Professional Documents
Culture Documents
apparatchik's
األباراتشيك هي كلمة روسية األصل ،وتُطلق بشكل عام على عضو ملتزم في منظمة معيّنة (غالبا ً ما يقصدون به
العضو في الحزب الحاكم) .لكن أصبحت هذه الكلمة تُستخدم لإلشارة إلى الشخص الذي يبحث عن مصالحه الشخصية
في المنظّمة ،أي منظمة كانت ،حيث هدفه األساسي هو شق طريقه إلى قمة البنية الهرمية لهذه المنظمة مهما كان
الثمن ،إن كان ذلك عن طريق التملّق ،الخداع ،المناورة ،الكذب ،التهديد ،االبتزاز ،التآمر ...وغيرها من أساليب تحقق
غاياته ومآربه .هذه النوعية من الناس (رجال ونساء) ُخلقوا أساسا ً عندما ُو ِجدت أوّل منظمة في التاريخ .المنظمة
مهما كان نوعها ،سياسية ،عسكرية ،دينية ،علمية...إلى آخره ،ال بد من أنها تع ّج بهذا النوع من البشر .وفي الحقيقة،
فإن هؤالء هم المسؤولون عن انحراف المنظمة عن التوجّه نحو أهدافها الرئيسية التي وجدت من أجلها أصالً،
باإلضافة إلى الفساد الذي ينخر في تركيبتها البنيوية .وهذا ما جعل مف ّكرين مثل "جورج سانتايانا" George
Santayanaيقول:
" ..رغم حصول ألف حركة إصالحية عبر التاريخ ،إال أنها تركت العالم أكثر فساداً من ذي قبل ،حيث كل حركة
إصالحية أنشأت مؤسستها الخاصة ،وهذه المؤسسة الجديدة ولّدت مساوئها وانتهاكاتها الخاصة"..
المنظمة بمفهومها البدائي هي :مجموعة أشخاص يعملون معاً ،بتناسق وانسجام ،لتحقيق هدف معيّن .ويمكن تطبيق
هذا التعريف على المجموعات البشرية في العصور البدائية ،بحيث عاشوا في مجموعات لكي يحموا نفسهم من شرور
الطبيعة من حولهم كهجمات الوحوش مثالً .أما في مفهومها العصري ،فقد أصبحت المنظمة أكثر تعقيداً ،حيث يمكن
اعتبارها :مجموعة بشرية تمثّل هيئة معيّنة بهدف إدارة شيئا ً معيّن ووفق قوانين ونُظُم معيّنة ،كالمؤسسات الحكومية
والدينية والعسكرية والرياضية والتجارية ،وغيرها..
ك ،أن المنظمة هي اختراع مفيد وضروري للكائنات البشرية ،فلوالها لما حصل هذا التطوّر الكبير في دون أدنى ش ّ
تاريخ اإلنسانية .لكن من ناحية أخرى ،فقد كانت السبب الرئيسي لحصول أبشع المآسي في التاريخ! واعتقد بأنها
ستكون السبب الرئيسي لفناء البشرية! بين كل االختراعات البشرية ،فإن المنظمة التي هي عبارة عن ماكينة بشرية
مؤلفة من أفراد ينفّذون آليات ووظائف متوافقة ومنسجمة مع هدف موحّد ،هي أقوى االختراعات .وألنها أقوى
االختراعات ،فهي بالتالي األخطر واألكثر فتكا ً من أي اختراع آخر ،بما في ذلك القنبلة النووية.
وإذا كنا منتمين إلى منظّمة ،مهما كان نوعها (سياسية ،اجتماعية ،اقتصادية ،)..ونحضر االجتماعات ونساهم بالمال
ونمارس مهماتنا الموكلة إلينا ،ال ب ّد من أن يراودنا الش ّ
ك في إحدى األيام بأننا بهذا العمل نساهم في خلق قوّة كبيرة
مناقضة تماما ً للكثير من القيم التي لها مكانة عزيزة لدينا .إن غريزتنا الفطرية تعلم جيداً ما معنى المنظمة ،لكننا ال
نفطن لهذه الحقيقة سوى للحظات عابرة وتزول بنفس السرعة التي برزت بها .هذه الريبة من المنظمات هي متجسّدة
بوضوح في عبارات كثيرة يستخدمها الناس رغم أنهم ال ينتبهون للمعنى الجوهري لها ،حيث قد يقول أحدهم .." :أنا
لست ض ّد الدين ،بل فقط ض ّد الدين المنظّم ،"..وبطبيعة الحال ،فإن كلمة "الدين المنظّم" ال تُستخدم سوى من قبل
المعارضين له وليس من قبل الجميع ،مع أن هؤالء المعارضون قد يكونوا منتمين لمنظمات مشابهة في سياستها
التنظيمية لكنها غير دينية.
ومعنى الدين المنظّم هو فرض طريقة حياة مح ّددة على الرعايا باإلضافة إلى فرض طريقة تفكير محددة .هذه
الفروض تُق ّدم إلى الرعايا على شكل مجموعة فرائض متكاملة ،ومجرّد ما رُفضت فقرة واحدة من هذه العقيدة الكاملة
كاف إلبعادك ونبذك ...وقد
ٍ المتكامل ،أو تم مخالفة بند واحد فقط من النظام الداخلي الخاص بالسلوك والتصرّف هو
تكون العقوبة أسوأ من ذلك بكثير .الدين المنظّم يمثّل مثاالً نموذجيا ً تقتدي به المنظمات الباقية ،ابتدا ًء من المنظمات
الحكومية في أعلى قمة الهرم ،نزوالً إلى النادي االجتماعي البسيط الذي يض ّم مجموعة من النساء .جميع هذه
التنظيمات تقمع حرية التفكير والتصرّف وتفرض االلتزام بخط واحد موجّه لغاية معيّنة.
لقد وضّحت الكاتبة "ألين باغيلز" هذه النقطة جيداً في كتابها "تعاليم األدريون" ( Gnostic Gospelsتعاليم
الغنوسطيون) ،حيث أ ّكدت بأنه خالل الصراع بين مذهبين (أو دينين) فإن المذهب الرابح هو دائما ً األكثر سلطوية
وتز ّمتا ً وتعاليمه تكون أكثر صرامة وعنفاً .ومثال على ذلك هو الغنوسطيون Gnosticsالذين كانت بنيتهم التنظيمية
تكرّس المساواة وتعلّم بأن أي فرد من أتباعها (حتى النساء) يستطيع المساهمة بتعاليم ُملهمة تُضاف إلى الفلسفة
المتنورة لديهم .لكن هذه السياسة التنظيمية ال ُممارسة أ ّدت بالغنوسطيين إلى االندثار والخروج من التاريخ إلى األبد
على يد المسيحيين المتعصبين بتنظيمهم ذو البنية الهرمية الصارمة .يبدو أن المنظمة الديمقراطية والداعية للمساواة
بين أتباعها محرومة من أي فرصة في البقاء أمام المنظمات األخرى األكثر صرامة وعنف والتي تمارس االستبداد
على أتباعها.
الناس ال ينتبهون للجانب السلطوي للمنظمة أكثر من اهتمامهم بالجانب الوظيفي لها والغاية من وجودها وأهدافها .مع
العلم أن التركيبة البنيوية لمعظم المنظمات هي ذاتها تقريباً .واألمر اآلخر الذي لم يفطن إليه أحد هو أن المنظمة (أي
منظمة) كلما زاد نجاحها وازدهارها ،كلما ابتعدت عن مبادئها ومثلها األصيلة والغرض من وجودها أساساً.
إن كل تج ّمع مؤلف من مجموعة أشخاص له سمتان :سمة إنسانية وسمة سياسية .وهاتين السمتين ال بد من أن
تتصارعان ،وطبعا ً النصر يكون للسمة السياسية في النهاية .وعندما تصبح السمة السياسية أكثر تأثيراً ،تتجرّد
المنظمة من سمتها اإلنسانية وتزول منافعها وحسناتها ،وبدالً من أن تمثّل منفعة تخدم أفرادها تبدأ المنظمة باستخدامهم
وتجنيدهم لغايات أخرى بعيدة تماما ً عن غاية وجودها أصالً.
لماذا يحصل هذا؟ ألنه كلما كانت المنظمة ناجحة في تحقيق غاياتها ،كلما زاد اجتذابها لألشخاص الذين ينظرون إليها
كفرصة لتقدمهم وارتقائهم في سلّم الحياة .وطبعا ً نحن نتكلّم عن تلك النوعية من البشر ال ُمشار إليها بـ األباراتشيك.
إن القدرة على تسلّق المراتب داخل المنظّمة هي موهبة بحد ذاتها ،كما موهبة لعب الشطرنج ،أو رسم لوحة فنية ،أو
موهبة نشل المحافظ من الجيوب ،أو غيرها من مواهب لها محترفيها .هناك أشخاص موهوبون بشكل استثنائي في
عملية استخدام المنظمات التي ينتمون إليها لصالح أغراضهم الشخصية .لقد عانى الروس من هذه النوعية من البشر
لمدة قرون ،حتى أنهم أوجدوا مصطلحا ً خاصا ً يشير إليهم" :األباراتشيك" .ومن خالل مراقبة طريقة عملهم أوجدوا
المقولة المأثورة التي توصفهم أحسن وصف .." :القذارة فقط تطوف إلى السطح!"..
فكما أسلفت سابقاً ،الهدف األساسي للـ"أباراتشيك" هو شق طريقه إلى قمة البنية الهرمية للمنظمة (أي منظمة) مهما
كان الثمن ،إن كان ذلك عن طريق التملّق ،الخداع ،المناورة ،الكذب ،التهديد ،االبتزاز ،التآمر ...وغيرها من أساليب
تحقق غاياته ومآربه .إن معظم المنظمات القائمة اليوم ،إن كانت شركات عابرة للقارات ،أديان ،أحزاب سياسية،
أصولية ،عصابات الجريمة المنظّمة ،جيوش ،محافل سرّية (كالماسونية) ،منظمات صحّية ،إنسانية ،تعليمية...
وغيرها ،جميعها تع ّج بـ"األباراتشيك" ،ولهذا السبب نرى العالم بهذه الحالة المزرية التي هو عليها اليوم.
أما الكتاب الشهير الذي بعنوان "األمير" لنيكولو ميكافيلي ،فقد ُكتب أصالً لهذا النوع من البشر .لكن يبدو أن هذه
النوعية من الناس ال تحتاج هذا النوع من الكتب اإلرشادية ،ألنهم موهوبون غريزيا ً بقدرة استثنائية على شق طريقهم
إلى الق ّمة مسلّحين بالبديهة المناسبة التي تقول لهم ما وجب فعله وكيف يتصرّفون.
لسوء الحظ ،فإن وجود هذه الموهبة الخاصة ،تؤدي حتما ً إلى أن تتعرّض كل منظّمة ناجحة لالستيالء والسيطرة من
قبل هذه النوعية من األشخاص .فمجرّد أن يتمتع هؤالء بالنفوذ والسلطة داخل المنظمة ،سوف يمنحون األولوية
لمصالحهم الخاصة على حساب مصلحة المنظمة .وبالتالي ،ومع مرور الوقت ،سوف ينجح هؤالء ،من خالل نفوذهم
الذي يحصلون عليه بطرق ملتوية وخسيسة ،في تحريف المنظمة عن مسارها األساسي فتبتعد عن الهدف الذي
تأسست أصالً من أجل تحقيقه .
المشكلة في هذه النوعية من الناس (األباراتشيك) هي أنهم موهوبون فقط بهذا االختصاص في الحياة (أي التسلّق إلى
القمة) وال يستطيعون استيعاب أو امتهان المجاالت األخرى ،حتى لو كانت مهنتهم الرسمية .فمثالً ،نرى أصحاب
نوادي رياضية شهيرة ،كنوادي البيسبول وكرة القدم ،لكنهم ال يفقهون شيئا ً عن الرياضة .وقد نشاهد أصحاب
مؤسسات مالية عالمية ،كالمصارف والبنوك العمالقة ،لكنهم ال يعرفون كيف يوازنون دفتر حسابات .وهناك
اقتصاديون على المستوى العالمي ،ليس لديهم أي فكرة عن االقتصاد ،وكل ما يعرفونه هو التجوّل بسيارات الليموزين
لديهم ،وحضور الحفالت الفاخرة .وهناك جنراالت عسكريون رفيعي المستوى ،ليس لديهم أي خبرة في خوض
المعارك ،وكل ما يعرفونه هو قضاء أوقاتهم في النوادي الترفيهية مع أفراد الطبقة السياسية الرفيعة .خالصة الكالم
هي أن هؤالء لم يصلوا إلى مناصبهم الرفيعة نتيجة جدارتهم في اختصاصاتهم بل بفعل موهبة "التسلّق إلى الق ّمة"
التي يتميّزن بها.
الحقيقة هي أن األباراتشيك ال يعرفون كيف يديرون أعمالهم التي يختصّون بها ،لكنهم موهوبون في التظاهر بأنهم
يستطيعون فعل ذلك .والغريب في األمر هو أنه عندما تنشأ منافسة ضارية في إحدى الشركات الهندسية مثالً بين أحد
المهندسين الالمعين والذي يتقن مهنته جيداً ،وبين أحد األباراتشيك الذي ال يفقه شيئا ً عن الهندسة ،سوف يخرج
األباراتشيك منتصراً حتماً! فليس هناك أي فرصة للتغلّب على األباراتشيك ،مهما كنت المعا ً بمجال اختصاصك
ومهما كان نوع المنظمة التي تنتمي إليها ،حتى لو كانت دينية! الفوز دائما ً هو لألباراتشيك!
مهما كان هدف المنظمة ،نشر الكتب ،معالجة المرضى ،أعمال خيرية ...إلى آخره ..فمجرّد أن استولى عليها
مجموعة من األباراتشيك ،سوف تتغيّر أهدافها مباشرة ،والهدف األسمى هو "..أن تصبح المنظّمة أكبر وأكبر ..مهما
كان الثمن !"..ال يهم إن كانت المنظمة األكبر تلتزم بأهدافها األساسية ،أي خدمة زبائنها أو رعاية البائسين ،أو تكون
مكانا ً جيداً ومريحا ً للموظفين العاملين فيها ..المهم هو أن تصبح أكبر!سوف تصبح أكبر ألن الذين في األعلى قرّروا
أن يجعلوها أكبر .ما يفعله األباراتشيك للمنظمة هو ذاته ما يفعله الفيروس السرطاني للخاليا :وهو التحفيز على النمو
العشوائي.
يقول سانتايانا:
صب هو عبارة عن مضاعفة جهودك في الوقت الذي نسيت فيه أهدافك األساسية.
التع ّ
عندما تالحظ وجود نزوع إلى التعصّب بين أعضاء المنظّمة ،أي منظّمة ،أعلم أن هذه الحالة تجسّدت ألن القابعين في
األعلى (األباراتشيك) يريدون النمو والتوسّع بأسرع وقت ممكن ومهما كان الثمن.
األباراتشيك ال يريدون لمنظمتهم أن تكبر فحسب ،بل يريدونها أن تتوسّع وتبتلع المنظمات األخرى أيضاً .األباراتشيك
يسعى إلى التوسّع في جميع االتجاهات ،أي كافة المجاالت واالختصاصات ،باإلضافة إلى تجاوز الحدود المرسومة
للسلطة المطلقة .فنحن قد ال نأخذ الكالم السابق على محمل الجد عندما يتعلّق األمر بمنظمات محلّية أو كيانات تنظيمية
محدودة النفوذ .لكن عندما نتح ّدث عن كيانات سياسية أو دينية على مستوى عالمي ،ويدخل في المعادلة ضرورة
حتمية إلشعال حروب شرسة ومجازر على نطاق واسع ،فقط من أجل عيون مجموعة االباراتشيك العالميين ،النخبة
التي تسيطر على مجريات العالم ،حينها وجب علينا التفكير مليا ً باألمر.
أصبحنا نعلم اآلن أنه عندما نف ّكر بمقاومة هذا الوضع العالمي األليم ،وجب أن نستبعد فكرة تأسيس منظمات أو كيانات
تنظيمية لفعل ذلك ،والسبب هو أن هذه المنظمة التي ستتأسّس بهدف مقاومة الش ّر ال بد من أن يستولي عليها
األبارتسيك في فترة من الفترات وبالتالي ستساهم في تكريس هذا الشرّ!
عندما تبحث عن ح ّل مناسب للمشاكل القائمة اليوم ،أياك أن تف ّكر بإنشاء منظّمة!
ألنك بذلك سوف تساهم بإضافة لعنة جديدة لهذا العالم ال ُمنهك أصالً وال ُمصاب بوباء "األباراتشيك"
............................