You are on page 1of 221

‫راس احملنه ‪0=1+1‬‬

‫‪1‬‬
2
‫عزالدين جالوجي‬

‫راس احملنه‬
‫‪0=1+1‬‬
‫رواية‬

‫دار املنتهى‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع‪ -‬الجزائر‬
‫‪0663186822‬‬

‫‪3‬‬
4
‫اإلهداء األول‬
‫إليكِ‪..‬‬
‫أيتها العني‪(..‬ع)‬
‫***********‬
‫ياسيدة الضياءْ‬
‫واألرض والسماء‬
‫ياسيدتي‬
‫ياشذا احلبَقْ ولون الكستناء‬
‫وروح الروح وسر املاء‬
‫داياتهم خسئوا‬
‫وانبجس الضياء‬
‫تيهي على عرش قليب‬
‫وازرعيه خصبا ومناء‬
‫واصَّاعدي‪ ..‬اصَّاعدي‬
‫على درجات الفؤاد املوله‬
‫مقامك ياسيدتي‬
‫يف عش السماء‬
‫يف سدرة املنتهى‬
‫عزالدين‬

‫‪5‬‬
6
‫اإلهداء الثاني‬

‫إليكَ‪..‬‬
‫أيها العني‪(..‬ع)‬
‫**********‬
‫ت فوق جوادك‪..‬‬
‫مازل َ‬
‫مازال سيفك مل يُثلمْ‪..‬‬
‫مازال قلبك نابضا مل يُكلم‪..‬‬
‫وعُداتك لو يدرون حني قتلوك أنك ال تعدم‪..‬‬
‫وأنك تبزغ من حناجر الطيور‪..‬‬
‫ومن أكمام اجلراح وعيون الصغار وثغور الزهور‬
‫ربيعا وبلسمْ‬
‫لو يدرون ياسيد الرجال‪..‬‬
‫لكن القحط اليدري سر البذور‪..‬‬
‫اليدري أن مكمن الروح اجلذور‪..‬‬
‫اليعلمْ‬
‫غدا ياسيد الرجال‬
‫تبزغ يف أناملك سوسنات‬
‫ومن عينيك قوزح وميام وبدور‬
‫غدا تزرع بقلب عُداتك حبا ونورا ال يُظلم‪.‬‬
‫عزالدين‬

‫‪7‬‬
8
‫فاحتة‬

‫غدونا لذي األفــالك ألعاب العب‬


‫أقول مقـــاال لست فيه بكــــاذب‬
‫على نطع هذا الكون قد لعبت بنا‬
‫وعدنا لصندوق الفنا بالتعـــاقب‬
‫عمر اخليام‬

‫قالت صحرائي‬
‫ال تألف‬
‫كن الغريب دائما حتى عن نفسك‬
‫وقل لوجهك يف كل فجر‬
‫كأنين أراه للمرة األوىل‬

‫أدونيس‬

‫‪9‬‬
10
‫‪1‬‬

‫شرفة أولـى‬

‫أنَّى للحب أن يشرق وسحائب الدم مازالت تهدر حوله‪..‬؟‬


‫كيف ميكن للقلوب أن تعشق وتقتل يف اآلن ذاته‪..‬؟‬
‫من يقدر على ارتداء فستان الفرح يف أزقة اجلماجم‪..‬؟‬
‫مامعنى أن حنمل وردة وسكينا‪..‬؟‬
‫إيـه يازمن نانَّا‪..‬‬
‫إيـه ياعبقها احللو‪..‬‬
‫هذا الدرب طويل‪ ..‬طويل‪..‬‬
‫تعب اجلميع ومل ينته‪..‬‬
‫ضاعت يف منعرجاته نوارس احلب مضمخة بدم الغدر واخليانة‪..‬‬
‫ها املدينة باهتة بليدة بطعم الغباء‪..‬‬
‫غرباء بذوق الرماد‪..‬‬
‫مرة بلون القر‪ ..‬واحلزن‪ ..‬واالنكسار‪..‬‬
‫عفن يعرش‪..‬‬
‫موت ينشر أشرعته السوداء‪..‬‬
‫ذباب يغين يف جنباتها‪..‬‬
‫يشتد أنني البائسني‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫الرعب يسكن قلوب البيوت الواطئة اجلامثة كالوباء‪ ..‬يتغلغل يف‬
‫أوردة األزقة‪ ..‬حيدق كاملفجوع عرب كل اجلدران‪..‬‬
‫وحدك يا اجلازيه‪..‬‬
‫أيتها الوشم الرابض على فوهة املدفع‪..‬‬
‫أيتها الدمعة احلريى على شفري الوطن‪..‬‬
‫ياربيع الشهداء‪..‬‬
‫ياجراحاتهم العبقة بأومسة الفداء‪..‬‬
‫وحدك يا اجلازيه‪..‬‬
‫وحدك تذرعني األزقة املرتبة الضيقة‪..‬‬
‫وحدك تصهلني يف مسمع الليل البهيم‪ ..‬تدكني عروشه‪ ..‬متزقني‬
‫سدوله‪ ..‬تغتالني همومه‪..‬‬
‫وما تستطيعني أن تفعلي؟‬
‫جاوزتك األحداث‪ ..‬الصنم املعبود غدا أكرب‪ ..‬تنسل من كل فتحاته‬
‫شياطني ودراويش‪..‬‬
‫وهل تقدرين على مقاومة هؤالء املاليني الذين تفرقوا يف كل شرب‬
‫من املدينة؟‬
‫هاهم كاجلرذان ينخرون األسس‪ ..‬ينخرون اجلدران‪ ..‬يقتلعون اجلذور‪..‬‬
‫كل شيء ميوت يااجلازيه‪.‬‬
‫انطلقي اآلن كاملهرة اجلموحة املتمردة‪ ..‬ذياب يف انتظارك‪ ..‬إنه هناك‬
‫على صهوة الفرس األبيض‪ ..‬هناك ينشر بني يديه فستانك األبيض‬
‫املضمخ باحلب والكربياء‪ ..‬هناك ينتظرك‪ ..‬سرتكبني خلفه وتنطلقني‪..‬‬
‫تنطلقان إىل‪..‬‬

‫‪12‬‬
‫إىل املنتهى‪..‬‬
‫املنتأى‪..‬‬
‫املرجتى‪..‬‬
‫ولكن ال مندوحة من قَتلهِ‪ ..‬البد أن تقتلي هذا الصنم اللعني‪ ..‬ال بد‬
‫من تدمريه‪ ..‬إلنقاذ احلارة‪ ..‬مَن لسكانها غريك‪..‬؟ من للشتالت اليانعات‬
‫من قر الصقيع‪..‬؟‬
‫ال ختايف يااجلازيه‪ ..‬يا أمل اجلميع‪..‬‬
‫الديناغول ليس إال هيكال خاويا عمَّا قليل سيخر فتذروه الرياح‪..‬‬
‫غدا سينعتق املكبلون‪..‬‬
‫غدا ياجلازيه ستشرقني بلون القوزح على حارة احلفرة لتغدو ربوة‬
‫ذات قرار ومكني‪..‬‬
‫لتغدو جنتني ذات اليمني وذات الشمال‪..‬‬
‫امسحي دموعك الزاحفة على ربوة اخلد‪..‬‬
‫ستشرق الشمس فيهما‪ ..‬ستينع عليهما زيتونتني الشرقيتني‬
‫والغربيتني يكاد زيتهما يضيء ولو مل متسسه نار‪ ..‬نور على نور‪..‬‬
‫أشرقي أيتها املشكاة‪ ..‬املشكاة يف زجاجة‪ ..‬الزجاجة كأنها كوكب دري‬
‫يوقد من شجرة مباركة‪..‬‬
‫أال أيها الليل الطويل أال اجنل‪..‬‬
‫أال ارحل‪..‬‬
‫ها ذياب يعود‪ ..‬منري يعود‪ ..‬عبله احللوة تعود‪ ..‬إبراهيم جحا‪ ..‬عمي‬
‫اهلامشي‪ ..‬أبي صاحل‪ ..‬نانَّا علجيه‪ ..‬أُمَّا عرجونه‪ ..‬عبدالرحيم‪ ..‬عمريوش‪..‬‬
‫الشيخ العيفه‪ ..‬عمار الكريطة‪ ..‬أمحد ملطروش‪ ..‬أم منري‪ ..‬العيد الضحوي‪..‬‬
‫كلهم عادوا……‬

‫‪13‬‬
‫‪2‬‬
‫اخلروج إىل التابوت‬

‫‪1‬‬
‫أي سحر ميلكه هذا الرتاب‪..‬‬
‫تعطيه كل شيء وحتس أنك مل تعطه شيئا‪..‬‬
‫هذا الرتاب يعطي بسخاء وال يأخذ أبدا‪..‬‬
‫مامعنى حبات العرق اليت نذرفها اآلن على خده‪..‬؟‬
‫ومامعنى قطرات الدم اليت بذرناها يوما يف جواحنه‪..‬؟‬
‫أمل تسقه اجلباه السمر واألوردة احلمر ذلك عرب القرون‪..‬؟ أكاد التحم‬
‫اآلن بصيحات الكبار من يوغرطه إىل األحفاد الذين قضوا منذ عقود قليلة‪..‬‬
‫مل أعد أحس بالتعب وأنا أمارس طقوس العمل يف هذه األرض‪ ..‬أكره‬
‫الليل حني يلقي علينا برنسه األسود شفقة علي‪ ..‬مجعت أدوات العمل‪..‬‬
‫كومتها ناحية ووقفت ممتد القامة‪..‬‬
‫مسحت كل ما حولي وانطلقت عائدا مملوء باهلواجس‪..‬‬
‫أكاد أتهجى على صفحات األرض كل كلمة خططناها هاهنا‪..‬‬
‫ملا خرجت إىل هذه الدنيا أمساني والدي صاحل‪ ..‬على اسم جدي حتى‬
‫يبقى االسم حيا متداوال‪ ..‬ولدت يف حضن هذه الرؤوم‪ ..‬هذه القرية‬
‫الصغرية تنام حاملة بريئة كرضيع يف حضن جبل جبار‪ ..‬كل شيء مجيل ورائع‬
‫ليس هناك مكان للنفاق واخلديعة وال للزيف واملكر‪ ..‬كسرة الشعري وطاس‬
‫اللنب كانا طعامنا مجيعا‪ ..‬عشرة‪ ..‬عشرون‪ ..‬ثالثون ليس بيننا جوعان‪ ..‬نرقد‬

‫‪14‬‬
‫كلنا يف فراش واحد‪ ..‬خمدة واحدة‪ ..‬حائك واحد‪ ..‬و‪ ..‬وقلب واحد‪ ..‬احلب‬
‫ينثر فوق رؤوسنا أكاليل الورد‪..‬‬
‫ملا ثار الشعب ضد احملتل كنا كلنا سباقني‪ ..‬كل واحد يسبق اآلخر‪..‬‬
‫ويسبق حتى نفسه ألننا آمنا بصدق وبعمق أن أرضنا عطشانة‪ ..‬وما يرويها‬
‫غري الدم‪ ..‬دم غزير‪ ..‬دم قاهر يروي األرض‪ ..‬يشبعها‪ ..‬يسقيها‪ ..‬يكنس منها‬
‫الشوك واهلشيم وكل األوساخ‪..‬‬
‫كان عمري إذ ذاك سبعة عشر عاما‪ ..‬أول معركة خضتها أمساني اإلخوة‬
‫صاحل الرصاصة‪ ..‬جريت ثالثة كيلومرتات على نفس واحد كي أحذر‬
‫اجملاهدين اجملتمعني من قوات العدو اليت حضرت كي حتاصرهم‪ ..‬ورغم‬
‫الرصاص الذي كان يتهاطل علي كالنوء إال أني وصلت قبل جنود العدو‬
‫وأنقذت اجملموعة‪..‬‬
‫ذاك اليوم أمساني اإلخوة صاحل الرصاصة‪ ..‬ضحك والدي سامل العلواني‬
‫وهو حيتضنين‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تعيش طويال‪ ..‬عندك سبع أرواح كالقط‪.‬‬
‫ومنذ ذلك اليوم كان جيب علي أن أحلق بالرفاق‪..‬‬
‫أن أحتضن البندقية والسرو‪..‬‬
‫أن أنقش على نباتات اجلبال مسفونية احلب وذكريات الدم‪.‬‬
‫مات أبي شهيدا‪ ..‬جرح جراحا كبرية عميقة ومحلناه للمقر‪ ..‬بقي هناك‬
‫عشرين يوما ورحل‪ ..‬كان الطبيب املعاجل يبذل قصارى جهده لينقذه بكل‬
‫ما كنا منلك يف املركز من معدات طبية لكنه عجز‪..‬‬
‫حني أسلم الروح كانت فهيمة املمرضة تتصبب عرقا وتتصبب دموعا‪..‬‬
‫مل نستطع أن حنرك ساكنا‪..‬‬

‫‪15‬‬
‫كلنا مجيعا مجدنا يف أماكننا‪..‬‬
‫بعضنا كان يبكي‪..‬‬
‫آخرون جتمد كل شيء فيهم‪..‬‬
‫حتى البنادق تهاوت على األرض خرساء‪..‬‬
‫من الصعب أن تؤمن مبوت احلياة‪..‬‬
‫من الصعب أن تسلم للفناء باذر احلياة‪..‬‬
‫كل واحد من الرفاق كان يتجرع ذكرياته‪..‬‬
‫كل واحد منا راح يقلب صفحات املاضي يعانق إحدى لوحاتها‪..‬‬
‫وحدي كانت ترفرف بني عيين وصيته‪ ..‬ادفين عن ميني أمك‪..‬‬
‫وتغرورق عيناه فرحا‪ ..‬كنت على يقني أنه سعيد بهذه املوتة ال ألنه فاز‬
‫بالشهادة فحسب‪ ..‬ولكن ألنه سيلتقي أمي اليت أحبها جبنون وماتت يف‬
‫ريعان شبابها تاركة يف قلبه جراحا عميقة مل تستطع السنون الطويلة أن‬
‫تردمها‪ ..‬لقد عاش ومات ألجل اثنني‪ :‬أمي واجلزائر‪ ..‬مل تنسه أمي اليت‬
‫أحبها جبنون حب اجلزائر‪ ..‬ومل تنسه اجلزائر اليت كان حيبها حد القداسة‬
‫أمي‪.‬‬
‫وكان وهو يشد على يدي حبرارة يوصيين أن أدفن عن يسارها كأمنا كان‬
‫حيلم أن نبعث دفء األسرة بعد املوت‪ ..‬كأمنا كان يريد أن حنيط أمي من‬
‫اليمني والشمال‬
‫دفنته كما أوصى وبقيت أتذكر كل كلمة قاهلا بتقديس شديد‪ ..‬باحرتام‬
‫كبري‪ ..‬وخططت قربي جبنب والدتي وأحطت الكل باألزهار واألشجار‬
‫أسقيها كل يوم‪ ..‬وأتفقدها كل يوم‪ ..‬وحتولت البقعة إىل جنة‪ ..‬تعبق‬
‫والدي وحبهما‪..‬‬
‫َّ‬ ‫بإخالص‬

‫‪16‬‬
‫فقد والدي أمي وهو شاب وليس عنده من األوالد غريي‪ ..‬رباني‬
‫ورعاني‪ ..‬وكان هو أمي وهو أبي‪ ..‬وهو األسرة كلها‪ ..‬ورفض أن يتزوج‪ ..‬بقي‬
‫وحيدا يرعى قرب أمي‪ ..‬حفه باألشجار واألزهار يتفقده ويسقيه كل يوم‪.‬‬
‫لطاملا وقفت بعيدا أرقب قربيهما حاملا أنهما خيرجان إىل احلياة كل‬
‫ليلة ‪..‬جيلسان متعانقني حتت ضياء القمر وهمس النجوم وأحالم النسيم‪..‬‬
‫وكم مرة كنت أقطع نومي وأخرج ألجدهما متلبسني بفضيلة احلب‪ ..‬لكن‬
‫حماوالتي كانت تبوء بالفشل الذريع !!!!…‬
‫كنت قد وصلت البيت‪ ..‬فطويت صفحات ذكرياتي ومعي وصلت‬
‫اجلازيه وعبدالرحيم وقد عادا من الدراسة باملدينة‪..‬‬

‫‪2‬‬
‫هو الصباح يتنفس‪..‬‬
‫أشعة الشمس تفتح عينيها يف تكاسل‪ ..‬تتثاءب على الروابي‪ ..‬منذ‬
‫حلظات غادر عبدالرحيم واجلازيه البيت باجتاه املدينة‪ ..‬تركت أم األوالد‬
‫حتضر الطعام وخرجت أتفقد األرض اليت ازدهت فرحا‪ ..‬وضحكت‬
‫باألعشاب والورود‪ ..‬كان اجلبل يفتح ذراعيه كالعاشق الوهلان يضم قريتنا‬
‫فتنام يف حضنه يف وله شديد‪..‬‬
‫زارني ضيفان الربيع والسعيد أخويَّ يف الثورة‪ ..‬ال أحد ميكنه أن‬
‫‪1‬‬
‫يتصور كم فرحت‪ ..‬فتحت هلما قليب وفتحت الدار القبليـة‪.‬‬
‫جاءت بنت عمر أم األوالد مبثرد كسكس وطاس من الرايب أكال‪ ..‬أنا‬
‫ما كنت آكل الطعام لكين كنت آكل الذكريات‪ ..‬ذكريات الشباب‬

‫‪ -1‬وتسمى كذلك ألنهم كانوا يوجهون بابها حنو القبلة‬

‫‪17‬‬
‫وذكريات الثورة ملا كنا ال شيء جيمعنا غري احلب‪ ..‬حتى كنا نقتسم التمرة‬
‫الثالثة واألربعة‪ ..‬ونقتسم الرصاصة والدمعة‪ ..‬ونقتسم االبتسامة‪ ..‬قال لي‬
‫الربيع وهو يرفع شاربيه الكثني إىل األعلى‪:‬‬
‫‪ -‬ياصاحل يارصاصة‪ ..‬مالك ال تريد أن تتبدل؟‬
‫قلت وأنا متعجب‪:‬‬
‫‪ -‬أتبدل كيف؟ ماذا تقصد؟‬
‫قال السعيد وهو يضحك‪:‬‬
‫ي‪ ..‬اليوم حنن يف عصر األسلحة‬
‫خ َّ‬
‫‪ -‬فات وقت الرصاص ياصاحل يا ُ‬
‫النووية والكيماوية‪..‬‬
‫قلت حبرية ورمبا ببالهة‪:‬‬
‫‪ -‬واهلل ما فهمت شيئا‪..‬‬
‫‪3‬‬
‫قال لي وهو يلف بأصابعه سيجارة البَ ْر ِزيلي‪ 2‬ويتابع قهوة اجلزوة‬
‫تنصب من اإلبريق إىل الفنجان فتمأله زبدا‪:‬‬
‫‪ -‬وهذا دليل على أنك ما تغريت‪ ..‬البد ياصاحل أن تصري صاحل‬
‫الصاروخ‪ ..‬صاحل الرأس النووي‪ ..‬صاحل القنبلة الذرية‪..‬‬
‫أشرقت على وجهه ابتسامة ثم عاد سريعا إىل جديته وواصل‪:‬‬
‫‪ -‬ياصاحل الناس كلهم تغريوا‪ ..‬الناس كلهم تبدلوا‪ ..‬الزمان الذي فات‬
‫ولَّى إىل غري رجعة‪ ..‬واألفكار اليت كانت زمن الثورة زالت‪ ..‬وأنت أنت‪..‬‬
‫حالتك تُفجع‪ ..‬مل تتغري ومل تتبدل‪..‬‬

‫‪ -2‬نوع من السجائر يصنع حمليا من أوراق الدخان والعرعر تسخن وتدق وتلف لفائف‬
‫رقيقة جدا‪.‬‬
‫‪ -3‬هكذا تسميها العامة‪ ..‬ولعلمهم يقصدون بذلك اجلذوة ألنها تنضج على اجلمر‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ماهذه اللغة اليت أمسع؟ أهي إحدى مقالبه اليت تعود أن ينصبها لنا أيام‬
‫الثورة فال يدع الواحد منا حتى يثري أعصابه‪ ..‬وحتى يُضحك عليه‬
‫اآلخرين؟ ال أعتقد ذلك لقد تقدم بنا قطار العمر وما بقي لنا مزاح‪.‬‬
‫‪ -‬فاتك القطار‪ ..‬وبقيت أنت صاحل الرصاصة‪ ..‬نفس الطول‪ ..‬نفس‬
‫العرض‪ ..‬نفس البيت‪ ..‬نفس األفكار‪ ..‬نفس اللباس‪ ..‬نفس‪ ..‬أفق‬
‫ياصاحل يامغبون‪..‬‬
‫وهذه أول مرة أمسع فيها كلمة صاحل املغبون بدل صاحل الرصاصة‪ ..‬انغرز‬
‫اخلنجر عميقا يغتال فرحة القلب‪ ..‬عاودت أسرتجع هدوئي وقلت له‪:‬‬
‫‪ -‬أنا هكذا سعيد وهانئ يف قرييت مع زوجيت وأوالدي مابقي لي غري‬
‫أن أموت هانئا إن شاء اهلل وأدفن كما أوصى والدي‪ ..‬والدي الذي‬
‫تعرفونه‪ ..‬والدي الذي قدم روحه يف املعركة كي حيميكم‪ ..‬والدي الذي‬
‫كان أبوكم كلكم‪ ..‬ليس ممكنا أن أنسى وصيته الغالية‪ " ..‬ياولدي ال ختن‬
‫أرضك وال ختن عهد الرجال "‪.‬‬
‫وكان حلمه األكرب أن أدفن قريبا منه وهذا من حقه‪ ..‬لقد كان لي أما‬
‫وأبا‪ ..‬ضحى بشبابه من أجلي‪ ..‬أنا ما نسيته ولن أنساه‪ ..‬أزور قربه وقرب‬
‫أمي كل صباح وعشية‪ ..‬أسقي األزهار واألشجار اليت حوهلما وأقرأ على‬
‫روحيهما الفاحتة‪..‬‬
‫أنتما تعرفانه جيدا كان أبا لنا مجيعا‪ ..‬صحيح كان أميا ال يعرف القراءة‬
‫وال الكتابة‪ ..‬ولكنه علمنا كيف حنب هذه األرض‪ ..‬وهذا الوطن‪ ..‬وكيف‬
‫نضحي من أجلهما‪ ..‬وكيف نقلع من أعماقنا األنانية‪ ..‬وكان – يرمحه اهلل‬
‫– يفضِّلنا يف اللباس والطعام وحتى الرصاص‪ ..‬وكان دائما أولنا يف األيام‬
‫الصعبة‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫وأحسست أني تكلمت أكثر مما جيب فسكت فجأة‪ ..‬نظرت إىل الربيع‬
‫كان يبكي دموعا دافئة حارة وجبواره كان السعيد ساكتا كاحلجر‬
‫كان علي أن أدفئ اجلو فأغري دفة احلديث‪ ..‬فقلت وعلى حمياي ابتسامة‬
‫أجهد يف رسم معاملها‪:‬‬
‫‪ -‬إذا قدر اهلل ومت فجأة فادفناني حيث أمتنى‬
‫مل يشأ السعيد أن يغري موجة احلديث فقال‪:‬‬
‫‪ -‬ومن جيهل صفات وخصال وبطولة سامل العلواني‪ ..‬سامل الوطين‪..‬‬
‫كلنا يعرف ماكنت تقوله‪ ..‬ويعرف أكثر مما كنت تقول‪ ..‬ذاك رجل أحبه اهلل‬
‫فأخذه‪..‬‬
‫وعلق الربيع على كالمه بقوله‪:‬‬
‫‪-‬صحيح‪ ..‬يرحم اهلل كل الشهداء‪..‬‬
‫وأحسست أني انتصرت يف هذا النقاش فقلت‪:‬‬
‫‪-‬إذن كيف تريدانين أن أخون؟ كيف تريدان لي أن أخالف وصية‬
‫الوالد؟ ال هذا مستحيل‪ ..‬مستحيل‪.‬‬
‫ضحك السعيد وقال‪:‬‬
‫‪-‬صدقين ياصاحل ما دمت هنا ترى القبور يف الصباح والعشية ستعيش‬
‫على التاريخ فقط‪ ..‬على املاضي‪ ..‬وعلى املوتى‪ ..‬و‪ ..‬ستبقى دائما رصاصة‪..‬‬
‫ولكن رصاصة باردة ميتة‪ ..‬من قال لك ستخون؟ القضية ليست قضية‬
‫ي‪ ..‬أبوك حنمله مجيعا يف قلوبنا‪.‬‬
‫قبور ياصاحل ياخُ َّ‬
‫وأحببت أن أقاطعه لكنه واصل يقول‪:‬‬
‫‪ -‬الناس اآلن ياصاحل تعيش على املستقبل‪ ..‬الناس طلقوا املاضي‪..‬‬
‫هكذا ياخُيَّ صاحل ستضيع وتضيع عائلتك وأوالدك‪ ..‬البد أن ترحل إىل‬

‫‪20‬‬
‫املدينة‪ ..‬من حقك ياصاحل أن تعيش سعيدا‪.‬‬
‫وعلق الربيع موافقا‪:‬‬
‫‪-‬نعم من حقك أن تعيش‪ ..‬هناك ياصاحل يف املدينة املاء والكهرباء‬
‫والغاز واجلامعات واملشايف والطرق املعبدة‪ ..‬من حق األوالد أن يدرسوا‪..‬‬
‫من حقهم أن يتحضروا ويعرفوا العامل‪ ..‬أنت ياصاحل أديت واجبك وقت‬
‫الثورة‪ ..‬ماذا يريد منك الناس اآلن‪ ..‬وهم لن يقدروا على تقديم حتى جزء‬
‫مما أديت أنت‪..‬؟ أنت قدمت هلذا الوطن يف يوم من األيام‪ ..‬يف وقت‬
‫شبابك دمك وروحك‪ ..‬وكل شيء يف هذي احلياة أحقر وأتفه من الشباب‬
‫والدم والروح‪.‬‬
‫وأحسست بالقشعريرة تهز فرائصي أكاد أقتنع‪..‬‬
‫كل شيء ينهار دفعة واحدة‪..‬‬
‫تطل علي اخليانة مربقعة‪..‬‬
‫تبتسم‪..‬‬
‫راحت صور والدي ممددا مضمخا بدمه تربق بني عيين‪ ..‬جذبت نفسا‬
‫عميقا من سجارتي‪ ..‬نفثت الدخان فكاد حيجب الرؤية بيين وبينهم‪..‬‬
‫وقلت وأنا أدفن رأسي بني أصابع ميناي‪:‬‬
‫‪ -‬اتركاني أرجوكما‪ ..‬إذا كنتما حتبانين فاتركاني حلالي‪ ..‬أنا خوَّاف‪..‬‬
‫أخاف املدينة‪ ..‬املدينة عاهرة فاجرة ستفسدني‪ ..‬تبدلين‪ ..‬تغريني‪ ..‬تبلعين‪..‬‬
‫املدينة ياناس قذرة وسخة ستوسخين‪ ..‬خذوا كل شيء‪ ..‬كل شيء‪ ..‬املال‪..‬‬
‫اجلاه‪ ..‬السلطان‪ ..‬الفيالت ودعوني حلالي‪ ..‬دعوني حلالي‪.‬‬
‫وخرجت فارا إىل عرجونه بنت عمر‪ ..‬هذه املرأة اليت اختارها لي‬
‫والدي وكان يقول عنها دائما‪ :‬ياصاحل بنت عمر نسخة من أمك ولذلك‬

‫‪21‬‬
‫اخرتتها لك‪ ..‬إياك أن ختونها‪ ..‬حني حتتار استشرها‪..‬‬
‫دخلت عليها كالعاصي املثقل يدخل إىل مزار ولي صاحل‪ ..‬قعدت قريبا‬
‫ت‬
‫منها دون أن أنطق‪ ..‬كنت أسرتق النظر إليها ألرى رد فعلها‪ ..‬بصر ْ‬
‫حبالي تغريت مالحمها‪ ..‬ذئبة جترأ العدو على االقرتاب من عرينها‬
‫حني تضيق بي الدنيا وأحتاج إىل رأيها أدخل عليها يف صمت‪..‬‬
‫وأجلس قربها يف صمت‪..‬‬
‫هي وحدها تشم اهلم‪..‬‬
‫تقرأه على تضاريس الوجه‪..‬‬
‫حتتها أقعد أرنو إىل عليائها تتدىل عراجني‪..‬‬
‫دون أن أنتبه نطقتْ‪ ..‬تضعضعت أركان البدن املتهاوي‪ ..‬غدوت جمرما‬
‫اُكتشف فجأة متلبسا قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي بدل حالك؟‬
‫ابتلعت ريقي‪ ..‬وضعت مييين على جبهيت‪ ..‬طرحت عليها القضية دون‬
‫تفصيل‪ ..‬ورحت أسرتق إليها النظر‪ ..‬أنتظر ما الذي تنطق به‪ ..‬كمجرم‬
‫ينتظر النطق باحلكم‪.‬‬
‫فهمتِ األمر فقالت‪:‬‬
‫‪-‬وإذا رحلت إىل املدينة تبقى صاحل الرصاصة‪..‬؟ كلمتك هي رأس‬
‫مالك‪ ..‬حياتك هي شرفك‪..‬؟‬
‫ابتلعت ريقي وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬ال مستحيل أنا خائف‪ ..‬إذا رحت إىل املدينة ياعرجونه ياأم أوالدي‬
‫أخشى أن أصري صاحل اخليط‪..‬‬
‫ضربت صدرها بيديها وقالت‪:‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ -‬سبحان اهلل! من صاحل الرصاصة إىل صاحل اخليط؟ تبدل اخليط‬
‫بالرصاصة؟ الرصاصة احلارة اليت خترج فال تعود‪ ..‬واليت تنطلق فال متيل‪..‬‬
‫مل أستطع مقابلتها‪ ..‬أحسست أنها خري مين‪ ..‬أقوى مين‪ ..‬ختيلتها فرسا‬
‫مجوحا حبستها احلجرة الضيقة‪..‬‬
‫خرجت عجال دون أن أعلق بكلمة‪ ..‬رجعت إليهما جلست إليهما‬
‫طويال دون أن أتكلم‪ ..‬احرتما يف البداية سكوتي وحينما طال قال السعيد‪:‬‬
‫‪ -‬مب أشارت بنت اعْ َم ْر؟‬
‫وضحك وهو يواصل‪:‬‬
‫‪ -‬محدة خري من أمحد!‬
‫وسكتَ‪.‬‬
‫هما يعرفان أنين أستشريها يف كل شيء‪ ..‬ويعرفان قيمتها‪ ..‬كانا معا‬
‫يقلبان يفَّ بصريهما وفيهما إحلاح بقبول الفكرة‪ ..‬ورغم كوني كنت أخاف‬
‫املدينة‪ ..‬كنت أدرك أنهما ماأرادا لي إال اخلري‪ ..‬أشفقا علي وعلى حالي‬
‫وفقري‪ ..‬وأردت أن أقول ال للمدينة‪ ..‬فقلت نعم‪ ..‬قلتها خافتة باهتة بلون‬
‫القفر وطعم الفقر‪ ..‬قلتها وأنا أعرف أن عرجونه لن ترفض قرارا اختذته‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫كان اجلو ربيعا‪..‬‬
‫وكانت السنابل متارس طقوس الرقص على إيقاع نسمات الصباح‬
‫اخلفيفة‪ ..‬وأعشاب الطريق تزحم أقدامنا فتدغدغ أسفل سيقاننا‪ ..‬أنا‬
‫وصوحيباتي كنا حنث اخلطا حنو الطريق العام حيث ننتقل إىل الثانوية‬
‫باملدينة‪ ..‬على غري عادتي كان يلفين الصمت‪ ..‬عصافري األخريات برحت‬
‫أوكارها وراحت تغرد‪..‬‬

‫‪23‬‬
‫خلفنا كان يسعى ذياب صمتا مطبقا يكاد يلحق بنا‪..‬‬
‫حاولت أن أتأخر لنكون قريبني‪..‬‬
‫رفرف القلب يشرق خلفي‪..‬‬
‫مد أنياطه فسمرني أرضا‪..‬‬
‫حلق بي ذياب فتغشاني حمفل الفرح‪..‬‬
‫سار إىل جنيب سحابا مركوما‪..‬‬
‫جاريته خطوات ثم هببت عليه بابتساماتي فتقشعت سحبه‪..‬‬
‫معا أشرقنا على هذا الكون‪ ..‬وعلى حميا أرضه درجنا ندغدغ تضاريسها‬
‫بأقدامنا الصغرية‪ ..‬ومعا سعينا خلف اخلرفان الوديعة‪ ..‬ومعا وردنا احلاسي‬
‫واجلابية حنمل فوق البهائم براميل املاء‪ ..‬وكان لنا حقل للنمل نرعاه ونقيم‬
‫حوله حصنا منيعا بأحالمنا‪ ..‬وكانت النمالت الصغريات قطيعا من‬
‫األنعام‪ ..‬دخلنا كتاب القرية معا وكنت أقدر منه على احلفظ‪ ..‬كان ال‬
‫يشتغل بشيء أكثر من اشتغاله بي ال حيب ألحد من األتراب أن يالمسين‬
‫أو يقرتب مين وحنن جنلس على حصري احللفاء‪ ..‬حتى الشيخ كان يغار منه‬
‫حني يدعوني ألحفظ عليه فيختلق األعذار ليشغله عما أزمع‪ ..‬ويغضب‬
‫الشيخ فينهال على قدميه الصغريتني بالضرب املربح‪..‬‬
‫وحيل الربيع فنزوِّق ألواحنا بكل لون بهيج‪ ..‬ونسعى نطوَّف ببيوت‬
‫الناس نطلب اهلدايا‪ ..‬ويفرح الناس فيغدقون علينا من كل الطيبات‪..‬‬
‫ونعود مساء إىل البيت حمملني بالنقود والبيض وبغري ذلك‪..‬‬
‫ومعا دخلنا املدرسة النظامية بالقرية‪ ..‬كانت أمه خاليت دلوله تأتينا كل‬
‫يوم ويف يديها شيء مما حضرت‪ ..‬وحني تلومها والدتي عن كرمها املفرط‬
‫تضحك خاليت دلوله وتقول‪:‬‬

‫‪24‬‬
‫‪ -‬هذا نصيب زوجة ابين‪ ..‬اجلازيه لذياب‬
‫وكان أبوه يسعى يف إمتام مراسيم الزواج قبل دخولنا إىل الثانوية‪ ..‬لكن‬
‫والدي كانت له نظرة أخرى‪ ..‬كان يقول‪:‬‬
‫‪ -‬العصر للعلم‪ ..‬واملستقبل هلذا اجليل باملعرفة‪ ..‬واهلل لن أمنعها عن‬
‫طلب العلم إال إذا فشلت يف ذلك‪..‬‬
‫وكنت أنا وذياب نُكرب رأي والدي ونقره‪..‬‬
‫تزوجت أخيت هجريه يف العام املاضي يف قرية جماورة‪ ..‬وسعى يف هذا‬
‫الزواج والد ذياب وأمته رغم حترج والدي‪ ..‬اللشيء إال ألن الزوج من‬
‫أقارب أحد أعداء الثورة التحريرية‪..‬‬
‫تغري مزاج ذياب بعد دخولنا الثانوية‪ ..‬أصبحت أراه عصبيا أكثر من‬
‫الالزم‪ ..‬وأصبحت أراه قد بدأ مييل إىل املعارضة السياسية‪ ..‬وكنت‬
‫دائما أقول له‪:‬‬
‫‪ -‬ياذياب هذا حبر ال حنسن السباحة فيه‪ ..‬يكفينا حبر احلب‪..‬‬
‫كنت على يقني أن هذا الطريق سيخطفه مين‪ ..‬لقد كان ميارس نوعا‬
‫من الثورة غري املتزنة‪ ..‬خاصة ضد التاريخ‪ ..‬يشك يف كل ما يراه اآلخرون‬
‫حقيقة‪ ..‬مما دفع به إىل التصادم الدائم مع أستاذ التاريخ الذي كنا نلقبه‬
‫ببسمارك‪.‬‬
‫كان يقول لي دائما ياجلازيه أنا وأنت خري من األمري عبدالقادر‬
‫واملقراني‪ ..‬أبطالنا األسطوريون خري من أبطالنا احلقيقيني‪ ..‬الشعب هو‬
‫الذي صنعهم‪ ..‬وهو الذي مازال يعطيهم القداسة‪ ..‬الرمسيون مل يعطهم‬
‫القداسة إال الرمسيون ألغراض أخرى أوهلا ختدير الشعوب‪ ..‬أال تعرفني أن‬
‫األمري حني استسلم لفرنسا قد خان القضية وخان الذين محلوا معه‬

‫‪25‬‬
‫السالح واستشهدوا‪..‬‬
‫ثم يتربكن فيصيح يف وجهي‬
‫‪ -‬هل جيوز لألبطال أن يستسلموا‪..‬؟ لإلبطال طريقان ال ثالث هلما‪..‬‬
‫االنتصار أو املوت‪ ..‬األبطال ليسوا ملكا ألنفسهم‪ ..‬هم ملك للشعب‪..‬‬
‫ثم أال تعرفني أن‪....................................... ..‬؟‬
‫كان ذياب حيب التاريخ جبنون ويقرأه بنهم ولكنه مل يكن يقدسه‪..‬‬
‫كان يقول التاريخ كذبة كبرية يصوغها حناتو الساسة كل مرة على‬
‫مقاساتهم‪ ..‬ولست ساذجا فأصدق مايقولون‪ ..‬أحب أن أقرأ التاريخ كما أود ال‬
‫كما يودون‪ ..‬خاليت عرجونه أصدق منهم حني حتكي عن ذياب اهلاللي واجلازيه‪..‬‬
‫أرأيت يُولِ ُمون حني يبدأون احلكاية ويوملون بعد أربعني ليلة حني يكملون‬
‫احلكاية‪ ..‬هل هناك ماهو أعظم من تقديس هذه األسطورة؟‬
‫وأخطط لتغيري دفة احلديث‪ ..‬وأنا أخشى عليه سطوة والدي إن مسع منه‬
‫هذا الكالم فأسأله‪:‬‬
‫‪ -‬ماالذي جاء بذياب إىل هذه األرض؟‬
‫وجييب ضاحكا‪:‬‬
‫‪ -‬ألنه كان حيب اجلازيه‬
‫‪ -‬وماعالقة اجلازيه بهذه األرض؟‬
‫‪ -‬اجلازيه هي هذه األرض‪.‬‬
‫ويضحك فتضحك السنابل‪..‬‬
‫وتتعانق عيوننا وأصابعنا وقد وصلنا إىل احملطة‪..‬‬
‫يف املساء وحنن عائدان حدثين عن زيارة السعيد والربيع إىل بيتنا‪..‬‬
‫وذكر لي قلقه من قرار والدي بالرحيل إىل املدينة‪ ..‬مل أكن أوافقه الرأي‪..‬‬

‫‪26‬‬
‫سواء رحلوا أم مل يرحلوا فنحن راحالن إىل املدينة معا ملواصلة الدراسة‬
‫اجلامعية هناك‪ ..‬وسنلتقي طويال‪ ..‬طويال‪..‬‬

‫‪4‬‬
‫بعد أيام دخلت املدينة‪ ..‬وجدا لي مسكنا وسطها‪ ..‬كان زمن االستعمار‬
‫ألحد املعمرين الفرنسيني‪ ..‬فيه كل الضروريات‪ ..‬املاء‪ ..‬الكهرباء‪ ..‬التدفئة‪..‬‬
‫أمامه حديقة حتضن أشجار زينة‪ ..‬أرضيته مبلطة بالبالط األمحر‪ ..‬قال‬
‫السعيد وحنن نعرب الفناء‪:‬‬
‫‪ -‬هل رأيت ياصاحل أين كان يسكن أولئك الكالب؟ كالدود كانوا هنا‪..‬‬
‫مل أعلق‪ ..‬كنت أجيل الطرف يف كل أركانه‪ ..‬يف كل شرب فيه‪ ..‬وكانت‬
‫فرائصي ترجتف‪ ..‬كأن جدرانه مألى بالعيون املفرتسة‪ ..‬دخلنا‪ ..‬تنقلنا بني‬
‫حجراته الواسعة أشبه بغرف الكنيسة املقفرة‪ ..‬غبار يدثر الطالء فيلبسه‬
‫قناعا حزينا‪ ..‬رفع الربيع بصره إىل السماء وقال ضحكا‪:‬‬
‫‪ -‬مربوك عليك‪ ..‬أوالد الكلب بنوها وشيدوها وورثناها من بعدهم‪..‬‬
‫اهلل يرحم الشهداء الكرام‪..‬‬
‫وأمعن نظره يفَّ ينتظر ردي‪ ..‬لكين مل أفعل إال متطيط شفيت متجنبا‬
‫نظراته اليت تهم أن حتلب مين تعليقا‪ ..‬هل املسكن هيكل جامد بارد‪..‬؟‬
‫املسكن روح‪ ..‬حياة‪ ..‬ولن يكون كذلك إال إذا صممته بانتمائك‬
‫وخصوصياتك‪ ..‬لن يكون كذلك حتى تنفخ فيه من روحك فيستوي كائنا‬
‫دافئا‪..‬‬
‫أنقذني السعيد مواصال فكرة الربيع‬
‫‪ -‬انظر ياصاحل ياخُيَّ كل شيء موجود‪ ..‬املاء‪ ..‬الكهرباء‪ ..‬التدفئة‪..‬‬
‫املرحاض‪ ..‬البالط‪ ..‬الطالء‪ ..‬كل شيء ياصاحل املغبون‪ ..‬خلصك اهلل من‬

‫‪27‬‬
‫التعب والشقاء‪ ..‬البهائم والرباميل‪ ..‬وسقف احللفاء والديس‪ ..‬ومصباح‬
‫املازوت‪ ..‬هنا كل شيء عصري‪...‬‬
‫مل أفرح‪ ..‬نعم مل أفرح‪ ..‬أحسسته قربا‪ ..‬جمرد قرب بارد الغري‪ ..‬قرب ال تنتظر‬
‫فيه إال الدود واحلشرات املتوحشة‪ ..‬أين احلوش الواسع؟ أين الشجر؟ أين‬
‫الغنم؟ أين الدار القِبلية‪ ..‬دار الضيوف؟ وأين الفسحة؟ أين أخرج يف‬
‫الليل أجتول‪ ..‬وأتأمل السماء الصافية‪ ..‬والنجوم تلمع‪ ..‬تداعب بعضها‬
‫بعضا‪ ..‬وأنا وحدي أسرتجع ذكرياتي احللوة واملرة‪ ..‬أو أمتشى مع أم‬
‫األوالد‪ ..‬أداعبها وتداعبين ونسرتجع ذكرياتنا؟‬
‫أين جند هذا كله هنا؟‬
‫هذا مستحيل‪ ..‬لقد ضيعت كل شيء‪ ..‬كان صدري كله يتمزق‪ ..‬كأرض‬
‫عصفت بها الزالزل أو افرتستها العواصف‪..‬‬
‫بعد أيام أصبحت عامال باملشفى بفضل الربيع والسعيد‪ ..‬ملا شكرتهما‬
‫على اجملهود الذي بذاله غضبا وقاال هذا واجب إنه إخالص اإلخوان‬
‫لبعضهم البعض‪.‬‬
‫وأقنعت نفسي باألمر الواقع ال بأس ياصاحل‪ ..‬عامل باملشفى‪ ..‬حارس‬
‫يف املشفى‪ ..‬وهو رمز صحة هذا الشعب‪ ..‬وصحة هذا الشعب هي صحة‬
‫هذا الوطن الغالي‪ ..‬وهذا معناه أنين ما خنت وما بدلت‪ ..‬أنا دائما على‬
‫نفس الدرب الذي سار عليه املخلصون واألوفياء والشهداء‪..‬‬
‫خدمت مخسة أشهر أجيء يف الصباح قبل الوقت بنصف ساعة‪..‬‬
‫أساعد يف التنظيف وسقي األشجار‪ ..‬ورمبا زيارة املرضى‪ ..‬وأزيد العشية‬
‫نصف ساعة أخرى أقوم بنفس املهمة‪..‬‬
‫وصدمت‪ ..‬بعد ما كنت أنتظر الشكر واالعرتاف واحرتام اجلميع‬

‫‪28‬‬
‫تلقيت عكس ذلك متاما‪ ..‬وبدأت التقارير والوشايات تصل إىل املدير‬
‫واملسؤولني وتهبط على رؤوسهم كالغبار‪ ..‬قالوا يتدخل يف عمل غريه‪..‬‬
‫ومن تدخل فيما ال يعنيه وقع فيما ال يرضيه‪.‬‬
‫استدعاني املدير‪ ..‬دخلت‪ ..‬قعدت‪ ..‬زجمر يف وجهي‪..‬‬
‫‪ -‬من مسح لك بالقعود؟ قف‪..‬‬
‫هزتين الدهشة‪ ..‬ماهذه العداوة ضدي‪..‬؟ انتبهت إىل نفسي‪ ..‬مازال‬
‫يصرخ يف وجهي‪ ..‬بربودة قلت له‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا وضعوا هذا الكرسي إذن؟ أليس من أجل أن يقعد عليه‬
‫الداخلون عليك يا حضرة املدير؟‬
‫قال وهو ينفخ جسده كالقط‬
‫‪ -‬بعدما نأمرهم بالطبع‪..‬‬
‫ضحكت وقلت‪ ..‬وقد اشتد غضيب‪:‬‬
‫‪ -‬سبحان اهلل! ما كنت أعرف بأنك أمري‪ ..‬ملك‪ ..‬ورثت‬
‫املشفى عن والديك وحنن هنا عبيد بني يديك‪ ..‬مع ذلك أنا أعرف‬
‫قيميت‪ ..‬وأعرف متى أقعد ومتى أقف‪ ..‬لست أنت الذي تعلمين درسا يف‬
‫األخالق واألدب‪..‬‬
‫وتذكرت يف هذه اللحظة أبي ووصيته الغالية‪ ..‬وتذكرت الرفاق الذين‬
‫كنا نقتسم معهم التمرة والرصاصة والدمعة والفرحة‪ ..‬ما كنا نعرف هذه‬
‫الشكليات وهذه املظاهر اخلداعة والزائفة‪ ..‬شيء واحد كنا نعرفه‪ ..‬احلب‪..‬‬
‫واكتشفت أن السيد املدير أراد أن يقول لي ال تتدخل يف شؤون‬
‫غريك‪ ..‬احضر عند الثامنة بالضبط وانصرف عند اخلامسة‪ ..‬بعد اخلامسة ال‬
‫أحب أن أرى خلقتك‪ ..‬فهمتَ؟؟ لست وطنيا أكثر من الناس‪ ..‬لست‬

‫‪29‬‬
‫جزائريا أكثر من الناس‪ ..‬حنن أيضا وطنيون وجزائريون‪..‬‬
‫سكت فجأة من رغائه الذي بعثره يف الغرفة بعربية مشوهة بفرنسية‬
‫أمقتها‪ ..‬هذه هي املشكلة حني يتحول املسؤول إىل زعيم فتلك طامة‪..‬‬
‫ضحكت وقلت‪:‬‬
‫‪-‬سبحان اهلل! وأنت من يراقبك جتي ء بعد العاشرة وتغادر قبل‬
‫احلادية عشرة‪..‬‬
‫حدق يف غاضبا وقال‪:‬‬
‫‪-‬سبحان اهلل! حارس يراقب سيده‪ ..‬يراقب مسؤوله‪ ..‬امسع ياصاحل‬
‫أنت مهمتك هنا حارس ولست يف املستوى كي تعلمين درسا يف الوطنية‪..‬‬
‫أنا وطينٌّ من عائلة شهداء وجماهدين‪ ..‬أنت إنسان مشوش فوضوي‬
‫وخمرب‪ ..‬ويف ذلك خيانة ملبادئ الشهداء والثورة‪..‬‬
‫ومديرنا هذا وطين حقا ملا عينوه كان كسلك احلديد‪ ..‬كأنه مستورد من‬
‫أثيوبيا‪ ..‬البذلة الرمادية وحدها متشي‪..‬‬
‫اليوم صار بضخامة ثور يكاد يسقط للخلف‪ ..‬سرواله القديم اليسع‬
‫إصبعه‪..‬‬
‫مديرنا إنسان وطين ضرب الرقم القياسي يف احرتام وقت عمله‪..‬‬
‫يدخل ملكتبه بعد العاشرة يتصفح اجلرائد اليت تشرتى على حساب‬
‫املشفى‪ ..‬يوقع الوثائق‪ ..‬يطلع على املراسالت‪ ..‬يرشف قهوة‪ ..‬حيتضن‬
‫السكرترية القنبلة اليت اختارها بنفسه بعدما طرد السكرترية اليت كانت‬
‫قبلها‪ ..‬يتفق معها على موعد السهرة وخيرج‪.‬‬
‫يف الباب يلتف حوله العمال املخلصون كالكالب املدربة‪ ..‬يرقصون‬
‫بال إيقاع‪ ..‬ميألون له السيارة خبريات املشفى‪ ..‬حلوم‪ ..‬حبوب‪ ..‬خضر‪..‬‬

‫‪30‬‬
‫مشروبات‪ ..‬عند احلادية عشرة خيرج وال يعود حتى الغد‪ ..‬أما املرضى‬
‫املساكني فال يعطى هلم إال العدس باملاء‪..‬‬
‫مل أستطع أن أسكت‪ ..‬ما سكتنا على الذين كانوا يصوبون يف صدورنا‬
‫الرصاص واملدافع فكيف نسكت اليوم على هؤالء الفئران؟ كيف‬
‫نرتكهم يدمرون البالد وميتصون دمها؟ ملَ جاهدنا إذن أوَ كنا نلعب‪..‬؟‬
‫أتذهب تضحيات املاليني من الرجال يف مهب الريح؟‬
‫إذا نطقت ماذا سأخسر؟ يطردونين من العمل‪ ..‬منصيب يضعونه قالدة‬
‫يف رقابهم‪..‬‬
‫الحظ يف عيين الغضب‪ ..‬نبت يف عينيه اخلوف‪ ..‬تركته وخرجت‪ ..‬يف‬
‫نفسي يتصارع رأيان يلتهبان كألسنة اللهب تأكل بعضها بعضا‪..‬‬
‫دخولي املدينة كشف لي زيف الواقع‪..‬‬
‫دخولي املدينة زيف لي احلقيقة‪.‬‬
‫وحدها كانت أمَّا علجيه ابنة جبال جرجرة تقف شاخمة أمامي يف‬
‫كربياء‪ ..‬ما الذي عصف بها الساعة إىل ذاكرتي‪ ..‬مل أرها منذ زمن طويل‪..‬‬
‫استشهد زوجها رابح البسكري وكتب هلا أن ترى مشس احلرية تسطع على‬
‫هذا الوطن‪ ..‬مل يكن هلا أوالد لكنها فضلت أن تربي ذلك الصيب الذي‬
‫أجنبته والدته يف ببيتنا ذات شتاء واستشهدت بعد شهر من ذلك‪..‬‬

‫‪5‬‬
‫منذ سنة كان الفراق الصعب‪ ..‬رحل ذياب إىل العاصمة ليواصل‬
‫دراسته مبعهد الصحافة والتحقت أنا مبركز التكوين شبه الطيب ألخترج‬
‫منه ممرضة وهاأنذا أعني مبشفى األطفال‪ ..‬يف ذاتي أمواج للجزر واملد‬
‫تكاد تهد حصوني الرملية‪ ..‬لقد طرد عبدالرحيم من الدراسة‪ ..‬وتفرغ‬

‫‪31‬‬
‫ملمارسة هواية التسكع‪ ..‬ووجد وا لدي نفسه وجها لوجه مع حياة مل‬
‫حيسب هلا حسابا حني غادر القرية‪ ..‬وتأثرت والدتي بكل ذلك فصارت‬
‫تعاني قلقا رهيبا‪ ..‬من الصعوبة أن يسل الواحد منا روحه من برج‬
‫ش ْهدَهُ بذكرياته‪..‬‬
‫هندسَ َ‬
‫أنهيت عملي كان يوما مرهقا ليس من السهل أن تكون بلسما‬
‫للقلوب املكلومة والنفوس اجلرحية‪ ..‬عدت إىل البيت مل أكن أرغب إال يف‬
‫االنزواء مع ذاتي‪ ..‬لي معها حديث طويل وسفر شاق مضن‪..‬‬
‫حني ضمين السرير إىل دفئه وقف ذياب قباليت ويف عينيه عتاب ولوم‬
‫وأمواج للحزن األليم‪ ..‬وضعت رأسي على كفي فانسدل الشعر األسود‬
‫حيجب عين الرؤية ويتيح لي جوا رائقا ملمارسة طقوس التصوف‪ ..‬أين هو‬
‫ن لي أن أكتب إليه رسالة‪ ..‬ال بد أن أخط‬
‫اآلن‪..‬؟ وماعساه يفعل‪..‬؟ وعَ َّ‬
‫إليه كل اجلراحات اليت بدأت تطفو على قليب الصغري‪ ..‬وماذا يعين القلب‬
‫احملب إذا مل يكن مفتوحا آلمالك وآالمك‪..‬؟ وما الفرق بينه وبني كيس‬
‫بالستيكي إذا مل يكن نابضا باملشاعر اإلنسانية احلية؟‬
‫دُ ق باب حجرتي وفتح فظهرت والدتي‪ ..‬مل أكن يف حاجة إىل أن‬
‫أراها ألعرفها‪ ..‬دقات أناملها على الباب تشبهها متاما‪ ..‬حنيفة رقيقة‬
‫وحنونة مثلها‪ ..‬كانت صفراء ممتقعة اللون تدهورت صحتها كثريا مذ‬
‫رحلت إىل املدينة‪ ..‬عيناها اخلضراوان تدوران يف حمجريهما كأنهما حبتا‬
‫زيتون‪ ..‬بدا وجهها غائر اخلدين‪ ..‬ضفريتاها احلمراوان تتدليان على‬
‫صدرها عن ميني ومشال‪..‬‬
‫جلستْ على حافة السرير‪ ..‬جتولت يفَّ بعينيها‪ ..‬أحسست أنها حتمل يف‬
‫أعماقها أسرارا كثرية تود البوح بها‪ ..‬اقرتبت منها‪ ..‬احتضنتْ يدي يف‬

‫‪32‬‬
‫عش صدرها‪ ..‬سرى الدفء إىل القلب‪ ..‬التصقت بها وطوقتها بذراعي‪..‬‬
‫سألتها‪:‬‬
‫‪ -‬مابال احلبيبة‪..‬؟‬
‫مل حترك شفتيها‪..‬‬
‫ضغطتُها أُدخِ ُلها صدري وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬ليس املهم أن خنسر كل شيء مادمنا نربح احلب‬
‫وسكتنا‪ ..‬لنفسح الطريق للغات أخرى‪..‬‬
‫صباح الغد أرسلت الرسالة اليت كتبتها إىل ذياب وعلى عجل انتقلت إىل‬
‫املشفى‪ ..‬عند الباب وجدت رجال يف انتظاري‪ ..‬لبست مئزري وعدت إليه‪..‬‬
‫كان يف العقد الرابع من العمر أو أكثر بقليل‪ ..‬ممتلئ اجلسم أشقر اللون‬
‫أخضر العينني مييل إىل الطول‪ ..‬عليه ثياب أنيقة لكن كالمه ينم عن أميته‪.‬‬
‫ظل حيدثين طويال دون أن حيدد مبتغاه‪ ..‬وحني رأى تضايقي أنهى‬
‫املقابلة على أمل العودة‪ ..‬وهو يودعين متنى أن أمحل حتياته القلبية إىل أبي‪.‬‬
‫أدركت من نظراته وطريقة إرسال ألفاظه أنه كان ينوي مصارحيت حببه‬
‫لي أو على األقل رغبته يف الزواج مين‪ ..‬وملاذا أحجم؟ أكان خجال؟ رمبا‬
‫ورمبا خشي أن أصدمه بالرفض‪ ..‬أو لعله كان يعرف ارتباطي بذياب‪..‬‬
‫لست أدري على وجه التحديد‪.‬‬
‫حينما عدت إىل البيت وأخربت والدي باألمر‪ ..‬نظر يف والدتي وقد‬
‫ازداد نهمه لسيجارة الربزيلي اليت كانت بني أصابعه ومتتم بني شفتيه‬
‫ح َّم ْد امْ َل َّم ْد‪..‬؟‬
‫‪ -‬حتى أنت يا امْ َ‬
‫مل أشأ أن أطرح عليه أسئلة أخرى‪ ..‬وال أن أعرف منه املزيد عن هذا‬
‫الرجل‪ ..‬كانت مشاكل والدي قد تضخمت مع مدير املشفى‪ ..‬ومل أكن‬

‫‪33‬‬
‫مستعدة أن أضيف إىل همومه هموما أخرى‪..‬‬
‫اغتال القلق النوم من عيين ففزعت إىل رواية ذاكرة اجلسد أتدفأ بها‬
‫من قر احلياة‪ ..‬وحده األدب اجلميل قادر على معاجلة اضطراباتنا النفسية‪..‬‬
‫ما أقل رواياتنا اجلميلة‪ ..‬ما أكثر روايات املراحيض عندنا اليت ال تقيم‬
‫جمدها إال على تهديم اجلميل لدينا‪..‬‬

‫‪6‬‬
‫أعلن السيد املدير عن اجتماع طارئ حضره مجيع العمال دون‬
‫استثناء‪ ..‬اكتظت بهم القاعة الضيقة‪ ..‬معظمهم كان واقفا‪ ..‬بعد انتظار‬
‫طويل حضر املدير ومعه املسؤول املالي ورئيس الفرع النقابي‪ ..‬توجه‬
‫مباشرة إىل املنصة اليت زينت‪ ..‬سحب أحد اخلدم الكرسي ليجلس سيده‬
‫ووقف عند رأسه فاغرا فاها ككلب يلهث بالفرح‪..‬‬
‫الصمت سحاب مركوم يغشي القاعة املكتظة‪ ..‬كنت أجلس وسط‬
‫احلاضرين‪ ..‬قلبت النظر يف الوجوه املخشبة والعيون الربيئة كعيون‬
‫األرانب‪ ..‬ختيلت القاعة مملوءة مكتظة باألرانب املدجنة‪.‬‬
‫نقل طرفه يف القاعة ميينا ومشاال‪ ..‬نقر مكرب الصوت بأصابعه‪..‬‬
‫تنحنح‪ ..‬تذكرتُ املعمر دافيد هكذا كان جيمعنا صغارا وكبارا‪ ..‬يكومنا‬
‫أمامه كجذوع خاوية ليجلدنا خبطبته اليت ال نفهم منها شيئا سوى عرب‬
‫كالب‪.‬‬
‫أفرقع أصابعي‪ ..‬أرجتف‪ ..‬يضغط جلدي على كامل اجلسد‪ ..‬يضغط‬
‫الصدر على القلب احلار‪ ..‬يتسعر أكثر‪ ..‬أغري وضعييت فجأة حني أحسه‬
‫يبدأ جيلدنا حبديثه‬
‫‪ -‬لسم اهلل الرمحن الرحيم قال تعاىل‪":‬وقل اعملوا فسريى اهلل‬

‫‪34‬‬
‫عملكم"‬
‫فجأة رفع رأسه عن الورقة اليت كان يتهجى منها واخنرط يرغي بعامية‬
‫مشوهة بالفرنسية‬
‫‪-‬هذا االجتماع للقضاء على املشاغبني‪..‬‬
‫دون إذن نهضت من مكاني ملوحا بذراعي النحيل‬
‫‪-‬أنا مستعد لكل شيء شرط أن تسمعوا كل ما أقول‪ ..‬هذا املشفى‬
‫عليه شعار من الشعب وإىل الشعب‪..‬‬
‫وفجأة مسعت متتمة من بعض رجال املدير وعرفت بأنهم سيشوشون‬
‫علي‪ ..‬قام أحدهم وقال‪:‬‬
‫‪-‬احلقيقة هذا الشعار خطأ فادح خيالف الدستور‪ ..‬والصحيح هو‬
‫بالشعب وللشعب‪ ..‬وحضرتك ألنك أمي جاهل أخطأت يف القراءة‪.‬‬
‫وأردت أن أرد عليه فنطق آخر بسمل وحوقل وذكر كل األنبياء‬
‫والصاحلني واألولياء واملشعوذين وقال‪:‬‬
‫‪ -‬يا سيدي املدير هذا الشعار زائف‪ ..‬وهو شعار مستورد من البالد‬
‫الشيوعية أي بالد الكفرة‪ ..‬والبد أن حناربه ونرفضه‪ ..‬وما بقي يؤمن به يف‬
‫العامل قاطبة غري األميني واجلهلة وامللحدين‪..‬‬
‫مل أفهم شيئا‪ ..‬حنن اجتمعنا ملناقشة الشعار أم ملناقشة هم املشفى؟ قلت‬
‫وأنا أوزع نظراتي بني هؤالء مجيعا‪:‬‬
‫‪ -‬هذا خلط دعونا نتكلم فيما هو مفيد‪..‬‬
‫وقام املدير كالديك فقال‪:‬‬
‫‪ -‬أنت دائما مشوش الشيء يرضيك‪ ..‬والناس كلهم خمطئون يف‬
‫رأيك‪ ..‬اجللسة مرفوعة وأنت البد أن حتضر أمام اجمللس التأدييب بتهم‬

‫‪35‬‬
‫عديدة‪.‬‬
‫واختلط كالم اجلميع يوزعون التهم‪ ..‬خيانة الوطن‪ ..‬التهاون‪ ..‬التدخل‬
‫يف ختصص اآلخرين‪ ..‬االعتداء على السيد املدير‪ ..‬والطعن يف نزاهته‪..‬‬
‫وخرجوا كلهم وبقيت وحدي يف القاعة ال حول وال قوة إال باهلل‪..‬‬
‫رجعت إىل البيت ليال يفرتس القلق قليب‪ ..‬ويف نفسي كنت أردد‪ ..‬هل‬
‫خدعونا حني أوهمونا أننا انتصرنا على االستعمار؟‪ ..‬لقد توقفنا وسط‬
‫املعركة ما الذي أستطيع أن أفعله وحدي‪ ..‬ليكن ما يكون أنا كاحملراث‬
‫الذي تعود والدي أن يضرب به املثل "حيرث واقفا أو ينكسر"‬
‫جاءتين أم األوالد بنت عمر‪ ..‬مل تبق إال هي تزيل عين اهلم‪ ..‬جلست‬
‫قربي‪ ..‬سكتت مليا‪ ..‬متنيت أن تسكت أبدا‪ ..‬أحسست بالنوم يغشيين‪..‬‬
‫يدثر جفوني‪ ..‬ماذا ميكن أن أقول هلا؟ سأفجعها‪ ..‬ستنظر إلي باحتقار‪..‬‬
‫ستقول لي انطفأت النار وخلفت رمادا‪ ..‬سأصيح يف وجهها ال ما زلت نارا‬
‫وسرتين‪ ..‬أقسم برأسك ورأس والدي وواهلل العظيم لن أسكت عن‬
‫منكر أراه‪.‬‬
‫قلت ذلك‪ ..‬ثم سكت دفعة واحدة‪ ..‬كنت أريد أن أنام‪ ..‬اشتقت أن‬
‫أمتدد كالصغري‪ ..‬أضع رأسي يف حجرها لتعزف بأصابعها على أوتاره‬
‫مسفونية احلب‪ ..‬لكنها قطعت علي ذلك وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬مل أعرفك إال جبال تتزلزل األرض وتبقى صامدا‪ ..‬وما يهمك أنت‬
‫يف الذي يقع؟ أنت مسؤول عن نفسك‪ ..‬أنت ال تقدر أن تغري العامل‪ ..‬هذا‬
‫الواقع متعفن‪ ..‬ياصاحل السفينة ثقبت وستغرق وأنت وحدك ال تنقذ شيئا‪..‬‬
‫وهزتين الدهشة كل شيء ينهار يف حلظة‪ ..‬هذه آخر قالعي تنهار‪..‬‬
‫ختيلت والدي مسجى مضمخا بدمه ينظر يف باستهزاء‪ ..‬دون أن يتكلم‬

‫‪36‬‬
‫دون أن حيرك شفتيه‪ ..‬يف عينه زوابع للحزن واالستهزاء‪ ..‬أردت أن أصيح‬
‫فيه‪ :‬مل كذبت علي؟ مل قلت لي‪ :‬ياصاحل بنت عمر نسخة من أمك ولذلك‬
‫اخرتتها لك إياك أن ختونها‪ ..‬حني حتتار استشرها؟‬
‫وألول مرة ألفيت نفسي أصيح وأصرخ‪..‬‬
‫‪ -‬كلكم اتفقتم على التخريب‪ ..‬كلكم تآمرمت على هذا الوطن‪ ..‬أنا‬
‫لن أسكت‪ ..‬تاهلل لن أسكت‪ ..‬لن أسكت‪ ..‬أنا صاحل الرصاصة‪ ..‬دمي ودم‬
‫أصحابي سقى هذه األرض‪ ..‬ولن يذهب سدى‪ ..‬املكوا ماشئتم‪ ..‬خذوا ما‬
‫أردمت‪ ..‬املسؤوليات السيارات الفيالت لست راغبا يف مزابلكم‪.‬‬
‫قعدت يف ركن الدار وانفجرت باكيا مثل الطفل اليتيم‪ ..‬ومل أحترك ومل‬
‫أفطن إىل نفسي حتى رقدت‬
‫وملا أفقت من نومي ألفيت نفسي أصيح‪ ..‬جف ريقي‪ ..‬سال عرقي‪..‬‬
‫وأم األوالد عند رأسي تبسمل وحتوقل‪ ..‬مسحت العرق شربت كأس‬
‫ماء دفعة وحدة‪:‬‬
‫‪-‬ياصاحل مل حتمل نفسك فوق طاقتها‪ ..‬أرأيت ما وقع لك‪..‬؟ اغسل‬
‫يديك منهم متاما‪ ..‬لك دينك وهلم دينهم؟‬
‫قمت فتحت اخلزانة ألول مرة دون أن أستشري أم األوالد‪ ..‬محلت‬
‫زجاجة عطر منتصفة رمبا بقيت ذكرى من عرسنا وخرجت‪ ..‬مسعتها تناديين‪:‬‬
‫‪ -‬صاحل‪ ..‬صاحل‪ ..‬صـا‪..‬‬
‫مل ألتفت إليها مل أكلمها‪ ..‬انطلقت سريعا‪ ..‬األزقة ضيقة‪ ..‬اجلدران‬
‫سوداء‪ ..‬األرض مفعمة باجلرب‪ ..‬كالب راقدة قريب منها قطط‪ ..‬حلظات‬
‫شاهدت سكران يبول يف الطريق‪ ..‬حلقه آخران معربدين‪ ..‬رائحة اخلمر‬
‫متأل اهلواء‪ ..‬كل شيء متعفن‪ ..‬سجن يف سجن‪..‬‬

‫‪37‬‬
‫هرولت‪ ..‬اجتزت خممرة‪ ..‬هززت رأسي‪ ..‬قرأت عليها خممرة‬
‫االستقالل‪..‬؟ أغلقت عيين‪ ..‬هرولت‪ ..‬فتحتهما‪ ..‬قابلتين البلدية‪ ..‬مقر‬
‫ضخم‪ ..‬فوقه شعار كبري منحس "بالشعب وللشعب" وفوق مرمرها ترقد‬
‫امرأة وحوهلا ثالثة أطفال‪ ..‬مسعت أصواتا تصرخ يف‪:‬‬
‫‪ -‬خائن‪ ..‬خائن‪ ..‬خائن‪..‬‬
‫جريت‪ ..‬جريت‪ ..‬كأنين يف ريعان الشباب‪ ..‬أحسست أني خرجت من‬
‫املدينة‪ ..‬خرجت من السجن‪ ..‬من زنزانة سلطان طاغية‪ ..‬ورأيت من‬
‫بعيد أشجار السرو تشمخ بهاماتها‪ ..‬خففت سرعيت بعد دقائق‬
‫وصلت‪ ..‬توقفت‪ ..‬اسرتجعت أنفاسي ودخلت البوابة الكبرية‪ ..‬كانت‬
‫مفتوحة‪ ..‬دخلت بهدوء ورهبة وخشوع مل يكن هناك شيء غري صمت‬
‫رهيب عظيم حيتم عليك أن تسكت‪.‬‬
‫قلت السالم عليكم أيها اإلخوان‪ ..‬السالم عليكم أيها الشهداء‬
‫الكرام‪ ..‬امسحوا لي كان الزما علي أن أتوضأ قبل أن أجيء‪ ..‬لكن اهلل‬
‫غالب جئت عجال وحاليت متدهورة واملاء‪ ..‬املاء ال نراه غري مرة يف‬
‫األسبوع‪ ..‬مشيت خطوات خائفا مرتعدا‪ ..‬أخرجت زجاجة العطر ورحت‬
‫أرشهم قربا قربا وأنا أبكي وأستغيث‪ ..‬امسحوا لي‪ ..‬امسحوا لي‪ ..‬مل‬
‫تركتموني وراءكم وحدي‪ ..‬حرام عليكم‪ ..‬مل هربتم علي؟ أمل نكن جسدا‬
‫واحدا‪ ..‬روحا واحدة؟ لقد بقيت وحدي‪ ..‬من يقف معي يف هذا املدينة‬
‫املتوحشة؟ عجزت‪ ..‬ما قدرت أن أواصل املسرية‪ ..‬الطريق صعبة‪ ..‬مآلنة‬
‫باألشواك واملطبات‪ ..‬وأنا أبدلوا لي حتى امسي‪..‬‬
‫كنتم تسمونين صاحل الرصاصة‪ ..‬هم اآلن أمسوني صاحل املغبون‪ ..‬صاحل‬
‫اجملنون‪ ..‬صاحل‪ ..‬صاحل الغيب ما رأيكم؟ أنا الذي كان اجلن خياف مين‪..‬‬

‫‪38‬‬
‫العفريت ترتعد فرائصه ملا أطل‪ ..‬أنا اآلن ياإخوان صاحل املغبون‪ ..‬صدقوا‬
‫أو ال تصدقوا أنا صاحل املغبون‪ ..‬صاحل املغبون‪..‬‬
‫ك راحْ‬
‫يامغبُونْ لْخَيْر ْعلِي ْ‬
‫وَلْهَمْ عليك اتْاليَمْ وطَاح‬
‫والناس كلهم فاقوا‬
‫بعدما اكْال ْو الغلة وذاقوا‬
‫وأنت ياصاحل إما وإما‪ ..‬واحدة من اثنني ال ثالث هلما‪ ..‬إما أن تسكت‬
‫وتغلق فمك فتنال ياصاحل كل ما تريد وأكثر مما تريد‪ ..‬وإما أن تفتح فمك‬
‫وتنطق‪ ..‬والذي ينطق ياصاحل يُشنق‪ ..‬يَحرتق‪ ..‬يُبصق‪..‬‬
‫األوىل مل أربَّ عليها‪ ..‬امسحوا لي ال أقدر عليها‪ ..‬أنا رجل‪ ..‬تربيت‬
‫رجال‪ ..‬وعشت رجال‪ ..‬والثانية كلفتين غاليا‪ ..‬خسرت كل شيء‪ ..‬املال‬
‫واجلاه والسلطان واالحرتام والتقدير حتى زوجيت انقلبت علي بعدما‬
‫وقفت معي وقت الشدة واحملن‪ ..‬انقلبت علي ألنها خائفة علي‪ ..‬حتى‬
‫االسم خسرته وهو رأس مالي‪ ..‬مسيتموني صاحل الرصاصة‪ ..‬اليوم أمسوني‬
‫صاحل املغبون وآخرون أمسوني صاحل‪..‬‬
‫من ميشي يف الظل‪ ..‬ويدهن السري لِتسري‪ ..‬ويساهم يف ختريب هذه البالد‬
‫اليت مات من أجلها الشرفاء ذاك هو الرجل الصنديد‪ ..‬لعن اهلل هذه الرجولة‬
‫وهذه الفحولة ‪ ..‬ساحموني إذا عكرت عليكم هدوءكم‪ ..‬إذا شوشت عليكم‬
‫خلوتكم‪ ..‬أعرف أنكم ستقولون ال دخل لنا‪ ..‬حنن قمنا بواجبنا وانتهى دورنا‬
‫والدور دوركم لكن أين أذهب؟ ماذا أفعل؟ مل تركتموني خلفكم مل يبق‬
‫غريكم أجلأ إليه‪ ..‬امسحوا سأنام الليلة هنا وسطكم‪ ..‬واهلل لن أرجع إليهم‬
‫مطلقا‪ ..‬تنازلت عن كل شيء‪ ..‬أعطوني قربا ألحلق بكم‪ ..‬أعرف أن األمر‬

‫‪39‬‬
‫صعب‪ ..‬أنتم أحبكم اهلل وأنا قعدت هلذا الزمن اخلبيث‪ ..‬ال بأس هذا قدري‬
‫دعوني أرقد وسطكم ليال‪ ..‬ليال فقط‪ ..‬أما نهارا سأجد ألمري حال‪.‬‬
‫وفعال رقدت وسطهم كالصيب ينام يف حضن أمه‪ ..‬ومع الفجر‬
‫استيقظت‪ ..‬فتحت عيين أحسست بالراحة القصوى‪ ..‬ألذ نوم ذقته يف‬
‫حياتي‪ ..‬نظرت إىل القبور كل قرب فوقه هالة من نور هزتين الغبطة‪..‬‬
‫توجهت إىل السماء‪ ..‬يا رب مل تركتين هلذا الزمان احلقري؟ يارب مل خلفتين‬
‫هلذا اجليل املنحوس‪..‬؟‬
‫قمت من مكاني زرت الشهداء قربا قربا وحييتهم شهيدا شهيدا‬
‫ورششتهم بالعطر ثم خرجت‪ ..‬أين أذهب؟ أرجع إىل املدينة؟؟ مستحيل‬
‫مستحيل‪ ..‬مشيت على غري هدى مشيت كاملسحور اهلائم كأن مغناطيسا‬
‫جيذبين بقوة‪ ..‬قطعت جبال‪ ..‬واديا‪ ..‬سهال‪ ..‬وجدت نفسي فجأة قرب قرييت‪..‬‬
‫فرحت كطفل صغري ضيع أمه فلما اشتد بكاؤه وفزعه وجدها فجأة‪..‬‬
‫جريت‪ ..‬جريت‪ ..‬وصلت دارنا املهجورة‪ ..‬دخلت‪ ..‬خرجت‪ ..‬درت بها‪..‬‬
‫سلمت‪ ..‬قبلت احلجارة‪ ..‬الرتاب‪ ..‬احليطان‪ ..‬وتذكرت والذكرى صعبة‪ ..‬بكيت‪..‬‬
‫كل شيء تغري‪ ..‬األشجار ماتت‪ ..‬الورود ذبلت‪ ..‬حتى هي كانت حزينة‬
‫على حالنا وعلى خيانتنا‪ ..‬مشيت إىل قربي والديَّ مشيت بهدوء تام‪ ..‬وقفت‬
‫عند القربين‪ ..‬هزتين الرهبة‪ ..‬األزهار ذبلت‪ ..‬األشجار تكسرت‪ ..‬الرتاب‬
‫تهرأ‪ ..‬حفريات صغرية فوقه‪ ..‬من أحدث هذه احلفر‪..‬؟ استغفر اهلل آثار خنازير‪..‬‬
‫‪-‬ساحميين والدتي‪ ..‬ساحمين والدي‪ ..‬ضيعت نفسي وضيعتكما‪ ..‬ساحمين‬
‫ياوالدي خنت وصيتك‪ ..‬ضاقت علي الدنيا أين أذهب؟ فسد الصالح‬
‫وفسد الفساد واختلطت وطفا شرها على خريها‪ ..‬أعرف أنك مافهمت‬
‫شيئا‪ ..‬ذلك خري وأحسن‪ ..‬رمبا لو فهمت ألفسدوك‪..‬‬

‫‪40‬‬
‫قعدت‪ ..‬اتكأت على شجرة‪ ..‬وضعت رأسي بني يدي‪ ..‬ورحت أفكر‪..‬‬
‫تذكرت أيام زمان‪ ..‬تذكرت الرجال الذين مشينا معهم على طريق واحد‪..‬‬
‫تذكرت احلب واإلخالص‪ ..‬تذكرت املعارك اليت خضناها ببنادق الصيد‪..‬‬
‫تذكرت النشيد‪ ..‬أعظم نشيد يهز القلب‪ ..‬يُبكي العني‪ ..‬خيرج الشوك من‬
‫اجللد‪.‬‬
‫قسما بالنازالت املاحقات‬
‫والدماء الزاكيات الطاهرات‬
‫والبنود الالمعات اخلافقات‬
‫يف اجلبال الشاخمات الشاهقات‬
‫حنن ثرنا فحياة أو ممات‬
‫وعقدنا العزم أن حتيا اجلزائر‬
‫فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا‬
‫خطر ببالي أن أحفر القربين وأمحل عظام والدي‪ ..‬ولكن أين آخذها؟‬
‫إىل الدار‪ ..‬ثم أدفنها وسطها وأشعل عليها الضوء وأجعل القرب جنة‪ ..‬جنة‬
‫يف الدنيا وأرقد معهما كل ليلة‪ ..‬استغفر اهلل مالك ياصاحل جننت؟ حتمل‬
‫عظام والدك ووالدتك الطاهرة من هذا املكان الطاهر النقي الذي اختاراه‬
‫وطالبك بأن حتميه‪ ..‬حتملها إىل املدينة‪ ..‬إىل النفاق والقاذورات والقلوب‬
‫امللوثة؟ ال مستحيل مستحيل‪.‬‬
‫قبّلت تربة القربين‪ ..‬قرأت على روح والدي الفاحتة‪ ..‬دعوت هلما‬
‫بالدعوات الصاحلات‪ ..‬وعدت إىل املدينة خائبا كاحملكوم عليه بالشنق‪..‬‬
‫آهٍ ُأ َّما علجيــــــه‪! ..‬‬
‫أين أنت اآلن‪..‬؟ أين ميكنين أن ألقاك‪..‬؟ كيف أغرس رأسي اآلن يف‬

‫‪41‬‬
‫صدرك الدافئ لتمسحي عليه بيديك احلانيتني‪..‬؟‬

‫‪7‬‬
‫مل يكن الطقس قاسيا‪ ..‬سحاب متفرق هنا وهناك‪ ..‬نسمات باردة تهب‬
‫من حني آلخر تنهزم أمام مالبس الشتاء اليت طفق الناس يرتدونها مجيعا‪..‬‬
‫مازالت الشمس تطل ثم تعود لالحتجاب يف استحياء شديد‪ ..‬لكن‬
‫أشعتها كانت متنح بعض الدفء‪ ..‬ارتشفت فنجان القهوة كالعادة‪ ..‬سألت‬
‫بنت عمر إن كانت تريد شيئا‪ ..‬أمسكت من يدي الفنجان وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬سالمتك‪ ..‬اهتم بصحتك‪ ..‬ال حترق أعصابك‪ ..‬مازلت حباجة إليك‬
‫تأملتها‪ ..‬مازالت حلوة رغم التجاعيد اليت أحكمت قبضتها حول‬
‫عينيها وراحت متد جذورها حتى الرقبة‪ ..‬ورغم آالم الرأس احلادة اليت‬
‫صارت تنتابها من حني آلخر‪ ..‬وخرجت للعمل وقد بدأت نفسي تهدأ‬
‫وتنسى‪ ..‬اقرتبت من املشفى‪ ..‬توقفت فجأة وقد هزتين احلرية‪ ..‬هذا ليس‬
‫مشفانا على اإلطالق‪ ..‬تراجعت إىل اخللف‪ ..‬عدت أتأمل ما الذي جرى؟‬
‫لست جمنونا بالتأكيد لقد تغري املدخل كلية‪ ..‬الفتات‪ ..‬أعالم‪ ..‬ألوان‪..‬‬
‫طالء‪ ..‬كل شيء مزين‪ ..‬األشجار‪ ..‬األرصفة‪ ..‬الطرقات‪ ..‬أشجار صغرية‬
‫خضراء‪ ..‬ورد أمحر متفتح‪..‬‬
‫فركت عيين‪ ..‬أنا يف حلم‪ ..‬أو جننت‪ ..‬ما الذي وقع؟ تركت املكان‬
‫صحراء قاحلة‪ ..‬يف يومني أصبح جنة‪ ..‬الطريق معبد‪ ..‬الشجر أخضر‪ ..‬الورد‬
‫متفتح‪ ..‬األعالم‪ ..‬املصابيح امللونة‪ ..‬مشيت بسرعة إىل البوابة يا للدهشة!‬
‫حتى هي مطلية مزينة‪ ..‬األضواء من كل لون سبحان اهلل! لعلين يف حلم‬
‫دون أن أدري‪ ..‬رفعت رأسي للسماء وجدت الفتة كبرية مكتوب عليها‪:‬‬
‫أهال وسهال بالسيد وزير الصحة‪..‬‬

‫‪42‬‬
‫بالقرب منها أخرى مكتوب عليها‪:‬‬
‫الصحة يف خدمة الشعب‪.‬‬
‫واختلط يف ذهين الضحك والنواح‪ ..‬رغبت يف الضحك‪ ..‬أضحك‬
‫حتى اجلنون‪ ..‬حتى املوت‪ ..‬وأردت أن أبكي‪ ..‬أبكي حتى اجلنون‪ ..‬حتى‬
‫املوت‪ ..‬كرهت النفاق يامدينة النفاق‪ ..‬كرهت النفاق‪ ..‬عدوت‪ ..‬دخلت‬
‫املشفى‪ ..‬جاءني أحد رجال املدير‪ ..‬وأخربني وقد علت وجهه صفرة النفاق‬
‫أن نائب سيده املدير يف انتظاري‬
‫وجلت املشفى يالطيف! كل شيء يلمع‪ ..‬غريوا للمرضى كل شيء‪..‬‬
‫البالط يربق‪ ..‬الرائحة الطيبة تفوح منه‪ ..‬وحتول اإلسطبل إىل جنة‪ ..‬دخلت‬
‫مكتب األمري‪ ..‬آ‪ ..‬املدير‪ ..‬قام من مكانه مرحبا‪ ..‬عجبت‪ ..‬اقرتب مين‪ ..‬ضمين‬
‫إىل صدره‪ ..‬سلم علي‪ ..‬أفقت من دهشيت‪ ..‬قلت يف سري متمتما‪ ..‬رائحة‬
‫الثعلب‪..‬‬
‫قال لي ‪:‬‬
‫‪ -‬اقعد اقعد ياسي صاحل‪ ..‬أنت جماهد كبري‪ ..‬أنت رمز هذا الوطن‬
‫وهذا الشعب‪ ..‬وخريك لن ينسى‪ ..‬وفضلك فوق رؤوسنا مجيعا‪..‬‬
‫جلست وأنا أنظر إليه بدهشة‪ ..‬وازدادت دهشيت حني قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬ال ختف اليومان اللذان غبتهما لن خيصما من راتبك‪ ..‬ساحمتك‬
‫نعم ساحمتك‪ ..‬نظرا جلهادك‪ ..‬بل وأمنحك ثالثة أيام أخرى تسرتيح فيها‪..‬‬
‫أعرف أنك تعبان اسرتح كما حيلو لك‪ ..‬التقلق نفسك‪ ..‬وحني تسرتيح‬
‫عد للعمل‪ ..‬وهل عندنا ألف من أمثالك؟ أنت من البقية الصاحلة‬
‫املخلصة أنت رمز‪ ..‬أنت بركة‪ ..‬وأنت تعرف أنين طيب‪ ..‬ولكن بعض‬
‫الناس يشعلون النار ويوصلون الكالم الفارغ املغرض‪..‬‬

‫‪43‬‬
‫أثار غضيب فاندفعت قائال‪:‬‬
‫‪ -‬خائفون مين؟ تريدون إبعادي عن أسيادكم‪..‬؟ حياتكم كلها كذب‬
‫على الشعب‪ ..‬وعلى اهلل‪ ..‬وعلى نفوسكم‪ ..‬وعلى التاريخ‪ ..‬وحتى على‬
‫أسيادكم‪ ..‬خافوا اهلل‪ ..‬واحد تزرعون له الورد يف الشتاء‪ ..‬وماليني تزرعون‬
‫هلم السم والشوك طول العام‪ ..‬سينتقم اهلل منكم‪ ..‬إنه ميهل وال يهمل‪..‬‬
‫وغفلة الشعب لن تطول‪ ..‬خنتم عهد اهلل وعهد الشهداء واجملاهدين‪..‬‬
‫وحدها مدننا ال تتزين إال ألولي األمر والنهي‪ ..‬وسكت وخرجت‪..‬‬
‫أين أنداح‪..‬؟ للمدينة…؟ وحش مفرتس أصبحت ال أقدر على رؤيته‪..‬‬
‫حتى بييت عفتها‪ ..‬كرهتها‪..‬‬
‫ابتعدت أسري على غري هدى‪ ..‬دخلت الغابة‪ ..‬مشيت زمنا كان ثم واد‬
‫جيري مباء قليل‪ ..‬قعدت على حافته‪ ..‬مددت رجلي‪ ..‬وسرحت بعيدا بعيدا‪..‬‬
‫إىل أين سنصل بهذا الكذب والنفاق‪..‬؟‬
‫مشمت رائحة الدخان رفعت عيين شاهدت شبح الدخان يتهادى متعاليا‬
‫يف تكاسل على جنبات الوادي‪ ..‬دفعين الفضول‪ ..‬هبطت الوادي‪..‬؟ وكانت‬
‫املفاجأة الصاعقة‪ ..‬مئات العلب مآلنة دواء مكومة وحمروقة‪ ..‬كادت النار‬
‫تقضي عليها‪ ..‬قلبت بعضها هذا الدواء كله غري صاحل لالستعمال‪..‬‬
‫تذكرت اإلشاعة اليت دارت يف املشفى‪ ..‬قناطري من األدوية مل تعد‬
‫صاحلة واملدير ومجاعته يف حرج من زيارة الوزير‪ ..‬فعلتها ياولد الكلب‪..‬‬
‫ورجعت كالرصاصة للمشفى وأنا أكاد أحرتق قلقا‪ ..‬وجدت اجلماعة يف‬
‫حفل بهيج مع السيد الوزير‪ ..‬املدير‪ ..‬مجاعته‪ ..‬كبار املدينة جيتمعون على‬
‫الفريسة‪ ..‬جيتمعون على حلس األصابع‪ ..‬منعين احلراس من الدخول‬
‫صرخت‪ :‬خونة خونة اكتشفتكم اكتشفت جرميتكم حرقتم أدوية املرضى‬

‫‪44‬‬
‫يف الوادي وهم حمتاجون قرصا‪ ..‬أحرقتم أعمارهم ودماءهم وأرواحهم‪..‬‬
‫سحبين احلراس بعيدا وقالوا للوزير هذا جمنون مرة بعد مرة يصاب بنوبة‬
‫عصبية‪.‬‬
‫وفصلوني عن العمل‪ ..‬طرقت كل األبواب‪ ..‬اشتكيت للمسؤولني‪..‬‬
‫كتبت للجهات الرمسية وغري الرمسية‪ ..‬كلهم اتفقوا على أنين جمنون وال‬
‫أصلح للخدمة‪ ..‬حز ذلك يف نفسي‪ ..‬كنت صاحل الرصاصة يوم كان الرجال‬
‫رجاال‪ ..‬فلما حتررت البالد أمسوني صاحل املغبون‪ ..‬ويف آخر عمري صرت‬
‫صاحل اجملنون‪.‬‬
‫واحلل؟ اهلروب اهلروب‪ ..‬كل شيء يصرخ يف أذني‪ ..‬اهرب ياصاحل‪..‬‬
‫ياصاحل املغبون‪ ..‬ياصاحل اجملنون‪ ..‬اهرب بنفسك‪ ..‬أنت ضعيف‪ ..‬هؤالء‬
‫شياطني أنت ال تقدر على مواجهة هذا اجلنس‪ ..‬ياصاحل اهرب‪ ..‬اهرب‬
‫ياصاحل‪ ..‬هؤالء فسّدوا وأفسدوا وفسدت عليهم‪ ..‬اهرب ياصاحل‪ ..‬اهرب‪..‬‬
‫وأين تهرب؟ الدنيا ضيقة‪ ..‬األرض ضيقة‪ ..‬السماء ضيقة‪ ..‬أين‬
‫تهرب ياصاحل؟‬
‫القرية‪ ..‬آه تذكرت القرية‪ ..‬خيل إلي أنها يف فستان فرحها تفتح لي‬
‫ذراعيها وحترضين على االرمتاء يف حضنها الدافئ‪ ..‬وأطلقت ساقي للريح‪..‬‬
‫القرية‪ ..‬القرية‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫هاقد عادت اجلازيه‪..‬‬
‫هاقد عدت‪ ..‬عدنا‪..‬‬
‫حني تعود اجلازيه كل شيء يعود‪..‬‬
‫يعود اإلشراق للقمر‪..‬‬

‫‪45‬‬
‫تعود األوراق للشجر‪..‬‬
‫تعود األنسام للهضبات وقد ضمختها حناء الشفق الوردي‪..‬‬
‫تعود أسراب الكروان إىل التحليق والتغريد‪..‬‬
‫وتهجع عروس النهار ملء عينيها ملفوفة مبالءات احللم الوردي‪..‬‬
‫نفتح حنن لألحالم الوردية نوافذ وشرفات‪..‬‬
‫نتحلق حول أُمَّا دَلُولَهْ‪..‬‬
‫تقص حكايات ذياب واجلازيه‪..‬‬
‫منذ أن رحلوا عن القرية مل يعد ألي شيء طعم‪ ..‬كل شيء فقد‬
‫جنسيته‪ ..‬كل شيء ضيع عذريته‪ ..‬حتى أمي الوديعة الطيبة مل تعد كذلك‪..‬‬
‫وصرت ال أعود من اجلامعة هروبا من القحط الذي طفق يزحف‬
‫عنكبوتيا على كل شيء يف القرية‪..‬‬
‫وهاهي تشرق على القرية‪ ..‬وها اجلميع خيرج ملالقاتها‪ ..‬فتحت أمي‬
‫قلبها واحتضنتها وهي تبكي‪ ..‬وهزنا املشهد فجمدنا مجيعا نرقبه‪ ..‬قبلتها‬
‫األخريات‪ ..‬رفعت يفَّ عينني تنهمران عتابا‪ ..‬اختطفتها أمي من بني اجلميع‬
‫وعادت تقبلها من جديد‪..‬‬
‫وسار بنا املوكب نلج البيت‪ ..‬حني عاد أبي توجه مباشرة إىل الزريبة‬
‫وذبح خروفا‪ ..‬كان ينهال علي عتابا وهو منهمك يف عمله‬
‫‪ -‬كيف تأتينا عروسك فال تعجل بذبح خروف‪ ..‬أنت لست رجال‪..‬‬
‫وهو صادق ما دام األمر يعين اجلازيه‪ ..‬حتلق اجلميع حول مثارد‬
‫الكسكس‪ ..‬جممع للرجال وجممعني للنساء‪..‬‬
‫وحني جلسنا نشرب قهوة اجلزوة كانت أمي دلوله حتكي احللقة األوىل‬
‫من قصة اجلازيه وذياب هلاللي‬

‫‪46‬‬
‫وختمت أمَّا دلوله احللقة بقوهلا‪:‬‬
‫َمنيشي حمبوب حُب اجلَده‬
‫منيشي ركَّاب خيل العِريه‬
‫ت انـتِ‪:‬ال ال‬
‫إذا قــل ِ‬
‫ومنيشي مكروه وَلد بْليس‬
‫ومنيشي مَزلوط مافِـديش‬
‫حتى أنا ما نَْب ِغــيـش‬
‫…………‬
‫وغضب ذياب ملا هجرته اجلازيه غضبا شديدا‪ ..‬وأرسل إليها بهذه األبيات‪.‬‬
‫ورفعت فيها عيين مبتسما فقابلتين بنظرات مهددة‪ ..‬وتوقفت أُمَّا دلوله‬
‫عن سرد قصتها‪ ..‬وانفض اجمللس فانسحبت إىل حجرتي‪ ..‬دون أن‬
‫تنسحب اجلازية من ذاكرتي‬
‫كانت هيفاء ممتلئة خصبا ومناء‪..‬‬
‫مسراء بلون األرض املعطاء‪..‬‬
‫يف عينيها حسن متمرد وكربياء كئيبة‪..‬‬
‫شفتاها ترجتفان كورقيت نعناع يانعة‪ ..‬يداعبها نسيم الصبا‪..‬‬
‫على اجلبني تدلت ذؤابة شعر حالكة فرت من سجن اخلمار وحصاره‪..‬‬
‫اخلمار القوزحي كان يعصر رأسها فيكوره بلورة من كل لون‪..‬‬
‫ماذا أقول؟ لو بقيت العمر كله أفتش يف تضاريس الرأس والوجه‪..‬‬
‫أسجد للحسن فيهما ما وفيتها حق العبودية واإلخالص‪.‬‬
‫آه يا لون القمح ‪.‬‬
‫يا لون القمح الطالع من ربوة القلب‬
‫لن أشفى من هذا القر الداهم حتى احتمي بدفء عينيك‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫‪ ...‬ارمتيت فوق سريري وبت أعيد إىل ذهين شريط اجللسة اليت كنت‬
‫أستمع فيها ألُمَّا‪ ..‬وأتصفح تضاريس اجلازيه‪ ..‬وبت أفكك شفرات العينني‬
‫وطالسم الشفاه‪ ..‬حزن عميق كنت أراه‪ ..‬حزن عميق مل أعهده على حمياها‬
‫من قبل مطلقا‪..‬‬
‫عند الصباح الباكر أصرت أن تغادر البيت عائدة إىل املدينة‪ ..‬على‬
‫نفس الطريق الذي عرف أوىل خطواتنا رافقتها‪ ..‬يف الوقت الذي كنت‬
‫أستنطق أطالل الطريق كانت تغرقين بطوفان همومها‪ ..‬مرض أمها‪..‬‬
‫ح َّم ْد امْ َل َّم ْد هلا‪..‬‬
‫واضطراب أبيها‪ ..‬وبطالة أخيها‪ ..‬ومضايقة امْ َ‬
‫ومل تعطين فرصة كي أطوف بها يف حدائق أحالمي‪ ..‬أن أقول هلا لقد‬
‫أكملت دراسيت هذا العام وسأوظف صحفيا جبريدة الشروق وسأسخر‬
‫قلمي خلدمة شعيب ووطين سأجعل منه كابوسا يقض مضاجع اللصوص‬
‫واخلونة‪..‬‬
‫كنا يف رحاب الفوارة حني ودعتها عائدا إىل العاصمة‪ ..‬تعودنا أن‬
‫نغرف من سلسبيلها‪ ..‬لكين هذه املرة مل أغرف إال من عينيها أحزانا‬
‫ودموعا‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫حني تغلغل الليل يف كل شيء وأحكم قبضته على اجلفون كنت أذرع‬
‫فناء املنزل يف قلق شديدٍ‪ ..‬عادةُ صاحل أن يعود إىل البيت بعد صالة العشاء‬
‫مباشرة لكنه أخلف العادة هذه املرة‪ ..‬ما الذي وقع؟ املدينة كابوس جيثم‬
‫على صدورنا‪ ..‬واألجواء فيها مكهربة واجلرائد ال تطل على الناس إال‬
‫بالفجائع‪ ..‬لقد تغريت طباع الناس كثريا‪ ..‬واشتد بينهم التنافر والتناحر‪..‬‬
‫وانكب أكثرهم يلهث خلف الدنيا ولو مقابل أرواح األبرياء‪ ..‬ولو مقابل‬

‫‪48‬‬
‫عزة هذا الوطن‪.‬‬
‫صاحل ال يقبل الضيم وأعداؤه أصبحوا كثريين‪ ..‬ترددت هذه اهلواجس يف‬
‫نفسي‪ ..‬ولكين مافتئتُ أن دخلت إىل البيت بعد أن ألقيت آخر نظرة على‬
‫الشارع األسود الطويل الفاغر فاها كديناغول ميت‪ ..‬ثم عدت أدراجي إىل‬
‫البيت‪.‬‬
‫أحسست بالصمت الرهيب يغتال الطمأنينة من حولي‪ ..‬انزويت فوق‬
‫األريكة‪ ..‬شبكت أصابعي‪ ..‬ورفعت رأسي يف قلب اجلدار‪ ..‬كان هناك إطار‬
‫كبري بلون مذهب عليه صورة صاحل يلبس لباسا عسكريا وحيمل يف يده‬
‫الرشاش‪ ..‬وسرحت بي الذاكرة إىل اخللف‪ ..‬وتذكرت بالضبط ذلك اليوم‬
‫الذي أخذ فيه هذه الصورة‪ ..‬لقد جاء إىل البيت مع جمموعة من رفاق‬
‫السالح‪ ..‬وكان برفقتهم شخص مفتول العضالت يف األربعني من عمره‬
‫أو يزيد‪ ..‬مكبل اليدين واللسان‪ ..‬ميشي متعثرا مطأطأ الرأس ال يكاد يرفع‬
‫عينيه إال ملاما‪ ..‬يف تلك األمسية أخذوا صورا لكل اجملاهدين منها صورته‬
‫هذه‪ ..‬ويف تلك الليلة متت حماكمة ذلك املقيد بتهمة العمالة‪ ..‬ويف الصباح‬
‫قبل تنفس الفجر انطلقوا مجيعا‪ ..‬وفتحت القرية جفنيها على جثة‬
‫مذبوحة‪ ..‬وعساكر فرنسا بدباباتها تعيث يف أرضنا وأعراضنا فسادا‪..‬‬
‫ورن جرس الباب فأخرجين من شرودي‪ ..‬وقطع علي حبل ذكرياتي‬
‫فهرعت إليه أفتحه‪ ..‬لقد عاد صاحل‪ ..‬وحني فتحت الباب خاب ظين‪..‬‬
‫تراجعت متقهقرة‪ ..‬كان القادم عبدالرحيم‪ ..‬أغلق الباب وطوقين بذراعيه‪..‬‬
‫دفعته عين بقوة‬
‫‪ -‬ابتعد عين لست ابين‬
‫شدد ذراعيه علي وهو يقول مازحا‬

‫‪49‬‬
‫‪ -‬وهل تقدرين على منازليت أيتها العجوز الطاعنة يف السن؟‬
‫‪ -‬أنت رجل البيت الذي أعول عليه وأفاخر به‪ ..‬ولكن لألسف‬
‫الشديد ال هم لك إال العبث مع العابثني غري آبه للبيت وهلمومه‪ ..‬أبوك‬
‫كاجملنون خرج منذ الصباح ومل يعد‪..‬‬
‫‪ -‬وما عساني أفعل له؟ هل تريدين مين أن أراقبه كالصغري؟ لقد جن‬
‫الرجل فليتحمل تبعات جنونه لوحده‪ ..‬لست مسؤوال عنه‬
‫عرب إىل غرفته لينام مباشرة غري آبه بكل ما قلت‪ ..‬وحدها اجلازيه كان‬
‫صوتها مغاضبا تلوم أخاها على إهماله شؤون البيت‪..‬‬
‫أتسلل إىل حجرة االستقبال‪ ..‬اقتعد األريكة هنيهة‪ ..‬ثم ما أفتأ أن‬
‫أنهض‪ ..‬أطل من النافذة‪ ..‬ال شيء غري وقع أقدام لفتيان من احلي يعربون‬
‫من حني آلخر آيبني إىل بيوتهم‪ ..‬وغري وقع أقدام منتظمة ملفرزة من احلرس‬
‫البلدي تقطع الطريق يف دورة ليلية عادية‪..‬‬
‫أعود إىل جلسيت على األريكة مل أركز هذه املرة نظري على اإلطار‬
‫املذهب وال على التلفاز وهو يقدم خطابا لرئيس اجلمهورية عن‬
‫اإلجنازات الدميقراطية العظيمة اليت أجنزها للشعب‪.‬‬
‫محلتُ مساعة اهلاتف البد من االتصال بالسعيد أو الربيع‪ ..‬البد أن‬
‫يكون عندهما اخلرب اليقني‪ ..‬هما أقرب إليه من كل إنسان آخر‪ ..‬وكل‬
‫أسراره عندهما‪ ..‬وهما فقط ميكن أن يهتما ألمر غيابه‪ ..‬ولكنين مافتئت‬
‫أن أعدت السماعة إىل مكانها ليس من الالئق إقالق أحد يف هذه‬
‫الساعة من الليل‪ ..‬إذا مل يتحرك ابنه الذي من حل مه ودمه فكيف نطلب‬
‫من اآلخرين أن يتحركوا؟‬
‫مددت يدي إىل رأسي فأعدت شد احملرمة عليه جيدا‪ ..‬وخرجت كالعادة إىل‬

‫‪50‬‬
‫الفناء أمحل يف يدي كرسيا صغريا فاقتعدت مكانا يطل على الشارع اخلالي إال‬
‫من بعض املتسكعني واملنحرفني‪ ..‬رحت أرقب كل حركة فيه‪.‬‬
‫بدأ جو الليل يربد‪..‬‬
‫وحركته تنام‪..‬‬
‫وحدي مل أمن‪..‬‬
‫بت مكاني متضرعة إىل اهلل أن يكون يف عونه‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫احلجرة خالية إال من كرسي خشيب وضعه وسط احلجرة‪ ..‬يتكوم على‬
‫نفسه يف الركن األمين‪ ..‬جيمع نفسه فيغدو كرة بهلوانية‪ ..‬فجأة يقوم من‬
‫مكانه‪ ..‬ببطء ميشي خطوات‪ ..‬يصل منتصف احلجرة‪ ..‬يهم أن يقعد على‬
‫الكرسي‪ ..‬لكنه يرتاجع ليواصل مشيه البطيء‪ ..‬يتوقف فجأة‪ ..‬يرفع ذراعيه‬
‫إىل األعلى‪ ..‬يرتفع قميصه‪ ..‬تبدو سرته‪ ..‬يفتح فاه عن آخره يصيح‪ ..‬تهتز‬
‫جنبات البيت من حوله‪ ..‬تهتز جنبات الكون كله‪.‬‬
‫‪ -‬اسكتوا أَغلقوا أفواهكم‪ ..‬أربعون سنة وأنتم تثرثرون‪ ..‬تتشدقون‪..‬‬
‫وحنن ساكتون‪ ..‬ساكتون كاملوتى‪ ..‬اآلن جاء دورنا‪ ..‬أعطونا فرصة واحدة‪..‬‬
‫مرة واحدة‪ ..‬امسعوا ما نقول‪.‬‬
‫يسكت فجأة وينخرط يف النشيج والنحيب‪ ..‬يتغري فجأة‪ ..‬جيلس على‬
‫الكرسي‪ ..‬يرفع صوته من جديد لكن هذه املرة ليغين‪ ..‬يغين…‬
‫خلِّيوْنا ننطَق يف لُعْم ْر مَرَّه‬
‫خليونا ننطق يف العمر مره‬
‫باهلل ْعلِيكُم حْياتْنا صارت مره‬
‫ت خْسارَه‬
‫وَاعْمارْنا راح ْ‬
‫ت كي لْجرَّه‬
‫وتْكسْر ْ‬

‫‪51‬‬
‫خليونا ننطق يف لعمر مره‬
‫خليونا نتكلم يف العمر مره‬
‫شر البلية ما يضحك‪ ..‬يتغري فيه الصوت‪ ..‬يتقوقع حول نفسه كالكرة‪..‬‬
‫حياول أن يرفع رأسه‪ ..‬ينظر بطرف خفي‪ ..‬يتوسل‬
‫‪ -‬دعونا‪ ..‬اتركونا‬
‫يرفع صوته‪:‬‬
‫‪ -‬اتركونا‪ ..‬ال ختافوا‪ ..‬لن أتكلم كثريا‪ ..‬لست ثرثارا مثلكم‪ ..‬لست‬
‫مهذارا مثلكم‪ ..‬ال أعرف دمياغوجيتكم‪ ..‬كلمة واحدة أحب أن أقوهلا‪..‬‬
‫كلمة أعصر بها قليب اجملروح‪ ..‬قليب املقروح‪ ..‬قليب املتقيح‪..‬‬
‫دعوني أعصر قليب‪ ..‬أعصره يف كأس وأقدمه لكم شرابا‪ ..‬اشربوه إذا‬
‫كنتم حتبون عصري القلوب‪..‬‬
‫امسي‪ ..‬آه امسي‪ ..‬تبحثون عن امسي؟؟ هكذا من البداية‪ ..‬من األول‪..‬‬
‫هكذا أنتم‪ ..‬العجلة جتري يف دمكم‪ ..‬ويف العجلة الندامة‪ ..‬التبحثون إال‬
‫عن القشور والشكليات‪ ..‬أعرف ذلك ال تبحثون عن شيء آخر‪ ..‬بعدما‬
‫تعرفون امسي ستسكتون وينتهي كل شيء‪ ..‬ماذا لو قلت لكم أنا امسي‬
‫كرسي‪ ..‬نعم كرسي؟‬
‫ينهض من مكانه متعثرا يكاد يسقط‪ ..‬ينداح هنا وهناك‪ ..‬يتماسك‪..‬‬
‫يلمس الكرسي‬
‫‪-‬هاهو‪ ..‬رأيتموه؟؟ نعم أنا كرسي‪ ..‬أربع قوائم‪ ..‬مقعد‪ ..‬متكأ‪..‬‬
‫وفقط‪ ..‬لوحتان عريضتان‪ ..‬وأربع لوحات طوال‪..‬‬
‫يهرع فجأة إىل النافذة‪ ..‬يغلقها‪ ..‬يغلق الباب‪ ..‬جيلس القرفصاء‪ ..‬يرتعد‪..‬‬
‫أقف عند الباب‪ ..‬أدقه بشدة مرة وبلني مرة أخرى‪ ..‬أرجوه أن يفتح الباب‪..‬‬

‫‪52‬‬
‫أحل يف الرجاء لكنه مل يكن يبالي بكل ما أقوله كأمنا رحل إىل عامل آخر‪..‬‬
‫لقد اشتد عليه احلال وتغريت طباعه‪ ..‬ماعاد يستمع إىل أحد وال حتى‬
‫يتناول دواءه‪..‬‬
‫كنت دائما أوصيه بالتعقل يف التعامل مع اآلخرين‪ ..‬اللسان احللو‬
‫يرضع اللبؤة‪ ..‬لقد تغري تغريا جذريا‪ ..‬منذ االستقالل صارت نسمة اهلواء‬
‫جترح أعصابه‪ ..‬وازداد أمره سوء بعد دخول املدينة‪.‬‬
‫كان يقول لي ياعرجونه يابنت ا ْع َم ْر دوائي الوحيد أن أعيش بعيدا‬
‫عن هؤالء الناس‪ ..‬ماعدت أطيق النظر إليهم ماداموا يعيشون يف هذه‬
‫احلياة ال بد أن أرحل عنها‪ ..‬إن شئت أن ترحلي معي فارحلي أو ابقي لن‬
‫أمحل لك حقدا‪ ..‬أنت تعرفني أنين أحبك‪ ..‬أنت اليت عشت معي العمر‬
‫حلوه ومره‪ ..‬كم مرة حدثتك عن أصحاب الكهف أنا واحد منهم‪ ..‬هل‬
‫اسْطاع أولئك أن يعيشوا مع الناس؟ طبعا ال‪ ..‬كذلك أنا أيتها الغالية‪.‬‬
‫وأحس أن الرجل عاقل وليس كما كدت أتوهمه‪ ..‬وال أملك فعل‬
‫شيء سوى أن أدفع نفسي دفعا عائدة إىل حجرتي أجترع مرارة احلياة‪ ..‬لقد‬
‫فقدت كل شيء‪ ..‬الزوج‪ ..‬األوالد‪ ..‬صحيت‪..‬‬
‫آه كم أنت قاس أيها الدهر‪ !..‬كم أنت خؤون الترحم‪ !..‬أتيت على‬
‫كل شيء بضربة واحدة‪.‬‬
‫أجرع كأس ماء بارد من الثالجة غري مبالية خبطورة ذلك على صحيت‪..‬‬
‫النريان متسعرة داخلي ال تطفؤها حتى ثلوج الدنيا كلها‪.‬‬
‫أسرح خبيالي إىل املاضي‪ ..‬ألوم نفسي‪ ..‬هل كنت السبب يف كل‬
‫ماحصل؟ ماذا لو وقفت يف وجه صاحل وأبيت عليه الرحيل إىل املدينة‬
‫وبقينا يف الريف حيث العزلة والبساطة وراحة البال؟ لست أدري على‬

‫‪53‬‬
‫وجه التدقيق‪ ..‬بل لست أدري هل كنت السبب أم كانه؟؟‬
‫رنوت ببصري إىل ساعة اجلدار كانت دقاتها تصلين رتيبة‪ ..‬تأملتها مليا‬
‫وفجأة فطنت إىل أن وقت الدواء قد حان‪ ..‬حتاملت على نفسي‪ ..‬فتحت‬
‫الرف‪ ..‬دفعت قرصا يف فمي وأردفته بكأس ماء‪ ..‬متتمت بيين وبني نفسي‪:‬‬
‫اللهم لطفك‪ ..‬وعدت إىل مكاني يف السرير‪ ..‬تدثرت الغطاء وانكمشت‬
‫على نفسي‪ ..‬كنت أحس بالربد يدب يف جسدي كله‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫‪3‬‬

‫البحث عن العش‬

‫‪1‬‬
‫التقينا ذات صباح قارس قارص‪ ..‬كان الربد شديدا‪ ..‬وكان اجلليد يزرع‬
‫على وجه األرض طبقة بيضاء تقرض أقدامنا وأصابعنا وأنوفنا‪ ..‬ثم مافتئ‬
‫أن صار رائعا‪ ..‬دغدغ الرذاذ عنق األرض‪ ..‬وأشرقت الشمس فاغتالت‬
‫جليد القلوب‪.‬‬
‫كان كالفارس الذي غُدر به فضيع سالحه يف املعركة‪..‬‬
‫كان كامرئ القيس حني ضيع مخره وسالحه وهام على وجهه يطلب‬
‫النصر من أعدائه فغدروا به وجرعوه مسا‪..‬‬
‫كان كجميل الذي ضيع حبه وأُهدر دمه فراح يتشتت يف العراء حتى‬
‫قضى مبصر‪.‬‬
‫أحسست أن هذا الرجل الذي يقف أمامي ليس غريبا عين‪ ..‬ممتد القامة‬
‫كان‪ ..‬أمسر اللون حنيال تتوج رأسه عمامة خفيفة‪ ..‬يف مالحمه كربياء ظاهر‬
‫ويف عينيه حرية وغضب‪..‬‬
‫رحت أقلب صفحات الذاكرة‪ ..‬أتهجى فيها مابني السطور‪ ..‬مل أصل‬
‫إىل نتيجة‪.‬‬
‫بادرني بالسالم وهو يصافحين‪ ..‬من أصابعه سرت يف كل اجلسد‬
‫قشعريرة مل أستطع أن أفسرها‪ ..‬سألين‬
‫‪ -‬هل تعرف مسكنا للكراء يف هذا احلي؟‬

‫‪55‬‬
‫ازددت التصاقا بالرجل‪ ..‬لقد جبلت على حب الفقراء‪ ..‬سحبت يدي‬
‫من بني أصابعه وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬قد تكون حمظوظا‪ ..‬جبوارنا مسكن شغر منذ يومني‪ ..‬ولكنه ضيق إن‪..‬‬
‫فقاطعين بنربة حزينة‪:‬‬
‫‪ -‬الضيق يف القلوب ياوْ ِليدِي‪..‬‬
‫يــاوِْلـيـ ِدي‪..‬‬
‫وقعت على القلب نسمة انتشاء‪..‬‬
‫باقات ورود‪..‬‬
‫مسفونية كروان‪..‬‬
‫ماأحالها كلمة مل أمسعها صادقة إال من فم نانَّا علجيه‪..‬‬
‫نانَّا اليت تربطين بها وشائج اإلخالص والوفاء دون وشائج الدم‪ ..‬فأنا‬
‫مقطوع من شجرة‪ ..‬لست أعرف لي أما وال أبا‪ ..‬كل ما أنبأتين به نانَّا أن‬
‫والدتي قضت شهيدة‪ ..‬وأنها احتضنتين يف اجلبل ثم طوحت بنا األقدار‬
‫هاهنا‪ ..‬لقد نذرت نفسها بعد استشهاد زوجها أن تربي ابن شهيد وكنت‬
‫صاحب احلظ‪.‬‬
‫يَـــــــــا‬
‫ْو‬
‫لِـــ‬
‫يــــ‬
‫ــدِ‬
‫ي‪...‬‬
‫وهاأنذا أمسعها اآلن وأحسها هي‪ ..‬هي‪..‬‬

‫‪56‬‬
‫وصلنا اهلدف‪ ..‬توقفت عنده‪ ..‬توقف هو معي‪ ..‬أشرت بيدي‬
‫‪ -‬هذا هو البيت‬
‫كان وطيئا‪ ..‬بابه يكاد ينكفئ إىل مستوى األرض‪ ..‬ال يكاد علو اجلدار‬
‫يتجاوز قامة الرجل املمتد‪ ..‬قرميده القديم عليه ضمادات إمسنتية عديدة‬
‫حك رأسه مادا أصابعه حتت عمامته‬
‫‪ -‬املهم أن خنفي رؤوسنا‪ ..‬ويفعل اهلل ما يشاء‬
‫‪ -‬مرحبا بك جارا جديدا‪ ..‬سعدت حارة احلفرة بك‪ ..‬أدعوك لتناول‬
‫قهوة يف بيتنا‪ ..‬ال أحد حيضِّر قهوة اجلزوة كنانَّا‬
‫ودون أن يعرتض أو يعلق اندفع يسري جبواري كأمنا يعرفنا منذ األمد‬
‫الطويل‪.‬‬
‫دققت الباب ثالث مرات ورفعت صوتي‬
‫‪ -‬نانَّا نانَّا ضيف يطرق بيتنا‬
‫وأنا أعرف ما تفعل نانَّا كلما مسعت ما ذكرت‪ ..‬ترتك كل شيء يف يدها‬
‫وتهرع باشة مرحبة ليس أحب لديها من الضيف‪.‬‬
‫أطلت نانَّا ملفوفة بشاهلا األبيض كالنورس‪ ..‬وجتمدت مالحمها فجأة‪..‬‬
‫وظهرت عليها عالئم الدهشة‪ ..‬نقلت عيين حنو الضيف كان جاحظ‬
‫العينني‪ ..‬فاغر الفم‪ ..‬يقف دون حركة‪ ..‬كسرت جدار الصمت‬
‫‪ -‬نانَّا ماذا وقع؟‬
‫وكأمنا فطنت حلاهلا فانتفضت‬
‫‪ -‬سي صاحل ‪ ..‬وليدي العزيز‬
‫‪ -‬أُمَّا علجيه‪ ..‬أمَّا العزيزة‬
‫وارمتى يف أحضانها كالرضيع الفزع اجلوعان‪..‬‬

‫‪57‬‬
‫وقفت مندهشا أرقب املشهد‪ ..‬أعيد إمياني باألسباب واملقدمات‬
‫والنتائج‪ ..‬أية صدفة هذه؟ ومامعنى هذا العناق؟ وماهذه البنوة واألمومة‬
‫املزعومتني؟‬
‫مل تأبه نانَّا بي راحت جتر الغريب حبنان وقد أشرق وجهها مشسا‬
‫ضاحكة حتيل احلجرة الضيقة حديقة فواحة‪.‬‬
‫علمت بعد ذلك ما مل يكن يف حسباني متاما‪ ..‬عمي صاحل العلواني هو‬
‫الذي ولدت يف بيته حني فرت والدتي من بطش عساكر فرنسا‪ ..‬ثم بقيت‬
‫هناك بعد أن التحقت والدتي باجلبل ألرضع من صدر زوجته أُمَّا عرجونه‬
‫أخا البنته اجلازيه‪.‬‬
‫بعد أسابيع حتتم أخذي إىل اجلبل ألعيش مع والدتي‪ ..‬لكن القدر‬
‫مافتئ أن حرمين من صدر أمي الدافئ‪ ..‬ليمنحين صدرا أدفأ‪ ..‬صدر نانَّا‬
‫العظيمة‪ ..‬وكان االستقالل فانسحبت بي نانَّا ألعيش معها يف هذا‬
‫البيت املتواضع‪.‬‬
‫مع إشراقة مشس الغد انتقل عمي صاحل مع أسرته إىل حارة احلفرة بعد‬
‫أن لفظته املدينة على أطرافها الفقرية‪ ..‬وغدت لي عائلة أخرى‪ ..‬أُمَّا‬
‫عرجونه‪ ..‬أخيت اجلازيه‪ ..‬هجريه‪ ..‬أخي عبدالرحيم‪ ..‬ما أرمحك يا اهلل!‬
‫أول ما فعلته هو أني أوصيت جارهم اخلري بلعوط بهم خريا‪ ..‬قلت له‬
‫وأنا أمجع تالبيبه‪ :‬إن اشتكى إلي منك أزهقت روحك‪ ..‬قال وهو يضحك‪:‬‬
‫أمرك سيدي‪ ..‬وانصرف‪.‬‬
‫بعد صالة العشاء جاءني بلعوط إىل البيت‪ ..‬كانت حالته تبعث على‬
‫الشفقة من شدة ما تناول من مخور رخيصة‪ ..‬كنت يف العادة ألومه من الغد‬
‫حني يصحو‪ ..‬لكين ال ألومه أبدا وهو يف حالة سكر‪ ..‬قدمت له قهوة مرة‪..‬‬

‫‪58‬‬
‫كان يبكي ويقبل يدي ويقول بلسان متلعثم‪ :‬ال أحب أن يراني عمي صاحل‬
‫سكران أنت أوصيتين به خريا‪ ..‬أنت خُيَّ‪ ..‬أقسم أني ال أحب غريك‪ ..‬أنت‬
‫خُيَّ‪ ..‬أعظم خُيَّ‪ ..‬وعزَيَّزْ خُيَّ‪ ..‬ال هو صديقي العزيز‪ ..‬تعرف ملاذا؟ ألنه‬
‫يسكر معي وأنت ال تسكر‪ ..‬يارب اغفر لنا وارمحنا‪ ..‬يارب حقق أحالم‬
‫منري‪ ..‬والدتي وزوجيت يدعوان لك دائما‪ ..‬كلما أوصلتين إىل البيت خممورا‬
‫نزال علي شتما ونزال عليك بالدعوات الصاحلات‪ ..‬أقسم باهلل أنت حمبوب‬
‫يا منري‪ ..‬ادع لي‪ ..‬إني أرغب يف التوبة‪..‬‬
‫أنا وعزيَّز خسرنا كل شيء و‪...‬‬
‫ودفع آخر جرعة من قهوته املرة وهو يتجشأ‪ ..‬أمسكته من يده وخرجت‬
‫معه ألعود به إىل البيت‪..‬‬

‫‪2‬‬
‫املدينة كالعاهرة ال تتزوج إال لتجعل من زوجها مشجبا تعلق عليه‬
‫خيباتها‪ ..‬وها أنا أغدو فيها كالشجرة اليت نقلوها من تربتها بعد فوات‬
‫األوان‪ ..‬ليس هلا إال أن تنتحر‪ ..‬خرجت من القرية‪ ..‬ومن املشفى‪ ..‬وهاهم‬
‫أخريا يطردونين من البيت ألنه ملك للمشفى‪ ..‬مل يكن كالم الربيع‬
‫صحيحا حني كان يردد ضاحكا‪:‬‬
‫‪ -‬مربوك عليك‪ ..‬أوالد الكلب بنوها وشيدوها وورثناها من بعدهم‪..‬‬
‫اهلل يرحم الشهداء الكرام‪..‬‬
‫مل نرثها حنن‪ ..‬بل ورثتها طبقة لسنا ندري عالقتها بالثورة‪ ..‬يف الوقت‬
‫الذي استحوذ املدير على مسكين رحت أنا أخبط يف غري رشد أحبث عن‬
‫وكر يسرتني مع عائليت يف إحدى الضواحي الفقرية فنحن اآلن ال منلك‬
‫من الشجاعة مايكفي للعودة‪..‬‬

‫‪59‬‬
‫عند نبع ماء يتفجر من حتت األرض فيسقي الناس وأشجارهم اليت‬
‫سرتت عيوب بيوتهم اليت يأوون إليها التقيت مبنري‪ ..‬لست أدري ماالذي‬
‫جذبين إليه بالضبط‪ ..‬أحسست وأنا أراه ألول وهلة أنه أقرب إلي من‬
‫أبنائي‪ ..‬لعل مسرته‪ ..‬أو حنافته‪ ..‬أو بشاشته‪ ..‬أو الكتاب الذي كان يتأبطه‪..‬‬
‫أو كل ذلك‪ ..‬لست أدري‬
‫ما كدت أفاحته يف همي حتى أخرج كل مفاتيحه السحرية‪ ..‬وجرني‬
‫يف تلك اللحظة ليحقق هديف الذي جئت أسعى من أجله‪ ..‬اكرتيت‬
‫البيت ثم ارتأيت أن أشرتيه‪ ..‬دفعت لصاحبه جزء من املبلغ وأمهلين‬
‫أشهرا ألدفع الباقي‪.‬‬
‫وكان فرحي كبريا وأنا ألتقي بأُمَّا علجيه‪ ..‬هاته العظيمة اليت ظلت‬
‫سنوات أُ َّمنا مجيعا وحنن خنوض حربا شرسة ضد عساكر فرنسا‪ ..‬وكان‬
‫زوجها الشهيد عمي سليمان أبا للجميع وقائدا للجميع‪..‬‬
‫ويف حارة احلفرة عرفت رجاال فيهم شيء من الذين رحلوا‪ ..‬عرفت‬
‫عْزَيَّزْ ربيب العجوز عكة وصاحبه اخلري بلعوط فيهما كثري من اجلنون‬
‫ولكن طيبتهما كانت أكرب‪ ..‬وعرفت مفتش التعليم والرتبية السيد معرفة‬
‫رجل قضى عمره يغتال الظالم من العقول وظل كل الذين حوله‬
‫ينسجون له أكفانا من ظالم‪ ..‬كلما رأيته ختيلته مشعة تسعى‪ ..‬تهرق دمها‬
‫األبيض كي تضيء لآلخرين دروبهم‪ ..‬وتكنس عنهم ظلماتهم‪..‬‬
‫أخرجين عبدالرحيم من شرودي وهو جيلس جبواري‪ ..‬دون أن ينطق‬
‫بكلمة واحدة زوى عينيه اتقاء أشعة الشمس احلارة اليت كانت تصوب‬
‫سهامها حنو اخللق يف غري رمحة‪ ..‬ثم نصب يده اليمنى السمراء على‬
‫جبهته فوق عينيه‬

‫‪60‬‬
‫من أي صلب هذا الولد الفاشل الذي ال حيسن أن يصنع لنفسه خبزا‬
‫حيفظ رجولته‪ ..‬نظرت فيه وقلت‪:‬‬
‫‪-‬لو كان بومدين حيا لعاقب كل الشباب البطال‪ ..‬ذاك القوي أبو‬
‫الضعفاء‪.‬‬
‫ودون متهيد اندفع عبدالرحيم فجأة كأن احلياة عادت إليه‬
‫‪-‬وماذا فعل لنا ملا كان حيا حتى يفعل لنا اآلن؟ انظر كلُّ ما حولنا‬
‫يوحي باملأساة‬
‫وأردت أن أعارضه‪ ..‬لكنه واصل وهو ينهض‬
‫‪ -‬يتشدقون بالشعارات اجلوفاء ال غري‪ ..‬لقد ضحيت يف الثورة بكل‬
‫ما متلك‪ ..‬أحرق بيتك‪ ..‬وقتل أهلك‪ ..‬وشردت سنوات مريرة وهاحنن نعيد‬
‫نفس احلكاية الكاحلة‪ ..‬الناس يأكلون على كل املوائد وحنن الفقراء‬
‫مازالوا يطعموننا شعارات‪.‬‬
‫وغادر عبدالرحيم املكان دون أن ينتظر جوابا مين‬
‫مجعت نفسي حيث أنا ورحت أتأمله يبتعد فتمتمت‬
‫‪ -‬ياله من جيل!!!‬
‫وبقيت حيث أنا ال أبرح املكان رغم هبات الريح اليت كانت ترتفع‬
‫من حني آلخر حمدثة زوبعة من الرتاب‪..‬‬
‫كنت أتأمل الصبية يلعبون كرة القدم تتقاذف أرجلهم النحيفة املسودة‬
‫كرة قماشية صنعوها من اخلرق واجلوارب وتتطاير األتربة فتكاد حتجبهم‬
‫عن الرؤية‬
‫انتبهت من شرودي على صياح جارنا إبراهيم جحا ينادي ابنته عبله‬
‫احللوة كي تساعده يف محل الشاي والفطائر إىل احلمام‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫‪3‬‬
‫وكان ذلك اليوم مشهودا والقدر يقسم روحينا شطرين‪ ..‬فريمي بكَ إىل‬
‫العاصمة حيث تكملُ دراستَك يف معهد اإلعالم باجلامعة لتتخرج بعدها‬
‫صحفيا المعا‪ ..‬ويرمي بي إىل سطيف إلكمال تكويين شبه الطيب‪ ..‬لست‬
‫اآلن قادرة على حتقيق حلمي الذي صبوت إليه طويال‪ ..‬ليس كل ما يتمنى‬
‫املرء يدركه جتري الرياح مبا ال تشتهي السفن‪ ..‬ظروف العائلة كانت‬
‫كابوسا رهيبا‬
‫حتصلنا على شهادة الباكالوريا معا‪ ..‬مضي الصيف سريعا‪ ..‬اقرتبت أيام‬
‫الدراسة ثعبانا مفرتسا‪ ..‬التقيتكَ ذات مساء‪ ..‬حدثتين عن أحالمك كما‬
‫تعودت‪ ..‬عن أملك يف أن تكون صحفيا المعا يسخر قلمه يف خدمة‬
‫املستضعفني واملهمشني‪ ..‬وبقدر ماكان هذا يشغل بالي كانت طبيعيت‬
‫األنثوية حترضين على الغرية‪ ..‬كنت أردد بيين وبني نفسي‬
‫بنات املدن الكبرية إرهابيات‪ ..‬خمادعات‪ ..‬ولن يستطيع بدوي ساذج‬
‫مثلك أن ينجو من حبائلهن‪..‬‬
‫لقد أحببتين جبنون وحنن يف القرية‪ ..‬فهل حتبين كذلك وأنت يف املدينة؟‬
‫لست أدري ملاذا كانت هذه الزوابع تعصف يف فجاج ذاتي‪ ..‬رغم أن‬
‫خطواتنا األوىل حنو الزواج قد متت أمام أسرتينا‪ ..‬ومل تبق إال اإلجراءات‬
‫اإلدارية‪ ..‬منذ أن كنا صغريين كانت أمكَ تقول لوالدتي‪ :‬اجلازيه لن تكون‬
‫إال من نصيب ذياب‪ ..‬هاأنا أخطبها‪ ..‬وها أنتِ تقبلني‪ ..‬وها كل سكان‬
‫القرية يشهدون‬
‫كل ذرة يف هذا الكون شهدت حبنا منذ كنا صغريين‬
‫افرتقنا وقد اتفقنا أن نفارق حارة احلفرة معا‪ ..‬توصلين إىل املعهد شبه‬

‫‪62‬‬
‫الطيب بسطيف‪ ..‬وترحل أنت بعدها إىل العاصمة‬
‫ذلك الصباح وحنن نهم مبغادرة حارة احلفرة‪ ..‬رأيت دمعة حزينة يف‬
‫مقليت أمي احملمرتني الغائرتني كمحرمة الشامي اليت تغطي بها شعرها‪..‬‬
‫وقرأت على حمياها القمحي خوفها علي وأنا األحب إليها‪ ..‬وكم كنت‬
‫أدرك ما تعاني هذه الصفصافة العاتية املنتفضة األوراق‪ ..‬مل تكن تريدني‬
‫أن أكون مثل بنات األمس‪ ..‬جمرد صفصافة تأوي إليها طيور الليل والنهار‪..‬‬
‫وينعم اجلميع خبضرتها وقامتها ويتفيأون ظالهلا‪ ..‬ثم أخريا جتازى بقبلة‬
‫عميقة حارة من شفرة فأس حطاب‪.‬‬
‫ورأيت أبي صاحل وقد لفحت الشمس وجهه‪ ..‬فاشتدت مسرته‪ ..‬وأثر‬
‫عليه وقع احلياة فخطت على وجهه أثالما‪ ..‬وغارت عيناه‪ ..‬وزحف الشيب‬
‫يرقص فرحا على حليته وما ظهر من شعر صدغيه حتت العمامة‬
‫مل يكن يبكي ألن دموع الرجال غالية‪ ..‬ولكين كنت أحس بوقع دموعه‬
‫على قلبه عازفة مسفونية احلزن‪ ..‬وقرأت على عينيه‬
‫‪ -‬اجلازيه هأنذا أحتدى من أجلك اجلميع‬
‫ليس من السهل أن يسمح رجل بدوي كأبي يسكن حارة احلفرة البنته‬
‫أن تتابع دراستها يف مدينة بعيدة‬
‫وكنتَ منزويا هناك تهم أن تندفع حيث اجلمع لتسحبين بعيدا بعيدا‬
‫فتمتنع رجالك كأمنا أنت مقيد إىل األرض الصلبة‪ ..‬وكنت أقرأ يف عينيك‬
‫آيات احلب واحلزن‪ ..‬وكنت أرى دموعا ترتقرق يف جفنيك حائرة حتاول‬
‫كبحها وتأبى إال أن تصرخ معلنة عن وجودها‬
‫ورحلنا إىل سطيف‪ ..‬على مشارفها يقف سيدي اخلري ينثر الربكات ملء‬
‫يديه‪ ..‬يفتح باب بسكرة حضنه ليدخلنا املدينة حبنان العمريات‪ ..‬دخلنا‬

‫‪63‬‬
‫املدينة‪ ..‬طفنا بشوارعها نودعها‪ ..‬وقفنا عند عني الفوارة‪ ..‬قلت لك‪:‬‬
‫عني الفوارة متثال المرأة أحبها حاكم فرنسي كان يف هذه املدينة‪ ..‬ومل‬
‫يشأ القدر أن حيققا حلمهما فاختطفها إىل غري رجعة‪ ..‬وألن حبيبها كان‬
‫وفيا صرف كل ماله من أجل أن يقيم هلا متثاال نصبه هنا وسط املدينة على‬
‫نبع ماء‪.‬‬
‫ثم رحت أحدثك عن لزرق ملول هذا العامري الذي طلبت منه‬
‫حبيبته أن حيصد كل أراضيه الشاسعة سنابل خضراء قبل نضجها وركب‬
‫جنونه وفعل‬
‫قلت لي وأنت تضحك‬
‫‪ -‬هل بدأت تشكني يف وفائي إليك؟ متثال عني الفوارة ميثل بالنسبة‬
‫إلي فرنسا االستعمارية‪ ..‬حبذا لو وضع يف املتحف ونصب مكانه متثال‬
‫المرأة عمرية‪ ..‬أما لزرق ملول فهو جمنون‪ ..‬واحلب جنون‪.‬‬
‫وافرتقنا‪..‬‬
‫كانت أول رسائلك إلي‬
‫ال حتزني‪ ..‬لن أبدلك أبدا‪ ..‬ولن أكون إال لك‬
‫لن أخون حبنا‪..‬‬
‫سأحلقُ كطائر النورس حيث شئتُ‪ ..‬ثم ليس لي عش إال داخل قلبك‬
‫سأغرد كالشحرور أنى شئتُ‪ ..‬ثم ليس لي إال فؤادك أعزف على‬
‫أوتاره ترنيماتك الشجية‬
‫لن أنسى حبنا يا حبيبيت وقد بذرناه يف أعماق قلبينا وسقيناه‪ -‬وأشعة‬
‫القمر اجلميل تباركنا‪ -‬بدموعنا‪ ..‬ومحيناه من الصقيع فغدا زهرا مجيال‬
‫لن أنسى ياحبيبيت إذ كنا نركض يف احلقول فتبلل األعشاب أقدامنا‬

‫‪64‬‬
‫الصغرية تتسابق أنفاسنا وضحكاتنا‬
‫لن أنسى يا حبيبيت ما كنت ترددين على مسعي دائما‬
‫فما احلب إال للحبيب األول‬ ‫نقل فؤادك حيث شئت من اهلوى‬
‫‪4‬‬
‫كل شيء من حولي مقرف مقزز‪ ..‬هذه املدينة عاهرة مشطاء‪ ..‬البقاء فيها‬
‫ضرب من املستحيل‪ ..‬غدا كل شيء ضدي‪ ..‬يف البيت حتاصرني نظرات‬
‫والدي املرة وأنني والدتي الشاحب‪ ..‬يف الشوارع أحس نفسي أشبه‬
‫بكيس بالستيكي قديم ترتاماه الرياح يف شوارع املدينة‪..‬‬
‫ما معنى أن أحيا إذن؟ ال ميكن أن أفكر يف االنتحار على األقل بسبب‬
‫الوازع الديين الذي يعد كل قاتل نفسه كافرا‪ ..‬أو بسبب ماأمحل يف نفسي‬
‫من أحالم‪ ..‬حلمي لعله صعب التحقيق‪ ..‬ورمبا هو من املستحيالت ولكنه‬
‫يبقى أوال وقبل كل شيء حلما‪ ..‬من حقي أن أحلم‪ ..‬واحلمد هلل أن اهلل‬
‫خلقنا حنلم وإال كانت الطامة‪ ..‬واحلمد اهلل أن حكامنا وأثرياءنا ال ميلكون‬
‫منعنا من أن حنلم‪..‬‬
‫آه حني أمتكن من عبور هذه البحرية الزرقاء‪ !..‬عند ذلك سأصرخ يف‬
‫التعاسة‪ ..‬لك الويل اذهيب إىل غري رجعة‬
‫أحسست كأمنا صدري يضيق بهذا السر احللم‪ ..‬ال بد أن أبوح به‬
‫لغريي‪ ..‬وملن؟ ما تعودت أن أطمئن إال إىل منري‪ ..‬واندفعت إليه ولكين ما‬
‫كدت حتى أحجمت‪ ..‬اتكأت على جذع شجرة كانت تقف يتيمة بائسة‬
‫يف تردد شديد‪ ..‬وما معنى أن أبوح مبا ينوء به صدري ملثل هذا اإلنسان‪..‬‬
‫سيقف أمامي كصندوق بارد‪ ..‬صندوقٍ مفتوح تعوي فيه الريح‪ ..‬سيشبعين‬
‫مثالية وحب الوطن‪ ..‬وهو يعرف أنين أكفر بكل ما يقول حتى لو أعاده‬
‫علي ألف مرة‬

‫‪65‬‬
‫ومل أستطع أن أمنع نفسي‪ ..‬ها أنذا أقصده‪ ..‬جيب أن أعرتف أنين ال‬
‫أثق يف غريه‪..‬‬
‫دخلت املكتبة‪ ..‬سحابة من الكآبة تغشي رفوفها‪ ..‬وحدها األوراق‬
‫تعزف مواهلا احلزين‪ ..‬تتدثر الغبار‪ ..‬كم رجوته أن يغري املهنة‪ ..‬كم قلت له‪:‬‬
‫هؤالء الناس يلهثون خلف ما ميأل بطونهم‪ ..‬ال ما ميأل عقوهلم‪ ..‬حول‬
‫مكتبتك إىل حمل لبيع املواد الغذائية وسرتى كيف تتغري حالتك‪ ..‬أو أخرج‬
‫من هذه األرض امللعونة‪..‬‬
‫وكم يفلقين حني ميعن يف بنظرات فيها سخرية وشفقة قائال لي‪:‬‬
‫‪ -‬أنا هكذا مسرتيح وسعيد ياعبدالرحيم‪ ..‬ليس لنا صدر أحن‬
‫علينا من اجلزائر‪..‬‬
‫مل يأبه بي‪ ..‬كان يغرس رأسه يف كتاب يقرأه‪ ..‬لست أدري هل انتبه‬
‫حلضوري أم ال‪ ..‬وضعت يدي اليمنى على صفحات الكتاب فتوقف عن‬
‫القراءة‪ ..‬وأدركت من انتباهه املفاجئ أنه مل يتفطن حلضوري أصال‪ ..‬حياني‬
‫وهو يدلك عينيه بإصبعيه وعاد يتأمل الكتاب‪ ..‬استندت احملسب الئذا‬
‫بالصمت‪ ..‬راجيا أن ال يتفلسف كثريا فيندفع يف احلديث عما قرأ‪..‬‬
‫ويتشعب به احلديث فيلقي علي حماضرة كاملة‬
‫وكان ما توقعت‪ ..‬إذ ما إن استقر بي املقام حتى راح كالعادة حيدثين عما‬
‫قرأ ووجد مين معارضا عنيدا حني بادرت بالقول‪:‬‬
‫‪ -‬يا منري متى تفطن حلالك؟ الناس يعيشون الواقع وأنت حتلم حبياة‬
‫وسط األوراق‪ ..‬حدثين عن الواقع‪ ..‬الواقع الذي حتول هذه األيام إىل غول‬
‫يلتهمنا مجيعا‪ ..‬يلتهم جيال بأكمله‪ ..‬أال تسأل أنت نفسك؟ ملاذا وجدنا يف‬
‫هذا الكون؟ متى نعلن فحولتنا؟ متى حنصد ابتسامات أطفالنا؟ هذا حلم‬

‫‪66‬‬
‫أحب أن أعيشه فمتى حيصل ذلك؟‬
‫وعلى غري عادتي اندفعت يف الشرح والتحليل حد الثرثرة ومل ينطق‬
‫هو متاما‪ ..‬كان يستمع إلي بإمعان شديد‬
‫حدثته عن رغبيت امللحة يف أن أعرب البحر‪ ..‬ال بد أن أسافر إىل فرنسا‪..‬‬
‫جنة األرض هي فرنسا‪ ..‬فرنسا وحدها قادرة على أن متسح أحزاني‬
‫وفقري‪ ..‬جيب أن أسافر وهناك جيب أن أتزوج فرنسية تسوي لي وضعييت‬
‫وأستقر هناك إىل األبد‪..‬‬
‫ماذا استفدت أنا هنا‪..‬؟ إنين أجف كل حلظة‪ ..‬ما أصعب على اإلنسان‬
‫أن يتأمل نفسه ميوت عضوا فعضوا‪ ..‬أن يصفر ورقة ورقة‪ ..‬وغصنا غصنا‪..‬‬
‫ثم يتهاوى شجرة خاوية‪ ..‬تعرس فيها الديدان بدل الشحارير‪ ..‬تزعرد فيها‬
‫القتامة بدل اإلشراق‬
‫لقد أعدت له هذا الكالم ألف مرة وأنا أعرف موقفه منه‪ ..‬ولعله اآلن‬
‫ينظر إلي بكثري من االحتقار أو رمبا الشفقة‪ ..‬لكين أعرف أيضا أنه مبعارفه‬
‫هو الوحيد حبل جناتي‪ ..‬هو وحده القادر على أن يعبد لي الطريق لبلوغ‬
‫أربي وحتقيق حلمي‬
‫ودون أن يعلِّ َق فتحَ الكِتاب وراح يقرأ علي بعض املقاطع أحاطها‬
‫بدوائر رمسها بقلم الرصاص‪ ..‬وكأنه قد حضرها خصيصا ليجيبين عما‬
‫حيريني‬
‫" ‪..‬لقد مجعنا إىل أمالك الدولة أمالك املؤسسات اخلريية‪ ..‬واستولينا‬
‫على املمتلكات اخلاصة‪ ..‬وأكرهنا مالكيها على دفع نفقات هدم منازهلم‪..‬‬
‫بل ونفقات هدم جامع من اجلوامع‪ ..‬وقد دنسنا املعابد واملقابر‪ ..‬وانتهكنا‬
‫حرمة املنازل‪ ..‬ذحبنا سكانا بأكملهم‪" ..‬‬

‫‪67‬‬
‫" ‪..‬انطلقت سبعة أرتال من مليانا وشرشال‪ ..‬كان عليها أن تدمر‬
‫البالد‪ ..‬وأن ختطف أكرب عدد ممكن من القطعان والنساء واألطفال‪"..‬‬
‫" ‪..‬لقد كنا حنتفظ ببعض النساء رهائن‪ ..‬ونبادل البعض باخليول‪..‬‬
‫والباقي يباع يف املزاد كالبهائم "‬
‫" ‪..‬صحيح أننا جلبنا معنا برميال طافحا بآذان مصلومة اثنني اثنني من‬
‫آذان األسرى‪" ..‬‬
‫"‪..‬لقد اغتصبنا أرضهم‪ ..‬يبقى علينا أن نغتصب سواعدهم‪ ..‬فالعمل‬
‫الشاق هو نتيجة طبيعية الحتاللنا البالد‪"..‬‬
‫يف عينني فيهما كثري من الغضب وقال‪:‬‬
‫طوى الكتاب‪ ..‬ورفع َّ‬
‫‪-‬هؤالء كما يسميهم الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي‪...................‬‬
‫هل ترغب يف أن تذهب إىل‪...........................‬؟ هاك اقرأ كتابه وستعرف‬
‫حقيقة‪ ...............‬وما فعلته جيوشه باسم احلضارة هنا يف اجلزائر‪.‬‬
‫مل يكن الكالم الذي تاله علي جديدا‪ ..‬لقد مسعته منه أو على األقل‬
‫مسعت مثله‪ ..‬ورمبا أيدته يف بعض ما يذهب إليه‪ ..‬وأسرتنا هي خري مثال‬
‫على ما ذكر‪ ..‬لقد قدمت ضحايا ليس هلم ذنب إال أنهم طلبوا احلرية هلذه‬
‫األرض‪ ..‬وهو يعرف أنين حني أريد أن أذهب إىل‪.......................‬فما أنا ذاهب‬
‫حبا فيه‪ ..‬ال على اإلطالق لكن‪ ..‬لو وجدنا اخلري هاهنا ما تركنا بالدنا‪..‬‬
‫اآلالف من املثقفني واملبدعني والعلماء فروا إىل هناك‪ ..‬هنا تكوَّنوا وهناك‬
‫فجروا طاقاتهم‪ ..‬أعلم أن ذلك جار يف كل الدول املفلسة اليت يتفرعن فيها‬
‫احلكام الشرسون‪ ..‬ينفرون الطبقة املستنرية حتى ال تتحول هلم كابوسا‬
‫مزعجا‪..‬‬
‫عشرات الشركات واملصانع فُلِّست وأُغلقت أبوابها وطرد عماهلا‬

‫‪68‬‬
‫حتت أعذار واهية لتباع بأمثان رمزية ويتحول عماهلا إىل جيش من‬
‫البطالني يف الشوارع‪.‬‬
‫نظرت فيه‪ ..‬تأملت شعريات بيضاء تألألت يف سواد شعره‪ ..‬مل يهتم بي‬
‫بل غرس رأسه من جديد يف الكتاب واستمر يف القراءة‪ ..‬تركته على حاله‬
‫وسرحت ببصري إىل الشارع‪ ..‬وأنا أحدث نفسي لو عادت فرنسا حللت‬
‫كل مشكالتنا ومسعت والدي يصرخ يف أذني‬
‫‪-‬عليكم اللعنة ياجيل املنهزمني‪ ..‬تعجزون عن تغري واقعكم‬
‫فتحتمون بأعدائكم‬
‫سددت أذني بيدي ونظرت حولي‪ ..‬كنت قريبا من املقهى‪ ..‬وحده النادل‬
‫جيلس يف تكاسل على إحدى الكراسي بني النوم واليقظة‪ ..‬وزوابع الغبار‬
‫متارس حوله رقصها املسعور‪..‬‬
‫ما أحقر اإلنسان الغربي املتوحش الذي داس كرامة اإلنسان ومازال‪..‬‬
‫يف اجلزائر‪ ..‬أمريكا‪ ..‬إفريقيا‪ ..‬فلسطني‪ ..‬لكن هل يالم املكيافيليون على ما‬
‫يفعلون؟ أم نالم حنن الذين حتولنا إىل نعاج أكثر ما حنسن الثغاء‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫كان عبدالرحيم يستمع إلي وأنا أصب عليه أطنانا من اللوم لقد كنت‬
‫أعتربه دوما عدة البيت ألنه رجل البيت ووارث إمارتها‪ ..‬ال هو جنح يف‬
‫دراسته كأترابه‪ ..‬وال هو عمل فأزال الغنب عين وعن أختيه وأمه‪ ..‬وال هو‬
‫تزوج فأفرح اجلميع وفتح بابا لألحفاد‪.‬‬
‫حني ختمت كالمي اجلارح اتكأ على قبضتيه وقام بصعوبة من فوق‬
‫الرتاب حيث كان يقتعد متكئا على جدار وانصرف‪ ..‬رميته برصاصات من‬
‫فمي‪:‬‬

‫‪69‬‬
‫‪ -‬النار تلد الرماد‬
‫وعاد عبدالرحيم إلي كما مل يعد من قبل‪ ..‬مل يشأ هذه املرة أن يسكت‬
‫كما تعود لقد انفجر يف وجهي صارخا‬
‫‪ -‬وماذا فعلت أنت لنا؟ أترابك واألقل منك سنا ينعمون اآلن هم‬
‫وأوالدهم بالرفاهية‪ ..‬فماذا فعلت لنا؟ ضيعت سبع سنوات يف الثورة‬
‫التحريرية‪ ..‬بطنك كلها خمروقة‪ ..‬رجلك عرجاء‪ ..‬مل جترؤ حتى على تقديم‬
‫ملف واملطالبة حبقك يف الوقت الذي ينعم فيه العمالء خبريات البالد‬
‫بفضل وثائق مزورة‪ ..‬ويسكنون قلب املدينة وعمقها‪ ..‬يف أحيائها الراقية‪..‬‬
‫وأنت مازلت تسكن بنا أحياءها الشعبية على األطراف‪ ..‬كالذئاب‬
‫املتوحشة‪.‬‬
‫مل أحرك شفيت‪ ..‬ومل أنطق بكلمة واحدة‪ ..‬أحسست بالرصاصات‬
‫تدوي يف ساقي وبطين‪ ..‬والدم األمحر القاني يغرقين‪ ..‬وسحابة املوت‬
‫تدهمين‪ ..‬وأنا أ زحف بني جثث رفاقي الشهداء مبتعدا عنهم خطوات‪..‬‬
‫ثم أغرق يف إغماءة تامة‪..‬‬
‫نظرت يف وجه ابين عبد الرحيم كان أمسر اللون حنيال ال يغطي وجهه‬
‫إال جلد اليكاد يسرت عظامه‪ ..‬عيناه تدوران كما الربكان‪ ..‬صحيح ما قال‪..‬‬
‫كان علي أن أموت حني مات رفاقي يف الثورة‪ ..‬حني مات الرجال الكبار‪..‬‬
‫لقد خلقت من أجل أن أضحي فقط أما أن أغنم فهذه مل أعرفها‪ ..‬كنا‬
‫نذهب إىل املعركة الهدف لنا إال املوت وصرنا خلقا آخر‪ ..‬ال جنتمع إال‬
‫لنأخذ‪..‬‬
‫واشتد قلقي وأنا أتذكر أن ابين دون عمل وهو يف السابعة والعشرين‬
‫من عمره ولعله يفكر يف الزواج‪ ..‬وأتذكر اجلازيه‪ ..‬والوفية عرجونه وقد‬

‫‪70‬‬
‫أنهكها املرض وأتعبتها النكبات‪ ..‬وال يعيل هؤالء مجيعا إال ما تأخذه‬
‫اجلازيه مقابل عملها يف املشفى ممرضة‪.‬‬
‫وانصرف أبي داخال إىل البيت ومل أشأ أن أحلق به‪ ..‬كانت هواجس‬
‫متعددة تتصارع داخلي‪ ..‬نريان شديدة تضطرم متأججة تلتهم بوحشية‬
‫أحشائي‪ ..‬حتى أنا على درب أبي‪ ..‬هناك من مل يرتك هلم آباؤهم غري اليتم‬
‫لكنهم استطاعوا تغيري واقعهم املزري‪ ..‬أهم أحسن مين‪..‬؟ ملاذا أعود دائما‬
‫بالالئمة على هذا الشيخ الذي تعاورته سهام احلياة من كل جانب؟ ال بد‬
‫أن أجد عمال‪ ..‬واندفعت أهبط املدينة غري مبال بالسيد معرفة الذي كان‬
‫يئن حتت ثقل حمفظته السوداء‪..‬‬

‫‪6‬‬
‫وضعت قدمي على عتبة محام الصاحلني أهم أن أجله‪ ..‬ثم مافتئت أن‬
‫تراجعت ناكصا على عقيب‪ ..‬ثم عدت تضطرب قدماي كما تضطرب‬
‫نفسي يف مهب اهلواجس العاتية‪ ..‬كان القرار صعبا جدا‪ ..‬خطوة أقطع بها‬
‫العتبة تقرر مصريي‪ ..‬لقد تعودت أن أدخل احلمام‪ ..‬وتعودت أن أغتسل‬
‫فيه لكن اهلاجس الذي أمحله هذه املرة غري كل شيء يف نفسي‪..‬‬
‫ألقيت التحية على اجلميع‪ ..‬وجلست صامتا قرب إبراهيم جحا بائع‬
‫الشاي بالنعناع داخل قاعة االسرتاحة باحلمام‪ ..‬بعض الناس كان نائما‬
‫وبعضهم كان صامتا ترتفع ضحكاتهم من حني آلخر وهم يستمعون‬
‫حلكايات ونكت إبراهيم اليت ال تنتهي‪ ..‬هذا الرجل الذي أقام حياته على‬
‫فلسفة بسيطة مفادها أن احلياة تافهة فاجعلها ابتسامة وامض‪.‬‬
‫لكين مل أكن ألهتم بذلك رغم أن بصري كان ميسح كل الزوايا‪..‬‬
‫صفعين إبراهيم على قفاي وقال‪:‬‬

‫‪71‬‬
‫‪ -‬الدنيا فانية والدجاج ميوت‪ ..‬ال حتمل هما مثلي يا عبدالرحيم‬
‫وحني مل تتغري مالحمي غري إبراهيم جمرى احلديث‬
‫‪ -‬ال بأس سأقص عليكم قصة طريفة‪ ..‬خذ هذا الشاي اشربه‬
‫ياعبدالرحيم إنه هدية من عندي‬
‫أمسكت الكأس فارتفعت رائحتها الزكية تدغدغ شهييت لكين‬
‫وضعت الكأس بني قدمي وسكت أنصت‪ ..‬قال إبراهيم جحا‪:‬‬
‫‪ -‬حيكى أن ذبابة سافرت خمتفية من بلدنا يف جيب مهاجر إىل بالد‬
‫اإلفرنج‪ ..‬وملا وصلت حتررت‪ ..‬وراحت تطوف بالشوارع إىل أن أعجبها‬
‫بيت ليس فيه إال عجوز فاختارته مسكنا هلا‪ ..‬ومل تشأ أن تسرتيح يف تلك‬
‫اللحظة بل راحت تتفقد كل شيء باندهاش‪ ..‬حتط على املربيات‬
‫واملرطبات واحللويات يف حبور ومرح‪ ..‬وأحست هذه العجوز مبخلوق‬
‫مزعج قد دخل الدار وماكادت ترى الذبابة وقد نسيت امسها ألنهم‬
‫ختلصوا من الذباب منذ قرن حتى محلت مبيد احلشرات وراحت ترشها‬
‫وترشها وترشها حتى أكملت القارورة‪ ..‬مل تسقط الذبابة بل كانت ترفع‬
‫إبطها قائلة‪ :‬إيـه ما أحاله من عطر زكي! كانت تعتقد أنه عطر‬
‫وماكان من العجوز إال أن اتصلت بالشرطة واملطافئ وحني وصلوا مل‬
‫جيدوا إال الذبابة حتوم يف الفضاء‪ ..‬أما العجوز فرمحة اهلل عليها‪.‬‬
‫وانفجر اجلميع ضاحكني لكين مل أضحك‪ ..‬بل قذفت بالشاي يف جويف‬
‫ونهضت قاصدا صاحب احلمام‪ ..‬وأسررت إليه أني أريد أن أعمل دالكا‪..‬‬
‫ابتسم صاحب احلمام وقال‪:‬‬
‫‪ -‬احلمام محامك‪ ..‬تفضل‬
‫وأسرعت أنزع ثيابي وألبس تبان احلمام وأدخل كاحبا الرفض الذي‬

‫‪72‬‬
‫كان يتأجج داخلي مرددا قول منري‪ :‬العمل شرف وكرامة وال يقاس بنوعه‬
‫وشكله بل حبقيقته‪..‬‬
‫كانت قاعة االستحمام حارة جدا‪ ..‬وكان البخار يكاد حيجب الرؤية‪..‬‬
‫جلست يف الركن أنتظر أوامر الزبائن‪ ..‬فجأة ارتفع صوت أحدهم طالبا‬
‫دالكا‪ ..‬وهرعت إليه ملبيا‪ ..‬كان الزبون طويال عريضا متشحما كجثة فيل‬
‫ينبطح على بطنه‪ ..‬حاولت أن أتعرف عليه لكين مل أستطع قلت بصوت‬
‫فيه شيء من الرتدد‪:‬‬
‫‪ -‬أنت جاهز؟ هل تَعَرَّقْت؟‬
‫رد الزبون بنربة متعالية‬
‫‪ -‬وملاذا دعوتك؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪ -‬اعتدل جيدا‪ ..‬وحيسن بك أن جتلس‬
‫قال الزبون وقد تعالت نربته‪:‬‬
‫‪ -‬أتريد أن تعلمين كيف اغتسل؟ دعين كما أنا وادلكين‬
‫ومل أزد كلمة واحدة‪ ..‬ورحت أباشر عملي بإتقان وأنا أقول يف نفسي‪:‬‬
‫مم يسمن هؤالء فينقلبون خنازير؟ وكم كيلو يأكلون بني اليوم والليلة؟‬
‫ومد الزبون ذراعيه‪ ..‬بكل منهما وشم كبري لثعبان ضخم رأسه ينام على‬
‫ظاهر اليد‪ ..‬وملعت أمامي األصابع املذهبة وقد زينتها أربعة خوامت كبرية‪..‬‬
‫ودار يف خلدي لو أقدر على قطعها مجيعا‪ ..‬البعض يضع كيلو ذهب زينة‬
‫والبعض ال جيد طعام يومه‪ ..‬أين الشعارات اجلوفاء اليت مللنا مساعها‬
‫سنوات طويلة؟ ملاذا يرمتي عْزَيَّزْ ربيب العجوز عكة واخلري بلعوط يف‬
‫أحضان العربدة هروبا من الفقر وملاذا يشقى إبراهيم جحا واملفتش السيد‬

‫‪73‬‬
‫معرفة العمر كله لتوفري لقمة متأل البطن وثوب يسرت البدن وميلك خنزير‬
‫مثل هذا أطنانا من دماء الناس؟ أية عدالة يف أن تتخم األقلية وتعجز‬
‫األغلبية عن توفري قرب للحياة متارس فيه احلب وتزرع فيه أزهارا‬
‫للمستقبل؟ ألسنا بلد البرتول؟‬
‫وداهمين دوار شديد‪ ..‬أحسست معه مبوج القيء يهدر يف شغاف‬
‫القلب‪ ..‬لقد عرفت الزبون‪ ..‬وتذكرت كل القصص اليت رواها عنه‬
‫والدي وعن عائلته‪ ..‬وداهمتين رائحة قذرة‪ ..‬وندمت على أني مل أعرفه‬
‫أوال قبل أن أدلكه‪ ..‬ودار الزبون فانبطح على ظهره فظهرت الدهشة على‬
‫حمياه‬
‫‪ -‬هذا أنت عبدالرحيم‪..‬؟ ادلكين جيدا ال ترتك ذرة غبار واحدة‪ ..‬هل‬
‫تعرف أن هذا الغبار الذي يلتصق بنا يأتينا من أحيائكم الفقرية؟ جيب أن‬
‫نطالب الدولة بنصب سور بيننا وبينكم‪ ..‬ذكر لي قاض يسكن جبواري أن‬
‫هذا النظام كان معموال به قدميا عند الرَّمَّان‪ ..‬هم شعب متقدم إنهم أجداد‬
‫األوربيني اليوم‪ ..‬انظر إىل حضارتهم‬
‫وأكملت عملي فقمت وصببت املاء على جسدي دفعة واحدة‬
‫واندفعت خارجا‪ ..‬لكن امْحَمَّدْ استوقفين وأعادني طالبا مين أن أكمل‬
‫عملي‪ ..‬وملا أكدت أني أكملت كل شيء أظهر لي مذاكريه وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬وهذه؟ لن تنال دينارا واحدا إال إذا غسلتها‬
‫واسودت الدنيا يف وجهي فرميت الدالكة يف وجهه مشفوعة بأطنان‬
‫من الشتائم والسباب وخرجت مغاضبا ال أكاد أرى شيئا وصوت أبي‬
‫يرتدد يف مسعي‪ ..‬امْحَمَّدْ ملا كان يف سنك كان مفلسا العمل له وكان كلما‬
‫عاد إىل البيت يف املساء من سهرات القمار كانت أمه تردد له‪:‬‬

‫‪74‬‬
‫‪ -‬يا امْحَمَّدْ يا امْلَمَّدْ يا اشْكالْ الدَّابَهْ‪ ..‬ما تسْرحْ ما تْرَوَحْ‪ ..‬ما تْجِيبْ‬
‫الفايْدَه‬
‫يف الطريق إىل البيت مررت مبقهى اجلزوة القريبة من دارنا‪ ..‬مسعت‬
‫منريا يناديين‪ ..‬عرجت على املقهى على مضض‪ ..‬سلمت عليه وجلست‬
‫معه دون أن أنطق قال منري‪:‬‬
‫‪ -‬أعرف أنك حتمل هما كبريا‪ ..‬ال بأس ال يتسع األمر إال إذا ضاق‪..‬‬
‫وإن بعد العسر يسرا‬
‫ورفضت هذا املنطق فرددت عليه‪.‬‬
‫‪ -‬العكس متاما ال يضيق األمر إال زاد ضيقا وليس بعد العسر إال‬
‫العسر‬
‫ثم رحت أحدثه وهو يرتشف فنجان القهوة عما وقع لي هذا النهار‪..‬‬
‫وعدت باللوم على نفسي أن مل أكمل دراسيت وقد كنت أجنب طالب‬
‫اإلعدادية‪ ..‬وحني هممت باالنصراف قال منري‪:‬‬
‫‪ -‬اجلس اقرتح عليك عمال علك تقبله‬
‫وجلست متلهفا مستعدا‪ ..‬وحني أخربني أنه يقدر على إدخالي صف‬
‫الشرطة اهتززت فرحا لكين تراجعت فجمدت يف كرسي وأنا أقول حبسرة‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن هل يقبلونين؟ وإال كنت انتقمت من أبناء الفاعالت‬
‫التاركات‪..‬‬
‫قال منري حمذرا‪:‬‬
‫‪ -‬هذه مهنة شريفة ال تستعمل لالنتقام بل لعمل اخلري وحماربة‬
‫األشرار أعداء الوطن‪ ..‬فكر الليلة جيدا فإذا استقر أمرك على شيء فأنبئين‬
‫غدا‪ ..‬رئيس الشرطة صديق قديم حيب فعل اخلري وسنذهب إليه سويا‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫مل أعرف كيف قلعت نفسي من مكاني وقد ذهب عين القلق‬
‫فانطلقت عائدا وأنا أقول‪:‬‬
‫‪ -‬واهلل يا امْحَمَّدْ يا ا ْملَمَّدْ ألقعدنك على قارورة زجاجية مكسرة‬
‫الفم‪ ..‬ياامْحَمَّ ْد يا ا ْملَمَّ ْد يا اشكال الدابة‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫خرجت من احلمام كانت نفسي رائقة وجسمي خفيفا والدنيا بذوق‬
‫العسل‪ ..‬عدلت من ربطة عنقي‪ ..‬سويت نظارتي‪ ..‬أوالد الكلب‬
‫سأشرتيكم مجيعا مبالي‪ ..‬الكل حتت جربوتي‪ ..‬أنتم وهذا الوطن الذي‬
‫ضحيتم من أجله‪ ..‬وهؤالء املسؤولون الذين تهتفون هلم يف الصباح‬
‫واملساء كالكالب‪ ..‬فرقعت أصابعي‪ ..‬حاولت إدارة اخلوامت الذهبية‬
‫اللماعة‪ ..‬مل أستطع‪ ..‬ضاقت هذه األيام على أصابعي‪ ..‬مررت راحة يدي‬
‫اليمنى فاليسرى على بطين‪ ..‬انتفخت أكثر مما جيب‪ ..‬ال بأس ما دام الناس‬
‫هذه األيام يهابون الكروش املنتفخة‪ ..‬ومادام القميص احلريري يسرتها‪.‬‬
‫ركبت سيارتي الطيارة‪ ..‬اليخت‪ ..‬كما تسميها خليليت سوسن غصت‬
‫يف املقعد اجللدي‪ ..‬أدرت زر املسجل‪ ..‬انطلق صوت الشاب خالد‬
‫أنا املَهْبولْ‬
‫وانا شرَّاب لَالْكولْ‬
‫سَرْبي سربي والليله نْعَمَّ ْر راسي‬
‫أنا املَرْيُول‬
‫واللي بْالتْين وَشْكُون‬
‫َعمّر عمَّر‬
‫والليله نْخَرَّج قليب‬

‫‪76‬‬
‫أدرت احملرك مل أكد امسع صوته وانطلقت على اإلسفلت كأني أطري‬
‫على بساط الريح‪.‬‬
‫يف طريقي مل أكن أرى الناس أمامي‪ ..‬وما كنت أحب أن أراهم‪ ..‬خييل‬
‫إلي أن أياد تلوح بالتحية بني حني وآخر لكين ما كنت آبه بهم‪ ..‬أوالد‬
‫الكلب كلما أمعنت يف إذالهلم ازدادوا لي خنوعا‪ ..‬جوع كلبك يتبعك‪..‬‬
‫أين أذهب؟ راحت السيارة وحدها تشق الطرقات تدور وتعود لتدور على‬
‫غري هدى كان بودي أن أزور املعمل ألتفقد األشغال هناك ثم أحجمت‪ ..‬مل‬
‫يبق متسع من الوقت وكمال املشرف على األعمال سيقوم مبا جيب‪..‬‬
‫أحسست أني حباجة إىل نشوة أكرب‪ ..‬اشتقت إىل اخلمرة‪ ..‬تذكرت أنها‬
‫نفدت من الثالجة البارحة‪ ..‬وجهت السيارة صوب املركز على ضفة‬
‫املدينة‪ ..‬مل يكن يسمح ببيع اخلمر عالنية يف هذه املدينة ولكن يرتك‬
‫لبائعيها احلبل على الغارب فيبيعونها خارج القانون‪ ..‬وهو خري هلم ألن يف‬
‫ذلك متلصا من الضرائب‪..‬‬
‫دنت السيارة‪ ..‬انعرجت‪ ..‬دخلت بني أشجار وارفة ظليلة‪ ..‬كان املكان‬
‫رائقا‪ ..‬كثرية هي السيارات الفخمة‪ ..‬جثمت هنا وهناك‪ ..‬عرفت سيارة‬
‫شيخ البلدية‪ ..‬آه يا ولد الكلب ال حتسن حتى كتابة الواو األعور وتقود‬
‫أمة كاملة‪ ..‬آ أقصد غمة كاملة‪ ..‬ال عليك‪ ..‬اعنت بالكرسي الدوار جيدا هو‬
‫لي الدور القادم‬
‫توقفت‪ ..‬صاح فيهم بوق سيارتي‪ ..‬التف الغلمان حولي‪ ..‬أطلت‬
‫رؤوسهم من الزجاج‬
‫‪ -‬أمرك سيدنا امْحَمَّدْ‬
‫هكذا نطقوا دفعة واحدة وسكتوا مبحلقني دفعة واحدة‪ ..‬ابتسمت‬

‫‪77‬‬
‫مزهوا وأنا أقول كالعادة‬
‫‪ -‬يا أمحرة‬
‫وبصوت واحد قالوا‬
‫‪ -‬حاضر موالنا شبيك لبيك كل ما تطلب بني يديك‬
‫ورفعوا أيديهم بست زجاجات من الشامبانيا‪ ..‬وضعوها معجرة يف‬
‫صندوق السيارة‪ ..‬قبضوا مثنها‪ ..‬وأعطيتهم مثن زجاجة‪:‬‬
‫‪ -‬قدموها لشيخ البلدية اجليفة املنجوس‬
‫ثم أخرجت حفنة من القطع النقدية ورميتها عليهم عرب النافذتني‪..‬‬
‫ومجحت بي السيارة فانطلقت تاركة وراءها غبارا مركوما‪ ..‬راحوا‬
‫يتصارعون كالوحوش أيهم يظفر بأكرب حصة‪ ..‬كم كان هذا املوقف ميألني‬
‫سرورا وابتهاجا فأضحك من أعماقي‪.‬‬
‫وجدت نفسي أسوق السيارة باجتاه ضاحية املدينة حيث يسكن الشيخ‬
‫صاحل عندي معه حساب طويل جتب تصفيته‪ ..‬لن أنسى أبدا ما فعله بوالدي‬
‫أثناء الثورة حني اختطفه مع بعض اجملاهدين وجاءوا به مكبال إىل بيته‬
‫وحاكموه يف الليل‪ ..‬وعلمت باألمر فقصدتهم صباحا وجدتهم قد رحلوا به‪..‬‬
‫عرفت أن الفأس قد وقعت يف الرأس‪ ..‬اجتهت ألبناء عمومته وقلت مهددا‪:‬‬
‫‪ -‬إن وقع ألبي مكروه آلتينكم جبيوش فرنسا اجلرارة‪ ..‬وألهدمن‬
‫عليكم أكواخكم القذرة‪..‬‬
‫ورحلت دون أن ينطقوا‪ ..‬ماكادت الشمس تتوسط كبد السماء حتى‬
‫وجدت أبي يف الوادي جثة هامدة‪ ..‬لقد ذحبوه كاخلروف وقد جتمد الدم فوق‬
‫ثيابه ووجهه وفوق الرتاب‪..‬‬
‫يف املساء كانت جيوش فرنسا اجلرارة متأل القرية بأسرها مدعمة‬

‫‪78‬‬
‫باألسلحة والكالب‪ ..‬وكانت الفاجعة كابوسا رهيبا أشفى غليلي‪ ..‬قتلوا‬
‫ابين عمه شر قتلة‪ ..‬عذبوهما تعذيبا منكرا وحني صمما على الصمت‬
‫قتلوهما رميا بالرصاص‪.‬‬
‫ومازال هو غصة يف القلب‪ ..‬البد أن يدفع الثمن‪ ..‬وكيف يدفعه؟‬
‫بإزهاق روحه أم باملوت البطيء؟‬
‫مل تشأ صورة جثة أبي أن متحى من شاشة ذاكرتي‪ ..‬بل كانت تتضاعف‬
‫يف كل حلظة‪ ..‬وترتكز فوق الرقبة بالذات‪ ..‬كانت القصبة اهلوائية واألوداج‬
‫مقطوعة‪ ..‬عظام الفقرات واضحة للعيان‪ ..‬النجيع املتجمد كقطع الكبد‬
‫يغطي كل شيء‪ ..‬لقد ختبط فيه بوجهه حتى تعفر بالرتاب رغم أنه كان‬
‫مربوطا بسلك حديدي‪ ..‬وكان لسانه قد خرج من فمه كلية‪..‬‬
‫أفزعتين الصورة‪ ..‬غطيت عيين بيدي فكيف أغطي ذاكرتي اجلرحية‪ ..‬مل‬
‫أفطن إىل نفسي‪ ..‬رحت أضرب على املقود وعلى الباب وعلى صدري‪..‬‬
‫لكم الويل مين أيها الكالب‪ ..‬حقدي ال متحوه إال دما ُؤكم‬
‫وأخرجين من كابوسي املرعب وذكرياتي املؤملة وصولي إىل البيت‪..‬‬
‫أوقفت السيارة‪ ..‬كنت أعتقد أنين سأجد عبدالرحيم فأزيد يف إذالله‪..‬‬
‫مبجرد أن فتحت النافذة لفحتين نسمات حارة مفعمة بالروائح الكريهة‬
‫العفنة املنبعثة من انفجار قنوات القاذورات‪ ..‬وداهمتين زوبعة ترابية‬
‫أثارتها أقدام الصبية احلافية العارية‪.‬‬
‫أعدت غلق الزجاج ورفعت صوت البوق حد اإلزعاج‪ ..‬خرج صاحل من‬
‫مغارته كالشبح وقد اشتد سواده وتألألت عيناه كأن إسهاال داهمه عاما‬
‫كامال‪ ..‬كأمنا عرفين فاندفع يفتح الباب لريكب‪ ..‬كان الباب موصدا من‬
‫الداخل‪ ..‬مل أشأ أن أفتحه له وأشرت إليه أن يأتيين من الباب اآلخر‪..‬‬

‫‪79‬‬
‫وفعال جاء‪ ..‬كنت أريده أن يبقى واقفا ليحدثين من خالل النافذة‪.‬‬
‫انعطفت إىل الباب الثاني‪ ..‬نزل الزجاج على مهل‪ ..‬اندفعت من‬
‫السيارة الفاخرة نسمات هواء باردة‪ ..‬رأيته أشبه خبنزير أليف‪ ..‬قلت يف‬
‫نفسي‪ :‬أبطرتك النعمة يا ولد الكلب‪ ..‬يا ولد احلركي‪ ..‬مات الرجال‬
‫مقدمني أرواحهم فداء للوطن لتنعم أنت خبرياته‪ ..‬ماذا بقي لصاحل كي‬
‫خياف عليه؟ وهل سأعيش أكثر مما عشت؟ طز يف الدنيا وما فيها‪ ..‬كل‬
‫مافيها ال يساوي قالمة ظفر من كراميت‪ ..‬مل أشأ أن أحنين وال أن ألوث يدي‬
‫مبصافحته‪ ..‬وهممت بأن أعود لكنه بادرني‪:‬‬
‫‪ -‬مالك ياصاحل ال ترحب بضيوفك أم تراني ضيفا ثقيال؟‬
‫رددت عليه‬
‫‪ -‬أنت تعرف مكانتك عندي‬
‫ونزل خلفي يتبعين كالكلب‬
‫‪ -‬ال بأس إذا كنت تصر على أن ننزل لنشرب عندك القهوة فإنين ال‬
‫أمانع ولكن اعذرني جئتك فارغ اليدين‬
‫قلت وأنا أسند ظهري للجدار‬
‫‪ -‬حنن ال نعطي قهوتنا لكل من هب ودب فازرع ينبت ياامْحَمَّ ْد‬
‫ا ْم َلمْدْ‬
‫وحملته يتلمظ مرارة كلماتي وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬املاضي ماضي ياالشيخ صاحل‪ ..‬والذي فات مات‪ ..‬جيب أن نفتح‬
‫صفحة جديدة بيضاء ناصعة ال نكتبها إال بالذهب اخلالص‬
‫ابتسمت باستهزاء وقلت‬
‫‪ -‬وهل تركت يف الدفرت ورقة واحدة بيضاء بريئة؟‬

‫‪80‬‬
‫وسكت حلظات كأمنا مل حير جوابا‪ ..‬كأمنا صدمته بأجوبيت اليت مل يكن‬
‫يتوقعها‪ ..‬كان يظن أني سأهلث كالكلب أمامه مرحبا طمعا يف ماله كما‬
‫تلهث الكالب األخرى حواليه‪.‬‬
‫أيها الغراب األمحق مازلت يف عنادك إىل اليوم‪ ..‬جيب أن تسقط كما سقط‬
‫أمثالك من الذين أشبعونا حبا للوطن‪ ..‬وحبا للثورة‪ ..‬املال يضحك املوتى‪..‬‬
‫لكن من أين أبدأ له احلديث ؟ أحسست كأنه سور حصني يصعب اخرتاقه‪..‬‬
‫عجيب تيس أسود حنيف كهذا خييفين! مجعت كل قوتي وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬ياصاحل جئتك يف أمر مهم‬
‫قال دون مباالة‬
‫‪ -‬هات طلبك وخلصين‪ ..‬ورائي ما يشغلين‬
‫عاودت مجع شجاعيت وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬أنت فقري‬
‫قاطعين بعناد‬
‫‪ -‬ولكنين شريف‪ ..‬مل أمد يدي ألحد‪ ..‬ومل أمجع شيئا من حرام‪ ..‬وأنا‬
‫سعيد بذلك‬
‫أدركت أنه يقصدني مباشرة‪ ..‬البأس أيها األفعى السوداء مسك ال‬
‫يضرني‪ ..‬ولكين حني أعضك سأقتلك‪ ..‬سأشفي غليلي‪ ..‬وستطمئن روح‬
‫والدي يف قربه‪.‬‬
‫رفعت فيه بصري‪ ..‬أحسست باالختناق‪ ..‬الروائح النتنة‪ ..‬اهلواء‬
‫الساخن املغرب‪ ..‬أصوات الصبية كالشياطني يندفعون حفاة شبه عراة‬
‫صاعدين هابطني خلف بعضهم البعض‪ ..‬أردت أن أصرف األمر عما‬
‫جئت من أجله غري أني رأيت أن ذلك سيعد ضعفا شديدا مين حيسب‬

‫‪81‬‬
‫علي‪ ..‬عاودت ضبط أعصابي وقلت دفعة واحدة وأنا أحس باخلوف‬
‫الشديد منه‪:‬‬
‫‪ -‬أريد أن أتزوج على سنة اهلل ورسوله‪.‬‬
‫سخرت يف أعماقي‪ ..‬هؤالء الكالب هم الذين يستغلون الدين خلدمة‬
‫أغراضهم الدنيئة‪ ..‬هذا النجس يعرف سنة اهلل ورسوله؟ ! متزوج من‬
‫اثنتني‪ ..‬وطلق اثنتني ويعيش مع عشرات العاشقات والعاهرات‪ ..‬ثم‬
‫يتحدث عن سنة اهلل ورسوله‪ ..‬التفت إليه وقد أحسست حبقارته أمامي‬
‫‪ -‬وما دخلي أنا يف األمر‪ ..‬تزوج أو طلق ال شأن لي‬
‫مل يدعين أكمل حديثي حتى قاطعين بسرعة‬
‫‪ -‬أريد أن أخطب ابنتك اجلازيه‬
‫جحظت عيناي دهشا وقلت وأنا أمتيز من الغيظ‬
‫‪ -‬جنوم السماء أقرب إليك أيها النجس‬
‫ودخلت الدار فصفقت الباب غضبا‪ ..‬ومسعته ينبح كالكلب‬
‫‪ -‬واهلل آلخذنها أو ألقتلنكم مجيعا أيها األنذال‪.‬‬
‫أحسست باإلهانة خنجرا صدئا مسموما يتغلغل بصعوبة يف كبدي‪..‬‬
‫هرعت إىل السيارة وأنا أبصق يف كل االجتاهات‬
‫فتحت الباب‪ ..‬ارمتيت وأغلقته عجال‪ ..‬مددت يدي إىل رقبيت‪ ..‬خففت‬
‫من ضغط ربطة العنق‪ ..‬تنفست عميقا وانطلقت مبتعدا وأنا أصيح‬
‫‪ -‬واهلل آلخذنها مهما كلفين األمر ولو خسرت كل مالي‪ ..‬ثم ألجعلن‬
‫منها كلبا قذرا يف بييت‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫وصلت إىل البيت وأنا أردد بصوت مسموع‪ :‬يا امْحَمَّ ْد ياا ْملَمَّ ْد يااشْكالْ‬

‫‪82‬‬
‫الدابة‪ ..‬دخلت البيت وجدت وجه أبي عبوسا قمطريرا‪ ..‬رمى بستائر‬
‫همومه على وجهي فابتلع كل فرحة لدي‪ ..‬وقفت مشدوها‪ ..‬ما رأيت أبي‬
‫يف مثل هذه احلالة منذ عرفته على كثرة السهام اليت تعاورته‪ ..‬أحزان تلتها‬
‫جراح‪ ..‬تلتها أتراح‪ ..‬تلتها أقراح‪ ..‬فندوب غائرة‪ ..‬لكين ألول مرة أرى وجهه‬
‫يتسربل هذه املالءة‪ ..‬اللهم سرتك‪..‬‬
‫درت ببصري ذات اليمني وذات الشمال أتطلع إىل األبواب واجلدران‬
‫عليَّ أشتم احلقيقة‪ ..‬كل شيء كان دون رائحة‪ ..‬تسللت عيناي هاهنا‬
‫وهاهنا مل أحلظ شيئا‪ ..‬هل وقع مكروه لوالدتي وقد تركتها مريضة؟ لست‬
‫أدري‪ ..‬بل ال أعتقد فهذا الوجه اجلامد أمامي ال خيفي هذا األمر‪ ..‬تفرست‬
‫فيه كأمنا أستفزه لينطق‪ ..‬لكنه مل يفعل‪ ..‬مازال يقف أمامي كهوفا عجيبة مل‬
‫تُكتشف بعد‪ ..‬أدغاال كثيفة مل تطأها قدم إنسان‪ ..‬كأمنا انقطع نفسُه متاما‪..‬‬
‫غادر احلياة وبقي هيكله منتصبا كهيكل سليمان‪ ..‬عيناه وحدهما كانتا‬
‫تنطان كنغرين يلمعان يف الظالم فارَّين يف غري هدى‪ ..‬وبدأت أحس أن‬
‫جسدي كله يغشاه اخلدر الشديد‪ ..‬كأمنا مغنطين بنظراته‪ ..‬وأدخلين يف جماله‪..‬‬
‫ففقدت حرييت وصرت ذرة تدور يف فلكه‪.‬‬
‫اقرتبت منه خطوة واحدة‪ ..‬تنحنحت أللفت انتباهه إلي‪ ..‬قلت متلعثما‬
‫وقد جف ريقي متاما‪..‬‬
‫ت انتهى عصر املذلة‪..‬‬
‫‪-‬ابشر أب ِ‬
‫رفع يف عينني مشتعلتني‪ ..‬خيل إلي أنه حيمل رأس بومة تنتصب يف‬
‫الظالم احلالك‪ ..‬توهجت العينان وفيهما حرية كبرية‪ ..‬رددت وقد ارتسمت‬
‫على مالمح وجهي ابتسامة صفراء باردة‪:‬‬
‫‪ -‬يا امْحَمَّدْ يا ا ْملَمَّدْ يا اشكال الدابة ما ترعى ما تسعى ماتكسب‬

‫‪83‬‬
‫فايده‬
‫وبدأ صوتي خيفت شيئا فشيئا حتى كدت ال أمسع الكلمات األخرية‬
‫وأنا أنطق بها‪ ..‬لقد زاد الرجل اسودادا وحالكة وتشظى علي فجأة‪:‬‬
‫‪ -‬لو نظر البعري حلدبته النقطعت رقبته‬
‫مل أفهم ملاذا ضرب هذا املثل‪ ..‬هل يعريني أنا بدله؟ وأردت أن أقول‬
‫شيئا فأرعد يفَّ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد كان عندي اللحظة مزهوا مباله‪ ..‬لقد بال على كراميت ألف‬
‫مرة‪ ..‬العميل ابن العميل‪ ..‬باألمس ذحبت أباه مرة واحدة‪ ..‬وهاهو اليوم‬
‫يذحبين ألف مرة‪ ..‬لعنة اهلل على حرية يذل فيها صانعوها‪ ..‬ويعز فيها‬
‫أعداؤها‪ ..‬لو كنا نعرف أن هذا سيقع ماوضعنا السالح‪ ..‬البطل ختدعه‬
‫الثقة‪ ..‬والثورة قطة تأكل أبناءها‪.‬‬
‫ومل يدعين ليواصل‬
‫‪ -‬سأقتله‪ ..‬وماذا عندي أنا كي أخاف عليه؟ قبلت بكل شيء إال أن‬
‫تداس كراميت‪ ..‬منذ حلظات كان هنا‪ ..‬تعرف ملاذا؟ يطلب يد اجلازيه ابنة عدوه‪..‬‬
‫بينهما ثالثون سنة‪ ..‬أقطعها وأرميها للكالب بدل أن يطأها ذلك اخلصي‪.‬‬
‫أطلت والدتي عرب النافذة كأنها جثة قبضت روحها الساعة‪ ..‬كل شيء‬
‫فيها باهت إال آثار الوشم الذي ازدادت خضرته حد السواد‪ ..‬حتاملت‬
‫على نفسها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬وأنت ال متلك إال أن حترتق غضبا من تفاهات رجل هزمته أثناء‬
‫الثورة مرة واحدة وهزمك بعدها ألف مرة ‪.‬‬
‫ومل أفطن حتى وجدت والدي ينزع يف ملح البصر حذاءه ويرميه يف‬
‫وجهها ويرميها من بعده بأطنان من السباب والشتائم‪ ..‬وهي طبيعة أبي‪..‬‬

‫‪84‬‬
‫حني يغضب يتربكن فيلفظ محما حارقة‪.‬‬
‫وأسرعت إىل النافذة أقف سدا دون محاقاته‪ ..‬مل تنطق أمي بل جلست‬
‫على السرير الصغري تلهث إعياء‪ ..‬هي مصابة بداء يف رأسها والبد هلا من‬
‫عملية جراحية ستكلفنا غاليا‪ ..‬املهم أن الفحوص مل تنته بعد وما زال‬
‫األطباء مل يقرروا شيئا‪ ..‬وتسمر املشهد على ماهو عليه‪ ..‬كنا مجيعا سكوتا‬
‫إال من أنفاسنا اليت راحت تصَّاعد وتهَّابط‪..‬‬
‫دخل منري فجأة كأمنا هبط علينا من السماء‪ ..‬مل يطل التحديق فينا وقال‬
‫باستغراب ظاهر‬
‫‪ -‬خريا يا مجاعة ماذا وقع يا عمي صاحل؟‬
‫اسرتجع أبي أنفاسه كأمنا عاد من عامل الغيب وقال‪:‬‬
‫‪ -‬عمك صاحل ليس خبري يا وليدي منري‪ ..‬احلياة غدت أمامي دون‬
‫طعم‪ ..‬أصبحنا حني نرفض الذل يقال لنا أنتم تبالغون‪ ..‬يريدون منا أن‬
‫ننزع هلم سراويلنا‬
‫وخشي منري أن يتمادى أبي أكثر من الالزم فيخلط احلابل بالنابل‪..‬‬
‫ويأتي بألفاظ قد تفرقنا‪ ..‬فراح يضمه إىل صدره حبنان وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أنت مؤمن ياعمي صاحل‪ ..‬واهلل سيتغري احلال‪ ..‬واهلل سيتغري‪ ..‬جيب أن‬
‫نعيش على األمل وعلى احللم الوردي اجلميل‪ ..‬آخر معقل يتحصن به‬
‫احملارب املنهزم هو األمل‪.‬‬
‫سكت حلظة كأمنا ينتظر من أبي رد فعل حتى إذا الحظ أن ثورته بدأت‬
‫ختمد واصل ليزيد جرعة التهدئة‪:‬‬
‫‪ -‬أعرف أنك حتمل هم عبدالرحيم‪ ..‬ال ختف‪ ..‬لقد وجدت له عمال‪..‬‬
‫لقد كلمت السيد رئيس الشرطة وهو صديق محيم ورجل طيب ومثقف‬

‫‪85‬‬
‫وسيكون لعبدالرحيم املستقبل الزاهر‪.‬‬
‫كنت سعيدا بهذا الفتح وبهذه الكلمات اليت قاهلا منري‪ ..‬وكنت أمتنى‬
‫أن يسكت ألمسع تعليق والدي‪ ..‬وفعال سكت منري كأمنا كان يقصد‬
‫بالضبط ما كنت أقصد إليه‪ ..‬ورحنا نقلب الطرف يف مالمح الوالد‪ ..‬كان‬
‫خماضا رهيبا خيض أحشاءه‪ ..‬لعق شفتيه اليابستني‪ ..‬استغفر اهلل وجلس‬
‫على مقعد صغري كان هناك‪ ..‬أخرج من جيبه كيس الربزيلي‪ ..‬انتزع ورقة‬
‫بيضاء‪ ..‬مألها‪ ..‬لفها‪ ..‬وضعها يف فمه‪ ..‬أشعلها بنار ملتهبة وجذب نفسا‬
‫طويال‪ ..‬طويال‪ ..‬أمسكه حلظات ثم زفره فجأة كأمنا يزفر معه كل أحشائه‪..‬‬
‫كل همومه‪ ..‬تأمل الدخينة بني أصابعه املعروقة‪ ..‬مل يبق منها إال النصف‪..‬‬
‫جلس منري إىل جواره وبقيت أنا منتصب القامة كعمود اهلاتف اخلشيب‪..‬‬
‫أقلقين هذا الصمت الرهيب املفزع ونطق منري‬
‫‪ -‬ماذا تقول يا عمي صاحل؟ مل نسمع رأيك بعد‬
‫تفل أبي شيئا من حملول التبغ امللتصق بشفتيه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬خري من ال شيء‪ ..‬كنت أمتنى أن يتعلم ويتحصل على شهادة عليا‬
‫ثم يدخل اجليش أو الشرطة ليواصل نفس الدور الذي بدأته‪ ..‬ولكن‬
‫ماعساه يفعل وهو شرطي بسيط ال حول له وال قوة؟ جمرد عبد مأمور‪.‬‬
‫هذا الكالم أعاده أبي علي ألف مرة ومرة‪ ..‬وهو يعرف أنه باطل ال‬
‫ذنب لي فيه‪ ..‬هو يعرف أنين كنت أحسن تلميذ يف املدرسة ويف‬
‫اإلعدادية‪ ..‬وأن أترابي الذين يعلقون الشهادات العالية ويتصدرون‬
‫املناصب العليا‪ ..‬كانوا يتطفلون علي يف االمتحانات‪ ..‬ولكن الفقر كان‬
‫البتار الذي قصم ظهري‪ ..‬الديناغول الذي ابتلع كل أحالمي وآمالي‪..‬‬
‫فلماذا يعيد علي والدي اسطوانته الكريهة كل مرة؟‬

‫‪86‬‬
‫مل ينطق منري ليلطف من اجلو كأمنا كان ينتظر مين أن أنطق وفعال‬
‫نطقت ويف نربتي شيء من الغضب احلذر‬
‫‪ -‬يا والدي ملاذا تريدني أن أمسعك الشريط ألف مرة ومرة‪ ..‬أنت‬
‫تعرف كل املالبسات اليت أحاطت بدراسيت‪ ..‬ثم هاهو منري متخرج من‬
‫اجلامعة ماذا فعل بالشهادة اليت حيملها؟ ال يكاد يكسب قوت يومه‪ ..‬وهاهو‬
‫امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ اشكال الدابة ال حيسن أن يرسم الواو األعور يعيش كامللك‪..‬‬
‫عصر املادة يا والدي قيمتك قدر مامتلك من مال ال ما متلك من علم وال من‬
‫خلق‪.‬‬
‫تغريت مالمح والدي وغدا وجهه أسود كظيما من سوء ما مسع‪ ..‬فماذا‬
‫لو يعرف أنين قصدت احلمام ألعمل دالكا؟ وأنين وجدت امْحَمَّدْ اللعني؟‬
‫وأنه طلب مين أن أغسل مذاكريه؟ وأنين خرجت دون أن أنطق؟ لو علم‬
‫ذلك اآلن المتص دمي‪ ..‬لكنين سأمتص دم امْحَمَّدْ‪ ..‬سأجلسه على قارورة‬
‫مكسرة الفم‪.‬‬
‫وأراد منري أن يغري جمرى احلديث ويلطف من انفعال والدي فقال‪:‬‬
‫‪ -‬ياعمي صاحل جيب أن نتعامل مع واقع‪ ..‬مع شيء كائن ال مع ماكان‪..‬‬
‫جيب علينا أن نقاوم إىل آخر رمق من حياتنا‪ ..‬فإذا ما متنا جيب أن منوت‬
‫واقفني‪ ..‬كاألشجار جيب أن منوت واقفني‪ ..‬لقد علمتين أن النسر حني يشعر‬
‫بنهايته يطري‪ ..‬حيلق‪ ..‬يرتفع يف السماء ويستمر حملقا حتى يصل إىل آخر نقطة‬
‫يستطيع ثم خيتار أعلى قمة ويهوي فوقها ليلقى حتفه‪.‬‬
‫سكتنا مجيعا‪ ..‬قلت يف نفسي إيـه ياوليدي منري هذا النسر الذي كنت‬
‫تعرفه شاخ‪ ..‬وهرم‪ ..‬وتعاورته سهام احلياة‪ ..‬وقصت الكالب جناحيه فبماذا‬
‫يطري؟ إنه ميوت يف جحره كالفأر‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫‪4‬‬

‫قراصنة األحالم‬

‫‪1‬‬
‫دخان ونار يكادان ينبعثان من عجالت السيارة الفاخرة وهي تبتلع‬
‫الطريق غري آبهة مبن أمامها من اخللق والسيارات‪ ..‬تصعق بشدة باصقة‬
‫على اجلميع يف غري مباالة‪ ..‬دارت فجأة وسكنت حركتها فجأة كأمنا قُبضت‬
‫روحها‪..‬‬
‫نزلت وأنا أصفع الباب‪ ..‬أعدو يف جنون‪ ..‬أدخل بوابة املشفى‪ ..‬مل أبال‬
‫باستفسار البواب وأنا أدوس كلَّ الكلمات اليت قاهلا‪ ..‬دخلت‪ ..‬عربت‬
‫الباب‪ ..‬اجتهت مباشرة إىل قسم اإلنعاش‪ ..‬مل يعرتضين أحد حتى وجدت‬
‫نفسي وجها لوجه معها‪.‬‬
‫كانت سيدة النساء مجيعا‪..‬‬
‫وسيدة احلسن واجلمال‪..‬‬
‫مسراء‪ ..‬ممتلئة‪ ..‬مفتولة القوام‪..‬‬
‫يف عينيها كربياء صاحل العلواني‪..‬‬
‫آه‪ ..‬لو أحصل عليها‪ ..‬لو أمتلكها‪..‬‬
‫انتبهت إليها فجأة‪ ..‬أخرجتين من غيبوبيت‪ ..‬نظراتها ترميين بشواظ من‬
‫نار وحقد‪ ..‬انتبهت‪ ..‬ارتعش جسدي كأن تيارا كهربائيا مسه‪..‬‬
‫‪ -‬ما الذي جاء بك كالشيطان إىل هنا‪..‬‬
‫قلت وأنا أحس بالزمهرير يدهم كل عضو يف فأنكمش على نفسي‪:‬‬

‫‪88‬‬
‫‪ -‬أعيد الشريط للمرة األلف‪ ..‬أطلب دفئك يا روحي‪ ..‬ياقليب‪..‬‬
‫يامبتغاي‪ ..‬ياسيدتي‪.‬‬
‫زوت بني عينيها كأمنا تهم أن تطلق من فوهتيهما رصاصتني قاتلتني‬
‫وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬لقد حسمت يف األمر ألف مرة الطيبون للطيبات‬
‫وخشيت أن تكمل فتقول كما تعودت‪ :‬وأنت خبيث ال تليق بك إال‬
‫خبيثة‪ ..‬أو تقول كما تعودت‪ :‬أما تستحي من شيبتك فتطلب يد ابنتك؟‬
‫فأسرعت قائال‪:‬‬
‫‪ -‬احلب ياجازييت ال يعرف السن‪ ..‬لقد قصدت أباك وفاحتته يف األمر‪.‬‬
‫ومل أكمل حديثي حتى قفَزت مذعورة وغلّقت دونها الباب‪ ..‬مل أشأ أن‬
‫أبرح املكان‪ ..‬بقيت أغدو وأروح يف الدهليز مرددا‪:‬‬
‫‪ -‬تنعشني قلوب الغرباء وتدعني قليب يلفظ أنفاسه؟ لن تربد مجراته‬
‫حتى أطأك كالفحل‪ ..‬وأوقّع بك صك انتصاري على أبيك األفعى‪..‬‬
‫وتالعبت أمامي الساعةَ صورة جثة والدي ملطخة بدمائها كاخلروف‪..‬‬
‫ومظاهر تعذيب أهل القرية بعد تلك اجملزرة الرهيبة اليت كان من ضحيتها‬
‫ابنا عم صاحل‪..‬‬
‫ياصاحل انتظرني أنا قادم‪ ..‬لن يطوينا الثرى حتى أبول عليك وعلى كل‬
‫من على شاكلتك‪..‬‬
‫وخرجت أجر أذيال اخليبة‪ ..‬بت تلك الليلة سهران‪ ..‬وشربت كل ما‬
‫محلت معي من اخلمر‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫كنت مع عبدالرحيم قريبا من املقهى حني مرت بنا عبله أو احللوة كما‬

‫‪89‬‬
‫حيلو لسكان حارة احلفرة أن يسموها‪..‬‬
‫بضة كانت كأمنا هي منحوتة من املرمر‪..‬‬
‫يتهدل شعرها اخلروبي يف كربياء وغنج على كتفيها مفتوال ملتويا‪..‬‬
‫وجهها استدار وامتأل كقمر يرتبع على عرش الغسق‪..‬‬
‫ختتال يف مشيتها‪..‬‬
‫تضرب قدميها على األرض املرتبة يف زهو شديد‪..‬‬
‫صمت اجلميع يف املقهى وتسمر الذين كانوا يستندون اجلدار‪ ..‬نقّلتُ‬
‫الطرف بني اجلميع سريعا وعدت أرتوي من فيض مجاهلا ابتلعت ريقي‬
‫وقلت بصوت خافت‬
‫‪ -‬عبد الرحيم‪.‬‬
‫‪ -‬اشششت‪.‬‬
‫رد بصوت خافت دون أن حيول بصره عنها‬
‫‪ -‬عبدالرحيم‪ ..‬عبدالرحيم‪.‬‬
‫مل يرد بكلمة واحدة هذه املرة بل راح يتابعها بعينيه وهي تنتهي إىل‬
‫املغيب‬
‫وتالشى السناء الذي أشرق يف الشارع بأكمله فبُعث اجلميع إىل احلياة‬
‫ودبت بينهم احلركة من جديد‬
‫يف عبدالرحيم وقال‪:‬‬
‫نظر َّ‬
‫‪ -‬ياصاحيب اجلميع كان ميارس طقوس العبادة إلهلة اجلمال وأنت‬
‫تتحدث؟‬
‫ومل أجد ما أقول سوى أن أوافقه على رأيه بصميت‪..‬‬
‫تستحق فعال أن تكون هذه احللوة إهلة للجمال واحلسن والفتنة‬

‫‪90‬‬
‫هي اآلن مل تتخط الثامنة عشر من عمرها وحني تتفتح أكمامها يف‬
‫ربيع عمرها هل تستوي على عرش أكرب من عرش إهلة اجلمال؟‬
‫تنهد عبدالرحيم من أعماقه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حمظوظ من يتزوج هذه األفعى‪ ..‬طلق إبراهيم جحا أمها وهي‬
‫صغرية واختفت أمها بعد ذلك من الوجود متاما‪ ..‬ميتة هي اآلن أم متزوجة‬
‫يف جهة أخرى من أرض اهلل الواسعة؟ ال أحد يدري‪ ..‬حتى احللوة ال‬
‫تدري‪..‬‬
‫حني تزوج إبراهيم زوجته الثانية أوقف احللوة عن مواصلة دراستها‬
‫وهي بعد يف االبتدائي‪ ..‬جيب أن تساعد زوجة أبيها يف إعداد الفطائر‬
‫والشاي‪ ..‬ثم هي أصبحت حمط معاكسات الشباب‪ ..‬لكن إبراهيم مل‬
‫يستطع أن يواصل فرض سيطرته على احللوة إذ ما فتئت أن كسرت ذلك‬
‫الطوق عليها وأصبحت تأخذ زينتها وخترج متى شاءت متنقلة بني‬
‫احلمامات واحلالقات واألعراس‪ ..‬وكثر احلديث عنها حقا وباطال‪ ..‬بل‬
‫ورآها البعض تركب السيارات الفخمة مع الغرباء…‬
‫والحظتُ أن عبدالرحيم قد حتدث أكثر من الالزم فقاطعته قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ياعبدالرحيم ما قلته أعرفه لكن الذي حريني هو كثرة كالمك‬
‫اليوم وعهدي بك غري ذلك‪.‬‬
‫تبسم عبدالرحيم وقال‪:‬‬
‫‪ -‬يامنري ياأُخيَّ هذه األفعى تُنطق احلجر األصم فال تلمين‪ ..‬لو كنت‬
‫غنيا الشرتيتها من إبراهيم جحا بوزنها ذهبا‪..‬‬
‫وسكت زافرا ثم واصل حبسرة‬
‫‪ -‬لكن اهلل غالب‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫تنهد وسكت يتجرع حسرته مرارة فقلت‪:‬‬
‫‪ -‬إيـه يا صاحيب من عاند السماء أصابه العمى‪ ..‬لو مسع عمي صاحل‬
‫حبلمك هذا ألهدر دمك هو على عقيدة سيدي عبدالرمحن اجملذوب‬
‫"ال يعجبك نوار الدفلى يف الوادْ دايَ ْر ظْاليل‬
‫ف لَفعايل"‬
‫وال يغرك ِزين الطُفلَه حتى اتْشو ْ‬
‫نظر إلي غري مبال مبا قلت‪ ..‬تأملين مليا وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لو كانت تبالي بي لرحلت وراءها إىل آخر الدنيا ال أبالي بأحد‬
‫ولكن اهلل غالب‬
‫وتنهد من األعماق كأمنا حيمل هما عظيما‪ ..‬وتذكرت يف هذه اللحظة‬
‫ثالثة من شعرائنا الكبار دار يف خلدي أن أروي له ما قالوه وما وقع هلم‬
‫ولكين بقيت صامتا حتى فاجأني بقوله‪:‬‬
‫‪ -‬مالي أراك ساكتا؟‬
‫فاندفعت متحمسا‪:‬‬
‫‪ -‬امسع مايقول األمري عبدالقادر‬
‫وأرعـاه وال يرعــــى ودادي‬ ‫أقاسي احلب من قاسي الفؤاد‬
‫بهجـر أو بصــــد أو بعاد‬ ‫أريد حياتــــها وتريـد قتــلي‬
‫وأسهر وهي يف طيب الرقاد‬ ‫وأبكيها فتضحك مِـلء فيــها‬
‫وعيناها تعـمى عن مــرادي‬ ‫وتعمــــى مقلـيت إمَّا تنــاءت‬
‫وأبذل مهجيت يف لثـم فِيـها فتمنعين وأرجـع منـه صاد‬
‫وظهرت عليه عالمات الدهشة فقال‪:‬‬
‫‪ -‬هذا كله يصدر من األمري العامل الصويف اجملاهد‪ ..‬كأنه يعشق احللوة‬
‫تبسمت وقلت‪:‬‬

‫‪92‬‬
‫‪ -‬يقول الدارسون أن شعره الغزلي موجه إىل زوجته‪ ..‬ولكن املتذوق‬
‫للشعر يدرك أن األمري كان غارقا يف حبر احلب‪ ..‬ولعله مل جيرؤ فقط على‬
‫ذكر حبيبته خوفا على مكانته‪ ..‬أمل يقل أوسكار وايلد خلقت املرأة لتثري‬
‫فينا الرغبة لتحقيق الروائع‪.‬‬
‫يف الوقت الذي غرق فيه عبدالرحيم يف يم الدهشة تركته حيث هو‬
‫ورحت ابتعد عنه‪ ..‬كانت نانَّا تلح يف احلضور على ذهين وهي تضمين‬
‫حتت شاهلا األبيض فرخا مل يكسه إال الزغب وتعرب الشارع الفاغر فاه إىل‬
‫مدرسة احلي‪..‬‬
‫عند البوابة تطلق سراحي‪..‬‬
‫أتعلق برقبتها لكن أصابعي الصغرية ال متسك غري اخلُمْسَة الفضية‬
‫تضعها على صدرها تشد بها جناحي الشال وتنحين فرتسم بشفتيها‬
‫العذبتني على خدي باقة للحب الدافئ‪ ..‬تشيعين بنظراتها وأنا أمسك بيد‬
‫حسناء وندخل معا إىل الساحة ثم إىل القسم‪.‬‬
‫حني يغرق املعلم يف حبر الدرس وتطويه أمواج الشرح ال ترتاءى لي‬
‫منه إال يداه النحيفتان ترتفعان وتنزالن كذراعي غريق وأكون أنا مع ذياب‬
‫نرتبص باألعداء وحنتال على لقاء دافئ مع اجلازيه بعيدا عن العيون‪..‬‬
‫أعود إىل جو الدرس منتبها على إثر صياح حسناء يف القسم وهي تكاد‬
‫تلمس املعلم رافعة إصبعها النحيف‪ ..‬سيدي‪ ..‬سيدي‪ ..‬سيدي‪..‬‬

‫‪3‬‬
‫ويف صباح الغد مل يذهب إبراهيم كعادته إىل املدينة بائعا للشاي والفطائر‬
‫ولكنه كان يتنقل يف احلارة سائال كل من خيرج من منزله عن احللوة‪ ..‬وانتشر‬
‫بسرعة نبأ هذا االختفاء وغدا حديث اجلميع يلوكونه‪ ..‬ميططونه‪ ..‬يشكلونه‬

‫‪93‬‬
‫كيفما شاءوا وأرادوا‪ ..‬وكانت العجوز عُكة أكثر اجلميع حركة رغم التهاب‬
‫مفاصلها احلاد وهذه عادتها حني ينتشر خرب مثل هذا‪ ..‬تطوف باألفواه‪..‬‬
‫تستنطقها‪ ..‬جتمع من عندها االحتماالت مجيعا ثم تنمقها وتضيف عليها شيئا‬
‫من التوابل لتخرجها يف أحسن حلة‪..‬‬
‫التصقت باألرض وسط احلارة وقد جتمع حوهلا نفر من السكان‪..‬‬
‫كنت يف عجلة من أمري‪ ..‬أبصرتين من فتحة تركتها يف الطوق الذي‬
‫ضربه حوهلا النفر فارتفع صوتها املبحوح تناديين‪ ..‬قلت يف نفسي‪ :‬وقعنا‬
‫ورب الكعبة‪ ..‬سألتين مباشرة وأنا أصل‪:‬‬
‫‪ -‬إىل أين بهذه العجلة؟‬
‫رفعت إليها بصري واندفعت مواصال‪ ..‬رمتين بشواظ مبحوح من‬
‫فمها وهي تقهقه‬
‫‪ -‬الدنيا فانية يا ولدي مازلت صغريا وستلهث طويال‬
‫وضحك اجلميع فأحسست بالتضايق الشديد ولكين واصلت سريي‬
‫فواصلت حديثها‬
‫‪ -‬كل عطلة فيها خري‪..‬أمل تسمع باحللوة‪..‬؟لقد خطفها امْحَمَّدْ‬
‫امْلَمَّدْ وافتـ…‬
‫كنت قد ابتعدت أكثر من الالزم‪ ..‬ومل تعد كلماتها املبحوحة املمزوجة‬
‫بقهقهات الفتيان تصلين‪ ..‬لكين توقفت فجأة كتمثال حجري ورحت أعيد‬
‫شريط ما مسعته من العجوز عُكة‪ ..‬إنها تشتم األخبار ككلب الصيد‬
‫املدرب املاهر‪ ..‬هل حقا ما قالت؟ تلك كارثة‪ ..‬إذن كارثة ال حتتمل‪ ..‬ماذا‬
‫بقي حلارة احلفرة وناسها البسطاء غري أن تنتهك حرماتهم؟ يف اجملتمعات‬
‫الفقرية يتآزر أولو األمر والنهي مع األغنياء على ابتزاز الفقراء‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫حني انعطفت التقيت بصاحل‪ ..‬أخربته باألمر‪ ..‬حتسر كثريا وقال‪:‬‬
‫‪ -‬واحسرتاه خنزير التهم وردة‪ ..‬إن كان فعلها حقا يستحق الذبح‪.‬‬
‫وصمت فلم يزد كلمة واحدة‪ ..‬وافرتقنا أمَّمَ هو وجهه إىل منزله‪..‬‬
‫وقصدت أنا املكتبة‪ ..‬وقد عادت بي الذكرى أليام الطفولة الرائعة‬
‫بروعة نانَّا‪..‬‬
‫َنـ‬
‫ا‬
‫نـَّ‬
‫ا‬
‫آهٍ يادفء نـانــّا‪..‬‬
‫ياعش نــانـــّا‪..‬‬
‫ياحضنــــها‪..‬‬
‫ياصدرهـــــــا‪.....‬‬
‫وكان اجلو باردا‪ ..‬القر ثعبان يتسلل عرب اجلدران‪ ..‬ينزع األغطية‪ ..‬خيرتق‬
‫اللحم‪ ..‬يلسع العظم‪ ..‬احلطب البلوطي يلتهب‪ ..‬تطقطق ناره‪ ..‬ختبو شيئا‬
‫فشيئا‪ ..‬ينام اجلميع‪ ..‬وحده اجلمر األمحر يبقى مستيقظا حيرسنا‪ ..‬أتأمله بعيين‬
‫الصغريتني‪ ..‬أخاف أن يقهره ثعبان القر‪..‬‬
‫جتذبين نانَّا إىل صدرها أنسى القر والصر‪ ..‬من ياوليدي يف هضابنا‬
‫العالية نقول‪ :‬من حتبه أمه تكسوه يف الربيع ألن برده اليقاوم‪..‬‬
‫نانَّا منذ أن انتهت احلرب ونزلت مظفرة من اجلبل تاركة زوجها هناك‬
‫شهيدا مل تتزوج‪ ..‬وإمنا نذرت نفسها لرتبييت أنا ابن الشهيد الذي شاء‬
‫القدر أن حتضنه وهو رضيع يف اجلبل دون سابق قرابة بيننا‪..‬‬

‫‪95‬‬
‫كانت حتدثين عن اجلميع‪ ..‬عن بطوالتهم وتضحياتهم إال عن نفسها‪..‬‬
‫كانت تقول لي وهي تتفقد كل ركن يف البيت‪:..‬‬
‫الشهداء يُقتلون ولكنهم ال ميوتون‪..‬‬
‫إنهم أحياء بيننا يرزقون‪..‬‬
‫عيوننا قاصرة عن رؤيتهم‪..‬‬
‫ثم تقطع كالمها‪ ..‬وتظل حتدق يف كل مكان‪ ..‬من الباب‪ ..‬من النافذة‪..‬‬
‫إىل السماء‪ ..‬إىل السقف‪ ..‬يف كل زاوية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫عاد إبراهيم جحا من مركز الشرطة حزينا كئيبا‪ ..‬وهو الذي كان دوما‬
‫ميسح عن جفون حارة احلفرة أتراحها وأحزانها‪ ..‬ويزرع على شفتيها زهور‬
‫االبتسامة والفرحة‪ ..‬حتى قيل إنه يضحك املوتى‪..‬‬
‫منذ يومني اغتال الوحش الفرحة يف قلب إبراهيم‪ ..‬حبث النهار كله‬
‫ومعه كل أبناء احلارة‪ ..‬سألوا كل الناس‪ ..‬تفقدوا كل األماكن وانتظر طول‬
‫الليل‪ ..‬اختفاء احللوة يعين بالنسبة إليه خيانة ثانية لزوجته األوىل اليت‬
‫أحبها جبنون وضيعها جبنون‪ ..‬كان يريدها أن تينع أمام عينيه حماطة خبفقات‬
‫قلبه الدافئة‪ ..‬ويرد إليها شيئا مما سلبه منها ومن أمها‪..‬‬
‫احللوة بالنسبة لسكان حارة احلفرة الشمس اليت يتيهون بها أمام أبناء‬
‫األحياء الراقية‪ ..‬حتى إذا افتخروا عليهم مبا عندهم من مرافق قالوا بتعال‪:‬‬
‫وهل عندكم مثل احللوة؟ وحني خترج يف الصباح يقفون مجيعا حييونها‬
‫ويشيعونها‪ ..‬حتى إذا ابتعدت جعلوها حديث جمالسهم‪ ..‬وهم حني يتحدثون‬
‫عن مجاهلا يصفون كل جزء فيها‪ ..‬وجهها مشس‪ ..‬شعرها حرير‪ ..‬فمها خامت‪..‬‬
‫أصابعها ذهب‪ ..‬ساقاها جوهر‪ ..‬وال جيدون نظريا هلا يف اجلمال إال اجلازيه ابنة‬

‫‪96‬‬
‫صاحل‪ ..‬وملا كانت مسراء اللون كانوا يسمونها األمرية السمراء‪ ..‬وهكذا فحارة‬
‫احلفرة تضم األمريتني معا الشقراء والسمراء‪ ..‬وكنت أحس ما بينهما من‬
‫غرية تظهر يف تنافرهما واغتياب بعضهما البعض‪.‬‬
‫مل يكن إبراهيم راضيا عن تبليغ الشرطة بأمر اختفاء احللوة إلميانه أن‬
‫الفأس قد وقعت يف الرأس وال معنى للتبليغ اآلن‬
‫عاد إىل احلارة مل يشأ أن يدخل املنزل‪ ..‬بقي يتكئ على جدار ترابي‬
‫متهرئ يقام سرتا لباب غرفة العجوز عكة‪ ..‬حلقتُ به‪ ..‬كان شعر وجهه قد‬
‫حتول إىل ليل يظاهر سواده غبش احلزن يف إخفاء امحرار الوجه‪ ..‬كان الناس‬
‫ينظرون إليه حزانى وال جيرؤون على االقرتاب منه ماداموا ال يقدرون على‬
‫تقديم يد العون‪ ..‬اقرتبت منه وإىل جواره وقفت صامتا‪ ..‬جتمد يفَّ كل‬
‫شيء‪ ..‬كسر هو الصمت وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ضاقت بي الدنيا يامنري‪ ..‬مل يبق لنا إال شرفنا وهاهو يضيع‬
‫مل أجد القدرة للتعقيب على كالمه فسكت‪ ..‬كنت أتفرس يف اجلدران‬
‫والطرقات واألبواب والنوافذ كلها كانت حزينة تلعن صمتنا وخذالننا‬
‫يف املساء دبت حركة غري عادية وخرج الناس مجيعا‪ ..‬حتى الصغار‪..‬‬
‫حتى النساء كانوا يستبشرون بعودة احللوة‪ ..‬جتمع خلق كبري قرب منزل‬
‫إبراهيم حييطون به وكثر لغطهم وصخبهم‪ ..‬يعلو عليهم مجيعا صياح‬
‫عَزُّوزْ الدود فرحا‪ ..‬شققت اجلمع‪ ..‬رأيت إبراهيم وقد بدأ وجهه يشرق‬
‫حياول أن يسكتهم ليسمع من أحدهم فلم يقدر‪ ..‬حني رآني ارمتى يف‬
‫حضين وهو يصيح بي‪:‬‬
‫‪ -‬لقد رجعت احللوة يامنري‪ ..‬رجعت‬
‫وأردفه عَزُّو ْز الدود كأنه صداه‬

‫‪97‬‬
‫‪ -‬لقد رجعت احللوة يامنري‪ ..‬رجعت‬
‫ومل يرتكين إبراهيم أستفسر عن األمر فواصل‬
‫‪ -‬لقد شاهدوها تدخل قسم الشرطة‬
‫ومل يكد يكمل كالمه حتى اندفعت مهروال واندفع إبراهيم خلفي‪..‬‬
‫اجتهنا مباشرة إىل مركز الشرطة ويف الطريق مل يكلم أحدنا اآلخر‪ ..‬كانت‬
‫تتصارعين شكوك وظنون‪ ..‬وتعصف برأسي هواجس‪ ..‬هل حقا عادت‬
‫احللوة؟ وملاذا ذهبت إىل مركز الشرطة؟‬
‫وتذكرت ما قالته لي العجوز عكة منذ يومني‪ ..‬وهي ال ميكن أن‬
‫تكون إال صادقة‪ ..‬إنها اهلدهد العجيب كما يسميها أهل احلارة‪ ..‬إن كان ما‬
‫قالت حقا فتلك الطامة‪.‬‬
‫حني خرجنا من مركز الشرطة كان هتاف أبناء حارة احلفرة يرتفع‬
‫عاليا‪:‬‬
‫احللوة احللوة…‬
‫احللوة احللوة…‬
‫احللوة احللوة…‬
‫وفجأة صمتوا كأنهم آالت قطعت عنها الكهرباء‪ ..‬وعبست وجوههم‬
‫حني رأوا على وجهينا مالمح احلزن واألسى‪ ..‬سرت أنا وإبراهيم عائدين‬
‫إىل احلارة دون أن ننطق رغم إحلاح املتجمهرين على معرفة احلقيقة‪ ..‬لكن‬
‫ال أنا وال إبراهيم استطاع النطق باحلقيقة املرة‪.‬‬
‫جلس إبراهيم قرب منزله وجتمهر الناس قريبا منه يتهامسون دون أن‬
‫جيرؤوا على معرفة اليقني منه‪ ..‬تركت املشهد كما هو وانسحبت عائدا‬
‫إىل البيت‪ ..‬مل يلحق بي أحد‪ ..‬رمبا مل يكونوا يرغبون يف معرفة احلقيقة‪..‬‬

‫‪98‬‬
‫ولعل يف أذهانهم اآلن عشرات االحتماالت يفضلونها أن تبقى مجيعا على‬
‫أن ترسوا عقوهلم على فاجعة‪.‬‬
‫حني وصلت الباب حملت عمي صاحل مقبال من بعيد‪ ..‬لقد رجع اآلن‬
‫من سفره‪ ..‬هو ال يعرف احلقيقة لقد سافر إىل العاصمة منذ أربعة أيام‬
‫لزيارة زوجته اليت مازالت متكث يف املشفى يف حالة من الغيبوبة‪ ..‬مل تنجح‬
‫العملية اجلراحية اليت أجريت هلا‪.‬‬
‫كانت على وجهه عالئم احلزن والتعب‪ ..‬قبلته على كتفه األيسر‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪ -‬على سالمتك يا عمي صاحل‪ ..‬كيف حال أمَّا عرجونه‪.‬‬
‫رد سريعا ‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي وقع للرومية؟‬
‫اندهشت هلذا السؤال‪ ..‬من أين عرف هذا العجوز بهذا األمر وهو‬
‫مسافر منذ أربعة أيام كاملة؟ مل أشأ أن أسأله عن ذلك ولكين رددت‬
‫مكسور اهلامة‪:‬‬
‫‪ -‬لقد ظهرت وهي اآلن عند الشرطة ومل يسمحوا بإطالق‬
‫سراحها حتى الغد‪.‬‬
‫حبلق يف عمي صاحل بعينني متعبتني وقال‪:‬‬
‫‪ -‬خيافون عليها! مِمَّاذا؟‬
‫وجترأت فأخربته أن احللوة وقعت يف شراك امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ الذي‬
‫اقتادها كالفريسة واغتصب شرفها‪ ..‬وما إن أشبع غريزته احليوانية حتى‬
‫أطلق سراحها‪ ..‬وحني ذهبت إىل الشرطة لتبلغ أبقوها عندهم خوفا‬
‫عليها من أبيها‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫وصاح يفَّ الشيخ صاحل وهو يدفعين بعيدا‪:‬‬
‫‪ -‬ديايثة لو كنتم رجاال ما اُعتدي على شرفكم‬
‫وانطلق كالبعري يرغي كأنه مل يعد من سفره متعبا‪.‬‬
‫دخلت الدار وأنا خائر القوى‪ ..‬مل أكن أقدر على النطق بكلمة واحدة‪..‬‬
‫كنت غارقا بكل حواسي يف مستنقع احلزن‪ ..‬كيف جيرؤ إنسان على‬
‫اختطاف محامة مكسورة اجلناح كاحللوة مل تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها؟‬
‫إنها جرمية بل جرائم‪ ..‬خطف وحجز واغتصاب قد تكون عقوبتها‬
‫اإلعدام‪.‬‬
‫يف الغد جاءت الشرطة إىل احلي لتحقق يف األمر‪ ..‬استقبلها الناس‬
‫بربودة تامة‪ ..‬كان بعضهم يصرخ ال نريد حتقيقا‪ ..‬نريد أن نقتله وكفى‪..‬‬
‫وحاولوا أن يأخذوا معهم إبراهيم املنهار لكنه رفض‪ ..‬وحني حاولوا‬
‫إرغامه تدخل عمي صاحل ثائرا‪:‬‬
‫‪ -‬كل ما نطلبه منكم أن ال تتدخلوا‪ ..‬أطلقوا سراح احللوة ودعوا‬
‫األمر بيننا وبني امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ‪ ..‬حنن ال نريد أن حناكمه‪ ..‬نريد فقط أن‬
‫نذحبه كالبعري وكفى‪.‬‬
‫وفتح الشرطي على اجلميع صواعق ماحقة حني أخربهم أنهم أطلقوا‬
‫سراح احللوة هذا الصباح فكيف يطلب منهم إطالق سراحها اآلن‪.‬‬
‫وقع النبأ على اجلميع كالصاعقة املاحقة وحبلقوا يف وجوه بعضهم‬
‫البعض‪ ..‬لقد حتولوا يف حلظة إىل آالت جامدة ال تتحرك فيها إال العيون‪..‬‬
‫ثم بدأوا ينسحبون الواحد تلو اآلخر متفرقني على الزوايا واجلدران‪..‬‬
‫عوى عَزُّوزْ الدود كالذئب اجلريح وسقط كاجلدار على األرض متمرغا‪..‬‬
‫تهاوى إبراهيم إىل األرض كان وجهه ممتقعا تكسوه حلية كثة‪ ..‬انسحب‬

‫‪100‬‬
‫رجال الشرطة عائدين مل يبق واقفا إال عمي صاحل بقامته املديدة ووجهه‬
‫النحيف وعينيه الالمعتني يصيح كأمنا فقد صوابه يرمي بكلمات ومجل‬
‫غري مرتبة‪ ..‬فيها سباب مقذع فاحش‪ ..‬ومل يبال اجلميع مِن حوله‪ ..‬كانوا‬
‫يعرفون جيدا عمي صاحل وماذا يفعل ويقول حني يتربكن‪.‬‬
‫كنت أنظر إليه‪ ..‬هذا اإلنسان الذي يكاد حيرقه القلق لقد أصبح كفرع‬
‫شجرة رقيق طويل حمرتق وطاف بذهين قول املتنيب‪:‬‬
‫كفى بي حنوال أنين رجل * لو مل أكلمـك مل ترني‬
‫ومنذ ذلك اليوم مل تظهر احللوة ومل يرها أحد يف احلارة وال يف املدينة‬
‫كلها‪ ..‬لعلها فرت بآالمها إىل مكان بعيد حيث ال نراها وال حتاصرها‬
‫عيوننا املتلصصة‪ ..‬أو رمبا انتحرت يف هاوية سحيقة وهوى معها سرها إىل‬
‫األبد‪ ..‬ورمبا اختطفت وقتلت رمبا‪ ..‬رمبا‪..‬‬
‫ومنذ ذلك اليوم انتهى إبراهيم جحا من احلياة‪ ..‬حتول إىل كتلة من‬
‫اللحم تسعى يف بيع الشاي‪ ..‬دون ابتسامة‪ ..‬دون نكتة‪ ..‬دون نكهة‪ ..‬دون‬
‫فرح‪ ..‬لقد أثقلته األقراص املهدئة فمال جسمه النحيف إىل البدانة‪ ..‬وبرز‬
‫خداه‪ ..‬وتبلد حسه‪ ..‬جيلس إىل جانبك ال يكلمك بكلمة واحدة‪ ..‬وتسأله‬
‫فال يكاد يرد إال مضطربا متأتئا ثقيال‪.‬‬
‫وحتولت احلارة إىل سجن كبري‪ ..‬زنزانة مرعبة يفر منها قاطنوها نهارا‬
‫وال يعودون إليها إال والليل احلالك يسرت كآبتها‪ ..‬جدرانها الشهباء‪..‬‬
‫أزقتها احملفرة‪ ..‬أبوابها الواطئة ‪.‬‬
‫أما امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ فقد حكم عليه بالرباءة بعد أن أثبت بعشرات‬
‫الشهود من ذوي السلطان أنه كان يف أماكن معينة طيلة األيام اليت وقع‬
‫فيها انتهاك حرمة احللوة‪ ..‬هذا زمان‬

‫‪101‬‬
‫نعيب زماننا والعيب فينا ** وما يف زماننا عيب سوانا‬
‫إيـــ ٍه يـا زمـان نـان ّـا‪! !..‬‬
‫حني فتحت عيين على عيون الصباح مل أجد نانَّا قريبا مين لكين وجدت‬
‫البيت مشرقا بالدفء والعبق‪ ..‬خرجت من حتت الغطاء‪ ..‬وحدها نانَّا‬
‫جتلس أمام اجلمر تدفئه‪ ..‬تنصب فوقه الطاجن‪ ..‬تنضج أشكاال من اخلبز‪..‬‬
‫وصلتين رائحته الزكية العطرة‪..‬‬
‫اقرتبت منها فجأة‪ ..‬القصعة اخلشبية مألى بالعجني والغرس‬
‫والبيض‪ ..‬جلست جبوارها‪..‬‬
‫‪ -‬اليوم يوم الربيع‪ ..‬اشرتيت لوليدي قفة الربيع الصغرية‪ ..‬سأمألها‬
‫لك حلوى وبرتقاال وامربجة وقرص الربيع‪..‬‬
‫مل أعلق‪ ..‬اقرتبت منها‪ ..‬شيء واحد أحتاجه‪ ..‬دفء نانا‪ ..‬مألت لي‬
‫‪4‬‬
‫الفنجان حليبا‪ ..‬أعطتين قطعة امربجة‬
‫رحت ألتهمها على مهل وراحت نانَّا تُعد قفيت الصغرية وتقول‪:‬‬
‫‪ -‬سنصعد اجلبل يا وليدي‪..‬‬
‫لن نبلغ قمته‪..‬‬
‫مل يعد من يقدر على ذلك اآلن‪..‬‬
‫القمم للذين ذهبوا‪..‬‬
‫سنجلس عند السفح‪ ..‬وستلعب مع األطفال‪ ..‬وتفاخرهم مبا حتمل معك‪..‬‬
‫جه وقرص‬
‫امتألت القفة حلوى وشيكوالطة وبرتقاال وقطعة امَْب ْر َ‬
‫ربيع‪ ..‬قرص دائري صغري مطلي بصفار البيض له نتوءات حول حميطه‪..‬‬
‫إنه مشسنا الصغرية‪..‬‬

‫‪ -4‬شيء من الغرس (الرَّطب املعجون) بني طبقتني من مسيد‪ ..‬معينية الشكل‪..‬‬

‫‪102‬‬
‫خرجنا زرافات من األحياء املوبوءة حنو سفح اجلبل حنمل قففنا‬
‫وأحالمنا‪ ..‬ننثر أفراحنا وحنن نغين‬
‫آرْبِي ْع رَبْعاني‬
‫ل عا ْم َتلْقاني‬
‫ُك ْ‬
‫آنا َوخَيَّاني‬
‫ل الفُوقاني‪..‬‬
‫يف لَجَْب ْ‬
‫حني نبلغ السفح نلهو كالفراشات‪..‬‬
‫ندغدغ ثغور الزهر ونطارد احلشرات املستيقظة من سباتها الشتوي‬
‫دون أن نغيب حلظة عن عيين نانّا‪..‬‬
‫إيــ ٍه ياربيع الطفولة واحلب‪..‬‬
‫يـاربيع نَانَّا‬

‫‪5‬‬
‫كل شيء أمامي كان يوحي بالتقزز والغثيان‪ ..‬حتى رشفات القهوة‬
‫اليت مازالت جامثة كالوباء داخل الفنجان البارد‪ ..‬تعودت أن آتي بها من‬
‫املقهى إىل دكاني وأرتشف منها ببطء شديد‪ ..‬وتولدت لدي من ذلك عادة‬
‫قد تكون حسنة أو سيئة ال يهم فالناس على رأي املتنيب عبيد ما تعودوا‪..‬‬
‫أمل يقل لكل امرئ من دهره ما تعود؟‬
‫رمحك اهلل ياأبا الطيب كأننا نعيش عصرك أو كأنك مت ومل يذهب‬
‫معك عصرك‪ ..‬عصرك الذي داس كربياءك وأنفتك واغتال أحالمك‪..‬‬
‫مامعنى أن يعيش اإلنسان عظيما يف جمتمع قزم بليد‪ ..‬وكان عصرك ياأبا‬
‫الطيب أحسن من عصرنا كثريا‪ ..‬أنت وجدت يف عبقرية سيف الدولة‬
‫مسليا‪ ..‬كنت تراه رمزا لألمة اليت ماتت حني كان جيسد اإلباء العربي يف‬

‫‪103‬‬
‫أعظم صوره‪ ..‬أما حنن فليس لنا اآلن إال شهريارات حتكمنا على طول‬
‫اخلط‪ ..‬ال يصدق فيها إال قول األديب اجلزائري املسيلي ابن رشيق وهو‬
‫يصف حكامه يف نهاية القرن احلادي عشر‪:‬‬
‫ألقاب سلطنة يف غري موضعها * كالقط حيكي انتفاخا صولة األسد‬
‫السر يف تعاستنا هم هؤالء احلمقى اجلهلة الذين نصبوا أنفسهم أو‬
‫نُصبوا علينا كالوباء‪ ..‬وراحوا يعيثون يف األرض فسادا‪ ..‬قتلوا يف األمة‬
‫روحها وأزهقوا أحالمها وأفسدوا كل خري فيها‪ ..‬ودفعوها للتناحر والتنافر‬
‫والتنافس من أجل الباطـل‪ ..‬وهمشوا كل طاقاتها اجلميلة خوفا منها‪..‬‬
‫أمل يقل املتنيب الناس على دين ملوكها؟ أمل يرد يف احلديث الشريف إذا‬
‫أسند األمر إىل غري أهله فانتظر الساعة؟‬
‫ورفعت بصري ألقرأ نصا للكوكيب علقت هيكله على جدار املكتبة‬
‫بالبنط العريض‬
‫"العوام هم قوت املستبد‪ ..‬عليهم يصول ويطول‪ ..‬يأسرهم فيتهللون‬
‫لشوكته‪ ..‬ويهينهم فيثنون على رفعته‪ ..‬ويغري بعضهم على بعض‬
‫فيفتخرون بسياسته وإذا أسرف يف أمواهلم يقولون كرميا‪ ..‬وإذا قتل منهم‬
‫ومل ميثل يعتربونه رحيما"‬
‫وتذكرت البذرة األوىل يف احلكم العربي اليت بدأت تنبت يف الصحراء‬
‫العربية منذ قرون حني أعلن أبو بكر الصديق اخلليفة األول يف رعيته‬
‫مجيعا "إذا رأيتموني على باطل فقوموني‪ ..‬فيقول له عمر‪ :‬واهلل لو رأينا‬
‫فيك باطال لقومناك حبد سيوفنا فيفرح اخلليفة أن وجد يف شعبه من جيرؤ‬
‫على ذلك‪"..‬‬
‫وتذكرت هذه البذرة حينما قال عمر ألمري جنده يف مصر وهو يأمر‬

‫‪104‬‬
‫املصري الفالح الفقري بضرب ابنه‪" :‬متى استعبدمت الناس وقد ولدتهم‬
‫أمهاتهم أحرارا؟" ماأمجلها نظرية يف عالقة احلاكم بشعبه لو استمرت!‬
‫أما اآلن فقد خان اجلميع‪ ..‬وحده عمي صاحل مازالت تثور ثائرته‬
‫وهو يقول‪:‬‬
‫صدام رجل‪ ..‬وحده بقي رجال‪ ..‬الرجال عند العرب مخسة‪ ..‬فيصل وعبد‬
‫الناصر وبومدين وصدام واألسد‪ ..‬اجلميع حيسن بهم أن يلبسوا الفساتني‪..‬‬
‫صدام سريكع أمريكا واليهود وسيحرر القدس وفلسطني كلها‪ ..‬واهلل لو‬
‫يقبلين جنديا يف صفوفه ما تأخرت حلظة‪ ..‬اهلل غالب وجد نفسه حماطا بالنساء‬
‫وأشباه الرجال‬
‫وداهمتين سحابة كئيبة فارتشفت جرعة قهوة باردة وأنا أقول‪ :‬هل كان‬
‫بنو أمية لعنة على العرب‪..‬؟ هل كانوا وحشا مفرتسا اجتث كل أحالمنا‬
‫حني تبنوا الكسروية‪..‬؟ وقبل أن أكمل هذا الكالم حملتها قادمة من بعيد‪..‬‬
‫مل أرها منذ أيام‪ ..‬هذه الغزالة الشاردة كلما أمعنت فيها سهام الصياد‬
‫ازدادت كربياء ومجاال وفتنة‪ ..‬هذا هو اجلمال احلقيقي كما كانت تقول أُمَّا‬
‫عرجونه دائما ال يؤمن باملساحيق وال يؤمن باملآسـي‪ ..‬كلما مسته املأساة‬
‫ازداد تألقا وحتديا‪.‬‬
‫دخلت عليَّ املتجر مبتسمة فأشرقت جنباته‪ ..‬وخلت كل همومي‬
‫تلملم أطرافها وتهرب خارجة إىل غري رجعة‪ ..‬قلت مرحبا‪:‬‬
‫‪ -‬يامرحى بأخيت اليت مل تلدها أمي‬
‫ردت وهي تصافحين وتبتسم‬
‫‪ -‬ولكنها أرضعتك‪ ..‬حلمك الكثري هذا‪ ..‬عقلك املستنري هذا‪ ..‬بفضل‬
‫تلك املسكينة اليت حيبسها املرض فال تغادر الدار‪ ..‬تغتاهلا اآلالم كل حلظة‬

‫‪105‬‬
‫ألف مرة ومرة‪.‬‬
‫وسكتتْ‪.‬‬
‫وغشيتْ وجهها سحائب سود مركومة توارت خلفها عيناها‬
‫اجلوهرتان‪ ..‬وصفحة وجهها القمرية قلت يف نفسي وأنا أتأمل مجاهلا‬
‫الساحر لو مل ‪..................... ...........‬‬
‫ولعلها قالت ماقلت وحلمت مبا حلمت ماأسعدني واألقدار متنحين‬
‫هذه األخت الرائعة‪..‬‬
‫رفعت فيها عيين‪ ..‬مازالت تطرق عينيها كأمنا محم الدنيا مجيعا انصبت‬
‫عليها‪ ..‬أمسكتها من يدها أداعب أطراف أصابعها اللينة وأنا أقول‪:‬‬
‫‪ -‬ما بال حلوتي شردت عن واحيت؟‬
‫رفعت يفّ عينني اغرورقتا بالدموع وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬كل حظي سيئ يا منري‪ ..‬لو ضربت يف املاء العوج سيفي‪ ..‬فما‬
‫العمل؟ أمي مريضة‪ ..‬وأبي تعب‪ ..‬وعبدالرحيم كالقارب املهشم وسط‬
‫أمواج عاتية‪ ..‬أما أنا فأنت تعرف كل شيء يا منري‪.‬‬
‫وأردت أن أغري جمرى حديثها ألزيل عنها بعض الكدر‬
‫‪ -‬دعك من كل شيء يا اجلازيه‪ ..‬كل ما جيب أن تفكري فيه هو ذياب‬
‫فارسك العظيم‪.‬‬
‫ورفعت بالكلمة األَخرية صوتي ألبعث فيها شيئا من احلياة والتألق‬
‫وأبذر يف قلبها املثخن شيئا من الورود الفواحة العبقة‪..‬‬
‫‪ -‬أقرتح عليك أن ترسلي إليه رسالة مع محامة أو ‪..‬‬
‫واشتد ضحكي‬
‫‪ -‬أو يف عنق سلوقي‪..‬‬

‫‪106‬‬
‫وهجر ذياب قبيلة بين هالل وأقسم إن حلقه أحدهم أن يقتله لقد كره‬
‫تنافر قومه من أجل التفاهات‪ ..‬ووقع القوم يف هول شديد وكان البد من‬
‫االتصال بذياب ومن جيرؤ على محل الرسالة‪ ..‬وفكرت اجلازيه يف حيلة‬
‫حني جلأ إليها اجلميع صارخني‪:‬‬
‫‪ -‬ياويح ذياب‪..‬‬
‫البالد بعده خراب‬
‫واهتدت أخريا إىل إرسال رسالة يف عنق سلوقي‪ ..‬سلوقي وفِيّ ربَّاه‬
‫ذياب ودربه على كل األفعال‬
‫علقت اجلازيه الرسالة يف عنق السلوقي وأطلقته فاندفع يعدو باحثا‬
‫عنه‪ ..‬وحني لقيه أدرك ذياب أنها فعلة اجلازيه‪ ..‬فأخذ الرسالة وقرأها‬
‫وأدرك فورا أنها خبط اجلازيه وتدبريها فأسرع إلنقاذ قومه‪..‬‬
‫وكانت العرافة قد أنبأتهم أن ال منقذ هلم إال ذياب من شر عدو قاهر‬
‫يقتله فارس يلبس المه‬
‫يف وجهــه شامــه‬
‫واهلل لوال املالمـــه‬
‫لقلت ذياب فوق نْعامـه‬
‫لكين حملت أديم وجهها يكفهر دفعة واحدة وجتهش بالبكاء الالمتناهي‪..‬‬
‫مجدت مكاني‪ ..‬مل أحر جوابا‪ ..‬وال نبست بكلمة‪ ..‬بل ومل أحترك أصال‪ ..‬لقد‬
‫خدرت كل أحاسيسي‪ ..‬كنت أنتظر أن تتوقف حني تفجر بركانها ورأيتها‬
‫متد يدها املرجتفة إىل حقيبة يدها وخترج منها رسالة رمتها إلي‪ ..‬فضضتها‬
‫على عجل وقرأتها‪:‬‬
‫حبيبيت الغالية اجلازيه‪..‬‬

‫‪107‬‬
‫يادفقة احلياة يف قليب‪ ..‬ياكل الدفء الدافق يف شراييين‪ ..‬عشت العمر‬
‫كله أحلم بي طائرا يبين عشه يف جنباتك‪ ..‬يغرد يف أفيائك‪ ..‬يصدح يف‬
‫عليائك‪ ..‬يسبح يف أفالكك‪ ..‬يستحم يف عينيك البحريتني اهلادئتني‪..‬‬
‫وكنت أملي النفس بالعودة السريعة أللقاك‪ ..‬وألقى األحبة مجيعا فيك‪..‬‬
‫وأمليها بتعجيل كل ما أخرناه إىل اليوم‪..‬‬
‫جيب أن نعلن فرحنا يف اجلميع‪ ..‬لو وضع إخالص املخلصني كلهم يف‬
‫كفة ووضع إخالصي لك يف كفة لرجحت كفيت‪..‬‬
‫لكن يا حبيبيت الغالية‬
‫المناص لي من القدر‪ ..‬أعمالي يف الصحافة كثرية ومتعبة‪ ..‬وغدت‬
‫متثل لي كابوسا رهيبا‪ ..‬وال أخفي عليك لقد غدونا رغم كل الشجاعة‬
‫اليت منلك خناف حتى من خيالنا‪ ..‬إن املوت يرتبص بنا يف كل منعطف‪..‬‬
‫واإلرهاب األعمى يقف يف كل منعرج ديناغوال مفزعا‪.‬‬
‫ال أريد أن أقول لك أكثر مما قلت‪ ..‬إن التقينا فذاك أملي‪ ..‬وإن كانت‬
‫األخرى فإليك دفقة القلب اليت ال تتوقف و……‬
‫مل أستطع أن أكمل السطور اليت تبقت يف الرسالة‪ ..‬رميتها وقد‬
‫اكفهرت أعماقي وتلبدت ذاتي وأنا أحاول أن أمتالك نفسي‪.‬‬
‫استدرت أنا إىل اجلدار‪ ..‬اتكأت على طاولة كانت هناك‪ ..‬أي قدر هذا‬
‫الذي جيهد نفسه خلفي ليسرق مين كل ابتساماتي العذبة؟ كل حياتي جمرد‬
‫أحالم تغتاهلا الكوابيس املرعبة‪ ..‬ضيعت كل شيء‪ ..‬وهاأنذا أضيع حبل‬
‫النجاة األخري‪ ..‬سحقا لك أيتها احلياة‪ ..‬هل أنتظر كل هذه السنوات‬
‫العجاف ألنال جزاء صربي خيبة وفجيعة؟‬
‫وراحت ذاكرتي تتنقل بني كل الربوع اليت شهـدت صبانا وطفولتنا‪..‬‬

‫‪108‬‬
‫الدرب الطويل الطويل املمتلئ وحال وبركا يف الشتاء القاسي واملمتلئ غبارا‬
‫وأتربة يف الصيف‪ ..‬وحنن نتهادى تاركني القرية خلفنا نازلني إىل املدرسة أو‬
‫آيبني إىل البيت نرفع نغماتنا وأهازجينا على إيقاع الطفولة‪ ..‬نعدو تارة‪ ..‬وخنتبئ‬
‫تارة‪ ..‬ونرتاشق احلجارة ثالثة‪ ..‬ونغضب فنتنافر ثم نعود لنضحك ومنرح وجنلس‬
‫جنبا إىل جنب نراجع دروسنا معا‪ ..‬أو حنلق مفغوري األفواه نستمع بشهية‬
‫وأسطورية حلكايا اجلازيه‪.‬‬
‫حتى يف املدرسة كانت املعلمة جتلسنا معا‪ ..‬وختتارنا للمهمات معا‬
‫خاصة يف حصة املسرح‪ ..‬حني اختارتين مرة ألمثل دور األم على أن ميثل هو‬
‫دور األب‪ ..‬فرحت بهذا االختيار يف البداية ثم رفضته ورحت أصيح ال‬
‫لشيء سوى ألن األطفال ضحكوا مين‪ ..‬ومتت املسرحية وأجنبنا يف نهايتها‬
‫طفلة كانت تسمى زينب حنبها ونتعب لرتبيتها‪.‬‬
‫وانفجرت باكية وأنا أمسعه يهمس يف أذني‪ :‬انتظريين سأعود‪ ..‬لن‬
‫تبتلعين العاصمة كما توهمت‪ ..‬حلمي أن نتزوج وننجب بنتا نسميها‬
‫زينب‪ ..‬ومددت يديَّ ألمسك يديه كما تعودت فرحة لكن هذه املرة مل‬
‫أمسك غري اخليبة‪.‬‬
‫تقدمت منها فأمسكتها من اخللف وأنهضتها من مكانها‪ ..‬كنت ال أحب‬
‫أن يراها أحد على هذه احلالة وكنت أجهد نفسي كي ال تراني باكيا‪ ..‬عمن‬
‫أبكي؟ وملن أحزن؟ هلذه الزهرة اليت هجمت عليها اللوافح من كل جانب؟‬
‫أم لذلك الصديق العزيز الذي أحب مهنة الصحافة كما أحب اجلزائر‪..‬‬
‫ونذر هلما نفسه‪ ..‬ورحل جيري خلفها ليجعل منها رسالة شريفة يقف بها‬
‫مع املظلومني واملشردين واملقرورين‪ ..‬فإذا بها تتحول إىل موت يشهر يف‬
‫وجهه السيف؟ أم أشفق عليهما معا؟‬

‫‪109‬‬
‫وجررتها خلف احملسب فأجلستها األريكة وقدمت هلا كأس ماء ومنديال‬
‫جتفف به دموعها‪.‬‬
‫نظرت يف وجهي بكثري من احلب‪ ..‬وقالت وقد خالطت صوتها حبة‪:‬‬
‫‪ -‬اعذرني قد أتعبتك معي‪ ..‬لكن أنت تعلم أنين ال أجد صدرا دافئا‬
‫أفرغ فيه أحزاني إال صدرك الطيب‪ ..‬كل من حولي أصبحوا ال يعنونين يف‬
‫شيء‪ ..‬كرهت كل شيء‪ ..‬حتى البيت واملشفى واملدينة واحلياة‪.‬‬
‫ودخلت علينا حسناء فجأة كأمنا نزلت من السماء فأشرقت بدرا يف‬
‫دجى املكتبة‪ ..‬أسرعنا نسوي من حالنا حتى ال نلفت االنتباه إلينا‪ ..‬لكنها‬
‫استطاعت أن تكشف حالنا الذي مل يكن يف احلقيقة ليخفى فجأة‪..‬‬
‫حاولت أن أحول انتباهها فسألتها عن أبيها‪ ..‬وعن صحته‪ ..‬وعن أمها‬
‫وأخويها لكنها مل تشأ أن جتيبين كانت تريد أن تعرف احلقيقة أوال‪ ..‬لزمت‬
‫أنا الصمت ومثلي فعلت اجلازيه‪ ..‬وضعت حسناء حقيبتها على احملسب‪..‬‬
‫جترعت رشفة ماء ختيلتها تنزل يف بلعومها‪ ..‬قالت‪:‬‬
‫‪ -‬تعرفان عنادي وإصراري‪ ..‬لن أخوض يف حديث قبل أن أعرف‬
‫الذي فعل بكما هكذا‪.‬‬
‫ومل تكمل حديثها حتى باغتنا ثالثة من الفتيان عليهم مالمح التدين‪..‬‬
‫أسدلت حلاهم واستوت العمائم على رؤوسهم‪ ..‬وكُحلت عيونهم‪..‬‬
‫مل أنطق إال بكلمة مرحبا‪ ..‬حتى عجل أوسطهم والظاهر أنه سيدهم‪..‬‬
‫عجل إلي يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬اخللوة حرام‪ ..‬قال الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪" :-‬ماخال رجل‬
‫بامرأة إال كان الشيطان ثالثهما"‬
‫ومل ترتكه حسناء ليواصل فقالت بغضب‪:‬‬

‫‪110‬‬
‫‪ -‬وما دخلك أنت؟ أم نصبت نفسك أمريا على األمة وحنن ال‬
‫نعرف؟‬
‫ومل يزد أن قال دون أن يرفع بصره‪:‬‬
‫‪ -‬اسكيت صوتك عورة‪ ..‬وقرن يف بيوتكن وال تربجن تربج اجلاهلية‬
‫األوىل‪ ..‬الزمي بيتك يا أَمَة اهلل‪ ..‬حنن مجاعة األمر باملعروف والنهي عن‬
‫املنكر‪ ..‬وقد بلغنا اللهم فاشهد‪.‬‬
‫وخرج يستل عينيه من اجلازيه سال‪ ..‬فلحقه رفيقاه‪.‬‬
‫قالت اجلازيه‪:‬‬
‫‪ -‬مل يبق لنا إال هذا اهلم يأتينا ليعلمنا حدود األخالق واآلداب ولعله‬
‫ال حيسن أن يقرأ سور الصالة‬
‫ومل أشأ أن أعلق فدعوتهما بإشارة من يدي لالنصراف‪ ..‬أرادت حسناء‬
‫أن تعرتض على تصريف فحدقت فيها وقد دار يف خلدي قول أحد الكتاب‬
‫خلقت املرأة لتشاهد ال لتسمع وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬رأسك دائما ناشفة‪ ..‬ستخربك اجلازيه بكل شيء‪ ..‬أما أنا سأزوركم‬
‫بالبيت مساء‪.‬‬
‫خرجتا وبقيت جامدا مكاني‪ ..‬يف أحشائي موار وجزر ومد‪ ..‬هل‬
‫سنبقى طوال القرون جنرت كاملاعز ماتركته الكتب الصفراء من شعر‬
‫ابن عاشر وأحكام الوضوء والتيمم وطول اللحى وشكلها ولونها‪..‬؟‬
‫واجلن وطعامها املفضل الروث أم العظام؟ واملرأة صوتها وحدود‬
‫لباسها وحجم ما تتعلم و…؟‬
‫إىل متى وأنا أمحِّل هذه احلسناء همومي‪..‬؟ إىل متى وأنا أشنق أحالم‬
‫هذه الغزالة الطريدة حببال تسويفي‪..‬؟‬

‫‪111‬‬
‫إىل متى وحنن ال حنس يف أرضنا‪ ..‬يف أعشاشنا باألمان؟ لقد صرت‬
‫أتلقى كل يوم رسالة‪ ..‬أنهض صباحا وأنا على يقني أن رسالة تنتظرني‬
‫بفارغ الصرب حتت الباب يتهمين أصحابها بالوقوف مع الطاغوت‬
‫ووجوب العمل معهم إلقامة الدولة اإلسالمية‪ ..‬ومرة يتهمين كاتبوها‬
‫بأنين إرهابي مناهض للسلطة والوطن والدميقراطية وجيب علي أن أتوب‪.‬‬
‫ماذا لو طرت مثل احلالج؟‬
‫أمسك بطرف منديلي فقط ثم أطري ألفر من هذا اجلحيم الذي‬
‫أعيش فيه‪..‬‬
‫ولكن ما معنى أن أطري؟‬
‫أمل ينحروا احلالج كالشاة؟‬
‫ماذا لو عاد بي العمر إىل حضن نانّا‪ ..‬نانَّا وحدها تقدر على إنقاذي‬
‫آهٍ أيتها البتول رمحة اهلل عليك‬

‫‪6‬‬
‫بدأ اخلريف يزحف مبكر شديد‪ ..‬ميارس لعبة الكر والفر‪ ..‬ينطلق من‬
‫األسفل‪ ..‬يثري زوبعة يف األرض كأمنا يغشي بها عيون األشجار ثم‬
‫يصفعها‪ ..‬تهتز جنبات أغصانها‪ ..‬تتهاوى أوراقها الصفراء‪ ..‬تئن الشجرة‬
‫وتعاود الثبات‪ ..‬لكنه ما يفتأ أن يعاود…‬
‫خرجت من املنزل وقد اعتدل رأسي من الطأطأة اليت تعودها‪ ..‬أنا اآلن‬
‫شرطي وقد تغريت نظرة الناس إلي دون شك ورغم أني مل أحضر إىل‬
‫البيت باللباس الرمسي قط إال أن اخلرب فشا يف الناس حتى قبل أن أباشر‬
‫عملي هذا‪ ..‬حارة احلفرة ال خيفى على ناسها شيء مطلقا‪ ..‬عيونهم وآذانهم‬
‫تلتقط كل صغرية وكبرية‪ ..‬هم كما يصفهم الشيخ صاحل رادارات‪..‬‬

‫‪112‬‬
‫وكم كان عجيب شديدا حني واجهين عَزُّوزْ البهلول ذات صباح يقبلين‬
‫بشدة ويضمين إليه ويقول‪:‬‬
‫عبدالرحيم امنحين مسدسك‪ ..‬ال‪ ..‬امنحين رشاشا رشاشا كبريا‪ ..‬أحب‬
‫أن أقتلهم مجيعا مجيعا مجيعا‪.‬‬
‫عبدالرحيم جيب أن أقتل كل الذين حيلمون بالزواج من احللوة أنا‬
‫وحدي أحبها ووحدي أتزوجها‪ ..‬حني تعود وحدي أتزوجها‪.‬‬
‫وانطلق يقلد اجلندي الذي يرش أعداءه بالرصاص‪.‬‬
‫واندفعت بعيدا أخرج من حارة احلفرة أرتفع إىل مركز عملي املتواجد‬
‫بقلب احلي اجلديد‪..‬‬
‫خرجت بعد عبد الرحيم‪ ..‬وقفت عند الباب الذي كان يئن خلفي‬
‫جاهدا يف العودة إىل مكانه‪ ..‬كان الشارع جثة مبقورة‪ ..‬اجلو اخلريفي يعبث‬
‫بالعبث يف الشارع‪ ..‬مل يرقين املنظر‪ ..‬أشعلت لفافة الربزيلي‪ ..‬امتصصت‬
‫منها بنهم شديد‪ ..‬نفثت الدخان‪ ..‬تصاعد من كل فتحات جسمي‪ ..‬من‬
‫منخري‪ ..‬عيين‪ ..‬أذني‪ ..‬ومن‪ ..‬هممت أن أعود إىل البيت‪ ..‬ثم أعرضت عن‬
‫ذلك وأنا أثور ضد تالميذ يرمون بهلول الدود باحلجارة وبالكالم البذيء‪..‬‬
‫هرولت خلفهم‪ ..‬اندفعوا مبتعدين‪ ..‬وبدأت أصواتهم وصيحاتهم‬
‫وقهقهاتهم تسكن رويدا رويدا‪.‬‬
‫احتمى بهلول الدود بي وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬اختلط الدود بالدود وال يفكها إال اخلالق املعبود‬
‫مل آبه هذه املرة حبديثه كما تعودت‪ ..‬لقد كنت مهتما بالربيع وقد أقبل‬
‫من بعيد‪ ..‬سألته مباشرة عند وصوله ويف عيين حرية‪:‬‬
‫‪ -‬خريا إن شاء اهلل؟‬

‫‪113‬‬
‫تبسم الربيع وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬السالم قبل الكالم‬
‫رددتها وقد زال عين بعض الكدر‬
‫‪ -‬صباحك سعيد‪ ..‬أصبحنا ياصاحل كالنساء كل شيء خييفنا‪.‬‬
‫وتركنا بهلول الدود حيث هو يردد شريطه املعتاد ومضينا بعيدا يرتدي‬
‫الربيع قشابية درعاء وأرتدي معطفا بنيا حائال‪ ..‬قال الربيع معلقا على‬
‫فعل األطفال ببهلول‪:‬‬
‫‪ -‬حتى احلمار قال‪ :‬لو يدخل األطفال اجلنة لرفضت دخوهلا‬
‫ونظر بشق عينه إلي مبتسما مستطلعا ردي‪ ..‬ازداد وجهي جهامة‬
‫وعلقت على كالمه يف شيء من اجملاملة‬
‫‪ -‬لست أدري حنن اجملانني أم عَزُّوزْ الدود ؟‬
‫وسكت دفعة واحدة كأمنا أزهقت روحي‪ ..‬كانت ساقاي النحيفتان‬
‫تضربان يف غري انضباط كأنهما عمودان حنيفان يغطيهما سروال بال‬
‫يتالعب به اهلواء‪ ..‬أحس الربيع باملرارة اليت أجرعها فلزم الصمت فاسحا‬
‫اجملال لوقع اخلطوات‪ ..‬حلظات وصلنا املقهى‪ ..‬جلسنا‪ ..‬أقبل النادل علينا‬
‫بقهوتني‪ ..‬هو يعرف طلباتنا‪ ..‬أصوات الزبائن على اختالف أعمارهم‬
‫ترتفع وتنخفض حول طاوالت القمار‪..‬‬
‫ارتشفت رشفيت األوىل دون أن أذيب السكر يف الفنجان‪ ..‬مر بنا‬
‫إبراهيم جحا‪ ..‬حيانا مبتسما كالعادة وجتاوزنا إىل طاولة جماورة لينظم إىل‬
‫جمموعة املقامرين‬
‫ارتشف الربيع رشفة عميقة من قهوته احملالة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أراك على غري مايرام‪ ..‬حالك اليوم ال يعجبين‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫حككت شعري الكث بأصابعي املعروقة ثم أعدت شاشييت على‬
‫رأسي وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬ومتى كنت خبري؟ كأن القدر يالحقين دون اخللق مجيعا‪.‬‬
‫وعاودت الصمت متمتما بني شفيت مستغفرا عما بدر مين من كالم‪..‬‬
‫صار صدري هذه األيام اليسع نفسًا صبيا‪ ..‬زفرت بعمق أوسع مساحة‬
‫صدري‪ ..‬أركبت ساقي اليمنى اليسرى‪ ..‬أخرجت زوادة التبغ‪ ..‬لففت‬
‫واحدة‪ ..‬أشعلتها‪ ..‬جذبت نفسا عميقا‪ ..‬نفثته يف اجلو‪ ..‬ارتشفت من‬
‫فنجاني رشفة خافتة‪ ..‬أحسست بربودة القهوة يف فمي‪ ..‬وضعت الفنجان‬
‫مكانه‪ ..‬حالة زوجيت هدت آخر سراياي‪ ..‬أنا أدرك أن ذهابها سيؤثر كثريا‬
‫على األسرة‪..‬‬
‫عبدالرحيم مازال دون زواج‪ ..‬ولكي يتحقق هذا احللم البد له من‬
‫سكن ومن مال وهذان ضرب من خيال‪ ..‬اليهم هو رجل‪ ..‬الكارثة يف‬
‫اجلازيه‪ ..‬أمر اجلازيه يؤرقه ليال ونهارا‪ ..‬أينعت وغدت نضرة‪ ..‬مطمعا‬
‫لكل العابثني‪ ..‬هذه املرة إن مل يتقدم ذياب بعد عودته من العاصمة‬
‫سأزوجها ألول خاطب‪..‬‬
‫وتذكرت امْحَمَّدْ‪ ..‬فعضضت إصبعي وقلت يف سري آه يازمان ياغدار‬
‫حتى امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ غدا رجال وجترأ على خطبة ابنيت‪ ..‬ابنيت اجلازيه‪..‬‬
‫الكلب بن الكلب‪ ..‬اللقيط بن اللقيط‪ ..‬خنزير فرنسا‪ ..‬يريد أن يستذلين‪.‬‬
‫وأخرجين الربيع من كوابيسي املتوحشة وهو ميرر يده قريبا من عيين‬
‫ويقول حماوال إضحاكي‪:‬‬
‫‪ -‬ابق يف األرض فقط ال ترحل بعيدا فأعجز عن اللحاق بك‪.‬‬
‫عدت إىل واقعي وأنا أقول جبمود كأني متثال إلثيوبي معلول‪:‬‬

‫‪115‬‬
‫‪ -‬أمر الزوجة حيريني ياالربيع ياأُخيَّ‪ ..‬مرضها خطري واألطباء أشاروا‬
‫بوجوب إجراء عملية ثانية ال مفر منها‪ ..‬قد ال تقوم بعدها‪ ..‬وقد تتحسن‪..‬‬
‫اهلل وحده يعلم‪.‬‬
‫وسكت مليا كأمنا أريد أن أقطع احلديث متاما ولكين عاودت فواصلت‪:‬‬
‫‪ -‬املرض ابتالء من اهلل‪ ..‬املشكلة من أين لنا بثمن العملية؟ لو كان‬
‫عندي شيء أبيعه لفعلت‪ ..‬لكن أنت أدرى باألمر‬
‫وصمت رهبة من الواقع املرير‪ ..‬وسكتَ كأمنا مل حير جوابا أو كأمنا كان‬
‫ينتظر مين أن أكمل كالمي فواصلت‪..‬‬
‫‪ -‬ورأسك ياالربيع ما أضحك إال حبضرتك‪ ..‬وال أضحك إال من‬
‫أجلك أنت‪ ..‬يضحك وجهي ويف نفسي غضب مارد‪.‬‬
‫ومد يده فأمسكين من أصابعي حلظات يتأملين ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ال حتمل هما‪ ..‬حتى أنا ال أملك شيئا‪ ..‬أنا معدم مثلك‪ ..‬أنت‬
‫تعرف حالي‪ ..‬ولكن حني تعزم على أخذها للمشفى سأتدبر األمر معك‬
‫ولو بعت أثاث املنزل‪.‬‬
‫اغرورقت عيناي وقد عاد بي الربيع لتضحيات الشهداء الصادقني‪..‬‬
‫وتراءت أمام ناظري صور الفداء‪ ..‬والدي‪ ..‬عمريوش‪ ..‬الشيخ العيفه‪ ..‬أما‬
‫علجيه‪ ..‬زوجها‪ ..‬عمار الكريطة‪ ..‬أمحد ملطروش‪ ..‬أم منري‪ ..‬العيد الضحوي‪..‬‬
‫وارتفع صخب املقامرين يتشاجرون فتطايرت األوراق والكؤوس‬
‫وانقلبت الكراسي والطاوالت وتشابكت األيدي واألذرع فقمنا وانسحبنا‬
‫بعيدا‪.‬‬
‫عند املنعرج توقفنا‪ ..‬مد الربيع يده يودعين‪ ..‬وقبل أن يسحبها قال‬
‫حبسرة وهو ميسك برشاشه حتت قشابيته الدرعاء‬

‫‪116‬‬
‫‪ -‬متى نهنأ يف هذا الوطن؟‬
‫‪ -‬سنهنأ حني حنمل السالح ضد كل أنواع اإلرهاب‬
‫وافرتقنا‪..‬‬
‫شيء واحد كنت أقوله لرفاقي اجملاهدين‪ ..‬جيب أن حنمل السالح يف‬
‫وجه كل أشكال اإلرهاب‬
‫انعطف منحدرا يف زقاق مرتب تشكلت فيه برك للحمإ بفعل تفجر‬
‫قنوات املياه والفضالت‪ ..‬ابتاع قارورة غاز وقفل يدحرجها وسط األوحال‬
‫حنو بيته‪ ..‬رأيته من بعيد‪ ..‬أسرعت إليه فحملتها معه‪ ..‬كالرشاش أطلق‬
‫علي وابال من سباب‪.‬‬
‫‪ -‬يامنري هذه دولتكم‪ ..‬دولة الذل والطحني‪ ..‬حنن أكرب دولة إلنتاج‬
‫الغاز عامليا‪ ..‬وغازنا يصل إىل أعالي أعدائنا بأوروبا بثمن خبس‪ ..‬وحنن‬
‫مازلنا يف القرن العشرين نشرتي قارورة الغاز من السوق السوداء‬
‫وبتوسط املعارف‪..‬؟‬
‫علقت مازحا وأنا اتلصص بعيين يف وجهه أتطلع لرد فعله‬
‫‪ -‬ملاذا أخرجتم فرنسا؟ لو تركتموها لكنا أحسن حاال‪.‬‬
‫التفت إلي حانقا كالزوبعة رغم أنه يعرف نييت‬
‫‪ -‬جيلنا أدى واجبه‪ ..‬جيلكم جيل منهزمني مل يواصل املسرية‪ ..‬الدور‬
‫اآلن لكم‪ ..‬أما حنن‪..‬‬
‫وسكت‪ ..‬مل ينطق حتى دخلنا البيت‪ ..‬حني هممت باالنصراف‬
‫استوقفين‪ ..‬وسلمين ورقة مكتوبة بالفرنسية‬
‫‪ -‬يهود سونالغاز بعثوا إلي برسالة بلغة الـ‪..............‬‬
‫تصفحتها على عجل وقلت‪:‬‬

‫‪117‬‬
‫‪-‬إما أن تدفع ديونك أو يقطعوا الكهرباء عنك‬
‫‪...............................................‬‬
‫‪.................................................‬‬
‫وفجأة غري حديثة وهو ميزق أشالء الرسالة ليخربني أنه قرر تزويج‬
‫عبدالرحيم من وهيبة ابنة الشيخ اهلامشي‬
‫رحبت بالفكرة رغم أني مل أكن أ عرف موقف عبد الرحيم‪ ..‬رمبا‬
‫ألن عبدالرحيم جيب أن يتزوج اآلن‪ ..‬ورمبا ألني أعرف أخالق الفتاة‬
‫وأخالق أسرتها‬
‫اجتهنا إىل بيت الشيخ اهلامشي القريب فخرج إلينا بثياب عمله‪ ..‬لقد‬
‫عاد لتوه من التجوال عرب األحياء‪ ..‬عجل بإدخالنا البيت وهو حيفنا بباقات‬
‫الرتحيب‪ ..‬سريعا جيء بالقهوة‪ ..‬مل يرتدد صاحل كثريا ففاحته باملوضوع‪..‬‬
‫ظهرت البشرى على وجهه املتعب ودون مقدمات قال‪:‬‬
‫‪ -‬ياصاحل أنت أخي وابنيت ابنتك‪ ..‬لن أعارضك فيما تفعل‪.‬‬
‫بعد أسابيع مت الزواج وأقام اجلميع حف ال رقصت فيه كل حارة‬
‫احلفرة حتى الصباح‪ ..‬حضر اجلميع وغابت عبله احللوة فغابت عنه‬
‫نكهة الفرح‪..‬‬
‫مازال اجلميع يذكرونها يف صمت‪..‬‬
‫وحده عزُّوزْ الدود ظل جيهر جبراحاته‪..‬‬
‫وحده ظل يعلن أنه رآها‪ ..‬وأنها أكدت له أنها ستعود قريبا‪ ..‬وحني‬
‫حاول اإلرهاب تدمري متثال عني الفوارة بتفجري قبلة يدوية يف قاعدته‪..‬‬
‫وصلها سريعا وراح حيتضنها ويبكي حبرقه ويصيح إنها عبله الرومية عبله‬
‫الرومية‪..‬‬

‫‪118‬‬
‫ويقال أنه صرخ يف اجلموع اليت أحاطت بالتمثال باكية حزينة ملا أصاب‬
‫رمز املدينة‬
‫يامعشر‪...‬‬
‫من فعل هذا بإلـهيت‪..‬؟‬
‫وحني انفجروا ضاحكني انفجر فيهم باكيا‬
‫اللعنة عليكم‪ ..‬اللعنة عليكم إنها عبله الرومية‪ ..‬أال تعرفون عبله‬
‫الرومية‪..‬؟‬

‫‪7‬‬
‫مازال الظالم يقمط حارة احلفرة بلفائفه السود ومازالت احلياة مل تدب‬
‫بعد يف أوصاهلا‪ ..‬نور شاحب ينبعث عليال من النافذة إىل الشارع الذي‬
‫يفتقد لإلنارة‪ ..‬مررت املنشفة على وجهي وذراعي أمسحهما من ماء‬
‫الوضوء‪ ..‬هممت أن أخرج لصالة الفجر باملسجد كما تعودت لكين‬
‫تراجعت عند عتبة الغرفة‪ ..‬ليس من السهل هذه األيام أن أذهب إىل‬
‫املسجد‪ ..‬لقد كثرت االغتياالت وغدت املساجد مراكز للفنت‪..‬‬
‫عدت إىل مكاني أحدث نفسي‪ ..‬إذا اختلطت األديان قم على دينك‪..‬‬
‫هذا كالم األولني‪ ..‬متددت أنتظر آذان الفجر أمرر يف يدي حبات السبحة‪..‬‬
‫سرحت حلظات وأنا أتأمل فراش ابين عبدالرحيم‪ ..‬عنده اليوم مداومة‬
‫ليلية يعمل من السابعة مساء حتى السابعة صباحا‪..‬‬
‫ارتفع صوت املؤذن يشق السكون‪ ..‬رددت بني شفيت‪ ..‬اهلل أكرب اهلل‬
‫أكرب‪ ..‬ومعه انطلقت صيحات مدويات‪ ..‬فزعت وقمت عجال من مكاني‪..‬‬
‫ما الذي وقع؟ أطللت من النافذة‪ ..‬أشتد الصياح والصراخ وتعالت‬
‫اجللبة‪ ..‬بسملت وحوقلت وعجلت ألبس حذائي وأهرع إىل الشارع‪..‬‬

‫‪119‬‬
‫حني توسطته كانت األبواب والنوافذ تفتح هنا وهناك‪ ..‬حددت مصدر‬
‫األصوات واندفعت إىل منزل إبراهيم جحا ورحت أدقه بعنف‪ ..‬مازال‬
‫الضجيج والعويل يرتفع‪ ..‬ومازال الباب موصدا‪ ..‬انتقلت من الدق إىل‬
‫حماولة تكسري الباب اخلشيب‪ ..‬حلق بي آخرون وتعاونوا مجيعا على فتح‬
‫الباب‪ ..‬كنت أول الداخلني‪ ..‬مل يتفطن إلي أهل البيت حتى وقفت‬
‫عندهم‪ ..‬كانوا مخسة أطفال يتكومون يف ركن الدار جيللهم الفزع والرعب‬
‫ويرتفع عويلهم مالئا احلجرة‪ ..‬وكانت البنت الكربى ذات الثالثة عشرة‬
‫من عمرها متسك بذراع أمها وجتذبها بقوة حماولة ختليصها من أبيها‬
‫إبراهيم جحا الذي جثم فوقها يشبعها ضربا‪ ..‬وكانت الزوجة منبطحة‬
‫على األرض تندب وتشتم‪.‬‬
‫واستطعت رغم حنافيت من رفع إبراهيم وختليص الزوجة منه‪ ..‬ووقف‬
‫إبراهيم مغمغما وقد امتأل فمه زبدا حتى فاض على شفتيه‪.‬‬
‫‪ -‬مرَّ َرتْ حياتي يا عمي صاحل‪ ..‬أخرجتها من الضياع‪ ..‬التقطتها من‬
‫الشارع‪ ..‬ماذا كانت؟ كلكم يعرف‪ ..‬كانت عاهرة‪ ..‬جمرد عاهرة‪.‬‬
‫وصفعته وأنا أقول‪:‬‬
‫‪ -‬استح ياحقري يا تافه‪ ..‬أتعري أم أوالدك أمام الناس؟ أنت حقري‪..‬‬
‫اخرج عليك اللعنة‪.‬‬
‫وتدافع إبراهيم خارجا وهو يهدد‪:‬‬
‫‪ -‬ال ينفع معك إال الطالق‪ ..‬أنت طالق‪ ..‬طالق ألف مرة‪ ..‬كرهتها‬
‫وكرهت احلياة معها‪ ..‬انتظريين أنت جزاؤك الذبح إن مل أذحبك فلست‬
‫رجال‪.‬‬
‫وخرج اجلميع‪ ..‬كانوا أكثر من عشرة أفراد نساء ورجاال‪ ..‬جتمعوا وسط‬

‫‪120‬‬
‫الشارع وأحاطوا بإبراهيم يلومونه وحياولون تهدئته‪ ..‬كان إبراهيم منفوش‬
‫الشعر ملبد املالبس تتطاير الرغوة من بني شفتيه كالبعري‪ ..‬يرتفع صوته‬
‫حينا مهددا زوجته اليت مل ينقطع عويلها‪ ..‬وينخفض حينا آخر معلال‬
‫للجريان فعلته‪.‬‬
‫التحقت باجلميع‪ ..‬هدأ إبراهيم حني رآني أمد ذراعي النحيفة حنوه‬
‫مهددا‪:‬‬
‫‪ -‬أنت ال ختجل يا إبراهيم‪ ..‬تضرب أم أوالدك وتعريها؟ ومن أنت؟‬
‫هل أنت النيب؟ اذهب عليك اللعنة‪.‬‬
‫ودفعت له بإبريق الشاي ودلو املاء مملوء بالكؤوس فحملها إبراهيم‬
‫ومضى‪ ..‬بعد حلظات حلق به ابنه ذو العام الثاني عشر‪.‬‬
‫بدأ الناس يتفرقون عائدين إىل منازهلم وبقيت معظم النوافذ مشرعة‬
‫تطل منها رؤوس النسوة يف فضول شديد‪ ..‬وحدي بقيت يف الشارع أذرعه‬
‫بني منزلي ومنزل إبراهيم‪..‬‬
‫بدأت الشمس متد خيوطها على حارة احلفرة حزينة كئيبة‪ ..‬وانتفضت‬
‫فجأة‪ ..‬لقد تذكرت أني مل أصل الصبح فهرعت إىل منزلي عجال و أنا‬
‫أمتتم‪ :‬مذ توقف إبراهيم عن تناول مهدئاته غدا كلبا مسعورا‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫أعراسنا وحدها كانت مساحة ضيقة للفرح‪..‬‬
‫أفيونا ينسينا أتراح اخليبات‪..‬‬
‫كان اجلمع كبريا داخل حجرة االستقبال رغم ضيقها‪ ..‬أطفال ونساء‬
‫تتعاىل ضحكاتهن وزغاريدهن املرة تلو األخرى‪ ..‬وترتفع حناجر بعضهن‬

‫‪121‬‬
‫بأغاني السراوي‪ 5‬فيما تفنن بعضهن يف الرقص السطايفي والقبائلي‬
‫وحتى الشرقي يف بعض األحيان‪ ..‬وتسكت النسوة أحيانا فينصرفن إىل‬
‫احلديث وأكل احللويات واملشروبات بتلذذ كبري دون أن يُسكنت الغناء‬
‫الذي ينبعث بدهلن من اآلالت‪..‬‬
‫كنت أجلس وحيدا أعاقر كأسا دهاقا من الصمت واحلزن‪ ..‬يف جوف‬
‫الغرفة يتجمع رجال خيتلفون يف سحناتهم ومستوياتهم ويتفقون مجيعا يف‬
‫التنافس على حتليل األوضاع السياسية واالجتماعية وحتى الرياضية‬
‫يتفقون حينا وخيتلفون أحايني أخرى‪ ..‬كنت أحس بالقلق الشديد‪ ..‬أجلس‬
‫مكاني ال أنبس ببنت شفة‪ ..‬ال أحسن إال أن أنعم ألحد املتحدثني وأبتسم‬
‫ابتسامات خفيفة كعادتي‪.‬‬
‫قال شيخ ال أعرفه بكثري من الرتاجل‪ :‬أنا مل أفهم شيئا يف سياسة هذه‬
‫البالد حتى الرئيس مل يعد خياطبنا باللغة اليت نفهم‬
‫رد آخر أقل منه سنا يظهر أنه من احملبني للرئيس‪ :‬العيب فيك ألنك مل‬
‫تتغري‪ ..‬الرئيس ال خياطب أمثالك بل خياطب الشباب املتعلم بلغة التقدم‬
‫غضب األول فرد ثائرا رئيس اليهود حدث شعبه بلغته‪ ..‬ما معنى أن‬
‫حيدثنا هو بلغة االستعمار‬
‫قاطعه الثاني تريدون أن تتحولوا مجيعا إىل رؤساء‪ ..‬الرأس إذا كان‬
‫مملوء عيونا أفزع ياراقد‪..‬‬
‫نظر يف امْحَمَّ ْد وهو ميسح عن فمه الطعام الذي علق به وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أنتم الشرطة تستحقون الذبح كاخلراف من القفا ال من الرقبة‪.‬‬

‫‪ -5‬هي أغان شعبية تغنيها النساء مجاعيا ويرفعن فيها الصوت حتى يسري بعيدا‪ ..‬ومن‬
‫هذا جاءت التسمية‪..‬‬

‫‪122‬‬
‫وملا مل أرد عليه إال بنظرة احتقار واصل يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ألنكم حتمون الطواغيت‪ ..‬هؤالء لصوص استولوا على خريات‬
‫الوطن واقتسموها بينهم ظلما وعدوانا‪ ..‬أال ترى بأننا ننتقل من احندار‬
‫إىل احندار‪ ..‬األمم تتقدم كل يوم خطوات وحنن نتأخر؟؟ صهرك صالح‬
‫الدين رجل شجاع محل السالح ضد الباطل‪.‬‬
‫نهضت من مكاني أرميه بشواظ من نظراتي احلاقدة ودلفت خارجا‬
‫مرددا يف سري‪:‬‬
‫‪ -‬عليك لعنة اهلل‪ ..‬تنام على املاليري من جتارة احلرام والتهريب‬
‫والرشوة ثم تفتح فاك لتشمت بالفقراء الشرفاء‪ ..‬يضحون ليحفظوا‬
‫لك النظام‪ ..‬عليك لعنة اهلل لو كان احلق قائما لذحبتك أنت قبل‬
‫اجلميع ألن أمثالك هم الذين يشيعون الفحشاء واملنكر‪ ..‬وهم الذين‬
‫يزرعون اإلرهاب يف جنباتنا اآلمنة‬
‫ثم مافتئت أن نسيت كل شيء‪ ..‬هناك أمر يشغلين الساعة‪ ..‬مل أكن‬
‫مطمئنا متاما‪ ..‬البد أن أعود إىل البيت‪ ..‬البد أن أصطحب معي زوجيت‬
‫وأخيت اجلازيه وأعود‪.‬‬
‫دققت باب النسوة الذي كان مفتوحا فهرعت أخيت هجريه إلي‪ ..‬وما‬
‫كادت تراني حتى أمسكت بيدي جترني داخل احلجرة‪:‬‬
‫‪ -‬ادخل ال ختجل هؤالء أمهاتك وأخواتك مجيعا‪ ..‬إالم خجلك هذا؟‬
‫واختل توازني فدخلت عند عتبة الباب وأسرعت الراقصات باالمتناع‬
‫عن الرقص فيما واصلت مغنيات السراوي يؤدين األغنية‪ ..‬وماكدت‬
‫أدخل حتى عدت فسحبت نفسي إىل الرواق ومعي هجريه اليت أسرعت‬
‫تقول‪:‬‬

‫‪123‬‬
‫‪ -‬اليوم يوم فرحي‪ ..‬فرحي ببييت اجلديد‪ ..‬وفرحي خبتان ابين األكرب‪..‬‬
‫وإن مل حتضر أنت فمن حيضر؟‬
‫وأردت أن أتكلم فقاطعتين مواصلة‪:‬‬
‫‪ -‬سيكون أول أبنائك ذكرا ولن حنضر ختانه‪.‬‬
‫ابتسمت ابتسامة باردة وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬حتى إزيد ونسميه بوزيد‬
‫ردت مازحة‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬نسميه سامل‪ ..‬سامل العلواني‪ ..‬سامل مل ميت ياعبدالرحيم ولن ميوت‪..‬‬
‫ضممتها إلي حبنان وأنا أقول‪:‬‬
‫البد أن نعود إىل البيت‪ ..‬يف هذا القدر بركة‪ ..‬أنت تعرفني أن الطريق‬
‫خطرة‪ ..‬ولعل شرا ال قدر اهلل يعرتضنا‪..‬‬
‫وقبلتين هجريه على جبهيت داعية لي باحلفظ وطول العمر‪ ..‬ثم دخلت‬
‫فدعت زوجيت وأخيت إىل االنصراف‪.‬‬
‫حني انطلقت سيارة األجرة راجعة بنا إىل املدينة كان اجلميع صامتني‬
‫كتماثيل باردة إال السائق الذي كان يثرثر ذاكرا أهمية السيارة وفضلها‬
‫على اإلنسان ملحا علي أن أقتين واحدة‪ ..‬وأردت أن أخربه أن أجرتي ال‬
‫تكفي حتى إلطعام العصافري‪ ..‬لكن السائق قطع علي ذلك حني أكد لي‬
‫أنه على يقني من أن أجرتي ال تشبع قطا صغريا لكن طرق الرزق كثرية‪..‬‬
‫الزمن صعب وعلى اإلنسان أن يكون ذئبا أو أكلته الذئاب املفرتسة‬
‫املتوحشة‪ ..‬والشرطي له مكانته يف اجملتمع والدولة والبد أن يستغل كل‬
‫الطرق إلمناء ثروته إال إذا كان أمحق‪ ..‬ثم مال علي وهو ينفث دخانه‬
‫فتنبعث منه رائحة كريهة‪:‬‬

‫‪124‬‬
‫‪ -‬مالي أراك ساكتا يا عبدالرحيم؟ هذا الشعب يستحق اهلراوة‪ ..‬أنت‬
‫متوت من أجلهم وهم ينمون ثرواتهم‪ ..‬واهلل غفور رحيم‪.‬‬
‫وضحك السائق حماوال تغطية الصمت الرهيب الذي جثم على سيارة‬
‫األجرة فظهرت أسنانه املتهرئة السوداء‪ ..‬ثم كتم أنفاسه فجأة لقد دخلنا‬
‫الغابة‪ ..‬وأحسسنا مجيعا أن الصمت بدأ يثقل على أبداننا‪ ..‬وأن قلوبنا قد‬
‫ضاقت فاشتد خفقانها‪ ..‬وأن أغصان أشجار السرو تتحول إىل أذرع‬
‫أخطبوط تلفنا مجيعا وتعصرنا يف وحشية‪ ..‬رددت بني شفيت‪:‬‬
‫‪ -‬استغفر اهلل العظيم ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل‪..‬‬
‫ومسعناها مجيعا خترج من فمه خافتة باهتة فتملكنا شيء من الفزع‪..‬‬
‫اتكأت على كتف وهيبة‪ ...‬كانت السيارة تشق الطريق املتعرج منسابة ال‬
‫يكاد يسمع صوتها‪ ..‬ضوؤها يكشف كل شيء‪ ..‬الساعة العاشرة ليال‪..‬‬
‫الفصل خريف مل يكن باردا‪ ..‬وكانت السماء صافية متاما‪ ..‬جنوم تتألأل‬
‫تتبادل النجوى واحلرية‪ ..‬أدار السائق زر املذياع فانبعث صوت القرآن‬
‫رخيما عذبا يشق السكون‪ ..‬قال السائق يف نفسه نكاد خنرج من نفق‬
‫الغابة املوحش‪ ..‬لن يكون إال اخلري إن شاء اهلل‪ ..‬املنطقة آمنة ومل حيدث فيها‬
‫شيء مكروه منذ زمن طويل‪..‬‬
‫ولوى عبدالرحيم رأسه إىل اخللف فرتكزت عيناه على سقف السيارة‪..‬‬
‫أي سقف يقصد بهذا التوجه املفاجئ‪..‬؟ الحظت يد زوجته وهيبة امللساء‬
‫متتد من مكانها اخللفي فتمسك يده وتضغط عليها‪ ..‬واشتد اضطرابي‬
‫جبوارها لقد أحسست بالتوتر الشديد الذي يعيشه عبدالرحيم والذي‬
‫استطاع أن ينقله إىل مجيع من معه يف السيارة‪..‬‬
‫وأردت أن أسأله لكين سكت‪ ..‬الوقت مل يكن مناسبا واجلو كان ثقيال‬

‫‪125‬‬
‫يستحيل اخرتاقه‪ ..‬مازالت اآليات ترتفع متناغمة ترفرف وحدها يف جو‬
‫السيارة اليت احننت يسارا فيمينا خمففة سرعتها إىل أقصى ماميكن‪ ..‬وانكفأ‬
‫السائق على املقود يشده بقوة حتى ال تصطدم بصخور عرشت فوق‬
‫اإلسفلت األسود‪ ..‬وانكفأ معه اجلميع ثم تراجعت أجسامنا إىل اخللف‬
‫والسائق يضغط بقوة على املكبح ويصيح‪:‬‬
‫‪ -‬اللهم سرتك وقعنا يف الفخ‪.‬‬
‫وصحنا أنا ووهيبة معا‪:‬‬
‫‪ -‬اهرب عبدالرحيم‬
‫مل نكن خناف إال عليه‪ ..‬ال أحد يهمنا هنا إال عبدالرحيم‪ ..‬ومل جيد مايرد‬
‫به سوى‪:‬‬
‫‪ -‬الزما الصمت‪ ..‬الإله إال اهلل‪ ..‬ال أحد يفر من قضاء اهلل‬
‫وانتبه السائق من صدمته فدار إىل عبدالرحيم وهو يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬أمعك مسدس؟ جيب أن ندافع عن أنفسنا‪ ..‬ال أحب أن منوت‬
‫كاخلراف ذحبا‬
‫تلمس عبدالرحيم املسدس حتت سرتته ولكنه مل خيرجه‪ ..‬مل يكن ليهتم‬
‫يف هذه اللحظات بنفسه بقدر ما كان يهتم بي أنا أخته وزوجته اليت مل‬
‫ميض على دخوله بها سوى شهرين‪ ..‬ومازال مل يسدد ديون زواجه منها‬
‫وأراد أن يلتفت إلي ليقول شيئا لكن أشداقا سوداء متوحشة أحاطت به‬
‫من كل جانب‪ ..‬حركة واحدة منه أو من غريه فتتقيأ شواظا من جحيم‪..‬‬
‫وانفجرت أبكي هلعة مرتعدة الفرائص يف هسترييا‪ ..‬ونطقت وهيبة‬
‫تقول‪:‬‬
‫‪ -‬أقسم أننا أبرياء نصلي ونصوم ونتقي اهلل‪ ..‬ولسنا يف أي جهة ال‬

‫‪126‬‬
‫مع هؤالء وال مع‪ ..‬هؤالء‪ ..‬حنن كادحون همنا اكتساب لقمة احلالل‬
‫وأحست أنها أكثرت من احلديث فكبحت نفسها فجأة مرجتفة‪ ..‬ومسع‬
‫صوت غليظ يدعو اجلميع إىل اهلبوط مع وضع األيدي على الرؤوس‪..‬‬
‫وبسرعة هبطنا مجيعا ووقفنا نستند السيارة كتلة واحدة‪ ..‬وأشار الناطق إىل‬
‫آخر جبواره فهرع يفتش اجلميع‪ ..‬بدأ بي‪ ..‬دفعته عين‪ ..‬هرع آخر فغرز فوهة‬
‫احملشوشة يف رقبيت ليفسح اجملال ليدي رفيقه كي تعبث يف املناطق املشتهاة‬
‫من جسدي وتستقر طويال على نهدي ومل يفطن من غيبوبته إال على‬
‫صراخ رفيقه وهو يطلب دوره يف تفتيش زوجة عبد الرحيم‪ ..‬وحتول بعدها‬
‫إىل السائق فعبدالرحيم‪...‬‬
‫نسيت كل شيء وقع واشتد خفقان قليب يتجاوب مع خفقان قلب‬
‫وهيبة جبواري لقد كانت حلظات صراع رهيبة وامتدت يد املفتش لتصل‬
‫إىل جنب عبدالرحيم األيسر فتستخرج املسدس من حتت إبطه وصاح‪:‬‬
‫‪ -‬هذا طاغوت‪ ..‬إنه طاغوت‪ ..‬وجدت حتته مسدسا‪.‬‬
‫تداعت أركان عبدالرحيم وجثا أرضا وختيلته كومة رمل جرفها السيل‪ ..‬أو‬
‫كومة رماد عبثت بها الزوبعة‪ ..‬فجأة حتجر السائق ال يبدي حراكا لقد مجدت‬
‫كل أجزائه‪ ..‬وفتح فاه دهشا كاملعتوه‪ ..‬ثم جثا على ركبتيه يصيح كامللسوع‪..‬‬
‫التصقت جبنب أُخي والتصقت بي زوجته‪ ..‬وحتولنا مجيعا إىل كتلة واحدة‪..‬‬
‫وصاح اجلميع‬
‫‪ -‬اهلل أكرب‪ ..‬اقتلوا عدو اهلل‬
‫وهرعوا إليه مجيعا جيرونه‪ ..‬وتشبثنا به نسمِره إىل األرض‪ ..‬كان صراعا‬
‫متوحشا بني املوت واحلياة‪ ..‬وتقهقرنا نسقط أرضا عند عجلة السيارة‪ ..‬وأسرع‬
‫اآلخرون جيرون عبدالرحيم بعيدا يف عمق الغابة وهو يصيح‬

‫‪127‬‬
‫‪ -‬أنا أخوكم‪ ..‬أقسم أنين برئ‪ ..‬أقسم أنين مل أظلم أحدا‪ ..‬أنا فقري‪..‬‬
‫أعيل مخسة أفواه ضعيفة‪ ..‬ارمحوني يرمحكم اهلل‬
‫وأشهر أحدهم وكان أشقر طويال بدينا رشاشه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬هل تأمر يا أمري؟‬
‫وفتح األمري عينيه إىل نهايتها فظهر وجهه بلحيته الكثة السوداء كوجه‬
‫بومة‪ ..‬وفهم األشقر اإلشارة‪ ..‬فأطلق رصاصتني إحداهما استقرت يف قلبه‪..‬‬
‫واألخرى يف عنقه‪.‬‬
‫يف هذه اللحظة مازال السائق متثاال باردا ميارس طقوس السجود لكن‬
‫صوته لفظ أنفاسه مع صوت الرصاصتني‪ ..‬تداعيت أنا ووهيبة ثم اندفعنا‬
‫بقوة صوب اجلميع‪ ..‬وخر عبدالرحيم يتخبط يف دمه كاخلروف املذبوح فيما‬
‫راحت اجملموعة ختتفي يف جوف الغابة‪..‬‬
‫كانت وهيبة ترمتي فوق زوجها حتاول أن حتضنه كله وتدخله مجيعه يف‬
‫قلبها‪ ..‬وكان هو يستعصي عليها‪ ..‬واندفعت أنا خلفهم كاجملنونة أرميهم‬
‫باحلجارة وبالشتائم ولكين مافتئت أن عدت أدراجي حيث جثة أخي‪..‬‬
‫وجدته قد أسلم الروح وهدأ متاما فصرخت صرخة مدوية وارمتيت فوق‬
‫جثته أخضه بقوة وأضغط على اجلراح ألمنع الدم املتدفق من اخلروج‪.‬‬
‫نظرت إىل السائق ألطلب منه الدعم‪ ..‬رأيته يفطن إىل نفسه ليتحرك‬
‫من مكانه حنو السيارة‪ ..‬ركبها واندفع بها فارتطمت بالصخور‪ ..‬عاد فنزل‪..‬‬
‫تأمل الصخور‪ ..‬حاول إبعادها بيدين مرجتفتني‪ ..‬مل يسعفه احلظ‪ ..‬عاد إىل‬
‫السيارة ركبها ثم عاود النزول‪ ..‬هرع حنونا متعثرا ورجع إىل السيارة ركبها‬
‫ثم نزل‪ ..‬حاول إزالة الصخور مرة أخرى فلم يستطع‪.‬‬
‫الغابة تشرب صمتا رهيبا وظالما دامسا يتحداه ضوء السيارة الذي‬

‫‪128‬‬
‫مازال يفتح أجفان عينيه‪ ..‬خطا السائق إلينا من جديد فلمحنا نعود حنو‬
‫السيارة حنمل اجلثة بصعوبة وهي تكاد تالمس األرض‪.‬‬
‫فزع السائق وهو يرى محرة الدم تغطينا مجيعا فاندفع حنونا‪ ..‬دعانا إىل‬
‫وضع اجلثة حيث هي‪ ..‬فوضعناها وأسرعنا نساعده يف إزالة الصخور‬
‫الثقيلة‪ ..‬عدنا إىل اجلثة لنحملها فنضعها يف السيارة‪ ..‬أبى السائق علينا‬
‫ذلك مؤكدا أن هذا من عمل رجال األمن والواجب علينا اآلن أن نفر‬
‫لننجو بأنفسنا‪..‬‬
‫ركبنا السيارة فانطلقت بنا على غري هدى‪ ..‬كانت وهيبة ملقاة شبه‬
‫فاقدة للوعي وكنت أصيح‪:‬‬
‫‪ -‬مل تركناه لتفرتسه الذئاب واخلنازير‪..‬؟‬
‫كان السائق جيهد نفسه ليعرف الطريق أما املرتل فكان صوته يرتفع‪:‬‬
‫"ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه‬
‫جهنم خالدا فيها‬
‫وغضب اهلل عليه‬
‫ولـعـنـه‬
‫وأع ّد له عذابا عظيما"‬

‫‪9‬‬
‫حني منوت حنيا‪..‬‬
‫ألن املوت وحده ينبهنا لشراسته‪..‬‬
‫وحده املوت يدغدغ يف مشاعرنا حقول احلب‪..‬‬
‫ها أمواج املعزين قد بدأت تتوافد بقوة على املنزل‪ ..‬يشتد توافدهم كلما‬
‫اقرتب موعد دفن اجلثة‪ ..‬نواح نسوة يرتفع منذ الصباح‪ ..‬نشيج ينبعث من‬

‫‪129‬‬
‫األصحاب الذين تكوموا عند اجلدران‪ ..‬كنت أجلس متثاال حجريا باردا ال‬
‫أبدي حركة‪ ..‬جبواري كان يقبع أبي صاحل وقد تدثر كعادته بقشابيته رغم اجلو‬
‫احلار‪ ..‬وانشغل آخرون بتوزيع القهوة على احلاضرين‪ ..‬يشتد توافد الناس من‬
‫كل اجتاه يقبلون كتف أبي صاحل قائلني‪:‬‬
‫‪ -‬عظم اهلل أجركم‬
‫ويبتعدون ليتجمدوا جمللني باحلزن‪ ..‬عناصر من األمن الوطين تقف‬
‫بانضباط أمام الباب‪ ..‬سياراتهم تقبع غري بعيد‪ ..‬صوت املرتل ينبعث من‬
‫مسجل داخل البيت‪ ..‬احلزن جيلل حارة احلفرة كلها‪ ..‬أنهى اجلميع صالة‬
‫الظهر وهرعوا إىل البيت حلضور تشييع اجلنازة‪ ..‬مئات من الناس على‬
‫اختالفهم حضروا‪ ..‬حضروا أحبابا وأعداء‪..‬‬
‫كل شيء يف هذا الوطن يفرقنا‪..‬‬
‫احلزن وحده كفيل جبمعنا‪..‬‬
‫حلظات وينطلق املوكب‪ ..‬هرع الناس إىل السيارات ميتطونها‪ ..‬دخل رجال‬
‫األمن بسحناتهم احلزينة الصارمة إىل البيت‪ ..‬ارتفع العويل‪ ..‬خرج بعض‬
‫الرجال يهرولون بهجرية مغمى عليها‪ ..‬محلتها سيارة إسعاف وضعت يف‬
‫اخلدمة وانطلقت يشق بوقها جو احلزن الكئيب‪ ..‬خرج رجال األمن باجلنازة‪..‬‬
‫ارتفع العويل وخرجت النسوة إىل الشارع سافرات منفوشات يندبن‬
‫ويولولن‪ ..‬أمسكت بيد أبي صاحل أقيمه من مكانه فتحرك كاآللي وتبع‬
‫توجيهي حيث قدته إىل السيارة اليت حتمل النعش وجلست بقربه‪ ..‬مقابلنا‬
‫جلس اهلامشي وإىل جواره الربيع حيتضن رشاشه‪ ..‬انطلقت السيارات مكتظة‬
‫باملشيعني وهرع املتبقون راجلني يف حرية يبحثون عمن يقلهم قبل فوات‬
‫الوقت‪ ..‬وانطلقت سيارة النعش يف تؤدة مبتعدة عن املنزل‪ ..‬على إثرها ارتفع‬

‫‪130‬‬
‫النواح والعويل‪ ..‬كل نساء احلارة كن يولولن‪ ..‬بعضهن تشبث بالسيارة‪..‬‬
‫البعض اآلخر ارمتى على األرض متمرغا مبديا اجلزع واحلزن‪ ..‬ختلف بعض‬
‫الرجال يعدن النساء إىل املنزل‪.‬‬
‫بدأت احلارة تفرغ من احلركة وتسكن من صخب إال بعض أنني‬
‫ينبعث من نسوة متعبات يائسات يتمرد عليهن مجيعا عويل اجلازيه‪ ..‬كان‬
‫صوتها يصل اآلذان خناجر صدئة تنغرز يف األكباد‪ ..‬جتلل األرصفة‬
‫واجلدران ومحائم السقوف باحلزن الشديد‪..‬‬
‫شق املوكب اجلنائزي املدينة ببطء وخشوع‪ ..‬وهاهو خيرج منها متجها‬
‫إىل املقربة جيلله الصمت الرهيب‪ ..‬ال شيء إال أزيز السيارات‪ ..‬سيارتان‬
‫للشرطة تتقدمان املوكب وخلفهما بالضبط السيارة احلاملة النعش مسجى‬
‫وسطها‪ ..‬مغطى بالعلم الوطين‪ ..‬على جانبيه جثم مقربوه‪..‬‬
‫كان صاحل مومياء‪ ..‬يرد رأسه إىل اخللف ويسنده على جانب السيارة‪..‬‬
‫مفرغ الذهن من كل شيء‪ ..‬لقد توقف ذهنه عن كل تفكري‪ ..‬جبواره‬
‫جلست غامسا رأسي بني ركبيت وقد تورمت عيناي من شدة البكاء يطوح‬
‫بي اخليال يف حمطات كثرية ثم يومض فجأة عند اجلازيه هذه املسكينة اليت‬
‫أبى القدر إال أن يوغل يف تعذيبها‪ ..‬وعند أبيها وأمها الطرحية الفراش‪..‬‬
‫وعند ذياب الذي كان من املفرتض أن حيضر لكنه مل يلحق حتى اآلن‪..‬‬
‫ويعود بي اخليال إىل عبدالرحيم‪..‬‬
‫آه أيها الطيب الربيء من قتلك؟‬
‫من له فائدة يف قتلك؟‬
‫من له هدف يف رسم تضاريس الفجيعة على قلوب أفراد هذه األسرة‬
‫التعيسة‪ ..‬كل سكان حارة احلفرة‪ ..‬كل البسطاء واحملرومني؟‬

‫‪131‬‬
‫من له هدف حفر أنهر للدماء والدموع يف ذاكرة هذا الشعب؟‬
‫واهتززت من مكاني فشهقت وعدت لفجاج الصمت وأنا أغلق عيين‬
‫بكفي‪ ..‬خيل إلي أن عبدالرحيم قد حتول إلي‪ ..‬فتح عينيه‪ ..‬وصرخ مبلء فيه‪:‬‬
‫أنت الذي قتلتين‪ ..‬وأسرعت فمددت يدي إىل رقبيت خوف االختناق‪..‬‬
‫وهممت أن أصرخ فيه أني بريء‪ ..‬وهممت أن أقوم من مكاني فأرمي‬
‫بنفسي من السيارة‪ ..‬وعدت إىل نفسي فبدأ اهلدوء يسود أرجاءها‬
‫املضطربة‪.‬‬
‫مل أكن أ شعر بكل ما جيري حولي‪ ..‬كنت أركز بصري بشدة يف‬
‫وجه صاحل جيلس جبابب منري مومياء دبت فيها احلياة حماوال استجالء‬
‫تضاريس أفكاره‪ ..‬بقدر ماكانت الفاجعة على قليب شديدة وكان حزني‬
‫كبريا على موت عبدالرحيم‪ ..‬كانت زوابع احلرية تضطرب يف دخيليت‪..‬‬
‫من قتل عبدالرحيم؟ اإلرهاب دون شك‪ ..‬اجلميع يتفق على ذلك ‪..‬‬
‫ولكنهم يف اآلن ذاته خيتلفون يف تصنيف وحتديد هذا اإلرهاب‪ ..‬هل‬
‫هو إرهاب املال؟ رمبا‪ ..‬عبدالرحيم شرطي ولعله أدخل أنفه يف أمور ال‬
‫قبل له بها فكان جزاؤه الذي ناله‪..‬‬
‫أ و لعله مل يفعل سوى أن طبق قانونا بسيطا على شخص له يد طوىل‬
‫فاعترب ذلك مساسا بكرامته وكان الذي كان‪ ..‬أو‪ ..‬هل‪ ..‬هو إرهاب‬
‫اإلسالمني وقد نذروا أنفسهم لقتل رجال السلطة وأعوانهم منذ توقيف‬
‫املسار االنتخابي‪..‬؟‬
‫ملاذا يارب عشر سنوات والدماء جتري وديانا؟‬
‫ملاذا يارب؟‬
‫ملاذا ميوت كل شيء يف وطين‪ ..‬وحده املوت يبقى حيا‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫واستويت يف جلسيت أضم ركبيت إىل بعضهما البعض‪ ..‬حككت‬
‫شاربي الكث‪ ..‬تغريت سحنة وجهي وأنا أبطل كل مافات دفعة واحدة‪..‬‬
‫لن أترك الظنون تذهب بي بعيدا‪ ..‬الذي قتله هو اإلرهاب‪ ..‬اإلرهاب‬
‫الذي نعرفه‪ ..‬لقد أكد السائق واملرأتان ومجاعة أخرى ممن وقعوا يف‬
‫الكمني وابتزت أمواهلم أن القتلة كانوا شبابا ملتحني‪ ..‬وكانوا يتحدثون‬
‫باسم اإلسالم‪ ..‬إنهم هم‪ ..‬مل يفعلوا هذه فقط‪ ..‬لقد اقرتفوا جمازر أبشع‬
‫وقتلوا أطفاال ونساء وأبرياء‪ ..‬وشردوا عوائل من قراهم وأريافهم اآلمنة‪..‬‬
‫ولكن اليهم كل هذا الذي يؤرقين ويذبح يف نفسي الرجولة‪ ..‬هل كان‬
‫ذلك امللعون معهم؟ إن فعلها فعليه اللعنة‪ ..‬إن فعلها فإني قاتله‪ ..‬وحدي‬
‫سأقتله‪ ..‬سأمحل السالح من جديد البد أن أقلم الغصن املريض ليعود‬
‫لأليك نضارته‪.‬‬
‫ورفعت رأسي أ دقق النظر يف مالمح صاحيب‪ ..‬فيم يفكر صاحل اآلن؟‬
‫هل تساور ه الشكوك يف ابين صالح الدين؟ إن اعتقد ذلك فقد فقدت‬
‫أعز وأعظم من عرفت يف حياتي‪ ..‬عليك اللعنة ياصالح الدين‪ ..‬يافساد‬
‫الدين لو لقيتك لذحبتك وشربت دمك كله‪ ..‬كنت أنتظر منك أن‬
‫تعزني حني تتقدم بي السن فإذا أنت تذلين‪ ..‬تقتل زوج أختك‪ ..‬تقتل‬
‫أخا ظل أبواه لنا مجيعا أبوين‪ ..‬وتضع أنفي بني أقراني‪ ..‬حتى غدوت‬
‫حمط اهلمس واللمز‪ ..‬إيـه يارب‪..‬‬
‫ألست أحتمل شطرا من اجلرمية؟ ليس صالح الدين أوال وأخريا إال‬
‫ضحية لذلك األفعى الذي جاءنا يوما من العاصمة ليتزوج ابنيت رغم‬
‫ظروفه القاهرة اليت كان حيياها‪ ..‬ما كنت أبالي بذلك كان خضارا يسكن‬
‫بيتا متواضعا جدا يف ضواحي باش جراح‪ ..‬الرجل العيب فيه مادام‬

‫‪133‬‬
‫مستقيما وعامال حيصل قوت يومه‪ ..‬فاجأني حني زارنا يف العام املوالي‪..‬‬
‫تغريت ثيابه وسلوكه وأسدل حلية مبعثرة‪ ..‬وغزانا بأفكار مل نألفها من‬
‫قبل‪ ..‬ترك عمله ومكث عندنا طويال يدعو ألفكاره‪ ..‬هو يدعو الرجال‬
‫وزوجته تدعو النساء‬
‫انبهر بعض الشباب بالذي جاء به فاتبعوه‪ ..‬وكان صالح الدين‬
‫أشدهم حتمسا‪..‬‬
‫بعد أشهر حتول جذريا وصار داعية يستقطب األنظار وله أتباع‪..‬‬
‫خيتلفون عنا يف الصالة والصيام واللباس واألفراح واألتراح‪.‬‬
‫عليك اللعنة أيتها املدن الكبرية يا من دنست عذريتنا‪..‬‬
‫وصل املوكب اجلنائزي إىل املقربة‪ ..‬توقفت السيارات وأسرع الناس‬
‫يتداولون محل النعش على األكتاف وقد غطاه العلم الوطين‪ ..‬أوصلوه إىل‬
‫القرب مل يُصلَّ عليه لقد عد من الشهداء‪ ..‬تنافس الشباب جمهدين أنفسهم‬
‫يف مواراة اجلثة‪ ..‬قبع صاحل قريبا هيكال جامدا ال يبدي حركة‪ ..‬جبواره كان‬
‫منري ينتحب‪ ..‬وعن ميينه وقفت مع الربيع جامدي املالمح‪.‬‬
‫انتهت عملية الدفن وبدأ الناس يغادرون املقربة وقفت إىل جوار صاحل‬
‫ومنري والربيع لتلقي التعازي‪ ..‬تقاطر الناس علينا‪:‬‬
‫‪ -‬عظم اهلل أجركم‪ ..‬عظم اهلل أجركم‪..‬‬
‫خلت املقربة إال من بعض املقربني‪ ..‬سحبوا صاحل بعيدا‪ ..‬ومعه سار‬
‫الربيع خلفهما كنت أسري خبطى كئيبة‪ ..‬وحده ختلف منري‪ ..‬جثا عند القرب فوق‬
‫تربته الطرية‪ ..‬كان ينتحب ويرتفع نشيجه حتى يسمع من بعيد‪ ..‬يرتفع صوته‬
‫مرة بالدعاء لصاحبه ومرة ينكب على قربه يقبله ويطلب العفو‪.‬‬
‫كم هي قاسية فجيعة فراق األحبة!!‬

‫‪134‬‬
‫‪5‬‬

‫احلب وعفونة الرصاص‬

‫‪1‬‬
‫اقرتبت من اجلامع العتيق عائدا إىل حارة احلفرة‪ ..‬كان الوقت الرابعة‬
‫والنصف بعد الزوال‪ ..‬منذ دقائق أكمل املصلون صالة العصر فراحوا‬
‫يتفرقون عرب كل االجتاهات‪ ..‬أمام اجلامع جلس بعض الشيوخ جيرتون‬
‫ذكريات املاضي‪ ..‬ونفر من شباب يتميزون بلباسهم اخلاص نبتت لبعضهم‬
‫حلى خفيفة‪.‬‬
‫عربت أمام الباب‪ ..‬رفعت بصري‪ ..‬تراءى لي صحن املسجد‬
‫تتوسطه فوارة متد رقبتها لتعانق بعينيها صفحة السماء عرب فتحة وسط‬
‫السقف وحوهلا تتدفق املياه للوضوء قيل إنها تشبه مباني األندلس‬
‫قدميا‪ ..‬ال أعرف األندلس ولكين مسعت هذا احلديث وأنا أشارك متطوعا‬
‫يف ترميمه منذ سنوات‪ ..‬وقيل أن اإلبراهيمي هو الذي أقامه قبل الثورة‬
‫التحريرية على هذا النمط‪.‬‬
‫حنني كبري يشدني إىل دخول اجلامع‪ ..‬حنني شديد جيذبين إىل ولوجه‬
‫وتفقد كل ركن فيه‪ ..‬لكين أقسمت أال أدخله‪ ..‬هل كنت متسرعا؟ رمبا‬
‫ولكن ما وقع فيه مل يكن شيئا هينا‪ ..‬أسرعت مبتعدا وأنا أذكر تلك‬
‫اجلمعة املشؤومة حني قام صالح الدين تدعمه جمموعة من األتباع يطلقون‬
‫على أنفسهم مجاعة أنصار السنة بتهديم احملراب وإتالف كل زخارفه‬
‫وأقاموا مكانه بابا وكسروا املنرب ذا اخلشب األمحر املنقوش ووضعوا مكانه‬

‫‪135‬‬
‫مصطبة مرتفعة قليال‪ ..‬وحني حانت صالة اجلمعة منعوا اإلمام الشيخ من‬
‫إمامة الناس‪ ..‬وتقدم مكانه صالح الدين الذي امتنع عن تقديم الدرس‬
‫وحتدث يف اخلطبة عن بدع املسجد واجلمعة مركزا على البدع يف احملراب‬
‫واملنرب والدرس‪..‬‬
‫كثري من اخللق قاطع صالة اجلمعة ذلك اليوم وبعضهم أداها‬
‫متذمرا‪ ..‬بعد انتهائها وقعت خصومة وفتنة شديدة بدأت باحلجاج‬
‫واللجاج‪ ..‬وانتهت إىل القذف والشتم والتهديد بتغيري كل معامل اجلامع‬
‫حتى تتوافق مع سنة النيب‬
‫يومها أقسمت أن ال أصلي مرة أخرى يف هذا اجلامع مادام مصدرا‬
‫للفتنة‪.‬‬
‫بنصف ساعة بعد ذلك وصل رجال األمن للقبض على اجلناة‬
‫لكنهم مل جيدوا أحدا وبُحث عنهم يف كل مكان دون جدوى وعلمنا‬
‫بعد ذلك أنهم التحقوا باجلبال وكونوا مجاعة تسمى مجاعة أنصار‬
‫السنة املسلحة‪ ..‬وتوالت بعد ذلك جرائم القتل واالغتياالت داخل‬
‫املدينة وخارجها‪ ..‬على الطرقات املؤدية إليها خاصة الغابية والنائية‪..‬‬
‫هل هم الذين نفذوا تلك اجلرائم؟ هل ميكن لشخص يؤمن باإلسالم‬
‫ويدعي التمسك به أن يقتل األبرياء؟‬
‫وأنا أقرتب من حارة احلفرة التقيت اخلَيَّر بلعوط‪ ..‬حياني وراح يسري‬
‫إىل جواري دون أن ينطق‪ ..‬سألته‪:‬‬
‫‪ -‬أين كنت يااخلري؟‬
‫‪ -‬صليت العصر وأنا عائد اآلن إىل البيت‪ ..‬كربنا ياعمي اخلري وال‬
‫ينفع إال الصح‪ ..‬منذ أن صرنا آباء انتهى اللعب‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫تذكرت سنوات شيطنته مع عْزَيَّزْ ربيب العجوز عكة‪ ..‬وكيف كانا‬
‫يعودان كل مساء خممورين‪ ..‬ويلقاهما الصبية باحلجارة صائحني‪ ..‬مخارين‪..‬‬
‫مخارين‪ ..‬وحني كانا ينشران الفرح يف األعراس يضرب اخلري على آلة‬
‫الزرنة ويغين عْزَيَّزْ ضاربا على البندير‬
‫عدت إىل نفسي وقلت مواصال حديثي‪:‬‬
‫‪ -‬تصور كنت أذكرك اآلن يف نفسي‬
‫‪ -‬ذكرك اهلل خبري‬
‫‪ -‬تذكرت ماوقع من مدة يف املسجد العتيق من صالح الدين‬
‫السلفي ومجاعته‪ ..‬ودار يف نفسي هل ميكن ألولئك أن يقتلوا األبرياء بكل‬
‫برودة دم؟ وتذكرت أنك كنت واحدا من ضحاياهم‪..‬؟‬
‫وقاطعين اخلري مندفعا يف احلديث‬
‫‪ -‬إيـهٍ ياعمي صاحل كانت تلك الليلة منذ عام بعد مقتل عبدالرحيم‬
‫‪-‬يرمحه اهلل‪ -‬بشهر واحد ولكنها كانت ليلة فضيعة كأنها حدثت لي‬
‫البارحة‪ ..‬فوجئت بهم يعرتضون طريقي مشهرين أسلحة خمتلفة‪ ..‬سيوف‪..‬‬
‫خناجر‪ ..‬بنادق‪ ..‬ورشاشات‪ ..‬وأسرعت فأوقفت شاحنيت‪ ..‬قبل أن أسرتد‬
‫أنفاسي وأبتلع ريقي فتح أحدهم الباب وجذبين إىل اخلارج‪ ..‬تبني لي من‬
‫مالحمه أنه شيطان‪ ..‬حلية مبعثرة كلحية التيس‪ ..‬وعينان تزيغان ميينا ومشاال‬
‫كعيين إبليس‪ ..‬صدقين ياعمي صاحل روحي صعدت إىل خالقها وبردت‬
‫ساقاي فلم تقويا على محلي فتهاويت إىل األرض‪..‬‬
‫صاح يف أحدهم أين النقود؟ فطرت من مكاني إىل داخل الشاحنة‬
‫قلبت املقعد وأخرجت حزمة بها عشرون مليونا سلمتها لطالبها فسلمها‬
‫لألمري‬

‫‪137‬‬
‫سألته مقاطعا‪:‬‬
‫‪ -‬هل كان األمري صالح الدين السلفي؟‬
‫رد بسرعة كأمنا كان ينتظر هذا السؤال‪:‬‬
‫‪ -‬أجل هو بعينه‬
‫عدت مرة أخرى للسؤال‪:‬‬
‫‪ -‬كيف عرفت؟‬
‫‪ -‬كان ملثما ولكنه ليس غريبا علي‪ ..‬أنا أعرف شكله وقامته وصوته‬
‫انتظرني ألقول شيئا وحني مل يبدر مين ذلك واصل حديثه بنفس‬
‫احلماس‪:‬‬
‫‪ -‬جروني بعد ذلك إىل قارعة الطريق وربطوني إىل الشجرة‪ ..‬صدقين‬
‫يا عمي صاحل مل أ ُبلْ من قبل كما بلت يف تلك اللحظة كأنين أفرغ من‬
‫صهريج‪ ..‬تبلل سروالي وامتأل حذائي‪ ..‬رمبا مل أفرغ مثانيت فقط بل أفرغت‬
‫حتى أوعييت الدموية‪ ..‬ورمبا كان بولي أمحر‪ ..‬قلت باكيا مستعطفا أنا‬
‫أخوكم ال تقتلوني‪ ..‬مل أكمل حديثي وقاطعين حنن ال نقتل ميتا مثلك‪..‬‬
‫أنت يف نظرنا جمرد جيفة سنأخذ الشاحنة لنقل املؤونة إىل مكامننا‬
‫وستجدها غدا يف املدينة‪ ..‬حني تعود أخرب الطواغيت أننا سننتصر بإذن‬
‫اهلل‪ ..‬وأننا سنقيم الدولة اإلسالمية قريبا ليس يف اجلزائر فحسب بل يف‬
‫العامل‪ ..‬سنحارب الطواغيت واملبتدعني والشيعة ومن شاكلهم من حزب‬
‫الشيطان‪ ..‬وسيكون جزاءهم القتل مجيعا‬
‫وانطلقوا مبتعدين فأسرعت بإزالة القيد‪ ..‬مل يكن وثيقا‪ ..‬لعلهم‬
‫تعمدوا ذلك‪ ..‬ثم‪..‬‬
‫قلت مقاطعا وقد أحسست أنه أطال يف روايته لواقعته هذه فأنا أعرف‬

‫‪138‬‬
‫كثريا من تفاصيلها‪ ..‬وندمت أن سألته عنها أصال‪ ..‬وأردت أن أغري جمرى‬
‫احلديث‪ ..‬لكنه وللمرة الثانية جنح يف إرغامي على مواصلة االستماع‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعلم ياعمي صاحل ماوقع لي بعد ذلك؟ مل أذهب للشرطة وال‬
‫لبييت وإمنا اخرتت بيت صهري كان هو األقرب‪ ..‬دخلته وأنا أرجتف كأن‬
‫الوحي قد أنزل علي‪ ..‬وطلبت من محاتي أن تدثرني بكل ما عندهم من‬
‫األغطية وبقيت هناك ثالثة أيام كاملة‪ ..‬جاءوني بأسرتي وبالطبيب‬
‫وجاءتين الشرطة ووجدوا شاحنيت منقلبة يف الوادي و…‬
‫وقاطعته منهيا روايته للقصة بلباقة‪:‬‬
‫‪ -‬سالمة رأسك يااخلري‪ ..‬قصتك طريفة‪ ..‬نلتقي مرة أخرى فأعدها‬
‫علي‪ ..‬ألقاك خبري‬
‫وانطلقت إىل املنزل‪ ..‬كنت يف حاجة إىل راحة نفسية وجسدية‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫أغلقت باب املكتبة بإحكام ومددت يدي فجذبت الستار احلديدي إىل‬
‫األسفل وحني كدت أهوي به أحسست بيد تلمس كتفي‪..‬‬
‫اقشعر بدني فرتكت الستار واستدرت سريعا وما فتئت أن ابتسمت‬
‫مبتهجا مهلال…مل يكن القادم إال السيد معرفة وهو مفتش الرتبية‬
‫والتعليم بالطور الثانوي‪ ..‬غزاه الشيب من كل جانب‪ ..‬وغارت عيناه حتت‬
‫نظارته القدمية‪ ..‬واستطال أنفه النحيف‪ ..‬وعلت وجهه الصغري صفرةَ‬
‫عِلة… لقد تغري السيد معرفة أكثر من الالزم حتى غدا مبعثَ الشفقة‪..‬‬
‫على األقل بالنسبة إلي‪..‬‬
‫مل يدعين أغرق حتى األعماق يف تأمالتي حني حياني مبتسما‪ ..‬ومل‬
‫تزدني ابتسامته وأنا أرى أسنانه قد تهاوى معظمها وسوِد ما تبقى إال‬

‫‪139‬‬
‫شفقة عليه‪ ..‬قلت مصطنعا الثبات‪:‬‬
‫‪ -‬مساء سعيد سيدي‪.‬‬
‫وكأمنا مل يأبه بردي فدفعين من كتفي مشريا أن أفتح احملل‪ ..‬ودون أن أرد‬
‫رحت أفتح الباب مرة ثانية‪ ..‬حني دخلت وأشعلت النور قلت له‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أصبحنا نعيش هذه األيام قلقا رهيبا‪ ..‬كثرت االغتياالت‬
‫وكثرت معها أعما ل السطو والسرقة‪ ..‬البارحة فقط أضفتُ قفال ثالثا‬
‫لباب املكتبة‪.‬‬
‫ضحك من األعماق ضحكة فيها شيء من األسى‪ ..‬نظر يفَ بكثري من‬
‫السخرية وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لو وجدتُ من يسرقك ملهدت له الطريق وألعنته على بلوغ أربه‪.‬‬
‫وسكتَ كأمنا يتجرع مرارة‪ ..‬جال ببصره يف املكتبة‪ ..‬دس يده يف جيبه‪..‬‬
‫أخرج قطعا نقدية‪ ..‬قربها من عينيه‪ ..‬وضع بعضها على احملسب‪ ..‬وطلب‬
‫سياال أمحر وممحاة‪ ..‬سلمته ما طلب وأعدت إليه النقود‪ ..‬رفض هذا‬
‫التصرف مين‪ ..‬ذكرته باحلديث املشهور من علمين حرفا كنت له عبدا‪..‬‬
‫أبى كل تربير مين‪ ..‬دس ماطلب يف جيبه‪ ..‬واجتاز عتبة الباب ينوء مبحفظته‬
‫املنتفخة الكبرية‪ ..‬ثم توقف ينتظرني‪ ..‬اشتغلت بغلق الباب ورحت أعيد‬
‫إىل ذاكرتي حمطات من حياته‪..‬‬
‫بدأ حياته أستاذا للغة العربية وآدابها‪ ..‬قضى يف ذلك عشرين سنة كان‬
‫خالهلا مثاال لالنضباط واجلدية‪ ..‬يضحي بكل شيء من أجل أن يبلِّغ‬
‫املعرفة للجميع دون استثناء‪ ..‬لذلك مل يتزوج إال وقد جتاوز األربعني من‬
‫فتاة درست عنده وأحبته فأوقعته يف شباك الزواج بعد أن قضى شطرا‬
‫كبريا من عمره يتهرب منه‪ ..‬بعد ذلك ترقى ليصبح مفتشا فزاد إحساسه‬

‫‪140‬‬
‫باملسؤولية‪ ..‬خيرج عند الصباح باكرا يراوح بني يديه محلَه الثقيل‪ ..‬يتنقل‬
‫باحلافالت‪ ..‬يؤدي مهمة التوجيه والرتبية وحني يعود إىل بيته مع املساء‬
‫ينكب على كتابة تقاريره‪ ..‬إنه سكرتري نفسه‪.‬‬
‫كنا قد وصلنا إىل مفرتق الطرق‪ ..‬عند هذه النقطة سينحدر هو إىل‬
‫الشمال حيث يسكن يف الطابق اخلامس من إحدى العمارات وأدور أنا‬
‫إىل اليمني غري بعيد حيث حارة احلفره‪ ..‬قبل أن نفرتق أردت أن أسأله عن‬
‫حاله‪ ..‬عن حالنا مجيعا‪ ..‬أردت أن أقول له ملَ يُمنح بعض املسؤولني الذين‬
‫خيربون البالد السيارات الفاخرة‪ ..‬وينجز هو عمله مرتجال رغم مستواه‬
‫العلمي ومهمته الصعبة؟ ولكين سكت وهو يضغط على أصابعي ويقول‪:‬‬
‫ذو العلم يشقى يف النعيم بعقله * وأخو اجلهالة يف الشقاوة ينعم‬
‫كان هذا البيت الشعري كاف لإلجابة عن حريتي كأمنا قرأ ماجال يف‬
‫نفسي‪ ..‬استدرت ميينا هابطا إىل مسكننا تقودني العادة إليه مشتت الذهن‬
‫تائه اخلاطر جمرد كتلة تتحرك يف الظالم دون وعي مبا كان يدور حوهلا‪ ..‬كان‬
‫املتنيب وحده يقف قباليت حنيفا فارع الطول‪ ..‬يفتح فاه إىل آخره‪ ..‬صائحا يف‬
‫احلشود اليت ارمتت نائمة على األرض‬
‫يا أمة ضحكت من جهلها األمم‬
‫كيف ألمة من مبادئها اقرأ‪ ..‬وخذ الكتاب بقوة‪ ..‬والعلماء ورثة األنبياء‪..‬‬
‫وخري جليس يف األنام كتاب النزول إىل هذا احلضيض من اجلهل وإهانة‬
‫العلم وأصحابه؟‬

‫‪3‬‬
‫حبركة آلية فتحت جهاز التلفاز وأنا أفك أزرار قميصي‪ ..‬جتاوزت‬
‫جمموعة من القنوات األجنبية اليت اعتدت مشاهدتها‪ ..‬توقفت عند القناة‬

‫‪141‬‬
‫الوطنية‪ ..‬كانت نشرة الثامنة‪ ..‬هممت أن أغري القناة حني صعقت مكاني‬
‫ووزير التخطيط والعمران اجلديد يعقد ندوته الصحفية األوىل والذي مل‬
‫يكن سوى سي سليمان مدير املشفى السابق والذي تسبب يف طرد عمي‬
‫صاحل من عمله ومن مسكنه‪ ..‬لك اهلل أيها الوطن العظيم!!! من متخرج‬
‫من معهد امليكانيك إىل مدير مشفى إىل مستشار بالوزارة إىل وزير‬
‫للتخطيط والعمران‪ ..‬ماذا سيفعل عمي صاحل بنفسه إن علم بالنبإ‬
‫العظيم؟ وأنى له أن يعلم ووزراؤنا يتغريون كل شهر؟‬
‫بدأ الوزير كالمـه‪ ":‬أمامنا عمل بزاف ومشاكـل قد جلبال ‪parce‬‬
‫‪ que‬وزارتنـا‪ très importante.. importante..‬الزم خنطط ونشيد‬
‫عمرانات باش نقضي على مشكل السكن اخلطري ونسهل لـ ‪les‬‬
‫‪ habitant‬البسطاء السكن ولو باألديان‪..‬‬
‫وارتفع صوت أحد الصحفيني مصححا بالديون ‪..‬‬
‫أقفلت التلفاز وعلى غري العادة استسلمت إىل حضن الفراش باكرا‬
‫بعد أن قلبت النظر يف جمموعة من الكتب كان آخرها املعقول‬
‫والالمعقول للكاتب اإلجنليزي كلون ولسون‪ ..‬مل تكن نفسي مستعدة‬
‫للقراءة‪ ..‬ولكنها كانت ميالة إىل النوم‪ ..‬لعله اهلروب من الواقع الذي غدا‬
‫اليطاق‪..‬‬
‫الوضع أصبح أكثر تدهورا‪ ..‬مستوى املعيشة أصبح مفزعا‪ ..‬حرية الرأي‬
‫محامة مشنوقة يف كل مكان‪ ..‬بطالة سافرة أو بطالة حمجبة‪ ..‬بالدنا أصبحت‬
‫سوقا ضخمة لسلع تنتجها حتى الدول الضعيفة‪ ..‬وتستوردها عصابات‬
‫أثرت على حساب الوطن‪ ..‬تدنٍ ملكانة العلم ومكانة أهله حتى غدوا حمل‬
‫احتقار الدهماء والرعاع‪ ..‬األقالم النزيهة غدت بني فكني‪ ..‬فك اإلرهاب‬

‫‪142‬‬
‫وأصحاب املصاحل وفك أصحاب األمر والنهى‪ ..‬مستنقعان جيب أن يسبح‬
‫قلمك يف أحدهما أو فالويل له‪..‬‬
‫حاليت النفسية تكاد تنهار‪ ..‬ظل عبدالرحيم يلح يف احلضور داخل‬
‫خميليت‪ ..‬صمته الرهيب‪ ..‬أحالمه العراض‪ ..‬خيباته املتكررة‪ ..‬جرحه الذي‬
‫لعقناه وسكتنا كما تعودنا أن نسكت على اخليانة‪ ..‬هو ومئات الضحايا‬
‫من قتلهم‪..‬؟ من تقلد قطرات دمهم‪..‬؟‬
‫أين هي عبله احللوة ملاذا نسيَها الناس؟ ملاذا ننسى جراحاتنا بسرعة‪..‬‬
‫نذري فوقها الرماد وننسى؟ وحده عزُّو ْز الدود ظل يذكرها‪ ..‬ظل حيدث بها‬
‫يف كل جملس‪ ..‬ظل حيملها يف قلبه أمال مجيال مشرقا عبقا‪ ..‬هل اجملانني‬
‫عندنا أكثر وعيا منا وأكثر وفاء‪ ..‬أم أن اآلخرين هلم ما يشغلهم؟‬
‫كانت أسناني تتساقط بشكل عجيب وكنت أقوم بلمها بلساني وأرمي‬
‫بها على األرض مندهشا متعجبا‪ ..‬والذي كان حيريني هو سقوطها دون آثار‬
‫من دم‪ ..‬وصك أذني دق عنيف يزلزل الباب اخلارجي فاندفعت واقفا قاذفا مبا‬
‫كان يدثرني‪ ..‬فرتامت الكتب العديدة اليت كانت تنام معي على بالط‬
‫احلجرة‪ ..‬وشاهدت كتاب كلون ولسون ينقسم قسمني‪ ..‬مازالت الطَّرقات‬
‫تصل إىل أذني قوية حادة‪ ..‬هممت أن أستطلع األمر من خالل النافذة لكين‬
‫تراجعت يف آخر حلظة وعجلت أنزل السلم‪ ..‬وقد ذهب بي التفكري‬
‫مذاهب شتى‪..‬‬
‫من يقف اآلن خلف الباب؟ وملاذا يدقه بهذا الشكل؟ وماذا يريد؟‬
‫وهل ميكن أن أفتحه مباشرة؟ وهل ميكن أن أقاوم هذا الطارق إن عمد‬
‫إىل الدخول عنوة؟‬
‫ويف طريق نزولي صادفين عمود حديدي فحملته بيمناي وواصلت‬

‫‪143‬‬
‫النزول‪ ..‬وقفت إلي اليمني متجنبا مقابلة الباب مباشرة خوفا من إطالق‬
‫النار عليَّ وهو ما وقع عدة مرات يف هذه املدينة وذهب ضحيته الشيخ‬
‫اإلمام وطوي امللف دون أن تثبت اجلرمية على أحد‪..‬‬
‫قيل يومها أن اإلرهابيني هم الذين قتلوه ألنهم أرادوه أن يصدر فتوى‬
‫وجوب اجلهاد ضد السلطة وكل أجهزتها واملتعاملني معها لكنه أبى ذلك‬
‫انطالقا من أن املسلم ال حيل له قتل أخيه املسلم حتت أية ذريعة‪ ..‬وقيل أن‬
‫أجهزة الدولة هي اليت قتلته خلطبه النارية اليت كان يلقيها كل مجعة منتقدا‬
‫فيها ما وصلت إليه الدولة من فساد واحنراف‪ ..‬وذهب دمه وسط األقاويل‪..‬‬
‫ال أحد يعرف احلقيقة‪ ..‬ولعله هو ذاته ال يدركها لقد كان‪..‬‬
‫وتواصلت الطرقات على الباب احلديدي شديدة‪ ..‬تنصت لَعلي أمسع‬
‫حديثا يدل على هوية الطارق‪ ..‬فلم أمسع شيئا‪ ..‬لكين تأكدت أنهم مجاعة‬
‫واضطررت أن أنطق متسائال‬
‫‪ -‬من الطارق؟‬
‫وسريعا جاءني اجلواب كأمنا صاحبه كان ينتظر سؤالي‬
‫‪ -‬افتح‪ ..‬الشرطة‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا تريد الشرطة عندنا ليال؟‬
‫‪ -‬افتح وفقط‪..‬‬
‫هل هم الشرطة حقا؟ ميكن ذلك ألن غريهم ال ميكن أن حيضروا يف‬
‫هذا الوقت ويبقوا وقتا طويال أمام الباب‪ ..‬ويدقوا الباب مبثل هذه الثقة‪..‬‬
‫ولكن ما تريد الشرطة عندي؟ ميكن أن يكونوا آخرين عندهم معي حساب‬
‫ما أنا ال أعرفه‪ ..‬والراجح أنها لعبة من أالعيب امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ليس يف‬
‫األمر مشكلة‪ ..‬سكان حارة احلفرة ال خيفى عليهم شيء مطلقا وال ميكن أن‬

‫‪144‬‬
‫يبقى أحدهم اآلن نائما‪ ..‬أنا على يقني أنهم يتلصصون مجيعا على النوافذ‬
‫واألبواب وهذا أمر يفيدني كثريا يف حتديد هوية الطارقني‪.‬‬
‫وتناهى إىل مسمعي صوت عمي صاحل وهم حياولون إبعاده عن الباب‬
‫‪ -‬ماذا تريدون؟ حتى أنتم‪.............................‬‬
‫وأسرعت أفتح الباب البد أن أدرك املوقف قبل أن يقع ما ال حتمد‬
‫عقباه‪ ..‬عمي صاحل ال خيشى أن يقول ما يراه صوابا‪ ..‬فإذا استشاط غضبا قلب‬
‫الدنيا على اجلميع وقد يتعرض لألذى‪ ..‬كان أحد رجال األمن ميسك به‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ياعمي صاحل حنن ننفذ األوامر وفقط‬
‫كانوا أكثر من عشرة رجال بعضهم يلبس بذالت زرقاء وآخرون يف‬
‫مالبسهم امل دنية ولكنهم مجيعا كانوا مدججني باألسلحة‪ ..‬تكاد‬
‫سياراتهم الثالث تسد الرؤية عن كل اجلريان‪ ..‬مددت يدي إىل‬
‫الشرطي الذي كان ميسك بعمي صاحل ألبعده عنه‪ ..‬لكن اآلخرين‬
‫أمسكوا بي ودفعوني إىل البيت‪ ..‬مل أستطع أن أمنعهم وال أن أقاومهم‪..‬‬
‫ومل مينحوني حتى فرصة االستفسار عن الغرض من جميئهم ليال‪ ..‬وحده‬
‫عمي صاحل كان يصيح جملجال‬
‫‪ -‬ال تدعهم يدخلون‪...‬إنـ‪...........................‬‬
‫بقي بعضهم يف احلجرة األرضية وصعد آخرون معي إىل احلجرة العليا‪..‬‬
‫كنت واقفا متكئا على اجلدار يف الوقت الذي انهمك فيه اجلميع يقلبون‬
‫كل شيء‪ ..‬املكتبة‪ ..‬األشرطة‪ ..‬فتحوا جهاز اإلعالم اآللي‪ ..‬قلبوا السرير‪..‬‬
‫فتشوا داخل كل شيء ميكن أن خيفي دليال‪...‬‬
‫كررت سؤالي مرارا عم تبحثون ألدلكم عليه؟ مل يعبأوا بسؤالي‬

‫‪145‬‬
‫جلست على الكرسي‪ ..‬مازالت زوابع عمي صاحل تصل مسامعنا مجيعا‪..‬‬
‫وأمروني باخلروج معهم فامتثلت لألمر‪ ..‬اقرتح علي أحدهم وكان صامتا‬
‫طول الوقت أن ألبس معطفي ألن الربد شديد‪ ..‬نظرت فيه شاكرا ومل أمتثل‬
‫لطلبه‪ ..‬حني هموا بإدخالي إحدى سيارتهم الزرقاء‪ ..‬وقفت أمامي اجلازيه‬
‫تدثرني بربنس عبدالرحيم‪ ..‬كانت نظراتها برنسا دافئا قرأت على‬
‫صفحاتها آيات احلب والتقدير‪.‬‬
‫وانطلقت السيارات مبتعدة عن عيون أهل احلارة اليت بدأت خترج من‬
‫جحورها‪ ..‬وعن صياح عمي صاحل الذي كان حياول أهل احلارة منعه من‬
‫اللحاق بي‪.‬‬
‫ماكنت قلقا مطلقا بل كنت رابط اجلأش متاما ليس الذي يقع غريبا عنا‬
‫بل هو يف احلقيقة أمر بسيط‪ ..‬منذ سنوات تدهورت األوضاع وتعفنت‪..‬‬
‫وقد جيرف الواحد منا خطأ أو محاقة وقد تبتلعه زوبعة حسد أو تصفية‬
‫حسابات‪ ..‬وسواء أكنتَ يف السجن أم يف خمفر الشرطة أم تعبث يف األزقة‬
‫والشوارع فأنت سجني‪..‬‬
‫حني دخلت خمفر الشرطة قرأت على ساعة اجلدار الساعة الثانية‪ ..‬كان‬
‫اجلو باردا‪ ..‬وكان الصمت يقمط املدينة النائمة‪ ..‬كان يلفها كجثة مومياء‪ ..‬مل‬
‫يكن يصل مسمعي إال وقع أقدام رجال الشرطة وهم يذرعون غرف‬
‫املكاتب واألروقة جيئة وذهابا‪ ..‬وإال الساعة احلائطية اليت مل متل من توقيع‬
‫دقاتها بانتظام رتيب‪ ..‬تذكرت أغنية الفنان اجلزائري رابح درياسه‬
‫ياساعَه يهديكْ دوري وَاجْري بَالَّرقَّاص‬
‫عيين تنظرْ يف ارقامكْ واخلاط ْر مُحْتارْ‬
‫والَّت الدْقَيْقات ساعه والساعه بَانْهارْ‪..‬‬

‫‪146‬‬
‫ساعة من الزمن قضيتها وحدي‪ ..‬استدعيت بعدها إىل مكتب آخر‪..‬‬
‫جلست أمام حمقق ال أعرفه‪ ..‬أمطرني بوابل من األسئلة العادية‪ ..‬امسك‪..‬‬
‫لقبك‪ ..‬سنك‪ ..‬عملك‪ ..‬احلزب الذي تنتمي إليه‪ ..‬مارأيك يف فخامة الرئيس‪..‬‬
‫أكمل ملء االستمارة وسلمها لي كي أوقع على ما صرحت به‪ ..‬دخل‬
‫اثنان‪ ..‬أمراني أن أنزع سرييْ حذائي وحزام سروالي وساعيت وكل ما أمحل‬
‫من وثائق ونقود وفعال امتثلت لألمر دون مناقشة‪ ..‬بعدها أدخلوني خلف‬
‫قضبان حديدية‪ ..‬وطلبوا مين أن أنام إن أردت‪ ..‬وانصرفوا‪ ..‬أردت أن‬
‫أستفسر عن سبب كل ما فعلوا مل مينحوني فرصة‪.‬‬
‫درت على نفسي يف ذلك املكان الضيق‪ ..‬مرت ونصف على مرتين‪..‬‬
‫أرضية مبلطة‪ ..‬جدران متسخة‪ ..‬عليها كتابات‪ ..‬وآثار حملجوزين مروا من‬
‫هنا‪ ..‬جمرمون أم أبرياء شرفاء؟ لست أدري‪ ..‬قضبان حديدية تقف كجنود‬
‫منضبطني بصرامة‪ ..‬أطل علي شرطي برأسه‪ ..‬حملت آيات األسى تنسج‬
‫شبابيكها على عينيه‪..‬‬
‫‪ -‬إن احتجت شيئا‪ ..‬ماء‪ ..‬أو مرحاضا‪ ..‬فاطلبين‪ ..‬أنا هنا قريب منك‬
‫وهممت أن أسأله عن سبب وجودي هنا لكنه قاطعين‬
‫‪ -‬ال أعرف شيئا‪ ..‬وال يسمح القانون بأن أكلمك أو أريك وجهي‪ ..‬أنا‬
‫خلف اجلدار قريب من الباب‪ ..‬ميكنك طليب فيما ذكرتُ‬
‫واختفى كالشبح‪.‬‬
‫أثار شفقيت وهو يأفل‪ ..‬تكومت يف مكاني على البالط البارد‪ ..‬وسرحت‬
‫بفكري‪ ..‬ما معنى أن تنتهك حرمة إنسان ليال‪..‬؟ وجير من بيته إىل‬
‫احلجز‪..‬؟ويرمى فوق بالط بارد‪..‬؟ياللجنــون ؟؟؟؟!!!‬
‫تذكرت قول أدونيس‪:‬‬

‫‪147‬‬
‫قالت صحرائي‬
‫ال تألف‬
‫كن الغريب دائما حتى عن نفسك‬
‫وقل لوجهك يف كل فجر‬
‫كأنين أراك للمرة األوىل‬
‫وما فتئت أن صرفت تفكريي عن ذلك ليس األمر جديدا‪ ..‬الكثري من‬
‫السجون العربية تئن بآالف املثقفني لعشرات السنوات‪ ..‬دول عربية عريقة‬
‫حبجم بابل أفرغت من كل مثقفيها ألنهم أبوا أن يسبحوا لآلمر الناهي‬
‫فيها بكرة وأصيال‪ ..‬نطفة احلجاج اليت زرعها مازالت معطاء ولودا وسيفه‬
‫يأبى أن يُثلم‪..‬‬
‫ووقف أمامي مفدي زكرياء مرفوع اهلامة‪..‬‬
‫أهٍ أيها الفحل‪...‬‬
‫قضيت عمرك يف سجون االستعمار‪..‬‬
‫وكتبت سجل خلودنا بدمائك الغالية‪..‬‬
‫وحني قطفنا مثار تضحياتك‪..‬‬
‫حني ارتوينا من كوثر دمائك‪..‬‬
‫حني تفيأنا ظالل كربيائك‪..‬‬
‫حني‪.............................‬‬
‫أبعدوك عن األرض اليت أحببتها لتموت بعيدا بعيدا‪..‬‬
‫وهاهم مازالوا حتى اآلن ال حيسنون إال إبعادنا‪ ..‬وال منلك حنن يف غمرة‬
‫األسى إال أن نردد معك‪:‬‬
‫بالدكم ينام‪ .....‬فيها *** وختصى يف مرابعها الفحول‬

‫‪148‬‬
‫آهٍ‪...‬‬
‫قمع‪ ..‬وحني مساؤنا إرهــاب‬ ‫من أين يأتي الشعـر؟ حني نهـــارنا‬
‫سرا فنكهة خبزنا استجــواب‬ ‫واحلكم شرطـــــــــي يسري وراءنا‬
‫فحواجـــز وخمافـر وكـــالب‬ ‫وخريطة الوطن الكبري فضيـــــحة‬
‫مذبوحة أو حاكـم قصــــاب‬ ‫والعـــامل العـــربي إما نعجـــــة‬
‫يف خصيتيه وربـك الوهــاب‬ ‫والعــامل العربي خيــــزن نفـطـــه‬

‫‪4‬‬
‫ال تصفعين أيها القدر‬
‫على وجهي أمتار من الصفعـــات‬
‫خنجر الليل يدلف عرش القلب‪..‬‬
‫يغتال مشوسه‪..‬‬
‫وأنا وحدي سنبلة تالهمتها الغربان‪..‬‬
‫تنافضت حباتها‪..‬‬
‫وحدها القصبة تقف بعناد‪..‬‬
‫ها آخر أوكاري متتد إليه أيادي الدهر‪..‬‬
‫حارة احلفرة تصمت على إيقاع موال حزين‪..‬‬
‫انطفأت كل النوافذ لكن القلوب ظلت تنبض يف أكفانها السوداء‪..‬‬
‫حتى أمي املشلولة ظلت تتابع قسمات وجهي حبرية‪ ..‬لعلها أدركت ما وقع‬
‫البنها الذي غذته من صدرها‪ ..‬أذرع الغرف‪ ..‬جدران البيت املتآكلة رفاًة‪..‬‬
‫أنا اآلن يف حاجة إىل من أكلمه‪ ..‬ال بد أن أفرغ ما يف حوض القلب‬
‫امللتهب‪ ..‬ليت أمي تقدر على ذلك‪ ..‬هي جمرد كتلة حلم ال تتحرك إال على‬
‫الكرسي‪ ..‬ال أبدا أمي دائما كتلة من األحاسيس امللتهبة‪ ..‬لكن الزمن‬

‫‪149‬‬
‫اغتصب منها لسانها كما اغتصب منها رجليها‪ ..‬هي اآلن تشعر بكل‬
‫شيء‪ ..‬عيناها زوابع للحرية‪ ..‬وكنت أجتنب بصعوبة النظر إليهما‪..‬‬
‫والدي ليس اآلن يف البيت يتحول جمنونا حني حيس بإذالل اآلخرين‬
‫له‪ ..‬علمته العواصف أن ال ينثين ألي خملوق‪ ..‬دائما يردد املثل بعد أن‬
‫ينسبه إىل أبيه‪ ..‬والدي سامل العلواني كان يقول‪ :‬حيرث واقف أو ينكسر‬
‫أطل من الباب‪ ..‬الشارع يفغر فاه كديناغول رهيب‪ ..‬لكن النوافذ‬
‫كانت تكتم خلفها أزيزا رهيبا‪ ..‬ووحده كان إبراهيم يطل بعينيه من ثقب‬
‫بالباب مُرَمْ ِر ًما‪:‬‬
‫خالتْ حارة احلفرة خْالت‪..‬‬
‫‪ْ -‬‬
‫راحو رْجالْها وَ ْبقاوْ َلْبناتْ‪...‬‬
‫‪ -‬خالت حارة احلفرة خالت‪..‬‬
‫راحو رجاهلا وبقاو لبنات…‬
‫ما التهمة اليت سيوجهونها إليه‪ ..‬كل شيء جائز هذه األيام وميكن‬
‫لإلنسان أن يُرمى مبا ال خيطر على بال‪ ..‬يف حني يسري آالف اجملرمني اآلن‬
‫طلقاء يدوسون على القانون‪ ..‬ويشرتون رجاله‪ ..‬وينمون ثروات ماكانوا‬
‫ليحلموا بها‪ ..‬هل هذا نتاج حتمي حلالة التخلف اليت نعيشها؟ رمبا ورمبا‬
‫أيضا هي ذريعة حيتمي خلفها أولو األمر والنهي‪..‬‬
‫إذا مل حنل مشكلة منري غدا البد أن أتصل بذياب يف العاصمة‪ ..‬البد‬
‫أن أجده وإن استلزم األمر السفر إليه‪ ..‬لقد انقطعت أخباره منذ أشهر‪ ..‬مل‬
‫يعد خيابرني‪ ..‬ومل يعد يراسلين‪ ..‬هل ميكن أن يكون خوفه على نفسه من‬
‫اغتيال اإلرهاب هو السبب كما ادعى يف مراسلته السابقة؟ رمبا‪ ..‬ال تهم‬
‫رسائله املهم أن يكون خبري‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫وقفز إىل ذهين وأنا أنسحب عائدة إىل حجرتي شك رهيب‪ ..‬أال ميكن‬
‫أن يكون امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ وراء القضية؟ هذه البالد يُشرتى فيها كل شيء‪..‬‬
‫من ميلك املال ميلك كل شيء‪ ..‬كما يشرتي البطيخ يشرتي الضمائر‬
‫والقوانني‪ ..‬وكما يدوس على الرتاب يدوس على األبرياء والكربياء‬
‫كان املؤذن يشق بصوته سكون الليل البهيم‪..‬‬
‫وكنت أتسلل إىل دفء فراشي أصارع رغبة اإلميان يف تلبية النداء‬

‫‪5‬‬
‫بت أرقب مركز الشرطة من بعيد وباتوا يرقبونين بعني خفية‪ ..‬كانوا‬
‫يعرفون جيدا من أنا ويدركون أن رأسي ناشفة وقد جتر علي الويالت‪..‬‬
‫هؤالء مجيعا ببذالتهم الزرقاء ورشاشاتهم الكئيبة وعيونهم اليت تدور يف‬
‫حماجرها حائرة قلقة‪ ..‬هؤالء مجيعا كانوا إخوانا البين عبد الرحيم‪ -‬رمحه اهلل‬
‫‪ -‬وبعض آبائهم كانوا رفاقا لي أيام الثورة التحريرية‪ ..‬أعرف أنهم باتوا‬
‫يراقبونين ليس خوفا مين طبعا ولكن حبا يفَّ‪ ..‬وشفقة علي‪.‬‬
‫حني الحت أول خيوط الفجر ترسم لوحة يوم جديد اندفعت أقرتب‬
‫منهم‪ ..‬ارتسمت على وجوههم ابتسامات بائسة واندفعوا مجيعا معا حييونين‬
‫‪ -‬صباح اخلري عمي صاحل‪..‬‬
‫رددت التحية دون أن أتوقف‪ ..‬واندفعت أجل باب املركز‪ ..‬مل يعرتض‬
‫سبيلي أحد‪ ..‬واجهين كريم الضابط‪ ..‬ودون أن أنطق سحبين من مييين إىل‬
‫مكتبه‪ ..‬أجلسين‪ ..‬وجلس قباليت يتأملين بعينني حائرتني‪ ..‬كان يبحث من أين‬
‫يبدأ حديثه‪ ..‬وحني خشي أن أبدأ اندفع يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ياعمي صاحل صلِّ على حممد‬
‫وحني مسعين أردد الصالة بني شفيت متمتما واصل‬

‫‪151‬‬
‫‪ -‬ال تقلق‪ ..‬منري عندنا يف أمان‪ ..‬مادمتُ هنا لن ميس بأذى‪ ..‬اطمئن متاما‬
‫هو مثل أخي متاما‪ ..‬والقضية الخطر فيها‪..‬‬
‫وأردت أن أصرخ يف وجهه‪ ..‬وملاذا تقتحمون بيته ليال وختتطفونه‬
‫كاخلائن؟ ملاذا؟ هذه الدولة ال حتسن إال تتبع األبرياء أما اللصوص‬
‫فيتحكمون يف كل شيء ولكنه قاطعين قائال‪:‬‬
‫‪ -‬حنن مأمورون‪ ..‬والواجب يدعونا أن نطبق األوامر‪ ..‬ال تقلق عليك‬
‫أن تعود وسأوافيك عنه بكل جديد شرط أن يبقى كل شيء سرا بيننا‪.‬‬
‫ومسعت صوتا من أعماقي يدفعين أن أقبل بالعرض‪ ..‬واندلق صهريج‬
‫على غضيب فأطفأ هليبه فقمت من مكاني‪ ..‬وقبل أن أغادر املكتب رميت‬
‫إليه بأوراق نقدية مل أعدها‬
‫‪ -‬اشرت له كل ما يلزمه‬
‫وعجل جيمعها ويعيدها إلي يف شيء من اخلوف والغضب‬
‫‪ -‬سأتكفل بكل أموره فال حتمل هما‬
‫وخرجت عائدا إىل البيت أجر خطى حزينة ثقيلة‪ ..‬مع كل خطوة كنت‬
‫أرى أبناء حارة احلفرة يقلبون يفَّ نظرات كئيبة‪ ..‬كانوا ينتظرون مين أن أزرع‬
‫يف قلوبهم نار الثورة فيجتمعون مع الصباح ويداهمون مركز الشرطة‪ ..‬أبناء‬
‫حارة احلفرة ليس هلم ما خيسرونه‪ ..‬لقد استأثرت أحياء األغنياء بكل شيء‪.‬‬
‫حني دلفت شارعنا كانت رائحة القنوات جتلد بقذارتها أنفي‪ ..‬وكانت‬
‫املياه العفنة تتدفق شاقة لنفسها نهرا‪ ..‬أول من جترأ على حمادثيت عَزُّو ْز الدود‬
‫وقد غدا كالبعري يرغي‪..‬‬
‫‪ -‬اختلط الدود مع الدود‪ ..‬ولن يفكها إال اخلالق املعبود‪..‬‬
‫‪ -‬اختلط الدود مع الدود‪ ..‬ولن يفكها إال اخلالق املعبود‪..‬‬

‫‪152‬‬
‫وراح يكرر عبارته قريبا من أذني حتى كاد يثقب طبلتها‪ ..‬سكت فجأة‪..‬‬
‫أمسكين‪ ..‬تأملين وانفجر يبكي كالصغري‬
‫َم ْد‬
‫‪ -‬منري أين احللوة؟ لقد قتلوها‪ ..‬قتلها امْحَمَّدْ امْل َّ‬
‫وانفجر يبكي فأسرعت أختلص منه‪ ..‬دخلت البيت أمام عيون أهل‬
‫احلارة اليت كانت تتابع خطواتي‪.‬‬
‫هرعت إلي اجلازيه‪ ..‬راحت تسألين عن األمر وتطرح عشرات‬
‫االستفسارات‪ ..‬طلبت منها قهوة وحدثتها عن كل شيء‪ ..‬قدمت لي القهوة‬
‫وهرعت تغري ثيابها وهي تتمتم‪ :‬القضية وراءها امْحَمَّدْ املمد‪ ..‬خمالبه‬
‫طويلة‪ ..‬ولعله ألصق مبنري تهمة ما تؤدي به إىل اإلعدام‪ ..‬منافق ميارس‬
‫اإلرهاب ويتهم الناس به‪..‬‬
‫ذاهبة هي إىل العمل؟ أم إىل مكان آخر؟ لست أدري‪ ..‬ومل أتعود أن‬
‫أطرح عليها سؤاال من هذا النوع‪ ..‬قد ختربني عن اجلهة اليت تريد وقد ال‬
‫تفعل‪ ..‬وحدها تتخذ القرار وفق ما تقرر‪ ..‬وخرجت دون أن تنطق بكلمة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫وحدي بقيت أجتمد يف مكاني ارتشف القهوة‪ ..‬أمتص دخينة الربزيلي‬
‫يف نهم شديد‪ ..‬ما الذي يقع حولنا‪ ..‬أية غيالن تعبث بأحالمنا يف هذا‬
‫الوطن؟ ما الذي حققناه منذ االستقالل غري إخراج جنود فرنسا؟ كلما حتل‬
‫ذكرى الثورة أو ذكرى االستقالل خيدروننا حبفل فين حيييه الشاب خالد أو‬
‫وردة اجلزائرية عن عيد الكرامة‪ ..‬وجيلدوننا بعشرات اخلطب الرنانة اليت ال‬
‫معنى هلا‪ ..‬وبدل أن يُكرم العلماء واملثقفون والعاملون املخلصون‪ ..‬وبدل أن‬
‫يعلن عن انتصارات جديدة ومشاريع حديثة‪ ..‬يكرم املغنون والالعبون‪ ..‬أال‬
‫حيس هؤالء بالذين قضوا ذات سنوات ليسقوا بدمائهم رياحني األمل‬

‫‪153‬‬
‫والكربياء‪ ..‬أال خيشى هؤالء يقظة الشعب وثورته؟‬
‫وانزوت أمامي أم منري شاحبة اللون كما رأيتها آخر مرة وقد فقدت‬
‫كثريا من دمها وهي تضع مولودها يف ظروف صعبة ويف عينيها يتأجج‬
‫الغضب‪ ..‬تتربكن الثورة العارمة وهممت أن أسأهلا‪ ..‬ال هممت أن‬
‫أطمئنها‪ ..‬أعرف أن ما وقع البنها أثار غضبها لكين ما كدت أنطق حتى‬
‫أحسست خلفي بالباب يفتح‪ ..‬استدرت ألرى اجلازيه تدلف يف عجلة‬
‫حجرتها‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫مخسة أيام كاملة قضيتها يف احلجز دون أن أعرف سببا لذلك مل أكن‬
‫قلقا‪ ..‬ما أتعرض له ال يعد شيئا ذا بال‪ ..‬يف معظم بالدنا العربية آالف‬
‫املثقفني قضوا عشرات السنوات يف دهاليز الزنازين ليخرجوا منها أمواتا‬
‫أو متدحرجني إىل أرذل العمر أو معوقني ورمبا مل خيرجوا إطالقا‪ ..‬أنا يف حجز‬
‫بسيط ضيق حقا وبارد جدا حتى غدوت أشك يف اصطباغ تبولي بالدم‬
‫ولكن يأتيين طعامي على كل حال‪ ..‬وتأتيين بعض األخبار‪..‬‬
‫وما تهميت؟ مل أفعل شيئا‪ ..‬أنا واثق من براءتي وال ميكنهم أن يثبتوا‬
‫علي شيئا إال زورا وبهتانا‪ ..‬وهو أمر قد يكون ميسورا أمام إغراء املال‪ ..‬املال‬
‫قد يشرتي ذمم الناس مجيعا‪..‬‬
‫شبعنا شعارات ومل نلمس شيئا‪ ..‬من التصحيح الثوري‪ ..‬إىل من أجل‬
‫حياة أفضل‪ ..‬إىل من أجل إنقاذ اجلزائر‪ ..‬إىل هذي يدي أمدها إليكم‪ ..‬إىل‬
‫اجلزائر فوق كل اعتبار‪..‬‬
‫والكل يعرف أن طريق اخلالص مير عرب إبادة الناموس الناموس‬
‫الذي مل يشبع من امتصاص دمائنا ‪ ..‬وحضرني الساعة قول مجيل‬

‫‪154‬‬
‫حفظ ته ألحد علماء هذه األمة وهو اإلبراهيمي" إن للغرب فيكم‬
‫مطايا ذلال هم أصل البالء والعلة‪..‬‬
‫قادكم بسلوك من األمراء وامللوك‪..‬‬
‫فقادوكم إىل اهلاوية‪..‬‬
‫فانزعوا املقادة من هؤالء القادة‬
‫تفلحوا‪..‬‬
‫ولن تفلحوا ولن تصلحوا إال إذا رجع أمركم إىل الشعب‪..‬‬
‫وأمجع الشعب على رأي واحد‪..‬‬
‫واتفق الرأي على نظام واحد‪..‬‬
‫ومتخض النظام بدستور واحد‪..‬‬
‫وملك واحد‪..‬‬
‫فإن قلتم إن هذا عسري‪..‬‬
‫فعيشوا عيشة األسري‪..‬‬
‫أو موتوا ميتة احلسري‪..‬‬
‫شرب يف احلياة وقرب يف املمات‪" ..‬‬
‫من كتاب ‪ .................‬ص‪.............‬‬
‫أليس من العجب أن يقول هذا الشيخ كالما مثل هذا سنة ‪1949‬‬
‫ويغيب حنن علينا اآلن؟‬
‫ثم مافتئت أن غريت رأيي‪ ..‬ماوقع لي ليس بسبب مواقفي بل إن‬
‫التهمة خطرية وقد نسج خيوطها العنكبوتية امْحَمَّ ْد امْلَمَّدْ ماهي؟ لست‬
‫أدري‪ ..‬وكيف يكون اخلالص منها؟ لست أدري‪.‬‬
‫وجاءني الضابط كريم هذا الصباح سألين عن حالي وسلمين جريدة‬

‫‪155‬‬
‫ذلك اليوم‪ ..‬طمأنين على العائلة وعلى كل معاريف مل يكن يهمين أحد كما‬
‫يهمين أبي صاحل وأُمَّا عرجونه وأخيت اجلازيه‪ ..‬ومل أصدقه يف كل الذي قال‪..‬‬
‫هكذا نفسي حدثتين أن ما قاله ليس صحيحا على اإلطالق أو ليس كله‬
‫صحيحا على األقل‪ ..‬وخرج ليعود بسرعة ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعرف يامنري؟ التحق ثالثة شبان من حارة احلفرة بصفوف‬
‫اإلرهاب‪.‬‬
‫وبقدر ما أقلقين هذا النبأ أثار حفيظيت‪ ..‬ملاذا خيربني بذلك؟ هل هو جملرد‬
‫اإلخبار؟ أم لغرض يف نفس يعقوب؟ ورفعت فيه عيين فوجدته مازال‬
‫يتأملين كأمنا يريد أن يعرف موقفي من فعل هؤالء‪ ..‬ثم خرج وقد وعد أن‬
‫يزورني مساء‪ ..‬اتكأت على اجلدار‪ ..‬رميت اجلريدة جانبا‪ ..‬كل شيء يغلف‬
‫نفسي بالقتامة‪ ..‬من هؤالء املغرورون الذين محلوا السالح يف وجه اجلميع؟‬
‫ورحت أسرتجع أمساءهم منذ أول متطوع منهم‪..‬‬
‫خيوط واضحة جتمعهم مجيعا‪ ..‬معظمهم من األحياء الفقرية‪ ..‬مستواهم‬
‫التعليمي حمدود‪ ..‬أكثرهم يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية‪ ..‬إنه صراع‬
‫طبقات‪ ..‬طبقة أثرت واغتنت واستوت على عرش املال‪ ..‬وطبقة هوت إىل‬
‫احلضيض األسفل فاحتمت بدرع الدين‪ ..‬والسلطة عندنا تطبق سياسة ملء‬
‫املآلن وتفريغ الفارغ‪ ..‬إنها تطبق نظرية الناموس‪..‬‬
‫ومفادها أن الناموس إذا أحل يف الدوران حولك فال مندوحة من أن‬
‫تسلمه جسدك ليمتص دمك فإذا شبع سيدعك وحالك‪ ..‬لكن الناموس‬
‫عندنا ازداد تكاثرا وازداد شراهة‪ ..‬وقد نفد دمنا فماذا سيمتص؟ هل‬
‫سيتوحش ويلتهم اللحم والعظم؟‬
‫األثرياء يزدادون ثراء وطغيانا‪ ..‬اشرتوا كل شيء‪ ..‬القانون‪ ..‬املسؤولني‪..‬‬

‫‪156‬‬
‫وصاروا هم أصحاب القرار‪ ..‬أما الفقراء فقد كشر الفقر أنيابه عليهم‬
‫ليسحقهم‪..‬‬
‫الطبقة األوىل ال بد أن تقف مع أولي األمر والنهي لتدافع عن‬
‫امتيازاتها حتت شعارات واهية مثل حب الوطن‪ ..‬واجلزائر فوق كل اعتبار‪..‬‬
‫وال عالقة هلم بالوطن إال يف مناسبات يرفعون فيها العلم ويرددون نشيدا ال‬
‫حيفظونه كله أو ال حيفظونه على اإلطالق ناهيك عن فهمه‪..‬‬
‫وطبقة ثانية ال متلك إال أن تنكفئ على نفسها أو تتحول إىل إرهاب‪..‬‬
‫ألن كل الطرق األخرى سدت أمامها رغم أنهم يدركون أن ذلك فعل‬
‫احلمقى الذين يركبون موجة الثورة فينتحرون‪ ..‬حيطمون أنفسهم وأوطانهم‪.‬‬
‫صدقت ياماركس القضية قضية صراع طبقي‪ ..‬وامللكية هي الفتنة‬
‫الكربى‪ ..‬إن اإلنسان ليطغى أن رآه استغنى‪..‬‬
‫يف املساء زارني حمافظ الشرطة وبرفقته امْحَمَّ ْد امْلَمَّدْ‪ ..‬وكان ذلك‬
‫صاعقة فجرت أعصابي وأنهكتين متاما ورمبا لو كنت خارج القضبان‬
‫الرتكبت محاقة إن جاز أن تكون كذلك‪ ..‬مل يتكلم حمافظ الشرطة‪ ..‬كان يدس‬
‫يديه يف جيب سرواله كما يفعل شريف رعاة البقر يف الوقت الذي كانت‬
‫شفتاه تعبثان بدخينة حديثة االشتعال‪ ..‬وكان امْحَمَّ ْد امْلَمَّدْ يقف جبواره‬
‫بكربياء كاذب يرتدي قندورة بيضاء وميسك طرفيها بيديه اللتني مجعهما‬
‫خلف ظهره‪ ..‬ذكرتين وضعيته هذه بأبيه مكبال والدم يتدفق من رقبته‪..‬‬
‫تأملت رقبته ورأسه‪ ..‬كان أشقر اللون‪ ..‬وقد بدأ الزمن يعبث به شيبا‬
‫وجتاعيد‪ ..‬وتبادر إىل ذهين سؤال غريب‪ ..‬هل كان أبوه أشقر أيضا؟ أم أنه‪..‬‬
‫وأخرجين امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ من حريتي وهو يقول مصطنعا االستغراب‪:‬‬
‫‪ -‬سبحان اهلل! سي منري هنا‪ ..‬ياسي السعيد هل وقعت القيامة؟‬

‫‪157‬‬
‫وحول حديثه إلي‬
‫‪ -‬واهلل ما علمت‪ ..‬ولو علمت ما تركتك تبيت ليلة واحدة‪ ..‬جرائمك‬
‫أنا أحتملها يا ولدي‬
‫‪ -‬تلدك النار أيها اخلنزير‬
‫ومل يتبني ما قلت فواصل يقول خماطبا حمافظ الشرطة‬
‫‪ -‬سي منري معه رجاله واملثل عندنا يقول‪ :‬عَ ْد رْجالَك واسْقِ املاء‪..‬‬
‫أطلق سراحه وأنا أضمنه‪ ..‬بل وسيتعهد بأن ال يرتكب محاقة أخرى‬
‫وحدقا يف منتظرين ما سأقوله وحني مل أحترك من مكاني قال لي حمافظ‬
‫الشرطة ويداه ما زالتا يف جيبيه‪:‬‬
‫‪ -‬أمل تسمع ما قاله احلاج‪ ..‬مب ترد؟‬
‫احلاج؟ متى حج هذا جنس؟ وسرعان ما صرفت ذهين عن ذلك وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنين يف مركز شرطة وال عالقة للمدنيني مثل من ذكرت‬
‫بقضييت‬
‫وسكتُّ وسكتَ احملافظ‪ ..‬لكن امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ راح يرغي جبمل مل أفهم‬
‫بداياتها‪ ..‬ولكنه انتهى هادئا وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬الكبري يا سي السعيد ال حيمل احلقد‪ ..‬أطلق سراحه وأنا أضمن‬
‫حسن سلوكه واستقامته‪ ..‬وأنا على أمت االستعداد لدفع كل ما تطلبون‪.‬‬
‫وخرجا‪..‬‬
‫كان ذياب هلاللي ينتصب أمامي‪ ..‬ممتد القامة‪ ..‬أمسر الوجه‪ ..‬شامخ‬
‫األنف‪ ..‬وهو يقول كأمنا يوصيين‪:‬‬
‫قِيزْ لُبَّار‪ 6‬وال قمح املَنَّه ** عزْ فَالنارْ وال ذُلْ فَاجلنَّه‬

‫‪ -6‬لبار مجع بور‪ ..‬والقيز نبات صغري يستخرج الفقراء والرعاة عادة مثرته الصغرية من‬

‫‪158‬‬
‫‪7‬‬
‫قررت أن أذهب رأسا إىل سيدي فرج حيث يقيم ذياب‪ ..‬أعتقد أنين‬
‫سأجده هناك ألنه تعود أن ال يغادر الفندق إال يف حدود العاشرة فيتوجه‬
‫مباشرة بعد ذلك إىل ميدان إجناز مقاله‪ ..‬ثم يلتحق باجلريدة منتصف النهار‪..‬‬
‫أو يستمر بقاءه فيها إىل آخر النهار‪ ..‬ورمبا إىل ساعة متأخرة من الليل إنها‬
‫مهنة املتاعب ولكنها املهنة اليت أحبها ذياب منذ صغره حتى القداسة‪ ..‬وكان‬
‫يردد يف مسمعي كلما لقيته‪:‬‬
‫القلم صاروخ ذو حدين يبيد الشر ويبذر األمل‪ ..‬هل رأيت سالحا ذا‬
‫حدين يااجلازيه؟‬
‫وبقدر ما كنت أكرب فيه هذا العشق كنت أردد مع نفسي‪ :‬أخشى أن‬
‫يكسر خنجر صغري كل أقالمكم‪..‬‬
‫هدوء البحر يقلقين كان يعاكس حالة القلق اليت كنت أعيشها تلك‬
‫اللحظة‪ ..‬وسيدي فرج كانت شاة مبقورة معلقة من عرقوبها‪ ..‬خيل إلي‬
‫اآلالف من تتار فرنسا يدنسون هذه القطعة من أرضنا‪ ..‬وأمامهم كانت‬
‫تقف آالف الصدور العاشقة عارية إال من إخالصها‪.‬‬
‫من هنا بدأ اجلرح‪..‬‬
‫من هنا بدأ االنكسار‪..‬‬
‫هنا كانت أول الطعنات‪..‬‬
‫ومذ ذاك واملدية تنغرز تنغرز يف سويداء القلب‪..‬‬
‫وحملت الداي حسني جيمع يف هلفة أطنان الذهب ويفر من ساحة املعركة‬

‫حتت الرتبة ويأكلونها‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫مع أفراد أسرته‪ ..‬معريا الظهور للطعنات‪..‬‬
‫أيها الداي ليتك مل تبذر نطفك هاهنا‪ ..‬لقد ذهبت وذهبت فرنسا‪ ..‬لكن‬
‫آالف الدايات فرختهم هذه األرض‪ ..‬عفوا هبت بهم الريح العاتية‪.‬‬
‫وصلت الفندق‪ ..‬متلكتين الرهبة‪ ..‬تضعضع كل اجلسد كأمنا كنت أنتظر‬
‫صاعقة‪ ..‬اقرتبت من باب غرفته‪ ..‬تأكدت من الرقم‪ ..‬مددت يدا مرتعشة‬
‫ودققته دقات حمتضرة‪ ..‬مل أتلق ردا‪ ..‬دب الوهن يف رجلي وتسلل سريعا عرب‬
‫الساقني‪ ..‬أظلم الرواق يف عيين‪ ..‬وتهاوت اجلدران من حولي‪ ..‬أحسست بيد‬
‫تغتال اخلدر من تضاريس اجلسد‪ ..‬جلست على األريكة يف الشرفة الكبرية‬
‫مقابل البحر‪ ..‬وحدها طيور النوارس كانت متارس لعبة احلب يف كرها‬
‫وفرها بني الرب والبحر‪ ..‬ويف مغازلتها اللجج املتسابقة‪.‬‬
‫جاءتين اخلادمة بكأس ماء عببته جرعة واحدة‪ ..‬سألتين عمن أحبث‪ ..‬مل‬
‫أجبها‪ ..‬حتاملت على نفسي وقمت‪ ..‬نظرت فيها بعينني شاكرتني وانطلقت‬
‫مبتعدة‪ ..‬مسرتين كلماتها يف األرض وهي تصفعين بقوهلا‪:‬‬
‫‪ -‬ذياب مل حيضر إىل الفندق منذ شهرين تقريبا ولعله لن يعود‪ ..‬ال جيوز‬
‫أن تثق الفتيات بشباب اليوم‪ ..‬حديثهم زبدة إذا أشرقت الشمس ذاب‬
‫صرت أمام كالمها كالكرة املتأرجحة يف يد متمرس‪ ..‬ما الذي أقوله‪..‬؟ ال‬
‫شيء‪ ..‬جيب أن أسكت‪.‬‬
‫مل تكن تشغلين شوارع العاصمة وأنا يف سيارة األجرة‪ ..‬ومل تكن‬
‫تستفزني هذه القاذورات اليت تراكمت هنا وهناك كالعلل واألدواء‪ ..‬تغتال‬
‫يف وحشية طهر احلمامة وبياضها‪ ..‬كان خيالي يرفرف حول حارة احلفرة‪ ..‬هل‬
‫أطلق سراح منري أم ال؟ وما الذي يفعله والدي هذه اللحظة‪..‬؟ هذا الفرس‬
‫اجلموح ميكنه أن يكبو يف أية حلظة‪ ..‬لقد بدأ يزْوَرُّ من وقع القنا بلَبانه‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫اقرتبت السيارة من جممع الصحافة‪ ..‬قبل أن تتوقف نقدت سائقها‬
‫وأسرعت أفتح الباب‪ ..‬نزلت مهرولة‪ ..‬كنت أعرف الطريق جيدا رغم أني‬
‫حضرت مرة واحدة ومنذ عامني‪ ..‬مل آبه بالالفتة اجلديدة اليت زينت مدخل‬
‫املقر "جريدة الشروق اليومي"‪ ..‬رأسا توجهت إىل مكتبه‪ ..‬كان الباب‬
‫مشرعا‪ ..‬دخلت مباشرة‪ ..‬رحت أقلب الطرف يف من كان فيه‪ ..‬صحافيان‬
‫وصحافية كانوا صامتني منهمكني مجيعا يف إعداد مادة الغد‪ ..‬وقبل أن أنطق‬
‫تهلل وجه ياسني واندفع من خلف مكتبه مرحبا وهو مينح قلمه اسرتاحة‬
‫حمارب‪.‬‬
‫‪ -‬اجلازيه هنا؟ أهال وسهال‪..‬‬
‫وقبل أن أرد‪ ..‬قدمين إىل زميليه على أنين خطيبة ذياب‪ ..‬وسحبين من مييين‬
‫جيرني خارجا قائال لزميله‪:‬‬
‫‪ -‬سنعود بعد دقائق‪..‬‬
‫أفزعين هذا التصرف منه‪..‬‬
‫ملاذا سحبين بسرعة من املكتب؟‬
‫وملاذا ارتسمت على وجهي زميليه سحنة احلزن؟‬
‫هناك مكروه دون شك‪.‬‬
‫وجلسنا يف نادي اجملمع‪ ..‬أسرع النادل‪ ..‬فطلبنا قهوتني أردتها سوداء‬
‫كأحزاني‪ ..‬بدا لي ياسني كئيبا‪ ..‬وبدا أكرب من عمره‪ ..‬بادرت بسؤال عام‬
‫‪ -‬ياسني ماالذي جيري يف هذا البلد؟‬
‫‪ -‬أنت تعرفني يااجلازيه‪ ..‬اجلزائر تنتصر دائما مهما تكالب أعداؤها‬
‫بدا هذا احلديث كاذبا‪ ..‬تنتصر؟ واألبرياء يُذحبون كل يوم باملئات؟‬
‫واإلرهاب ميد جذور سرطاناته يف كل شرب؟ أدرك أنين ال أؤمن بكالمه‪..‬‬

‫‪161‬‬
‫فواصل مؤكدا‪:‬‬
‫‪ -‬ال تصدقني؟ هاحنن واقفون كالشواهق‪.‬‬
‫وأرسل ضحكة صفراء كاملوت مداريا مراوغاته‪ ..‬مل آبه به‪ ..‬اليهمين‬
‫مايقول‪ ..‬مادامت احلقيقة ساطعة أمامي كالشمس‪ ..‬بل هي ساطعة أمام‬
‫اجلميع‪ ..‬وال حياول أن خيفيها عنا إال املسؤولون الذين سكنوا القصور‬
‫وأحاطوا نفوسهم بالدبابات وآالف اجلنود‪ ..‬تاركني أبناء الشعب إلرهاب‬
‫أعمى جبان يلتهم كل شيء‬
‫أبرقت بعيين يف عينيه‪ ..‬فهم قصدي ودون أن أطرح السؤال قال‪:‬‬
‫‪ -‬جئت تبحثني عنه‪ ..‬هو خبري‪ ..‬هو خبري‪ ..‬خبري متاما‪ ..‬واجلزائر خبري‪.‬‬
‫أفجعين تكراره هذا كأمنا حياول توكيد أمر مشكوك فيه‪ ..‬ودون أن يدع‬
‫لي فرصة طرح السؤال واصل‪:‬‬
‫‪ -‬سيعود قريبا إليكم رمبا الشهر القادم أو الذي بعده‪.‬‬
‫مل آبه بالنادل يضع القهوتني فقلت بصوت مرتفع‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تقصد؟ ذياب جيب أن أراه؟ قطعت أكثر من ثالث مئة كلومرت‬
‫ألراه‪ ..‬بل ألعود به‪ ..‬جيب أن أعود به‪ ..‬حالنا ليست على ما يرام‪ ..‬أحس أن‬
‫كل شيء يهرب مين‪ ..‬أرجوك يا ياسني جيب أن تساعدني‪ ..‬إنين أخسر كل‬
‫شيء‪ ..‬اجلميع اآلن يقف ضدي‪ ..‬فما العمل؟‬
‫وانفجرتُ باكية غري مبالية بكل الذين كانوا حولي‪ ..‬قام ياسني‪ ..‬رفع‬
‫رأسي وطلب مين أن أشرب كأس املاء وأن ألزم اهلدوء حتى يتمكن من‬
‫إفهامي القضية كلها‪ ..‬وفعال متالكت نفسي أو حاولت أن أوهمه بذلك‪.‬‬
‫عاود اجللوس يف مكانه وقبل أن ميزق صمته البارد اندفعت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ال أريد لفا وال دورانا‪ ..‬أريد أن أعرف أين هو اآلن؟ ملاذا هو ليس‬

‫‪162‬‬
‫معكم‪ ..‬وال يف الفندق‪ ..‬ال أريد إال الصراحة‬
‫وبرزانته املعهودة وصوته اخلافت قال‪:‬‬
‫‪ -‬اطمئين هو خبري‪ ..‬هذا هو املهم‪ ..‬وسأقص عليك باقي احلكاية فيما‬
‫بعد‪ ..‬هذه أمور ال تقال يف األماكن العمومية‪.‬‬
‫نظرت من حولي ألتبني صدق ادعائه‪ ..‬هذا ناد للصحافيني وليس‬
‫مكانا عموميا‪ ..‬تبني لي أن شخصا جيلس قريبا منا يطالع جملة أجنبية‬
‫وكأنه يتصنت علينا‪ ..‬كل شيء ممكن يف هذا الوطن‪ ..‬وسرك ال تأمتن‬
‫عليه إال نفسك‬
‫مل أنطق هذه املرة بل مددت يدي إىل حافظيت‪ ..‬أخرجت ظرفا سلمته إليه‬
‫ورحت أرتشف قهوتي وأتابع ما يفعل‪ ..‬فض الظرف عجال دون أن ينطق‪..‬‬
‫نشر الرسالة وراح يقرأ‪ ..‬وراحت مالحمه تتغري مع كل سطر يقرأه‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫هذا عصر املادة ال أحد ميكنه أن يقف أمامي‪ ..‬سأدوسكم مجيعا‬
‫كالصراصري‪ ..‬من ميلك املال ميلك كل شيء‪ ..‬إنه إكسري البشرية‪ ..‬أصحابه‬
‫حيققون كل ما يصبون إليه‪ ..‬سخَّرت اجلميع‪ ..‬الكل خضع إلرادتي والذين‬
‫أبوا الويل هلم من سطوتي‪ ..‬رحل عبدالرحيم إىل غري رجعة‪ ..‬جن إبراهيم‪..‬‬
‫الشيخ صاحل يف طريقه إىل اجلنون أو االنتحار‪ ..‬منري حبكت له تهمة لن‬
‫يفلت منها ليس أقل من اإلعدام أو املؤبد‪ ..‬ذياب شردت به حماصرا طريدا‪..‬‬
‫دربي اآلن ممهد كل احلجارة أزلتها من حذائي‪ ..‬كل الينابيع اليت كانت تسقي‬
‫غطرسة اجلازيه جففتها وإىل األبد‪ ..‬واآلن جيب على اجلازيه أن تركع أمام‬
‫قدمي صاغرة‪ ..‬وعند ذاك‪ ..‬عند ذاك سأفعل الكثري‪..‬‬
‫سـ‪.......................‬‬

‫‪163‬‬
‫‪...........................‬‬
‫‪...........................‬‬
‫‪..........................‬‬
‫خرجت من البيت بعد أن رشفت آخر جرعة من فنجان القهوة‪..‬‬
‫برنامج املساء سيكون كثيفا ال بد أن أستغل هذا الصباح ألزور سكان‬
‫حارة احلفرة هم األكثر وسأحتاج إىل أصواتهم يف االنتخابات‪ ..‬مامعنى‬
‫لثري مثلي ال جيلس على كرسي القيادة‪..‬؟ أنا ماخلقت ألملك املال‬
‫فحسب‪ ..‬؟ بل خلقت ألقود الناس وأتزعمهم وهذه سنة اهلل وال تبديل‬
‫لسنته‪ ..‬وظيفة الفقراء العمل عند أسيادهم والتصفيق هلم واالئتمار‬
‫بأوامرهم الغري‪..‬‬
‫وماذا حيتاج الزعيم ليس الشهادات العلمية كما يتوقع بعض األغبياء‬
‫بل املال والفطنة‪ ..‬منذ االستقالل إىل اليوم مل أعرف يف هذه املدينة رئيس‬
‫بلدية جتاوز مستواه االبتدائي‪ ..‬منري مثقف هل يقدر على قيادة الناس؟‬
‫هؤالء غاشي همج البد هلم من زعيم حلُّوف‪..‬‬
‫وقفت عند الباب‪ ..‬هرع إلي اخلادم متذلال خيربني بصوت خافت أنه‬
‫أكمل تنظيف السيارة وأنها تنتظر أن أشرفها بركوبي‪ ..‬صغر أمامي ورأيته‬
‫حشرة معوَّقة‪ ..‬دسته بقدمي وأنا أردد غاشي‪ ..‬وعربت‪ ..‬استويت على‬
‫عرشها‪..‬‬
‫ياأهل حارة احلفرة أنا ربكم األعلى‪..‬‬
‫أدرت الزر‪ ..‬انبعثت موسيقى حسين متأل علي كوني الواسع‪..‬‬
‫ما تَبْكِيشْ‬
‫قولي ذا مَكتوبي‬

‫‪164‬‬
‫ب وانت شَكِييت‬
‫ن اصْعي ْ‬
‫الظ ْ‬
‫اسْمعتِ لَلْهَدْره وتْقلقيت‬
‫نَخْد ْع ُعمْري‬
‫ذا الشي مُحال‬
‫جِييت تبكي و ْطلَبْتيين‬
‫كالم الناس غيّر لَحْوال‬
‫رن اهلاتف النقال‪ ..‬مل أشأ أن أرد سريعا‪ ..‬جيب أن ينتظرني اجلميع‪.‬‬
‫حني بح صوته رفعته إىل أذني ببطء شديد‬
‫‪ -‬آلو‬
‫وتناثرت حوالي القبالت وباقات الورد‬
‫‪ -‬صباح الفل واليامسني يا أعظم حاج يف الدنيا‬
‫أعظم حاج يف الدنيا أيها املنافق وأنا مل أحج بعد؟ وأنا أسكر معكم‬
‫حتى أرى الديك محارا؟‬
‫هذه هي الدنيا‪ ..‬املال يشرتي كل شيء‪ ..‬وحيول األسياد عبيدا‪ ..‬حمافظ‬
‫الشرطة هذا حينما عُني كان الميلك حتى مثن ثيابه اليت يرتديها‪ ..‬ومن‬
‫خريي غدا من أعيان البلد ميكنه أن جيلس مع األسياد وينادمهم‪ ..‬أنت‬
‫وسيليت لتحقيق الكثري‪.‬‬
‫‪ -‬خريا إن شاء اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬أردت أن أذكرك باملوعد مساء‪ ..‬سيحضره الكبار‪ ..‬لقد اتصلت‬
‫بهم وأكدوا احلضور وأنت تعرف ياحاج لن حيلو السمر إال حبضورك‬
‫يا أعظم حاج‪.‬‬
‫طبعا أعظم حاج ما دمت أنا الذي أدفع ماليني السهرة‪ ..‬مثن أكلكم‬

‫‪165‬‬
‫وسكركم يا كالب‪ ..‬ولكن ال مندوحة ما دمتم وسيليت لتحقيق مآربي‪..‬‬
‫ليس بينك وبني خدمي فرق‪.‬‬
‫‪ -‬ال حتمل هما سأكون يف املوعد قد أتأخر انتظروني حتى أحضر‪.‬‬
‫وقطعت املكاملة قبل أن ميطرني بوابل من النفاق‪ ..‬أدرت املفتاح‬
‫وانطلقت‪ ..‬كانت الساعة العاشرة صباحا‪ ..‬انطلقت احندر من حينا الراقي‬
‫إىل حارة احلفرة‪ ..‬بدأت املالمح تتغري‪ ..‬البنايات‪ ..‬الطرقات‪ ..‬الوجوه‪ ..‬حتى‬
‫اهلواء راح يتعفن‪ ..‬واجلو خيتنق غبارا‪ ..‬بدت حارة احلفرة وأنا أطأها أبشع‬
‫وأوطأ‪ ..‬وفعال إنها تزداد كل عام بل كل شهر غورا ودناءة بل وتوحشا‪..‬‬
‫كل شباب اإلرهاب منها لقد صاروا يشكلون خطرا رهيبا علينا‪ ..‬ال يَعْدو‬
‫األمر أن يكون حسد الفقراء لألغنياء‪ ..‬وما عساهم يفعلون وحنن منلك‬
‫ترسانة من األسلحة‬
‫حتسست املسدس يف جيب صدري وأنا أجل حارة احلفرة‪ ..‬كانت شبه‬
‫خالية‪ ..‬جتولت ببصري‪ ..‬اسرتقت النظر إىل بيت الشيخ صاحل وجبواره بيت‬
‫منري‪ ..‬صمت رهيب يطبق بشدقيه على املكان‪ ..‬لفت انتباهي إبراهيم‬
‫جحا وهو يصدر أصواتا ضعيفة من خلف الباب‪ ..‬منذ أن فارقته أسرته‬
‫وتوقف عن أكل دوائه أصابه السعار القاتل‪ ..‬وحبس نفسه وراء الباب ال‬
‫حيب أن يرى أحدا‪ ..‬كلكم على دربه ستسريون‪.‬‬
‫خرجت العجوز عكة وتدحرجت حنوي يف تثاقل كصهريج زفت‪..‬‬
‫فتحت النافذة‪ ..‬سدتها جبثتها‪ ..‬وأنفاسها املبحوحة تكاد تنقطع‪ ..‬مدت يدها‬
‫تصافحين‪ ..‬دسست يف يدها مبلغ مئة دينار‪ ..‬أطلت من مغارة فمها ابتسامة‬
‫عريضة سال هلا لعابها‪.‬‬
‫‪ -‬أهال بسيد الرجال‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫‪ -‬أين وصلت؟‬
‫‪ -‬كل شيء جاهز‪ ..‬لقد أحضرت الكلب منذ أيام‪ ..‬أنا أنتظر عودتها‬
‫من العاصمة اطمئن سأجعل منها كلبتك األمينة‬
‫‪ -‬إن فعلت سأكسوك ذهبا‪ ..‬سأجعل منك أسطورة أيتها الساحرة‬
‫الشمطاء‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫جاءني الضابط كريم هذا الصباح‪ ..‬أخرجين من احلجز البارد‪ ..‬أخذني‬
‫يف لطف إىل مكتبه‪ ..‬مل أتفوه بكلمة‪ ..‬ظللت صامتا أجترع تعاسة هذا‬
‫الوطن الذي ال ينتصر فيه إال األقوياء‪ ..‬مل يتعجل يف الكالم‪ ..‬ظل صامتا‬
‫زمنا كأمنا كان يفكر من أين يبدأ احلديث‪ ..‬أوقف العبث بقلمه الفاخر‪..‬‬
‫نظر إلي‪ ..‬مطط شفتيه وقال وقد رآني أشرد ببصري‪:‬‬
‫‪ -‬إالم ترنو؟‬
‫صمت حلظات دون أن أرد‪ ..‬تفرست فيه وأنا أعيد إىل ذاكرتي بيت‬
‫‪7‬‬
‫الشاعر املغتال مبارك جلواح‬
‫أبدا أنت يف زجاجك ترنو * من وراء الدهر وتــومي‬
‫وأخرجين من شرودي وهو يواصل كالمه‬
‫‪ -‬أعتذر إن كنا سببنا لك إزعاجا‪.‬‬
‫‪ -‬ال حرج أنا واحد من اجلميع ‪ ..‬وما عسى امليت يفعل يف يد‬
‫مُغَسِّله؟‬

‫‪ -7‬مبارك جلواح شاعر جزائري ولد بأقبو ‪ -‬سطيف‪ -‬سنة ‪ 1908‬ورمته فرنسا بنهر‬
‫سني ينة ‪1943‬‬

‫‪167‬‬
‫كأمنا أحرجه كالمي‪ ..‬لعله كان ينتظر مين أن أسأله عن السبب‪ ..‬صمت‬
‫حلظات وقد بدا عليه االضطراب‪ ..‬مل يستطع أن يثبت يديه يف وضعية‬
‫واحدة ثم اندفع قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ملْ تسألين مل أنت هنا؟‬
‫‪ -‬سأسأل القضاء‪.‬‬
‫مل ترقه إجابيت‪ ..‬أحسست كأمنا حياول أن يبعد عنه تهمة ما‪ ..‬رمبا كان‬
‫حياول أن يؤكد أن ما فعلوه مل خيرج عن أمر القانون‪ ..‬هناك شك واتهام‬
‫وحجز وحتقيق وحني تثبت الرباءة يسرح احملجوز‪.‬‬
‫‪ -‬األمر فوق أيدينا يا سي منري‪ ..‬أعداؤك أكرب مين ومنك وامحد اهلل‬
‫أننا أوصلنا األمور عند هذا احلد‪ ..‬إن األشجار اليت متوت واقفة قد تنحين‬
‫ليس خضوعا للعاصفة ولكن حتايال عليها‪.‬‬
‫وسكت يبحث عن كلمات أخرى‬
‫‪ -‬وأرجو أن ال نُجرب على إعادتك هنا‬
‫كنت أرغب يف قطع احلديث معه‪ ..‬هذا الكالم الذي حياول تنميقه‬
‫اليهمين يف شيء مطلقا‪ ..‬وحني همَّ باحلديث ثانية قلت مقاطعا‪:‬‬
‫‪ -‬هل ميكنين أن أنصرف أم ستعيدونين إىل احلجز؟‬
‫انتظر برهة وأجاب‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬ميكنك أن تنصرف‪..‬‬
‫ووقفت أبرح املكان‪ ..‬وحني هممت باخلروج من الباب حلقين وهو‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪ -‬بلغ حتياتي لعمي صاحل‪.‬‬
‫خرجت دون أن أرد عليه‪..‬‬

‫‪168‬‬
‫بدت لي املدينة وأنا أشاهدها منذ مخس وعشرين يوما رهيبة‪..‬‬
‫كل شيء فيها مفزع‪..‬‬
‫ليست إال حجزا كبريا‪..‬‬
‫سجنا ضخما مرعبا‪..‬‬
‫الناس كتل تتدحرج هنا وهناك دون غاية‪..‬‬
‫األشجار نفضت أوراقها وتدلت أغصانها كأذرع أخطبوط مشنوق‪..‬‬
‫الغبار وحده يعبث باجلميع‪..‬‬
‫الكل ميوت‪ ..‬وحده املوت حييى‪.‬‬
‫كنت أتصور أن أجد عمي صاحل يف انتظاري‪ ..‬متلكتين احلرية‪ ..‬ما‬
‫املكروه الذي حلق به؟ وكيف حال أسرته؟‬
‫وفاجأتين حسناء تلحق بي‪..‬‬
‫صافحتين حبرارة‪..‬‬
‫سبحت يف عينيها السوداوين وقد اغرورقتا بالدموع فتبللت أهدابها‬
‫املتفتحة يف تكاسل‪..‬‬
‫مل تكن غري مهرة عربية ضاق بها ميدان املعركة‪..‬‬
‫يف شفتيها ارجتافة أكمام الزهر األمحر‬
‫تذكرت قول عنرتة‪:‬‬
‫ولقد ذكرتك والرماح نواهل مين * وبيض اهلند تقطر من دمي‬
‫فوددت تقبيل السيـوف ألنهـا * ملعت كبارق ثغرك املتبسم‬
‫مل تكلمين ومل أشأ أن أكلمها‪..‬‬
‫وحده كان الصمت أفصح لغة‪..‬‬
‫ووحدهما عيناي كانتا تسرتقان النظر إىل كل تضاريس وجهها كأنين‬

‫‪169‬‬
‫أكتشف ألول مرة فتنتها‬
‫حارة احلفرة ثكلى تتدثر مالءة اليأس‪ ..‬شاهدت بناية مزخرفة تفتح‬
‫أبوابها الزجاجية مكتوب عليها خبط كبري "مركز الرمحة التجاري"‪ ..‬منذ‬
‫أيام كان جمرد مسرح فرنسي قديم مهجور‪ ..‬وكنا نسعى أن حنوله إىل مركز‬
‫ثقايف ألبناء حارة احلفرة‪ ..‬كل اخلطوات اإلدارية قمنا بها ال ننتظر إال‬
‫موافقة اجلهات الرمسية‪ ..‬من استوىل على أحالمنا؟ من بذر يف بستان‬
‫الثقافة أنانيته وجشعه جتارةً بائرةً‪..‬؟ كيف يفكر هؤالء الناس‪..‬؟ ومباذا‬
‫يفكرون ببطونهم أم بعقوهلم‪..‬؟‬
‫رفعت نظري يف حسناء‪ ..‬هممت أن أسأهلا ثم تراجعت خشيت أن‬
‫تصدمين خبرب يزعجين‪ ..‬خشيت أن تقول لي أن امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ قد استحوذ‬
‫عليه وحوله إىل مركز جتاري‪.‬‬
‫أخرجتين من شرودي وهي حتثين على السري‬
‫‪ -‬ال تشغل بالك اآلن‪ ..‬ستعرف احلقيقة فيما بعد‬
‫درنا ميينا ملفوفني بصمتنا‪ ..‬الزقاق ينبطح يف تهالك‪ ..‬أكوام اإلمسنت‬
‫تنوء بكلكلها على جانبيه فاغرة أفواهها يف تكاسل والمباالة‪ ..‬مل يعرتض‬
‫سبيلنا أحد‪ ..‬بعض النسوة كنا يتلصصن عرب شقوق األبواب‪ ..‬غياب‬
‫العجوز عكة يقني ال جدال فيه‪..‬‬
‫دلفنا بيت عمي صاحل‪ ..‬أز الباب أزيزا خميفا ميزق صمت الداخل‪ ..‬ال‬
‫أحد هش الستقبالنا‪ ..‬دخلنا الغرف أُمَّا عرجونه يف كرسيها املتحرك‪ ..‬كانت‬
‫حالتها مزرية رغم ذلك رمستْ لوحة فرح على وجهها‪ ..‬مل تكن تتحرك‬
‫لكنها كانت تعرف كل ما حييط بها‪ ..‬احتضنتها‪ ..‬قبلتها‪ ..‬يف كل جزء من‬
‫جسدها‪ ..‬حاولت أن متد إلي يدين ثقيلتني لتحتضنين‪ ..‬أعنتها على ذلك‬

‫‪170‬‬
‫فضغطت يديها على عنقي‪ ..‬تركتها ورحت أطَّ َوف الغرف‪ ..‬أحبث عن أبي‬
‫صاحل وأخيت اجلازيه‪ ..‬عدت حائرا سألت حسناء‪:‬‬
‫‪ -‬البيت خال أين ذهبا؟‬
‫رمت حسناء حافظتها على األريكة‪..‬أرخت قبضة اخلمار ثم رمت به‬
‫فتدىل شعرها كأمواج ليل هائج ووقفت خلف أمي‪ ..‬طوقت رقبتها‬
‫بذراعيها وأسندت رأسها على رأسها‪ ..‬الحظت مالحمها تتغري كأمنا تريد‬
‫أن تنفجر بالبكاء‪ ..‬قفزت حنوها‪ ..‬أمسكتها من ذراعها‪ ..‬رحت أخضها دون‬
‫وعي مين‬
‫‪ -‬أين ذهبا؟ ما الذي حل بهما؟‬
‫وأخربتين بعد ذلك بكل التفاصيل‪ ..‬أخربتين أن اجلازيه قد سافرت إىل‬
‫العاصمة‪ ..‬أحست بعد حبسي أنها فقدت كل شيء فقررت أن تعرف سر‬
‫ذياب ال بد أن تلقاه لتعرف حاله الغامض‪ ..‬ولتتخذ منه سندا يقف معي‪..‬‬
‫كانت تقدر أن مصيبة ستحل بي‪.‬‬
‫أما أبي صاحل فقد رحل إىل القرية‪ ..‬عاد إليها‪ ..‬آثر أن يعيش يف بيته‬
‫القديم‪ ..‬لكن حالته ال تبشر باخلري وجيب أن نكون معه يف هذا الوضع‬
‫السيئ جدا وإال قد يقع فيما ال حتمد عقباه متاما‪.‬‬
‫تلك الليلة أخربني أحد اجلريان أن السيد معرفة مفتش الرتبية‬
‫والتعليم قد اغتيل وهو خارج من إحدى الثانويات‪ ..‬وأن الشيخ السعيد‬
‫قد قتل دفاعا عن نفسه يف اشتباك مسلح وقع قريبا من بيته‪ ..‬وعلمت‬
‫أيضا أن منزل اهلامشي قد اقتحم ليال من طرف مسلحني جمهولني اقتادوه‬
‫مع ابنه وابنته‪ ..‬عادت البنت منتصف الليل بعد أن اغتصبوها بينما وجد‬
‫هو وابنه جثتني مشوهتني دون عيون وال آذان وال مذاكر‪..‬‬

‫‪171‬‬
‫حارة احلفرة ثكلى مازالت تعيش على وقع هذه الفجائع‪.‬‬
‫علمت أيضا أن امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ قد ذهب إىل البقاع املقدسة‪ ..‬وأن‬
‫الصرح الذي قام مكان املركز الثقايف الذي كنا حنلم به هو مركز جتاري‬
‫المْحَمَّ ْد ا ْملَمَّدْ‬
‫تأملت الصرح وقد كاد يستوي‪ ..‬وتذ كرت حلمي وحلم عمي صاحل‪..‬‬
‫كنت أقول له دائما البد أن نسعى يف إقامة دار للثقافة‪ ..‬حارة احلفرة‬
‫مليئة باملواهب‪ ..‬الفقراء وحدهم هم املبدعون‪ ..‬الفقراء خري اإلنسانية‬
‫لوالهم المَّحَت كل القيم‪ ..‬كان ينظر إلي بعني اإلعجاب ويقول‪:‬‬
‫واألغنياء سوس اإلنسانية‬
‫ومن أين ميكنين أن أبدأ؟ هل أحلق باجلازيه يف العاصمة؟ أم انتقل إىل‬
‫القرية إلعادة أبي صاحل؟ أم أؤلب الناس ضد امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ‪ ..‬وضد هذا‬
‫السطو الذي مارسه على عقولنا؟ أم‪..‬؟ كل شيء من حولي متعفن‪..‬‬
‫آثرت تلك الليلة أن أسهر لقد اشتقت إىل القراءة وأنا مدمن عليها‬
‫خاصة الشعر والرواية‪..‬‬
‫وبت ليليت تلك أغين للمومس العمياء أنشودة املطر حبثا عن قافلة‬
‫الضياع اليت اختطفها الطغاة يف يومهم األخري‪.‬‬
‫من أيِّ غابٍ جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف؟‬
‫من أي وجر للذئاب؟‬
‫قابيل أخفِ دم اجلرمية باألزاهر والشفوف‬
‫ومبا تشاء من العطور أو ابتسامات النساء‬
‫ومن املتاجر واملقاهي وهي تنبض بالضياء‬
‫عمياء كاخلفافيش يف وضح النهار هي املدينة‪..‬‬

‫‪172‬‬
‫وبت أحلم بنانَّا وأيام الطفولة والرباءة والنقاء‪ ..‬تتدافع أجسامنا‬
‫الصغرية عند البوابة كخراف تهرع من زريبتها تثغو مجيعا يف حبور‬
‫الشوق‪..‬‬
‫إىل اللقاء ياسيدي‪…...‬‬
‫إىل اللقاء ياسيدي‪..................‬‬
‫يتقهقر املعلم عائدا‪..‬‬
‫نتناثر كأوراق اخلريف ميينا ومشاال‪..‬‬
‫نتكتل‪..‬‬
‫تتعاىل ضحكاتنا لبكاء حسناء ساخطة على املعلمة اليت فرضت عليها‬
‫أداء دور الزوجة يف املسرحية‪ ..‬هل سأخرب نانَّا أن معلمتنا قد زوجتين‬
‫حسناء وأننا أجنبنا طفلة مسيناها أمل؟‬
‫تثريني حسناء ببكائها وقد تناثر شعرها األسود كأمنا يعرب عن تضامنه‬
‫معها فأحس بعاطفة ما جتاهها‪ ..‬أقرتب منها‪ ..‬أنهر الصغار فيسكتون‪..‬‬
‫أتراجل عليهم‪.‬‬
‫يقطع علي حلمي اجلميل صوت نانَّا وهي تدعونا لالنضباط‬
‫واإلسراع بالعودة معها إىل البيت‪.‬‬
‫كان اخلريف قد استفحل وراح يلف حبله املتني حول رقبة الصيف‬
‫ليأتي على ما تبقى فيه من رمق ويستل آخر أنفاسه‪.‬‬
‫أسراب اللقالق تستعرض مقدرتها على الطريان يف مساء مدينتنا‬
‫الصغرية‪ ..‬وحدها هذه الطيور الرائعة متارس طقوس الوفاء عرب رحليت‬
‫اخلريف والربيع‬
‫أخربتين نانَّا مرة أن اللقلق إنسان مثلنا متاما ولكنه توضأ باللنب‬

‫‪173‬‬
‫فمسخه اهلل طائرا‪ ..‬وضحكت وهي حتذرني من أن أغتسل باللنب‪.‬‬
‫مل أخش مما حذرتين منه‪ ..‬بل رمبا متنيته من أجل أن أمارس حرييت وأرى‬
‫احلياة من فوق‪ ..‬وكنت أحدث نفسي أن اللقلق كان إنسانا طيبا وفيا‬
‫خملصا ولذا مسخه اهلل طائرا مجيال بقي حمافظا على ممارسة طقوس الوفاء‪..‬‬
‫وال خيتار سكنا له إال األماكن العالية الطاهرة كقمم األشجار ومنارات‬
‫املساجد والكنائس‪ ..‬لو مسخنا اهلل اآلن ملسخنا فئرانا وخفافيش‪.‬‬
‫ويندفع األطفال دفعة واحدة مرددين وهم يشرئبون برؤوسهم إىل أديم‬
‫السماء حمدقني يف سرب اللقالق‪..‬‬
‫بوبَالَّرَ ْج قَبُو قَبُو‬
‫َاال نُو‬
‫س و َّ‬
‫شمْ ْ‬
‫غُدْوَه َ‬
‫وتبسط اللقالق دفعة واحدة أجنحتها دون حركة فنصيح مجيعا‪.‬‬
‫غدا مشس‪..‬‬
‫غدا مشس‪..‬‬
‫وحدها اللقالق كانت تنبؤنا عن األحوال اجلوية إن بسطت أجنحتها‬
‫وإن قبضتها‪..‬‬
‫ووحدها اللقالق كانت تنال ثقتنا‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫آثرت أن أعود من العاصمة يف سيارة أجرة ألن العودة يف احلافلة أو‬
‫القطار حمفوفة باملخاطر‪ ..‬كم وقع املسافرون ضحية حواجز مزيفة أودت حبياة‬
‫العشرات‪ ..‬كان الصمت خييم داخل السيارة‪ ..‬استسلم الكهل الذي جبواري‬
‫للنوم فور انطالقنا وراح الشاب الذي جبواره يعبث بلحيته ويقرأ يف صمت‬
‫وإمعان من مصحف صغري‪ ..‬أما الشاب الذي كان جبانب السائق فلم أتبني‬

‫‪174‬‬
‫مالحمه كل ما يظهر منه هو قبعته ومساعتني كان يشدهما على أذنيه‪ ..‬فتحت‬
‫جريدة الشروق اليومي‪ ..‬أول عنوان صادفين هو جمزرة يف املديَّه‪ ..‬اختطاف‬
‫سيناتور يف تبسه‪ ..‬اغتيال رئيس حمكمة بباتنة ودركيني ببلعباس‪ ..‬قوات‬
‫األمن تقضي على عشرين إرهابيا يف جبال بابور وبوطالب وحربيل ‪..‬‬
‫خضين دوار عنيف‪ ..‬عصف بكل جسدي‪ ..‬داهمين موج القيء‪ ..‬وضعت‬
‫يدي على رأسي ورحت أضغط بقوة‪..‬‬
‫عاودني الفضول إىل فتح اجلريدة‪ ..‬جمموعة إرهابية تتسلل حتت جنح‬
‫الظالم إىل عمق مدينة املديه‪ ..‬تقتحم ثانوية‪ ..‬وتغتال ببشاعة مخسة عشر‬
‫طالبا داخليا ترتاوح أعمارهم بني ستة عشر وعشرين عاما ثم الذوا بالفرار‬
‫إىل اجلبال اجملاورة‪ ..‬رجال األمن مازالوا يقومون بتمشيط املنطقة مدعمني‬
‫بالطائرات وأفراد اجليش الشعيب الوطين و‪..‬‬
‫لك اهلل أيها الوطن العظيم شاخما تبقى رغم احملن‪.‬‬
‫توقف الشاب امللتحي عن القراءة‪ ..‬خبأ مصحفه يف جيبه‪ ..‬أخرج من‬
‫حافظته شريطا وسلمه للسائق طالبا منه أن يشغله‪ ..‬قذف السائق بالشريط‬
‫يف جوف اجلهاز دون مباالة كأنه ال يعي ما يدور حوله‪ ..‬دار الشريط واندفع‬
‫منه صوت واعظ يكاد صوته خيرق اآلذان‪..‬‬
‫معشر املسلمني واملسلمات بعدما تناولنا يف الدرس السابق حكم‬
‫الشرع يف خروج املرأة وتعليمها وأكدنا مبا اليدع جماال للشك من كتاب اهلل‬
‫وسنة نبيه أن املرأة الخترج إال للضرورة القصوى وأن تعليمها الجيوز أن‬
‫يتجاوز ما تقيم به دينها‪ ..‬ننتقل حبضراتكم اليوم إىل درس جديد مفيد حنن‬
‫اليوم عنه غافلون‪ ..‬هذا الدرس هو عذاب القرب وما أدراك ما عذاب القرب‪..‬‬
‫حني جيد اإلنسان نفسه وحيدا إال من عمله‪ ..‬وحني جيد يف قربه نريانا‬

‫‪175‬‬
‫وثعابني وحيات طوهلا مابني السماء واألرض‪..‬‬
‫وانتفض الشاب اجملاور للسائق فرمى السماعة وأسكت صوت‬
‫الواعظ قائال للسائق‪:‬‬
‫‪ -‬مالك أيها السائق حنن يف سفر أم يف جنازة؟‬
‫مل يتفوه السائق بكلمة واحدة‪ ..‬كان الطريق مزدمحا‪ ..‬كثري التعرجات‪..‬‬
‫وكان البد له أن يبقى يقظا‪ ..‬لكن الشاب امللتحي ناب عنه مدافعا عن‬
‫شريطه وما حيمل‪:‬‬
‫‪ -‬اتق اهلل يا أخي‪ ..‬أال حتب أن تسمع ذكر اهلل تعاىل؟ أال بذكر اهلل‬
‫تطمئن القلوب‪.‬‬
‫ومل يرد عليه الشاب بل أسرع يبدل الشريط بآخر للشاب خالد‬
‫واندفعت أنغام الراي الصاخبة متأل فضاء السيارة الضيق‪..‬‬
‫أنا بْحرْ اعْلِيَ‬
‫وانتِ ال‬
‫مانَدْريك بْعيده عْلِيَ مانبكي عليك‬
‫قِيسْ الشَّبكه يف لَبحر‬
‫وابكي على الزْهرْ‬
‫وادِّي ادي‪ ..‬واه‬
‫علق الشاب امللتحي وهو يستغفر اهلل‬
‫‪ -‬اتق اهلل ياأخي‪ ..‬أتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خري؟ هذا الراي‬
‫أتلف الرأي وترككم يف ظلمات تعمهون‪.‬‬
‫واشتد اجلدال والتنابز بينهما‪ ..‬فطن الكهل جبواري من نومه العميق‪ ..‬مل‬
‫نتكلم‪ ..‬حتى السائق مل يعلق على األمر‪ ..‬ولكننا الحظناه خيرج عن الطريق‬

‫‪176‬‬
‫ليوقف السيارة عند حاجز للدرك الوطين‪ ..‬ترجل وقصد توا قائد اجملموعة‬
‫الذي مل يطل االستماع إليه حتى قصد السيارة‪ ..‬حيانا‪ ..‬أنزل الشابني‪ ..‬طلب‬
‫منهما أن ينقدا السائق حقه ثم قادهما معا إىل سيارة الدرك‪.‬‬
‫عاود السائق انطالقه دون أن ينطق‪ ..‬لكن الكهل الذي انتقل إىل‬
‫الكرسي األمامي مل يشأ أن يصمت‪ ..‬راح يقدم لنا موازنة دقيقة بني جيل‬
‫قتل األنانية وقدم مصلحة الوطن على نرجسيته فافتك احلرية من أعتى‬
‫استعمار وبني جيل الهَمَّ له إال أن خيتلف‪ ..‬والهم له إال أن يقلد اآلخرين‬
‫يف شؤون الدين والدنيا‪ ..‬والهم له إال أن يتناحر‪ ..‬وهذه هي النتيجة‪.‬‬
‫كنت مشتتة الفكر بني بيتنا حيث والداي وأخي منري‪ ..‬وبني ذياب يف‬
‫العاصمة‪ ..‬لقد أخربني ياسني أنه غادر الفندق منذ مدة وأنه يعيش خمتبئا ال‬
‫أحد يعرف مكانه إال هو‪ ..‬يلتقيه كل مساء ليحضر من عنده مقاله الذي‬
‫أصبح يوقعه باسم مستعار‪ ..‬لقد تلقى عشرات التهديدات عرب الربيد‬
‫واهلاتف وتعرض حملاولة اغتيال خاصة بعد مقاالته النارية اليت كتبها ضد‬
‫األثرياء أصحاب االمتيازات ودورهم يف متوين اإلرهاب وأخربني أنه‬
‫مصمم على العودة إىل البيت يف أقرب فرصة‪.‬‬
‫هدأت نفسي بعد مساعي هذه األخبار عنه وتركت لدى ياسني الرسالة‬
‫اجملهولة اليت وصلتين ختربني عن تفاصيل اغتيال ذياب‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫مل أكن موافقة متام املوافقة على الذي كان يفعله منري‪ ..‬كنت أمتنى أن‬
‫يعتين بهموم أسرته الصغرية فحسب‪ ..‬اهلموم األكرب منه ال شأن له بها‪..‬‬
‫وإال متى نتزوج ومتى ننجب أطفاال نعيش معهم ما تبقى من حياتنا‪..‬؟‬
‫أليس من حقنا أن نعيش حنن أيضا حياتنا؟‬

‫‪177‬‬
‫كان يقول كلما ذكرته باألمر‪ :‬كيف ميكن لإلنسان أن يعيش مبعزل عن‬
‫كل أبناء جمتمعه احمليطني به؟ وكيف يسكت عن منكر يراه ميشي على قدميه‬
‫ويشمر على ذراعيه شاحذا أنيابه احلادة‪.‬‬
‫راودتين هذه األفكار وأنا أقصد منري يف مكتبته البد أن أضع معه النقاط‬
‫على احلروف‪ ..‬إىل متى وحنن نعيش األحالم الكاذبة؟ إىل متى وهو يعيش‬
‫لآلخرين وينسى نفسه؟ مرت أربع سنوات وحنن خمطوبان دون أن حنقق حلمنا‬
‫يف بناء عشنا‪ ..‬ضحينا بكل املال الذي مجعنا من أجل إجراء عملية جراحية‬
‫للخالة عرجونه‪ ..‬لست نادمة رغم أنها مل حتقق اهلدف الذي صبونا إليه مجيعا‪..‬‬
‫لكن اليهم‪ ..‬املهم أن تقف مع أخيك وقت الشدة‪ ..‬أال نؤمن أنه لوال الفقراء‬
‫لزالت كثري من القيم؟ نعم ولكن جيب أيضا أن حنقق حلمنا يف أقرب فرصة‪.‬‬
‫اقرتبت من املنعطف‪ ..‬جتنبت وحل الطريق الذي شكلته بركة كبرية من‬
‫املاء الشك أن أنبوبا انفجر هاهنا منذ الصباح‪ ..‬أفزعتين سيارة فارهة أقبلت‬
‫مسرعة من بعيد‪ ..‬احتضنت اجلدار فَزِعَةً‪ ..‬غاصت السيارة يف املاء العكر‪..‬‬
‫ارتفع موج الطمي‪ ..‬داهمين‪ ..‬جتمدت الكلمات يف فمي وأنا أرى حافظيت‬
‫وبعض ثيابي ممتلئة ماء ووحال‪ ..‬نظرت إىل السيارة اليت توقفت‪ ..‬صرخت‬
‫يف وجهه‪:‬‬
‫‪ -‬جمنون‪..‬‬
‫أطل برأسه من النافذة وبصق يف وجهي وانطلق حيفر األرض بعجالت‬
‫سيارته الفارهة‪.‬‬
‫أسرعت أصلُ املكتبة وأجلها‪ ..‬رميت احملفظة فوق احملسب بكل ما حتمل‬
‫من قاذورات يف حركة غاضبة‪ ..‬تلقاني منري وقد كان غارقا يف الكتابة‬
‫‪ -‬خريا إن شاء اهلل ماالذي وقع؟‬

‫‪178‬‬
‫أخربته األمر‪ ..‬مل يزد على أن ضحك وقال‪:‬‬
‫‪ -‬رحم اهلل الشاعر العربي نزار قباني ملا قال‪:‬‬
‫لبسنا قشور احلضارة والروح جاهليه‬
‫ضرب على احملسب وواصل ‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تنتظرين من جمتمع ال يصنع احلضارة لكنه يستهلكها بغباء؟ هل‬
‫ميكن أن ميلك سلوكا حضاريا؟‬
‫وخشيت أن يتمادى يف عرض نظريات فلسفية مثالية عن واقعنا وواقع‬
‫أوروبا ووجوب التحاقنا بالركب وهذا ال يتأتى إال ببناء إنسان متحضر قبل‬
‫استرياد اآللة واملظاهر والشكليات وهذا ال يتأتى إال إذا أسندت القيادة‬
‫للمفكرين واملثقفني‪ ..‬خشيت ذلك فقلت‪:‬‬
‫‪ -‬ماتؤمن به من مثل عليا ومناهج لإلصالح اكتبه يف رواياتك أما أنا‬
‫فهذا أمر اليعنيين‪ ..‬لكن الذي يعنيين هو ‪..‬‬
‫وقاطعين مداعبا وعلى وجهه ابتسامة‬
‫‪ -‬هو أن نتزوج‪..‬‬
‫وسكت‪ ..‬وليته مل يسكت ألني كنت أعرف ما سيقول‪ ..‬شريط واحد‬
‫حفظته‪..‬‬
‫هل ميكن أن نفرح والوطن اجلريح يغرق يف حبر من الدموع؟‬
‫ومباذا نتزين؟‬
‫ومباذا نتعطر؟‬
‫أباألكفان والدماء؟‬
‫وكأن الناس ال يتزوجون يف احلروب وال يفرحون‪..‬‬
‫لكنه قال حبماس‪:‬‬

‫‪179‬‬
‫‪ -‬أنا مستعد‪..‬‬
‫ووجدت نفسي أطري فرحا فأحتضنه بانتشاء‪ ..‬ماهذا التغيري املفاجئ؟‬
‫ضمين إليه وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬غدا أحضر إىل بيتكم‪ ..‬نستأذن والديك‪ ..‬حنمل ما ترغبني يف أخذه‬
‫معك ونرحل إىل بيتنا حيث حنقق حلمنا اجلميل‪.‬‬
‫سرى اخلدر يف جسدي كله‪ ..‬تراخت ذراعاي بربودة‪ ..‬ابتعدت عنه‪..‬‬
‫تهاويت فوق الكرسي‪ ..‬لقد خيب كل آمالي ونسف كل أحالمي‪ ..‬إنه على‬
‫يقني أنين أرفض هذا الشكل من الزواج وإن قبلته أنا فإن أمي ستنتحر إن‬
‫فعلته‪ ..‬حلمها أن تقيم لي زفافا تتسامع به املدينة مجيعا وهي مل تسمع بأنين‬
‫تآمرت مع منري وسلمنا املبلغ خلاليت عرجونه وإال كانت ستُسقط علينا‬
‫السماء كسفا‪ ..‬ولست ألومها وهي ربة عائلة ثرية جدا‪ ..‬ولوال حبها لي‬
‫وخوفها علي ماوافقت على زواجي من منري أصال‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫بت أقلب دفاتر حارة احلفرة ورقة ورقة‪ ..‬أقرأها سطرا سطرا‪ ..‬أفتش‬
‫خلف حروفها حرفا حرفا‪ ..‬ملاذا هي حفرة وليست ربوة؟ وماالذي مينعنا من‬
‫أن جنعلها ربوة والكبار عندنا يقصون أنها كانت أرفع مكان يف اجلهة كلها؟‬
‫وكانت حتفها الغابات واألشجار املثمرة؟ وتتفجر خالهلا الينابيع الدافقة؟‬
‫كانت جنة هذه األرض كلها‪ ..‬وحدث أن زلزلت بفعل لعنة حلت بها حني‬
‫عتت عن أمر ربها فغيض ماؤها وغارت أرضها‪ ..‬ومازال الكبار عندنا‬
‫يؤمنون بهذه األسطورة كأن الذين من حولنا على الصراط السوي لرتتفع‬
‫أراضيهم روابي وجنانا؟ أم أن األمر اليعدو إال أن يكون سطوة اجلبارين‬
‫على الضعفاء؟‬

‫‪180‬‬
‫مل أنس عبله احللوة‪..‬‬
‫كل ذرة تراب يف هذه احلارة تذكرني بها‪..‬‬
‫كل شهيق يف الصدور‪..‬‬
‫كل نبض يف القلوب‪..‬‬
‫كل حرية يف العيون تذكرني بها‪..‬‬
‫كلما أمر على بيتهم ويصل مسمعي أنني أبيها إبراهيم أذكرها‪..‬‬
‫كلما أرى شيئا مجيال يف الوجود أذكرها‪ ..‬لقد كانت أمجل من كل مجيل‪..‬‬
‫أمجل من البدر ليلة متامه‪ ..‬من حبات املطر املرتاقصة‪ ..‬من الشوق‪ ..‬من‬
‫املوج‪ ..‬من العشق‪ ..‬من الشذا واألغاريد‪..‬‬
‫أين هي أمها؟ وأين زوجة أبيها؟ وأين إخوتها؟ أين أخوها الذي قبض‬
‫عليه متلبسا يبيع املخدرات؟ وأين هي؟‬
‫لست أدري من فعل بنا هذا‪ ..‬هل هو اهلل؟ هل ميكن أن يكون اهلل‬
‫قاسيا على الناس إىل هذه الدرجة فيميزهم فقراء وأغنياء ثم يسلط األغنياء‬
‫على الفقراء؟‬
‫أمل يقل‪:‬‬
‫وما من دابة يف األرض إال وعلى اهلل رزقها؟‬
‫أمل يقل‪:‬‬
‫وقدر فيها أقواتها؟‬
‫فأين رزقنا؟ وأين أقواتنا؟‬
‫يف احلقيقة ال أراني أؤمن بهذه الرتهات‪ ..‬لكين أؤمن أن هذا ظلم‬
‫اجملتمع‪ ..‬ظلم طبقة تغتين بطرق ملتوية وتكنز الذهب والفضة لطبقة أخرى‬
‫خانتها ظروفها أو سارت على الطريق السوي فبقيت أقل من األوىل‪ ..‬لقد‬

‫‪181‬‬
‫خلق اهلل لنا األرزاق يف هذه األرض قدر ما يكفينا مجيعا فنعيش مجيعا سعداء‬
‫كما خلق اهلواء والنور بالضبط‪ ..‬لو تعلمنا كيف نكون إنسانيني ما اغتنت‬
‫شعوب وافتقرت أخرى وملا استغل إنسان آخر‪.‬‬
‫عاد النادل إلي يضع أمامي فنجان القهوة وينصرف بسرعة بل وخيتفي‬
‫يف ملح البصر كأنه خيال‪ ..‬منذ صباي وهو نادل هذه املقهى‪ ..‬ومنذ صباي وأنا‬
‫ال أراه يزداد إال حنافة ومسرة‪..‬‬
‫وكان إبراهيم جحا حني يقابله حيتضنه مداعبا‪ :‬أهال بالسفري اإلثيوبي‬
‫املفوض فوق العادة‪ ..‬وال يزيد النادل الطيب القلب أو عظام احلوت كما‬
‫كان يسميه أهل احلارة عن االبتسامة العريضة كاشفا عن أسنانه املسوسة‬
‫اليت عاث فيها التدخني فسادا‪ ..‬ورمبا قال‪ :‬الطول للشجر والعرض للبقر إن‬
‫اهلل ينظر إىل قلوبكم‪.‬‬
‫رشفت رشفة خفيفة من الفنجان ووضعته على عجل‪ ..‬كنت أسند‬
‫رأسي على يسراي وأتأمل شجرة التوت اليت بقيت متمسكة باحلياة رغم‬
‫الشروخ اليت أحدثها فيها الكبار والصغار‪ ..‬ملاذا سكت الناس عن اختفاء‬
‫احللوة؟ من خطفها واغتصبها؟ ملاذا أطلقت الشرطة سراحها لتختفي فجأة‬
‫بعد ذلك؟ وملاذا قيدت القضية ضد جمهول؟ وطوي امللف متاما؟ هل كان‬
‫المْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ضلع يف القضية؟ ما السر وراء تفتيش بييت ليال وحجزي‬
‫أياما‪..‬‬
‫وعدت لنفسي أجرع رشفة أخرى أكرب‪ ..‬الظاهر أن مشاكل حارة احلفرة‬
‫صارت ال تعد وليس من السهل التصدي هلا مطلقا‪ ..‬اختفاء احللوة‪ ..‬اغتيال‬
‫عبد الرحيم‪ ..‬انطواء إبراهيم‪ ..‬فرار أبي صاحل‪ ..‬انقطاع أخبار ذياب‪ ..‬وسفر‬
‫اجلازيه‪ ..‬قتل السيد املفتش وعمي السعيد‪ ..‬قتل عمي اهلامشي وابنه بعد‬

‫‪182‬‬
‫صعود ابنه صالح الدين إىل اجلبل وانضمامه إىل اجلماعة اإلسالمية‬
‫املسلحة‪ ..‬ومن أين يبدأ حل كل هذه اهلموم؟‬
‫أنهيت قهوتي عجال‪ ..‬رميت بالنقود على الطاولة وانصرفت‬
‫يف املساء البد أن أحلق بعمي صاحل ألتفقد أحواله ولكين اآلن جيب أن‬
‫أذهب إىل دكان عْزيََّزْ بائع العطور‪ ..‬جمٌّ أكدوا أنهم رأوا احللوة تدخل آخر‬
‫مرة عنده‪ ..‬مل يعرتف هو بذلك ومل تستدعه الشرطة وال حتى احملكمة‪.‬‬
‫دخلت الدكان وجدت عْزيََّزْ جيلس خلف احملسب ميرر بني أصابعه حبات‬
‫سبحة بيضاء وقد ظهرت على وجهه األشقر حلية غري منسجمة وأحزان‬
‫كدرت وسامته‪ ..‬أسرع يرحب بي ويهيئ لي الكرسي للجلوس‬
‫‪ -‬زارتنا الربكة‪ ..‬زارتنا الربكة‪..‬‬
‫قاطعه عَزُّوزْ الدود وهو يدخل فجأة هائجا كأمنا كان يتبعين حماوال أن‬
‫يفصح عن سر عجز البوح به‪ ..‬مل يكن ميلك إال أن يشري إىل عْزيََّزْ مهددا‬
‫إياه مرددا‬
‫‪ -‬الروميه‪ ..‬الروميه‪..‬‬
‫وفهمت أنه يتهمه بقتل عبله احللوة وقد كان عَزُّوزْ الدود متيما بها‬
‫يرافقها مئات األمتار من بيتها حتى تغادر حارة احلفرة‪ ..‬حيمل حافظتها‬
‫مرات‪ ..‬ويتأبط ذراعها مرات‪ ..‬وتسايره هي يف ما يريد رمبا نكاية أو استفزازا‬
‫للشباب الذي يقفون بعيدين واحلسرة تلتهم قلوبهم امللتهبة‪.‬‬
‫دفعت عَزُّوزْ الدود عنوة إىل اخلروج من احملل بعد أن منحته قطعا نقدية‬
‫وعدت إىل اجللوس‪ ..‬كان عْزَيَزْ قد طلب عرب اهلاتف قهوتني مكثرا من‬
‫الرتحاب‪ ..‬مبديا استعداده خلدميت‪ ..‬وأخربته وأنا أدقق النظر يف مالمح وجهه‬
‫األشقر أنين جئته يف أمر خاص جيب أن يساعدني فيه بصدق تام‪ ..‬وكأمنا‬

‫‪183‬‬
‫أدرك غرضي فأومأ برأسه ملبيا وتسارعت أصابعه تعبث حببات السبحة‪.‬‬
‫مل يستمر الصمت طويال حتى قطعته قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ياعْزيََّزْ أنت ابن حارة احلفرة‪ ..‬وكل أبنائها إخوة لك‪ ..‬ولعلك‬
‫تالحظ معي كيف أن كل األحياء تزداد رقيا وحتضرا وتزداد حارتنا تعفنا‬
‫وختلفا‪ ..‬ولعلك تالحظ معي أن كل الذين تشردوا يف اجلبال هم من شباب‬
‫حارة احلفرة‪ ..‬وأنت تدرك أن األمر ال يعدو أن يكون صراع طبقات‪ ..‬وقد‬
‫تقول أنت بإميانك أن هذا قضاء اهلل وقدره‪ ..‬ورغم أنين ال أؤمن بهذا‪ ..‬امسح‬
‫لي أن أسألك‪ ..‬هل اغتصاب هؤالء القوم لشرفنا أيضا قضاء وقدر جيب أن‬
‫نرضى به ونسكت عنه؟‬
‫وسكت أنتظر جوابه‪ ..‬مل تتحرك شفتاه إال بالتسبيح‪ ..‬وكانت عيناه‬
‫تدوران برعب شديد‪ ..‬اصفر وجهه‪ ..‬ومجد حتى صار كوجه معلول‪ ..‬طال‬
‫سكوتي ألعطيه فرصة للبوح لكنه أبى‪ ..‬أردت أن أبرح املكان لكنه عجل‬
‫إلي يستوقفين ويعيدني إىل مكاني ثم يهرع إىل الباب يغلقه ويضع إشارة‬
‫مغلق ويعود إلي‪ ..‬مل أشأ أيضا أن أنطق‪ ..‬مل يكن هادئا متاما بل كان مضطربا‬
‫جدا‬
‫‪ -‬ما عساني أقول لك؟ لعلك جئت يف الوقت املناسب ولو مل حتضر‬
‫إلي لقصدتك‪ ..‬لقد صار ما أمحله يف نفسي ثقال رهيبا‪ ..‬صار يقض‬
‫مضجعي يف كل حلظة‪.‬‬
‫وسكت يلم أطراف حديثه فاعتدلت يف جلسيت حمدقا يف عينيه‪ ..‬بلل‬
‫شفتيه وواصل‬
‫‪ -‬هذا الدكان هو للحاج امْحَمَّدْ‪ ..‬وما أنا إال أحد خدمه‪ ..‬وهو مل يقمه‬
‫هاهنا إال الصطياد من يشاء من الغيد الكواعب‪ ..‬وكان اللعني قد وعدني‬

‫‪184‬‬
‫أن يتنازل لي عن احملل إن أنا اصطدت له احللوة‪ ..‬وفعال نفذت له بغباء‬
‫مايريد ثم مل أحصل على شيء‪ ..‬لقد شرَّبتها خمدرا ومن هنا محلناها فاقدة‬
‫الوعي حتى وقع الذي وقع‪..‬‬
‫قال مجلته األخرية بكثري من احلسرة وتداعى يبكي عند قدمي ندما على‬
‫ما بدر منه‪ ..‬مارت نفسي كالربكان وأنا أضع يدي على رأس اخليط لقد‬
‫وقعت أيها اللعني كاحلشرة يف بيت العنكبوت فأين املفر اآلن؟‬
‫نهضت من مكاني عجال حاثا عْزيََّزْ على أن خيرب الشرطة باألمر‪..‬‬
‫أردف مرتددا‬
‫‪ -‬وهو الذي كان وراء سجنك‪ ..‬لقد اتهمك باملتاجرة يف املخدرات‪..‬‬
‫خرجنا دون أن نرتشف شيئا من فنجاني القهوة‪ ..‬أكدت له يف الطريق‬
‫وحنن نتجه إىل مقر الشرطة أن يف هذا الوطن رجاال سيعرفون كيف‬
‫يطبقون القانون على اجملرمني‪.‬‬
‫كنا نقرتب من مركز الشرطة‪ ..‬كان عْزيََّزْ يسري جبواري يكاد يلتصق بي‬
‫وكانت فرائصه ترتعد رغم حماولته إخفاء ذلك‪ ..‬هممت أن أسأله عما بدا‬
‫عليه ثم أحجمت‪ ..‬لقد تعود على دخول مقر الشرطة ودخول السجن أيضا‬
‫يف جرائم السكر والسرقة‪ ..‬ولكنه مل خياصم أحدا يف حياته‪ ..‬فكيف خياصم‬
‫امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ؟‬
‫على بعد أمتار من الباب التقانا شاب مل أر خلقته يف حياتي‪..‬‬
‫أمسك بيد عْزيََّزْ وجره بعيدا‪ ..‬وقف ت أنظر يف حرية وعْزيََّزْ ال ميلك إال‬
‫أن يسري معه‪ ..‬كان بينهما حديث ليس فيه ما يدل على العنف أو‬
‫الكراهية ولكن كأمنا مسعت كالما يف التجارة‪..‬‬
‫هممت أن أحلق به ألعيده إلي لكنه طمأنين بيده أننا سنلتقي فيما بعد‪..‬‬

‫‪185‬‬
‫وقفت يف مكاني أشيعه وهو يبتعد وكانت يف نفسي حسرة كأنين أودع حبيبا‬
‫لن أراه بعد اآلن‪ ..‬كأنين أفقد كنزا وجدته اآلن‪..‬‬
‫دخلت إىل مقر الشرطة وجدت كرميا‪ ..‬دخلت معه مكتبه‪ ..‬رويت له كل‬
‫ماكان بيننا يف احملل‪ ..‬طلب مين أن أصف مالمح الشخص الذي استوقف عْزَيَّزْ‬
‫وخرج‪ ..‬بعد حلظات أكملت املهمة وخرجت‪ ..‬ليس عْزََّيزْ إال جرحا يف حياتنا‪..‬‬
‫ليس إال ثلما عميقا يف قلب حارتنا‪ ..‬تزوج أبوه العجوز عكة وهي يف األربعني‬
‫من عمرها ضرة على أمه‪ ..‬بعد أيام من الشجار والصراع قتل أم عْزَيَّزْ زوجته‬
‫األوىل ومحل هو إىل السجن ليموت فيه بعد عشر سنوات وبقي عْزَيَّزْ يتيما مع‬
‫ضرة أمه‪ ..‬غادر مقاعد الدراسة مبكرا واشتغل نادال باملقهى ليجد نفسه يف‬
‫أحضان مجاعات من اللصوص مدمين اخلمور والقمار‪ ..‬دخل السجن مرارا‪..‬‬
‫كثريا ما كان يزورني يف البيت ليال مع صاحبه اخلري أو وحده وهو يف حالة‬
‫عربدة‪ ..‬أقدم إليه فنجان قهوة وأجلس ألستمع إىل حديثه الذي يطول لساعات‪..‬‬
‫كان حيلم بالزواج واالستقامة‪ ..‬كان حيلم أن يكون له بيت يأويه ويكون له فيه‬
‫أطفال‪ ..‬ولكن ما كل ما يتمنى املرء يدركه‪..‬‬
‫عدت مباشرة إىل بييت يشرنقين اليأس‪ ..‬ويلفين الضجر بأذرعه األخطبوطية‪..‬‬
‫دخلت احلجرة األرضية‪ ..‬وقفت وسطها متأمال‪ ..‬منذ أن رحلت نانَّا عن الفانية‬
‫وأنا أنظر إليها نظرة قداسة أحاول أن أترك كل شيء مكانه كما تركته‬
‫بالضبط‪ ..‬املوقد‪ ..‬حلقات النول املثبتة باجلدار‪ ..‬الصندوق اخلشيب املنقوش‪..‬‬
‫اهليدورة البيضاء‪ ..‬زربية الصالة‪ ..‬واإلطار اخلشيب الذي حيمل صورتها وزوجها‬
‫الشهيد يف ثياب اجلندية أيام الثورة التحريرية‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫‪6‬‬

‫اخلروج من التابوت‬

‫‪1‬‬
‫وصلت من العاصمة البارحة متعبة نفسيا وجسديا‪ ..‬كانت نفسي تتنبأ‬
‫بكل الشر يف حارة احلفرة وفعال استقبلين ذلك‪ ..‬بل وجدت ماهو أدهى‬
‫وأمر‪.‬‬
‫انتقل أبي كما أخربني منري إىل القرية منذ أيام دون أن يعود وال أحد‬
‫يعرف عنه شيئا‪ ..‬زادت حالة والدتي سوء‪ ..‬كلَّ يوم تذبل كالشجرة اليت‬
‫قطعت جذورها‪ ..‬أرغمَ منري أنفه يف هم جديد ال نعرف كيف سيخرج منه‪..‬‬
‫ليس من السهل فتح جراح اآلخرين بعد اندماهلا ونسيانها‪ ..‬انتحر عْزيََّزْ‬
‫بعد أن تناول دواء منوما مركَّزا وفتح قارورة الغاز يف غرفته املغلقة‪.‬‬
‫كل السكان كانوا يعيشون غليانا رهيبا مل نألفه من قبل منذ زمن مل‬
‫يعودوا يتجمعون بهذا الشكل حتى يف مقهى احلي وحتى عند أطراف‬
‫الشوارع‪ ..‬كأمنا هم يعدون ألمر خطري أو سيفرون من أمر خطري‪.‬‬
‫دخل علينا منري وجدني منهمكة يف تبديل ثياب والدتي لغسلها مع‬
‫باقي الثياب‪ ..‬حيانا وجلس قدمت له فنجان قهوة وجلست قبالته‬
‫كان وجهه عبوسا قمطريرا‪ ..‬تركت ما يف يدي وهرعت إليه‬
‫استكشف حاله‪ ..‬أنبأني بربودة‪:‬‬
‫‪ -‬قتلوا عْزيََّزْ… أو‪ ..‬لعله ‪ ..‬لست أدري‬
‫سكت حلظة وواصل‪:‬‬

‫‪187‬‬
‫‪ -‬وجد خمتنقا يف دكانه بفعل تسرب الغاز من قارورة يستعملها للتدفئة‪.‬‬
‫وانتقلت زوابع اليأس إىل أعماقي فلزمت الصمت‪ ..‬سألين عن ذياب‬
‫وعن العاصمة‪ ..‬مل ترضه إجابيت‪ ..‬قدمت له صورة قامتة عن كل شيء‬
‫وأنهيت كالمي بقولي‪:‬‬
‫‪ -‬كل شيء ضاع يا منري‪ ..‬منذ تعرض ذياب لعملية اغتيال وهو‬
‫يعيش خمتبئا ومل أستطع حتى أن أقابله والعاصمة صبية مصلوبة على‬
‫جدار الرهبة‪.‬‬
‫أخربني أن حارة احلفرة أيضا تعيش خماضا عسريا‪ ..‬أبناؤها يعدون‬
‫لتمزيق الشرنقة احلالكة مهما كان الثمن‪ ..‬وأخربني أيضا أن امْحَمَّدْ‬
‫ْملَمَّدْ قد عاد من احلج والعرس قائم يف بيته منذ أيام وقد زار يف سيارته‬
‫الفارهة مع سائقه وحارسه هذا الصباح حارة احلفره حيمل مئات اهلدايا‬
‫ليوزعها على سكانها‪ ..‬مل يكلمه إال العجوز عكة‪ ..‬عكة وحدها هنأته‪..‬‬
‫ووحدها عكة استلمت هديته‪ ..‬اجلميع بقي ينظر إليه من بعيد يف ازدراء‪..‬‬
‫وحني قُذفت صخرة من يد فتى حنو السيارة أدرك امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ أن األمر‬
‫حامض فلملم خيبته ورحل‪.‬‬
‫‪ -‬منري جيب أن نذهب مساء إىل القرية ال بد أن نعرف حالة والدي‪..‬‬
‫أنا خائفة يامنري‪.‬‬
‫هكذا قالت اجلازيه واخنرطت يف بكاء حارق مفاجيء كالسماء اليت‬
‫تغيم وتندلق بسرعة‪ ..‬امحر بياض عينيها كشفق يوم شتوي وتدلت‬
‫خصالت شعرها األسود يف غري انتظام كليل يرخي سدوله عليها بأنواع‬
‫اهلموم‪ ..‬ضممتها إلي أهدئ روعها‪.‬‬
‫‪ -‬ال بأس عليك‪ ..‬حني تتعاورنا السهام جيب أن حنمي أنفسنا‬

‫‪188‬‬
‫والضعاف مثلنا‪ ..‬أما والدي صاحل فهو يعرف كيف حيمي نفسه‪.‬‬
‫سكتُ حلظات استحضر مالمح الشيخ صاحل وهو يلح‪ :‬حيرث‬
‫واقف أو ينكسر ‪..‬‬
‫ينكسر احملراث رمبا‪ ..‬هل ينكسر الرجال؟ هل تنكسر ياصاحل الرصاصة؟‬
‫وأنت الذي مل تلن يف حياتك‪.‬‬
‫تأملت اجلازية كانت كئيبة‪ ..‬قلق عاصف يعبث على تضاريس وجهها‪..‬‬
‫كانت تشبك أصابع يديها وهي تنظر يف الفراغ قلت يف سري‪:‬‬
‫أنت يااجلازيه يف هذه احلارة كل شيء‪..‬‬
‫قد جتف البحـــار‪..‬‬
‫قد ترختي اجلبــــال‪..‬‬
‫قد جتنب الريـــــح‪..‬‬
‫لكن اجلازيه جيب أن تبقى أبدا كربيـــــــاء‪.‬‬
‫وقطع طقوسنا دخول العجوز عكة فجأة وهي حتمل يف يدها صحنا‬
‫غطته مبنديل قديم‪ ..‬وضعته على الطاولة واحتضنت اجلازيه تقبلها‪.‬‬
‫‪ -‬يا بنييت‪ ..‬يا ابنة أخيت العزيزة ما هذه الغيبة الرهيبة واهلل وحقِ امللح‬
‫الذي بيننا لن ميسك أذى‪ ..‬ال حتملي هما أنا هنا‪.‬‬
‫وضربت صدرها براحة ميناها‬
‫‪ -‬الكل يعرف من هي عكة يف املواقف العظيمة‪ ..‬اسألي اجلميع‪..‬‬
‫اسألي أمك‪ ..‬اسألي منري ولدي ومفخرة احلارة‪ ..‬أنا ربيته منذ كان صغريا‬
‫وأرضعته من صدري‪ ..‬كل ما فيه من صالبة وفطانة هو مين‪.‬‬
‫كانت وهي تلقي خطبتها العصماء تقلب فينا النظر كأنها تطلب‬
‫تصديقا‪ ..‬لقد كانت تعرف أنها تكذب‪ ..‬وتعرف يقينا أننا لن نصدقها‪..‬‬

‫‪189‬‬
‫وقطعت فجأة صمتنا احلائر‪ ..‬مدت يديها إىل الصحن وعلى وجهها‬
‫ارتسمت ابتسامات منافقة‪ ..‬أزالت عنه الغطاء كان منتصفا حلما مشويا‬
‫وقد قطع قطعا صغرية خمتلفة‪.‬‬
‫‪ -‬حنن أسرة واحدة‪ ..‬اهلل يعلم حمبتكم يف قليب‪.‬‬
‫وقدمت الصحن فوق طاولة صغرية إىل أمي وهي حترضنا على األكل‪..‬‬
‫مل مند أيادينا رغم إغرائها‪ ..‬ورأيت أُمَّا عرجونه ترجتف كجناحي عصفور‬
‫مذعور‪ ..‬كأمنا شفيت من شللها‪ ..‬ثم حتركت وتهاوت فوق الطاولة‬
‫الصغرية‪ ..‬تهاوى الصحن على األرض وتناثرت أجزاؤه على أرضية‬
‫الغرفة ممتزجة بقطع اللحم‪ ..‬أسرعتُ مع اجلازيه نرفع أُمَّا عرجونه‬
‫ونعيدها إىل مكانها‪ ..‬وهرعت العجوز عكة جتمع ما تناثر من قطع اللحم‬
‫وهي تصيح‪:‬‬
‫‪ -‬ضاع املليون ضاع‪ ..‬ضاع املليون ضاع‪..‬‬
‫وعادت إلينا وقد مجعت معظم القطع يف املنديل الذي كان يغطي الصحن‬
‫‪ -‬إنه نظيف‪ ..‬حرام إهدار نعمة اهلل‪ ..‬أنتما متعلمان وتعرفان أن اهلل‬
‫يسخط الباطرين‪.‬‬
‫وتغريت مالمح اجلازيه غضبا وهي تعاجل بعض جراح أمها وأدركت‬
‫أنها ضاقت ذرعا بالعجوز عكة ولعلها ستسيء إليها‪ ..‬وقرأت العجوز‬
‫عكة ذلك على صفحات وجه اجلازيه فسكتت‪ ..‬عجلت أمسك بالعجوز‬
‫عكة أحثها يف رفق على مغادرة البيت وفعال امتثلت فخرجت وهي‬
‫توصي خريا بلحمها‪.‬‬
‫أعادت اجلازيه علي ما يعرفه كل سكان حارة احلفرة وتتسامع به كل‬
‫األحياء احمليطة‪ ..‬تأتي العجوز عكة بكلب صغري تربطه يف بيتها أياما‬

‫‪190‬‬
‫وليالي‪ ..‬تشبعه ضربا وجوعا وعطشا‪ ..‬حني تتأكد من أنه قد غدا ذليال‬
‫تذحبه وتطعم حلمه وخاصة قلبه لكل من تريد أن جتعل منه كلبا خادما‬
‫مطيعا هلا أو ملن يشرتي هذا السحر‪..‬‬
‫وفعال هي ال حتفظ من القرآن إال " إن حتمل عليه يلهث وإن‬
‫ترتكه يلهث" وقد جاءت هذه املرة بهذا اللحم لتجعل منا كلبني‬
‫ط ائعني المْحَمَّدْ امْلَمَّدْ‪.‬‬
‫‪ -‬أنت تعرفني أنين ال أؤمن بالسحر‪ ..‬هل تعتقدين أن هذه الشمطاء‬
‫ميكن أن حتولين إىل كلب مبجرد أن تطعمين حلم كلب؟‬
‫مل تعلق اجلازيه‪ ..‬لكن أُمَّا عرجونه رأيتها تقلب يفَّ بصرها بكثري من‬
‫الرفض والتحذير‪ ..‬ونظرت أنا إليها بكثري من اإلعجاب والتقدير‪.‬‬
‫فجأة دوت يف األفق طلقات رصاص رشاش تتوقف حلظات ثم تعاود‬
‫االنطالق‪ ..‬سألتين اجلازيه خبوف ظاهر عن سر الرصاص مل أعرف كيف‬
‫أجيبها لعلها معركة بني رجال األمن واجليش وبني أفراد من اجلماعات‬
‫املسلحة تسللوا إىل املدينة‪ ..‬وتعالت صفارات سيارات اإلسعاف وسيارات‬
‫املطافئ‪ ..‬تركت اجلازيه حيث هي متسك بأمها وهرعت خارجا‪..‬‬
‫إىل متى تظل أيها الرصاص متزق سكوننا؟‬
‫كان الشارع ممتلئا بالناس وقد هزتهم املفاجأة‪ ..‬أطفال املدارس حيملون‬
‫حمافظهم ويعدون باجتاه بيوتهم وقد بدا على وجوههم اهللع‪ ..‬الكبار كانوا‬
‫يعدون باالجتاه املعاكس متاما‪ ..‬الميكن أن توقف أحدهم لتسأله‪..‬‬
‫ماكان مين إال أن اجنذبت خلفهم قريبا من املدرسة حيث كانوا‬
‫يتجمهرون‪ ..‬مازالت طلقات الرصاص تدوي‪ ..‬ومازالت صفارات‬
‫اإلسعاف تشق الفضاء‪ ..‬شققت اجلمع‪ ..‬كانت املفاجأة أكرب مما كنت‬

‫‪191‬‬
‫أتوقع‪ ..‬جثة شاب مضرج بدمه‪ ..‬معفر اللحية‪ ..‬مربوط القدمني‪ ..‬مشقوق‬
‫القميص‪ ..‬مذبوح الرقبة‪ ..‬حتى ليكاد الرأس ينفصل عن اجلسد‪..‬‬
‫مل يكن غريبا‪ ..‬كان صالح الدين‪ ..‬بدا لي أكرب بكثري مما أعرفه‪ ..‬مسعت‬
‫بعضهم يتمتم قتلوه شر قتلة يف كمني نصبوه له‪ ..‬اقرتب مين الضابط‬
‫كريم مكفهر الوجه وهمس يف أذني‪:‬‬
‫‪ -‬طاردناهم بعد أن نصبنا هلم كمينا وحني أصبناه برصاصنا ذحبوه‬
‫كاخلروف وفروا يف أدغال الغابة‬
‫آه يا صالح الدين‪!!..‬‬
‫حقرية هي الطريق اليت اخرتتها‪..‬‬
‫حقرية هي هذه العاقبة‪..‬‬
‫أيقدر األخ أن يفعل بأخيه كل هذا مهما كانت األعذار؟ وإىل متى‬
‫ينتهي هذا النزيف؟ متى يسرتيح هذا الوطن من غيالن األحقاد؟ متى‬
‫تلبسني فستان فرحك أيتها البيضاء؟‬
‫شاهدت امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ يرتبص بعيدا يف سيارته الفارهة وعالمات‬
‫الرضى تركض على تقاسيم وجهه وقد انهمك يف تنقية أسنانه من‬
‫الطعام‪ ..‬وحده املوت يفرح هذا البليد‪ ..‬وحده الدم النازف يعزف له مواله‪.‬‬
‫تركت اجلميع بني حمتفل فرح وبني حزين كئيب وجررت نفسي بعيدا‬
‫بعيدا‪ ..‬رأس صالح الدين يتدحرج أمامي والبار عمر يدندن يف أذني‬
‫تتهادى نغمات شبابته ككثبان رملية‪:‬‬
‫ت بَرَانِي‬
‫َاال جِي ْ‬
‫هذا َوطْنَك و َّ‬
‫س املَحْنَهْ َللَ ْه كَلَّمْين‬
‫يارا ْ‬
‫واال َممْلو ْك حَطَّانِي‬
‫حُ ْر انْتَ َّ‬

‫‪192‬‬
‫ضوا ْعلِيكْ خْيانَهْ‬
‫ن قب ُ‬
‫واالَّ انْتَ خايَ ْ‬
‫باعوك بقيمة ربعني سلطاني‬
‫واال انت ماكر نصاب للضاللة‬
‫ك جَانِي‬
‫ل رُو ْح عْلى ا ْه َل ْ‬
‫اال قات ْ‬
‫و َّ‬
‫واال كانت نفسك ظاملة خوانه‬
‫ت بَرَّانِي‬
‫واال جِي ْ‬
‫َر ْك َّ‬
‫هَذا ب َّ‬
‫‪8‬‬
‫س املَحنهْ هلل جَاوَبْنِي‬
‫يارا ْ‬
‫عدت إىل نفسي وأنا أجل البيت‪ ..‬أغلقت الباب‪ ..‬ارمتيت على البالط‬
‫العتيق البارد واخنرطت يف البكاء‪..‬‬
‫دموعنا ودماؤنا هي شرابنا املفضل‪..‬‬
‫حوارنا اليومي باخلناجر‪..‬‬
‫أفكارنا أشبه باألظافر‪.‬‬
‫تذكرت الشيخ اهلامشي حني قدم إىل حارة احلفرة من قريته املعزولة فارا‬
‫من شبح اإلرهاب مفضال سكنا ضيقا هو أقرب إىل الكوخ‪ ..‬لكن خفة روح‬
‫الرجل وحيويته تركتاه يندمج بسرعة يف عش حارة احلفرة يُنضج احلمص‬
‫والبلوط ويقصد صباحا املدرسة مناديا بصوته الرخيم‬
‫‪ -‬ابْنِنيْ ابنني‪ ..‬إِحَلْ العينني‪ ..‬وِزِيدْ الْوَذنِني‪..‬‬
‫وأحبه أطفال املدرسة فتعلقوا به حد العشق ما إن يصل املدرسة حتى‬
‫يطوقوه ويأكلوا مجيعا طعاما وضحكات يرددونها على إيقاع نكته‪.‬‬

‫‪ -8‬قصيدة شعبية قدمية مشهورة كتبها الشاعر اجلزائري سيدي خلضر ابن مرزوق يف حماورة‬
‫مججمة وجدها مرماة يف اخلالء وغناها البار عمر ثم غناه بعده رابح درياسة مع إضافة ممتازة‬
‫وذكية‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫يف املساء ميأل عربته خضرا وفواكه ويقصد بيوت حارة احلفرة بيتا بيتا‬
‫لقضاء حوائجهم‪.‬‬
‫ما إن استقر صهره القادم من العاصمة عنده حتى قلب حياته رأسا على‬
‫عقب‪ ..‬وحتول ابنه صالح الدين السلفي أو أبو مصعب كما كان يلقبه‬
‫أتباعه من خضار‪ ..‬إىل داعية‪ ..‬إىل إرهابي‪ ..‬إىل مقتول‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫وجدته خارجا لتوه من البيت برفقة اجلازيه كأمنا يهمان بالسفر‪ ..‬ركبت‬
‫معهما السيارة دون أن أسأل‪ ..‬كان صوت إبراهيم ينبعث من خلف الباب‬
‫ممزوجا بنشيج رهيب‪ ..‬وكان عَزُّوزْ الدود يغدو يف الشارع املرتب ويروح‬
‫مرددا مواله املفضل‬
‫اختلط الدود مع الدود وال يفكها إال اخلالق املعبود‪..‬‬
‫هيجان رهيب كجنون البقر أصاب هذا اجملنون هذه األيام‪ ..‬تدهورت‬
‫حالته سريعا‪ ..‬غدا خياطب اجلميع‪ ..‬يسأهلم عن عبله احللوة‪ ..‬لقيين‪ ..‬أمسك‬
‫بذراعي‪ ..‬ختيلين احللوة ثم فجأة أفاق حلاله وراح حيدثين أنه رآها اليوم وأنها‬
‫أكدت له أنها ستعود قريبا‪ ..‬جمنون حيب‪ ..‬ما الفرق بني اجلنون والعشق؟‬
‫كالهما جنون‪..‬‬
‫وكانت وجوه بعض الشبان واألطفال جامدة كتماثيل مهملة متناثرة‪..‬‬
‫حتاصرها البطالة والفقر والتسرب املدرسي واملخدرات واستنشاق الغراء‬
‫من كل ناحية‪.‬‬
‫قطع منري صميت بقوله‪:‬‬
‫‪ -‬كنا نهم باجمليء إليك‪..‬‬
‫وقاطعته اجلازيه‪:‬‬

‫‪194‬‬
‫‪ -‬طلبت منه أن نعرج إىل بيتكم لنأخذك معنا إىل القرية أنت‬
‫حتبني القرية‪.‬‬
‫ومل ميهلين منري كي أعلق على ما قالت فقال كأمنا كان يعرف الذي كان‬
‫يدور ببالي‪:‬‬
‫‪ -‬ورفضت هلا أنا ذلك‪ ..‬يا حسناء أنت حساسة جدا ونشأت يف جو‬
‫الثراء والليونة قد نصادف مشاهد ومواقف تؤذيك وأنت تعرفني أنين‬
‫أحبك‪.‬‬
‫وسكت‪ ..‬كأمنا مل يتكلم من قبل فطلبت منه أن يوقف السيارة قريبا من‬
‫بيتنا ألحدثه يف أمر مهم‪ ..‬ال حيتاج االنتظار‪ ..‬ثم تركتهما وقفت حلظات‬
‫أشيعهما‪.‬‬
‫وحنن نشق طريقنا حنو القرية عرب الدرب الصعب كنت أفكر يف‬
‫امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ هذا التافه جيب أن يرحل عن الدنيا‪ ..‬شيء واحد يوقف‬
‫غطرسته‪ ..‬رصاصة يف الرأس‪ ..‬اآلن مد يده ليغتال قليب‪ ..‬واحلل أن أفجر‬
‫قلبه‪ ..‬اشرتى مباله كل شيء‪ ..‬السمعة‪ ..‬احلج‪ ..‬األبهة‪ ..‬رقاب الناس‪..‬‬
‫القانون‪ ..‬املسؤولني‪ ..‬العجوز عكة كي تطعمنا حلم كلب‪ ..‬مل يستطع مباله أن‬
‫يشرتي ضمائرنا‪ ..‬هل يغتصب شجاعتنا وكربياءنا؟ هل يبذر يف أعماقنا‬
‫الرهبة؟ يستحيل‪ ..‬ال بد أن أقتله‪.‬‬
‫لن أتركك يا منري تقتله سأقتله أنا‪ ..‬أنا أوىل بذلك‪ ..‬حني تقتله سيكون‬
‫ذلك تدنيسا لك ياسيد الرجال‪ ..‬وحني أقتله أنا سيكون عارا يطارده حتى يف‬
‫قربه‪ ..‬هذا فرعون أخاف اجلميع واشرتى اجلميع لكن قتلته امرأة‪ ..‬لن أكون‬
‫اجلازيه حقا إن مل أفعلها أيها احلقري‪..‬‬
‫وما عساني أخسر أكثر مما خسرت؟‬

‫‪195‬‬
‫وأي شرف أعظم من أن أنقذ حارة احلفرة وشرفها من هذا الصعلوك؟‬
‫قد أموت بعدها ولكين سأخلد يف قلوب أبناء حارة احلفرة الفقراء‪..‬‬
‫يف عيونهم احلاملة‪..‬‬
‫سأنزرع كربياء يف تربتها‪.‬‬
‫مل ينفع معه القانون فلتنفع معه القوة‪ ..‬املهم اآلن أن أرسم الطريق إىل‬
‫قتله‪ ..‬هل أحتداه هكذا جهارا نهارا أمام املأل والشمس تفتح عينيها‪ ..‬وأرديه‬
‫قتيال أمام الناس مجيعا‪ ..‬ألسلم نفسي بعد ذلك إىل الشرطة‪ ..‬وأحاكم‪..‬‬
‫وأسجن‪ ..‬أضحي بنفسي من أجل أن أنقذ اآلخرين‪..‬؟ أم الطريق الصواب‬
‫أن أخطط له حتى أسقطه يف حبائلي كاخلنزير‪ ..‬وأقتله شر قتلة‪ ..‬ويطوى‬
‫ملفه أمام احملاكم وإىل األبد‪ ..‬ليس طريق رجولة‪ ..‬ولكن احلرب خدعة‪..‬؟ ال‬
‫مستحيل أنا ال أحسن أن أخطط مثل هذه اجلرائم‪.‬‬
‫بل أنا الذي جيب أن أقتله‪ ..‬سأنتقم للجميع‪ ..‬ألخي عبد الرحيم‪..‬‬
‫للرومية‪ ..‬ألبي‪ ..‬لعزيَّزْ‪ ..‬لـ‪ ..‬وسأقتله أمام الناس مجيعا‪ ..‬بطعنة خنجر‪..‬‬
‫يستحسن أن يكون بطلقة مسدس‪ ..‬كيف ميكن أن أحصل على ذلك؟‬
‫سأمترن على اإلطالق‪ ..‬الشيء سوى أن أمسك املسدس‪ ..‬أصوبه‪ ..‬أضغط‬
‫على الزناد‪ ..‬وتزغرد حارة احلفرة ملء فيها‪.‬‬
‫وأخرجين منري من صميت وهو ينبهين إىل مشارف القرية‪ ..‬استغفرت اهلل‬
‫وأنا أعانق ببصري بيتنا يربض يف حضن اجلبل األخضر مكلال بالصمت‬
‫والسكينة‪ ..‬يف أي شرب يكون أبي اآلن؟ وعلى أية حالة؟ أجيد والدي يف هذه‬
‫القرية الوادعة عوضا عن أمه اليت فقدها وهو صيب؟ ويف حضنها ودفئها‬
‫ومساحتها عوضا عما حرم منه صبىً؟ أم عوضا عن الزوج؟ أم عوضا عن‬
‫الوطن‪..‬؟‬

‫‪196‬‬
‫وصلت السيارة ترتنح يف مشيتها مثلة تكاد تلفظ رئتيها القدميتني‪..‬‬
‫ترجلنا‪..‬‬
‫السكون يعرش يف كل مكان‪..‬‬
‫عناية فائقة ظهرت فيه‪..‬‬
‫فرح يف الرتبة‪..‬‬
‫رقصة يف األوراق‪..‬‬
‫مسفونية يعزفها كل شرب‪..‬‬
‫سرنا خطوات‪..‬‬
‫كان منري ينظر حواليه يف اهتمام قال‪:‬‬
‫‪ -‬قرأتِ شيئا؟‬
‫وسكت مبديا اندهاشا مل أحمله على تقاسيمه من قبل‬
‫‪ -‬هابيل هنا يزرع احلياة‪..‬‬
‫قابيل هناك يزرع املوت‪.‬‬
‫ولكن ذو العقل يشقى يف النعيم بعقله‬
‫وأخو اجلهالة يف الشقاوة ينعم‬
‫صدق جربان‪ :‬احلياة دمعة وابتسامة‬
‫‪ -‬أخشى أن تكون حرارتك مرتفعة أكثر من املطلوب بفعل معاشرتك‬
‫الكتب يف معبدك الصغري‪ ..‬من القرآن إىل املتنيب إىل جربان دفعة واحدة؟‬
‫وضحكنا واندفعنا نلج البيت‪ ..‬عند عتبته استوقفنا صوت فرح‪ ..‬تلفتنا‪..‬‬
‫كان أبي صاحل حيمل على ظهره حزمة حطب يابس‪ ..‬ويف ميينه فأسا حادة‪..‬‬
‫هرولت اجلازيه إليه حتتضنه وحلقت بها أمسك عنه محولته‪ ..‬بدا أكثر هدوء‪..‬‬
‫وأكثر حنافة‪ ..‬تغطي جتاعيدَ وجهه حليةُ تنافس عليها السواد والبياض فشلت‬

‫‪197‬‬
‫يف إخفاء نتوءي خديه‪ ..‬اندفع أمامنا يلج الباب املفتوح وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هنا يف القرية ال خيش أحدنا إال ربه‪ ..‬كنت أنقي األشجار من‬
‫األغصان اليابسة ال مكان للميت يف احلياة‪.‬‬
‫ودخلنا خلفه‪ ..‬كان البيت رهبة رغم التنظيم الرائع الذي بدا عليه‪..‬‬
‫دعانا للجلوس على مصطبة صغرية كانت قرب النافذة‪ ..‬لعله يتخذها‬
‫مقعدا ومرقدا يف آن واحد ويف الزاوية املقابلة جثمت خزانة صغرية بل‬
‫صندوق كبري منقوش حيظى بعناية فائقة يعود باملتأمل إىل عشرات‬
‫السنوات‪ ..‬أربعني بل رمبا مثانني سنة ال أدري على وجه التحديد وبالقرب‬
‫منه انتصبت طاولة من طابقني تنوء حتت ثقل أغطية وأفرشة‪.‬‬
‫كان والدي يقف بقامته املديدة عند املوقد‪ ..‬يعجل بإحضار قهوة اجلزوة‬
‫اليت تركها تنضج على نار هادئة قبل أن خيرج لالحتطاب‪ ..‬استدار حنونا‬
‫وهو ميأل فنجانني ويقدمهما إلينا‪:‬‬
‫‪ -‬إيـه ال يبقى يف الوادي إال صخوره‪ ..‬هكذا قال األولون‪ ..‬هذا البيت‬
‫شهد أيامك األوىل يامنري‪ ..‬وهنا أرضعتك عرجونه مع أختك اجلازيه‪ ..‬يف‬
‫ذلك الركن نامت أمك إىل أن حلقت باجملاهدين حيث نالت شرف‬
‫االستشهاد‪ ..‬ومن هنا أحلقتك الثورة بصفوفها لتعيش أشهرا يف اجلبل وعند‬
‫االستقالل افتقدناك‪ ..‬أنا وأمك عرجونه‪ ..‬علمنا باستشهاد أمك‪ ..‬لكن مل‬
‫نكن نعلم أين طوحت بك األمواج إىل أن وجدناك يف حضن البتول أمّا‬
‫علجيه‪ ..‬إيـه يا ولدي الرجال يلتقون‪ ..‬وحدها اجلبال ال تلتقي‪.‬‬
‫ال ختافا علي‪ ..‬أنا هنا سعيد وآمن‪ ..‬مل أعد أثق باملدينة‪ ..‬أخذت مين كل‬
‫شيء ومل تعطين شيئا واحدا‪ ..‬اهتما بأمكما عرجونه‪ ..‬لو كانت معافاة ملا‬
‫ختلفت عين‪ ..‬لكن الدنيا غدارة‬

‫‪198‬‬
‫ورفع عينيه إىل الصندوق اخلشيب يف خشوع ويف عينيه دموع حائرة‪ ..‬مل‬
‫أحلظها يف عينيه أبدا‪ ..‬مل نتكلم‪ ..‬احرتمنا صمته فجاريناه لكنه مافتئ أن قطع‬
‫حبل الصمت قائال‪:‬‬
‫‪ -‬هذا الصندوق هو كل ما جاءت به أمك يف عرسها‪ ..‬ال يساوي شيئا‬
‫عند جيلكم لكنه عندنا كان يساوي كل شيء‪ ..‬وها كما ترون مازلت أعتين‬
‫به وفاء لسنوات العمر اليت قضيناها معا‪ ..‬أما‪..‬‬
‫دائما ينظر والدي إىل جيلنا نظرة سوداوية‪ ..‬دائما يتهمنا خبراب الداخل‬
‫مقابل تعمري اخلارج‪ ..‬حنن يف رأيه جيل أخذ كل زمام املعرفة وحصل على‬
‫كل ملذات احلياة املدنية لكنه يف املقابل فقد كل شيء مجيل‪.‬‬
‫بقدر ما سرتين هذه الذكريات وهذا الوفاء بقدر ما أزعجين اجرتار‬
‫الشيخ صاحل للماضي‪ ..‬وحنن لألسف ال حنسن إال اجرتار املاضي‬
‫والوفاء له وتضخيمه مهما كان تافها‪ ..‬عشرات القرون مرت ومل منل‬
‫مطلقا من املفاخرة برتاث غدا يف كثري من حمطاته ال ميثل يف أحسن‬
‫تقدير إال عصره وأصحابه ولعله ال يرتبط بنا اآلن مطلقا‪ ..‬ثقافتنا‬
‫سلوكنا ديننا ليس امتدادا لعبقرية األجداد ولكنها غدت مجودا ممقوتا‬
‫على ماكانوا عليه‪ ..‬لسنا اآلن إال بركة ماء آسن‪.‬‬
‫ماكان أبي مبثل هذا االنطواء على املاضي ومتجيده يف كل مناسبة‪ ..‬كنت‬
‫أراه دائما شبابا متجددا بقدر ما يرتبط باملاضي يعيش احلاضر ويتفتح على‬
‫املستقبل ويدعو الشباب إىل وجوب استلهام جناحات اآلخرين يف كل‬
‫امليادين فما الذي حل به هذه املرة؟ وصل به األمر إىل منتهاه‪ ..‬كبا فرسه ومل‬
‫يستطع أن يواصل املسري وال التحدي‪ ..‬هاهو يفر بنفسه فجأة إىل سرادق‬
‫التاريخ احملنطة‪ ..‬أخرجين منري من سرحاتي‪:‬‬

‫‪199‬‬
‫‪-‬كيف ترين األمور يا اجلازيه؟‬
‫‪-‬كنت أفكر يف أبي‪ ..‬حالته ليست تعجبين‬
‫‪ -‬وال أنا كذلك‪.‬‬
‫وسكتت فجأة فرتاءت لي حسناء قمرا دريا يسبح يف أعماقي‪..‬‬
‫يتوسد ذاكرتي املتعبة‪..‬‬
‫يعيدني إىل كل ماقال شعراء الغزل العذري واملاجن يف حبيباتهم‪..‬‬
‫ماذا لو‪ ..‬ماذا لو رأوها؟‬
‫لو رأوا فتنة عينيها الناعستني؟‬
‫موسيقى بسمتها؟‬
‫جدول كالمها ينساب من ثغرها قوزحا أسطوريا؟‬
‫لو رأوها ماقالوا شيئا غري الصمت باهتني‪..‬‬
‫صدق فولتري خلق اهلل املرأة لريوض الرجل فقط‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫حني افرتقنا وقفت مكاني أشيع السيارة وهي تبتعد‪ ..‬هكذا أنت دائما‬
‫يامنري تريدها أن تسري وكفى‪ ..‬ال تهمك نهاية الطريق‪ ..‬وال رأي الذين‬
‫يركبون معك‪ ..‬ولكن إىل متى؟ لقد مللت االنتظار‪ ..‬كان يفرتض أن يتم‬
‫زواجنا منذ سنوات‪ ..‬ال مباالتك بنفسك وبي أوصلتنا إىل هذه احلالة اليت‬
‫حنن عليها‪ ..‬ضيعت مستقبلك وضيعتين معك‪..‬‬
‫ألف طريق انفتحت أمامي‪..‬‬
‫ألف طريق فرشتها لي والدتي باملاس والياقوت‪..‬‬
‫وكنت أرفض أن أعدوَ جذىل إال فوق طريقك‪..‬‬
‫وعلى ورودك‪..‬‬

‫‪200‬‬
‫منذ أحببتك اختصرت العامل فيك‪..‬‬
‫غدوت كوكبا أسبح يف فلكك‪..‬‬
‫شذا يعبق يف فضائك‪..‬‬
‫أغرودة أعزفها عرب نايك‪..‬‬
‫هل يأتي عليك حني من الدهر ترمي فيه كل شيء خلفك لتحضنين إىل‬
‫صدرك الرحب‪..‬‬
‫وحدي وحدي دون سواي‪..‬؟‬
‫صرت أغري من كل شيء حيظى منك باالهتمام‪ ..‬أُمَّا عرجونه‪ ..‬اجلازيه‪..‬‬
‫عمي صاحل‪ ..‬إبراهيم‪ ..‬كتبك املرتاكمة يف حجرتك‪ ..‬حارة احلفرة عشيقتك‬
‫املفضلة و‪..‬‬
‫مل أعد أجد أعذارا مقنعة أصارع بها غطرسة والدتي وهي ابنة العائلة‬
‫النبيلة‪ ..‬مل أعد أجد لسانا يصد زوابع تعْيِريها‬
‫‪ -‬مازلت تعشقني ذلك الصعلوك املتسول وتنزلني من عليائك إىل‬
‫حضيضه؟ ستندمني‪.‬‬
‫وكنت دائما أردها بثورتي‬
‫‪ -‬لقد اخرتت طريقي وأنا سعيدة به‬
‫هذه املرة طورت يف وسائل هجومها‪ ..‬مل تعد تعريني وال ترجوني‪..‬‬
‫بل صارت تهددني‪ ..‬وهي عازمة كل العزم على افتكاكي منك وتزوجيي‬
‫من غريك‪.‬‬
‫منذ أيام جاءها امْحَمَّدْ ا ْملَمَّدْ إىل البيت حيمل من اهلدايا ما مل أره يف‬
‫حياتي مطلقا‪ ..‬وما مل حتلم به حتى أمي وهي ابنة األسرة النبيلة وبرفقته‬
‫ضابط يف اجليش‪ ..‬أمي تقدس املال‪ ..‬وتقدس السلطة‪ ..‬لقد كان جدها قائدا‬

‫‪201‬‬
‫عند فرنسا ميلك رقاب الناس كما ميلك األرض‪ ..‬وكان أبوها مديرا عاما‬
‫للضرائب يلهج كل التجار بقدره‪ ..‬خفق قلب والدتي وهي ترى اهلدايا‬
‫الثمينة مكومة وسط البيت حيملها إليها شيخ البلدية شخصيا‪ ..‬ورأت جنوم‬
‫الضابط تلمع فوق كتفه فغدت كلبة أمينة مستعدة لفعل كل شيء‪.‬‬
‫مل يكن ما طلبه امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ صعبا على والدتي‪ ..‬بل جاء موافقا هلواها‬
‫متاما‪ ..‬مل يقعد امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ طويال حتى صارح والدتي قائال‪:‬‬
‫‪ -‬جئنا خنطب ابنتك حسناء‪ ..‬الضابط فهيم أكرب من أن يُرفض لقد‬
‫أعجب بها وما كاد يفاحتين يف املوضوع حتى هرعت إليك‪ ..‬وماذا أفعل؟ أنا‬
‫اآلن والد اجلميع ماداموا قد انتخبوني رئيسا عليهم‪.‬‬
‫ومل تكلف والدتي نفسها تعب التفكري أو استشارتي واستشارة والدي‬
‫املغلوب على أمره بل هللت موافقة على الفور‪.‬‬
‫وخرج امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ومعه الضابط‪ ..‬وخرجت خلفهما والدتي‬
‫تشيعهما عند الباب‪ ..‬بقيت ساكنة يف حجرتي‪ ..‬دخلت علي أمي وهي‬
‫تكاد تطري فرحا‪.‬‬
‫‪ -‬لقد فتحت لك أبواب السعد يابنييت‪ ..‬عريس حبجم الدنيا‪ ..‬بيده احلل‬
‫والربط و‪..‬‬
‫مل تكمل حديثها حني قاطعتها‪.‬‬
‫‪ -‬لقد مسعت كل شيء‪ ..‬وهذا العريس أنا ال أريده لقد اخرتت طريقي‬
‫وكفى‪ ..‬وكفى‪..‬‬
‫‪ -‬ولكنين أمك‪ ..‬وأنا أدرى مبصلحتك‪ ..‬سأرغمك على ما أريد‪..‬‬
‫سأرغمك‪ ..‬لن أمسح بتدنيس شرف عائليت‪ ..‬ذلك الصعلوك ال تليق به‬
‫إال صعلوكة مثله‪..‬‬

‫‪202‬‬
‫حني راح رغاء أمي يبتعد كنت أجلس عند النافذة أداعب أوراق شجرة‬
‫اليامسني وأقرأ إحدى البطاقات اليت أرسلها إلي منري ذات صيف من عنابة‪..‬‬
‫عنـــــــــابه‬
‫‪ ...‬املدينة تعانق آخر أشعة الشمس‪..‬‬
‫وأنا اآلن أجلس يف حضرة البحر على أمجل شواطئ عنابة الرائعة‪..‬‬
‫وحني أجلس إىل البحر والليلُ يرسم عليه لوحات الرهبة‪ ..‬أحسين‬
‫درويشا ميارس احللول‪..‬‬
‫ميارس طقوس الصمت والتأمل واالستغراق‪..‬‬
‫وكلما صحوت من سُكري ذكرتك ياحبيبيت‬
‫ورمستك يف ذاكرتي تضاريس من عمري‪..‬‬

‫‪4‬‬
‫حني كنا عائدين كنت صامتة حزينة‪ ..‬هذا الدهر أفقدني كل شيء والبد‬
‫أن أنتقم من أحد زبانيته‪ ..‬البد من قتل امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ‪ ..‬وكان منري اليكف‬
‫عن احلديث طول الطريق‬
‫حدثين عن الشيخ اهلامشي‪ ..‬وعن أهم حمطات حياته‪ ..‬كيف ترك القرية‬
‫فرارا من بطش اإلرهاب تاركا هناك أرضه وأنعامه لريضى حبجرات ضيقة‬
‫يكرتيها حبارة احلفرة‪ ..‬وكيف ظهر فجأة أحد أقاربه قادما من العاصمة فيغري‬
‫فكر ولده الكبري صالح الدين وعشرات من الشباب حني حقن أخماخهم‬
‫بفهم جديد مل يألفوه من قبل‪ ..‬وزرعهم لعنة يف حارة احلفرة‪..‬‬
‫وكيف ضاقت السبل بالشيخ اهلامشي فال هو قدر على تدبري شؤونه يف‬
‫املدينة وال هو استطاع العودة إىل قريته خلدمة أرضه ورعاية أنعامه‪ ..‬فقرر‬
‫عند ذلك اهلجرة إىل األرض األخرى وزينت له إحدى عصابات التهريب‬

‫‪203‬‬
‫ذلك فحفظ كلمات ومجال ودفع ما حبوزته من مال فشحن كالسلعة داخل‬
‫باخرة صيد صغرية‪ ..‬وحني بلغت شاطئ إسبانيا فرغ مع مجع من الشباب‬
‫ومل يكن أمامهم سوى أن يطلقوا لسيقانهم الريـح‪ ..‬هذه إسبانيا بلد احلرية‬
‫والعدالة واملساواة‪..‬‬
‫عام واحد أعمله وأستطيع أن أهرِّب كل أفراد عائليت‪ ..‬هذا الوطن مل‬
‫يعد يسعنا‪ ..‬هذا الوطن صار لنا سجنا كبريا ال يعيش فيه إال الغالظ‬
‫الشداد‪ ..‬وكان عليه أن يسأل أول من يصادفه أمامه عن مكان تواجده وعن‬
‫أقرب مدينة إليه وعن وسائل النقل املتوفرة وظهر قريبا منه شاب يقلب‬
‫األرض‪ ..‬مصادفة عجيبة هذا فالح وهو أنسب لي ألن القريب من األرض‬
‫قريب من القلب واخلري‪ ..‬وراح يعد التحية كما حفظها باإلسبانية‪ ..‬يتلفظ‬
‫بها مرارا وحني وصله أرسلها يف كثري من احلرج‪ ..‬وفوجئ بالشاب يرد عليه‬
‫بالعربية‬
‫‪ -‬وعليكم السالم ورمحة اهلل تعاىل وبركاته‪.‬‬
‫وما فتئت دهشته أن زالت بل وحتولت فرحة عارمة‪ ..‬هذا عربي مهاجر‬
‫مثلي وهي صدفة عجيبة وسعيدة لن حيتاج إىل ما حفظه من لكنة أجنبية‪..‬‬
‫وانطلق يسأل ليعرف أين هو؟‬
‫وسرى الوهن يف ركبته وهوى على األرض حني أخربه أنه جبيجل على‬
‫بعد مئيت كلومرت عن مدينته‪ ..‬لقد انطلت عليه احليلة‪.‬‬
‫ح ِوينْ ْمسافَــــــــ ْر اتْـــــ ُروحْ‬
‫ياالرَّايَـــــ ْ‬
‫َت ْعَيى َوْت َوِّلي‬
‫ني‬
‫وشْحالْ َن ْد ُمـــــو لَ ْعبـــــادْ الغافْ ِلــــــ ْ‬
‫ك ُأوقَبلي‬
‫َقْب َل ْ‬

‫‪204‬‬
‫وشحال شَفت البلـــــدان العامْــــــرين‬
‫والبَرَّ اخلالي‬
‫اشحال ضيعتْ اوْقاتْ واشحال اتزيــــدْ‬
‫مازال اتْخلي‬
‫‪9‬‬
‫يا الرايح لَبالدْ الناسْ ْتروح تَعيى ما جتري‬
‫منذ ذلك الوقت فقد الشيخ اهلامشي كل رغبة يف احلياة‪ ..‬بعد عام التحق‬
‫بِكْرُه صالح الدين باجلبل‪ ..‬بعد عام آخر قتل هو وابنه األصغر‪ ..‬ومل تعد‬
‫حارة احلفرة تسمع صوت اهلامشي املبحوح وهو يسوق أمامه بإجهاد عربة‬
‫اخلضر صائحا الطماطم الفلفل اللفت اخلرشف‪..‬‬
‫ومل يعد أطفال املدارس يسمعون صوته داعيا لشراء احلمص والبلوط‪:‬‬
‫ابْنِنيْ ابنني‪ ..‬إِحَلْ العينني‪ ..‬ويِزِيدْ الوذنني‪..‬‬
‫مل تكن القصة غريبة عنها فلِمَ أسردها عليها‪..‬؟ كنت أدرك أنها تعرف‬
‫كل تفاصيلها ولكين كنت أحل يف إعادتها على مسمعها مل يعد للكالم‬
‫نكهة‪ ..‬ومل أعد أرغب يف احلديث عن أي شيء‪ ..‬كنت أحس أنين فارغ متاما‪..‬‬
‫مل أجد أمامي إال قصة الشيخ اهلامشي فاندفعت أرويها كي ال يشرد بها‬
‫اخلاطر يف جماالت أخرى‪.‬‬
‫الحظتِ اجلازيه وحنن ندخل املدينة بداية تغري شامل‪ ..‬طرق معبدة‪..‬‬
‫أشجار كبرية مغروسة حديثا‪ ..‬مصابيح‪ ..‬أعالم من كل لون‪ ..‬قالت‬
‫مندهشة‪:‬‬
‫‪ -‬ماالذي يقع باملدينة؟‬
‫أخربتها أن الشائعات تقول أن رئيس اجلمهورية سيمر هذه األيام من‬

‫‪ -9‬أغنية للفنان اجلزائري دمحان احلراشي وهي مشهورة عربيا وعامليا‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫هذا الطريق‪ ..‬وهذا ما دفع باملسؤولني إىل العمل ليال ونهارا وإنفاق املاليني‬
‫لتحسني وجه الطريق‪ ..‬إىل درجة قطع أشجار ضخمة وتثبيتها يف الشارع‬
‫باإلمسنت‪.‬‬
‫قالت وعلى وجهها ابتسامة كئيبة‬
‫‪ -‬الشيء تغري‪ ..‬وما عسى األصباغ أن تفعل لعجوز مشطاء؟‬
‫أول من صادفنا والسيارة تقرتب من حارة احلفرة صهر الشيخ اهلامشي‪..‬‬
‫كان شابا يف حوالي األربعني من عمره بدينا مربوع القامة أشقر اللون ال‬
‫يكاد يظهر من وجهه إال عيناه‪ ..‬كانت حليته املبعثرة تغطي كل شيء‪ ..‬يضع‬
‫فوق رأسه عمامة بيضاء‪ ..‬وكان يرتدي جالبية رمادية تنتهي فوق ركبتيه قليال‬
‫وسرواال ينتهي عند منتصف ساقيه الغليظني وخلفه حبوالي مرت كانت تتعثر‬
‫زوجته يف جلبابها األسود الذي يغطي كل بقعة يف جسمها فال تظهر إال‬
‫عيناها خلف شباك مصنوع من اخليط‪ ..‬تضع على رأسها مخارا أسدلته حتى‬
‫منتصف جسمها ودلته على عينيها ونقابا يغطي ما تبقى من جسمها‬
‫وتغطي يديها بقفاز أسود أيضا‪ ..‬أما حجابها فكان يتدىل خلفها تسحبه‬
‫جامعا كل ما وجد أمامه من أتربة حارة احلفرة‪.‬‬
‫نظرت يف اجلازيه وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬إىل أين تريد هذه املغبونة؟‬
‫‪ -‬كيف حكمت عليها بالغنب إنها تطبق ماتراه صحيحا‪.‬‬
‫‪ -‬حتى اجملانني يطبقون ما يرونه صحيحا‪.‬‬
‫وتذكرت قول املتنيب‪:‬‬
‫أغاية الدين أن حتفوا شواربكم*ياأمة ضحكت من جهلها األمم؟‬
‫لعل املسكني كان يعاني مما نعاني من انشغال الناس بالقشور‬

‫‪206‬‬
‫وانصرافهم عن اللب‪ ..‬همُّ هذه األمة أنها مل تأخذ من تراثها وال من‬
‫الغرب إال القشور‪ ..‬وقد زين هلا أعداؤها ذلك فضلت ضالال مبينا‪.‬‬
‫وقطعت اجلازيه تفكريي وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬هؤالء يكفِّرون كل من خالفهم ويرون أنهم الفرقة الناجية وما‬
‫عداهم فهم يف النار‪ ..‬أنت مثال كافر أل نك حتلق حليتك وأنا كذلك‬
‫ألنين أكشف وجهي‪.‬‬
‫حني دخلنا حارة احلفرة وجدناها قد انقلبت رأسا على عقب‪ ..‬الناس‬
‫يتجمعون هنا وهناك‪ ..‬الشباب حيملون العصي واحلجارة‪ ..‬الدخان ميأل‬
‫الفضاء‪ ..‬سخط يتثعنب على مالمح اجلميع‪ ..‬سيارة لشرطة مكافحة الشغب‪..‬‬
‫بعض أفراد الشرطة ما زالوا يقفون بالقرب منها‪ ..‬ترجلنا عجلني‬
‫الستطالع النبأ‪ ..‬أخربني بعض الشباب أن امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ قد قدم حارة‬
‫احلفرة وأعطى األوامر بإخالء املساكن هلدمها‪ ..‬وسينقل السكان مجيعا إىل‬
‫العمارات اليت أقيمت حديثا خارج املدينة‪ ..‬وثار غضب السكان فخرجوا‬
‫يرمونه باحلجارة‪ ..‬ثم انقضُّوا على جممعه التجاري الذي سرق به حلمنا يف‬
‫إقامة مركز ثقايف فأحرقوه عن آخره‪.‬‬
‫التم حولي اجلميع وقد زاد غضبهم وسخطهم‪ ..‬هدأت روعهم‪..‬‬
‫شكلنا جلنة تتحدث باسم احلي أمام اجلهات الرمسية وأمام العدالة‬
‫وأمرت الباقي باالنصراف‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ما الذي يريده هؤالء السفلة الرعاع؟ مازالوا مستمرين يف عنادهم رغم‬
‫كل شيء‪ ..‬لقد أثبتت هلم األيام أنين األعظم واألكفأ‪ ..‬وأنين قادر على‬
‫شرائهم مبا ميلكون من أكواخ وأثاث‪ ..‬أطفأت سيقارا وأشعلت آخر‪ ..‬كانت‬

‫‪207‬‬
‫نفسي كالربكان‪ ..‬دخل طبييب اخلاص علي فجأة‪ ..‬الشك أن احلرس قد‬
‫اتصلوا به ملا رأوا ثورتي‪ ..‬اقرتب مين بهدوء حماوال إعادتي إىل طبيعيت‪:‬‬
‫‪ -‬مرض السكري والضغط ال يسمحان لك بهذه الثورة اهدأ يااحلاج‬
‫‪ -‬لن أهدأ حتى اشرتيهم مجيعا‪..‬‬
‫لن أهدأ حتى أذحبهم واحدا واحدا‪ ..‬سأتصل بالوزارة‪ ..‬بسي سليمان‪..‬‬
‫سأحصل على قرار من فوق يثبت أن حارة احلفرة غري صحية وغري الئقة‬
‫للسكن وبقوة القانون سأهجرهم مجيعا‪..‬‬
‫سأهجرهم مجيعا‪ ..‬مجيعا‪..‬‬
‫وسكت يزفر ويشهق‪ ..‬بشدة أمسك به الطبيب يقعده‪ ..‬جذب آخر نفس‬
‫وسحق بقية السيقار يف املنفضة‬
‫‪ -‬أوالد الكلب‬
‫وسلم له الطبيب قرص دواء وكأس ماء عبه بسرعة وعاد يقول للطبيب‪:‬‬
‫‪ -‬لو زوجوني احللوة لفرشت هلم حارة احلفرة ذهبا ولكنهم عاندوا‬
‫ودفعوني إىل اغتصابها‪ ..‬ثم هامت على وجهها تبيع جسدها مومسا على‬
‫قارعات الطرق‬
‫ولو زوجوني اجلازيه لفرشت هلم أرض حارة احلفرة ومساءها درا‬
‫وجواهر‪ ..‬ولكن ألتزوجنها أو ألغتصبنها لتكون عربة للجميع‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫كان علينا أن نزور أحد أبناء حارة احلفرة مبشفى قسنطينة‪ ..‬لقد كانت‬
‫جراحاته بليغة‪ ..‬ضربات على الرأس‪ ..‬وأخرى بالصدر والوجه‪ ..‬تركنا حارة‬
‫احلفرة كالثكلى تتجرع مبرارة أحزانها‪ ..‬وتكفكف دموعها‪ ..‬وسافرنا أنا‬
‫وجمموعة من الشباب‪ ..‬طول الطريق كان اجلميع جيرت تفاصيل احلوادث‬

‫‪208‬‬
‫األليمة‪ ..‬وكنت أستمع بأمل شديد‪..‬‬
‫حضر التقنيون برفقة امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ وقد غدا رئيسا للبلدية‪ ..‬بدأوا يف‬
‫قياس الشوارع والبيوت‪ ..‬كان السكان يدركون أنها مؤامرة لرتحيلهم‬
‫وإسكانهم إجيارا يف عمارات غري صاحلة بنتها مقاولة امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ‪..‬‬
‫وحاول السكان منع التقنيني من مباشرة عملهم وهددهم امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ‬
‫بإحضار الشرطة‪ ..‬وحتت ثورة الغضب اندفع املئات إىل املركز التجاري‬
‫الذي أقامه امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ فأحرقوه عن آخره‪ ..‬وتدخل عناصر الشرطة‬
‫وأعوان امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ‪ ..‬وانتهت املواجهات ببعض اإلصابات واحدة منها‬
‫خطرية حتمت نقل صاحبها إىل املشفى اجلهوي‪.‬‬
‫كان وصولنا يف الوقت املناسب‪ ..‬وجدنا الشاب قد أدخل غرفة اإلنعاش‬
‫ولعله حيتاج إىل عملية جراحية‪ ..‬والبد من التربع بكميات كبرية من الدم‬
‫وفعال تطوعنا لذلك وبتنا هناك‪.‬‬
‫يف الصباح تركنا ممثليْن عنا وعدنا أدراجنا‪ ..‬وكانت املفاجأة قاسية‪ ..‬لقد‬
‫داهمت الشرطة عشية ذلك اليوم حارة احلفرة‪ ..‬واعتقلت عشرين من‬
‫سكانها أودعوا احلبس االحتياطي ريثما ميثلون أمام احملكمة بتهم التحريض‬
‫على الفوضى والتجمهر غري املصرح به‪ ..‬وحرق أمالك الغري‪ ..‬واالعتداء‬
‫على شخص رئيس البلدية‪ ..‬كما داهمت جمموعة من اللصوص بييت‬
‫وعاثوا فيه فسادا حيث أحرقوا مئات الكتب وما كتبت من أعمال أدبية‬
‫املخطوطة‪..‬‬
‫ألول مرة أحس أنين انهزمت‪ ..‬ألول مرة أحس أنين انتهيت قد أمتكن‬
‫من تعويض الكتب‪ ..‬ولكن هل أمتكن من إعادة صياغة ماكتبت من‬
‫روايات‪ ..‬ورواياتي اعتقال للحظة هاربة من زمين‪ ..‬حياتي‪ ..‬يفنى الزمن‬

‫‪209‬‬
‫وتبقى هي دائما حية متألقة وأنَّى لي أن أبعث ذلك للوجود‪ ..‬وحز يف‬
‫نفسي أن أضيع ذكريات نانَّا ورائحتها‪ ..‬قلبت طرف صدرييت أتأمل اخلُمسة‬
‫الفضية‪..‬‬
‫جبواري وقفت اجلازيه‪ ..‬أمسكت بيدي قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أحرقه األغبياء البارحة بعد منتصف الليل‪ ..‬إنهم عبيد امْحَمَّدْ‬
‫امْلَمَّدْ‪ ..‬كنت على يقني من أنهم سيفعلون‪ ..‬رأيتهم ينزلون من السيارة‬
‫ويتسللون إىل بيتك‪ ..‬حني كسروا الباب خرجت ورحت أصرخ‪ ..‬خرج‬
‫سكان حارة احلفرة‪ ..‬هرعوا إىل املكان‪ ..‬تعاونا مجيعا على إطفاء احلريق‪ ..‬ومل‬
‫منسك بأحد كأن األرض ابتلعتهم‪ ..‬كانت النار شديدة لقد كادت تأتي على‬
‫كل شيء‪.‬‬
‫داهمين موج الغثيان وأنا أتأمل بييت قد التهمته النريان‪ ..‬هذا أمر توقعته‬
‫وتوقعت أشد منه‪ ..‬ولكن ضيعت عمري بتضييعي رائحة نانا وتضييعي ما‬
‫كتبت‪ ..‬أخرجتين اجلازيه من شرنقة حزني‬
‫‪ -‬الحتمل هما جيب أن تبقى أكرب من األعاصري‪..‬‬
‫ومن حتت إبطها أخرجت كيسا فتحته وأخرجت منه كراريسي اليت‬
‫دونت عليها رواياتي وخربشاتي‪ ..‬عاد إىل كل اجلسم تيار الروح ونسيت‬
‫كل ما وقع‬
‫دائما كانت اجلازيه اهلاللية توصي ذياب باحلذر‪..‬‬
‫يـاذيـاب‪ ..‬اجعل عينيك وراء ظهرك‪..‬‬
‫كانت اجلازيه صادقة وخبرية‪ ..‬الرجال الكبار ال يقتلون يف احلرب‬
‫مواجهة‪ ..‬وال يقتلهم الرجال الكبار أمثاهلم‪ ..‬ولكن يطعنهم األوباش‬
‫وأراذل الناس‪ ..‬وكذلك قُتل عمر بن اخلطاب وقتل املتنيب وطرفه‬

‫‪210‬‬
‫وإفالطون و……‬
‫‪-‬كان ظين يف حمله‪ ..‬قصدت بيتك مساء وأخذت ما اعتقدت أنه مهم‬
‫لديك‪ ..‬حوائج نَانَّا‪ ..‬كراريسك‪ ..‬صورك‪ ..‬رسائلك‪ ..‬وبعض كتبك املفضلة‪..‬‬
‫معذرة مل أستطع محل كل شيء‪..‬‬
‫كل شيء ال يهم إن هو إال حطام دنيا فانية‪ ..‬كل ما يهمين من البيت‬
‫رواياتي وحوائج نانَّا اليت تركتها أعرف أن اجلازيه تدرك قيمتها عندي‬
‫ولعلها هربتها مجيعا‬
‫منذ عشر سنوات قررت نانَّا أن حتج‪ ..‬هو آخر حلم كان يراودها يف‬
‫حياتها‪ ..‬جتاوزت السبعني من عمرها لكنها كانت كالغزال‪.‬‬
‫قضت أياما طويلة وهي توصيين بكل شيء‪ ..‬كأمنا كانت تودعين‪..‬‬
‫وكنت أحاول أن أبعدها عن هذا اجلو الكئيب‪ ..‬لكين مل أكن ألقدر‪..‬‬
‫كانت توصي وتلح يف الوصية‪ ..‬ثم تتأملين بإعجاب وتقول ملء فيها‪:‬‬
‫‪ -‬أنت اآلن يا منري ياوليدي رجل‪ ..‬رجل كبري‪.‬‬
‫جتمع كل أشيائها‪ ..‬ترتبها وتضعها يف صندوقها املنقوش قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬هذا ما ملكت من الدنيا الفانية‬
‫تسكت طويال كأمنا تغوص يف حبار الذكريات‪:‬‬
‫‪ -‬مات رجال يف ثورة التحرير كالصحابة ومل ميلكوا شيئا ومل تبك‬
‫عليهم إال بنادقهم ورفاقهم‬
‫وكثريا ما تستشهد بعمار الكريطة‬
‫‪ -‬كان قائدا جملموعتنا حني وقعنا يف الكمني‪ ..‬ضحى بنفسه من أجل أن‬
‫ينقذنا‪ ..‬وشغل عساكر العدو حتى نفدت ذخريته‪ ..‬حني قتلوه أخفى األهالي‬
‫جثته وبت معه يف خمبإ أقيم بأحد البيوت‪ ..‬حني أفاق طلب مين أن أغسل رأسه‬

‫‪211‬‬
‫باملاء البارد‪ ..‬أردت أن أعارض‪ ..‬رفع يف عينني ممتلئتني شهادة‪ ..‬غسلت رأسه‪..‬‬
‫جففته له‪ ..‬طلب مين قنينة العطر اليت كان حيتفظ بها يف جيبه‪ ..‬سلمتها له‪ ..‬أراق‬
‫منها شيئا يف كفه ومسح وجهه‪ ..‬عبق املكان بشذا العطر وشذا الدم‪ ..‬سلمين‬
‫القنينة وأمرني أن أحتفظ بها‪ ..‬وبت أرقبه عن كثب‪ ..‬حني تنفس الفجر‬
‫تنفست روحه حملقة يف مساء اخللود‪ ..‬غادرت إىل اجلبل ويف الصباح الباكر دفنه‬
‫األهالي يف سفح اجلبل‪ ..‬بعد االستقالل رحنا جنمع الشهداء يف مقابر خاصة‪..‬‬
‫حني حفرنا قربه وجدنا جثته كما هي‪ ..‬صدره وحده كان مفتوحا وبه اختذت‬
‫النحل بيتا مألته عسال‪.‬‬
‫آٍه ياسيد الشهداء‪..‬‬
‫ت فوق جوادك‪..‬‬
‫مازل َ‬
‫مازال سيفك مل يُثلمْ‪..‬‬
‫مازال قلبك نابضا مل يُكلم‪..‬‬
‫وعُداتك لو يدرون حني قتلوك أنك ال تعدم‪..‬‬
‫وأنك تبزغ من حناجر الطيور‪..‬‬
‫ومن أكمام اجلراح وعيون الصغار وثغور الزهور‬
‫ربيعا وبلسمْ‬
‫لو يدرون ياسيد الرجال‪..‬‬
‫لكن القحط اليدري سر البذور‪..‬‬
‫اليدري أن مكمن الروح اجلذور‪..‬‬
‫اليعلمْ‬
‫غدا ياسيد الرجال‬
‫تبزغ يف أناملك سوسنات‬

‫‪212‬‬
‫ومن عينيك قوزح وميام وبدور‬
‫غدا تزرعْ بقلب عُداتك حبا ونورا ال يُظلم‪.‬‬
‫ورمبا حكت عن ملطروش أو العقيد عمريوش أو الشيخ العيفه‪..‬‬
‫السعيد بوخريصه‪ ..‬العيد الضحوي‪..‬‬
‫حجت نَانَّا ولكنها مل تعد‪ ..‬ماتت يف املدينة املنورة‪ ..‬هناك دفنت‪ ..‬حني‬
‫عاد اجلميع من احلج مل تعد إليَّ هذه النبية كأنها كانت تأبى أن تدفن يف‬
‫أرض سقتها دماء األشقاء‪..‬‬
‫مل تنس وهي حتتضر أن تبعث إلي بشاهلا األبيض وعليه اخلمسة‬
‫الفضية‪ ..‬منذ ذلك اليوم مل تربحين اخلمسة أعلقها قرب قليب يف حلي‬
‫وترحالي‪ ..‬وظللت أهفو إىل كل جنمة تلمع يف السماء معتقدا أنها نانَّا‪.‬‬
‫وأعادتين اجلازيه إىل الواقع وهي تفتح أمامي جريدة الشروق اليومي‬
‫وقد توسطها موضوع يعلوه عنوان خبط كبري ‪.‬‬
‫"بارون التهريب و املخدرات "‬
‫تصفحت عناوينه على عجل‪..‬‬
‫‪ ‬احممد املمد يتحايل على الضرائب‪..‬‬
‫‪ ‬رشاوي باملاليني‪..‬‬
‫‪ ‬شبكة خمدرات مغاربية‪..‬‬
‫وقد ذيّل املوضوع باسم كاتبه‬
‫م‪.‬ذياب‬
‫صحت فيها فرحا‬
‫‪ -‬إنه ذياب‪ ..‬هاهو أخريا يضرب ضربته‪ ..‬انتهى ا ْمحَمَّدْ امْلَمَّدْ إىل األبد‬
‫طوت اجلريدة من يدي و هي تكاد تطري فرحا‬

‫‪213‬‬
‫‪ -‬هل تعلم؟ وهيبة أجنبت طفال‬
‫ووجدت نفسي أصرخ من أعماقي‬
‫‪ -‬سامل العلواني‪ ..‬سامل البطل‪ ..‬ما أعظمك يارب!!‬
‫ضغطت بيدي على أصابعها ورحت أجرها سريعا إىل سامل العلواني‬
‫الصغري‬

‫‪214‬‬
‫‪7‬‬

‫شرفة أخرية‬

‫يا اجلازيــــــه‪...‬‬
‫ن‪..‬‬
‫بلغ القلبَ العفــــــــ ُ‬
‫انتفضــــــــــــــــي‪..‬‬
‫حشاشةُ الروح ترتعش‪..‬‬
‫سويداءُ القلب ختتنق‪..‬‬
‫اقتليه‪..‬‬
‫اشحذي اخلنجر املسموم واقتليه‪..‬‬
‫قتلك ألف مرة‪..‬‬
‫باع ظفائرك لصعاليك األرض‪..‬‬
‫اقتليه‪ ..‬و‪..‬‬
‫وتستمر احلفلة‪ ..‬دوي الدفوف يقطع اآلذان‪ ..‬املئات ينخرطون يف شطحات‬
‫جمنونة‪ ..‬امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ يتصدر املنصة‪ ..‬خترج الشقراء من حني آلخر‪ ..‬ينساب‬
‫منها الصوت‪:‬‬
‫‪ -‬يف خاطر أوالد احلفرة هذا مليون من عند احلاج امْحَمَّدْ‪..‬‬
‫الكل يرقص‪ ..‬ينتفخ احلاج امْحَمَّدْ‪ ..‬وحده كسردوك رومي ميأل املكان‪..‬‬
‫هاهو جيلس على العرش ويتوج رئيسا هلذه املدينة يف انتخابات اشرتاها‬

‫‪215‬‬
‫مباله‪..‬‬
‫هذا دربك يا اجلازيه‪..‬‬
‫الدم وحده قادر على غسل العار‪..‬‬
‫هاأنذا أجري‪..‬‬
‫ها عرقي ينساب وديانا حولي‪..‬‬
‫ها اخلنجر يلمع يف عيينَّ‪..‬‬
‫أشده بقوة ال بد أن أغرزه إىل آخره‪ ..‬حتى املقبض‪ ..‬حتى مرفقي‪ ..‬البد أن‬
‫أراه يتقيأ دما‪ ..‬ال بد أن أراه يتخبط كدجاجة مذبوحة‪ ..‬كجثة والده العفنة حني‬
‫ذحبه الرجال الكبار‪ ..‬ال بد أن أذحبه‪ ..‬يف عروقي مازالت جتري دماء الفحولة‪..‬‬
‫انظر والدي‪ ..‬انظر عبدالرحيم‪ ..‬انظر ذياب‪ ..‬منري‪ ..‬أُمَّا عرجونه‪ ..‬اهلامشي‪..‬‬
‫حسناء‪ ..‬عبله‪ ..‬عْزيََّزْ‪..‬‬
‫انتفضي حارة احلفرة‪..‬‬
‫انظريين أطهرك من الرجس‪..‬‬
‫األفيون‪..‬‬
‫تتعاىل صيحات اجلمهور‪ ..‬يشتد دوي الطبول‪ ..‬مطرب الراي يسري‬
‫خبدره يف القلوب‪..‬‬
‫حارة احلفرة خمدرة وسط غشاوة الليل احلزين‪..‬‬
‫هي النجوم الشحيحة تذكر الذين مروا من هنا‪..‬‬
‫إبراهيم جحا‪ ..‬الشيخ صاحل‪ ..‬أُمَّا عرجونه‪ ..‬عبدالرحيم‪ ..‬صالح الدين‪..‬‬
‫الشيخ اهلامشي‪..‬‬
‫بدأ العفن يف الطرقات ثم اختذ األوعية جمار يعربد فيها‪..‬‬

‫‪216‬‬
‫حارة احلفرة جبَّانة مغلقة األبواب تتمدد مسجاة يف تابوت الليل‪..‬‬
‫امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ ينهض بقامته املديدة‪ ..‬ميد يده يف الفضاء‪ ..‬تلمع ساعته‬
‫الذهبية‪ ..‬تطلق عيارات نارية‪ ..‬يهتف يف املئات الذين اشرتاهم حلضور احلفل‪..‬‬
‫ترتفع الزغاريد‪..‬‬
‫اجري يا اجلازيــه‪..‬‬
‫مزقي فستان احلداد‪..‬‬
‫البسي فستان الفرح‪..‬‬
‫ها ذياب قد أشرق على ربوة القلب‪..‬‬
‫ازرعيه فرحا يف سويداء حارة احلفرة‪..‬‬
‫اجتثـي منها نكد الفراعنة والدايات‪..‬‬
‫ها منري يعدو معك جذالن‪..‬‬
‫لن أدعه يسبقين‪ ..‬العرس عرسي‪ ..‬والشرف شريف‪..‬‬
‫إىل أين يااجلازيه؟‬
‫بنادق الزبانية مصوبة إىل الصدور‪..‬‬
‫خيانة الدايات أخطبوطا ميتص احلياة‬
‫تشتد الشطحات‪ ..‬تتعاىل أصوات مغين الراي‪:‬‬
‫راني خَلِّيتْهالَكْ أمانه‬
‫اتْهَلَّى فيها‬
‫ما تُغْبَنْهاشْ‬
‫هي احْبيبيت أنايَ‬
‫لكن ربي ما كَتَّبْهاشْ‬

‫‪217‬‬
‫يصرخ امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا مليون يف خاطر اجلازيه‬
‫يلمع اخلنجر يف ميينك ‪ ..‬يف ذراعك النحيفة ‪ ..‬تزداد سرعتك ‪ ..‬البد‬
‫من قتله ‪..‬‬
‫حارة احلفرة تنتظر أيتها الفحلة‪ ..‬ياساللة الفحول‪ ..‬اقتليه‪ ..‬اغسلي‬
‫العار‪ ..‬ال يغسل العار إال الدماء‪..‬‬
‫يرتفع دوي الطبول‪ ..‬تراق اخلمور‪ ..‬توزع احللوى‪ ..‬ترقص الشقراء‪..‬‬
‫تتناثر فوقها املاليني‪ ..‬فستانك األبيض ينهض من مكانه‪ ..‬يزحف إىل‬
‫امليدان‪ ..‬عينا أُمَّا عرجونه‪ ..‬سُمرة أبي صاحل‪ ..‬خربشات منري‪ ..‬كتبه‪ ..‬براءة‬
‫أطفال حارة احلفرة‪ ..‬ترفرف األرواح الطاهرة‪ ..‬يبتسم عبد الرحيم‪ ..‬هاكِ‬
‫عزمي اقتليه‪ ..‬خذي بالثأر‪..‬‬
‫ها ذياب يظهر بني اجلمع فجأة‪ ..‬الشرف شريف لن يقتله غريي‪ ..‬أنت فرحيت‬
‫يااجلازيه‪ ..‬ال ترتكي اخلنزير يقطف مثرتها‪ ..‬أسرعي أيتها املهرة العربية‪ ..‬ال‬
‫تدعيهم يسبقونك للشرف‪ ..‬تدخلني احللبة‪ ..‬يدخلون خلفك‪ ..‬تلمع العيون‪..‬‬
‫تشتد دقات القلوب‪ ..‬يصطف اجلميع‪ ..‬إبراهيم جحا‪ ..‬الشيخ صاحل‪ ..‬أُمَّا‬
‫عرجونه‪ ..‬عبدالرحيم‪ ..‬صالح الدين‪ ..‬الشيخ اهلامشي‪ ..‬كل سكان حارة احلفرة‪..‬‬
‫تلتهب األكف بالتصفيق‪ ..‬تشهرين اخلنجر‪ ..‬يسبقك ذياب‪ ..‬يسبقكما منري‪..‬‬
‫تسبقينهما‪..‬‬
‫يرتفع صوت مغين الراي‪ ..‬وصوت الدفوف‪ ..‬وصوت األكف‬
‫واألقدام الراقصة‪..‬‬
‫يتهادى امْحَمَّدْ امْلَمَّدْ نشوان‪ ..‬وقد لعبت اخلمرة برأسه‪ ..‬يرغي‬

‫‪218‬‬
‫كالبعري‪..‬‬
‫يـــــــا‬
‫ا‬
‫لـ‬
‫ـجـــــــــــــــــ‬
‫ــا‬
‫ز‬
‫يـ‬
‫ـه ‪..‬‬
‫تتهادى الشقراء راقصة حوله‪ ..‬تُ فتح األشداق مبهوتة مبهورة‪..‬‬
‫ترتفع صيحاتها‪ ..‬على مرمى حجر تقفني مهرةً جاحمة‪ ..‬تلتصق الشقراء‬
‫به‪ ..‬يعدو منري‪ ..‬يسبقه ذياب‪ ..‬حتدق فيك عيون البنادق شزرا‪ ..‬تشحذين‬
‫القلب‪ ..‬تشحذين اخلنجر‪ ..‬تدفعينه حنو القلب‪ ..‬تغرسينه فيه‪ ..‬يتهاوى‬
‫حنوك جثة هامدة‪..‬‬
‫قبل أن يصل إىل األرض‪ ..‬ترفعني بصرك‪ ..‬تلمحني الشقراء تغرس‬
‫خنجرها يف كبده‪ ..‬تتأملينها‪ ..‬يهرع منري‪ ..‬يهرع ذياب‪ ..‬يهرع إبراهيم جحا‪..‬‬
‫الشيخ صاحل‪ ..‬العيد الضحوي‪ ..‬أُمَّا عرجونه‪ ..‬عمريوش‪ ..‬عبدالرحيم‪ ..‬عَزُّوزْ‬
‫البهلول‪ ..‬السعيد بوخريصه‪ ..‬عْزَيَّزْ‪ ..‬الشيخ العيفه‪ ..‬صالح الدين‪ ..‬الشيخ‬
‫اهلامشي‪ ..‬عمار الكريطة‪ ..‬أمحد ملطروش‪ ..‬تصفق حارة احلفرة‪ ..‬جدرانها‪..‬‬

‫‪219‬‬
‫‪10‬‬
‫شوارعها‪ ..‬أتربتها‪..‬‬
‫تضمك الشقراء عبله احللوة إىل صدرها امللتهب‪ ..‬تضمينها‪ ..‬ينفرط‬
‫طوق احلقد‪ ..‬والدايات‪ ..‬يتناثر هاهنالك‪ ..‬وهاهنالك‪ ..‬حوالكيما‪ ..‬يتشكل‬
‫عقد اخلري‪ ..‬واحلب‪ ..‬من بعيد كان ذياب حيمل يف يده فستان الفرح‪ ..‬وكان‬
‫أبي صاحل وأُمَّا عرجونه يفتحان ذراعيهما فرحا وابتهاجا‪..‬‬
‫وحني أشرقت مشس الصباح كان اجلميع يشاركون يف عيد حارة الربوة‪..‬‬
‫وكانت اجلازيه تصغي ملوال ذياب‪.‬‬
‫ياسيدة الضياءْ‬
‫و األرض والسماء‬
‫ياسيدتي‬
‫ياشذا احلبقْ ولون الكستناء‬
‫وروح الروح وسر املاء‬
‫داياتهم خسئوا‬
‫وانبجس الضياء‬
‫تيهي على عرش قليب‬
‫وازرعيه خصبا ومناء‬
‫واصَّاعدي‪ ..‬اصَّاعدي‬

‫‪ -10‬العيد الضحوي‪ ..‬الشيخ العيفة‪ ..‬عمريوش‪ ..‬عمار الكريطة‪ ..‬أمحد ملطروش‪ ..‬السعيد‬
‫بوخريصه‪ :‬أمساء لشخصيات حققيقية نالت شرف الشهادة يف سبيل اهلل أثناء ثورة التحرير‬
‫املباركة ويشهد اجلميع بشجاعتهم األسطورية‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫على درجات الفؤاد املوله‬
‫مقامك ياسيدتي‬
‫يف عش السماء‬
‫يف سدرة املنتهى ‪...‬‬

‫سطيف ‪ -‬عنابة ‪ -‬جيجل ‪ /‬ديسمرب ‪2001‬‬

‫‪221‬‬

You might also like