Professional Documents
Culture Documents
هذا التباين بين المشهدين يدعو إلى التوقف والتأم ل قليالً ،وي دفع إلى جول ة من البحث والمطالع ة ،لنكتش ف ّ
أن ال دول ال تي
وأن العقل البش ري إنّم ا ه و ص ندوق
امتلكت العلم والمعرفة بلغت ح ّد القدرة على إدارة الفهم اإلنساني والتّحكم به عن بعدّ ،
إن ه ذه العق ول س تكون تحتللعلم والمعرفة ،فإذا ما أدخلت معلومات وحذفت أخرى ،واستم ّرت هذه العمليّة لفترة معينة ،ف ّ
. السيطرة
تخص ص علم ّي ن ادر يج ري توظيف ه لص ناعة الجه ل ونش ره بط رق علميّ ة عالي ة الدقّ ة .إنّ ه "علم الجهل
ّ "إن ه
ّ
وهي م ا " "ontologyوهي كلم ة يونانيّ ة تع ني الجه ل ،وكلمة "agnosis"،وهذه الكلمة مشتقة من Agnotology)).
.يعرف بعلم الوجود
والجهل بطبيعته نوعان؛ األول هو الجهل الذاتي ،وهو ما ينتجه اإلنس ان بنفس ه .أ ّم ا الن وع اآلخ ر ،وه و م دار بحثن ا ،فه و
الجهل الصناعي ،أو علم صناعة الجهل ،أو ما يطل ق علي ه "علم الجه ل" ،إذ يت ّم نش ره بأح دث الط رق والوس ائل العلميّ ة،
ليكون بضاعة مصنّعة ،ونتاجا ً لبرامج وبحوث ودراس ات علميّ ة ،تُح وّل إلى س لعة وتع رض وتس وّق في مت اجر السياس ة،
. ليكون المستهلك قطاعا ً واسعا ً من المجتمع ،ال يفقه خطورة البضاعة وحجم الكارثة التي ستح ّل به
لقد بدأت فكرة "علم الجهل" تظهر إلى العيان في العام ،1922بعد أن نشرت إحدى شركات تص نيع الس جائر م ذ ّكرة تق ول
ك هو وسيلتنا الفضلى لمواجهة الحقائق التي تسكن عقول الجمهور ،وهو أيضا ً وسيلة إلثارة البلبلة" ،فبدأ الم ؤرخ
فيها" :الش ّ
في جامعة ستانفورد ،روبرت بروكتر ،بدراسة مكثّفة عن سبب نشر البلبة والتشويش ،وتق ّدم بالسؤالين التاليين :كيف ولم اذا
"ال نعرف ما ال نعرف"؟
قال بروكتور" :كنت أعكف على استكشاف كيفية نشر الشركات الكبيرة والقوية للجه ل من أج ل بي ع منتجاته ا .الجه ل ق وة
ّ
وبت كبيرة ،ويتعلّ ق المصطلح الجديد بإشاعة الجهل عن سبق اإلصرار .وبدراسة ذلك ،اكتشفت أسرار عالم العلوم الس رية،
".على قناعة بأن على المؤرخين منح هذا األمر اهتماما ً أكبر
والحث على النقاش أو حتى الصراع ،على ّ أن أفضل وسيلة لنشر الجهل تتمثّل في خلق مناخ يت ّم فيه التّشجيع
ويؤ ّكد المؤرخ ّ
ً ً
شرط أن يكون متكافئا ومتوازنا بين فكرتين أو جبهتين ،وأن ال يسمح ألحدهما بالتفوّق والغلبة على اآلخ ر ،ب ل اإلبق اء على
.حالة التكافؤ بين وجهتي النّظر ،لتكون النتيجة في الغالب هي غياب النتيجة ،وهذا هو المطلوب
علم ،ومن خالل معاينة المعلومات المعرفي ة ،ومن ثم الجهل ،إذاً ،هو قوّة من حيث إنّك ال تستطيع التعامل معه إاّل من خالل ٍ
التح ّكم بها وتوجيهها سلبا ً أو إيجاباً ،فالجهل ،وإن كان نتاجا ً طبيعيا ً لحالة التر ّدي في المنظوم ة التعليمي ة ،واالنحط اط ال ذي
. تشهده الجامعات العربيّة ،لكنّه في المقابل يمثّل نتاجا ً لعمليّة فعليّة ُأسّست وفق منهج علم ّي
هذا المنهج بدأ يتع ّمق أكثر ويتّسع ليت ّم استخدامه في األوساط السياسية واالقتصادية واألكاديميّة ،وح تى اإلعالميّ ة .وأص بح
البعض يعرّفه بـ"إدارة اإلدراك" ،وهو أسلوب يتّبع التضليل والخداع ،من خالل نشر بعض الحقائق وإخف اء البعض اآلخ ر،
.باستخدام تقنيّات وفنون ومهارات عالية الدقة ،بغية خلق حالة من التشويش واإلرباك لدى المتلقّي
وعلم النفس (Anthropology)،ه و عل ٌم ال ب ّد لمن أراد تطبيق ه أن يك ون مل ّم ا ً ومحيط ا ً بعل وم أخ رى ،كعلم اإلنس ان
(Economics). واالقتصاد (Political Science)،والسياسة (Sociology)،وعلم االجتماع (Psychology)،
لبث حالة الرّعب ،وزعزعة االس تقرار ،وإث ارة الش كوك، إنه منه ٌج ال تقرأ من خالله إال االنحطاط ورداءة الخلق ،وأسلوب ّ
وإدخال الفرد في متاهات ومطبّات تمنع عنه الحلول ،ليترك وحيداً في حال من التخبّط والح يرة ،ولتك ون قرارات ه بع د ذل ك
ّ
. انفعاليّة غير مدروسة ،تعكس حجم الضغوط النفسية وغياب المعلومة الصّحيحة
وعندما نقف أمام نظم استبداديّة تُس ّمي نفسها سياسية ،ال ب ّد لن ا من أن نعي د س ؤالي بروك تر :كي ف ولم اذا "ال نع رف م ا ال
نعرف"؟
أن ما كانوا يصوّرونه لنا حينها ،سنعرف سبب عدم معرفتنا وجهلنا وانحدارنا .سنعرف كيف أننا لم نعرف ،وسنعرف بيقين ّ
وأن أك ثر المص نّعين لبض اعة الجه ل هم م ّمن ب اعوا وط نيّتهم ،فت ّم اختي ارهم
على أنّه عل ٌم وتعليم ،إنّما هو جه ل وتجهي لّ ،
وتأهيلهم بعناية وعلميّة فائقتين ،وهم على أنواع ،فمنهم من يق ّدم االستشارات السياسية واالقتصادية واإلعالميّ ة ،متّكئ ا ً على
وبث اإلشاعات وزرع حال ة الي أس، قاعدة "اكذب ثم اكذب ثم اكذب" ،ومحصّنا ً ومؤهّالً بـ"علم الجهل" ،ليبدأ بنشر التّجهيل ّ
. حتى يبدأ المستهلك بتصديقها ،بل ويقاتل في الدفاع عنها
وحين أق ف أم ام الحال ة المفزع ة واالنحط اط والتّ ردي ال ذي أص اب مؤسَّس ات التعليم عموم اً ،والجامع ات على وج ه
الخصوص ،وحالة اإلسفاف واالنحدار وفقدان البوصلة ،والركون إلى الجهل والتخلّف والرضا بهم ا ،ف إنني أق ف أم ام أح د
. أعمدة الجهل المصنّع
هو تجهيل ُأع ّد بعناية ،وشارك في إنتاجه وتمريره أناسٌ قفزوا إلى مجال التّعليم ومواقع اتخاذ القرارات المص يريّة في غفل ة
من ال ّزمن ،فح ّولوا المناخ التعليمي والجودة في البحث العلم ّي وطرق التّدريس إلى مناخ أدهم حال ك وأرض ج رداء ال تنم و
. فيها بساتين العلم والفكر والمعرفة
لذلك ،بات لزاما ً على األحرار الوقوف بشجاعة أمام ك ّل الطبقات المنتفعة التي يزعجها محو الجهل وع ودة العلم والمعرف ة.
علينا أن نقف حاملين درع ضياء الفكر صفاً واحداً أمام رياح الجهل والظالم ،وإاّل ستتحوّل مجتماعتنا إلى "مف اقس" لتولي د
الس قيمة ،وس يتوقّف ال وعي المف اهيم ّي عن العم ل ،فيتوقّ ف بع ده اإلنت اج الفك ريّ ،ويُمحى
المف اهيم المنحرف ة والنظريّ ات ّ
.اإلبداع ،ويح ّل محلّه النزاع ،لنبدأ بعدها مسيرة الضياع