Professional Documents
Culture Documents
وهل أعمال القلوب تدخل فيه عندهم؟ وما الفرق بني تصديقهم ومعرفة اجلهمية؟
إعـداد
حسن معلم داود حاج حممد
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
2
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
مقدمة
بســم اهلل الرحـمن الرحـيم
إن احلمد هلل ،نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ باهلل من رشور أنفسنا
وسيئات أعاملنا ،من هيده اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادي له.
وأشـهد أن ال إلـه إال اهلل وحده ال رشيك له ،وأشـهد أن حممدا عبده
ورسوله ،صىل اهلل عليه وعىل آلـه وأصحابه ومن اقتدى هبم إىل يوم الدين.
أما بعد :فإن اهلل تعاىل أرسل رسله وأنزل كتبه رمحة بعباده ليهتدوا إىل
الرصاط املستقيم ،فسعد الذين استناروا هبا الطريق ،وسلكوا سواء السبيل.
وشقي أقوام حني مل يرفعوا رأسا للنعمة املنزلة والرمحة املهداة ،وظنوا أن
عقلهم القارص سيدهلم عىل الطريق القويم ،وما دروا أنه ما ضل من ضل وما
هلك من هلك إال باالعتامد عىل عقله.
ولو كان العقل كافيا للثبات عىل االستقامة والوصول إىل السعادة ملا عبد
صنم وال حجر ،وال اعتقد يف خملوق أنه اإلله أو يعطي للبرش ما يعطي اإلله،
وال استغاث الناس بميت دفنوه يف الرتاب حتت أقدامهم ،وملا أرسل اهلل
الرسل وال أنزل الكتب.
فإن كل هذا يدل عىل نقصان العقل البرشي ،وقصوره عن اهلدى إال بنور
الوحي ،وكام أن العني ال تبرص حمال إال بنور فيه ،كذلك ال يدرك احلق إال
بنوره ،ومن أعرض عن النور فلن يرى إال الظلامت ،ولن يدري ما أمامه
فيتخبط يف مسريه ،ومن أعرض عن نور الوحي فلن يرى سوى ظلامت
3
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
الشبهات املدهلمة ،التي يتيه فيها عن موقع الصواب ،فيكثر تـخبطه ويتشبث
بكل يشء ،وربام يلوذ بام فيه حتفه.
وإن أردت مثال هذا ،فانظر إىل املتكلمني الذين اعتمدوا عىل عقوهلم يف
معرفة مراد اهلل ومناط السعادة ،فضلوا عن السبيل ،حتى إهنم ما استطاعوا
إدراك حقيقة اإليامن الذي يفرق به بني املؤمن وذي الكفران ،فكلام انتهوا إىل
حد معقول عورضوا بأنه غري مانع لدخول كثري من الكفار فيه ،أو غري جامع
خلروج كثري من املؤمنني منه ،فام يزالون يف حرية حتى اليوم.
وسرتى الشاهد عىل ذلك يف هذا البحث الذي يلقي الضوء عىل اعتقاد
األشاعرة يف حقيقة اإليامن ،ومع أهنم أقرب فرق املتكلمني إىل احلق يف اجلملة،
إال أن قوهلم يف اإليامن من أخطر األقوال وأبعدها عن الصواب ،وستجد
العجب العجاب حني انتهائك من قراءة هذه العجالة.
نسأل اهلل اهلدى والتوفيق يف العلم والعمل ،وأن يغفر ذنوبنا وجينبنا الزلل،
وصىل اهلل وس ّلم عىل نبينا حممد وعىل آله وصحبه.
4
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1يعنون تصديق القلب ،وليس خاصا يف اللغة بذلك ،بل يكون أيضا باللسان وباجلوارح،
وكذلك اإليامن الرشعي عند السلف.
( )2هو سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاين املتوىف سنة ،791من ّظر األشعرية بعد العضد
اإلجيي وحمققهم املعترب.
(« )3رشح املقاصد» ( ،)420 ،418/3دار الكتب العلمية بريوت .1422وانظر« :الفتح
املبني برشح األربعني» البن حجر اهليتمي ص 151دار املنهاج جدة .1428
( )4انظر« :إحتاف املريد بجوهرة التوحيد» (ص ،)35 ،31و«حتفة املريد عىل جوهرة
التوحيد» (ص.)29
5
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
6
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
ومذهب السلف الصالح أهل احلديث :أن اإليامن قول وعمل ،أي :قول
القلب واللسان ،وعمل القلب واجلوارح.
وهذه األقسام األربعة مل تثبت اجلهمية منها إال قول القلب الذي هو
املعرفة.
7
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1وبعضهم نقل االتفاق عىل هذا كقول أمحد اجلندي« :وأما أنه التصديق (ويعني الذي
بمعنى العلم) ال سائر ما يف القلب فباالتفاق؛ ألن اإليامن يف اللغة التصديق ،ومل ينقل يف الرشع
إىل معنى آخر» ،وكذا قال اخليايل ،انظر« :جمموعة احلوايش البهية عىل رشح العقائد النسفية»
( )179/1مطبعة كردستان العلمية بجاملية مرص .1329
8
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
-وأما أصحاب القول األول فاعرتفوا بأن التصديق الذي أثبتوه إنام هو من
باب العلوم واملعارف أو من مقولة الكيف واالنفعال ،ولكن زعموا أنه غري
املعرفة التي أثبتتها اجلهمية من وجوه:
9
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
10
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
11
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
نسبة الصدق إىل النبي فيام أتى به واحلكم بصدقه ،وذلك حد التصديق عند
املناطقة واألشاعرة.
الوجه الثاين:
أن التصديق كسبي اختياري؛ فهو أن حتصل باختيارك نسبة الصدق إىل
املخرب وإثباهتا ،وفيه ربط القلب عىل ما علم من إخبار املخرب ،واملعرفة ربام
حتصل بال كسب واختيار؛ كمن وقع برصه عىل جسم فحصل له معرفة أنه
جدار أو حجر ،فلذلك قالوا« :املعترب يف اإليامن التصديق االختياري ،ومعناه
نسبة الصدق إىل املتكلم اختيارا ،وهبذا القيد يمتاز عن التصديق املنطقي
املقابل للتصور؛ فإنه قد خيلو عن االختيار ،كام إذا ادعى النبي النبوة وأظهر
املعجزة ،فوقع يف القلب صدقه رضورة من غري أن ينسب إليه اختيارا ،فإنه ال
يقال يف اللغة :إنه صدّ قه ،فال يكون إيامنا رشعيا» (.)1
وهذا التفريق عىل قول من يقول منهم :إن التصديق اللغوي الذي هو
اإليامن أخص من التصديق املنطقي الذي قد خيلو عن االختيار ،ولكن هذا
االختيار املعترب يف التصديق اللغوي الذي هو اإليامن عندهم هل هو ركن منه
فيكون من ماهيته ،أو رشط لصحته فيكون خارجا عنه؟ وعىل الثاين فال فرق
بني التصديق واملعرفة يف احلقيقة واملاهية.
والثاين هو الذي رجحه التفتازاين ،أما األول فهو مردود عنده من جهتني:
12
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
-1أنه يقتيض التغاير بينه وبني التصديق املنطقي ،ومعنى ذلك أنه خارج
عن باب العلوم ،وهلذا قال التفتازاين عن هذا الفرق« :وهذا مشكل؛ ألن
التصديق من أقسام العلم وهو من الكيفيات النفسانية دون األفعال
االختيارية؛ ألنا إذا تصورنا النسبة بني الشيئني ،وشككنا يف أهنا باإلثبات أو
بالنفي ،ثم أقيم بالربهان عىل ثبوهتا ،فالذي حيصل لنا هو اإلذعان والقبول
لتلك النسبة ،وهو معنى التصديق واحلكم واإلثبات واإليقاع» (.)1
فظهر من هذا أن االختيار ليس ركنا من التصديق ،بل حيصل بدونه كمن
وقع برصه عىل معجزة النبي فوقع يف قلبه أنه صادق فيها.
وقال التفتازاين« :ونقطع بأن هذا (أي التصديق) كيفية للنفس قد حتصل
بالكسب واالختيار ومبارشة األسباب ،وقد حتصل بدوهنام( ،)2فغاية األمر أن
يشرتط فيام اعترب يف اإليامن أن يكون حتصيله باالختيار عىل ما هو قاعدة املأمور
به( ،)3وأما أن هذا فعل وتأثري من النفس ال كيفي ٌة هلا ،وأن االختيار معترب يف
مفهوم التصديق؛ فممنوع ،بل معلوم االنتفاء» (.)1
(« )1رشح العقائد النسفية» (ص 159ط 1364مع حواش ،وأعادت طبعه باألوفست
مكتبة املثنى بغداد د.ت).
عرفه بحدّ ها بقوله :كيفية للنفس ..إلخ ،
( )2وهذا تسليم بأن التصديق هو املعرفة؛ ألنه ّ
وهبذا وغريه تعرف أن تفريقاهتم بني التصديق العلمي واملعرفة جمادالت شكلية وهروب من
اإللزام؛ لكيال ينسبوا إىل اجلهمية املقطوع بضالهلم ،كام فعلوا قري ًبا منه يف مسألة القرآن.
( )3وعىل هذا فمن حصل له التصديق (أي إدراك صدق النبي واحلكم بثبوهتا) بدون اختيار
منه أو كسب ونظر وحتصيل باملقدمات املعروفة عندهم؛ ال يقبل منه وال يصح إيامنه ،بل يكلف
بتحصيل التصديق العلمي ،وهو تكليف بتحصيل حاصل وهو حمال وممنوع ،ويلزم منه عدم
=
13
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
صحة إيامن العامي واملقلد ،ومنه أخذوا أن أول واجب عىل العبد هو النظر املنطقي لتحصيل
هذا التصديق.
وهلذا قال مصطفى القسطالين املعروف بالكستيل (ت« :)901فيلزم أن ال يعترب تصديق
من شاهد املعجزة فانتقل ذهنه إىل صدق مدعي النبوة انتقاال دفعيا ،وتكليفه بتحصيل ذلك
باالختيار حتصيل للحاصل؛ عىل أنه حصل له املعنى ..فكيف ال يكون مؤمنا ،فالصواب أن
التكليف باإليامن تكليف بتحصيله إن مل يكن حاصال ،وبعدم مقابلته بالرد واإلنكار بعد
حصوله»( ،حاشية الكستيل عىل رشح العقائد النسفية ص.)159
وقال إسامعيل الكلنبوي (ت« :)1205لو كان مكلفا بعد ذلك بتصديق آخر اختياري لزم
تكليفه بام ال يطاق؛ إذ ال ينقلب تصديقه الرضوري إىل االختياري ،وهو ظاهر .وال ينضم إليه
تصديق آخر؛ الستلزامه اجتامع املثلني ...يف حمل واحد ،وهو حمال»( ،حاشيته عىل رشح الدواين
للعقائد العضدية ،290/2دار الطباعة العامرة 1317د .م).
وما اختاره الكستيل عكسه املرتىض الزبيدي فقال« :لو وقع العلم إلنسان دفعيا من غري
ترتيب مقدمات؛ احتاج إىل حتصيله مرة أخرى كس ًبا» ،واستشهد بكالم التفتازاين هنا ،وقال:
«وظاهره عدم االكتفاء بحصوله دون كسب»«( ،إحتاف السادة املتقني برشح إحياء علوم
الدين» 392-391/2دار الكتب العلمية بريوت ،)1409وهذا ما عزاه التفتازاين إىل بعض
املحققني«( ،رشح العقائد النسفية» ص.)159
ووجه قوهلم أن التصديق الذي هو اإليامن عندهم تكليف مأمور به« ،والتكليف إنام يتعلق
باألفعال االختيارية» ،كام قال اهليتمي (ص .)154فغري االختياري ليس هو املأمور به
املطلوب ،فال يكون إيامنا ،وصاحبه ال يكون مؤمنا ،فيكلف بتحصيل اإليامن (التصديق) مع أنه
عنده! وحاول التفتازاين أن يعالج هذا اإلشكال َبأ ْن ّأول معنى كون التصديق املأمور به اختياريا
مقدورا إىل أن املراد هو صحة تع ّلق القدرة به وحصوله بالكسب واالختيار وإن مل يكن يف نفسه
حاصال بذلك«( ،رشح املقاصد» .)428/3
وهذا مبني عىل مسألتني :أن اإليامن املكلف به هو التصديق العلمي ،وأنه جزء ال يتبعض
وال يزيد ،وكلتامها باطلة.
واختلف األشاعرة يف كيفية حتصيل التصديق بالكسب واالختيار ،أبمقدمات الربهان
املنطقي ،فيلزمهم إخراج أكثر املسلمني من اإليامن مع أن التصديق قد حصل هلم قطعا! أم املعترب
=
14
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
وجوده مطلقا بأي وسيلة كان ،فيدخل احلاصل بالرضورة أو احلدس؟ قال التفتازاين« :ال نزاع
يف وجوب النظر واالستدالل ،بل يف أن ترك هذا الواجب يوجب عدم االعتداد بالتصديق ،عىل
أنه ربام يقال :إن املقصود من االستدالل هو التوصل إىل التصديق ،وال عربة بانعدام الوسيلة بعد
حصول املقصود»«( ،رشح املقاصد» .)455/3وقال أيضا« :وأما املقلد فقد ذكر من نظر يف
الكالم وسمع من اإلمام (يعني الرازي) أن ال خالف يف إجراء أحكام اإلسالم عليه،
واالختالف يف كفره راجع إىل أنه هل يعاقب عقاب الكافر؟ فقال الكثريون :نعم؛ ألنه جاهل
باهلل ورسوله ودينه ،واجلهل بذلك كفر ،...وقال بعض ذوي التحقيق منهم :إنه وإن كان جاهال
لكنه مصدق(!) ،فيجوز أن ينتقص عقابه لذلك»( ،السابق .)457/3
وسئل السيوطي :كيف صح التكليف باإليامن مع أن اإليامن يف الرشع هو التصديق بام جاء به
حممد وكل تصديق فهو كيف ،فاإليامن كيف وال يشء من الكيف بمكلف به فال يشء من
اإليامن بمكلف به .أما الصغرى فواضحة ،وأما الكربى فلام تقرر يف األصول من أنه ال تكليف
إال بفعل؟ فأجاب بقوله « :أجاب عنه مجاعة منهم خامتة املحققني الشيخ جالل الدين املحيل يف
رشح مجع اجلوامع فقال :التكليف بالتصديق وإن كان من الكيفيات النفسية دون األفعال
االختيارية املراد به التكليف بأسبابه كإلقاء الذهن أو رصف النظر وتوجيه احلواس ورفع
املوانع» (احلاوي للفتاوي .)397 ،393/2
وقال ابن حجر اهليتمي «:وتعلق التكليف هبا [أي باملعرفة] مع ثبوهتا قهرا يف قوله تعاىل:
﴿فاعلم أنه ال إله إال اهلل﴾؛ أريد به حتصيل أسباهبا من القصد إىل النظر يف آثار القدرة الدالة عىل
وجوده تعاىل ووحدانيته ،وتوجيه احلواس إليها ،وترتيب املقدمات املأخوذة من ذلك عىل الوجه
املؤدي إىل املقصود .وظاهر كالم (رشح املقاصد) أنه ال يكتفى بذلك العلم القهري ،بل ال بد
من حتصيله بعد بطريق االستدالل ،ورد بأن حصول االستسالم الباطني بعد حصول العلم
القهري حصول للمقصود ٍ
مغن عن استحصاله بتعاطي أسبابه .فالوجه :االكتفاء بحصول
القهري املنضم إليه االستسالم ،والتكليف بتعاطي األسباب إنام هو ملن مل حيصل له ذلك العلم
القهري»( .الفتح املبني ص .)154
وقول الكستيل السابق( :وبعدم مقابلته)...؛ ذلك أن اإليامن عندهم يشء بسيط ال يتجزأ ،وال
يقبل الزيادة والنقصان ،فإذا حصل حصل بكامله فلم يبق يشء يكلف بتحصيله ،وإن فقد فقد
من أصله.
=
15
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
ومذهب السلف أن اإليامن له أجزاء ومراتب تزيد وتنقص ،فهو قول وعمل ،أي :قول
القلب واللسان وعمل القلب واجلوارح ،فهذه أربعة أجزاء لكل جزء منها مراتب متفاوتة ،فمن
مل يكن عنده يشء منها فهو مكلف بتحصيلها ،وكذا من عنده ما ال يدخل به يف اإلسالم كقول
القلب الذي هو املعرفة أو التصديق العلمي؛ فإن أهل الكتاب وكثريا من املرشكني كان عندهم
هذا اجلزء ،وقال تعاىل هلم﴿ :فآمنوا باهلل ورسوله والنور الذي أنزلنا﴾ ،وقال النبي « : والذي
نفيس حممد بيده ،ال يسمع يب أحد من هذه األمة هيودي وال نرصاين ،ثم يموت ومل يؤمن بالذي
أرسلت به ،إال كان من أصحاب النار» ،رواه مسلم وأمحد ،ويف رواية« :ثم ال يؤمن يب» ،عند
النسائي يف الكربى والطياليس وأيب نعيم .ومعنى احلديث عىل مذهب مجهور األشاعرة :ثم ال
حيكم بصدقي وصدق ما جئت به ...وهذا تكليف بتحصيل حاصل! وكذلك اآلية التي ذكرها
اهليتمي.
ومن دخل يف اإليامن فهو مكلف بتحصيل بقية أجزائه كعمل اجلوارح ،ومن كانت األجزاء
عنده فهو مكلف بتكميلها ،قال تعاىل﴿ :ياءهيا الذين آ َمنوا آمنوا باهلل ورسوله والكتاب الذي
نزل عىل رسوله﴾ ،وهذه اآلية مشكلة عند األشاعرة كغريهم من املرجئة؛ ألنه إما أن يكون
عندهم اإليامن فال يكلفون به ،أو ليس عندهم فال خياطبون به! أما عند أهل السنة فهم مؤمنون
مكلفون بتكميل إيامهنم ،فاخلطاب يف هذه اآلية ويف التي قبلها ليس يف مورد واحد ،وال إشكال
بحمد اهلل.
وإنام ذكرت هذا كله يف احلاشية؛ ألن االختيار ليس من حقيقة اإليامن (التصديق) عند
األشاعرة عىل ما رجحه التفتازاين وغريه ،ونحن نتكلم عن حقيقة الكالم عندهم ،وباقي الكالم
استطراد عليه.
(« )1رشح املقاصد» (.)429/3
16
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية« :أي ال تقر بخربنا وال تثق به وال تطمئن إليه ولو كنا
صادقني؛ ألهنم مل يكونوا عنده ممن يؤمتن عىل ذلك ،فلو صدقوا مل يؤمن هلم»( ،جمموع الفتاوى
.)292-291/7
( )2ال شك أن التصديق من معاين اإليامن يف اللغة ،لكن ليس اإليامن هو التصديق فقط ،بل
يشتمل عىل معنى زائد عىل جمرد التصديق ،كام يدل عليه اشتقاقه من األمن واالئتامن ،ولذلك
يطلق عىل الثقة والطمأنينة للمخرب واإلذعان خلربه ،وقال الراغب األصفهاين يف
املفردات(ص« :)26اإليامن هو التصديق الذي معه أمن» ،ورجح شيخ اإلسالم ابن تيمية
تفسري لفظ اإليامن باإلقرار القلبي الذي يتضمن مع التصديق عمال قلبيا كام يف قوله تعاىل﴿ :ثم
أقررتم﴾ ،وقوله﴿ :أأقررتم﴾ ،وألن اإلقرار يتعدى بنفسه وبالباء وبالالم كاإليامن بخالف
التصديق .انظر :جمموع الفتاوى ( ،)636/7 ،637/2و«األمثال القرآنية القياسية املرضوبة
لإليامن باهلل» ( )183-179/1د .عبد اهلل اجلربوع ،ط اجلامعة اإلسالمية.
وقد أقر شيخ متأخري األشعرية ابن حجر اهليتمي :أن اإليامن يف اللغة يأيت ملعنى االعرتاف
واإلقرار فيعدى بالباء ،ويأيت ملعنى اإلذعان والقبول فيعدى بالالم .انظر« :الفتح املبني برشح
األربعني» ص ،151دار املنهاج.
17
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
الوجه الثالث:
ورود آيات يف القرآن تفرق بني املعرفة واإليامن.
قال التفتازاين« :املذهب أنه (أي التصديق) غري العلم واملعرفة؛ ألن من
الكفار من كان يعرف احلق وال يصدق به عنادا واستكبارا ،قال اهلل تعاىل:
﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كام يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون
احلق وهم يعلمون﴾ ،وقال﴿ :وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه احلق من
رهبم وما اهلل بغافل عام يعملون﴾ ،وقال حكاية عن موسى عليه السالم
لفرعون﴿ :لقد علمت ما أنزل هؤالء إال رب الساموات واألرض بصائر﴾.
فاحتيج إىل الفرق بني العلم بام جاء به النبي وهو معرفته وبني التصديق؛
ليصح كون األول حاصال للمعاندين دون الثاين ،وكون الثاين إيامنا دون
األول» (.)2
18
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
ثم ذكر الوجهني السابقني ومل يرتضهام ،بل س ّلم أن التصديق هو املعرفة
فقال« :نعم ،يلزم أن تكون املعرفة اليقينية املكتسبة باالختيار تصديقا ( ،)1وال
بأس بذلك؛ ألنه حيصل املعنى الذي يعرب عنه بكرويدن( ،)2وليس اإليامن
والتصديق سوى ذلك» (.)3
وهذه اآليات التي ذكروها حجة عليهم؛ فإن اليهود كانوا يعرفون النبي
، أي يعلمون صدقه ،وينسبون إليه الصدق ،ويقولون :هو صادق ،وهم يف
ذلك عىل يقني ال يشكون فيه ،وهذا هو حقيقة اإليامن عند مجهور األشاعرة!
ولذلك أورد بعضهم إشكاال :أن تعريف اإليامن بالتصديق غري مانع؛
لصدقه عىل مثل هذا مع احلكم بكفره وانتفاء اإليامن عنه .ومل جيد له األشاعرة
جوابا ساملا (.)4
وقوله تعاىلَ ﴿ :ليعلمون أنه احلق من رهبم﴾ أي يقرون يف أنفسهم أن هذا
القرآن صدق وحق منزل من عند اهلل ،فقد وقع يف قلوهبم صدق النبي فيام
( )1سبق أن االكتساب باالختيار رشط للتصديق وليس من ماهيته ،والتصديق يكون يقينيا
وظنيا كام رجحه التفتازاين وغريه ،وكذلك املعرفة ،فحاصل كالمه أن املعرفة هي التصديق،
وذكره االختيار واليقينية حشو وإهيام!
( )2كرويدن :كلمة فارسية ،يطلقوهنا يف املنطق بمعنى التصديق الذي هو مقابل التصور،
انظر« :رشح املقاصد» ( .)428/3والتصديق املنطقي هو أحد قسمي العلم والعلم هو املعرفة،
فتأمل !
(« )3رشح العقائد النسفية» (ص.)159
( )4انظر« :الفتح املبني» للهيتمي ص . 153
19
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
أتى به ،وذلك باختيار منهم ونظر واستدالل بربهان ما جيدونه يف كتبهم من
أمارات النبوة( ،)1وهذا هو معنى اإليامن عند األشاعرة!
إيمان فرعون !
وفرعون حصل له أن موسى عليه السالم صادق فيام أتى به ،وأنه من عند
اهلل ،وذلك بنظره يف معجزات موسى واستدالله هبا؛ فإن موسى قال له:
﴿أولو جئتك بيشء مبني .قال فأت به إن كنت من الصادقني﴾ ،فأتى موسى
باآليات واملعجزات وشاهدها فرعون فحصل له صدق موسى فيام جاء به،
فقال له موسى﴿ :لقد علمت ما أنزل هؤالء إال رب الساموات واألرض
بصائر﴾ ،أي حصل لك العلم بصدقي وأن ما جئت به ليس إال من عند اهلل.
وقال تعاىل﴿ :وجحدوا هبا واستيقنتها أنفسهم ظلام وعلوا﴾ ،فذكر تعاىل
أن فرعون ومأله حصلت هلم املعرفة اليقينية بصدق معجزات موسى ،وذلك
هو حقيقة اإليامن عند األشاعرة ،واجلحود ينايف االستسالم ال املعرفة،
واالستسالم عندهم ليس من حقيقة اإليامن ،وإنام هو رشط له ،كام يأيت.
وقد حكم أبو حامد الغزايل يف «قواعد العقائد» :أن من صدق بقلبه
وساعده من العمر مهلة ومل ينطق بالشهادتني مؤمن غري خملد يف النار ،قال:
«واإليامن هو التصديق املحض ،واللسان ترمجان اإليامن ،فال بد أن يكون
اإليامن موجودا بتاممه قبل اللسان حتى يرتمجه اللسان ،وهذا هو األظهر...
20
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
21
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
به من السادة :أن اإلمام العالمة الشيخ حسن بن أمحد با غرت احلرضمي ،حيث وفد إىل املدينة عىل
ساكنها أفضل الصالة والسالم ،فاوض مع املذكور يف هذه املسألة ،وأن عدم إيامنه مما أمجع عليه،
فأول ما فاحته به أن قال له:
وطال بينهام الكالم إىل أن انفصال من غري مرام ،فلام أصبح لقيه ّ
السالم عليك يا أخا فرعون! فتنغص السيد جدا ،وانحرف مزاجه عىل املذكور ،وعرف من
ذلك ،وشكاه عند بعض الناس ،فالموه فاعتذر هلم :إين ما قلت شط ًطا ،هو يقول بإيامن فرعون
ويثبته ،واملؤمنون إخوة ،فل َم يتأذى من أخوة فرعون وهو مؤمن عنده؟! فانقطعوا».
( )1وكذا قال التفتازاين يف «رشح املقاصد» (.)426/3
( )2مل يذكر برها ًنا للتفريق بني تصديقهم ومعرفة اجلهمية.
(« )3إحتاف السادة املتقني» (.)392/3
22
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
ً
حقيقة وإن أطلقنا عليه فيام يظهر لنا ،ويلزم من هذا إثبات إيامن مجيع ( )1أي ليس كافرا
الكفار الذين كانوا حيكمون بال شك بصدق النبي فيام أتى به ،وذلك وصف أهل الكتاب
وكثري من املرشكني.
(« )2رشح العقائد النسفية» (ص ،)153-152ونحوه يف «رشح املقاصد» (.)429/3
واستشكل بعضهم قول التفتازاين هنا بام ذكره يف «رشح املقاصد» ( )429/3أن الكفر قد يكون
« من جهة اإلباء عن اإلقرار باللسان واالستكبار عن امتثال األوامر وقبول األحكام واإلرصار
عىل التكذيب باللسان ،إىل غري ذلك من موجبات الكفر مع تصديق القلب؛ لعدم االعتداد به مع
تلك األمارات ،كام يف إلقاء املصحف يف القاذورات» ،فهذا يدل عىل أن ذلك التصديق كالعدم!
وكالمه هنا يدل عىل أنه معتد به! واجلواب :أن قوله (لعدم اعتداده) أي يف الدنيا ،وال إشكال،
واقرأ كالم اخليايل أعاله.
( )3هو أمحد بن موسى اخليايل ،تويف سنة . 860
(« )4حاشية اخليايل عىل رشح العقائد النسفية» (ص )91مطبوعة بذيل حاشية الكستيل،
وذكر الكستيل يف حاشيته (ص )153نحو كالم اخليايل.
23
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
اتفاق أهل السنة من املحدثني والفقهاء واملتكلمني عىل أن من آمن بقلبه ومل
ينطق بلسانه مع قدرته كان خملدا يف النار؛ فمعرتض بأنه ال إمجاع عىل ذلك،
ٍ
عاص برتك اللفظ ،بل الذي وبأن لكل من األئمة األربعة(ً )1
قوال إنه مؤمن
عليه مجهور األشاعرة وبعض حمققي احلنفية كام قاله املحقق الكامل ابن اهلامم
وغريه :أن اإلقرار باللسان إنام هو رشط إلجراء أحكام الدنيا فحسب» (.)2
بل قال القايض أبو بكر الباقالين« :إن قال قائل :وما الكفر عندكم ؟
( )1مل ينقل عن األئمة ما خيالف عقيدة السلف الصالح ،إال ما نقل عن أيب حنيفة من
إخراجه عمل اجلوارح من حقيقة اإليامن ،لكنه مع ذلك يرى أن التلفظ بالشهادتني ركن من
اإليامن .وقد ذكر اهليتمي قبل هذا ص :151أن «ما يروى أن اإليامن إقرار باللسان وعمل
باألركان واعتقاد باجلنان ،إنام هو من كالم بعض السلف» ،يعني أنه ليس مذهب كل السلف،
وهذه مكابرة؛ ألن كون ذلك مذهب السلف مقطوع به ،ونَقل إمجاعهم عليه كثري من األئمة،
منهم اإلمام الشافعي ﭬ حيث قال« :وكان اإلمجاع من الصحابة والتابعني من بعدهم ممن
أدركناهم أن اإليامن قول وعمل ونية ،ال جيزئ واحد من الثالثة باآلخر» (رشح أصول اعتقاد
أهل السنة واجلامعة لاللكائي .)957/5
(« )2الفتح املبني» ص . 152وذكر حممد بن رسول الربزنجي أن حمققي أهل الكالم
يقولون :اإليامن هو التصديق فقط ،قال « :وافرتقوا :فقيل :النطق باللسان رشط لصحته
واالعتداد به ظاهرا وباطنا ،فال حيكم بنجاته ودخوله اجلنة إال به ،وال حيكم عليه بأحكام الدنيا
كاإليامن يف الدنيا إال به ،وهو الذي رجحه اإلمام (أي الرازي) والبيضاوي والنووي وغريهم.
وقيل :إنه رشط إلجراء األحكام الدنيوية فقط ،والنجاة يف اآلخرة منوط بالتصديق فقط ،وهو
قول شيخي السنة أيب احلسن األشعري وأيب منصور املاتريدي ،ورصح به الغزايل يف اإلحياء
وبسط فيه القول ،واختاره املحققون منهم ابن اهلامم يف املسايرة .قالوا :فالنطق بالشهادتني رشط
إلجراء األحكام الدنيوية يف املناكحة والتوارث والصالة والدفن يف مقابر املسلمني ونحو ذلك»،
(مرقاة الصعود إىل فهم أوائل العقود [ ق 6أ ] ).
24
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
قيل له :هو ضد اإليامن ،وهو اجلهل باهلل عز وجل والتكذيب به ،الساتر
لقلب اإلنسان عن العلم به ،فهو كاملغطي للقلب عن معرفة احلق ....ومنه
سمي مغطي الزرع كافرا.
وقد يكون الكفر بمعنى التكذيب واجلحد واإلنكار ،ومنه قوهلم :كفرين
حقي؛ أي جحدين.
وليس يف املعايص كفر غري ما ذكرناه ،وإن جاز أن يسمى أحيانا ما جعل
علام عىل الكفر كفرا؛ نحو عبادة األفالك والنريان واستحالل املحرمات وقتل
األنبياء وما جرى جمرى ذلك ،مما ورد به التوقيف وصح اإلمجاع عىل أنه ال يقع
إال من كافر باهلل مكذب له وجاحد له» (.)1
وقال أيضا « :فإن قال :فلم قلتم إن الفسق الذي ليس بجهل باهلل ال يضاد
اإليامن؟
قيل له :ألن الشيئني إنام يتضادان يف حمل واحد ،وقد علمنا أن ما يوجد
باجلوارح ال جيوز أن ينفي علام وتصديقا يوجد بالقلب ،فثبت أنه غري مضاد
للعلم باهلل والتصديق له.
والدليل عىل ذلك أنه قد يعزم عىل معصية الرسول بقلبه من ال ينفي
عزمه عىل ذلك معرف َة النبي وتصديقه له ،وكذلك حكم القول يف العزم
25
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
عىل معصية اهلل عز وجل ،وأنه غري مضاد ملعرفته والعلم به ،والتصديق له هو
اإليامن ال غري»(.)1
وقال بعض معارصهيم« :إن هاهنا مقامني :حقيقة اإليامن ،وعلمنا
بحصول هذه احلقيقة عند من آمن .أما املقام األول :فيكفي جمرد التصديق؛ إذ
ذاك حقيقة اإليامن عندهم (يعني مجهورهم) .وأما املقام الثاين :فال بد فيه من
النطق؛ ألنه الطريق إىل العلم باإليامن حتى يمكن إجراء األحكام الدنيوية عىل
ذلك املؤمن» (.)2
ورجح حسن أيوب من معارصهيم أن املصدق بقلبه ناج عند اهلل وإن مل
ينطق بالشهادتني ( ،)3ومال إليه حممد سعيد رمضان البوطي (.)4
وعىل هذا يكون إبليس من الناجني من النار؛ ألنه من املصدقني بقلوهبم،
وكذلك أبو طالب عم النبي وغريهم كثري!
وقال أبو حممد ابن حزم« :اختلف الناس يف ماهية اإليامن؛ فذهب قوم إىل
أن اإليامن إنام هو معرفة اهلل تعاىل بالقلب فقط ،وإن أظهر اليهودية والنرصانية
وسائر أنواع الكفر بلسانه عبادة ،فإذا عرف اهلل تعاىل بقلبه فهو مسلم من أهل
26
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
اجلنة ،وهذا قول أيب حمرز اجلهم بن صفوان وأيب احلسن األشعري البرصي
وأصحاهبام» (.)1
فهذه النصوص تدل بجالء أن حقيقة اإليامن عند األشاعرة هو التصديق
العلمي املرادف للمعرفة .
وبام تقدم يظهر لنا أنه ال يوجد أي فرق بني التصديق الذي هو من باب
العلوم وعليه مجهور األشاعرة ،وبني املعرفة عند اجلهمية ،وأن أكثر األشاعرة
ال يدخلون أعامل القلوب يف اإليامن.
(« )1الفصل يف األهواء وامللل والنحل» ( ،)106|3وسبق التنبيه عىل أن األشعري رجع
عن هذا القول ،لكن املنتسبني إليه بقوا عليه كام ترى.
(« )2رشح املقاصد» (.)421/3
27
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
عنه بكرويدن( ،)1ويقطع بأن التصديق من جنس العلوم واالعتقادات ،لكنه يف
اإليامن مرشوط بقيود وخصوصيات كالتحصيل واالختيار وترك اجلحود
واالستكبار( ،)2ويدل عىل ذلك ما ذكره أمري املؤمنني عيل كرم اهلل وجهه أن
اإليامن معرفة ( ،)3واملعرفة تسليم ،والتسليم تصديق» (.)4
وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية « :وزعم جهم ومن وافقه ...أن جمرد
معرفة القلب وتصديقه يكون إيامنا يوجب الثواب يوم القيامة بال قول وال
عمل ظاهر ،وهذا باطل رشعا وعقال» (.)5
وذكر الزبيدي أن مذهب أيب حنيفة :أن اإليامن هو التصديق بالقلب
واإلقرار باللسان ،قال« :وكان جهم يكتفي بالتصديق» (.)6
( )1سبق أن كرويدن كلمة فارسية بمعنى التصديق املنطقي ،والعلم التصديقي املنطقي هو
هترب !
املعرفة وال فرق بينهام فتأمل ،فعدوله عن لفظ املعرفة إىل العلم ُّ
( )2يشرتطون عدم اجلحود واالستكبار ال لثبوت حقيقة اإليامن وال الستدامته ،بل ألنه
يلزم منهام عدم اإلقرار باللسان واالمتناع عن االمتثال مع املطالبة به ،وهم يشرتطون اإلقرار
والعمل إلجراء أحكام اإليامن يف الدنيا ،ومن حكم الرشع بكفره محلوه عىل أن معنى التصديق
انتفى من قلبه ،وذلك ال يعلم إال بالوحي ،وراجع ما سبق وما يأيت.
( )3مل أجد من روى هذا عن عيل ﭬ .
(« )4رشح املقاصد» ( ،)430/3وهلذه املقدمات نتائج منها :أن املعرفة تصديق !
(« )5جمموع الفتاوى» ( .)121/14قال السجزي يف رسالته ص « :334وكل من زعم أن
اإليامن قول مفرد ،أو قول ومعرفة ،أو قول وتصديق ،أو معرفة جمردة ،أو تصديق مفرد ،أو أنه ال
يزيد وال ينقص ،فهو مرجئ ،وبعضهم جهمي».
(« )6إحتاف السادة املتقني» (.)380/2
28
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
29
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
تلميذه التفتازاين يف بغض النبي وإلقاء املصحف يف القاذورات والسجود للصنم :أهنا أمارة
عدم التصديق«( ،رشح املقاصد» .)437/3
وذكر التفتازاين أن اإليامن إذا جعل اسام للتصديق فقط كام هو مذهبهم« :فإن اإلقرار (أي
باللسان) حينئذ رشط إلجراء أحكام الدنيا من الصالة عليه وخلفه والدفن يف مقابر املسلمني...
ثم اخلالف فيام إذا كان قادرا وترك التكلم ال عىل وجه اإلباء؛ إذ العاجز كاألخرس مؤمن وفاقا،
واملرص عىل عدم اإلقرار مع املطالبة به كافر وفاقا؛ لكون ذلك من أمارات عدم التصديق ،وهلذا
أطبقوا عىل كفر أيب طالب وإن كابرت الروافض» (رشح املقاصد .)421/3
ويظهر من هذا أن التصديق (أو املعرفة) إما أن يكون باقيا يف قلب الشخص فيكون مؤمنا
يف الباطن وإن كفرناه يف الظاهر ،وإما أن ينتفي التصديق (املعرفة) من قلبه فيكون كافرا يف
الظاهر والباطن ،وكل من نص الرشع عىل كفره محلوه عىل الثاين ،وعليه محل التفتازاين كفر أيب
طالب كام ترى ،وهذا مكابرة؛ فإن أبا طالب مات وهو يعلم أن حممدا صادق فيام أتى به ،ومل
يكن كفره عن جهل وعدم علم ،كام هو معلوم عند من له أدنى اطالع عىل أخباره.
( )1وقد سبق أن نقلنا عن الباقالين تقريره هلذا املعنى .
(« )2جمموع الفتاوى» (.)189-88/7
30
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
مما فرضه اهلل ورسوله فهو من اإليامن الواجب ،وفيها ما أحبه ومل يفرضه فهو
من اإليامن املستحب» (.)1
31
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1ثم اختار التفتازاين قوال ثالثا ،وهو أن التصديق املعترب يف اإليامن هو بعينه التصديق
املنطقي وأنه مطابق له يف احلقيقة ،ومستنده أن األشاعرة متفقون عىل أن التصديق املعترب يف
اإليامن هو التصديق اللغوي ،وأن ابن سينا الذي هو القدوة يف فن املنطق رصح بأن التصديق
املنطقي هو بعينه التصديق اللغوي( .رشح املقاصد .)428/3
ونازعه يف ذلك كال الطائفتني؛ أما أصحاب القول الثاين الذين يفرسون التصديق بأمر زائد
عىل العلم ،ويدخلون فيه أعامل القلوب ،فأمرهم واضح .وأما الذين قالوا بأن التصديق اللغوي
املعترب يف اإليامن أخص من التصديق املنطقي فعارضوه من وجوه:
األول :أن التصديق اللغوي املعترب يف اإليامن ال يكون إال باالختيار بخالف املنطقي فقد
حيصل بال اختيار ،وقد سبق مناقشة هذا ،وأن التفتازاين وغريه جيعل االختيار رشطا للتصديق
خارجا عن حقيقته وماهيته.
=
32
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
ثم قال« :وعىل هذا األخري أرص بعض ( )1املعتنني بتحقيق معنى اإليامن،
وجزم بأن التسليم الذي فرس به اإلمام الغزايل التصديق ليس من جنس العلم،
بل أمر وراء معناه»(.)2
وقال أمحد األجهوري« :والصحيح أنه (أي اإليامن) التصديق التابع
للجزم ،أي قبول النفس ورضاها بعد اجلزم» (.)3
الثاين :أن التصديق اللغوي املعترب يف اإليامن قطعي يقيني جازم بخالف املنطقي فقد يكون
ظنيا ،وهذا هو املشهور عند مجهور األشاعرة ،ولكن التفتازاين يرى أن املنطقي أيضا قطعي ال
يقبل الرتدد والتشكيك ،وأيضا املختار عنده وعند شيخه العضد اإلجيي أنه يكفي الظن الغالب
الذي ال خيطر معه احتامل النقيض.
الثالث :أنه يلزمه أن كل ما خرج عن التصديق اللغوي املعترب يف اإليامن أن خيرج عن
التصديق املنطقي فيكون من قسم التصور ،كاملعرفة غري اليقينية واحلاصلة بال اختيار ،والتفتازاين
يس ّلم أن املعرفة احلاصلة بدون إذعان للنسبة وإيقاع باالختيار داخلة يف التصور ،وهلذا قال يف
هتذيب املنطق« :العلم إن كان إذعانا للنسبة فتصديق وإال فتصور» .وكذلك املعرفة غري اليقينية
من التصور عنده؛ ألنه يمنع حصول يقني بدون إذعان .واعرتضه بعضهم بأن منعه هذا مكابرة
للواقع ،وخمالفة لرصيح اآلية﴿ :وجحدوا هبا واستيقنتها أنفسهم﴾.
وسيأيت توضيح هذه املناقشات أثناء ما يأيت ،وانظر :حاشية اخليايل عىل رشح التفتازاين
للعقائد النسفية ص ،91وحاشية الكستيل ص ،157وحاشية السيالكويت عىل حاشية اخليايل
( ،)425/2ضمن «جمموعة احلوايش البهية عىل رشح العقائد النسفية» مطبعة كردستان العلمية
بجاملية مرص .1329
( )1يفهم من هذا التعبري أن أكثرهم ليسوا عىل هذا بل عىل األول ،واملتتبع لكتبهم جيد صدق
هذا ،وعليه فال فرق عند أكثرهم بني املعرفة والتصديق.
(« )2رشح املقاصد» (.)427/3
( )3تقريراته عىل «حتفة املريد عىل جوهرة التوحيد» للباجوري (ص )32مطبعة مصطفى
البايب احللبي بمرص .1358
33
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
(« )1مفتاح اجلنة يف رشح عقيدة أهل السنة» (ص ،)235-234مطبعة الرتقي مرص
.1379
( )2يعني عند األشاعرة ،وعليه مذهب مجهورهم ،واإلطالق الثاين ال يقول به إال قلة
منهم ،واختاره هو.
( )3حاشيته عىل «تقريب املرام يف رشح هتذيب الكالم» ( )292/2املطبعة األمريية ببوالق
مرص .1319
( )4اجلزم :التصديق املنطقي اجلازم أو املعرفة اليقينية ،سواء حصل باالختيار أو
باالضطرار.
34
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
نسبة الصدق إليه يف القلب من غري إذعان وال قبول ،وإال لزم احلكم بإيامن
كثري من الكفار» (.)1
وذكر الزبيدي( )2أن اهلل رتب عىل فعل اإليامن الزما ال يتخلف عنه وهو
سعادة األبد ،ورتب عىل ترك اإليامن ضد الزمه أي شقاوة األبد ،وهذا الزم
الكفر رشعا ،ثم قال:
«قد اعترب يف ترتيب الزم الفعل( )3وجود أمور عدمها مرتتب ضده(،)4
كتعظيم اهلل تعاىل وأنبيائه وكتبه وبيته ،وكاالنقياد( )5إىل قبول أوامره ونواهيه
الذي هو معنى اإلسالم».
ثم ذكر أن األشاعرة واحلنفية اتفقوا عىل أنه ال إيامن يعترب بال إسالم وال
إسالم يعترب بال إيامن( ،)1فيمكن:
( )1عبد الكريم تتان وحممد أديب الكيالين« :عون املريد لرشح جوهرة التوحيد»
( )239/1دار البشائر دمشق ط الثانية ،1419بتقديم :وهبي سليامن الغاوجي وعبد الكريم
الرفاعي.
والعبارة األخرية من قوله (وليس جمرد )...هي يف األصل للسعد التفتازاين ،اقتبسها رشاح
اجلوهرة وترصفوا فيها حتى وصلت إىل هذه الصيغة ،ونصها يأيت مع رشحها عند ذكر
االعرتاض الثاين عىل كالم الغزايل.
( )2وبعض كالمه مأخوذ من كالم ابن حجر اهليتمي يف « الفتح املبني برشح األربعني» ص
. 156
( )3أي يف حتصيل الزم فعل اإليامن ،وهو سعادة األبد.
( )4أي عدمها يقتيض ضد األول ،وهو شقاوة األبد.
( )5عبارة اهليتمي« :واالستسالم باطنا».
35
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1معنى هذا كام قال اهليتمي :أنه «ال يعترب رشعا يف اخلارج إيامن بال إسالم وال عكسه»،
(الفتح املبني ص .)155
( )2فاألقسام املذكورة ثالثة :قول القلب (وهو ما عرب عنه بالتصديق) ،وعمل القلب (وهي
األمور املذكورة من قبل) ،وقول اللسان وهو اإلقرار ،ومل يذكر عمل اجلوارح؛ ألهنم متفقون
عىل أنه ليس من اإليامن.
( )3واألشاعرة متفقون عىل خالف هذا ،فاإليامن عندهم جزء واحد ،هو تصديق القلب
فقط ،بل يرى بعضهم ومنهم الزبيدي أبعد من ذلك وهو أن التصديق يشء أدنى من العلم ،كام
سيأيت.
( )4انظر« :إحتاف السادة املتقني» (.)390/2
36
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
(« )1اإلرشاد إىل قواطع األدلة يف أصول االعتقاد» (ص )158دار الكتب العلمية بريوت
.1416وهنا تنبيهان:
األول :أن األشاعرة ابتدعوا ما يسمى بالكالم النفيس أو النفساين ،وهو معنى قائم بالنفس،
وذلك حني أنكروا أن يكون هلل كالم مسموع ،ثم اضطربوا يف مفهوم ما أثبتوه وحقيقته،
وظهرت عندهم مع ذلك مصطلحات أخرى عىل نسقه مثل :احلكم النفيس أو النفساين ،اخلرب
النفيس أو النفساين ،الكذب النفساين ،الصدق النفساين ،ونحو ذلك .
يرصح هنا بأن كالم النفس ال يثبت إال مع العلم ،وأنه إنام يثبت عىل
الثاين :أن اجلويني ّ
حسب االعتقاد ،وهذا ترصيح بأنه ال يكون مع عدم العلم ،وال يكون عىل خالف املعتقد ،وهذا
يناقض ما أثبتوا به كالم النفس ،وادعوا أنه مغاير للعلم» (انظر :الفتاوى الكربى لشيخ اإلسالم
ابن تيمية .)189/5
(« )2إحتاف السادة املتقني» (.)391/2
37
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1قال شيخ اإلسالم« :ال ريب أن النفس الذي هو القلب يوصف بالنطق والقول كام
يوصف بذلك اللسان ...لكن هذا النطق والكالم الذي هو معنى اخلرب القائم بالنفس؛ هل هو
يشء خمالف للعلم يمكن أن يكون ضدا له ،أو هو هو ،أو هو مستلزم له؟ فدعوى إمكان
مضادته للعلم مما حيس اإلنسان بنفسه خالفه ،ودعوى مغايرته للعلم أيضا فإن اإلنسان ال حيس
من نفسه بنسبتني جازمتني كل منهام يتناول املفردين إحدامها علم واألخرى غري علم.
وهلذا مل يتنازع يف ذلك ال املسلمون وال من قبلهم من األمم ،حتى أهل املنطق الذين يثبتون
نطق النفس ويسموهنا النفس الناطقة ،هم عند التحقيق يردون ذلك إىل العلم والتمييز ،وهلذا ملا
أراد حاذق األشعرية املستأخرين أبو احلسن اآلمدي أن حيدّ العلم ...قال :هو صفة جازمة قائمة
بالنفس يوجب ملن قام به متييزا .ومعلوم أنه إن كان يف النفس معنى للخرب غري العلم فهذا احلد
منطبق عليه.
وهلذا ملا قسم األولون واآلخرون العلم إىل تصور وتصديق ،وجعلوا التصور هو العلم
باملفردات الذي هو جمرد تصورها ،والتصديق العلم باملركبات اخلربية من النفي واإلثبات،
فسموا العلم بذلك تصديقا ،وجعلوا نفس العلم هو نفس التصديق ،ولو كان يف النفس تصديق
لتلك القضايا اخلربية ليس هو العلم لوجب الفرق بني العلم هبا وتصديقها.
=
38
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
قلت :هنا تأيت أربعة احتامالت وهي أن كالم النفس :هل هو يشء دون
العلم ،أو فوقه ،أو مثله ،أو هو نفسه؟ ونفصل القول فيها كالتايل:
وال ريب أن هذا العلم والتصديق قد يعتقده اإلنسان فيعقله ويضبطه ويلتزم موجبه ،وقد
ال يعتقده وال يعقله وال يضبطه وال يلتزم موجبه ،فاألول هو املؤمن والثاين هو الكافر» ،والزم
قول األشاعرة أن الثاين أيضا مؤمن ،وبعضهم يلتزم هذا( .الفتاوى الكربى .)201-200/5
( )1نقله عنه شيخ اإلسالم يف «الفتاوى الكربى» ( ،)189/5وكالم األشعري نقله أيضا
الشهرستاين يف «هناية اإلقدام».
( )2املعروف يف لغة العرب هو التعبري بحديث النفس ال كالم النفس وال قول النفس ،يقول
شيخ اإلسالم ابن تيمية« :والذي يقيد بالنفس :لفظ احلديث ،يقال :حديث النفس ،ومل يوجد
عنهم أهنم قالوا :كالم النفس وقول النفس ،كام قالوا حديث النفس ،وهلذا يعرب بلفظ احلديث
عن األحالم التي ترى يف املنام ،كقول يعقوب عليه السالم﴿ :ويعلمك من تأويل األحاديث﴾،
وقول يوسف ﴿علمتنى من تأويل األحاديث﴾ ،وتلك يف النفس ال تكون باللسان ،فلفظ
احلديث قد يقيد بام يف النفس ،بخالف لفظ الكالم؛ فانه مل يعرف أنه أريد به ما يف النفس فقط»،
(جمموع الفتاوى .)136-135/7
( )3يقول السعد التفتازاين« :من يورد صيغة أمر وهني أو نداء أو إخبارا واستخبارا وغري
ذلك جيد [ذلك] يف نفسه ويدور يف خلده ،وال خيتلف باختالف العبارات بحسب األوضاع
واالصطالحات ...هو الذي نسميه كالم النفس وحديثها ،وربام يعرتف به أبو هاشم ويسميه
اخلواطر ،ومغايرته للعلم واإلرادة سيام يف اإلخبار واإلنشاء الغري الطلبي [كالعجب والرجاء
=
39
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
فهذه أمور أدنى من العلم ،بل ليست بيشء؛ ألهنا غري ثابتة وغري
معتدّ ة(.)1
وعليه فإن من حديث النفس كام هو معلوم ما يوافق عقيدة الشخص
وعلمه ،ومنها أمور ال يعلمها وال يعتقدها وال يظنها ،بل يعلم خالفها ويعتقد
نقيضها ،وهذا جيده كل شخص من نفسه ،فادعاء اجلويني أنه ال يوجد كالم
النفس إال مع العلم أو االعتقاد مكابرة.
والتمني والتساؤل ]..يف غاية الظهور» (رشح املقاصد .)100/2فهذه اخلواطر هي التي
يسموهنا كالم النفس ،وهي التي قالوا :إهنا كالم اهلل سبحانه وتعاىل.
ومع أنه قرر هنا أن كالم النفس مغاير للعلم ،نراه يتناقض ويقرر بعد ذلك أنه أعم من
العلم فيشمله ويشمل معه غريه ،فيقول « :فإن قيل قد ذكر إمام احلرمني واإلمام الرازي
وغريمها :أن التصديق من جنس كالم النفس ،وكالم النفس غري العلم واإلرادة ؟ قلنا :معناه
أنه ليس بمتعني أن يكون علام أو إرادة ،بل كل ما حيصل يف النفس من حيث يدل عليه بعبارة أو
كتابة أو إشارة فهو كالم النفس ،سواء كان علام أو إرادة أو طلبا أو إخبارا أو استخبارا أو غري
ذلك ،وليس كالم النفس نوعا من املعاين مغايرا ملا هو حاصل يف النفس باتفاق الفرق ،وإال
لكان إنكاره إنكارا للتصديق والطلب واإلخبار واالستخبار وسائر ما حيصل يف القلب وليس
كذلك[ ،فإن من ينكر كالم النفس جيعل هذه األمور علوما وإرادات أو خواطر وأفكارا] ،بل
إنكاره عائد إىل أن الكالم هو املسموع فقط دون [إنكار وجود] هذه املعاين»( ،رشح املقاصد
.)430/3
وقد أطال شيخ اإلسالم يف الرد عليهم وتفنيد ادعاءاهتم يف مسألة كالم النفس من عرشات
الوجوه يف الرسالة التسعينية ،وهي موجودة يف املجلد اخلامس من «الفتاوى الكربى».
( )1ولذلك مل يكلف اإلنسان بمراعاهتا ،وال يؤاخذ عليه هبا؛ ألهنا خارجة عن ترصفاته ،قال
« : إن اهلل جتاوز ألمتي عام حدثت به أنفسها ما مل تتكلم به أو تعمل به» ،رواه البخاري وأهل
السنن.
40
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
وهذا االحتامل وإن كان مستبعدا جدا؛ ألن الزمه أن كل من خطر يف باله
صدق النبي فيام أتى به أنه مؤمن ،ولو كان علمه واعتقاده عىل ضد ذلك،
إال أنه مذهب بعضهم ً
فعال ،وإليك الشاهد.
فهذا العامل املرتىض الزبيدي يقول:
«األظهر أن التصديق قول للنفس غري املعرفة()1؛ ألن املفهوم من
التصديق لغة هو نسبة الصدق إىل القائل وهو فعل ،واملعرفة ليست فعال ،إنام
هي من قبيل الكيف املقابل ملقولة الفعل ( ،)2فلزم خروج كل من االنقياد -
الذي هو االستسالم -ومن املعرفة عن مفهوم التصديق لغة ،مع ثبوت
اعتبارمها رشعا يف اإليامن ،وثبوت اعتبارمها له هبذا الوجه عىل -1أهنام جزءان
ملفهومه رشعا -2 ،أو رشطان العتباره إلجراء أحكامه رشعا.
( )1عند اهليتمي « :واألظهر ..أن التصديق قول للنفس مغاير للمعرفة وإن نشأ عنها»
(الفتح املبني ص .)155ومتام كالم الزبيدي مأخوذ عنه أيضا مع ترصف.
( )2يالحظ هنا أن معنى مقولة الكيف :الكيفية الراسخة يف النفس ،ومنها العلم؛ ألنه شبح
للمعلوم راسخ يف النفس ،ويوضح الشيخ صديق حسن خان ذلك فيقول« :ال نزاع يف أنا إذا
علمنا شيئا فقد حتقق أمور ثالثة :صورة حاصلة يف الذهن ،وارتسام تلك الصورة فيه ،وانفعال
أي هذه الثالثة؟ فذهب إىل كل منها طائفة ،ولذلك
النفس عنها بالقبول .فاختلف يف أن العلم ُّ
اختلف يف أن العلم هل هو من مقولة الكيف [عىل القول األول] ،أو االنفعال [عىل الثالث] ،أو
اإلضافة [عىل الثاين]؟ واألصح أنه من مقولة الكيف»؛ ألن الصورة العقلية مغايرة لذي
الصورة اخلارجية بالذات واالعتبار ،وإنام هي شبح له مستقر يف النفس( ..أبجد العلوم -34/1
35دار الكتب العلمية).
41
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
والثاين هو األوجه ()1؛ إذ يف األول يلزم نقل اإليامن من املعنى اللغوي إىل
منتف؛ ألنه خالف األصل،ٍ معنى آخر رشعي ،وهو بال دليل يقتيض وقوعه
فال يصار إليه إال بدليل وال دليل ...وعدم حتقق اإليامن بدون املعرفة
واالستسالم ال يستلزم جزئيتهام ملفهومه رشعا؛ جلواز أن يكونا رشطني
لإليامن رشعا ،وحقيقته التصديق باألمور اخلاصة باملعنى اللغوي ،وإذا تقرر
ذلك ظهر ثبوت التصديق لغة بدوهنام مع الكفر الذي هو ضد اإليامن»(.)2
( )1عبارة اهليتمي« :والثاين هو الراجح» .فإذا كان هؤالء ينفون عن التصديق الذي هو
اإليامن عندهم أن يكون علام (معرفة) أو كيفية راسخة يف النفس ،وينفون أن يكون هو
االستسالم الذي هو االنقياد أو العمل القلبي ،مل يبق إال أنه يشء غري راسخ يف النفس فهو فكر
أو خاطر ،لكن يشرتط إلجراء أحكامه رشعا العلم (املعرفة) واالستسالم (عمل القلب) ،ومها
خارجان عن ماهيته وليسا داخلني يف مفهومه ،وعدم حتقق التصديق بدوهنام ال يستلزم جزئيتهام
ملفهومه ،بل مها رشطان له ،هذا واضح من كالمهم.
ويدل عليه أيضا أن الزبيدي فرس التصديق املعترب يف اإليامن بحد التصديق املنطقي وهو
نسبة الصدق إىل القائل ،والتصديق املنطقي قسم من العلم واملعرفة ،ثم نفى أن يكون التصديق
املعترب يف اإليامن من املعرفة؛ ألهنا من قبيل الكيف .فنفهم من هذا أن نسبة الصدق إىل القائل
ختطر يف النفس فتكون فكرة أو حركة وفعال نفسيا ،ثم ترسخ وتستقر يف النفس ،فبعد رسوخها
فيها هي التصديق املنطقي الذي هو أحد قسمي العلم ،وتكون من مقولة الكيف ،وقبل
رسوخها يف النفس هي التصديق الذي هو اإليامن عند األشاعرة عىل هذا القول .فهذه هي
النتيجة املرة! ونقل التفتازاين عن مجهورهم« :أن التصديق ال يتوقف عىل ثبات االعتقاد بل
جزمه»( ،رشح املقاصد .)452/3
(« )2إحتاف السادة املتقني» ( .)392/2وعبارة اهليتمي« :وأن هذا الثبوت يمكن جمامعة
الكفر له؛ إذ ال مانع عقال أن يصدّ ق ج ّبار نبيا ويقتله لنحو محق أو غلبة هوى ،فقتله ال يدل عىل
انتفاء التصديق به من أصله كام ظنه بعض األئمة ،بل عىل أن ما عنده من التصديق غري ٍ
منج له
رشعا من اخللود يف النار ».
42
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
ومعنى كالم الزبيدي هنا مأخوذ من كالم ابن حجر اهليتمي (.)1
43
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
ال يناسب قول اجلمهور؛ أن املقلد مؤمن مع أنه ليس بعارف ( ،)1فالتحقيق
تفسري التصديق بأنه حديث النفس التابع للجزم» ،ثم قال« :معنى حديث
اإليامن هو املعرفة فقد حصل هلم ،فام معنى أهنم مل يبالوا به بعد ذلك؟ وما مقصود املباالة
املطلوبة يف حقيقة اإليامن التي ال ينعقد إال هبا؟! أما هم فلم يذكروا سوى املعرفة ،فإن كان عند
الباجوري إضافة فيشء آخر خارج عن القول األول.
أما قوله( :ال يتوهم عاقل أنه جيتمع إيامن مع كفر) ،فال أدري هل كالم الباجوري هذا ج ٍ
ار
عىل الفطرة؛ فإن املؤمن العاقل ال يتوهم صحة إيامن شخص باق عىل كفره ،أم هو جمرد متويه؛
فإن مجهور األشاعرة يعتقدون هذا ويرصحون بأن من عرف صدق حممد يف مجيع ما أتى به
وحكم يف نفسه بذلك ،أنه يكون مؤمنا عند اهلل تعاىل ،وإن بقي عىل عبادة األصنام وإهانة
الرسل! ما مل ينتف التصديق (املعرفة) من قلبه! وأن اإلقرار بالشهادتني وعمل اجلوارح إنام هي
رشوط إلجراء أحكام اإلسالم يف الدنيا فقط! والباجوري نفسه مال إىل هذا يف رشح اجلوهرة.
( )1وحاول الباجوري اجلواب عن هذا «بأن التعريف إنام هو لإليامن الكامل» ،وهذا حيدة
ومتويه؛ فإن الكالم هنا يف حقيقة اإليامن وماهيته ،فمن يشرتط منهم اكتساب التصديق
ّ
ينفك عن هذا اإليراد ،ومن ال يشرتط ذلك مل يلزمه هذا اإليراد ،كام اختاره باالستدالل ال
الزبيدي (إحتاف ،)390/2ومال إليه التفتازاين (رشح املقاصد .)453/3وهذا الذي نقله
املفضايل عن اجلمهور هو ما يف رشح املقاصد (.)452/3
ومما يدل عىل كفر العوام عندهم :أهنم اشرتطوا التصديق بالرسل والكتب واملالئكة تفصيال
فيام ورد به الرشع ،قال اهليتمي « :حتى إن من مل يصدق بمعني من ذلك فهو كافر» (الفتح املبني
ص ،)151ومعلوم أن أكثر العوام ال يعرفون ذلك التفصيل .لكنه قال بعد قليل« :املختار الذي
عليه السلف وأئمة الفتوى من اخللف وعامة الفقهاء :صحة إيامن املقلد ،ونقل املنع عن إمام
السنة الشيخ أيب احلسن األشعري كذب عليه ،كام قاله األستاذ أبو القاسم القشريي» ،ثم ذكر أن
العامي آثم يف ترك االستدالل( ،الفتح املبني ص .)165 -164واقرأ متام كالمه (ص -165
.)166
وبعضهم نقل عن مجهورهم تكفري املقلد ،قال عبد الرمحن بن عيل الشهري بشيخ زاده:
« وذهب مجهور مشايخ األشاعرة منهم الشيخ األشعري والقايض أبو بكر الباقالين واألستاذ أبو
=
44
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
النفس :أن تقول ( :)1رضيت بام جاء به النبي ، ونفس الكافر ال تقول
ذلك»(.)2
ففرس حديث النفس بالرضا وهو عمل قلبي ،وذكر أنه يكون تابعا
للجزم ،فهو أمر آخر بعد العلم يطلب منه الشخص.
إسحاق اإلسفرائيني وإمام احلرمني إىل عدم االكتفاء بالتقليد يف العقائد الدينية ،كام يف رشح
اجلوهرة لإلمام اللقاين ،ورشح أم الرباهني لإلمام السنويس ،ورشح األمايل للشيخ عيل القاري.
ويف الرشح القديم لعمدة النسفي :قال الشيخ األشعري :رشط صحة اإليامن أن يعرف كل
مسألة بدليل فطعي عقيل .ويف رشح أم ال رباهني نقال عن الشامل إلمام احلرمني :أن من عاش
بعد البلوغ زمانا يسعه النظر فيه ومل ينظر مل خيتلف يف عدم صحة إيامنه»( ،كتاب «نظم الفرائد
ومجع الفوائد يف بيان املسائل التي وقع فيها االختالف بني املاتريدية واألشعرية يف العقائد مع
ذكر أدلة الفريقني» ص.)41-40
ثم ذكر أن املاتريدية استدلوا -1 :بقبول النبي وأصحابه إليامن األعراب -2 ،وأن العامة
يدخلون اجلنة بالنص واإلمجاع -3 ،وأن عند العوام القدر الكايف من املعرفة؛ فإن فطرهتم جبلت
عىل التوحيد ،وإن عجزوا عن التعبري عنه باصطالح املتكلمني ،والعلم بالعبارة علم زائد.
وذكر أن األشاعرة استدلوا -1 :بأن العلم (اجلزم) ذايت للتصديق أو رشط له ،وال علم
للمقلد ،وسلم هلم أن املقلد ليس عنده كامل العلم ،إال أنه قد حصل له العلم بوجه ما من حيث
هو مصدق( ،فعنده الظن الغالب) فيكتفى بذلك كاألعراب -2 .وبأن اإليامن علم موقوف عىل
االستدالل ،وأجيب بأن التصديق ليس موقوفا عىل العلم الكامل حتى يتوقف عىل االستدالل،
بل عىل العلم بوجه ما ،وذلك حاصل للمقلد -3 .وبأن اإليامن معرفة االعتقاد عىل وجه يؤمن
به من الشبه ،وأجيب بأن هذا تسليم بأنه حصل له الدخول يف اإليامن حاال ،وذا يكفي ،ثم توقي
الشبهات يشء آخر بعد ذلك .هذا ملخص ما ذكره ،ويالحظ القصور يف جواب املاتريدية
لألشاعرة؛ نتيجة اتفاقهم يف أصول اإليامن كتفسريه باملعرفة.
( )1أي :أن تقول النفس ،فهو حديث نفيس ال لفظي كام هو ظاهر ،اهـ الباجوري.
( )2حاشية الباجوري عىل «كفاية العوام يف علم الكالم» (ص ،)79دار إحياء الكتب
العربية القاهرة د.ت.
45
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
46
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
هذا ،فتقدير معنى للخرب ليس هو العلم وبابه باطل ممتنع ( ،)1إال أن يكون من
باب األفكار واخلواطر.
وإذا كان من األمور املسلمة أن التناقض مالزم للمذهب األشعري فهذه
املسألة من أوضح األمثلة عىل ذلك؛ فها هم «مل يكتفوا بأن جعلوا العلم ينايف
الكذب النفساين ،حتى جعلوه يوجب الصدق النفساين؛ فيمتنع وجود العلم
بدون الصدق ،فصار هذا مبطال ملا أثبتوا به اخلرب النفساين من أنه يمكن ثبوته
بدون العلم وعىل خالف العلم وهو الكذب.
وهم كام احتجوا بالعلم عىل انتفاء الكذب النفساين وثبوت الصدق
النفساين فقد احتجوا به أيضا عىل أصل ثبوت الكالم النفساين» ،وقالوا :إن
العلم دال عىل الكالم الصدق؛ «إذ العامل باليشء ال خيلو عن نطق النفس بام
يعلمه ،وذلك هو التدبري واخلرب ...فقد جعلوا العلم مستلزما للكالم بنوعيه:
اخلرب والصدق ،والتدبري الذي هو الطلب ،وهذا إىل التحقيق أقرب من
غريه»(.)2
ويقال هلم أيضا « :لو كان للخرب معنى ليس هو العلم ونحوه :فإما أن
يكون العلم مستلزما لصدقه أو ال يكون:
( )1انظر« :الفتاوى الكربى» ( ،)185/5وقد سبق أن نقلنا بيان شيخ اإلسالم هلذا األمر يف
تعليق قبل ذكر االحتامالت ،وسبق أيضا بيان تناقض التفتازاين يف كون العلم مغايرا لكالم
النفس أو جزءا منه يف تعليق أثناء االحتامل األول.
(« )2الفتاوى الكربى» لشيخ اإلسالم ابن تيمية (.)195-194/5
47
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
-فإن كان مستلزما لصدقه مل يعلم حينئذ أنه غري العلم؛ إذ ال دليل عىل
ذلك إال إمكان تقدير الكذب مع العلم ،فإذا كان العلم مستلزما للصدق
النفساين منافيا للكذب النفساين كان هذا التقدير ممتنعا ،فال يعلم حينئذ ثبوت
معنى للخرب غري العلم ال يف حق اخلالق وال يف حق العباد ،فيكون قائل ذلك
قائال بال علم وال دليل أصال يف باب كالم اهلل وخربه ،وهذا حمرم باالتفاق،
وهذا بعينه يبطل ببطالن قوهلم ،أي أهنم قالوا بال حجة أصال.
-وإن مل يكن العلم مستلزما للصدق النفساين وال منافيا للكذب النفساين،
مل يكن هلم طريق إىل إثبات كالم نفساين هو صدق؛ ألن العلم ال يستلزمه وال
ينايف ضده ،فال يستدل عليه بالعلم ،وسائر ما يذكر غري العلم فيدل عىل أن اهلل
صادق يف اجلملة ،وأن الكذب ممتنع عليه ،وهذا مما ال نزاع بني الناس فيه،
ولكنهم ال يمكنهم إثبات كالم نفساين هو صدق ،وقيام دليل عىل أن اهلل
صادق ،كقيام دليل عىل أن اهلل متكلم ،وهذا ال ينفعهم يف إثبات الكالم
النفساين الذي ادعوه منفردين به ،فكذلك هذا ال ينفعهم يف إثبات معنى اخلرب
النفساين الصادق الذي انفردوا بإثباته من بني فرق األمة ،وابتدعوه وفارقوا به
مجاعة املسلمني ،كام أقروا هم هبذا الشذوذ واالنفراد ،كام ذكره يف
املحصول»(.)1
48
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
49
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
ر
واالعتاضات عليه ال
كالم الغز ي
واستشهد القائلون بإدخال أعامل القلوب يف التصديق أيضا بقول أيب
حامد الغزايل يف معنى اإليامن اللغوي« :واحلق فيه أن اإليامن عبارة عن
التصديق( ،)1قال اهلل تعاىل﴿ :وما أنت بمؤمن لنا﴾ أي بمصدق ،واإلسالم
عبارة عن التسليم( )2واالستسالم( )3باإلذعان واالنقياد( )4وترك التمرد واإلباء
والعناد ،وللتصديق حمل خاص وهو القلب ،واللسان ترمجان.
وأما التسليم فإنه عام يف القلب واللسان واجلوارح()5؛ فإن كل تصديق
بالقلب فهو تسليم ،وترك اإلباء واجلحود ،وكذلك االعرتاف باللسان،
وكذلك الطاعة واالنقياد باجلوارح .
فموجب اللغة أن اإلسالم أعم ،واإليامن أخص ،فكان اإليامن عبارة عن
أرشف أجزاء اإلسالم؛ فإذن كل تصديق تسليم ،وليس كل تسليم
تصديقا»(.)1
( )1قال الشارح الزبيدي« :هو (أي التصديق) :أن تنسب باختيارك الصدق إىل املخرب أو
املخرب عنه»( ،إحتاف السادة املتقني .)366/2
( )2قال« :هو ترك االعرتاض فيام ال يالئم».
( )3قال« :هو االنقياد الظاهر فقط والدخول يف السلم».
( )4قال« :أي االنجذاب بالباطن».
( )5يظهر أن التسليم عند الغزايل يدخل فيه :قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل
اجلوارح ،والتصديق هو قول القلب ،وعىل هذا فهو جزء من التسليم ،وهذا واضح يف كالم
الغزايل.
50
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
وعبارة الغزايل هذه جمملة ،ومع أهنا أقل احتامال من عبارة اجلويني
السابقة ،إال أن االعرتاضات عليها أكثر.
فهذه العبارة يرد عليها احتامالن( ،)2ومها هل التسليم يقصد به :يشء فوق
العلم أو العلم نفسه؟ ونفصلهام كالتايل:
51
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1قوله( :له) إن كان الضمري يرجع إىل النبي فاملعنى إثبات عمل القلب ،وإن كان
يرجع لوقوع النسبة فهو التصديق املنطقي ،وليس فيه إثبات عمل القلب ،ويؤيد االحتامل الثاين
قوله بعد قليل( :مل يكونوا أذعنوا لذلك) ،ثم بقية الكالم تؤيد االحتامل األول ،وغالب كالم
األشاعرة يف هذا الباب إما جممل أو مضطرب.
( )2علق بعضهم هنا (وهو حممد يوسف الشيخ األستاذ بكلية أصول الدين) فقال:
«الصواب ترك هذا؛ ألن األعامل غري معتربة يف اإليامن وحقيقته يف هذا املذهب».
(« )3إحتاف املريد بجوهرة التوحيد» (ص ،)33مكتبة القاهرة بالقاهرة .1379
( )4وهذه األمور قد يراد هبا أعامل القلوب ،فيكون املرجاين من القائلني بإدخاهلا يف
التصديق ،وقد يراد هبا التصديق املنطقي احلاصل باالختيار ،وتعترب إلخراج التصديق املنطقي
احلاصل بال اختيار .ويؤيد االحتامل الثاين أن كالم اجلرجاين هذا جاء بعد ما ذكر ما وقع بني
التفتازاين الذي جعل التصديق املعترب هو بعينه التصديق املنطقي ،وبني مجاعة من األشاعرة
=
52
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
وقال حسن جلبي« :من حصل له تصديق بال اختيار إذا التزم العمل
بموجبه يكون إيامنا اتفاقا ،ولو صدق النبي بالنظر يف معجزاته اختيارا ومل
يلتزم العمل بموجبه فهو كافر اتفاقا ،فعلم أن املعترب يف اإليامن الرشعي هو
االختيار يف التزام موجب التصديق ال يف نفسه ،وهذا هو التسليم الذي اعتربه
بعض الفضالء أمرا زائدا عىل التصديق ،فليتأمل» (.)2
الذين قالوا بأهنام متغايران؛ ألن التصديق الرشعي يعترب فيه االختيار ،وإن كان هذا ال يقتيض
تغايرا؛ فإن املنطقي أيضا قد يعترب فيه االختيار باالتفاق ،فيكون أعم من الرشعي املزعوم،
ويكون الرشعي نوعا من املنطقي ،كام سبق.
( )1أي عىل كل من عمل القلب وقوله (العلم) ،أو عىل كل من األعم واألخص كام سبق.
(حاشية املرجاين عىل رشح الدواين للعقائد العضدية 288/2دار الطباعة العامرة .)1317
( )2حاشية جلبي عىل رشح الرشيف اجلرجاين للمواقف العضدية ( )246/3دار الطباعة
العامرة.
53
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
والتصديق؛ هو التسليم ،إال أنه يعود باآلخرة إىل التصديق عىل ما يراه أهل
التحقيق» (.)1
وقال التفتازاين أيضا« :جيب أن يعلم أن معنى التصديق :الذي يقال له
بالفارسية :كرويدن ،وهو املراد بالتصديق يف علم امليزان عىل ما رصح به ابن
سينا ،وحاصله أنه إذعان وقبول بوقوع النسبة أو ال وقوعها ،وتسميته تسليام
زيادة توضيح للمقصود ،وجعله مغايرا للتصديق املنطقي وهم ،وجعل هذا
التصديق حاصال للكفار ممنوع!» (.)2
وقال التفتازاين أيضا« :وليس حقيقة التصديق أن يقع يف القلب نسبة
الصدق إىل اخلرب أو املخرب من غري إذعان وقبول( ،)3بل هو إذعان وقبول
لذلك( ،)4بحيث يقع عليه اسم التسليم( ،)5عىل ما رصح به اإلمام الغزايل رمحه
(« )1رشح املقاصد» ( ،)420/3علام بأن التفتازاين يرصح بأن التصديق املعترب يف اإليامن
هو املنطقي بعينه ،وانظر« :رشح العقائد النسفية» له (ص.)159
( « )2نظم الفرائد ومجع الفوائد يف بيان املسائل التي وقع فيها االختالف بني املاتريدية
واألشعرية يف العقائد» (ص )38املطبعة األدبية مرص .1317وانظر« :التلويح رشح التوضيح
عىل التنقيح» ( )317 /2دار الكتب العلمية.
( )3ألن ذلك الوقوع قد يكون من باب اخلواطر أو الشك.
( )4أي لوقوع النسبة يف القلب ،بحيث تستقر فيه وجيزم هبا الشخص.
( )5ألن صحة هذه النسبة أصبحت عنده من املسلامت ،وال ينفي هذا أن يكون معه جحود
ملن صحت له النسبة وعدم انقياد له الستكبار أو سفسطة.
54
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
اهلل( ،)1وباجلملة هو املعنى الذي يعرب عنه بالفارسية بكرويدن ،وهو معنى
التصديق املقابل للتصور» (.)2
قال حممد بن أسعد جالل الدين الدواين« :واعلم أنه لو فرس التصديق
املعترب يف اإليامن بام هو أحد قسمي العلم فال بد فيه من اعتبار قيد آخر؛
ليخرج الكفر العنادي ،وقد عرب عنه بعض املتأخرين بالتسليم واالنقياد،
أن يفرس التصديق بالتسليم الباطني ()3
وجعله ركنا من اإليامن ،واألقرب
واالنقياد القلبي ،ويقرب منه ما قيل( :)4إن التصديق أن تنسب باختيارك
الصدق إىل أحد ،وهو حيوم حول ذلك وإن مل يصب املحزة» (.)5
وع ّلق الكلنبوي عىل قوله( :واألقرب )...فقال« :أي أقرب من تفسري
التصديق بالتصديق الذي هو أحد قسمي العلم مع االحتياج إىل قيد آخر،
( )1ويدل عىل أن التفتازاين مل يرد هبذه الكلامت (اإلذعان والقبول والتسليم) سوى تعلقها
بالنسبة (فتكون من قول القلب ومن قبيل العلم) ال كوهنا ملن وقعت له النسبة (فتكون من عمل
القلب وأمرا زائدا عىل العلم)؛ أمران :أ -إشارته يف قوله (لذلك) فهو يشري إىل وقوع النسبة إذ مل
يذكر غري ذلك .ب -تفسريه بعد ذلك بالتصديق املنطقي.
(« )2رشح العقائد النسفية» (ص.)152
( )3هذا يدل عىل أنه خيتار أمرا آخر خيالف تعبري البعض بالتسليم واالنقياد ،وقد ال يظهر
كبري فرق بني اختياره وتلك العبارة ،ولكن اللبيب يفهمه من قوله( :وجعله ركنا )..كأنه ينكر
عليه ،ثم تعقيبه اختياره بقوله( :ويقرب ،)...والكلنبوي سيبني الفرق ،كام يأيت أعاله.
( )4والقائل هو صدر الرشيعة .انظر :حاشية اجلندي ضمن «جمموعة احلوايش البهية عىل
رشح العقائد النسفية» ( .)179/1وينظر :التوضيح ملتن التنقيح مع التلويح (.)360/1
(« )5رشح الدواين للعقائد العضدية» مع احلوايش ( )291 ،288/2دار الطباعة العامرة
.1317
55
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
ومن تفسري القيد اآلخر بالتسليم واالنقياد ليكون اإليامن جمموع التصديق
القلبي والتسليم واالنقياد :أن يفرس التصديق املأخوذ يف مفهوم اإليامن
بالتسليم الباطني واالنقياد القلبي ،وإنام كان أقرب من التفسري بام هو أحد
قسمي العلم؛ ألنه مغن عن قيد آخر ،...ومن تفسري القيد اآلخر هبام مع جعله
ركنا؛ ألن ذلك التسليم واالنقياد الباطنني ليسا بركن ،بل رشط خارج» (.)1
وقد طال النزاع بني صدر الرشيعة ومعارصيه يف تفسري التصديق املعترب
يف اإليامن ،فكان يقول هو باعتبار االختيار فيه ،ولذلك ينفي أن يفرس
بالتصديق امليزاين ،ووافقه بعضهم ،وقد نقد كالمه التفتازاين وغريه (.)2
وكان نظام الدين عبد الرمحن اهلروي يقول باعتبار التسليم يف اإليامن
والصدر ينكر هذا ،ولكن بامذا كان يقصد اهلروي بالتسليم؟
جييبنا املرجاين فيقول« :جيب أن يعلم أن مراد اهلروي ليس إثبات ركن
ثالث( )3يف اإليامن ،بل مراده أنه البد يف اإليامن أن يكون حصوله عىل سبيل
االختيار؛ ألنه رأس العبادات وأول الواجبات» (.)4
( )1حاشية الكلنبوي عىل رشح الدواين ( .)291/2ورشح الكلنبوي ظاهر من عبارة
الدواين ملن تأمله.
( )2ونقاشهم هذا مل يكن يف إدخال أعامل القلوب يف التصديق أو عدمه ،كام توهم بعض
املعارصين من أهل السنة ،بل هم متفقون عىل أهنا ال تدخل فيه ،ومتفقون عىل اعتبار االختيار،
وإنام اختلفوا يف كون االختيار ركنا من التصديق أو رشطا له؟!
( )3يعني غري التصديق واالختيار.
( )4حاشية املرجاين عىل رشح الرشيف اجلرجاين للمواقف ( ،)288/2وانظر« :نظم
الفرائد ومجع الفوائد» (ص. )38
56
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1فهم بعض الباحثني من هذا أنه يثبت عمل القلب ،واملتأمل لبقية الكالم يظهر له أنه ال
يريد شيئا زائدا عن اإلدراك سوى حصوله باالختيار ،فهو يريد إيقاع النسبة يف القلب ال جمرد
وقوعها ،فتأمل!
( )2لكونه إيقاعا حيصل باختيارها ،وليس من باب العلم الذي قد حيصل بال اختيار ،هذا
الذي يظهر أنه املراد من جمموع كالمه ،وهو املوافق لتقريرات األشاعرة وتفصيالهتم ،كام يف
رشح املقاصد وغريه.
( )3حممد يوسف الشيخ يف تعليقه عىل« :إحتاف املريد» (ص.)33
57
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1انظر ما سبق من إنكار صدر الرشيعة عىل اهلروي ،قبل قليل.
58
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
59
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
60
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1ورصح التفتازاين أن هذه املعرفة أو التصديق أو اليقني ال حتصل بدون إذعان ،ويعني
اإلذعان للنسبة ،كام قال يف (هتذيب املنطق)« :العلم إن كان إذعانا للنسبة فتصديق وإال
فتصور» ،واهتمه بعضهم باملكابرة وخمالفة رصيح قوله تعاىل﴿ :وجحدوا هبا واستيقنتها
أنفسهم﴾ ،وهم خمطئون؛ فإن كانوا يدّ عون أن هذه املعرفة (معرفة أن حممدا صادق فيام أتى به)
حاصلة بدون إذعان للنسبة (نسبة الصدق إليه) فهم املكابرون ،وإن كانوا يدّ عون أهنا حاصلة
بدون إذعان ملحمد (املدعي أو املخرب) واستسالم وانقياد له فهذا أمر آخر مل ينفه التفتازاين ،وال
تكلم عنه؛ ألنه غري داخل يف حقيقة اإليامن عنده وعند مجهور األشاعرة ،بل هو رشط إلجراء
األحكام يف الدنيا ،أما اآلية فيأيت توضيحها .وانظر« :جمموعة احلوايش البهية عىل رشح العقائد
النسفية» (.)425/2
61
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1والتصديق املنطقي(الذي هو قول القلب) سواء أحصل بالكسب واالختيار أو بدوهنام،
وسواء أكان ظنيا أم يقينيا ،هو إذعان للنسبة ووقوعها وحصوهلا فقط ،ثم قد يكون معه إذعان
=
62
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
وبغض له
ٌ ملن حصلت له النسبة وحب له وانقياد ،وقد يكون معه جحود ملن حصلت له النسبة
وعدم انقياد له ،كحال فرعون وأيب جهل.
وهبذا تعلم معنى قوله تعاىل﴿ :وجحدوا هبا﴾ ،فإهنم ما جحدوا وال أنكروا صدق موسى
َ
وصحة معجزته وصدقه فيها ،بل أذعنوا هلذه النسبة ،كام تدل عليه بقية اآلية: فيام أتى به
﴿واستيقنتها أنفسهم﴾ أي حصلت يف أنفسهم املعرفة اليقينية بصدق موسى فيام أتى به ،ولذلك
قال موسى لفرعون﴿ :لقد علمت ما أنزل هؤالء إال رب الساموات واألرض بصائر﴾،
فاجلحود الذي حصل منهم هو عدم اإلذعان ملوسى عليه السالم وعدم االنقياد ألمره ،وهذا أمر
زائد عىل املعرفة ،فاإلذعان للنسبة وصدقها يشء (وهو من قول القلب ،وهو املعترب يف اإليامن
عند مجهور األشاعرة) ،وهو حاصل لفرعون وأمثاله ،ولذلك جزم بعضهم بثبوت إيامنه،
واإلذعان للمخرب واالنقياد له يشء آخر (وهو من عمل القلب ،وهو املعترب يف اإليامن عند أهل
السنة وبعض األشاعرة) ،وهو غري حاصل آلل فرعون.
وكذلك السوفسطائي قد يس ّلم يف قلبه صدق املخرب يف خربه وحيصل له اإلذعان للنسبة ،ثم
ال يذعن للمخرب وال ينقاد له ،بل يكابر يف الظاهر ويعاند باللسان ،أما إذا مل حيصل له اإلذعان
للنسبة فليس عنده معرفة وال يقني وال تصديق؛ ألن التصديق ليس إال اإلذعان للنسبة .وهذا
كله بسط ملا قرره التفتازاين ،وهو متناسق كام ترى ،والذين انتقدوه مضطربون؛ إذ اختلط عليهم
نوعا اإلذعان ونحوه من األلفاظ السابقة ،وكثريا ما حيصل االشتباه يف باب اإليامن وغريه بسبب
عدم حترير األلفاظ ومعانيها.
63
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
-ثم اختلفوا يف احلال الثانية املذكورة إذا كانت يقينية (االعتقاد اجلازم)
هل هي تصديق لغوي ومنطقي فتعترب يف اإليامن؟ أم هي تصديق منطقي فقط
وغري داخلة يف التصديق اللغوي املعترب يف اإليامن؟
أ -فذهب مجهورهم إىل أهنا غري داخلة يف التصديق املعترب يف اإليامن؛
ألن حقيقته ال حتصل إال بالكسب واإلذعان للنسبة باالختيار ،وزعم
السيالكويت أهنم اتفقوا عىل ذلك ،ومل يصب(.)1
ب -وذهب بعضهم كالتفتازاين ومن تبعه إىل أن التصديق اللغوي
املعترب يف اإليامن هو بعينه التصديق املنطقي ،وأن االختيار ليس جزءا من
ماهية التصديق ال يف اللغة وال يف املنطق ،بل غاية األمر أن يكون رش ًطا
للتصديق املعترب يف اإليامن.
وهذا كام أن مجيع األشاعرة يسلمون بأن التصديق املعترب يف اإليامن
أخص من التصديق اللغوي؛ ألن الثاين مطلق واألول مقيد من جهة أنه
ُّ
بأمور خمصوصة ،ومل جيعلوا ذلك موجبا للمغايرة بينهام ،بل يقولون:
التصديق اللغوي هو املعترب يف اإليامن .فكذلك يقال :التصديق اللغوي
( )1وقال الزبيدي« :التصديق بالقلب :هو قبول القلب وإذعانه ملا علم بالرضورة أنه من
دين حممد من غري افتقار إىل نظر واستدالل ،وهو املختار عند مجهور األشاعرة ،وبه قال
اإلمام أبو منصور املاتريدي» ،وقال مرة« :مسمى اإليامن هو جمرد ما عقد عليه القلب من
التصديق والقبول واإلذعان ملا علم بالرضورة( ،»...إحتاف السادة املتقني .)378 ،375/2
64
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1وزعم عبد احلكيم السيالكويت اتفاق األشاعرة عىل أن املعرفة احلاصلة بال اختيار
وكسب ليست من التصديق اللغوي ،ثم زعم أن التفتازاين سلم ذلك وأخرجها من التصديقٍ
أيضا وجعلها من قسم التصور ،وهو خمطئ يف كال الزعمني .ثم لو كان التفتازاين جيعلها
املنطقي ً
من التصور ملا نازع يف حصوهلا بدون إذعان للنسبة ،كام الحظ بعض املعلقني عىل حاشيته.
انظر :حاشية السيالكويت عىل حاشية اخليايل يف «جمموعة احلوايش البهية عىل رشح العقائد
النسفية» (.)425/2
( )2واللغوي جزء منه أو مطابق له عىل ما سبق.
65
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
ر
االعتاضات عليه صحة كالم شيخ اإلسالم يف المسألة ورد
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية« :إن الفرق بني معرفة القلب وبني جمرد
تصديق القلب اخلايل عن االنقياد الذي جيعل قول القلب؛ أمر دقيق ،وأكثر
العقالء ينكرونه (.)1
وبتقدير صحته ال جيب عىل كل أحد أن يوجب شيئني ال يتصور الفرق
بينهام( ،)2وأكثر الناس ال يتصورون الفرق بني معرفة القلب وتصديقه،
ويقولون :إن ما قاله ابن كالب واألشعري من الفرق كالم باطل ال حقيقة له،
وكثري من أصحابه اعرتف بعدم الفرق(.)3
وعمدهتم من احلجة إنام هو خرب الكاذب ،قالوا :ففي قلبه خرب بخالف
علمه ،فدل عىل الفرق!
فقال هلم الناس :ذاك بتقدير خرب وعلم ليس هو علام حقيقيا وال خربا
حقيقيا ،ولما أ ثبتوه من قول القلب املخالف للعلم واإلرادة إنام يعود إىل تقدير
علوم وإرادات ال إىل جنس آخر خيالفها.
( )1وهذا تلطف من الشيخ رمحه اهلل ،ولو قال :وكل العقالء ينكرونه ،ملا جانب الصواب،
ولكنه اعتربهم من العقالء.
( )2وذلك ألن مجهورهم يقولون :إن اإليامن هو تصديق القلب فقط ويشرتط له املعرفة أو
العلم ،وعند التحقيق التصديق عندهم هو املعرفة.
( )3ومنهم السعد التفتازاين كام سبق.
66
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
وهلذا قالوا :إن اإلنسان ال يمكنه أن يقوم بقلبه خرب بخالف علمه ،وإنام
يمكنه أن يقول ذلك بلسانه ،وأما أنه يقوم بقلبه خرب بخالف ما يعلمه فهذا
غري ممكن ،وهذا مما استدلوا به عىل أن الرب تعاىل ال يتصور قيام الكذب
بذاته...
واملقصود هنا :أن اإلنسان إذا رجع إىل نفسه عرس عليه التفريق بني
علمه بأن الرسول صادق ،وبني تصديق قلبه تصديقا جمردا عن انقياد
وغريه من أعامل القلب بأنه صادق»(.)1
وعىل هذا األساس نجد أن شيخ اإلسالم يصنف األشاعرة مع اجلهمية
عند ذكر مذاهب الطوائف يف اإليامن وال يفرق بينهام ،فيقول مثال:
« وعند اجلهمية اإليامن جمرد تصديق القلب وعلمه ،هذا قول جهم
والصاحلي واألشعري يف املشهور عنه وأكثر أصحابه» (.)2
وملا ذكر أهنم محلوا أنواع الكفر التي هي من أعامل القلوب كاإلباء
واالستكبار عىل أهنا إنام تكون كفرا الستلزامها عدم التصديق الذي هو
الكفر احلقيقي ،قال:
« وهو أصل قول جهم والصاحلي واألشعري يف املشهور عنه( )1وأكثر
أصحابه كالقايض أيب بكر ومن اتبعه ،ممن جيعل األعامل الباطنة والظاهرة من
( )1جمموع الفتاوى ( .) 400-398/7وقد سبق أن مجهور األشاعرة عىل أن هذا التصديق
موافق للتصديق املنطقي الذي هو أحد قسمي العلم ،وأن اختالفهم يرجع إىل كونه مطابقا له أو
أخص منه؛ ألن الذي يعتربونه يف اإليامن حيتاج إىل االختيار واليقينية.
(« )2منهاج السنة النبوية» (.)288/5
67
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1سبق التنبيه عىل أن أبا احلسن األشعري رجع عن هذا القول إىل قول أهل السنة ،كام
قرره يف آخر كتبه كاإلبانة.
( )2جمموع الفتاوى (.)535/7
( )3جمموع الفتاوى (.)195/7
68
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
حجة بنص أو إمجا ع أن هذا كافر باطنا وظاهرا قالوا :هذا يقتيض أن ذلك
مستلزم للتكذيب الباطن ،وأن اإليامن يستلزم عدم ذلك» (.)1
هذا ما قرره شيخ اإلسالم رمحه اهلل ،وهو خالصة التحقيق يف املسألة ،وكام
سبق غري مرة فإن األشاعرة أكثر الناس اضطرا ًبا يف كثري من عقائدهم ،مثل
عقيدهتم يف هذه املسألة ويف القرآن وأسامء اهلل احلسنى والقدر وغري ذلك،
وغري املتعمق يف كتبهم املتأمل ألقواهلم يستشكل مثل قول شيخ اإلسالم هذا،
وهذا ما وقع فيه بعض الباحثني.
االعتراض األول:
فهذا أحدهم يتساءل ويتجاوب فيقول « :لكن هل ينطبق هذا عىل
متأخري األشاعرة؟ وهل يثبتون تصديقا جمردا من أعامل القلوب؟
واحلق أن الناظر يف كتب هؤالء املتأخرين يتبني له أهنم ال يثبتون تصديقا
جمردا عن أعامل القلوب ،بل يدخلون يف التصديق :اإلذعان واالنقياد والقبول
والرضا ( ،)2ويفرقون بينه وبني املعرفة التي أثبتها جهم (.)1
( )1جمموع الفتاوى ( .) 557/7وقد سبق أن نقلنا عنهم ترصحيهم بأن التصديق حاصل
لبعض الكفار ،وأن السجود للصنم ونحوه أمارات نحكم هبا كفره فيام يتعلق بأحكام الدنيا فقط
دون ما بينه وبني اهلل تعاىل.
( )2وقد سبق أن هذه الكلامت( :اإلذعان والقبول واالنقياد والرضا ونحوها) ال يريد هبا
وكل ذي معرفة جازمةمجهورهم أعامل القلوب ،بل بمعنى تعلقها بوقوع النسبة بني الشيئنيُّ ،
جيد نفسه تقبلها وتنقاد وترىض وتذعن إلثباهتا ،وقد يكون مع ذلك يبغض مقتضاها ،ويقاتل
=
69
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
كام أهنم يقررون كفر كثري من املرشكني وأهل الكتاب الذين كانوا يعرفون
احلق وال ينقادون له(.)3(»)2
وهذا كالم بعيد عن التحقيق ،يبطله ما ذكره الباحث نفسه بعد قليل،
حيث قال:
« واحلاصل أن األشاعرة يشرتطون يف اإليامن :اإلذعان واالنقياد
والقبول وترك العناد والتكرب ،لكنهم جيعلون ذلك نفس «التصديق»( ،)4ثم
يتكلفون يف إجياد الفرق بني «املعرفة» و«التصديق».
ولو قالوا :إن التصديق جيب أن يصحبه إذعان وانقياد وقبول( ،)5لسهل
األمر ،لكنهم يعلمون أن ذلك مبطل ألصلهم الذي بنوا عليه إخراج العمل
من جيزم أنه عىل احلق؛ ألغراض أخرى ،كام كان اليهود وكثري من املرشكني ،فهم ال يعنون هبذه
األلفاظ شيئا زائدا عىل التصديق املجرد ،كام يعرتفون به هم.
( )1سبق أنه ال يوجد فرق سامل بني تصديقهم ومعرفة اجلهمية ،إال عند من يدخلون أعامل
القلوب يف اإليامن منهم ،وهم رشذمة قليلة ينكرون عليها ويتربؤون منها.
( )2مجهورهم يف هذا بني أمرين :إما أن يثبتوا كفرهم مطلقا بناء عىل أن التصديق انتفى من
قلوهبم ،وإما أن يقولوا :هم كفار يف الظاهر ويف أحكام الدنيا ومؤمنون يف الباطن ويف أحكام
اآلخرة ،وقد سبق تقرير هذا.
(« )3اإليامن عند السلف وعالقته بالعمل وكشف شبهات املعارصين» ملحمد بن حممود آل
خضري (.)251/1
( )4مجهورهم بني أمرين :إما أن يريدوا هبا أعامل القلوب ،فيجعلوهنا رشوطا خارجة عن
حقيقة اإليامن كعمل اجلوارح ،وإما أن يريدوا هبا نفس التصديق فيدخلوهنا يف حده.
( )5يعني إذا كانوا يريدون هبا أعامل القلوب ،وإال فهم يقولون هذا تأكيدا وتوضيحا
للتصديق فقط ،وال يريدون به شيئا زائدا.
70
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
من اإليامن ،وهو -1 :الزعم بأن اإليامن لغوي ،وأن الرشع مل يغري معناه الذي
هو التصديق ،ومل يترصف فيه -2 ،وأن اإليامن يشء واحد.
وهلذا ملا نقل شيخ اإلسالم عن بعضهم القول بأهنم( :اختلفوا يف إضافة
ما ال يدخل يف مجلة التصديق إليه لصحة االسم ،فمنها ترك قتل الرسول،
وترك إيذائه ،وترك تعظيم األصنام ،فهذا من الرتوك ،ومن األفعال :نرصة
الرسول ،والذب عنه ،وقالوا :إن مجيعه يضاف إىل التصديق رشعا .وقال
آخرون :إنه من الكبائر ،ال خيرج املرء باملخالفة فيه عن اإليامن).
علق شيخ اإلسالم بقوله( :قلت :وهذان القوالن ليسا قول جهم ،لكن
من قال ذلك فقد اعرتف بأنه ليس جمرد تصديق القلب ،وليس هو شي ًئا
واحدً ا ،وقال :إن الرشع ترصف فيه ،وهذا هيدم أصلهم ،وهلذا كان حذاق
هؤالء كجهم والصاحلي وأيب احلسن والقايض أيب بكر عىل أنه ال يزول عنه
اسم اإليامن إال بزوال العلم من قلبه) .
ثم نقل عن أيب املعايل اجلويني وأيب القاسم األنصاري شارح (اإلرشاد)
ما يفيد أن اإليامن هو التصديق بالقلب ،إال أن الرشع أوجب ترك العناد،
وعليه فكفر اليهود العاملني بنبوة حممد هو من هذا الباب ،أي كفروا عنادا
وبغيا وحسدا.
قال شيخ اإلسالم( :واحلذاق يف هذا املذهب كأيب احلسن والقايض ومن
قبلهم من أتباع جهم عرفوا أن هذا تناقض يفسد األصل ،فقالوا :ال يكون
أحد كافرا إال إذا ذهب ما يف قلبه من التصديق ،والتزموا أن كل من حكم
71
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
الرشع بكفره فإنه ليس يف قلبه يشء من معرفة اهلل وال معرفة رسوله ،وهلذا
أنكر هذا عليهم مجاهري العقالء وقالوا :هذا مكابرة وسفسطة»(.)1
نفس التصديق: ثم قال الباحث ( :بطالن مذهب من جعل َ
عمل القلب َ
قد تبني مما سبق أن متأخري األشاعرة أثبتوا عمل القلب ،من القبول
واالنقياد واإلذعان ،لكنهم جعلوا ذلك نفس التصديق ،كام يف قول الدردير:
(فاإلذعان والقبول والتصديق والتسليم عبارات عن يشء واحد) ...وأما
املتأخرون فقد وقعوا يف التناقض الذي أشار إليه شيخ اإلسالم ،فأثبتوا العلم
والتصديق لكثري من املرشكني وأهل الكتاب ،ونفوا عنهم اإلذعان واالنقياد،
مع قوهلم :إن التصديق هو نفس اإلذعان واالنقياد! ( )2وهؤالء يلزمهم أن
يقولوا :إن اإليامن الواجب يف القلب أمران :التصديق والعمل ،وأنه قد يوجد
التصديق من غري العمل).
وأقول :ال يوجد يف األشاعرة من جيعل عمل القلب نفس التصديق ،لكنه
اغرت بألفاظ (اإلذعان واالنقياد والقبول ونحوها) التي جيعلوهنا نفس
(« )1اإليامن عند السلف» للخضري ( ،)251/1وكالم شيخ اإلسالم يف جمموع فتاواه
(.)147-145/7
( )2هنا التبس عىل الباحث أمران ،وذلك أن األشاعرة يرصحون أحيانا بثبوت العلم
والتصديق لبعض الكفار ،وينفون عنهم (االنقياد واإلذعان والقبول ونحوها) ويعنون هبا أعامل
القلوب ،وجيعلون من حصل له ذلك كافرا يف الظاهر مؤمنا يف الباطن .وأحيانا جيعلون هذه
العبارات نفس التصديق ،وهم ال يريدون هبا حينئذ أعامل القلوب ،حتى يقال :إهنم جعلوا عمل
القلب نفس التصديق ،وهذه التفصيالت تقدم بياهنا يف البحث.
72
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
التصديق ،فظن أهنم يريدون هبا أعامل القلوب ،وليس األمر كذلك ،كام سبق
بيانه.
أما الذين يدخلون أعامل القلوب يف اإليامن منهم ،وهم قلة ،فيرصحون
بأهنا يشء زائد عىل التصديق.
وقد يوجد يف أقوال بعضهم ما يوهم هذا الذي ظنه الباحث ،ولكنها عند
الرجوع إىل تفصيالهتم املبينة ملجمالهتم ،يظهر لك ما بينته ،واهلل أعلم.
االعتراض الثاين:
سبق أن التلفظ بالشهادتني عند مجهور األشاعرة ليس جزءا من اإليامن
وال رشطا لصحته ،وإنام هو رشط إلجراء أحكام اإلسالم يف الدنيا ،وأهنم
يفرسون الكفر باجلهل.
واعرتض الشيخ أمحد بن عطية الغامدي عىل هذا بكالم جلالل الدين
الدواين حيث قال« :والتلفظ بكلمتي الشهادتني مع القدرة رشط ،فمن أخل
به فهو كافر خملد يف النار ،و ال ينفعه املعرفة القلبية من غري إذعان و قبول؛ فإن
من الكفار من كان يعرف احلق يقينا ،وكان إنكاره عنادا واستكبارا» (.)1
وخ ّطأ الغامدي من ساوى بني مذهب اجلهمية ومذهب األشاعرة يف
هذا ،وهم ابن حزم وابن تيمية وغريمها ،بل ذكر أن اخلالف بني األشاعرة
وبني السلف يف هذه املسألة لفظي فقط؛ ألن الكل متفق عىل رضورة اإلتيان
73
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
بالعمل واإلقرار دون تفريط أو تقصري ،واملقرص فيهام مؤاخذ عىل تقصريه
ومعرض للعقاب ،وإنام اخلالف بينهم ينحرص يف الرشطية التي قال هبا
األشاعرة والشطرية التي قال هبا السلف ،وذكر أن األشاعرة جيعلون العمل
واإلقرار رشطا لتحقق اإليامن وكامله (.)1
واعرتاضه هذا ليس بصواب؛ فإن تارك النطق بالشهادتني أو اإلقرار
باللسان عىل ثالثة أنواع:
األول :من تركه لعذر كاألخرس ،فهذا إذا قامت قرينة عىل إيامنه كاإلشارة
املفهمة فهو مؤمن يف الدنيا واآلخرة ،وال خالف فيه.
الثاين :من يرتكه إباء واستكبارا ،بأن طلب منه النطق بالشهادتني فأبى ،فهو
كافر فيهام ،وال ينفعه اإلذعان بقلبه مطلقا.
الثالث :من صدق بقلبه ومل يقر بلسانه ال لعذر منعه وال إلباء عند طلب،
فهذا عند مجهور األشاعرة مؤمن عند اهلل ومصريه إىل اجلنة ،وغري مؤمن يف
أحكام الدنيا.
يقول الباجوري عند كالمه عن النطق بالشهادتني وأنه رشط لإليامن:
«أي خارج عن ماهيته ،وهذا القول ملحققي األشاعرة واملاتريدية ولغريهم،
وقد فهم اجلمهور أن مرادهم أنه رشط إلجراء أحكام املؤمنني يف الدنيا...
ُّ
األقل أن مرادهم أنه رشط يف صحة اإليامن ،وهذا القول كالقول وفهم
74
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1يعني القول بأن بالشهادتني رشط لصحة اإليامن ،والقول بأنه شطر من اإليامن أي جزء
منه.
( )2رشح جوهرة التوحيد للبيجوري (ص ،)28-27ط عيسى البايب احللبي القاهرة.
( )3رشح الدواين للعقائد العضدية (.)287/2
75
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
( )1وبعضهم يقول« :التصديق وإن كان موجودا حقيقة ،لكن ال اعتداد به رشعا ،فهو يف
حكم العدم ..مع تلك األمارات» .مصطفى الكستيل يف حاشيته (ص.)153
76
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
وكتبه
حسن معلم داود حاج حممد ،أبو الفضل السليامين
يف اجلامعة اإلسالمية باملدينة النبوية
في 2جمادى األولى 1431
ثم جرى عليه قلم التعديل يف جمالس خمتلفة
77
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
قائمة الموضوعات
مقدمة 3 ....................................................................
-1اختالف األشاعرة يف مفهوم اإليمان 5 ..................................
-2هل تدخل أعمال القلوب يف اإليمان عند األشاعرة ؟ 8 .................
-3أوجه التفريق بين التصديق والمعرفة عند جمهور األشاعرة 10 .........
الوجه األول10 .........................................................:
الوجه الثاين12 ......................................................... :
الوجه الثالث18 ........................................................ :
إيمان فرعون ! 20 .......................................................
التعبير بالمعرفة والعلم مكان التصديق27 .............................. :
مذهب جهم وأتباعه29 .................................................:
-4إدخال بعضهم أعمال القلوب يف التصديق 32 ..........................
كالم الجويني واعرتاضاهتم عليه 37 .....................................
االحتمال األول :كون كالم النفس شيئا دون العلم 39 ...................
االحتمال الثاين :كون كالم النفس شيئا فوق العلم43 ....................
االحتمال الثالث :كون كالم النفس شيئا مثل العلم 46 ...................
االحتمال الرابع :كون كالم النفس العلم نفسه ال غير 49 .................
78
حقيقة اإليمان عند األشاعرة
79