You are on page 1of 3

‫وهُم المعرفة‪ ..‬وَم لكات العقول!

‫أ‪ .‬د‪ .‬صلحي الشحاتيت‬


‫اإلنسان بطبيعته يبحث عن المعرفة دائًم ا‪ ،‬ويحاول كشف المجهول بشتى الطرق‬
‫الممكنة‪ ،‬فمنذ العصور القديمة كان البحث عن المعرفة واالكتشاف أكثر ما يميز‬
‫اإلنسان؛ فقد عرف الطقس وتغيراته‪ ،‬وكيفية صيد الحيوانات‪ ،‬وبناء المساكن‬
‫والزراعة بشتى أنواعها‪ ،‬باإلضافة إلى ما تميزت به المرأة في تلك العصور من‬
‫معرفة أمور تتعلق بالطهي والحمل والرضاعه والعناية باألطفال وتدبير شؤونها‬
‫اليومية‪.‬‬

‫لكن يبقى السؤال األقوى؛ هل ينطبق ذلك على اإلنسان في العصر الحديث؟ اإلجابة‬
‫طبًع ا ال! فاإلنسان في عصرنا الحالي يواجه مشكلة كبيرة؛ أال وهي ادعاء المعرفة‬
‫إلى حد كبير‪ ،‬وعن أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين عن الخليل بن أحمد أنه‬
‫قال‪ :‬الرجال أربعة‪ ،‬رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه‪ ،‬ورجل يدري‬
‫وال يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه‪ ،‬ورجل ال يدري ويدري انه ال يدري فذلك‬
‫مسترشد فأرشدوه‪ ،‬ورجل ال يدري أنه ال يدري فذلك جاهل فارفضوه‪ .‬فما مدى‬
‫مْع ِر َفُتَن ا عن مقدار َمْع ِر َفِتَن ا؟ فالذي يّد عي العلم بكل شيء "واِهم المعرفة"‪ ،‬وهذا‬
‫من أخطر األنواع على اإلطالق‪ ،‬يقول عالم الفيزياء الشهير ستيفن هويكنج‪:‬‬
‫"أعظم عدو للمعرفة ليس الجهل؛ وإنما وهم المعرفة"‪ ،‬فمن الصعب علينا أن‬
‫نعترف بأننا نعيش في وهم في ظل الكم الهائل الذي نحصل عليه من المعلومات‬
‫من االنترنت‪ ،‬والتي نعتبرها امتداد طبيعي لمخزوننا المعرفي؛ وبالتالي ننظر‬
‫ألنفسنا بأننا أذكياء متوهمين بحجم قدراتنا ومكتسباتنا‪ ،‬ومغلقين أعيننا عن‬
‫المعرفة الحقيقية التي نمتلكها فعًال داخل عقولنا‪ .‬وأننا دائما نحاول الحصول عليها‬
‫من االنترنت دون أّي جهد يذكر‪ ،‬رغم أّن الكثير من المثقفين وأصحاب االختصاص‬
‫والذين يعتقدون أيضًا أنهم وصلوا لمرحلة متقدمة من العلم والمعرفة والخبرة التي‬
‫يمكن أن تؤهلهم لإلجابة عن األسئلة في قضية ما قد تكون جديدة؛ وهذا قد‬
‫يجعلهم يتوقفون عن عمليات البحث المستمرة للمعلومات حتى وأن كانت حديثة‬
‫وغريبة عن مخزونهم المعرفي الذي يمتلكونه!‬

‫إّن وهم المعرفة قد يأخذ أشكاًال عدة؛ وقد يرافقه غالبًا تضخيم األنا لدى البعض‬
‫منهم‪ ،‬ظنًا منهم أّن كل ما يقولونه صحيح وال مجال للشك فيه‪ ،‬وكل قراراتهم ال‬
‫تحتاج إلى إعادة النظر فيها‪ ،‬في الواقع هم أشخاص نرجسيون معجبين بأنفسهم‬
‫كثيرًا‪ ،‬وال يعترفون بأي نقص أو عيب في شخصيتهم‪.‬‬

‫هذا المزج الخطير بين أدواتنا اإلدراكية الشخصية‪ ،‬قد يوقعنا في فخ "وهم‬
‫المعرفة"؛ ألّن الكثير مّن ا ال يفرق بين معلومات عامة يخزنها وبين المعرفة‪ ،‬كما‬
‫أّن الكثير ال يرغب في أن يجيب ب "ال أعرف"‪ ،‬ويصعب عليه قول "ليس لدي‬
‫خلفية واضحة عن هذا الموضوع"‪ ،‬أو أن يقول" لم أبحث ألتأكد"‪ ،‬بل يجد نفسه‬
‫يسترسل باإلجابة والشرح والفلسفة‪ ،‬مع أّن ه ليس لديه أدنى معرفة سابقة عن‬
‫الموضوع‪ ،‬هذا من شأنه أن يسبب الكثير من المشاكل‪ ،‬فقد نقع بالخطأ أو نعطي‬
‫معلومات مغلوطة‪ ،‬وحتى أنه يوقفنا عن تمرين ذاكرتنا بحجة أننا نستقبل معلومات‬
‫كثيره عوضًا عن ذلك‪ ،‬مما يؤدي إلى الحد من قدرتنا على التحليل واالستقصاء‬
‫والبحث واالكتشاف‪.‬‬

‫طرح ستيفن سلمن وفيليل فرنباخ وهما متخصصان في اإلدراك المعرفي (‬


‫‪" ،)cognitive science‬وهو علم يحاول معرفة كيفية عمل دماغ الفرد"؛ في‬
‫مؤلفها الفريد "وهم المعرفة ‪ -‬خرافة الفكر االنفرادي وقوة الحكمة الجماعية"؛‬
‫مثاًال عرضته زميلة لهما (وهي عالمة متخصصة) على مجموعة من األشخاص‪.‬‬
‫تم سؤالهم ما إذا كانوا يعرفون الدراجة الهوائية وكيفية عملها‪ ،‬فكانت اإلجابة‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬باإلجماع‪ .‬ظنوا أنهم يعرفونها‪ ،‬إلى أن عادت وطلبت منهم رسم الدراجة‬
‫الهوائية‪ ،‬والنتيجة كانت أن أغلبهم لم يتمكن من رسمها بالشكل الصحيح‪ ،‬مع أنهم‬
‫يشاهدونها يوميًا‪ ،‬وقد شاهدوها قبل ذلك آالف المرات‪.‬‬

‫هنا كانت المشكلة فقد ظن الناس أنهم يعرفون الموضوع‪ ،‬لكن سرعان ما اكتشفوا‬
‫مدى جهلهم به‪ ،‬فعصرنا الحالي يعج بالمدارس والجامعات وعشرات الماليين من‬
‫حملة الشهادات المختلفة‪ ،‬ويستمرون بالزيادة وطلب العلم إال أن هذه االستزادة ال‬
‫تنتج عقوًال معرفية‪ ،‬بل المزيد من العقول المصابة بوهم المعرفة‪ ،‬فمن المفترض‬
‫أّن التعليم والعملية التعليمية بغض النظر عن مراحلها ومستوياتهم؛ فهي تعمل‬
‫بهدف ثابت أال وهو إنتاج عقول تمتلك المعرفة وليس وهم المعرفة‪ ،‬عقول ناضجة‬
‫مدركة تماما لما تتعلمه‪ ،‬ومبدعة مفكرة ال تحفظ وتخزن من أجل التخزين فقط‪،‬‬
‫عقول تستطيع أن تقرأ الواقع بشكل صحيح وتضع رؤى وأفكار جديدة‪ ،‬أو على‬
‫األقل أن يكون هذا العقل بعيدًا عن السطحية وطرق التفكير القديمة‪ .‬وأخيرًا‪،‬‬
‫فمعرفتنا تبدأ بمعرفة أوهامنا‪" ،‬أن تعرف هو أن تدرك إلى أي درجة أنت واهم"‪.‬‬

You might also like