Professional Documents
Culture Documents
لكن يبقى السؤال األقوى؛ هل ينطبق ذلك على اإلنسان في العصر الحديث؟ اإلجابة
طبًع ا ال! فاإلنسان في عصرنا الحالي يواجه مشكلة كبيرة؛ أال وهي ادعاء المعرفة
إلى حد كبير ،وعن أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين عن الخليل بن أحمد أنه
قال :الرجال أربعة ،رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه ،ورجل يدري
وال يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه ،ورجل ال يدري ويدري انه ال يدري فذلك
مسترشد فأرشدوه ،ورجل ال يدري أنه ال يدري فذلك جاهل فارفضوه .فما مدى
مْع ِر َفُتَن ا عن مقدار َمْع ِر َفِتَن ا؟ فالذي يّد عي العلم بكل شيء "واِهم المعرفة" ،وهذا
من أخطر األنواع على اإلطالق ،يقول عالم الفيزياء الشهير ستيفن هويكنج:
"أعظم عدو للمعرفة ليس الجهل؛ وإنما وهم المعرفة" ،فمن الصعب علينا أن
نعترف بأننا نعيش في وهم في ظل الكم الهائل الذي نحصل عليه من المعلومات
من االنترنت ،والتي نعتبرها امتداد طبيعي لمخزوننا المعرفي؛ وبالتالي ننظر
ألنفسنا بأننا أذكياء متوهمين بحجم قدراتنا ومكتسباتنا ،ومغلقين أعيننا عن
المعرفة الحقيقية التي نمتلكها فعًال داخل عقولنا .وأننا دائما نحاول الحصول عليها
من االنترنت دون أّي جهد يذكر ،رغم أّن الكثير من المثقفين وأصحاب االختصاص
والذين يعتقدون أيضًا أنهم وصلوا لمرحلة متقدمة من العلم والمعرفة والخبرة التي
يمكن أن تؤهلهم لإلجابة عن األسئلة في قضية ما قد تكون جديدة؛ وهذا قد
يجعلهم يتوقفون عن عمليات البحث المستمرة للمعلومات حتى وأن كانت حديثة
وغريبة عن مخزونهم المعرفي الذي يمتلكونه!
إّن وهم المعرفة قد يأخذ أشكاًال عدة؛ وقد يرافقه غالبًا تضخيم األنا لدى البعض
منهم ،ظنًا منهم أّن كل ما يقولونه صحيح وال مجال للشك فيه ،وكل قراراتهم ال
تحتاج إلى إعادة النظر فيها ،في الواقع هم أشخاص نرجسيون معجبين بأنفسهم
كثيرًا ،وال يعترفون بأي نقص أو عيب في شخصيتهم.
هذا المزج الخطير بين أدواتنا اإلدراكية الشخصية ،قد يوقعنا في فخ "وهم
المعرفة"؛ ألّن الكثير مّن ا ال يفرق بين معلومات عامة يخزنها وبين المعرفة ،كما
أّن الكثير ال يرغب في أن يجيب ب "ال أعرف" ،ويصعب عليه قول "ليس لدي
خلفية واضحة عن هذا الموضوع" ،أو أن يقول" لم أبحث ألتأكد" ،بل يجد نفسه
يسترسل باإلجابة والشرح والفلسفة ،مع أّن ه ليس لديه أدنى معرفة سابقة عن
الموضوع ،هذا من شأنه أن يسبب الكثير من المشاكل ،فقد نقع بالخطأ أو نعطي
معلومات مغلوطة ،وحتى أنه يوقفنا عن تمرين ذاكرتنا بحجة أننا نستقبل معلومات
كثيره عوضًا عن ذلك ،مما يؤدي إلى الحد من قدرتنا على التحليل واالستقصاء
والبحث واالكتشاف.
هنا كانت المشكلة فقد ظن الناس أنهم يعرفون الموضوع ،لكن سرعان ما اكتشفوا
مدى جهلهم به ،فعصرنا الحالي يعج بالمدارس والجامعات وعشرات الماليين من
حملة الشهادات المختلفة ،ويستمرون بالزيادة وطلب العلم إال أن هذه االستزادة ال
تنتج عقوًال معرفية ،بل المزيد من العقول المصابة بوهم المعرفة ،فمن المفترض
أّن التعليم والعملية التعليمية بغض النظر عن مراحلها ومستوياتهم؛ فهي تعمل
بهدف ثابت أال وهو إنتاج عقول تمتلك المعرفة وليس وهم المعرفة ،عقول ناضجة
مدركة تماما لما تتعلمه ،ومبدعة مفكرة ال تحفظ وتخزن من أجل التخزين فقط،
عقول تستطيع أن تقرأ الواقع بشكل صحيح وتضع رؤى وأفكار جديدة ،أو على
األقل أن يكون هذا العقل بعيدًا عن السطحية وطرق التفكير القديمة .وأخيرًا،
فمعرفتنا تبدأ بمعرفة أوهامنا" ،أن تعرف هو أن تدرك إلى أي درجة أنت واهم".