيمة في‬
‫صـ ـ ــفوف القـ ـ ــوات الفرنسـ ـ ــية‪ ،‬إذ أسـ ـ ــقطت طـ ـ ــائرتين فرنسـ ـ ــيتين‪ ،‬وقتل قائد القـ ـ ــوات‬
‫الفرنسية‪ ،‬وجرح عدد من الجنود الفرنسيين وتم أسر بعضهم‪ .‬وثارت ثائرة أوليفا ـ‬
‫روجيه وق ـ ـ ـ ــال" إن واجب فرنسا العس ـ ـ ـ ــكري هو إب ـ ـ ـ ــادة جميع العناصر ال ـ ـ ـ ــتي تكيد‬
‫لفرنس ــا؛ وأنه يجب احتالل جميع مك ــاتب الدول ــة‪ ،‬وأن تقطع جميع المواص ــالت مع‬
‫الدول العربية المجــاورة وأن يــنزع الســالح من الســوريين‪ ،‬وأن تحكم البالد من قبل‬
‫حاكم عسكري"‪.‬‬
‫والتط ـ ــرف في سياسة فرنسا لتحكم س ـ ــورية حكمـ ـ ـاً عس ـ ــكرياً هو تخ ـ ــوفهم من‬
‫انتقام الجماهير‪ ،‬ولذا أرسل أوليفا ـ روجيه مذكرة إلى الفرنسيين يحذرهم‪:‬‬
‫"لقد وقعت ثالثة اعت ـ ـ ــداءات في ثالثة أي ـ ـ ــام على أش ـ ـ ــخاص فرنس ـ ـ ــيين‪ ،‬فطعن‬
‫ضـ ــابط وموظف بخنجر من الخل ــف‪ ،‬وهـ ــاجم نحو عش ــرين رجالً من الغوغـ ــاء أحد‬
‫الضباط وكادوا يجهزون عليه‪ ،‬ومتى أضفنا الشاويش غير الفرنسي الذي جــرد من‬
‫ســالحه وقتل في الســوق‪ ،‬فــإن عــدد الضــحايا يصــبح أربعة في أربعة أيــام‪ .‬فســالمة‬
‫الفرنس ــيين والعس ــكريين من الجن ــود الخصوص ــيين ليست مض ــمونة خ ــارج المراكز‬
‫الـ ـ ــتي ترابط فيهـ ـ ــا؛ فـ ـ ــأرجو أال يعرضـ ـ ــوا أنفسـ ـ ــهم لخطر محقق دون أن يكـ ـ ــون في‬
‫وس ـ ــعهم أن ي ـ ــدافعوا عن أرواحهم"‪" .‬كما ينبغي ع ـ ــدم التج ـ ــول على انف ـ ــراد؛ ويجب‬

‫ـ ‪ 151‬ـ‬
‫السـ ــير جماعـ ــات مسـ ــلحة‪ ،‬وبعد ذلك نشـ ــرع في المجـ ــزرة الكـ ــبرى وليكن كل واحد‬
‫مستعداً‪ ،‬وسنصفي الحساب بضربة واحدة"‪.‬‬
‫وفي ‪ 30‬أيـ ـ ــار كـ ـ ــان الجـ ـ ــابري مالزم ـ ـ ـاً فندقه أوريـ ـ ــان بـ ـ ــاالس وال يسـ ـ ــتطيع‬
‫االتصال بالحكومة ووصله خبر من مردم بك ليترك الفندق ويذهب إلى بيروت في‬
‫طريقة ما؛ ومنها يذهب إلى القاهرة ليطلب العون من الجامعة العربية‪.‬‬
‫ولحسن الصدف واألقــدار كــان (البطريـرك ألكســي) بطريـرك موســكو وعمــوم‬
‫روســيا للــروم األرثــوذكس قد وصل إلى دمشق لزيــارة ســورية في ‪ 29‬أيــار‪ ،‬وكــان‬
‫في طريقه إلى الق ــاهرة‪ ،‬ويقيم في فن ــدق أوريــان ب ــاالس‪ ،‬ووصل (س ــولور) ال ــوزير‬
‫المفـ ــوض السـ ــوفياتي إلى الفن ــدق لمرافقة البطري ــرك إلى ب ــيروت؛ ولـ ــذلك طلب من‬
‫أوليفا ـ ـ روجيه وقف إطالق الن ــار في أثن ــاء مغ ــادرة البطري ــرك‪ .‬فاس ــتجاب روجيه‬
‫للطلب الســوفياتي وهنا عــرض (ســولور) على الجــابري مرافقته إلى بــيروت؛ فقبل‬
‫الج ـ ــابري أن ي ـ ــذهب بس ـ ــيارته ح ـ ــتى الح ـ ــدود اللبنانية ومن هن ـ ــاك يت ـ ــابع الس ـ ــفر إلى‬
‫ـرض أن يش ــاهد في ب ــيروت تحت حماية‬ ‫ب ــيروت في س ــيارة س ــورية خاص ــة‪ ،‬ولم ي ـ َ‬
‫أجنبية‪.‬‬
‫وعند وص ـ ـ ــول س ـ ـ ــعد اهلل إلى ب ـ ـ ــيروت دعا إلى م ـ ـ ــؤتمر ص ـ ـ ــحافي‪ ،‬ونش ـ ـ ــرت‬
‫الصـ ـ ــحف اللبنانية تصـ ـ ــريحاته وعلى أثرها انطلقت المظـ ـ ــاهرات في جميع المـ ـ ــدن‬
‫اللبنانيــة‪ ،‬وأعلنت بــيروت اإلضــراب العــام‪ .‬وقد عــرض الــرئيس اللبنــاني وحكومته‬
‫على الجــابري تقــديم جميع التســهيالت الــتي هي بتصــرفهم‪ ،‬كما عــرض عليه رئيس‬
‫الحكومة مكتبه الخاص ليكون مقراً لـه‪.‬‬
‫وفي نهاية أيـ ـ ــار أرسل (تـ ـ ــرفس آلن شـ ـ ــون) برقية اليـ ـ ــدن مفادهـ ـ ــا‪" :‬لقد أقـ ـ ــام‬
‫الفرنسـ ـ ــيون دولة إرهـ ـ ــاب"‪ .‬وكتب غريغ(‪ )1‬رسـ ـ ــالة مماثلة من القـ ـ ــاهرة‪" :‬لقد باشر‬
‫الفرنس ـ ــيون مج ـ ــزرة على الطريقة األلماني ـ ــة‪ ،‬ويقوم ـ ــون ب ـ ــالتخريب األعمى لجميع‬
‫المدن السورية"‪.‬‬
‫وك ـ ــذلك أرسل النقراشي باشا رئيس الحكومة المص ـ ــرية برقية للس ـ ــيد (اي ـ ــدن)‬
‫يحتج فيها على العـ ـ ـ ـ ــدوان الفرنسي ويطلب من الحكومة البريطانية التـ ـ ـ ـ ــدخل لوقف‬
‫نزيف الدم‪.‬‬
‫وق ـ ـ ــال حم ـ ـ ــدي الباجه جي رئيس الحكومة العراقية للبريط ـ ـ ــانيين‪" :‬إنهم إذا لم‬
‫يتــدخلوا لوقف نزيف الــدم‪ ،‬فــإن حكومته سترسل قــوات لمســاعدة الســوريين فيما إذا‬

‫(?) أدوار غريغ هو الوزير البريطاني الجديد الذي جاء بعد اغتيال اللورد موين على أيدي‬ ‫‪1‬‬

‫الصهيونية‪.‬‬

‫ـ ‪ 152‬ـ‬
‫طلبـ ــوا ذلـ ــك"‪ .‬وأرسل الملك عبد العزيز إلى الواليـ ــات المتحـ ــدة وبريطانيا يطالبهما‬
‫بالتدخل السريع‪.‬‬
‫وتح ــركت ال ــدول العظمى‪ ...‬وأص ــدر تشرشل أوام ــره بمنع إن ــزال أي ق ــوات‬
‫فرنسـ ـ ــية في بـ ـ ــيروت‪ ،‬كما أرسل برقية إلى الجـ ـ ــنرال ديغـ ـ ــول‪ ،‬وأصـ ـ ــدر تعليمـ ـ ــات‬
‫للجـ ــنرال بـ ــاجيت بتسـ ــلم القيـ ــادة العليا في الشـ ــرق‪ ،‬وتبليغ الجـ ــنرال بينه بأنه أصـ ــبح‬
‫خاضـ ـ ــعاً ألوامر الجـ ـ ــنرال بـ ـ ــاجيت وبأنه يجب أن يتوقف كل عمل عسـ ـ ــكري‪ ،‬وأن‬
‫على القوات الفرنسية أن تنسحب إلى ثكناتها‪.‬‬
‫وأب ــرق الج ــنرال ب ــاجيت إلى الج ــنرال بينه يبلغه بوص ــوله إلى ب ــيروت؛ ولكن‬
‫(بينــه) لم يــأمر بوقف القصف طــوال الليــل؛ كما أن الجــنرال أوليفا ــ روجيه أراد أن‬
‫يح ــدث أك ــبر ضــرر ممكن في س ــورية‪ ،‬وأعطى الحرية للجن ــود الفرنس ــيين الس ــنغال‬
‫ألعمال السلب والنهب في جميع أنحاء دمشق‪.‬‬
‫ووصل ب ـ ـ ــاجيت إلى دمش ـ ـ ــق‪ ،‬وذهب برفقة (ت ـ ـ ــرفس آلن ش ـ ـ ــون) إلى م ـ ـ ــنزل‬
‫ال ــرئيس الق ــوتلي؛ ال ــذي يلتف حوله أعض ــاء حكومت ــه‪ ،‬وك ــان معهم رئيس الحكومة‬
‫اللبنانية وأعضاؤها‪.‬‬
‫أبلغ باجيت الحكومتين السورية واللبنانية بأنه تســلم القيــادة العامة ويريد إعــادة‬
‫النظام واستتباب األمن‪.‬‬
‫وهكذا تدخلت الدول الكبرى إليقاف المجـزرة الـتي عمت وشــملت أكــثر المــدن‬
‫السـ ـ ــورية‪ .‬وانفـ ـ ــرجت األزمة بعض الشـ ـ ــيء‪ ،‬وانتشر الخـ ـ ــبر بين المواطـ ـ ــنين بـ ـ ــأن‬
‫الفرنس ـ ــيين قد تلق ـ ــوا أم ـ ــراً ب ـ ــالكف عن إطالق الن ـ ــار‪ ،‬وبوضع أنفس ـ ــهم تحت إم ـ ــرة‬
‫الجــنرال البريطــاني (بــاجيت)؛ وعلى الــرغم من شــبه التجــاوب بين فرنسا وإ نكلــترا‪،‬‬
‫فــإن الحكومة البريطانية ال تســتطيع أن تســمح للفرنســيين أن يتصــرفوا على هــواهم‬
‫في الشرق‪ ،‬أو أن تسمح بالمساومة على حساب دولتي الشرق (سورية ولبنان)‪.‬‬
‫وبإيعــاز من الجــابري طلب مــردم بك من الجــنرال بــاجيت القائد العــام للقــوات‬
‫البريطانية اس ــتعجال األس ــلحة لل ــدرك؛ وقد س ــأله الج ــنرال عما إذا ك ــان هن ــاك م ــانع‬
‫لدى الحكومة ببقاء بعض الوحدات من القوات البريطانية للتدريب؛ فقال مردم بــك‪:‬‬
‫"ليس لـ ــدى الحكومة أي اعـ ــتراض"‪ .‬فق ــال بـ ــاجيت‪" :‬أرجو أال يعتقد الفرنس ــيون أننا‬
‫سنأخذ مكانهم في البالد"‪.‬‬
‫ووصل إلى منزل رئيس الجمهورية كل من المســتر (تــرفس آلن شــون) وزير‬
‫بريطانيا المفــوض في لبنــان وســورية‪ ،‬والجــنرال بــاجيت قائد القــوات البريطانية في‬

‫ـ ‪ 153‬ـ‬
‫الش ـ ــرق األوسط ترافقهما أربع مص ـ ــفحات بريطانية ض ـ ــخمة؛ ثم ج ـ ــاء إلى الم ـ ــنزل‬
‫بعض الوزراء والنواب‪.‬‬
‫وبعد البحث تقـرر أن تسـتلم الحكومة السـورية الـدوائر الرسـمية؛ فـركب وزير‬
‫بريطانيا المف ـ ــوض والج ـ ــنرال ب ـ ــاجيت‪ ،‬يرافقهما س ـ ــعد اهلل الج ـ ــابري رئيس مجلس‬
‫النواب‪ ،‬الذي أنابه رئيس الجمهورية الستالم الدوائر‪.‬‬
‫واسـ ـ ـ ــتمر بعد ذلك سـ ـ ـ ــحب القـ ـ ـ ــوات والعـ ـ ـ ــائالت الفرنسـ ـ ـ ــية من دمشق وجميع‬
‫المحافظات السورية إلى الثكنات في سبيل ترحيلهم؛ بيد أن الحقد لم يزل من نفوس‬
‫الفرنس ــيين‪ ،‬بل ازداد ض ــراوة وش ــدة‪ ،‬إذ ال زال ــوا يتمس ــكون بحق ــوق االنت ــداب ح ــتى‬
‫ظفــروا بها من عصــبة األمم‪ ،‬ولم يقبلــوا أن يطــردوا من الشــرق األوســط‪ ،‬بل أرادوا‬
‫إقامة قواعد جوية وحربية في الركن الشمالي الشــرقي من ســورية وعلى مقربة من‬
‫آبار البترول في الموصل‪.‬‬
‫ولما أعلنت سـ ـ ــورية ولبنـ ـ ــان رفضـ ـ ــهما الـ ـ ــدخول في مفاوضـ ـ ــات مع الجـ ـ ــانب‬
‫الفرنس ـ ــي‪ ،‬احتجاجـ ـ ـاً على اس ـ ــتقدام ق ـ ــوات فرنس ـ ــية وإ نزالها في الم ـ ــوانئ الس ـ ــورية‬
‫واللبنانية‪ ،‬من دون الحصول على موافقة الحكومتين؛ بدأت العالقات بالتدهور‪.‬‬
‫ولكن بالنسبة إلى سياسة ســورية الخارجية فقد تطلعت مع بـاقي الـدول العربية‬
‫إلى مــؤتمر ســان فرنسيســكو لــترى ما إذا كــانت تــدعى إليه ليكــون للعــرب فيه طائفة‬
‫من القواعد واألصـ ــوات؛ وبـ ــذلت الجهـ ــود وتـ ــوالت المسـ ــاعي واالتصـ ــاالت إلى أن‬
‫تحققت ه ـ ــذه األمنية حين ص ـ ــرح المس ـ ــيو (جوزيف غ ـ ــرو) وكيل وزارة الخارجية‬
‫األمريكيــة‪ ،‬في ‪ 28‬أيــار ‪ 1945‬أن الــدول األربع العظمى الداعية إلى مــؤتمر ســان‬
‫فرنسيسكو‪ ،‬قد وافقت على دعوة سورية ولبنان لالشتراك في أعمال المــؤتمر؛ وأن‬
‫الدولة األميركية قد وجهت الـ ـ ـ ــدعوة إليهمـ ـ ـ ــا‪ .‬وأوضح وكيل الخارجيـ ـ ـ ــة‪ ،‬أن فرنسا‬
‫أبدت رغبتها في تأييد هذه الخطوة‪ ،‬واقترحت دعوة الدولتين‪.‬‬
‫وفي أوائل حزي ـ ـ ــران اجتمع مجلس جامعة ال ـ ـ ــدول العربي ـ ـ ــة‪ ،‬لبحث الع ـ ـ ــدوان‬
‫الفرنسي على ســورية وقد ألقى ســعد اهلل الجــابري خطاب ـاً جامع ـاً‪ ...‬ومما جــاء فيــه‪:‬‬
‫"أما س ــورية ال ــتي لم تبخل يومـ ـاً في التض ــحيات‪ ،‬فإنها تقبل على التض ــحية راض ــية‬
‫النفس قريـ ــرة العين‪ ،‬واثقة من انتصـ ــار قضـ ــيتها الـ ــتي هي انتصـ ــار قضـ ــية العـ ــرب‬
‫جميعاً‪ ،‬وهي بـدالً من أن تستسـلم لأللم مما أصـابها تشـعر باالطمئنـان يغمرهـا‪ ،‬ولما‬
‫تنفــرج جراحها عن دمائها الس ــخية المرفق ــة‪ ،‬ينف ــرج ثغرها في تواضع عن ابتس ــامة‬
‫الجندي الذي أدى واجبه في شجاعة وإ يمان"‪.‬‬

‫ـ ‪ 154‬ـ‬
‫سعد هللا الجابري مع نحاس باشا وجميل مردم بك‬
‫أثناء اجتماع الجامعة العربية‬

‫ـ ‪ 155‬ـ‬
‫وعاد إلى دمشق وقد استقرت األوضاع نســبياً؛ وبعد فــترة وجــيزة تمت خاللها‬
‫أعمـ ـ ــال إدارية وسياسـ ـ ــية عقد سـ ـ ــعد اهلل الجـ ـ ــابري في ‪ 24‬تشـ ـ ــرين الثـ ـ ــاني ‪1945‬‬
‫م ـ ــؤتمراً ص ـ ــحفياً كب ـ ــيراً ق ـ ــال فيه رداً على س ـ ــؤال عمن يق ـ ــوم ب ـ ــدور المفاوضة مع‬
‫الفرنسيين‪:‬‬
‫إن س ــورية ال تف ــاوض فرنسا مباش ــرة‪ ،‬بل هن ــاك لج ــان تف ــاوض؛ وقد اس ــتلمت‬
‫بعض الصـ ــالحيات‪ ،‬وتوجد أشـ ــياء أخـ ــرى لم تسـ ــتلمها بعـ ــد‪ ،‬وهـ ــذه اللجـ ــان تسـ ــعى‬
‫لتحقيق ثالثة أمور‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الجالء التام‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تسليم المصالح‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ جعل التمثيل طبيعي ـاً‪ ...‬وبمعــنى أننا ال نقبل ســفيراً مطلق ـاً ولن يكــون ألية‬
‫دولة تمثيل سياسي ممتــاز عن تمثيل دولة أخــرى كما أننا ال نقبل ســفيراً وال منــدوباً‬
‫عاماً‪.‬‬
‫أما الجالء‪ ...‬فإننا مصــرون كل اإلصــرار على تحقيقــه‪ ،‬والمســاعي تبــذل في‬
‫سبيل ذلك مع العلم أن االنتظار قد طال والصدور بدأت تضيق‪.‬‬
‫ويجب أن تجلو القوات األجنبية الفرنســية‪ ،‬ألننا نصر على جالئهــا‪ ،‬ويجب أال‬
‫ننسى ما فعلــوه في بالدنا منذ ‪ 25‬ســنة حــتى حــوادث أيــار الماضــي‪ ،‬وليست القــوات‬
‫البريطانية هي الـ ـ ــتي دمـ ـ ــرت دمشق والمـ ـ ــدن السـ ـ ــورية‪ ،‬بل هي القـ ـ ــوات الفرنسـ ـ ــية‬
‫وحدها‪ ،‬وهي التي يجب أن تجلو‪.‬‬
‫ولما سئل سعد اهلل عن قوات جديدة فرنسية جاءت إلى الحدود أجاب‪:‬‬
‫إن هــذه األنبــاء قد أقلقتنــا‪ ...‬كما أقلقت األمــة‪ ،‬ولكننا اتخــذنا التــدابير الالزمــة‪،‬‬
‫وأمرت فعالً بإيقافها‪ ...‬كما أنني فهمت أن ليس هناك قـوات جديـدة سـتأتي‪...‬ـ لـذلك‬
‫رفعت التدابير التي كنت قد أمرت بها‪ ...‬واآلن أصبحت الحكومة تُخــبر مقــدماً عن‬
‫أية قوات فرنسية تأتي لسورية‪.‬‬
‫وســورية هي الــتي تحقق بنفســها عن دوافع قــدوم هــذه القــوات‪ ،‬كما أن ســورية‬
‫وبريطانية تشتركان في هذا التحقيق‪.‬‬
‫وكـ ــان يـ ــوم ‪ 20‬كـ ــانون األول‪ ...‬وعقد مجلس النـ ــواب جلسـ ــته؛ وتبعها بجلسة‬
‫أخــرى يــوم ‪ 22‬منــه؛ وهــاجم النــواب االتفــاق الفرنسي البريطــاني وطــالبوا الحكومة‬
‫بتبيـ ــان موقفها منـ ــه؛ فوقف سـ ــعد اهلل الجـ ــابري يشـ ــرح موقف الحكومة من االتفـ ــاق‬
‫بخطاب مسهب جاء فيه‪:‬‬

‫ـ ‪ 156‬ـ‬
‫"الجالء هو الغاية والوسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيلة في االسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتقالل‪ ،‬ويجب أن نهتم به مع بقية‬
‫المســائل؛ والحكومة معكم‪ ،‬ال يقيــدها أي قيــد‪ ،‬واتفقنا مع لبنــان أن تشــترك في تــأمين‬
‫الجالء والـ ـ ــدفاع عن حقوقنـ ـ ــا؛ نحن لم نشـ ـ ــترك في أي مـ ـ ــذاكرة‪ ،‬وال نعتـ ـ ــبر أنفسـ ـ ــنا‬
‫مقيــدين بــأي قيد أو اتفــاق مســبق‪ ،‬إن لم نطلع عليــه‪ .‬فنأخذ ما نريد وال نســأل عما ال‬
‫نريــد؛ ونحن ال نعطي رجحان ـاً أو امتيــازاً ألية دولة سياســية أو ثقافية أو اقتصــادية؛‬
‫وأكرر ما كان قد تقرر في هذا المجلس بأننا ال نعطي ألحد رجحاناً أو امتيازاً"‪.‬‬
‫ثم قرأ سعد اهلل االتفاق البريطاني الفرنسي ومنهاج الجالء‪ ،‬قال‪" :‬سيجتمع في‬
‫بــيروت ‪ 21‬كــانون األول ‪ 1945‬خــبراء عســكريون بريطــانيون وفرنســيون لوضع‬
‫برن ـ ـ ــامج للجالء على مراح ـ ـ ــل‪ ,‬مع ما يقابل ذلك من إع ـ ـ ــادة جمع وت ـ ـ ــرتيب الق ـ ـ ــوى‬
‫وسيكون أحد أغراض هذه المباحثات تعيين تاريخ قريب جداً يبدأ فيه الجالء"‪.‬‬
‫ولكن‪...‬ـ ب ـ ــدأت الحكومة الس ـ ــورية تواجه المص ـ ــاعب ال س ـ ــيما ما يتصل منها‬
‫باالتفــاق البريطــاني الفرنسي الــذي رفضــته ســورية ولبنــان بلســان مجلســيهما النيــابي‬
‫رفضاً حاسماً‪.‬‬
‫ثم اجتمع رئيس الــوزراء ســعد اهلل الجــابري إلى رجــال الصــحافة والمراســلين‬
‫وأفضى إليهم بحديث مستفيض عن الظروف الحاضرة التي تمر بها البالد ثم أشــار‬
‫إلى حرية الصحافة مما حمل بعضها على التحدث عن أمــور تقضي مصــلحة البالد‬
‫بتجنبها لكيال يأخذ األجن ـ ـ ــبي عنا صـ ـ ـ ــورة غ ـ ـ ــير الئقة ونأمل أن يعمل كل واحد في‬
‫ح ــدوده‪ ،‬وإ ن ي ــترك للن ــائب حقه في الق ــول والعمل تحت قبة البرلم ــان‪ ،‬وأن ال تتخذ‬
‫بعض الص ـ ـ ــحف من المناقش ـ ـ ــات البرلمانية س ـ ـ ــبيالً للتع ـ ـ ــريض لمن أجزل ـ ـ ــوا للبالد‬
‫خدمات ال تنسى‪.‬‬
‫ثم أعــرب عن أمله في أن نتكــاتف صــفاً واحــداً وأن نظهر بمظهر األمة القوية‬
‫وأن نضرب بدسائس الكائدين عرض الحائط‪.‬‬
‫وأخـ ــيراً أشـ ــار إلى حسن التفـ ــاهم بين القطـ ــرين سـ ــورية ولبنـ ــان الـ ــذي أدى إلى‬
‫االتفاق بينهما‪ ،‬وأن الواجب األخوي يقضي بأن يسير القطــران متفــاهمين حــتى ولو‬
‫أن بعض الغبن يلحق بأحدهما‪.‬‬
‫واس ــتجابة لما قدرته س ــورية بلس ــان مجلس ــها الني ــابي أدلى عبد ال ــرحمن ع ــزام‬
‫باشا األمين الع ــام لجامعة ال ــدول العربي ــة‪ ،‬أن الجامعة س ــتطلب جالء جميع الق ــوات‬
‫األجنبية من البالد العربية‪ ،‬بما في ذلك شمال إفريقيا الفرنسـية‪ ،‬وأضـاف الجـابري‪:‬‬
‫"وليعلم الع ــالم بأننا لن نع ــترف ب ــأي مركز اس ــتراتيجي قد تتمسك به أية دولة أجنبية‬
‫في البالد العربيــة‪ .‬ثم أن المفاوضــات بيننا وبين الفرنســيين ال تــزال مســتمرة ولكنها‬

‫ـ ‪ 157‬ـ‬
‫تجــري ببطء ومن المــرجح أن تنتهي قبل نهاية شــهر كــانون الثــاني ‪ 1946‬لعــرض‬
‫النتائج على مجلس األمم المتحدة بعد اطالع الحكومتين السورية واللبنانية عليها"‪.‬‬
‫وقالت أنباء واردة من لبنــان إن حكومة لبنــان قبل أن تعطي جوابها إلى وفــدها‬
‫بلن ــدن اتص ــلت ب ــرئيس ال ــوزارة الس ــورية س ــعد اهلل الج ــابري وس ــألته رأي الحكومة‬
‫السـ ـ ـ ــورية فأجـ ـ ـ ــاب‪" :‬ال بد من عـ ـ ـ ــرض القضـ ـ ـ ــية على مجلس األمن وإ ذا لم يـ ـ ـ ــذكر‬
‫الفرنسيون واإلنكليز تعيين موعد الجالء‪ ،‬وأضاف كلمة (التام) ولهذا أيدت حكومة‬
‫لبن ـ ــان موقف س ـ ــورية‪ ،‬وقد ق ـ ــالت محطتا اإلذاعة في ب ـ ــاريس وبرازافيل بأنه ل ـ ــوال‬
‫تصـ ـ ــلب فـ ـ ــارس الخ ـ ـ ــوري‪ ،‬لقبل لبن ـ ـ ــان بحل الخالف من دون عرضه على مجلس‬
‫األمن"(‪.)1‬‬
‫وب ـ ــدأت المباحث ـ ــات التمهيدية ح ـ ــول الجالء؛ وك ـ ــان رئيس ال ـ ــوزراء س ـ ــعد اهلل‬
‫الجـ ـ ــابري يـ ـ ــدلي في مـ ـ ــؤتمر صـ ـ ــحفي كبـ ـ ــير قولـ ـ ــه‪ :‬علينا أن نرجع أوالً إلى أصل‬
‫األمـ ــور‪ ،‬فالوفـ ــدان السـ ــوري واللبنـ ــاني عمال ما باسـ ــتطاعتهما إلحكـ ــام العمل بينهما‬
‫حتى أصبحا بين أمرين اثــنين إما أن تنتهي األبحـاث دون إيصـال قضـية الجالء إلى‬
‫مجلس األمن‪ ،‬أو إيصـ ـ ــالها إلى المجلس المـ ـ ــذكور؛ ويبـ ـ ــدو أنه لم يكن باإلمكـ ـ ــان إال‬
‫إيصال القضية إلى مجلس األمن وهكذا كان‪.‬‬
‫وعن ـ ـ ـ ــدما ينظر اإلنس ـ ـ ـ ــان إلى األبح ـ ـ ـ ــاث ال ـ ـ ـ ــتي دارت وما نشأ عنه ـ ـ ـ ــا؛ تراها‬
‫ـف من أعضــاء الوفــدين أحد‬ ‫بمجموعها في مصــلحة البلــدين؛ فمن حيث المبــدأ لم يكـ ّ‬
‫عن طلب الجالء وقـ ــرار مجلس األمن لم يكن قانون ـ ـاً؛ وعـ ــدم وجـ ــود قـ ــرار قـ ــانوني‬
‫وضع المسـ ــألة أمـ ــام أمـ ــرين‪ :‬إما تأجيل القضـ ــية لـ ــدورة المجلس القادمـ ــة‪ ،‬أو األخذ‬
‫بقـ ـ ــول فرنسا وبريطانيا المـ ـ ــدعم بموافقة أكثرية مجلس األمن‪ ،‬والـ ـ ــدولتان صـ ـ ــرحتا‬
‫على تنفيذ قـ ــرار األكثرية بـ ــالجالء؛ وإ ذا أخـ ــذنا بالمبـ ــدأ األول فمعـ ــنى ذلك التأجيـ ــل؛‬
‫وإ ذا أخذنا بالثاني‪ ،‬فمعناه التعجيل‪.‬‬
‫ويمكنني القــول(‪" :)2‬بــأن األبحـاث الـتي دارت في لنــدن اســتهدفت الوصــول إلى‬
‫أمرين األول لدخول بحث الجالء وتعجيله‪ ،‬والثاني أال تتطرق المباحثات لغــير أمر‬
‫الجالء أي أن تكون هذه المباحثات مقيدة فال تخرج عن نطـاق الجالء؛ ألن الوفـدين‬
‫ال يقبالن بـ ـ ــأي شـ ـ ــكل أن يرتبط بحث الجالء بأبحـ ـ ــاث أخـ ـ ــرى‪ ,‬وعليه فليس هنـ ـ ــاك‬
‫مفاوض ـ ـ ــات بل مباحث ـ ـ ــات من أجل الجالء وح ـ ـ ــده؛ وقد تك ـ ـ ــون ح ـ ـ ــول نقل الجن ـ ـ ــود‬
‫وت ــرحيلهم‪ ،‬وال ــوقت ال ــذي يحت ــاج إلى ذلك من الوجهة الفني ــة‪ .‬والجالء عن س ــورية‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫ويمثل فارس الخوري رأي حكومة سورية‪.‬‬
‫(?)‬ ‫‪2‬‬
‫والكالم لسعد اهلل الجابري‪.‬‬

‫ـ ‪ 158‬ـ‬
‫تقـ ـ ـ ــرر وبوشر به فعالً‪ ،‬وكمية الجنـ ـ ـ ــود والمحالت الباقية في سـ ـ ـ ــورية معروفة من‬
‫حيث العـ ــدد ولـ ــذلك ال تحتـ ــاج إلى بحث كثـ ــير‪ ،‬ولكن األمر الجـ ــوهري الـ ــذي يشـ ــغل‬
‫البـ ــال‪ ،‬بل يجب أن تنصب جميع جهودنا عليه هو تأييد الجالء عن سـ ــورية ولبنـ ــان‬
‫أيض ـ ـاً إذ األصل في الجالء أن يكـ ــون عن لبنـ ــان ألن ذلك يهم سـ ــورية بقـ ــدر ما يهم‬
‫لبنان نفسه‪ ،‬والبلدان متفقان في كل األمور ومن الصعب التفريق بينهما"‪.‬‬
‫واســتطرد ســعد اهلل يقــول‪" :‬والــذي يهم ســورية هو أمر الجالء الــذي بوشر في‬
‫ســورية‪ ،‬وأن يتم في لبنــان دون تــأخير‪ ،‬ونحن ننتظر الخــبر األخــير من وفــدنا الــذي‬
‫ينتهي إليه رأيه فنراه ونبحثه ونفكر فيه"‪.‬‬
‫أما المص ــالح فقد س ــلمت‪ ...‬والجالء بوشر به في س ــورية‪ ،‬وما بــرح قائم ـاً في‬
‫لبنـ ـ ــان‪ ،‬ولكن شـ ـ ــكل التمثيل لم يتبـ ـ ــدل؛ ولـ ـ ــذلك ال يمكن الـ ـ ــدخول في أية مفاوضـ ـ ــة؛‬
‫وعنـ ــدما تتم هـ ــذه األمـ ــور نبـ ــدأ المفاوضة مع جميع الـ ــدول على قـ ــدم المسـ ــاواة‪ ،‬فال‬
‫تخ ــرج عن القواعد الدولية العام ــة؛ متم ــاثلين في حق الس ــيادة واالس ــتقالل الت ــام‪ ،‬فال‬
‫امتياز وال رجحان وال تخصيص ألية دولة كانت‪.‬‬
‫وبعد ذلك غـ ـ ــادر الجـ ـ ــابري دمشق إلى بـ ـ ــيروت بـ ـ ــدعوة من رئيس الجمهورية‬
‫اللبنانية وعقد اجتمـ ـ ــاع في القصر الجمهـ ـ ــوري برئاسة الـ ـ ــرئيس اللبنـ ـ ــاني‪ ،‬حضـ ـ ــره‬
‫الجابري ورئيس الوزارة اللبنانية الصلح‪ ،‬حيث بحثت مختلف النواحي االقتصــادية‬
‫والسياسية‪.‬‬
‫وبعد عودته أدلى بتصـ ــريح قـ ــال فيـ ــه‪" :‬لقد استعرضـ ــنا عـ ــدة أمـ ــور هامة منها‬
‫أخبـ ـ ــار الوفد اللبنـ ـ ــاني ومفاوضـ ـ ــات بـ ـ ــاريس ومسـ ـ ــألة الجالء‪ ،‬وبحثنا قضـ ـ ــية لجنة‬
‫التحقيق البريطانية األميركيـ ـ ـ ـ ــة‪ ،‬فقـ ـ ـ ـ ــرر أن ترسل كل من الحكومـ ـ ـ ـ ــتين السـ ـ ـ ـ ــورية‬
‫واللبنانية م ـ ـ ــذكرة مفص ـ ـ ــلة إلى اللجنة عن وجهة نظرها في المش ـ ـ ــكلة الفلس ـ ـ ــطينية‪،‬‬
‫وستوفد كل حكومة ممثالً عنها لالجتماع إلى اللجنة في القاهرة"‪.‬‬
‫‪:1946‬‬
‫وســئل الجــابري عن موضــوع الجالء فقــال‪" :‬إن الــوزير البريطــاني المفــوض‬
‫أبلغه بعد ظهر أمس بالغـاً رســمياً يقــول فيــه‪" :‬إن جالء القــوات األجنبية التــام ســيبدأ‬
‫في ‪ 11‬آذار الحـ ـ ـ ــالي وينتهي في آخر نيسـ ـ ـ ــان وإ ني أعتقد أن الجالء التـ ـ ـ ــام يتم قبل‬
‫نهاية نيسان"‪.‬‬
‫وما بزغ فجر يوم ‪ 17‬نيسان ‪ 1946‬حتى بدت ســورية في ثــوب عــرس جديد‬
‫ثوب الحرية والسيادة واالستقالل‪.‬‬

‫ـ ‪ 159‬ـ‬
‫ومألت الزغاريد األج ـ ــواء وعمت ال ـ ــوالئم والم ـ ــآدب على المس ـ ــتوى الوط ـ ــني‬
‫والمحلي‪ ،‬في العاصـ ــمة والمحافظـ ــات‪ .‬وأقبلت الوفـ ــود العربية مهنئة مبتهجـ ــة؛ وقد‬
‫أقــام لها ســعد اهلل الجــابري حفلة ســاهرة على شــرفها تخللها عــزف موســيقي وأناشــيد‬
‫قومية ووطنيــة‪ .‬وقد اعــترف الشــعب الســوري بل معظم البالد العربية بنضــال ســعد‬
‫اهلل في هذا الموضوع‪.‬‬
‫وبعد االنته ـ ـ ــاء من احتف ـ ـ ــاالت عيد الجالء انص ـ ـ ــرفت دوائر الدولة لمعالجة ما‬
‫ل ــديها من ش ــؤون‪ ،‬كما انص ــرف الش ــعب لالهتم ــام بما لدي ــه‪ ،‬وك ــان أب ــرز موض ــوع‬
‫واجهته الدوائر العليا هو استقالة الوزارة الجابرية من الحكم‪.‬‬
‫وقد اتضح أن موضـوع االسـتقالة والبحث فيه كــان مفروضـاً أن يتم منذ بعض‬
‫ال ـ ـ ــوقت‪ .‬ل ـ ـ ــوال أن االحتف ـ ـ ــال بعيد الجالء قد قضى بتأجيله إلى ما بعد االنته ـ ـ ــاء من‬
‫المهرجانات‪.‬‬
‫وقد تم ت ــأليف ال ــوزارة الس ــورية قبل منتصف ‪ 27‬نيس ــان ‪ ،1946‬وص ــدرت‬
‫مراس ــيم تأليفها ص ــباح األحد ‪ 28‬نيس ــان ‪1946‬؛ فعين س ــعد اهلل الج ــابري للرئاسة‬
‫والخارجي ـ ــة‪ ،‬وخالد العظم لالقتص ـ ــاد الوط ـ ــني والعدلية وص ـ ــبري العس ـ ــلي للداخلية‬
‫ونبيه العظم للـ ــدفاع الوطـ ــني وأدمـ ــون حمصي للمالية وأحمد الشـ ــرباتي للمعـ ــارف‪،‬‬
‫وميخائيل ليان لألشغال العامة‪.‬‬
‫وذهب سـ ـ ــعد اهلل إلى القـ ـ ــاهرة على رأس الوفد السـ ـ ــوري ليحضـ ـ ــروا اجتمـ ـ ــاع‬
‫مجلس الجامعة العربية واشتد به المرض األليم فأرسل إلى الرئيس شكري القــوتلي‬
‫كتاباً من القاهرة يعـرض فيه رغبته القوية في اعـتزال الحكم مراعـاة لصـحته‪ ،‬الـتي‬
‫يشعر أنها في حاجة إلى الراحة‪ ،‬ويلح مؤكداً ضرورة قبول استقالته‪.‬‬
‫وبعد أن بحث أعض ــاء ال ــوزارة الموقف مع رئيس الجمهوري ــة‪ ،‬أرسل فخامته‬
‫كتاباً إلى الجابري ينطوي السؤال عن صحته وليس في الكتاب ـ كما يؤكد البعض ـ ـ‬
‫ما يشير إلى الجواب عن قبول االستقالة أو رفضها‪.‬‬
‫وشعر أعضاء الوزارة الحاضرة‪ ،‬بعد إصـرار الجــابري على االســتقالة بتعــذر‬
‫السير‪ ،‬فأخذ كل واحد منهم بيدي تأففه من العمل‪ .‬ورغبته في االستقالة أيضاً‪.‬‬
‫وبقي وضع الــوزارة الجابرية معلق ـاً بانتظــار الوقــوف على رأي رئيســها ســعد‬
‫اهلل الج ـ ـ ــابري‪ :‬ال ـ ـ ــذي بقي في الق ـ ـ ــاهرة بينما ع ـ ـ ــاد منها جميل م ـ ـ ــردم بك وأدم ـ ـ ــون‬
‫الحمصي اللـ ـ ـ ــذين قصـ ـ ـ ــدا رأسـ ـ ـ ـاً إلى القصر الجمهـ ـ ـ ــوري‪ ،‬حيث اجتمعا إلى رئيس‬
‫الجمهورية‪ ،‬وعرف من مردم وحمصي‪ ،‬أن الجابري دخل المستشفى للتداوي‪.‬‬

‫ـ ‪ 160‬ـ‬
‫عقد مجلس الوزراء أكــثر من جلسة برئاسة رئيس الجمهوريــة‪ ،‬بأمل أن يعــود‬
‫ال ــرئيس الج ــابري إلى رئاسة ال ــوزراء؛ ولكن وزارة الخارجية تلقت برقية رس ــمية‬
‫من المفوضة الس ـ ــورية في الق ـ ــاهرة تتض ـ ــمن اش ـ ــتداد الم ـ ــرض ب ـ ــالرئيس الج ـ ــابري‬
‫واضطرار الطبيب إلى دعوة أربعة أطباء اجتمعوا لفحصه‪.‬‬
‫وقد أرفقت هـ ـ ـ ـ ــذه البرقية ببرقية ثانية من الجـ ـ ـ ـ ــابري باالعتـ ـ ـ ـ ــذار نهائي ـ ـ ـ ـ ـاً عن‬
‫االستمرار في الحكم نظراً لحالته الصحية‪.‬‬
‫اجتمع فــوراً أعضــاء الــوزارة وقــرروا رفع االســتقالة‪ .‬وأمــام هــذا الوضع قبل‬
‫رئيس الجمهورية االسـ ـ ــتقالة وأوفد األمين العـ ـ ــام للقصر إلى القـ ـ ــاهرة للسـ ـ ــؤال عنه‬
‫وإ بالغه رســالة خطية من رئيس الجمهورية يشــكر لـه ما بذله من جهــود جبــارة في‬
‫سبيل تأمين المصلحة العامة ويتمنى لـه الشفاء‪.‬‬
‫وأعلنت استقالة الجابري نهائياً في ‪ 20‬كانون األول ‪.1946‬‬
‫ونحن لو درسـ ــنا خط النضـ ــال هـ ــذا‪ ،‬ومنطلقـ ــات سـ ــلوكه السياسي على نطـ ــاق‬
‫العـ ــالم العـ ــربي‪ ،‬وبشـ ــكل بيـ ــاني هندسي فإننا نالحظ أن (الشـ ــمول) كـ ــان يصـ ــبغ خط‬
‫وطنيته وجهاده في الزمــان والمكــان‪ ،‬في الزمــان حيث بــدأ كفاحه القــومي منذ صــباه‬
‫ح ـ ـ ــتى آخر نفس من حيات ـ ـ ــه‪ ،‬وفي المك ـ ـ ــان حيث ك ـ ـ ــافح عن كل ج ـ ـ ــزء من ال ـ ـ ــوطن‬
‫ـق سـ ــورية فقط في مسـ ــلك سـ ــيره الوطـ ــني بل تجـ ــاوز ذلك إلى‬ ‫العـ ــربي‪ ،‬حيث لم تبـ ـ َ‬
‫نطاق العالم العربي كله‪.‬‬
‫ويــذكر بعض زعمــاء العــرب بــأن (نفس ســعد اهلل المؤمنــة‪ ،‬كــانت أوسع من أن‬
‫تستطيع االنحباس في الجهاد في جبهة واحــدة‪ ،‬وعلى قـدر عزائمه الوطنية الواســعة‬
‫الشاملة سيكون اعتراف التاريخ العربي وتقدير األجيال له)‪.‬‬
‫وهكـ ــذا نـ ــرى أن النظـ ــرة الشـ ــمولية قد اسـ ــتقطبت كل طاقاتـ ــه‪ ،‬وحضـ ــنت أرقى‬
‫عزائمه ألن يوحد البالد العربية ويبرزها طاقة هائلة بكل غناها للوجود‪.‬‬
‫ول ـ ـ ـ ــذلك راح يعمل بنص ميث ـ ـ ـ ــاق الق ـ ـ ـ ــاهرة‪ ،‬خاصة مادته الثاني ـ ـ ـ ــة‪ ،‬في توحيد‬
‫االقتص ــاديات والنقد وه ــذا ي ــؤدي ـ ـ في رأيه ـ ـ إلى خلق س ــوق عربية مش ــتركة‪ ،‬كما‬
‫تسعى إليها اليوم الدول العربية‪.‬‬
‫ك ـ ــانت رؤاه المس ـ ــتقبلية ص ـ ــادقة‪ ،‬وك ـ ــان ينظر إلى ما وراء بالده بعد تحررها‬
‫وقد ال ينسى العــالم العــربي مواقفــه‪ ،‬وفي طليعتها (تــونس الخضــراء) ولهــذا وصــفه‬
‫ورسمه الحبيب بو رقيبة يوم تأبينه بأنه "رجل العالم العربي كله"‪.‬‬

‫ـ ‪ 161‬ـ‬
‫ولم تكن قضية المغرب العربي (قضـية) في دنيا العـرب‪ ،‬ولم تكن تســمع كلمة‬
‫المغــرب العــربي‪ ،‬وقد بــدأت محــاوالت تمنع من إدخــال القضــية إلى مجلس الجامعة‬
‫العربيـ ـ ــة‪،‬انطلق صـ ـ ــوت بلسـ ـ ــان سـ ـ ــعد اهلل الجـ ـ ــابري في مجلس الجامعة دفاع ـ ـ ـاً عن‬
‫المغــرب العــربي‪ ،‬وكــان صــوت ســعد اهلل مــؤثراً معــبراً ينبع من صــافي النية وعمق‬
‫االنفعال‪ ،‬حتى يقال بأن (العبرة) خنقته أثناء الحديث‪.‬‬
‫واســتطاع الجــابري أن يسـتقطب اآلراء حــول قضــية المغــرب العــربي وتحمس‬
‫الرجــال وبــدأت صــفحة جديــدة في نضـال األمة العربية الحديثــة‪ ،‬ومنذ ذلك اليــوم بـدأ‬
‫المغ ــرب الع ــربي يش ــعر بأنه ليس وح ــده في المي ــدان النض ــالي‪ ،‬أم ــام جي ــوش فرنسا‬
‫ووحش ـ ـ ــية اس ـ ـ ــتعمارها‪ ،‬بل إن وراءه س ـ ـ ــورية‪ ،‬وهي أمة عزي ـ ـ ــزة الج ـ ـ ــانب مؤمنة‬
‫بإرادتها الصلبة الجامدة الجتثاث االستقالل‪ ،‬وذلك حقها الطبيعي في الوجود‪.‬‬
‫وك ـ ــانت لـه مواقف ش ـ ــجاعة وقوية مع أك ـ ــثر البالد العربي ـ ــة‪ ،‬ح ـ ــتى انبثقت من‬
‫أعماقها صفحة جديدة في تاريخ نضالها الحديث في إيمان ال يعرف اللين‪.‬‬

‫ـ ‪ 162‬ـ‬
‫ـ ‪ 163‬ـ‬
‫مرضه‪:‬‬
‫ام‬ ‫تعبت في مرادها األجس‬ ‫وإ ذا ك انت النف وس كب اراً‬
‫وتعب الج ـ ــابري‪ ...‬تعب جس ـ ــمه ون ـ ــاء‪ ،‬بعد أن خ ـ ــاض مس ـ ــرحه النفسي بكل‬
‫امتالء‪ ...‬وعلى ضــفاف النيل هــاجم المــرض العضــال والــداء القتــال جسم ســعد اهلل‬
‫المعـ ــنى‪ .‬حـ ــتى أن زوجة سـ ــعد زغلـ ــول وهـ ــدى شـ ــعراوي اهتمتا به وأوصـ ــتاه على‬
‫العناية بصحته ألنها تعني الكثير بالنسبة للوطن العربي‪.‬‬
‫دخل مستش ـ ــفى المواس ـ ــاة في اإلس ـ ــكندرية‪ ،‬ليع ـ ــالج من م ـ ــرض الكبد وتش ـ ــمعه‬
‫ويبوس ــاه‪ ،‬وهو من األم ــراض الشــاذة ال ــتي يص ــعب ش ــفاؤها يق ــول توفيق الس ــويدي‪:‬‬
‫"أن م ـ ـ ــرض التش ـ ـ ــمع ال ـ ـ ــذي أودى بحيات ـ ـ ــه‪ ،‬ك ـ ـ ــان قد ب ـ ـ ــدأ فيه من المنفى ومن حالة‬
‫الحرم ــان ال ــتي لم يألفه ــا‪ ،‬وهو ال ــذي ت ــربى وترع ــرع وع ــاش في أوس ــاط مرفه ــة"‪.‬‬
‫ولقي س ــعد اهلل من عطف أهل النيل ما ع ــزز مش ــاعر الج ــابري ومبادئه في الوح ــدة‬
‫العربية وإ نمائهــا‪ .‬كــان حــراً بــاليقين الــذي يلفّــه‪ ،‬والــذي ألجله جــازف بحياته ومماته‬
‫وخالل فــترة مرضه راح أك ــثر أعضــاء وزارته يســتقيلون الواحد تلو اآلخر إلى أن‬
‫أصبحت الوزارة في حكم المستقيلة‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ألم المــرض‬‫يصف األســتاذ نصــوح بابيل هــذه الفــترة المرضــية ويقــول‪ :‬لقد ّ‬
‫بالجابري عام ‪ 1946‬عنـدما كـان يـرأس الوفد السـوري في اجتمـاع مجلس الجامعة‬
‫العربيــة‪ ،‬فنقل من القـاهرة إلى اإلسـكندرية‪ ،‬ودخل مستشــفى المواسـاة لمعالجته فيـه‪:‬‬
‫فأق ــام رحمه اهلل ردحـ ـاً ط ــويالً في ه ــذا المستش ــفى ومنه أرسل إلى ال ــرئيس الق ــوتلي‬
‫كتـ ــاب اسـ ــتقالته من رئاسة الـ ــوزارة‪ ،‬وبعد أن مكث الفقيد عـ ــدة أشـ ــهر في مستشـ ــفى‬
‫المواســاة تحســنت صــحته قليالً فجــاء إلى دمشق حيث حل في أوتيل أوريــان بــاالس‬
‫وبقي فيه أك ـ ـ ــثر من ش ـ ـ ــهرين اس ـ ـ ــتقبل خاللهما وهو في س ـ ـ ــرير الم ـ ـ ــرض‪ ،‬كالً من‬
‫الــرئيس القــوتلي وريــاض الص ــلح وف ــوزي القــاوقجي‪ ،‬واعت ــذر عن اســتقبال الجميع‬
‫بناء على طلب أطبائه‪.‬‬
‫وخالل وجـ ــوده األخـ ــير هـ ــذا في دمشـ ــق‪ ،‬جـ ــاءت وفـ ــود عديـ ــدة من حلب وبقية‬
‫المــدن الســورية لزيارتــه‪ ،‬فاعتــذر عن اســتقبالها‪ ،‬وأقــام لكل منها مأدبة فــاخرة شــكراً‬
‫وامتناناً‪.‬‬
‫عـ ــاد سـ ــعد اهلل إلى حلب‪ ...‬مسـ ــقط رأسه ومـ ــوطن أسـ ــرته الكب ــيرة‪ .‬وراح بين‬
‫أهله وإ خوانه يصـ ــارع المـ ــرض‪ ،‬وانسـ ــحب من الحيـ ــاة العامة وقصد قرية (تريـ ــدم)‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫نصوح بابيل رئيس تحرير جريدة األيام‪.‬‬

‫ـ ‪ 164‬ـ‬
‫ليقضي بض ـ ــعة اش ـ ــهر هن ـ ــاك حيث اله ـ ــدوء‪ ،‬رغم أن البالد ك ـ ــانت في أمس الحاجة‬
‫إليه‪ ،‬ولكنه لم يستطع أن يقف أمام المرض واأللم‪.‬‬
‫ك ـ ــانت البالد على أب ـ ــواب االنتخاب ـ ــات العام ـ ــة‪ ،‬وك ـ ــان الن ـ ــاس كلهم أمل في أن‬
‫تعــاوده الصــحة ويســتعيد بعض العافية والقــوة‪ ،‬ولكن هيهــات للنفس الــتي ال تهــدأ في‬
‫سـ ــبيل الصـ ــالح العـ ــام و ال تسـ ــمع إال صـ ــوت الـ ــوطن‪ ،‬أن تجد الراحة واالطمئنـ ــان‪،‬‬
‫هيهات لها الراحة‪.‬‬
‫وصرعه المـرض‪ ...‬وكـان أمر اهلل قـدراً مقــدراً‪...‬ـ صـرعه المـرض والعــرب‬
‫في أشد الحاجة إليـ ــه‪ ...‬لم تنفع فيه حيلة األطبـ ــاء‪ ،‬إذ بعد أسـ ــبوعين سـ ــاءت صـ ــحته‬
‫كثـ ــيراً‪ ،‬فاسـ ــتدعيت بعثة طبية من مستشـ ــفى المواسـ ــاة برئاسة الـ ــدكتور نقيب باشـ ــا‪،‬‬
‫لمعاينتـ ـ ــه‪ ،‬كما اسـ ـ ــتدعيت بعثتـ ـ ــان أخريـ ـ ــان من دمشق وب ـ ــيروت‪ ،‬للغ ـ ــرض نفس ـ ــه‪،‬‬
‫وأج ـ ــريت لـه عملي ـ ــة‪ ،‬ك ـ ــان يظن أنها ناجحة قد يس ـ ــتطيع بع ـ ــدها الس ـ ــفر إلى أميركا‬
‫لالستشفاء‪.‬‬
‫وفعالً‪ ...‬فقد تحسـ ــنت صـ ــحته حـ ــتى أنه اسـ ــتطاع أن يـ ــودع رئيس الجمهورية‬
‫حين زاره في دار شـ ـ ــقيقه في أثنـ ـ ــاء زيارته لحلب‪ ،‬ثم حضر إلى حلب شـ ـ ــقيقه مجد‬
‫الدين الجابري وحجز لـه معقدين لـه ولشقيقه في إحدى الطائرات األميركية الكبــيرة‬
‫التي تسافر إلى الواليات المتحدة يوم ‪ 2‬تموز‪.‬‬
‫ولكن حـ ــدث بعد منتصف ليلة ‪ 19‬ـ ـ ـ ‪ 20‬حزيـ ــران ‪ 1947‬أن سـ ــاءت صـ ــحته‬
‫فجأة‪ ،‬وثبت ألطبائه الـذين يشـرفون على مداواتـه‪ ،‬أن ال أمل في شـفائه بعد أن دخل‬
‫في دور النزع األخير‪...‬‬

‫‪ ‬وفاته‪:‬‬
‫ضـروني لصــالة‬
‫وكان يوم الجمعة‪ ...‬وأحس دنو أجله‪ ...‬فقال لمن حولــه‪" :‬ح ّ‬
‫الجمعة‪ ،‬ثم انشروا الخبر حسماً للفوضى"‪.‬‬
‫أراد أن يمـ ــوت بهـ ــدوء‪ ..‬وك ــأن ه ــذا الم ــوت يعطي صـ ــورة الس ــكينة الص ــافية‬
‫المألى بيقين يتعذر اإلعراب عنه‪.‬‬
‫وهكذا كان‪ ...‬ففي ‪ 20‬حزيران ‪...1947‬ـ مات رجل‪...‬ـ وإ ذ يمــوت الرجــل‪،‬‬
‫فقلما يحيا مثله بين الرجال‪...‬‬
‫م ــات س ــعد اهلل بعد أن أص ــيب ب ــداء عض ــال‪...‬ـ لم تنفع فيه حيلة األطب ــاء‪ ،‬وال‬
‫رأى األهل أي رجــاء أمــام قــدر‪...‬ـ وطــواه الــردى‪...‬ـ واستســلم للبلى ودوى صــوت‬

‫ـ ‪ 165‬ـ‬
‫موته كالرعد وولد ما يشبه االنفجار في ســماء البالد العربيــة‪ .‬دفن ـ رحمه اهلل ـ إلى‬
‫جوار رفيق جهاده الزعيم المغفور لـه إبراهيم هنانو‪ ،‬وغاب في رحاب قبر‪:‬‬
‫ادي‬ ‫واألسى مالك قي‬ ‫ه‪:‬‬ ‫بر! وقفت أرنو إلي‬ ‫وأي ق‬
‫ائم األوراد‬ ‫تى كم‬ ‫بين ش‬ ‫دياً‬ ‫رف ن‬
‫ّ‬ ‫زل تربه ي‬ ‫لم ي‬
‫العز أفيقي على ص الة الح داد‬ ‫عداً هنا فيا مقلة‬ ‫إن س‬
‫يش دون بأي ديهم على األكب اد‬ ‫ال‬ ‫علية الرج‬
‫ري ّ‬ ‫وانظ‬
‫راد‬ ‫هى م‬ ‫حلم بها وأش‬ ‫ش اء أن يطبق الجف ون على أك رم‬
‫عمر أبو ريشة‬
‫بكى النـ ـ ــاس سـ ـ ــعد اهلل في كل مكـ ـ ــان‪ ،‬بكـ ـ ــوا بطالً حقيقي ـ ـ ـاً من أبطـ ـ ــال المعركة‬
‫العربية في تاريخنا االستقاللي المحفوف بالمصاعب واألهوال‪.‬‬
‫ولعل شهادة الكتب والمؤرخين الغربيين التي سجلها لهم التــاريخ في حق سـعد‬
‫اهلل الجــابري‪ ،‬تعتــبر شــهادة عالية المســتوى ألنها شــهادة موضــوعية تعــترف بـالواقع‬
‫الحق وتحمل في طياتها معنى المسؤولية التاريخية‪.‬‬
‫يق ـ ـ ــول باتريك سـ ـ ـ ــيل ‪ ،Patric Seal‬في كتاب ـ ـ ــه‪ :‬الص ـ ـ ــراع على سـ ـ ـ ــورية‬
‫‪" Struggle of Syria‬وقد تلقت الكتلة الوطنيـ ــة‪ ،‬ضـ ــربة أخـ ــرى موجعة في ‪20‬‬
‫حزي ــران ‪ 1947‬بوف ــاة س ــعد اهلل الج ــابري أش ــجع زعم ــاء الكتلة وأك ــثرهم اس ــتقامة‬
‫وربما أن ســعد اهلل يعتــبر الرجل األوحــد‪ ،‬الــذي تجــاوز نفــوذه وســمعته أبعــاد الســنين‬
‫السابقة ومحاكمات األيام"‪.‬‬
‫ك ــان س ــعد اهلل يجمع ال ــوطن بين مه ــده ولح ــده‪ ،‬بين وس ــيلته وقص ــده وإ ذ ح ــان‬
‫الحين مــات‪ ....‬مــات ـ ـ كما عــاش ـ ـ أمين ـاً على الــدوام لعهــده‪ ،‬ولــذا تــرك في كل قلب‬
‫قصيدة حزن على فقده وزفرة ملتهبة على ثكله‪....‬‬
‫وك ـ ـ ــانت وص ـ ـ ــيته‪" :‬وص ـ ـ ــيتي إليكم أيها الس ـ ـ ــوريون المحافظة والس ـ ـ ــهر على‬
‫استقالل البالد والتمسك بأهداب النظام الجمهوري الرشيد القائم فيها"‪.‬‬
‫كما كــانت وصــيته أن يـدفن في المدينة المنــورة‪...‬ـ ولكن الظـروف حــالت دون‬
‫ذل ــك‪ .‬في وسع اإلنس ــان أن يغ ــامر بلق ــاء إلهي بمج ــرد ص ــفاء الفكر ال ــديني ال ــذي لم‬
‫تفسده أهواء األرض‪...‬‬
‫وهذا ما كان في صفاء الفكر الديني عند سعد اهلل‪.‬‬

‫ـ ‪ 166‬ـ‬
‫تشييعـ الجابري‪:‬‬
‫وشيعته الشهباء بموكب كبير جليل حاشد‪...‬‬
‫تق ــدم الم ــوكب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس ال ــوزراء وال ــوزراء والن ــواب‬
‫وممثلو الــدرك ورؤســاء الــدول العربية وجمــاهير غفــيرة ســارت في مــوكب التشــييع‬
‫الذي استغرق سيره ساعتين كاملتين‪....‬ـ‬
‫وبعد أن ووري الفقيد لح ـ ــده األخ ـ ــير إلى ج ـ ــانب ال ـ ــزعيم هن ـ ــانو‪ ،‬بك ـ ــاه رئيس‬
‫ـى على فقد المرح ـ ــوم‪ ،‬تن ـ ــاول فيها رفقة‬ ‫الجمهورية بكلمة م ـ ــؤثرة ك ـ ــانت تفيض أس ـ ـ ً‬
‫جهــاده مع المرحــوم منذ ســني الدراسة حــتى اآلن‪ ،‬معــدداً مناقبه ومزايــاه‪ ،‬باكي ـاً فيه‬
‫الخصال الشريفة والمزايا النبيلة‪.‬‬
‫وبعد أن انتهى ال ــرئيس األول عقبه رئيس ال ــوزراء جميل م ــردم بكلمة جامعة‬
‫تناول فيها تاريخ جهاده وأثره فيما وصلت إليه البالد من منعة وعزة واستقالل‪.‬‬
‫اش ــترك في م ــأتم التش ــييع بعث ــات ملكية تمثل الملك ف ــاروق والملك عبد العزيز‬
‫آل سـ ــعود ورؤسـ ــاء الـ ــدول في جامعة الـ ــدول العربية والـ ــوزراء والقناصل وممثلو‬
‫الهيئـ ـ ــات السياسـ ـ ــية واألحـ ـ ــزاب‪ ،‬والهيئـ ـ ــات الس ـ ـ ــورية وممثلو الجمعيـ ـ ــات واألندية‬
‫ووجهاء األحياء ثم جماهير المشيعين‪.‬‬
‫تنكيس األعالم‪ ....‬الحزن الشامل‪...‬‬
‫هز س ـ ــورية المص ـ ــاب وأدمى قلبها الف ـ ــتي الن ـ ــابض‪ ،‬وق ـ ــررت تنكيس األعالم‬
‫ثالثة أيــام‪ ...‬وتعطيل الــدوائر الرســمية يومـاً واحــداً حــداداً‪ ،‬وتــوقفت محطة اإلذاعة‬
‫يوم تشييع جثمان الفقيد عن البث‪ ،‬إال عن تالوة أي الذكر الحكيم‪...‬‬
‫التأبين‪:‬‬
‫وكـ ــان التـ ــأبين الكبـ ــير الـ ــذي أقيم للراحل الكبـ ــير في تـ ــاريخ ‪ 5/4/1948‬كـ ــان‬
‫التأبين في رحاب الجامعة السورية‪ ،‬وقد امتأل مدرجها الواسـع‪ ،‬وضــاق بمن احتشد‬
‫به من زعمــاء ورؤســاء دول عربية وممثلين لــدول أجنبيــة‪ ،‬وتتــالت كلمــات التــأبين‪،‬‬
‫وتليت القصائد التي تحكي صدق المشاعر الوطنية وإ خالص الضــمير النبيل والــتي‬
‫تلتهب حرقة وأسى وتظهر أن أي فكر (تحــرر واســتقالل) ال يوجد اليــوم دون ســعد‬
‫اهلل‪......‬ـ‬
‫وش ــهد ه ــذا الت ــأبين أن س ــعد اهلل هو الرجل ال ــذي ع ــاش مجاه ــداً وطنيـ ـاً وم ــات‬
‫مناضـ ـ ـالً في س ـ ــاحة الحركة القومية والوح ـ ــدة العربية ال ـ ــتي ص ـ ــبغت حياته وجعلته‬
‫بطالً‪ ،‬ويتوجب على الضمير التـاريخي أن يسـتنير بسـلوكه وأخالقياته والشـعوب إذ‬

‫ـ ‪ 167‬ـ‬
‫تذكر أبطالها‪ ،‬فإنما ألنها تكــرس فكــرة الجهــاد والــدفاع عن كرامة األمة واإلخالص‬
‫لعزتها وصون رفعتها‪.‬‬
‫وي ــذكر الت ــاريخ بأنه لم يبق عظيم في بالد الع ــرب وال كب ــير في دي ــار اإلس ــالم‬
‫وعز عليه فقده‪ ،‬فشارك في رثائه وبكاه بقلبه بل بعقله‪.‬‬ ‫إال ّ‬
‫وفي اليوم الثــاني للتـأبين تـوجت الصـحف بمقــاالت كبـيرة عن زعيم االســتقالل‬
‫وبطل الجالء وكـ ـ ــذلك طلب مـ ـ ــدير المعهد العـ ـ ــالي للمعلمين في جامعة دمشـ ـ ــق‪ ،‬من‬
‫إحدى قريباته(‪ )1‬أن تكتب كلمة عن الفقيد فقالت‪:‬‬
‫يا سعد‪!...‬ـ متى طواك الردى؟ وكيف استسلمت للبلى؟ لقد دوى صــدى نومك‬
‫األخـ ــير كالرعد في سـ ــماء البالد العربيـ ــة‪ ،‬فـ ــأبكيت األمة من أقصـ ــاها إلى أقصـ ــاها‬
‫وتـ ــركت في كل قلب قصـ ــيدة حـ ــزن على فقـ ــدك‪ ،‬وزفـ ــرة ملتهبة على ثكلـ ــك‪ ،‬ودمعة‬
‫حارة على قوة كامنة في نفسك‪ ،‬تلك القوة التي دفعتك لتنفخ في قلــوب العــرب أجمع‬
‫صـ ــوتك العلـ ــوي الجهـ ــور ولتكـ ــون مجـ ــدداً للرسـ ــالة العربية القويـ ــة‪ .‬نعم آلمتك هـ ــذه‬
‫الســنة من الكــرى الــتي استســلم لها العــرب‪ ،‬وأغضــبك هــذا الوسن الــذي اســتولى مــدة‬
‫عليهم‪ ،‬بعد أن نشــروا رســالتهم العليــا‪ ،‬الــتي غمــرت العــالم حكمة وهــدى‪ .‬واآلن هل‬
‫ينامون عن هذه الرسالة وفيهم قلوب نابضة وقبس من نور؟‬
‫لقد دفعتهم ووجهتهم في الطريق المخت ـ ـ ــارة ال ـ ـ ــتي ت ـ ـ ــؤهلهم لالس ـ ـ ــتقالل‪ ،‬ولكن‬
‫الشــعب الســوري كــان يتعجل الحرية المنشــودة‪ .‬ويتطلبها ســريعاً‪ ،‬ولــذا اســتهان بكل‬
‫شيء في سبيلها حتى بالنظام وتهيب الحكام‪.‬‬
‫واآلن! أتن ــدثر ص ــحيفة عملك البيض ــاء وتن ــدرج في مع ــالم الظالم؟ وهال يظل‬
‫اســمك على كل ثغر وتاريخك في كل فكــر؟ لقد عشت لوطنك ومت من أجل وطنك‬
‫ولم تقف في وجهك ظـروف الـدهر‪ ،‬ولم تغـير من بسـمتك عبسة الـزمن‪ ،‬بل انـدفعت‬
‫بجه ــادك ووج ــودك ولم تستس ــلم لخ ــور وطغي ــان‪...،‬ـ أجل أن األق ــدار داعبتك زمنـ ـاً‬
‫طويالً لتعرف مدى عزيمتك ومدى إيمانك برسالتك‪ ،‬فإذا أنت لم تيئس‪ ،‬ولم تســقط‪،‬‬
‫بل مضـ ـ ــيت بحماسة متقـ ـ ــدة ونشـ ـ ــاط متـ ـ ــأجج وتفـ ـ ــان في سـ ـ ــبيل العروبـ ـ ــة‪ ،‬قـ ـ ــاومت‬
‫االســتعمار وناضــلت الطغيــان حــتى ظفـرت باالسـتقالل وعــدت من جديد إلى الجهــاد‬
‫لتوطيد دعـ ــائم هـ ــذا العهد االسـ ــتقاللي‪ ،‬ولقيت كل معارضة برحابة صـ ــدر وصـ ــدق‬
‫شكيمة ووقفت صامداً أمام تيار الرجعية القاسية‪...‬‬
‫ولكن أيبسم الكــون طــويالً؟ لقد زمجر وعبس ثم تــولى‪ ،‬إذ لم يــأت عــام ‪1921‬‬
‫إال وزججت في الس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــجن‪ ،‬وكنت تنتقل من معتقل إلى معتقل ولم تكد تطأ أرض‬
‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫إنها رياض الجابري‪ ،‬وكانتـ طالبة في المعهد المذكور‪ ،‬وقد نشرت كلمتهاـ في مجلة المعرفة‪.‬‬

‫ـ ‪ 168‬ـ‬
‫األوطـ ـ ــان من جديـ ـ ــد‪ ،‬حـ ـ ــتى ُش ـ ـ ـردت ونفيت ثانيـ ـ ــة‪ ،‬وال أنسى يـ ـ ــوم ودعت سـ ـ ــورية‬
‫الحبيبة‪ ،‬أجل ال أنسى ذلك اليـوم الـذي أنـذروك فيه بمغـادرة سـورية‪ ،‬فـأذعنت لألمر‬
‫الواقع وودعت سورية وداع عبد اهلل الصغير لغرناطة الحمـراء‪ ،‬ولكن لم يكن ســعد‬
‫اهلل كعبد اهلل‪...‬ـ‬
‫ذهبت إلى العراق حامالً في نفسك الكبـيرة جيشـاً من الـذكريات المـرة واآلمـال‬
‫الكب ـ ــيرة‪ ،‬ابتع ـ ــدت عن س ـ ــورية في غبش الفجر بعد أن اس ـ ــتودعت آمالك وأحالمك‬
‫ضمير الزمن‪ ،‬ولكنك ذهبت لتعود وابتعدت لتقترب‪.‬‬
‫وحيــاة س ــعد اهلل ك ــانت سلس ــلة جهد وآالم ولكنها متج ــددة مع ذلك في كل حين‪،‬‬
‫ففي عـ ـ ـ ــام ‪ 1928‬انتخب نائب ـ ـ ـ ـاً في المجلس التأسيسي وعضـ ـ ـ ــواً في الكتلة الوطنية‬
‫وبــذل جهــداً لم يعــرف التعب والكلــل‪....‬ـ حــتى كــان جهــاد (‪ )36‬فقــاد النضــال بقــوة‬
‫وص ــبر على المك ــاره‪ ،‬واعتقل في عين دي ــوار‪ ،‬وما ع ــاد منها إال ليش ــترك في الوفد‬
‫السوري إلى باريس‪ ،‬ثم ليقوم بــدوره بتأســيس الــدور الوطــني‪ ،‬وانتخب للمـرة الثالثة‬
‫والرابعة وتـ ـ ـ ــألفت الحكومة الدسـ ـ ـ ــتورية الثانية المسـ ـ ـ ــتقلة حيث لعبت دوراً كبـ ـ ـ ــيراً‬
‫باستعادة التمثيل السياسي وبتسلم الصالحيات‪.‬‬
‫جه ــود جب ــارة ال ننكرها عليك يا (س ــعد) قد كنت لنا س ــعداً فعلى ي ــديك بل وفي‬
‫زمنك تم جالء الجي ـ ـ ــوش األجنبية عن البالد العربية الس ـ ـ ــورية‪ ،‬وس ـ ـ ــننت الق ـ ـ ــوانين‬
‫واألنظمة الــتي أحــدثت انقالبـاً خطــيراً في حياتها يتفق مع ما بلغت إليه وأدركته من‬
‫مكانة ومقام‪.‬‬
‫إيه يا سعد‪ ،‬كيف استطاع هذا الجسم البشري أن يساير نفسك الكبـيرة ويماشي‬
‫همتك العالية وفكرتك التي تميل إلى أن تجعل العالم بأجمعه عربياً؟‬
‫لقد طــرقت أبــواب العدالة الموصــدة وفتحتهــا‪ ،‬فجئت منها بقبس حق وإ نصــاف‬
‫أنرت به سبيل العرب‪.‬‬
‫ثلث ق ــرن جهـ ــاد متواصـ ــل‪ ،‬ثلث ق ــرن في نض ــال مس ــتمر‪ ،‬ثلث ق ــرن في بالء‬
‫طويل‪ ،‬وأخيراً نــاء الجسم الضــعيف‪ ،‬نــاء هــذا الهيكل المرهــق‪ ،‬بما تحمله النفس من‬
‫آمال وأحالم‪ ،‬فألح عليه المرض العضــال‪ ،‬ولكنه لم ينل حـتى الســاعة األخــيرة شــيئاً‬
‫من قوة إيمانه وصفاء نفسه‪.....‬ـ‬
‫وأخــيراً أغمض جفنيه لحظــة‪...‬ـ فــإذا بهما ال يرتفعــان بعــد‪ ،‬بل أخلــدا إلى هــذا‬
‫السكون الدائم هذا السكون األبدي‪....‬‬
‫وما كــاد الــبرق يمأل األجــواء بنبأ نعيــه‪ ،‬حــتى اضــطربت األفهــام وتلعثم اللســان‬
‫وتساءل الجميع‪ :‬أصحيح مات الجابري؟‬

‫ـ ‪ 169‬ـ‬
‫أال رحمك اهلل يا سعد‪ ،‬وأسكنك فسـيح جنانــه‪ ،‬فنم هانئـاً مطمئنـاً قرير العين‪ ،‬نم‬
‫آمناً مرتاحاً مبتهج الصدر‪ ،‬إن األمة العربية لتسعى إلى تنفيذ وصيتك الخالدة‪.‬‬
‫"وصـ ـ ـ ـ ـ ــيتي إليكم أيها السـ ـ ـ ـ ـ ــوريون المحافظة على اسـ ـ ـ ـ ـ ــتقالل البالد‪ ،‬والتمسك‬
‫بأهداب النظام الجمهوري الرشيد القائم فيها"‪.‬‬
‫وأخـ ــيراً ليس لنا نحن ش ـ ــعب س ـ ــورية إال أن نسـ ــتمد من معـ ــنى الفنـ ــاء عناصر‬
‫البقـاء‪ ،‬وأن نسـتمد معـنى ما يبقى من اإلنسـان‪ ،‬حسن عمله وإ خالص قلبه وسـعد اهلل‬
‫ال ــذي حقق الم ــدى األس ــمى (م ــدى اإلنس ــان) لـه أثر عميق في ض ــمير أمته وأخالق‬
‫شعبه‪ ،‬أثر ال يضاهيه أي أثر‪ ،‬ولكنه ترك الدنيا وغادرها بصمت نقي‪...‬ـ‬
‫سعد اهلل‪ .....‬في ضمير الشعوب العربية‪:‬‬
‫قالت مصر‪:‬‬
‫"هــذا هو الرجل الــذي لو أننا نزعنا إلى نضــاله النتزعنا من بــراثن الــدهر مجد‬
‫ماضينا ورفعنا إلى ذروة السماء أراضينا"‪.‬‬
‫وقال السيد مكرم عبيد رئيس الكتلة الوفدوية‪:‬‬
‫"ولعل عزائي بعض العزاء هو أن يسمح لي بتــأبين الفقيد العزيــز‪ ،‬وما الحــزن‬
‫الب ـ ــاكي على من م ـ ــات منا إال ض ـ ــريبة الم ـ ــوت علينا يتقاض ـ ــاها من نفوس ـ ــنا جزعـ ـ ـاً‬
‫ويس ـ ـ ـ ــتدرها من عيوننا دمعـ ـ ـ ـ ـاً‪ ،‬ولقد ك ـ ـ ـ ــان س ـ ـ ـ ــعد اهلل الج ـ ـ ـ ــابري هو ذلك الوط ـ ـ ـ ــني‬
‫النموذجي"‪.‬‬
‫وقال مصطفى النحاس‪:‬‬
‫"يقيني أن العظيم في وطنه وخلقه‪ ،‬النزيه في تصـرفاته وأعمالـه‪ ،‬ال يمـوت إال‬
‫الم ـ ــوت ال ـ ــذي اص ـ ــطلح عليه الن ـ ــاس‪ ،‬وهو النقلة من دار الغ ـ ــرور والفن ـ ــاء إلى دار‬
‫الصدق والبقاء‪ ،‬وهو بعد هذا خالد في قلوب األحياء ما بقيت الحياة"‪.‬‬
‫وقال محمد علي علوية باشا‪:‬‬
‫"إن األمم الحية لتجد في ذكـ ـ ــرى رجاالتها دروس ـ ـ ـاً مثمـ ـ ــرة يتناقلونها جيالً بعد‬
‫جي ــل‪ ،‬ك ــذا ف ــإن ال ــذكر الحسن للم ــرء عمر ث ــان‪ ،‬وكم للج ــابري من ذكر حس ــن‪ ،‬فهو‬
‫حي بيننا ما حي ذكراه باق ما بقي أثره"‪.‬‬
‫قال عباس محمود العقاد‪:‬‬
‫"إن الش ــاهد والغ ــائب يلتقي ــان في تعظيم الفقيد ال ــذي تش ــعر العروبة كلها بغيابه‬
‫ويبكي أبناؤها كلهم بمصابه"‪.‬‬

‫ـ ‪ 170‬ـ‬
‫ق ال منص ور فهمي في كلمة رئيس جمعية فـ ـ ـ ـ ـ ـ ــؤاد األول للهالل األحمر‬
‫المصري األهلية‪:‬‬
‫إن فضـ ـ ــائل الجـ ـ ــابري اتصـ ـ ــفت بالجد والصـ ـ ــالبة والتجشم في سـ ـ ــبيل الهـ ـ ــدف‬
‫الســامي وغــير ذلك من خالل تكــونت من الحيــاة السياســية ونضــالها وتبعاتهــا‪ ،‬وكلها‬
‫مما يعرض الجسم وهو أداة النفوس العالية للمرض واإلرهاق المضني الـذي يـذيب‬
‫الصحة والعافية‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق أحمد السنهوري‪:‬‬
‫"هو رجل من أكــبر رجــاالت العــرب‪ ،‬فقدته ســورية وفقــده العــرب وكــان فقــده‬
‫خسارة لن تعوض"‪.‬‬
‫وقال فاضل الجمالي‪:‬‬
‫"وجدته في جامعة ال ـ ــدول العربي ـ ــة‪ ،‬رجل العقي ـ ــدة والتض ـ ــحية والرج ـ ــاء‪ ،‬كما‬
‫وجدته رجل الشهامة والمروءة واإلباء‪ ،‬سعدت أمة تنجب أمثال الجابري"‪.‬‬
‫وقال دولة الرئيس المصري‪:‬‬
‫"كـ ــان لسـ ــعد اهلل الجـ ــابري القسط الـ ــوافر والنصـ ــيب الكبـ ــير في مراحل تطـ ــور‬
‫الجامعة العربيــة‪ ،‬ورفع صــرحها في ســبيل جمع شــمل العــرب والــدفاع عن حقــوقهم‬
‫وبلوغ أعز أمانيهم وأكرم آمالهم"‪.‬‬
‫وقال سامي الصلح‪:‬‬
‫"ك ــان لس ــورية‪ ،‬كما ك ــان للبن ــان والبالد العربي ــة‪ ،‬ع ــامالً بنص ميث ــاق الق ــاهرة‬
‫وروح ــه‪ ،‬وخاصة الم ــادة الثانية في توحيد االقتص ــاديات والنق ــد‪ ،‬وتم ــتين الص ــالت‬
‫بين الدول والشعوب العربية في الثقافة واالجتماع والمال"‪.‬‬
‫في كتـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب خط باللغة األرمنية تحت عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوان (حلب الحلم) لمؤلفه انترانيك‬
‫زاروكيان عام ‪ 1980‬يقول المؤلف‪:‬‬
‫"إن س ـ ــعد اهلل ك ـ ــان لـه وزنه في المحيط الع ـ ــربي‪ ،‬من الع ـ ــراق وح ـ ــتى مص ـ ــر‪،‬‬
‫وكان مهيئاً لحمل راية الوحدة العربية قبل عبد الناصر"‪.‬‬
‫وقال مصطفى النحاس‪:‬‬
‫"وقد لمست فيه وهو يعمل إلى ج ــانبي إلنش ــاء الجامعة العربية حيوية متدفق ــة‪،‬‬
‫وأم ــاني لخ ــير العروبة في نفس مش ــرقة‪ ،‬وكنت إذا رأيته على انف ــراد ألحدثه وأبين‬
‫وجهة نظ ـ ــري في ش ـ ــأن ما اض ـ ــطلعت به العروب ـ ــة‪ ،‬وج ـ ــدت فيه العضد والنص ـ ــير‪،‬‬
‫ورأيت فيه الرجل المؤمن بما يقول"‪.‬‬

‫ـ ‪ 171‬ـ‬
‫وقال وزير العدل العراقي نجيب الراوي‪:‬‬
‫"في الواقع إن حاجة وطننا العـ ـ ـ ـ ــربي األكـ ـ ـ ـ ــبر وكل وطن صـ ـ ـ ـ ــغير من هـ ـ ـ ـ ــذه‬
‫المجموعة العربية‪ ،‬تـزداد يومـاً بعد يـوم إلى مثل رجولة الجـابري وأخالقه وصـفاته‬
‫الوطنية البـ ـ ـ ـ ــاهرة‪ ....‬وإ نـ ـ ـ ـ ــني أتطلع إلى الشـ ـ ـ ـ ــباب العـ ـ ـ ـ ــربي وأتوسم ما يجيش في‬
‫صـ ــدورهم من اقتفـ ــاء أثر سـ ــعد اهلل الوطـ ــني‪ ،‬وقد عـ ــرفت مفخـ ــرة حلب في شـ ــبابي‪،‬‬
‫فـ ـ ــأعجبت بأخالقه وإ قدامه وسـ ـ ــلوكه السياسي القـ ـ ــويم وتـ ـ ــابعت كفاحه لالسـ ـ ــتعمار‪،‬‬
‫فأكبرته واحترمت ـ ــه‪ ،‬ثم ص ـ ــادقته عن ـ ــدما ك ـ ــان بيننا بعد أن أقص ـ ــته سياسة األجن ـ ــبي‬
‫الغاشم عن بلده وعشيرته‪ .‬إنـني أعــتز بصـداقته وأسـتفيد من تجاربه ومجلســه‪ ،‬فـوق‬
‫اح ـ ـ ــترامي لتاريخه الوط ـ ـ ــني‪ ،‬وال غ ـ ـ ــرو أن يش ـ ـ ــترك في ي ـ ـ ــوم س ـ ـ ــعد اهلل الع ـ ـ ــراقي‬
‫والحجـ ــازي والفلسـ ــطيني واللبنـ ــاني والمصـ ــري؟ ألن هـ ــذا الـ ــزعيم لم يكن لسـ ــورية‬
‫وحدها‪ ،‬بل كان للبالد العربية جمعاء"‪.‬‬
‫وقال عادل القضبان‪:‬‬

‫اب‬ ‫َل مص‬ ‫وتحملت فيه ثقي‬


‫ْ‬ ‫رب‬ ‫ُة يع‬ ‫عد اهلل أم‬ ‫فجعت لس‬
‫ْ‬
‫فكبا وراع الن اس نس ٌر ك اب‬ ‫ص رع ال ردى النس َر المحلق في العلى‬
‫وطن نم اه فع اش في الع ّزاب‬ ‫ذهب ال ذي وقف الحي اة على ه وى‬
‫رب اه ف اغمره بفيض ث واب‬ ‫رب اه فاش مل نفس عب دك بالرضى‬
‫وقالت العراق‪:‬‬
‫"كلما تــدبرنا رزء ســورية ببطلها المناضــل‪ ،‬هالنا خطبه وعـ ّـز علينا التأســي‪...‬‬
‫لفق ـ ــده‪ ،‬ألن بج ـ ــرأة س ـ ــعد اهلل وإ قدامه وص ـ ــراحته وتض ـ ــحيته‪ ،‬اس ـ ــتطعنا أن نس ـ ــترد‬
‫وتمكنا من السير بالقضية العربية خطوات إلى األمام"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫االستقالل من غاصبيه‪،‬‬
‫وقال توفيق باشا السويدي‪:‬‬
‫"ك ــان رحمه اهلل ال يس ــتطيع الس ــكوت عن الظلم فيث ــور‪ ،‬ك ــان يلبث ش ــهوراً في‬
‫المنافي الموحشة النائية مما أدى إلى اعتالل صــحته‪ ،‬والكل يعلم أن مــرض التشــمع‬
‫ال ـ ــذي أودى بحياته ك ـ ــان قد ب ـ ــدأ فيه من المنفى ومن حالة الحرم ـ ــان‪ ،‬ال ـ ــتي لم يألفها‬
‫وهو الذي تربى وترعرع وعاش في أوساط مرهفة"‪.‬‬
‫وقالت بغداد‪:‬‬

‫ـ ‪ 172‬ـ‬
‫"إن فقدان مثل هـذه الشخصـية المخلصة الكثـيرة اإلنتـاج لـدنيا العـرب‪ ،‬لخسـارة‬
‫عظمى ال تعـ ـ ــوض‪ ،‬وليس التعـ ـ ــويض عمن تفقـ ـ ــدهم البالد من زعمائها المجاهـ ـ ــدين‬
‫باألمر اليســير‪ ،‬فهم هبة علوية تســعد بهم األمم حينـاً من الــزمن‪ ،‬وال يجــود به الـدهر‬
‫في كل وقت"‪.‬‬
‫وقالت الموصل‪:‬‬
‫أن ال تقّر وفي الجزي رة أجن بي‬ ‫عاه دت س عد اهلل أم ُة يع رب‬
‫ح وض العروبة كاإلب اء الملتهب‬ ‫لك غض بة مض رية لل ذود عن‬
‫وكس بت الحمد فيه أطيب مكسب‬ ‫ورية عليك وفيته‬ ‫دين س‬
‫أس لفت إليه من عمل إليه مق ّرب‬ ‫ف اذهب لرض وان اهلل ج زاء ما‬

‫وقالت السعودية‪:‬‬
‫"حينما نبكي سـ ــعد اهلل فإنما نبكي فيه الشـ ــمم ومضـ ــاء العزيمة واإلقـ ــدام‪ :‬نبكي‬
‫قائـداً أقبل في طليعة الرعيل األول‪ ،‬يــذود عن حمى الــوطن الغــالي‪ ،‬فكــان علم جهــاد‬
‫ولواء نضـال‪ ،‬ضــحى على اسم أمته فأضــحى‪ ،‬ولقي في ســبيل اسـتقاللها وعزتها ما‬
‫لقي‪."...‬ـ‬
‫وقالت تونس‪:‬‬
‫"إن وقع الفجيعة في س ـ ـ ـ ـ ــعد اهلل على المغ ـ ـ ـ ـ ــرب‪ ،‬لم يكن أقل منه في س ـ ـ ـ ـ ــورية‬
‫والشـرق‪ ،‬العـربي‪ ،‬فقد كـان للمغــرب نصـيب كبــير من فكر سـعد اهلل وقلبه وجهــوده‪،‬‬
‫كأي بلد عربي مجاهد"‪.‬‬

‫وقال الحبيب بو رقيبة‪:‬‬


‫"نحن ن ـ ـ ــذكر حاجتنا إلى س ـ ـ ــعد اهلل ال ـ ـ ــذي ذهب ش ـ ـ ــبابه وكل مقدراته للقض ـ ـ ــية‬
‫العربية وكـ ــان في كل ميـ ــادين الكفـ ــاح في السـ ــجون والمنـ ــافي‪ ،‬في المجـ ــالس النيابية‬
‫ومناصب الوزارة في حياته الخاصة والعامة عنوان التضحية والحيوية واإليمان"‪.‬‬
‫وقالت فلسطين‪:‬‬
‫فلس ــطين ال ــتي ثكلت في س ــعد اهلل ابنـ ـاً من أبر أبنائه ــا‪ ،‬أرادت أن تقيم لـه الي ــوم‬
‫حفلة من ط ـ ــراز جدي ـ ــد‪ ...‬أنص ـ ــتوا إلى فلس ـ ــطين‪ ...‬أنص ـ ــتوا إلى أزيز الرص ـ ــاص‬
‫ودوي القنابل وهتافـ ــات المكـ ــبرين والمهللين في هجـ ــومهم على أعـ ــداء العروبـ ــة‪...‬‬

‫ـ ‪ 173‬ـ‬
‫كفى ســعد اهلل فخــراً أن نؤبنه بحفالت الــدم واالستشــهاد في ســبيل المبــدأ الــذي اعتنقه‬
‫هو‪ ،‬ومشى إلى النهاية وهو يحمل ويذود عن الحمى‪.‬ـ وسـالم على سـعد اهلل حيـاً في‬
‫الدنيا وحياً في اآلخرة‪.‬‬

‫ما قاله المخلصون‪:‬‬


‫ـ قال مظهر رسالن‪:‬‬
‫"نحن نبكي‪ ،‬وس ــتبكي األجي ــال س ــعد اهلل الج ــابري بال ــدموع وال ــدماء‪ ،‬ي ــوم ت ــرى فيه‬
‫الرجل الــذي ثبت على ه ــذه األرض غني ـاً كب ــيراً وم ــات فق ــيراً مع ــدماً‪ ،‬ال يملك ش ــيئاً‬
‫من زينة الحي ــاة ال ــدنيا ولم ي ــترك ش ــيئاً غ ــير ه ــذا ال ــتراث الض ــخم‪ ،‬غ ــير ه ــذا االسم‬
‫المحبب اسم سعد اهلل الجابري"‪.‬‬
‫ـ وقال السيد عبد المهدي (من األردن)‪:‬‬
‫"ما ك ـ ـ ــان الج ـ ـ ــابري فقيد قطر دون قطر آخ ـ ـ ــر‪ ،‬بل هو فقيد العروبة جمع ـ ـ ــاء‪،‬‬
‫عزاؤنا الغــالي أن نأخذ من وطنيته وقوميته المدعمة بــالعزة والشــمم نبراس ـاً نهتــدي‬
‫به ونســير على المنهج الــذي دأب عليه طــول حياتــه‪ ،‬فكــان من جــراء ذلك كما ســمي‬
‫بحق‪ :‬فقيد األمة والوطن"‪.‬‬
‫ـ وقالت الصحف بلسان نقيبها األستاذ نصوح بابيل‪:‬‬
‫إنصـ ـ ــافاً للحقيقة والتـ ـ ــاريخ‪ ،‬إنـ ـ ــني منذ أن عرفته كـ ـ ــان علم ـ ـ ـاً من أعالم الكتلة‬
‫الوطنية التي كان الشعب السـوري‪ ،‬ونحن منــه‪ ،‬ينضـوي تحت لوائهـا‪ ،‬إلى أن وافـاه‬
‫األجل المحتوم‪.‬‬
‫عرفته رجالً يتـوفر فيه العديد من مزايا الرجـال األفـذاد‪ ،‬وقد تـركت شخصـيته‬
‫ككل في نفسي أثراً حميداً‪ ،‬لم تغيره الظروف واألحــداث على اختالفهــا‪ .‬إن ســورية‬
‫عرفت سعد اهلل الجابري وطنياً متأصالً في صفوف الشعب ورئيساً لمجلس النواب‬
‫ورئيسـ ـ ـ ـ ـاً لمجلس الـ ـ ـ ــوزراء ورئيسـ ـ ـ ـ ـاً لمجلس الجامعة العربيـ ـ ـ ــة‪ ،‬ونائبـ ـ ـ ـ ـاً تحت قبة‬
‫البرلمـ ــان‪ .‬كما عرفته رجالً ال تتلـ ـ ّـون مزايـ ــاه وال تتغـ ــير صـ ــفاته فقد كـ ــان يـ ــزدري‬
‫المنــافقين ويكــره المــتزلفين ويحــترم الخصــوم الشــرفاء‪ ،‬عنيد في الــدفاع عن حقــوق‬
‫البالد‪.‬‬
‫من كفاءاته أنه ك ـ ـ ــان رئيسـ ـ ـ ـًا لمجلس الن ـ ـ ــواب‪ ،‬حقق التج ـ ـ ــانس المطل ـ ـ ــوب بين‬
‫ال حيـاً لرجل الدولة النزيه الــواعي‪:‬‬ ‫الرئاســات الثالث‪ ،‬وفي رئاسة الــوزراء كــان مثــا ً‬
‫وفي رئاسة الجامعة العربية أوجد لسـ ــورية مركـ ــزًا مرموق ـ ـًا بين أخواتها العربيـ ــات‪،‬‬

‫ـ ‪ 174‬ـ‬
‫ال برلماني ـاً يعي ما يقــول ويعــرف ما يعمــل‪ ،‬يحمل على‬
‫وفي نــدوة التشــريع كــان رج ً‬
‫خصومه بقوة وأدب ويتلقى هجماتهم بصبر وصدر رحب ال يتحرج‪.‬‬
‫وقال رفقاؤه السوريون‪:‬‬
‫في ه ــذه المرحلة الحاس ــمة من ت ــاريخ نض ــالنا الق ــومي نفقد س ــعد اهلل الج ــابري‬
‫ونش ــعر ب ــالفراغ العظيم ال ــذي خلّفه فق ــده‪ .‬ورث ــاه الش ــاعر األديب ب ــدر ال ــدين الحامد‬
‫بقصيدة مطلعها‪:‬‬
‫أم تلك دنيا طواها الم وت في جسد‬ ‫أنت في الق بر ال تل وى على أحد‬
‫مف رداُ قبل ه‪ ،‬ك الجيش في الع دد‬ ‫لو تس ألون فرنسا هل رأت رجالً‬
‫ح تى وردت‪ ،‬فقل بي الي وم غ ير صد‬ ‫ألم تقل لي قض يت العمر في ظم ٍأ‬
‫عن الس ماح ب روحي غ ير مبتعد‬ ‫واهلل يش هد أني في عال وط ني‬
‫زن ألوية في األرض والجلد‬ ‫للح‬ ‫مشت إليه بالد الش ام وانتش رت‬
‫يا أمة الع رب ه ذا الخطب فاحتش دي‬ ‫وعند ق بر هن انو ص اح ص ائحنا‬
‫أي بالعضد‬ ‫الزند رحب بعد الن‬ ‫هنا الرفيق ان في رمس يهما اجتمعا‬
‫ورثاه الشاعر عمر أبو ريشة‪:‬‬

‫اد‬ ‫اد لألمج‬ ‫أنت إرث األمج‬ ‫هيكل الخل ود ال ع دتك الع وادي‬
‫اد‬ ‫اجر العب‬
‫ُ‬ ‫عدتها حن‬ ‫ص‬ ‫وركت في ه واك ك ُّل ص الة‬
‫ْ‬ ‫ب‬
‫ادي‬ ‫واألسى مالك علي قي‬ ‫بر وقفت أرنو إليه‬ ‫أي ق‬
‫العز أفيضي على ص الة الح داد‬ ‫عداً هنا فيا مقلة‬ ‫إن س‬
‫اد‬ ‫ديهم على األكب‬ ‫بأي‬ ‫وانظ ري علية الرج ال يش دون‬
‫ادي‬ ‫عد وماله من أي‬ ‫س‬ ‫وتمر األجي ال س ائلة من ك ان‬
‫نج واك رؤى في مح اجر اآلب اد‬ ‫كب‬ ‫هيكل الخلد جئت اس‬
‫داد‬ ‫اء واألج‬ ‫اء اآلب‬ ‫كبري‬ ‫يئة تغفو‬ ‫في محاريبك الوض‬
‫اد‬ ‫اة وغ‬ ‫رائح في رؤى الحي‬ ‫ير طيف‬ ‫ما تبقى من أمسه غ‬
‫اد‬ ‫وأتى ربه على ميع‬ ‫حمل الج رح ص امتاً مطمئن اً‬

‫ـ ‪ 175‬ـ‬
‫من س الحين‪ ،‬نخ وة واعت داد‬ ‫زل إال‬ ‫ارع البغي وهو أع‬ ‫ق‬
‫اد‬ ‫وع ورقة في عن‬ ‫في خش‬ ‫اء‬ ‫وة في تواضع وإ ب‬ ‫زه‬
‫اد‬ ‫ال الرق‬ ‫در ما خي‬ ‫ولم ي‬ ‫رب ليل أق ام في غيهب الس جن‬
‫ادي‬ ‫تطلعاً جالء األع‬ ‫مس‬ ‫ماء‬ ‫وإ ذا ما انتهى إلى القمة الش‬
‫راد‬ ‫هى م‬ ‫رم حلم بها وأش‬ ‫أك‬ ‫ون على‬ ‫اء أن يطبق الجف‬ ‫ش‬
‫وق ــال كث ــيرون وكث ــيرون‪ ،‬وش ــهدوا بأنه ع ــاش وطنيـ ـاً مجاه ــداً‪ ،‬وم ــات مناضـ ـالً في‬
‫ساحة العمل القـومي‪ ،‬فكـان حقـاً على هـذا البلد العـربي السـوري أن يـذكره في حياته‬
‫ويرثيه بعد مماته كما يذكر ويرثي أبطاله الخالدين ورجاله العاملين‪.‬‬
‫وهكذا فقد ال ينسى أهالي هذا الوطن مآثره التي سجلت في كتـاب خالـد‪ ،‬كتـاب‬
‫كتبه الجــابري بأبجدية دمعه وعصــير حبه وشــغاف قلبه لوطنه حــراً كــان أم ســجيناً‬
‫حياً كان أم دفيناً‪.‬‬
‫واستطاعت معاناته الوطنية أن تمزق الحجب االستعمارية‪ ،‬والــتي بــرزت من‬
‫ورائها لوحة رائعة لسورية المستقلة رسم عليها صورة الكون‪.‬‬
‫والخالصة‪...‬ـ‬
‫كان الجابري من أبطال النهضة السورية‪ ،‬بطالً معــتزاً به من قبل الجميــع‪ ،‬إال‬
‫من نفس ــه‪ ،‬فما ك ــان للرجل الق ــانع برجولته أن يف ــاخر أو ح ــتى يش ــعر ببطولت ــه‪ ،‬ألنه‬
‫كان جزءاً من نسيج وجوده ولحمة حياته‪.‬‬
‫فـ ــني سـ ــعد اهلل الجـ ــابري وهو يحمل وهج الحبـ ــور لتحقيق حلمـ ــه‪ ،‬حلم الضـ ــياء‬
‫والنور حلم االستقالل والجالء‪.‬‬
‫فني وهو يصعد مدرج الحب الكبير حب وطنه الذي فاق لديه كل حب‪.‬‬
‫ف ـ ــني وهو يس ـ ــعى لتوحيد البالد العربي ـ ــة‪ ،‬وب ـ ــذا ب ـ ــدت معاناته الوطنية معان ـ ــاة‬
‫أصيلة المست روح اإلنسانية جمعاء‪.‬‬
‫واآلن‪ ...‬هل كرم ّناه؟ هل خلدناه‪...‬؟‬
‫الخلـود للعظمـاء‪ ...‬وخلـودهم في ذمة التـاريخ‪...‬ـ وسـعد اهلل الجـابري‪ ،‬ألم يكن‬
‫عظيماً في نفسه‪ ...‬في نضاله‪ ...‬في إخالصه؟ فماذا صنعنا من أجله؟‬
‫الحق يقـ ـ ــال‪ ،‬أن شـ ـ ــارعاً هـ ـ ــزيالً جانبي ـ ـ ـاً في دمشق وقـ ـ ــرب أوتيل (األوريـ ـ ــان‬
‫باالس) قد ُسمي باسمه‪...‬ـ‬

‫ـ ‪ 176‬ـ‬
‫كما ســميت ســاحة كبــيرة في مدينة حلب (مســقط رأســه) باسم "ســاحة ســعد اهلل‬
‫الجابري" ولكن‪ ...‬لم ُيقم فيها نصـبه‪ ...‬بعد أن اعتقد كل الحلبـيين أن النصب الـذي‬
‫سيقوم ليتوج الساحة هو نصب سعد اهلل‪.‬‬
‫خ ــابت آم ــالهم‪ ...‬وفوجئ ــوا بنصب آخر س ــمي بنصب "الش ــهداء" وال ــذي ك ــان‬
‫يمكن إقامته في مكان آخر‪.‬‬
‫وأقيم نصب س ـ ـ ــعد اهلل الج ـ ـ ــابري (وهو نصب ص ـ ـ ــغير ج ـ ـ ــداً) مقابل السـ ـ ــاحة‪،‬‬
‫ويفصله عنها شارع عام‪ ،‬والنصب بين أشجار بحيث ال يلفت النظر‪...‬ـ‬
‫وهكــذا لم يشــعر الحلــبيون قــط‪ ،‬ولم يشــاهد الحلــبيون كلهم‪ ،‬بــأن ســعد الجــابري‬
‫ال ـ ــذي خ ـ ــدم البالد العربية كلها وس ـ ــورية ال ـ ــتي ف ـ ــني في س ـ ــبيلها قد ك ـ ــوفئ‪...‬ـ أليس‬
‫الجزاء من جنس العمل؟‬
‫أقيم نصب (أبي العالء المعري) في مكـان بـارز جـداً في الحديقة العامـة‪ ،‬وهو‬
‫في الم ــدخل حيث يــراه الكبــير والصــغير‪ ...‬والمع ــري مســقط رأسه في المع ــرة ولم‬
‫يق ــدم لحلب بال ــذات من التض ــحيات ولم ِ‬
‫يقض عم ــره في الس ــجون‪ ،‬وك ــان تفتت كبد‬
‫س ــعد اهلل نتيجة رطوبة الس ــجون والع ــذاب والقهر النفس ــي‪ .‬أفليس الج ــزاء من جنس‬
‫العمل؟‬
‫ولكن‪...‬ـ‬
‫دا‬ ‫داً ووع‬ ‫وتحديته وعي‬ ‫ان في حالتيه‬ ‫لم يرعك الزم‬
‫ؤدى‬ ‫وفى‪ ،‬وحقُه ال ي‬
‫ّ‬ ‫ال ي‬ ‫عب‬ ‫إن دين العظيم في كل ش‬
‫لم يؤد الدين الذي منحه سعد اهلل للوطن‪ ...‬فأين يكمن تكريمه؟‬
‫إن تكريمه انبث في رائع الش ـ ــعر الع ـ ــربي الح ـ ــديث‪ ،‬حيث رث ـ ــاه أخ ـ ــوة لـه في‬
‫الوطني ـ ــة‪ ،‬وسـ ــيبقى هـ ــذا تكريمـ ـ ـاً يـ ــدخل الـ ــتراث العـ ــربي‪ ،‬بعد أن مضى عليه زمن‬
‫طويل‪ ،‬أي منذ عام التأبين الذي كان في عام ‪.1947‬‬
‫ومن أمهات القصائد التي كرمته‪ ،‬ودخلت في تـراث األدب العـربي قصـيدة األسـتاذ‬
‫بدوي الجبل الذي كانت تربطه بسعد اهلل الجابري أواصر حب وصداقة وتقدير‪.‬‬
‫وهذا ما قاله بدوي الجبل من قلب يقطر أسى‪...‬ـ كما يقطر فخراً وتخليداً‪:‬‬
‫ـ من كسع ِد ـ‬
‫قصيدة الشاعر بدوي الجبل‬
‫ـ محمد سليمان األحمد ـ‬

‫ـ ‪ 177‬ـ‬
‫أيها الص بح لن تش اهد س عدا‬ ‫س أل الص بح عن أخيه المف ّدى‬
‫ّدا‬ ‫رفياً حمى وزان مع‬ ‫مش‬ ‫ِ‬
‫يوف مع ٍّد‬ ‫دهر من س‬ ‫غيب ال‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫ك ان أمضى ش باً وأص فى فرن دا‬ ‫كلما عارض وا الص وارم فيه‬
‫***‬
‫دى‬ ‫باح ْين أه‬ ‫أي الص‬ ‫حاس نوا غ رةَ الص باح بس ٍ‬
‫َ‬ ‫فعلمنا ّ‬ ‫عد‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫وتغ زو القل وب ك براً ومج دا‬ ‫طلع ًة تف رح العي ون وتس بيها‬
‫ّوعن أقحوانا ووردا‪...‬‬ ‫تن‬ ‫روض‬ ‫ديث كأنه قطع ال‬ ‫وح‬
‫دعاب اً عفّ اً ويرض يك ج دا‬ ‫بدعة الظ رف واألناقة يرض يك‬
‫ريها والعي ون ت روى وتص دى‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫عد‬ ‫ِة س‬ ‫تنهل العين من بشاش‬
‫ف إذا س مته اله وان تب ّدى‬ ‫والحض ارات في ش مائل س ٍ‬
‫عد‬
‫ّدا‬ ‫اً وق‬ ‫اً وراع وجه‬ ‫زي‬
‫راع ّ‬ ‫ٍ‬
‫داد‬ ‫ٍة واعت‬ ‫ترف في رجول‬ ‫م‬
‫تبدا‬
‫ّ‬ ‫ادالً مس‬ ‫حب ذا الحكم ع‬ ‫ٌّ‬
‫تبد‬ ‫زعم الخصم أ ّنه مس‬
‫وأه ِون ب الظلم إن ك ان ف ردا‬ ‫اهير‬ ‫إن شر األمومة ظلم الجم‬
‫***‬
‫دا‬ ‫ال وزه‬ ‫درةً تتعب الخي‬ ‫ق‬ ‫واه‬ ‫باب ه‬ ‫ٍ‬
‫عد وللش‬ ‫كم كس‬
‫كأس ها ُم رةً وتس قيك ش هدا‬ ‫في األح زان تس قي البرايا‬
‫يا ص ّ‬
‫أريح اً على الش دائد جل دا‬ ‫ّ‬ ‫رض يت نفسك الهم وم رفيق اً‬
‫دى‬ ‫كهم أعطى قليالً وأك‬
‫ال ٍّ‬ ‫واداً‬ ‫اً ج‬ ‫الهم عبقري‬
‫ورك ّ‬ ‫ب‬
‫هدا‬
‫وس ْ‬
‫هم اً ُ‬
‫إن خلف األمج اد ّ‬ ‫ق‬
‫ْ‬ ‫قل لمن يحسد العظيم ترفّ‬
‫وتلقى ح ّد من اله ول ح ّدا‬ ‫ٍ‬
‫عد إذا المالحم ُج ّنت‬ ‫من كس‬
‫دارعين أش قر نه دا‬ ‫يقحم ال‬ ‫كمي‬
‫آم ٌّ‬ ‫وعلى راية الش‬
‫براثن وردا‬ ‫داً دامي ال‬ ‫أس‬ ‫هتك وا حرمة الع رين فه اجوا‬
‫يحشد الب أس والعقي دة جن دا‬ ‫عد‬
‫ٌ‬ ‫دهم وأقبل س‬ ‫دوا جن‬ ‫حش‬

‫ـ ‪ 178‬ـ‬
‫روع وه قص فاً وبرق اً ورع دا‬ ‫ض احك الثغر والض حى مكفه ٌّر‬
‫ما اتح دَّوا ب الموت إال تح ّدى‬ ‫ٍ‬
‫عد‬ ‫ان س‬ ‫والتقينا فال وإ يم‬
‫تردى‬
‫ّ‬ ‫راً ف‬ ‫داعى مزمج‬ ‫فت‬ ‫رب ًة ر ّنحته‬ ‫رب الظلم ض‬ ‫ض‬
‫ردا‬ ‫اً وط‬ ‫ان خزي‬ ‫جالء بل ك‬
‫ٌ‬ ‫ان‬ ‫جالء وما ك‬
‫ٌ‬ ‫وا أنه‬ ‫زعم‬
‫بدعة الع ار أن ت رى الح َّر عب دا‬ ‫ٌار‬ ‫َّود ع‬ ‫ما على العبد أن يس‬
‫جم رة الح رب عنفوان اً ووق دا‬ ‫دام‬ ‫ي احت‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫دّ‬ ‫عد وللن‬ ‫من كس‬
‫ردا‬ ‫الماً وب‬ ‫ردها حلمه س‬
‫ّ‬ ‫تعمرات‬
‫ٌ‬ ‫الجحيم مس‬ ‫حمم ك‬
‫بل حملت الج راح غ دراً وص ّدا‬ ‫اً‬ ‫داء ملح‬
‫راح ً‬ ‫ما حملت الج‬
‫ص ار في الن دوة الخص يم أل ّدا‬ ‫ديق‬ ‫وفي ص‬
‫ّ‬ ‫َّز في قلبك ال‬ ‫ح‬
‫***‬
‫عص ماء تحشد الب أس حش دا‬ ‫من يه ُّز الن َّ‬
‫دي بع دك بالخطبة‬
‫ّدا‬ ‫طفى وأع‬ ‫أحلى مما اص‬ ‫ب‬ ‫تغريه‬ ‫البديهة‬ ‫حاضر‬ ‫ملهم‬
‫ٌ‬
‫ب الآللئ يص وغ عق داً فعق داً‬ ‫ني‬
‫ٌّ‬ ‫ان غ‬ ‫م ترف الفكر والبي‬
‫ّدا‬ ‫فلما تملّك األمر ش‬ ‫يجمع الح َّ‬
‫ق والبي ان على الخصم‬
‫اد وأردى‬ ‫دمي ولكنه أب‬ ‫تُ‬ ‫ال‬ ‫العفيفة‬ ‫الطعنة‬ ‫يطعن‬
‫***‬
‫دا‬ ‫اء وحم‬ ‫اء للكبري‬ ‫وف‬ ‫ٍ‬
‫عد من الحقد‬ ‫ّرأ اهلل قلب س‬ ‫ب‬
‫ً‬
‫دا‬ ‫ّموه حق‬ ‫َّ‬
‫نكروا وجهه وس‬ ‫ُد أهله فهو ٌّ‬
‫ذل‬ ‫دع الحق‬ ‫خ‬
‫ون ووأدا‬ ‫اء عن العي‬
‫ً‬ ‫خف‬ ‫وبن ات الص دور يتعبها ال ذ ّل‬
‫وو ّدا‬
‫اء ُ‬
‫ً‬ ‫مو بها وف‬ ‫ويس‬ ‫والق وي النبيل يحنو على ال دنيا‬
‫دى‬ ‫ورواح لـه عليها ومغ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عد‬ ‫رؤوم لس‬ ‫ح ّنت الغوطة ال‬
‫وس قاها الن دى حنين اً ووج دا‬ ‫احين فيها‬ ‫اكر الري‬ ‫طالما ب‬

‫ـ ‪ 179‬ـ‬
‫ن ّورت في ال ُّربى أقاح اً ورن دا‬ ‫كوى‬ ‫ِك ش‬ ‫كا همه فيا ل‬ ‫وش‬
‫الزهر ي ذيع األحالم عط راً و َن ّدا‬ ‫ٍ‬
‫اف على‬ ‫ال لي والربيع غ‬ ‫ق‬
‫المعط ار يحنو على الظالل فتن دى‬ ‫ديان في الغوطة‬ ‫روب الن‬ ‫والغ‬
‫تردى‬ ‫رق ف‬ ‫وأغنية ت‬ ‫ان‬ ‫ياه ورعي‬ ‫وقطيع من الش‬
‫الش ام وأفجع ب الموت هج راً وفق دا‬ ‫اة في غوطة‬ ‫أحب الحي‬
‫ما ّ‬
‫درة اهلل ِوردا‬ ‫ويبقى بق‬ ‫ني‬ ‫تفه عي‬ ‫أي ورد للحسن تش‬
‫ُّ‬
‫من رآها عين اً وثغ راً وخ ّدا‬ ‫ذه الخمائل قبلي‬ ‫هل رأت ه‬
‫وبيان اً س محاً وفج راً من ّدى‬ ‫ديراً‬ ‫أعشق الحسن دوحة وغ‬
‫***‬
‫دا‬ ‫قام ورف‬ ‫اء من الس‬ ‫وحي‬ ‫ما رأى الس قم قبل س ٍ‬
‫عد حنان اً‬
‫ً‬
‫دا‬ ‫وراحت تبلى الهوي نى وتص‬ ‫كبقايا الس يف اطم أنت إلى الجفن‬
‫وال أعشق للش مس عنفوان اً ورأدا‬ ‫روب‬ ‫مس في الغ‬ ‫روعة الش‬
‫***‬
‫عدا‬ ‫ٍ‬
‫عد ال يبعد اهلل س‬ ‫ذكر س‬ ‫عر والك ريم ط روب‬ ‫ر ّنح الش َ‬
‫دى‬ ‫ح ّنة العيس باألغاريد تُح‬ ‫اني فح ّنت‬ ‫دونا به المع‬ ‫وح‬
‫وبع دا‬ ‫ما لس ٍ‬
‫من ف ؤادي ما ازداد هج راً ُ‬ ‫عد في الم وت ي زداد قرب اً‬
‫ًة من اهلل تُه دى‬ ‫رف ريحان‬
‫ّ‬ ‫الي‬ ‫رف طيفه في خي‬
‫وإ ذا ّ‬
‫ّدا‬ ‫وعلى الهجر ال أرى منك ُب‬ ‫أنت في خ اطري وعي ني وقل بي‬
‫ني تُف دى‬‫لك انت بن ور عي َّ‬ ‫ص َوٌر لو ين ال من حس نها الن ور‬
‫ُ‬
‫ردا‬
‫ون للطيف ّ‬ ‫لو تطيق الجف‬ ‫وأص ون الطي وف بين جف وني‬
‫دا‬ ‫يت عه‬ ‫اً وال تناس‬ ‫حبيب‬ ‫وفي فما خنت‬
‫ّ‬ ‫احب ال‬ ‫وأنا الص‬
‫***‬

‫ـ ‪ 180‬ـ‬
‫دا‬ ‫داً ووع‬ ‫ُه وعي‬ ‫وتحديتَ‬ ‫ان في حالَتيه‬ ‫لم يرعك الزم‬
‫إن ع ذر الك ريم أس مى وأج دا‬ ‫ذر‬ ‫اك بعض حقك فاع‬ ‫ما وفين‬
‫ؤدى‬
‫ّ‬ ‫وفّى وحقه ال ي‬ ‫ال ي‬ ‫ٍ‬
‫عب‬ ‫ش‬
‫إن َد ْين العظيم في كل َ‬
‫ن زوات النف وس ه دماً ونق دا‬ ‫وأرض وا‬
‫َ‬ ‫ش غل الن اس ب العظيم‬
‫الم وت بين األه واء والح ِِّ‬
‫ق ح ّدا‬ ‫ان‬ ‫دوه على المزايا فك‬ ‫حس‬
‫دا‬ ‫زاً ولح‬ ‫وه رم‬ ‫ربَّما أله‬ ‫حي‬
‫ٌّ‬ ‫وهو‬ ‫ينكرونه‬ ‫من‬ ‫إن‬
‫***‬
‫س فاهاً وهل عن الش يب مع دى‬ ‫الص يد‬
‫ّع يروا بالمش يب إخ واني ّ‬
‫غم رات العلى ش بوالً وأس دا‬ ‫أي ل ٍ‬
‫وم على الكه ول وخاض وا‬ ‫ُّ‬
‫وغفرنا ما ك ان س هواً وعم دا‬ ‫وا علينا‬ ‫ما ألبنائنا تج ّن‬
‫ردا‬ ‫لم نكن قبلهم غرانيق ُم‬ ‫يب كأ ّنا‬ ‫أنكرونا على المش‬
‫ّدا‬ ‫ثم غ الوا بها حس اباً وع‬ ‫حاس بونا على هن ات المع الي‬
‫وزحمنا الص عاب غ وراً ونج دا‬ ‫الثنايا‬ ‫طلعنا‬ ‫روادكم‬
‫ّ‬ ‫نحن‬
‫دا‬ ‫اء و ُخل‬
‫ً‬ ‫لن نملّى به بق‬ ‫أ ّنا‬ ‫ونعلم‬ ‫لكم‬ ‫وبنينا‬
‫مج دا‬
‫بالرضى والحن ان ركب اً ّ‬ ‫ازل المقيم تعهد‬ ‫أيها الن‬
‫***‬
‫اء ورش دا‬
‫الس دَّة يمن اً وكبري ً‬
‫في ُ‬ ‫رقت‬ ‫كري العظيم أش‬ ‫قل لش‬
‫اء وجه دا‬
‫ويلقى الب اني عن ً‬ ‫تبنيها‬ ‫الفتية‬ ‫الدولة‬ ‫أبا‬ ‫يا‬
‫إن حض نت اس تقاللها وهو في المهد فما اخت ارت غ ير نعم اك مه دا‬
‫ّدا‬ ‫األش‬
‫اك ُ‬ ‫بلغ الطفل في حم‬ ‫اً‬ ‫ثرة عليه ووهن‬ ‫ال تخف ع‬
‫ملك وا الع المين روم اً وهن دا‬ ‫يا وريث الش موس من عبد ش ٍ‬
‫مس‬
‫وبعض الفت وح َغ رثَى ِعب دَّى‬
‫(‪)1‬‬
‫هن المل و ُك من الع ّز‬
‫بفت وح ّ‬

‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫عبيد‪.‬‬

‫ـ ‪ 181‬ـ‬
‫وردا‬ ‫دس ويتلو اإلنجيل ورداً ف‬ ‫دس من يحج إلى الق‬
‫ُ‬ ‫لم الق‬ ‫أس‬
‫دا‬ ‫ع نج‬
‫أرو َ‬
‫تين َ‬ ‫ُأر على الغوط‬ ‫نبه الث‬
‫اموا عنها فقد ّ‬ ‫إن ين‬
‫دا‬ ‫ذراء وغ‬ ‫وأرادوا لكل ع‬ ‫س َبوها‬
‫ُم ُدن الق دس كالع ذارى َ‬
‫رداً ف بردا‬ ‫ش فوف الحرير ُب‬ ‫كالس بايا لطمن خ ّداً وم ّزقن‬
‫(‪)1‬‬
‫تبدا‬ ‫ونخاسه طغى واس‬ ‫ضج سوق الرقيق في ُندوة القوم‬
‫َّ‬
‫ع ّريت للعي ون نح راً ونه دا‬ ‫يعرضون الشعوب ع رض الج واري‬
‫دا‬ ‫ّر نه‬ ‫دون للش‬ ‫ُب ُهم ينه‬ ‫غ يرةَ اهلل! أين ق ومي وعه دي‬
‫دا‬ ‫وارم هن‬ ‫والي واحببنا لهندية الص‬ ‫ّد للع‬ ‫نعشق الق‬
‫ّدا‬ ‫ّدا فج‬ ‫اء ج‬ ‫في ثراها اآلب‬ ‫وم دف ّنا‬ ‫وز ي‬ ‫ودف ّنا الكن‬
‫دا‬ ‫الً وغم‬ ‫روع نص‬ ‫يف المحلّى ي‬ ‫أخ لك كالس‬
‫رضي اهلل عن ٍ‬
‫وهب ال دهر غالي اً واس تردا‬ ‫الي‬ ‫وم اللي‬ ‫عد وال أل‬
‫ٌ‬ ‫أين س‬
‫إن بكى الس يف ح ّده ما تع دى‬ ‫ٍ‬
‫عد‬ ‫دع إذا بكيت لس‬
‫ٍ‬ ‫أي ب‬
‫ُّ‬
‫ّدى‬ ‫وحيا وف‬
‫ًة ّ‬ ‫لبكى رحم‬ ‫لو رأى ه ذه ال دموع الغ والي‬
‫ياء يه دي القل وب فته دى‬ ‫عد عن العي ون وما غ اب ض ً‬
‫غ اب س ٌ‬
‫ث ورة الح ِّّ‬
‫ق أن تَقَ َّر وته دا‬ ‫ث ورة في الحي اة والم وت جلّت‬

‫السجن‪ ...‬كان قدره‬


‫أبى إال أن يتخذ من السجن بيتاً آوياً وحانياً‪...‬ـ‬
‫ولد سعد اهلل الجابري‬ ‫‪ 1894‬ـ‬
‫مرحلة الدراسة في تركيا‬ ‫‪ 1910‬ـ‬
‫خدم في الجيش التركي‬ ‫‪ 1914‬ـ‬
‫عاد إلى سورية‬ ‫‪ 1918‬ـ‬
‫مع هنانو في النضال‬ ‫‪ 1920‬ـ‬
‫زج في السجن‬ ‫‪ 1921‬ـ‬
‫محاكمة هنانو ودفاع سعد اهلل‬ ‫‪ 1922‬ـ‬
‫(?)‬ ‫‪1‬‬
‫جمعية األمم‪.‬‬

‫ـ ‪ 182‬ـ‬
‫مقابلة سعد اهلل للملك حسين بن علي‬ ‫ـ‬ ‫‪1924‬‬
‫نفي إلى الحسكة مع فارس الخوري وحسني البرازي‬ ‫ـ‬ ‫‪1926‬‬
‫نفي إلى حصرون ـ لبنان‬ ‫ـ‬ ‫‪1927‬‬
‫نفي إلى جزيرة أرواد‬ ‫ـ‬ ‫‪1929‬‬
‫اعتقل بعد أن حوصرت داره‬ ‫ـ‬ ‫‪1932‬‬
‫أوقف أثر زيارة الشيخ تاج إلى حلب‬ ‫ـ‬ ‫‪1934‬‬
‫ُأدخل السجن في ‪18/11/1934‬‬ ‫ـ‬ ‫‪1934‬‬
‫ال زال في السجن‬ ‫ـ‬ ‫‪1935‬‬
‫قبض عليه ونفي إلى عين ديوار‬ ‫ـ‬ ‫‪1936‬‬
‫لجأ إلى العراق‬ ‫ـ‬ ‫‪1937‬‬
‫نفي إلى ريفون ـ لبنان‬ ‫ـ‬ ‫‪1939‬‬
‫ذهب إلى العراق كالجئ سياسي‬ ‫ـ‬ ‫‪1939‬‬
‫ُحوصر وهو في فندق الشرق ـ ذهب إلى حيفا‬ ‫ـ‬ ‫‪1945‬‬
‫ُحوصر ثانية في فنــدق أوريــان بــاالس ـ ـ ســاعده الســفير الروسي في‬ ‫ـ‬ ‫‪1945‬‬
‫نقله إلى بيروت‬
‫‪ 20‬حزيراسن مات الجابري‬ ‫‪ 1947‬ـ‬

‫ـ ‪ 183‬ـ‬
‫المصادر التي اعتمدتها‬
‫* تمتاز اليوميات السياسية عادة‪ ،‬بأنها ذات ثقة كبــيرة‪ ،‬ألنها ترصد الحــوادث‬
‫وتس ـ ــجلها يومـ ـ ـاً بي ـ ــوم‪ ،‬دون أن يخالطها خي ـ ــال يسد ثغ ـ ــرات النس ـ ــيان‪ ،‬فيبع ـ ــدها عن‬
‫واقعها أو يلّون حوادثها‪.‬‬
‫وقد اســتطعت أن أحصل على يوميــات ســعد اهلل الجــابري لعــام واحد فقــط‪ ،‬هو‬
‫عــام ‪ /1924/‬حيث كــانت القضــايا السياســية والخرائط االســتراتيجية ترسم وتجهز‬
‫في مطابخ االستعمار‪...‬‬
‫وحـ ـ ــاولت أن أحصل على يوميـ ـ ــات السـ ـ ــنين األخـ ـ ــرى‪ ،‬ولكن ويا لألسـ ـ ــف‪ ،‬لم‬
‫أتمكن فقد أودعت عند بعض مسـ ـ ــؤولي (جريـ ـ ــدة النهـ ـ ــار اللبنانيـ ـ ــة) إلصـ ـ ــدار ملف‬
‫خــاص عن ســعد اهلل الجــابري‪ ،‬ولكنها ضــاعت مع ضــياع لبنــان وحرائقه وخرابــه‪،‬‬
‫ولو كنت أملك ما خطت ي ـ ـ ــداه عن األع ـ ـ ــوام األخ ـ ـ ــرى‪ ،‬لج ـ ـ ــاءت الدراسة كنس ـ ـ ــخة‬
‫فوتوغرافية لواقع ُمعـ ــاش غـ ــني باألحـ ــداث الهامة وذات الـ ــرؤى المسـ ــتقبلية‪ ،‬والـ ــتي‬
‫رسمت تاريخ سورية في مداه البعيد‪.‬‬
‫واليوميـ ــات (اليتيمـ ــة) ‪ 1924‬ـ ـ ـ كـ ــانت مألى بالصـ ــور الناطقة واأللـ ــوان الـ ــتي‬
‫وصــفت تيــارات متموجــة‪ ،‬وقد جســدت فكر ساسة ومفكــرين حكمــوا وقــادوا وكــانت‬
‫صياغة سعد اهلل لهـذه (اليوميـات) تعتـبر ضـبطاً وتفنينـاً ألفكـاره في القضـية الوطنية‬
‫والعربية والتي وضعت في التطبيق والممارسة! وكانت هي المعيــار الحقيقي الــذي‬
‫يتح ــاكم إليه المجتم ــع‪ ،‬وهو ن ــابع من موقع المس ــؤولية الوجدانية والتط ــبيق العلمي‪.‬‬
‫ومن هنا تــأتي هــذه الوثــائق (شــهادة) للفكر الوطــني والوجــدان اإلنســاني الــذي عاشه‬
‫سعد اهلل في سماء الفكر والحضارة والتاريخ‪.‬‬
‫* وقد اعتمدت كــذلك على أسس ثابتة على قــدر اإلمكــان‪،‬ـ وهي أوراق خاصة‬
‫بس ــعد اهلل ك ــانت مودعة ل ــدى أقربائ ــه‪ ،‬كما اعتم ــدت على بعض األح ــاديث الش ــفهية‬
‫التي فاضت من فم صادق ولسان وطني دافئ‪.‬‬
‫ومما يؤسف لـه أنـ ـ ــني لم أسـ ـ ــتطع ـ ـ ـ ـ رغم كل محاولة جـ ـ ــادة ـ ـ ـ ـ أن أحصل على‬
‫محاضر جلسـ ـ ــات المجلس النيـ ـ ــابي حيث سـ ـ ــجلت آراء ومواقف سـ ـ ــعد اهلل‪ ،‬وخطبه‬
‫الكاملة وتصــريحاته السياســية‪ ،‬ولما تــوجهت إلى البحث عن الجريــدة الرســمية الــتي‬
‫تنشر عـ ـ ــادة محاضر جلس ـ ــات المجلس النيـ ـ ــابي كـ ـ ــانت صـ ـ ــعوبات جمة تنتصب في‬

‫ـ ‪ 184‬ـ‬
‫وجهي‪ ،‬ومن بعض المسؤولين؛ والسبب في نظرهم بعد المدى وطــول الــزمن الــذي‬
‫تجاوز أكثر من نصف قرن‪.‬‬
‫وإ ذا ج ـ ــاء ال ـ ــزمن‪ ،‬وحص ـ ــلت على ه ـ ــذه المحاض ـ ــر‪ ،‬فس ـ ــوف ألحقها بالكت ـ ــاب‬
‫المذكور وسوف أسعى مخلصة لذلك‪...‬ـ وعلى اهلل التوفيق‪...‬‬
‫أما مراجعي من الكتب فهي‪:‬‬
‫د‪ .‬عبد الرحمن الكيالي‬ ‫‪ 1‬ـ المراحل‪.‬‬
‫الجندي‬ ‫‪ 2‬ـ ذكرى تأبين سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫نصوح بابيل‬ ‫‪ 3‬ـ صحافة وسياسة سورية في القرن العشرين‪.‬‬
‫إصدار جريدة األيام الدمشقية‬ ‫‪ 4‬ـ الوثائق والمعاهدات في بالد العرب‪.‬‬
‫د‪ .‬صالح زهر الدين‬ ‫‪ 5‬ـ اليهود في تركيا‪.‬‬
‫سعد اهلل الجابري‬ ‫‪ 6‬ـ يوميات سعد اهلل الجابري‪.‬‬
‫سلمى مردم بك‬ ‫‪ 7‬ـ أوراق جميل مردم بك‪.‬‬
‫باتريك سيل‬ ‫‪ 8‬ـ الصراع على سورية (باإلنكليزية)‪.‬‬
‫‪Patric Seal‬‬ ‫‪The Struggle of Syria‬‬
‫باتريك سيل‬ ‫‪ 9‬ـ البالد العربية‪.‬‬
‫‪Patric Seal‬‬ ‫‪The Arab Countries‬‬

‫ـ ‪ 185‬ـ‬
‫أسماء األعالم كما وردت‬
‫محمد علي علوية باشا‬ ‫سعد اهلل الجابري‬
‫رشيد الحاج إبراهيم‬ ‫عبد القادر لطفي الجابري‬
‫جمال باشا السفاح‬ ‫سنى مالك‬ ‫السيدة ُح ْ‬
‫عمر أبو ريشة‬ ‫بدر الدين حامد‬
‫خير الدين الزركلي‬ ‫عادل غضبان‬
‫مصطفى النحاس‬ ‫فاخر الجابري‬
‫الشيخ أحمد رضا‬ ‫عبد الحميد الجابري‬
‫ماكيا فيلي‬ ‫أرمينوس فامييري‬
‫شفيق مؤيد العظم‬ ‫عبد الحميد الثاني‬
‫نصوح بابيل‬ ‫تيودور هرتزل‬
‫طلعت باشا التركي‬ ‫نسيم روسو‬
‫الملك فيصل بن الحسين‬ ‫نسيم مازلياح‬
‫الشريف حسين بن علي‬ ‫انترانيك زاروكيان‬
‫مكماهون‬ ‫صالح زهر الدين‬
‫سايكس‬ ‫توفيق السويدي‬
‫بيكو‬ ‫إحسان الجابري‬
‫محمود البارودي‬ ‫شكري القوتلي‬
‫فارس خوري‬ ‫فخري البارودي‬
‫ساطع الحصري‬ ‫شكري األيوبي‬
‫جورج رزق اهلل‬ ‫الجنرال بياباب‬
‫صبحي بركات‬ ‫الشيخ صالح العلي‬
‫أوجين يونغ‬ ‫إبراهيم هنانو‬
‫دو جو فنيل‬ ‫البيطار‬
‫يوسف العظمة‬ ‫يوسف العظمة‬
‫اللورد كرزون‬ ‫الرئيس ويلسون‬
‫الكولونيل توال‬ ‫كراين‬
‫نوري السعيد‬ ‫كينغ‬
‫تحسين قدري‬ ‫كليمنصو‬
‫الجنرال دو الموت‬ ‫غورو‬

‫ـ ‪ 186‬ـ‬
‫كامل القدسي‬ ‫هربرت صموئيل‬
‫جميل األلشي‬ ‫أحمد قدري‬
‫ارستيد بريان‬ ‫لويد جورج‬
‫عبد اهلل بن الحسين‬ ‫ميللران‬
‫بويون‬
‫فرانكلين ّ‬ ‫اللورد اللبني‬
‫بلفور‬ ‫هاشم أتاسي‬
‫شكيب أرسالن‬ ‫رضا الصلح‬
‫الجنرال ويغاند‬ ‫عبد الرحمن شهبندر‬
‫زكريا هارون‬ ‫الجنرال ساراي‬
‫صالح الجابري‬ ‫صبري فرح‬
‫الزعيم الهندي علي شوكت‬ ‫عبد القادر جزماتي‬
‫الشيخ عبد القادر سرميني‬ ‫كوزم‬
‫سامي الفاخوري‬ ‫حسني البرازي‬
‫فطين أرسالن‬ ‫أحمد الزرقا‬
‫عزت الجندي‬ ‫نجيب الريس‬
‫إبراهيم هاشم‬ ‫عبد الحميد كرامي‬
‫أمين الحسيني‬ ‫شكري الجندي‬
‫تاج الدين الحسيني‬ ‫شكيب أرسالن‬
‫أحمد الرفاعي‬ ‫ابن المدرس‬
‫منير العمادي‬ ‫عبد الرحمن كيالي‬
‫ربيع المنقاري‬ ‫ادمون حمصي‬
‫طاهر الكيالي‬ ‫ميخائيل ليان‬
‫مرعي المالح‬ ‫سليم جنبرت‬
‫سلطان باشا األطرش‬ ‫اميل اده‬
‫الجنرال ميشو‬ ‫اليازجي‬
‫فوزي القاوقجي‬ ‫الجندي‬
‫مظهر السباعي‬ ‫خليل مطران‬
‫منير الريس‬ ‫توفيق هارون‬
‫عبد القادر العظم‬ ‫الجنرال أندريا‬
‫رشيد مدرس‬ ‫أحمد نامي‬
‫شكيب ميسر‬ ‫لطفي الحفار‬
‫كوليه‬ ‫فوزي الغزي‬
‫كاترو‬ ‫بيير تانجة‬

‫ـ ‪ 187‬ـ‬
‫سعيد حيدر‬ ‫هنري بونسو‬
‫فاتح مرعشي‬ ‫جورج فوشيه‬
‫بدر الدين الحسيني‬ ‫واثق المؤيد‬
‫سعيد محاسن‬ ‫يوسف الحكيم‬
‫محمد كرد علي‬ ‫عبد اللطيف بيسار‬
‫صبحي النيال‬ ‫عبد الرحمن بيهم‬
‫توفيق شاميه‬ ‫عبد القادر كيالني‬
‫شكري العسلي‬ ‫نجيب البرازي‬
‫سولومياك‬ ‫يوسف عيسى‬
‫روبير دوكي‬ ‫سعيد الجزائري‬
‫حقي العظم‬ ‫عفيف الصلح‬
‫مصطفى برمدا‬ ‫إحسان الشريف‬
‫رضا سعيد‬ ‫عارف الحسن‬
‫إبراهيم مؤمن‬ ‫عبد اهلل اليافي‬
‫عارف الحلبوني‬ ‫شاكر حنبلي‬
‫أحمد كوسا‬ ‫السيد همفري‬
‫صبري كوسا‬ ‫جميل إبراهيم باشا‬
‫ناظم القدسي‬ ‫حسن فؤاد إبراهيم باشا‬
‫توفيق شامية‬ ‫راشد مرعشي‬
‫مصطفى شبارق‬ ‫محمد علي العابد‬
‫علي سيرجيه‬ ‫شكيب الجابري‬
‫المسيو موغان‬ ‫شكري الجابري‬
‫الرئيس برتران‬ ‫توفيق شيشكلي‬
‫الياس بليط‬ ‫شاكر شعباني‬
‫سبينر‬ ‫سليمان جوخدار‬
‫ايتان هندية‬ ‫محمد أضه لي‬
‫جوزيف دادور‬ ‫لطيف غنيمة‬
‫كميل أجقباش‬ ‫الكونت دو مارتيل‬
‫محمد محايري‬ ‫جميل مردم‬
‫مقيم الجابري‬ ‫مظهر رسالن‬
‫عزت هنانو‬ ‫أحمد الشهابي‬
‫غالب عياشي‬ ‫الملك ابن السعود‬
‫عادل صواف‬ ‫اإلمام يحيى‬

‫ـ ‪ 188‬ـ‬
‫رشيد رستم‬ ‫هنري هندية‬
‫منير العمادي‬ ‫عطا اهلل األيوبي‬
‫عبود قنباز‬ ‫ظافر سرميني‬
‫غابريل ّبيو‬ ‫عادل سياف‬
‫نادر الساطي‬ ‫عمر ظبيط‬
‫مسيو دريك‬ ‫شاكر حاضري‬
‫هراج يابازيان‬ ‫وحيد العمادي‬
‫أنور حاتم‬ ‫زاهد سواح‬
‫جورج بونيه‬ ‫جميل غازي‬
‫سراج أوغلو‬ ‫ناصح مقيد‬
‫نصوح البخاري‬ ‫صبحي زلط‬
‫بهيج الخطيب‬ ‫قاسم جنيد‬
‫خليل رفعت‬ ‫يوسف يزبك‬
‫نسيب البكري‬ ‫سعد الدين الجابري‬
‫كويتو‬ ‫بيير آليب‬
‫ما سيفلي‬ ‫نعيم انطاكي‬
‫نجيب الراوي‬ ‫أحمد اللحام‬
‫رشيد عالي الكيالني‬ ‫مصطفى الشهابي‬
‫غندور‬ ‫حسن عبد العال‬
‫حسين الخطيب‬ ‫ادمون حمصي‬
‫عصاصة‬ ‫الكويت بيرون‬
‫الجنرال ديغول‬ ‫المسيو لونوفيه‬
‫سبيرس‬ ‫الجنرال دانتز‬
‫الجنرال هولز‬ ‫خالد العظم‬
‫جميل شهاب‬ ‫حسن الحكيم‬
‫نيفيكوف‬ ‫األمير عبد اهلل‬
‫الرفيق مولوتوف‬ ‫السيد ايدن‬
‫السفير سولور‬ ‫مطران حماه اغناطيوس‬
‫كميل شمعون‬ ‫فائز الخوري‬
‫وحيد دويدري‬ ‫الملك جورج السادس‬
‫أرنست التونيان‬ ‫نجيب أرمنازي‬
‫ترفس آلن شوان‬ ‫حيدر الركابي‬
‫البطريرك ألكسي‬ ‫رياض الصلح‬

‫ـ ‪ 189‬ـ‬
‫إدوار غريغ‬ ‫سليم تقال‬
‫حمدي الباجة جي‬ ‫السيد شاتينيو‬
‫تشرشل‬ ‫الملك فاروق‬
‫الجنرال باجيت‬ ‫مصطفى باشا النحاس‬
‫جوزيف غرو‬ ‫اللورد موين‬
‫نبيه العظمة‬ ‫الكونت استروروغ‬
‫ادمون حمصي‬ ‫أوليفا ـ روجيه‬
‫أحمد الشراباتي‬ ‫المسيو لودوك‬
‫ميخائيل ليان‬ ‫الجنرال بينه‬
‫الحبيب بو رقيبة‬
‫زوجة سعد زغلول‬
‫هدى شعراوي‬
‫د‪ .‬نقيب الباشا‬
‫مجد الدين الجابري‬
‫الملك عبد العزيز آل سعود‬
‫رياض الجابري‬
‫مكرم عبيد‬
‫عباس محمود العقاد‬
‫عبد الرزاق السنهوري‬
‫منصور فهمي‬
‫فاضل الجمالي‬
‫سامي الصلح‬
‫أبو العالء المعري‬
‫بدوي الجبل‬

‫ـ ‪ 190‬ـ‬
‫المحتويات‬
‫الصفحة‬ ‫العنوان‬
‫المقدمة ‪5.........................................................................................................‬‬
‫كيف أرسم صورة الجابري؟ ‪9................................................................................‬‬
‫من هو الجابري‪...‬؟ ‪10........................................................................................‬‬
‫المناخ األسري ‪10..............................................................................................‬‬
‫المناخ االجتماعي ‪12...........................................................................................‬‬
‫المناخ السياسي ‪13..............................................................................................‬‬
‫دراسته ‪14.......................................................................................................‬‬
‫صفاته الشخصية ‪15............................................................................................‬‬
‫أخالق السياسة ‪20..............................................................................................‬‬
‫جهاد التحرر‪....‬عام بعد عام‪21.......................................................................... ....‬‬
‫فصل سورية عن لبنان ‪45.....................................................................................‬‬
‫ميثاق الكتلة الوطنية ‪73........................................................................................‬‬
‫المبادئ العامة ‪73...............................................................................................‬‬
‫التشكيالت ‪73...................................................................................................‬‬
‫المكتب الدائم ‪74................................................................................................‬‬
‫أعمال المكتب الدائم ‪74........................................................................................‬‬
‫مجلس الكتلة الوطنية ‪75.......................................................................................‬‬
‫المؤتمر العام ‪76................................................................................................‬‬
‫سعد هللا الجابري‪ ،‬في وزارة الداخلية ‪101..................................................................‬‬
‫النضال الداخلي ‪104...........................................................................................‬‬
‫سعد هللا في وزارة الخارجية ‪104............................................................................‬‬
‫في رئاسة الوزارة ‪106........................................................................................‬‬

‫الصفحة‬ ‫العنوان‬
‫البيان المشترك ‪131............................................................................................‬‬
‫مرضه ‪166......................................................................................................‬‬
‫وفاته ‪167........................................................................................................‬‬
‫تشييع الجابري ‪169............................................................................................‬‬
‫تنكيس األعالم‪ ....‬الحزن الشامل‪169.................................................................... ...‬‬
‫التأبين ‪169......................................................................................................‬‬
‫ما قاله المخلصون ‪176........................................................................................‬‬
‫السجن‪ ...‬كان قدره ‪185.......................................................................................‬‬
‫المصادر التي اعتمدتها ‪186..................................................................................‬‬
‫أسماء األعالم كما وردت ‪188................................................................................‬‬

‫ـ ‪ 191‬ـ‬

You might also like