Professional Documents
Culture Documents
تأليف :كمال ّ
السيد
الطبعة الثالثة :يونيو - 2022شوال 1443هـ
إعداد ونشر :مؤسسة كلمات للطباعة والنشر
البريد اإللكترونيkaleemat.pub@gmail.com :
kamal.alsayeed
الموقع الرسمي
تقدمت الفتاة بأدب وقدمت بين يديه طاقة من الرياحين ..
-السالم عليك يا ّ
سيدي
ّ
األشم: انتشر عبير ربيعي ..مأل االنف
-انطلقي ّ
حرة لوجه اهّلل
سرت همهم ..تناثرت اسئل ..عالمات استفهام ..
-جارية تساوي ألف دينار مقابل باقة ورد؟!
ابتسم الوجه المضمخ بعبير ّ
النبوات
ّ
علمنا اهّلل؛ أن ّ
نرد التحية بأحسن منها، -هكذا
وهل هناك سوى ّ
الحر ية؟!
1
الــكالب تنهش جســده بقســوة ..كالب لم يرها من قبل ..متوحشــة
ينز مــن أنيابها الصديد ..يحاول دفعها ولكن ملوثــة بكل القذارات ّ ..
ّ ..
ّ
ال جدوى ..إنها مســعورة وتزداد ضراوة وقســوة .وأشــدها كان األبقع ..إنه
ّ
يطلب العنق ..يندفع بوحشــية لينقــض على الرقبة الناصعة ..كإبريق
فضة.
ً -آه ..آه ..ماء ..ماء ..قلبي ّ
يتفطر عطشا.
جفف ّ ّ
حبات عرق كانت تتألأل في ضوء القمر . انتبه من نومه ..
تقابل الوجهان ..وجه القمر ،ووجهه.
ّ
تأمل الحسين النجوم في أغوارها البعيدة.
ً ّ
البريق القادم من األعماق السحيقة يشتد لمعانا ..يومض ..يحاول
كشف األسرار .
نهض السبط من فراشه ..أسبغ وضوءه ..أشاعت برودة الماء السالم
فــي روحــه ..لقد مضى من الليل ثلثــاه ،وليس هناك ما يخدش صمت
الليل سوى نباح كالب بعيدة.
ً
وكيســا ّ ً ً
يغــص بصــرار الدراهــم الفضية حمــل جرابــا مليئــا بالطعــام،
ّ
والدنانير ،وراح يجوس أزقة المدينة.
ّ ّ
اجتــاز بعــض المنعطفــات ..توقــف أمام بيــت يكاد يتهــدم .أحكم
ً لثامه ،فبدا كشــبح من أشــباح الليل ،أو ّ
ســر من أســراره .وضع قدرا من
وشيئا من الدقيق ،وأسقط ـ من ّكوة صغيرة ـ ّ ً
صرة نقود ،ثم طرق السمن،
ّ
الباب ،وحث الخطى ـ قبل أن تنفتح ـ داخل زقاق غارق في الظالم ..
كانــت تنبعــث مــن ّكوة بيــت كبير أضواء ســاطعة ..وســمع ضحكة
ماجنــة أعقبتها ضحكات .اســتعاذ بــاهّلل ،وهو ينعطف نحــو اليمين ..
ً
صار قريبا من قصر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان حاكم المدينة.
منظــر القصــر المنيــف ،والبيــوت الطينيــة التــي تحيطــه مــن كل
الجهــات ّ
يعبــر عن الظلــم الفادح في توزيــع الثروات؛ الفقــر إلى جانب
الغنى ..البؤس إلى جانب الترف والبذخ ..
ّ
-أيــن أنــت يا رســول اهّلل؟! ..هلم لتشــاهد مــا يفعل طلقــاؤك ..في
ّ
مدينتك ..اين أنت يا جداه؟!
8
الليل ما يزال يغمر المدينة بظلمة حالكة يحيطها باألسرار ؛ والنجوم
مسمرة في صفحة السماء؛ والقمر يختفي خلف الربى والتالل، ما تزال ّ
ّ
فيــزداد الظــام رهبة ..كراهبة ترفل بحلتها الســوداء بدت المدينة تلك
الليلة.
ّ ّ ّ
األشــم ..وقف توقــف الرجل األســمر ذو العينيــن المتألقتين واألنف
ّ ّ
إلــى جانــب النخلــة التــي غرســها جــده النبــي وتذكــر حديثــه :اكرمــوا
ً
عمتكم النخلة .لقد شــاخت كثيرا ،ولكنها ما تزال َتهب الرطب والتمر
ً ً
والظــال .أســند جذعــه إلــى جذعهــا ..أضحيا جذعــا واحــدا ..انبثق
ّ
نبــع مــن الصالة ،وغمــر رشــاش الكلمات الســماوية المــكان ..وصلى
الحسين ركعتين ..ثم انطلق نحو النبي.
الذاكرة ما تزال تتألق بصور الطفولة ..الحسين بسنواته السبع يركض
جده العظيم ..يرتمي في أحضان ّ ّ
النبوة وعبق الوحي ،وابتسامات نحو
المالئكة تغمر دنياه .وتتالحق الصور ..تشتعل وتنطفئ كبروق سماوية.
ألقــى الرجــل الــذي ّ
ذرف علــى الخمســين بنفســه علــى القبر .شــعر
بدفء األحضان .احتضن التربة الطاهرة ،وراح يستنشــق ..يمأل صدره
المتموج ّ
ّ جده ّ ..ّ بشذى السماء .شعر بأنه ّ
تموج يمسد شعره يقبل وجه
الصحارى ،ويداعب ســوالفه المتأللئة .وشــعر أنه يعانق آدم و إبراهيم،
ّ
ويحتضن الكون كله.
9
ً ً ّ
-يــا جــداه ،انهم يريــدون مني شــيئا عظيما ..تكاد له الســماوات
يتفطرن وتنشـ ّـق األرض .يريدون لقمــم الجبال أن تغادر أماكنها
ّ
الشــماء إلــى الهاويــة ،وللســحب أن تــدع الســماء ،وللنخيل أن
تركع وتنحني ..إنهم يريدون للحسين أن يبايع ..يبايع يزيد ..
أغمض الحســين عينيه المتعبتين ،فانبثق شــال من نور محمد ..
وجه يتألأل كالبدر ،ترفرف حوله أجنحة المالئكة مثنى وثالث ورباع.
-حبيبــي يــا حســين ..إن أبــاك وأمــك وأخــاك قدموا علــي ..إنهم
مشتاقون اليكّ ،
فهلم إلينا.
-ال حاجة بي إلى الدنيا ،فخذني اليك يا أبتي.
ّ
-والشهادة يا بني ..الدنيا كلها تحتاج شهادتك.
ً ّ وانتبــه الحســين علــى أنفــاس الصبحّ ،
فــودع جــده وقفل عائــدا إلى
ً ّ
تتجســد أمــام عينيــه ،حتــى كاد يلمس غصنا من ســدرة منزلــه .الرؤ يــا
ّ
ـماوي يســطع في أعماقــه ..ونــداء يتردد فــي صدره .. المنتهــى .نــور سـ
يدعــوه إلــى الرحيل .لقد أزفت الســاعة ..والنوق فــي الصحاري رفعت
رؤوسها تترقب انتظام القافلة.
10
2
ً مــا لها المدينة خائفة هكذا ،بيوتهــا ترتجف ،وجدرانها ّ
تهتز رعبا؟ ..
أين مجد الكوفة الضائع؟ ..أين هيبتها القديمة؟ ..أم تراها نسيت أنها
كانت العاصمة؟!
تســاءل الرجــل الغريــب الــذي كانــت تحفــه األلوف قبــل ليلــة ّ ..أما
ّ ً ّ
اآلن فهــو يجــوس أزقة المدينــة خائفا يترقب ..ليس معــه من يدله على
الطريق ..
هــل تــراه أخفق في مهمته ..إنه ســفير الحســين إلــى الكوفة عاصمة
المجــد الغابــر .أيــن الرجال الذيــن بايعوه علــى الثورة؟ ..أيــن كل تلك
ّ
ودوي الســيوف والــدروع ،وتلــك الكلمــات التــي تشــبه بــوارق الفضــاء
الرعود؟!
ً
كيــف تحـ ّـول جيــش ناهــز العشــرين ألفــا إلــى فئــران خائفــة تختبئ
مذعورة في جحور منقوبة في األرض؟
11
ّ
فكر أن ينادي بأعلى صوته« :يا منصور أمت»؛ شعار الثورة ..ذكريات
ّ
علهم ّ ّ ّ
يهبون لحصار قصر الظلم بدر ..علهم يلتفون حوله من جديد ..
ّ
مرة أخرى .ولكن من تركوه في وضح النهار ،كيف يعودون إليه في قلب
الظالم .الذين ّفروا في ضوء الشمس ،هل يعودون في غمرة الليل؟
ً
خطــى واهنــة .تداعــت أمامــه كان مســلم بــن عقيــل يســير ..ينقــل
ّ
المتموجة كل الصــور المثيــرة ،وهــو يعبر الصحراء مــع دليليه ..الرمــال
القاحلة حيث ال ماء ..وال حياة ..وال شــيء ،ســوى الذرات الملتهب ..
الظمأ ..التيه ..
ً ً
مات الدليالن عطشا ،أما هو فبقي يواصل سيره وحيدا .أراد أن يعود
من حيث أتى ..ولكن الحســين كان يريد له المســير حتى النهاية .إنه
ســفيره إلى الكوفة ..الكوفة التي تريد استرداد مجدها الضائع ..الكوفة
التي تتلهف لرؤية علي بن ابي طالب ّ
مرة أخرى ..تنشد عدله ..رحمته
..رفقــه بالفقــراء والمســاكين ..تريد أن تطرب علــى بالغته من جديد ..
ً ّ
تريد للمنبر المهجور أن يتدفق علما وفصاحة.
ً
تلك أحالم الرجال الفئران تحلم في جحورها وترتجف ذعرا.
ً ّ األحالم الوردية تحتاج إلى سواعد ّ
بقوة الحديد أو أشد بأسا.
«الســفير » أعيــاه التعــب ..كقائــد مخــذول كان يجرجر نفســه بعناء
12
..يحـ ّـس مــرارة الهزيمــة ..أمام جيش وهميّ .
حق لــه أن يندهش كيف
تشـ ّـتت جيشه الكبير أمام شــائعة كاذبة! ..أمام جيش سوف يصل من
الشــام ..جيش وهمي ..صنعه الخيال المريض ..الخيال الذي يحلم
بعقل فأرة مذعورة من القط ..من اسمه فقط.
جلــس الغر يــب عنــد باب عتيقــة ،وراح يلتقط أنفاســه كأنــه ما يزال
يخترق الصحراء ..يجوب األودية.
فتحــت «طوعة» المــرأة العجوز التي كانت تنتظر عــودة ابنها؛ واالبن
ذهب يبحث عن الرجل الجائزة.
-هل لي في جرعة من الماء؟
ومــا أســرع أن عــادت المــرأة تحمل إليــه الماء ..فــراح ّ
يعــب منه ،ثم
سكب الباقي على صدره .أراد أن يطفئ لهيب الصحراء في أعماقه.
قالت العجوز مستنكرة جلوسه:
-ألم تشرب يا عبداهّلل؟! ..قم فانصرف إلى اهلك.
َ
اعتصــم بالصمــت ..الصمت المجهول الذي ال يريد أن يســبر غوره
أحد.
-قم عافاك اهّلل ..فإنه ال يجدر بك الجلوس على بابي.
13
ّ
-وماذا افعل ..لقد ضللت الطريق ..وليس هناك من يدلني.
قالت المرأة متوجسة:
-من تكون يا عبداهّلل؟!
-أنا مسلم بن عقيل.
فهتفت المرأة مأخوذة بالمفاجأة:
-أنت مسلم؟! ..انهض اذن انهض.
-إلى اين يا أمة اهّلل.
-إلى بيتي ..
وانفتح باب في األفق المظلم ّ ..كوة تفضي إلى النور ..لحظة من أمل
..قطرة ماء في لهب الصحراء.
واحتضــن بيــت كوفــي «مســلم بن عقيــل» الرجــل الشــريدّ .أمــا بقية
ّ
البيــوت فقــد كانت تصغي برعب إلــى حوافر الخيل وهــي تدك األرض
ً
بحثا عن رجل غريب.
14
3
القافلــة تطــوي الصحــراء فــي طريقهــا إلى أم القــرى ..قافلــة عجيبة.
ُ
لــم تكــن قافلة تجارية ،ولم تبد ـ كذلك ـ قافلــة للحجاج ..ففيها أطفال
كثيــرون ..أطفــال يشــبهون ورود الربيع ..قافلــة يتقدمها رجل في عينيه
بر يــق الشــمس وفــي جبينــه يتــأأل القمــر ،وفــي حنايــا صــدره تنطــوي
الصحارى .إلى جانبه وجه يشــبه البدر ..شــاب في الثالثين من عمره
أو يزيد ..يدعى «أبو الفضل» أو قمر بني هاشــم ..دائم النظر إلى أخيه
سيدي.يتأمله بخشوع ..يخاطبه :يا ّ
ً ْ ً ُ ُ ً
ويظهر خلفه فتى عجيب يشبه النبي خلقا وخلقا ومنطقا ..إنه علي
ً
..علي األ كبر .وفي القافلة هوادج كثيرة ..كثيرة جدا ..وأطفال ..
القافلــة تســير ،والتاريــخ يحبــس أنفاســه ،وكلمــات تتــردد بخشــوع،
فتمتزج مع تمتمات النوق.
ّ -ولما ّ
توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل.
15
-الطريق محفوفة باألخطار ،فلو تنكبت الطريق.
قــدر عجيــب يسـ ّـير القافلة ..قافلــة صغيرة تحاول تصحيح المســار
اإلنساني.
الكلمــات التــي قالها الحســين ما زالــت ّ
تدو ي فــي اآلذان .األهداف
العظيمة ..الروح السامية في جالل الملكوت .كلماته تذهب مع نسائم
ً ً
الصحــراء بــذورا تنبــت في أعمــاق األرض ..هــل يكون المــوت هدفا ..
كيف تخرج الحياة من رحم الموت؟ .و إذا كان الموت هو النهاية لكل
ً
كائن ،فلم ال نختار الطريقة التي سنموت بها؟ هل يكون الموت جميال
َ ُ ً
أحيانــا ،لكــي يقول الحســين :خ ّط المــوت على ولد آدم َمخ ّــط القالدة
على جيد الفتاة ،وما أولهني إلى أسالفي اشتياق يعقوب إلى يوسف.
-ولكن أذا كان هدفك الموت ،فلم تأخذ معك األطفال والنساء؟
وأذا كانــت اآلفــاق مظلمة ،لماذا تصطحب كل هذا الحشــد من
الضعفاء؟ ..
ً
-شــاء اهّلل ان يراهن ســبايا ..شاء اهّلل أن يراني قتيال ..سوف أموت
عطشا ..سأسقط قرب نهر يموج بالمياه كأنه بطون ّ ً
الحيات.
-ماذا يريد الحسين؟
ً
-يريد أن يموت ظامئا.
16
-لماذا؟!
-إنها مشيئة اهّلل!
-مشيئة ّ
االمة ..
ّ
القافلــة تقتــرب مــن مكــة ..أم القرى في واد غيــر ذي زرع ..أول بيت
وضع للناس ..مهبط جبريل فوق جبل النور ..غار حراء ،حيث التقت
السماء باألرض ..طفولة ّ
محمد ..شبابه ..آخر النبوات في التاريخ ..
المســاء ينشر ظالله الخفيفة ..وأنوار واهنة تحاول أن تتألأل كالنجوم
هزتها أنباء قادمة من دمشــق .لقــد هلك هرقل و ..أضــواء مدينــة حائــرة ّ
جلس مكانه هرقل آخر .
ّ
شــعبان يطــوي ثالثــة مــن أيامــه ..القافلــة تدخــل مكــة ،وتلقي عصا
ّ الترحال عند البيت العتيق .الحسين ّ
يحن إلى زيارة قبر جدته خديجة
الكبرى ..يذكر تضحياتها من أجل ّ
محمد ..وهو يريد أن يواصل ذات
الدرب ..يريد إعادة نهج النبي العظيم.
-ماذا تريد يا سيدي الحسين ..أ ال تبقى هنا في حرم اهّلل؟
-إنهم لن يدعوني أعيش بســام ..إنهــم يريدون الفتك بي ،حتى
ً ً
لو تعلقت بأستار الكعبة ..إنهم يطلبون مني شيئا عظيما ..هل
رأيت النخيل ينحني أو الجبال؟ هيهات ..هيهات.
17
-و ِلـ َـم العــراق؟ ..أليس هناك مــكان آخر ؟ العراق الــذي قتل أباك
ّ
واغتال أخاك ،وسلم المنبر لمعاوية! ..
ً
-و ِلم الذهاب اآلن ..إال تمكث قليال.
ً ً ُ
ذهبت غدا ،و إن لــم أذهب غدا ذهبت بعد -إن لــم أذهــب اليوم
ُ ُّ
غد ،وما من الموت واهّلل بد ..و إني ألعرف اليوم الذي اقتل فيه.
تنبعــث مــن األرض اســئلة ..تتفجــر عالمــات اســتفهام ســرعان مــا
تتالشى أمام كلمات سماوية كأنها تأتي من وراء أستار الغيب.
ً ً ينظــرون فــا يرون ســوى بيــارق ّ
أمويــة ..ســيوفا تقطــر غــدرا وخناجر
ً
مســمومة ..أما هو فيرى ينابيع تتدفق ..أنهارا وســواقي ..إنه يرى ما وراء
اآلفاق ..يرى المستقبل القادم من رحم األيام.
عجيــب أمــر هــذا الرجــل ..يحــاول أن يلــوي القــدر ..أن يقهــر كل
ً
نظاما ّ
مدججا بالسالح ..كيف؟! شياطين األرض ..أن يهزم
بقافلــة صغيــرة ..ســبعين أو يزيــدون ..أطفــال ونســاء ..وتصغــي
ّ
متمــردة ثائرة ..كلمــات تختصر النبــوات ..تبدأ الصحــارى لكلمــات
ببسم اهّلل ..مجراها ومرساها ..
-هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى اخيه محمد بن الحنفية.
ً
إن الحســين يشــهد أن ال الــه إال اهّلل وحــده ال شــريك لــه ،وأن محمــدا
18
عبده ورسوله ..جاء بالحق من عنده.
وأن الجنة حق ،والنار حق ،والساعة آتية ال ريب فيها .وأن اهّلل يبعث
من في القبور .
ً ً ً ً
و إني لم اخرج أشرا وال بطرا وال مفسدا وال ظالما ،و إنما خرجت لطلب
اإلصالح في ّأمة جدي.
ّ
أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ،وأســير بســيرة جدي ،وأبي
علي بن أبي طالب.
فمــن قبلنــي بقبول الحق ،فــاهّلل أولى بالحق ،ومــن ّرد ّ
علي هذا اصبر
حتى يقضي اهّلل بيني وبين القوم بالحق ،وهو خير الحاكمين ..
انطلقــت الثــورة وصــدر بيانهــا األول .أســلحتها الصبــر والمقاومــة
والموت.
الموت سالح ..بل حياة ..حياة ..كيف؟
ً
-أجــل ..إن من يموت كريما ســيحيا ..ســيحيا إلــى األبد ..هكذا
ّ
علمني أبي قال على شاطئ الفرات بصفين:
الموت في حياتكم مقهورين ،والحياة في موتكم قاهرين.
19
4
قصــر اإلمــارة يجثــم فــوق الكوفــة ..نســر هائل جاثــم على فريســته ..
غراب اسطوري ينعب فتطير الرؤوس وتطيح االيدي ..
ذئــاب جائعــة تعوي من بعيد ..وكالب مســعورة تنبح ..وليل حالك
مليء باألســرار والغموض ..ورجل أرقط مجهول النسب اسمه ابن زياد
ً
بــن ابــي ..ابــن الليلــة الماجنة .الرجــل األرقط بــدا مفزعا تلــك الليلة ..
يفكــر ّ ً ّ
ويدبــر ،فقتل كيف فكر ..يتشــبث بمخالب نســر شــيطانا مر يــدا
ّ
..يهــدد بجنود قادمين من الشــام ..فتطيــع القبائل ،وتنحني الرقاب ..
وتتساقط الرؤوس ..
التفت نحو هاني بن عروة ،وصرخ بعصبية:
-أتيت بابن عقيل إلى دارك ،وجمعت له السالح؟
قال هاني بثبات:
20
-أفضــل لــك أن تمضــي إلى الشــام ،فقد جــاء من هو ّ
أحــق باألمر
منك ومن صاحبك.
ً ّ
وتفجر ابن زياد غضبا:
-واهّلل ال تفارقني حتى تأتيني به.
ً ً
وجاءه الجواب هادئا ثابتا ..ثبات الجبال:
ّ
قدمي ما رفعتهما عنه. -واهّلل لو كان تحت
ّ -
ألقتلنك.
-إذن تكثر البارقة حولك.
ّ هجــم األرقــط علــى زعيــم «مــراد» ّ
وجــره مــن شــعره ،وســدد لــه ضربة
هشمت أنفه.
ً
يا كوفة ..يا مدينة عجيبة ..أيتها الغانية اللعوب ..يا مومسا تريد كل
ُ ً
يوم بعال ِ ..ل َم تضيعين أبناءك؟ أين مسلم أيتها الغادرة؟! ..
خيــول الدوريات تجوس المدينة الخائفــة ..الخائنة ..يبحثون عن
ً ّ
رجل مكي مدني اسمه مسلم ..مسلم حقا.
ِ -لم يبحثون عنه؟ ..
ً ً
-إنه يحمل أشــياء ممنوعة ..أشــياء خطيرة .يحمل ســيفا علويا ..
21
ً ً
وقلبا حسينيا ..يريد تهريب الثورة ..
-في هذا الليل والناس نيام؟!
العيــون الحمــراء ترقــب المدينــة ..ومســلم فــي بيــت طوعــة ..رجــل
انقطعت به السبل ،وضاقت عليه األرض بما رحبت ،وال ملجأ له سوى
ّ
مهند في يمينه.
ً
جريحــا من ليــوث ّ ً
محمد .. وطوعــة ..المــرأة العجــوز ..تتأمل أســدا
يقبض على سيفه .لقد طلع الفجر ،وآن للنهاية ان تبدأ.
-إنهم كثيرون ..مئة أو يزيدون.
-ال عليــك يــا َأمة اهّلل .لقد حان اللقــاء .رأيت عمي أمير المؤمنين ـ
في المنام ـ يقول لي :أنت معي غدا ..
اقتحمت الذئاب منزل طوعة ،ولمع الســيف العلوي كبرق ســماوي
ّ ..
ودو ى رعد مهيب له صوت مسلم:
ُ
اقسمت ال أقتل إال ّ
حرا
ً
و إن رأيت الموت شيئا نكرا
الرجــل الغر يــب القــادم من رمال الجزيــرة ،يقاتل لوحده فــي المدينة
المشــهورة بالغــدر ،والرجــال الذيــن ابتســموا لــه باألمــس يكشــرون عن
22
أنياب مسمومة ّ ..
ملوثة بالصديد.
ّ ً
وصرخ «ابن االشعث» مستمدا:
-الرجال ..الرجال.
ويستنكر قصر اإلمارة:
-ويلك إنه رجل واحد.
-أتظــن أنك ارســلتني إلى بقال من بقالي الكوفة! ..إنه ســيف من
أسياف ّ
محمد.
وعجزت الســيوف أن تكســر ســيفه ..والرجــل ما يزال يقاتــل ..يقاتل
بضراوة أسطورية ..الجراح النازفة ..الظمأ ..اإلعياء ..غامت المرئيات
أمام عيني ..وتوالت الطعنات ..طعنات الغدر ..الخناجر المســمومة
تنغرز في جســده ..وتهاوى الجبل ..اإلرادة الفوالذية عجز الجســد عن
ولما انتزعوا ســيفه بكى ّ ..
وتعجب الذين مواكبتهــا ..تراخت قبضته ّ ..
حوله ..لم يدركوا ّ
سر البكاء.
23
5
القافلــة تطــوي الصحــراء ..والنجــوم المحتشــدة في الســماء ترســل
ذرات الرمال ،والقافلة التي سبقت قوافل الحجيج ً
أضواء واهنة ،فتبرق ّ
ّ
فــي مغادرة مكة تنســاب فــي بطون األودية ..وخشخشــة األشــواك تبوح
بأسرار الليل.
وصادفهم رجل في «الصفاح» يريد العمرة.
-من الرجل؟
-الفرزدق بن غالب.
-هذا نسب قصير .
ً
-أنت أقصر نسبا مني ..أنت ابن رسول اهّلل
والح سؤال عن الكوفة ..عاصمة أبيه وأخيه.
-قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
24
أية قلوب تلك ال تنقاد لها الســواعد ..القلوب الخائفة قلوب ميتة ..
إنها قطعة لحم باردة.
ً ً
وفــي «ذات عــرق» كان الحســين جالســا يقــرأ كتابا بين يديــه ..وبين
ً
أيديــه أيضــا الصحــراء المترامية ..صحــراء ال نهاية لرمالهــا ..وبين يديه
ً
حائرا ال يدري أين مسارهّ .
ومر به رجل كان في الكوفة منذ وقف التاريخ
أيام ..
ً ّ
هز الرجل رأسه آسفا:
-السيوف مع بني امية والقلوب معك.
-صدقت.
-ماذا تقرأ يا بن رسول اهّلل؟
ً
-كتابــا مــن أهل الكوفــة وهم قاتلي ..فــاذا فعلوا ذلك لــم يدعوا هّلل
ً
محرما إال انتهكوه.
-أنشدك اهّلل في حرمة العرب.
ومضــى الرجــل إلــى وجهته ..ومضــى التاريخ بعد أن عرف مســاره ..
ً
كان يســير باتجــاه يختلف قليال عن جهة الكوفة .هنــاك بمحاذاة النهر
سيكون اللقاء ..سيبني التاريخ في تلك البقعة إحدى مدنه الخالدة.
25
وفــي «الخزيميــة» لوت النوق أعناقها ..توقفــت هنيئة ..أصغت إلى
هاتف عجيب:
اال يا عين فاحتفلي بجهد
فمن يبكي على الشهداء بعدي
على قوم تسوقهم المنايا
وعد
بأقدار إلى انجاز ِ
وتمتم الحسين:
-القوم يسيرون والمنايا تسري اليهم.
-او لسنا على الحق يا أبي؟
ّ ً
عليا األ كبر ّ ..
فحن إلى جده .. تأمل ابنه
-بلى والذي إليه مرجع العباد.
-يا أبت إذن ال نبالي.
ّ ً
وفاضت عيناه شوقا إلى جده.
وفــي «الثعلبيــة» قال الحســين لرجل تاهت به الســبل ..ال يدري أي
الطريقين يسلك.
26
-يــا أخا العرب لــو لقيتك بالمدينة ألريتك أثــر جبريل في دارنا ..
افعلموا وجهلنا؟! هذا مما ال يكون!
ً
ومضــى الرجــل حائــرا ال يــدري أي الطريقيــن يعنــي النجــاة ..طريق
الحسين أم طريق البقاء على قيد الحياة.
ومضت القافلة ال تلوي على شــيء .إلى الكوفة كانت الخطى تتجه،
ولكن القلوب كانت تهفو إلى مدينة أخرى ..مدينة لم تولد بعد.
ّ
كبر صاحب للحسين:
-رأيت النخيل ..نخيل الكوفة.
استنكر آخر :
-ما بهذا الموضع نخل ..و إنما هو ّ
أسنة الرماح وآذان الخيل.
ونظر الحسين:
-وأنا أراه ذلك ..أليس هنا ملجأ؟
-نعم «ذو حسم» جبل عن يسارك.
ُ ّ
هو ْت بأثقالها إلى األرض ..توقفت سفن الصحراء.
وأناخت النوق َ ..
توقفــت لتتأ كــد مــن اتجــاه البوصلــة ..أو لتواجــه القراصنــة ..قراصنــة
التاريخ.
27
6
الكوفــة خائفــة ..جلســت ذليلــة فــي حضــرة ابن زيــاد ..وزياد يشــير
بســوطه ..فتتســاقط الــرؤوس ..وتطيــح األيــدي ..وانحنــت الرقــاب
ّ
«لألرقــط» ..لقــد انتصر بجيشــه الوهمي القادم من الشــام .الكوفة كلها
أسيرة في قبضته ..تنقاد له طائعة ...يصرخ فيها:
-اقتلوا آل الحسين ..إنهم أناس ّ
يتطهرون.
ّ ً ً
«الحر ». وينتظم العبيد ..عبد الدنيا جيشا عرمرما يقوده
المهمــة خطيــرة ..القبــض علــى القافلــة ..فــارس يقــود ألــف فارس
ً ّ
مدجج بالسالح يجوبون الصحراء والبراري بحثا عن قافلة صغيرة ..
قــدر عجيــب ســاق هــذا الرجــل ..جعله فــي طليعة الذيــن يريدون
سمته ّأمه ..
«الحر » كما ّ
ّ اغتيال ّ
الحر ية ..وهو
والحـ ّـر يجــوب الصحــراء فــي ّ
مهمــة كان يلعنهــا في أعماق نفســه ..
28
الرمال الممتدة إلى ما ال نهاية تدعوه إلى الرحيل ..الرحيل إلى الشمس،
ً ّ ّ
وكانت األرض تشده إليها كما شدت ألفا يسيرون خلفه.
ً ً ً ً ويسمع ّ
الحر صوتا عجيبا ..صوتا قادما من وراء الرمال:
ّ
بالجنة. -ابشر يا ّ
حر
-أية ّ
جنة وأنا سائر لقتال سبط النبي.
الخيــل تلهــث ّ ..
أضــر بهــا الظمــأ ..والصحــراء تلتهــب ..تتوهــج ..
ّ ّ َّ ً
بالجنــة .وتبدو في األفــق قافلة والحر ُيبشــر تشــتعل جحيمــا ال يطــاق؛
تتجه نحو ذي حسم ..الجبل الصغير .
ً ً
حممــا ّ ..
تتفجــر لهبــا ،والرمــال الشــمس فــي كبــد الســماء تتشــظى
تهوم عينها نحو ســراب بعيد يحســبه تشــتعل جمـ ًـرا ،والخيــل تلهث ّ ..
الظمــآن ماء .وقف ّ
الحر قبال الحســين فــي الظهيرة العظمى ..الخيول
تنظر إلى الحسين ّ ..
تشم رائحة الماء ،وتحمحم.
هتف الحسين:
-اسقوهم وأرشفوا الخيل ..
ومـ ّـرت مئــات الخيــول الظامئــة ّ ..
تعــب من المــاء ..وتطفــئ لهــب
الصحراء.
29
ً
متأخرا ،وقد ّ ً
أضر به العطش ،فقال بلغة ورأى الحســين فارســا وصل
حجازية:
-أنخ الراوية.
..-؟!
-أنخ الجمل.
أنــاخ الظامــئ الجمــل .ولمــا أراد أن يشــرب ،جعــل المــاء يســيل من
السقاء ،فقال الحسين بلغة حجازية:
-أخنث السقاء.
فلــم يــدر الرجل مــا يصنع ،فعطف الحســين له الســقاء ّ
حتــى ارتوى
وسقى فرسه.
وساد صمت رهيب رغم حمحمة الخيل ..وكان الجميع يتساءلون
َّ
عــن سـ ّـر وجودهــم فــي تلــك البقعــة الملتهبــة مــن دنيــا اهّلل .وأذن «ابن
مسروق» للصالة ،فقال الحسين ّ
للحر :
ّ
-اتصلي بأصحابك.
ً ّ
-ال ،بل نصلي جميعا بصالتك.
ّ ّ
وصلى الحســين بالجمــوع ..وصلى خلفه ألف فــارس كانوا يريدون
30
القبض على الرجل القادم من الحجاز .وقال الحسين بعد الصالة:
ّ -نحن أهل بيت ّ
محمد أولى باألمر من هؤالء المدعين ..السائرين
بالجــور والعــدوان ،فــإن أبيتــم إال الكراهيــة لنــا ،والجهــل بحقنا،
وكان رأيكم على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم ..
تساءل ّ
الحر :
-ما ادري ،ما هذه الكتب التي تذكرها؟!
ً
فنظر الحســين إلى «ابن ســمعان» ،فاحضر خرجين مملوءين كتبا..
ّ
رســائل بــاآلالف ..كتبهــا الكوفيون؛ كلها تقــول ان أقدم علينــا ليس لنا
إمام غيرك.
ً تمتم ّ
الحر خجال:
-إنــي لســت مــن هــؤالء ..وانــي أمــرت أن اقدمــك الكوفــة علــى
ابن زياد.
ّ
االشم: قال صاحب األنف
-الموت أدنى إليك من ذلك ..
القافلة تريد أن تستأنف رحلتها ..سفن الصحراء ترفع مراسيها.
ّ
«الحر » يعترض: و
31
ّ
-أنا انفذ أمر الخليفة.
-ثكلتك ّأمك.
ً
-امــا لــو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر ّأمه كائنا من كان
فأمك الزهراء البتول. ..ولكن مالي إلى ذكر ّأمك من سبيل ّ ..
ّ ً وأردف ّ
متوسال: الحر
ً
وســطا ..ال يدخلك الكوفة وال ّ ً
يردك إلى المدينة، -لتســلك طريقا
ّ
حتى اكتب إلى ابن زياد ،فلعل اهّلل يرزقني العافية.
كانــت القافلة تســير باتجــاه بوصلة القدر ..باتجــاه مدينة تعيش في
رحم المستقبل.
كانــا يســيران علــى مهل ..يســيران فــي طريــق واحد ..طريق رســمته
األقدار .
الحر بحزن:همس ّ
َ َ ّ
-إني أذكرك اهّلل في نفسك ،فإني اشهد لئن قاتلت ُلتقتل ّن
ّ
«الحر ». وأدرك الحسين ما تموج به أعماق
-أفبالموت ّ
تخوفني؟!
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
32
ً
إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما
َُ فإن عشت لم أندم و إن ّ
مت لم ألم
ً
كفى بك ذال أن تعيش وترغما
وادرك ّ
الحر هدف الحسين ..الغاية التي يتحرك نحوها ..ابتعد عنه
..أخــذ ناحيــة أخــرى من الطريق ..يســايره فيها من بعيد ..ولكنه شــعر
بنفســه تهفو إلى الرجل الســائر نحو الموت ..الرجل الذي قال من قبل:
ّ
من لحق بنا استشهد ومن تخلف عنا لم يبلغ الفتح.
33
7
مــا بيــن «عيــن التمــر » و «القربــات» ،الحت مــن بعيد خيمــة وحيدة
..فــي خارجهــا رمــح مركــوز وفرس تحمحــم ..وفي داخــل الخيمة رجل
ً
وحيــد ..فـ ّـر مــن الكوفة ..يريــد أن ينأى بنفســه بعيدا عن قــدر رهيب.
فجاءه رجل من أقصى الجزيرة يسعى.
-ماذا تريد!!
-إني جئتك بهدية وكرامة .هذا الحسين يدعوك إلى نصرته.
أجاب الرجل الوحيد:
ّ
واهّلل ما خرجت من الكوفة إال لكي ال أراه ..لعلك لم تسمع األخبار ..
ُ
لقد خذلته شــيعته ..قتل «مســلم بن عقيل» و «هاني بن عروة» ورجال
آخرون ،وال أقدر على نصره ..
وأردف وهو يطرق برأسه إلى األرض:
34
-ولست أحب أن يراني وأراه.
ً
ولكــن الحســين أراد أن يــراه فمضى إليــه ..ورأى «الجعفــي» ّلمة من
الناس تهفو إليه.
رجــل ّ
ذرف علــى الخمســين وحوله رجــال وصبية وأطفــال قادمين،
فأوســع لهم في المجلس ،وجلس الجعفي قبال رجل لم يره من قبل ..
تمــوج فــي جبهته طيوف ّ
النبوات .أراد أن يكســر حاجز الصمت ،فقال
ً
مبتسما وهو يشير إلى لحية تشبه ليلة غاب فيها القمر :
ٌ -
أسواد أم خضاب؟!
علي الشيب يا ابن ّ
الحر . ّ -
عجل ّ
-خضاب إذن!
نبيك وتقاتل معه؟ -يا ابن الحر ..إال تنصر ابن بنت ّ
ّ -إن نفســي ال تســمح بالموت ..ولكن فرســي «الملحقة» هذه لك
ً
..واهّلل مــا طلبت عليها شــيئا قط إال لحقتــه ..وال طلبني أحد إال
سبقته ..
-أما اذا رغبت بنفسك ّ
عنا ،فال حاجة لنا في فرسك.
ونهــض الحســين ..كان يريــد أن يرفــع الرجل ..أن يســمو بــه ،ولكنه
35
ّ
اثاقل إلى األرض.
وفــي آخــر الليل أمر الحســين فتيانه باالســتقاء والرحيــل ..ونهضت
النــوق ّ ..يممت وجوههــا نحو األرض التي بورك فيهــا للعالمين ..وكان
ً
غدرا ..القافلة تســير ّ ..
تشــق طريقها في هناك ألف ذئب تتوهج عيونها
الظالم ..تتبعها قطعان الذئاب وهي تعوي في آخر الليل.
ً
الح راكب من بعيد ..مدجج بالســاح ..كان رســوال من ابن زياد إلى
ً
خطيرا .قرأه ّ ً ّ
الحر بصوت يسمعه الحسين: «الحر » يحمل إليه كتابا
-جعجــع بالحســين حين تقرأ كتابــي وال تنزله إال بالعــراء على غير
حصن وال ماء.
قال الحسين:
-دعنا ننزل «نينوى» أو «الغاضريات».
-ال استطيع .فحامل الكتاب عين ّ
علي.
ً
قال «زهير بن القين» ،وكان رجال صحب الحسين على قدر .
-يا بن رسول اهّلل! دعنا نقاتله ..إن قتال هؤالء ْأهون علينا من قتال
من يأتينا بعدهم .فلعمري ليأتينا ما ال قبل لنا به.
-ما كنت أبدأهم بقتال.
36
-ههنا قرية و «الفرات» يحدق بها من ثالث جهات.
-ما اسمها؟.
«-العقر ».
-نعوذ باهّلل من العقر .
والتفت الحسين إلى الحر :
ً
-سر بنا قليال.
ومضت القافلة ال تلوي على شي ..يتبعها ألف ذئب أغبر .
اهتـ ّـزت البوصلــة ..تعثــرت النــوق ..ووقــف جواد الحســين ّ ..
تســمر
ّ
لعلها ّ
شــمت رائحة وطن في مكانه ..رفعت النوق رؤوســها ..تلفتت ..
تبحث عنه.
سأل الحسين:
-ما اسم هذه األرض؟
ّ -
الطف.
-فهل لها اسم آخر ؟
-كربالء.
37
ّ
تجمعت الدموع في عينيه كغيوم ممطرة:
ْ ّ
محــط ركابنــا وســفك دمائنــا .بهــذا -أرض كــرب و بــاء ..ههنــا
ّ
أخبرني جدي رسول اهّلل.
ً ّ
«المحرم» حزينا كقارب وحيد ..تائه في وفــي تلــك الليلة ،الح هالل
بحر الظلمات.
ّ
تعالت أصــوات رجال يدقون أوتاد الخيام ،وضحكات بريئة ألطفال
يلهــون فــي الرمــال ..ونســائم عذبــة ّ
تهــب مــن ناحيــة «الفــرات»؛ وكان
ّ ً
واقفا ّ
يتأمل األفق البعيد ..يحدق في آخر الدنيا. الحسين
38
8
ّ
واهتــزت األرض تحت األقــدام .كتائب جنود مــادت الكوفــة بأهلها،
مذعور يــن تتحــرك فــي كل اتجــاه ..عيــون زائغــة ألشــباه رجــال تحمــل
أسلحة القتل ..تنطلق إلى خارج المدينة.
«زجر بن قيس» يقود خمسمئة فارس ّ ..يتجه صوب جسر «الصراه».
وخــرج «الشــمر » فــي أربعــة آ الف مقاتــل ،و «الحصيــن بن نميــر » في
أربعة آ الف ،و «شــبث بــن ربعي» في ألف ،و ّ
«حجار بــن أبجر » في ألف
ّ
..وتتابعت الكتائب تلو الكتائب ..جنود يشبهون في ذلتهم األسرى ..
قلوبهم مع الحسين وسيوفهم تستهدف قلبه.
حيــات وأفــاع تتلـ ّـوى ..تزحــف باتجــاه «الفــرات» .وبــدا النهــر أفعى
ّ
خرافية تتمدد وسط الرمال ..
ً
وفي الكوفة ،مطرت الســماء ذهبا يخطف األبصار ويسلب األلباب،
39
طمت رؤوسهمواجتمع زعماء «القبائل» تحت المطر ،فلم يبرحوا حتى ّ
ّ ّ
وعصيه ،فإذا بالذهب ،واألرقط ينثر األموال ويوفر العطاء ..يلقي حباله
هي ّ
حيات وعقارب تسعى.
وافتتنــت «المومــس» بابــن زيــاد ،فنســيت ذكــر الحســين ..قالــت
بخالعة:
-مالي والدخول بين السالطين ..
قهقهه «األرقط» ّ ..
دوت ضحكة شيطانية في أرجاء القصر ..جيوشه
تحاصر القافلة ..تمنعها من العودة.
-وقعــت فــي قبضتــي يــا حســين ..هــا أنــا أرتقــي ّ
قمــة المجــد ..
ً
قائالّ :
حطة .أنا ابن زياد ابن ..أبي ســفيان ســيدخل بوابة قصري
..صخر بن حرب.
افتر الرجل األبرص عن شفتين غليظتين ،فظهرت أنياب ّ
حادة.
-ال تقبل من الحسين إال النزول على حكمك .إنه اآلن في أرضك،
ّ
فضيق عليه الخناق.
مــا لهــذا األبرص؟! ..صوته كفحيح االفعــى .الخنزير يريد للنخل أن
ً ّ
يركع ..والنخل الباسق يعشق الفضاء ،و إال مات واقفا.
األرقط يجيد «الشــطرنج» .ينقل جنده وقالعــه ّ ..
يحرك فيلة وخنازير
40
وبيادق تحلم بحكم «الري وجرجان».
ّ
األرقــط يعــرف «أصــول اللعبــة» ..مــن يمينــه تتدلى مشــانق وحبال،
ومن شــماله يســيل ذهب أصفر يأخــذ باأللباب ..والبيــادق الفئران ّ
تفر
ً ً
مذعورة ..تحمل سيوفا خشبية ..وتمتلئ جيوبها فضة أو ذهبا ..
ّ واألرقط الذي ّ
تلبس وجهه جلد األفعى يتمدد في «النخيلة» ،يراقب
ّ ّ
ســيدمر لعبته ..ســيلقف ســيفه كل بيادقه بحذر وترقب .,هناك رجل
ّ
وعصيه ..وجيوشه الوهمية. حباله
صرخ األرقط بالرجل األبرص.
ّ
-اكتب «البن ســعد» :أما بعد؛ إني لم أبعثك إلى الحســين لتكف
عنه وال ّ
لتمنيه الســامة .انظر ،فإن نزل الحســين وأصحابه على
حكمــي فابعــث بهــم ّ
الــي ،وأن أبوا فازحــف اليهم حتــى تقتلهم
ّ
وتمثل بهم.
كخنزير راح الشمر يجري صوب أحالمه المريضة ..تفوح منه رائحة
الموت ،وآ الف الضحايا ترقد في عينه المنطفئة ..ومن عطفيه تنبعث
حرائق ودخان ،وروائح أجساد محترقة.
ّ
ســلم الكتــاب إلــى «قائــد الجيــش» ،وراح ينظــر إليــه خلســة بعيــن
هوة ســحيقه تعشعش فيها نصف مغمضة .أما عينه األخرى فقد بدت ّ
41
العناكب.
أدرك الرجــل الــذي ناهــز الســبعين أن األبــرص قــد جــاء يســرق منــه
ً
أحالما قديمة ..جميلة تحكي جمال مدن «الري» و «جرجان».
َ
وقبح ما جئت به .واهّلل ال يستسلم الحسينّ .إن نفس ّ -قبحك اهّلل ّ
أبيه بين جنبيه.
ّ
-فخل بيني وبين العسكر .
ّ
-بل أنا الذي أتولى ذلك.
عقربان يتنافســان في الصحراء ..ينعب في صدريهما بوم وغراب ..
يتنافسان على الفوز في سباق من الخسران المبين.
42
9
تجمعــت فــي الســماء النــذر ..و إرهاصــات حــرب ّ
مدمــرة تتراكــم،
كأ كــوام مــن الغيــوم المشــحونة بــآ الف الصــواع ..وليل الصحــراء مليء
باألسرار .
ّ ّ
خــرج رجــل من بين مضارب الخيام ..عينــاه تتألقان تألق النجوم ..
وخرج رجل يتبعه ..يخاف عليه الغدر .
-من الرجل؟!
-نافع بن هالل الجملي.
-ما الذي أخرجك في جوف الليل؟
ً
-أفزعنــي خروجــك يا ابن النبي ..والظالم يخفي ســيوفا مســمومة
وخناجر .
ً ّ
-خرجــت اتفقــد القــاع والروابي ،مخافــة أن تكون مكمنــا لهجوم
43
الخيل يوم تحملون ويحملون.
ّ
شد الحسين على يد صاحبه وقال:
-هذه هي األرض التي ُوعدت بها.
ونظر إلى صاحبه بإشفاق وأردف:
ُ
-إال تسلك بين هذين الجبلين وتنجو بنفسك؟
كظامــئ اكتشــف ينابيــع الماء ،ألقــى نافع نفســه على ينبــوع الخلد
وحياة ال تفنى:
ً ْ
علي! ال فارق ُتك أبدا. سيدي ..واهّلل الذي ّ
من بك ّ ْ -
ثكلتني أمي يا ّ
مــاذا رأى «نافــع» تلــك الليلــة؟! مــاذا اكتشــف لكــي ّ
يفــر مــن الدنيا
ّ
لعله شــاهد فــي عينيه ّ
جنة مــن أعناب ..لكــي يســافر مــع الحســين ..
ونخيل تجري من تحتها األنهار ..
وعاد الحسين إلى مضارب القافلة ،وفي عينيه تصميم وعزم ..
ّ
الجيوش التي أحدقت بالفرات تسد األفق ..تموج كالسيل ..كالب
مســعورة وذئــاب تريد الفتك ..قبائل وحشــية ،أســكرتها نشــوة الســلب
والنهــب ..ما عســاها تفعل القافلة فــي ّ
مهب إعصار فيه نار ؟! ســبعون
سنبلة خضراء تحدق بها أسراب الجراد ..
44
ّ
تتخطفه ،وقال بحزن: نظر الحسين إلى آ الف السيوف التي جاءت
-الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألســنتهم يحوطونه ّ
مادرت
معايشهم.
ّ ّ
وتلفــت خلفــه ،فلــم يجــد إال ثلــة مــن المؤمنيــن؛ ســبعون أو يزيدون
ّ
ومثلهم معهم من الضعفاء صبية ونساء ..وطريقان ال ثالث لهما :السلة
ّ
أو الذلة.
ّ -هيهات ّ
منا الذلة ..الموت أولى من ركوب العار .
-لسوف يقودون بنات محمد سبايا!
-العار أولى من دخول النار .
ّ
الذئاب الجائعة تعوي ..تتحفز للفتك ،والقبائل تحلم بالغزو وليالي
السلب المجنونة.
شـ ّـمت النســور مــن بعيــد رائحــة معركــة وشــيكة ،فراحــت تــدور في
الســماء ..تترقب صيدها بفارغ الصبر ..بدت وكأنها مقبرة هائلة فاغرة
األفواه ..
القبائل تشاورت حول األسالب ..تفاهمت.
وقف «األبرص» على الميســرة ،وانفرد «ابن الحجاج» بالميمنة ،فيما
45
وقف بينهما رجل قارب السبعين يحلم بـ«الري» و «جرجان».
-ماذا أعددت لهؤالء يا سيدي الحسين؟
-سيف ّ
محمد.
-وماذا؟
ً
-ورجاال صدقوا ما عاهدوا اهّلل عليه.
-وماذا؟
-واألجيال.
و شوهد الحسين يجول بفرس ..يرسم ّ
خطة المواجهة.
-قاربوا بين االبنية.
تعانقت الخيام ببعضه ..تالحمت كالبنيان المرصوص.
وشــوهد الحســين وأصحابــه يحفــرون الخنــادق خلــف الخيــام
ً
ويمألونها حطبا.
-كيال تقتحمه الخيل ..
-ويكون القتال في جبهة واحدة.
األطفــال ينظــرون ـ بحــزن ـ جهة الفرات .شــفاه يابســة تحلــم بالندى
46
..وفتيــات بلغـ ْ
ـت قلوبهــن الحناجر يصغيــن ـ برعب ـ إلــى طبول قبائل
تحلم بالغزو والســبي؛ ونســور مجنونة تحــوم ..تنتظر لحظة االنقضاض
..هــي ذي لحظــات الغــروب تتراكــم ملتهبــة ..والفــرات ّ
يتأجج خلف
ذرى النخيل المتقدة ..الليل يوشك أن يهبط والحمرة القانية تتحول
إلــى رمــاد ..الظالم يجثم فوق الرمال كغراب في مســاء خريفي ..الحزن
ّ
يجــوس خــال الخيــام ..ينشــر ظله الثقيــل ..وآهــات تتصاعد من كل
مكان ..وأمنيات خضراء تحلم بالمطر والخصب والحياة.
ْ
شــهدت ـ من قبل ـ دخــل الحســين خيمة أختــه زينب ..المرأة التي
مصرع أبيها واغتيال أخيها ..فجاءت تحرس آخر أصحاب الكســاء ..
تريد أن تشاركه في كل شي ..تقتسم معه الموت والخلود.
ً
نســيم هــادئ حـ ّـرك طــرف الخيمــة ّ ..ربما مســح عليها مواســيا قبل
هبوب العاصفة.
قالت زينب:
-هل اســتعلمت من أصحابك نياتهم ،فإني أخشــى أن يســلموك
عند الوثبة.
-واهّلل لقــد بلوتهــم ،فمــا وجــدت فيهــم إال األشــوس ..يستأنســون
بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب ّأمه.
47
وكان نافع يصغي إلى هموم زينب ..إلى مخاوف عقيلة بني هاشم.
ذرف على الستين بأعوام: أسرع نافع إلى رجل ّ
ّ
-هلــم يــا حبيــب ..هلــم إلــى زينــب ..إنهــا تخشــى الغــدر ..وقد
اجتمعت النسوة عندها يبكين.
ّ ّ
بريق نفاذ اتقد في العينين األسديتين ..توهجات الغضب المخزون
ّ
اشتعلت كلها في لحظة واحدة ..
هتف حبيب:
-يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة!
انبعثت من بين الخيام ســيوف ورجال ..العزم المشتعل في العيون
يكاد يضيء التاريخ ،والسواعد المفتولة توشك أن تلوي األقدار .
وقف الرجال ازاء خيمة يعصف بها القلق والخوف.
هتف حبيب:
ّ
-يا معشــر حرائر رســول اهّلل! هذه صوارم فتيانكــم ،آلوا أ ل يغمدوها
أســنة غلمانكم أقسمواإال في رقاب من يريد الســوء فيكم ،وهذه ّ
أال يركزوها إال في صدور من يفرق ناديكم ..
ومــن قلــب الخيمــة الحزينــة ،ينبعث صوت اســتغاثة ..اســتغاثة ما
48
تزال حتى اليوم تســتفهم التاريخ واإلنســانية ..صوت امرأة خائفة تنشد
ّ
حقها في السالم.
الطيبون حاموا عن بنات رسول اهّلل. ّ -أيها ّ
ً ً لو كانت الغيوم حاضرة ّ
لتفجرت مطرا ساخنا كدموع األطفال.
ّ ّ
المتأججة وهــي تتطلع إلــى مذبحة وبكــى الرجــال ..بكــت العيــون
ّ
مروعة ستحدث بعد ساعات.
ً
وفي سحر تلك الليلة ،رأى الحسين ـ في عالم االطياف ـ كالبا تنهشه
ّ
..تتخطف جسده ،وأشدها كان األبقع ..
49
10
ّ ً ً
رمادا ّ
متلو يا ذرته الريح في العيون ،والفرات ما يزال يجري فجر بشبه
ّ
كحيــة تســعى ،والقبائــل التــي باتــت تحلــم باألســاب اســتيقظت ترنو
متنمرة إلى مضارب خيام بعيدة. بعيون ّ
50
وسمع ّ
الحر الحسين يخطب بجيشه الصغير :
-إن اهّلل تعالــى قــد أذن فــي قتلكــم وقتلــي في هــذا اليــوم فعليكم
بالصبر والقتال ..
رآهــم ينقســمون إلــى ثــاث فــرق؛ الجنــاح األيمــن بقيــادة «زهيــر بن
القيــن» ،والجناح األيســر بقيادة «حبيب بن مظاهر » .أما الحســين فقد
ّ
ثبــت فــي القلــب ..وتســلم الراية «أبــو الفضل» فبــدا والرايــة تخفق فوق
ً
رأسه جيشا لوحده.
ً
القبائل تزحف باتجاه الخيام ..والخيول تجول ..تثير غبارا والقلوب
ّ
الصغيرة في حنايا الخيام تخفق بشد ..يا له من يوم عصيب!
أصدر الحســين أمره بإضرام النار في الخندق ..فتصاعدت ألســنة
اللهب ..وتراجعت الخيول ّ ..فرت مذعورة من ّ
خط النار .
اغتاظ «األبرص» من هزيمة فرسانه ،فصاح بنفاق:
تعجلت بالنار قبل يوم القيامة! -يا حسينّ ،
ً
سأل الحسين مستوثقا:
ّ
-من هذا؟! كأنه شمر بن ذي الجوشن.
-نعم ..إنه الشمر .
51
انطلق صوت الحسين:
ًّ
صليا. -يا بن راعية المعزى! أنت أولى بها
ً
وضع «مسلم بن عوسجة» سهما في كبد القوس ..استهدف األبرص
ً ّ
الذي باع نفسه للشيطان .وفي اللحظة االخيرة ،تدخل الحسين قائال:
-أ كره أن أبدأهم بقتال.
ّ
تذكر الحســين كيف كان األبقع ينهش جســده بوحشــية ..رفع يديه
ً
إلــى الســماء ..إلــى العالــم الالنهائــي ..شــاكيا ويــات األرض ..كانــت
كلماته تنساب كنهر بارد ..نهر قادم من جنات عدن:
ّ ّ
-اللهــم أنــت ثقتي في كل كــرب ،ورجائي في كل شــدة ،وأنت لي
ّ
فــي كل أمــر نــزل بــي ثقة وعــدة ..كم من هــم يضعف فيــه الفؤاد
ّ ّ
العدو وتقــل فيــه الحيلــة ،ويخــذل فيــه الصديق ،ويشــمت فيــه
َ ً
رغبة مني إليك ّ
فكشفته عمن ســواك، أنزلته بك وشــكوته إليك
ّ وفر َ
ّ
جته .فأنت ّ
ولي كل نعمة ومنتهى كل رغبة ..
ً
القبائل تزداد ضراوة ..والســيوف تبرق من بعيد ..تقطر حقدا ونذالة
ً ً ّ ّ
والحر يتقدم قليال قليال ..راح ينظر إلى الحســين الذي ركب ناقته .. ..
يريد أن يخطب بالقبائل المحيطة به ..أرهف ّ
الحر سمعه لهذا القادم
من أقصى الجزيرة يحمل معه كلمات محمد وعزم علي.
52
ّ
كنبي يعظ قومه: استوى الحسين على ناقته ،فبدا
ٍ
-أيهــا الناس اســمعوا قولــي وال تعجلــوا حتى أعظكم بمــا هو حق
لكــم علــي ،وحتى اعتذر إليكــم من مقدمي عليكــم .فإن قبلتم
وصدقتــم قولي وأعطيتموني َ ّ
النصف من أنفســكم كنتم عــذري
بذلــك أســعد ،ولــم يكــن لكــم ّ
علــي ســبيل .و إن لم تقبلــوا مني
َ َ
جمعوا أمركم وشــركاءكم العذر ولم تعطوا النصف من أنفســكم فأ ِ
ثــم ال يكــن أمركم عليكم ُغ ّمة ثــم اقضوا َّ
إلي وال ُتنظــرون ّإن ّ
وليي
ّ
اهّلل الذي ّنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
اختلطت الكلمات مع بكاء مرير انبعث من قلب الخيام ..
توقــف الحســين عــن إلقــاء الخطــاب ..أمر أخــاه «أبا الفضــل» وابنه
ً
«عليا األ كبر »:
ّ
بكاؤهن .. -سكتاهن ،فلعمري ليكثر
ً
عاد الصمت ثقيال ..ســكوت عجيب يهمين على كل شيء ما خال
ريح خفيفة كانت تحمل كلمات الحسين:
-أيهــا النــاس إن اهّلل تعالــى خلــق الدنيــا فجعلهــا دار فنــاء وزوال
حاال بعد حــال .فالمغرور من ًّ ّ
غرته والشــقي من متصرفــة بأهلهــا
فتنتــه فــا ّ
تغرنكــم هــذه الدنيــا فإنهــا تقطع رجــاء من ركــن إليها
53
ّ
وتخيــب طمع مــن طمع فيهــا .وأراكم قد اجتمعتــم على أمر قد
أســخطتم اهّلل فيــه عليكم ،وأعــرض بوجهه الكريــم عنكم .فنعم
ـرب ّربنــا وبئس العبيــد أنتــم ،أقررتــم بالطاعة وآمنتم بالرســول
الـ ّ
ّ
محمــد ،ثــم إنكم زحفتم إلــى ّ
ذر يتــه وعترته تريــدون قتلهم .لقد
ًّ
فتبا لكم اســتحوذ عليكم الشــيطان فأنســاكم ذكر اهّلل العظيم ..
ولمــا تر يــدون .إنــا هّلل و إنــا إليــه راجعــون ..هــؤالء قــوم كفــروا بعــد
ً
إيمانهم ،فبعدا للقوم الظالمين ..
ً الحر ّ
الكلمــات تختــرق اآلذان ..تتغلغل في القلوب .شــعر ّ
بأن زلزاال
يضرب دنياه .راح يصغي إلى ّ
دوي االنقاض وهي تتراكم في أعماقه:
هل أنا في كابوس؟ ..ماذا أرى؟ ..ماذا اسمع؟ ّرباه ماذا افعل؟!
را كــب الناقــة مــا يــزال يرســل كلمــات يبعثهــا مــع الريــح ..علــى
أجنحة الفكر ..
-أيهــا النــاس انســبوني من أنــا ،ثــم ارجعوا إلــى انفســكم وعاتبوها
ّ
وانظــروا هــل يحل لكم قتلي ..ألســت أنا ابن بنــت نبيكم؟ وابن
ّ
وصيــه وابن عمــه؟ وأول المؤمنين بــاهّلل والمصدق لرســوله؟ ..أو
ليس حمزة ســيد الشــهداء عم أبــي؟! أو ليس جعفــر الطيار في
الجنــة ّ
عمــي؟ ..أو لــم يبلغكم قول رســول اهّلل لــي وألخي هذان
ّ ســيدا شــباب أهل ّ
الجنة؟ فإن صدقتموني بما أقول ،وهو الحق
54
واهّلل مــا تعمــدت الكــذب منذ علمــت أن اهّلل يمقــت عليه أهله
ويضر به من اختلقه ،و إن كذبتموني ّ
فإن فيكم من اذا ســألتموه ّ
عــن ذلــك أخبركــم .ســلوا «جابــر بــن عبــد اهّلل االنصــاري» و «أبــا
ســعيد الخدري» و «ســهل بن ســعد الســاعدي» و «زيد بن أرقم»
و «أنس بن مالك» يخبرونكم أنهم ســمعوا هذه المقالة من رسول
اهلل لي وألخي .أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟
صرخ صوت شيطاني يريد أن يبتلع كلمات األنبياء ..صرخ األبرص:
-إنا ال ندري ما تقول؟!
ً
هتف حبيب ،وكان رجال على أعتاب السبعين:
-أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول ،قد طبع اهلل على قلبك.
البركان الثائر يستأنف إرسال حممه:
-فإن كنتم في شــك من هذا القول ،أتشكون إني ابن بنت نبيكم،
فــواهلل مــا بيــن المشــرق والمغــرب ابن بنــت نبي غيــري فيكم وال
فــي غيركــم ،ويحكــم! أتطلبونــي بقتيل لكــم قتلته! أو مــال لكم
استهلكته أو بقصاص جراحة؟!
وقفــت القبائــل عاجــزة ّ ..إن فــي طينــة البشــر قابليــة االنحطــاط ..
االنحطاط حتى المســخ ..قابلية تشــبه الجاذبية في األجسام ..الكوفة
55
مثقلة باإلثم والغدر ..قلبها مع الحسين وسيفها يمزق قلبه.
ونادى الحسين بصوت جهوري:
-یا «شبث بن ربعي» و یا «حجار بن أبجر » و یا «قیس بن األشعث»
و یــا «زید بن الحــارث» ألم تكتبوا ّ
إلي أن أقــدم قد أينعت الثمار
ّ
وأخضر الجناب و إنما تقدم على جند لك مجندة؟
تعالت أصوات مذعورة ..أصوات فئران خائفة:
-لم نفعل ..لم نفعل.
-ســبحان اهلل! بلــى واهلل لقــد فعلتــم ..أيهــا النــاس إذا كرهتمونــي
فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من األرض.
صرخ قيس بن األشعث ،وقد التمعت عيناه بالغدر :
-أو ال تنــزل علــى حكــم بنــي عمك؟ فإنهــم لن يــروك إال ما تحب،
ولن يصل إليك منهم مكروه.
أنت أخو أخيك .أتريد أن يطلبك بنو هاشــم بأ كثر من دم مســلم بن
عقيل؟ ال واهلل ال أعطيهم بيدي إعطاء الذليل وال أفر فرار العبيد ..عباد
اهلل إنــي عــذت بربي وربكم أن ترجمون .أعوذ بربي وربكم من كل متكبر
ال يؤمن بيوم الحساب.
56
11
أشــرقت الشــمس ..حمــراء ..حمــراء بركــة مــن دمــاء التمعــت ذرئ
النخيــل ،وتوهجــت ذرات الرمــال ،واصطبغــت وجــوه القبائــل بلــون
الجريمة ..واستيقظ الشيطان يعربد ويدمر ..
صرخ شيطان من القبائل:
-یا حسین ..أبشر بالنار .
كذبت بل أقدم على رب غفور كریم ..فمن أنت؟
-أنا ابن حوزة.
رفع السبط يديه إلى السماء:
-اللهم حزه إلى النار .
ال أحــد يعــرف كيف حدث األمر .ما الــذي أغضب الفرس؟ ما الذي
دفعهــا ألن تركض كالمجنونة ..تدور وتدور ..وفي فورة غضب تمكنت
57
الفرس أن تقذف من على ظهرها الفارس ..في قلب الخندق المشتعل
..لحظات مرت تحول فيها ابن حوزة إلى رماد ..تحولت أحالم السلب
والنهب وشهوة القتل إلى هشيم تذروه الريح ..
لو كان هناك رجل من الحواريين لقال هذا ابن اهلل.
ولقال له الحسين:
-انا ابن نبي اهلل.
هتف السبط:
-اللهم إنا أهل بیت نبيك وذريته وقرابته ،فاقصم من ظلمنا وغصبنا
حقنا إنك سميع قريب ..
ً
ما أقرب الســماء لإلنســان إن ســما ..وتذكر الحســين رجال سأل أباه:
كــم هــي المســافة بيــن الســماء واألرض؟ فأجاب «بــاب مدينــة العلم»:
دعوة مستجابة.
ً
وقــف ابــن ســعد منتشــيا بأحالمــه ..ماهي إال ســاعة ،ثــم ينتهي كل
شــيء ..ســوف يحكــم قبضته علــى الري وجرجــان ..لم تبــق إال خطوة
واحــدة ..أن يعبــر جثــة الحســين ..بركــة صغيرة مــن الدم ..ثــم ينطلق
صــوب الشــرق ..إلى عالــم يزخر بالجــواري والحريم ..إلــى جنيا تموج
بالثروة والسلطة ونشوة الحكم ..
58
تقدم الحر ..أيقظه من الحلم:
-أمقاتل انت هذا الرجل؟!
ً
-إي واهلل قتاال أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح االيدي.
مأمن في هذه األرض؟
-دعوه ينصرف إلى ٍ
-لو كان األمر بيدي لقبلت ..إنها أوامر ابن زیاد.
أدرك الحــر أن الســاعة آتية ال ريب فيها ،ولســوف تذهــل كل مرضعة
عمــا أرضعــت ،وتــرى النــاس ســكارى و مــا هــم بســكارى ..وبــدأ الحر
يخطو صوب القافلة ..قال «ابن أوس» وقد ذهبت به الظنون:
-أتريد أن تحمل؟!
..-
ضــرب الزلــزال األعمــاق مــرة أخــرى ،وشــعر الحــر باألنقــاض تتراكــم
بعضها فوق بعض ..
ً
هتف ابن أوس متعجبا:
-لــو قيــل لي من أشــجع أهل الكوفــة لما عدوتك؟ فمــا هذا الذي
أراه منك؟
التفت الحر وصوب نحوه نظرة تحمل كل معاني اال كتشاف:
59
-انــي ّ
أخيــر نفســي بيــن الجنــة والنــار ..واهلل ال أختار علــى الجنة
ً ُ
شيئا ولو أحرقت ..
ً
تمتم ابن سعد مذهوال:
-مــاذا أرى؟ ..مــاذا يفعل هــذا المجنون؟ ..كيف يختار اإلنســان
ً
الموت! انظروا إليه ..كيف يبدو خاشعا أمام الحسين ..
-انصتوا أنه الحر .
قهقه أحدهم:
-إنه يريد موعظتنا هو اآلخر ..
هتف شبث بن ربعي:
-أيها األحمق ،دعنا نسمع ما يقول.
ً ً ً
وجــاء صوت الحر جهوريا مدويا منطلقا من أعماق نفس اكتشــفت
ينابيع الخلود:
-يا أهل الكوفة ّ
ألمكم الهبل والعبر ،إذ دعوتموا هذا العبد الصالح
وأحطتم به من كل جانب ومنعتموه التوجه إلى بالد اهلل العريضة
حتــى يأمن هو وأهل بيته ،وأصبح كاألســير في أيديكم ال يملك
ً ً
لنفســه نفعا وال ضرا وحألتموه ونســاءه وصبيته وصحبه عن ماء
60
الفرات الجاري الذي يشــرب اليهود منه والنصارى والمجوس،
وتمــرغ فيــه خنازیر الســواد وكالبــه! وها هم قد صرعهــم العطش،
ً
بئسما خلفتم محمدا في ذريته ..
ً
وانطلقــت نحوه الســهام المطر ..وتقهقــر الحر متفاديا نبــال القبائل
الغادرة.
61
12
نســور مجنونــة تحــوم فــي الســماء ،وريــح عاصــف تهــب مــن ناحية
الصحراء ،وبدت أشجار النخيل كرماح مركوزة في خاصرة الفرات.
ً
بــدا الجــو مشــحونا بالخطــر ،ومثلمــا تندلــع الصواعــق بيــن أ كــوام
السحب ،تدفقت سهام مجنونة تحمل في انصالها الموت.
هتف الحسين بأنصاره:
-قومــوا رحمكــم اهلل إلــى الموت الذي البــد منه ،فإن هذه الســهام
رسل القوم إليكم.
هب رجال كانوا ينتظرون على أحر من الجمر .
ً
كيــف أصبــح الموت أمنية لهــم؟ كيف أضحى في نظرهــم خلودا ..
كيف تحولت الصحراء الملتهبة إلى جنات تجري من تحتها األنهار .
غــاص الرجــال في أحــراش كثيفة مــن رماح وســيوف .كانــوا يقاتلون
62
بضــراوة ال نظيــر لها ،كما لــو كانوا يريــدون توجيه مســار التاريخ االتجاه
الذي ينشدون.
ً ً
امتــأ الجــو غبــارا ودخانــا ،وكانت الســيوف تهــوي كبروق مشــتعلة.
ً
وعندما غادر الغبار أرض المعركة ،كان هناك خمسون صريعا يعالجون
جراحاتهم في الرمضاء ..الجراح تســقي األرض ..والدماء تروي شــجرة
الحر يــة ..شــجرة أصلهــا ثابــت فــي أعمــاق التــراب ،وفرعهــا فــي عمق
السماء.
ً
تمتم الحسين متألما:
ً
-اشــتد غضــب اهلل علــى اليهــود إذ جعلوا لــه ولدا ،واشــتد غضبه
علــى النصــارى إذ جعلــوه ثالــث ثالثــة ،واشــتد غضبــه علــى
المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ،واشتد غضبه على قوم
اتفقــت كلمتهــم على قتل ابــن بنت نبيهم ..أمــا واهلل ال أجيبهم
إلى شيء مما يريدون حتى ألقى اهلل وأنا مخضب بدمي.
هجم األبرص على المخيم ،وقد اشــتعلت في عينيه شــهوة النهب،
وهاج شیطان يعربد في أعماقه:
َّ -
علي بالنار ألحرقه على اهله ..
القلــوب الصغيرة الخائفة فرت مذعورة من الخيمة كطيور هاربة من
63
سفن بعيدة غرقت.
صاح الحسين:
-يــا بن ذي الجوشــن أنــت تدعو بالنار لتحرق بيتــي على أهلي ..
أحرقك اهلل بالنار ؟!!
واستنكر شبث بن ربعي الحضيض الذي وصل إليه رفيقه:
ً ً ً
-أمرعبا للنســاء صرت؟! ما رأيت مقاال أســوأ من مقالك ،وال موقفا
أقبح من موقفك.
ّ
وتمتم وهو يعض على يده:
-قاتلنــا مــع علي بن أبــي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي ســفيان
خمــس ســنين ،ثم عدونا على ولده وهو خيــر أهل األرض نقاتله
مع آل معاوية وابن سمية الزانية! ..ضالل ..يا لك من ضالل!!
توسطت الشمس كبد السماء ،والقبائل تتخطف القافلة ..
التفت «ابو ثمامة الصائدي» إلى الحسين .قال بخشوع:
-نفســي لك الفداء .إني أرى هؤالء قد اقتربوا منك .ال واهلل ال تقتل
حتــى أقتــل دونك .وأحب أن ألقــى اهلل وقد صليت هذه الصالة
التي دنا وقتها.
64
رفع الحسين رأسه إلى السماء وألقي نظرة على الشمس:
-ذكــرت الصــاة ..جعلك اهلل مــن المصلين الذاكریــن ،نعم هذا
أول وقتها ..
وأردف وهو يجفف حبات عرق تلتمع فوق جبينه:
ّ
-سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي.
ً
هتف ابن نمير وكان فظا غليظ القلب:
-إنها ال تقبل!
ً
أجاب حبیب بن مظاهر غاضبا:
-زعمت أنها ال تقبل من آل الرسول وتقبل منك يا حمار !
عربد الشــيطان في أعماق «ابن نمير » ،فأقحم الفرس نحو «حبیب»
وحبيــب واقــف كالجبــل لــم يكتــرث بالجمــوع وهــي تنحــدر نحــوه.
وتخطفته ســيوف القبائل ..وانســابت دمــاؤه قانية فوق رمــال الصحراء
تروي لها أروع قصص الوفاء والتضحية والفداء.
ً
واسترجع الحسين كثيرا:
-عند اهلل احتسب نفسي وحماة أصحابي.
القبائل تموج كأنها ريح صفراء تحمل في طياتها الموت؛ والحسين
65
وســط اإلعصار يصلــي بأصحابه الصالة األخيرة ..الســماء تفتح أبوابها
للقافلــة القادمــة ،والفضــاء يزخــر بأجنحــة المالئكــة ..ونســائم طيبــة
تحمل رائحة الربيع ..ربيع جنات الفردوس.
التفت الحسين إلى إصحابه وهو يشير إلى مسار القافلة:
-يــا كرام هذه الجنة قد فتحــت أبوابها ،واتصلت أنهارها ،وأينعت
ثمارهــا ،وهــذا رســول اهلل ،والشــهداء الذيــن قتلــوا في ســبيل اهلل
يتوقعــون قدومكم ويتباشــرون بكــم ،فحاموا عن ديــن اهلل ،ودين
نبيه وذبوا عن حرم الرسول ..
القافلة التي اكتشفت ينابيع الخلد تهب للخطى االخيرة:
-نفوسنا لنفسك الفداء ،ودماؤنا لدمك الوقاء .فواهلل ال يصل إليك
و إلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب.
السماء تفتح أبوابها ،والرجال يعرجون .تقدم «أبو ثمامة» إلى المعراج،
ً ّ
وما أسرع أن حلق إلى السماوات مخلفا وراءه بركة من دماء قانية.
ومن بعده انطلق «زهير » .وضع يده فوق منكب الحسين ،وانشد:
ّ ً
مهديا أقدم هديت هاديا
فاليوم ألقى جدك ّ
النبيا
66
ً ً
وحسنا والمرتضى عليا
ّ
الكميا وذا الجناحين الفتى
وأسد اهلل الشهيد ّ
الحيا
-وأنا ألقاهما على اثرك.
ومــا أســرع أن التحــق برفاقــه .القافلــة تطــوي الســماوات ..تتخطــى
الكواكب واألفالك في عروج ملكوتي فريد.
ً
وقف الحسين عند مصرعه ،وقال متأثرا:
-ال يبعدنــك اهلل يــا زهيــر ولعــن قاتليــك لعــن الذين مســخوا قردة
وخنازير .
واســتعد «نافــع الجملــي» للرحيــل ،فغــاص فــي أعمــاق القبائــل
ً
وانهمرت عليه الحجارة من كل صوب ،فتهشــم عضداه ،وســيق أسيرا.
كانت الدماء تنزف منه ،وقد صبغته بحمرتها المشتعلة .قال ابن سعد
بلهجة ينم منها اإلعجاب ببسالته:
-ما حملك على ما صنعت بنفسك؟؟
-إن ربي يعلم ما أردت.
-أما ترى ما بك؟!
67
-واهلل لقــد قتلــت منكــم اثنــي عشــر ســوى مــن جرحت ،ومــا ألوم
نفسي على الجهد ..ولو بقيت لي عضد ما أسرتموني.
جرد األبرص سيفه وقد برقت عيناه حقد ..فقال نافع بطمأنينة:
-واهلل يــا شــمر لو كنت مــن المســلمين لعظم عليــك أن تلقى اهلل
بدمائنــا ..فالحمد هلل الذي جعل منایانا على أيدي شــرار خلقه
..
هــوى الســيف بقســوة ،وتدحــرج الــرأس فوق الرمــال ،وعينــاه تنظران
باتجــاه عوالــم ال نهائيــة ،وقــد ارتســمت ابتســامة هادئــة فــوق شــفتين
ذابلتين من الظمأ.
ونادى رجل من القبائل:
-یا بریر ،كيف ترى صنع اهلل بك؟
أجاب بریر وهو ينظر إلى ما وراء غبار الزمان:
ً
-صنع بي خير وصنع بك شرا.
ً
-كذبــت وقبــل اليوم ماكنــت كذابا .أتذكر يوم كنت أماشــيك في
ً
«بني لوذان» وأنت تقول :كان معاوية ضاال وأن إمام الهدى علي
بن أبي طالب:
68
-بلي اشهد أن هذا رأيي.
-وأنا اشهد أنك من الضالين.
-تعال نبتهل إلى اهلل فيلعن الكاذب منا ويقتله.
توجهــت أیــد مــع قلــوب إلــى الســماء تســتمد النصــر ،وارتفعــت أيد
ّ
جذاء .فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من اآلخر .وبدأت المنازلة ..هوى
مدمرة ..فهوى الرجل الذي حاقت به اللعنةبریر بســيف يشبه صاعقة ّ
إلى األرض كأنما ّ
خر من شاهق ..
69
13
الشــمس مــا تــزال مســتمرة فــي زرقــة الســماء تصــب لهيــب يشــوي
الوجــوه ..وعجلة الموت تــدور مجنونة في الرمــال الملتهبة ..تتخطف
ً
رجاال لم تلههم تجارة وال بيع عن ذكر اهلل ..
تقــدم «جــون» .دفعتــه األيــام مــن أصقــاع بعيــدة ،وكان فتــى ألبي ذر
الغفاري ..
قال الحسين:
ً
-یا جون أما تبعتنا طلبا للعافية ،فأنت في إذن مني.
أجاب جون بضراعة:
-أنــا فــي الرخــاء ألحس قصاعكم ،وفي الشــدة أخذلكــم .ال واهلل ال
أفارقكم حتى يختلط هذا الدم األسود مع دمائكم.
واندفــع جــون يقاتــل القبائــل .واألرض تهتــز تحــت قدميــه بشــدة ..
70
كطبول إفريقية.
وأطبقت السيوف عليه كأنياب وحش أسطوري.
تمتم الحسين ،وهو يتأمل جراحه النازفة:
-اللهم احشره مع محمد ّ
وعرف بينه وبين آل محمد.
ً ً
وتقــدم مــن بعــده أنــس بــن الحــارث الكاهلــي ،وكان شــيخا كبيــرا
ً ً ً
صحابيــا ،رأى النبي وســمع حديثه ،وشــهد معه بــدرا ،وحنينا ،ومعارك
دامية أخرى.
ً
الشــيخ الــذي حنت ظهــره األيــام ..ووقفت عاجــزا أمام إرادتــه ..نزع
عمامته ،وشد ظهره المقوس بها ،ورفع حاجبيه بالعصابة.
ً
كان الحسين يراقبه ،وعيناه تنهمران دموعا ..ثم أجهش بالبكاء ..
-شكر اهلل لك يا شيخ!
ً
تقدم الصحابي بخطى واهنة ،وعزم كالحديد أو أشد بأسا ..وتداعت
أمامه صور مشــرقة من جهاده مع النبي يوم كان يقاتل المشــركين كافة.
وهــا هــو اليــوم يقاتــل أبناءهــم وأحفادهــم ّ ..
ودوت فــي أذنيــه كلمــات
الرسول في المعارك :يا منصور أمت ..
ً ً
ووجــدت القبائــل فيه ثأرا قديمــا من ثارات بدر وحنیــن ..فتكالبت
71
عليــه مــن كل حــدب وصــوب .وعندمــا هــوى الصحابــي الكبيــر إلــى
األرض ،والمس وجهه الرمال ،شعر بأنه يقبل وجه النبي.
الصحراء تئن من وقع ســنابك الخيل ،والرمال تشــرب الدماء وتنشد
ً
المزيد ،والقبائل تنتشي بثارات قديمة ..قديمة جدا.
الفــرات يجــري ..تتدافــع أمواجــه؛ فبدا غيــر مكترث لما يــدور على
ً
شواطئه ..بل لعله كان يسرع ممعنا في الفرار ..ال يريد أن يشهد األهوال
..أو ربما كان يريد أن يروي للبحر قصة الصحراء والظمأ والحسين.
ً
لم يبق مع الحسين من أصحابه أحد ..ودعوه وذهبوا بعيدا ..
لم يبق مع الحســين ســوى أهل بيتــه ..فتقدم علي األ كبــر ..إعصار
يختــزن غضــب األنبياء ..األب يودع ابنه بنظرات حزينة كغيوم ممطرة.
كانت دموع الحسين تنهمر .وبصوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم
المطر ،هتف:
-قطع اهلل رحمك يا بن سعد كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي
ّ
من رســول اهلل ..وســلط عليك من يذبحك على فراشك ..علي
األ كبر يخترق غابة السيوف والرماح ..
والحسين يرفع وجه ..يحدق في السماء:
-اللهم اشهد على هؤالء القوم ،فقد برز إليهم اشبه الناس برسولك
72
ً ً ُ ً
محمد خلقا وخلقا ومنطقا ،وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا
إليه ،اللهم فامنعهم بركات األرض.
العلــوي يختــرق أحــراش الرمــاح ..وبيــن الفينــة واألخرى يلــوح بريق
ســيف غاضــب كوميــض الصواعــق بيــن ســحب مشــحونة ..مخزونــة
بالرعود.
هـ ّـز «مــرة بــن منقذ» رمحــه ،وقد عصفت في نفســه الحميــة ..حمية
الجاهلية:
َّ -
علي آثام العرب إن لم أثكل أباه؟
ً ً
واختــرق رمح وحشــي طيفا نبويا ..فاعتنق فرســه ..فانطلقت وســط
أحــراش الســيوف وغابــات الرمــاح ..وتخطفتــه القبائــل المتوحشــة ..
وانبثقت كلمات «األ كبر » كنافورة حب أزلية:
-عليــك منــي الســام أبا عبــد اهلل ،هذا جدي قد ســقاني بكأســه
ً
شربة ال أظمأ بعدها ،وهو يقول إن لك كأسا مذخورة.
ً ً ً
وعندما وصل األب المفجوع ،كان االبن قد رحل بعيدا ..بعيدا جدا
..وفي عينيه تلوح قوافل مسافرة.
ّ
الجــراح النبوية تنزف ..مأل الحســين كفه مــن ينابيع الحياة ،ثم رمی
بهــا إلى الســماء ..الرذاذ األحمر يصعد إلى الفضــاء الالنهائي ..يتحول
73
ً
إلى نجوم تنبض أمال ،فتهتدي في وميضها قوافل قادمة من رحم األيام.
-علــى الدنيــا بعدك العفا ..ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك
حرمة الرسول.
الراية ما تزال تخفق بعنف ..تعلن الثورة ..الرفض ..اإلباء ..
ً ً
الدماء تنزف ..تروي الرمال ..تنفخ فيها روحا ،وتبثها أسرارا ال يدركها
أحد من العالمين.
-هل رأيتم القمر يمشي على األرض!
ً
تمتــم التار يــخ متعجبا ،وهو يرى القاســم بن الحســن ..فتى لم يبلغ
الحلم بعد ..يمشي الهوينى ..عليه قميص و إزار ،وفي رجليه نعالن ..
ً ً
في يمينه ســيف ..يطوح به يمينا وشــماال ..يقاتــل الذين غدروا ..إنهم
ّ
ال إيمان لهم ..انقطع شســع نعله اليســرى ،فانحنى يشــده ..غير عابئ
بالقبائل تدور حوله كدوامة ما لها من قرار .
ّ
شد عليه رجل يلهث ،فاستنكر آخر :
-ما تريد من هذا الغالم؟! يكفيك هؤالء الذين احتوشوه.
ّ
-ألشدن عليه.
وارتطم سيف جبار ،فانشق القمر :
74
-يا عماه!
ً وهب الحســين عاصفة ّ
ّ
مدمرة ..إعصارا فيه نار ..وما أســرع أن هوى
العم على قاتل ابن اخيه بســيف مشــحون غضبا ..وصرخ القاتل لهول
الضربة ..وأرادت الخيل أن تدفع عنه الموت ،فداسته بحوافرها ..
وضاع بين سنابك الخيل ..وضاعت معه كل أطماعه وأوهامه.
وقف الحسين عند الفتى الشهيد:
ُ ً
ـدا لقــوم قتلــوك ،خصمهــم يــوم القيامة جــدكّ .
عــز واهلل على -بعـ
عمك أن تدعوه فال يجيبك ،أو يجيبك ثم ال ينفعك.
ً
الموت يتخطف القافلة ..والمســافرون يعرجون إلى السماء ..أرواحا
شفافة خلعت أهابها األرضي ورحلت إلى عالم مغمور بالنور .
لم يبق مع الحســين ســوى حامل الراية؛ رجل يدعى أبو الفضل؛ أبوه
أبو الحسن ،وأمه امرأة ولدتها الفحولة من العرب.
الراية تخفق في شماله ،وفي يمينه بتار يقصف األعمار .
ّ
ثمــة عيــون تتطلــع مــن وراء خيــام ..تنظر إلــى الراية ..تخفق كشــراع
سفينة تعصف بها الريح من كل مكان.
القلــوب التــي صدعها الظمأ تنشــد المــاء ،والفــرات دونــه غابات من
75
ّ ً
الرماح ،وأبو الفضل يكاد يتفجر غضبا كلما سمع أنة بنت أو صراخ صبي:
-العطش ..العطش ..
وال شيء سوى السراب ،سراب يحسبه الظمآن ماء.
ً
تقدم صاحب الراية من أخيه الذي بقي وحيدا ..الحسين ينظر إلى
آخر القرابين السماوية:
-يا أخي أنت صاحب لوائي.
قال أبو الفضل وهو يكاد يتميز من الغيظ:
-قد ضاق صدري من هؤالء المنافقين ،وأريد أن آخذ ثأري.
-إذا كان والبد ،فاطلب لهؤالء األطفال ماء.
انطلق أبو الفضل إلى القبائل ..إلى قلوب قاسية أقسى من الحجارة
..و إن من الحجارة لما ّ
يتفجر منها األنهار .
-یــا عمر بن ســعد! هذا الحســين ابن بنــت رســول اهلل ..قد قتلتم
أصحابه وأهل بيته ،وهؤالء عياله وأوالده عطاشــى فاســقوهم من
الماء .قد أحرق الظمأ قلوبهم .وهو مع ذلك يقول :دعوني اذهب
إلى الروم أو الهند و أخلي لكم الحجاز والعراق.
ّ
صاح األبرص بصوت يشبه رنة الشيطان.
76
-يــا بن أبي تــراب! لو كان وجه األرض كله مــاء ،وهو تحت أيدينا،
لما سقيناكم منه قطرة .إال أن تدخلوا في بيعة يزيد.
األطفــال يصيحــون ..القلوب الظامئــة تئن ..الشــفاه الذابلة تهتف:
العطش ..العطش .والفرات يجري ..تتدافع أمواجه ..كبطون الحيات.
اعتلى صاحب اللواء صهوة الجواد ..
حمــل القربــة ،وفــي أذنيــه كلمــات قالهــا أبــوه علــى شــاطئ الفــرات
بصفينّ :رووا السيوف من الدماء ،ترووا من الماء.
انطلق أبو الفضل باتجاه الفرات وســط وابل من سهام ونبال ..رجال
القبائل يفرون بين يديه مذعورين ..كأنما يفرون من الموت الزؤام ..
مبال باأللوف التي أحدقت به ..يتوغل في
الفارس يشــق طريقه غير ٍ
أعماق النخيل المحدق بالشاطئ كأهداب حورية ..أبو الفضل يقحم
فرســه النهــر ،فيتطاير رذاذ الماء .اهتزت ســعفات نخلــة لكأنما طربت
لشجاعة وبأس ستذكرهما األيام.
الميــاه المتدافعة تجري تحت األقــدام ،والفارس الظامئ يغترف من
ً ً
المــاء غرفــة ..فيتذكر قلبا يكاد يتفطر عطشــا؛ تمتم وهــو يطوح بقبضة
ً
الماء بعيدا.
يا نفس من بعد الحسين هوني
77
وبعده ال كنت أو تكوني
مأل القربة ماء ،ثم قفز فوق جواده ،وانطلق نحو مضارب الخيام ..
القبائل تقطع علیه طريق العودة ،وقد غاظها منظر القربة تموج بمياه
الفرات.
الفارس يسطر المالحم وينشد:
ال أرهب الموت إذا الموت زقا
حتى أوارى في المصاليت لقى
نفسي لسبط المصطفي الطهر وقا
إني أنا العباس اغدو بالسقا
وال أخاف الشر يوم الملتقى
رجل من القبائل يتقن الغدر يختبئ وراء نخلة ..في يده سيف ورثه
عن «ابن ملجم».
الســيف الغــادر يهوي -علــى حين غفلة -فيطيح باليمين لتســتقر
عند جذع نخلة سمراء:
واهلل إن قطعتم يميني
ً
إني أحامي أبدا عن ديني
78
وعن إمام صادق اليقين
نجل النبي الطاهر اليمين
أبو الفضل يشق طريقه .اصبح هدفه إيصال الماء إلى قلوب تتصدع
ً
عطشا وتحلم بمواسم المطر .
ســيف غــادر آخــر يهوي مــن وراء نخلة ،فيطيح بالشــمال .ســقطت
الرايــة ومن قبلها ســيف علــوي ..وأبو الفضل يشــق طريقه فــي وابل من
الســهام والنبــال .وعندمــا اختــرق القربــة ســهم وانثالــت الميــاه ،فقــد
الفــارس المقطــوع الیدیــن حماســه في العــودة إلى المخيــم ،ودارت به
القبائل كدوامة مجنونة ،وهوى رجل -وما هو برجل -بعمود على رأسه
ففلق هامته .وانطلق صوت يبشر بالسالم القادم.
-عليك مني السالم أبا عبد اهلل.
وانطلقــت من بين مضــارب الخيام صيحات تنذر بهبوب العاصفة
..صاحت زينب ومعها نسوة وبنات:
-واضيعتنا بعدك.
تتمتم الحسين وهو ينشج:
-واضيعتنا بعدك!
79
14
أزفــت ســاعة الرحيــل ..أجــال آخــر األســباط عينيــه المتألقتين في
الرمــال الممتــدة حتــى األفــق .نســاء وأطفــال خرجــوا مــن بيــن الخيام.
العيــون الحزينــة تحــدق بآخــر الرجــال ..بآخــر خيــوط األمــل .هتــف
الحسين بأعلى صوته ..يخاطب التاريخ واالنسان.
ذاب عن حرم رسول اهلل؟ هل من ّ
موحد يخاف اهلل فينا؟ -هل من ّ
80
المقهورة ،وراح ينعق بصوت ينذر باقتراب الكارثة.
وقف الحسين للوداع ..وداع األرض ..الشمس تغمر الرمال باللهب،
والفــرات يجــري ..يمعــن فــي الفــرار ..والقبائــل مجنونة بثــارات قديمة
..والر يــح تــدور ..تعــدو بعيدة ..مســكونة بالرحيــل ..مبهورة بالســفر ..
والحسين يرتدي حلة العروج ..على رأسه عمامة موردة ،ملتحف ببردة
النبي ..متقلد سیفه.
القبائل ّ
تجن لمنظره ..تشتعل في أعماقها شهوة الثأر ..تبرق عيونها
لألسالب العظيمة.
ً
طلب الحسين ثيابا ال يرغب بها أحد ،ليضعها تحت حلته .فقدموا
ً ً
له سرواال قصيرا فأبعده بطرف سيفه.
-إنه من لباس الذلة.
ً ً
اختار ثوبا قديما ،فخرقه بسيفه ،ولبسه تحت ثيابه.
القبائل تتحفز لقتل آخر االسباط ..والسبط يودع األطفال والنساء.
ً
احتضن طفله الرضيع ،وراح يقبله متمتما بحسرة:
ً
ُ -بعدا لهؤالء القوم إذا كان جدك المصطفى خصمهم.
الشفتان الصغيرتان تبحثان عن قطرة ماء ..والفرات يموج بالمياه ..
81
يتلوى وسط الصحراء ّ
حية تسعى .تقدم الحسين يحمل طفله الظامئ:
-أال قطرة ماء؟
وينطلــق ســهم غــادر يحمــل فــي نصلــه الذبــح .الطفــل يخــرج يــده
الصغيرة من القماط .ماتزال يده ممدودة ..تستفهم التاريخ واإلنسانية.
ّ ّ
الدمــاء الشــفافة تغمــر صــدر الحســين ..األب يمأل كفه مــن النافورة
يطوح بها في الســماء ..رشــاش الدم يصعــد إلى الفضاء الحمــراء ..ثــم ّ
..يخترق الحجب البعيدة ..يخرق قوانين األرض ..همس الحسين:
-هــون ما نــزل بي أنه بعين اهلل ،اللهم أنت الشــاهد علــى قوم قتلوا
أشبه الناس برسولك محمد.
طيــف مالئكــي يخطــف أمامــه ..يحمل فــي جناحيه عبيــر جنات
الفردوس ..دعه یا حسين فإن له مرضعة في الجنة.
مثــل عاصفــة غاضبة ّ
هــب الحســين يمزق بســيفه القبائل .تســاءل
النخيل وهو يهز سعفاته بإجالل عن رجل وحيد يقاتل اآلالف.
أنا الحسين بن علي
آليت إال أنثني
صرخ ابن سعد وهو يرى أحالمه تتبدد:
82
-هــذا ابــن االنزع البطيــن .هذا ابن قتــال العرب .احملــوا عليه من
كل جانب .فأطبقت عليه القبائل ،وأتته آ الف الســهام ،وحالت
بينه وبين الخيام.
هتف آخر األسباط:
-يــا شــيعة آل أبي ســفيان!! إن لم يكن لكم ديــن وكنتم ال تخافون
ً
المعاد ،فكونوا أحرارا في دنياكم ،وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم
ً
عربا كما تزعمون.
صاح األبرص:
-ما تقول یا بن فاطمة؟
-انــا الــذي أقاتلكم والنســاء ليس عليهن جنــاح ،فامنعوا عتاتكم
ً عن ّ
التعرض لحرمي ما دمت حيا.
-لك ذلك.
وقصدتــه القبائــل ..الحســين الظامــئ يدفــع أمــواج الغــدر ..يقاتــل
..يقــاوم ..يحصــد رؤوس الذيــن كفروا .شــعر بعطش شــديد ..والفرات
محاصــر بأربعــة آ الف أو يزيــدون ..الفــرات تنثال مياهه على الشــطآن
دواب األرض ..وآخر األسباط ينشد غرفة واحدة. ترتاده ّ
ّ
الزوبعة تتجه نحو النهر ..تجتث في طريقها أشباه الرجال.
83
ُ ً
قــال ابــن يغــوث وكان مع القبائــل :ما رأیــت مكثورا قط قــد قتل ولده
ً ً ً
وأهــل بيتــه وصحبــه أربط جأشــا منه وال أمضــى جنانا وال أجــرأ مقدما ..
ّ
ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شد فيها ،ولم يثبت له أحد.
الحســين يقهــر القبائــل ..يحتــل الفــرات ..ويقحــم فرســه الميــاه
المتدفقة ..األمواج تتألأل في ضوء الشــمس ..شــعر الفرس ببرودة الماء
..حني رأسه ليشرب ..ليرتوي.
ً
قال قاهر الفرات مخاطبا الفرس ،وكان من جياد خيل النبي:
-انت عطشان وأنا عطشان فال أشرب حتى تشرب.
ّ
رفــع الجــواد رأســه ..رفض أن يشــرب قبل صاحبه ..مــد الفارس يده
ليغرف؛ ناداه رجل من القبائل:
ّ
-أتلتذ بالماء وقد هتكت حرمك ..
طــوح الســبط بقبضة الماء وانطلــق صوب الخيام ..اشــرقت الوجوه
الخائفة ..لقد عاد األمل.
التفــت حولــه صبيــة ونســاء ..تعلقــت بــه ..الشــمس تجنــح نحــو
الغروب ،والحسين يسافر مع الشمس ..ودع عياله ..كشف لهم صفحة
ً
من عالم الغد ،وقرأ عليهم سطورا من دفتر األيام:
-اســتعدوا للبــاء ،واعلمــوا أن اهلل تعالــى حامیكــم وحافظكــم
84
وســينجيكم مــن شــر األعــداء ويجعــل عاقبــة أمركــم إلــى خيــر
ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع ويعذب عدوكم بأنواع العذاب ّ
النعــم والكرامــة .فــا تشــكوا وال تقولــوا بألســنتكم مــا ينقــص من
قدركم.
افتقــد ابنتــه ســكينة ..لم تكــن مع المودعيــن ..وجدهــا وحيدة في
الخيمــة وقــد غلــب عليهــا االســتغراق .كانــت تفكــر فــي طريــق أبيهــا
العجيب.
صرخ رجل من القبائل وهو يحلم بعبور جثة الحسين:
ً
-اهجموا عليه ما دام مشغوال بنفسه وحرمه.
ً
تفشــت القبائل ســهاما مســمومة النبال تخترق الخيام ..وتشــك أزر
النســاء ّ ..فرت النســوة إلى داخل الخيام ..العيون تحدق بالحســين ..
ماذا سیفعل آخر األسباط؟
الفارس الذي قدم من الجزيرة على قدر ..يحدد ساعة الصفر ،ويبدأ
الهجوم ..التاريخ يركض مبهور األنفاس ..يتشــبث بركاب الحســين ..
والحســين يســبق التاريــخ ..يغوص في عوالــم بعيدة ..ويبقــى التاريخ
ً يقلب ّ
كفيه حائرا وسط الرمال.
القبائــل تفــر مذعــورة بين يديــه ،ووابل النبال يرشــقه مــن كل حدب
85
وصــوب ،والحســين يقهــر المــوت ..يحطــم جــدران الزمــن ..يتخطــى
القرون.
ّ
المجرح ..الجراح الروح العظيمة ..تريد االنطالق من أهاب الجسد
المتدفقــة كينابيــع ف ّــوراة ،تــروي الرمال المتوهجــة ..الفــرات يمعن في
ُّ
يضن بقطرة ماء. الفرار ..
-يــا حســين! أال تــرى الفرات كأنه بطــون الحيات؟ فال تشــرب منه
ً
حتى تموت عطشا.
ورمــاه أبــو الحتوف بســهم في جبهتــه ،فانتزعه .وتدفقــت الدماء من
جبهته ّ
الشماء.
همس الرجل الوحيد في قلب الســماء :اللهم إنك ترى ما أنا فيه من
ً ً
عبــادك هــؤالء العصاة ،اللهم احصهم عددا واقتلهــم بددا ،وال تذر على
ً ً
وجه األرض منهم أحدا ،وال تغفر لهم أبدا.
ثم هتف بأعلى صوته:
ً
-يا أمة الســوء بئســما خلفتم محمدا في عترته .أما إنكم ال تقتلون
ً
رجــا بعــدي فتهابون قتلــه .بل يهــون عليكم ذلك عنــد قتلكم
إيــاي .وأيــم اهلل انــي ألرجو أن يكرمني اهلل بالشــهادة ثــم ينتقم لي
منكم من حيث ال تشعرون.
86
عون ذئب من القبائل:
-وبماذا ينتقم لك منا یا ابن فاطمة؟
-يلقي بأســكم بینكم ويســفك دماءكم ثم يصب عليكم العذاب
ّ
صبا.
الجســد الواهــن تتســرب منــه الدمــاء ..دمــاء كثيرة صبغــت صعيد
األرض.
ً
توقــف الســبط ليســتريح قليــا ،فرمــاه رجــل مــن القبائــل المســعورة
بحجر ،فانبثقت الدماء من جبهته.
أراد الحســين أن يوقــف نــزف الدم بطــرف ثوبه ،فجاءه ســهم محدد
لــه ثالث شــعب .انغــرس الســهم المثلث في قلب الحســين ..الســهم
يتشــبث بالقلب الجبل ..إنها النهايــة ..نهاية األلم ..بداية الرحيل إلى
عوالم السالم.
تأوه الحسين:
-بسم اهلل وباهلل وعلى ملة رسول اهلل ..
ً
ثم رفع وجهه نحو السماء متضرعا.
ً
-الهــي انــك تعلم أنهــم يقتلــون رجال ليــس على وجــه األرض ابن
87
بنت نبي غيري!
الســهم يغوص في الجســد الواهن ..يخرج رؤوسه من القفا كاألفاعي
..وتنبعــث الدمــاء غزيــرة ..غزيرة ..صوت يشــبه نشــيج الميازيب في
مواسم المطر .
ً ً ّ
الحسين يمأل كفيه دما عبيطا ثم يطوح به نحو السماء ويهتف:
ّ -
هون ما نزل بي أنه بعين اهلل.
الدماء القانية الثائرة تســافر في عالم األفالك ..تصبغ النجوم ..تلون
اآلفاق.
ً مــرة أخــرى ،مــأ الحســين ّ
كفیــه دمــا ،ثــم خضــب بــه رأســه ولحيته
ً
استعدادا للرحيل:
-هكذا ألقى اهلل ..وجدي رسول اهلل.
وأعياه نزف الدم ،فهوى على األرض كنجم منطفئ.
ً
تقــدم «ابن النســر » إليــه وعيناه تبرقــان حقدا ،فضربه بالســيف على
ً
رأسه ..تمتم الحسين متألما:
-ال أ كلت بيمينك وال شربت ،وحشرك اهلل مع الظالمين.
ً
وأحاطت به القبائل كالبا مسعورة ..تنهش جسده.
88
همس الحسين:
ً
-هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربي حقا.
ضر بــه «زرعــة» على كتفه األيســر ،ورمــاه «ابن نمير » فــي حلقه وطعنه
«سنان» في ترقوته ،ثم في صدره ،ورماه بسهم في نحره.
الكالب تنهش جسده ..وكان أشدها األبقع ..
العينــان الواهنتــان فيهــا بقايا ألق ..يوشــك على الرحيل .الحســين
يرفع طرفه نحو السماء:
-اللهــم متعالي المكان ،عظیــم الجبروت ،شــديد المحال ،غني
عــن الخال ئــق ،عريــض الكبريــاء ،قــادر علــى مــا تشــاء ،قریــب
الرحمــة ،صــادق الوعد ،ســابغ النعمة ،حســن البــاء ،قريب اذا
ً ً
دعيت ،محیط بما خلقت ،أدعوك محتاجا وأرغب إليك فقيرا،
صبر على قضائك يا رب ال إله سواك.
الحســين ينوء بنفســه .الروح تتســرب مــن أفواه الجــراح ..تغوص في
ً ً الرمال ّ ..
تبثها أسرارا توقظ فيها مدنا ثائرة.
مــاذا يفعــل الفــرس؟ لم يــدور حوله؟ يلطــخ ناصيته بدمه ..يشــمه ..
يصهل بغضب ..ينادي :الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها.
صرخ ابن سعد بالقبائل:
89
-دونكم الفرس فإنه من جیاد خیل رسول اهلل .فدارت به الخيل ..
اخــذت عليــه الطرق .الفرس يقاتل ..يقــاوم ..يتحول إلى بركان.
وانبهر قائد القبائل:
-دعوه لننظر ما يصنع ..
ً
انطلق الفرس نحو مضارب القافلة ،وهو يصهل عاليا:
-الظليمة ..الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها ..
هبت نسوة وأطفال ..لقد وقعت الواقعة ،صرخت زینب:
-وامحمــداه ..واأبتــاه ..واعليــاه ..واجعفــراه ..واحمزتــاه ..هــذا
حســین بالعــراء ..صريــع بكربــاء ..ليــت الســماء أطبقت على
األرض ،وليت الجبال تدكدكت على السهل!
عندمــا وصلــت زینب ،كان الحســين يوشــك على الرحيــل ّ ..
يودع
الصحراء ،بعد أن رواها بالدماء.
القبائل مفتونة ..تدور حول آخر االسباط ..وقد زلزلت األرض زلزالها.
ماذا بوســع زینب أن تفعل .الحســين يجود بنفســه ..لقد تمزق جســده
..ومــا تــزال الــروح هي هي ..شــديدة البــأس .زینب تحاول إيقــاظ بقايا
االنسان في زعيم القبائل ..هتفت بلوعة:
-أي عمر ! أيقتل أبو عبد اهلل وأنت تنظر إليه!!
90
لقد مات اإلنسان في داخله ..
أهاب بالقبائل إلسدال الفصل األخير :
-أنزلوا اليه وأريحوه.
صرخت زینب:
-أما فیكم مسلم؟!
وال من جواب .لقد مات اإلنسان في عصر الذئاب والليل والعواء.
-أنزلوا إليه وأريحوه.
كان األبــرص ينتظــر اإلشــارة بلهفــة .التمعــت عينــاه بوحشــية ،وهــو
يرفــس جســد الحســين الممــزق ..جلس على صــدره .األبــرص ينهش
جســد الســبط ..يقبض على شــيبته ..يهوي بســيف غادر على رأسه.
ينفصل الرأس عن الجســد ..القبائل تموج مأخوذة بهول ما يجري فوق
الرمال ..
الجســد ســاكن بال حراك .الكالب تنهش ..تنهش الجســد الدامي.
ويرتفــع رأس ابــن النبــي فوق رمح طويــل ..يتطلع إلى آخــر الدنيا ،ويقرأ
سورة الكهف.
ً ً
انطفــأت الشــمس ..ومطرت الســماء دمــا عبيطا ،وبــدا األفق الغربي
91
شديد الحمرة كجراح نازفة.
وعصفــت القبائــل المســعورة بالخيام ..فأشــعلت فيها النــار ّ .
وفرت
النسوة واألطفال ..هاموا على وجهوهم في الرمال.
وانبــرت عشــرة خيــول مجنونــة ..خيــول اعتــادت الســلب والنهــب
والغارات ..تعودت ســحق ورود البنفســج وبقر بطون األطفال ..اهتزت
األرض تحت ســنابك الخيل وهي تمزق صدر الحســين ..وفاحت من
الجســد قبــات محمــد و الزهــراء؛ مألت الفضــاء وامتزجــت مع ذرات
رمال الصحراء والتاريخ.
النار المجنونة تلتهم الخيام ..وصراخ األطفال يمأل الدنيا ..والذئاب
تعــوي بقســوة ..والليــل شــديد الظلمــة ..الريــح تــذرو الرمــال ..تغطــي
األجســاد العار يــة بغبــرة خفيفــة ..والقبائــل تنهــب وتســلب ..والفرات
يمعن في الفرار .ورأس الحســين فوق رمح طويل ..ينظر إلى آخر الدنيا
..إلى قوافل قادمة من رحم األيام.
92
15
فــرت الشــمس ..توارت خلــف األفق المضمخ بحمرة قانية ،وأشــرق
ً
القمــر داميــا كعيــن تنتحــب ..القبائل ما تــزال تعصف بالخيــام تضرم
مــس من الجنون، فيهــا النــار ،والنار تمد ألســنتها كأفواه جائعة أصابها ٌ
فهي تلتهم كل شيء.
الذئاب تعوي ..تفتك بحمالن صغيرة خائفة ..
الشياطين تصارع المالئكة.
وصرخات تدوي:
ً ً ً
-ال تدعوا منهم أحدا صغيرا وكبيرا.
الذئــاب تقتحم خيمة فيها فتــى عليل ال يقوى على النهوض ..جرد
ً
األبرص سيفه ..ما زال متعطشا للدماء ..استنكر رجل من القبائل:
-أتقتل الصبيان؟! إنما هو صبي مريض.
93
-لقد أمر ابن زیاد بقتل أوالد الحسين.
وانبرت زینب بشجاعة ابيها:
-ال يقتل حتى أقتل دونه.
ونــادى منــاد باقتســام الغنائم ،فتنازعــت القبائل الــرؤوس ،زلفى إلى
ابن زیاد حاكم المدينة الغادرة.
ارتفعت رؤوس مقطوعة فوق رماح .قافلة من العمالقة يتتقدمها رأس
ســبط آخر األنبيــاء .يحمله األبرص .ســبعون رأس أو يزيــدون لم تنحن
لغيــر اهلل ..فارتفعــت فــوق ذرى الرمــاح ..وكان فــي مقدمتهــا رأس آخــر
االسباط.
وكان الفتى المريض يجود بنفسه ،فقالت عمته وهي تخترق جدران
الزمن:
-مــا لــي أراك تجود بنفســك یا بقية جدي وأبــي و إخوتي ،فواهلل إن
هــذا لعهــد من اهلل إلى جدك وأبيك ،ولقــد أخذ اهلل ميثاق أناس
ال تعرفهم فراعنة األرض ،وهم معروفون في أهل الســماوات ،إنهم
يجمعون هذه األعضاء المقطعة واألجســام المضرجة فيوارونها،
ً
وينصبــون بهــذا الطف علمــا لقبر أبيك ال يدرس أثــره وال يمحى
رســمه على كــرور الليالي واأليام .وليجتهدن أئمة الكفر وأشــياع
94
ًّ
علوا. الضالل في محوه وطمسه ،فال يزداد أثره إال
منظــر الدمــاء والجثــث المتناثــرة هنــا وهنــاك والســيوف المكســرة
والســهام المغروســة فــي الرمــال ..تحكي ملحمــة رهيبة ســطرها رجال
قهروا الموت ،وفجروا في قلبه نبع الحياة ،وأماطوا اللثام عن سر الخلود.
تقدمــت امــرأة تعدت الخمســين مــن العمر إلى جســد تعرفــه ،رعته
ً ً ً
صغيرا وراقبته كبيرا وشهدته ممزقا بحوافر خیل مجنونة.
جثــت زینــب عند مصرع آخر االســباط؛ الجســد الممزق ســاكن بال
حــراك .لقــد غادرت الــروح التــي دوخت القبائل .دســت زینــب يديها
تحــت جســد أخيها ..رفعت بصرها إلى الســماء ..إلــى اهلل ..وتمتمت
ً
بعينين تفيضان دمعا:
-تقبل منا هذا القربان ..یا إلهي.
وألقت «سكينة» بنفسها على جسد أبيها العظيم واعتنقته ،وغمرتها
حالة من االستغراق .كانت تصغي إلى صوت ينبعث من أعماق الرمال
..همهمة سماوية عجيبة تشبه صوت والدها الراحل:
-شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني.
أو سمعتم بغريب أو شهید فاندبوني.
لملمــت القبائــل خزيهــا ..عارهــا األبــدي تريد العــودة إلــى الكوفة ..
95
و «سكينة» ما تزال تتشبت بالجسد المضمخ بالدم.
هجــم األعــراب مــن القبائــل وجروهــا بعنف وراحــوا یكعونهــا برؤوس
الرماح حتى استوت على ناقتها.
عشــرون امــرأه ثكلى ،وفتى عليــل ،وأطفال يتامی مذعــورون؛ هو كل
مــا غنمتــه القبائــل في أطول يــوم في التاريــخ ..أما الــرؤوس فقد راحت
تتسابق فيها الخيل بشرى إلى األرقط حاكم المدينة المشهورة بالغدر .
ً
غــادرت القبائل شــواطئ الفرات ..تركته وحيــدا يتلوى في الصحراء
كأفعى حائرة.
وغــادر موكــب الســبايا والعيــون الحزينة تتلفــت إلى أجســاد متناثرة
فــوق الرمــال كنجوم منطفئــة ..إلى أن غابت عن البصر ؛ وســاد صمت
رهيــب ما خال أنيــن خافت ينبعث من أعمــاق األرض المصبوغة بلون
أرجواني.
96