You are on page 1of 97

‫اسم الكتاب‪ :‬ألم ذلك الحسين‬

‫تأليف‪ :‬كمال ّ‬
‫السيد‬
‫الطبعة الثالثة‪ :‬يونيو ‪ - 2022‬شوال ‪ 1443‬هـ‬
‫إعداد ونشر ‪ :‬مؤسسة كلمات للطباعة والنشر‬
‫البريد اإللكتروني‪kaleemat.pub@gmail.com :‬‬
‫‪kamal.alsayeed‬‬

‫الموقع الرسمي‬
‫تقدمت الفتاة بأدب وقدمت بين يديه طاقة من الرياحين ‪..‬‬
‫ ‪-‬السالم عليك يا ّ‬
‫سيدي‬
‫ّ‬
‫األشم‪:‬‬ ‫انتشر عبير ربيعي ‪ ..‬مأل االنف‬
‫ ‪-‬انطلقي ّ‬
‫حرة لوجه اهّلل‬
‫سرت همهم ‪ ..‬تناثرت اسئل ‪ ..‬عالمات استفهام ‪..‬‬
‫ ‪-‬جارية تساوي ألف دينار مقابل باقة ورد؟!‬
‫ابتسم الوجه المضمخ بعبير ّ‬
‫النبوات‬
‫ّ‬
‫علمنا اهّلل؛ أن ّ‬
‫نرد التحية بأحسن منها‪،‬‬ ‫ ‪-‬هكذا‬
‫وهل هناك سوى ّ‬
‫الحر ية؟!‬
‫‪1‬‬
‫الــكالب تنهش جســده بقســوة ‪ ..‬كالب لم يرها من قبل ‪ ..‬متوحشــة‬
‫ينز مــن أنيابها الصديد ‪ ..‬يحاول دفعها ولكن‬ ‫ملوثــة بكل القذارات ‪ّ ..‬‬
‫‪ّ ..‬‬
‫ّ‬
‫ال جدوى ‪ ..‬إنها مســعورة وتزداد ضراوة وقســوة‪ .‬وأشــدها كان األبقع ‪ ..‬إنه‬
‫ّ‬
‫يطلب العنق ‪ ..‬يندفع بوحشــية لينقــض على الرقبة الناصعة ‪ ..‬كإبريق‬
‫فضة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬آه ‪ ..‬آه ‪ ..‬ماء ‪ ..‬ماء ‪ ..‬قلبي ّ‬
‫يتفطر عطشا‪.‬‬
‫جفف ّ‬ ‫ّ‬
‫حبات عرق كانت تتألأل في ضوء القمر ‪.‬‬ ‫انتبه من نومه ‪..‬‬
‫تقابل الوجهان ‪ ..‬وجه القمر ‪ ،‬ووجهه‪.‬‬
‫ّ‬
‫تأمل الحسين النجوم في أغوارها البعيدة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫البريق القادم من األعماق السحيقة يشتد لمعانا ‪ ..‬يومض ‪ ..‬يحاول‬
‫كشف األسرار ‪.‬‬
‫نهض السبط من فراشه ‪ ..‬أسبغ وضوءه ‪ ..‬أشاعت برودة الماء السالم‬
‫فــي روحــه ‪ ..‬لقد مضى من الليل ثلثــاه‪ ،‬وليس هناك ما يخدش صمت‬
‫الليل سوى نباح كالب بعيدة‪.‬‬
‫ً‬
‫وكيســا ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يغــص بصــرار الدراهــم الفضية‬ ‫حمــل جرابــا مليئــا بالطعــام‪،‬‬
‫ّ‬
‫والدنانير ‪ ،‬وراح يجوس أزقة المدينة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اجتــاز بعــض المنعطفــات ‪ ..‬توقــف أمام بيــت يكاد يتهــدم‪ .‬أحكم‬
‫ً‬ ‫لثامه‪ ،‬فبدا كشــبح من أشــباح الليل‪ ،‬أو ّ‬
‫ســر من أســراره‪ .‬وضع قدرا من‬
‫وشيئا من الدقيق‪ ،‬وأسقط ـ من ّكوة صغيرة ـ ّ‬ ‫ً‬
‫صرة نقود‪ ،‬ثم طرق‬ ‫السمن‪،‬‬
‫ّ‬
‫الباب‪ ،‬وحث الخطى ـ قبل أن تنفتح ـ داخل زقاق غارق في الظالم ‪..‬‬
‫كانــت تنبعــث مــن ّكوة بيــت كبير أضواء ســاطعة ‪ ..‬وســمع ضحكة‬
‫ماجنــة أعقبتها ضحكات‪ .‬اســتعاذ بــاهّلل‪ ،‬وهو ينعطف نحــو اليمين ‪..‬‬
‫ً‬
‫صار قريبا من قصر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان حاكم المدينة‪.‬‬
‫منظــر القصــر المنيــف‪ ،‬والبيــوت الطينيــة التــي تحيطــه مــن كل‬
‫الجهــات ّ‬
‫يعبــر عن الظلــم الفادح في توزيــع الثروات؛ الفقــر إلى جانب‬
‫الغنى ‪ ..‬البؤس إلى جانب الترف والبذخ ‪..‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬أيــن أنــت يا رســول اهّلل؟!‪ ..‬هلم لتشــاهد مــا يفعل طلقــاؤك ‪ ..‬في‬
‫ّ‬
‫مدينتك ‪ ..‬اين أنت يا جداه؟!‬

‫‪8‬‬
‫الليل ما يزال يغمر المدينة بظلمة حالكة يحيطها باألسرار ؛ والنجوم‬
‫مسمرة في صفحة السماء؛ والقمر يختفي خلف الربى والتالل‪،‬‬ ‫ما تزال ّ‬
‫ّ‬
‫فيــزداد الظــام رهبة ‪ ..‬كراهبة ترفل بحلتها الســوداء بدت المدينة تلك‬
‫الليلة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األشــم ‪ ..‬وقف‬ ‫توقــف الرجل األســمر ذو العينيــن المتألقتين واألنف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إلــى جانــب النخلــة التــي غرســها جــده النبــي وتذكــر حديثــه‪ :‬اكرمــوا‬
‫ً‬
‫عمتكم النخلة‪ .‬لقد شــاخت كثيرا‪ ،‬ولكنها ما تزال َتهب الرطب والتمر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والظــال‪ .‬أســند جذعــه إلــى جذعهــا ‪ ..‬أضحيا جذعــا واحــدا ‪ ..‬انبثق‬
‫ّ‬
‫نبــع مــن الصالة‪ ،‬وغمــر رشــاش الكلمات الســماوية المــكان ‪ ..‬وصلى‬
‫الحسين ركعتين ‪ ..‬ثم انطلق نحو النبي‪.‬‬
‫الذاكرة ما تزال تتألق بصور الطفولة ‪ ..‬الحسين بسنواته السبع يركض‬
‫جده العظيم ‪ ..‬يرتمي في أحضان ّ‬ ‫ّ‬
‫النبوة وعبق الوحي‪ ،‬وابتسامات‬ ‫نحو‬
‫المالئكة تغمر دنياه‪ .‬وتتالحق الصور ‪ ..‬تشتعل وتنطفئ كبروق سماوية‪.‬‬
‫ألقــى الرجــل الــذي ّ‬
‫ذرف علــى الخمســين بنفســه علــى القبر ‪ .‬شــعر‬
‫بدفء األحضان‪ .‬احتضن التربة الطاهرة‪ ،‬وراح يستنشــق ‪ ..‬يمأل صدره‬
‫المتموج ّ‬
‫ّ‬ ‫جده ‪ّ ..‬‬‫ّ‬ ‫بشذى السماء‪ .‬شعر بأنه ّ‬
‫تموج‬ ‫يمسد شعره‬ ‫يقبل وجه‬
‫الصحارى‪ ،‬ويداعب ســوالفه المتأللئة‪ .‬وشــعر أنه يعانق آدم و إبراهيم‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويحتضن الكون كله‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ ‪-‬يــا جــداه‪ ،‬انهم يريــدون مني شــيئا عظيما ‪ ..‬تكاد له الســماوات‬
‫يتفطرن وتنشـ ّـق األرض‪ .‬يريدون لقمــم الجبال أن تغادر أماكنها‬
‫ّ‬
‫الشــماء إلــى الهاويــة‪ ،‬وللســحب أن تــدع الســماء‪ ،‬وللنخيل أن‬
‫تركع وتنحني ‪ ..‬إنهم يريدون للحسين أن يبايع ‪ ..‬يبايع يزيد ‪..‬‬
‫أغمض الحســين عينيه المتعبتين‪ ،‬فانبثق شــال من نور محمد ‪..‬‬
‫وجه يتألأل كالبدر ‪ ،‬ترفرف حوله أجنحة المالئكة مثنى وثالث ورباع‪.‬‬
‫ ‪-‬حبيبــي يــا حســين ‪ ..‬إن أبــاك وأمــك وأخــاك قدموا علــي ‪ ..‬إنهم‬
‫مشتاقون اليك‪ّ ،‬‬
‫فهلم إلينا‪.‬‬
‫ ‪-‬ال حاجة بي إلى الدنيا‪ ،‬فخذني اليك يا أبتي‪.‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬والشهادة يا بني ‪ ..‬الدنيا كلها تحتاج شهادتك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وانتبــه الحســين علــى أنفــاس الصبح‪ّ ،‬‬
‫فــودع جــده وقفل عائــدا إلى‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تتجســد أمــام عينيــه‪ ،‬حتــى كاد يلمس غصنا من ســدرة‬ ‫منزلــه‪ .‬الرؤ يــا‬
‫ّ‬
‫ـماوي يســطع في أعماقــه ‪ ..‬ونــداء يتردد فــي صدره ‪..‬‬ ‫المنتهــى‪ .‬نــور سـ‬
‫يدعــوه إلــى الرحيل‪ .‬لقد أزفت الســاعة ‪ ..‬والنوق فــي الصحاري رفعت‬
‫رؤوسها تترقب انتظام القافلة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫‪2‬‬
‫ً‬ ‫مــا لها المدينة خائفة هكذا‪ ،‬بيوتهــا ترتجف‪ ،‬وجدرانها ّ‬
‫تهتز رعبا؟ ‪..‬‬
‫أين مجد الكوفة الضائع؟ ‪ ..‬أين هيبتها القديمة؟ ‪ ..‬أم تراها نسيت أنها‬
‫كانت العاصمة؟!‬
‫تســاءل الرجــل الغريــب الــذي كانــت تحفــه األلوف قبــل ليلــة ‪ّ ..‬أما‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫اآلن فهــو يجــوس أزقة المدينــة خائفا يترقب ‪ ..‬ليس معــه من يدله على‬
‫الطريق ‪..‬‬
‫هــل تــراه أخفق في مهمته ‪ ..‬إنه ســفير الحســين إلــى الكوفة عاصمة‬
‫المجــد الغابــر ‪ .‬أيــن الرجال الذيــن بايعوه علــى الثورة؟ ‪ ..‬أيــن كل تلك‬
‫ّ‬
‫ودوي‬ ‫الســيوف والــدروع‪ ،‬وتلــك الكلمــات التــي تشــبه بــوارق الفضــاء‬
‫الرعود؟!‬
‫ً‬
‫كيــف تحـ ّـول جيــش ناهــز العشــرين ألفــا إلــى فئــران خائفــة تختبئ‬
‫مذعورة في جحور منقوبة في األرض؟‬

‫‪11‬‬
‫ّ‬
‫فكر أن ينادي بأعلى صوته‪« :‬يا منصور أمت»؛ شعار الثورة ‪ ..‬ذكريات‬
‫ّ‬
‫علهم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يهبون لحصار قصر الظلم‬ ‫بدر ‪ ..‬علهم يلتفون حوله من جديد ‪..‬‬
‫ّ‬
‫مرة أخرى‪ .‬ولكن من تركوه في وضح النهار ‪ ،‬كيف يعودون إليه في قلب‬
‫الظالم‪ .‬الذين ّفروا في ضوء الشمس‪ ،‬هل يعودون في غمرة الليل؟‬
‫ً‬
‫خطــى واهنــة‪ .‬تداعــت أمامــه‬ ‫كان مســلم بــن عقيــل يســير ‪ ..‬ينقــل‬
‫ّ‬
‫المتموجة‬ ‫كل الصــور المثيــرة‪ ،‬وهــو يعبر الصحراء مــع دليليه ‪ ..‬الرمــال‬
‫القاحلة حيث ال ماء ‪ ..‬وال حياة ‪ ..‬وال شــيء‪ ،‬ســوى الذرات الملتهب ‪..‬‬
‫الظمأ ‪ ..‬التيه ‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مات الدليالن عطشا‪ ،‬أما هو فبقي يواصل سيره وحيدا‪ .‬أراد أن يعود‬
‫من حيث أتى ‪ ..‬ولكن الحســين كان يريد له المســير حتى النهاية‪ .‬إنه‬
‫ســفيره إلى الكوفة ‪ ..‬الكوفة التي تريد استرداد مجدها الضائع ‪ ..‬الكوفة‬
‫التي تتلهف لرؤية علي بن ابي طالب ّ‬
‫مرة أخرى ‪ ..‬تنشد عدله ‪ ..‬رحمته‬
‫‪ ..‬رفقــه بالفقــراء والمســاكين ‪ ..‬تريد أن تطرب علــى بالغته من جديد ‪..‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تريد للمنبر المهجور أن يتدفق علما وفصاحة‪.‬‬
‫ً‬
‫تلك أحالم الرجال الفئران تحلم في جحورها وترتجف ذعرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫األحالم الوردية تحتاج إلى سواعد ّ‬
‫بقوة الحديد أو أشد بأسا‪.‬‬
‫«الســفير » أعيــاه التعــب ‪ ..‬كقائــد مخــذول كان يجرجر نفســه بعناء‬

‫‪12‬‬
‫‪ ..‬يحـ ّـس مــرارة الهزيمــة ‪ ..‬أمام جيش وهمي‪ّ .‬‬
‫حق لــه أن يندهش كيف‬
‫تشـ ّـتت جيشه الكبير أمام شــائعة كاذبة! ‪ ..‬أمام جيش سوف يصل من‬
‫الشــام ‪ ..‬جيش وهمي ‪ ..‬صنعه الخيال المريض ‪ ..‬الخيال الذي يحلم‬
‫بعقل فأرة مذعورة من القط ‪ ..‬من اسمه فقط‪.‬‬
‫جلــس الغر يــب عنــد باب عتيقــة‪ ،‬وراح يلتقط أنفاســه كأنــه ما يزال‬
‫يخترق الصحراء ‪ ..‬يجوب األودية‪.‬‬
‫فتحــت «طوعة» المــرأة العجوز التي كانت تنتظر عــودة ابنها؛ واالبن‬
‫ذهب يبحث عن الرجل الجائزة‪.‬‬
‫ ‪-‬هل لي في جرعة من الماء؟‬
‫ومــا أســرع أن عــادت المــرأة تحمل إليــه الماء ‪ ..‬فــراح ّ‬
‫يعــب منه‪ ،‬ثم‬
‫سكب الباقي على صدره‪ .‬أراد أن يطفئ لهيب الصحراء في أعماقه‪.‬‬
‫قالت العجوز مستنكرة جلوسه‪:‬‬
‫ ‪-‬ألم تشرب يا عبداهّلل؟! ‪ ..‬قم فانصرف إلى اهلك‪.‬‬
‫َ‬
‫اعتصــم بالصمــت ‪ ..‬الصمت المجهول الذي ال يريد أن يســبر غوره‬
‫أحد‪.‬‬
‫ ‪-‬قم عافاك اهّلل ‪ ..‬فإنه ال يجدر بك الجلوس على بابي‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬وماذا افعل ‪ ..‬لقد ضللت الطريق ‪ ..‬وليس هناك من يدلني‪.‬‬
‫قالت المرأة متوجسة‪:‬‬
‫ ‪-‬من تكون يا عبداهّلل؟!‬
‫ ‪-‬أنا مسلم بن عقيل‪.‬‬
‫فهتفت المرأة مأخوذة بالمفاجأة‪:‬‬
‫ ‪-‬أنت مسلم؟! ‪ ..‬انهض اذن انهض‪.‬‬
‫ ‪-‬إلى اين يا أمة اهّلل‪.‬‬
‫ ‪-‬إلى بيتي ‪..‬‬
‫وانفتح باب في األفق المظلم ‪ّ ..‬كوة تفضي إلى النور ‪ ..‬لحظة من أمل‬
‫‪ ..‬قطرة ماء في لهب الصحراء‪.‬‬
‫واحتضــن بيــت كوفــي «مســلم بن عقيــل» الرجــل الشــريد‪ّ .‬أمــا بقية‬
‫ّ‬
‫البيــوت فقــد كانت تصغي برعب إلــى حوافر الخيل وهــي تدك األرض‬
‫ً‬
‫بحثا عن رجل غريب‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪3‬‬
‫القافلــة تطــوي الصحــراء فــي طريقهــا إلى أم القــرى ‪ ..‬قافلــة عجيبة‪.‬‬
‫ُ‬
‫لــم تكــن قافلة تجارية‪ ،‬ولم تبد ـ كذلك ـ قافلــة للحجاج ‪ ..‬ففيها أطفال‬
‫كثيــرون ‪ ..‬أطفــال يشــبهون ورود الربيع ‪ ..‬قافلــة يتقدمها رجل في عينيه‬
‫بر يــق الشــمس وفــي جبينــه يتــأأل القمــر ‪ ،‬وفــي حنايــا صــدره تنطــوي‬
‫الصحارى‪ .‬إلى جانبه وجه يشــبه البدر ‪ ..‬شــاب في الثالثين من عمره‬
‫أو يزيد ‪ ..‬يدعى «أبو الفضل» أو قمر بني هاشــم ‪ ..‬دائم النظر إلى أخيه‬
‫سيدي‪.‬‬‫يتأمله بخشوع ‪ ..‬يخاطبه‪ :‬يا ّ‬
‫ً‬ ‫ْ ً ُ ُ ً‬
‫ويظهر خلفه فتى عجيب يشبه النبي خلقا وخلقا ومنطقا ‪ ..‬إنه علي‬
‫ً‬
‫‪ ..‬علي األ كبر ‪ .‬وفي القافلة هوادج كثيرة ‪ ..‬كثيرة جدا ‪ ..‬وأطفال ‪..‬‬
‫القافلــة تســير ‪ ،‬والتاريــخ يحبــس أنفاســه‪ ،‬وكلمــات تتــردد بخشــوع‪،‬‬
‫فتمتزج مع تمتمات النوق‪.‬‬
‫ ‪ّ -‬ولما ّ‬
‫توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ ‪-‬الطريق محفوفة باألخطار ‪ ،‬فلو تنكبت الطريق‪.‬‬
‫قــدر عجيــب يسـ ّـير القافلة ‪ ..‬قافلــة صغيرة تحاول تصحيح المســار‬
‫اإلنساني‪.‬‬
‫الكلمــات التــي قالها الحســين ما زالــت ّ‬
‫تدو ي فــي اآلذان‪ .‬األهداف‬
‫العظيمة ‪ ..‬الروح السامية في جالل الملكوت‪ .‬كلماته تذهب مع نسائم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الصحــراء بــذورا تنبــت في أعمــاق األرض ‪ ..‬هــل يكون المــوت هدفا ‪..‬‬
‫كيف تخرج الحياة من رحم الموت؟‪ .‬و إذا كان الموت هو النهاية لكل‬
‫ً‬
‫كائن‪ ،‬فلم ال نختار الطريقة التي سنموت بها؟ هل يكون الموت جميال‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫أحيانــا‪ ،‬لكــي يقول الحســين‪ :‬خ ّط المــوت على ولد آدم َمخ ّــط القالدة‬
‫على جيد الفتاة‪ ،‬وما أولهني إلى أسالفي اشتياق يعقوب إلى يوسف‪.‬‬
‫ ‪-‬ولكن أذا كان هدفك الموت‪ ،‬فلم تأخذ معك األطفال والنساء؟‬
‫وأذا كانــت اآلفــاق مظلمة‪ ،‬لماذا تصطحب كل هذا الحشــد من‬
‫الضعفاء؟ ‪..‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬شــاء اهّلل ان يراهن ســبايا ‪ ..‬شاء اهّلل أن يراني قتيال ‪ ..‬سوف أموت‬
‫عطشا ‪ ..‬سأسقط قرب نهر يموج بالمياه كأنه بطون ّ‬ ‫ً‬
‫الحيات‪.‬‬
‫ ‪-‬ماذا يريد الحسين؟‬
‫ً‬
‫ ‪-‬يريد أن يموت ظامئا‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ ‪-‬لماذا؟!‬
‫ ‪-‬إنها مشيئة اهّلل!‬
‫ ‪-‬مشيئة ّ‬
‫االمة ‪..‬‬
‫ّ‬
‫القافلــة تقتــرب مــن مكــة ‪ ..‬أم القرى في واد غيــر ذي زرع ‪ ..‬أول بيت‬
‫وضع للناس ‪ ..‬مهبط جبريل فوق جبل النور ‪ ..‬غار حراء‪ ،‬حيث التقت‬
‫السماء باألرض ‪ ..‬طفولة ّ‬
‫محمد ‪ ..‬شبابه ‪ ..‬آخر النبوات في التاريخ ‪..‬‬
‫المســاء ينشر ظالله الخفيفة ‪ ..‬وأنوار واهنة تحاول أن تتألأل كالنجوم‬
‫هزتها أنباء قادمة من دمشــق‪ .‬لقــد هلك هرقل و‬‫‪ ..‬أضــواء مدينــة حائــرة ّ‬
‫جلس مكانه هرقل آخر ‪.‬‬
‫ّ‬
‫شــعبان يطــوي ثالثــة مــن أيامــه ‪ ..‬القافلــة تدخــل مكــة‪ ،‬وتلقي عصا‬
‫ّ‬ ‫الترحال عند البيت العتيق‪ .‬الحسين ّ‬
‫يحن إلى زيارة قبر جدته خديجة‬
‫الكبرى ‪ ..‬يذكر تضحياتها من أجل ّ‬
‫محمد ‪ ..‬وهو يريد أن يواصل ذات‬
‫الدرب ‪ ..‬يريد إعادة نهج النبي العظيم‪.‬‬
‫ ‪-‬ماذا تريد يا سيدي الحسين ‪ ..‬أ ال تبقى هنا في حرم اهّلل؟‬
‫ ‪-‬إنهم لن يدعوني أعيش بســام ‪ ..‬إنهــم يريدون الفتك بي‪ ،‬حتى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لو تعلقت بأستار الكعبة ‪ ..‬إنهم يطلبون مني شيئا عظيما ‪ ..‬هل‬
‫رأيت النخيل ينحني أو الجبال؟ هيهات ‪ ..‬هيهات‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫ ‪-‬و ِلـ َـم العــراق؟ ‪ ..‬أليس هناك مــكان آخر ؟ العراق الــذي قتل أباك‬
‫ّ‬
‫واغتال أخاك‪ ،‬وسلم المنبر لمعاوية! ‪..‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬و ِلم الذهاب اآلن ‪ ..‬إال تمكث قليال‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ذهبت غدا‪ ،‬و إن لــم أذهب غدا ذهبت بعد‬ ‫ ‪-‬إن لــم أذهــب اليوم‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫غد‪ ،‬وما من الموت واهّلل بد ‪ ..‬و إني ألعرف اليوم الذي اقتل فيه‪.‬‬
‫تنبعــث مــن األرض اســئلة ‪ ..‬تتفجــر عالمــات اســتفهام ســرعان مــا‬
‫تتالشى أمام كلمات سماوية كأنها تأتي من وراء أستار الغيب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ينظــرون فــا يرون ســوى بيــارق ّ‬
‫أمويــة ‪ ..‬ســيوفا تقطــر غــدرا وخناجر‬
‫ً‬
‫مســمومة ‪ ..‬أما هو فيرى ينابيع تتدفق ‪ ..‬أنهارا وســواقي ‪ ..‬إنه يرى ما وراء‬
‫اآلفاق ‪ ..‬يرى المستقبل القادم من رحم األيام‪.‬‬
‫عجيــب أمــر هــذا الرجــل ‪ ..‬يحــاول أن يلــوي القــدر ‪ ..‬أن يقهــر كل‬
‫ً‬
‫نظاما ّ‬
‫مدججا بالسالح ‪ ..‬كيف؟!‬ ‫شياطين األرض ‪ ..‬أن يهزم‬
‫بقافلــة صغيــرة ‪ ..‬ســبعين أو يزيــدون ‪ ..‬أطفــال ونســاء ‪ ..‬وتصغــي‬
‫ّ‬
‫متمــردة ثائرة ‪ ..‬كلمــات تختصر النبــوات ‪ ..‬تبدأ‬ ‫الصحــارى لكلمــات‬
‫ببسم اهّلل ‪ ..‬مجراها ومرساها ‪..‬‬
‫ ‪-‬هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى اخيه محمد بن الحنفية‪.‬‬
‫ً‬
‫إن الحســين يشــهد أن ال الــه إال اهّلل وحــده ال شــريك لــه‪ ،‬وأن محمــدا‬

‫‪18‬‬
‫عبده ورسوله ‪ ..‬جاء بالحق من عنده‪.‬‬
‫وأن الجنة حق‪ ،‬والنار حق‪ ،‬والساعة آتية ال ريب فيها‪ .‬وأن اهّلل يبعث‬
‫من في القبور ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫و إني لم اخرج أشرا وال بطرا وال مفسدا وال ظالما‪ ،‬و إنما خرجت لطلب‬
‫اإلصالح في ّأمة جدي‪.‬‬
‫ّ‬
‫أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ‪ ،‬وأســير بســيرة جدي‪ ،‬وأبي‬
‫علي بن أبي طالب‪.‬‬
‫فمــن قبلنــي بقبول الحق‪ ،‬فــاهّلل أولى بالحق‪ ،‬ومــن ّرد ّ‬
‫علي هذا اصبر‬
‫حتى يقضي اهّلل بيني وبين القوم بالحق‪ ،‬وهو خير الحاكمين ‪..‬‬
‫انطلقــت الثــورة وصــدر بيانهــا األول‪ .‬أســلحتها الصبــر والمقاومــة‬
‫والموت‪.‬‬
‫الموت سالح ‪ ..‬بل حياة ‪ ..‬حياة ‪ ..‬كيف؟‬
‫ً‬
‫ ‪-‬أجــل ‪ ..‬إن من يموت كريما ســيحيا ‪ ..‬ســيحيا إلــى األبد ‪ ..‬هكذا‬
‫ّ‬
‫علمني أبي قال على شاطئ الفرات بصفين‪:‬‬
‫الموت في حياتكم مقهورين‪ ،‬والحياة في موتكم قاهرين‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫‪4‬‬
‫قصــر اإلمــارة يجثــم فــوق الكوفــة ‪ ..‬نســر هائل جاثــم على فريســته ‪..‬‬
‫غراب اسطوري ينعب فتطير الرؤوس وتطيح االيدي ‪..‬‬
‫ذئــاب جائعــة تعوي من بعيد ‪ ..‬وكالب مســعورة تنبح ‪ ..‬وليل حالك‬
‫مليء باألســرار والغموض ‪ ..‬ورجل أرقط مجهول النسب اسمه ابن زياد‬
‫ً‬
‫بــن ابــي ‪ ..‬ابــن الليلــة الماجنة‪ .‬الرجــل األرقط بــدا مفزعا تلــك الليلة ‪..‬‬
‫يفكــر ّ‬ ‫ً ّ‬
‫ويدبــر ‪ ،‬فقتل كيف فكر ‪ ..‬يتشــبث بمخالب نســر‬ ‫شــيطانا مر يــدا‬
‫ّ‬
‫‪ ..‬يهــدد بجنود قادمين من الشــام ‪ ..‬فتطيــع القبائل‪ ،‬وتنحني الرقاب ‪..‬‬
‫وتتساقط الرؤوس ‪..‬‬
‫التفت نحو هاني بن عروة‪ ،‬وصرخ بعصبية‪:‬‬
‫ ‪-‬أتيت بابن عقيل إلى دارك‪ ،‬وجمعت له السالح؟‬
‫قال هاني بثبات‪:‬‬

‫‪20‬‬
‫ ‪-‬أفضــل لــك أن تمضــي إلى الشــام‪ ،‬فقد جــاء من هو ّ‬
‫أحــق باألمر‬
‫منك ومن صاحبك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وتفجر ابن زياد غضبا‪:‬‬
‫ ‪-‬واهّلل ال تفارقني حتى تأتيني به‪.‬‬
‫ً ً‬
‫وجاءه الجواب هادئا ثابتا ‪ ..‬ثبات الجبال‪:‬‬
‫ّ‬
‫قدمي ما رفعتهما عنه‪.‬‬ ‫ ‪-‬واهّلل لو كان تحت‬
‫ ‪ّ -‬‬
‫ألقتلنك‪.‬‬
‫ ‪-‬إذن تكثر البارقة حولك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هجــم األرقــط علــى زعيــم «مــراد» ّ‬
‫وجــره مــن شــعره‪ ،‬وســدد لــه ضربة‬
‫هشمت أنفه‪.‬‬
‫ً‬
‫يا كوفة ‪ ..‬يا مدينة عجيبة ‪ ..‬أيتها الغانية اللعوب ‪ ..‬يا مومسا تريد كل‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫يوم بعال ‪ِ ..‬ل َم تضيعين أبناءك؟ أين مسلم أيتها الغادرة؟! ‪..‬‬
‫خيــول الدوريات تجوس المدينة الخائفــة ‪ ..‬الخائنة ‪ ..‬يبحثون عن‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫رجل مكي مدني اسمه مسلم ‪ ..‬مسلم حقا‪.‬‬
‫ ‪ِ -‬لم يبحثون عنه؟ ‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ ‪-‬إنه يحمل أشــياء ممنوعة ‪ ..‬أشــياء خطيرة‪ .‬يحمل ســيفا علويا ‪..‬‬

‫‪21‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقلبا حسينيا ‪ ..‬يريد تهريب الثورة ‪..‬‬
‫ ‪-‬في هذا الليل والناس نيام؟!‬
‫العيــون الحمــراء ترقــب المدينــة ‪ ..‬ومســلم فــي بيــت طوعــة ‪ ..‬رجــل‬
‫انقطعت به السبل‪ ،‬وضاقت عليه األرض بما رحبت‪ ،‬وال ملجأ له سوى‬
‫ّ‬
‫مهند في يمينه‪.‬‬
‫ً‬
‫جريحــا من ليــوث ّ‬ ‫ً‬
‫محمد ‪..‬‬ ‫وطوعــة ‪ ..‬المــرأة العجــوز ‪ ..‬تتأمل أســدا‬
‫يقبض على سيفه‪ .‬لقد طلع الفجر ‪ ،‬وآن للنهاية ان تبدأ‪.‬‬
‫ ‪-‬إنهم كثيرون ‪ ..‬مئة أو يزيدون‪.‬‬
‫ ‪-‬ال عليــك يــا َأمة اهّلل‪ .‬لقد حان اللقــاء‪ .‬رأيت عمي أمير المؤمنين ـ‬
‫في المنام ـ يقول لي‪ :‬أنت معي غدا ‪..‬‬
‫اقتحمت الذئاب منزل طوعة‪ ،‬ولمع الســيف العلوي كبرق ســماوي‬
‫‪ّ ..‬‬
‫ودو ى رعد مهيب له صوت مسلم‪:‬‬
‫ُ‬
‫اقسمت ال أقتل إال ّ‬
‫حرا‬
‫ً‬
‫و إن رأيت الموت شيئا نكرا‬
‫الرجــل الغر يــب القــادم من رمال الجزيــرة‪ ،‬يقاتل لوحده فــي المدينة‬
‫المشــهورة بالغــدر ‪ ،‬والرجــال الذيــن ابتســموا لــه باألمــس يكشــرون عن‬

‫‪22‬‬
‫أنياب مسمومة ‪ّ ..‬‬
‫ملوثة بالصديد‪.‬‬
‫ّ ً‬
‫وصرخ «ابن االشعث» مستمدا‪:‬‬
‫ ‪-‬الرجال ‪ ..‬الرجال‪.‬‬
‫ويستنكر قصر اإلمارة‪:‬‬
‫ ‪-‬ويلك إنه رجل واحد‪.‬‬
‫ ‪-‬أتظــن أنك ارســلتني إلى بقال من بقالي الكوفة!‪ ..‬إنه ســيف من‬
‫أسياف ّ‬
‫محمد‪.‬‬
‫وعجزت الســيوف أن تكســر ســيفه ‪ ..‬والرجــل ما يزال يقاتــل ‪ ..‬يقاتل‬
‫بضراوة أسطورية ‪ ..‬الجراح النازفة ‪ ..‬الظمأ ‪ ..‬اإلعياء ‪ ..‬غامت المرئيات‬
‫أمام عيني ‪ ..‬وتوالت الطعنات ‪ ..‬طعنات الغدر ‪ ..‬الخناجر المســمومة‬
‫تنغرز في جســده ‪ ..‬وتهاوى الجبل ‪ ..‬اإلرادة الفوالذية عجز الجســد عن‬
‫ولما انتزعوا ســيفه بكى ‪ّ ..‬‬
‫وتعجب الذين‬ ‫مواكبتهــا ‪ ..‬تراخت قبضته ‪ّ ..‬‬
‫حوله ‪ ..‬لم يدركوا ّ‬
‫سر البكاء‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫‪5‬‬
‫القافلــة تطــوي الصحــراء ‪ ..‬والنجــوم المحتشــدة في الســماء ترســل‬
‫ذرات الرمال‪ ،‬والقافلة التي سبقت قوافل الحجيج‬ ‫ً‬
‫أضواء واهنة‪ ،‬فتبرق ّ‬
‫ّ‬
‫فــي مغادرة مكة تنســاب فــي بطون األودية ‪ ..‬وخشخشــة األشــواك تبوح‬
‫بأسرار الليل‪.‬‬
‫وصادفهم رجل في «الصفاح» يريد العمرة‪.‬‬
‫ ‪-‬من الرجل؟‬
‫ ‪-‬الفرزدق بن غالب‪.‬‬
‫ ‪-‬هذا نسب قصير ‪.‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬أنت أقصر نسبا مني ‪ ..‬أنت ابن رسول اهّلل‬
‫والح سؤال عن الكوفة ‪ ..‬عاصمة أبيه وأخيه‪.‬‬
‫ ‪-‬قلوبهم معك وسيوفهم عليك‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫أية قلوب تلك ال تنقاد لها الســواعد ‪ ..‬القلوب الخائفة قلوب ميتة ‪..‬‬
‫إنها قطعة لحم باردة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وفــي «ذات عــرق» كان الحســين جالســا يقــرأ كتابا بين يديــه ‪ ..‬وبين‬
‫ً‬
‫أيديــه أيضــا الصحــراء المترامية ‪ ..‬صحــراء ال نهاية لرمالهــا ‪ ..‬وبين يديه‬
‫ً‬
‫حائرا ال يدري أين مساره‪ّ .‬‬
‫ومر به رجل كان في الكوفة منذ‬ ‫وقف التاريخ‬
‫أيام ‪..‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫هز الرجل رأسه آسفا‪:‬‬
‫ ‪-‬السيوف مع بني امية والقلوب معك‪.‬‬
‫ ‪-‬صدقت‪.‬‬
‫ ‪-‬ماذا تقرأ يا بن رسول اهّلل؟‬
‫ً‬
‫ ‪-‬كتابــا مــن أهل الكوفــة وهم قاتلي ‪ ..‬فــاذا فعلوا ذلك لــم يدعوا هّلل‬
‫ً‬
‫محرما إال انتهكوه‪.‬‬
‫ ‪-‬أنشدك اهّلل في حرمة العرب‪.‬‬
‫ومضــى الرجــل إلــى وجهته ‪ ..‬ومضــى التاريخ بعد أن عرف مســاره ‪..‬‬
‫ً‬
‫كان يســير باتجــاه يختلف قليال عن جهة الكوفة‪ .‬هنــاك بمحاذاة النهر‬
‫سيكون اللقاء ‪ ..‬سيبني التاريخ في تلك البقعة إحدى مدنه الخالدة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وفــي «الخزيميــة» لوت النوق أعناقها ‪ ..‬توقفــت هنيئة ‪ ..‬أصغت إلى‬
‫هاتف عجيب‪:‬‬
‫اال يا عين فاحتفلي بجهد‬
‫فمن يبكي على الشهداء بعدي‬
‫على قوم تسوقهم المنايا‬
‫وعد‬
‫بأقدار إلى انجاز ِ‬
‫وتمتم الحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬القوم يسيرون والمنايا تسري اليهم‪.‬‬
‫ ‪-‬او لسنا على الحق يا أبي؟‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫عليا األ كبر ‪ّ ..‬‬
‫فحن إلى جده ‪..‬‬ ‫تأمل ابنه‬
‫ ‪-‬بلى والذي إليه مرجع العباد‪.‬‬
‫ ‪-‬يا أبت إذن ال نبالي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وفاضت عيناه شوقا إلى جده‪.‬‬
‫وفــي «الثعلبيــة» قال الحســين لرجل تاهت به الســبل ‪ ..‬ال يدري أي‬
‫الطريقين يسلك‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ ‪-‬يــا أخا العرب لــو لقيتك بالمدينة ألريتك أثــر جبريل في دارنا ‪..‬‬
‫افعلموا وجهلنا؟! هذا مما ال يكون!‬
‫ً‬
‫ومضــى الرجــل حائــرا ال يــدري أي الطريقيــن يعنــي النجــاة ‪ ..‬طريق‬
‫الحسين أم طريق البقاء على قيد الحياة‪.‬‬
‫ومضت القافلة ال تلوي على شــيء‪ .‬إلى الكوفة كانت الخطى تتجه‪،‬‬
‫ولكن القلوب كانت تهفو إلى مدينة أخرى ‪ ..‬مدينة لم تولد بعد‪.‬‬
‫ّ‬
‫كبر صاحب للحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬رأيت النخيل ‪ ..‬نخيل الكوفة‪.‬‬
‫استنكر آخر ‪:‬‬
‫ ‪-‬ما بهذا الموضع نخل ‪ ..‬و إنما هو ّ‬
‫أسنة الرماح وآذان الخيل‪.‬‬
‫ونظر الحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬وأنا أراه ذلك ‪ ..‬أليس هنا ملجأ؟‬
‫ ‪-‬نعم «ذو حسم» جبل عن يسارك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫هو ْت بأثقالها إلى األرض ‪ ..‬توقفت سفن الصحراء‪.‬‬
‫وأناخت النوق ‪َ ..‬‬
‫توقفــت لتتأ كــد مــن اتجــاه البوصلــة ‪ ..‬أو لتواجــه القراصنــة ‪ ..‬قراصنــة‬
‫التاريخ‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫‪6‬‬
‫الكوفــة خائفــة ‪ ..‬جلســت ذليلــة فــي حضــرة ابن زيــاد ‪ ..‬وزياد يشــير‬
‫بســوطه ‪ ..‬فتتســاقط الــرؤوس ‪ ..‬وتطيــح األيــدي ‪ ..‬وانحنــت الرقــاب‬
‫ّ‬
‫«لألرقــط» ‪ ..‬لقــد انتصر بجيشــه الوهمي القادم من الشــام‪ .‬الكوفة كلها‬
‫أسيرة في قبضته ‪ ..‬تنقاد له طائعة ‪ ...‬يصرخ فيها‪:‬‬
‫ ‪-‬اقتلوا آل الحسين ‪ ..‬إنهم أناس ّ‬
‫يتطهرون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫«الحر »‪.‬‬ ‫وينتظم العبيد ‪ ..‬عبد الدنيا جيشا عرمرما يقوده‬
‫المهمــة خطيــرة ‪ ..‬القبــض علــى القافلــة ‪ ..‬فــارس يقــود ألــف فارس‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مدجج بالسالح يجوبون الصحراء والبراري بحثا عن قافلة صغيرة ‪..‬‬
‫قــدر عجيــب ســاق هــذا الرجــل ‪ ..‬جعله فــي طليعة الذيــن يريدون‬
‫سمته ّأمه ‪..‬‬
‫«الحر » كما ّ‬
‫ّ‬ ‫اغتيال ّ‬
‫الحر ية ‪ ..‬وهو‬
‫والحـ ّـر يجــوب الصحــراء فــي ّ‬
‫مهمــة كان يلعنهــا في أعماق نفســه ‪..‬‬

‫‪28‬‬
‫الرمال الممتدة إلى ما ال نهاية تدعوه إلى الرحيل ‪ ..‬الرحيل إلى الشمس‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وكانت األرض تشده إليها كما شدت ألفا يسيرون خلفه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ويسمع ّ‬
‫الحر صوتا عجيبا ‪ ..‬صوتا قادما من وراء الرمال‪:‬‬
‫ّ‬
‫بالجنة‪.‬‬ ‫ ‪-‬ابشر يا ّ‬
‫حر‬
‫ ‪-‬أية ّ‬
‫جنة وأنا سائر لقتال سبط النبي‪.‬‬
‫الخيــل تلهــث ‪ّ ..‬‬
‫أضــر بهــا الظمــأ ‪ ..‬والصحــراء تلتهــب ‪ ..‬تتوهــج ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ّ َّ‬ ‫ً‬
‫بالجنــة‪ .‬وتبدو في األفــق قافلة‬ ‫والحر ُيبشــر‬ ‫تشــتعل جحيمــا ال يطــاق؛‬
‫تتجه نحو ذي حسم ‪ ..‬الجبل الصغير ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حممــا ‪ّ ..‬‬
‫تتفجــر لهبــا‪ ،‬والرمــال‬ ‫الشــمس فــي كبــد الســماء تتشــظى‬
‫تهوم عينها نحو ســراب بعيد يحســبه‬ ‫تشــتعل جمـ ًـرا‪ ،‬والخيــل تلهث ‪ّ ..‬‬
‫الظمــآن ماء‪ .‬وقف ّ‬
‫الحر قبال الحســين فــي الظهيرة العظمى ‪ ..‬الخيول‬
‫تنظر إلى الحسين ‪ّ ..‬‬
‫تشم رائحة الماء‪ ،‬وتحمحم‪.‬‬
‫هتف الحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬اسقوهم وأرشفوا الخيل ‪..‬‬
‫ومـ ّـرت مئــات الخيــول الظامئــة ‪ّ ..‬‬
‫تعــب من‪ ‬المــاء ‪ ..‬وتطفــئ لهــب‬
‫الصحراء‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫ً‬
‫متأخرا‪ ،‬وقد ّ‬ ‫ً‬
‫أضر به العطش‪ ،‬فقال بلغة‬ ‫ورأى الحســين فارســا وصل‬
‫حجازية‪:‬‬
‫ ‪-‬أنخ الراوية‪.‬‬
‫ ‪..-‬؟!‬
‫ ‪-‬أنخ الجمل‪.‬‬
‫أنــاخ الظامــئ الجمــل‪ .‬ولمــا أراد أن يشــرب‪ ،‬جعــل المــاء يســيل من‬
‫السقاء‪ ،‬فقال الحسين بلغة حجازية‪:‬‬
‫ ‪-‬أخنث السقاء‪.‬‬
‫فلــم يــدر الرجل مــا يصنع‪ ،‬فعطف الحســين له الســقاء ّ‬
‫حتــى ارتوى‬
‫وسقى فرسه‪.‬‬
‫وساد صمت رهيب رغم حمحمة الخيل ‪ ..‬وكان الجميع يتساءلون‬
‫َّ‬
‫عــن سـ ّـر وجودهــم فــي تلــك البقعــة الملتهبــة مــن دنيــا اهّلل‪ .‬وأذن «ابن‬
‫مسروق» للصالة‪ ،‬فقال الحسين ّ‬
‫للحر ‪:‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬اتصلي بأصحابك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ ‪-‬ال‪ ،‬بل نصلي جميعا بصالتك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وصلى الحســين بالجمــوع ‪ ..‬وصلى خلفه ألف فــارس كانوا يريدون‬

‫‪30‬‬
‫القبض على الرجل القادم من الحجاز ‪ .‬وقال الحسين بعد الصالة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬نحن أهل بيت ّ‬
‫محمد أولى باألمر من هؤالء المدعين ‪ ..‬السائرين‬
‫بالجــور والعــدوان‪ ،‬فــإن أبيتــم إال الكراهيــة لنــا‪ ،‬والجهــل بحقنا‪،‬‬
‫وكان رأيكم على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم ‪..‬‬
‫تساءل ّ‬
‫الحر ‪:‬‬
‫ ‪-‬ما ادري‪ ،‬ما هذه الكتب التي تذكرها؟!‬
‫ً‬
‫فنظر الحســين إلى «ابن ســمعان»‪ ،‬فاحضر خرجين مملوءين كتبا‪..‬‬
‫ّ‬
‫رســائل بــاآلالف ‪ ..‬كتبهــا الكوفيون؛ كلها تقــول ان أقدم علينــا ليس لنا‬
‫إمام غيرك‪.‬‬
‫ً‬ ‫تمتم ّ‬
‫الحر خجال‪:‬‬
‫ ‪-‬إنــي لســت مــن هــؤالء ‪ ..‬وانــي أمــرت أن اقدمــك الكوفــة علــى‬
‫ابن‪ ‬زياد‪.‬‬
‫ّ‬
‫االشم‪:‬‬ ‫قال صاحب األنف‬
‫ ‪-‬الموت أدنى إليك من ذلك ‪..‬‬
‫القافلة تريد أن تستأنف رحلتها ‪ ..‬سفن الصحراء ترفع مراسيها‪.‬‬
‫ّ‬
‫«الحر » يعترض‪:‬‬ ‫و‬

‫‪31‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬أنا انفذ أمر الخليفة‪.‬‬
‫ ‪-‬ثكلتك ّأمك‪.‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬امــا لــو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر ّأمه كائنا من كان‬
‫فأمك الزهراء البتول‪.‬‬‫‪ ..‬ولكن مالي إلى ذكر ّأمك من سبيل ‪ّ ..‬‬
‫ّ ً‬ ‫وأردف ّ‬
‫متوسال‪:‬‬ ‫الحر‬
‫ً‬
‫وســطا ‪ ..‬ال يدخلك الكوفة وال ّ‬ ‫ً‬
‫يردك إلى المدينة‪،‬‬ ‫ ‪-‬لتســلك طريقا‬
‫ّ‬
‫حتى اكتب إلى ابن زياد‪ ،‬فلعل اهّلل يرزقني العافية‪.‬‬
‫كانــت القافلة تســير باتجــاه بوصلة القدر ‪ ..‬باتجــاه مدينة تعيش في‬
‫رحم المستقبل‪.‬‬
‫كانــا يســيران علــى مهل ‪ ..‬يســيران فــي طريــق واحد ‪ ..‬طريق رســمته‬
‫األقدار ‪.‬‬
‫الحر بحزن‪:‬‬‫همس ّ‬
‫َ َ‬ ‫ّ‬
‫ ‪-‬إني أذكرك اهّلل في نفسك‪ ،‬فإني اشهد لئن قاتلت ُلتقتل ّن‬
‫ّ‬
‫«الحر »‪.‬‬ ‫وأدرك الحسين ما تموج به أعماق‬
‫ ‪-‬أفبالموت ّ‬
‫تخوفني؟!‬
‫سأمضي وما بالموت عار على الفتى‬

‫‪32‬‬
‫ً‬
‫إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما‬
‫َُ‬ ‫فإن عشت لم أندم و إن ّ‬
‫مت لم ألم‬
‫ً‬
‫كفى بك ذال أن تعيش وترغما‬
‫وادرك ّ‬
‫الحر هدف الحسين ‪ ..‬الغاية التي يتحرك نحوها ‪ ..‬ابتعد عنه‬
‫‪ ..‬أخــذ ناحيــة أخــرى من الطريق ‪ ..‬يســايره فيها من بعيد ‪ ..‬ولكنه شــعر‬
‫بنفســه تهفو إلى الرجل الســائر نحو الموت ‪ ..‬الرجل الذي قال من قبل‪:‬‬
‫ّ‬
‫من لحق بنا استشهد ومن تخلف عنا لم يبلغ الفتح‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫‪7‬‬
‫مــا بيــن «عيــن التمــر » و «القربــات»‪ ،‬الحت مــن بعيد خيمــة وحيدة‬
‫‪ ..‬فــي خارجهــا رمــح مركــوز وفرس تحمحــم ‪ ..‬وفي داخــل الخيمة رجل‬
‫ً‬
‫وحيــد ‪ ..‬فـ ّـر مــن الكوفة ‪ ..‬يريــد أن ينأى بنفســه بعيدا عن قــدر رهيب‪.‬‬
‫فجاءه رجل من أقصى الجزيرة يسعى‪.‬‬
‫ ‪-‬ماذا تريد!!‬
‫ ‪-‬إني جئتك بهدية وكرامة‪ .‬هذا الحسين يدعوك إلى نصرته‪.‬‬
‫أجاب الرجل الوحيد‪:‬‬
‫ّ‬
‫واهّلل ما خرجت من الكوفة إال لكي ال أراه ‪ ..‬لعلك لم تسمع األخبار ‪..‬‬
‫ُ‬
‫لقد خذلته شــيعته ‪ ..‬قتل «مســلم بن عقيل» و «هاني بن عروة» ورجال‬
‫آخرون‪ ،‬وال أقدر على نصره ‪..‬‬
‫وأردف وهو يطرق برأسه إلى األرض‪:‬‬

‫‪34‬‬
‫ ‪-‬ولست أحب أن يراني وأراه‪.‬‬
‫ً‬
‫ولكــن الحســين أراد أن يــراه فمضى إليــه ‪ ..‬ورأى «الجعفــي» ّلمة من‬
‫الناس تهفو إليه‪.‬‬
‫رجــل ّ‬
‫ذرف علــى الخمســين وحوله رجــال وصبية وأطفــال قادمين‪،‬‬
‫فأوســع لهم في المجلس‪ ،‬وجلس الجعفي قبال رجل لم يره من قبل ‪..‬‬
‫تمــوج فــي جبهته طيوف ّ‬
‫النبوات‪ .‬أراد أن يكســر حاجز الصمت‪ ،‬فقال‬
‫ً‬
‫مبتسما وهو يشير إلى لحية تشبه ليلة غاب فيها القمر ‪:‬‬
‫ ‪ٌ -‬‬
‫أسواد أم خضاب؟!‬
‫علي الشيب يا ابن ّ‬
‫الحر ‪.‬‬ ‫ ‪ّ -‬‬
‫عجل ّ‬

‫ ‪-‬خضاب إذن!‬
‫نبيك وتقاتل معه؟‬ ‫ ‪-‬يا ابن الحر ‪ ..‬إال تنصر ابن بنت ّ‬

‫ ‪ّ -‬إن نفســي ال تســمح بالموت ‪ ..‬ولكن فرســي «الملحقة» هذه لك‬
‫ً‬
‫‪ ..‬واهّلل مــا طلبت عليها شــيئا قط إال لحقتــه ‪ ..‬وال طلبني أحد إال‬
‫سبقته ‪..‬‬
‫ ‪-‬أما اذا رغبت بنفسك ّ‬
‫عنا‪ ،‬فال حاجة لنا في فرسك‪.‬‬
‫ونهــض الحســين ‪ ..‬كان يريــد أن يرفــع الرجل ‪ ..‬أن يســمو بــه‪ ،‬ولكنه‬

‫‪35‬‬
‫ّ‬
‫اثاقل إلى األرض‪.‬‬
‫وفــي آخــر الليل أمر الحســين فتيانه باالســتقاء والرحيــل ‪ ..‬ونهضت‬
‫النــوق ‪ّ ..‬يممت وجوههــا نحو األرض التي بورك فيهــا للعالمين ‪ ..‬وكان‬
‫ً‬
‫غدرا ‪ ..‬القافلة تســير ‪ّ ..‬‬
‫تشــق طريقها في‬ ‫هناك ألف ذئب تتوهج عيونها‬
‫الظالم ‪ ..‬تتبعها قطعان الذئاب وهي تعوي في آخر الليل‪.‬‬
‫ً‬
‫الح راكب من بعيد ‪ ..‬مدجج بالســاح ‪ ..‬كان رســوال من ابن زياد إلى‬
‫ً‬
‫خطيرا‪ .‬قرأه ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الحر بصوت يسمعه الحسين‪:‬‬ ‫«الحر » يحمل إليه كتابا‬
‫ ‪-‬جعجــع بالحســين حين تقرأ كتابــي وال تنزله إال بالعــراء على غير‬
‫حصن وال ماء‪.‬‬
‫قال الحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬دعنا ننزل «نينوى» أو «الغاضريات»‪.‬‬
‫ ‪-‬ال استطيع‪ .‬فحامل الكتاب عين ّ‬
‫علي‪.‬‬
‫ً‬
‫قال «زهير بن القين»‪ ،‬وكان رجال صحب الحسين على قدر ‪.‬‬
‫ ‪-‬يا بن رسول اهّلل! دعنا نقاتله ‪ ..‬إن قتال هؤالء ْأهون علينا من قتال‬
‫من يأتينا بعدهم‪ .‬فلعمري ليأتينا ما ال قبل لنا به‪.‬‬
‫ ‪-‬ما كنت أبدأهم بقتال‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ ‪-‬ههنا قرية و «الفرات» يحدق بها من ثالث جهات‪.‬‬
‫ ‪-‬ما اسمها؟‪.‬‬
‫ ‪«-‬العقر »‪.‬‬
‫ ‪-‬نعوذ باهّلل من العقر ‪.‬‬
‫والتفت الحسين إلى الحر ‪:‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬سر بنا قليال‪.‬‬
‫ومضت القافلة ال تلوي على شي ‪ ..‬يتبعها ألف ذئب أغبر ‪.‬‬
‫اهتـ ّـزت البوصلــة ‪ ..‬تعثــرت النــوق ‪ ..‬ووقــف جواد الحســين ‪ّ ..‬‬
‫تســمر‬
‫ّ‬
‫لعلها ّ‬
‫شــمت رائحة وطن‬ ‫في مكانه ‪ ..‬رفعت النوق رؤوســها ‪ ..‬تلفتت ‪..‬‬
‫تبحث عنه‪.‬‬
‫سأل الحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬ما اسم هذه األرض؟‬
‫ ‪ّ -‬‬
‫الطف‪.‬‬
‫ ‪-‬فهل لها اسم آخر ؟‬
‫ ‪-‬كربالء‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ّ‬
‫تجمعت الدموع في عينيه كغيوم ممطرة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ّ‬
‫محــط ركابنــا وســفك دمائنــا‪ .‬بهــذا‬ ‫ ‪-‬أرض كــرب و بــاء ‪ ..‬ههنــا‬
‫ّ‬
‫أخبرني جدي رسول اهّلل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫«المحرم» حزينا كقارب وحيد ‪ ..‬تائه في‬ ‫وفــي تلــك الليلة‪ ،‬الح هالل‬
‫بحر الظلمات‪.‬‬
‫ّ‬
‫تعالت أصــوات رجال يدقون أوتاد الخيام‪ ،‬وضحكات بريئة ألطفال‬
‫يلهــون فــي الرمــال ‪ ..‬ونســائم عذبــة ّ‬
‫تهــب مــن ناحيــة «الفــرات»؛ وكان‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫واقفا ّ‬
‫يتأمل األفق البعيد ‪ ..‬يحدق في آخر الدنيا‪.‬‬ ‫الحسين‬

‫‪38‬‬
‫‪8‬‬
‫ّ‬
‫واهتــزت األرض تحت األقــدام‪ .‬كتائب جنود‬ ‫مــادت الكوفــة بأهلها‪،‬‬
‫مذعور يــن تتحــرك فــي كل اتجــاه ‪ ..‬عيــون زائغــة ألشــباه رجــال تحمــل‬
‫أسلحة القتل ‪ ..‬تنطلق إلى خارج المدينة‪.‬‬
‫«زجر بن قيس» يقود خمسمئة فارس ‪ّ ..‬يتجه صوب جسر «الصراه»‪.‬‬
‫وخــرج «الشــمر » فــي أربعــة آ الف مقاتــل‪ ،‬و «الحصيــن بن نميــر » في‬
‫أربعة آ الف‪ ،‬و «شــبث بــن ربعي» في ألف‪ ،‬و ّ‬
‫«حجار بــن أبجر » في ألف‬
‫ّ‬
‫‪ ..‬وتتابعت الكتائب تلو الكتائب ‪ ..‬جنود يشبهون في ذلتهم األسرى ‪..‬‬
‫قلوبهم مع الحسين وسيوفهم تستهدف قلبه‪.‬‬
‫حيــات وأفــاع تتلـ ّـوى ‪ ..‬تزحــف باتجــاه «الفــرات»‪ .‬وبــدا النهــر أفعى‬
‫ّ‬
‫خرافية تتمدد وسط الرمال ‪..‬‬
‫ً‬
‫وفي الكوفة‪ ،‬مطرت الســماء ذهبا يخطف األبصار ويسلب األلباب‪،‬‬

‫‪39‬‬
‫طمت رؤوسهم‬‫واجتمع زعماء «القبائل» تحت المطر ‪ ،‬فلم يبرحوا حتى ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وعصيه‪ ،‬فإذا‬ ‫بالذهب‪ ،‬واألرقط ينثر األموال ويوفر العطاء ‪ ..‬يلقي حباله‬
‫هي ّ‬
‫حيات وعقارب تسعى‪.‬‬
‫وافتتنــت «المومــس» بابــن زيــاد‪ ،‬فنســيت ذكــر الحســين ‪ ..‬قالــت‬
‫بخالعة‪:‬‬
‫ ‪-‬مالي والدخول بين السالطين ‪..‬‬
‫قهقهه «األرقط» ‪ّ ..‬‬
‫دوت ضحكة شيطانية في أرجاء القصر ‪ ..‬جيوشه‬
‫تحاصر القافلة ‪ ..‬تمنعها من العودة‪.‬‬
‫ ‪-‬وقعــت فــي قبضتــي يــا حســين ‪ ..‬هــا أنــا أرتقــي ّ‬
‫قمــة المجــد ‪..‬‬
‫ً‬
‫قائال‪ّ :‬‬
‫حطة‪ .‬أنا ابن زياد ابن ‪ ..‬أبي ســفيان‬ ‫ســيدخل بوابة قصري‬
‫‪ ..‬صخر بن حرب‪.‬‬
‫افتر الرجل األبرص عن شفتين غليظتين‪ ،‬فظهرت أنياب ّ‬
‫حادة‪.‬‬
‫ ‪-‬ال تقبل من الحسين إال النزول على حكمك‪ .‬إنه اآلن في أرضك‪،‬‬
‫ّ‬
‫فضيق عليه الخناق‪.‬‬
‫مــا لهــذا األبرص؟! ‪ ..‬صوته كفحيح االفعــى‪ .‬الخنزير يريد للنخل أن‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يركع ‪ ..‬والنخل الباسق يعشق الفضاء‪ ،‬و إال مات واقفا‪.‬‬
‫األرقط يجيد «الشــطرنج»‪ .‬ينقل جنده وقالعــه ‪ّ ..‬‬
‫يحرك فيلة وخنازير‬

‫‪40‬‬
‫وبيادق تحلم بحكم «الري وجرجان»‪.‬‬
‫ّ‬
‫األرقــط يعــرف «أصــول اللعبــة» ‪ ..‬مــن يمينــه تتدلى مشــانق وحبال‪،‬‬
‫ومن شــماله يســيل ذهب أصفر يأخــذ باأللباب ‪ ..‬والبيــادق الفئران ّ‬
‫تفر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مذعورة ‪ ..‬تحمل سيوفا خشبية ‪ ..‬وتمتلئ جيوبها فضة أو ذهبا ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫واألرقط الذي ّ‬
‫تلبس وجهه جلد األفعى يتمدد في «النخيلة»‪ ،‬يراقب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ســيدمر لعبته ‪ ..‬ســيلقف ســيفه كل‬ ‫بيادقه بحذر وترقب ‪ .,‬هناك رجل‬
‫ّ‬
‫وعصيه ‪ ..‬وجيوشه الوهمية‪.‬‬ ‫حباله‬
‫صرخ األرقط بالرجل األبرص‪.‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬اكتب «البن ســعد»‪ :‬أما بعد؛ إني لم أبعثك إلى الحســين لتكف‬
‫عنه وال ّ‬
‫لتمنيه الســامة‪ .‬انظر ‪ ،‬فإن نزل الحســين وأصحابه على‬
‫حكمــي فابعــث بهــم ّ‬
‫الــي‪ ،‬وأن أبوا فازحــف اليهم حتــى تقتلهم‬
‫ّ‬
‫وتمثل بهم‪.‬‬
‫كخنزير راح الشمر يجري صوب أحالمه المريضة ‪ ..‬تفوح منه رائحة‬
‫الموت‪ ،‬وآ الف الضحايا ترقد في عينه المنطفئة ‪ ..‬ومن عطفيه تنبعث‬
‫حرائق ودخان‪ ،‬وروائح أجساد محترقة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ســلم الكتــاب إلــى «قائــد الجيــش»‪ ،‬وراح ينظــر إليــه خلســة بعيــن‬
‫هوة ســحيقه تعشعش فيها‬ ‫نصف مغمضة‪ .‬أما عينه األخرى فقد بدت ّ‬

‫‪41‬‬
‫العناكب‪.‬‬
‫أدرك الرجــل الــذي ناهــز الســبعين أن األبــرص قــد جــاء يســرق منــه‬
‫ً‬
‫أحالما قديمة ‪ ..‬جميلة تحكي جمال مدن «الري» و «جرجان»‪.‬‬
‫َ‬
‫وقبح ما جئت به‪ .‬واهّلل ال يستسلم الحسين‪ّ .‬إن نفس‬ ‫ ‪ّ -‬قبحك اهّلل ّ‬
‫أبيه بين جنبيه‪.‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬فخل بيني وبين العسكر ‪.‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬بل أنا الذي أتولى ذلك‪.‬‬
‫عقربان يتنافســان في الصحراء ‪ ..‬ينعب في صدريهما بوم وغراب ‪..‬‬
‫يتنافسان على الفوز في سباق من الخسران المبين‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪9‬‬
‫تجمعــت فــي الســماء النــذر ‪ ..‬و إرهاصــات حــرب ّ‬
‫مدمــرة تتراكــم‪،‬‬
‫كأ كــوام مــن الغيــوم المشــحونة بــآ الف الصــواع ‪ ..‬وليل الصحــراء مليء‬
‫باألسرار ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خــرج رجــل من بين مضارب الخيام ‪ ..‬عينــاه تتألقان تألق النجوم ‪..‬‬
‫وخرج رجل يتبعه ‪ ..‬يخاف عليه الغدر ‪.‬‬
‫ ‪-‬من الرجل؟!‬
‫ ‪-‬نافع بن هالل الجملي‪.‬‬
‫ ‪-‬ما الذي أخرجك في جوف الليل؟‬
‫ً‬
‫ ‪-‬أفزعنــي خروجــك يا ابن النبي ‪ ..‬والظالم يخفي ســيوفا مســمومة‬
‫وخناجر ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ ‪-‬خرجــت اتفقــد القــاع والروابي‪ ،‬مخافــة أن تكون مكمنــا لهجوم‬

‫‪43‬‬
‫الخيل يوم تحملون ويحملون‪.‬‬
‫ّ‬
‫شد الحسين على يد صاحبه وقال‪:‬‬
‫ ‪-‬هذه هي األرض التي ُوعدت بها‪.‬‬
‫ونظر إلى صاحبه بإشفاق وأردف‪:‬‬
‫ُ‬
‫ ‪-‬إال تسلك بين هذين الجبلين وتنجو بنفسك؟‬
‫كظامــئ اكتشــف ينابيــع الماء‪ ،‬ألقــى نافع نفســه على ينبــوع الخلد‬
‫وحياة ال تفنى‪:‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫علي! ال فارق ُتك أبدا‪.‬‬ ‫سيدي ‪ ..‬واهّلل الذي ّ‬
‫من بك ّ‬ ‫ ‪ْ -‬‬
‫ثكلتني أمي يا ّ‬
‫مــاذا رأى «نافــع» تلــك الليلــة؟! مــاذا اكتشــف لكــي ّ‬
‫يفــر مــن الدنيا‬
‫ّ‬
‫لعله شــاهد فــي عينيه ّ‬
‫جنة مــن أعناب‬ ‫‪ ..‬لكــي يســافر مــع الحســين ‪..‬‬
‫ونخيل تجري من تحتها األنهار ‪..‬‬
‫وعاد الحسين إلى مضارب القافلة‪ ،‬وفي عينيه تصميم وعزم ‪..‬‬
‫ّ‬
‫الجيوش التي أحدقت بالفرات تسد األفق ‪ ..‬تموج كالسيل ‪ ..‬كالب‬
‫مســعورة وذئــاب تريد الفتك ‪ ..‬قبائل وحشــية‪ ،‬أســكرتها نشــوة الســلب‬
‫والنهــب ‪ ..‬ما عســاها تفعل القافلة فــي ّ‬
‫مهب إعصار فيه نار ؟! ســبعون‬
‫سنبلة خضراء تحدق بها أسراب الجراد ‪..‬‬

‫‪44‬‬
‫ّ‬
‫تتخطفه‪ ،‬وقال بحزن‪:‬‬ ‫نظر الحسين إلى آ الف السيوف التي جاءت‬
‫ ‪-‬الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألســنتهم يحوطونه ّ‬
‫مادرت‬
‫معايشهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتلفــت خلفــه‪ ،‬فلــم يجــد إال ثلــة مــن المؤمنيــن؛ ســبعون أو يزيدون‬
‫ّ‬
‫ومثلهم معهم من الضعفاء صبية ونساء ‪ ..‬وطريقان ال ثالث لهما‪ :‬السلة‬
‫ّ‬
‫أو الذلة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬هيهات ّ‬
‫منا الذلة ‪ ..‬الموت أولى من ركوب العار ‪.‬‬
‫ ‪-‬لسوف يقودون بنات محمد سبايا!‬
‫ ‪-‬العار أولى من دخول النار ‪.‬‬
‫ّ‬
‫الذئاب الجائعة تعوي ‪ ..‬تتحفز للفتك‪ ،‬والقبائل تحلم بالغزو وليالي‬
‫السلب المجنونة‪.‬‬
‫شـ ّـمت النســور مــن بعيــد رائحــة معركــة وشــيكة‪ ،‬فراحــت تــدور في‬
‫الســماء ‪ ..‬تترقب صيدها بفارغ الصبر ‪ ..‬بدت وكأنها مقبرة هائلة فاغرة‬
‫األفواه ‪..‬‬
‫القبائل تشاورت حول األسالب ‪ ..‬تفاهمت‪.‬‬
‫وقف «األبرص» على الميســرة‪ ،‬وانفرد «ابن الحجاج» بالميمنة‪ ،‬فيما‬

‫‪45‬‬
‫وقف بينهما رجل قارب السبعين يحلم بـ«الري» و «جرجان»‪.‬‬
‫ ‪-‬ماذا أعددت لهؤالء يا سيدي الحسين؟‬
‫ ‪-‬سيف ّ‬
‫محمد‪.‬‬
‫ ‪-‬وماذا؟‬
‫ً‬
‫ ‪-‬ورجاال صدقوا ما عاهدوا اهّلل عليه‪.‬‬
‫ ‪-‬وماذا؟‬
‫ ‪-‬واألجيال‪.‬‬
‫و شوهد الحسين يجول بفرس ‪ ..‬يرسم ّ‬
‫خطة المواجهة‪.‬‬
‫ ‪-‬قاربوا بين االبنية‪.‬‬
‫تعانقت الخيام ببعضه ‪ ..‬تالحمت كالبنيان المرصوص‪.‬‬
‫وشــوهد الحســين وأصحابــه يحفــرون الخنــادق خلــف الخيــام‬
‫ً‬
‫ويمألونها حطبا‪.‬‬
‫ ‪-‬كيال تقتحمه الخيل ‪..‬‬
‫ ‪-‬ويكون القتال في جبهة واحدة‪.‬‬
‫األطفــال ينظــرون ـ بحــزن ـ جهة الفرات‪ .‬شــفاه يابســة تحلــم بالندى‬

‫‪46‬‬
‫‪ ..‬وفتيــات بلغـ ْ‬
‫ـت قلوبهــن الحناجر يصغيــن ـ برعب ـ إلــى طبول قبائل‬
‫تحلم بالغزو والســبي؛ ونســور مجنونة تحــوم ‪ ..‬تنتظر لحظة االنقضاض‬
‫‪ ..‬هــي ذي لحظــات الغــروب تتراكــم ملتهبــة ‪ ..‬والفــرات ّ‬
‫يتأجج خلف‬
‫ذرى النخيل المتقدة ‪ ..‬الليل يوشك أن يهبط والحمرة القانية تتحول‬
‫إلــى رمــاد ‪ ..‬الظالم يجثم فوق الرمال كغراب في مســاء خريفي ‪ ..‬الحزن‬
‫ّ‬
‫يجــوس خــال الخيــام ‪ ..‬ينشــر ظله الثقيــل ‪ ..‬وآهــات تتصاعد من كل‬
‫مكان ‪ ..‬وأمنيات خضراء تحلم بالمطر والخصب والحياة‪.‬‬
‫ْ‬
‫شــهدت ـ من قبل ـ‬ ‫دخــل الحســين خيمة أختــه زينب ‪ ..‬المرأة التي‬
‫مصرع أبيها واغتيال أخيها ‪ ..‬فجاءت تحرس آخر أصحاب الكســاء ‪..‬‬
‫تريد أن تشاركه في كل شي ‪ ..‬تقتسم معه الموت والخلود‪.‬‬
‫ً‬
‫نســيم هــادئ حـ ّـرك طــرف الخيمــة ‪ّ ..‬ربما مســح عليها مواســيا قبل‬
‫هبوب العاصفة‪.‬‬
‫قالت زينب‪:‬‬
‫ ‪-‬هل اســتعلمت من أصحابك نياتهم‪ ،‬فإني أخشــى أن يســلموك‬
‫عند الوثبة‪.‬‬
‫ ‪-‬واهّلل لقــد بلوتهــم‪ ،‬فمــا وجــدت فيهــم إال األشــوس ‪ ..‬يستأنســون‬
‫بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب ّأمه‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫وكان نافع يصغي إلى هموم زينب ‪ ..‬إلى مخاوف عقيلة بني هاشم‪.‬‬
‫ذرف على الستين بأعوام‪:‬‬ ‫أسرع نافع إلى رجل ّ‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬هلــم يــا حبيــب ‪ ..‬هلــم إلــى زينــب ‪ ..‬إنهــا تخشــى الغــدر ‪ ..‬وقد‬
‫اجتمعت النسوة عندها يبكين‪.‬‬
‫ّ ّ‬
‫بريق نفاذ اتقد في العينين األسديتين ‪ ..‬توهجات الغضب المخزون‬
‫ّ‬
‫اشتعلت كلها في لحظة واحدة ‪..‬‬
‫هتف حبيب‪:‬‬
‫ ‪-‬يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة!‬
‫انبعثت من بين الخيام ســيوف ورجال ‪ ..‬العزم المشتعل في العيون‬
‫يكاد يضيء التاريخ‪ ،‬والسواعد المفتولة توشك أن تلوي األقدار ‪.‬‬
‫وقف الرجال ازاء خيمة يعصف بها القلق والخوف‪.‬‬
‫هتف حبيب‪:‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬يا معشــر حرائر رســول اهّلل! هذه صوارم فتيانكــم‪ ،‬آلوا أ ل يغمدوها‬
‫أســنة غلمانكم أقسموا‬‫إال في رقاب من يريد الســوء فيكم‪ ،‬وهذه ّ‬
‫أال يركزوها إال في صدور من يفرق ناديكم ‪..‬‬
‫ومــن قلــب الخيمــة الحزينــة‪ ،‬ينبعث صوت اســتغاثة ‪ ..‬اســتغاثة ما‬

‫‪48‬‬
‫تزال حتى اليوم تســتفهم التاريخ واإلنســانية ‪ ..‬صوت امرأة خائفة تنشد‬
‫ّ‬
‫حقها في السالم‪.‬‬
‫الطيبون حاموا عن بنات رسول اهّلل‪.‬‬‫ ‪ّ -‬أيها ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫لو كانت الغيوم حاضرة ّ‬
‫لتفجرت مطرا ساخنا كدموع األطفال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المتأججة وهــي تتطلع إلــى مذبحة‬ ‫وبكــى الرجــال ‪ ..‬بكــت العيــون‬
‫ّ‬
‫مروعة ستحدث بعد ساعات‪.‬‬
‫ً‬
‫وفي سحر تلك الليلة‪ ،‬رأى الحسين ـ في عالم االطياف ـ كالبا تنهشه‬
‫ّ‬
‫‪ ..‬تتخطف جسده‪ ،‬وأشدها كان األبقع ‪..‬‬

‫‪49‬‬
‫‪10‬‬
‫ّ ً‬ ‫ً‬
‫رمادا ّ‬
‫متلو يا‬ ‫ذرته الريح في العيون‪ ،‬والفرات ما يزال يجري‬ ‫فجر بشبه‬
‫ّ‬
‫كحيــة تســعى‪ ،‬والقبائــل التــي باتــت تحلــم باألســاب اســتيقظت ترنو‬
‫متنمرة إلى مضارب خيام بعيدة‪.‬‬ ‫بعيون ّ‬

‫اختلطــت أصوات عديــدة؛ رغاء جمال ‪ ..‬وصهيل خيــول ‪ ..‬وقعقعة‬


‫سيوف ورماح ودموع‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫والحر الذي أوقع بالقافلة‪ ،‬وســاقها إلى أرض الموت‪ ،‬يقف مشــدوها‬
‫ً‬
‫لمنظر جموع غفيرة ‪ ..‬جاءت لقتل سبط النبي‪ .‬لم يخطر بباله أبدا أن‬
‫ّ‬
‫تنحدر الكوفة لقتل «المخلص»‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حرك فرســه إلى مقدمة الصفوف‪ ،‬وراح يحدق في األفق حيث يقف‬
‫ُّ‬
‫الحســين ‪ ..‬شــاهده مــن بعيــد يصــف مقاتليــه ‪ ..‬إنهــم ال يزيــدون على‬
‫ً‬
‫الســبعين أو الثمانيــن‪ .‬هل ســيقاتل الحســين حقا؟ هــل يدخل معركة‬
‫خاسرة؟‬

‫‪50‬‬
‫وسمع ّ‬
‫الحر الحسين يخطب بجيشه الصغير ‪:‬‬
‫ ‪-‬إن اهّلل تعالــى قــد أذن فــي قتلكــم وقتلــي في هــذا اليــوم فعليكم‬
‫بالصبر والقتال ‪..‬‬
‫رآهــم ينقســمون إلــى ثــاث فــرق؛ الجنــاح األيمــن بقيــادة «زهيــر بن‬
‫القيــن»‪ ،‬والجناح األيســر بقيادة «حبيب بن مظاهر »‪ .‬أما الحســين فقد‬
‫ّ‬
‫ثبــت فــي القلــب ‪ ..‬وتســلم الراية «أبــو الفضل» فبــدا والرايــة تخفق فوق‬
‫ً‬
‫رأسه جيشا لوحده‪.‬‬
‫ً‬
‫القبائل تزحف باتجاه الخيام ‪ ..‬والخيول تجول ‪ ..‬تثير غبارا والقلوب‬
‫ّ‬
‫الصغيرة في حنايا الخيام تخفق بشد ‪ ..‬يا له من يوم عصيب!‬
‫أصدر الحســين أمره بإضرام النار في الخندق ‪ ..‬فتصاعدت ألســنة‬
‫اللهب ‪ ..‬وتراجعت الخيول ‪ّ ..‬فرت مذعورة من ّ‬
‫خط النار ‪.‬‬
‫اغتاظ «األبرص» من هزيمة فرسانه‪ ،‬فصاح بنفاق‪:‬‬
‫تعجلت بالنار قبل يوم القيامة!‬‫ ‪-‬يا حسين‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫سأل الحسين مستوثقا‪:‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬من هذا؟! كأنه شمر بن ذي الجوشن‪.‬‬
‫ ‪-‬نعم ‪ ..‬إنه الشمر ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫انطلق صوت الحسين‪:‬‬
‫ًّ‬
‫صليا‪.‬‬ ‫ ‪-‬يا بن راعية المعزى! أنت أولى بها‬
‫ً‬
‫وضع «مسلم بن عوسجة» سهما في كبد القوس ‪ ..‬استهدف األبرص‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الذي باع نفسه للشيطان‪ .‬وفي اللحظة االخيرة‪ ،‬تدخل الحسين قائال‪:‬‬
‫ ‪-‬أ كره أن أبدأهم بقتال‪.‬‬
‫ّ‬
‫تذكر الحســين كيف كان األبقع ينهش جســده بوحشــية ‪ ..‬رفع يديه‬
‫ً‬
‫إلــى الســماء ‪ ..‬إلــى العالــم الالنهائــي ‪ ..‬شــاكيا ويــات األرض ‪ ..‬كانــت‬
‫كلماته تنساب كنهر بارد ‪ ..‬نهر قادم من جنات عدن‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ ‪-‬اللهــم أنــت ثقتي في كل كــرب‪ ،‬ورجائي في كل شــدة‪ ،‬وأنت لي‬
‫ّ‬
‫فــي كل أمــر نــزل بــي ثقة وعــدة ‪ ..‬كم من هــم يضعف فيــه الفؤاد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العدو‬ ‫وتقــل فيــه الحيلــة‪ ،‬ويخــذل فيــه الصديق‪ ،‬ويشــمت فيــه‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫رغبة مني إليك ّ‬
‫فكشفته‬ ‫عمن ســواك‪،‬‬ ‫أنزلته بك وشــكوته إليك‬
‫ّ‬ ‫وفر َ‬
‫ّ‬
‫جته‪ .‬فأنت ّ‬
‫ولي كل نعمة ومنتهى كل رغبة ‪..‬‬
‫ً‬
‫القبائل تزداد ضراوة ‪ ..‬والســيوف تبرق من بعيد ‪ ..‬تقطر حقدا ونذالة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ ّ‬
‫والحر يتقدم قليال قليال ‪ ..‬راح ينظر إلى الحســين الذي ركب ناقته ‪..‬‬ ‫‪..‬‬
‫يريد أن يخطب بالقبائل المحيطة به ‪ ..‬أرهف ّ‬
‫الحر سمعه لهذا القادم‬
‫من أقصى الجزيرة يحمل معه كلمات محمد وعزم علي‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫ّ‬
‫كنبي يعظ قومه‪:‬‬ ‫استوى الحسين على ناقته‪ ،‬فبدا‬
‫ٍ‬
‫ ‪-‬أيهــا الناس اســمعوا قولــي وال تعجلــوا حتى أعظكم بمــا هو حق‬
‫لكــم علــي‪ ،‬وحتى اعتذر إليكــم من مقدمي عليكــم‪ .‬فإن قبلتم‬
‫وصدقتــم قولي وأعطيتموني َ‬ ‫ّ‬
‫النصف من أنفســكم كنتم‬ ‫عــذري‬
‫بذلــك أســعد‪ ،‬ولــم يكــن لكــم ّ‬
‫علــي ســبيل‪ .‬و إن لم تقبلــوا مني‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جمعوا أمركم وشــركاءكم‬ ‫العذر ولم تعطوا النصف من أنفســكم فأ ِ‬
‫ثــم ال يكــن أمركم عليكم ُغ ّمة ثــم اقضوا َّ‬
‫إلي وال ُتنظــرون ّإن ّ‬
‫وليي‬
‫ّ‬
‫اهّلل الذي ّنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين‪.‬‬
‫اختلطت الكلمات مع بكاء مرير انبعث من قلب الخيام ‪..‬‬
‫توقــف الحســين عــن إلقــاء الخطــاب ‪ ..‬أمر أخــاه «أبا الفضــل» وابنه‬
‫ً‬
‫«عليا األ كبر »‪:‬‬
‫ّ‬
‫بكاؤهن ‪..‬‬ ‫ ‪-‬سكتاهن‪ ،‬فلعمري ليكثر‬
‫ً‬
‫عاد الصمت ثقيال ‪ ..‬ســكوت عجيب يهمين على كل شيء ما خال‬
‫ريح خفيفة كانت تحمل كلمات الحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬أيهــا النــاس إن اهّلل تعالــى خلــق الدنيــا فجعلهــا دار فنــاء وزوال‬
‫حاال بعد حــال‪ .‬فالمغرور من ّ‬‫ً‬ ‫ّ‬
‫غرته والشــقي من‬ ‫متصرفــة بأهلهــا‬
‫فتنتــه فــا ّ‬
‫تغرنكــم هــذه الدنيــا فإنهــا تقطع رجــاء من ركــن إليها‬

‫‪53‬‬
‫ّ‬
‫وتخيــب طمع مــن طمع فيهــا‪ .‬وأراكم قد اجتمعتــم على أمر قد‬
‫أســخطتم اهّلل فيــه عليكم‪ ،‬وأعــرض بوجهه الكريــم عنكم‪ .‬فنعم‬
‫ـرب ّربنــا وبئس العبيــد أنتــم‪ ،‬أقررتــم بالطاعة وآمنتم بالرســول‬
‫الـ ّ‬
‫ّ‬
‫محمــد‪ ،‬ثــم إنكم زحفتم إلــى ّ‬
‫ذر يتــه وعترته تريــدون قتلهم‪ .‬لقد‬
‫ًّ‬
‫فتبا لكم‬ ‫اســتحوذ عليكم الشــيطان فأنســاكم ذكر اهّلل العظيم ‪..‬‬
‫ولمــا تر يــدون‪ .‬إنــا هّلل و إنــا إليــه راجعــون ‪ ..‬هــؤالء قــوم كفــروا بعــد‬
‫ً‬
‫إيمانهم‪ ،‬فبعدا للقوم الظالمين ‪..‬‬
‫ً‬ ‫الحر ّ‬
‫الكلمــات تختــرق اآلذان ‪ ..‬تتغلغل في القلوب‪ .‬شــعر ّ‬
‫بأن زلزاال‬
‫يضرب دنياه‪ .‬راح يصغي إلى ّ‬
‫دوي االنقاض وهي تتراكم في أعماقه‪:‬‬
‫هل أنا في كابوس؟ ‪ ..‬ماذا أرى؟ ‪ ..‬ماذا اسمع؟ ّرباه ماذا افعل؟!‬
‫را كــب الناقــة مــا يــزال يرســل كلمــات يبعثهــا مــع الريــح ‪ ..‬علــى‬
‫أجنحة‪ ‬الفكر ‪..‬‬
‫ ‪-‬أيهــا النــاس انســبوني من أنــا‪ ،‬ثــم ارجعوا إلــى انفســكم وعاتبوها‬
‫ّ‬
‫وانظــروا هــل يحل لكم قتلي ‪ ..‬ألســت أنا ابن بنــت نبيكم؟ وابن‬
‫ّ‬
‫وصيــه وابن عمــه؟ وأول المؤمنين بــاهّلل والمصدق لرســوله؟ ‪ ..‬أو‬
‫ليس حمزة ســيد الشــهداء عم أبــي؟! أو ليس جعفــر الطيار في‬
‫الجنــة ّ‬
‫عمــي؟ ‪ ..‬أو لــم يبلغكم قول رســول اهّلل لــي وألخي هذان‬
‫ّ‬ ‫ســيدا شــباب أهل ّ‬
‫الجنة؟ فإن صدقتموني بما أقول‪ ،‬وهو الحق‬

‫‪54‬‬
‫واهّلل مــا تعمــدت الكــذب منذ علمــت أن اهّلل يمقــت عليه أهله‬
‫ويضر به من اختلقه‪ ،‬و إن كذبتموني ّ‬
‫فإن فيكم من اذا ســألتموه‬ ‫ّ‬
‫عــن ذلــك أخبركــم‪ .‬ســلوا «جابــر بــن عبــد اهّلل االنصــاري» و «أبــا‬
‫ســعيد الخدري» و «ســهل بن ســعد الســاعدي» و «زيد بن أرقم»‬
‫و «أنس بن مالك» يخبرونكم أنهم ســمعوا هذه المقالة من رسول‬
‫اهلل لي وألخي‪ .‬أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟‬
‫صرخ صوت شيطاني يريد أن يبتلع كلمات األنبياء ‪ ..‬صرخ األبرص‪:‬‬
‫ ‪-‬إنا ال ندري ما تقول؟!‬
‫ً‬
‫هتف حبيب‪ ،‬وكان رجال على أعتاب السبعين‪:‬‬
‫ ‪-‬أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول‪ ،‬قد طبع اهلل على قلبك‪.‬‬
‫البركان الثائر يستأنف إرسال حممه‪:‬‬
‫ ‪-‬فإن كنتم في شــك من هذا القول‪ ،‬أتشكون إني ابن بنت نبيكم‪،‬‬
‫فــواهلل مــا بيــن المشــرق والمغــرب ابن بنــت نبي غيــري فيكم وال‬
‫فــي غيركــم‪ ،‬ويحكــم! أتطلبونــي بقتيل لكــم قتلته! أو مــال لكم‬
‫استهلكته أو بقصاص جراحة؟!‬
‫وقفــت القبائــل عاجــزة ‪ّ ..‬إن فــي طينــة البشــر قابليــة االنحطــاط ‪..‬‬
‫االنحطاط حتى المســخ ‪ ..‬قابلية تشــبه الجاذبية في األجسام ‪ ..‬الكوفة‬

‫‪55‬‬
‫مثقلة باإلثم والغدر ‪ ..‬قلبها مع الحسين وسيفها يمزق قلبه‪.‬‬
‫ونادى الحسين بصوت جهوري‪:‬‬
‫ ‪-‬یا «شبث بن ربعي» و یا «حجار بن أبجر » و یا «قیس بن األشعث»‬
‫و یــا «زید بن الحــارث» ألم تكتبوا ّ‬
‫إلي أن أقــدم قد أينعت الثمار‬
‫ّ‬
‫وأخضر الجناب و إنما تقدم على جند لك مجندة؟‬
‫تعالت أصوات مذعورة ‪ ..‬أصوات فئران خائفة‪:‬‬
‫ ‪-‬لم نفعل ‪ ..‬لم نفعل‪.‬‬
‫ ‪-‬ســبحان اهلل! بلــى واهلل لقــد فعلتــم ‪ ..‬أيهــا النــاس إذا كرهتمونــي‬
‫فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من األرض‪.‬‬
‫صرخ قيس بن األشعث‪ ،‬وقد التمعت عيناه بالغدر ‪:‬‬
‫ ‪-‬أو ال تنــزل علــى حكــم بنــي عمك؟ فإنهــم لن يــروك إال ما تحب‪،‬‬
‫ولن يصل إليك منهم مكروه‪.‬‬
‫أنت أخو أخيك‪ .‬أتريد أن يطلبك بنو هاشــم بأ كثر من دم مســلم بن‬
‫عقيل؟ ال واهلل ال أعطيهم بيدي إعطاء الذليل وال أفر فرار العبيد ‪ ..‬عباد‬
‫اهلل إنــي عــذت بربي وربكم أن ترجمون‪ .‬أعوذ بربي وربكم من كل متكبر‬
‫ال يؤمن بيوم الحساب‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫‪11‬‬
‫أشــرقت الشــمس ‪ ..‬حمــراء ‪ ..‬حمــراء بركــة مــن دمــاء التمعــت ذرئ‬
‫النخيــل‪ ،‬وتوهجــت ذرات الرمــال‪ ،‬واصطبغــت وجــوه القبائــل بلــون‬
‫الجريمة ‪ ..‬واستيقظ الشيطان يعربد ويدمر ‪..‬‬
‫صرخ شيطان من القبائل‪:‬‬
‫ ‪-‬یا حسین ‪ ..‬أبشر بالنار ‪.‬‬
‫كذبت بل أقدم على رب غفور كریم ‪ ..‬فمن أنت؟‬
‫ ‪-‬أنا ابن حوزة‪.‬‬
‫رفع السبط يديه إلى السماء‪:‬‬
‫ ‪-‬اللهم حزه إلى النار ‪.‬‬
‫ال أحــد يعــرف كيف حدث األمر ‪ .‬ما الــذي أغضب الفرس؟ ما الذي‬
‫دفعهــا ألن تركض كالمجنونة ‪ ..‬تدور وتدور ‪ ..‬وفي فورة غضب تمكنت‬

‫‪57‬‬
‫الفرس أن تقذف من على ظهرها الفارس ‪ ..‬في قلب الخندق المشتعل‬
‫‪ ..‬لحظات مرت تحول فيها ابن حوزة إلى رماد ‪ ..‬تحولت أحالم السلب‬
‫والنهب وشهوة القتل إلى هشيم تذروه الريح ‪..‬‬
‫لو كان هناك رجل من الحواريين لقال هذا ابن اهلل‪.‬‬
‫ولقال له الحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬انا ابن نبي اهلل‪.‬‬
‫هتف السبط‪:‬‬
‫‪ -‬اللهم إنا أهل بیت نبيك وذريته وقرابته‪ ،‬فاقصم من ظلمنا وغصبنا‬
‫حقنا إنك سميع قريب ‪..‬‬
‫ً‬
‫ما أقرب الســماء لإلنســان إن ســما ‪ ..‬وتذكر الحســين رجال سأل أباه‪:‬‬
‫كــم هــي المســافة بيــن الســماء واألرض؟ فأجاب «بــاب مدينــة العلم»‪:‬‬
‫دعوة مستجابة‪.‬‬
‫ً‬
‫وقــف ابــن ســعد منتشــيا بأحالمــه ‪ ..‬ماهي إال ســاعة‪ ،‬ثــم ينتهي كل‬
‫شــيء ‪ ..‬ســوف يحكــم قبضته علــى الري وجرجــان ‪ ..‬لم تبــق إال خطوة‬
‫واحــدة ‪ ..‬أن يعبــر جثــة الحســين ‪ ..‬بركــة صغيرة مــن الدم ‪ ..‬ثــم ينطلق‬
‫صــوب الشــرق ‪ ..‬إلى عالــم يزخر بالجــواري والحريم ‪ ..‬إلــى جنيا تموج‬
‫بالثروة والسلطة ونشوة الحكم ‪..‬‬

‫‪58‬‬
‫تقدم الحر ‪ ..‬أيقظه من الحلم‪:‬‬
‫ ‪-‬أمقاتل انت هذا الرجل؟!‬
‫ً‬
‫ ‪-‬إي واهلل قتاال أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح االيدي‪.‬‬
‫مأمن في هذه األرض؟‬
‫ ‪-‬دعوه ينصرف إلى ٍ‬
‫ ‪-‬لو كان األمر بيدي لقبلت ‪ ..‬إنها أوامر ابن زیاد‪.‬‬
‫أدرك الحــر أن الســاعة آتية ال ريب فيها‪ ،‬ولســوف تذهــل كل مرضعة‬
‫عمــا أرضعــت‪ ،‬وتــرى النــاس ســكارى و مــا هــم بســكارى ‪ ..‬وبــدأ الحر‬
‫يخطو صوب القافلة ‪ ..‬قال «ابن أوس» وقد ذهبت به الظنون‪:‬‬
‫ ‪-‬أتريد أن تحمل؟!‬
‫ ‪..-‬‬
‫ضــرب الزلــزال األعمــاق مــرة أخــرى‪ ،‬وشــعر الحــر باألنقــاض تتراكــم‬
‫بعضها فوق بعض ‪..‬‬
‫ً‬
‫هتف ابن أوس متعجبا‪:‬‬
‫ ‪-‬لــو قيــل لي من أشــجع أهل الكوفــة لما عدوتك؟ فمــا هذا الذي‬
‫أراه منك؟‬
‫التفت الحر وصوب نحوه نظرة تحمل كل معاني اال كتشاف‪:‬‬

‫‪59‬‬
‫ ‪-‬انــي ّ‬
‫أخيــر نفســي بيــن الجنــة والنــار ‪ ..‬واهلل ال أختار علــى الجنة‬
‫ً ُ‬
‫شيئا ولو أحرقت ‪..‬‬
‫ً‬
‫تمتم ابن سعد مذهوال‪:‬‬
‫ ‪-‬مــاذا أرى؟ ‪ ..‬مــاذا يفعل هــذا المجنون؟ ‪ ..‬كيف يختار اإلنســان‬
‫ً‬
‫الموت! انظروا إليه ‪ ..‬كيف يبدو خاشعا أمام الحسين ‪..‬‬
‫ ‪-‬انصتوا أنه الحر ‪.‬‬
‫قهقه أحدهم‪:‬‬
‫ ‪-‬إنه يريد موعظتنا هو اآلخر ‪..‬‬
‫هتف شبث بن ربعي‪:‬‬
‫ ‪-‬أيها األحمق‪ ،‬دعنا نسمع ما يقول‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وجــاء صوت الحر جهوريا مدويا منطلقا من أعماق نفس اكتشــفت‬
‫ينابيع الخلود‪:‬‬
‫ ‪-‬يا أهل الكوفة ّ‬
‫ألمكم الهبل والعبر ‪ ،‬إذ دعوتموا هذا العبد الصالح‬
‫وأحطتم به من كل جانب ومنعتموه التوجه إلى بالد اهلل العريضة‬
‫حتــى يأمن هو وأهل بيته‪ ،‬وأصبح كاألســير في أيديكم ال يملك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لنفســه نفعا وال ضرا وحألتموه ونســاءه وصبيته وصحبه عن ماء‬

‫‪60‬‬
‫الفرات الجاري الذي يشــرب اليهود منه والنصارى والمجوس‪،‬‬
‫وتمــرغ فيــه خنازیر الســواد وكالبــه! وها هم قد صرعهــم العطش‪،‬‬
‫ً‬
‫بئسما خلفتم محمدا في ذريته ‪..‬‬
‫ً‬
‫وانطلقــت نحوه الســهام المطر ‪ ..‬وتقهقــر الحر متفاديا نبــال القبائل‬
‫الغادرة‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫‪12‬‬
‫نســور مجنونــة تحــوم فــي الســماء‪ ،‬وريــح عاصــف تهــب مــن ناحية‬
‫الصحراء‪ ،‬وبدت أشجار النخيل كرماح مركوزة في خاصرة الفرات‪.‬‬
‫ً‬
‫بــدا الجــو مشــحونا بالخطــر ‪ ،‬ومثلمــا تندلــع الصواعــق بيــن أ كــوام‬
‫السحب‪ ،‬تدفقت سهام مجنونة تحمل في انصالها الموت‪.‬‬
‫هتف الحسين بأنصاره‪:‬‬
‫ ‪-‬قومــوا رحمكــم اهلل إلــى الموت الذي البــد منه‪ ،‬فإن هذه الســهام‬
‫رسل القوم إليكم‪.‬‬
‫هب رجال كانوا ينتظرون على أحر من الجمر ‪.‬‬
‫ً‬
‫كيــف أصبــح الموت أمنية لهــم؟ كيف أضحى في نظرهــم خلودا ‪..‬‬
‫كيف تحولت الصحراء الملتهبة إلى جنات تجري من تحتها األنهار ‪.‬‬
‫غــاص الرجــال في أحــراش كثيفة مــن رماح وســيوف‪ .‬كانــوا يقاتلون‬

‫‪62‬‬
‫بضــراوة ال نظيــر لها‪ ،‬كما لــو كانوا يريــدون توجيه مســار التاريخ االتجاه‬
‫الذي ينشدون‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫امتــأ الجــو غبــارا ودخانــا‪ ،‬وكانت الســيوف تهــوي كبروق مشــتعلة‪.‬‬
‫ً‬
‫وعندما غادر الغبار أرض المعركة‪ ،‬كان هناك خمسون صريعا يعالجون‬
‫جراحاتهم في الرمضاء ‪ ..‬الجراح تســقي األرض ‪ ..‬والدماء تروي شــجرة‬
‫الحر يــة ‪ ..‬شــجرة أصلهــا ثابــت فــي أعمــاق التــراب‪ ،‬وفرعهــا فــي عمق‬
‫السماء‪.‬‬
‫ً‬
‫تمتم الحسين متألما‪:‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬اشــتد غضــب اهلل علــى اليهــود إذ جعلوا لــه ولدا‪ ،‬واشــتد غضبه‬
‫علــى النصــارى إذ جعلــوه ثالــث ثالثــة‪ ،‬واشــتد غضبــه علــى‬
‫المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه‪ ،‬واشتد غضبه على قوم‬
‫اتفقــت كلمتهــم على قتل ابــن بنت نبيهم ‪ ..‬أمــا واهلل ال أجيبهم‬
‫إلى شيء مما يريدون حتى ألقى اهلل وأنا مخضب بدمي‪.‬‬
‫هجم األبرص على المخيم‪ ،‬وقد اشــتعلت في عينيه شــهوة النهب‪،‬‬
‫وهاج شیطان يعربد في أعماقه‪:‬‬
‫ ‪َّ -‬‬
‫علي بالنار ألحرقه على اهله ‪..‬‬
‫القلــوب الصغيرة الخائفة فرت مذعورة من الخيمة كطيور هاربة من‬

‫‪63‬‬
‫سفن بعيدة غرقت‪.‬‬
‫صاح الحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬يــا بن ذي الجوشــن أنــت تدعو بالنار لتحرق بيتــي على أهلي ‪..‬‬
‫أحرقك اهلل بالنار ؟!!‬
‫واستنكر شبث بن ربعي الحضيض الذي وصل إليه رفيقه‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ ‪-‬أمرعبا للنســاء صرت؟! ما رأيت مقاال أســوأ من مقالك‪ ،‬وال موقفا‬
‫أقبح من موقفك‪.‬‬
‫ّ‬
‫وتمتم وهو يعض على يده‪:‬‬
‫ ‪-‬قاتلنــا مــع علي بن أبــي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي ســفيان‬
‫خمــس ســنين‪ ،‬ثم عدونا على ولده وهو خيــر أهل األرض نقاتله‬
‫مع آل معاوية وابن سمية الزانية! ‪ ..‬ضالل ‪ ..‬يا لك من ضالل!!‬
‫توسطت الشمس كبد السماء‪ ،‬والقبائل تتخطف القافلة ‪..‬‬
‫التفت «ابو ثمامة الصائدي» إلى الحسين‪ .‬قال بخشوع‪:‬‬
‫ ‪-‬نفســي لك الفداء‪ .‬إني أرى هؤالء قد اقتربوا منك‪ .‬ال واهلل ال تقتل‬
‫حتــى أقتــل دونك‪ .‬وأحب أن ألقــى اهلل وقد صليت هذه الصالة‬
‫التي دنا وقتها‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫رفع الحسين رأسه إلى السماء وألقي نظرة على الشمس‪:‬‬
‫ ‪-‬ذكــرت الصــاة ‪ ..‬جعلك اهلل مــن المصلين الذاكریــن‪ ،‬نعم هذا‬
‫أول وقتها ‪..‬‬
‫وأردف وهو يجفف حبات عرق تلتمع فوق جبينه‪:‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي‪.‬‬
‫ً‬
‫هتف ابن نمير وكان فظا غليظ القلب‪:‬‬
‫ ‪-‬إنها ال تقبل!‬
‫ً‬
‫أجاب حبیب بن مظاهر غاضبا‪:‬‬
‫ ‪-‬زعمت أنها ال تقبل من آل الرسول وتقبل منك يا حمار !‬
‫عربد الشــيطان في أعماق «ابن نمير »‪ ،‬فأقحم الفرس نحو «حبیب»‬
‫وحبيــب واقــف كالجبــل لــم يكتــرث بالجمــوع وهــي تنحــدر نحــوه‪.‬‬
‫وتخطفته ســيوف القبائل ‪ ..‬وانســابت دمــاؤه قانية فوق رمــال الصحراء‬
‫تروي لها أروع قصص الوفاء والتضحية والفداء‪.‬‬
‫ً‬
‫واسترجع الحسين كثيرا‪:‬‬
‫ ‪-‬عند اهلل احتسب نفسي وحماة أصحابي‪.‬‬
‫القبائل تموج كأنها ريح صفراء تحمل في طياتها الموت؛ والحسين‬

‫‪65‬‬
‫وســط اإلعصار يصلــي بأصحابه الصالة األخيرة ‪ ..‬الســماء تفتح أبوابها‬
‫للقافلــة القادمــة‪ ،‬والفضــاء يزخــر بأجنحــة المالئكــة ‪ ..‬ونســائم طيبــة‬
‫تحمل رائحة الربيع ‪ ..‬ربيع جنات الفردوس‪.‬‬
‫التفت الحسين إلى إصحابه وهو يشير إلى مسار القافلة‪:‬‬
‫ ‪-‬يــا كرام هذه الجنة قد فتحــت أبوابها‪ ،‬واتصلت أنهارها‪ ،‬وأينعت‬
‫ثمارهــا‪ ،‬وهــذا رســول اهلل‪ ،‬والشــهداء الذيــن قتلــوا في ســبيل اهلل‬
‫يتوقعــون قدومكم ويتباشــرون بكــم‪ ،‬فحاموا عن ديــن اهلل‪ ،‬ودين‬
‫نبيه وذبوا عن حرم الرسول ‪..‬‬
‫القافلة التي اكتشفت ينابيع الخلد تهب للخطى االخيرة‪:‬‬
‫ ‪-‬نفوسنا لنفسك الفداء‪ ،‬ودماؤنا لدمك الوقاء‪ .‬فواهلل ال يصل إليك‬
‫و إلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب‪.‬‬
‫السماء تفتح أبوابها‪ ،‬والرجال يعرجون‪ .‬تقدم «أبو ثمامة» إلى المعراج‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وما أسرع أن حلق إلى السماوات مخلفا وراءه بركة من دماء قانية‪.‬‬
‫ومن بعده انطلق «زهير »‪ .‬وضع يده فوق منكب الحسين‪ ،‬وانشد‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مهديا‬ ‫أقدم هديت هاديا‬
‫فاليوم ألقى جدك ّ‬
‫النبيا‬

‫‪66‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وحسنا والمرتضى عليا‬
‫ّ‬
‫الكميا‬ ‫وذا الجناحين الفتى‬
‫وأسد اهلل الشهيد ّ‬
‫الحيا‬
‫ ‪-‬وأنا ألقاهما على اثرك‪.‬‬
‫ومــا أســرع أن التحــق برفاقــه‪ .‬القافلــة تطــوي الســماوات ‪ ..‬تتخطــى‬
‫الكواكب واألفالك في عروج ملكوتي فريد‪.‬‬
‫ً‬
‫وقف الحسين عند مصرعه‪ ،‬وقال متأثرا‪:‬‬
‫ ‪-‬ال يبعدنــك اهلل يــا زهيــر ولعــن قاتليــك لعــن الذين مســخوا قردة‬
‫وخنازير ‪.‬‬
‫واســتعد «نافــع الجملــي» للرحيــل‪ ،‬فغــاص فــي أعمــاق القبائــل‬
‫ً‬
‫وانهمرت عليه الحجارة من كل صوب‪ ،‬فتهشــم عضداه‪ ،‬وســيق أسيرا‪.‬‬
‫كانت الدماء تنزف منه‪ ،‬وقد صبغته بحمرتها المشتعلة‪ .‬قال ابن سعد‬
‫بلهجة ينم منها اإلعجاب ببسالته‪:‬‬
‫ ‪-‬ما حملك على ما صنعت بنفسك؟؟‬
‫ ‪-‬إن ربي يعلم ما أردت‪.‬‬
‫ ‪-‬أما ترى ما بك؟!‬

‫‪67‬‬
‫ ‪-‬واهلل لقــد قتلــت منكــم اثنــي عشــر ســوى مــن جرحت‪ ،‬ومــا ألوم‬
‫نفسي على الجهد ‪ ..‬ولو بقيت لي عضد ما أسرتموني‪.‬‬
‫جرد األبرص سيفه وقد برقت عيناه حقد ‪ ..‬فقال نافع بطمأنينة‪:‬‬
‫ ‪-‬واهلل يــا شــمر لو كنت مــن المســلمين لعظم عليــك أن تلقى اهلل‬
‫بدمائنــا ‪ ..‬فالحمد هلل الذي جعل منایانا على أيدي شــرار خلقه‬
‫‪..‬‬
‫هــوى الســيف بقســوة‪ ،‬وتدحــرج الــرأس فوق الرمــال‪ ،‬وعينــاه تنظران‬
‫باتجــاه عوالــم ال نهائيــة‪ ،‬وقــد ارتســمت ابتســامة هادئــة فــوق شــفتين‬
‫ذابلتين من الظمأ‪.‬‬
‫ونادى رجل من القبائل‪:‬‬
‫ ‪-‬یا بریر ‪ ،‬كيف ترى صنع اهلل بك؟‬
‫أجاب بریر وهو ينظر إلى ما وراء غبار الزمان‪:‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬صنع بي خير وصنع بك شرا‪.‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬كذبــت وقبــل اليوم ماكنــت كذابا‪ .‬أتذكر يوم كنت أماشــيك في‬
‫ً‬
‫«بني لوذان» وأنت تقول‪ :‬كان معاوية ضاال وأن إمام الهدى علي‬
‫بن أبي طالب‪:‬‬

‫‪68‬‬
‫ ‪-‬بلي اشهد أن هذا رأيي‪.‬‬
‫ ‪-‬وأنا اشهد أنك من الضالين‪.‬‬
‫ ‪-‬تعال نبتهل إلى اهلل فيلعن الكاذب منا ويقتله‪.‬‬
‫توجهــت أیــد مــع قلــوب إلــى الســماء تســتمد النصــر ‪ ،‬وارتفعــت أيد‬
‫ّ‬
‫جذاء‪ .‬فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من اآلخر ‪ .‬وبدأت المنازلة ‪ ..‬هوى‬
‫مدمرة ‪ ..‬فهوى الرجل الذي حاقت به اللعنة‬‫بریر بســيف يشبه صاعقة ّ‬
‫إلى األرض كأنما ّ‬
‫خر من شاهق ‪..‬‬

‫‪69‬‬
‫‪13‬‬
‫الشــمس مــا تــزال مســتمرة فــي زرقــة الســماء تصــب لهيــب يشــوي‬
‫الوجــوه‪ ..‬وعجلة الموت تــدور مجنونة في الرمــال الملتهبة ‪ ..‬تتخطف‬
‫ً‬
‫رجاال لم تلههم تجارة وال بيع عن ذكر اهلل ‪..‬‬
‫تقــدم «جــون»‪ .‬دفعتــه األيــام مــن أصقــاع بعيــدة‪ ،‬وكان فتــى ألبي ذر‬
‫الغفاري ‪..‬‬
‫قال الحسين‪:‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬یا جون أما تبعتنا طلبا للعافية‪ ،‬فأنت في إذن مني‪.‬‬
‫أجاب جون بضراعة‪:‬‬
‫ ‪-‬أنــا فــي الرخــاء ألحس قصاعكم‪ ،‬وفي الشــدة أخذلكــم‪ .‬ال واهلل ال‬
‫أفارقكم حتى يختلط هذا الدم األسود مع دمائكم‪.‬‬
‫واندفــع جــون يقاتــل القبائــل‪ .‬واألرض تهتــز تحــت قدميــه بشــدة ‪..‬‬

‫‪70‬‬
‫كطبول إفريقية‪.‬‬
‫وأطبقت السيوف عليه كأنياب وحش أسطوري‪.‬‬
‫تمتم الحسين‪ ،‬وهو يتأمل جراحه النازفة‪:‬‬
‫ ‪-‬اللهم احشره مع محمد ّ‬
‫وعرف بينه وبين آل محمد‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتقــدم مــن بعــده أنــس بــن الحــارث الكاهلــي‪ ،‬وكان شــيخا كبيــرا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫صحابيــا‪ ،‬رأى النبي وســمع حديثه‪ ،‬وشــهد معه بــدرا‪ ،‬وحنينا‪ ،‬ومعارك‬
‫دامية أخرى‪.‬‬
‫ً‬
‫الشــيخ الــذي حنت ظهــره األيــام ‪ ..‬ووقفت عاجــزا أمام إرادتــه ‪ ..‬نزع‬
‫عمامته‪ ،‬وشد ظهره المقوس بها‪ ،‬ورفع حاجبيه بالعصابة‪.‬‬
‫ً‬
‫كان الحسين يراقبه‪ ،‬وعيناه تنهمران دموعا ‪ ..‬ثم أجهش بالبكاء ‪..‬‬
‫ ‪-‬شكر اهلل لك يا شيخ!‬
‫ً‬
‫تقدم الصحابي بخطى واهنة‪ ،‬وعزم كالحديد أو أشد بأسا ‪ ..‬وتداعت‬
‫أمامه صور مشــرقة من جهاده مع النبي يوم كان يقاتل المشــركين كافة‪.‬‬
‫وهــا هــو اليــوم يقاتــل أبناءهــم وأحفادهــم ‪ّ ..‬‬
‫ودوت فــي أذنيــه كلمــات‬
‫الرسول في المعارك‪ :‬يا منصور أمت ‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ووجــدت القبائــل فيه ثأرا قديمــا من ثارات بدر وحنیــن ‪ ..‬فتكالبت‬

‫‪71‬‬
‫عليــه مــن كل حــدب وصــوب‪ .‬وعندمــا هــوى الصحابــي الكبيــر إلــى‬
‫األرض‪ ،‬والمس وجهه الرمال‪ ،‬شعر بأنه يقبل وجه النبي‪.‬‬
‫الصحراء تئن من وقع ســنابك الخيل‪ ،‬والرمال تشــرب الدماء وتنشد‬
‫ً‬
‫المزيد‪ ،‬والقبائل تنتشي بثارات قديمة ‪ ..‬قديمة جدا‪.‬‬
‫الفــرات يجــري ‪ ..‬تتدافــع أمواجــه؛ فبدا غيــر مكترث لما يــدور على‬
‫ً‬
‫شواطئه ‪ ..‬بل لعله كان يسرع ممعنا في الفرار ‪ ..‬ال يريد أن يشهد األهوال‬
‫‪ ..‬أو ربما كان يريد أن يروي للبحر قصة الصحراء والظمأ والحسين‪.‬‬
‫ً‬
‫لم يبق مع الحسين من أصحابه أحد ‪ ..‬ودعوه وذهبوا بعيدا ‪..‬‬
‫لم يبق مع الحســين ســوى أهل بيتــه ‪ ..‬فتقدم علي األ كبــر ‪ ..‬إعصار‬
‫يختــزن غضــب األنبياء ‪ ..‬األب يودع ابنه بنظرات حزينة كغيوم ممطرة‪.‬‬
‫كانت دموع الحسين تنهمر ‪ .‬وبصوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم‬
‫المطر ‪ ،‬هتف‪:‬‬
‫ ‪-‬قطع اهلل رحمك يا بن سعد كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي‬
‫ّ‬
‫من رســول اهلل ‪ ..‬وســلط عليك من يذبحك على فراشك ‪ ..‬علي‬
‫األ كبر يخترق غابة السيوف والرماح ‪..‬‬
‫والحسين يرفع وجه ‪ ..‬يحدق في السماء‪:‬‬
‫ ‪-‬اللهم اشهد على هؤالء القوم‪ ،‬فقد برز إليهم اشبه الناس برسولك‬

‫‪72‬‬
‫ً‬ ‫ً ُ ً‬
‫محمد خلقا وخلقا ومنطقا‪ ،‬وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا‬
‫إليه‪ ،‬اللهم فامنعهم بركات األرض‪.‬‬
‫العلــوي يختــرق أحــراش الرمــاح ‪ ..‬وبيــن الفينــة واألخرى يلــوح بريق‬
‫ســيف غاضــب كوميــض الصواعــق بيــن ســحب مشــحونة ‪ ..‬مخزونــة‬
‫بالرعود‪.‬‬
‫هـ ّـز «مــرة بــن منقذ» رمحــه‪ ،‬وقد عصفت في نفســه الحميــة ‪ ..‬حمية‬
‫الجاهلية‪:‬‬
‫ ‪َّ -‬‬
‫علي آثام العرب إن لم أثكل أباه؟‬
‫ً ً‬
‫واختــرق رمح وحشــي طيفا نبويا ‪ ..‬فاعتنق فرســه ‪ ..‬فانطلقت وســط‬
‫أحــراش الســيوف وغابــات الرمــاح ‪ ..‬وتخطفتــه القبائــل المتوحشــة ‪..‬‬
‫وانبثقت كلمات «األ كبر » كنافورة حب أزلية‪:‬‬
‫ ‪-‬عليــك منــي الســام أبا عبــد اهلل‪ ،‬هذا جدي قد ســقاني بكأســه‬
‫ً‬
‫شربة ال أظمأ بعدها‪ ،‬وهو يقول إن لك كأسا مذخورة‪.‬‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫وعندما وصل األب المفجوع‪ ،‬كان االبن قد رحل بعيدا ‪ ..‬بعيدا جدا‬
‫‪ ..‬وفي عينيه تلوح قوافل مسافرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫الجــراح النبوية تنزف ‪ ..‬مأل الحســين كفه مــن ينابيع الحياة‪ ،‬ثم رمی‬
‫بهــا إلى الســماء ‪ ..‬الرذاذ األحمر يصعد إلى الفضــاء الالنهائي ‪ ..‬يتحول‬

‫‪73‬‬
‫ً‬
‫إلى نجوم تنبض أمال‪ ،‬فتهتدي في وميضها قوافل قادمة من رحم األيام‪.‬‬
‫ ‪-‬علــى الدنيــا بعدك العفا ‪ ..‬ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك‬
‫حرمة الرسول‪.‬‬
‫الراية ما تزال تخفق بعنف ‪ ..‬تعلن الثورة ‪ ..‬الرفض ‪ ..‬اإلباء ‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الدماء تنزف ‪ ..‬تروي الرمال ‪ ..‬تنفخ فيها روحا‪ ،‬وتبثها أسرارا ال يدركها‬
‫أحد من العالمين‪.‬‬
‫ ‪-‬هل رأيتم القمر يمشي على األرض!‬
‫ً‬
‫تمتــم التار يــخ متعجبا‪ ،‬وهو يرى القاســم بن الحســن ‪ ..‬فتى لم يبلغ‬
‫الحلم بعد ‪ ..‬يمشي الهوينى ‪ ..‬عليه قميص و إزار ‪ ،‬وفي رجليه نعالن ‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في يمينه ســيف ‪ ..‬يطوح به يمينا وشــماال ‪ ..‬يقاتــل الذين غدروا ‪ ..‬إنهم‬
‫ّ‬
‫ال إيمان لهم ‪ ..‬انقطع شســع نعله اليســرى‪ ،‬فانحنى يشــده ‪ ..‬غير عابئ‬
‫بالقبائل تدور حوله كدوامة ما لها من قرار ‪.‬‬
‫ّ‬
‫شد عليه رجل يلهث‪ ،‬فاستنكر آخر ‪:‬‬
‫ ‪-‬ما تريد من هذا الغالم؟! يكفيك هؤالء الذين احتوشوه‪.‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬ألشدن عليه‪.‬‬
‫وارتطم سيف جبار ‪ ،‬فانشق القمر ‪:‬‬

‫‪74‬‬
‫ ‪-‬يا عماه!‬
‫ً‬ ‫وهب الحســين عاصفة ّ‬
‫ّ‬
‫مدمرة ‪ ..‬إعصارا فيه نار ‪ ..‬وما أســرع أن هوى‬
‫العم على قاتل ابن اخيه بســيف مشــحون غضبا ‪ ..‬وصرخ القاتل لهول‬
‫الضربة ‪ ..‬وأرادت الخيل أن تدفع عنه الموت‪ ،‬فداسته بحوافرها ‪..‬‬
‫وضاع بين سنابك الخيل ‪ ..‬وضاعت معه كل أطماعه وأوهامه‪.‬‬
‫وقف الحسين عند الفتى الشهيد‪:‬‬
‫ُ ً‬
‫ـدا لقــوم قتلــوك‪ ،‬خصمهــم يــوم القيامة جــدك‪ّ .‬‬
‫عــز واهلل على‬ ‫ ‪-‬بعـ‬
‫عمك أن تدعوه فال يجيبك‪ ،‬أو يجيبك ثم ال ينفعك‪.‬‬
‫ً‬
‫الموت يتخطف القافلة ‪ ..‬والمســافرون يعرجون إلى السماء ‪ ..‬أرواحا‬
‫شفافة خلعت أهابها األرضي ورحلت إلى عالم مغمور بالنور ‪.‬‬
‫لم يبق مع الحســين ســوى حامل الراية؛ رجل يدعى أبو الفضل؛ أبوه‬
‫أبو الحسن‪ ،‬وأمه امرأة ولدتها الفحولة من العرب‪.‬‬
‫الراية تخفق في شماله‪ ،‬وفي يمينه بتار يقصف األعمار ‪.‬‬
‫ّ‬
‫ثمــة عيــون تتطلــع مــن وراء خيــام ‪ ..‬تنظر إلــى الراية ‪ ..‬تخفق كشــراع‬
‫سفينة تعصف بها الريح من كل مكان‪.‬‬
‫القلــوب التــي صدعها الظمأ تنشــد المــاء‪ ،‬والفــرات دونــه غابات من‬

‫‪75‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الرماح‪ ،‬وأبو الفضل يكاد يتفجر غضبا كلما سمع أنة بنت أو صراخ صبي‪:‬‬
‫ ‪-‬العطش ‪ ..‬العطش ‪..‬‬
‫وال شيء سوى السراب‪ ،‬سراب يحسبه الظمآن ماء‪.‬‬
‫ً‬
‫تقدم صاحب الراية من أخيه الذي بقي وحيدا ‪ ..‬الحسين ينظر إلى‬
‫آخر القرابين السماوية‪:‬‬
‫ ‪-‬يا أخي أنت صاحب لوائي‪.‬‬
‫قال أبو الفضل وهو يكاد يتميز من الغيظ‪:‬‬
‫ ‪-‬قد ضاق صدري من هؤالء المنافقين‪ ،‬وأريد أن آخذ ثأري‪.‬‬
‫ ‪-‬إذا كان والبد‪ ،‬فاطلب لهؤالء األطفال ماء‪.‬‬
‫انطلق أبو الفضل إلى القبائل ‪ ..‬إلى قلوب قاسية أقسى من الحجارة‬
‫‪ ..‬و إن من الحجارة لما ّ‬
‫يتفجر منها األنهار ‪.‬‬
‫ ‪-‬یــا عمر بن ســعد! هذا الحســين ابن بنــت رســول اهلل ‪ ..‬قد قتلتم‬
‫أصحابه وأهل بيته‪ ،‬وهؤالء عياله وأوالده عطاشــى فاســقوهم من‬
‫الماء‪ .‬قد أحرق الظمأ قلوبهم‪ .‬وهو مع ذلك يقول‪ :‬دعوني اذهب‬
‫إلى الروم أو الهند و أخلي لكم الحجاز والعراق‪.‬‬
‫ّ‬
‫صاح األبرص بصوت يشبه رنة الشيطان‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ ‪-‬يــا بن أبي تــراب! لو كان وجه األرض كله مــاء‪ ،‬وهو تحت أيدينا‪،‬‬
‫لما سقيناكم منه قطرة‪ .‬إال أن تدخلوا في بيعة يزيد‪.‬‬
‫األطفــال يصيحــون ‪ ..‬القلوب الظامئــة تئن ‪ ..‬الشــفاه الذابلة تهتف‪:‬‬
‫العطش ‪ ..‬العطش‪ .‬والفرات يجري ‪ ..‬تتدافع أمواجه ‪ ..‬كبطون الحيات‪.‬‬
‫اعتلى صاحب اللواء صهوة الجواد ‪..‬‬
‫حمــل القربــة‪ ،‬وفــي أذنيــه كلمــات قالهــا أبــوه علــى شــاطئ الفــرات‬
‫بصفين‪ّ :‬رووا السيوف من الدماء‪ ،‬ترووا من الماء‪.‬‬
‫انطلق أبو الفضل باتجاه الفرات وســط وابل من سهام ونبال ‪ ..‬رجال‬
‫القبائل يفرون بين يديه مذعورين ‪ ..‬كأنما يفرون من الموت الزؤام ‪..‬‬
‫مبال باأللوف التي أحدقت به ‪ ..‬يتوغل في‬
‫الفارس يشــق طريقه غير ٍ‬
‫أعماق النخيل المحدق بالشاطئ كأهداب حورية ‪ ..‬أبو الفضل يقحم‬
‫فرســه النهــر ‪ ،‬فيتطاير رذاذ الماء‪ .‬اهتزت ســعفات نخلــة لكأنما طربت‬
‫لشجاعة وبأس ستذكرهما األيام‪.‬‬
‫الميــاه المتدافعة تجري تحت األقــدام‪ ،‬والفارس الظامئ يغترف من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫المــاء غرفــة ‪ ..‬فيتذكر قلبا يكاد يتفطر عطشــا؛ تمتم وهــو يطوح بقبضة‬
‫ً‬
‫الماء بعيدا‪.‬‬
‫يا نفس من بعد الحسين هوني‬

‫‪77‬‬
‫وبعده ال كنت أو تكوني‬
‫مأل القربة ماء‪ ،‬ثم قفز فوق جواده‪ ،‬وانطلق نحو مضارب الخيام ‪..‬‬
‫القبائل تقطع علیه طريق العودة‪ ،‬وقد غاظها منظر القربة تموج بمياه‬
‫الفرات‪.‬‬
‫الفارس يسطر المالحم وينشد‪:‬‬
‫ال أرهب الموت إذا الموت زقا‬
‫حتى أوارى في المصاليت لقى‬
‫نفسي لسبط المصطفي الطهر وقا‬
‫إني أنا العباس اغدو بالسقا‬
‫وال أخاف الشر يوم الملتقى‬
‫رجل من القبائل يتقن الغدر يختبئ وراء نخلة ‪ ..‬في يده سيف ورثه‬
‫عن «ابن ملجم»‪.‬‬
‫الســيف الغــادر يهوي ‪ -‬علــى حين غفلة ‪ -‬فيطيح باليمين لتســتقر‬
‫عند جذع نخلة سمراء‪:‬‬
‫واهلل إن قطعتم يميني‬
‫ً‬
‫إني أحامي أبدا عن ديني‬

‫‪78‬‬
‫وعن إمام صادق اليقين‬
‫نجل النبي الطاهر اليمين‬
‫أبو الفضل يشق طريقه‪ .‬اصبح هدفه إيصال الماء إلى قلوب تتصدع‬
‫ً‬
‫عطشا وتحلم بمواسم المطر ‪.‬‬
‫ســيف غــادر آخــر يهوي مــن وراء نخلة‪ ،‬فيطيح بالشــمال‪ .‬ســقطت‬
‫الرايــة ومن قبلها ســيف علــوي ‪ ..‬وأبو الفضل يشــق طريقه فــي وابل من‬
‫الســهام والنبــال‪ .‬وعندمــا اختــرق القربــة ســهم وانثالــت الميــاه‪ ،‬فقــد‬
‫الفــارس المقطــوع الیدیــن حماســه في العــودة إلى المخيــم‪ ،‬ودارت به‬
‫القبائل كدوامة مجنونة‪ ،‬وهوى رجل ‪ -‬وما هو برجل ‪ -‬بعمود على رأسه‬
‫ففلق هامته‪ .‬وانطلق صوت يبشر بالسالم القادم‪.‬‬
‫ ‪-‬عليك مني السالم أبا عبد اهلل‪.‬‬
‫وانطلقــت من بين مضــارب الخيام صيحات تنذر بهبوب العاصفة‬
‫‪ ..‬صاحت زينب ومعها نسوة وبنات‪:‬‬
‫ ‪-‬واضيعتنا بعدك‪.‬‬
‫تتمتم الحسين وهو ينشج‪:‬‬
‫ ‪-‬واضيعتنا بعدك!‬

‫‪79‬‬
‫‪14‬‬
‫أزفــت ســاعة الرحيــل ‪ ..‬أجــال آخــر األســباط عينيــه المتألقتين في‬
‫الرمــال الممتــدة حتــى األفــق‪ .‬نســاء وأطفــال خرجــوا مــن بيــن الخيام‪.‬‬
‫العيــون الحزينــة تحــدق بآخــر الرجــال ‪ ..‬بآخــر خيــوط األمــل‪ .‬هتــف‬
‫الحسين بأعلى صوته ‪ ..‬يخاطب التاريخ واالنسان‪.‬‬
‫ذاب عن حرم رسول اهلل؟ هل من ّ‬
‫موحد يخاف اهلل فينا؟‬ ‫ ‪-‬هل من ّ‬

‫وامتزجــت صرختــه بعويــل وبــكاء ‪ ..‬وانغمســت بالدمــوع ‪ ..‬بالدماء‪.‬‬


‫فتى طوح به المرض ‪ ..‬نهض يجرجر نفســه وســيفه ‪ ..‬يتوكأ على‬ ‫نهــض ً‬
‫عصا ‪ ..‬فتى ادخره أبوه ليوم آخر ‪.‬‬
‫هتف الحسين بأخته‪:‬‬
‫ ‪-‬احبسيه لئال تخلو األرض من نسل آل محمد!‬
‫كأســراب الغربــان طــاف الحــزن بيــن الخيــام ‪ ..‬جثــم علــى القلــوب‬

‫‪80‬‬
‫المقهورة‪ ،‬وراح ينعق بصوت ينذر باقتراب الكارثة‪.‬‬
‫وقف الحسين للوداع ‪ ..‬وداع األرض ‪ ..‬الشمس تغمر الرمال باللهب‪،‬‬
‫والفــرات يجــري ‪ ..‬يمعــن فــي الفــرار ‪ ..‬والقبائــل مجنونة بثــارات قديمة‬
‫‪ ..‬والر يــح تــدور ‪ ..‬تعــدو بعيدة ‪ ..‬مســكونة بالرحيــل ‪ ..‬مبهورة بالســفر ‪..‬‬
‫والحسين يرتدي حلة العروج ‪ ..‬على رأسه عمامة موردة‪ ،‬ملتحف ببردة‬
‫النبي ‪ ..‬متقلد سیفه‪.‬‬
‫القبائل ّ‬
‫تجن لمنظره ‪ ..‬تشتعل في أعماقها شهوة الثأر ‪ ..‬تبرق عيونها‬
‫لألسالب العظيمة‪.‬‬
‫ً‬
‫طلب الحسين ثيابا ال يرغب بها أحد‪ ،‬ليضعها تحت حلته‪ .‬فقدموا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫له سرواال قصيرا فأبعده بطرف سيفه‪.‬‬
‫ ‪-‬إنه من لباس الذلة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اختار ثوبا قديما‪ ،‬فخرقه بسيفه‪ ،‬ولبسه تحت ثيابه‪.‬‬
‫القبائل تتحفز لقتل آخر االسباط ‪ ..‬والسبط يودع األطفال والنساء‪.‬‬
‫ً‬
‫احتضن طفله الرضيع‪ ،‬وراح يقبله متمتما بحسرة‪:‬‬
‫ً‬
‫ ‪ُ -‬بعدا لهؤالء القوم إذا كان جدك المصطفى خصمهم‪.‬‬
‫الشفتان الصغيرتان تبحثان عن قطرة ماء ‪ ..‬والفرات يموج بالمياه ‪..‬‬

‫‪81‬‬
‫يتلوى وسط الصحراء ّ‬
‫حية تسعى‪ .‬تقدم الحسين يحمل طفله الظامئ‪:‬‬
‫ ‪-‬أال قطرة ماء؟‬
‫وينطلــق ســهم غــادر يحمــل فــي نصلــه الذبــح‪ .‬الطفــل يخــرج يــده‬
‫الصغيرة من القماط‪ .‬ماتزال يده ممدودة ‪ ..‬تستفهم التاريخ واإلنسانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الدمــاء الشــفافة تغمــر صــدر الحســين ‪ ..‬األب يمأل كفه مــن النافورة‬
‫يطوح بها في الســماء ‪ ..‬رشــاش الدم يصعــد إلى الفضاء‬ ‫الحمــراء ‪ ..‬ثــم ّ‬
‫‪ ..‬يخترق الحجب البعيدة ‪ ..‬يخرق قوانين األرض ‪ ..‬همس الحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬هــون ما نــزل بي أنه بعين اهلل‪ ،‬اللهم أنت الشــاهد علــى قوم قتلوا‬
‫أشبه الناس برسولك محمد‪.‬‬
‫طيــف مالئكــي يخطــف أمامــه ‪ ..‬يحمل فــي جناحيه عبيــر جنات‬
‫الفردوس ‪ ..‬دعه یا حسين فإن له مرضعة في الجنة‪.‬‬
‫مثــل عاصفــة غاضبة ّ‬
‫هــب الحســين يمزق بســيفه القبائل‪ .‬تســاءل‬
‫النخيل وهو يهز سعفاته بإجالل عن رجل وحيد يقاتل اآلالف‪.‬‬
‫أنا الحسين بن علي‬
‫آليت إال أنثني‬
‫صرخ ابن سعد وهو يرى أحالمه تتبدد‪:‬‬

‫‪82‬‬
‫ ‪-‬هــذا ابــن االنزع البطيــن‪ .‬هذا ابن قتــال العرب‪ .‬احملــوا عليه من‬
‫كل جانب‪ .‬فأطبقت عليه القبائل‪ ،‬وأتته آ الف الســهام‪ ،‬وحالت‬
‫بينه وبين الخيام‪.‬‬
‫هتف آخر األسباط‪:‬‬
‫ ‪-‬يــا شــيعة آل أبي ســفيان!! إن لم يكن لكم ديــن وكنتم ال تخافون‬
‫ً‬
‫المعاد‪ ،‬فكونوا أحرارا في دنياكم‪ ،‬وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم‬
‫ً‬
‫عربا كما تزعمون‪.‬‬
‫صاح األبرص‪:‬‬
‫ ‪-‬ما تقول یا بن فاطمة؟‬
‫ ‪-‬انــا الــذي أقاتلكم والنســاء ليس عليهن جنــاح‪ ،‬فامنعوا عتاتكم‬
‫ً‬ ‫عن ّ‬
‫التعرض لحرمي ما دمت حيا‪.‬‬
‫ ‪-‬لك ذلك‪.‬‬
‫وقصدتــه القبائــل ‪ ..‬الحســين الظامــئ يدفــع أمــواج الغــدر ‪ ..‬يقاتــل‬
‫‪ ..‬يقــاوم ‪ ..‬يحصــد رؤوس الذيــن كفروا‪ .‬شــعر بعطش شــديد ‪ ..‬والفرات‬
‫محاصــر بأربعــة آ الف أو يزيــدون ‪ ..‬الفــرات تنثال مياهه على الشــطآن‬
‫دواب األرض ‪ ..‬وآخر األسباط ينشد غرفة واحدة‪.‬‬ ‫ترتاده ّ‬
‫ّ‬
‫الزوبعة تتجه نحو النهر ‪ ..‬تجتث في طريقها أشباه الرجال‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫قــال ابــن يغــوث وكان مع القبائــل‪ :‬ما رأیــت مكثورا قط قــد قتل ولده‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وأهــل بيتــه وصحبــه أربط جأشــا منه وال أمضــى جنانا وال أجــرأ مقدما ‪..‬‬
‫ّ‬
‫ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شد فيها‪ ،‬ولم يثبت له أحد‪.‬‬
‫الحســين يقهــر القبائــل ‪ ..‬يحتــل الفــرات ‪ ..‬ويقحــم فرســه الميــاه‬
‫المتدفقة ‪ ..‬األمواج تتألأل في ضوء الشــمس ‪ ..‬شــعر الفرس ببرودة الماء‬
‫‪ ..‬حني رأسه ليشرب ‪ ..‬ليرتوي‪.‬‬
‫ً‬
‫قال قاهر الفرات مخاطبا الفرس‪ ،‬وكان من جياد خيل النبي‪:‬‬
‫ ‪-‬انت عطشان وأنا عطشان فال أشرب حتى تشرب‪.‬‬
‫ّ‬
‫رفــع الجــواد رأســه ‪ ..‬رفض أن يشــرب قبل صاحبه ‪ ..‬مــد الفارس يده‬
‫ليغرف؛ ناداه رجل من القبائل‪:‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬أتلتذ بالماء وقد هتكت حرمك ‪..‬‬
‫طــوح الســبط بقبضة الماء وانطلــق صوب الخيام ‪ ..‬اشــرقت الوجوه‬
‫الخائفة ‪ ..‬لقد عاد األمل‪.‬‬
‫التفــت حولــه صبيــة ونســاء ‪ ..‬تعلقــت بــه ‪ ..‬الشــمس تجنــح نحــو‬
‫الغروب‪ ،‬والحسين يسافر مع الشمس ‪ ..‬ودع عياله ‪ ..‬كشف لهم صفحة‬
‫ً‬
‫من عالم الغد‪ ،‬وقرأ عليهم سطورا من دفتر األيام‪:‬‬
‫ ‪-‬اســتعدوا للبــاء‪ ،‬واعلمــوا أن اهلل تعالــى حامیكــم وحافظكــم‬

‫‪84‬‬
‫وســينجيكم مــن شــر األعــداء ويجعــل عاقبــة أمركــم إلــى خيــر‬
‫ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع‬ ‫ويعذب عدوكم بأنواع العذاب ّ‬
‫النعــم والكرامــة‪ .‬فــا تشــكوا وال تقولــوا بألســنتكم مــا ينقــص من‬
‫قدركم‪.‬‬
‫افتقــد ابنتــه ســكينة ‪ ..‬لم تكــن مع المودعيــن ‪ ..‬وجدهــا وحيدة في‬
‫الخيمــة وقــد غلــب عليهــا االســتغراق‪ .‬كانــت تفكــر فــي طريــق أبيهــا‬
‫العجيب‪.‬‬
‫صرخ رجل من القبائل وهو يحلم بعبور جثة الحسين‪:‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬اهجموا عليه ما دام مشغوال بنفسه وحرمه‪.‬‬
‫ً‬
‫تفشــت القبائل ســهاما مســمومة النبال تخترق الخيام ‪ ..‬وتشــك أزر‬
‫النســاء ‪ّ ..‬فرت النســوة إلى داخل الخيام ‪ ..‬العيون تحدق بالحســين ‪..‬‬
‫ماذا سیفعل آخر األسباط؟‬
‫الفارس الذي قدم من الجزيرة على قدر ‪ ..‬يحدد ساعة الصفر ‪ ،‬ويبدأ‬
‫الهجوم ‪ ..‬التاريخ يركض مبهور األنفاس ‪ ..‬يتشــبث بركاب الحســين ‪..‬‬
‫والحســين يســبق التاريــخ ‪ ..‬يغوص في عوالــم بعيدة ‪ ..‬ويبقــى التاريخ‬
‫ً‬ ‫يقلب ّ‬
‫كفيه حائرا وسط الرمال‪.‬‬
‫القبائــل تفــر مذعــورة بين يديــه‪ ،‬ووابل النبال يرشــقه مــن كل حدب‬

‫‪85‬‬
‫وصــوب‪ ،‬والحســين يقهــر المــوت ‪ ..‬يحطــم جــدران الزمــن ‪ ..‬يتخطــى‬
‫القرون‪.‬‬
‫ّ‬
‫المجرح ‪ ..‬الجراح‬ ‫الروح العظيمة ‪ ..‬تريد االنطالق من أهاب الجسد‬
‫المتدفقــة كينابيــع ف ّــوراة‪ ،‬تــروي الرمال المتوهجــة ‪ ..‬الفــرات يمعن في‬
‫ُّ‬
‫يضن بقطرة ماء‪.‬‬ ‫الفرار ‪..‬‬
‫ ‪-‬يــا حســين! أال تــرى الفرات كأنه بطــون الحيات؟ فال تشــرب منه‬
‫ً‬
‫حتى تموت عطشا‪.‬‬
‫ورمــاه أبــو الحتوف بســهم في جبهتــه‪ ،‬فانتزعه‪ .‬وتدفقــت الدماء من‬
‫جبهته ّ‬
‫الشماء‪.‬‬
‫همس الرجل الوحيد في قلب الســماء‪ :‬اللهم إنك ترى ما أنا فيه من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عبــادك هــؤالء العصاة‪ ،‬اللهم احصهم عددا واقتلهــم بددا‪ ،‬وال تذر على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وجه األرض منهم أحدا‪ ،‬وال تغفر لهم أبدا‪.‬‬
‫ثم هتف بأعلى صوته‪:‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬يا أمة الســوء بئســما خلفتم محمدا في عترته‪ .‬أما إنكم ال تقتلون‬
‫ً‬
‫رجــا بعــدي فتهابون قتلــه‪ .‬بل يهــون عليكم ذلك عنــد قتلكم‬
‫إيــاي‪ .‬وأيــم اهلل انــي ألرجو أن يكرمني اهلل بالشــهادة ثــم ينتقم لي‬
‫منكم من حيث ال تشعرون‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫عون ذئب من القبائل‪:‬‬
‫ ‪-‬وبماذا ينتقم لك منا یا ابن فاطمة؟‬
‫ ‪-‬يلقي بأســكم بینكم ويســفك دماءكم ثم يصب عليكم العذاب‬
‫ّ‬
‫صبا‪.‬‬
‫الجســد الواهــن تتســرب منــه الدمــاء ‪ ..‬دمــاء كثيرة صبغــت صعيد‬
‫األرض‪.‬‬
‫ً‬
‫توقــف الســبط ليســتريح قليــا‪ ،‬فرمــاه رجــل مــن القبائــل المســعورة‬
‫بحجر ‪ ،‬فانبثقت الدماء من جبهته‪.‬‬
‫أراد الحســين أن يوقــف نــزف الدم بطــرف ثوبه‪ ،‬فجاءه ســهم محدد‬
‫لــه ثالث شــعب‪ .‬انغــرس الســهم المثلث في قلب الحســين ‪ ..‬الســهم‬
‫يتشــبث بالقلب الجبل ‪ ..‬إنها النهايــة ‪ ..‬نهاية األلم ‪ ..‬بداية الرحيل إلى‬
‫عوالم السالم‪.‬‬
‫تأوه الحسين‪:‬‬
‫ ‪-‬بسم اهلل وباهلل وعلى ملة رسول اهلل ‪..‬‬
‫ً‬
‫ثم رفع وجهه نحو السماء متضرعا‪.‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬الهــي انــك تعلم أنهــم يقتلــون رجال ليــس على وجــه األرض ابن‬

‫‪87‬‬
‫بنت نبي غيري!‬
‫الســهم يغوص في الجســد الواهن ‪ ..‬يخرج رؤوسه من القفا كاألفاعي‬
‫‪ ..‬وتنبعــث الدمــاء غزيــرة ‪ ..‬غزيرة ‪ ..‬صوت يشــبه نشــيج الميازيب في‬
‫مواسم المطر ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الحسين يمأل كفيه دما عبيطا ثم يطوح به نحو السماء ويهتف‪:‬‬
‫ ‪ّ -‬‬
‫هون ما نزل بي أنه بعين اهلل‪.‬‬
‫الدماء القانية الثائرة تســافر في عالم األفالك ‪ ..‬تصبغ النجوم ‪ ..‬تلون‬
‫اآلفاق‪.‬‬
‫ً‬ ‫مــرة أخــرى‪ ،‬مــأ الحســين ّ‬
‫كفیــه دمــا‪ ،‬ثــم خضــب بــه رأســه ولحيته‬
‫ً‬
‫استعدادا للرحيل‪:‬‬
‫ ‪-‬هكذا ألقى اهلل ‪ ..‬وجدي رسول اهلل‪.‬‬
‫وأعياه نزف الدم‪ ،‬فهوى على األرض كنجم منطفئ‪.‬‬
‫ً‬
‫تقــدم «ابن النســر » إليــه وعيناه تبرقــان حقدا‪ ،‬فضربه بالســيف على‬
‫ً‬
‫رأسه ‪ ..‬تمتم الحسين متألما‪:‬‬
‫ ‪-‬ال أ كلت بيمينك وال شربت‪ ،‬وحشرك اهلل مع الظالمين‪.‬‬
‫ً‬
‫وأحاطت به القبائل كالبا مسعورة ‪ ..‬تنهش جسده‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫همس الحسين‪:‬‬
‫ً‬
‫ ‪-‬هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربي حقا‪.‬‬
‫ضر بــه «زرعــة» على كتفه األيســر ‪ ،‬ورمــاه «ابن نمير » فــي حلقه وطعنه‬
‫«سنان» في ترقوته‪ ،‬ثم في صدره‪ ،‬ورماه بسهم في نحره‪.‬‬
‫الكالب تنهش جسده ‪ ..‬وكان أشدها األبقع ‪..‬‬
‫العينــان الواهنتــان فيهــا بقايا ألق ‪ ..‬يوشــك على الرحيل‪ .‬الحســين‬
‫يرفع طرفه نحو السماء‪:‬‬
‫ ‪-‬اللهــم متعالي المكان‪ ،‬عظیــم الجبروت‪ ،‬شــديد المحال‪ ،‬غني‬
‫عــن الخال ئــق‪ ،‬عريــض الكبريــاء‪ ،‬قــادر علــى مــا تشــاء‪ ،‬قریــب‬
‫الرحمــة‪ ،‬صــادق الوعد‪ ،‬ســابغ النعمة‪ ،‬حســن البــاء‪ ،‬قريب اذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫دعيت‪ ،‬محیط بما خلقت‪ ،‬أدعوك محتاجا وأرغب إليك فقيرا‪،‬‬
‫صبر على قضائك يا رب ال إله سواك‪.‬‬
‫الحســين ينوء بنفســه‪ .‬الروح تتســرب مــن أفواه الجــراح ‪ ..‬تغوص في‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الرمال ‪ّ ..‬‬
‫تبثها أسرارا توقظ فيها مدنا ثائرة‪.‬‬
‫مــاذا يفعــل الفــرس؟ لم يــدور حوله؟ يلطــخ ناصيته بدمه ‪ ..‬يشــمه ‪..‬‬
‫يصهل بغضب ‪ ..‬ينادي‪ :‬الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها‪.‬‬
‫صرخ ابن سعد بالقبائل‪:‬‬

‫‪89‬‬
‫ ‪-‬دونكم الفرس فإنه من جیاد خیل رسول اهلل‪ .‬فدارت به الخيل ‪..‬‬
‫اخــذت عليــه الطرق‪ .‬الفرس يقاتل ‪ ..‬يقــاوم ‪ ..‬يتحول إلى بركان‪.‬‬
‫وانبهر قائد القبائل‪:‬‬
‫ ‪-‬دعوه لننظر ما يصنع ‪..‬‬
‫ً‬
‫انطلق الفرس نحو مضارب القافلة‪ ،‬وهو يصهل عاليا‪:‬‬
‫ ‪-‬الظليمة ‪ ..‬الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها ‪..‬‬
‫هبت نسوة وأطفال ‪ ..‬لقد وقعت الواقعة‪ ،‬صرخت زینب‪:‬‬
‫ ‪-‬وامحمــداه ‪ ..‬واأبتــاه ‪ ..‬واعليــاه ‪ ..‬واجعفــراه ‪ ..‬واحمزتــاه ‪ ..‬هــذا‬
‫حســین بالعــراء ‪ ..‬صريــع بكربــاء ‪ ..‬ليــت الســماء أطبقت على‬
‫األرض‪ ،‬وليت الجبال تدكدكت على السهل!‬
‫عندمــا وصلــت زینب‪ ،‬كان الحســين يوشــك على الرحيــل ‪ّ ..‬‬
‫يودع‬
‫الصحراء‪ ،‬بعد أن رواها بالدماء‪.‬‬
‫القبائل مفتونة ‪ ..‬تدور حول آخر االسباط ‪ ..‬وقد زلزلت األرض زلزالها‪.‬‬
‫ماذا بوســع زینب أن تفعل‪ .‬الحســين يجود بنفســه ‪ ..‬لقد تمزق جســده‬
‫‪ ..‬ومــا تــزال الــروح هي هي ‪ ..‬شــديدة البــأس‪ .‬زینب تحاول إيقــاظ بقايا‬
‫االنسان في زعيم القبائل ‪ ..‬هتفت بلوعة‪:‬‬
‫ ‪-‬أي عمر ! أيقتل أبو عبد اهلل وأنت تنظر إليه!!‬

‫‪90‬‬
‫لقد مات اإلنسان في داخله ‪..‬‬
‫أهاب بالقبائل إلسدال الفصل األخير ‪:‬‬
‫ ‪-‬أنزلوا اليه وأريحوه‪.‬‬
‫صرخت زینب‪:‬‬
‫ ‪-‬أما فیكم مسلم؟!‬
‫وال من جواب‪ .‬لقد مات اإلنسان في عصر الذئاب والليل والعواء‪.‬‬
‫ ‪-‬أنزلوا إليه وأريحوه‪.‬‬
‫كان األبــرص ينتظــر اإلشــارة بلهفــة‪ .‬التمعــت عينــاه بوحشــية‪ ،‬وهــو‬
‫يرفــس جســد الحســين الممــزق ‪ ..‬جلس على صــدره‪ .‬األبــرص ينهش‬
‫جســد الســبط ‪ ..‬يقبض على شــيبته ‪ ..‬يهوي بســيف غادر على رأسه‪.‬‬
‫ينفصل الرأس عن الجســد ‪ ..‬القبائل تموج مأخوذة بهول ما يجري فوق‬
‫الرمال ‪..‬‬
‫الجســد ســاكن بال حراك‪ .‬الكالب تنهش ‪ ..‬تنهش الجســد الدامي‪.‬‬
‫ويرتفــع رأس ابــن النبــي فوق رمح طويــل ‪ ..‬يتطلع إلى آخــر الدنيا‪ ،‬ويقرأ‬
‫سورة الكهف‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫انطفــأت الشــمس ‪ ..‬ومطرت الســماء دمــا عبيطا‪ ،‬وبــدا األفق الغربي‬

‫‪91‬‬
‫شديد الحمرة كجراح نازفة‪.‬‬
‫وعصفــت القبائــل المســعورة بالخيام ‪ ..‬فأشــعلت فيها النــار ‪ّ .‬‬
‫وفرت‬
‫النسوة واألطفال ‪ ..‬هاموا على وجهوهم في الرمال‪.‬‬
‫وانبــرت عشــرة خيــول مجنونــة ‪ ..‬خيــول اعتــادت الســلب والنهــب‬
‫والغارات ‪ ..‬تعودت ســحق ورود البنفســج وبقر بطون األطفال ‪ ..‬اهتزت‬
‫األرض تحت ســنابك الخيل وهي تمزق صدر الحســين ‪ ..‬وفاحت من‬
‫الجســد قبــات محمــد و الزهــراء؛ مألت الفضــاء وامتزجــت مع ذرات‬
‫رمال الصحراء والتاريخ‪.‬‬
‫النار المجنونة تلتهم الخيام ‪ ..‬وصراخ األطفال يمأل الدنيا ‪ ..‬والذئاب‬
‫تعــوي بقســوة ‪ ..‬والليــل شــديد الظلمــة ‪ ..‬الريــح تــذرو الرمــال ‪ ..‬تغطــي‬
‫األجســاد العار يــة بغبــرة خفيفــة ‪ ..‬والقبائــل تنهــب وتســلب ‪ ..‬والفرات‬
‫يمعن في الفرار ‪ .‬ورأس الحســين فوق رمح طويل ‪ ..‬ينظر إلى آخر الدنيا‬
‫‪ ..‬إلى قوافل قادمة من رحم األيام‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫‪15‬‬
‫فــرت الشــمس ‪ ..‬توارت خلــف األفق المضمخ بحمرة قانية‪ ،‬وأشــرق‬
‫ً‬
‫القمــر داميــا كعيــن تنتحــب ‪ ..‬القبائل ما تــزال تعصف بالخيــام تضرم‬
‫مــس من الجنون‪،‬‬ ‫فيهــا النــار ‪ ،‬والنار تمد ألســنتها كأفواه جائعة أصابها ٌ‬
‫فهي تلتهم كل شيء‪.‬‬
‫الذئاب تعوي ‪ ..‬تفتك بحمالن صغيرة خائفة ‪..‬‬
‫الشياطين تصارع المالئكة‪.‬‬
‫وصرخات تدوي‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ ‪-‬ال تدعوا منهم أحدا صغيرا وكبيرا‪.‬‬
‫الذئــاب تقتحم خيمة فيها فتــى عليل ال يقوى على النهوض ‪ ..‬جرد‬
‫ً‬
‫األبرص سيفه ‪ ..‬ما زال متعطشا للدماء ‪ ..‬استنكر رجل من القبائل‪:‬‬
‫ ‪-‬أتقتل الصبيان؟! إنما هو صبي مريض‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫ ‪-‬لقد أمر ابن زیاد بقتل أوالد الحسين‪.‬‬
‫وانبرت زینب بشجاعة ابيها‪:‬‬
‫ ‪-‬ال يقتل حتى أقتل دونه‪.‬‬
‫ونــادى منــاد باقتســام الغنائم‪ ،‬فتنازعــت القبائل الــرؤوس‪ ،‬زلفى إلى‬
‫ابن زیاد حاكم المدينة الغادرة‪.‬‬
‫ارتفعت رؤوس مقطوعة فوق رماح‪ .‬قافلة من العمالقة يتتقدمها رأس‬
‫ســبط آخر األنبيــاء‪ .‬يحمله األبرص‪ .‬ســبعون رأس أو يزيــدون لم تنحن‬
‫لغيــر اهلل ‪ ..‬فارتفعــت فــوق ذرى الرمــاح ‪ ..‬وكان فــي مقدمتهــا رأس آخــر‬
‫االسباط‪.‬‬
‫وكان الفتى المريض يجود بنفسه‪ ،‬فقالت عمته وهي تخترق جدران‬
‫الزمن‪:‬‬
‫ ‪-‬مــا لــي أراك تجود بنفســك یا بقية جدي وأبــي و إخوتي‪ ،‬فواهلل إن‬
‫هــذا لعهــد من اهلل إلى جدك وأبيك‪ ،‬ولقــد أخذ اهلل ميثاق أناس‬
‫ال تعرفهم فراعنة األرض‪ ،‬وهم معروفون في أهل الســماوات‪ ،‬إنهم‬
‫يجمعون هذه األعضاء المقطعة واألجســام المضرجة فيوارونها‪،‬‬
‫ً‬
‫وينصبــون بهــذا الطف علمــا لقبر أبيك ال يدرس أثــره وال يمحى‬
‫رســمه على كــرور الليالي واأليام‪ .‬وليجتهدن أئمة الكفر وأشــياع‬

‫‪94‬‬
‫ًّ‬
‫علوا‪.‬‬ ‫الضالل في محوه وطمسه‪ ،‬فال يزداد أثره إال‬
‫منظــر الدمــاء والجثــث المتناثــرة هنــا وهنــاك والســيوف المكســرة‬
‫والســهام المغروســة فــي الرمــال ‪ ..‬تحكي ملحمــة رهيبة ســطرها رجال‬
‫قهروا الموت‪ ،‬وفجروا في قلبه نبع الحياة‪ ،‬وأماطوا اللثام عن سر الخلود‪.‬‬
‫تقدمــت امــرأة تعدت الخمســين مــن العمر إلى جســد تعرفــه‪ ،‬رعته‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫صغيرا وراقبته كبيرا وشهدته ممزقا بحوافر خیل مجنونة‪.‬‬
‫جثــت زینــب عند مصرع آخر االســباط؛ الجســد الممزق ســاكن بال‬
‫حــراك‪ .‬لقــد غادرت الــروح التــي دوخت القبائل‪ .‬دســت زینــب يديها‬
‫تحــت جســد أخيها ‪ ..‬رفعت بصرها إلى الســماء ‪ ..‬إلــى اهلل ‪ ..‬وتمتمت‬
‫ً‬
‫بعينين تفيضان دمعا‪:‬‬
‫ ‪-‬تقبل منا هذا القربان ‪ ..‬یا إلهي‪.‬‬
‫وألقت «سكينة» بنفسها على جسد أبيها العظيم واعتنقته‪ ،‬وغمرتها‬
‫حالة من االستغراق‪ .‬كانت تصغي إلى صوت ينبعث من أعماق الرمال‬
‫‪ ..‬همهمة سماوية عجيبة تشبه صوت والدها الراحل‪:‬‬
‫ ‪-‬شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني‪.‬‬
‫أو سمعتم بغريب أو شهید فاندبوني‪.‬‬
‫لملمــت القبائــل خزيهــا ‪ ..‬عارهــا األبــدي تريد العــودة إلــى الكوفة ‪..‬‬

‫‪95‬‬
‫و «سكينة» ما تزال تتشبت بالجسد المضمخ بالدم‪.‬‬
‫هجــم األعــراب مــن القبائــل وجروهــا بعنف وراحــوا یكعونهــا برؤوس‬
‫الرماح حتى استوت على ناقتها‪.‬‬
‫عشــرون امــرأه ثكلى‪ ،‬وفتى عليــل‪ ،‬وأطفال يتامی مذعــورون؛ هو كل‬
‫مــا غنمتــه القبائــل في أطول يــوم في التاريــخ ‪ ..‬أما الــرؤوس فقد راحت‬
‫تتسابق فيها الخيل بشرى إلى األرقط حاكم المدينة المشهورة بالغدر ‪.‬‬
‫ً‬
‫غــادرت القبائل شــواطئ الفرات ‪ ..‬تركته وحيــدا يتلوى في الصحراء‬
‫كأفعى حائرة‪.‬‬
‫وغــادر موكــب الســبايا والعيــون الحزينة تتلفــت إلى أجســاد متناثرة‬
‫فــوق الرمــال كنجوم منطفئــة ‪ ..‬إلى أن غابت عن البصر ؛ وســاد صمت‬
‫رهيــب ما خال أنيــن خافت ينبعث من أعمــاق األرض المصبوغة بلون‬
‫أرجواني‪.‬‬

‫‪96‬‬

You might also like