Professional Documents
Culture Documents
1
2
عزالدين جالوجي
راس احملنه
0=1+1
رواية
دار املنتهى
للطباعة والنشر والتوزيع -الجزائر
0663186822
3
4
اإلهداء األول
إليكِ..
أيتها العني(..ع)
***********
ياسيدة الضياءْ
واألرض والسماء
ياسيدتي
ياشذا احلبَقْ ولون الكستناء
وروح الروح وسر املاء
داياتهم خسئوا
وانبجس الضياء
تيهي على عرش قليب
وازرعيه خصبا ومناء
واصَّاعدي ..اصَّاعدي
على درجات الفؤاد املوله
مقامك ياسيدتي
يف عش السماء
يف سدرة املنتهى
عزالدين
5
6
اإلهداء الثاني
إليكَ..
أيها العني(..ع)
**********
ت فوق جوادك..
مازل َ
مازال سيفك مل يُثلمْ..
مازال قلبك نابضا مل يُكلم..
وعُداتك لو يدرون حني قتلوك أنك ال تعدم..
وأنك تبزغ من حناجر الطيور..
ومن أكمام اجلراح وعيون الصغار وثغور الزهور
ربيعا وبلسمْ
لو يدرون ياسيد الرجال..
لكن القحط اليدري سر البذور..
اليدري أن مكمن الروح اجلذور..
اليعلمْ
غدا ياسيد الرجال
تبزغ يف أناملك سوسنات
ومن عينيك قوزح وميام وبدور
غدا تزرع بقلب عُداتك حبا ونورا ال يُظلم.
عزالدين
7
8
فاحتة
قالت صحرائي
ال تألف
كن الغريب دائما حتى عن نفسك
وقل لوجهك يف كل فجر
كأنين أراه للمرة األوىل
أدونيس
9
10
1
شرفة أولـى
11
الرعب يسكن قلوب البيوت الواطئة اجلامثة كالوباء ..يتغلغل يف
أوردة األزقة ..حيدق كاملفجوع عرب كل اجلدران..
وحدك يا اجلازيه..
أيتها الوشم الرابض على فوهة املدفع..
أيتها الدمعة احلريى على شفري الوطن..
ياربيع الشهداء..
ياجراحاتهم العبقة بأومسة الفداء..
وحدك يا اجلازيه..
وحدك تذرعني األزقة املرتبة الضيقة..
وحدك تصهلني يف مسمع الليل البهيم ..تدكني عروشه ..متزقني
سدوله ..تغتالني همومه..
وما تستطيعني أن تفعلي؟
جاوزتك األحداث ..الصنم املعبود غدا أكرب ..تنسل من كل فتحاته
شياطني ودراويش..
وهل تقدرين على مقاومة هؤالء املاليني الذين تفرقوا يف كل شرب
من املدينة؟
هاهم كاجلرذان ينخرون األسس ..ينخرون اجلدران ..يقتلعون اجلذور..
كل شيء ميوت يااجلازيه.
انطلقي اآلن كاملهرة اجلموحة املتمردة ..ذياب يف انتظارك ..إنه هناك
على صهوة الفرس األبيض ..هناك ينشر بني يديه فستانك األبيض
املضمخ باحلب والكربياء ..هناك ينتظرك ..سرتكبني خلفه وتنطلقني..
تنطلقان إىل..
12
إىل املنتهى..
املنتأى..
املرجتى..
ولكن ال مندوحة من قَتلهِ ..البد أن تقتلي هذا الصنم اللعني ..ال بد
من تدمريه ..إلنقاذ احلارة ..مَن لسكانها غريك..؟ من للشتالت اليانعات
من قر الصقيع..؟
ال ختايف يااجلازيه ..يا أمل اجلميع..
الديناغول ليس إال هيكال خاويا عمَّا قليل سيخر فتذروه الرياح..
غدا سينعتق املكبلون..
غدا ياجلازيه ستشرقني بلون القوزح على حارة احلفرة لتغدو ربوة
ذات قرار ومكني..
لتغدو جنتني ذات اليمني وذات الشمال..
امسحي دموعك الزاحفة على ربوة اخلد..
ستشرق الشمس فيهما ..ستينع عليهما زيتونتني الشرقيتني
والغربيتني يكاد زيتهما يضيء ولو مل متسسه نار ..نور على نور..
أشرقي أيتها املشكاة ..املشكاة يف زجاجة ..الزجاجة كأنها كوكب دري
يوقد من شجرة مباركة..
أال أيها الليل الطويل أال اجنل..
أال ارحل..
ها ذياب يعود ..منري يعود ..عبله احللوة تعود ..إبراهيم جحا ..عمي
اهلامشي ..أبي صاحل ..نانَّا علجيه ..أُمَّا عرجونه ..عبدالرحيم ..عمريوش..
الشيخ العيفه ..عمار الكريطة ..أمحد ملطروش ..أم منري ..العيد الضحوي..
كلهم عادوا……
13
2
اخلروج إىل التابوت
1
أي سحر ميلكه هذا الرتاب..
تعطيه كل شيء وحتس أنك مل تعطه شيئا..
هذا الرتاب يعطي بسخاء وال يأخذ أبدا..
مامعنى حبات العرق اليت نذرفها اآلن على خده..؟
ومامعنى قطرات الدم اليت بذرناها يوما يف جواحنه..؟
أمل تسقه اجلباه السمر واألوردة احلمر ذلك عرب القرون..؟ أكاد التحم
اآلن بصيحات الكبار من يوغرطه إىل األحفاد الذين قضوا منذ عقود قليلة..
مل أعد أحس بالتعب وأنا أمارس طقوس العمل يف هذه األرض ..أكره
الليل حني يلقي علينا برنسه األسود شفقة علي ..مجعت أدوات العمل..
كومتها ناحية ووقفت ممتد القامة..
مسحت كل ما حولي وانطلقت عائدا مملوء باهلواجس..
أكاد أتهجى على صفحات األرض كل كلمة خططناها هاهنا..
ملا خرجت إىل هذه الدنيا أمساني والدي صاحل ..على اسم جدي حتى
يبقى االسم حيا متداوال ..ولدت يف حضن هذه الرؤوم ..هذه القرية
الصغرية تنام حاملة بريئة كرضيع يف حضن جبل جبار ..كل شيء مجيل ورائع
ليس هناك مكان للنفاق واخلديعة وال للزيف واملكر ..كسرة الشعري وطاس
اللنب كانا طعامنا مجيعا ..عشرة ..عشرون ..ثالثون ليس بيننا جوعان ..نرقد
14
كلنا يف فراش واحد ..خمدة واحدة ..حائك واحد ..و ..وقلب واحد ..احلب
ينثر فوق رؤوسنا أكاليل الورد..
ملا ثار الشعب ضد احملتل كنا كلنا سباقني ..كل واحد يسبق اآلخر..
ويسبق حتى نفسه ألننا آمنا بصدق وبعمق أن أرضنا عطشانة ..وما يرويها
غري الدم ..دم غزير ..دم قاهر يروي األرض ..يشبعها ..يسقيها ..يكنس منها
الشوك واهلشيم وكل األوساخ..
كان عمري إذ ذاك سبعة عشر عاما ..أول معركة خضتها أمساني اإلخوة
صاحل الرصاصة ..جريت ثالثة كيلومرتات على نفس واحد كي أحذر
اجملاهدين اجملتمعني من قوات العدو اليت حضرت كي حتاصرهم ..ورغم
الرصاص الذي كان يتهاطل علي كالنوء إال أني وصلت قبل جنود العدو
وأنقذت اجملموعة..
ذاك اليوم أمساني اإلخوة صاحل الرصاصة ..ضحك والدي سامل العلواني
وهو حيتضنين:
-أنت تعيش طويال ..عندك سبع أرواح كالقط.
ومنذ ذلك اليوم كان جيب علي أن أحلق بالرفاق..
أن أحتضن البندقية والسرو..
أن أنقش على نباتات اجلبال مسفونية احلب وذكريات الدم.
مات أبي شهيدا ..جرح جراحا كبرية عميقة ومحلناه للمقر ..بقي هناك
عشرين يوما ورحل ..كان الطبيب املعاجل يبذل قصارى جهده لينقذه بكل
ما كنا منلك يف املركز من معدات طبية لكنه عجز..
حني أسلم الروح كانت فهيمة املمرضة تتصبب عرقا وتتصبب دموعا..
مل نستطع أن حنرك ساكنا..
15
كلنا مجيعا مجدنا يف أماكننا..
بعضنا كان يبكي..
آخرون جتمد كل شيء فيهم..
حتى البنادق تهاوت على األرض خرساء..
من الصعب أن تؤمن مبوت احلياة..
من الصعب أن تسلم للفناء باذر احلياة..
كل واحد من الرفاق كان يتجرع ذكرياته..
كل واحد منا راح يقلب صفحات املاضي يعانق إحدى لوحاتها..
وحدي كانت ترفرف بني عيين وصيته ..ادفين عن ميني أمك..
وتغرورق عيناه فرحا ..كنت على يقني أنه سعيد بهذه املوتة ال ألنه فاز
بالشهادة فحسب ..ولكن ألنه سيلتقي أمي اليت أحبها جبنون وماتت يف
ريعان شبابها تاركة يف قلبه جراحا عميقة مل تستطع السنون الطويلة أن
تردمها ..لقد عاش ومات ألجل اثنني :أمي واجلزائر ..مل تنسه أمي اليت
أحبها جبنون حب اجلزائر ..ومل تنسه اجلزائر اليت كان حيبها حد القداسة
أمي.
وكان وهو يشد على يدي حبرارة يوصيين أن أدفن عن يسارها كأمنا كان
حيلم أن نبعث دفء األسرة بعد املوت ..كأمنا كان يريد أن حنيط أمي من
اليمني والشمال
دفنته كما أوصى وبقيت أتذكر كل كلمة قاهلا بتقديس شديد ..باحرتام
كبري ..وخططت قربي جبنب والدتي وأحطت الكل باألزهار واألشجار
أسقيها كل يوم ..وأتفقدها كل يوم ..وحتولت البقعة إىل جنة ..تعبق
والدي وحبهما..
َّ بإخالص
16
فقد والدي أمي وهو شاب وليس عنده من األوالد غريي ..رباني
ورعاني ..وكان هو أمي وهو أبي ..وهو األسرة كلها ..ورفض أن يتزوج ..بقي
وحيدا يرعى قرب أمي ..حفه باألشجار واألزهار يتفقده ويسقيه كل يوم.
لطاملا وقفت بعيدا أرقب قربيهما حاملا أنهما خيرجان إىل احلياة كل
ليلة ..جيلسان متعانقني حتت ضياء القمر وهمس النجوم وأحالم النسيم..
وكم مرة كنت أقطع نومي وأخرج ألجدهما متلبسني بفضيلة احلب ..لكن
حماوالتي كانت تبوء بالفشل الذريع !!!!…
كنت قد وصلت البيت ..فطويت صفحات ذكرياتي ومعي وصلت
اجلازيه وعبدالرحيم وقد عادا من الدراسة باملدينة..
2
هو الصباح يتنفس..
أشعة الشمس تفتح عينيها يف تكاسل ..تتثاءب على الروابي ..منذ
حلظات غادر عبدالرحيم واجلازيه البيت باجتاه املدينة ..تركت أم األوالد
حتضر الطعام وخرجت أتفقد األرض اليت ازدهت فرحا ..وضحكت
باألعشاب والورود ..كان اجلبل يفتح ذراعيه كالعاشق الوهلان يضم قريتنا
فتنام يف حضنه يف وله شديد..
زارني ضيفان الربيع والسعيد أخويَّ يف الثورة ..ال أحد ميكنه أن
1
يتصور كم فرحت ..فتحت هلما قليب وفتحت الدار القبليـة.
جاءت بنت عمر أم األوالد مبثرد كسكس وطاس من الرايب أكال ..أنا
ما كنت آكل الطعام لكين كنت آكل الذكريات ..ذكريات الشباب
17
وذكريات الثورة ملا كنا ال شيء جيمعنا غري احلب ..حتى كنا نقتسم التمرة
الثالثة واألربعة ..ونقتسم الرصاصة والدمعة ..ونقتسم االبتسامة ..قال لي
الربيع وهو يرفع شاربيه الكثني إىل األعلى:
-ياصاحل يارصاصة ..مالك ال تريد أن تتبدل؟
قلت وأنا متعجب:
-أتبدل كيف؟ ماذا تقصد؟
قال السعيد وهو يضحك:
ي ..اليوم حنن يف عصر األسلحة
خ َّ
-فات وقت الرصاص ياصاحل يا ُ
النووية والكيماوية..
قلت حبرية ورمبا ببالهة:
-واهلل ما فهمت شيئا..
3
قال لي وهو يلف بأصابعه سيجارة البَ ْر ِزيلي 2ويتابع قهوة اجلزوة
تنصب من اإلبريق إىل الفنجان فتمأله زبدا:
-وهذا دليل على أنك ما تغريت ..البد ياصاحل أن تصري صاحل
الصاروخ ..صاحل الرأس النووي ..صاحل القنبلة الذرية..
أشرقت على وجهه ابتسامة ثم عاد سريعا إىل جديته وواصل:
-ياصاحل الناس كلهم تغريوا ..الناس كلهم تبدلوا ..الزمان الذي فات
ولَّى إىل غري رجعة ..واألفكار اليت كانت زمن الثورة زالت ..وأنت أنت..
حالتك تُفجع ..مل تتغري ومل تتبدل..
-2نوع من السجائر يصنع حمليا من أوراق الدخان والعرعر تسخن وتدق وتلف لفائف
رقيقة جدا.
-3هكذا تسميها العامة ..ولعلمهم يقصدون بذلك اجلذوة ألنها تنضج على اجلمر.
18
ماهذه اللغة اليت أمسع؟ أهي إحدى مقالبه اليت تعود أن ينصبها لنا أيام
الثورة فال يدع الواحد منا حتى يثري أعصابه ..وحتى يُضحك عليه
اآلخرين؟ ال أعتقد ذلك لقد تقدم بنا قطار العمر وما بقي لنا مزاح.
-فاتك القطار ..وبقيت أنت صاحل الرصاصة ..نفس الطول ..نفس
العرض ..نفس البيت ..نفس األفكار ..نفس اللباس ..نفس ..أفق
ياصاحل يامغبون..
وهذه أول مرة أمسع فيها كلمة صاحل املغبون بدل صاحل الرصاصة ..انغرز
اخلنجر عميقا يغتال فرحة القلب ..عاودت أسرتجع هدوئي وقلت له:
-أنا هكذا سعيد وهانئ يف قرييت مع زوجيت وأوالدي مابقي لي غري
أن أموت هانئا إن شاء اهلل وأدفن كما أوصى والدي ..والدي الذي
تعرفونه ..والدي الذي قدم روحه يف املعركة كي حيميكم ..والدي الذي
كان أبوكم كلكم ..ليس ممكنا أن أنسى وصيته الغالية " ..ياولدي ال ختن
أرضك وال ختن عهد الرجال ".
وكان حلمه األكرب أن أدفن قريبا منه وهذا من حقه ..لقد كان لي أما
وأبا ..ضحى بشبابه من أجلي ..أنا ما نسيته ولن أنساه ..أزور قربه وقرب
أمي كل صباح وعشية ..أسقي األزهار واألشجار اليت حوهلما وأقرأ على
روحيهما الفاحتة..
أنتما تعرفانه جيدا كان أبا لنا مجيعا ..صحيح كان أميا ال يعرف القراءة
وال الكتابة ..ولكنه علمنا كيف حنب هذه األرض ..وهذا الوطن ..وكيف
نضحي من أجلهما ..وكيف نقلع من أعماقنا األنانية ..وكان – يرمحه اهلل
– يفضِّلنا يف اللباس والطعام وحتى الرصاص ..وكان دائما أولنا يف األيام
الصعبة.
19
وأحسست أني تكلمت أكثر مما جيب فسكت فجأة ..نظرت إىل الربيع
كان يبكي دموعا دافئة حارة وجبواره كان السعيد ساكتا كاحلجر
كان علي أن أدفئ اجلو فأغري دفة احلديث ..فقلت وعلى حمياي ابتسامة
أجهد يف رسم معاملها:
-إذا قدر اهلل ومت فجأة فادفناني حيث أمتنى
مل يشأ السعيد أن يغري موجة احلديث فقال:
-ومن جيهل صفات وخصال وبطولة سامل العلواني ..سامل الوطين..
كلنا يعرف ماكنت تقوله ..ويعرف أكثر مما كنت تقول ..ذاك رجل أحبه اهلل
فأخذه..
وعلق الربيع على كالمه بقوله:
-صحيح ..يرحم اهلل كل الشهداء..
وأحسست أني انتصرت يف هذا النقاش فقلت:
-إذن كيف تريدانين أن أخون؟ كيف تريدان لي أن أخالف وصية
الوالد؟ ال هذا مستحيل ..مستحيل.
ضحك السعيد وقال:
-صدقين ياصاحل ما دمت هنا ترى القبور يف الصباح والعشية ستعيش
على التاريخ فقط ..على املاضي ..وعلى املوتى ..و ..ستبقى دائما رصاصة..
ولكن رصاصة باردة ميتة ..من قال لك ستخون؟ القضية ليست قضية
ي ..أبوك حنمله مجيعا يف قلوبنا.
قبور ياصاحل ياخُ َّ
وأحببت أن أقاطعه لكنه واصل يقول:
-الناس اآلن ياصاحل تعيش على املستقبل ..الناس طلقوا املاضي..
هكذا ياخُيَّ صاحل ستضيع وتضيع عائلتك وأوالدك ..البد أن ترحل إىل
20
املدينة ..من حقك ياصاحل أن تعيش سعيدا.
وعلق الربيع موافقا:
-نعم من حقك أن تعيش ..هناك ياصاحل يف املدينة املاء والكهرباء
والغاز واجلامعات واملشايف والطرق املعبدة ..من حق األوالد أن يدرسوا..
من حقهم أن يتحضروا ويعرفوا العامل ..أنت ياصاحل أديت واجبك وقت
الثورة ..ماذا يريد منك الناس اآلن ..وهم لن يقدروا على تقديم حتى جزء
مما أديت أنت..؟ أنت قدمت هلذا الوطن يف يوم من األيام ..يف وقت
شبابك دمك وروحك ..وكل شيء يف هذي احلياة أحقر وأتفه من الشباب
والدم والروح.
وأحسست بالقشعريرة تهز فرائصي أكاد أقتنع..
كل شيء ينهار دفعة واحدة..
تطل علي اخليانة مربقعة..
تبتسم..
راحت صور والدي ممددا مضمخا بدمه تربق بني عيين ..جذبت نفسا
عميقا من سجارتي ..نفثت الدخان فكاد حيجب الرؤية بيين وبينهم..
وقلت وأنا أدفن رأسي بني أصابع ميناي:
-اتركاني أرجوكما ..إذا كنتما حتبانين فاتركاني حلالي ..أنا خوَّاف..
أخاف املدينة ..املدينة عاهرة فاجرة ستفسدني ..تبدلين ..تغريني ..تبلعين..
املدينة ياناس قذرة وسخة ستوسخين ..خذوا كل شيء ..كل شيء ..املال..
اجلاه ..السلطان ..الفيالت ودعوني حلالي ..دعوني حلالي.
وخرجت فارا إىل عرجونه بنت عمر ..هذه املرأة اليت اختارها لي
والدي وكان يقول عنها دائما :ياصاحل بنت عمر نسخة من أمك ولذلك
21
اخرتتها لك ..إياك أن ختونها ..حني حتتار استشرها..
دخلت عليها كالعاصي املثقل يدخل إىل مزار ولي صاحل ..قعدت قريبا
ت
منها دون أن أنطق ..كنت أسرتق النظر إليها ألرى رد فعلها ..بصر ْ
حبالي تغريت مالحمها ..ذئبة جترأ العدو على االقرتاب من عرينها
حني تضيق بي الدنيا وأحتاج إىل رأيها أدخل عليها يف صمت..
وأجلس قربها يف صمت..
هي وحدها تشم اهلم..
تقرأه على تضاريس الوجه..
حتتها أقعد أرنو إىل عليائها تتدىل عراجني..
دون أن أنتبه نطقتْ ..تضعضعت أركان البدن املتهاوي ..غدوت جمرما
اُكتشف فجأة متلبسا قالت:
-ما الذي بدل حالك؟
ابتلعت ريقي ..وضعت مييين على جبهيت ..طرحت عليها القضية دون
تفصيل ..ورحت أسرتق إليها النظر ..أنتظر ما الذي تنطق به ..كمجرم
ينتظر النطق باحلكم.
فهمتِ األمر فقالت:
-وإذا رحلت إىل املدينة تبقى صاحل الرصاصة..؟ كلمتك هي رأس
مالك ..حياتك هي شرفك..؟
ابتلعت ريقي وقلت:
-ال مستحيل أنا خائف ..إذا رحت إىل املدينة ياعرجونه ياأم أوالدي
أخشى أن أصري صاحل اخليط..
ضربت صدرها بيديها وقالت:
22
-سبحان اهلل! من صاحل الرصاصة إىل صاحل اخليط؟ تبدل اخليط
بالرصاصة؟ الرصاصة احلارة اليت خترج فال تعود ..واليت تنطلق فال متيل..
مل أستطع مقابلتها ..أحسست أنها خري مين ..أقوى مين ..ختيلتها فرسا
مجوحا حبستها احلجرة الضيقة..
خرجت عجال دون أن أعلق بكلمة ..رجعت إليهما جلست إليهما
طويال دون أن أتكلم ..احرتما يف البداية سكوتي وحينما طال قال السعيد:
-مب أشارت بنت اعْ َم ْر؟
وضحك وهو يواصل:
-محدة خري من أمحد!
وسكتَ.
هما يعرفان أنين أستشريها يف كل شيء ..ويعرفان قيمتها ..كانا معا
يقلبان يفَّ بصريهما وفيهما إحلاح بقبول الفكرة ..ورغم كوني كنت أخاف
املدينة ..كنت أدرك أنهما ماأرادا لي إال اخلري ..أشفقا علي وعلى حالي
وفقري ..وأردت أن أقول ال للمدينة ..فقلت نعم ..قلتها خافتة باهتة بلون
القفر وطعم الفقر ..قلتها وأنا أعرف أن عرجونه لن ترفض قرارا اختذته.
3
كان اجلو ربيعا..
وكانت السنابل متارس طقوس الرقص على إيقاع نسمات الصباح
اخلفيفة ..وأعشاب الطريق تزحم أقدامنا فتدغدغ أسفل سيقاننا ..أنا
وصوحيباتي كنا حنث اخلطا حنو الطريق العام حيث ننتقل إىل الثانوية
باملدينة ..على غري عادتي كان يلفين الصمت ..عصافري األخريات برحت
أوكارها وراحت تغرد..
23
خلفنا كان يسعى ذياب صمتا مطبقا يكاد يلحق بنا..
حاولت أن أتأخر لنكون قريبني..
رفرف القلب يشرق خلفي..
مد أنياطه فسمرني أرضا..
حلق بي ذياب فتغشاني حمفل الفرح..
سار إىل جنيب سحابا مركوما..
جاريته خطوات ثم هببت عليه بابتساماتي فتقشعت سحبه..
معا أشرقنا على هذا الكون ..وعلى حميا أرضه درجنا ندغدغ تضاريسها
بأقدامنا الصغرية ..ومعا سعينا خلف اخلرفان الوديعة ..ومعا وردنا احلاسي
واجلابية حنمل فوق البهائم براميل املاء ..وكان لنا حقل للنمل نرعاه ونقيم
حوله حصنا منيعا بأحالمنا ..وكانت النمالت الصغريات قطيعا من
األنعام ..دخلنا كتاب القرية معا وكنت أقدر منه على احلفظ ..كان ال
يشتغل بشيء أكثر من اشتغاله بي ال حيب ألحد من األتراب أن يالمسين
أو يقرتب مين وحنن جنلس على حصري احللفاء ..حتى الشيخ كان يغار منه
حني يدعوني ألحفظ عليه فيختلق األعذار ليشغله عما أزمع ..ويغضب
الشيخ فينهال على قدميه الصغريتني بالضرب املربح..
وحيل الربيع فنزوِّق ألواحنا بكل لون بهيج ..ونسعى نطوَّف ببيوت
الناس نطلب اهلدايا ..ويفرح الناس فيغدقون علينا من كل الطيبات..
ونعود مساء إىل البيت حمملني بالنقود والبيض وبغري ذلك..
ومعا دخلنا املدرسة النظامية بالقرية ..كانت أمه خاليت دلوله تأتينا كل
يوم ويف يديها شيء مما حضرت ..وحني تلومها والدتي عن كرمها املفرط
تضحك خاليت دلوله وتقول:
24
-هذا نصيب زوجة ابين ..اجلازيه لذياب
وكان أبوه يسعى يف إمتام مراسيم الزواج قبل دخولنا إىل الثانوية ..لكن
والدي كانت له نظرة أخرى ..كان يقول:
-العصر للعلم ..واملستقبل هلذا اجليل باملعرفة ..واهلل لن أمنعها عن
طلب العلم إال إذا فشلت يف ذلك..
وكنت أنا وذياب نُكرب رأي والدي ونقره..
تزوجت أخيت هجريه يف العام املاضي يف قرية جماورة ..وسعى يف هذا
الزواج والد ذياب وأمته رغم حترج والدي ..اللشيء إال ألن الزوج من
أقارب أحد أعداء الثورة التحريرية..
تغري مزاج ذياب بعد دخولنا الثانوية ..أصبحت أراه عصبيا أكثر من
الالزم ..وأصبحت أراه قد بدأ مييل إىل املعارضة السياسية ..وكنت
دائما أقول له:
-ياذياب هذا حبر ال حنسن السباحة فيه ..يكفينا حبر احلب..
كنت على يقني أن هذا الطريق سيخطفه مين ..لقد كان ميارس نوعا
من الثورة غري املتزنة ..خاصة ضد التاريخ ..يشك يف كل ما يراه اآلخرون
حقيقة ..مما دفع به إىل التصادم الدائم مع أستاذ التاريخ الذي كنا نلقبه
ببسمارك.
كان يقول لي دائما ياجلازيه أنا وأنت خري من األمري عبدالقادر
واملقراني ..أبطالنا األسطوريون خري من أبطالنا احلقيقيني ..الشعب هو
الذي صنعهم ..وهو الذي مازال يعطيهم القداسة ..الرمسيون مل يعطهم
القداسة إال الرمسيون ألغراض أخرى أوهلا ختدير الشعوب ..أال تعرفني أن
األمري حني استسلم لفرنسا قد خان القضية وخان الذين محلوا معه
25
السالح واستشهدوا..
ثم يتربكن فيصيح يف وجهي
-هل جيوز لألبطال أن يستسلموا..؟ لإلبطال طريقان ال ثالث هلما..
االنتصار أو املوت ..األبطال ليسوا ملكا ألنفسهم ..هم ملك للشعب..
ثم أال تعرفني أن....................................... ..؟
كان ذياب حيب التاريخ جبنون ويقرأه بنهم ولكنه مل يكن يقدسه..
كان يقول التاريخ كذبة كبرية يصوغها حناتو الساسة كل مرة على
مقاساتهم ..ولست ساذجا فأصدق مايقولون ..أحب أن أقرأ التاريخ كما أود ال
كما يودون ..خاليت عرجونه أصدق منهم حني حتكي عن ذياب اهلاللي واجلازيه..
أرأيت يُولِ ُمون حني يبدأون احلكاية ويوملون بعد أربعني ليلة حني يكملون
احلكاية ..هل هناك ماهو أعظم من تقديس هذه األسطورة؟
وأخطط لتغيري دفة احلديث ..وأنا أخشى عليه سطوة والدي إن مسع منه
هذا الكالم فأسأله:
-ماالذي جاء بذياب إىل هذه األرض؟
وجييب ضاحكا:
-ألنه كان حيب اجلازيه
-وماعالقة اجلازيه بهذه األرض؟
-اجلازيه هي هذه األرض.
ويضحك فتضحك السنابل..
وتتعانق عيوننا وأصابعنا وقد وصلنا إىل احملطة..
يف املساء وحنن عائدان حدثين عن زيارة السعيد والربيع إىل بيتنا..
وذكر لي قلقه من قرار والدي بالرحيل إىل املدينة ..مل أكن أوافقه الرأي..
26
سواء رحلوا أم مل يرحلوا فنحن راحالن إىل املدينة معا ملواصلة الدراسة
اجلامعية هناك ..وسنلتقي طويال ..طويال..
4
بعد أيام دخلت املدينة ..وجدا لي مسكنا وسطها ..كان زمن االستعمار
ألحد املعمرين الفرنسيني ..فيه كل الضروريات ..املاء ..الكهرباء ..التدفئة..
أمامه حديقة حتضن أشجار زينة ..أرضيته مبلطة بالبالط األمحر ..قال
السعيد وحنن نعرب الفناء:
-هل رأيت ياصاحل أين كان يسكن أولئك الكالب؟ كالدود كانوا هنا..
مل أعلق ..كنت أجيل الطرف يف كل أركانه ..يف كل شرب فيه ..وكانت
فرائصي ترجتف ..كأن جدرانه مألى بالعيون املفرتسة ..دخلنا ..تنقلنا بني
حجراته الواسعة أشبه بغرف الكنيسة املقفرة ..غبار يدثر الطالء فيلبسه
قناعا حزينا ..رفع الربيع بصره إىل السماء وقال ضحكا:
-مربوك عليك ..أوالد الكلب بنوها وشيدوها وورثناها من بعدهم..
اهلل يرحم الشهداء الكرام..
وأمعن نظره يفَّ ينتظر ردي ..لكين مل أفعل إال متطيط شفيت متجنبا
نظراته اليت تهم أن حتلب مين تعليقا ..هل املسكن هيكل جامد بارد..؟
املسكن روح ..حياة ..ولن يكون كذلك إال إذا صممته بانتمائك
وخصوصياتك ..لن يكون كذلك حتى تنفخ فيه من روحك فيستوي كائنا
دافئا..
أنقذني السعيد مواصال فكرة الربيع
-انظر ياصاحل ياخُيَّ كل شيء موجود ..املاء ..الكهرباء ..التدفئة..
املرحاض ..البالط ..الطالء ..كل شيء ياصاحل املغبون ..خلصك اهلل من
27
التعب والشقاء ..البهائم والرباميل ..وسقف احللفاء والديس ..ومصباح
املازوت ..هنا كل شيء عصري...
مل أفرح ..نعم مل أفرح ..أحسسته قربا ..جمرد قرب بارد الغري ..قرب ال تنتظر
فيه إال الدود واحلشرات املتوحشة ..أين احلوش الواسع؟ أين الشجر؟ أين
الغنم؟ أين الدار القِبلية ..دار الضيوف؟ وأين الفسحة؟ أين أخرج يف
الليل أجتول ..وأتأمل السماء الصافية ..والنجوم تلمع ..تداعب بعضها
بعضا ..وأنا وحدي أسرتجع ذكرياتي احللوة واملرة ..أو أمتشى مع أم
األوالد ..أداعبها وتداعبين ونسرتجع ذكرياتنا؟
أين جند هذا كله هنا؟
هذا مستحيل ..لقد ضيعت كل شيء ..كان صدري كله يتمزق ..كأرض
عصفت بها الزالزل أو افرتستها العواصف..
بعد أيام أصبحت عامال باملشفى بفضل الربيع والسعيد ..ملا شكرتهما
على اجملهود الذي بذاله غضبا وقاال هذا واجب إنه إخالص اإلخوان
لبعضهم البعض.
وأقنعت نفسي باألمر الواقع ال بأس ياصاحل ..عامل باملشفى ..حارس
يف املشفى ..وهو رمز صحة هذا الشعب ..وصحة هذا الشعب هي صحة
هذا الوطن الغالي ..وهذا معناه أنين ما خنت وما بدلت ..أنا دائما على
نفس الدرب الذي سار عليه املخلصون واألوفياء والشهداء..
خدمت مخسة أشهر أجيء يف الصباح قبل الوقت بنصف ساعة..
أساعد يف التنظيف وسقي األشجار ..ورمبا زيارة املرضى ..وأزيد العشية
نصف ساعة أخرى أقوم بنفس املهمة..
وصدمت ..بعد ما كنت أنتظر الشكر واالعرتاف واحرتام اجلميع
28
تلقيت عكس ذلك متاما ..وبدأت التقارير والوشايات تصل إىل املدير
واملسؤولني وتهبط على رؤوسهم كالغبار ..قالوا يتدخل يف عمل غريه..
ومن تدخل فيما ال يعنيه وقع فيما ال يرضيه.
استدعاني املدير ..دخلت ..قعدت ..زجمر يف وجهي..
-من مسح لك بالقعود؟ قف..
هزتين الدهشة ..ماهذه العداوة ضدي..؟ انتبهت إىل نفسي ..مازال
يصرخ يف وجهي ..بربودة قلت له:
-ملاذا وضعوا هذا الكرسي إذن؟ أليس من أجل أن يقعد عليه
الداخلون عليك يا حضرة املدير؟
قال وهو ينفخ جسده كالقط
-بعدما نأمرهم بالطبع..
ضحكت وقلت ..وقد اشتد غضيب:
-سبحان اهلل! ما كنت أعرف بأنك أمري ..ملك ..ورثت
املشفى عن والديك وحنن هنا عبيد بني يديك ..مع ذلك أنا أعرف
قيميت ..وأعرف متى أقعد ومتى أقف ..لست أنت الذي تعلمين درسا يف
األخالق واألدب..
وتذكرت يف هذه اللحظة أبي ووصيته الغالية ..وتذكرت الرفاق الذين
كنا نقتسم معهم التمرة والرصاصة والدمعة والفرحة ..ما كنا نعرف هذه
الشكليات وهذه املظاهر اخلداعة والزائفة ..شيء واحد كنا نعرفه ..احلب..
واكتشفت أن السيد املدير أراد أن يقول لي ال تتدخل يف شؤون
غريك ..احضر عند الثامنة بالضبط وانصرف عند اخلامسة ..بعد اخلامسة ال
أحب أن أرى خلقتك ..فهمتَ؟؟ لست وطنيا أكثر من الناس ..لست
29
جزائريا أكثر من الناس ..حنن أيضا وطنيون وجزائريون..
سكت فجأة من رغائه الذي بعثره يف الغرفة بعربية مشوهة بفرنسية
أمقتها ..هذه هي املشكلة حني يتحول املسؤول إىل زعيم فتلك طامة..
ضحكت وقلت:
-سبحان اهلل! وأنت من يراقبك جتي ء بعد العاشرة وتغادر قبل
احلادية عشرة..
حدق يف غاضبا وقال:
-سبحان اهلل! حارس يراقب سيده ..يراقب مسؤوله ..امسع ياصاحل
أنت مهمتك هنا حارس ولست يف املستوى كي تعلمين درسا يف الوطنية..
أنا وطينٌّ من عائلة شهداء وجماهدين ..أنت إنسان مشوش فوضوي
وخمرب ..ويف ذلك خيانة ملبادئ الشهداء والثورة..
ومديرنا هذا وطين حقا ملا عينوه كان كسلك احلديد ..كأنه مستورد من
أثيوبيا ..البذلة الرمادية وحدها متشي..
اليوم صار بضخامة ثور يكاد يسقط للخلف ..سرواله القديم اليسع
إصبعه..
مديرنا إنسان وطين ضرب الرقم القياسي يف احرتام وقت عمله..
يدخل ملكتبه بعد العاشرة يتصفح اجلرائد اليت تشرتى على حساب
املشفى ..يوقع الوثائق ..يطلع على املراسالت ..يرشف قهوة ..حيتضن
السكرترية القنبلة اليت اختارها بنفسه بعدما طرد السكرترية اليت كانت
قبلها ..يتفق معها على موعد السهرة وخيرج.
يف الباب يلتف حوله العمال املخلصون كالكالب املدربة ..يرقصون
بال إيقاع ..ميألون له السيارة خبريات املشفى ..حلوم ..حبوب ..خضر..
30
مشروبات ..عند احلادية عشرة خيرج وال يعود حتى الغد ..أما املرضى
املساكني فال يعطى هلم إال العدس باملاء..
مل أستطع أن أسكت ..ما سكتنا على الذين كانوا يصوبون يف صدورنا
الرصاص واملدافع فكيف نسكت اليوم على هؤالء الفئران؟ كيف
نرتكهم يدمرون البالد وميتصون دمها؟ ملَ جاهدنا إذن أوَ كنا نلعب..؟
أتذهب تضحيات املاليني من الرجال يف مهب الريح؟
إذا نطقت ماذا سأخسر؟ يطردونين من العمل ..منصيب يضعونه قالدة
يف رقابهم..
الحظ يف عيين الغضب ..نبت يف عينيه اخلوف ..تركته وخرجت ..يف
نفسي يتصارع رأيان يلتهبان كألسنة اللهب تأكل بعضها بعضا..
دخولي املدينة كشف لي زيف الواقع..
دخولي املدينة زيف لي احلقيقة.
وحدها كانت أمَّا علجيه ابنة جبال جرجرة تقف شاخمة أمامي يف
كربياء ..ما الذي عصف بها الساعة إىل ذاكرتي ..مل أرها منذ زمن طويل..
استشهد زوجها رابح البسكري وكتب هلا أن ترى مشس احلرية تسطع على
هذا الوطن ..مل يكن هلا أوالد لكنها فضلت أن تربي ذلك الصيب الذي
أجنبته والدته يف ببيتنا ذات شتاء واستشهدت بعد شهر من ذلك..
5
منذ سنة كان الفراق الصعب ..رحل ذياب إىل العاصمة ليواصل
دراسته مبعهد الصحافة والتحقت أنا مبركز التكوين شبه الطيب ألخترج
منه ممرضة وهاأنذا أعني مبشفى األطفال ..يف ذاتي أمواج للجزر واملد
تكاد تهد حصوني الرملية ..لقد طرد عبدالرحيم من الدراسة ..وتفرغ
31
ملمارسة هواية التسكع ..ووجد وا لدي نفسه وجها لوجه مع حياة مل
حيسب هلا حسابا حني غادر القرية ..وتأثرت والدتي بكل ذلك فصارت
تعاني قلقا رهيبا ..من الصعوبة أن يسل الواحد منا روحه من برج
ش ْهدَهُ بذكرياته..
هندسَ َ
أنهيت عملي كان يوما مرهقا ليس من السهل أن تكون بلسما
للقلوب املكلومة والنفوس اجلرحية ..عدت إىل البيت مل أكن أرغب إال يف
االنزواء مع ذاتي ..لي معها حديث طويل وسفر شاق مضن..
حني ضمين السرير إىل دفئه وقف ذياب قباليت ويف عينيه عتاب ولوم
وأمواج للحزن األليم ..وضعت رأسي على كفي فانسدل الشعر األسود
حيجب عين الرؤية ويتيح لي جوا رائقا ملمارسة طقوس التصوف ..أين هو
ن لي أن أكتب إليه رسالة ..ال بد أن أخط
اآلن..؟ وماعساه يفعل..؟ وعَ َّ
إليه كل اجلراحات اليت بدأت تطفو على قليب الصغري ..وماذا يعين القلب
احملب إذا مل يكن مفتوحا آلمالك وآالمك..؟ وما الفرق بينه وبني كيس
بالستيكي إذا مل يكن نابضا باملشاعر اإلنسانية احلية؟
دُ ق باب حجرتي وفتح فظهرت والدتي ..مل أكن يف حاجة إىل أن
أراها ألعرفها ..دقات أناملها على الباب تشبهها متاما ..حنيفة رقيقة
وحنونة مثلها ..كانت صفراء ممتقعة اللون تدهورت صحتها كثريا مذ
رحلت إىل املدينة ..عيناها اخلضراوان تدوران يف حمجريهما كأنهما حبتا
زيتون ..بدا وجهها غائر اخلدين ..ضفريتاها احلمراوان تتدليان على
صدرها عن ميني ومشال..
جلستْ على حافة السرير ..جتولت يفَّ بعينيها ..أحسست أنها حتمل يف
أعماقها أسرارا كثرية تود البوح بها ..اقرتبت منها ..احتضنتْ يدي يف
32
عش صدرها ..سرى الدفء إىل القلب ..التصقت بها وطوقتها بذراعي..
سألتها:
-مابال احلبيبة..؟
مل حترك شفتيها..
ضغطتُها أُدخِ ُلها صدري وقلت:
-ليس املهم أن خنسر كل شيء مادمنا نربح احلب
وسكتنا ..لنفسح الطريق للغات أخرى..
صباح الغد أرسلت الرسالة اليت كتبتها إىل ذياب وعلى عجل انتقلت إىل
املشفى ..عند الباب وجدت رجال يف انتظاري ..لبست مئزري وعدت إليه..
كان يف العقد الرابع من العمر أو أكثر بقليل ..ممتلئ اجلسم أشقر اللون
أخضر العينني مييل إىل الطول ..عليه ثياب أنيقة لكن كالمه ينم عن أميته.
ظل حيدثين طويال دون أن حيدد مبتغاه ..وحني رأى تضايقي أنهى
املقابلة على أمل العودة ..وهو يودعين متنى أن أمحل حتياته القلبية إىل أبي.
أدركت من نظراته وطريقة إرسال ألفاظه أنه كان ينوي مصارحيت حببه
لي أو على األقل رغبته يف الزواج مين ..وملاذا أحجم؟ أكان خجال؟ رمبا
ورمبا خشي أن أصدمه بالرفض ..أو لعله كان يعرف ارتباطي بذياب..
لست أدري على وجه التحديد.
حينما عدت إىل البيت وأخربت والدي باألمر ..نظر يف والدتي وقد
ازداد نهمه لسيجارة الربزيلي اليت كانت بني أصابعه ومتتم بني شفتيه
ح َّم ْد امْ َل َّم ْد..؟
-حتى أنت يا امْ َ
مل أشأ أن أطرح عليه أسئلة أخرى ..وال أن أعرف منه املزيد عن هذا
الرجل ..كانت مشاكل والدي قد تضخمت مع مدير املشفى ..ومل أكن
33
مستعدة أن أضيف إىل همومه هموما أخرى..
اغتال القلق النوم من عيين ففزعت إىل رواية ذاكرة اجلسد أتدفأ بها
من قر احلياة ..وحده األدب اجلميل قادر على معاجلة اضطراباتنا النفسية..
ما أقل رواياتنا اجلميلة ..ما أكثر روايات املراحيض عندنا اليت ال تقيم
جمدها إال على تهديم اجلميل لدينا..
6
أعلن السيد املدير عن اجتماع طارئ حضره مجيع العمال دون
استثناء ..اكتظت بهم القاعة الضيقة ..معظمهم كان واقفا ..بعد انتظار
طويل حضر املدير ومعه املسؤول املالي ورئيس الفرع النقابي ..توجه
مباشرة إىل املنصة اليت زينت ..سحب أحد اخلدم الكرسي ليجلس سيده
ووقف عند رأسه فاغرا فاها ككلب يلهث بالفرح..
الصمت سحاب مركوم يغشي القاعة املكتظة ..كنت أجلس وسط
احلاضرين ..قلبت النظر يف الوجوه املخشبة والعيون الربيئة كعيون
األرانب ..ختيلت القاعة مملوءة مكتظة باألرانب املدجنة.
نقل طرفه يف القاعة ميينا ومشاال ..نقر مكرب الصوت بأصابعه..
تنحنح ..تذكرتُ املعمر دافيد هكذا كان جيمعنا صغارا وكبارا ..يكومنا
أمامه كجذوع خاوية ليجلدنا خبطبته اليت ال نفهم منها شيئا سوى عرب
كالب.
أفرقع أصابعي ..أرجتف ..يضغط جلدي على كامل اجلسد ..يضغط
الصدر على القلب احلار ..يتسعر أكثر ..أغري وضعييت فجأة حني أحسه
يبدأ جيلدنا حبديثه
-لسم اهلل الرمحن الرحيم قال تعاىل":وقل اعملوا فسريى اهلل
34
عملكم"
فجأة رفع رأسه عن الورقة اليت كان يتهجى منها واخنرط يرغي بعامية
مشوهة بالفرنسية
-هذا االجتماع للقضاء على املشاغبني..
دون إذن نهضت من مكاني ملوحا بذراعي النحيل
-أنا مستعد لكل شيء شرط أن تسمعوا كل ما أقول ..هذا املشفى
عليه شعار من الشعب وإىل الشعب..
وفجأة مسعت متتمة من بعض رجال املدير وعرفت بأنهم سيشوشون
علي ..قام أحدهم وقال:
-احلقيقة هذا الشعار خطأ فادح خيالف الدستور ..والصحيح هو
بالشعب وللشعب ..وحضرتك ألنك أمي جاهل أخطأت يف القراءة.
وأردت أن أرد عليه فنطق آخر بسمل وحوقل وذكر كل األنبياء
والصاحلني واألولياء واملشعوذين وقال:
-يا سيدي املدير هذا الشعار زائف ..وهو شعار مستورد من البالد
الشيوعية أي بالد الكفرة ..والبد أن حناربه ونرفضه ..وما بقي يؤمن به يف
العامل قاطبة غري األميني واجلهلة وامللحدين..
مل أفهم شيئا ..حنن اجتمعنا ملناقشة الشعار أم ملناقشة هم املشفى؟ قلت
وأنا أوزع نظراتي بني هؤالء مجيعا:
-هذا خلط دعونا نتكلم فيما هو مفيد..
وقام املدير كالديك فقال:
-أنت دائما مشوش الشيء يرضيك ..والناس كلهم خمطئون يف
رأيك ..اجللسة مرفوعة وأنت البد أن حتضر أمام اجمللس التأدييب بتهم
35
عديدة.
واختلط كالم اجلميع يوزعون التهم ..خيانة الوطن ..التهاون ..التدخل
يف ختصص اآلخرين ..االعتداء على السيد املدير ..والطعن يف نزاهته..
وخرجوا كلهم وبقيت وحدي يف القاعة ال حول وال قوة إال باهلل..
رجعت إىل البيت ليال يفرتس القلق قليب ..ويف نفسي كنت أردد ..هل
خدعونا حني أوهمونا أننا انتصرنا على االستعمار؟ ..لقد توقفنا وسط
املعركة ما الذي أستطيع أن أفعله وحدي ..ليكن ما يكون أنا كاحملراث
الذي تعود والدي أن يضرب به املثل "حيرث واقفا أو ينكسر"
جاءتين أم األوالد بنت عمر ..مل تبق إال هي تزيل عين اهلم ..جلست
قربي ..سكتت مليا ..متنيت أن تسكت أبدا ..أحسست بالنوم يغشيين..
يدثر جفوني ..ماذا ميكن أن أقول هلا؟ سأفجعها ..ستنظر إلي باحتقار..
ستقول لي انطفأت النار وخلفت رمادا ..سأصيح يف وجهها ال ما زلت نارا
وسرتين ..أقسم برأسك ورأس والدي وواهلل العظيم لن أسكت عن
منكر أراه.
قلت ذلك ..ثم سكت دفعة واحدة ..كنت أريد أن أنام ..اشتقت أن
أمتدد كالصغري ..أضع رأسي يف حجرها لتعزف بأصابعها على أوتاره
مسفونية احلب ..لكنها قطعت علي ذلك وقالت:
-مل أعرفك إال جبال تتزلزل األرض وتبقى صامدا ..وما يهمك أنت
يف الذي يقع؟ أنت مسؤول عن نفسك ..أنت ال تقدر أن تغري العامل ..هذا
الواقع متعفن ..ياصاحل السفينة ثقبت وستغرق وأنت وحدك ال تنقذ شيئا..
وهزتين الدهشة كل شيء ينهار يف حلظة ..هذه آخر قالعي تنهار..
ختيلت والدي مسجى مضمخا بدمه ينظر يف باستهزاء ..دون أن يتكلم
36
دون أن حيرك شفتيه ..يف عينه زوابع للحزن واالستهزاء ..أردت أن أصيح
فيه :مل كذبت علي؟ مل قلت لي :ياصاحل بنت عمر نسخة من أمك ولذلك
اخرتتها لك إياك أن ختونها ..حني حتتار استشرها؟
وألول مرة ألفيت نفسي أصيح وأصرخ..
-كلكم اتفقتم على التخريب ..كلكم تآمرمت على هذا الوطن ..أنا
لن أسكت ..تاهلل لن أسكت ..لن أسكت ..أنا صاحل الرصاصة ..دمي ودم
أصحابي سقى هذه األرض ..ولن يذهب سدى ..املكوا ماشئتم ..خذوا ما
أردمت ..املسؤوليات السيارات الفيالت لست راغبا يف مزابلكم.
قعدت يف ركن الدار وانفجرت باكيا مثل الطفل اليتيم ..ومل أحترك ومل
أفطن إىل نفسي حتى رقدت
وملا أفقت من نومي ألفيت نفسي أصيح ..جف ريقي ..سال عرقي..
وأم األوالد عند رأسي تبسمل وحتوقل ..مسحت العرق شربت كأس
ماء دفعة وحدة:
-ياصاحل مل حتمل نفسك فوق طاقتها ..أرأيت ما وقع لك..؟ اغسل
يديك منهم متاما ..لك دينك وهلم دينهم؟
قمت فتحت اخلزانة ألول مرة دون أن أستشري أم األوالد ..محلت
زجاجة عطر منتصفة رمبا بقيت ذكرى من عرسنا وخرجت ..مسعتها تناديين:
-صاحل ..صاحل ..صـا..
مل ألتفت إليها مل أكلمها ..انطلقت سريعا ..األزقة ضيقة ..اجلدران
سوداء ..األرض مفعمة باجلرب ..كالب راقدة قريب منها قطط ..حلظات
شاهدت سكران يبول يف الطريق ..حلقه آخران معربدين ..رائحة اخلمر
متأل اهلواء ..كل شيء متعفن ..سجن يف سجن..
37
هرولت ..اجتزت خممرة ..هززت رأسي ..قرأت عليها خممرة
االستقالل..؟ أغلقت عيين ..هرولت ..فتحتهما ..قابلتين البلدية ..مقر
ضخم ..فوقه شعار كبري منحس "بالشعب وللشعب" وفوق مرمرها ترقد
امرأة وحوهلا ثالثة أطفال ..مسعت أصواتا تصرخ يف:
-خائن ..خائن ..خائن..
جريت ..جريت ..كأنين يف ريعان الشباب ..أحسست أني خرجت من
املدينة ..خرجت من السجن ..من زنزانة سلطان طاغية ..ورأيت من
بعيد أشجار السرو تشمخ بهاماتها ..خففت سرعيت بعد دقائق
وصلت ..توقفت ..اسرتجعت أنفاسي ودخلت البوابة الكبرية ..كانت
مفتوحة ..دخلت بهدوء ورهبة وخشوع مل يكن هناك شيء غري صمت
رهيب عظيم حيتم عليك أن تسكت.
قلت السالم عليكم أيها اإلخوان ..السالم عليكم أيها الشهداء
الكرام ..امسحوا لي كان الزما علي أن أتوضأ قبل أن أجيء ..لكن اهلل
غالب جئت عجال وحاليت متدهورة واملاء ..املاء ال نراه غري مرة يف
األسبوع ..مشيت خطوات خائفا مرتعدا ..أخرجت زجاجة العطر ورحت
أرشهم قربا قربا وأنا أبكي وأستغيث ..امسحوا لي ..امسحوا لي ..مل
تركتموني وراءكم وحدي ..حرام عليكم ..مل هربتم علي؟ أمل نكن جسدا
واحدا ..روحا واحدة؟ لقد بقيت وحدي ..من يقف معي يف هذا املدينة
املتوحشة؟ عجزت ..ما قدرت أن أواصل املسرية ..الطريق صعبة ..مآلنة
باألشواك واملطبات ..وأنا أبدلوا لي حتى امسي..
كنتم تسمونين صاحل الرصاصة ..هم اآلن أمسوني صاحل املغبون ..صاحل
اجملنون ..صاحل ..صاحل الغيب ما رأيكم؟ أنا الذي كان اجلن خياف مين..
38
العفريت ترتعد فرائصه ملا أطل ..أنا اآلن ياإخوان صاحل املغبون ..صدقوا
أو ال تصدقوا أنا صاحل املغبون ..صاحل املغبون..
ك راحْ
يامغبُونْ لْخَيْر ْعلِي ْ
وَلْهَمْ عليك اتْاليَمْ وطَاح
والناس كلهم فاقوا
بعدما اكْال ْو الغلة وذاقوا
وأنت ياصاحل إما وإما ..واحدة من اثنني ال ثالث هلما ..إما أن تسكت
وتغلق فمك فتنال ياصاحل كل ما تريد وأكثر مما تريد ..وإما أن تفتح فمك
وتنطق ..والذي ينطق ياصاحل يُشنق ..يَحرتق ..يُبصق..
األوىل مل أربَّ عليها ..امسحوا لي ال أقدر عليها ..أنا رجل ..تربيت
رجال ..وعشت رجال ..والثانية كلفتين غاليا ..خسرت كل شيء ..املال
واجلاه والسلطان واالحرتام والتقدير حتى زوجيت انقلبت علي بعدما
وقفت معي وقت الشدة واحملن ..انقلبت علي ألنها خائفة علي ..حتى
االسم خسرته وهو رأس مالي ..مسيتموني صاحل الرصاصة ..اليوم أمسوني
صاحل املغبون وآخرون أمسوني صاحل..
من ميشي يف الظل ..ويدهن السري لِتسري ..ويساهم يف ختريب هذه البالد
اليت مات من أجلها الشرفاء ذاك هو الرجل الصنديد ..لعن اهلل هذه الرجولة
وهذه الفحولة ..ساحموني إذا عكرت عليكم هدوءكم ..إذا شوشت عليكم
خلوتكم ..أعرف أنكم ستقولون ال دخل لنا ..حنن قمنا بواجبنا وانتهى دورنا
والدور دوركم لكن أين أذهب؟ ماذا أفعل؟ مل تركتموني خلفكم مل يبق
غريكم أجلأ إليه ..امسحوا سأنام الليلة هنا وسطكم ..واهلل لن أرجع إليهم
مطلقا ..تنازلت عن كل شيء ..أعطوني قربا ألحلق بكم ..أعرف أن األمر
39
صعب ..أنتم أحبكم اهلل وأنا قعدت هلذا الزمن اخلبيث ..ال بأس هذا قدري
دعوني أرقد وسطكم ليال ..ليال فقط ..أما نهارا سأجد ألمري حال.
وفعال رقدت وسطهم كالصيب ينام يف حضن أمه ..ومع الفجر
استيقظت ..فتحت عيين أحسست بالراحة القصوى ..ألذ نوم ذقته يف
حياتي ..نظرت إىل القبور كل قرب فوقه هالة من نور هزتين الغبطة..
توجهت إىل السماء ..يا رب مل تركتين هلذا الزمان احلقري؟ يارب مل خلفتين
هلذا اجليل املنحوس..؟
قمت من مكاني زرت الشهداء قربا قربا وحييتهم شهيدا شهيدا
ورششتهم بالعطر ثم خرجت ..أين أذهب؟ أرجع إىل املدينة؟؟ مستحيل
مستحيل ..مشيت على غري هدى مشيت كاملسحور اهلائم كأن مغناطيسا
جيذبين بقوة ..قطعت جبال ..واديا ..سهال ..وجدت نفسي فجأة قرب قرييت..
فرحت كطفل صغري ضيع أمه فلما اشتد بكاؤه وفزعه وجدها فجأة..
جريت ..جريت ..وصلت دارنا املهجورة ..دخلت ..خرجت ..درت بها..
سلمت ..قبلت احلجارة ..الرتاب ..احليطان ..وتذكرت والذكرى صعبة ..بكيت..
كل شيء تغري ..األشجار ماتت ..الورود ذبلت ..حتى هي كانت حزينة
على حالنا وعلى خيانتنا ..مشيت إىل قربي والديَّ مشيت بهدوء تام ..وقفت
عند القربين ..هزتين الرهبة ..األزهار ذبلت ..األشجار تكسرت ..الرتاب
تهرأ ..حفريات صغرية فوقه ..من أحدث هذه احلفر..؟ استغفر اهلل آثار خنازير..
-ساحميين والدتي ..ساحمين والدي ..ضيعت نفسي وضيعتكما ..ساحمين
ياوالدي خنت وصيتك ..ضاقت علي الدنيا أين أذهب؟ فسد الصالح
وفسد الفساد واختلطت وطفا شرها على خريها ..أعرف أنك مافهمت
شيئا ..ذلك خري وأحسن ..رمبا لو فهمت ألفسدوك..
40
قعدت ..اتكأت على شجرة ..وضعت رأسي بني يدي ..ورحت أفكر..
تذكرت أيام زمان ..تذكرت الرجال الذين مشينا معهم على طريق واحد..
تذكرت احلب واإلخالص ..تذكرت املعارك اليت خضناها ببنادق الصيد..
تذكرت النشيد ..أعظم نشيد يهز القلب ..يُبكي العني ..خيرج الشوك من
اجللد.
قسما بالنازالت املاحقات
والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود الالمعات اخلافقات
يف اجلبال الشاخمات الشاهقات
حنن ثرنا فحياة أو ممات
وعقدنا العزم أن حتيا اجلزائر
فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا
خطر ببالي أن أحفر القربين وأمحل عظام والدي ..ولكن أين آخذها؟
إىل الدار ..ثم أدفنها وسطها وأشعل عليها الضوء وأجعل القرب جنة ..جنة
يف الدنيا وأرقد معهما كل ليلة ..استغفر اهلل مالك ياصاحل جننت؟ حتمل
عظام والدك ووالدتك الطاهرة من هذا املكان الطاهر النقي الذي اختاراه
وطالبك بأن حتميه ..حتملها إىل املدينة ..إىل النفاق والقاذورات والقلوب
امللوثة؟ ال مستحيل مستحيل.
قبّلت تربة القربين ..قرأت على روح والدي الفاحتة ..دعوت هلما
بالدعوات الصاحلات ..وعدت إىل املدينة خائبا كاحملكوم عليه بالشنق..
آهٍ ُأ َّما علجيــــــه! ..
أين أنت اآلن..؟ أين ميكنين أن ألقاك..؟ كيف أغرس رأسي اآلن يف
41
صدرك الدافئ لتمسحي عليه بيديك احلانيتني..؟
7
مل يكن الطقس قاسيا ..سحاب متفرق هنا وهناك ..نسمات باردة تهب
من حني آلخر تنهزم أمام مالبس الشتاء اليت طفق الناس يرتدونها مجيعا..
مازالت الشمس تطل ثم تعود لالحتجاب يف استحياء شديد ..لكن
أشعتها كانت متنح بعض الدفء ..ارتشفت فنجان القهوة كالعادة ..سألت
بنت عمر إن كانت تريد شيئا ..أمسكت من يدي الفنجان وهي تقول:
-سالمتك ..اهتم بصحتك ..ال حترق أعصابك ..مازلت حباجة إليك
تأملتها ..مازالت حلوة رغم التجاعيد اليت أحكمت قبضتها حول
عينيها وراحت متد جذورها حتى الرقبة ..ورغم آالم الرأس احلادة اليت
صارت تنتابها من حني آلخر ..وخرجت للعمل وقد بدأت نفسي تهدأ
وتنسى ..اقرتبت من املشفى ..توقفت فجأة وقد هزتين احلرية ..هذا ليس
مشفانا على اإلطالق ..تراجعت إىل اخللف ..عدت أتأمل ما الذي جرى؟
لست جمنونا بالتأكيد لقد تغري املدخل كلية ..الفتات ..أعالم ..ألوان..
طالء ..كل شيء مزين ..األشجار ..األرصفة ..الطرقات ..أشجار صغرية
خضراء ..ورد أمحر متفتح..
فركت عيين ..أنا يف حلم ..أو جننت ..ما الذي وقع؟ تركت املكان
صحراء قاحلة ..يف يومني أصبح جنة ..الطريق معبد ..الشجر أخضر ..الورد
متفتح ..األعالم ..املصابيح امللونة ..مشيت بسرعة إىل البوابة يا للدهشة!
حتى هي مطلية مزينة ..األضواء من كل لون سبحان اهلل! لعلين يف حلم
دون أن أدري ..رفعت رأسي للسماء وجدت الفتة كبرية مكتوب عليها:
أهال وسهال بالسيد وزير الصحة..
42
بالقرب منها أخرى مكتوب عليها:
الصحة يف خدمة الشعب.
واختلط يف ذهين الضحك والنواح ..رغبت يف الضحك ..أضحك
حتى اجلنون ..حتى املوت ..وأردت أن أبكي ..أبكي حتى اجلنون ..حتى
املوت ..كرهت النفاق يامدينة النفاق ..كرهت النفاق ..عدوت ..دخلت
املشفى ..جاءني أحد رجال املدير ..وأخربني وقد علت وجهه صفرة النفاق
أن نائب سيده املدير يف انتظاري
وجلت املشفى يالطيف! كل شيء يلمع ..غريوا للمرضى كل شيء..
البالط يربق ..الرائحة الطيبة تفوح منه ..وحتول اإلسطبل إىل جنة ..دخلت
مكتب األمري ..آ ..املدير ..قام من مكانه مرحبا ..عجبت ..اقرتب مين ..ضمين
إىل صدره ..سلم علي ..أفقت من دهشيت ..قلت يف سري متمتما ..رائحة
الثعلب..
قال لي :
-اقعد اقعد ياسي صاحل ..أنت جماهد كبري ..أنت رمز هذا الوطن
وهذا الشعب ..وخريك لن ينسى ..وفضلك فوق رؤوسنا مجيعا..
جلست وأنا أنظر إليه بدهشة ..وازدادت دهشيت حني قال لي:
-ال ختف اليومان اللذان غبتهما لن خيصما من راتبك ..ساحمتك
نعم ساحمتك ..نظرا جلهادك ..بل وأمنحك ثالثة أيام أخرى تسرتيح فيها..
أعرف أنك تعبان اسرتح كما حيلو لك ..التقلق نفسك ..وحني تسرتيح
عد للعمل ..وهل عندنا ألف من أمثالك؟ أنت من البقية الصاحلة
املخلصة أنت رمز ..أنت بركة ..وأنت تعرف أنين طيب ..ولكن بعض
الناس يشعلون النار ويوصلون الكالم الفارغ املغرض..
43
أثار غضيب فاندفعت قائال:
-خائفون مين؟ تريدون إبعادي عن أسيادكم..؟ حياتكم كلها كذب
على الشعب ..وعلى اهلل ..وعلى نفوسكم ..وعلى التاريخ ..وحتى على
أسيادكم ..خافوا اهلل ..واحد تزرعون له الورد يف الشتاء ..وماليني تزرعون
هلم السم والشوك طول العام ..سينتقم اهلل منكم ..إنه ميهل وال يهمل..
وغفلة الشعب لن تطول ..خنتم عهد اهلل وعهد الشهداء واجملاهدين..
وحدها مدننا ال تتزين إال ألولي األمر والنهي ..وسكت وخرجت..
أين أنداح..؟ للمدينة…؟ وحش مفرتس أصبحت ال أقدر على رؤيته..
حتى بييت عفتها ..كرهتها..
ابتعدت أسري على غري هدى ..دخلت الغابة ..مشيت زمنا كان ثم واد
جيري مباء قليل ..قعدت على حافته ..مددت رجلي ..وسرحت بعيدا بعيدا..
إىل أين سنصل بهذا الكذب والنفاق..؟
مشمت رائحة الدخان رفعت عيين شاهدت شبح الدخان يتهادى متعاليا
يف تكاسل على جنبات الوادي ..دفعين الفضول ..هبطت الوادي..؟ وكانت
املفاجأة الصاعقة ..مئات العلب مآلنة دواء مكومة وحمروقة ..كادت النار
تقضي عليها ..قلبت بعضها هذا الدواء كله غري صاحل لالستعمال..
تذكرت اإلشاعة اليت دارت يف املشفى ..قناطري من األدوية مل تعد
صاحلة واملدير ومجاعته يف حرج من زيارة الوزير ..فعلتها ياولد الكلب..
ورجعت كالرصاصة للمشفى وأنا أكاد أحرتق قلقا ..وجدت اجلماعة يف
حفل بهيج مع السيد الوزير ..املدير ..مجاعته ..كبار املدينة جيتمعون على
الفريسة ..جيتمعون على حلس األصابع ..منعين احلراس من الدخول
صرخت :خونة خونة اكتشفتكم اكتشفت جرميتكم حرقتم أدوية املرضى
44
يف الوادي وهم حمتاجون قرصا ..أحرقتم أعمارهم ودماءهم وأرواحهم..
سحبين احلراس بعيدا وقالوا للوزير هذا جمنون مرة بعد مرة يصاب بنوبة
عصبية.
وفصلوني عن العمل ..طرقت كل األبواب ..اشتكيت للمسؤولني..
كتبت للجهات الرمسية وغري الرمسية ..كلهم اتفقوا على أنين جمنون وال
أصلح للخدمة ..حز ذلك يف نفسي ..كنت صاحل الرصاصة يوم كان الرجال
رجاال ..فلما حتررت البالد أمسوني صاحل املغبون ..ويف آخر عمري صرت
صاحل اجملنون.
واحلل؟ اهلروب اهلروب ..كل شيء يصرخ يف أذني ..اهرب ياصاحل..
ياصاحل املغبون ..ياصاحل اجملنون ..اهرب بنفسك ..أنت ضعيف ..هؤالء
شياطني أنت ال تقدر على مواجهة هذا اجلنس ..ياصاحل اهرب ..اهرب
ياصاحل ..هؤالء فسّدوا وأفسدوا وفسدت عليهم ..اهرب ياصاحل ..اهرب..
وأين تهرب؟ الدنيا ضيقة ..األرض ضيقة ..السماء ضيقة ..أين
تهرب ياصاحل؟
القرية ..آه تذكرت القرية ..خيل إلي أنها يف فستان فرحها تفتح لي
ذراعيها وحترضين على االرمتاء يف حضنها الدافئ ..وأطلقت ساقي للريح..
القرية ..القرية.
8
هاقد عادت اجلازيه..
هاقد عدت ..عدنا..
حني تعود اجلازيه كل شيء يعود..
يعود اإلشراق للقمر..
45
تعود األوراق للشجر..
تعود األنسام للهضبات وقد ضمختها حناء الشفق الوردي..
تعود أسراب الكروان إىل التحليق والتغريد..
وتهجع عروس النهار ملء عينيها ملفوفة مبالءات احللم الوردي..
نفتح حنن لألحالم الوردية نوافذ وشرفات..
نتحلق حول أُمَّا دَلُولَهْ..
تقص حكايات ذياب واجلازيه..
منذ أن رحلوا عن القرية مل يعد ألي شيء طعم ..كل شيء فقد
جنسيته ..كل شيء ضيع عذريته ..حتى أمي الوديعة الطيبة مل تعد كذلك..
وصرت ال أعود من اجلامعة هروبا من القحط الذي طفق يزحف
عنكبوتيا على كل شيء يف القرية..
وهاهي تشرق على القرية ..وها اجلميع خيرج ملالقاتها ..فتحت أمي
قلبها واحتضنتها وهي تبكي ..وهزنا املشهد فجمدنا مجيعا نرقبه ..قبلتها
األخريات ..رفعت يفَّ عينني تنهمران عتابا ..اختطفتها أمي من بني اجلميع
وعادت تقبلها من جديد..
وسار بنا املوكب نلج البيت ..حني عاد أبي توجه مباشرة إىل الزريبة
وذبح خروفا ..كان ينهال علي عتابا وهو منهمك يف عمله
-كيف تأتينا عروسك فال تعجل بذبح خروف ..أنت لست رجال..
وهو صادق ما دام األمر يعين اجلازيه ..حتلق اجلميع حول مثارد
الكسكس ..جممع للرجال وجممعني للنساء..
وحني جلسنا نشرب قهوة اجلزوة كانت أمي دلوله حتكي احللقة األوىل
من قصة اجلازيه وذياب هلاللي
46
وختمت أمَّا دلوله احللقة بقوهلا:
َمنيشي حمبوب حُب اجلَده
منيشي ركَّاب خيل العِريه
ت انـتِ:ال ال
إذا قــل ِ
ومنيشي مكروه وَلد بْليس
ومنيشي مَزلوط مافِـديش
حتى أنا ما نَْب ِغــيـش
…………
وغضب ذياب ملا هجرته اجلازيه غضبا شديدا ..وأرسل إليها بهذه األبيات.
ورفعت فيها عيين مبتسما فقابلتين بنظرات مهددة ..وتوقفت أُمَّا دلوله
عن سرد قصتها ..وانفض اجمللس فانسحبت إىل حجرتي ..دون أن
تنسحب اجلازية من ذاكرتي
كانت هيفاء ممتلئة خصبا ومناء..
مسراء بلون األرض املعطاء..
يف عينيها حسن متمرد وكربياء كئيبة..
شفتاها ترجتفان كورقيت نعناع يانعة ..يداعبها نسيم الصبا..
على اجلبني تدلت ذؤابة شعر حالكة فرت من سجن اخلمار وحصاره..
اخلمار القوزحي كان يعصر رأسها فيكوره بلورة من كل لون..
ماذا أقول؟ لو بقيت العمر كله أفتش يف تضاريس الرأس والوجه..
أسجد للحسن فيهما ما وفيتها حق العبودية واإلخالص.
آه يا لون القمح .
يا لون القمح الطالع من ربوة القلب
لن أشفى من هذا القر الداهم حتى احتمي بدفء عينيك.
47
...ارمتيت فوق سريري وبت أعيد إىل ذهين شريط اجللسة اليت كنت
أستمع فيها ألُمَّا ..وأتصفح تضاريس اجلازيه ..وبت أفكك شفرات العينني
وطالسم الشفاه ..حزن عميق كنت أراه ..حزن عميق مل أعهده على حمياها
من قبل مطلقا..
عند الصباح الباكر أصرت أن تغادر البيت عائدة إىل املدينة ..على
نفس الطريق الذي عرف أوىل خطواتنا رافقتها ..يف الوقت الذي كنت
أستنطق أطالل الطريق كانت تغرقين بطوفان همومها ..مرض أمها..
ح َّم ْد امْ َل َّم ْد هلا..
واضطراب أبيها ..وبطالة أخيها ..ومضايقة امْ َ
ومل تعطين فرصة كي أطوف بها يف حدائق أحالمي ..أن أقول هلا لقد
أكملت دراسيت هذا العام وسأوظف صحفيا جبريدة الشروق وسأسخر
قلمي خلدمة شعيب ووطين سأجعل منه كابوسا يقض مضاجع اللصوص
واخلونة..
كنا يف رحاب الفوارة حني ودعتها عائدا إىل العاصمة ..تعودنا أن
نغرف من سلسبيلها ..لكين هذه املرة مل أغرف إال من عينيها أحزانا
ودموعا..
9
حني تغلغل الليل يف كل شيء وأحكم قبضته على اجلفون كنت أذرع
فناء املنزل يف قلق شديدٍ ..عادةُ صاحل أن يعود إىل البيت بعد صالة العشاء
مباشرة لكنه أخلف العادة هذه املرة ..ما الذي وقع؟ املدينة كابوس جيثم
على صدورنا ..واألجواء فيها مكهربة واجلرائد ال تطل على الناس إال
بالفجائع ..لقد تغريت طباع الناس كثريا ..واشتد بينهم التنافر والتناحر..
وانكب أكثرهم يلهث خلف الدنيا ولو مقابل أرواح األبرياء ..ولو مقابل
48
عزة هذا الوطن.
صاحل ال يقبل الضيم وأعداؤه أصبحوا كثريين ..ترددت هذه اهلواجس يف
نفسي ..ولكين مافتئتُ أن دخلت إىل البيت بعد أن ألقيت آخر نظرة على
الشارع األسود الطويل الفاغر فاها كديناغول ميت ..ثم عدت أدراجي إىل
البيت.
أحسست بالصمت الرهيب يغتال الطمأنينة من حولي ..انزويت فوق
األريكة ..شبكت أصابعي ..ورفعت رأسي يف قلب اجلدار ..كان هناك إطار
كبري بلون مذهب عليه صورة صاحل يلبس لباسا عسكريا وحيمل يف يده
الرشاش ..وسرحت بي الذاكرة إىل اخللف ..وتذكرت بالضبط ذلك اليوم
الذي أخذ فيه هذه الصورة ..لقد جاء إىل البيت مع جمموعة من رفاق
السالح ..وكان برفقتهم شخص مفتول العضالت يف األربعني من عمره
أو يزيد ..مكبل اليدين واللسان ..ميشي متعثرا مطأطأ الرأس ال يكاد يرفع
عينيه إال ملاما ..يف تلك األمسية أخذوا صورا لكل اجملاهدين منها صورته
هذه ..ويف تلك الليلة متت حماكمة ذلك املقيد بتهمة العمالة ..ويف الصباح
قبل تنفس الفجر انطلقوا مجيعا ..وفتحت القرية جفنيها على جثة
مذبوحة ..وعساكر فرنسا بدباباتها تعيث يف أرضنا وأعراضنا فسادا..
ورن جرس الباب فأخرجين من شرودي ..وقطع علي حبل ذكرياتي
فهرعت إليه أفتحه ..لقد عاد صاحل ..وحني فتحت الباب خاب ظين..
تراجعت متقهقرة ..كان القادم عبدالرحيم ..أغلق الباب وطوقين بذراعيه..
دفعته عين بقوة
-ابتعد عين لست ابين
شدد ذراعيه علي وهو يقول مازحا
49
-وهل تقدرين على منازليت أيتها العجوز الطاعنة يف السن؟
-أنت رجل البيت الذي أعول عليه وأفاخر به ..ولكن لألسف
الشديد ال هم لك إال العبث مع العابثني غري آبه للبيت وهلمومه ..أبوك
كاجملنون خرج منذ الصباح ومل يعد..
-وما عساني أفعل له؟ هل تريدين مين أن أراقبه كالصغري؟ لقد جن
الرجل فليتحمل تبعات جنونه لوحده ..لست مسؤوال عنه
عرب إىل غرفته لينام مباشرة غري آبه بكل ما قلت ..وحدها اجلازيه كان
صوتها مغاضبا تلوم أخاها على إهماله شؤون البيت..
أتسلل إىل حجرة االستقبال ..اقتعد األريكة هنيهة ..ثم ما أفتأ أن
أنهض ..أطل من النافذة ..ال شيء غري وقع أقدام لفتيان من احلي يعربون
من حني آلخر آيبني إىل بيوتهم ..وغري وقع أقدام منتظمة ملفرزة من احلرس
البلدي تقطع الطريق يف دورة ليلية عادية..
أعود إىل جلسيت على األريكة مل أركز هذه املرة نظري على اإلطار
املذهب وال على التلفاز وهو يقدم خطابا لرئيس اجلمهورية عن
اإلجنازات الدميقراطية العظيمة اليت أجنزها للشعب.
محلتُ مساعة اهلاتف البد من االتصال بالسعيد أو الربيع ..البد أن
يكون عندهما اخلرب اليقني ..هما أقرب إليه من كل إنسان آخر ..وكل
أسراره عندهما ..وهما فقط ميكن أن يهتما ألمر غيابه ..ولكنين مافتئت
أن أعدت السماعة إىل مكانها ليس من الالئق إقالق أحد يف هذه
الساعة من الليل ..إذا مل يتحرك ابنه الذي من حل مه ودمه فكيف نطلب
من اآلخرين أن يتحركوا؟
مددت يدي إىل رأسي فأعدت شد احملرمة عليه جيدا ..وخرجت كالعادة إىل
50
الفناء أمحل يف يدي كرسيا صغريا فاقتعدت مكانا يطل على الشارع اخلالي إال
من بعض املتسكعني واملنحرفني ..رحت أرقب كل حركة فيه.
بدأ جو الليل يربد..
وحركته تنام..
وحدي مل أمن..
بت مكاني متضرعة إىل اهلل أن يكون يف عونه.
10
احلجرة خالية إال من كرسي خشيب وضعه وسط احلجرة ..يتكوم على
نفسه يف الركن األمين ..جيمع نفسه فيغدو كرة بهلوانية ..فجأة يقوم من
مكانه ..ببطء ميشي خطوات ..يصل منتصف احلجرة ..يهم أن يقعد على
الكرسي ..لكنه يرتاجع ليواصل مشيه البطيء ..يتوقف فجأة ..يرفع ذراعيه
إىل األعلى ..يرتفع قميصه ..تبدو سرته ..يفتح فاه عن آخره يصيح ..تهتز
جنبات البيت من حوله ..تهتز جنبات الكون كله.
-اسكتوا أَغلقوا أفواهكم ..أربعون سنة وأنتم تثرثرون ..تتشدقون..
وحنن ساكتون ..ساكتون كاملوتى ..اآلن جاء دورنا ..أعطونا فرصة واحدة..
مرة واحدة ..امسعوا ما نقول.
يسكت فجأة وينخرط يف النشيج والنحيب ..يتغري فجأة ..جيلس على
الكرسي ..يرفع صوته من جديد لكن هذه املرة ليغين ..يغين…
خلِّيوْنا ننطَق يف لُعْم ْر مَرَّه
خليونا ننطق يف العمر مره
باهلل ْعلِيكُم حْياتْنا صارت مره
ت خْسارَه
وَاعْمارْنا راح ْ
ت كي لْجرَّه
وتْكسْر ْ
51
خليونا ننطق يف لعمر مره
خليونا نتكلم يف العمر مره
شر البلية ما يضحك ..يتغري فيه الصوت ..يتقوقع حول نفسه كالكرة..
حياول أن يرفع رأسه ..ينظر بطرف خفي ..يتوسل
-دعونا ..اتركونا
يرفع صوته:
-اتركونا ..ال ختافوا ..لن أتكلم كثريا ..لست ثرثارا مثلكم ..لست
مهذارا مثلكم ..ال أعرف دمياغوجيتكم ..كلمة واحدة أحب أن أقوهلا..
كلمة أعصر بها قليب اجملروح ..قليب املقروح ..قليب املتقيح..
دعوني أعصر قليب ..أعصره يف كأس وأقدمه لكم شرابا ..اشربوه إذا
كنتم حتبون عصري القلوب..
امسي ..آه امسي ..تبحثون عن امسي؟؟ هكذا من البداية ..من األول..
هكذا أنتم ..العجلة جتري يف دمكم ..ويف العجلة الندامة ..التبحثون إال
عن القشور والشكليات ..أعرف ذلك ال تبحثون عن شيء آخر ..بعدما
تعرفون امسي ستسكتون وينتهي كل شيء ..ماذا لو قلت لكم أنا امسي
كرسي ..نعم كرسي؟
ينهض من مكانه متعثرا يكاد يسقط ..ينداح هنا وهناك ..يتماسك..
يلمس الكرسي
-هاهو ..رأيتموه؟؟ نعم أنا كرسي ..أربع قوائم ..مقعد ..متكأ..
وفقط ..لوحتان عريضتان ..وأربع لوحات طوال..
يهرع فجأة إىل النافذة ..يغلقها ..يغلق الباب ..جيلس القرفصاء ..يرتعد..
أقف عند الباب ..أدقه بشدة مرة وبلني مرة أخرى ..أرجوه أن يفتح الباب..
52
أحل يف الرجاء لكنه مل يكن يبالي بكل ما أقوله كأمنا رحل إىل عامل آخر..
لقد اشتد عليه احلال وتغريت طباعه ..ماعاد يستمع إىل أحد وال حتى
يتناول دواءه..
كنت دائما أوصيه بالتعقل يف التعامل مع اآلخرين ..اللسان احللو
يرضع اللبؤة ..لقد تغري تغريا جذريا ..منذ االستقالل صارت نسمة اهلواء
جترح أعصابه ..وازداد أمره سوء بعد دخول املدينة.
كان يقول لي ياعرجونه يابنت ا ْع َم ْر دوائي الوحيد أن أعيش بعيدا
عن هؤالء الناس ..ماعدت أطيق النظر إليهم ماداموا يعيشون يف هذه
احلياة ال بد أن أرحل عنها ..إن شئت أن ترحلي معي فارحلي أو ابقي لن
أمحل لك حقدا ..أنت تعرفني أنين أحبك ..أنت اليت عشت معي العمر
حلوه ومره ..كم مرة حدثتك عن أصحاب الكهف أنا واحد منهم ..هل
اسْطاع أولئك أن يعيشوا مع الناس؟ طبعا ال ..كذلك أنا أيتها الغالية.
وأحس أن الرجل عاقل وليس كما كدت أتوهمه ..وال أملك فعل
شيء سوى أن أدفع نفسي دفعا عائدة إىل حجرتي أجترع مرارة احلياة ..لقد
فقدت كل شيء ..الزوج ..األوالد ..صحيت..
آه كم أنت قاس أيها الدهر !..كم أنت خؤون الترحم !..أتيت على
كل شيء بضربة واحدة.
أجرع كأس ماء بارد من الثالجة غري مبالية خبطورة ذلك على صحيت..
النريان متسعرة داخلي ال تطفؤها حتى ثلوج الدنيا كلها.
أسرح خبيالي إىل املاضي ..ألوم نفسي ..هل كنت السبب يف كل
ماحصل؟ ماذا لو وقفت يف وجه صاحل وأبيت عليه الرحيل إىل املدينة
وبقينا يف الريف حيث العزلة والبساطة وراحة البال؟ لست أدري على
53
وجه التدقيق ..بل لست أدري هل كنت السبب أم كانه؟؟
رنوت ببصري إىل ساعة اجلدار كانت دقاتها تصلين رتيبة ..تأملتها مليا
وفجأة فطنت إىل أن وقت الدواء قد حان ..حتاملت على نفسي ..فتحت
الرف ..دفعت قرصا يف فمي وأردفته بكأس ماء ..متتمت بيين وبني نفسي:
اللهم لطفك ..وعدت إىل مكاني يف السرير ..تدثرت الغطاء وانكمشت
على نفسي ..كنت أحس بالربد يدب يف جسدي كله.
54
3
البحث عن العش
1
التقينا ذات صباح قارس قارص ..كان الربد شديدا ..وكان اجلليد يزرع
على وجه األرض طبقة بيضاء تقرض أقدامنا وأصابعنا وأنوفنا ..ثم مافتئ
أن صار رائعا ..دغدغ الرذاذ عنق األرض ..وأشرقت الشمس فاغتالت
جليد القلوب.
كان كالفارس الذي غُدر به فضيع سالحه يف املعركة..
كان كامرئ القيس حني ضيع مخره وسالحه وهام على وجهه يطلب
النصر من أعدائه فغدروا به وجرعوه مسا..
كان كجميل الذي ضيع حبه وأُهدر دمه فراح يتشتت يف العراء حتى
قضى مبصر.
أحسست أن هذا الرجل الذي يقف أمامي ليس غريبا عين ..ممتد القامة
كان ..أمسر اللون حنيال تتوج رأسه عمامة خفيفة ..يف مالحمه كربياء ظاهر
ويف عينيه حرية وغضب..
رحت أقلب صفحات الذاكرة ..أتهجى فيها مابني السطور ..مل أصل
إىل نتيجة.
بادرني بالسالم وهو يصافحين ..من أصابعه سرت يف كل اجلسد
قشعريرة مل أستطع أن أفسرها ..سألين
-هل تعرف مسكنا للكراء يف هذا احلي؟
55
ازددت التصاقا بالرجل ..لقد جبلت على حب الفقراء ..سحبت يدي
من بني أصابعه وقلت:
-قد تكون حمظوظا ..جبوارنا مسكن شغر منذ يومني ..ولكنه ضيق إن..
فقاطعين بنربة حزينة:
-الضيق يف القلوب ياوْ ِليدِي..
يــاوِْلـيـ ِدي..
وقعت على القلب نسمة انتشاء..
باقات ورود..
مسفونية كروان..
ماأحالها كلمة مل أمسعها صادقة إال من فم نانَّا علجيه..
نانَّا اليت تربطين بها وشائج اإلخالص والوفاء دون وشائج الدم ..فأنا
مقطوع من شجرة ..لست أعرف لي أما وال أبا ..كل ما أنبأتين به نانَّا أن
والدتي قضت شهيدة ..وأنها احتضنتين يف اجلبل ثم طوحت بنا األقدار
هاهنا ..لقد نذرت نفسها بعد استشهاد زوجها أن تربي ابن شهيد وكنت
صاحب احلظ.
يَـــــــــا
ْو
لِـــ
يــــ
ــدِ
ي...
وهاأنذا أمسعها اآلن وأحسها هي ..هي..
56
وصلنا اهلدف ..توقفت عنده ..توقف هو معي ..أشرت بيدي
-هذا هو البيت
كان وطيئا ..بابه يكاد ينكفئ إىل مستوى األرض ..ال يكاد علو اجلدار
يتجاوز قامة الرجل املمتد ..قرميده القديم عليه ضمادات إمسنتية عديدة
حك رأسه مادا أصابعه حتت عمامته
-املهم أن خنفي رؤوسنا ..ويفعل اهلل ما يشاء
-مرحبا بك جارا جديدا ..سعدت حارة احلفرة بك ..أدعوك لتناول
قهوة يف بيتنا ..ال أحد حيضِّر قهوة اجلزوة كنانَّا
ودون أن يعرتض أو يعلق اندفع يسري جبواري كأمنا يعرفنا منذ األمد
الطويل.
دققت الباب ثالث مرات ورفعت صوتي
-نانَّا نانَّا ضيف يطرق بيتنا
وأنا أعرف ما تفعل نانَّا كلما مسعت ما ذكرت ..ترتك كل شيء يف يدها
وتهرع باشة مرحبة ليس أحب لديها من الضيف.
أطلت نانَّا ملفوفة بشاهلا األبيض كالنورس ..وجتمدت مالحمها فجأة..
وظهرت عليها عالئم الدهشة ..نقلت عيين حنو الضيف كان جاحظ
العينني ..فاغر الفم ..يقف دون حركة ..كسرت جدار الصمت
-نانَّا ماذا وقع؟
وكأمنا فطنت حلاهلا فانتفضت
-سي صاحل ..وليدي العزيز
-أُمَّا علجيه ..أمَّا العزيزة
وارمتى يف أحضانها كالرضيع الفزع اجلوعان..
57
وقفت مندهشا أرقب املشهد ..أعيد إمياني باألسباب واملقدمات
والنتائج ..أية صدفة هذه؟ ومامعنى هذا العناق؟ وماهذه البنوة واألمومة
املزعومتني؟
مل تأبه نانَّا بي راحت جتر الغريب حبنان وقد أشرق وجهها مشسا
ضاحكة حتيل احلجرة الضيقة حديقة فواحة.
علمت بعد ذلك ما مل يكن يف حسباني متاما ..عمي صاحل العلواني هو
الذي ولدت يف بيته حني فرت والدتي من بطش عساكر فرنسا ..ثم بقيت
هناك بعد أن التحقت والدتي باجلبل ألرضع من صدر زوجته أُمَّا عرجونه
أخا البنته اجلازيه.
بعد أسابيع حتتم أخذي إىل اجلبل ألعيش مع والدتي ..لكن القدر
مافتئ أن حرمين من صدر أمي الدافئ ..ليمنحين صدرا أدفأ ..صدر نانَّا
العظيمة ..وكان االستقالل فانسحبت بي نانَّا ألعيش معها يف هذا
البيت املتواضع.
مع إشراقة مشس الغد انتقل عمي صاحل مع أسرته إىل حارة احلفرة بعد
أن لفظته املدينة على أطرافها الفقرية ..وغدت لي عائلة أخرى ..أُمَّا
عرجونه ..أخيت اجلازيه ..هجريه ..أخي عبدالرحيم ..ما أرمحك يا اهلل!
أول ما فعلته هو أني أوصيت جارهم اخلري بلعوط بهم خريا ..قلت له
وأنا أمجع تالبيبه :إن اشتكى إلي منك أزهقت روحك ..قال وهو يضحك:
أمرك سيدي ..وانصرف.
بعد صالة العشاء جاءني بلعوط إىل البيت ..كانت حالته تبعث على
الشفقة من شدة ما تناول من مخور رخيصة ..كنت يف العادة ألومه من الغد
حني يصحو ..لكين ال ألومه أبدا وهو يف حالة سكر ..قدمت له قهوة مرة..
58
كان يبكي ويقبل يدي ويقول بلسان متلعثم :ال أحب أن يراني عمي صاحل
سكران أنت أوصيتين به خريا ..أنت خُيَّ ..أقسم أني ال أحب غريك ..أنت
خُيَّ ..أعظم خُيَّ ..وعزَيَّزْ خُيَّ ..ال هو صديقي العزيز ..تعرف ملاذا؟ ألنه
يسكر معي وأنت ال تسكر ..يارب اغفر لنا وارمحنا ..يارب حقق أحالم
منري ..والدتي وزوجيت يدعوان لك دائما ..كلما أوصلتين إىل البيت خممورا
نزال علي شتما ونزال عليك بالدعوات الصاحلات ..أقسم باهلل أنت حمبوب
يا منري ..ادع لي ..إني أرغب يف التوبة..
أنا وعزيَّز خسرنا كل شيء و...
ودفع آخر جرعة من قهوته املرة وهو يتجشأ ..أمسكته من يده وخرجت
معه ألعود به إىل البيت..
2
املدينة كالعاهرة ال تتزوج إال لتجعل من زوجها مشجبا تعلق عليه
خيباتها ..وها أنا أغدو فيها كالشجرة اليت نقلوها من تربتها بعد فوات
األوان ..ليس هلا إال أن تنتحر ..خرجت من القرية ..ومن املشفى ..وهاهم
أخريا يطردونين من البيت ألنه ملك للمشفى ..مل يكن كالم الربيع
صحيحا حني كان يردد ضاحكا:
-مربوك عليك ..أوالد الكلب بنوها وشيدوها وورثناها من بعدهم..
اهلل يرحم الشهداء الكرام..
مل نرثها حنن ..بل ورثتها طبقة لسنا ندري عالقتها بالثورة ..يف الوقت
الذي استحوذ املدير على مسكين رحت أنا أخبط يف غري رشد أحبث عن
وكر يسرتني مع عائليت يف إحدى الضواحي الفقرية فنحن اآلن ال منلك
من الشجاعة مايكفي للعودة..
59
عند نبع ماء يتفجر من حتت األرض فيسقي الناس وأشجارهم اليت
سرتت عيوب بيوتهم اليت يأوون إليها التقيت مبنري ..لست أدري ماالذي
جذبين إليه بالضبط ..أحسست وأنا أراه ألول وهلة أنه أقرب إلي من
أبنائي ..لعل مسرته ..أو حنافته ..أو بشاشته ..أو الكتاب الذي كان يتأبطه..
أو كل ذلك ..لست أدري
ما كدت أفاحته يف همي حتى أخرج كل مفاتيحه السحرية ..وجرني
يف تلك اللحظة ليحقق هديف الذي جئت أسعى من أجله ..اكرتيت
البيت ثم ارتأيت أن أشرتيه ..دفعت لصاحبه جزء من املبلغ وأمهلين
أشهرا ألدفع الباقي.
وكان فرحي كبريا وأنا ألتقي بأُمَّا علجيه ..هاته العظيمة اليت ظلت
سنوات أُ َّمنا مجيعا وحنن خنوض حربا شرسة ضد عساكر فرنسا ..وكان
زوجها الشهيد عمي سليمان أبا للجميع وقائدا للجميع..
ويف حارة احلفرة عرفت رجاال فيهم شيء من الذين رحلوا ..عرفت
عْزَيَّزْ ربيب العجوز عكة وصاحبه اخلري بلعوط فيهما كثري من اجلنون
ولكن طيبتهما كانت أكرب ..وعرفت مفتش التعليم والرتبية السيد معرفة
رجل قضى عمره يغتال الظالم من العقول وظل كل الذين حوله
ينسجون له أكفانا من ظالم ..كلما رأيته ختيلته مشعة تسعى ..تهرق دمها
األبيض كي تضيء لآلخرين دروبهم ..وتكنس عنهم ظلماتهم..
أخرجين عبدالرحيم من شرودي وهو جيلس جبواري ..دون أن ينطق
بكلمة واحدة زوى عينيه اتقاء أشعة الشمس احلارة اليت كانت تصوب
سهامها حنو اخللق يف غري رمحة ..ثم نصب يده اليمنى السمراء على
جبهته فوق عينيه
60
من أي صلب هذا الولد الفاشل الذي ال حيسن أن يصنع لنفسه خبزا
حيفظ رجولته ..نظرت فيه وقلت:
-لو كان بومدين حيا لعاقب كل الشباب البطال ..ذاك القوي أبو
الضعفاء.
ودون متهيد اندفع عبدالرحيم فجأة كأن احلياة عادت إليه
-وماذا فعل لنا ملا كان حيا حتى يفعل لنا اآلن؟ انظر كلُّ ما حولنا
يوحي باملأساة
وأردت أن أعارضه ..لكنه واصل وهو ينهض
-يتشدقون بالشعارات اجلوفاء ال غري ..لقد ضحيت يف الثورة بكل
ما متلك ..أحرق بيتك ..وقتل أهلك ..وشردت سنوات مريرة وهاحنن نعيد
نفس احلكاية الكاحلة ..الناس يأكلون على كل املوائد وحنن الفقراء
مازالوا يطعموننا شعارات.
وغادر عبدالرحيم املكان دون أن ينتظر جوابا مين
مجعت نفسي حيث أنا ورحت أتأمله يبتعد فتمتمت
-ياله من جيل!!!
وبقيت حيث أنا ال أبرح املكان رغم هبات الريح اليت كانت ترتفع
من حني آلخر حمدثة زوبعة من الرتاب..
كنت أتأمل الصبية يلعبون كرة القدم تتقاذف أرجلهم النحيفة املسودة
كرة قماشية صنعوها من اخلرق واجلوارب وتتطاير األتربة فتكاد حتجبهم
عن الرؤية
انتبهت من شرودي على صياح جارنا إبراهيم جحا ينادي ابنته عبله
احللوة كي تساعده يف محل الشاي والفطائر إىل احلمام.
61
3
وكان ذلك اليوم مشهودا والقدر يقسم روحينا شطرين ..فريمي بكَ إىل
العاصمة حيث تكملُ دراستَك يف معهد اإلعالم باجلامعة لتتخرج بعدها
صحفيا المعا ..ويرمي بي إىل سطيف إلكمال تكويين شبه الطيب ..لست
اآلن قادرة على حتقيق حلمي الذي صبوت إليه طويال ..ليس كل ما يتمنى
املرء يدركه جتري الرياح مبا ال تشتهي السفن ..ظروف العائلة كانت
كابوسا رهيبا
حتصلنا على شهادة الباكالوريا معا ..مضي الصيف سريعا ..اقرتبت أيام
الدراسة ثعبانا مفرتسا ..التقيتكَ ذات مساء ..حدثتين عن أحالمك كما
تعودت ..عن أملك يف أن تكون صحفيا المعا يسخر قلمه يف خدمة
املستضعفني واملهمشني ..وبقدر ماكان هذا يشغل بالي كانت طبيعيت
األنثوية حترضين على الغرية ..كنت أردد بيين وبني نفسي
بنات املدن الكبرية إرهابيات ..خمادعات ..ولن يستطيع بدوي ساذج
مثلك أن ينجو من حبائلهن..
لقد أحببتين جبنون وحنن يف القرية ..فهل حتبين كذلك وأنت يف املدينة؟
لست أدري ملاذا كانت هذه الزوابع تعصف يف فجاج ذاتي ..رغم أن
خطواتنا األوىل حنو الزواج قد متت أمام أسرتينا ..ومل تبق إال اإلجراءات
اإلدارية ..منذ أن كنا صغريين كانت أمكَ تقول لوالدتي :اجلازيه لن تكون
إال من نصيب ذياب ..هاأنا أخطبها ..وها أنتِ تقبلني ..وها كل سكان
القرية يشهدون
كل ذرة يف هذا الكون شهدت حبنا منذ كنا صغريين
افرتقنا وقد اتفقنا أن نفارق حارة احلفرة معا ..توصلين إىل املعهد شبه
62
الطيب بسطيف ..وترحل أنت بعدها إىل العاصمة
ذلك الصباح وحنن نهم مبغادرة حارة احلفرة ..رأيت دمعة حزينة يف
مقليت أمي احملمرتني الغائرتني كمحرمة الشامي اليت تغطي بها شعرها..
وقرأت على حمياها القمحي خوفها علي وأنا األحب إليها ..وكم كنت
أدرك ما تعاني هذه الصفصافة العاتية املنتفضة األوراق ..مل تكن تريدني
أن أكون مثل بنات األمس ..جمرد صفصافة تأوي إليها طيور الليل والنهار..
وينعم اجلميع خبضرتها وقامتها ويتفيأون ظالهلا ..ثم أخريا جتازى بقبلة
عميقة حارة من شفرة فأس حطاب.
ورأيت أبي صاحل وقد لفحت الشمس وجهه ..فاشتدت مسرته ..وأثر
عليه وقع احلياة فخطت على وجهه أثالما ..وغارت عيناه ..وزحف الشيب
يرقص فرحا على حليته وما ظهر من شعر صدغيه حتت العمامة
مل يكن يبكي ألن دموع الرجال غالية ..ولكين كنت أحس بوقع دموعه
على قلبه عازفة مسفونية احلزن ..وقرأت على عينيه
-اجلازيه هأنذا أحتدى من أجلك اجلميع
ليس من السهل أن يسمح رجل بدوي كأبي يسكن حارة احلفرة البنته
أن تتابع دراستها يف مدينة بعيدة
وكنتَ منزويا هناك تهم أن تندفع حيث اجلمع لتسحبين بعيدا بعيدا
فتمتنع رجالك كأمنا أنت مقيد إىل األرض الصلبة ..وكنت أقرأ يف عينيك
آيات احلب واحلزن ..وكنت أرى دموعا ترتقرق يف جفنيك حائرة حتاول
كبحها وتأبى إال أن تصرخ معلنة عن وجودها
ورحلنا إىل سطيف ..على مشارفها يقف سيدي اخلري ينثر الربكات ملء
يديه ..يفتح باب بسكرة حضنه ليدخلنا املدينة حبنان العمريات ..دخلنا
63
املدينة ..طفنا بشوارعها نودعها ..وقفنا عند عني الفوارة ..قلت لك:
عني الفوارة متثال المرأة أحبها حاكم فرنسي كان يف هذه املدينة ..ومل
يشأ القدر أن حيققا حلمهما فاختطفها إىل غري رجعة ..وألن حبيبها كان
وفيا صرف كل ماله من أجل أن يقيم هلا متثاال نصبه هنا وسط املدينة على
نبع ماء.
ثم رحت أحدثك عن لزرق ملول هذا العامري الذي طلبت منه
حبيبته أن حيصد كل أراضيه الشاسعة سنابل خضراء قبل نضجها وركب
جنونه وفعل
قلت لي وأنت تضحك
-هل بدأت تشكني يف وفائي إليك؟ متثال عني الفوارة ميثل بالنسبة
إلي فرنسا االستعمارية ..حبذا لو وضع يف املتحف ونصب مكانه متثال
المرأة عمرية ..أما لزرق ملول فهو جمنون ..واحلب جنون.
وافرتقنا..
كانت أول رسائلك إلي
ال حتزني ..لن أبدلك أبدا ..ولن أكون إال لك
لن أخون حبنا..
سأحلقُ كطائر النورس حيث شئتُ ..ثم ليس لي عش إال داخل قلبك
سأغرد كالشحرور أنى شئتُ ..ثم ليس لي إال فؤادك أعزف على
أوتاره ترنيماتك الشجية
لن أنسى حبنا يا حبيبيت وقد بذرناه يف أعماق قلبينا وسقيناه -وأشعة
القمر اجلميل تباركنا -بدموعنا ..ومحيناه من الصقيع فغدا زهرا مجيال
لن أنسى ياحبيبيت إذ كنا نركض يف احلقول فتبلل األعشاب أقدامنا
64
الصغرية تتسابق أنفاسنا وضحكاتنا
لن أنسى يا حبيبيت ما كنت ترددين على مسعي دائما
فما احلب إال للحبيب األول نقل فؤادك حيث شئت من اهلوى
4
كل شيء من حولي مقرف مقزز ..هذه املدينة عاهرة مشطاء ..البقاء فيها
ضرب من املستحيل ..غدا كل شيء ضدي ..يف البيت حتاصرني نظرات
والدي املرة وأنني والدتي الشاحب ..يف الشوارع أحس نفسي أشبه
بكيس بالستيكي قديم ترتاماه الرياح يف شوارع املدينة..
ما معنى أن أحيا إذن؟ ال ميكن أن أفكر يف االنتحار على األقل بسبب
الوازع الديين الذي يعد كل قاتل نفسه كافرا ..أو بسبب ماأمحل يف نفسي
من أحالم ..حلمي لعله صعب التحقيق ..ورمبا هو من املستحيالت ولكنه
يبقى أوال وقبل كل شيء حلما ..من حقي أن أحلم ..واحلمد هلل أن اهلل
خلقنا حنلم وإال كانت الطامة ..واحلمد اهلل أن حكامنا وأثرياءنا ال ميلكون
منعنا من أن حنلم..
آه حني أمتكن من عبور هذه البحرية الزرقاء !..عند ذلك سأصرخ يف
التعاسة ..لك الويل اذهيب إىل غري رجعة
أحسست كأمنا صدري يضيق بهذا السر احللم ..ال بد أن أبوح به
لغريي ..وملن؟ ما تعودت أن أطمئن إال إىل منري ..واندفعت إليه ولكين ما
كدت حتى أحجمت ..اتكأت على جذع شجرة كانت تقف يتيمة بائسة
يف تردد شديد ..وما معنى أن أبوح مبا ينوء به صدري ملثل هذا اإلنسان..
سيقف أمامي كصندوق بارد ..صندوقٍ مفتوح تعوي فيه الريح ..سيشبعين
مثالية وحب الوطن ..وهو يعرف أنين أكفر بكل ما يقول حتى لو أعاده
علي ألف مرة
65
ومل أستطع أن أمنع نفسي ..ها أنذا أقصده ..جيب أن أعرتف أنين ال
أثق يف غريه..
دخلت املكتبة ..سحابة من الكآبة تغشي رفوفها ..وحدها األوراق
تعزف مواهلا احلزين ..تتدثر الغبار ..كم رجوته أن يغري املهنة ..كم قلت له:
هؤالء الناس يلهثون خلف ما ميأل بطونهم ..ال ما ميأل عقوهلم ..حول
مكتبتك إىل حمل لبيع املواد الغذائية وسرتى كيف تتغري حالتك ..أو أخرج
من هذه األرض امللعونة..
وكم يفلقين حني ميعن يف بنظرات فيها سخرية وشفقة قائال لي:
-أنا هكذا مسرتيح وسعيد ياعبدالرحيم ..ليس لنا صدر أحن
علينا من اجلزائر..
مل يأبه بي ..كان يغرس رأسه يف كتاب يقرأه ..لست أدري هل انتبه
حلضوري أم ال ..وضعت يدي اليمنى على صفحات الكتاب فتوقف عن
القراءة ..وأدركت من انتباهه املفاجئ أنه مل يتفطن حلضوري أصال ..حياني
وهو يدلك عينيه بإصبعيه وعاد يتأمل الكتاب ..استندت احملسب الئذا
بالصمت ..راجيا أن ال يتفلسف كثريا فيندفع يف احلديث عما قرأ..
ويتشعب به احلديث فيلقي علي حماضرة كاملة
وكان ما توقعت ..إذ ما إن استقر بي املقام حتى راح كالعادة حيدثين عما
قرأ ووجد مين معارضا عنيدا حني بادرت بالقول:
-يا منري متى تفطن حلالك؟ الناس يعيشون الواقع وأنت حتلم حبياة
وسط األوراق ..حدثين عن الواقع ..الواقع الذي حتول هذه األيام إىل غول
يلتهمنا مجيعا ..يلتهم جيال بأكمله ..أال تسأل أنت نفسك؟ ملاذا وجدنا يف
هذا الكون؟ متى نعلن فحولتنا؟ متى حنصد ابتسامات أطفالنا؟ هذا حلم
66
أحب أن أعيشه فمتى حيصل ذلك؟
وعلى غري عادتي اندفعت يف الشرح والتحليل حد الثرثرة ومل ينطق
هو متاما ..كان يستمع إلي بإمعان شديد
حدثته عن رغبيت امللحة يف أن أعرب البحر ..ال بد أن أسافر إىل فرنسا..
جنة األرض هي فرنسا ..فرنسا وحدها قادرة على أن متسح أحزاني
وفقري ..جيب أن أسافر وهناك جيب أن أتزوج فرنسية تسوي لي وضعييت
وأستقر هناك إىل األبد..
ماذا استفدت أنا هنا..؟ إنين أجف كل حلظة ..ما أصعب على اإلنسان
أن يتأمل نفسه ميوت عضوا فعضوا ..أن يصفر ورقة ورقة ..وغصنا غصنا..
ثم يتهاوى شجرة خاوية ..تعرس فيها الديدان بدل الشحارير ..تزعرد فيها
القتامة بدل اإلشراق
لقد أعدت له هذا الكالم ألف مرة وأنا أعرف موقفه منه ..ولعله اآلن
ينظر إلي بكثري من االحتقار أو رمبا الشفقة ..لكين أعرف أيضا أنه مبعارفه
هو الوحيد حبل جناتي ..هو وحده القادر على أن يعبد لي الطريق لبلوغ
أربي وحتقيق حلمي
ودون أن يعلِّ َق فتحَ الكِتاب وراح يقرأ علي بعض املقاطع أحاطها
بدوائر رمسها بقلم الرصاص ..وكأنه قد حضرها خصيصا ليجيبين عما
حيريني
" ..لقد مجعنا إىل أمالك الدولة أمالك املؤسسات اخلريية ..واستولينا
على املمتلكات اخلاصة ..وأكرهنا مالكيها على دفع نفقات هدم منازهلم..
بل ونفقات هدم جامع من اجلوامع ..وقد دنسنا املعابد واملقابر ..وانتهكنا
حرمة املنازل ..ذحبنا سكانا بأكملهم" ..
67
" ..انطلقت سبعة أرتال من مليانا وشرشال ..كان عليها أن تدمر
البالد ..وأن ختطف أكرب عدد ممكن من القطعان والنساء واألطفال"..
" ..لقد كنا حنتفظ ببعض النساء رهائن ..ونبادل البعض باخليول..
والباقي يباع يف املزاد كالبهائم "
" ..صحيح أننا جلبنا معنا برميال طافحا بآذان مصلومة اثنني اثنني من
آذان األسرى" ..
"..لقد اغتصبنا أرضهم ..يبقى علينا أن نغتصب سواعدهم ..فالعمل
الشاق هو نتيجة طبيعية الحتاللنا البالد"..
يف عينني فيهما كثري من الغضب وقال:
طوى الكتاب ..ورفع َّ
-هؤالء كما يسميهم الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي...................
هل ترغب يف أن تذهب إىل...........................؟ هاك اقرأ كتابه وستعرف
حقيقة ...............وما فعلته جيوشه باسم احلضارة هنا يف اجلزائر.
مل يكن الكالم الذي تاله علي جديدا ..لقد مسعته منه أو على األقل
مسعت مثله ..ورمبا أيدته يف بعض ما يذهب إليه ..وأسرتنا هي خري مثال
على ما ذكر ..لقد قدمت ضحايا ليس هلم ذنب إال أنهم طلبوا احلرية هلذه
األرض ..وهو يعرف أنين حني أريد أن أذهب إىل.......................فما أنا ذاهب
حبا فيه ..ال على اإلطالق لكن ..لو وجدنا اخلري هاهنا ما تركنا بالدنا..
اآلالف من املثقفني واملبدعني والعلماء فروا إىل هناك ..هنا تكوَّنوا وهناك
فجروا طاقاتهم ..أعلم أن ذلك جار يف كل الدول املفلسة اليت يتفرعن فيها
احلكام الشرسون ..ينفرون الطبقة املستنرية حتى ال تتحول هلم كابوسا
مزعجا..
عشرات الشركات واملصانع فُلِّست وأُغلقت أبوابها وطرد عماهلا
68
حتت أعذار واهية لتباع بأمثان رمزية ويتحول عماهلا إىل جيش من
البطالني يف الشوارع.
نظرت فيه ..تأملت شعريات بيضاء تألألت يف سواد شعره ..مل يهتم بي
بل غرس رأسه من جديد يف الكتاب واستمر يف القراءة ..تركته على حاله
وسرحت ببصري إىل الشارع ..وأنا أحدث نفسي لو عادت فرنسا حللت
كل مشكالتنا ومسعت والدي يصرخ يف أذني
-عليكم اللعنة ياجيل املنهزمني ..تعجزون عن تغري واقعكم
فتحتمون بأعدائكم
سددت أذني بيدي ونظرت حولي ..كنت قريبا من املقهى ..وحده النادل
جيلس يف تكاسل على إحدى الكراسي بني النوم واليقظة ..وزوابع الغبار
متارس حوله رقصها املسعور..
ما أحقر اإلنسان الغربي املتوحش الذي داس كرامة اإلنسان ومازال..
يف اجلزائر ..أمريكا ..إفريقيا ..فلسطني ..لكن هل يالم املكيافيليون على ما
يفعلون؟ أم نالم حنن الذين حتولنا إىل نعاج أكثر ما حنسن الثغاء.
5
كان عبدالرحيم يستمع إلي وأنا أصب عليه أطنانا من اللوم لقد كنت
أعتربه دوما عدة البيت ألنه رجل البيت ووارث إمارتها ..ال هو جنح يف
دراسته كأترابه ..وال هو عمل فأزال الغنب عين وعن أختيه وأمه ..وال هو
تزوج فأفرح اجلميع وفتح بابا لألحفاد.
حني ختمت كالمي اجلارح اتكأ على قبضتيه وقام بصعوبة من فوق
الرتاب حيث كان يقتعد متكئا على جدار وانصرف ..رميته برصاصات من
فمي:
69
-النار تلد الرماد
وعاد عبدالرحيم إلي كما مل يعد من قبل ..مل يشأ هذه املرة أن يسكت
كما تعود لقد انفجر يف وجهي صارخا
-وماذا فعلت أنت لنا؟ أترابك واألقل منك سنا ينعمون اآلن هم
وأوالدهم بالرفاهية ..فماذا فعلت لنا؟ ضيعت سبع سنوات يف الثورة
التحريرية ..بطنك كلها خمروقة ..رجلك عرجاء ..مل جترؤ حتى على تقديم
ملف واملطالبة حبقك يف الوقت الذي ينعم فيه العمالء خبريات البالد
بفضل وثائق مزورة ..ويسكنون قلب املدينة وعمقها ..يف أحيائها الراقية..
وأنت مازلت تسكن بنا أحياءها الشعبية على األطراف ..كالذئاب
املتوحشة.
مل أحرك شفيت ..ومل أنطق بكلمة واحدة ..أحسست بالرصاصات
تدوي يف ساقي وبطين ..والدم األمحر القاني يغرقين ..وسحابة املوت
تدهمين ..وأنا أ زحف بني جثث رفاقي الشهداء مبتعدا عنهم خطوات..
ثم أغرق يف إغماءة تامة..
نظرت يف وجه ابين عبد الرحيم كان أمسر اللون حنيال ال يغطي وجهه
إال جلد اليكاد يسرت عظامه ..عيناه تدوران كما الربكان ..صحيح ما قال..
كان علي أن أموت حني مات رفاقي يف الثورة ..حني مات الرجال الكبار..
لقد خلقت من أجل أن أضحي فقط أما أن أغنم فهذه مل أعرفها ..كنا
نذهب إىل املعركة الهدف لنا إال املوت وصرنا خلقا آخر ..ال جنتمع إال
لنأخذ..
واشتد قلقي وأنا أتذكر أن ابين دون عمل وهو يف السابعة والعشرين
من عمره ولعله يفكر يف الزواج ..وأتذكر اجلازيه ..والوفية عرجونه وقد
70
أنهكها املرض وأتعبتها النكبات ..وال يعيل هؤالء مجيعا إال ما تأخذه
اجلازيه مقابل عملها يف املشفى ممرضة.
وانصرف أبي داخال إىل البيت ومل أشأ أن أحلق به ..كانت هواجس
متعددة تتصارع داخلي ..نريان شديدة تضطرم متأججة تلتهم بوحشية
أحشائي ..حتى أنا على درب أبي ..هناك من مل يرتك هلم آباؤهم غري اليتم
لكنهم استطاعوا تغيري واقعهم املزري ..أهم أحسن مين..؟ ملاذا أعود دائما
بالالئمة على هذا الشيخ الذي تعاورته سهام احلياة من كل جانب؟ ال بد
أن أجد عمال ..واندفعت أهبط املدينة غري مبال بالسيد معرفة الذي كان
يئن حتت ثقل حمفظته السوداء..
6
وضعت قدمي على عتبة محام الصاحلني أهم أن أجله ..ثم مافتئت أن
تراجعت ناكصا على عقيب ..ثم عدت تضطرب قدماي كما تضطرب
نفسي يف مهب اهلواجس العاتية ..كان القرار صعبا جدا ..خطوة أقطع بها
العتبة تقرر مصريي ..لقد تعودت أن أدخل احلمام ..وتعودت أن أغتسل
فيه لكن اهلاجس الذي أمحله هذه املرة غري كل شيء يف نفسي..
ألقيت التحية على اجلميع ..وجلست صامتا قرب إبراهيم جحا بائع
الشاي بالنعناع داخل قاعة االسرتاحة باحلمام ..بعض الناس كان نائما
وبعضهم كان صامتا ترتفع ضحكاتهم من حني آلخر وهم يستمعون
حلكايات ونكت إبراهيم اليت ال تنتهي ..هذا الرجل الذي أقام حياته على
فلسفة بسيطة مفادها أن احلياة تافهة فاجعلها ابتسامة وامض.
لكين مل أكن ألهتم بذلك رغم أن بصري كان ميسح كل الزوايا..
صفعين إبراهيم على قفاي وقال:
71
-الدنيا فانية والدجاج ميوت ..ال حتمل هما مثلي يا عبدالرحيم
وحني مل تتغري مالحمي غري إبراهيم جمرى احلديث
-ال بأس سأقص عليكم قصة طريفة ..خذ هذا الشاي اشربه
ياعبدالرحيم إنه هدية من عندي
أمسكت الكأس فارتفعت رائحتها الزكية تدغدغ شهييت لكين
وضعت الكأس بني قدمي وسكت أنصت ..قال إبراهيم جحا:
-حيكى أن ذبابة سافرت خمتفية من بلدنا يف جيب مهاجر إىل بالد
اإلفرنج ..وملا وصلت حتررت ..وراحت تطوف بالشوارع إىل أن أعجبها
بيت ليس فيه إال عجوز فاختارته مسكنا هلا ..ومل تشأ أن تسرتيح يف تلك
اللحظة بل راحت تتفقد كل شيء باندهاش ..حتط على املربيات
واملرطبات واحللويات يف حبور ومرح ..وأحست هذه العجوز مبخلوق
مزعج قد دخل الدار وماكادت ترى الذبابة وقد نسيت امسها ألنهم
ختلصوا من الذباب منذ قرن حتى محلت مبيد احلشرات وراحت ترشها
وترشها وترشها حتى أكملت القارورة ..مل تسقط الذبابة بل كانت ترفع
إبطها قائلة :إيـه ما أحاله من عطر زكي! كانت تعتقد أنه عطر
وماكان من العجوز إال أن اتصلت بالشرطة واملطافئ وحني وصلوا مل
جيدوا إال الذبابة حتوم يف الفضاء ..أما العجوز فرمحة اهلل عليها.
وانفجر اجلميع ضاحكني لكين مل أضحك ..بل قذفت بالشاي يف جويف
ونهضت قاصدا صاحب احلمام ..وأسررت إليه أني أريد أن أعمل دالكا..
ابتسم صاحب احلمام وقال:
-احلمام محامك ..تفضل
وأسرعت أنزع ثيابي وألبس تبان احلمام وأدخل كاحبا الرفض الذي
72
كان يتأجج داخلي مرددا قول منري :العمل شرف وكرامة وال يقاس بنوعه
وشكله بل حبقيقته..
كانت قاعة االستحمام حارة جدا ..وكان البخار يكاد حيجب الرؤية..
جلست يف الركن أنتظر أوامر الزبائن ..فجأة ارتفع صوت أحدهم طالبا
دالكا ..وهرعت إليه ملبيا ..كان الزبون طويال عريضا متشحما كجثة فيل
ينبطح على بطنه ..حاولت أن أتعرف عليه لكين مل أستطع قلت بصوت
فيه شيء من الرتدد:
-أنت جاهز؟ هل تَعَرَّقْت؟
رد الزبون بنربة متعالية
-وملاذا دعوتك؟
قلت:
-اعتدل جيدا ..وحيسن بك أن جتلس
قال الزبون وقد تعالت نربته:
-أتريد أن تعلمين كيف اغتسل؟ دعين كما أنا وادلكين
ومل أزد كلمة واحدة ..ورحت أباشر عملي بإتقان وأنا أقول يف نفسي:
مم يسمن هؤالء فينقلبون خنازير؟ وكم كيلو يأكلون بني اليوم والليلة؟
ومد الزبون ذراعيه ..بكل منهما وشم كبري لثعبان ضخم رأسه ينام على
ظاهر اليد ..وملعت أمامي األصابع املذهبة وقد زينتها أربعة خوامت كبرية..
ودار يف خلدي لو أقدر على قطعها مجيعا ..البعض يضع كيلو ذهب زينة
والبعض ال جيد طعام يومه ..أين الشعارات اجلوفاء اليت مللنا مساعها
سنوات طويلة؟ ملاذا يرمتي عْزَيَّزْ ربيب العجوز عكة واخلري بلعوط يف
أحضان العربدة هروبا من الفقر وملاذا يشقى إبراهيم جحا واملفتش السيد
73
معرفة العمر كله لتوفري لقمة متأل البطن وثوب يسرت البدن وميلك خنزير
مثل هذا أطنانا من دماء الناس؟ أية عدالة يف أن تتخم األقلية وتعجز
األغلبية عن توفري قرب للحياة متارس فيه احلب وتزرع فيه أزهارا
للمستقبل؟ ألسنا بلد البرتول؟
وداهمين دوار شديد ..أحسست معه مبوج القيء يهدر يف شغاف
القلب ..لقد عرفت الزبون ..وتذكرت كل القصص اليت رواها عنه
والدي وعن عائلته ..وداهمتين رائحة قذرة ..وندمت على أني مل أعرفه
أوال قبل أن أدلكه ..ودار الزبون فانبطح على ظهره فظهرت الدهشة على
حمياه
-هذا أنت عبدالرحيم..؟ ادلكين جيدا ال ترتك ذرة غبار واحدة ..هل
تعرف أن هذا الغبار الذي يلتصق بنا يأتينا من أحيائكم الفقرية؟ جيب أن
نطالب الدولة بنصب سور بيننا وبينكم ..ذكر لي قاض يسكن جبواري أن
هذا النظام كان معموال به قدميا عند الرَّمَّان ..هم شعب متقدم إنهم أجداد
األوربيني اليوم ..انظر إىل حضارتهم
وأكملت عملي فقمت وصببت املاء على جسدي دفعة واحدة
واندفعت خارجا ..لكن امْحَمَّدْ استوقفين وأعادني طالبا مين أن أكمل
عملي ..وملا أكدت أني أكملت كل شيء أظهر لي مذاكريه وهو يقول:
-وهذه؟ لن تنال دينارا واحدا إال إذا غسلتها
واسودت الدنيا يف وجهي فرميت الدالكة يف وجهه مشفوعة بأطنان
من الشتائم والسباب وخرجت مغاضبا ال أكاد أرى شيئا وصوت أبي
يرتدد يف مسعي ..امْحَمَّدْ ملا كان يف سنك كان مفلسا العمل له وكان كلما
عاد إىل البيت يف املساء من سهرات القمار كانت أمه تردد له:
74
-يا امْحَمَّدْ يا امْلَمَّدْ يا اشْكالْ الدَّابَهْ ..ما تسْرحْ ما تْرَوَحْ ..ما تْجِيبْ
الفايْدَه
يف الطريق إىل البيت مررت مبقهى اجلزوة القريبة من دارنا ..مسعت
منريا يناديين ..عرجت على املقهى على مضض ..سلمت عليه وجلست
معه دون أن أنطق قال منري:
-أعرف أنك حتمل هما كبريا ..ال بأس ال يتسع األمر إال إذا ضاق..
وإن بعد العسر يسرا
ورفضت هذا املنطق فرددت عليه.
-العكس متاما ال يضيق األمر إال زاد ضيقا وليس بعد العسر إال
العسر
ثم رحت أحدثه وهو يرتشف فنجان القهوة عما وقع لي هذا النهار..
وعدت باللوم على نفسي أن مل أكمل دراسيت وقد كنت أجنب طالب
اإلعدادية ..وحني هممت باالنصراف قال منري:
-اجلس اقرتح عليك عمال علك تقبله
وجلست متلهفا مستعدا ..وحني أخربني أنه يقدر على إدخالي صف
الشرطة اهتززت فرحا لكين تراجعت فجمدت يف كرسي وأنا أقول حبسرة:
-ولكن هل يقبلونين؟ وإال كنت انتقمت من أبناء الفاعالت
التاركات..
قال منري حمذرا:
-هذه مهنة شريفة ال تستعمل لالنتقام بل لعمل اخلري وحماربة
األشرار أعداء الوطن ..فكر الليلة جيدا فإذا استقر أمرك على شيء فأنبئين
غدا ..رئيس الشرطة صديق قديم حيب فعل اخلري وسنذهب إليه سويا.
75
مل أعرف كيف قلعت نفسي من مكاني وقد ذهب عين القلق
فانطلقت عائدا وأنا أقول:
-واهلل يا امْحَمَّدْ يا ا ْملَمَّدْ ألقعدنك على قارورة زجاجية مكسرة
الفم ..ياامْحَمَّ ْد يا ا ْملَمَّ ْد يا اشكال الدابة.
7
خرجت من احلمام كانت نفسي رائقة وجسمي خفيفا والدنيا بذوق
العسل ..عدلت من ربطة عنقي ..سويت نظارتي ..أوالد الكلب
سأشرتيكم مجيعا مبالي ..الكل حتت جربوتي ..أنتم وهذا الوطن الذي
ضحيتم من أجله ..وهؤالء املسؤولون الذين تهتفون هلم يف الصباح
واملساء كالكالب ..فرقعت أصابعي ..حاولت إدارة اخلوامت الذهبية
اللماعة ..مل أستطع ..ضاقت هذه األيام على أصابعي ..مررت راحة يدي
اليمنى فاليسرى على بطين ..انتفخت أكثر مما جيب ..ال بأس ما دام الناس
هذه األيام يهابون الكروش املنتفخة ..ومادام القميص احلريري يسرتها.
ركبت سيارتي الطيارة ..اليخت ..كما تسميها خليليت سوسن غصت
يف املقعد اجللدي ..أدرت زر املسجل ..انطلق صوت الشاب خالد
أنا املَهْبولْ
وانا شرَّاب لَالْكولْ
سَرْبي سربي والليله نْعَمَّ ْر راسي
أنا املَرْيُول
واللي بْالتْين وَشْكُون
َعمّر عمَّر
والليله نْخَرَّج قليب
76
أدرت احملرك مل أكد امسع صوته وانطلقت على اإلسفلت كأني أطري
على بساط الريح.
يف طريقي مل أكن أرى الناس أمامي ..وما كنت أحب أن أراهم ..خييل
إلي أن أياد تلوح بالتحية بني حني وآخر لكين ما كنت آبه بهم ..أوالد
الكلب كلما أمعنت يف إذالهلم ازدادوا لي خنوعا ..جوع كلبك يتبعك..
أين أذهب؟ راحت السيارة وحدها تشق الطرقات تدور وتعود لتدور على
غري هدى كان بودي أن أزور املعمل ألتفقد األشغال هناك ثم أحجمت ..مل
يبق متسع من الوقت وكمال املشرف على األعمال سيقوم مبا جيب..
أحسست أني حباجة إىل نشوة أكرب ..اشتقت إىل اخلمرة ..تذكرت أنها
نفدت من الثالجة البارحة ..وجهت السيارة صوب املركز على ضفة
املدينة ..مل يكن يسمح ببيع اخلمر عالنية يف هذه املدينة ولكن يرتك
لبائعيها احلبل على الغارب فيبيعونها خارج القانون ..وهو خري هلم ألن يف
ذلك متلصا من الضرائب..
دنت السيارة ..انعرجت ..دخلت بني أشجار وارفة ظليلة ..كان املكان
رائقا ..كثرية هي السيارات الفخمة ..جثمت هنا وهناك ..عرفت سيارة
شيخ البلدية ..آه يا ولد الكلب ال حتسن حتى كتابة الواو األعور وتقود
أمة كاملة ..آ أقصد غمة كاملة ..ال عليك ..اعنت بالكرسي الدوار جيدا هو
لي الدور القادم
توقفت ..صاح فيهم بوق سيارتي ..التف الغلمان حولي ..أطلت
رؤوسهم من الزجاج
-أمرك سيدنا امْحَمَّدْ
هكذا نطقوا دفعة واحدة وسكتوا مبحلقني دفعة واحدة ..ابتسمت
77
مزهوا وأنا أقول كالعادة
-يا أمحرة
وبصوت واحد قالوا
-حاضر موالنا شبيك لبيك كل ما تطلب بني يديك
ورفعوا أيديهم بست زجاجات من الشامبانيا ..وضعوها معجرة يف
صندوق السيارة ..قبضوا مثنها ..وأعطيتهم مثن زجاجة:
-قدموها لشيخ البلدية اجليفة املنجوس
ثم أخرجت حفنة من القطع النقدية ورميتها عليهم عرب النافذتني..
ومجحت بي السيارة فانطلقت تاركة وراءها غبارا مركوما ..راحوا
يتصارعون كالوحوش أيهم يظفر بأكرب حصة ..كم كان هذا املوقف ميألني
سرورا وابتهاجا فأضحك من أعماقي.
وجدت نفسي أسوق السيارة باجتاه ضاحية املدينة حيث يسكن الشيخ
صاحل عندي معه حساب طويل جتب تصفيته ..لن أنسى أبدا ما فعله بوالدي
أثناء الثورة حني اختطفه مع بعض اجملاهدين وجاءوا به مكبال إىل بيته
وحاكموه يف الليل ..وعلمت باألمر فقصدتهم صباحا وجدتهم قد رحلوا به..
عرفت أن الفأس قد وقعت يف الرأس ..اجتهت ألبناء عمومته وقلت مهددا:
-إن وقع ألبي مكروه آلتينكم جبيوش فرنسا اجلرارة ..وألهدمن
عليكم أكواخكم القذرة..
ورحلت دون أن ينطقوا ..ماكادت الشمس تتوسط كبد السماء حتى
وجدت أبي يف الوادي جثة هامدة ..لقد ذحبوه كاخلروف وقد جتمد الدم فوق
ثيابه ووجهه وفوق الرتاب..
يف املساء كانت جيوش فرنسا اجلرارة متأل القرية بأسرها مدعمة
78
باألسلحة والكالب ..وكانت الفاجعة كابوسا رهيبا أشفى غليلي ..قتلوا
ابين عمه شر قتلة ..عذبوهما تعذيبا منكرا وحني صمما على الصمت
قتلوهما رميا بالرصاص.
ومازال هو غصة يف القلب ..البد أن يدفع الثمن ..وكيف يدفعه؟
بإزهاق روحه أم باملوت البطيء؟
مل تشأ صورة جثة أبي أن متحى من شاشة ذاكرتي ..بل كانت تتضاعف
يف كل حلظة ..وترتكز فوق الرقبة بالذات ..كانت القصبة اهلوائية واألوداج
مقطوعة ..عظام الفقرات واضحة للعيان ..النجيع املتجمد كقطع الكبد
يغطي كل شيء ..لقد ختبط فيه بوجهه حتى تعفر بالرتاب رغم أنه كان
مربوطا بسلك حديدي ..وكان لسانه قد خرج من فمه كلية..
أفزعتين الصورة ..غطيت عيين بيدي فكيف أغطي ذاكرتي اجلرحية ..مل
أفطن إىل نفسي ..رحت أضرب على املقود وعلى الباب وعلى صدري..
لكم الويل مين أيها الكالب ..حقدي ال متحوه إال دما ُؤكم
وأخرجين من كابوسي املرعب وذكرياتي املؤملة وصولي إىل البيت..
أوقفت السيارة ..كنت أعتقد أنين سأجد عبدالرحيم فأزيد يف إذالله..
مبجرد أن فتحت النافذة لفحتين نسمات حارة مفعمة بالروائح الكريهة
العفنة املنبعثة من انفجار قنوات القاذورات ..وداهمتين زوبعة ترابية
أثارتها أقدام الصبية احلافية العارية.
أعدت غلق الزجاج ورفعت صوت البوق حد اإلزعاج ..خرج صاحل من
مغارته كالشبح وقد اشتد سواده وتألألت عيناه كأن إسهاال داهمه عاما
كامال ..كأمنا عرفين فاندفع يفتح الباب لريكب ..كان الباب موصدا من
الداخل ..مل أشأ أن أفتحه له وأشرت إليه أن يأتيين من الباب اآلخر..
79
وفعال جاء ..كنت أريده أن يبقى واقفا ليحدثين من خالل النافذة.
انعطفت إىل الباب الثاني ..نزل الزجاج على مهل ..اندفعت من
السيارة الفاخرة نسمات هواء باردة ..رأيته أشبه خبنزير أليف ..قلت يف
نفسي :أبطرتك النعمة يا ولد الكلب ..يا ولد احلركي ..مات الرجال
مقدمني أرواحهم فداء للوطن لتنعم أنت خبرياته ..ماذا بقي لصاحل كي
خياف عليه؟ وهل سأعيش أكثر مما عشت؟ طز يف الدنيا وما فيها ..كل
مافيها ال يساوي قالمة ظفر من كراميت ..مل أشأ أن أحنين وال أن ألوث يدي
مبصافحته ..وهممت بأن أعود لكنه بادرني:
-مالك ياصاحل ال ترحب بضيوفك أم تراني ضيفا ثقيال؟
رددت عليه
-أنت تعرف مكانتك عندي
ونزل خلفي يتبعين كالكلب
-ال بأس إذا كنت تصر على أن ننزل لنشرب عندك القهوة فإنين ال
أمانع ولكن اعذرني جئتك فارغ اليدين
قلت وأنا أسند ظهري للجدار
-حنن ال نعطي قهوتنا لكل من هب ودب فازرع ينبت ياامْحَمَّ ْد
ا ْم َلمْدْ
وحملته يتلمظ مرارة كلماتي وهو يقول:
-املاضي ماضي ياالشيخ صاحل ..والذي فات مات ..جيب أن نفتح
صفحة جديدة بيضاء ناصعة ال نكتبها إال بالذهب اخلالص
ابتسمت باستهزاء وقلت
-وهل تركت يف الدفرت ورقة واحدة بيضاء بريئة؟
80
وسكت حلظات كأمنا مل حير جوابا ..كأمنا صدمته بأجوبيت اليت مل يكن
يتوقعها ..كان يظن أني سأهلث كالكلب أمامه مرحبا طمعا يف ماله كما
تلهث الكالب األخرى حواليه.
أيها الغراب األمحق مازلت يف عنادك إىل اليوم ..جيب أن تسقط كما سقط
أمثالك من الذين أشبعونا حبا للوطن ..وحبا للثورة ..املال يضحك املوتى..
لكن من أين أبدأ له احلديث ؟ أحسست كأنه سور حصني يصعب اخرتاقه..
عجيب تيس أسود حنيف كهذا خييفين! مجعت كل قوتي وقلت:
-ياصاحل جئتك يف أمر مهم
قال دون مباالة
-هات طلبك وخلصين ..ورائي ما يشغلين
عاودت مجع شجاعيت وقلت:
-أنت فقري
قاطعين بعناد
-ولكنين شريف ..مل أمد يدي ألحد ..ومل أمجع شيئا من حرام ..وأنا
سعيد بذلك
أدركت أنه يقصدني مباشرة ..البأس أيها األفعى السوداء مسك ال
يضرني ..ولكين حني أعضك سأقتلك ..سأشفي غليلي ..وستطمئن روح
والدي يف قربه.
رفعت فيه بصري ..أحسست باالختناق ..الروائح النتنة ..اهلواء
الساخن املغرب ..أصوات الصبية كالشياطني يندفعون حفاة شبه عراة
صاعدين هابطني خلف بعضهم البعض ..أردت أن أصرف األمر عما
جئت من أجله غري أني رأيت أن ذلك سيعد ضعفا شديدا مين حيسب
81
علي ..عاودت ضبط أعصابي وقلت دفعة واحدة وأنا أحس باخلوف
الشديد منه:
-أريد أن أتزوج على سنة اهلل ورسوله.
سخرت يف أعماقي ..هؤالء الكالب هم الذين يستغلون الدين خلدمة
أغراضهم الدنيئة ..هذا النجس يعرف سنة اهلل ورسوله؟ ! متزوج من
اثنتني ..وطلق اثنتني ويعيش مع عشرات العاشقات والعاهرات ..ثم
يتحدث عن سنة اهلل ورسوله ..التفت إليه وقد أحسست حبقارته أمامي
-وما دخلي أنا يف األمر ..تزوج أو طلق ال شأن لي
مل يدعين أكمل حديثي حتى قاطعين بسرعة
-أريد أن أخطب ابنتك اجلازيه
جحظت عيناي دهشا وقلت وأنا أمتيز من الغيظ
-جنوم السماء أقرب إليك أيها النجس
ودخلت الدار فصفقت الباب غضبا ..ومسعته ينبح كالكلب
-واهلل آلخذنها أو ألقتلنكم مجيعا أيها األنذال.
أحسست باإلهانة خنجرا صدئا مسموما يتغلغل بصعوبة يف كبدي..
هرعت إىل السيارة وأنا أبصق يف كل االجتاهات
فتحت الباب ..ارمتيت وأغلقته عجال ..مددت يدي إىل رقبيت ..خففت
من ضغط ربطة العنق ..تنفست عميقا وانطلقت مبتعدا وأنا أصيح
-واهلل آلخذنها مهما كلفين األمر ولو خسرت كل مالي ..ثم ألجعلن
منها كلبا قذرا يف بييت.
8
وصلت إىل البيت وأنا أردد بصوت مسموع :يا امْحَمَّ ْد ياا ْملَمَّ ْد يااشْكالْ
82
الدابة ..دخلت البيت وجدت وجه أبي عبوسا قمطريرا ..رمى بستائر
همومه على وجهي فابتلع كل فرحة لدي ..وقفت مشدوها ..ما رأيت أبي
يف مثل هذه احلالة منذ عرفته على كثرة السهام اليت تعاورته ..أحزان تلتها
جراح ..تلتها أتراح ..تلتها أقراح ..فندوب غائرة ..لكين ألول مرة أرى وجهه
يتسربل هذه املالءة ..اللهم سرتك..
درت ببصري ذات اليمني وذات الشمال أتطلع إىل األبواب واجلدران
عليَّ أشتم احلقيقة ..كل شيء كان دون رائحة ..تسللت عيناي هاهنا
وهاهنا مل أحلظ شيئا ..هل وقع مكروه لوالدتي وقد تركتها مريضة؟ لست
أدري ..بل ال أعتقد فهذا الوجه اجلامد أمامي ال خيفي هذا األمر ..تفرست
فيه كأمنا أستفزه لينطق ..لكنه مل يفعل ..مازال يقف أمامي كهوفا عجيبة مل
تُكتشف بعد ..أدغاال كثيفة مل تطأها قدم إنسان ..كأمنا انقطع نفسُه متاما..
غادر احلياة وبقي هيكله منتصبا كهيكل سليمان ..عيناه وحدهما كانتا
تنطان كنغرين يلمعان يف الظالم فارَّين يف غري هدى ..وبدأت أحس أن
جسدي كله يغشاه اخلدر الشديد ..كأمنا مغنطين بنظراته ..وأدخلين يف جماله..
ففقدت حرييت وصرت ذرة تدور يف فلكه.
اقرتبت منه خطوة واحدة ..تنحنحت أللفت انتباهه إلي ..قلت متلعثما
وقد جف ريقي متاما..
ت انتهى عصر املذلة..
-ابشر أب ِ
رفع يف عينني مشتعلتني ..خيل إلي أنه حيمل رأس بومة تنتصب يف
الظالم احلالك ..توهجت العينان وفيهما حرية كبرية ..رددت وقد ارتسمت
على مالمح وجهي ابتسامة صفراء باردة:
-يا امْحَمَّدْ يا ا ْملَمَّدْ يا اشكال الدابة ما ترعى ما تسعى ماتكسب
83
فايده
وبدأ صوتي خيفت شيئا فشيئا حتى كدت ال أمسع الكلمات األخرية
وأنا أنطق بها ..لقد زاد الرجل اسودادا وحالكة وتشظى علي فجأة:
-لو نظر البعري حلدبته النقطعت رقبته
مل أفهم ملاذا ضرب هذا املثل ..هل يعريني أنا بدله؟ وأردت أن أقول
شيئا فأرعد يفَّ:
-لقد كان عندي اللحظة مزهوا مباله ..لقد بال على كراميت ألف
مرة ..العميل ابن العميل ..باألمس ذحبت أباه مرة واحدة ..وهاهو اليوم
يذحبين ألف مرة ..لعنة اهلل على حرية يذل فيها صانعوها ..ويعز فيها
أعداؤها ..لو كنا نعرف أن هذا سيقع ماوضعنا السالح ..البطل ختدعه
الثقة ..والثورة قطة تأكل أبناءها.
ومل يدعين ليواصل
-سأقتله ..وماذا عندي أنا كي أخاف عليه؟ قبلت بكل شيء إال أن
تداس كراميت ..منذ حلظات كان هنا ..تعرف ملاذا؟ يطلب يد اجلازيه ابنة عدوه..
بينهما ثالثون سنة ..أقطعها وأرميها للكالب بدل أن يطأها ذلك اخلصي.
أطلت والدتي عرب النافذة كأنها جثة قبضت روحها الساعة ..كل شيء
فيها باهت إال آثار الوشم الذي ازدادت خضرته حد السواد ..حتاملت
على نفسها وقالت:
-وأنت ال متلك إال أن حترتق غضبا من تفاهات رجل هزمته أثناء
الثورة مرة واحدة وهزمك بعدها ألف مرة .
ومل أفطن حتى وجدت والدي ينزع يف ملح البصر حذاءه ويرميه يف
وجهها ويرميها من بعده بأطنان من السباب والشتائم ..وهي طبيعة أبي..
84
حني يغضب يتربكن فيلفظ محما حارقة.
وأسرعت إىل النافذة أقف سدا دون محاقاته ..مل تنطق أمي بل جلست
على السرير الصغري تلهث إعياء ..هي مصابة بداء يف رأسها والبد هلا من
عملية جراحية ستكلفنا غاليا ..املهم أن الفحوص مل تنته بعد وما زال
األطباء مل يقرروا شيئا ..وتسمر املشهد على ماهو عليه ..كنا مجيعا سكوتا
إال من أنفاسنا اليت راحت تصَّاعد وتهَّابط..
دخل منري فجأة كأمنا هبط علينا من السماء ..مل يطل التحديق فينا وقال
باستغراب ظاهر
-خريا يا مجاعة ماذا وقع يا عمي صاحل؟
اسرتجع أبي أنفاسه كأمنا عاد من عامل الغيب وقال:
-عمك صاحل ليس خبري يا وليدي منري ..احلياة غدت أمامي دون
طعم ..أصبحنا حني نرفض الذل يقال لنا أنتم تبالغون ..يريدون منا أن
ننزع هلم سراويلنا
وخشي منري أن يتمادى أبي أكثر من الالزم فيخلط احلابل بالنابل..
ويأتي بألفاظ قد تفرقنا ..فراح يضمه إىل صدره حبنان وهو يقول:
-أنت مؤمن ياعمي صاحل ..واهلل سيتغري احلال ..واهلل سيتغري ..جيب أن
نعيش على األمل وعلى احللم الوردي اجلميل ..آخر معقل يتحصن به
احملارب املنهزم هو األمل.
سكت حلظة كأمنا ينتظر من أبي رد فعل حتى إذا الحظ أن ثورته بدأت
ختمد واصل ليزيد جرعة التهدئة:
-أعرف أنك حتمل هم عبدالرحيم ..ال ختف ..لقد وجدت له عمال..
لقد كلمت السيد رئيس الشرطة وهو صديق محيم ورجل طيب ومثقف
85
وسيكون لعبدالرحيم املستقبل الزاهر.
كنت سعيدا بهذا الفتح وبهذه الكلمات اليت قاهلا منري ..وكنت أمتنى
أن يسكت ألمسع تعليق والدي ..وفعال سكت منري كأمنا كان يقصد
بالضبط ما كنت أقصد إليه ..ورحنا نقلب الطرف يف مالمح الوالد ..كان
خماضا رهيبا خيض أحشاءه ..لعق شفتيه اليابستني ..استغفر اهلل وجلس
على مقعد صغري كان هناك ..أخرج من جيبه كيس الربزيلي ..انتزع ورقة
بيضاء ..مألها ..لفها ..وضعها يف فمه ..أشعلها بنار ملتهبة وجذب نفسا
طويال ..طويال ..أمسكه حلظات ثم زفره فجأة كأمنا يزفر معه كل أحشائه..
كل همومه ..تأمل الدخينة بني أصابعه املعروقة ..مل يبق منها إال النصف..
جلس منري إىل جواره وبقيت أنا منتصب القامة كعمود اهلاتف اخلشيب..
أقلقين هذا الصمت الرهيب املفزع ونطق منري
-ماذا تقول يا عمي صاحل؟ مل نسمع رأيك بعد
تفل أبي شيئا من حملول التبغ امللتصق بشفتيه وقال:
-خري من ال شيء ..كنت أمتنى أن يتعلم ويتحصل على شهادة عليا
ثم يدخل اجليش أو الشرطة ليواصل نفس الدور الذي بدأته ..ولكن
ماعساه يفعل وهو شرطي بسيط ال حول له وال قوة؟ جمرد عبد مأمور.
هذا الكالم أعاده أبي علي ألف مرة ومرة ..وهو يعرف أنه باطل ال
ذنب لي فيه ..هو يعرف أنين كنت أحسن تلميذ يف املدرسة ويف
اإلعدادية ..وأن أترابي الذين يعلقون الشهادات العالية ويتصدرون
املناصب العليا ..كانوا يتطفلون علي يف االمتحانات ..ولكن الفقر كان
البتار الذي قصم ظهري ..الديناغول الذي ابتلع كل أحالمي وآمالي..
فلماذا يعيد علي والدي اسطوانته الكريهة كل مرة؟
86
مل ينطق منري ليلطف من اجلو كأمنا كان ينتظر مين أن أنطق وفعال
نطقت ويف نربتي شيء من الغضب احلذر
-يا والدي ملاذا تريدني أن أمسعك الشريط ألف مرة ومرة ..أنت
تعرف كل املالبسات اليت أحاطت بدراسيت ..ثم هاهو منري متخرج من
اجلامعة ماذا فعل بالشهادة اليت حيملها؟ ال يكاد يكسب قوت يومه ..وهاهو
امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ اشكال الدابة ال حيسن أن يرسم الواو األعور يعيش كامللك..
عصر املادة يا والدي قيمتك قدر مامتلك من مال ال ما متلك من علم وال من
خلق.
تغريت مالمح والدي وغدا وجهه أسود كظيما من سوء ما مسع ..فماذا
لو يعرف أنين قصدت احلمام ألعمل دالكا؟ وأنين وجدت امْحَمَّدْ اللعني؟
وأنه طلب مين أن أغسل مذاكريه؟ وأنين خرجت دون أن أنطق؟ لو علم
ذلك اآلن المتص دمي ..لكنين سأمتص دم امْحَمَّدْ ..سأجلسه على قارورة
مكسرة الفم.
وأراد منري أن يغري جمرى احلديث ويلطف من انفعال والدي فقال:
-ياعمي صاحل جيب أن نتعامل مع واقع ..مع شيء كائن ال مع ماكان..
جيب علينا أن نقاوم إىل آخر رمق من حياتنا ..فإذا ما متنا جيب أن منوت
واقفني ..كاألشجار جيب أن منوت واقفني ..لقد علمتين أن النسر حني يشعر
بنهايته يطري ..حيلق ..يرتفع يف السماء ويستمر حملقا حتى يصل إىل آخر نقطة
يستطيع ثم خيتار أعلى قمة ويهوي فوقها ليلقى حتفه.
سكتنا مجيعا ..قلت يف نفسي إيـه ياوليدي منري هذا النسر الذي كنت
تعرفه شاخ ..وهرم ..وتعاورته سهام احلياة ..وقصت الكالب جناحيه فبماذا
يطري؟ إنه ميوت يف جحره كالفأر.
87
4
قراصنة األحالم
1
دخان ونار يكادان ينبعثان من عجالت السيارة الفاخرة وهي تبتلع
الطريق غري آبهة مبن أمامها من اخللق والسيارات ..تصعق بشدة باصقة
على اجلميع يف غري مباالة ..دارت فجأة وسكنت حركتها فجأة كأمنا قُبضت
روحها..
نزلت وأنا أصفع الباب ..أعدو يف جنون ..أدخل بوابة املشفى ..مل أبال
باستفسار البواب وأنا أدوس كلَّ الكلمات اليت قاهلا ..دخلت ..عربت
الباب ..اجتهت مباشرة إىل قسم اإلنعاش ..مل يعرتضين أحد حتى وجدت
نفسي وجها لوجه معها.
كانت سيدة النساء مجيعا..
وسيدة احلسن واجلمال..
مسراء ..ممتلئة ..مفتولة القوام..
يف عينيها كربياء صاحل العلواني..
آه ..لو أحصل عليها ..لو أمتلكها..
انتبهت إليها فجأة ..أخرجتين من غيبوبيت ..نظراتها ترميين بشواظ من
نار وحقد ..انتبهت ..ارتعش جسدي كأن تيارا كهربائيا مسه..
-ما الذي جاء بك كالشيطان إىل هنا..
قلت وأنا أحس بالزمهرير يدهم كل عضو يف فأنكمش على نفسي:
88
-أعيد الشريط للمرة األلف ..أطلب دفئك يا روحي ..ياقليب..
يامبتغاي ..ياسيدتي.
زوت بني عينيها كأمنا تهم أن تطلق من فوهتيهما رصاصتني قاتلتني
وقالت:
-لقد حسمت يف األمر ألف مرة الطيبون للطيبات
وخشيت أن تكمل فتقول كما تعودت :وأنت خبيث ال تليق بك إال
خبيثة ..أو تقول كما تعودت :أما تستحي من شيبتك فتطلب يد ابنتك؟
فأسرعت قائال:
-احلب ياجازييت ال يعرف السن ..لقد قصدت أباك وفاحتته يف األمر.
ومل أكمل حديثي حتى قفَزت مذعورة وغلّقت دونها الباب ..مل أشأ أن
أبرح املكان ..بقيت أغدو وأروح يف الدهليز مرددا:
-تنعشني قلوب الغرباء وتدعني قليب يلفظ أنفاسه؟ لن تربد مجراته
حتى أطأك كالفحل ..وأوقّع بك صك انتصاري على أبيك األفعى..
وتالعبت أمامي الساعةَ صورة جثة والدي ملطخة بدمائها كاخلروف..
ومظاهر تعذيب أهل القرية بعد تلك اجملزرة الرهيبة اليت كان من ضحيتها
ابنا عم صاحل..
ياصاحل انتظرني أنا قادم ..لن يطوينا الثرى حتى أبول عليك وعلى كل
من على شاكلتك..
وخرجت أجر أذيال اخليبة ..بت تلك الليلة سهران ..وشربت كل ما
محلت معي من اخلمر.
2
كنت مع عبدالرحيم قريبا من املقهى حني مرت بنا عبله أو احللوة كما
89
حيلو لسكان حارة احلفرة أن يسموها..
بضة كانت كأمنا هي منحوتة من املرمر..
يتهدل شعرها اخلروبي يف كربياء وغنج على كتفيها مفتوال ملتويا..
وجهها استدار وامتأل كقمر يرتبع على عرش الغسق..
ختتال يف مشيتها..
تضرب قدميها على األرض املرتبة يف زهو شديد..
صمت اجلميع يف املقهى وتسمر الذين كانوا يستندون اجلدار ..نقّلتُ
الطرف بني اجلميع سريعا وعدت أرتوي من فيض مجاهلا ابتلعت ريقي
وقلت بصوت خافت
-عبد الرحيم.
-اشششت.
رد بصوت خافت دون أن حيول بصره عنها
-عبدالرحيم ..عبدالرحيم.
مل يرد بكلمة واحدة هذه املرة بل راح يتابعها بعينيه وهي تنتهي إىل
املغيب
وتالشى السناء الذي أشرق يف الشارع بأكمله فبُعث اجلميع إىل احلياة
ودبت بينهم احلركة من جديد
يف عبدالرحيم وقال:
نظر َّ
-ياصاحيب اجلميع كان ميارس طقوس العبادة إلهلة اجلمال وأنت
تتحدث؟
ومل أجد ما أقول سوى أن أوافقه على رأيه بصميت..
تستحق فعال أن تكون هذه احللوة إهلة للجمال واحلسن والفتنة
90
هي اآلن مل تتخط الثامنة عشر من عمرها وحني تتفتح أكمامها يف
ربيع عمرها هل تستوي على عرش أكرب من عرش إهلة اجلمال؟
تنهد عبدالرحيم من أعماقه وقال:
-حمظوظ من يتزوج هذه األفعى ..طلق إبراهيم جحا أمها وهي
صغرية واختفت أمها بعد ذلك من الوجود متاما ..ميتة هي اآلن أم متزوجة
يف جهة أخرى من أرض اهلل الواسعة؟ ال أحد يدري ..حتى احللوة ال
تدري..
حني تزوج إبراهيم زوجته الثانية أوقف احللوة عن مواصلة دراستها
وهي بعد يف االبتدائي ..جيب أن تساعد زوجة أبيها يف إعداد الفطائر
والشاي ..ثم هي أصبحت حمط معاكسات الشباب ..لكن إبراهيم مل
يستطع أن يواصل فرض سيطرته على احللوة إذ ما فتئت أن كسرت ذلك
الطوق عليها وأصبحت تأخذ زينتها وخترج متى شاءت متنقلة بني
احلمامات واحلالقات واألعراس ..وكثر احلديث عنها حقا وباطال ..بل
ورآها البعض تركب السيارات الفخمة مع الغرباء…
والحظتُ أن عبدالرحيم قد حتدث أكثر من الالزم فقاطعته قائال:
-ياعبدالرحيم ما قلته أعرفه لكن الذي حريني هو كثرة كالمك
اليوم وعهدي بك غري ذلك.
تبسم عبدالرحيم وقال:
-يامنري ياأُخيَّ هذه األفعى تُنطق احلجر األصم فال تلمين ..لو كنت
غنيا الشرتيتها من إبراهيم جحا بوزنها ذهبا..
وسكت زافرا ثم واصل حبسرة
-لكن اهلل غالب.
91
تنهد وسكت يتجرع حسرته مرارة فقلت:
-إيـه يا صاحيب من عاند السماء أصابه العمى ..لو مسع عمي صاحل
حبلمك هذا ألهدر دمك هو على عقيدة سيدي عبدالرمحن اجملذوب
"ال يعجبك نوار الدفلى يف الوادْ دايَ ْر ظْاليل
ف لَفعايل"
وال يغرك ِزين الطُفلَه حتى اتْشو ْ
نظر إلي غري مبال مبا قلت ..تأملين مليا وقال:
-لو كانت تبالي بي لرحلت وراءها إىل آخر الدنيا ال أبالي بأحد
ولكن اهلل غالب
وتنهد من األعماق كأمنا حيمل هما عظيما ..وتذكرت يف هذه اللحظة
ثالثة من شعرائنا الكبار دار يف خلدي أن أروي له ما قالوه وما وقع هلم
ولكين بقيت صامتا حتى فاجأني بقوله:
-مالي أراك ساكتا؟
فاندفعت متحمسا:
-امسع مايقول األمري عبدالقادر
وأرعـاه وال يرعــــى ودادي أقاسي احلب من قاسي الفؤاد
بهجـر أو بصــــد أو بعاد أريد حياتــــها وتريـد قتــلي
وأسهر وهي يف طيب الرقاد وأبكيها فتضحك مِـلء فيــها
وعيناها تعـمى عن مــرادي وتعمــــى مقلـيت إمَّا تنــاءت
وأبذل مهجيت يف لثـم فِيـها فتمنعين وأرجـع منـه صاد
وظهرت عليه عالمات الدهشة فقال:
-هذا كله يصدر من األمري العامل الصويف اجملاهد ..كأنه يعشق احللوة
تبسمت وقلت:
92
-يقول الدارسون أن شعره الغزلي موجه إىل زوجته ..ولكن املتذوق
للشعر يدرك أن األمري كان غارقا يف حبر احلب ..ولعله مل جيرؤ فقط على
ذكر حبيبته خوفا على مكانته ..أمل يقل أوسكار وايلد خلقت املرأة لتثري
فينا الرغبة لتحقيق الروائع.
يف الوقت الذي غرق فيه عبدالرحيم يف يم الدهشة تركته حيث هو
ورحت ابتعد عنه ..كانت نانَّا تلح يف احلضور على ذهين وهي تضمين
حتت شاهلا األبيض فرخا مل يكسه إال الزغب وتعرب الشارع الفاغر فاه إىل
مدرسة احلي..
عند البوابة تطلق سراحي..
أتعلق برقبتها لكن أصابعي الصغرية ال متسك غري اخلُمْسَة الفضية
تضعها على صدرها تشد بها جناحي الشال وتنحين فرتسم بشفتيها
العذبتني على خدي باقة للحب الدافئ ..تشيعين بنظراتها وأنا أمسك بيد
حسناء وندخل معا إىل الساحة ثم إىل القسم.
حني يغرق املعلم يف حبر الدرس وتطويه أمواج الشرح ال ترتاءى لي
منه إال يداه النحيفتان ترتفعان وتنزالن كذراعي غريق وأكون أنا مع ذياب
نرتبص باألعداء وحنتال على لقاء دافئ مع اجلازيه بعيدا عن العيون..
أعود إىل جو الدرس منتبها على إثر صياح حسناء يف القسم وهي تكاد
تلمس املعلم رافعة إصبعها النحيف ..سيدي ..سيدي ..سيدي..
3
ويف صباح الغد مل يذهب إبراهيم كعادته إىل املدينة بائعا للشاي والفطائر
ولكنه كان يتنقل يف احلارة سائال كل من خيرج من منزله عن احللوة ..وانتشر
بسرعة نبأ هذا االختفاء وغدا حديث اجلميع يلوكونه ..ميططونه ..يشكلونه
93
كيفما شاءوا وأرادوا ..وكانت العجوز عُكة أكثر اجلميع حركة رغم التهاب
مفاصلها احلاد وهذه عادتها حني ينتشر خرب مثل هذا ..تطوف باألفواه..
تستنطقها ..جتمع من عندها االحتماالت مجيعا ثم تنمقها وتضيف عليها شيئا
من التوابل لتخرجها يف أحسن حلة..
التصقت باألرض وسط احلارة وقد جتمع حوهلا نفر من السكان..
كنت يف عجلة من أمري ..أبصرتين من فتحة تركتها يف الطوق الذي
ضربه حوهلا النفر فارتفع صوتها املبحوح تناديين ..قلت يف نفسي :وقعنا
ورب الكعبة ..سألتين مباشرة وأنا أصل:
-إىل أين بهذه العجلة؟
رفعت إليها بصري واندفعت مواصال ..رمتين بشواظ مبحوح من
فمها وهي تقهقه
-الدنيا فانية يا ولدي مازلت صغريا وستلهث طويال
وضحك اجلميع فأحسست بالتضايق الشديد ولكين واصلت سريي
فواصلت حديثها
-كل عطلة فيها خري..أمل تسمع باحللوة..؟لقد خطفها امْحَمَّدْ
امْلَمَّدْ وافتـ…
كنت قد ابتعدت أكثر من الالزم ..ومل تعد كلماتها املبحوحة املمزوجة
بقهقهات الفتيان تصلين ..لكين توقفت فجأة كتمثال حجري ورحت أعيد
شريط ما مسعته من العجوز عُكة ..إنها تشتم األخبار ككلب الصيد
املدرب املاهر ..هل حقا ما قالت؟ تلك كارثة ..إذن كارثة ال حتتمل ..ماذا
بقي حلارة احلفرة وناسها البسطاء غري أن تنتهك حرماتهم؟ يف اجملتمعات
الفقرية يتآزر أولو األمر والنهي مع األغنياء على ابتزاز الفقراء.
94
حني انعطفت التقيت بصاحل ..أخربته باألمر ..حتسر كثريا وقال:
-واحسرتاه خنزير التهم وردة ..إن كان فعلها حقا يستحق الذبح.
وصمت فلم يزد كلمة واحدة ..وافرتقنا أمَّمَ هو وجهه إىل منزله..
وقصدت أنا املكتبة ..وقد عادت بي الذكرى أليام الطفولة الرائعة
بروعة نانَّا..
َنـ
ا
نـَّ
ا
آهٍ يادفء نـانــّا..
ياعش نــانـــّا..
ياحضنــــها..
ياصدرهـــــــا.....
وكان اجلو باردا ..القر ثعبان يتسلل عرب اجلدران ..ينزع األغطية ..خيرتق
اللحم ..يلسع العظم ..احلطب البلوطي يلتهب ..تطقطق ناره ..ختبو شيئا
فشيئا ..ينام اجلميع ..وحده اجلمر األمحر يبقى مستيقظا حيرسنا ..أتأمله بعيين
الصغريتني ..أخاف أن يقهره ثعبان القر..
جتذبين نانَّا إىل صدرها أنسى القر والصر ..من ياوليدي يف هضابنا
العالية نقول :من حتبه أمه تكسوه يف الربيع ألن برده اليقاوم..
نانَّا منذ أن انتهت احلرب ونزلت مظفرة من اجلبل تاركة زوجها هناك
شهيدا مل تتزوج ..وإمنا نذرت نفسها لرتبييت أنا ابن الشهيد الذي شاء
القدر أن حتضنه وهو رضيع يف اجلبل دون سابق قرابة بيننا..
95
كانت حتدثين عن اجلميع ..عن بطوالتهم وتضحياتهم إال عن نفسها..
كانت تقول لي وهي تتفقد كل ركن يف البيت:..
الشهداء يُقتلون ولكنهم ال ميوتون..
إنهم أحياء بيننا يرزقون..
عيوننا قاصرة عن رؤيتهم..
ثم تقطع كالمها ..وتظل حتدق يف كل مكان ..من الباب ..من النافذة..
إىل السماء ..إىل السقف ..يف كل زاوية.
4
عاد إبراهيم جحا من مركز الشرطة حزينا كئيبا ..وهو الذي كان دوما
ميسح عن جفون حارة احلفرة أتراحها وأحزانها ..ويزرع على شفتيها زهور
االبتسامة والفرحة ..حتى قيل إنه يضحك املوتى..
منذ يومني اغتال الوحش الفرحة يف قلب إبراهيم ..حبث النهار كله
ومعه كل أبناء احلارة ..سألوا كل الناس ..تفقدوا كل األماكن وانتظر طول
الليل ..اختفاء احللوة يعين بالنسبة إليه خيانة ثانية لزوجته األوىل اليت
أحبها جبنون وضيعها جبنون ..كان يريدها أن تينع أمام عينيه حماطة خبفقات
قلبه الدافئة ..ويرد إليها شيئا مما سلبه منها ومن أمها..
احللوة بالنسبة لسكان حارة احلفرة الشمس اليت يتيهون بها أمام أبناء
األحياء الراقية ..حتى إذا افتخروا عليهم مبا عندهم من مرافق قالوا بتعال:
وهل عندكم مثل احللوة؟ وحني خترج يف الصباح يقفون مجيعا حييونها
ويشيعونها ..حتى إذا ابتعدت جعلوها حديث جمالسهم ..وهم حني يتحدثون
عن مجاهلا يصفون كل جزء فيها ..وجهها مشس ..شعرها حرير ..فمها خامت..
أصابعها ذهب ..ساقاها جوهر ..وال جيدون نظريا هلا يف اجلمال إال اجلازيه ابنة
96
صاحل ..وملا كانت مسراء اللون كانوا يسمونها األمرية السمراء ..وهكذا فحارة
احلفرة تضم األمريتني معا الشقراء والسمراء ..وكنت أحس ما بينهما من
غرية تظهر يف تنافرهما واغتياب بعضهما البعض.
مل يكن إبراهيم راضيا عن تبليغ الشرطة بأمر اختفاء احللوة إلميانه أن
الفأس قد وقعت يف الرأس وال معنى للتبليغ اآلن
عاد إىل احلارة مل يشأ أن يدخل املنزل ..بقي يتكئ على جدار ترابي
متهرئ يقام سرتا لباب غرفة العجوز عكة ..حلقتُ به ..كان شعر وجهه قد
حتول إىل ليل يظاهر سواده غبش احلزن يف إخفاء امحرار الوجه ..كان الناس
ينظرون إليه حزانى وال جيرؤون على االقرتاب منه ماداموا ال يقدرون على
تقديم يد العون ..اقرتبت منه وإىل جواره وقفت صامتا ..جتمد يفَّ كل
شيء ..كسر هو الصمت وقال:
-ضاقت بي الدنيا يامنري ..مل يبق لنا إال شرفنا وهاهو يضيع
مل أجد القدرة للتعقيب على كالمه فسكت ..كنت أتفرس يف اجلدران
والطرقات واألبواب والنوافذ كلها كانت حزينة تلعن صمتنا وخذالننا
يف املساء دبت حركة غري عادية وخرج الناس مجيعا ..حتى الصغار..
حتى النساء كانوا يستبشرون بعودة احللوة ..جتمع خلق كبري قرب منزل
إبراهيم حييطون به وكثر لغطهم وصخبهم ..يعلو عليهم مجيعا صياح
عَزُّوزْ الدود فرحا ..شققت اجلمع ..رأيت إبراهيم وقد بدأ وجهه يشرق
حياول أن يسكتهم ليسمع من أحدهم فلم يقدر ..حني رآني ارمتى يف
حضين وهو يصيح بي:
-لقد رجعت احللوة يامنري ..رجعت
وأردفه عَزُّو ْز الدود كأنه صداه
97
-لقد رجعت احللوة يامنري ..رجعت
ومل يرتكين إبراهيم أستفسر عن األمر فواصل
-لقد شاهدوها تدخل قسم الشرطة
ومل يكد يكمل كالمه حتى اندفعت مهروال واندفع إبراهيم خلفي..
اجتهنا مباشرة إىل مركز الشرطة ويف الطريق مل يكلم أحدنا اآلخر ..كانت
تتصارعين شكوك وظنون ..وتعصف برأسي هواجس ..هل حقا عادت
احللوة؟ وملاذا ذهبت إىل مركز الشرطة؟
وتذكرت ما قالته لي العجوز عكة منذ يومني ..وهي ال ميكن أن
تكون إال صادقة ..إنها اهلدهد العجيب كما يسميها أهل احلارة ..إن كان ما
قالت حقا فتلك الطامة.
حني خرجنا من مركز الشرطة كان هتاف أبناء حارة احلفرة يرتفع
عاليا:
احللوة احللوة…
احللوة احللوة…
احللوة احللوة…
وفجأة صمتوا كأنهم آالت قطعت عنها الكهرباء ..وعبست وجوههم
حني رأوا على وجهينا مالمح احلزن واألسى ..سرت أنا وإبراهيم عائدين
إىل احلارة دون أن ننطق رغم إحلاح املتجمهرين على معرفة احلقيقة ..لكن
ال أنا وال إبراهيم استطاع النطق باحلقيقة املرة.
جلس إبراهيم قرب منزله وجتمهر الناس قريبا منه يتهامسون دون أن
جيرؤوا على معرفة اليقني منه ..تركت املشهد كما هو وانسحبت عائدا
إىل البيت ..مل يلحق بي أحد ..رمبا مل يكونوا يرغبون يف معرفة احلقيقة..
98
ولعل يف أذهانهم اآلن عشرات االحتماالت يفضلونها أن تبقى مجيعا على
أن ترسوا عقوهلم على فاجعة.
حني وصلت الباب حملت عمي صاحل مقبال من بعيد ..لقد رجع اآلن
من سفره ..هو ال يعرف احلقيقة لقد سافر إىل العاصمة منذ أربعة أيام
لزيارة زوجته اليت مازالت متكث يف املشفى يف حالة من الغيبوبة ..مل تنجح
العملية اجلراحية اليت أجريت هلا.
كانت على وجهه عالئم احلزن والتعب ..قبلته على كتفه األيسر
قائال:
-على سالمتك يا عمي صاحل ..كيف حال أمَّا عرجونه.
رد سريعا :
-ما الذي وقع للرومية؟
اندهشت هلذا السؤال ..من أين عرف هذا العجوز بهذا األمر وهو
مسافر منذ أربعة أيام كاملة؟ مل أشأ أن أسأله عن ذلك ولكين رددت
مكسور اهلامة:
-لقد ظهرت وهي اآلن عند الشرطة ومل يسمحوا بإطالق
سراحها حتى الغد.
حبلق يف عمي صاحل بعينني متعبتني وقال:
-خيافون عليها! مِمَّاذا؟
وجترأت فأخربته أن احللوة وقعت يف شراك امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ الذي
اقتادها كالفريسة واغتصب شرفها ..وما إن أشبع غريزته احليوانية حتى
أطلق سراحها ..وحني ذهبت إىل الشرطة لتبلغ أبقوها عندهم خوفا
عليها من أبيها.
99
وصاح يفَّ الشيخ صاحل وهو يدفعين بعيدا:
-ديايثة لو كنتم رجاال ما اُعتدي على شرفكم
وانطلق كالبعري يرغي كأنه مل يعد من سفره متعبا.
دخلت الدار وأنا خائر القوى ..مل أكن أقدر على النطق بكلمة واحدة..
كنت غارقا بكل حواسي يف مستنقع احلزن ..كيف جيرؤ إنسان على
اختطاف محامة مكسورة اجلناح كاحللوة مل تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها؟
إنها جرمية بل جرائم ..خطف وحجز واغتصاب قد تكون عقوبتها
اإلعدام.
يف الغد جاءت الشرطة إىل احلي لتحقق يف األمر ..استقبلها الناس
بربودة تامة ..كان بعضهم يصرخ ال نريد حتقيقا ..نريد أن نقتله وكفى..
وحاولوا أن يأخذوا معهم إبراهيم املنهار لكنه رفض ..وحني حاولوا
إرغامه تدخل عمي صاحل ثائرا:
-كل ما نطلبه منكم أن ال تتدخلوا ..أطلقوا سراح احللوة ودعوا
األمر بيننا وبني امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ ..حنن ال نريد أن حناكمه ..نريد فقط أن
نذحبه كالبعري وكفى.
وفتح الشرطي على اجلميع صواعق ماحقة حني أخربهم أنهم أطلقوا
سراح احللوة هذا الصباح فكيف يطلب منهم إطالق سراحها اآلن.
وقع النبأ على اجلميع كالصاعقة املاحقة وحبلقوا يف وجوه بعضهم
البعض ..لقد حتولوا يف حلظة إىل آالت جامدة ال تتحرك فيها إال العيون..
ثم بدأوا ينسحبون الواحد تلو اآلخر متفرقني على الزوايا واجلدران..
عوى عَزُّوزْ الدود كالذئب اجلريح وسقط كاجلدار على األرض متمرغا..
تهاوى إبراهيم إىل األرض كان وجهه ممتقعا تكسوه حلية كثة ..انسحب
100
رجال الشرطة عائدين مل يبق واقفا إال عمي صاحل بقامته املديدة ووجهه
النحيف وعينيه الالمعتني يصيح كأمنا فقد صوابه يرمي بكلمات ومجل
غري مرتبة ..فيها سباب مقذع فاحش ..ومل يبال اجلميع مِن حوله ..كانوا
يعرفون جيدا عمي صاحل وماذا يفعل ويقول حني يتربكن.
كنت أنظر إليه ..هذا اإلنسان الذي يكاد حيرقه القلق لقد أصبح كفرع
شجرة رقيق طويل حمرتق وطاف بذهين قول املتنيب:
كفى بي حنوال أنين رجل * لو مل أكلمـك مل ترني
ومنذ ذلك اليوم مل تظهر احللوة ومل يرها أحد يف احلارة وال يف املدينة
كلها ..لعلها فرت بآالمها إىل مكان بعيد حيث ال نراها وال حتاصرها
عيوننا املتلصصة ..أو رمبا انتحرت يف هاوية سحيقة وهوى معها سرها إىل
األبد ..ورمبا اختطفت وقتلت رمبا ..رمبا..
ومنذ ذلك اليوم انتهى إبراهيم جحا من احلياة ..حتول إىل كتلة من
اللحم تسعى يف بيع الشاي ..دون ابتسامة ..دون نكتة ..دون نكهة ..دون
فرح ..لقد أثقلته األقراص املهدئة فمال جسمه النحيف إىل البدانة ..وبرز
خداه ..وتبلد حسه ..جيلس إىل جانبك ال يكلمك بكلمة واحدة ..وتسأله
فال يكاد يرد إال مضطربا متأتئا ثقيال.
وحتولت احلارة إىل سجن كبري ..زنزانة مرعبة يفر منها قاطنوها نهارا
وال يعودون إليها إال والليل احلالك يسرت كآبتها ..جدرانها الشهباء..
أزقتها احملفرة ..أبوابها الواطئة .
أما امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ فقد حكم عليه بالرباءة بعد أن أثبت بعشرات
الشهود من ذوي السلطان أنه كان يف أماكن معينة طيلة األيام اليت وقع
فيها انتهاك حرمة احللوة ..هذا زمان
101
نعيب زماننا والعيب فينا ** وما يف زماننا عيب سوانا
إيـــ ٍه يـا زمـان نـان ّـا! !..
حني فتحت عيين على عيون الصباح مل أجد نانَّا قريبا مين لكين وجدت
البيت مشرقا بالدفء والعبق ..خرجت من حتت الغطاء ..وحدها نانَّا
جتلس أمام اجلمر تدفئه ..تنصب فوقه الطاجن ..تنضج أشكاال من اخلبز..
وصلتين رائحته الزكية العطرة..
اقرتبت منها فجأة ..القصعة اخلشبية مألى بالعجني والغرس
والبيض ..جلست جبوارها..
-اليوم يوم الربيع ..اشرتيت لوليدي قفة الربيع الصغرية ..سأمألها
لك حلوى وبرتقاال وامربجة وقرص الربيع..
مل أعلق ..اقرتبت منها ..شيء واحد أحتاجه ..دفء نانا ..مألت لي
4
الفنجان حليبا ..أعطتين قطعة امربجة
رحت ألتهمها على مهل وراحت نانَّا تُعد قفيت الصغرية وتقول:
-سنصعد اجلبل يا وليدي..
لن نبلغ قمته..
مل يعد من يقدر على ذلك اآلن..
القمم للذين ذهبوا..
سنجلس عند السفح ..وستلعب مع األطفال ..وتفاخرهم مبا حتمل معك..
جه وقرص
امتألت القفة حلوى وشيكوالطة وبرتقاال وقطعة امَْب ْر َ
ربيع ..قرص دائري صغري مطلي بصفار البيض له نتوءات حول حميطه..
إنه مشسنا الصغرية..
102
خرجنا زرافات من األحياء املوبوءة حنو سفح اجلبل حنمل قففنا
وأحالمنا ..ننثر أفراحنا وحنن نغين
آرْبِي ْع رَبْعاني
ل عا ْم َتلْقاني
ُك ْ
آنا َوخَيَّاني
ل الفُوقاني..
يف لَجَْب ْ
حني نبلغ السفح نلهو كالفراشات..
ندغدغ ثغور الزهر ونطارد احلشرات املستيقظة من سباتها الشتوي
دون أن نغيب حلظة عن عيين نانّا..
إيــ ٍه ياربيع الطفولة واحلب..
يـاربيع نَانَّا
5
كل شيء أمامي كان يوحي بالتقزز والغثيان ..حتى رشفات القهوة
اليت مازالت جامثة كالوباء داخل الفنجان البارد ..تعودت أن آتي بها من
املقهى إىل دكاني وأرتشف منها ببطء شديد ..وتولدت لدي من ذلك عادة
قد تكون حسنة أو سيئة ال يهم فالناس على رأي املتنيب عبيد ما تعودوا..
أمل يقل لكل امرئ من دهره ما تعود؟
رمحك اهلل ياأبا الطيب كأننا نعيش عصرك أو كأنك مت ومل يذهب
معك عصرك ..عصرك الذي داس كربياءك وأنفتك واغتال أحالمك..
مامعنى أن يعيش اإلنسان عظيما يف جمتمع قزم بليد ..وكان عصرك ياأبا
الطيب أحسن من عصرنا كثريا ..أنت وجدت يف عبقرية سيف الدولة
مسليا ..كنت تراه رمزا لألمة اليت ماتت حني كان جيسد اإلباء العربي يف
103
أعظم صوره ..أما حنن فليس لنا اآلن إال شهريارات حتكمنا على طول
اخلط ..ال يصدق فيها إال قول األديب اجلزائري املسيلي ابن رشيق وهو
يصف حكامه يف نهاية القرن احلادي عشر:
ألقاب سلطنة يف غري موضعها * كالقط حيكي انتفاخا صولة األسد
السر يف تعاستنا هم هؤالء احلمقى اجلهلة الذين نصبوا أنفسهم أو
نُصبوا علينا كالوباء ..وراحوا يعيثون يف األرض فسادا ..قتلوا يف األمة
روحها وأزهقوا أحالمها وأفسدوا كل خري فيها ..ودفعوها للتناحر والتنافر
والتنافس من أجل الباطـل ..وهمشوا كل طاقاتها اجلميلة خوفا منها..
أمل يقل املتنيب الناس على دين ملوكها؟ أمل يرد يف احلديث الشريف إذا
أسند األمر إىل غري أهله فانتظر الساعة؟
ورفعت بصري ألقرأ نصا للكوكيب علقت هيكله على جدار املكتبة
بالبنط العريض
"العوام هم قوت املستبد ..عليهم يصول ويطول ..يأسرهم فيتهللون
لشوكته ..ويهينهم فيثنون على رفعته ..ويغري بعضهم على بعض
فيفتخرون بسياسته وإذا أسرف يف أمواهلم يقولون كرميا ..وإذا قتل منهم
ومل ميثل يعتربونه رحيما"
وتذكرت البذرة األوىل يف احلكم العربي اليت بدأت تنبت يف الصحراء
العربية منذ قرون حني أعلن أبو بكر الصديق اخلليفة األول يف رعيته
مجيعا "إذا رأيتموني على باطل فقوموني ..فيقول له عمر :واهلل لو رأينا
فيك باطال لقومناك حبد سيوفنا فيفرح اخلليفة أن وجد يف شعبه من جيرؤ
على ذلك"..
وتذكرت هذه البذرة حينما قال عمر ألمري جنده يف مصر وهو يأمر
104
املصري الفالح الفقري بضرب ابنه" :متى استعبدمت الناس وقد ولدتهم
أمهاتهم أحرارا؟" ماأمجلها نظرية يف عالقة احلاكم بشعبه لو استمرت!
أما اآلن فقد خان اجلميع ..وحده عمي صاحل مازالت تثور ثائرته
وهو يقول:
صدام رجل ..وحده بقي رجال ..الرجال عند العرب مخسة ..فيصل وعبد
الناصر وبومدين وصدام واألسد ..اجلميع حيسن بهم أن يلبسوا الفساتني..
صدام سريكع أمريكا واليهود وسيحرر القدس وفلسطني كلها ..واهلل لو
يقبلين جنديا يف صفوفه ما تأخرت حلظة ..اهلل غالب وجد نفسه حماطا بالنساء
وأشباه الرجال
وداهمتين سحابة كئيبة فارتشفت جرعة قهوة باردة وأنا أقول :هل كان
بنو أمية لعنة على العرب..؟ هل كانوا وحشا مفرتسا اجتث كل أحالمنا
حني تبنوا الكسروية..؟ وقبل أن أكمل هذا الكالم حملتها قادمة من بعيد..
مل أرها منذ أيام ..هذه الغزالة الشاردة كلما أمعنت فيها سهام الصياد
ازدادت كربياء ومجاال وفتنة ..هذا هو اجلمال احلقيقي كما كانت تقول أُمَّا
عرجونه دائما ال يؤمن باملساحيق وال يؤمن باملآسـي ..كلما مسته املأساة
ازداد تألقا وحتديا.
دخلت عليَّ املتجر مبتسمة فأشرقت جنباته ..وخلت كل همومي
تلملم أطرافها وتهرب خارجة إىل غري رجعة ..قلت مرحبا:
-يامرحى بأخيت اليت مل تلدها أمي
ردت وهي تصافحين وتبتسم
-ولكنها أرضعتك ..حلمك الكثري هذا ..عقلك املستنري هذا ..بفضل
تلك املسكينة اليت حيبسها املرض فال تغادر الدار ..تغتاهلا اآلالم كل حلظة
105
ألف مرة ومرة.
وسكتتْ.
وغشيتْ وجهها سحائب سود مركومة توارت خلفها عيناها
اجلوهرتان ..وصفحة وجهها القمرية قلت يف نفسي وأنا أتأمل مجاهلا
الساحر لو مل ..................... ...........
ولعلها قالت ماقلت وحلمت مبا حلمت ماأسعدني واألقدار متنحين
هذه األخت الرائعة..
رفعت فيها عيين ..مازالت تطرق عينيها كأمنا محم الدنيا مجيعا انصبت
عليها ..أمسكتها من يدها أداعب أطراف أصابعها اللينة وأنا أقول:
-ما بال حلوتي شردت عن واحيت؟
رفعت يفّ عينني اغرورقتا بالدموع وقالت:
-كل حظي سيئ يا منري ..لو ضربت يف املاء العوج سيفي ..فما
العمل؟ أمي مريضة ..وأبي تعب ..وعبدالرحيم كالقارب املهشم وسط
أمواج عاتية ..أما أنا فأنت تعرف كل شيء يا منري.
وأردت أن أغري جمرى حديثها ألزيل عنها بعض الكدر
-دعك من كل شيء يا اجلازيه ..كل ما جيب أن تفكري فيه هو ذياب
فارسك العظيم.
ورفعت بالكلمة األَخرية صوتي ألبعث فيها شيئا من احلياة والتألق
وأبذر يف قلبها املثخن شيئا من الورود الفواحة العبقة..
-أقرتح عليك أن ترسلي إليه رسالة مع محامة أو ..
واشتد ضحكي
-أو يف عنق سلوقي..
106
وهجر ذياب قبيلة بين هالل وأقسم إن حلقه أحدهم أن يقتله لقد كره
تنافر قومه من أجل التفاهات ..ووقع القوم يف هول شديد وكان البد من
االتصال بذياب ومن جيرؤ على محل الرسالة ..وفكرت اجلازيه يف حيلة
حني جلأ إليها اجلميع صارخني:
-ياويح ذياب..
البالد بعده خراب
واهتدت أخريا إىل إرسال رسالة يف عنق سلوقي ..سلوقي وفِيّ ربَّاه
ذياب ودربه على كل األفعال
علقت اجلازيه الرسالة يف عنق السلوقي وأطلقته فاندفع يعدو باحثا
عنه ..وحني لقيه أدرك ذياب أنها فعلة اجلازيه ..فأخذ الرسالة وقرأها
وأدرك فورا أنها خبط اجلازيه وتدبريها فأسرع إلنقاذ قومه..
وكانت العرافة قد أنبأتهم أن ال منقذ هلم إال ذياب من شر عدو قاهر
يقتله فارس يلبس المه
يف وجهــه شامــه
واهلل لوال املالمـــه
لقلت ذياب فوق نْعامـه
لكين حملت أديم وجهها يكفهر دفعة واحدة وجتهش بالبكاء الالمتناهي..
مجدت مكاني ..مل أحر جوابا ..وال نبست بكلمة ..بل ومل أحترك أصال ..لقد
خدرت كل أحاسيسي ..كنت أنتظر أن تتوقف حني تفجر بركانها ورأيتها
متد يدها املرجتفة إىل حقيبة يدها وخترج منها رسالة رمتها إلي ..فضضتها
على عجل وقرأتها:
حبيبيت الغالية اجلازيه..
107
يادفقة احلياة يف قليب ..ياكل الدفء الدافق يف شراييين ..عشت العمر
كله أحلم بي طائرا يبين عشه يف جنباتك ..يغرد يف أفيائك ..يصدح يف
عليائك ..يسبح يف أفالكك ..يستحم يف عينيك البحريتني اهلادئتني..
وكنت أملي النفس بالعودة السريعة أللقاك ..وألقى األحبة مجيعا فيك..
وأمليها بتعجيل كل ما أخرناه إىل اليوم..
جيب أن نعلن فرحنا يف اجلميع ..لو وضع إخالص املخلصني كلهم يف
كفة ووضع إخالصي لك يف كفة لرجحت كفيت..
لكن يا حبيبيت الغالية
المناص لي من القدر ..أعمالي يف الصحافة كثرية ومتعبة ..وغدت
متثل لي كابوسا رهيبا ..وال أخفي عليك لقد غدونا رغم كل الشجاعة
اليت منلك خناف حتى من خيالنا ..إن املوت يرتبص بنا يف كل منعطف..
واإلرهاب األعمى يقف يف كل منعرج ديناغوال مفزعا.
ال أريد أن أقول لك أكثر مما قلت ..إن التقينا فذاك أملي ..وإن كانت
األخرى فإليك دفقة القلب اليت ال تتوقف و……
مل أستطع أن أكمل السطور اليت تبقت يف الرسالة ..رميتها وقد
اكفهرت أعماقي وتلبدت ذاتي وأنا أحاول أن أمتالك نفسي.
استدرت أنا إىل اجلدار ..اتكأت على طاولة كانت هناك ..أي قدر هذا
الذي جيهد نفسه خلفي ليسرق مين كل ابتساماتي العذبة؟ كل حياتي جمرد
أحالم تغتاهلا الكوابيس املرعبة ..ضيعت كل شيء ..وهاأنذا أضيع حبل
النجاة األخري ..سحقا لك أيتها احلياة ..هل أنتظر كل هذه السنوات
العجاف ألنال جزاء صربي خيبة وفجيعة؟
وراحت ذاكرتي تتنقل بني كل الربوع اليت شهـدت صبانا وطفولتنا..
108
الدرب الطويل الطويل املمتلئ وحال وبركا يف الشتاء القاسي واملمتلئ غبارا
وأتربة يف الصيف ..وحنن نتهادى تاركني القرية خلفنا نازلني إىل املدرسة أو
آيبني إىل البيت نرفع نغماتنا وأهازجينا على إيقاع الطفولة ..نعدو تارة ..وخنتبئ
تارة ..ونرتاشق احلجارة ثالثة ..ونغضب فنتنافر ثم نعود لنضحك ومنرح وجنلس
جنبا إىل جنب نراجع دروسنا معا ..أو حنلق مفغوري األفواه نستمع بشهية
وأسطورية حلكايا اجلازيه.
حتى يف املدرسة كانت املعلمة جتلسنا معا ..وختتارنا للمهمات معا
خاصة يف حصة املسرح ..حني اختارتين مرة ألمثل دور األم على أن ميثل هو
دور األب ..فرحت بهذا االختيار يف البداية ثم رفضته ورحت أصيح ال
لشيء سوى ألن األطفال ضحكوا مين ..ومتت املسرحية وأجنبنا يف نهايتها
طفلة كانت تسمى زينب حنبها ونتعب لرتبيتها.
وانفجرت باكية وأنا أمسعه يهمس يف أذني :انتظريين سأعود ..لن
تبتلعين العاصمة كما توهمت ..حلمي أن نتزوج وننجب بنتا نسميها
زينب ..ومددت يديَّ ألمسك يديه كما تعودت فرحة لكن هذه املرة مل
أمسك غري اخليبة.
تقدمت منها فأمسكتها من اخللف وأنهضتها من مكانها ..كنت ال أحب
أن يراها أحد على هذه احلالة وكنت أجهد نفسي كي ال تراني باكيا ..عمن
أبكي؟ وملن أحزن؟ هلذه الزهرة اليت هجمت عليها اللوافح من كل جانب؟
أم لذلك الصديق العزيز الذي أحب مهنة الصحافة كما أحب اجلزائر..
ونذر هلما نفسه ..ورحل جيري خلفها ليجعل منها رسالة شريفة يقف بها
مع املظلومني واملشردين واملقرورين ..فإذا بها تتحول إىل موت يشهر يف
وجهه السيف؟ أم أشفق عليهما معا؟
109
وجررتها خلف احملسب فأجلستها األريكة وقدمت هلا كأس ماء ومنديال
جتفف به دموعها.
نظرت يف وجهي بكثري من احلب ..وقالت وقد خالطت صوتها حبة:
-اعذرني قد أتعبتك معي ..لكن أنت تعلم أنين ال أجد صدرا دافئا
أفرغ فيه أحزاني إال صدرك الطيب ..كل من حولي أصبحوا ال يعنونين يف
شيء ..كرهت كل شيء ..حتى البيت واملشفى واملدينة واحلياة.
ودخلت علينا حسناء فجأة كأمنا نزلت من السماء فأشرقت بدرا يف
دجى املكتبة ..أسرعنا نسوي من حالنا حتى ال نلفت االنتباه إلينا ..لكنها
استطاعت أن تكشف حالنا الذي مل يكن يف احلقيقة ليخفى فجأة..
حاولت أن أحول انتباهها فسألتها عن أبيها ..وعن صحته ..وعن أمها
وأخويها لكنها مل تشأ أن جتيبين كانت تريد أن تعرف احلقيقة أوال ..لزمت
أنا الصمت ومثلي فعلت اجلازيه ..وضعت حسناء حقيبتها على احملسب..
جترعت رشفة ماء ختيلتها تنزل يف بلعومها ..قالت:
-تعرفان عنادي وإصراري ..لن أخوض يف حديث قبل أن أعرف
الذي فعل بكما هكذا.
ومل تكمل حديثها حتى باغتنا ثالثة من الفتيان عليهم مالمح التدين..
أسدلت حلاهم واستوت العمائم على رؤوسهم ..وكُحلت عيونهم..
مل أنطق إال بكلمة مرحبا ..حتى عجل أوسطهم والظاهر أنه سيدهم..
عجل إلي يقول :
-اخللوة حرام ..قال الرسول -صلى اهلل عليه وسلم" :-ماخال رجل
بامرأة إال كان الشيطان ثالثهما"
ومل ترتكه حسناء ليواصل فقالت بغضب:
110
-وما دخلك أنت؟ أم نصبت نفسك أمريا على األمة وحنن ال
نعرف؟
ومل يزد أن قال دون أن يرفع بصره:
-اسكيت صوتك عورة ..وقرن يف بيوتكن وال تربجن تربج اجلاهلية
األوىل ..الزمي بيتك يا أَمَة اهلل ..حنن مجاعة األمر باملعروف والنهي عن
املنكر ..وقد بلغنا اللهم فاشهد.
وخرج يستل عينيه من اجلازيه سال ..فلحقه رفيقاه.
قالت اجلازيه:
-مل يبق لنا إال هذا اهلم يأتينا ليعلمنا حدود األخالق واآلداب ولعله
ال حيسن أن يقرأ سور الصالة
ومل أشأ أن أعلق فدعوتهما بإشارة من يدي لالنصراف ..أرادت حسناء
أن تعرتض على تصريف فحدقت فيها وقد دار يف خلدي قول أحد الكتاب
خلقت املرأة لتشاهد ال لتسمع وقلت:
-رأسك دائما ناشفة ..ستخربك اجلازيه بكل شيء ..أما أنا سأزوركم
بالبيت مساء.
خرجتا وبقيت جامدا مكاني ..يف أحشائي موار وجزر ومد ..هل
سنبقى طوال القرون جنرت كاملاعز ماتركته الكتب الصفراء من شعر
ابن عاشر وأحكام الوضوء والتيمم وطول اللحى وشكلها ولونها..؟
واجلن وطعامها املفضل الروث أم العظام؟ واملرأة صوتها وحدود
لباسها وحجم ما تتعلم و…؟
إىل متى وأنا أمحِّل هذه احلسناء همومي..؟ إىل متى وأنا أشنق أحالم
هذه الغزالة الطريدة حببال تسويفي..؟
111
إىل متى وحنن ال حنس يف أرضنا ..يف أعشاشنا باألمان؟ لقد صرت
أتلقى كل يوم رسالة ..أنهض صباحا وأنا على يقني أن رسالة تنتظرني
بفارغ الصرب حتت الباب يتهمين أصحابها بالوقوف مع الطاغوت
ووجوب العمل معهم إلقامة الدولة اإلسالمية ..ومرة يتهمين كاتبوها
بأنين إرهابي مناهض للسلطة والوطن والدميقراطية وجيب علي أن أتوب.
ماذا لو طرت مثل احلالج؟
أمسك بطرف منديلي فقط ثم أطري ألفر من هذا اجلحيم الذي
أعيش فيه..
ولكن ما معنى أن أطري؟
أمل ينحروا احلالج كالشاة؟
ماذا لو عاد بي العمر إىل حضن نانّا ..نانَّا وحدها تقدر على إنقاذي
آهٍ أيتها البتول رمحة اهلل عليك
6
بدأ اخلريف يزحف مبكر شديد ..ميارس لعبة الكر والفر ..ينطلق من
األسفل ..يثري زوبعة يف األرض كأمنا يغشي بها عيون األشجار ثم
يصفعها ..تهتز جنبات أغصانها ..تتهاوى أوراقها الصفراء ..تئن الشجرة
وتعاود الثبات ..لكنه ما يفتأ أن يعاود…
خرجت من املنزل وقد اعتدل رأسي من الطأطأة اليت تعودها ..أنا اآلن
شرطي وقد تغريت نظرة الناس إلي دون شك ورغم أني مل أحضر إىل
البيت باللباس الرمسي قط إال أن اخلرب فشا يف الناس حتى قبل أن أباشر
عملي هذا ..حارة احلفرة ال خيفى على ناسها شيء مطلقا ..عيونهم وآذانهم
تلتقط كل صغرية وكبرية ..هم كما يصفهم الشيخ صاحل رادارات..
112
وكم كان عجيب شديدا حني واجهين عَزُّوزْ البهلول ذات صباح يقبلين
بشدة ويضمين إليه ويقول:
عبدالرحيم امنحين مسدسك ..ال ..امنحين رشاشا رشاشا كبريا ..أحب
أن أقتلهم مجيعا مجيعا مجيعا.
عبدالرحيم جيب أن أقتل كل الذين حيلمون بالزواج من احللوة أنا
وحدي أحبها ووحدي أتزوجها ..حني تعود وحدي أتزوجها.
وانطلق يقلد اجلندي الذي يرش أعداءه بالرصاص.
واندفعت بعيدا أخرج من حارة احلفرة أرتفع إىل مركز عملي املتواجد
بقلب احلي اجلديد..
خرجت بعد عبد الرحيم ..وقفت عند الباب الذي كان يئن خلفي
جاهدا يف العودة إىل مكانه ..كان الشارع جثة مبقورة ..اجلو اخلريفي يعبث
بالعبث يف الشارع ..مل يرقين املنظر ..أشعلت لفافة الربزيلي ..امتصصت
منها بنهم شديد ..نفثت الدخان ..تصاعد من كل فتحات جسمي ..من
منخري ..عيين ..أذني ..ومن ..هممت أن أعود إىل البيت ..ثم أعرضت عن
ذلك وأنا أثور ضد تالميذ يرمون بهلول الدود باحلجارة وبالكالم البذيء..
هرولت خلفهم ..اندفعوا مبتعدين ..وبدأت أصواتهم وصيحاتهم
وقهقهاتهم تسكن رويدا رويدا.
احتمى بهلول الدود بي وهو يقول:
-اختلط الدود بالدود وال يفكها إال اخلالق املعبود
مل آبه هذه املرة حبديثه كما تعودت ..لقد كنت مهتما بالربيع وقد أقبل
من بعيد ..سألته مباشرة عند وصوله ويف عيين حرية:
-خريا إن شاء اهلل؟
113
تبسم الربيع وهو يقول:
-السالم قبل الكالم
رددتها وقد زال عين بعض الكدر
-صباحك سعيد ..أصبحنا ياصاحل كالنساء كل شيء خييفنا.
وتركنا بهلول الدود حيث هو يردد شريطه املعتاد ومضينا بعيدا يرتدي
الربيع قشابية درعاء وأرتدي معطفا بنيا حائال ..قال الربيع معلقا على
فعل األطفال ببهلول:
-حتى احلمار قال :لو يدخل األطفال اجلنة لرفضت دخوهلا
ونظر بشق عينه إلي مبتسما مستطلعا ردي ..ازداد وجهي جهامة
وعلقت على كالمه يف شيء من اجملاملة
-لست أدري حنن اجملانني أم عَزُّوزْ الدود ؟
وسكت دفعة واحدة كأمنا أزهقت روحي ..كانت ساقاي النحيفتان
تضربان يف غري انضباط كأنهما عمودان حنيفان يغطيهما سروال بال
يتالعب به اهلواء ..أحس الربيع باملرارة اليت أجرعها فلزم الصمت فاسحا
اجملال لوقع اخلطوات ..حلظات وصلنا املقهى ..جلسنا ..أقبل النادل علينا
بقهوتني ..هو يعرف طلباتنا ..أصوات الزبائن على اختالف أعمارهم
ترتفع وتنخفض حول طاوالت القمار..
ارتشفت رشفيت األوىل دون أن أذيب السكر يف الفنجان ..مر بنا
إبراهيم جحا ..حيانا مبتسما كالعادة وجتاوزنا إىل طاولة جماورة لينظم إىل
جمموعة املقامرين
ارتشف الربيع رشفة عميقة من قهوته احملالة وقال:
-أراك على غري مايرام ..حالك اليوم ال يعجبين.
114
حككت شعري الكث بأصابعي املعروقة ثم أعدت شاشييت على
رأسي وقلت:
-ومتى كنت خبري؟ كأن القدر يالحقين دون اخللق مجيعا.
وعاودت الصمت متمتما بني شفيت مستغفرا عما بدر مين من كالم..
صار صدري هذه األيام اليسع نفسًا صبيا ..زفرت بعمق أوسع مساحة
صدري ..أركبت ساقي اليمنى اليسرى ..أخرجت زوادة التبغ ..لففت
واحدة ..أشعلتها ..جذبت نفسا عميقا ..نفثته يف اجلو ..ارتشفت من
فنجاني رشفة خافتة ..أحسست بربودة القهوة يف فمي ..وضعت الفنجان
مكانه ..حالة زوجيت هدت آخر سراياي ..أنا أدرك أن ذهابها سيؤثر كثريا
على األسرة..
عبدالرحيم مازال دون زواج ..ولكي يتحقق هذا احللم البد له من
سكن ومن مال وهذان ضرب من خيال ..اليهم هو رجل ..الكارثة يف
اجلازيه ..أمر اجلازيه يؤرقه ليال ونهارا ..أينعت وغدت نضرة ..مطمعا
لكل العابثني ..هذه املرة إن مل يتقدم ذياب بعد عودته من العاصمة
سأزوجها ألول خاطب..
وتذكرت امْحَمَّدْ ..فعضضت إصبعي وقلت يف سري آه يازمان ياغدار
حتى امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ غدا رجال وجترأ على خطبة ابنيت ..ابنيت اجلازيه..
الكلب بن الكلب ..اللقيط بن اللقيط ..خنزير فرنسا ..يريد أن يستذلين.
وأخرجين الربيع من كوابيسي املتوحشة وهو ميرر يده قريبا من عيين
ويقول حماوال إضحاكي:
-ابق يف األرض فقط ال ترحل بعيدا فأعجز عن اللحاق بك.
عدت إىل واقعي وأنا أقول جبمود كأني متثال إلثيوبي معلول:
115
-أمر الزوجة حيريني ياالربيع ياأُخيَّ ..مرضها خطري واألطباء أشاروا
بوجوب إجراء عملية ثانية ال مفر منها ..قد ال تقوم بعدها ..وقد تتحسن..
اهلل وحده يعلم.
وسكت مليا كأمنا أريد أن أقطع احلديث متاما ولكين عاودت فواصلت:
-املرض ابتالء من اهلل ..املشكلة من أين لنا بثمن العملية؟ لو كان
عندي شيء أبيعه لفعلت ..لكن أنت أدرى باألمر
وصمت رهبة من الواقع املرير ..وسكتَ كأمنا مل حير جوابا أو كأمنا كان
ينتظر مين أن أكمل كالمي فواصلت..
-ورأسك ياالربيع ما أضحك إال حبضرتك ..وال أضحك إال من
أجلك أنت ..يضحك وجهي ويف نفسي غضب مارد.
ومد يده فأمسكين من أصابعي حلظات يتأملين ثم قال:
-ال حتمل هما ..حتى أنا ال أملك شيئا ..أنا معدم مثلك ..أنت
تعرف حالي ..ولكن حني تعزم على أخذها للمشفى سأتدبر األمر معك
ولو بعت أثاث املنزل.
اغرورقت عيناي وقد عاد بي الربيع لتضحيات الشهداء الصادقني..
وتراءت أمام ناظري صور الفداء ..والدي ..عمريوش ..الشيخ العيفه ..أما
علجيه ..زوجها ..عمار الكريطة ..أمحد ملطروش ..أم منري ..العيد الضحوي..
وارتفع صخب املقامرين يتشاجرون فتطايرت األوراق والكؤوس
وانقلبت الكراسي والطاوالت وتشابكت األيدي واألذرع فقمنا وانسحبنا
بعيدا.
عند املنعرج توقفنا ..مد الربيع يده يودعين ..وقبل أن يسحبها قال
حبسرة وهو ميسك برشاشه حتت قشابيته الدرعاء
116
-متى نهنأ يف هذا الوطن؟
-سنهنأ حني حنمل السالح ضد كل أنواع اإلرهاب
وافرتقنا..
شيء واحد كنت أقوله لرفاقي اجملاهدين ..جيب أن حنمل السالح يف
وجه كل أشكال اإلرهاب
انعطف منحدرا يف زقاق مرتب تشكلت فيه برك للحمإ بفعل تفجر
قنوات املياه والفضالت ..ابتاع قارورة غاز وقفل يدحرجها وسط األوحال
حنو بيته ..رأيته من بعيد ..أسرعت إليه فحملتها معه ..كالرشاش أطلق
علي وابال من سباب.
-يامنري هذه دولتكم ..دولة الذل والطحني ..حنن أكرب دولة إلنتاج
الغاز عامليا ..وغازنا يصل إىل أعالي أعدائنا بأوروبا بثمن خبس ..وحنن
مازلنا يف القرن العشرين نشرتي قارورة الغاز من السوق السوداء
وبتوسط املعارف..؟
علقت مازحا وأنا اتلصص بعيين يف وجهه أتطلع لرد فعله
-ملاذا أخرجتم فرنسا؟ لو تركتموها لكنا أحسن حاال.
التفت إلي حانقا كالزوبعة رغم أنه يعرف نييت
-جيلنا أدى واجبه ..جيلكم جيل منهزمني مل يواصل املسرية ..الدور
اآلن لكم ..أما حنن..
وسكت ..مل ينطق حتى دخلنا البيت ..حني هممت باالنصراف
استوقفين ..وسلمين ورقة مكتوبة بالفرنسية
-يهود سونالغاز بعثوا إلي برسالة بلغة الـ..............
تصفحتها على عجل وقلت:
117
-إما أن تدفع ديونك أو يقطعوا الكهرباء عنك
...............................................
.................................................
وفجأة غري حديثة وهو ميزق أشالء الرسالة ليخربني أنه قرر تزويج
عبدالرحيم من وهيبة ابنة الشيخ اهلامشي
رحبت بالفكرة رغم أني مل أكن أ عرف موقف عبد الرحيم ..رمبا
ألن عبدالرحيم جيب أن يتزوج اآلن ..ورمبا ألني أعرف أخالق الفتاة
وأخالق أسرتها
اجتهنا إىل بيت الشيخ اهلامشي القريب فخرج إلينا بثياب عمله ..لقد
عاد لتوه من التجوال عرب األحياء ..عجل بإدخالنا البيت وهو حيفنا بباقات
الرتحيب ..سريعا جيء بالقهوة ..مل يرتدد صاحل كثريا ففاحته باملوضوع..
ظهرت البشرى على وجهه املتعب ودون مقدمات قال:
-ياصاحل أنت أخي وابنيت ابنتك ..لن أعارضك فيما تفعل.
بعد أسابيع مت الزواج وأقام اجلميع حف ال رقصت فيه كل حارة
احلفرة حتى الصباح ..حضر اجلميع وغابت عبله احللوة فغابت عنه
نكهة الفرح..
مازال اجلميع يذكرونها يف صمت..
وحده عزُّوزْ الدود ظل جيهر جبراحاته..
وحده ظل يعلن أنه رآها ..وأنها أكدت له أنها ستعود قريبا ..وحني
حاول اإلرهاب تدمري متثال عني الفوارة بتفجري قبلة يدوية يف قاعدته..
وصلها سريعا وراح حيتضنها ويبكي حبرقه ويصيح إنها عبله الرومية عبله
الرومية..
118
ويقال أنه صرخ يف اجلموع اليت أحاطت بالتمثال باكية حزينة ملا أصاب
رمز املدينة
يامعشر...
من فعل هذا بإلـهيت..؟
وحني انفجروا ضاحكني انفجر فيهم باكيا
اللعنة عليكم ..اللعنة عليكم إنها عبله الرومية ..أال تعرفون عبله
الرومية..؟
7
مازال الظالم يقمط حارة احلفرة بلفائفه السود ومازالت احلياة مل تدب
بعد يف أوصاهلا ..نور شاحب ينبعث عليال من النافذة إىل الشارع الذي
يفتقد لإلنارة ..مررت املنشفة على وجهي وذراعي أمسحهما من ماء
الوضوء ..هممت أن أخرج لصالة الفجر باملسجد كما تعودت لكين
تراجعت عند عتبة الغرفة ..ليس من السهل هذه األيام أن أذهب إىل
املسجد ..لقد كثرت االغتياالت وغدت املساجد مراكز للفنت..
عدت إىل مكاني أحدث نفسي ..إذا اختلطت األديان قم على دينك..
هذا كالم األولني ..متددت أنتظر آذان الفجر أمرر يف يدي حبات السبحة..
سرحت حلظات وأنا أتأمل فراش ابين عبدالرحيم ..عنده اليوم مداومة
ليلية يعمل من السابعة مساء حتى السابعة صباحا..
ارتفع صوت املؤذن يشق السكون ..رددت بني شفيت ..اهلل أكرب اهلل
أكرب ..ومعه انطلقت صيحات مدويات ..فزعت وقمت عجال من مكاني..
ما الذي وقع؟ أطللت من النافذة ..أشتد الصياح والصراخ وتعالت
اجللبة ..بسملت وحوقلت وعجلت ألبس حذائي وأهرع إىل الشارع..
119
حني توسطته كانت األبواب والنوافذ تفتح هنا وهناك ..حددت مصدر
األصوات واندفعت إىل منزل إبراهيم جحا ورحت أدقه بعنف ..مازال
الضجيج والعويل يرتفع ..ومازال الباب موصدا ..انتقلت من الدق إىل
حماولة تكسري الباب اخلشيب ..حلق بي آخرون وتعاونوا مجيعا على فتح
الباب ..كنت أول الداخلني ..مل يتفطن إلي أهل البيت حتى وقفت
عندهم ..كانوا مخسة أطفال يتكومون يف ركن الدار جيللهم الفزع والرعب
ويرتفع عويلهم مالئا احلجرة ..وكانت البنت الكربى ذات الثالثة عشرة
من عمرها متسك بذراع أمها وجتذبها بقوة حماولة ختليصها من أبيها
إبراهيم جحا الذي جثم فوقها يشبعها ضربا ..وكانت الزوجة منبطحة
على األرض تندب وتشتم.
واستطعت رغم حنافيت من رفع إبراهيم وختليص الزوجة منه ..ووقف
إبراهيم مغمغما وقد امتأل فمه زبدا حتى فاض على شفتيه.
-مرَّ َرتْ حياتي يا عمي صاحل ..أخرجتها من الضياع ..التقطتها من
الشارع ..ماذا كانت؟ كلكم يعرف ..كانت عاهرة ..جمرد عاهرة.
وصفعته وأنا أقول:
-استح ياحقري يا تافه ..أتعري أم أوالدك أمام الناس؟ أنت حقري..
اخرج عليك اللعنة.
وتدافع إبراهيم خارجا وهو يهدد:
-ال ينفع معك إال الطالق ..أنت طالق ..طالق ألف مرة ..كرهتها
وكرهت احلياة معها ..انتظريين أنت جزاؤك الذبح إن مل أذحبك فلست
رجال.
وخرج اجلميع ..كانوا أكثر من عشرة أفراد نساء ورجاال ..جتمعوا وسط
120
الشارع وأحاطوا بإبراهيم يلومونه وحياولون تهدئته ..كان إبراهيم منفوش
الشعر ملبد املالبس تتطاير الرغوة من بني شفتيه كالبعري ..يرتفع صوته
حينا مهددا زوجته اليت مل ينقطع عويلها ..وينخفض حينا آخر معلال
للجريان فعلته.
التحقت باجلميع ..هدأ إبراهيم حني رآني أمد ذراعي النحيفة حنوه
مهددا:
-أنت ال ختجل يا إبراهيم ..تضرب أم أوالدك وتعريها؟ ومن أنت؟
هل أنت النيب؟ اذهب عليك اللعنة.
ودفعت له بإبريق الشاي ودلو املاء مملوء بالكؤوس فحملها إبراهيم
ومضى ..بعد حلظات حلق به ابنه ذو العام الثاني عشر.
بدأ الناس يتفرقون عائدين إىل منازهلم وبقيت معظم النوافذ مشرعة
تطل منها رؤوس النسوة يف فضول شديد ..وحدي بقيت يف الشارع أذرعه
بني منزلي ومنزل إبراهيم..
بدأت الشمس متد خيوطها على حارة احلفرة حزينة كئيبة ..وانتفضت
فجأة ..لقد تذكرت أني مل أصل الصبح فهرعت إىل منزلي عجال و أنا
أمتتم :مذ توقف إبراهيم عن تناول مهدئاته غدا كلبا مسعورا.
8
أعراسنا وحدها كانت مساحة ضيقة للفرح..
أفيونا ينسينا أتراح اخليبات..
كان اجلمع كبريا داخل حجرة االستقبال رغم ضيقها ..أطفال ونساء
تتعاىل ضحكاتهن وزغاريدهن املرة تلو األخرى ..وترتفع حناجر بعضهن
121
بأغاني السراوي 5فيما تفنن بعضهن يف الرقص السطايفي والقبائلي
وحتى الشرقي يف بعض األحيان ..وتسكت النسوة أحيانا فينصرفن إىل
احلديث وأكل احللويات واملشروبات بتلذذ كبري دون أن يُسكنت الغناء
الذي ينبعث بدهلن من اآلالت..
كنت أجلس وحيدا أعاقر كأسا دهاقا من الصمت واحلزن ..يف جوف
الغرفة يتجمع رجال خيتلفون يف سحناتهم ومستوياتهم ويتفقون مجيعا يف
التنافس على حتليل األوضاع السياسية واالجتماعية وحتى الرياضية
يتفقون حينا وخيتلفون أحايني أخرى ..كنت أحس بالقلق الشديد ..أجلس
مكاني ال أنبس ببنت شفة ..ال أحسن إال أن أنعم ألحد املتحدثني وأبتسم
ابتسامات خفيفة كعادتي.
قال شيخ ال أعرفه بكثري من الرتاجل :أنا مل أفهم شيئا يف سياسة هذه
البالد حتى الرئيس مل يعد خياطبنا باللغة اليت نفهم
رد آخر أقل منه سنا يظهر أنه من احملبني للرئيس :العيب فيك ألنك مل
تتغري ..الرئيس ال خياطب أمثالك بل خياطب الشباب املتعلم بلغة التقدم
غضب األول فرد ثائرا رئيس اليهود حدث شعبه بلغته ..ما معنى أن
حيدثنا هو بلغة االستعمار
قاطعه الثاني تريدون أن تتحولوا مجيعا إىل رؤساء ..الرأس إذا كان
مملوء عيونا أفزع ياراقد..
نظر يف امْحَمَّ ْد وهو ميسح عن فمه الطعام الذي علق به وقال:
-أنتم الشرطة تستحقون الذبح كاخلراف من القفا ال من الرقبة.
-5هي أغان شعبية تغنيها النساء مجاعيا ويرفعن فيها الصوت حتى يسري بعيدا ..ومن
هذا جاءت التسمية..
122
وملا مل أرد عليه إال بنظرة احتقار واصل يقول:
-ألنكم حتمون الطواغيت ..هؤالء لصوص استولوا على خريات
الوطن واقتسموها بينهم ظلما وعدوانا ..أال ترى بأننا ننتقل من احندار
إىل احندار ..األمم تتقدم كل يوم خطوات وحنن نتأخر؟؟ صهرك صالح
الدين رجل شجاع محل السالح ضد الباطل.
نهضت من مكاني أرميه بشواظ من نظراتي احلاقدة ودلفت خارجا
مرددا يف سري:
-عليك لعنة اهلل ..تنام على املاليري من جتارة احلرام والتهريب
والرشوة ثم تفتح فاك لتشمت بالفقراء الشرفاء ..يضحون ليحفظوا
لك النظام ..عليك لعنة اهلل لو كان احلق قائما لذحبتك أنت قبل
اجلميع ألن أمثالك هم الذين يشيعون الفحشاء واملنكر ..وهم الذين
يزرعون اإلرهاب يف جنباتنا اآلمنة
ثم مافتئت أن نسيت كل شيء ..هناك أمر يشغلين الساعة ..مل أكن
مطمئنا متاما ..البد أن أعود إىل البيت ..البد أن أصطحب معي زوجيت
وأخيت اجلازيه وأعود.
دققت باب النسوة الذي كان مفتوحا فهرعت أخيت هجريه إلي ..وما
كادت تراني حتى أمسكت بيدي جترني داخل احلجرة:
-ادخل ال ختجل هؤالء أمهاتك وأخواتك مجيعا ..إالم خجلك هذا؟
واختل توازني فدخلت عند عتبة الباب وأسرعت الراقصات باالمتناع
عن الرقص فيما واصلت مغنيات السراوي يؤدين األغنية ..وماكدت
أدخل حتى عدت فسحبت نفسي إىل الرواق ومعي هجريه اليت أسرعت
تقول:
123
-اليوم يوم فرحي ..فرحي ببييت اجلديد ..وفرحي خبتان ابين األكرب..
وإن مل حتضر أنت فمن حيضر؟
وأردت أن أتكلم فقاطعتين مواصلة:
-سيكون أول أبنائك ذكرا ولن حنضر ختانه.
ابتسمت ابتسامة باردة وقلت:
-حتى إزيد ونسميه بوزيد
ردت مازحة
-ال ..نسميه سامل ..سامل العلواني ..سامل مل ميت ياعبدالرحيم ولن ميوت..
ضممتها إلي حبنان وأنا أقول:
البد أن نعود إىل البيت ..يف هذا القدر بركة ..أنت تعرفني أن الطريق
خطرة ..ولعل شرا ال قدر اهلل يعرتضنا..
وقبلتين هجريه على جبهيت داعية لي باحلفظ وطول العمر ..ثم دخلت
فدعت زوجيت وأخيت إىل االنصراف.
حني انطلقت سيارة األجرة راجعة بنا إىل املدينة كان اجلميع صامتني
كتماثيل باردة إال السائق الذي كان يثرثر ذاكرا أهمية السيارة وفضلها
على اإلنسان ملحا علي أن أقتين واحدة ..وأردت أن أخربه أن أجرتي ال
تكفي حتى إلطعام العصافري ..لكن السائق قطع علي ذلك حني أكد لي
أنه على يقني من أن أجرتي ال تشبع قطا صغريا لكن طرق الرزق كثرية..
الزمن صعب وعلى اإلنسان أن يكون ذئبا أو أكلته الذئاب املفرتسة
املتوحشة ..والشرطي له مكانته يف اجملتمع والدولة والبد أن يستغل كل
الطرق إلمناء ثروته إال إذا كان أمحق ..ثم مال علي وهو ينفث دخانه
فتنبعث منه رائحة كريهة:
124
-مالي أراك ساكتا يا عبدالرحيم؟ هذا الشعب يستحق اهلراوة ..أنت
متوت من أجلهم وهم ينمون ثرواتهم ..واهلل غفور رحيم.
وضحك السائق حماوال تغطية الصمت الرهيب الذي جثم على سيارة
األجرة فظهرت أسنانه املتهرئة السوداء ..ثم كتم أنفاسه فجأة لقد دخلنا
الغابة ..وأحسسنا مجيعا أن الصمت بدأ يثقل على أبداننا ..وأن قلوبنا قد
ضاقت فاشتد خفقانها ..وأن أغصان أشجار السرو تتحول إىل أذرع
أخطبوط تلفنا مجيعا وتعصرنا يف وحشية ..رددت بني شفيت:
-استغفر اهلل العظيم ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل..
ومسعناها مجيعا خترج من فمه خافتة باهتة فتملكنا شيء من الفزع..
اتكأت على كتف وهيبة ...كانت السيارة تشق الطريق املتعرج منسابة ال
يكاد يسمع صوتها ..ضوؤها يكشف كل شيء ..الساعة العاشرة ليال..
الفصل خريف مل يكن باردا ..وكانت السماء صافية متاما ..جنوم تتألأل
تتبادل النجوى واحلرية ..أدار السائق زر املذياع فانبعث صوت القرآن
رخيما عذبا يشق السكون ..قال السائق يف نفسه نكاد خنرج من نفق
الغابة املوحش ..لن يكون إال اخلري إن شاء اهلل ..املنطقة آمنة ومل حيدث فيها
شيء مكروه منذ زمن طويل..
ولوى عبدالرحيم رأسه إىل اخللف فرتكزت عيناه على سقف السيارة..
أي سقف يقصد بهذا التوجه املفاجئ..؟ الحظت يد زوجته وهيبة امللساء
متتد من مكانها اخللفي فتمسك يده وتضغط عليها ..واشتد اضطرابي
جبوارها لقد أحسست بالتوتر الشديد الذي يعيشه عبدالرحيم والذي
استطاع أن ينقله إىل مجيع من معه يف السيارة..
وأردت أن أسأله لكين سكت ..الوقت مل يكن مناسبا واجلو كان ثقيال
125
يستحيل اخرتاقه ..مازالت اآليات ترتفع متناغمة ترفرف وحدها يف جو
السيارة اليت احننت يسارا فيمينا خمففة سرعتها إىل أقصى ماميكن ..وانكفأ
السائق على املقود يشده بقوة حتى ال تصطدم بصخور عرشت فوق
اإلسفلت األسود ..وانكفأ معه اجلميع ثم تراجعت أجسامنا إىل اخللف
والسائق يضغط بقوة على املكبح ويصيح:
-اللهم سرتك وقعنا يف الفخ.
وصحنا أنا ووهيبة معا:
-اهرب عبدالرحيم
مل نكن خناف إال عليه ..ال أحد يهمنا هنا إال عبدالرحيم ..ومل جيد مايرد
به سوى:
-الزما الصمت ..الإله إال اهلل ..ال أحد يفر من قضاء اهلل
وانتبه السائق من صدمته فدار إىل عبدالرحيم وهو يقول :
-أمعك مسدس؟ جيب أن ندافع عن أنفسنا ..ال أحب أن منوت
كاخلراف ذحبا
تلمس عبدالرحيم املسدس حتت سرتته ولكنه مل خيرجه ..مل يكن ليهتم
يف هذه اللحظات بنفسه بقدر ما كان يهتم بي أنا أخته وزوجته اليت مل
ميض على دخوله بها سوى شهرين ..ومازال مل يسدد ديون زواجه منها
وأراد أن يلتفت إلي ليقول شيئا لكن أشداقا سوداء متوحشة أحاطت به
من كل جانب ..حركة واحدة منه أو من غريه فتتقيأ شواظا من جحيم..
وانفجرت أبكي هلعة مرتعدة الفرائص يف هسترييا ..ونطقت وهيبة
تقول:
-أقسم أننا أبرياء نصلي ونصوم ونتقي اهلل ..ولسنا يف أي جهة ال
126
مع هؤالء وال مع ..هؤالء ..حنن كادحون همنا اكتساب لقمة احلالل
وأحست أنها أكثرت من احلديث فكبحت نفسها فجأة مرجتفة ..ومسع
صوت غليظ يدعو اجلميع إىل اهلبوط مع وضع األيدي على الرؤوس..
وبسرعة هبطنا مجيعا ووقفنا نستند السيارة كتلة واحدة ..وأشار الناطق إىل
آخر جبواره فهرع يفتش اجلميع ..بدأ بي ..دفعته عين ..هرع آخر فغرز فوهة
احملشوشة يف رقبيت ليفسح اجملال ليدي رفيقه كي تعبث يف املناطق املشتهاة
من جسدي وتستقر طويال على نهدي ومل يفطن من غيبوبته إال على
صراخ رفيقه وهو يطلب دوره يف تفتيش زوجة عبد الرحيم ..وحتول بعدها
إىل السائق فعبدالرحيم...
نسيت كل شيء وقع واشتد خفقان قليب يتجاوب مع خفقان قلب
وهيبة جبواري لقد كانت حلظات صراع رهيبة وامتدت يد املفتش لتصل
إىل جنب عبدالرحيم األيسر فتستخرج املسدس من حتت إبطه وصاح:
-هذا طاغوت ..إنه طاغوت ..وجدت حتته مسدسا.
تداعت أركان عبدالرحيم وجثا أرضا وختيلته كومة رمل جرفها السيل ..أو
كومة رماد عبثت بها الزوبعة ..فجأة حتجر السائق ال يبدي حراكا لقد مجدت
كل أجزائه ..وفتح فاه دهشا كاملعتوه ..ثم جثا على ركبتيه يصيح كامللسوع..
التصقت جبنب أُخي والتصقت بي زوجته ..وحتولنا مجيعا إىل كتلة واحدة..
وصاح اجلميع
-اهلل أكرب ..اقتلوا عدو اهلل
وهرعوا إليه مجيعا جيرونه ..وتشبثنا به نسمِره إىل األرض ..كان صراعا
متوحشا بني املوت واحلياة ..وتقهقرنا نسقط أرضا عند عجلة السيارة ..وأسرع
اآلخرون جيرون عبدالرحيم بعيدا يف عمق الغابة وهو يصيح
127
-أنا أخوكم ..أقسم أنين برئ ..أقسم أنين مل أظلم أحدا ..أنا فقري..
أعيل مخسة أفواه ضعيفة ..ارمحوني يرمحكم اهلل
وأشهر أحدهم وكان أشقر طويال بدينا رشاشه وقال:
-هل تأمر يا أمري؟
وفتح األمري عينيه إىل نهايتها فظهر وجهه بلحيته الكثة السوداء كوجه
بومة ..وفهم األشقر اإلشارة ..فأطلق رصاصتني إحداهما استقرت يف قلبه..
واألخرى يف عنقه.
يف هذه اللحظة مازال السائق متثاال باردا ميارس طقوس السجود لكن
صوته لفظ أنفاسه مع صوت الرصاصتني ..تداعيت أنا ووهيبة ثم اندفعنا
بقوة صوب اجلميع ..وخر عبدالرحيم يتخبط يف دمه كاخلروف املذبوح فيما
راحت اجملموعة ختتفي يف جوف الغابة..
كانت وهيبة ترمتي فوق زوجها حتاول أن حتضنه كله وتدخله مجيعه يف
قلبها ..وكان هو يستعصي عليها ..واندفعت أنا خلفهم كاجملنونة أرميهم
باحلجارة وبالشتائم ولكين مافتئت أن عدت أدراجي حيث جثة أخي..
وجدته قد أسلم الروح وهدأ متاما فصرخت صرخة مدوية وارمتيت فوق
جثته أخضه بقوة وأضغط على اجلراح ألمنع الدم املتدفق من اخلروج.
نظرت إىل السائق ألطلب منه الدعم ..رأيته يفطن إىل نفسه ليتحرك
من مكانه حنو السيارة ..ركبها واندفع بها فارتطمت بالصخور ..عاد فنزل..
تأمل الصخور ..حاول إبعادها بيدين مرجتفتني ..مل يسعفه احلظ ..عاد إىل
السيارة ركبها ثم عاود النزول ..هرع حنونا متعثرا ورجع إىل السيارة ركبها
ثم نزل ..حاول إزالة الصخور مرة أخرى فلم يستطع.
الغابة تشرب صمتا رهيبا وظالما دامسا يتحداه ضوء السيارة الذي
128
مازال يفتح أجفان عينيه ..خطا السائق إلينا من جديد فلمحنا نعود حنو
السيارة حنمل اجلثة بصعوبة وهي تكاد تالمس األرض.
فزع السائق وهو يرى محرة الدم تغطينا مجيعا فاندفع حنونا ..دعانا إىل
وضع اجلثة حيث هي ..فوضعناها وأسرعنا نساعده يف إزالة الصخور
الثقيلة ..عدنا إىل اجلثة لنحملها فنضعها يف السيارة ..أبى السائق علينا
ذلك مؤكدا أن هذا من عمل رجال األمن والواجب علينا اآلن أن نفر
لننجو بأنفسنا..
ركبنا السيارة فانطلقت بنا على غري هدى ..كانت وهيبة ملقاة شبه
فاقدة للوعي وكنت أصيح:
-مل تركناه لتفرتسه الذئاب واخلنازير..؟
كان السائق جيهد نفسه ليعرف الطريق أما املرتل فكان صوته يرتفع:
"ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه
جهنم خالدا فيها
وغضب اهلل عليه
ولـعـنـه
وأع ّد له عذابا عظيما"
9
حني منوت حنيا..
ألن املوت وحده ينبهنا لشراسته..
وحده املوت يدغدغ يف مشاعرنا حقول احلب..
ها أمواج املعزين قد بدأت تتوافد بقوة على املنزل ..يشتد توافدهم كلما
اقرتب موعد دفن اجلثة ..نواح نسوة يرتفع منذ الصباح ..نشيج ينبعث من
129
األصحاب الذين تكوموا عند اجلدران ..كنت أجلس متثاال حجريا باردا ال
أبدي حركة ..جبواري كان يقبع أبي صاحل وقد تدثر كعادته بقشابيته رغم اجلو
احلار ..وانشغل آخرون بتوزيع القهوة على احلاضرين ..يشتد توافد الناس من
كل اجتاه يقبلون كتف أبي صاحل قائلني:
-عظم اهلل أجركم
ويبتعدون ليتجمدوا جمللني باحلزن ..عناصر من األمن الوطين تقف
بانضباط أمام الباب ..سياراتهم تقبع غري بعيد ..صوت املرتل ينبعث من
مسجل داخل البيت ..احلزن جيلل حارة احلفرة كلها ..أنهى اجلميع صالة
الظهر وهرعوا إىل البيت حلضور تشييع اجلنازة ..مئات من الناس على
اختالفهم حضروا ..حضروا أحبابا وأعداء..
كل شيء يف هذا الوطن يفرقنا..
احلزن وحده كفيل جبمعنا..
حلظات وينطلق املوكب ..هرع الناس إىل السيارات ميتطونها ..دخل رجال
األمن بسحناتهم احلزينة الصارمة إىل البيت ..ارتفع العويل ..خرج بعض
الرجال يهرولون بهجرية مغمى عليها ..محلتها سيارة إسعاف وضعت يف
اخلدمة وانطلقت يشق بوقها جو احلزن الكئيب ..خرج رجال األمن باجلنازة..
ارتفع العويل وخرجت النسوة إىل الشارع سافرات منفوشات يندبن
ويولولن ..أمسكت بيد أبي صاحل أقيمه من مكانه فتحرك كاآللي وتبع
توجيهي حيث قدته إىل السيارة اليت حتمل النعش وجلست بقربه ..مقابلنا
جلس اهلامشي وإىل جواره الربيع حيتضن رشاشه ..انطلقت السيارات مكتظة
باملشيعني وهرع املتبقون راجلني يف حرية يبحثون عمن يقلهم قبل فوات
الوقت ..وانطلقت سيارة النعش يف تؤدة مبتعدة عن املنزل ..على إثرها ارتفع
130
النواح والعويل ..كل نساء احلارة كن يولولن ..بعضهن تشبث بالسيارة..
البعض اآلخر ارمتى على األرض متمرغا مبديا اجلزع واحلزن ..ختلف بعض
الرجال يعدن النساء إىل املنزل.
بدأت احلارة تفرغ من احلركة وتسكن من صخب إال بعض أنني
ينبعث من نسوة متعبات يائسات يتمرد عليهن مجيعا عويل اجلازيه ..كان
صوتها يصل اآلذان خناجر صدئة تنغرز يف األكباد ..جتلل األرصفة
واجلدران ومحائم السقوف باحلزن الشديد..
شق املوكب اجلنائزي املدينة ببطء وخشوع ..وهاهو خيرج منها متجها
إىل املقربة جيلله الصمت الرهيب ..ال شيء إال أزيز السيارات ..سيارتان
للشرطة تتقدمان املوكب وخلفهما بالضبط السيارة احلاملة النعش مسجى
وسطها ..مغطى بالعلم الوطين ..على جانبيه جثم مقربوه..
كان صاحل مومياء ..يرد رأسه إىل اخللف ويسنده على جانب السيارة..
مفرغ الذهن من كل شيء ..لقد توقف ذهنه عن كل تفكري ..جبواره
جلست غامسا رأسي بني ركبيت وقد تورمت عيناي من شدة البكاء يطوح
بي اخليال يف حمطات كثرية ثم يومض فجأة عند اجلازيه هذه املسكينة اليت
أبى القدر إال أن يوغل يف تعذيبها ..وعند أبيها وأمها الطرحية الفراش..
وعند ذياب الذي كان من املفرتض أن حيضر لكنه مل يلحق حتى اآلن..
ويعود بي اخليال إىل عبدالرحيم..
آه أيها الطيب الربيء من قتلك؟
من له فائدة يف قتلك؟
من له هدف يف رسم تضاريس الفجيعة على قلوب أفراد هذه األسرة
التعيسة ..كل سكان حارة احلفرة ..كل البسطاء واحملرومني؟
131
من له هدف حفر أنهر للدماء والدموع يف ذاكرة هذا الشعب؟
واهتززت من مكاني فشهقت وعدت لفجاج الصمت وأنا أغلق عيين
بكفي ..خيل إلي أن عبدالرحيم قد حتول إلي ..فتح عينيه ..وصرخ مبلء فيه:
أنت الذي قتلتين ..وأسرعت فمددت يدي إىل رقبيت خوف االختناق..
وهممت أن أصرخ فيه أني بريء ..وهممت أن أقوم من مكاني فأرمي
بنفسي من السيارة ..وعدت إىل نفسي فبدأ اهلدوء يسود أرجاءها
املضطربة.
مل أكن أ شعر بكل ما جيري حولي ..كنت أركز بصري بشدة يف
وجه صاحل جيلس جبابب منري مومياء دبت فيها احلياة حماوال استجالء
تضاريس أفكاره ..بقدر ماكانت الفاجعة على قليب شديدة وكان حزني
كبريا على موت عبدالرحيم ..كانت زوابع احلرية تضطرب يف دخيليت..
من قتل عبدالرحيم؟ اإلرهاب دون شك ..اجلميع يتفق على ذلك ..
ولكنهم يف اآلن ذاته خيتلفون يف تصنيف وحتديد هذا اإلرهاب ..هل
هو إرهاب املال؟ رمبا ..عبدالرحيم شرطي ولعله أدخل أنفه يف أمور ال
قبل له بها فكان جزاؤه الذي ناله..
أ و لعله مل يفعل سوى أن طبق قانونا بسيطا على شخص له يد طوىل
فاعترب ذلك مساسا بكرامته وكان الذي كان ..أو ..هل ..هو إرهاب
اإلسالمني وقد نذروا أنفسهم لقتل رجال السلطة وأعوانهم منذ توقيف
املسار االنتخابي..؟
ملاذا يارب عشر سنوات والدماء جتري وديانا؟
ملاذا يارب؟
ملاذا ميوت كل شيء يف وطين ..وحده املوت يبقى حيا.
132
واستويت يف جلسيت أضم ركبيت إىل بعضهما البعض ..حككت
شاربي الكث ..تغريت سحنة وجهي وأنا أبطل كل مافات دفعة واحدة..
لن أترك الظنون تذهب بي بعيدا ..الذي قتله هو اإلرهاب ..اإلرهاب
الذي نعرفه ..لقد أكد السائق واملرأتان ومجاعة أخرى ممن وقعوا يف
الكمني وابتزت أمواهلم أن القتلة كانوا شبابا ملتحني ..وكانوا يتحدثون
باسم اإلسالم ..إنهم هم ..مل يفعلوا هذه فقط ..لقد اقرتفوا جمازر أبشع
وقتلوا أطفاال ونساء وأبرياء ..وشردوا عوائل من قراهم وأريافهم اآلمنة..
ولكن اليهم كل هذا الذي يؤرقين ويذبح يف نفسي الرجولة ..هل كان
ذلك امللعون معهم؟ إن فعلها فعليه اللعنة ..إن فعلها فإني قاتله ..وحدي
سأقتله ..سأمحل السالح من جديد البد أن أقلم الغصن املريض ليعود
لأليك نضارته.
ورفعت رأسي أ دقق النظر يف مالمح صاحيب ..فيم يفكر صاحل اآلن؟
هل تساور ه الشكوك يف ابين صالح الدين؟ إن اعتقد ذلك فقد فقدت
أعز وأعظم من عرفت يف حياتي ..عليك اللعنة ياصالح الدين ..يافساد
الدين لو لقيتك لذحبتك وشربت دمك كله ..كنت أنتظر منك أن
تعزني حني تتقدم بي السن فإذا أنت تذلين ..تقتل زوج أختك ..تقتل
أخا ظل أبواه لنا مجيعا أبوين ..وتضع أنفي بني أقراني ..حتى غدوت
حمط اهلمس واللمز ..إيـه يارب..
ألست أحتمل شطرا من اجلرمية؟ ليس صالح الدين أوال وأخريا إال
ضحية لذلك األفعى الذي جاءنا يوما من العاصمة ليتزوج ابنيت رغم
ظروفه القاهرة اليت كان حيياها ..ما كنت أبالي بذلك كان خضارا يسكن
بيتا متواضعا جدا يف ضواحي باش جراح ..الرجل العيب فيه مادام
133
مستقيما وعامال حيصل قوت يومه ..فاجأني حني زارنا يف العام املوالي..
تغريت ثيابه وسلوكه وأسدل حلية مبعثرة ..وغزانا بأفكار مل نألفها من
قبل ..ترك عمله ومكث عندنا طويال يدعو ألفكاره ..هو يدعو الرجال
وزوجته تدعو النساء
انبهر بعض الشباب بالذي جاء به فاتبعوه ..وكان صالح الدين
أشدهم حتمسا..
بعد أشهر حتول جذريا وصار داعية يستقطب األنظار وله أتباع..
خيتلفون عنا يف الصالة والصيام واللباس واألفراح واألتراح.
عليك اللعنة أيتها املدن الكبرية يا من دنست عذريتنا..
وصل املوكب اجلنائزي إىل املقربة ..توقفت السيارات وأسرع الناس
يتداولون محل النعش على األكتاف وقد غطاه العلم الوطين ..أوصلوه إىل
القرب مل يُصلَّ عليه لقد عد من الشهداء ..تنافس الشباب جمهدين أنفسهم
يف مواراة اجلثة ..قبع صاحل قريبا هيكال جامدا ال يبدي حركة ..جبواره كان
منري ينتحب ..وعن ميينه وقفت مع الربيع جامدي املالمح.
انتهت عملية الدفن وبدأ الناس يغادرون املقربة وقفت إىل جوار صاحل
ومنري والربيع لتلقي التعازي ..تقاطر الناس علينا:
-عظم اهلل أجركم ..عظم اهلل أجركم..
خلت املقربة إال من بعض املقربني ..سحبوا صاحل بعيدا ..ومعه سار
الربيع خلفهما كنت أسري خبطى كئيبة ..وحده ختلف منري ..جثا عند القرب فوق
تربته الطرية ..كان ينتحب ويرتفع نشيجه حتى يسمع من بعيد ..يرتفع صوته
مرة بالدعاء لصاحبه ومرة ينكب على قربه يقبله ويطلب العفو.
كم هي قاسية فجيعة فراق األحبة!!
134
5
1
اقرتبت من اجلامع العتيق عائدا إىل حارة احلفرة ..كان الوقت الرابعة
والنصف بعد الزوال ..منذ دقائق أكمل املصلون صالة العصر فراحوا
يتفرقون عرب كل االجتاهات ..أمام اجلامع جلس بعض الشيوخ جيرتون
ذكريات املاضي ..ونفر من شباب يتميزون بلباسهم اخلاص نبتت لبعضهم
حلى خفيفة.
عربت أمام الباب ..رفعت بصري ..تراءى لي صحن املسجد
تتوسطه فوارة متد رقبتها لتعانق بعينيها صفحة السماء عرب فتحة وسط
السقف وحوهلا تتدفق املياه للوضوء قيل إنها تشبه مباني األندلس
قدميا ..ال أعرف األندلس ولكين مسعت هذا احلديث وأنا أشارك متطوعا
يف ترميمه منذ سنوات ..وقيل أن اإلبراهيمي هو الذي أقامه قبل الثورة
التحريرية على هذا النمط.
حنني كبري يشدني إىل دخول اجلامع ..حنني شديد جيذبين إىل ولوجه
وتفقد كل ركن فيه ..لكين أقسمت أال أدخله ..هل كنت متسرعا؟ رمبا
ولكن ما وقع فيه مل يكن شيئا هينا ..أسرعت مبتعدا وأنا أذكر تلك
اجلمعة املشؤومة حني قام صالح الدين تدعمه جمموعة من األتباع يطلقون
على أنفسهم مجاعة أنصار السنة بتهديم احملراب وإتالف كل زخارفه
وأقاموا مكانه بابا وكسروا املنرب ذا اخلشب األمحر املنقوش ووضعوا مكانه
135
مصطبة مرتفعة قليال ..وحني حانت صالة اجلمعة منعوا اإلمام الشيخ من
إمامة الناس ..وتقدم مكانه صالح الدين الذي امتنع عن تقديم الدرس
وحتدث يف اخلطبة عن بدع املسجد واجلمعة مركزا على البدع يف احملراب
واملنرب والدرس..
كثري من اخللق قاطع صالة اجلمعة ذلك اليوم وبعضهم أداها
متذمرا ..بعد انتهائها وقعت خصومة وفتنة شديدة بدأت باحلجاج
واللجاج ..وانتهت إىل القذف والشتم والتهديد بتغيري كل معامل اجلامع
حتى تتوافق مع سنة النيب
يومها أقسمت أن ال أصلي مرة أخرى يف هذا اجلامع مادام مصدرا
للفتنة.
بنصف ساعة بعد ذلك وصل رجال األمن للقبض على اجلناة
لكنهم مل جيدوا أحدا وبُحث عنهم يف كل مكان دون جدوى وعلمنا
بعد ذلك أنهم التحقوا باجلبال وكونوا مجاعة تسمى مجاعة أنصار
السنة املسلحة ..وتوالت بعد ذلك جرائم القتل واالغتياالت داخل
املدينة وخارجها ..على الطرقات املؤدية إليها خاصة الغابية والنائية..
هل هم الذين نفذوا تلك اجلرائم؟ هل ميكن لشخص يؤمن باإلسالم
ويدعي التمسك به أن يقتل األبرياء؟
وأنا أقرتب من حارة احلفرة التقيت اخلَيَّر بلعوط ..حياني وراح يسري
إىل جواري دون أن ينطق ..سألته:
-أين كنت يااخلري؟
-صليت العصر وأنا عائد اآلن إىل البيت ..كربنا ياعمي اخلري وال
ينفع إال الصح ..منذ أن صرنا آباء انتهى اللعب.
136
تذكرت سنوات شيطنته مع عْزَيَّزْ ربيب العجوز عكة ..وكيف كانا
يعودان كل مساء خممورين ..ويلقاهما الصبية باحلجارة صائحني ..مخارين..
مخارين ..وحني كانا ينشران الفرح يف األعراس يضرب اخلري على آلة
الزرنة ويغين عْزَيَّزْ ضاربا على البندير
عدت إىل نفسي وقلت مواصال حديثي:
-تصور كنت أذكرك اآلن يف نفسي
-ذكرك اهلل خبري
-تذكرت ماوقع من مدة يف املسجد العتيق من صالح الدين
السلفي ومجاعته ..ودار يف نفسي هل ميكن ألولئك أن يقتلوا األبرياء بكل
برودة دم؟ وتذكرت أنك كنت واحدا من ضحاياهم..؟
وقاطعين اخلري مندفعا يف احلديث
-إيـهٍ ياعمي صاحل كانت تلك الليلة منذ عام بعد مقتل عبدالرحيم
-يرمحه اهلل -بشهر واحد ولكنها كانت ليلة فضيعة كأنها حدثت لي
البارحة ..فوجئت بهم يعرتضون طريقي مشهرين أسلحة خمتلفة ..سيوف..
خناجر ..بنادق ..ورشاشات ..وأسرعت فأوقفت شاحنيت ..قبل أن أسرتد
أنفاسي وأبتلع ريقي فتح أحدهم الباب وجذبين إىل اخلارج ..تبني لي من
مالحمه أنه شيطان ..حلية مبعثرة كلحية التيس ..وعينان تزيغان ميينا ومشاال
كعيين إبليس ..صدقين ياعمي صاحل روحي صعدت إىل خالقها وبردت
ساقاي فلم تقويا على محلي فتهاويت إىل األرض..
صاح يف أحدهم أين النقود؟ فطرت من مكاني إىل داخل الشاحنة
قلبت املقعد وأخرجت حزمة بها عشرون مليونا سلمتها لطالبها فسلمها
لألمري
137
سألته مقاطعا:
-هل كان األمري صالح الدين السلفي؟
رد بسرعة كأمنا كان ينتظر هذا السؤال:
-أجل هو بعينه
عدت مرة أخرى للسؤال:
-كيف عرفت؟
-كان ملثما ولكنه ليس غريبا علي ..أنا أعرف شكله وقامته وصوته
انتظرني ألقول شيئا وحني مل يبدر مين ذلك واصل حديثه بنفس
احلماس:
-جروني بعد ذلك إىل قارعة الطريق وربطوني إىل الشجرة ..صدقين
يا عمي صاحل مل أ ُبلْ من قبل كما بلت يف تلك اللحظة كأنين أفرغ من
صهريج ..تبلل سروالي وامتأل حذائي ..رمبا مل أفرغ مثانيت فقط بل أفرغت
حتى أوعييت الدموية ..ورمبا كان بولي أمحر ..قلت باكيا مستعطفا أنا
أخوكم ال تقتلوني ..مل أكمل حديثي وقاطعين حنن ال نقتل ميتا مثلك..
أنت يف نظرنا جمرد جيفة سنأخذ الشاحنة لنقل املؤونة إىل مكامننا
وستجدها غدا يف املدينة ..حني تعود أخرب الطواغيت أننا سننتصر بإذن
اهلل ..وأننا سنقيم الدولة اإلسالمية قريبا ليس يف اجلزائر فحسب بل يف
العامل ..سنحارب الطواغيت واملبتدعني والشيعة ومن شاكلهم من حزب
الشيطان ..وسيكون جزاءهم القتل مجيعا
وانطلقوا مبتعدين فأسرعت بإزالة القيد ..مل يكن وثيقا ..لعلهم
تعمدوا ذلك ..ثم..
قلت مقاطعا وقد أحسست أنه أطال يف روايته لواقعته هذه فأنا أعرف
138
كثريا من تفاصيلها ..وندمت أن سألته عنها أصال ..وأردت أن أغري جمرى
احلديث ..لكنه وللمرة الثانية جنح يف إرغامي على مواصلة االستماع:
-هل تعلم ياعمي صاحل ماوقع لي بعد ذلك؟ مل أذهب للشرطة وال
لبييت وإمنا اخرتت بيت صهري كان هو األقرب ..دخلته وأنا أرجتف كأن
الوحي قد أنزل علي ..وطلبت من محاتي أن تدثرني بكل ما عندهم من
األغطية وبقيت هناك ثالثة أيام كاملة ..جاءوني بأسرتي وبالطبيب
وجاءتين الشرطة ووجدوا شاحنيت منقلبة يف الوادي و…
وقاطعته منهيا روايته للقصة بلباقة:
-سالمة رأسك يااخلري ..قصتك طريفة ..نلتقي مرة أخرى فأعدها
علي ..ألقاك خبري
وانطلقت إىل املنزل ..كنت يف حاجة إىل راحة نفسية وجسدية.
2
أغلقت باب املكتبة بإحكام ومددت يدي فجذبت الستار احلديدي إىل
األسفل وحني كدت أهوي به أحسست بيد تلمس كتفي..
اقشعر بدني فرتكت الستار واستدرت سريعا وما فتئت أن ابتسمت
مبتهجا مهلال…مل يكن القادم إال السيد معرفة وهو مفتش الرتبية
والتعليم بالطور الثانوي ..غزاه الشيب من كل جانب ..وغارت عيناه حتت
نظارته القدمية ..واستطال أنفه النحيف ..وعلت وجهه الصغري صفرةَ
عِلة… لقد تغري السيد معرفة أكثر من الالزم حتى غدا مبعثَ الشفقة..
على األقل بالنسبة إلي..
مل يدعين أغرق حتى األعماق يف تأمالتي حني حياني مبتسما ..ومل
تزدني ابتسامته وأنا أرى أسنانه قد تهاوى معظمها وسوِد ما تبقى إال
139
شفقة عليه ..قلت مصطنعا الثبات:
-مساء سعيد سيدي.
وكأمنا مل يأبه بردي فدفعين من كتفي مشريا أن أفتح احملل ..ودون أن أرد
رحت أفتح الباب مرة ثانية ..حني دخلت وأشعلت النور قلت له:
-لقد أصبحنا نعيش هذه األيام قلقا رهيبا ..كثرت االغتياالت
وكثرت معها أعما ل السطو والسرقة ..البارحة فقط أضفتُ قفال ثالثا
لباب املكتبة.
ضحك من األعماق ضحكة فيها شيء من األسى ..نظر يفَ بكثري من
السخرية وقال:
-لو وجدتُ من يسرقك ملهدت له الطريق وألعنته على بلوغ أربه.
وسكتَ كأمنا يتجرع مرارة ..جال ببصره يف املكتبة ..دس يده يف جيبه..
أخرج قطعا نقدية ..قربها من عينيه ..وضع بعضها على احملسب ..وطلب
سياال أمحر وممحاة ..سلمته ما طلب وأعدت إليه النقود ..رفض هذا
التصرف مين ..ذكرته باحلديث املشهور من علمين حرفا كنت له عبدا..
أبى كل تربير مين ..دس ماطلب يف جيبه ..واجتاز عتبة الباب ينوء مبحفظته
املنتفخة الكبرية ..ثم توقف ينتظرني ..اشتغلت بغلق الباب ورحت أعيد
إىل ذاكرتي حمطات من حياته..
بدأ حياته أستاذا للغة العربية وآدابها ..قضى يف ذلك عشرين سنة كان
خالهلا مثاال لالنضباط واجلدية ..يضحي بكل شيء من أجل أن يبلِّغ
املعرفة للجميع دون استثناء ..لذلك مل يتزوج إال وقد جتاوز األربعني من
فتاة درست عنده وأحبته فأوقعته يف شباك الزواج بعد أن قضى شطرا
كبريا من عمره يتهرب منه ..بعد ذلك ترقى ليصبح مفتشا فزاد إحساسه
140
باملسؤولية ..خيرج عند الصباح باكرا يراوح بني يديه محلَه الثقيل ..يتنقل
باحلافالت ..يؤدي مهمة التوجيه والرتبية وحني يعود إىل بيته مع املساء
ينكب على كتابة تقاريره ..إنه سكرتري نفسه.
كنا قد وصلنا إىل مفرتق الطرق ..عند هذه النقطة سينحدر هو إىل
الشمال حيث يسكن يف الطابق اخلامس من إحدى العمارات وأدور أنا
إىل اليمني غري بعيد حيث حارة احلفره ..قبل أن نفرتق أردت أن أسأله عن
حاله ..عن حالنا مجيعا ..أردت أن أقول له ملَ يُمنح بعض املسؤولني الذين
خيربون البالد السيارات الفاخرة ..وينجز هو عمله مرتجال رغم مستواه
العلمي ومهمته الصعبة؟ ولكين سكت وهو يضغط على أصابعي ويقول:
ذو العلم يشقى يف النعيم بعقله * وأخو اجلهالة يف الشقاوة ينعم
كان هذا البيت الشعري كاف لإلجابة عن حريتي كأمنا قرأ ماجال يف
نفسي ..استدرت ميينا هابطا إىل مسكننا تقودني العادة إليه مشتت الذهن
تائه اخلاطر جمرد كتلة تتحرك يف الظالم دون وعي مبا كان يدور حوهلا ..كان
املتنيب وحده يقف قباليت حنيفا فارع الطول ..يفتح فاه إىل آخره ..صائحا يف
احلشود اليت ارمتت نائمة على األرض
يا أمة ضحكت من جهلها األمم
كيف ألمة من مبادئها اقرأ ..وخذ الكتاب بقوة ..والعلماء ورثة األنبياء..
وخري جليس يف األنام كتاب النزول إىل هذا احلضيض من اجلهل وإهانة
العلم وأصحابه؟
3
حبركة آلية فتحت جهاز التلفاز وأنا أفك أزرار قميصي ..جتاوزت
جمموعة من القنوات األجنبية اليت اعتدت مشاهدتها ..توقفت عند القناة
141
الوطنية ..كانت نشرة الثامنة ..هممت أن أغري القناة حني صعقت مكاني
ووزير التخطيط والعمران اجلديد يعقد ندوته الصحفية األوىل والذي مل
يكن سوى سي سليمان مدير املشفى السابق والذي تسبب يف طرد عمي
صاحل من عمله ومن مسكنه ..لك اهلل أيها الوطن العظيم!!! من متخرج
من معهد امليكانيك إىل مدير مشفى إىل مستشار بالوزارة إىل وزير
للتخطيط والعمران ..ماذا سيفعل عمي صاحل بنفسه إن علم بالنبإ
العظيم؟ وأنى له أن يعلم ووزراؤنا يتغريون كل شهر؟
بدأ الوزير كالمـه ":أمامنا عمل بزاف ومشاكـل قد جلبال parce
queوزارتنـا très importante.. importante..الزم خنطط ونشيد
عمرانات باش نقضي على مشكل السكن اخلطري ونسهل لـ les
habitantالبسطاء السكن ولو باألديان..
وارتفع صوت أحد الصحفيني مصححا بالديون ..
أقفلت التلفاز وعلى غري العادة استسلمت إىل حضن الفراش باكرا
بعد أن قلبت النظر يف جمموعة من الكتب كان آخرها املعقول
والالمعقول للكاتب اإلجنليزي كلون ولسون ..مل تكن نفسي مستعدة
للقراءة ..ولكنها كانت ميالة إىل النوم ..لعله اهلروب من الواقع الذي غدا
اليطاق..
الوضع أصبح أكثر تدهورا ..مستوى املعيشة أصبح مفزعا ..حرية الرأي
محامة مشنوقة يف كل مكان ..بطالة سافرة أو بطالة حمجبة ..بالدنا أصبحت
سوقا ضخمة لسلع تنتجها حتى الدول الضعيفة ..وتستوردها عصابات
أثرت على حساب الوطن ..تدنٍ ملكانة العلم ومكانة أهله حتى غدوا حمل
احتقار الدهماء والرعاع ..األقالم النزيهة غدت بني فكني ..فك اإلرهاب
142
وأصحاب املصاحل وفك أصحاب األمر والنهى ..مستنقعان جيب أن يسبح
قلمك يف أحدهما أو فالويل له..
حاليت النفسية تكاد تنهار ..ظل عبدالرحيم يلح يف احلضور داخل
خميليت ..صمته الرهيب ..أحالمه العراض ..خيباته املتكررة ..جرحه الذي
لعقناه وسكتنا كما تعودنا أن نسكت على اخليانة ..هو ومئات الضحايا
من قتلهم..؟ من تقلد قطرات دمهم..؟
أين هي عبله احللوة ملاذا نسيَها الناس؟ ملاذا ننسى جراحاتنا بسرعة..
نذري فوقها الرماد وننسى؟ وحده عزُّو ْز الدود ظل يذكرها ..ظل حيدث بها
يف كل جملس ..ظل حيملها يف قلبه أمال مجيال مشرقا عبقا ..هل اجملانني
عندنا أكثر وعيا منا وأكثر وفاء ..أم أن اآلخرين هلم ما يشغلهم؟
كانت أسناني تتساقط بشكل عجيب وكنت أقوم بلمها بلساني وأرمي
بها على األرض مندهشا متعجبا ..والذي كان حيريني هو سقوطها دون آثار
من دم ..وصك أذني دق عنيف يزلزل الباب اخلارجي فاندفعت واقفا قاذفا مبا
كان يدثرني ..فرتامت الكتب العديدة اليت كانت تنام معي على بالط
احلجرة ..وشاهدت كتاب كلون ولسون ينقسم قسمني ..مازالت الطَّرقات
تصل إىل أذني قوية حادة ..هممت أن أستطلع األمر من خالل النافذة لكين
تراجعت يف آخر حلظة وعجلت أنزل السلم ..وقد ذهب بي التفكري
مذاهب شتى..
من يقف اآلن خلف الباب؟ وملاذا يدقه بهذا الشكل؟ وماذا يريد؟
وهل ميكن أن أفتحه مباشرة؟ وهل ميكن أن أقاوم هذا الطارق إن عمد
إىل الدخول عنوة؟
ويف طريق نزولي صادفين عمود حديدي فحملته بيمناي وواصلت
143
النزول ..وقفت إلي اليمني متجنبا مقابلة الباب مباشرة خوفا من إطالق
النار عليَّ وهو ما وقع عدة مرات يف هذه املدينة وذهب ضحيته الشيخ
اإلمام وطوي امللف دون أن تثبت اجلرمية على أحد..
قيل يومها أن اإلرهابيني هم الذين قتلوه ألنهم أرادوه أن يصدر فتوى
وجوب اجلهاد ضد السلطة وكل أجهزتها واملتعاملني معها لكنه أبى ذلك
انطالقا من أن املسلم ال حيل له قتل أخيه املسلم حتت أية ذريعة ..وقيل أن
أجهزة الدولة هي اليت قتلته خلطبه النارية اليت كان يلقيها كل مجعة منتقدا
فيها ما وصلت إليه الدولة من فساد واحنراف ..وذهب دمه وسط األقاويل..
ال أحد يعرف احلقيقة ..ولعله هو ذاته ال يدركها لقد كان..
وتواصلت الطرقات على الباب احلديدي شديدة ..تنصت لَعلي أمسع
حديثا يدل على هوية الطارق ..فلم أمسع شيئا ..لكين تأكدت أنهم مجاعة
واضطررت أن أنطق متسائال
-من الطارق؟
وسريعا جاءني اجلواب كأمنا صاحبه كان ينتظر سؤالي
-افتح ..الشرطة.
-وماذا تريد الشرطة عندنا ليال؟
-افتح وفقط..
هل هم الشرطة حقا؟ ميكن ذلك ألن غريهم ال ميكن أن حيضروا يف
هذا الوقت ويبقوا وقتا طويال أمام الباب ..ويدقوا الباب مبثل هذه الثقة..
ولكن ما تريد الشرطة عندي؟ ميكن أن يكونوا آخرين عندهم معي حساب
ما أنا ال أعرفه ..والراجح أنها لعبة من أالعيب امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ليس يف
األمر مشكلة ..سكان حارة احلفرة ال خيفى عليهم شيء مطلقا وال ميكن أن
144
يبقى أحدهم اآلن نائما ..أنا على يقني أنهم يتلصصون مجيعا على النوافذ
واألبواب وهذا أمر يفيدني كثريا يف حتديد هوية الطارقني.
وتناهى إىل مسمعي صوت عمي صاحل وهم حياولون إبعاده عن الباب
-ماذا تريدون؟ حتى أنتم.............................
وأسرعت أفتح الباب البد أن أدرك املوقف قبل أن يقع ما ال حتمد
عقباه ..عمي صاحل ال خيشى أن يقول ما يراه صوابا ..فإذا استشاط غضبا قلب
الدنيا على اجلميع وقد يتعرض لألذى ..كان أحد رجال األمن ميسك به
قائال:
-ياعمي صاحل حنن ننفذ األوامر وفقط
كانوا أكثر من عشرة رجال بعضهم يلبس بذالت زرقاء وآخرون يف
مالبسهم امل دنية ولكنهم مجيعا كانوا مدججني باألسلحة ..تكاد
سياراتهم الثالث تسد الرؤية عن كل اجلريان ..مددت يدي إىل
الشرطي الذي كان ميسك بعمي صاحل ألبعده عنه ..لكن اآلخرين
أمسكوا بي ودفعوني إىل البيت ..مل أستطع أن أمنعهم وال أن أقاومهم..
ومل مينحوني حتى فرصة االستفسار عن الغرض من جميئهم ليال ..وحده
عمي صاحل كان يصيح جملجال
-ال تدعهم يدخلون...إنـ...........................
بقي بعضهم يف احلجرة األرضية وصعد آخرون معي إىل احلجرة العليا..
كنت واقفا متكئا على اجلدار يف الوقت الذي انهمك فيه اجلميع يقلبون
كل شيء ..املكتبة ..األشرطة ..فتحوا جهاز اإلعالم اآللي ..قلبوا السرير..
فتشوا داخل كل شيء ميكن أن خيفي دليال...
كررت سؤالي مرارا عم تبحثون ألدلكم عليه؟ مل يعبأوا بسؤالي
145
جلست على الكرسي ..مازالت زوابع عمي صاحل تصل مسامعنا مجيعا..
وأمروني باخلروج معهم فامتثلت لألمر ..اقرتح علي أحدهم وكان صامتا
طول الوقت أن ألبس معطفي ألن الربد شديد ..نظرت فيه شاكرا ومل أمتثل
لطلبه ..حني هموا بإدخالي إحدى سيارتهم الزرقاء ..وقفت أمامي اجلازيه
تدثرني بربنس عبدالرحيم ..كانت نظراتها برنسا دافئا قرأت على
صفحاتها آيات احلب والتقدير.
وانطلقت السيارات مبتعدة عن عيون أهل احلارة اليت بدأت خترج من
جحورها ..وعن صياح عمي صاحل الذي كان حياول أهل احلارة منعه من
اللحاق بي.
ماكنت قلقا مطلقا بل كنت رابط اجلأش متاما ليس الذي يقع غريبا عنا
بل هو يف احلقيقة أمر بسيط ..منذ سنوات تدهورت األوضاع وتعفنت..
وقد جيرف الواحد منا خطأ أو محاقة وقد تبتلعه زوبعة حسد أو تصفية
حسابات ..وسواء أكنتَ يف السجن أم يف خمفر الشرطة أم تعبث يف األزقة
والشوارع فأنت سجني..
حني دخلت خمفر الشرطة قرأت على ساعة اجلدار الساعة الثانية ..كان
اجلو باردا ..وكان الصمت يقمط املدينة النائمة ..كان يلفها كجثة مومياء ..مل
يكن يصل مسمعي إال وقع أقدام رجال الشرطة وهم يذرعون غرف
املكاتب واألروقة جيئة وذهابا ..وإال الساعة احلائطية اليت مل متل من توقيع
دقاتها بانتظام رتيب ..تذكرت أغنية الفنان اجلزائري رابح درياسه
ياساعَه يهديكْ دوري وَاجْري بَالَّرقَّاص
عيين تنظرْ يف ارقامكْ واخلاط ْر مُحْتارْ
والَّت الدْقَيْقات ساعه والساعه بَانْهارْ..
146
ساعة من الزمن قضيتها وحدي ..استدعيت بعدها إىل مكتب آخر..
جلست أمام حمقق ال أعرفه ..أمطرني بوابل من األسئلة العادية ..امسك..
لقبك ..سنك ..عملك ..احلزب الذي تنتمي إليه ..مارأيك يف فخامة الرئيس..
أكمل ملء االستمارة وسلمها لي كي أوقع على ما صرحت به ..دخل
اثنان ..أمراني أن أنزع سرييْ حذائي وحزام سروالي وساعيت وكل ما أمحل
من وثائق ونقود وفعال امتثلت لألمر دون مناقشة ..بعدها أدخلوني خلف
قضبان حديدية ..وطلبوا مين أن أنام إن أردت ..وانصرفوا ..أردت أن
أستفسر عن سبب كل ما فعلوا مل مينحوني فرصة.
درت على نفسي يف ذلك املكان الضيق ..مرت ونصف على مرتين..
أرضية مبلطة ..جدران متسخة ..عليها كتابات ..وآثار حملجوزين مروا من
هنا ..جمرمون أم أبرياء شرفاء؟ لست أدري ..قضبان حديدية تقف كجنود
منضبطني بصرامة ..أطل علي شرطي برأسه ..حملت آيات األسى تنسج
شبابيكها على عينيه..
-إن احتجت شيئا ..ماء ..أو مرحاضا ..فاطلبين ..أنا هنا قريب منك
وهممت أن أسأله عن سبب وجودي هنا لكنه قاطعين
-ال أعرف شيئا ..وال يسمح القانون بأن أكلمك أو أريك وجهي ..أنا
خلف اجلدار قريب من الباب ..ميكنك طليب فيما ذكرتُ
واختفى كالشبح.
أثار شفقيت وهو يأفل ..تكومت يف مكاني على البالط البارد ..وسرحت
بفكري ..ما معنى أن تنتهك حرمة إنسان ليال..؟ وجير من بيته إىل
احلجز..؟ويرمى فوق بالط بارد..؟ياللجنــون ؟؟؟؟!!!
تذكرت قول أدونيس:
147
قالت صحرائي
ال تألف
كن الغريب دائما حتى عن نفسك
وقل لوجهك يف كل فجر
كأنين أراك للمرة األوىل
وما فتئت أن صرفت تفكريي عن ذلك ليس األمر جديدا ..الكثري من
السجون العربية تئن بآالف املثقفني لعشرات السنوات ..دول عربية عريقة
حبجم بابل أفرغت من كل مثقفيها ألنهم أبوا أن يسبحوا لآلمر الناهي
فيها بكرة وأصيال ..نطفة احلجاج اليت زرعها مازالت معطاء ولودا وسيفه
يأبى أن يُثلم..
ووقف أمامي مفدي زكرياء مرفوع اهلامة..
أهٍ أيها الفحل...
قضيت عمرك يف سجون االستعمار..
وكتبت سجل خلودنا بدمائك الغالية..
وحني قطفنا مثار تضحياتك..
حني ارتوينا من كوثر دمائك..
حني تفيأنا ظالل كربيائك..
حني.............................
أبعدوك عن األرض اليت أحببتها لتموت بعيدا بعيدا..
وهاهم مازالوا حتى اآلن ال حيسنون إال إبعادنا ..وال منلك حنن يف غمرة
األسى إال أن نردد معك:
بالدكم ينام .....فيها *** وختصى يف مرابعها الفحول
148
آهٍ...
قمع ..وحني مساؤنا إرهــاب من أين يأتي الشعـر؟ حني نهـــارنا
سرا فنكهة خبزنا استجــواب واحلكم شرطـــــــــي يسري وراءنا
فحواجـــز وخمافـر وكـــالب وخريطة الوطن الكبري فضيـــــحة
مذبوحة أو حاكـم قصــــاب والعـــامل العـــربي إما نعجـــــة
يف خصيتيه وربـك الوهــاب والعــامل العربي خيــــزن نفـطـــه
4
ال تصفعين أيها القدر
على وجهي أمتار من الصفعـــات
خنجر الليل يدلف عرش القلب..
يغتال مشوسه..
وأنا وحدي سنبلة تالهمتها الغربان..
تنافضت حباتها..
وحدها القصبة تقف بعناد..
ها آخر أوكاري متتد إليه أيادي الدهر..
حارة احلفرة تصمت على إيقاع موال حزين..
انطفأت كل النوافذ لكن القلوب ظلت تنبض يف أكفانها السوداء..
حتى أمي املشلولة ظلت تتابع قسمات وجهي حبرية ..لعلها أدركت ما وقع
البنها الذي غذته من صدرها ..أذرع الغرف ..جدران البيت املتآكلة رفاًة..
أنا اآلن يف حاجة إىل من أكلمه ..ال بد أن أفرغ ما يف حوض القلب
امللتهب ..ليت أمي تقدر على ذلك ..هي جمرد كتلة حلم ال تتحرك إال على
الكرسي ..ال أبدا أمي دائما كتلة من األحاسيس امللتهبة ..لكن الزمن
149
اغتصب منها لسانها كما اغتصب منها رجليها ..هي اآلن تشعر بكل
شيء ..عيناها زوابع للحرية ..وكنت أجتنب بصعوبة النظر إليهما..
والدي ليس اآلن يف البيت يتحول جمنونا حني حيس بإذالل اآلخرين
له ..علمته العواصف أن ال ينثين ألي خملوق ..دائما يردد املثل بعد أن
ينسبه إىل أبيه ..والدي سامل العلواني كان يقول :حيرث واقف أو ينكسر
أطل من الباب ..الشارع يفغر فاه كديناغول رهيب ..لكن النوافذ
كانت تكتم خلفها أزيزا رهيبا ..ووحده كان إبراهيم يطل بعينيه من ثقب
بالباب مُرَمْ ِر ًما:
خالتْ حارة احلفرة خْالت..
ْ -
راحو رْجالْها وَ ْبقاوْ َلْبناتْ...
-خالت حارة احلفرة خالت..
راحو رجاهلا وبقاو لبنات…
ما التهمة اليت سيوجهونها إليه ..كل شيء جائز هذه األيام وميكن
لإلنسان أن يُرمى مبا ال خيطر على بال ..يف حني يسري آالف اجملرمني اآلن
طلقاء يدوسون على القانون ..ويشرتون رجاله ..وينمون ثروات ماكانوا
ليحلموا بها ..هل هذا نتاج حتمي حلالة التخلف اليت نعيشها؟ رمبا ورمبا
أيضا هي ذريعة حيتمي خلفها أولو األمر والنهي..
إذا مل حنل مشكلة منري غدا البد أن أتصل بذياب يف العاصمة ..البد
أن أجده وإن استلزم األمر السفر إليه ..لقد انقطعت أخباره منذ أشهر ..مل
يعد خيابرني ..ومل يعد يراسلين ..هل ميكن أن يكون خوفه على نفسه من
اغتيال اإلرهاب هو السبب كما ادعى يف مراسلته السابقة؟ رمبا ..ال تهم
رسائله املهم أن يكون خبري.
150
وقفز إىل ذهين وأنا أنسحب عائدة إىل حجرتي شك رهيب ..أال ميكن
أن يكون امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ وراء القضية؟ هذه البالد يُشرتى فيها كل شيء..
من ميلك املال ميلك كل شيء ..كما يشرتي البطيخ يشرتي الضمائر
والقوانني ..وكما يدوس على الرتاب يدوس على األبرياء والكربياء
كان املؤذن يشق بصوته سكون الليل البهيم..
وكنت أتسلل إىل دفء فراشي أصارع رغبة اإلميان يف تلبية النداء
5
بت أرقب مركز الشرطة من بعيد وباتوا يرقبونين بعني خفية ..كانوا
يعرفون جيدا من أنا ويدركون أن رأسي ناشفة وقد جتر علي الويالت..
هؤالء مجيعا ببذالتهم الزرقاء ورشاشاتهم الكئيبة وعيونهم اليت تدور يف
حماجرها حائرة قلقة ..هؤالء مجيعا كانوا إخوانا البين عبد الرحيم -رمحه اهلل
-وبعض آبائهم كانوا رفاقا لي أيام الثورة التحريرية ..أعرف أنهم باتوا
يراقبونين ليس خوفا مين طبعا ولكن حبا يفَّ ..وشفقة علي.
حني الحت أول خيوط الفجر ترسم لوحة يوم جديد اندفعت أقرتب
منهم ..ارتسمت على وجوههم ابتسامات بائسة واندفعوا مجيعا معا حييونين
-صباح اخلري عمي صاحل..
رددت التحية دون أن أتوقف ..واندفعت أجل باب املركز ..مل يعرتض
سبيلي أحد ..واجهين كريم الضابط ..ودون أن أنطق سحبين من مييين إىل
مكتبه ..أجلسين ..وجلس قباليت يتأملين بعينني حائرتني ..كان يبحث من أين
يبدأ حديثه ..وحني خشي أن أبدأ اندفع يقول:
-ياعمي صاحل صلِّ على حممد
وحني مسعين أردد الصالة بني شفيت متمتما واصل
151
-ال تقلق ..منري عندنا يف أمان ..مادمتُ هنا لن ميس بأذى ..اطمئن متاما
هو مثل أخي متاما ..والقضية الخطر فيها..
وأردت أن أصرخ يف وجهه ..وملاذا تقتحمون بيته ليال وختتطفونه
كاخلائن؟ ملاذا؟ هذه الدولة ال حتسن إال تتبع األبرياء أما اللصوص
فيتحكمون يف كل شيء ولكنه قاطعين قائال:
-حنن مأمورون ..والواجب يدعونا أن نطبق األوامر ..ال تقلق عليك
أن تعود وسأوافيك عنه بكل جديد شرط أن يبقى كل شيء سرا بيننا.
ومسعت صوتا من أعماقي يدفعين أن أقبل بالعرض ..واندلق صهريج
على غضيب فأطفأ هليبه فقمت من مكاني ..وقبل أن أغادر املكتب رميت
إليه بأوراق نقدية مل أعدها
-اشرت له كل ما يلزمه
وعجل جيمعها ويعيدها إلي يف شيء من اخلوف والغضب
-سأتكفل بكل أموره فال حتمل هما
وخرجت عائدا إىل البيت أجر خطى حزينة ثقيلة ..مع كل خطوة كنت
أرى أبناء حارة احلفرة يقلبون يفَّ نظرات كئيبة ..كانوا ينتظرون مين أن أزرع
يف قلوبهم نار الثورة فيجتمعون مع الصباح ويداهمون مركز الشرطة ..أبناء
حارة احلفرة ليس هلم ما خيسرونه ..لقد استأثرت أحياء األغنياء بكل شيء.
حني دلفت شارعنا كانت رائحة القنوات جتلد بقذارتها أنفي ..وكانت
املياه العفنة تتدفق شاقة لنفسها نهرا ..أول من جترأ على حمادثيت عَزُّو ْز الدود
وقد غدا كالبعري يرغي..
-اختلط الدود مع الدود ..ولن يفكها إال اخلالق املعبود..
-اختلط الدود مع الدود ..ولن يفكها إال اخلالق املعبود..
152
وراح يكرر عبارته قريبا من أذني حتى كاد يثقب طبلتها ..سكت فجأة..
أمسكين ..تأملين وانفجر يبكي كالصغري
َم ْد
-منري أين احللوة؟ لقد قتلوها ..قتلها امْحَمَّدْ امْل َّ
وانفجر يبكي فأسرعت أختلص منه ..دخلت البيت أمام عيون أهل
احلارة اليت كانت تتابع خطواتي.
هرعت إلي اجلازيه ..راحت تسألين عن األمر وتطرح عشرات
االستفسارات ..طلبت منها قهوة وحدثتها عن كل شيء ..قدمت لي القهوة
وهرعت تغري ثيابها وهي تتمتم :القضية وراءها امْحَمَّدْ املمد ..خمالبه
طويلة ..ولعله ألصق مبنري تهمة ما تؤدي به إىل اإلعدام ..منافق ميارس
اإلرهاب ويتهم الناس به..
ذاهبة هي إىل العمل؟ أم إىل مكان آخر؟ لست أدري ..ومل أتعود أن
أطرح عليها سؤاال من هذا النوع ..قد ختربني عن اجلهة اليت تريد وقد ال
تفعل ..وحدها تتخذ القرار وفق ما تقرر ..وخرجت دون أن تنطق بكلمة
واحدة.
وحدي بقيت أجتمد يف مكاني ارتشف القهوة ..أمتص دخينة الربزيلي
يف نهم شديد ..ما الذي يقع حولنا ..أية غيالن تعبث بأحالمنا يف هذا
الوطن؟ ما الذي حققناه منذ االستقالل غري إخراج جنود فرنسا؟ كلما حتل
ذكرى الثورة أو ذكرى االستقالل خيدروننا حبفل فين حيييه الشاب خالد أو
وردة اجلزائرية عن عيد الكرامة ..وجيلدوننا بعشرات اخلطب الرنانة اليت ال
معنى هلا ..وبدل أن يُكرم العلماء واملثقفون والعاملون املخلصون ..وبدل أن
يعلن عن انتصارات جديدة ومشاريع حديثة ..يكرم املغنون والالعبون ..أال
حيس هؤالء بالذين قضوا ذات سنوات ليسقوا بدمائهم رياحني األمل
153
والكربياء ..أال خيشى هؤالء يقظة الشعب وثورته؟
وانزوت أمامي أم منري شاحبة اللون كما رأيتها آخر مرة وقد فقدت
كثريا من دمها وهي تضع مولودها يف ظروف صعبة ويف عينيها يتأجج
الغضب ..تتربكن الثورة العارمة وهممت أن أسأهلا ..ال هممت أن
أطمئنها ..أعرف أن ما وقع البنها أثار غضبها لكين ما كدت أنطق حتى
أحسست خلفي بالباب يفتح ..استدرت ألرى اجلازيه تدلف يف عجلة
حجرتها.
6
مخسة أيام كاملة قضيتها يف احلجز دون أن أعرف سببا لذلك مل أكن
قلقا ..ما أتعرض له ال يعد شيئا ذا بال ..يف معظم بالدنا العربية آالف
املثقفني قضوا عشرات السنوات يف دهاليز الزنازين ليخرجوا منها أمواتا
أو متدحرجني إىل أرذل العمر أو معوقني ورمبا مل خيرجوا إطالقا ..أنا يف حجز
بسيط ضيق حقا وبارد جدا حتى غدوت أشك يف اصطباغ تبولي بالدم
ولكن يأتيين طعامي على كل حال ..وتأتيين بعض األخبار..
وما تهميت؟ مل أفعل شيئا ..أنا واثق من براءتي وال ميكنهم أن يثبتوا
علي شيئا إال زورا وبهتانا ..وهو أمر قد يكون ميسورا أمام إغراء املال ..املال
قد يشرتي ذمم الناس مجيعا..
شبعنا شعارات ومل نلمس شيئا ..من التصحيح الثوري ..إىل من أجل
حياة أفضل ..إىل من أجل إنقاذ اجلزائر ..إىل هذي يدي أمدها إليكم ..إىل
اجلزائر فوق كل اعتبار..
والكل يعرف أن طريق اخلالص مير عرب إبادة الناموس الناموس
الذي مل يشبع من امتصاص دمائنا ..وحضرني الساعة قول مجيل
154
حفظ ته ألحد علماء هذه األمة وهو اإلبراهيمي" إن للغرب فيكم
مطايا ذلال هم أصل البالء والعلة..
قادكم بسلوك من األمراء وامللوك..
فقادوكم إىل اهلاوية..
فانزعوا املقادة من هؤالء القادة
تفلحوا..
ولن تفلحوا ولن تصلحوا إال إذا رجع أمركم إىل الشعب..
وأمجع الشعب على رأي واحد..
واتفق الرأي على نظام واحد..
ومتخض النظام بدستور واحد..
وملك واحد..
فإن قلتم إن هذا عسري..
فعيشوا عيشة األسري..
أو موتوا ميتة احلسري..
شرب يف احلياة وقرب يف املمات" ..
من كتاب .................ص.............
أليس من العجب أن يقول هذا الشيخ كالما مثل هذا سنة 1949
ويغيب حنن علينا اآلن؟
ثم مافتئت أن غريت رأيي ..ماوقع لي ليس بسبب مواقفي بل إن
التهمة خطرية وقد نسج خيوطها العنكبوتية امْحَمَّ ْد امْلَمَّدْ ماهي؟ لست
أدري ..وكيف يكون اخلالص منها؟ لست أدري.
وجاءني الضابط كريم هذا الصباح سألين عن حالي وسلمين جريدة
155
ذلك اليوم ..طمأنين على العائلة وعلى كل معاريف مل يكن يهمين أحد كما
يهمين أبي صاحل وأُمَّا عرجونه وأخيت اجلازيه ..ومل أصدقه يف كل الذي قال..
هكذا نفسي حدثتين أن ما قاله ليس صحيحا على اإلطالق أو ليس كله
صحيحا على األقل ..وخرج ليعود بسرعة ويقول:
-هل تعرف يامنري؟ التحق ثالثة شبان من حارة احلفرة بصفوف
اإلرهاب.
وبقدر ما أقلقين هذا النبأ أثار حفيظيت ..ملاذا خيربني بذلك؟ هل هو جملرد
اإلخبار؟ أم لغرض يف نفس يعقوب؟ ورفعت فيه عيين فوجدته مازال
يتأملين كأمنا يريد أن يعرف موقفي من فعل هؤالء ..ثم خرج وقد وعد أن
يزورني مساء ..اتكأت على اجلدار ..رميت اجلريدة جانبا ..كل شيء يغلف
نفسي بالقتامة ..من هؤالء املغرورون الذين محلوا السالح يف وجه اجلميع؟
ورحت أسرتجع أمساءهم منذ أول متطوع منهم..
خيوط واضحة جتمعهم مجيعا ..معظمهم من األحياء الفقرية ..مستواهم
التعليمي حمدود ..أكثرهم يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية ..إنه صراع
طبقات ..طبقة أثرت واغتنت واستوت على عرش املال ..وطبقة هوت إىل
احلضيض األسفل فاحتمت بدرع الدين ..والسلطة عندنا تطبق سياسة ملء
املآلن وتفريغ الفارغ ..إنها تطبق نظرية الناموس..
ومفادها أن الناموس إذا أحل يف الدوران حولك فال مندوحة من أن
تسلمه جسدك ليمتص دمك فإذا شبع سيدعك وحالك ..لكن الناموس
عندنا ازداد تكاثرا وازداد شراهة ..وقد نفد دمنا فماذا سيمتص؟ هل
سيتوحش ويلتهم اللحم والعظم؟
األثرياء يزدادون ثراء وطغيانا ..اشرتوا كل شيء ..القانون ..املسؤولني..
156
وصاروا هم أصحاب القرار ..أما الفقراء فقد كشر الفقر أنيابه عليهم
ليسحقهم..
الطبقة األوىل ال بد أن تقف مع أولي األمر والنهي لتدافع عن
امتيازاتها حتت شعارات واهية مثل حب الوطن ..واجلزائر فوق كل اعتبار..
وال عالقة هلم بالوطن إال يف مناسبات يرفعون فيها العلم ويرددون نشيدا ال
حيفظونه كله أو ال حيفظونه على اإلطالق ناهيك عن فهمه..
وطبقة ثانية ال متلك إال أن تنكفئ على نفسها أو تتحول إىل إرهاب..
ألن كل الطرق األخرى سدت أمامها رغم أنهم يدركون أن ذلك فعل
احلمقى الذين يركبون موجة الثورة فينتحرون ..حيطمون أنفسهم وأوطانهم.
صدقت ياماركس القضية قضية صراع طبقي ..وامللكية هي الفتنة
الكربى ..إن اإلنسان ليطغى أن رآه استغنى..
يف املساء زارني حمافظ الشرطة وبرفقته امْحَمَّ ْد امْلَمَّدْ ..وكان ذلك
صاعقة فجرت أعصابي وأنهكتين متاما ورمبا لو كنت خارج القضبان
الرتكبت محاقة إن جاز أن تكون كذلك ..مل يتكلم حمافظ الشرطة ..كان يدس
يديه يف جيب سرواله كما يفعل شريف رعاة البقر يف الوقت الذي كانت
شفتاه تعبثان بدخينة حديثة االشتعال ..وكان امْحَمَّ ْد امْلَمَّدْ يقف جبواره
بكربياء كاذب يرتدي قندورة بيضاء وميسك طرفيها بيديه اللتني مجعهما
خلف ظهره ..ذكرتين وضعيته هذه بأبيه مكبال والدم يتدفق من رقبته..
تأملت رقبته ورأسه ..كان أشقر اللون ..وقد بدأ الزمن يعبث به شيبا
وجتاعيد ..وتبادر إىل ذهين سؤال غريب ..هل كان أبوه أشقر أيضا؟ أم أنه..
وأخرجين امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ من حريتي وهو يقول مصطنعا االستغراب:
-سبحان اهلل! سي منري هنا ..ياسي السعيد هل وقعت القيامة؟
157
وحول حديثه إلي
-واهلل ما علمت ..ولو علمت ما تركتك تبيت ليلة واحدة ..جرائمك
أنا أحتملها يا ولدي
-تلدك النار أيها اخلنزير
ومل يتبني ما قلت فواصل يقول خماطبا حمافظ الشرطة
-سي منري معه رجاله واملثل عندنا يقول :عَ ْد رْجالَك واسْقِ املاء..
أطلق سراحه وأنا أضمنه ..بل وسيتعهد بأن ال يرتكب محاقة أخرى
وحدقا يف منتظرين ما سأقوله وحني مل أحترك من مكاني قال لي حمافظ
الشرطة ويداه ما زالتا يف جيبيه:
-أمل تسمع ما قاله احلاج ..مب ترد؟
احلاج؟ متى حج هذا جنس؟ وسرعان ما صرفت ذهين عن ذلك وقلت:
-أعتقد أنين يف مركز شرطة وال عالقة للمدنيني مثل من ذكرت
بقضييت
وسكتُّ وسكتَ احملافظ ..لكن امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ راح يرغي جبمل مل أفهم
بداياتها ..ولكنه انتهى هادئا وهو يقول:
-الكبري يا سي السعيد ال حيمل احلقد ..أطلق سراحه وأنا أضمن
حسن سلوكه واستقامته ..وأنا على أمت االستعداد لدفع كل ما تطلبون.
وخرجا..
كان ذياب هلاللي ينتصب أمامي ..ممتد القامة ..أمسر الوجه ..شامخ
األنف ..وهو يقول كأمنا يوصيين:
قِيزْ لُبَّار 6وال قمح املَنَّه ** عزْ فَالنارْ وال ذُلْ فَاجلنَّه
-6لبار مجع بور ..والقيز نبات صغري يستخرج الفقراء والرعاة عادة مثرته الصغرية من
158
7
قررت أن أذهب رأسا إىل سيدي فرج حيث يقيم ذياب ..أعتقد أنين
سأجده هناك ألنه تعود أن ال يغادر الفندق إال يف حدود العاشرة فيتوجه
مباشرة بعد ذلك إىل ميدان إجناز مقاله ..ثم يلتحق باجلريدة منتصف النهار..
أو يستمر بقاءه فيها إىل آخر النهار ..ورمبا إىل ساعة متأخرة من الليل إنها
مهنة املتاعب ولكنها املهنة اليت أحبها ذياب منذ صغره حتى القداسة ..وكان
يردد يف مسمعي كلما لقيته:
القلم صاروخ ذو حدين يبيد الشر ويبذر األمل ..هل رأيت سالحا ذا
حدين يااجلازيه؟
وبقدر ما كنت أكرب فيه هذا العشق كنت أردد مع نفسي :أخشى أن
يكسر خنجر صغري كل أقالمكم..
هدوء البحر يقلقين كان يعاكس حالة القلق اليت كنت أعيشها تلك
اللحظة ..وسيدي فرج كانت شاة مبقورة معلقة من عرقوبها ..خيل إلي
اآلالف من تتار فرنسا يدنسون هذه القطعة من أرضنا ..وأمامهم كانت
تقف آالف الصدور العاشقة عارية إال من إخالصها.
من هنا بدأ اجلرح..
من هنا بدأ االنكسار..
هنا كانت أول الطعنات..
ومذ ذاك واملدية تنغرز تنغرز يف سويداء القلب..
وحملت الداي حسني جيمع يف هلفة أطنان الذهب ويفر من ساحة املعركة
159
مع أفراد أسرته ..معريا الظهور للطعنات..
أيها الداي ليتك مل تبذر نطفك هاهنا ..لقد ذهبت وذهبت فرنسا ..لكن
آالف الدايات فرختهم هذه األرض ..عفوا هبت بهم الريح العاتية.
وصلت الفندق ..متلكتين الرهبة ..تضعضع كل اجلسد كأمنا كنت أنتظر
صاعقة ..اقرتبت من باب غرفته ..تأكدت من الرقم ..مددت يدا مرتعشة
ودققته دقات حمتضرة ..مل أتلق ردا ..دب الوهن يف رجلي وتسلل سريعا عرب
الساقني ..أظلم الرواق يف عيين ..وتهاوت اجلدران من حولي ..أحسست بيد
تغتال اخلدر من تضاريس اجلسد ..جلست على األريكة يف الشرفة الكبرية
مقابل البحر ..وحدها طيور النوارس كانت متارس لعبة احلب يف كرها
وفرها بني الرب والبحر ..ويف مغازلتها اللجج املتسابقة.
جاءتين اخلادمة بكأس ماء عببته جرعة واحدة ..سألتين عمن أحبث ..مل
أجبها ..حتاملت على نفسي وقمت ..نظرت فيها بعينني شاكرتني وانطلقت
مبتعدة ..مسرتين كلماتها يف األرض وهي تصفعين بقوهلا:
-ذياب مل حيضر إىل الفندق منذ شهرين تقريبا ولعله لن يعود ..ال جيوز
أن تثق الفتيات بشباب اليوم ..حديثهم زبدة إذا أشرقت الشمس ذاب
صرت أمام كالمها كالكرة املتأرجحة يف يد متمرس ..ما الذي أقوله..؟ ال
شيء ..جيب أن أسكت.
مل تكن تشغلين شوارع العاصمة وأنا يف سيارة األجرة ..ومل تكن
تستفزني هذه القاذورات اليت تراكمت هنا وهناك كالعلل واألدواء ..تغتال
يف وحشية طهر احلمامة وبياضها ..كان خيالي يرفرف حول حارة احلفرة ..هل
أطلق سراح منري أم ال؟ وما الذي يفعله والدي هذه اللحظة..؟ هذا الفرس
اجلموح ميكنه أن يكبو يف أية حلظة ..لقد بدأ يزْوَرُّ من وقع القنا بلَبانه.
160
اقرتبت السيارة من جممع الصحافة ..قبل أن تتوقف نقدت سائقها
وأسرعت أفتح الباب ..نزلت مهرولة ..كنت أعرف الطريق جيدا رغم أني
حضرت مرة واحدة ومنذ عامني ..مل آبه بالالفتة اجلديدة اليت زينت مدخل
املقر "جريدة الشروق اليومي" ..رأسا توجهت إىل مكتبه ..كان الباب
مشرعا ..دخلت مباشرة ..رحت أقلب الطرف يف من كان فيه ..صحافيان
وصحافية كانوا صامتني منهمكني مجيعا يف إعداد مادة الغد ..وقبل أن أنطق
تهلل وجه ياسني واندفع من خلف مكتبه مرحبا وهو مينح قلمه اسرتاحة
حمارب.
-اجلازيه هنا؟ أهال وسهال..
وقبل أن أرد ..قدمين إىل زميليه على أنين خطيبة ذياب ..وسحبين من مييين
جيرني خارجا قائال لزميله:
-سنعود بعد دقائق..
أفزعين هذا التصرف منه..
ملاذا سحبين بسرعة من املكتب؟
وملاذا ارتسمت على وجهي زميليه سحنة احلزن؟
هناك مكروه دون شك.
وجلسنا يف نادي اجملمع ..أسرع النادل ..فطلبنا قهوتني أردتها سوداء
كأحزاني ..بدا لي ياسني كئيبا ..وبدا أكرب من عمره ..بادرت بسؤال عام
-ياسني ماالذي جيري يف هذا البلد؟
-أنت تعرفني يااجلازيه ..اجلزائر تنتصر دائما مهما تكالب أعداؤها
بدا هذا احلديث كاذبا ..تنتصر؟ واألبرياء يُذحبون كل يوم باملئات؟
واإلرهاب ميد جذور سرطاناته يف كل شرب؟ أدرك أنين ال أؤمن بكالمه..
161
فواصل مؤكدا:
-ال تصدقني؟ هاحنن واقفون كالشواهق.
وأرسل ضحكة صفراء كاملوت مداريا مراوغاته ..مل آبه به ..اليهمين
مايقول ..مادامت احلقيقة ساطعة أمامي كالشمس ..بل هي ساطعة أمام
اجلميع ..وال حياول أن خيفيها عنا إال املسؤولون الذين سكنوا القصور
وأحاطوا نفوسهم بالدبابات وآالف اجلنود ..تاركني أبناء الشعب إلرهاب
أعمى جبان يلتهم كل شيء
أبرقت بعيين يف عينيه ..فهم قصدي ودون أن أطرح السؤال قال:
-جئت تبحثني عنه ..هو خبري ..هو خبري ..خبري متاما ..واجلزائر خبري.
أفجعين تكراره هذا كأمنا حياول توكيد أمر مشكوك فيه ..ودون أن يدع
لي فرصة طرح السؤال واصل:
-سيعود قريبا إليكم رمبا الشهر القادم أو الذي بعده.
مل آبه بالنادل يضع القهوتني فقلت بصوت مرتفع.
-ماذا تقصد؟ ذياب جيب أن أراه؟ قطعت أكثر من ثالث مئة كلومرت
ألراه ..بل ألعود به ..جيب أن أعود به ..حالنا ليست على ما يرام ..أحس أن
كل شيء يهرب مين ..أرجوك يا ياسني جيب أن تساعدني ..إنين أخسر كل
شيء ..اجلميع اآلن يقف ضدي ..فما العمل؟
وانفجرتُ باكية غري مبالية بكل الذين كانوا حولي ..قام ياسني ..رفع
رأسي وطلب مين أن أشرب كأس املاء وأن ألزم اهلدوء حتى يتمكن من
إفهامي القضية كلها ..وفعال متالكت نفسي أو حاولت أن أوهمه بذلك.
عاود اجللوس يف مكانه وقبل أن ميزق صمته البارد اندفعت قائلة:
-ال أريد لفا وال دورانا ..أريد أن أعرف أين هو اآلن؟ ملاذا هو ليس
162
معكم ..وال يف الفندق ..ال أريد إال الصراحة
وبرزانته املعهودة وصوته اخلافت قال:
-اطمئين هو خبري ..هذا هو املهم ..وسأقص عليك باقي احلكاية فيما
بعد ..هذه أمور ال تقال يف األماكن العمومية.
نظرت من حولي ألتبني صدق ادعائه ..هذا ناد للصحافيني وليس
مكانا عموميا ..تبني لي أن شخصا جيلس قريبا منا يطالع جملة أجنبية
وكأنه يتصنت علينا ..كل شيء ممكن يف هذا الوطن ..وسرك ال تأمتن
عليه إال نفسك
مل أنطق هذه املرة بل مددت يدي إىل حافظيت ..أخرجت ظرفا سلمته إليه
ورحت أرتشف قهوتي وأتابع ما يفعل ..فض الظرف عجال دون أن ينطق..
نشر الرسالة وراح يقرأ ..وراحت مالحمه تتغري مع كل سطر يقرأه.
8
هذا عصر املادة ال أحد ميكنه أن يقف أمامي ..سأدوسكم مجيعا
كالصراصري ..من ميلك املال ميلك كل شيء ..إنه إكسري البشرية ..أصحابه
حيققون كل ما يصبون إليه ..سخَّرت اجلميع ..الكل خضع إلرادتي والذين
أبوا الويل هلم من سطوتي ..رحل عبدالرحيم إىل غري رجعة ..جن إبراهيم..
الشيخ صاحل يف طريقه إىل اجلنون أو االنتحار ..منري حبكت له تهمة لن
يفلت منها ليس أقل من اإلعدام أو املؤبد ..ذياب شردت به حماصرا طريدا..
دربي اآلن ممهد كل احلجارة أزلتها من حذائي ..كل الينابيع اليت كانت تسقي
غطرسة اجلازيه جففتها وإىل األبد ..واآلن جيب على اجلازيه أن تركع أمام
قدمي صاغرة ..وعند ذاك ..عند ذاك سأفعل الكثري..
سـ.......................
163
...........................
...........................
..........................
خرجت من البيت بعد أن رشفت آخر جرعة من فنجان القهوة..
برنامج املساء سيكون كثيفا ال بد أن أستغل هذا الصباح ألزور سكان
حارة احلفرة هم األكثر وسأحتاج إىل أصواتهم يف االنتخابات ..مامعنى
لثري مثلي ال جيلس على كرسي القيادة..؟ أنا ماخلقت ألملك املال
فحسب ..؟ بل خلقت ألقود الناس وأتزعمهم وهذه سنة اهلل وال تبديل
لسنته ..وظيفة الفقراء العمل عند أسيادهم والتصفيق هلم واالئتمار
بأوامرهم الغري..
وماذا حيتاج الزعيم ليس الشهادات العلمية كما يتوقع بعض األغبياء
بل املال والفطنة ..منذ االستقالل إىل اليوم مل أعرف يف هذه املدينة رئيس
بلدية جتاوز مستواه االبتدائي ..منري مثقف هل يقدر على قيادة الناس؟
هؤالء غاشي همج البد هلم من زعيم حلُّوف..
وقفت عند الباب ..هرع إلي اخلادم متذلال خيربني بصوت خافت أنه
أكمل تنظيف السيارة وأنها تنتظر أن أشرفها بركوبي ..صغر أمامي ورأيته
حشرة معوَّقة ..دسته بقدمي وأنا أردد غاشي ..وعربت ..استويت على
عرشها..
ياأهل حارة احلفرة أنا ربكم األعلى..
أدرت الزر ..انبعثت موسيقى حسين متأل علي كوني الواسع..
ما تَبْكِيشْ
قولي ذا مَكتوبي
164
ب وانت شَكِييت
ن اصْعي ْ
الظ ْ
اسْمعتِ لَلْهَدْره وتْقلقيت
نَخْد ْع ُعمْري
ذا الشي مُحال
جِييت تبكي و ْطلَبْتيين
كالم الناس غيّر لَحْوال
رن اهلاتف النقال ..مل أشأ أن أرد سريعا ..جيب أن ينتظرني اجلميع.
حني بح صوته رفعته إىل أذني ببطء شديد
-آلو
وتناثرت حوالي القبالت وباقات الورد
-صباح الفل واليامسني يا أعظم حاج يف الدنيا
أعظم حاج يف الدنيا أيها املنافق وأنا مل أحج بعد؟ وأنا أسكر معكم
حتى أرى الديك محارا؟
هذه هي الدنيا ..املال يشرتي كل شيء ..وحيول األسياد عبيدا ..حمافظ
الشرطة هذا حينما عُني كان الميلك حتى مثن ثيابه اليت يرتديها ..ومن
خريي غدا من أعيان البلد ميكنه أن جيلس مع األسياد وينادمهم ..أنت
وسيليت لتحقيق الكثري.
-خريا إن شاء اهلل.
-أردت أن أذكرك باملوعد مساء ..سيحضره الكبار ..لقد اتصلت
بهم وأكدوا احلضور وأنت تعرف ياحاج لن حيلو السمر إال حبضورك
يا أعظم حاج.
طبعا أعظم حاج ما دمت أنا الذي أدفع ماليني السهرة ..مثن أكلكم
165
وسكركم يا كالب ..ولكن ال مندوحة ما دمتم وسيليت لتحقيق مآربي..
ليس بينك وبني خدمي فرق.
-ال حتمل هما سأكون يف املوعد قد أتأخر انتظروني حتى أحضر.
وقطعت املكاملة قبل أن ميطرني بوابل من النفاق ..أدرت املفتاح
وانطلقت ..كانت الساعة العاشرة صباحا ..انطلقت احندر من حينا الراقي
إىل حارة احلفرة ..بدأت املالمح تتغري ..البنايات ..الطرقات ..الوجوه ..حتى
اهلواء راح يتعفن ..واجلو خيتنق غبارا ..بدت حارة احلفرة وأنا أطأها أبشع
وأوطأ ..وفعال إنها تزداد كل عام بل كل شهر غورا ودناءة بل وتوحشا..
كل شباب اإلرهاب منها لقد صاروا يشكلون خطرا رهيبا علينا ..ال يَعْدو
األمر أن يكون حسد الفقراء لألغنياء ..وما عساهم يفعلون وحنن منلك
ترسانة من األسلحة
حتسست املسدس يف جيب صدري وأنا أجل حارة احلفرة ..كانت شبه
خالية ..جتولت ببصري ..اسرتقت النظر إىل بيت الشيخ صاحل وجبواره بيت
منري ..صمت رهيب يطبق بشدقيه على املكان ..لفت انتباهي إبراهيم
جحا وهو يصدر أصواتا ضعيفة من خلف الباب ..منذ أن فارقته أسرته
وتوقف عن أكل دوائه أصابه السعار القاتل ..وحبس نفسه وراء الباب ال
حيب أن يرى أحدا ..كلكم على دربه ستسريون.
خرجت العجوز عكة وتدحرجت حنوي يف تثاقل كصهريج زفت..
فتحت النافذة ..سدتها جبثتها ..وأنفاسها املبحوحة تكاد تنقطع ..مدت يدها
تصافحين ..دسست يف يدها مبلغ مئة دينار ..أطلت من مغارة فمها ابتسامة
عريضة سال هلا لعابها.
-أهال بسيد الرجال.
166
-أين وصلت؟
-كل شيء جاهز ..لقد أحضرت الكلب منذ أيام ..أنا أنتظر عودتها
من العاصمة اطمئن سأجعل منها كلبتك األمينة
-إن فعلت سأكسوك ذهبا ..سأجعل منك أسطورة أيتها الساحرة
الشمطاء.
9
جاءني الضابط كريم هذا الصباح ..أخرجين من احلجز البارد ..أخذني
يف لطف إىل مكتبه ..مل أتفوه بكلمة ..ظللت صامتا أجترع تعاسة هذا
الوطن الذي ال ينتصر فيه إال األقوياء ..مل يتعجل يف الكالم ..ظل صامتا
زمنا كأمنا كان يفكر من أين يبدأ احلديث ..أوقف العبث بقلمه الفاخر..
نظر إلي ..مطط شفتيه وقال وقد رآني أشرد ببصري:
-إالم ترنو؟
صمت حلظات دون أن أرد ..تفرست فيه وأنا أعيد إىل ذاكرتي بيت
7
الشاعر املغتال مبارك جلواح
أبدا أنت يف زجاجك ترنو * من وراء الدهر وتــومي
وأخرجين من شرودي وهو يواصل كالمه
-أعتذر إن كنا سببنا لك إزعاجا.
-ال حرج أنا واحد من اجلميع ..وما عسى امليت يفعل يف يد
مُغَسِّله؟
-7مبارك جلواح شاعر جزائري ولد بأقبو -سطيف -سنة 1908ورمته فرنسا بنهر
سني ينة 1943
167
كأمنا أحرجه كالمي ..لعله كان ينتظر مين أن أسأله عن السبب ..صمت
حلظات وقد بدا عليه االضطراب ..مل يستطع أن يثبت يديه يف وضعية
واحدة ثم اندفع قائال:
-ملْ تسألين مل أنت هنا؟
-سأسأل القضاء.
مل ترقه إجابيت ..أحسست كأمنا حياول أن يبعد عنه تهمة ما ..رمبا كان
حياول أن يؤكد أن ما فعلوه مل خيرج عن أمر القانون ..هناك شك واتهام
وحجز وحتقيق وحني تثبت الرباءة يسرح احملجوز.
-األمر فوق أيدينا يا سي منري ..أعداؤك أكرب مين ومنك وامحد اهلل
أننا أوصلنا األمور عند هذا احلد ..إن األشجار اليت متوت واقفة قد تنحين
ليس خضوعا للعاصفة ولكن حتايال عليها.
وسكت يبحث عن كلمات أخرى
-وأرجو أن ال نُجرب على إعادتك هنا
كنت أرغب يف قطع احلديث معه ..هذا الكالم الذي حياول تنميقه
اليهمين يف شيء مطلقا ..وحني همَّ باحلديث ثانية قلت مقاطعا:
-هل ميكنين أن أنصرف أم ستعيدونين إىل احلجز؟
انتظر برهة وأجاب
-ال ..ميكنك أن تنصرف..
ووقفت أبرح املكان ..وحني هممت باخلروج من الباب حلقين وهو
يقول:
-بلغ حتياتي لعمي صاحل.
خرجت دون أن أرد عليه..
168
بدت لي املدينة وأنا أشاهدها منذ مخس وعشرين يوما رهيبة..
كل شيء فيها مفزع..
ليست إال حجزا كبريا..
سجنا ضخما مرعبا..
الناس كتل تتدحرج هنا وهناك دون غاية..
األشجار نفضت أوراقها وتدلت أغصانها كأذرع أخطبوط مشنوق..
الغبار وحده يعبث باجلميع..
الكل ميوت ..وحده املوت حييى.
كنت أتصور أن أجد عمي صاحل يف انتظاري ..متلكتين احلرية ..ما
املكروه الذي حلق به؟ وكيف حال أسرته؟
وفاجأتين حسناء تلحق بي..
صافحتين حبرارة..
سبحت يف عينيها السوداوين وقد اغرورقتا بالدموع فتبللت أهدابها
املتفتحة يف تكاسل..
مل تكن غري مهرة عربية ضاق بها ميدان املعركة..
يف شفتيها ارجتافة أكمام الزهر األمحر
تذكرت قول عنرتة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مين * وبيض اهلند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيـوف ألنهـا * ملعت كبارق ثغرك املتبسم
مل تكلمين ومل أشأ أن أكلمها..
وحده كان الصمت أفصح لغة..
ووحدهما عيناي كانتا تسرتقان النظر إىل كل تضاريس وجهها كأنين
169
أكتشف ألول مرة فتنتها
حارة احلفرة ثكلى تتدثر مالءة اليأس ..شاهدت بناية مزخرفة تفتح
أبوابها الزجاجية مكتوب عليها خبط كبري "مركز الرمحة التجاري" ..منذ
أيام كان جمرد مسرح فرنسي قديم مهجور ..وكنا نسعى أن حنوله إىل مركز
ثقايف ألبناء حارة احلفرة ..كل اخلطوات اإلدارية قمنا بها ال ننتظر إال
موافقة اجلهات الرمسية ..من استوىل على أحالمنا؟ من بذر يف بستان
الثقافة أنانيته وجشعه جتارةً بائرةً..؟ كيف يفكر هؤالء الناس..؟ ومباذا
يفكرون ببطونهم أم بعقوهلم..؟
رفعت نظري يف حسناء ..هممت أن أسأهلا ثم تراجعت خشيت أن
تصدمين خبرب يزعجين ..خشيت أن تقول لي أن امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ قد استحوذ
عليه وحوله إىل مركز جتاري.
أخرجتين من شرودي وهي حتثين على السري
-ال تشغل بالك اآلن ..ستعرف احلقيقة فيما بعد
درنا ميينا ملفوفني بصمتنا ..الزقاق ينبطح يف تهالك ..أكوام اإلمسنت
تنوء بكلكلها على جانبيه فاغرة أفواهها يف تكاسل والمباالة ..مل يعرتض
سبيلنا أحد ..بعض النسوة كنا يتلصصن عرب شقوق األبواب ..غياب
العجوز عكة يقني ال جدال فيه..
دلفنا بيت عمي صاحل ..أز الباب أزيزا خميفا ميزق صمت الداخل ..ال
أحد هش الستقبالنا ..دخلنا الغرف أُمَّا عرجونه يف كرسيها املتحرك ..كانت
حالتها مزرية رغم ذلك رمستْ لوحة فرح على وجهها ..مل تكن تتحرك
لكنها كانت تعرف كل ما حييط بها ..احتضنتها ..قبلتها ..يف كل جزء من
جسدها ..حاولت أن متد إلي يدين ثقيلتني لتحتضنين ..أعنتها على ذلك
170
فضغطت يديها على عنقي ..تركتها ورحت أطَّ َوف الغرف ..أحبث عن أبي
صاحل وأخيت اجلازيه ..عدت حائرا سألت حسناء:
-البيت خال أين ذهبا؟
رمت حسناء حافظتها على األريكة..أرخت قبضة اخلمار ثم رمت به
فتدىل شعرها كأمواج ليل هائج ووقفت خلف أمي ..طوقت رقبتها
بذراعيها وأسندت رأسها على رأسها ..الحظت مالحمها تتغري كأمنا تريد
أن تنفجر بالبكاء ..قفزت حنوها ..أمسكتها من ذراعها ..رحت أخضها دون
وعي مين
-أين ذهبا؟ ما الذي حل بهما؟
وأخربتين بعد ذلك بكل التفاصيل ..أخربتين أن اجلازيه قد سافرت إىل
العاصمة ..أحست بعد حبسي أنها فقدت كل شيء فقررت أن تعرف سر
ذياب ال بد أن تلقاه لتعرف حاله الغامض ..ولتتخذ منه سندا يقف معي..
كانت تقدر أن مصيبة ستحل بي.
أما أبي صاحل فقد رحل إىل القرية ..عاد إليها ..آثر أن يعيش يف بيته
القديم ..لكن حالته ال تبشر باخلري وجيب أن نكون معه يف هذا الوضع
السيئ جدا وإال قد يقع فيما ال حتمد عقباه متاما.
تلك الليلة أخربني أحد اجلريان أن السيد معرفة مفتش الرتبية
والتعليم قد اغتيل وهو خارج من إحدى الثانويات ..وأن الشيخ السعيد
قد قتل دفاعا عن نفسه يف اشتباك مسلح وقع قريبا من بيته ..وعلمت
أيضا أن منزل اهلامشي قد اقتحم ليال من طرف مسلحني جمهولني اقتادوه
مع ابنه وابنته ..عادت البنت منتصف الليل بعد أن اغتصبوها بينما وجد
هو وابنه جثتني مشوهتني دون عيون وال آذان وال مذاكر..
171
حارة احلفرة ثكلى مازالت تعيش على وقع هذه الفجائع.
علمت أيضا أن امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ قد ذهب إىل البقاع املقدسة ..وأن
الصرح الذي قام مكان املركز الثقايف الذي كنا حنلم به هو مركز جتاري
المْحَمَّ ْد ا ْملَمَّدْ
تأملت الصرح وقد كاد يستوي ..وتذ كرت حلمي وحلم عمي صاحل..
كنت أقول له دائما البد أن نسعى يف إقامة دار للثقافة ..حارة احلفرة
مليئة باملواهب ..الفقراء وحدهم هم املبدعون ..الفقراء خري اإلنسانية
لوالهم المَّحَت كل القيم ..كان ينظر إلي بعني اإلعجاب ويقول:
واألغنياء سوس اإلنسانية
ومن أين ميكنين أن أبدأ؟ هل أحلق باجلازيه يف العاصمة؟ أم انتقل إىل
القرية إلعادة أبي صاحل؟ أم أؤلب الناس ضد امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ..وضد هذا
السطو الذي مارسه على عقولنا؟ أم..؟ كل شيء من حولي متعفن..
آثرت تلك الليلة أن أسهر لقد اشتقت إىل القراءة وأنا مدمن عليها
خاصة الشعر والرواية..
وبت ليليت تلك أغين للمومس العمياء أنشودة املطر حبثا عن قافلة
الضياع اليت اختطفها الطغاة يف يومهم األخري.
من أيِّ غابٍ جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف؟
من أي وجر للذئاب؟
قابيل أخفِ دم اجلرمية باألزاهر والشفوف
ومبا تشاء من العطور أو ابتسامات النساء
ومن املتاجر واملقاهي وهي تنبض بالضياء
عمياء كاخلفافيش يف وضح النهار هي املدينة..
172
وبت أحلم بنانَّا وأيام الطفولة والرباءة والنقاء ..تتدافع أجسامنا
الصغرية عند البوابة كخراف تهرع من زريبتها تثغو مجيعا يف حبور
الشوق..
إىل اللقاء ياسيدي…...
إىل اللقاء ياسيدي..................
يتقهقر املعلم عائدا..
نتناثر كأوراق اخلريف ميينا ومشاال..
نتكتل..
تتعاىل ضحكاتنا لبكاء حسناء ساخطة على املعلمة اليت فرضت عليها
أداء دور الزوجة يف املسرحية ..هل سأخرب نانَّا أن معلمتنا قد زوجتين
حسناء وأننا أجنبنا طفلة مسيناها أمل؟
تثريني حسناء ببكائها وقد تناثر شعرها األسود كأمنا يعرب عن تضامنه
معها فأحس بعاطفة ما جتاهها ..أقرتب منها ..أنهر الصغار فيسكتون..
أتراجل عليهم.
يقطع علي حلمي اجلميل صوت نانَّا وهي تدعونا لالنضباط
واإلسراع بالعودة معها إىل البيت.
كان اخلريف قد استفحل وراح يلف حبله املتني حول رقبة الصيف
ليأتي على ما تبقى فيه من رمق ويستل آخر أنفاسه.
أسراب اللقالق تستعرض مقدرتها على الطريان يف مساء مدينتنا
الصغرية ..وحدها هذه الطيور الرائعة متارس طقوس الوفاء عرب رحليت
اخلريف والربيع
أخربتين نانَّا مرة أن اللقلق إنسان مثلنا متاما ولكنه توضأ باللنب
173
فمسخه اهلل طائرا ..وضحكت وهي حتذرني من أن أغتسل باللنب.
مل أخش مما حذرتين منه ..بل رمبا متنيته من أجل أن أمارس حرييت وأرى
احلياة من فوق ..وكنت أحدث نفسي أن اللقلق كان إنسانا طيبا وفيا
خملصا ولذا مسخه اهلل طائرا مجيال بقي حمافظا على ممارسة طقوس الوفاء..
وال خيتار سكنا له إال األماكن العالية الطاهرة كقمم األشجار ومنارات
املساجد والكنائس ..لو مسخنا اهلل اآلن ملسخنا فئرانا وخفافيش.
ويندفع األطفال دفعة واحدة مرددين وهم يشرئبون برؤوسهم إىل أديم
السماء حمدقني يف سرب اللقالق..
بوبَالَّرَ ْج قَبُو قَبُو
َاال نُو
س و َّ
شمْ ْ
غُدْوَه َ
وتبسط اللقالق دفعة واحدة أجنحتها دون حركة فنصيح مجيعا.
غدا مشس..
غدا مشس..
وحدها اللقالق كانت تنبؤنا عن األحوال اجلوية إن بسطت أجنحتها
وإن قبضتها..
ووحدها اللقالق كانت تنال ثقتنا.
10
آثرت أن أعود من العاصمة يف سيارة أجرة ألن العودة يف احلافلة أو
القطار حمفوفة باملخاطر ..كم وقع املسافرون ضحية حواجز مزيفة أودت حبياة
العشرات ..كان الصمت خييم داخل السيارة ..استسلم الكهل الذي جبواري
للنوم فور انطالقنا وراح الشاب الذي جبواره يعبث بلحيته ويقرأ يف صمت
وإمعان من مصحف صغري ..أما الشاب الذي كان جبانب السائق فلم أتبني
174
مالحمه كل ما يظهر منه هو قبعته ومساعتني كان يشدهما على أذنيه ..فتحت
جريدة الشروق اليومي ..أول عنوان صادفين هو جمزرة يف املديَّه ..اختطاف
سيناتور يف تبسه ..اغتيال رئيس حمكمة بباتنة ودركيني ببلعباس ..قوات
األمن تقضي على عشرين إرهابيا يف جبال بابور وبوطالب وحربيل ..
خضين دوار عنيف ..عصف بكل جسدي ..داهمين موج القيء ..وضعت
يدي على رأسي ورحت أضغط بقوة..
عاودني الفضول إىل فتح اجلريدة ..جمموعة إرهابية تتسلل حتت جنح
الظالم إىل عمق مدينة املديه ..تقتحم ثانوية ..وتغتال ببشاعة مخسة عشر
طالبا داخليا ترتاوح أعمارهم بني ستة عشر وعشرين عاما ثم الذوا بالفرار
إىل اجلبال اجملاورة ..رجال األمن مازالوا يقومون بتمشيط املنطقة مدعمني
بالطائرات وأفراد اجليش الشعيب الوطين و..
لك اهلل أيها الوطن العظيم شاخما تبقى رغم احملن.
توقف الشاب امللتحي عن القراءة ..خبأ مصحفه يف جيبه ..أخرج من
حافظته شريطا وسلمه للسائق طالبا منه أن يشغله ..قذف السائق بالشريط
يف جوف اجلهاز دون مباالة كأنه ال يعي ما يدور حوله ..دار الشريط واندفع
منه صوت واعظ يكاد صوته خيرق اآلذان..
معشر املسلمني واملسلمات بعدما تناولنا يف الدرس السابق حكم
الشرع يف خروج املرأة وتعليمها وأكدنا مبا اليدع جماال للشك من كتاب اهلل
وسنة نبيه أن املرأة الخترج إال للضرورة القصوى وأن تعليمها الجيوز أن
يتجاوز ما تقيم به دينها ..ننتقل حبضراتكم اليوم إىل درس جديد مفيد حنن
اليوم عنه غافلون ..هذا الدرس هو عذاب القرب وما أدراك ما عذاب القرب..
حني جيد اإلنسان نفسه وحيدا إال من عمله ..وحني جيد يف قربه نريانا
175
وثعابني وحيات طوهلا مابني السماء واألرض..
وانتفض الشاب اجملاور للسائق فرمى السماعة وأسكت صوت
الواعظ قائال للسائق:
-مالك أيها السائق حنن يف سفر أم يف جنازة؟
مل يتفوه السائق بكلمة واحدة ..كان الطريق مزدمحا ..كثري التعرجات..
وكان البد له أن يبقى يقظا ..لكن الشاب امللتحي ناب عنه مدافعا عن
شريطه وما حيمل:
-اتق اهلل يا أخي ..أال حتب أن تسمع ذكر اهلل تعاىل؟ أال بذكر اهلل
تطمئن القلوب.
ومل يرد عليه الشاب بل أسرع يبدل الشريط بآخر للشاب خالد
واندفعت أنغام الراي الصاخبة متأل فضاء السيارة الضيق..
أنا بْحرْ اعْلِيَ
وانتِ ال
مانَدْريك بْعيده عْلِيَ مانبكي عليك
قِيسْ الشَّبكه يف لَبحر
وابكي على الزْهرْ
وادِّي ادي ..واه
علق الشاب امللتحي وهو يستغفر اهلل
-اتق اهلل ياأخي ..أتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خري؟ هذا الراي
أتلف الرأي وترككم يف ظلمات تعمهون.
واشتد اجلدال والتنابز بينهما ..فطن الكهل جبواري من نومه العميق ..مل
نتكلم ..حتى السائق مل يعلق على األمر ..ولكننا الحظناه خيرج عن الطريق
176
ليوقف السيارة عند حاجز للدرك الوطين ..ترجل وقصد توا قائد اجملموعة
الذي مل يطل االستماع إليه حتى قصد السيارة ..حيانا ..أنزل الشابني ..طلب
منهما أن ينقدا السائق حقه ثم قادهما معا إىل سيارة الدرك.
عاود السائق انطالقه دون أن ينطق ..لكن الكهل الذي انتقل إىل
الكرسي األمامي مل يشأ أن يصمت ..راح يقدم لنا موازنة دقيقة بني جيل
قتل األنانية وقدم مصلحة الوطن على نرجسيته فافتك احلرية من أعتى
استعمار وبني جيل الهَمَّ له إال أن خيتلف ..والهم له إال أن يقلد اآلخرين
يف شؤون الدين والدنيا ..والهم له إال أن يتناحر ..وهذه هي النتيجة.
كنت مشتتة الفكر بني بيتنا حيث والداي وأخي منري ..وبني ذياب يف
العاصمة ..لقد أخربني ياسني أنه غادر الفندق منذ مدة وأنه يعيش خمتبئا ال
أحد يعرف مكانه إال هو ..يلتقيه كل مساء ليحضر من عنده مقاله الذي
أصبح يوقعه باسم مستعار ..لقد تلقى عشرات التهديدات عرب الربيد
واهلاتف وتعرض حملاولة اغتيال خاصة بعد مقاالته النارية اليت كتبها ضد
األثرياء أصحاب االمتيازات ودورهم يف متوين اإلرهاب وأخربني أنه
مصمم على العودة إىل البيت يف أقرب فرصة.
هدأت نفسي بعد مساعي هذه األخبار عنه وتركت لدى ياسني الرسالة
اجملهولة اليت وصلتين ختربني عن تفاصيل اغتيال ذياب.
11
مل أكن موافقة متام املوافقة على الذي كان يفعله منري ..كنت أمتنى أن
يعتين بهموم أسرته الصغرية فحسب ..اهلموم األكرب منه ال شأن له بها..
وإال متى نتزوج ومتى ننجب أطفاال نعيش معهم ما تبقى من حياتنا..؟
أليس من حقنا أن نعيش حنن أيضا حياتنا؟
177
كان يقول كلما ذكرته باألمر :كيف ميكن لإلنسان أن يعيش مبعزل عن
كل أبناء جمتمعه احمليطني به؟ وكيف يسكت عن منكر يراه ميشي على قدميه
ويشمر على ذراعيه شاحذا أنيابه احلادة.
راودتين هذه األفكار وأنا أقصد منري يف مكتبته البد أن أضع معه النقاط
على احلروف ..إىل متى وحنن نعيش األحالم الكاذبة؟ إىل متى وهو يعيش
لآلخرين وينسى نفسه؟ مرت أربع سنوات وحنن خمطوبان دون أن حنقق حلمنا
يف بناء عشنا ..ضحينا بكل املال الذي مجعنا من أجل إجراء عملية جراحية
للخالة عرجونه ..لست نادمة رغم أنها مل حتقق اهلدف الذي صبونا إليه مجيعا..
لكن اليهم ..املهم أن تقف مع أخيك وقت الشدة ..أال نؤمن أنه لوال الفقراء
لزالت كثري من القيم؟ نعم ولكن جيب أيضا أن حنقق حلمنا يف أقرب فرصة.
اقرتبت من املنعطف ..جتنبت وحل الطريق الذي شكلته بركة كبرية من
املاء الشك أن أنبوبا انفجر هاهنا منذ الصباح ..أفزعتين سيارة فارهة أقبلت
مسرعة من بعيد ..احتضنت اجلدار فَزِعَةً ..غاصت السيارة يف املاء العكر..
ارتفع موج الطمي ..داهمين ..جتمدت الكلمات يف فمي وأنا أرى حافظيت
وبعض ثيابي ممتلئة ماء ووحال ..نظرت إىل السيارة اليت توقفت ..صرخت
يف وجهه:
-جمنون..
أطل برأسه من النافذة وبصق يف وجهي وانطلق حيفر األرض بعجالت
سيارته الفارهة.
أسرعت أصلُ املكتبة وأجلها ..رميت احملفظة فوق احملسب بكل ما حتمل
من قاذورات يف حركة غاضبة ..تلقاني منري وقد كان غارقا يف الكتابة
-خريا إن شاء اهلل ماالذي وقع؟
178
أخربته األمر ..مل يزد على أن ضحك وقال:
-رحم اهلل الشاعر العربي نزار قباني ملا قال:
لبسنا قشور احلضارة والروح جاهليه
ضرب على احملسب وواصل :
-ماذا تنتظرين من جمتمع ال يصنع احلضارة لكنه يستهلكها بغباء؟ هل
ميكن أن ميلك سلوكا حضاريا؟
وخشيت أن يتمادى يف عرض نظريات فلسفية مثالية عن واقعنا وواقع
أوروبا ووجوب التحاقنا بالركب وهذا ال يتأتى إال ببناء إنسان متحضر قبل
استرياد اآللة واملظاهر والشكليات وهذا ال يتأتى إال إذا أسندت القيادة
للمفكرين واملثقفني ..خشيت ذلك فقلت:
-ماتؤمن به من مثل عليا ومناهج لإلصالح اكتبه يف رواياتك أما أنا
فهذا أمر اليعنيين ..لكن الذي يعنيين هو ..
وقاطعين مداعبا وعلى وجهه ابتسامة
-هو أن نتزوج..
وسكت ..وليته مل يسكت ألني كنت أعرف ما سيقول ..شريط واحد
حفظته..
هل ميكن أن نفرح والوطن اجلريح يغرق يف حبر من الدموع؟
ومباذا نتزين؟
ومباذا نتعطر؟
أباألكفان والدماء؟
وكأن الناس ال يتزوجون يف احلروب وال يفرحون..
لكنه قال حبماس:
179
-أنا مستعد..
ووجدت نفسي أطري فرحا فأحتضنه بانتشاء ..ماهذا التغيري املفاجئ؟
ضمين إليه وهو يقول:
-غدا أحضر إىل بيتكم ..نستأذن والديك ..حنمل ما ترغبني يف أخذه
معك ونرحل إىل بيتنا حيث حنقق حلمنا اجلميل.
سرى اخلدر يف جسدي كله ..تراخت ذراعاي بربودة ..ابتعدت عنه..
تهاويت فوق الكرسي ..لقد خيب كل آمالي ونسف كل أحالمي ..إنه على
يقني أنين أرفض هذا الشكل من الزواج وإن قبلته أنا فإن أمي ستنتحر إن
فعلته ..حلمها أن تقيم لي زفافا تتسامع به املدينة مجيعا وهي مل تسمع بأنين
تآمرت مع منري وسلمنا املبلغ خلاليت عرجونه وإال كانت ستُسقط علينا
السماء كسفا ..ولست ألومها وهي ربة عائلة ثرية جدا ..ولوال حبها لي
وخوفها علي ماوافقت على زواجي من منري أصال.
12
بت أقلب دفاتر حارة احلفرة ورقة ورقة ..أقرأها سطرا سطرا ..أفتش
خلف حروفها حرفا حرفا ..ملاذا هي حفرة وليست ربوة؟ وماالذي مينعنا من
أن جنعلها ربوة والكبار عندنا يقصون أنها كانت أرفع مكان يف اجلهة كلها؟
وكانت حتفها الغابات واألشجار املثمرة؟ وتتفجر خالهلا الينابيع الدافقة؟
كانت جنة هذه األرض كلها ..وحدث أن زلزلت بفعل لعنة حلت بها حني
عتت عن أمر ربها فغيض ماؤها وغارت أرضها ..ومازال الكبار عندنا
يؤمنون بهذه األسطورة كأن الذين من حولنا على الصراط السوي لرتتفع
أراضيهم روابي وجنانا؟ أم أن األمر اليعدو إال أن يكون سطوة اجلبارين
على الضعفاء؟
180
مل أنس عبله احللوة..
كل ذرة تراب يف هذه احلارة تذكرني بها..
كل شهيق يف الصدور..
كل نبض يف القلوب..
كل حرية يف العيون تذكرني بها..
كلما أمر على بيتهم ويصل مسمعي أنني أبيها إبراهيم أذكرها..
كلما أرى شيئا مجيال يف الوجود أذكرها ..لقد كانت أمجل من كل مجيل..
أمجل من البدر ليلة متامه ..من حبات املطر املرتاقصة ..من الشوق ..من
املوج ..من العشق ..من الشذا واألغاريد..
أين هي أمها؟ وأين زوجة أبيها؟ وأين إخوتها؟ أين أخوها الذي قبض
عليه متلبسا يبيع املخدرات؟ وأين هي؟
لست أدري من فعل بنا هذا ..هل هو اهلل؟ هل ميكن أن يكون اهلل
قاسيا على الناس إىل هذه الدرجة فيميزهم فقراء وأغنياء ثم يسلط األغنياء
على الفقراء؟
أمل يقل:
وما من دابة يف األرض إال وعلى اهلل رزقها؟
أمل يقل:
وقدر فيها أقواتها؟
فأين رزقنا؟ وأين أقواتنا؟
يف احلقيقة ال أراني أؤمن بهذه الرتهات ..لكين أؤمن أن هذا ظلم
اجملتمع ..ظلم طبقة تغتين بطرق ملتوية وتكنز الذهب والفضة لطبقة أخرى
خانتها ظروفها أو سارت على الطريق السوي فبقيت أقل من األوىل ..لقد
181
خلق اهلل لنا األرزاق يف هذه األرض قدر ما يكفينا مجيعا فنعيش مجيعا سعداء
كما خلق اهلواء والنور بالضبط ..لو تعلمنا كيف نكون إنسانيني ما اغتنت
شعوب وافتقرت أخرى وملا استغل إنسان آخر.
عاد النادل إلي يضع أمامي فنجان القهوة وينصرف بسرعة بل وخيتفي
يف ملح البصر كأنه خيال ..منذ صباي وهو نادل هذه املقهى ..ومنذ صباي وأنا
ال أراه يزداد إال حنافة ومسرة..
وكان إبراهيم جحا حني يقابله حيتضنه مداعبا :أهال بالسفري اإلثيوبي
املفوض فوق العادة ..وال يزيد النادل الطيب القلب أو عظام احلوت كما
كان يسميه أهل احلارة عن االبتسامة العريضة كاشفا عن أسنانه املسوسة
اليت عاث فيها التدخني فسادا ..ورمبا قال :الطول للشجر والعرض للبقر إن
اهلل ينظر إىل قلوبكم.
رشفت رشفة خفيفة من الفنجان ووضعته على عجل ..كنت أسند
رأسي على يسراي وأتأمل شجرة التوت اليت بقيت متمسكة باحلياة رغم
الشروخ اليت أحدثها فيها الكبار والصغار ..ملاذا سكت الناس عن اختفاء
احللوة؟ من خطفها واغتصبها؟ ملاذا أطلقت الشرطة سراحها لتختفي فجأة
بعد ذلك؟ وملاذا قيدت القضية ضد جمهول؟ وطوي امللف متاما؟ هل كان
المْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ضلع يف القضية؟ ما السر وراء تفتيش بييت ليال وحجزي
أياما..
وعدت لنفسي أجرع رشفة أخرى أكرب ..الظاهر أن مشاكل حارة احلفرة
صارت ال تعد وليس من السهل التصدي هلا مطلقا ..اختفاء احللوة ..اغتيال
عبد الرحيم ..انطواء إبراهيم ..فرار أبي صاحل ..انقطاع أخبار ذياب ..وسفر
اجلازيه ..قتل السيد املفتش وعمي السعيد ..قتل عمي اهلامشي وابنه بعد
182
صعود ابنه صالح الدين إىل اجلبل وانضمامه إىل اجلماعة اإلسالمية
املسلحة ..ومن أين يبدأ حل كل هذه اهلموم؟
أنهيت قهوتي عجال ..رميت بالنقود على الطاولة وانصرفت
يف املساء البد أن أحلق بعمي صاحل ألتفقد أحواله ولكين اآلن جيب أن
أذهب إىل دكان عْزيََّزْ بائع العطور ..جمٌّ أكدوا أنهم رأوا احللوة تدخل آخر
مرة عنده ..مل يعرتف هو بذلك ومل تستدعه الشرطة وال حتى احملكمة.
دخلت الدكان وجدت عْزيََّزْ جيلس خلف احملسب ميرر بني أصابعه حبات
سبحة بيضاء وقد ظهرت على وجهه األشقر حلية غري منسجمة وأحزان
كدرت وسامته ..أسرع يرحب بي ويهيئ لي الكرسي للجلوس
-زارتنا الربكة ..زارتنا الربكة..
قاطعه عَزُّوزْ الدود وهو يدخل فجأة هائجا كأمنا كان يتبعين حماوال أن
يفصح عن سر عجز البوح به ..مل يكن ميلك إال أن يشري إىل عْزيََّزْ مهددا
إياه مرددا
-الروميه ..الروميه..
وفهمت أنه يتهمه بقتل عبله احللوة وقد كان عَزُّوزْ الدود متيما بها
يرافقها مئات األمتار من بيتها حتى تغادر حارة احلفرة ..حيمل حافظتها
مرات ..ويتأبط ذراعها مرات ..وتسايره هي يف ما يريد رمبا نكاية أو استفزازا
للشباب الذي يقفون بعيدين واحلسرة تلتهم قلوبهم امللتهبة.
دفعت عَزُّوزْ الدود عنوة إىل اخلروج من احملل بعد أن منحته قطعا نقدية
وعدت إىل اجللوس ..كان عْزَيَزْ قد طلب عرب اهلاتف قهوتني مكثرا من
الرتحاب ..مبديا استعداده خلدميت ..وأخربته وأنا أدقق النظر يف مالمح وجهه
األشقر أنين جئته يف أمر خاص جيب أن يساعدني فيه بصدق تام ..وكأمنا
183
أدرك غرضي فأومأ برأسه ملبيا وتسارعت أصابعه تعبث حببات السبحة.
مل يستمر الصمت طويال حتى قطعته قائال:
-ياعْزيََّزْ أنت ابن حارة احلفرة ..وكل أبنائها إخوة لك ..ولعلك
تالحظ معي كيف أن كل األحياء تزداد رقيا وحتضرا وتزداد حارتنا تعفنا
وختلفا ..ولعلك تالحظ معي أن كل الذين تشردوا يف اجلبال هم من شباب
حارة احلفرة ..وأنت تدرك أن األمر ال يعدو أن يكون صراع طبقات ..وقد
تقول أنت بإميانك أن هذا قضاء اهلل وقدره ..ورغم أنين ال أؤمن بهذا ..امسح
لي أن أسألك ..هل اغتصاب هؤالء القوم لشرفنا أيضا قضاء وقدر جيب أن
نرضى به ونسكت عنه؟
وسكت أنتظر جوابه ..مل تتحرك شفتاه إال بالتسبيح ..وكانت عيناه
تدوران برعب شديد ..اصفر وجهه ..ومجد حتى صار كوجه معلول ..طال
سكوتي ألعطيه فرصة للبوح لكنه أبى ..أردت أن أبرح املكان لكنه عجل
إلي يستوقفين ويعيدني إىل مكاني ثم يهرع إىل الباب يغلقه ويضع إشارة
مغلق ويعود إلي ..مل أشأ أيضا أن أنطق ..مل يكن هادئا متاما بل كان مضطربا
جدا
-ما عساني أقول لك؟ لعلك جئت يف الوقت املناسب ولو مل حتضر
إلي لقصدتك ..لقد صار ما أمحله يف نفسي ثقال رهيبا ..صار يقض
مضجعي يف كل حلظة.
وسكت يلم أطراف حديثه فاعتدلت يف جلسيت حمدقا يف عينيه ..بلل
شفتيه وواصل
-هذا الدكان هو للحاج امْحَمَّدْ ..وما أنا إال أحد خدمه ..وهو مل يقمه
هاهنا إال الصطياد من يشاء من الغيد الكواعب ..وكان اللعني قد وعدني
184
أن يتنازل لي عن احملل إن أنا اصطدت له احللوة ..وفعال نفذت له بغباء
مايريد ثم مل أحصل على شيء ..لقد شرَّبتها خمدرا ومن هنا محلناها فاقدة
الوعي حتى وقع الذي وقع..
قال مجلته األخرية بكثري من احلسرة وتداعى يبكي عند قدمي ندما على
ما بدر منه ..مارت نفسي كالربكان وأنا أضع يدي على رأس اخليط لقد
وقعت أيها اللعني كاحلشرة يف بيت العنكبوت فأين املفر اآلن؟
نهضت من مكاني عجال حاثا عْزيََّزْ على أن خيرب الشرطة باألمر..
أردف مرتددا
-وهو الذي كان وراء سجنك ..لقد اتهمك باملتاجرة يف املخدرات..
خرجنا دون أن نرتشف شيئا من فنجاني القهوة ..أكدت له يف الطريق
وحنن نتجه إىل مقر الشرطة أن يف هذا الوطن رجاال سيعرفون كيف
يطبقون القانون على اجملرمني.
كنا نقرتب من مركز الشرطة ..كان عْزيََّزْ يسري جبواري يكاد يلتصق بي
وكانت فرائصه ترتعد رغم حماولته إخفاء ذلك ..هممت أن أسأله عما بدا
عليه ثم أحجمت ..لقد تعود على دخول مقر الشرطة ودخول السجن أيضا
يف جرائم السكر والسرقة ..ولكنه مل خياصم أحدا يف حياته ..فكيف خياصم
امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ؟
على بعد أمتار من الباب التقانا شاب مل أر خلقته يف حياتي..
أمسك بيد عْزيََّزْ وجره بعيدا ..وقف ت أنظر يف حرية وعْزيََّزْ ال ميلك إال
أن يسري معه ..كان بينهما حديث ليس فيه ما يدل على العنف أو
الكراهية ولكن كأمنا مسعت كالما يف التجارة..
هممت أن أحلق به ألعيده إلي لكنه طمأنين بيده أننا سنلتقي فيما بعد..
185
وقفت يف مكاني أشيعه وهو يبتعد وكانت يف نفسي حسرة كأنين أودع حبيبا
لن أراه بعد اآلن ..كأنين أفقد كنزا وجدته اآلن..
دخلت إىل مقر الشرطة وجدت كرميا ..دخلت معه مكتبه ..رويت له كل
ماكان بيننا يف احملل ..طلب مين أن أصف مالمح الشخص الذي استوقف عْزَيَّزْ
وخرج ..بعد حلظات أكملت املهمة وخرجت ..ليس عْزََّيزْ إال جرحا يف حياتنا..
ليس إال ثلما عميقا يف قلب حارتنا ..تزوج أبوه العجوز عكة وهي يف األربعني
من عمرها ضرة على أمه ..بعد أيام من الشجار والصراع قتل أم عْزَيَّزْ زوجته
األوىل ومحل هو إىل السجن ليموت فيه بعد عشر سنوات وبقي عْزَيَّزْ يتيما مع
ضرة أمه ..غادر مقاعد الدراسة مبكرا واشتغل نادال باملقهى ليجد نفسه يف
أحضان مجاعات من اللصوص مدمين اخلمور والقمار ..دخل السجن مرارا..
كثريا ما كان يزورني يف البيت ليال مع صاحبه اخلري أو وحده وهو يف حالة
عربدة ..أقدم إليه فنجان قهوة وأجلس ألستمع إىل حديثه الذي يطول لساعات..
كان حيلم بالزواج واالستقامة ..كان حيلم أن يكون له بيت يأويه ويكون له فيه
أطفال ..ولكن ما كل ما يتمنى املرء يدركه..
عدت مباشرة إىل بييت يشرنقين اليأس ..ويلفين الضجر بأذرعه األخطبوطية..
دخلت احلجرة األرضية ..وقفت وسطها متأمال ..منذ أن رحلت نانَّا عن الفانية
وأنا أنظر إليها نظرة قداسة أحاول أن أترك كل شيء مكانه كما تركته
بالضبط ..املوقد ..حلقات النول املثبتة باجلدار ..الصندوق اخلشيب املنقوش..
اهليدورة البيضاء ..زربية الصالة ..واإلطار اخلشيب الذي حيمل صورتها وزوجها
الشهيد يف ثياب اجلندية أيام الثورة التحريرية.
186
6
اخلروج من التابوت
1
وصلت من العاصمة البارحة متعبة نفسيا وجسديا ..كانت نفسي تتنبأ
بكل الشر يف حارة احلفرة وفعال استقبلين ذلك ..بل وجدت ماهو أدهى
وأمر.
انتقل أبي كما أخربني منري إىل القرية منذ أيام دون أن يعود وال أحد
يعرف عنه شيئا ..زادت حالة والدتي سوء ..كلَّ يوم تذبل كالشجرة اليت
قطعت جذورها ..أرغمَ منري أنفه يف هم جديد ال نعرف كيف سيخرج منه..
ليس من السهل فتح جراح اآلخرين بعد اندماهلا ونسيانها ..انتحر عْزيََّزْ
بعد أن تناول دواء منوما مركَّزا وفتح قارورة الغاز يف غرفته املغلقة.
كل السكان كانوا يعيشون غليانا رهيبا مل نألفه من قبل منذ زمن مل
يعودوا يتجمعون بهذا الشكل حتى يف مقهى احلي وحتى عند أطراف
الشوارع ..كأمنا هم يعدون ألمر خطري أو سيفرون من أمر خطري.
دخل علينا منري وجدني منهمكة يف تبديل ثياب والدتي لغسلها مع
باقي الثياب ..حيانا وجلس قدمت له فنجان قهوة وجلست قبالته
كان وجهه عبوسا قمطريرا ..تركت ما يف يدي وهرعت إليه
استكشف حاله ..أنبأني بربودة:
-قتلوا عْزيََّزْ… أو ..لعله ..لست أدري
سكت حلظة وواصل:
187
-وجد خمتنقا يف دكانه بفعل تسرب الغاز من قارورة يستعملها للتدفئة.
وانتقلت زوابع اليأس إىل أعماقي فلزمت الصمت ..سألين عن ذياب
وعن العاصمة ..مل ترضه إجابيت ..قدمت له صورة قامتة عن كل شيء
وأنهيت كالمي بقولي:
-كل شيء ضاع يا منري ..منذ تعرض ذياب لعملية اغتيال وهو
يعيش خمتبئا ومل أستطع حتى أن أقابله والعاصمة صبية مصلوبة على
جدار الرهبة.
أخربني أن حارة احلفرة أيضا تعيش خماضا عسريا ..أبناؤها يعدون
لتمزيق الشرنقة احلالكة مهما كان الثمن ..وأخربني أيضا أن امْحَمَّدْ
ْملَمَّدْ قد عاد من احلج والعرس قائم يف بيته منذ أيام وقد زار يف سيارته
الفارهة مع سائقه وحارسه هذا الصباح حارة احلفره حيمل مئات اهلدايا
ليوزعها على سكانها ..مل يكلمه إال العجوز عكة ..عكة وحدها هنأته..
ووحدها عكة استلمت هديته ..اجلميع بقي ينظر إليه من بعيد يف ازدراء..
وحني قُذفت صخرة من يد فتى حنو السيارة أدرك امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ أن األمر
حامض فلملم خيبته ورحل.
-منري جيب أن نذهب مساء إىل القرية ال بد أن نعرف حالة والدي..
أنا خائفة يامنري.
هكذا قالت اجلازيه واخنرطت يف بكاء حارق مفاجيء كالسماء اليت
تغيم وتندلق بسرعة ..امحر بياض عينيها كشفق يوم شتوي وتدلت
خصالت شعرها األسود يف غري انتظام كليل يرخي سدوله عليها بأنواع
اهلموم ..ضممتها إلي أهدئ روعها.
-ال بأس عليك ..حني تتعاورنا السهام جيب أن حنمي أنفسنا
188
والضعاف مثلنا ..أما والدي صاحل فهو يعرف كيف حيمي نفسه.
سكتُ حلظات استحضر مالمح الشيخ صاحل وهو يلح :حيرث
واقف أو ينكسر ..
ينكسر احملراث رمبا ..هل ينكسر الرجال؟ هل تنكسر ياصاحل الرصاصة؟
وأنت الذي مل تلن يف حياتك.
تأملت اجلازية كانت كئيبة ..قلق عاصف يعبث على تضاريس وجهها..
كانت تشبك أصابع يديها وهي تنظر يف الفراغ قلت يف سري:
أنت يااجلازيه يف هذه احلارة كل شيء..
قد جتف البحـــار..
قد ترختي اجلبــــال..
قد جتنب الريـــــح..
لكن اجلازيه جيب أن تبقى أبدا كربيـــــــاء.
وقطع طقوسنا دخول العجوز عكة فجأة وهي حتمل يف يدها صحنا
غطته مبنديل قديم ..وضعته على الطاولة واحتضنت اجلازيه تقبلها.
-يا بنييت ..يا ابنة أخيت العزيزة ما هذه الغيبة الرهيبة واهلل وحقِ امللح
الذي بيننا لن ميسك أذى ..ال حتملي هما أنا هنا.
وضربت صدرها براحة ميناها
-الكل يعرف من هي عكة يف املواقف العظيمة ..اسألي اجلميع..
اسألي أمك ..اسألي منري ولدي ومفخرة احلارة ..أنا ربيته منذ كان صغريا
وأرضعته من صدري ..كل ما فيه من صالبة وفطانة هو مين.
كانت وهي تلقي خطبتها العصماء تقلب فينا النظر كأنها تطلب
تصديقا ..لقد كانت تعرف أنها تكذب ..وتعرف يقينا أننا لن نصدقها..
189
وقطعت فجأة صمتنا احلائر ..مدت يديها إىل الصحن وعلى وجهها
ارتسمت ابتسامات منافقة ..أزالت عنه الغطاء كان منتصفا حلما مشويا
وقد قطع قطعا صغرية خمتلفة.
-حنن أسرة واحدة ..اهلل يعلم حمبتكم يف قليب.
وقدمت الصحن فوق طاولة صغرية إىل أمي وهي حترضنا على األكل..
مل مند أيادينا رغم إغرائها ..ورأيت أُمَّا عرجونه ترجتف كجناحي عصفور
مذعور ..كأمنا شفيت من شللها ..ثم حتركت وتهاوت فوق الطاولة
الصغرية ..تهاوى الصحن على األرض وتناثرت أجزاؤه على أرضية
الغرفة ممتزجة بقطع اللحم ..أسرعتُ مع اجلازيه نرفع أُمَّا عرجونه
ونعيدها إىل مكانها ..وهرعت العجوز عكة جتمع ما تناثر من قطع اللحم
وهي تصيح:
-ضاع املليون ضاع ..ضاع املليون ضاع..
وعادت إلينا وقد مجعت معظم القطع يف املنديل الذي كان يغطي الصحن
-إنه نظيف ..حرام إهدار نعمة اهلل ..أنتما متعلمان وتعرفان أن اهلل
يسخط الباطرين.
وتغريت مالمح اجلازيه غضبا وهي تعاجل بعض جراح أمها وأدركت
أنها ضاقت ذرعا بالعجوز عكة ولعلها ستسيء إليها ..وقرأت العجوز
عكة ذلك على صفحات وجه اجلازيه فسكتت ..عجلت أمسك بالعجوز
عكة أحثها يف رفق على مغادرة البيت وفعال امتثلت فخرجت وهي
توصي خريا بلحمها.
أعادت اجلازيه علي ما يعرفه كل سكان حارة احلفرة وتتسامع به كل
األحياء احمليطة ..تأتي العجوز عكة بكلب صغري تربطه يف بيتها أياما
190
وليالي ..تشبعه ضربا وجوعا وعطشا ..حني تتأكد من أنه قد غدا ذليال
تذحبه وتطعم حلمه وخاصة قلبه لكل من تريد أن جتعل منه كلبا خادما
مطيعا هلا أو ملن يشرتي هذا السحر..
وفعال هي ال حتفظ من القرآن إال " إن حتمل عليه يلهث وإن
ترتكه يلهث" وقد جاءت هذه املرة بهذا اللحم لتجعل منا كلبني
ط ائعني المْحَمَّدْ امْلَمَّدْ.
-أنت تعرفني أنين ال أؤمن بالسحر ..هل تعتقدين أن هذه الشمطاء
ميكن أن حتولين إىل كلب مبجرد أن تطعمين حلم كلب؟
مل تعلق اجلازيه ..لكن أُمَّا عرجونه رأيتها تقلب يفَّ بصرها بكثري من
الرفض والتحذير ..ونظرت أنا إليها بكثري من اإلعجاب والتقدير.
فجأة دوت يف األفق طلقات رصاص رشاش تتوقف حلظات ثم تعاود
االنطالق ..سألتين اجلازيه خبوف ظاهر عن سر الرصاص مل أعرف كيف
أجيبها لعلها معركة بني رجال األمن واجليش وبني أفراد من اجلماعات
املسلحة تسللوا إىل املدينة ..وتعالت صفارات سيارات اإلسعاف وسيارات
املطافئ ..تركت اجلازيه حيث هي متسك بأمها وهرعت خارجا..
إىل متى تظل أيها الرصاص متزق سكوننا؟
كان الشارع ممتلئا بالناس وقد هزتهم املفاجأة ..أطفال املدارس حيملون
حمافظهم ويعدون باجتاه بيوتهم وقد بدا على وجوههم اهللع ..الكبار كانوا
يعدون باالجتاه املعاكس متاما ..الميكن أن توقف أحدهم لتسأله..
ماكان مين إال أن اجنذبت خلفهم قريبا من املدرسة حيث كانوا
يتجمهرون ..مازالت طلقات الرصاص تدوي ..ومازالت صفارات
اإلسعاف تشق الفضاء ..شققت اجلمع ..كانت املفاجأة أكرب مما كنت
191
أتوقع ..جثة شاب مضرج بدمه ..معفر اللحية ..مربوط القدمني ..مشقوق
القميص ..مذبوح الرقبة ..حتى ليكاد الرأس ينفصل عن اجلسد..
مل يكن غريبا ..كان صالح الدين ..بدا لي أكرب بكثري مما أعرفه ..مسعت
بعضهم يتمتم قتلوه شر قتلة يف كمني نصبوه له ..اقرتب مين الضابط
كريم مكفهر الوجه وهمس يف أذني:
-طاردناهم بعد أن نصبنا هلم كمينا وحني أصبناه برصاصنا ذحبوه
كاخلروف وفروا يف أدغال الغابة
آه يا صالح الدين!!..
حقرية هي الطريق اليت اخرتتها..
حقرية هي هذه العاقبة..
أيقدر األخ أن يفعل بأخيه كل هذا مهما كانت األعذار؟ وإىل متى
ينتهي هذا النزيف؟ متى يسرتيح هذا الوطن من غيالن األحقاد؟ متى
تلبسني فستان فرحك أيتها البيضاء؟
شاهدت امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ يرتبص بعيدا يف سيارته الفارهة وعالمات
الرضى تركض على تقاسيم وجهه وقد انهمك يف تنقية أسنانه من
الطعام ..وحده املوت يفرح هذا البليد ..وحده الدم النازف يعزف له مواله.
تركت اجلميع بني حمتفل فرح وبني حزين كئيب وجررت نفسي بعيدا
بعيدا ..رأس صالح الدين يتدحرج أمامي والبار عمر يدندن يف أذني
تتهادى نغمات شبابته ككثبان رملية:
ت بَرَانِي
َاال جِي ْ
هذا َوطْنَك و َّ
س املَحْنَهْ َللَ ْه كَلَّمْين
يارا ْ
واال َممْلو ْك حَطَّانِي
حُ ْر انْتَ َّ
192
ضوا ْعلِيكْ خْيانَهْ
ن قب ُ
واالَّ انْتَ خايَ ْ
باعوك بقيمة ربعني سلطاني
واال انت ماكر نصاب للضاللة
ك جَانِي
ل رُو ْح عْلى ا ْه َل ْ
اال قات ْ
و َّ
واال كانت نفسك ظاملة خوانه
ت بَرَّانِي
واال جِي ْ
َر ْك َّ
هَذا ب َّ
8
س املَحنهْ هلل جَاوَبْنِي
يارا ْ
عدت إىل نفسي وأنا أجل البيت ..أغلقت الباب ..ارمتيت على البالط
العتيق البارد واخنرطت يف البكاء..
دموعنا ودماؤنا هي شرابنا املفضل..
حوارنا اليومي باخلناجر..
أفكارنا أشبه باألظافر.
تذكرت الشيخ اهلامشي حني قدم إىل حارة احلفرة من قريته املعزولة فارا
من شبح اإلرهاب مفضال سكنا ضيقا هو أقرب إىل الكوخ ..لكن خفة روح
الرجل وحيويته تركتاه يندمج بسرعة يف عش حارة احلفرة يُنضج احلمص
والبلوط ويقصد صباحا املدرسة مناديا بصوته الرخيم
-ابْنِنيْ ابنني ..إِحَلْ العينني ..وِزِيدْ الْوَذنِني..
وأحبه أطفال املدرسة فتعلقوا به حد العشق ما إن يصل املدرسة حتى
يطوقوه ويأكلوا مجيعا طعاما وضحكات يرددونها على إيقاع نكته.
-8قصيدة شعبية قدمية مشهورة كتبها الشاعر اجلزائري سيدي خلضر ابن مرزوق يف حماورة
مججمة وجدها مرماة يف اخلالء وغناها البار عمر ثم غناه بعده رابح درياسة مع إضافة ممتازة
وذكية.
193
يف املساء ميأل عربته خضرا وفواكه ويقصد بيوت حارة احلفرة بيتا بيتا
لقضاء حوائجهم.
ما إن استقر صهره القادم من العاصمة عنده حتى قلب حياته رأسا على
عقب ..وحتول ابنه صالح الدين السلفي أو أبو مصعب كما كان يلقبه
أتباعه من خضار ..إىل داعية ..إىل إرهابي ..إىل مقتول.
2
وجدته خارجا لتوه من البيت برفقة اجلازيه كأمنا يهمان بالسفر ..ركبت
معهما السيارة دون أن أسأل ..كان صوت إبراهيم ينبعث من خلف الباب
ممزوجا بنشيج رهيب ..وكان عَزُّوزْ الدود يغدو يف الشارع املرتب ويروح
مرددا مواله املفضل
اختلط الدود مع الدود وال يفكها إال اخلالق املعبود..
هيجان رهيب كجنون البقر أصاب هذا اجملنون هذه األيام ..تدهورت
حالته سريعا ..غدا خياطب اجلميع ..يسأهلم عن عبله احللوة ..لقيين ..أمسك
بذراعي ..ختيلين احللوة ثم فجأة أفاق حلاله وراح حيدثين أنه رآها اليوم وأنها
أكدت له أنها ستعود قريبا ..جمنون حيب ..ما الفرق بني اجلنون والعشق؟
كالهما جنون..
وكانت وجوه بعض الشبان واألطفال جامدة كتماثيل مهملة متناثرة..
حتاصرها البطالة والفقر والتسرب املدرسي واملخدرات واستنشاق الغراء
من كل ناحية.
قطع منري صميت بقوله:
-كنا نهم باجمليء إليك..
وقاطعته اجلازيه:
194
-طلبت منه أن نعرج إىل بيتكم لنأخذك معنا إىل القرية أنت
حتبني القرية.
ومل ميهلين منري كي أعلق على ما قالت فقال كأمنا كان يعرف الذي كان
يدور ببالي:
-ورفضت هلا أنا ذلك ..يا حسناء أنت حساسة جدا ونشأت يف جو
الثراء والليونة قد نصادف مشاهد ومواقف تؤذيك وأنت تعرفني أنين
أحبك.
وسكت ..كأمنا مل يتكلم من قبل فطلبت منه أن يوقف السيارة قريبا من
بيتنا ألحدثه يف أمر مهم ..ال حيتاج االنتظار ..ثم تركتهما وقفت حلظات
أشيعهما.
وحنن نشق طريقنا حنو القرية عرب الدرب الصعب كنت أفكر يف
امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ هذا التافه جيب أن يرحل عن الدنيا ..شيء واحد يوقف
غطرسته ..رصاصة يف الرأس ..اآلن مد يده ليغتال قليب ..واحلل أن أفجر
قلبه ..اشرتى مباله كل شيء ..السمعة ..احلج ..األبهة ..رقاب الناس..
القانون ..املسؤولني ..العجوز عكة كي تطعمنا حلم كلب ..مل يستطع مباله أن
يشرتي ضمائرنا ..هل يغتصب شجاعتنا وكربياءنا؟ هل يبذر يف أعماقنا
الرهبة؟ يستحيل ..ال بد أن أقتله.
لن أتركك يا منري تقتله سأقتله أنا ..أنا أوىل بذلك ..حني تقتله سيكون
ذلك تدنيسا لك ياسيد الرجال ..وحني أقتله أنا سيكون عارا يطارده حتى يف
قربه ..هذا فرعون أخاف اجلميع واشرتى اجلميع لكن قتلته امرأة ..لن أكون
اجلازيه حقا إن مل أفعلها أيها احلقري..
وما عساني أخسر أكثر مما خسرت؟
195
وأي شرف أعظم من أن أنقذ حارة احلفرة وشرفها من هذا الصعلوك؟
قد أموت بعدها ولكين سأخلد يف قلوب أبناء حارة احلفرة الفقراء..
يف عيونهم احلاملة..
سأنزرع كربياء يف تربتها.
مل ينفع معه القانون فلتنفع معه القوة ..املهم اآلن أن أرسم الطريق إىل
قتله ..هل أحتداه هكذا جهارا نهارا أمام املأل والشمس تفتح عينيها ..وأرديه
قتيال أمام الناس مجيعا ..ألسلم نفسي بعد ذلك إىل الشرطة ..وأحاكم..
وأسجن ..أضحي بنفسي من أجل أن أنقذ اآلخرين..؟ أم الطريق الصواب
أن أخطط له حتى أسقطه يف حبائلي كاخلنزير ..وأقتله شر قتلة ..ويطوى
ملفه أمام احملاكم وإىل األبد ..ليس طريق رجولة ..ولكن احلرب خدعة..؟ ال
مستحيل أنا ال أحسن أن أخطط مثل هذه اجلرائم.
بل أنا الذي جيب أن أقتله ..سأنتقم للجميع ..ألخي عبد الرحيم..
للرومية ..ألبي ..لعزيَّزْ ..لـ ..وسأقتله أمام الناس مجيعا ..بطعنة خنجر..
يستحسن أن يكون بطلقة مسدس ..كيف ميكن أن أحصل على ذلك؟
سأمترن على اإلطالق ..الشيء سوى أن أمسك املسدس ..أصوبه ..أضغط
على الزناد ..وتزغرد حارة احلفرة ملء فيها.
وأخرجين منري من صميت وهو ينبهين إىل مشارف القرية ..استغفرت اهلل
وأنا أعانق ببصري بيتنا يربض يف حضن اجلبل األخضر مكلال بالصمت
والسكينة ..يف أي شرب يكون أبي اآلن؟ وعلى أية حالة؟ أجيد والدي يف هذه
القرية الوادعة عوضا عن أمه اليت فقدها وهو صيب؟ ويف حضنها ودفئها
ومساحتها عوضا عما حرم منه صبىً؟ أم عوضا عن الزوج؟ أم عوضا عن
الوطن..؟
196
وصلت السيارة ترتنح يف مشيتها مثلة تكاد تلفظ رئتيها القدميتني..
ترجلنا..
السكون يعرش يف كل مكان..
عناية فائقة ظهرت فيه..
فرح يف الرتبة..
رقصة يف األوراق..
مسفونية يعزفها كل شرب..
سرنا خطوات..
كان منري ينظر حواليه يف اهتمام قال:
-قرأتِ شيئا؟
وسكت مبديا اندهاشا مل أحمله على تقاسيمه من قبل
-هابيل هنا يزرع احلياة..
قابيل هناك يزرع املوت.
ولكن ذو العقل يشقى يف النعيم بعقله
وأخو اجلهالة يف الشقاوة ينعم
صدق جربان :احلياة دمعة وابتسامة
-أخشى أن تكون حرارتك مرتفعة أكثر من املطلوب بفعل معاشرتك
الكتب يف معبدك الصغري ..من القرآن إىل املتنيب إىل جربان دفعة واحدة؟
وضحكنا واندفعنا نلج البيت ..عند عتبته استوقفنا صوت فرح ..تلفتنا..
كان أبي صاحل حيمل على ظهره حزمة حطب يابس ..ويف ميينه فأسا حادة..
هرولت اجلازيه إليه حتتضنه وحلقت بها أمسك عنه محولته ..بدا أكثر هدوء..
وأكثر حنافة ..تغطي جتاعيدَ وجهه حليةُ تنافس عليها السواد والبياض فشلت
197
يف إخفاء نتوءي خديه ..اندفع أمامنا يلج الباب املفتوح وهو يقول:
-هنا يف القرية ال خيش أحدنا إال ربه ..كنت أنقي األشجار من
األغصان اليابسة ال مكان للميت يف احلياة.
ودخلنا خلفه ..كان البيت رهبة رغم التنظيم الرائع الذي بدا عليه..
دعانا للجلوس على مصطبة صغرية كانت قرب النافذة ..لعله يتخذها
مقعدا ومرقدا يف آن واحد ويف الزاوية املقابلة جثمت خزانة صغرية بل
صندوق كبري منقوش حيظى بعناية فائقة يعود باملتأمل إىل عشرات
السنوات ..أربعني بل رمبا مثانني سنة ال أدري على وجه التحديد وبالقرب
منه انتصبت طاولة من طابقني تنوء حتت ثقل أغطية وأفرشة.
كان والدي يقف بقامته املديدة عند املوقد ..يعجل بإحضار قهوة اجلزوة
اليت تركها تنضج على نار هادئة قبل أن خيرج لالحتطاب ..استدار حنونا
وهو ميأل فنجانني ويقدمهما إلينا:
-إيـه ال يبقى يف الوادي إال صخوره ..هكذا قال األولون ..هذا البيت
شهد أيامك األوىل يامنري ..وهنا أرضعتك عرجونه مع أختك اجلازيه ..يف
ذلك الركن نامت أمك إىل أن حلقت باجملاهدين حيث نالت شرف
االستشهاد ..ومن هنا أحلقتك الثورة بصفوفها لتعيش أشهرا يف اجلبل وعند
االستقالل افتقدناك ..أنا وأمك عرجونه ..علمنا باستشهاد أمك ..لكن مل
نكن نعلم أين طوحت بك األمواج إىل أن وجدناك يف حضن البتول أمّا
علجيه ..إيـه يا ولدي الرجال يلتقون ..وحدها اجلبال ال تلتقي.
ال ختافا علي ..أنا هنا سعيد وآمن ..مل أعد أثق باملدينة ..أخذت مين كل
شيء ومل تعطين شيئا واحدا ..اهتما بأمكما عرجونه ..لو كانت معافاة ملا
ختلفت عين ..لكن الدنيا غدارة
198
ورفع عينيه إىل الصندوق اخلشيب يف خشوع ويف عينيه دموع حائرة ..مل
أحلظها يف عينيه أبدا ..مل نتكلم ..احرتمنا صمته فجاريناه لكنه مافتئ أن قطع
حبل الصمت قائال:
-هذا الصندوق هو كل ما جاءت به أمك يف عرسها ..ال يساوي شيئا
عند جيلكم لكنه عندنا كان يساوي كل شيء ..وها كما ترون مازلت أعتين
به وفاء لسنوات العمر اليت قضيناها معا ..أما..
دائما ينظر والدي إىل جيلنا نظرة سوداوية ..دائما يتهمنا خبراب الداخل
مقابل تعمري اخلارج ..حنن يف رأيه جيل أخذ كل زمام املعرفة وحصل على
كل ملذات احلياة املدنية لكنه يف املقابل فقد كل شيء مجيل.
بقدر ما سرتين هذه الذكريات وهذا الوفاء بقدر ما أزعجين اجرتار
الشيخ صاحل للماضي ..وحنن لألسف ال حنسن إال اجرتار املاضي
والوفاء له وتضخيمه مهما كان تافها ..عشرات القرون مرت ومل منل
مطلقا من املفاخرة برتاث غدا يف كثري من حمطاته ال ميثل يف أحسن
تقدير إال عصره وأصحابه ولعله ال يرتبط بنا اآلن مطلقا ..ثقافتنا
سلوكنا ديننا ليس امتدادا لعبقرية األجداد ولكنها غدت مجودا ممقوتا
على ماكانوا عليه ..لسنا اآلن إال بركة ماء آسن.
ماكان أبي مبثل هذا االنطواء على املاضي ومتجيده يف كل مناسبة ..كنت
أراه دائما شبابا متجددا بقدر ما يرتبط باملاضي يعيش احلاضر ويتفتح على
املستقبل ويدعو الشباب إىل وجوب استلهام جناحات اآلخرين يف كل
امليادين فما الذي حل به هذه املرة؟ وصل به األمر إىل منتهاه ..كبا فرسه ومل
يستطع أن يواصل املسري وال التحدي ..هاهو يفر بنفسه فجأة إىل سرادق
التاريخ احملنطة ..أخرجين منري من سرحاتي:
199
-كيف ترين األمور يا اجلازيه؟
-كنت أفكر يف أبي ..حالته ليست تعجبين
-وال أنا كذلك.
وسكتت فجأة فرتاءت لي حسناء قمرا دريا يسبح يف أعماقي..
يتوسد ذاكرتي املتعبة..
يعيدني إىل كل ماقال شعراء الغزل العذري واملاجن يف حبيباتهم..
ماذا لو ..ماذا لو رأوها؟
لو رأوا فتنة عينيها الناعستني؟
موسيقى بسمتها؟
جدول كالمها ينساب من ثغرها قوزحا أسطوريا؟
لو رأوها ماقالوا شيئا غري الصمت باهتني..
صدق فولتري خلق اهلل املرأة لريوض الرجل فقط.
3
حني افرتقنا وقفت مكاني أشيع السيارة وهي تبتعد ..هكذا أنت دائما
يامنري تريدها أن تسري وكفى ..ال تهمك نهاية الطريق ..وال رأي الذين
يركبون معك ..ولكن إىل متى؟ لقد مللت االنتظار ..كان يفرتض أن يتم
زواجنا منذ سنوات ..ال مباالتك بنفسك وبي أوصلتنا إىل هذه احلالة اليت
حنن عليها ..ضيعت مستقبلك وضيعتين معك..
ألف طريق انفتحت أمامي..
ألف طريق فرشتها لي والدتي باملاس والياقوت..
وكنت أرفض أن أعدوَ جذىل إال فوق طريقك..
وعلى ورودك..
200
منذ أحببتك اختصرت العامل فيك..
غدوت كوكبا أسبح يف فلكك..
شذا يعبق يف فضائك..
أغرودة أعزفها عرب نايك..
هل يأتي عليك حني من الدهر ترمي فيه كل شيء خلفك لتحضنين إىل
صدرك الرحب..
وحدي وحدي دون سواي..؟
صرت أغري من كل شيء حيظى منك باالهتمام ..أُمَّا عرجونه ..اجلازيه..
عمي صاحل ..إبراهيم ..كتبك املرتاكمة يف حجرتك ..حارة احلفرة عشيقتك
املفضلة و..
مل أعد أجد أعذارا مقنعة أصارع بها غطرسة والدتي وهي ابنة العائلة
النبيلة ..مل أعد أجد لسانا يصد زوابع تعْيِريها
-مازلت تعشقني ذلك الصعلوك املتسول وتنزلني من عليائك إىل
حضيضه؟ ستندمني.
وكنت دائما أردها بثورتي
-لقد اخرتت طريقي وأنا سعيدة به
هذه املرة طورت يف وسائل هجومها ..مل تعد تعريني وال ترجوني..
بل صارت تهددني ..وهي عازمة كل العزم على افتكاكي منك وتزوجيي
من غريك.
منذ أيام جاءها امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ إىل البيت حيمل من اهلدايا ما مل أره يف
حياتي مطلقا ..وما مل حتلم به حتى أمي وهي ابنة األسرة النبيلة وبرفقته
ضابط يف اجليش ..أمي تقدس املال ..وتقدس السلطة ..لقد كان جدها قائدا
201
عند فرنسا ميلك رقاب الناس كما ميلك األرض ..وكان أبوها مديرا عاما
للضرائب يلهج كل التجار بقدره ..خفق قلب والدتي وهي ترى اهلدايا
الثمينة مكومة وسط البيت حيملها إليها شيخ البلدية شخصيا ..ورأت جنوم
الضابط تلمع فوق كتفه فغدت كلبة أمينة مستعدة لفعل كل شيء.
مل يكن ما طلبه امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ صعبا على والدتي ..بل جاء موافقا هلواها
متاما ..مل يقعد امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ طويال حتى صارح والدتي قائال:
-جئنا خنطب ابنتك حسناء ..الضابط فهيم أكرب من أن يُرفض لقد
أعجب بها وما كاد يفاحتين يف املوضوع حتى هرعت إليك ..وماذا أفعل؟ أنا
اآلن والد اجلميع ماداموا قد انتخبوني رئيسا عليهم.
ومل تكلف والدتي نفسها تعب التفكري أو استشارتي واستشارة والدي
املغلوب على أمره بل هللت موافقة على الفور.
وخرج امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ومعه الضابط ..وخرجت خلفهما والدتي
تشيعهما عند الباب ..بقيت ساكنة يف حجرتي ..دخلت علي أمي وهي
تكاد تطري فرحا.
-لقد فتحت لك أبواب السعد يابنييت ..عريس حبجم الدنيا ..بيده احلل
والربط و..
مل تكمل حديثها حني قاطعتها.
-لقد مسعت كل شيء ..وهذا العريس أنا ال أريده لقد اخرتت طريقي
وكفى ..وكفى..
-ولكنين أمك ..وأنا أدرى مبصلحتك ..سأرغمك على ما أريد..
سأرغمك ..لن أمسح بتدنيس شرف عائليت ..ذلك الصعلوك ال تليق به
إال صعلوكة مثله..
202
حني راح رغاء أمي يبتعد كنت أجلس عند النافذة أداعب أوراق شجرة
اليامسني وأقرأ إحدى البطاقات اليت أرسلها إلي منري ذات صيف من عنابة..
عنـــــــــابه
...املدينة تعانق آخر أشعة الشمس..
وأنا اآلن أجلس يف حضرة البحر على أمجل شواطئ عنابة الرائعة..
وحني أجلس إىل البحر والليلُ يرسم عليه لوحات الرهبة ..أحسين
درويشا ميارس احللول..
ميارس طقوس الصمت والتأمل واالستغراق..
وكلما صحوت من سُكري ذكرتك ياحبيبيت
ورمستك يف ذاكرتي تضاريس من عمري..
4
حني كنا عائدين كنت صامتة حزينة ..هذا الدهر أفقدني كل شيء والبد
أن أنتقم من أحد زبانيته ..البد من قتل امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ..وكان منري اليكف
عن احلديث طول الطريق
حدثين عن الشيخ اهلامشي ..وعن أهم حمطات حياته ..كيف ترك القرية
فرارا من بطش اإلرهاب تاركا هناك أرضه وأنعامه لريضى حبجرات ضيقة
يكرتيها حبارة احلفرة ..وكيف ظهر فجأة أحد أقاربه قادما من العاصمة فيغري
فكر ولده الكبري صالح الدين وعشرات من الشباب حني حقن أخماخهم
بفهم جديد مل يألفوه من قبل ..وزرعهم لعنة يف حارة احلفرة..
وكيف ضاقت السبل بالشيخ اهلامشي فال هو قدر على تدبري شؤونه يف
املدينة وال هو استطاع العودة إىل قريته خلدمة أرضه ورعاية أنعامه ..فقرر
عند ذلك اهلجرة إىل األرض األخرى وزينت له إحدى عصابات التهريب
203
ذلك فحفظ كلمات ومجال ودفع ما حبوزته من مال فشحن كالسلعة داخل
باخرة صيد صغرية ..وحني بلغت شاطئ إسبانيا فرغ مع مجع من الشباب
ومل يكن أمامهم سوى أن يطلقوا لسيقانهم الريـح ..هذه إسبانيا بلد احلرية
والعدالة واملساواة..
عام واحد أعمله وأستطيع أن أهرِّب كل أفراد عائليت ..هذا الوطن مل
يعد يسعنا ..هذا الوطن صار لنا سجنا كبريا ال يعيش فيه إال الغالظ
الشداد ..وكان عليه أن يسأل أول من يصادفه أمامه عن مكان تواجده وعن
أقرب مدينة إليه وعن وسائل النقل املتوفرة وظهر قريبا منه شاب يقلب
األرض ..مصادفة عجيبة هذا فالح وهو أنسب لي ألن القريب من األرض
قريب من القلب واخلري ..وراح يعد التحية كما حفظها باإلسبانية ..يتلفظ
بها مرارا وحني وصله أرسلها يف كثري من احلرج ..وفوجئ بالشاب يرد عليه
بالعربية
-وعليكم السالم ورمحة اهلل تعاىل وبركاته.
وما فتئت دهشته أن زالت بل وحتولت فرحة عارمة ..هذا عربي مهاجر
مثلي وهي صدفة عجيبة وسعيدة لن حيتاج إىل ما حفظه من لكنة أجنبية..
وانطلق يسأل ليعرف أين هو؟
وسرى الوهن يف ركبته وهوى على األرض حني أخربه أنه جبيجل على
بعد مئيت كلومرت عن مدينته ..لقد انطلت عليه احليلة.
ح ِوينْ ْمسافَــــــــ ْر اتْـــــ ُروحْ
ياالرَّايَـــــ ْ
َت ْعَيى َوْت َوِّلي
ني
وشْحالْ َن ْد ُمـــــو لَ ْعبـــــادْ الغافْ ِلــــــ ْ
ك ُأوقَبلي
َقْب َل ْ
204
وشحال شَفت البلـــــدان العامْــــــرين
والبَرَّ اخلالي
اشحال ضيعتْ اوْقاتْ واشحال اتزيــــدْ
مازال اتْخلي
9
يا الرايح لَبالدْ الناسْ ْتروح تَعيى ما جتري
منذ ذلك الوقت فقد الشيخ اهلامشي كل رغبة يف احلياة ..بعد عام التحق
بِكْرُه صالح الدين باجلبل ..بعد عام آخر قتل هو وابنه األصغر ..ومل تعد
حارة احلفرة تسمع صوت اهلامشي املبحوح وهو يسوق أمامه بإجهاد عربة
اخلضر صائحا الطماطم الفلفل اللفت اخلرشف..
ومل يعد أطفال املدارس يسمعون صوته داعيا لشراء احلمص والبلوط:
ابْنِنيْ ابنني ..إِحَلْ العينني ..ويِزِيدْ الوذنني..
مل تكن القصة غريبة عنها فلِمَ أسردها عليها..؟ كنت أدرك أنها تعرف
كل تفاصيلها ولكين كنت أحل يف إعادتها على مسمعها مل يعد للكالم
نكهة ..ومل أعد أرغب يف احلديث عن أي شيء ..كنت أحس أنين فارغ متاما..
مل أجد أمامي إال قصة الشيخ اهلامشي فاندفعت أرويها كي ال يشرد بها
اخلاطر يف جماالت أخرى.
الحظتِ اجلازيه وحنن ندخل املدينة بداية تغري شامل ..طرق معبدة..
أشجار كبرية مغروسة حديثا ..مصابيح ..أعالم من كل لون ..قالت
مندهشة:
-ماالذي يقع باملدينة؟
أخربتها أن الشائعات تقول أن رئيس اجلمهورية سيمر هذه األيام من
205
هذا الطريق ..وهذا ما دفع باملسؤولني إىل العمل ليال ونهارا وإنفاق املاليني
لتحسني وجه الطريق ..إىل درجة قطع أشجار ضخمة وتثبيتها يف الشارع
باإلمسنت.
قالت وعلى وجهها ابتسامة كئيبة
-الشيء تغري ..وما عسى األصباغ أن تفعل لعجوز مشطاء؟
أول من صادفنا والسيارة تقرتب من حارة احلفرة صهر الشيخ اهلامشي..
كان شابا يف حوالي األربعني من عمره بدينا مربوع القامة أشقر اللون ال
يكاد يظهر من وجهه إال عيناه ..كانت حليته املبعثرة تغطي كل شيء ..يضع
فوق رأسه عمامة بيضاء ..وكان يرتدي جالبية رمادية تنتهي فوق ركبتيه قليال
وسرواال ينتهي عند منتصف ساقيه الغليظني وخلفه حبوالي مرت كانت تتعثر
زوجته يف جلبابها األسود الذي يغطي كل بقعة يف جسمها فال تظهر إال
عيناها خلف شباك مصنوع من اخليط ..تضع على رأسها مخارا أسدلته حتى
منتصف جسمها ودلته على عينيها ونقابا يغطي ما تبقى من جسمها
وتغطي يديها بقفاز أسود أيضا ..أما حجابها فكان يتدىل خلفها تسحبه
جامعا كل ما وجد أمامه من أتربة حارة احلفرة.
نظرت يف اجلازيه وقالت:
-إىل أين تريد هذه املغبونة؟
-كيف حكمت عليها بالغنب إنها تطبق ماتراه صحيحا.
-حتى اجملانني يطبقون ما يرونه صحيحا.
وتذكرت قول املتنيب:
أغاية الدين أن حتفوا شواربكم*ياأمة ضحكت من جهلها األمم؟
لعل املسكني كان يعاني مما نعاني من انشغال الناس بالقشور
206
وانصرافهم عن اللب ..همُّ هذه األمة أنها مل تأخذ من تراثها وال من
الغرب إال القشور ..وقد زين هلا أعداؤها ذلك فضلت ضالال مبينا.
وقطعت اجلازيه تفكريي وهي تقول:
-هؤالء يكفِّرون كل من خالفهم ويرون أنهم الفرقة الناجية وما
عداهم فهم يف النار ..أنت مثال كافر أل نك حتلق حليتك وأنا كذلك
ألنين أكشف وجهي.
حني دخلنا حارة احلفرة وجدناها قد انقلبت رأسا على عقب ..الناس
يتجمعون هنا وهناك ..الشباب حيملون العصي واحلجارة ..الدخان ميأل
الفضاء ..سخط يتثعنب على مالمح اجلميع ..سيارة لشرطة مكافحة الشغب..
بعض أفراد الشرطة ما زالوا يقفون بالقرب منها ..ترجلنا عجلني
الستطالع النبأ ..أخربني بعض الشباب أن امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ قد قدم حارة
احلفرة وأعطى األوامر بإخالء املساكن هلدمها ..وسينقل السكان مجيعا إىل
العمارات اليت أقيمت حديثا خارج املدينة ..وثار غضب السكان فخرجوا
يرمونه باحلجارة ..ثم انقضُّوا على جممعه التجاري الذي سرق به حلمنا يف
إقامة مركز ثقايف فأحرقوه عن آخره.
التم حولي اجلميع وقد زاد غضبهم وسخطهم ..هدأت روعهم..
شكلنا جلنة تتحدث باسم احلي أمام اجلهات الرمسية وأمام العدالة
وأمرت الباقي باالنصراف.
5
ما الذي يريده هؤالء السفلة الرعاع؟ مازالوا مستمرين يف عنادهم رغم
كل شيء ..لقد أثبتت هلم األيام أنين األعظم واألكفأ ..وأنين قادر على
شرائهم مبا ميلكون من أكواخ وأثاث ..أطفأت سيقارا وأشعلت آخر ..كانت
207
نفسي كالربكان ..دخل طبييب اخلاص علي فجأة ..الشك أن احلرس قد
اتصلوا به ملا رأوا ثورتي ..اقرتب مين بهدوء حماوال إعادتي إىل طبيعيت:
-مرض السكري والضغط ال يسمحان لك بهذه الثورة اهدأ يااحلاج
-لن أهدأ حتى اشرتيهم مجيعا..
لن أهدأ حتى أذحبهم واحدا واحدا ..سأتصل بالوزارة ..بسي سليمان..
سأحصل على قرار من فوق يثبت أن حارة احلفرة غري صحية وغري الئقة
للسكن وبقوة القانون سأهجرهم مجيعا..
سأهجرهم مجيعا ..مجيعا..
وسكت يزفر ويشهق ..بشدة أمسك به الطبيب يقعده ..جذب آخر نفس
وسحق بقية السيقار يف املنفضة
-أوالد الكلب
وسلم له الطبيب قرص دواء وكأس ماء عبه بسرعة وعاد يقول للطبيب:
-لو زوجوني احللوة لفرشت هلم حارة احلفرة ذهبا ولكنهم عاندوا
ودفعوني إىل اغتصابها ..ثم هامت على وجهها تبيع جسدها مومسا على
قارعات الطرق
ولو زوجوني اجلازيه لفرشت هلم أرض حارة احلفرة ومساءها درا
وجواهر ..ولكن ألتزوجنها أو ألغتصبنها لتكون عربة للجميع.
6
كان علينا أن نزور أحد أبناء حارة احلفرة مبشفى قسنطينة ..لقد كانت
جراحاته بليغة ..ضربات على الرأس ..وأخرى بالصدر والوجه ..تركنا حارة
احلفرة كالثكلى تتجرع مبرارة أحزانها ..وتكفكف دموعها ..وسافرنا أنا
وجمموعة من الشباب ..طول الطريق كان اجلميع جيرت تفاصيل احلوادث
208
األليمة ..وكنت أستمع بأمل شديد..
حضر التقنيون برفقة امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ وقد غدا رئيسا للبلدية ..بدأوا يف
قياس الشوارع والبيوت ..كان السكان يدركون أنها مؤامرة لرتحيلهم
وإسكانهم إجيارا يف عمارات غري صاحلة بنتها مقاولة امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ..
وحاول السكان منع التقنيني من مباشرة عملهم وهددهم امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ
بإحضار الشرطة ..وحتت ثورة الغضب اندفع املئات إىل املركز التجاري
الذي أقامه امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ فأحرقوه عن آخره ..وتدخل عناصر الشرطة
وأعوان امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ..وانتهت املواجهات ببعض اإلصابات واحدة منها
خطرية حتمت نقل صاحبها إىل املشفى اجلهوي.
كان وصولنا يف الوقت املناسب ..وجدنا الشاب قد أدخل غرفة اإلنعاش
ولعله حيتاج إىل عملية جراحية ..والبد من التربع بكميات كبرية من الدم
وفعال تطوعنا لذلك وبتنا هناك.
يف الصباح تركنا ممثليْن عنا وعدنا أدراجنا ..وكانت املفاجأة قاسية ..لقد
داهمت الشرطة عشية ذلك اليوم حارة احلفرة ..واعتقلت عشرين من
سكانها أودعوا احلبس االحتياطي ريثما ميثلون أمام احملكمة بتهم التحريض
على الفوضى والتجمهر غري املصرح به ..وحرق أمالك الغري ..واالعتداء
على شخص رئيس البلدية ..كما داهمت جمموعة من اللصوص بييت
وعاثوا فيه فسادا حيث أحرقوا مئات الكتب وما كتبت من أعمال أدبية
املخطوطة..
ألول مرة أحس أنين انهزمت ..ألول مرة أحس أنين انتهيت قد أمتكن
من تعويض الكتب ..ولكن هل أمتكن من إعادة صياغة ماكتبت من
روايات ..ورواياتي اعتقال للحظة هاربة من زمين ..حياتي ..يفنى الزمن
209
وتبقى هي دائما حية متألقة وأنَّى لي أن أبعث ذلك للوجود ..وحز يف
نفسي أن أضيع ذكريات نانَّا ورائحتها ..قلبت طرف صدرييت أتأمل اخلُمسة
الفضية..
جبواري وقفت اجلازيه ..أمسكت بيدي قائلة:
-لقد أحرقه األغبياء البارحة بعد منتصف الليل ..إنهم عبيد امْحَمَّدْ
امْلَمَّدْ ..كنت على يقني من أنهم سيفعلون ..رأيتهم ينزلون من السيارة
ويتسللون إىل بيتك ..حني كسروا الباب خرجت ورحت أصرخ ..خرج
سكان حارة احلفرة ..هرعوا إىل املكان ..تعاونا مجيعا على إطفاء احلريق ..ومل
منسك بأحد كأن األرض ابتلعتهم ..كانت النار شديدة لقد كادت تأتي على
كل شيء.
داهمين موج الغثيان وأنا أتأمل بييت قد التهمته النريان ..هذا أمر توقعته
وتوقعت أشد منه ..ولكن ضيعت عمري بتضييعي رائحة نانا وتضييعي ما
كتبت ..أخرجتين اجلازيه من شرنقة حزني
-الحتمل هما جيب أن تبقى أكرب من األعاصري..
ومن حتت إبطها أخرجت كيسا فتحته وأخرجت منه كراريسي اليت
دونت عليها رواياتي وخربشاتي ..عاد إىل كل اجلسم تيار الروح ونسيت
كل ما وقع
دائما كانت اجلازيه اهلاللية توصي ذياب باحلذر..
يـاذيـاب ..اجعل عينيك وراء ظهرك..
كانت اجلازيه صادقة وخبرية ..الرجال الكبار ال يقتلون يف احلرب
مواجهة ..وال يقتلهم الرجال الكبار أمثاهلم ..ولكن يطعنهم األوباش
وأراذل الناس ..وكذلك قُتل عمر بن اخلطاب وقتل املتنيب وطرفه
210
وإفالطون و……
-كان ظين يف حمله ..قصدت بيتك مساء وأخذت ما اعتقدت أنه مهم
لديك ..حوائج نَانَّا ..كراريسك ..صورك ..رسائلك ..وبعض كتبك املفضلة..
معذرة مل أستطع محل كل شيء..
كل شيء ال يهم إن هو إال حطام دنيا فانية ..كل ما يهمين من البيت
رواياتي وحوائج نانَّا اليت تركتها أعرف أن اجلازيه تدرك قيمتها عندي
ولعلها هربتها مجيعا
منذ عشر سنوات قررت نانَّا أن حتج ..هو آخر حلم كان يراودها يف
حياتها ..جتاوزت السبعني من عمرها لكنها كانت كالغزال.
قضت أياما طويلة وهي توصيين بكل شيء ..كأمنا كانت تودعين..
وكنت أحاول أن أبعدها عن هذا اجلو الكئيب ..لكين مل أكن ألقدر..
كانت توصي وتلح يف الوصية ..ثم تتأملين بإعجاب وتقول ملء فيها:
-أنت اآلن يا منري ياوليدي رجل ..رجل كبري.
جتمع كل أشيائها ..ترتبها وتضعها يف صندوقها املنقوش قائلة:
-هذا ما ملكت من الدنيا الفانية
تسكت طويال كأمنا تغوص يف حبار الذكريات:
-مات رجال يف ثورة التحرير كالصحابة ومل ميلكوا شيئا ومل تبك
عليهم إال بنادقهم ورفاقهم
وكثريا ما تستشهد بعمار الكريطة
-كان قائدا جملموعتنا حني وقعنا يف الكمني ..ضحى بنفسه من أجل أن
ينقذنا ..وشغل عساكر العدو حتى نفدت ذخريته ..حني قتلوه أخفى األهالي
جثته وبت معه يف خمبإ أقيم بأحد البيوت ..حني أفاق طلب مين أن أغسل رأسه
211
باملاء البارد ..أردت أن أعارض ..رفع يف عينني ممتلئتني شهادة ..غسلت رأسه..
جففته له ..طلب مين قنينة العطر اليت كان حيتفظ بها يف جيبه ..سلمتها له ..أراق
منها شيئا يف كفه ومسح وجهه ..عبق املكان بشذا العطر وشذا الدم ..سلمين
القنينة وأمرني أن أحتفظ بها ..وبت أرقبه عن كثب ..حني تنفس الفجر
تنفست روحه حملقة يف مساء اخللود ..غادرت إىل اجلبل ويف الصباح الباكر دفنه
األهالي يف سفح اجلبل ..بعد االستقالل رحنا جنمع الشهداء يف مقابر خاصة..
حني حفرنا قربه وجدنا جثته كما هي ..صدره وحده كان مفتوحا وبه اختذت
النحل بيتا مألته عسال.
آٍه ياسيد الشهداء..
ت فوق جوادك..
مازل َ
مازال سيفك مل يُثلمْ..
مازال قلبك نابضا مل يُكلم..
وعُداتك لو يدرون حني قتلوك أنك ال تعدم..
وأنك تبزغ من حناجر الطيور..
ومن أكمام اجلراح وعيون الصغار وثغور الزهور
ربيعا وبلسمْ
لو يدرون ياسيد الرجال..
لكن القحط اليدري سر البذور..
اليدري أن مكمن الروح اجلذور..
اليعلمْ
غدا ياسيد الرجال
تبزغ يف أناملك سوسنات
212
ومن عينيك قوزح وميام وبدور
غدا تزرعْ بقلب عُداتك حبا ونورا ال يُظلم.
ورمبا حكت عن ملطروش أو العقيد عمريوش أو الشيخ العيفه..
السعيد بوخريصه ..العيد الضحوي..
حجت نَانَّا ولكنها مل تعد ..ماتت يف املدينة املنورة ..هناك دفنت ..حني
عاد اجلميع من احلج مل تعد إليَّ هذه النبية كأنها كانت تأبى أن تدفن يف
أرض سقتها دماء األشقاء..
مل تنس وهي حتتضر أن تبعث إلي بشاهلا األبيض وعليه اخلمسة
الفضية ..منذ ذلك اليوم مل تربحين اخلمسة أعلقها قرب قليب يف حلي
وترحالي ..وظللت أهفو إىل كل جنمة تلمع يف السماء معتقدا أنها نانَّا.
وأعادتين اجلازيه إىل الواقع وهي تفتح أمامي جريدة الشروق اليومي
وقد توسطها موضوع يعلوه عنوان خبط كبري .
"بارون التهريب و املخدرات "
تصفحت عناوينه على عجل..
احممد املمد يتحايل على الضرائب..
رشاوي باملاليني..
شبكة خمدرات مغاربية..
وقد ذيّل املوضوع باسم كاتبه
م.ذياب
صحت فيها فرحا
-إنه ذياب ..هاهو أخريا يضرب ضربته ..انتهى ا ْمحَمَّدْ امْلَمَّدْ إىل األبد
طوت اجلريدة من يدي و هي تكاد تطري فرحا
213
-هل تعلم؟ وهيبة أجنبت طفال
ووجدت نفسي أصرخ من أعماقي
-سامل العلواني ..سامل البطل ..ما أعظمك يارب!!
ضغطت بيدي على أصابعها ورحت أجرها سريعا إىل سامل العلواني
الصغري
214
7
شرفة أخرية
يا اجلازيــــــه...
ن..
بلغ القلبَ العفــــــــ ُ
انتفضــــــــــــــــي..
حشاشةُ الروح ترتعش..
سويداءُ القلب ختتنق..
اقتليه..
اشحذي اخلنجر املسموم واقتليه..
قتلك ألف مرة..
باع ظفائرك لصعاليك األرض..
اقتليه ..و..
وتستمر احلفلة ..دوي الدفوف يقطع اآلذان ..املئات ينخرطون يف شطحات
جمنونة ..امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ يتصدر املنصة ..خترج الشقراء من حني آلخر ..ينساب
منها الصوت:
-يف خاطر أوالد احلفرة هذا مليون من عند احلاج امْحَمَّدْ..
الكل يرقص ..ينتفخ احلاج امْحَمَّدْ ..وحده كسردوك رومي ميأل املكان..
هاهو جيلس على العرش ويتوج رئيسا هلذه املدينة يف انتخابات اشرتاها
215
مباله..
هذا دربك يا اجلازيه..
الدم وحده قادر على غسل العار..
هاأنذا أجري..
ها عرقي ينساب وديانا حولي..
ها اخلنجر يلمع يف عيينَّ..
أشده بقوة ال بد أن أغرزه إىل آخره ..حتى املقبض ..حتى مرفقي ..البد أن
أراه يتقيأ دما ..ال بد أن أراه يتخبط كدجاجة مذبوحة ..كجثة والده العفنة حني
ذحبه الرجال الكبار ..ال بد أن أذحبه ..يف عروقي مازالت جتري دماء الفحولة..
انظر والدي ..انظر عبدالرحيم ..انظر ذياب ..منري ..أُمَّا عرجونه ..اهلامشي..
حسناء ..عبله ..عْزيََّزْ..
انتفضي حارة احلفرة..
انظريين أطهرك من الرجس..
األفيون..
تتعاىل صيحات اجلمهور ..يشتد دوي الطبول ..مطرب الراي يسري
خبدره يف القلوب..
حارة احلفرة خمدرة وسط غشاوة الليل احلزين..
هي النجوم الشحيحة تذكر الذين مروا من هنا..
إبراهيم جحا ..الشيخ صاحل ..أُمَّا عرجونه ..عبدالرحيم ..صالح الدين..
الشيخ اهلامشي..
بدأ العفن يف الطرقات ثم اختذ األوعية جمار يعربد فيها..
216
حارة احلفرة جبَّانة مغلقة األبواب تتمدد مسجاة يف تابوت الليل..
امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ينهض بقامته املديدة ..ميد يده يف الفضاء ..تلمع ساعته
الذهبية ..تطلق عيارات نارية ..يهتف يف املئات الذين اشرتاهم حلضور احلفل..
ترتفع الزغاريد..
اجري يا اجلازيــه..
مزقي فستان احلداد..
البسي فستان الفرح..
ها ذياب قد أشرق على ربوة القلب..
ازرعيه فرحا يف سويداء حارة احلفرة..
اجتثـي منها نكد الفراعنة والدايات..
ها منري يعدو معك جذالن..
لن أدعه يسبقين ..العرس عرسي ..والشرف شريف..
إىل أين يااجلازيه؟
بنادق الزبانية مصوبة إىل الصدور..
خيانة الدايات أخطبوطا ميتص احلياة
تشتد الشطحات ..تتعاىل أصوات مغين الراي:
راني خَلِّيتْهالَكْ أمانه
اتْهَلَّى فيها
ما تُغْبَنْهاشْ
هي احْبيبيت أنايَ
لكن ربي ما كَتَّبْهاشْ
217
يصرخ امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ:
-هذا مليون يف خاطر اجلازيه
يلمع اخلنجر يف ميينك ..يف ذراعك النحيفة ..تزداد سرعتك ..البد
من قتله ..
حارة احلفرة تنتظر أيتها الفحلة ..ياساللة الفحول ..اقتليه ..اغسلي
العار ..ال يغسل العار إال الدماء..
يرتفع دوي الطبول ..تراق اخلمور ..توزع احللوى ..ترقص الشقراء..
تتناثر فوقها املاليني ..فستانك األبيض ينهض من مكانه ..يزحف إىل
امليدان ..عينا أُمَّا عرجونه ..سُمرة أبي صاحل ..خربشات منري ..كتبه ..براءة
أطفال حارة احلفرة ..ترفرف األرواح الطاهرة ..يبتسم عبد الرحيم ..هاكِ
عزمي اقتليه ..خذي بالثأر..
ها ذياب يظهر بني اجلمع فجأة ..الشرف شريف لن يقتله غريي ..أنت فرحيت
يااجلازيه ..ال ترتكي اخلنزير يقطف مثرتها ..أسرعي أيتها املهرة العربية ..ال
تدعيهم يسبقونك للشرف ..تدخلني احللبة ..يدخلون خلفك ..تلمع العيون..
تشتد دقات القلوب ..يصطف اجلميع ..إبراهيم جحا ..الشيخ صاحل ..أُمَّا
عرجونه ..عبدالرحيم ..صالح الدين ..الشيخ اهلامشي ..كل سكان حارة احلفرة..
تلتهب األكف بالتصفيق ..تشهرين اخلنجر ..يسبقك ذياب ..يسبقكما منري..
تسبقينهما..
يرتفع صوت مغين الراي ..وصوت الدفوف ..وصوت األكف
واألقدام الراقصة..
يتهادى امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ نشوان ..وقد لعبت اخلمرة برأسه ..يرغي
218
كالبعري..
يـــــــا
ا
لـ
ـجـــــــــــــــــ
ــا
ز
يـ
ـه ..
تتهادى الشقراء راقصة حوله ..تُ فتح األشداق مبهوتة مبهورة..
ترتفع صيحاتها ..على مرمى حجر تقفني مهرةً جاحمة ..تلتصق الشقراء
به ..يعدو منري ..يسبقه ذياب ..حتدق فيك عيون البنادق شزرا ..تشحذين
القلب ..تشحذين اخلنجر ..تدفعينه حنو القلب ..تغرسينه فيه ..يتهاوى
حنوك جثة هامدة..
قبل أن يصل إىل األرض ..ترفعني بصرك ..تلمحني الشقراء تغرس
خنجرها يف كبده ..تتأملينها ..يهرع منري ..يهرع ذياب ..يهرع إبراهيم جحا..
الشيخ صاحل ..العيد الضحوي ..أُمَّا عرجونه ..عمريوش ..عبدالرحيم ..عَزُّوزْ
البهلول ..السعيد بوخريصه ..عْزَيَّزْ ..الشيخ العيفه ..صالح الدين ..الشيخ
اهلامشي ..عمار الكريطة ..أمحد ملطروش ..تصفق حارة احلفرة ..جدرانها..
219
10
شوارعها ..أتربتها..
تضمك الشقراء عبله احللوة إىل صدرها امللتهب ..تضمينها ..ينفرط
طوق احلقد ..والدايات ..يتناثر هاهنالك ..وهاهنالك ..حوالكيما ..يتشكل
عقد اخلري ..واحلب ..من بعيد كان ذياب حيمل يف يده فستان الفرح ..وكان
أبي صاحل وأُمَّا عرجونه يفتحان ذراعيهما فرحا وابتهاجا..
وحني أشرقت مشس الصباح كان اجلميع يشاركون يف عيد حارة الربوة..
وكانت اجلازيه تصغي ملوال ذياب.
ياسيدة الضياءْ
و األرض والسماء
ياسيدتي
ياشذا احلبقْ ولون الكستناء
وروح الروح وسر املاء
داياتهم خسئوا
وانبجس الضياء
تيهي على عرش قليب
وازرعيه خصبا ومناء
واصَّاعدي ..اصَّاعدي
-10العيد الضحوي ..الشيخ العيفة ..عمريوش ..عمار الكريطة ..أمحد ملطروش ..السعيد
بوخريصه :أمساء لشخصيات حققيقية نالت شرف الشهادة يف سبيل اهلل أثناء ثورة التحرير
املباركة ويشهد اجلميع بشجاعتهم األسطورية.
220
على درجات الفؤاد املوله
مقامك ياسيدتي
يف عش السماء
يف سدرة املنتهى ...
221