You are on page 1of 79

‫حقيقة اإلميان عند األشاعرة‬

‫وهل أعمال القلوب تدخل فيه عندهم؟ وما الفرق بني تصديقهم ومعرفة اجلهمية؟‬

‫إعـداد‬
‫حسن معلم داود حاج حممد‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪2‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫مقدمة‬
‫بســم اهلل الرحـمن الرحـيم‬
‫إن احلمد هلل‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من رشور أنفسنا‬
‫وسيئات أعاملنا‪ ،‬من هيده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪.‬‬
‫وأشـهد أن ال إلـه إال اهلل وحده ال رشيك له‪ ،‬وأشـهد أن حممدا عبده‬
‫ورسوله‪ ،‬صىل اهلل عليه وعىل آلـه وأصحابه ومن اقتدى هبم إىل يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬فإن اهلل تعاىل أرسل رسله وأنزل كتبه رمحة بعباده ليهتدوا إىل‬
‫الرصاط املستقيم‪ ،‬فسعد الذين استناروا هبا الطريق‪ ،‬وسلكوا سواء السبيل‪.‬‬
‫وشقي أقوام حني مل يرفعوا رأسا للنعمة املنزلة والرمحة املهداة‪ ،‬وظنوا أن‬
‫عقلهم القارص سيدهلم عىل الطريق القويم‪ ،‬وما دروا أنه ما ضل من ضل وما‬
‫هلك من هلك إال باالعتامد عىل عقله‪.‬‬
‫ولو كان العقل كافيا للثبات عىل االستقامة والوصول إىل السعادة ملا عبد‬
‫صنم وال حجر‪ ،‬وال اعتقد يف خملوق أنه اإلله أو يعطي للبرش ما يعطي اإلله‪،‬‬
‫وال استغاث الناس بميت دفنوه يف الرتاب حتت أقدامهم‪ ،‬وملا أرسل اهلل‬
‫الرسل وال أنزل الكتب‪.‬‬
‫فإن كل هذا يدل عىل نقصان العقل البرشي‪ ،‬وقصوره عن اهلدى إال بنور‬
‫الوحي‪ ،‬وكام أن العني ال تبرص حمال إال بنور فيه‪ ،‬كذلك ال يدرك احلق إال‬
‫بنوره‪ ،‬ومن أعرض عن النور فلن يرى إال الظلامت‪ ،‬ولن يدري ما أمامه‬
‫فيتخبط يف مسريه‪ ،‬ومن أعرض عن نور الوحي فلن يرى سوى ظلامت‬

‫‪3‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫الشبهات املدهلمة‪ ،‬التي يتيه فيها عن موقع الصواب‪ ،‬فيكثر تـخبطه ويتشبث‬
‫بكل يشء‪ ،‬وربام يلوذ بام فيه حتفه‪.‬‬
‫وإن أردت مثال هذا‪ ،‬فانظر إىل املتكلمني الذين اعتمدوا عىل عقوهلم يف‬
‫معرفة مراد اهلل ومناط السعادة‪ ،‬فضلوا عن السبيل‪ ،‬حتى إهنم ما استطاعوا‬
‫إدراك حقيقة اإليامن الذي يفرق به بني املؤمن وذي الكفران‪ ،‬فكلام انتهوا إىل‬
‫حد معقول عورضوا بأنه غري مانع لدخول كثري من الكفار فيه‪ ،‬أو غري جامع‬
‫خلروج كثري من املؤمنني منه‪ ،‬فام يزالون يف حرية حتى اليوم‪.‬‬
‫وسرتى الشاهد عىل ذلك يف هذا البحث الذي يلقي الضوء عىل اعتقاد‬
‫األشاعرة يف حقيقة اإليامن‪ ،‬ومع أهنم أقرب فرق املتكلمني إىل احلق يف اجلملة‪،‬‬
‫إال أن قوهلم يف اإليامن من أخطر األقوال وأبعدها عن الصواب‪ ،‬وستجد‬
‫العجب العجاب حني انتهائك من قراءة هذه العجالة‪.‬‬
‫نسأل اهلل اهلدى والتوفيق يف العلم والعمل‪ ،‬وأن يغفر ذنوبنا وجينبنا الزلل‪،‬‬
‫وصىل اهلل وس ّلم عىل نبينا حممد وعىل آله وصحبه‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -1‬اختالف األشاعرة يف مفهوم اإليمان‬


‫اتفق األشاعرة عىل أن اإليامن يف اللغة هو التصديق (‪.)1‬‬
‫ثم اختلفوا يف تعريف اإليامن الرشعي‪:‬‬
‫‪ -1‬فذهب مجهورهم إىل أنه هو التصديق بالقلب فقط‪ ،‬عىل وفاق‬
‫الشيعة‪.‬‬
‫يف (املقاصد)‪« :‬اسم للتصديق عند األكثرين‪،‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫قال السعد التفتازاين‬
‫أعني‪ :‬تصديق النبي ‪ ‬فيام علم جميئه به بالرضورة»‪ ،‬ثم قال يف رشحه‪« :‬وهذا‬
‫هو املشهور‪ ،‬وعليه اجلمهور» (‪ .)3‬ونسبه بعضهم إىل حمققي األشاعرة‬
‫واملاتريدية (‪.)4‬‬
‫‪ -2‬وذهب بعضهم إىل أنه التصديق بالقلب واإلقرار باللسان‪ ،‬عىل‬
‫وفاق مرجئة الفقهاء‪.‬‬

‫(‪ )1‬يعنون تصديق القلب‪ ،‬وليس خاصا يف اللغة بذلك‪ ،‬بل يكون أيضا باللسان وباجلوارح‪،‬‬
‫وكذلك اإليامن الرشعي عند السلف‪.‬‬
‫(‪ )2‬هو سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاين املتوىف سنة ‪ ،791‬من ّظر األشعرية بعد العضد‬
‫اإلجيي وحمققهم املعترب‪.‬‬
‫(‪« )3‬رشح املقاصد» (‪ ،)420 ،418/3‬دار الكتب العلمية بريوت ‪ .1422‬وانظر‪« :‬الفتح‬
‫املبني برشح األربعني» البن حجر اهليتمي ص ‪ 151‬دار املنهاج جدة ‪.1428‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪« :‬إحتاف املريد بجوهرة التوحيد» (ص‪ ،)35 ،31‬و«حتفة املريد عىل جوهرة‬
‫التوحيد» (ص‪.)29‬‬

‫‪5‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫قال التفتازاين‪« :‬وعليه أكثر املحققني»‪ ،‬ومرة قال‪« :‬كثري من‬


‫املحققني»(‪ ،)1‬ونقله بعضهم عن مجاعة من األشاعرة (‪.)2‬‬
‫‪ -3‬وذهب بعضهم إىل أن اإليامن قول وعمل واعتقاد‪ ،‬عىل وفاق‬
‫السلف‪ ،‬وبه قال بعض متقدميهم كأيب عيل الثقفي وأيب العباس القالنيس‬
‫وأيب عبد اهلل بن جماهد (‪.)3‬‬

‫• وذهب اجلهمية إىل أن اإليامن هو املعرفة فقط‪ ،‬قال التفتازاين‪« :‬وقد‬


‫يميل إليه األشعري» (‪.)4‬‬

‫(‪« )1‬رشح املقاصد» (‪ .)420 ،418/3‬وانظر‪« :‬الفتح املبني» للهيتمي ص ‪ .152‬وذهب‬


‫الكرامية إىل أن اإليامن هو اإلقرار باللسان فقط‪ ،‬فمن نطق بالشهادتني فهو مؤمن وإن مل يوجد يف‬
‫قلبه تصديق‪ ،‬لكنه مؤمن خملد يف النار! وعند الكالبية هو اإلقرار باللسان برشط تصديق‬
‫القلب‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪« :‬إحتاف املريد» (ص‪ ،)35‬و«حتفة املريد» (ص‪.)30‬‬
‫(‪ )3‬جمموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية (‪.)144/17‬‬
‫(‪« )4‬رشح املقاصد» (‪ .)420/3‬ونقل شيخ اإلسالم ابن تيمية عن أيب احلسن األشعري أنه‬
‫اختار يف كتابه (املوجز) قول أيب احلسني الصاحلي‪ ،‬وقوله كام نقله عنه األشعري يف املقاالت‪ :‬أن‬
‫اإليامن هو املعرفة باهلل فقط‪ ،‬والكفر به هو اجلهل به فقط‪ ،‬وأنه خصلة واحدة ال يزيد وال ينقص‬
‫وكذلك الكفر‪ ،‬إال أن املعرفة عنده هي املحبة واخلضوع‪ ،‬وهذا هو الفارق بينه وبني اجلهمية‪.‬‬
‫انظر‪« :‬اإليامن األوسط(أو رشح حديث جربيل)» (ص‪ ،433‬دار ابن اجلوزي دمام ‪،)1423‬‬
‫و«مقاالت اإلسالميني» (ص‪ 133-132‬دار إحياء الرتاث العريب بريوت ط‪.) 3‬‬
‫ولكن الذي استقر عليه األشعري هو ما اختاره يف (اإلبانة)‪ :‬أن اإليامن قول وعمل يزيد‬
‫وينقص‪ ،‬ونقله يف املقاالت عن أهل احلديث وارتضاه وذهب إليه‪ ،‬وهو خالف القول الذي‬
‫نرصه يف (املوجز)‪ .‬انظر‪« :‬اإلبانة عن أصول الديانة» (ص‪ 49‬مكتبة دار البيان دمشق ‪1424‬‬
‫ط‪ ،) 5‬و«مقاالت اإلسالميني» (ص‪ ،)297 ،293‬و«اإليامن األوسط» (ص‪.)440‬‬

‫‪6‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫ومذهب السلف الصالح أهل احلديث‪ :‬أن اإليامن قول وعمل‪ ،‬أي‪ :‬قول‬
‫القلب واللسان‪ ،‬وعمل القلب واجلوارح‪.‬‬
‫وهذه األقسام األربعة مل تثبت اجلهمية منها إال قول القلب الذي هو‬
‫املعرفة‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -2‬هل تدخل أعمال القلوب يف اإليمان عند األشاعرة ؟‬


‫سبق أن مجهور األشاعرة يقولون‪ :‬إن اإليامن هو التصديق بالقلب فقط‪،‬‬
‫ولكن‪:‬‬
‫‪ -‬التصديق بالقلب يكون بمعنى احلكم بصدق اليشء أو نسبة صدق‬
‫اخلرب إىل املتكلم‪ .‬وهذا من قول القلب ال من عمله‪ ،‬وهو مذهب مجهور‬
‫األشاعرة وحمققيهم (‪.)1‬‬
‫‪ -‬ويكون التصديق القلبي بمعنى االستسالم والرضا واالنقياد‪ ،‬وهذا‬
‫من عمل القلب‪ ،‬وهو يشء زائد عىل املعنى السابق‪ ،‬وبه قال بعض‬
‫األشعرية‪ ،‬وينسب إىل اجلويني والغزايل والرازي‪.‬‬
‫وكل األشاعرة يزعمون أن مذهبهم يف اإليامن مغاير ملذهب اجلهمية؛‬
‫‪ -‬أما أصحاب القول الثاين فالتصديق عندهم يشء زائد عىل العلم‬
‫واملعرفة‪ ،‬وليس هو املعرفة فقط‪ ،‬وإن كانت تدخل فيه‪ ،‬وهذا فرق واضح‪،‬‬
‫وسيأيت تفصيل الكالم فيه إن شاء اهلل‪.‬‬

‫(‪ )1‬وبعضهم نقل االتفاق عىل هذا كقول أمحد اجلندي‪« :‬وأما أنه التصديق (ويعني الذي‬
‫بمعنى العلم) ال سائر ما يف القلب فباالتفاق؛ ألن اإليامن يف اللغة التصديق‪ ،‬ومل ينقل يف الرشع‬
‫إىل معنى آخر»‪ ،‬وكذا قال اخليايل‪ ،‬انظر‪« :‬جمموعة احلوايش البهية عىل رشح العقائد النسفية»‬
‫(‪ )179/1‬مطبعة كردستان العلمية بجاملية مرص ‪.1329‬‬

‫‪8‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -‬وأما أصحاب القول األول فاعرتفوا بأن التصديق الذي أثبتوه إنام هو من‬
‫باب العلوم واملعارف أو من مقولة الكيف واالنفعال‪ ،‬ولكن زعموا أنه غري‬
‫املعرفة التي أثبتتها اجلهمية من وجوه‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -3‬أوجه التفريق بي التصديق والمعرفة عند جمهور‬


‫األشاعرة‬
‫الوجه األول‪:‬‬
‫أن التصديق يقابله اإلنكار والتكذيب‪ ،‬واملعرفة يقابلها النكر واجلهالة(‪،)1‬‬
‫واألمران املتطابقان ضدمها واحد‪ ،‬فاختالف الضدين دليل عىل اختالف املعرفة‬
‫والتصديق‪.‬‬
‫وهذا تش ُّبث باأللفاظ‪ ،‬وال جدوى له؛ فإن التصديق عندهم هو جمرد‬
‫إدراك كون املتكلم صادقا دون أن يكون هناك فعل وتأثري من القلب أو‬
‫النفس(‪ ،)2‬فهو عندهم انفعال وليس فعال‪ ،‬وال فرق بينه وبني املعرفة يف ذلك‪،‬‬
‫ومقابلهام يسمى نكرا واستنكارا‪ ،‬ويطلق اإلنكار عىل ذلك يف اللغة‪.‬‬
‫أما اإلنكار بمعنى اجلحود فهو فعل قلبي يقابل االنقياد واالستسالم‬
‫ونحو ذلك من أعامل القلوب‪ ،‬وال يكون مقابل املعرفة أو التصديق املجرد‬
‫عن العمل القلبي‪ ،‬بل قد حيصل معهام وال ينافيهام‪ ،‬ولذلك رصح بعضهم‬
‫بثبوت إيامن فرعون كام سيأيت‪.‬‬

‫(‪ )1‬يراجع ‪ :‬كتاب التوحيد أليب منصور املاتريدي‬


‫(‪ )2‬انظر‪« :‬رشح املقاصد» (‪.)429/3‬‬

‫‪10‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫والتكذيب هو ضد التصديق فال يكون عىل مذهبهم من أفعال القلب‪ ،‬بل‬


‫يفرس بأنه احلكم بكذب الشخص أو نسبته إىل الكذب يف القلب كام رصح به‬
‫التفتازاين (‪.)1‬‬
‫وأما اجلهل فال نزاع يف أنه مقابل املعرفة‪ ،‬وهو أيضا مقابل للتصديق‬
‫عندهم؛ ألهنم جعلوه من باب العلوم (‪.)2‬‬
‫وأهل املنطق قسموا العلم إىل‪ :‬تصور وهو إدراك معنى اليشء املفرد‪،‬‬
‫وتصديق وهو إدراك النسبة بني شيئني مع احلكم عليها بنفي أو إثبات(‪،)3‬‬
‫وكالمها مقابله اجلهل‪.‬‬
‫ورصح األشاعرة بأن التصديق ‪ -‬الذي هو اإليامن عندهم ‪ -‬هو بعينه‬
‫التصديق املنطقي(‪ ،)4‬وإنام اختلفوا يف كونه مطابقا له أو أخص منه؛ الحتياج‬
‫الذي بمعنى اإليامن إىل االختيار‪ ،‬كام يأيت‪.‬‬
‫وهبذا يظهر بطالن هذا الفرق املزعوم‪ ،‬ويوضحه أن املرء لو نظر إىل‬
‫معجزة النبي ‪ ،‬فوقع صدقها يف قلبه؛ فهذا الذي حصل له هو العلم واملعرفة‬
‫لكونه انفعاال وكيفية نفسانية‪ ،‬وهو التصديق أيضا؛ ألنه حصل يف قلبه إدراك‬

‫(‪« )1‬رشح املقاصد» (‪.)428/3‬‬


‫(‪« )2‬رشح املقاصد» (‪.)430/3‬‬
‫(‪ )3‬مجهور أهل املنطق عىل أن التصديق هو جمرد إدراك النسبة فقط‪ ،‬ومنهم التفتازاين‪،‬‬
‫ومذهب إمامهم وهو الرازي أن التصديق مركب من اإلدراك واحلكم بالنفي أو اإلثبات‪ .‬انظر‪:‬‬
‫«رشح الس ّلم املرونق» لعبد الرمحن األخرضي (ص‪ 53‬دار ابن حزم بريوت ‪ ،)1427‬و«آداب‬
‫البحث واملناظرة» للشنقيطي (ص‪ 10‬مكتبة ابن تيمية القاهرة‪ ،‬د‪ .‬ت)‪.‬‬
‫(‪« )4‬رشح املقاصد» (‪.)428/3‬‬

‫‪11‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫نسبة الصدق إىل النبي فيام أتى به واحلكم بصدقه‪ ،‬وذلك حد التصديق عند‬
‫املناطقة واألشاعرة‪.‬‬

‫الوجه الثاين‪:‬‬
‫أن التصديق كسبي اختياري؛ فهو أن حتصل باختيارك نسبة الصدق إىل‬
‫املخرب وإثباهتا‪ ،‬وفيه ربط القلب عىل ما علم من إخبار املخرب‪ ،‬واملعرفة ربام‬
‫حتصل بال كسب واختيار؛ كمن وقع برصه عىل جسم فحصل له معرفة أنه‬
‫جدار أو حجر‪ ،‬فلذلك قالوا‪« :‬املعترب يف اإليامن التصديق االختياري‪ ،‬ومعناه‬
‫نسبة الصدق إىل املتكلم اختيارا‪ ،‬وهبذا القيد يمتاز عن التصديق املنطقي‬
‫املقابل للتصور؛ فإنه قد خيلو عن االختيار‪ ،‬كام إذا ادعى النبي النبوة وأظهر‬
‫املعجزة‪ ،‬فوقع يف القلب صدقه رضورة من غري أن ينسب إليه اختيارا‪ ،‬فإنه ال‬
‫يقال يف اللغة‪ :‬إنه صدّ قه‪ ،‬فال يكون إيامنا رشعيا» (‪.)1‬‬
‫وهذا التفريق عىل قول من يقول منهم‪ :‬إن التصديق اللغوي الذي هو‬
‫اإليامن أخص من التصديق املنطقي الذي قد خيلو عن االختيار‪ ،‬ولكن هذا‬
‫االختيار املعترب يف التصديق اللغوي الذي هو اإليامن عندهم هل هو ركن منه‬
‫فيكون من ماهيته‪ ،‬أو رشط لصحته فيكون خارجا عنه؟ وعىل الثاين فال فرق‬
‫بني التصديق واملعرفة يف احلقيقة واملاهية‪.‬‬
‫والثاين هو الذي رجحه التفتازاين‪ ،‬أما األول فهو مردود عنده من جهتني‪:‬‬

‫(‪« )1‬رشح املقاصد» (‪.)425/3‬‬

‫‪12‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -1‬أنه يقتيض التغاير بينه وبني التصديق املنطقي‪ ،‬ومعنى ذلك أنه خارج‬
‫عن باب العلوم‪ ،‬وهلذا قال التفتازاين عن هذا الفرق‪« :‬وهذا مشكل؛ ألن‬
‫التصديق من أقسام العلم وهو من الكيفيات النفسانية دون األفعال‬
‫االختيارية؛ ألنا إذا تصورنا النسبة بني الشيئني‪ ،‬وشككنا يف أهنا باإلثبات أو‬
‫بالنفي‪ ،‬ثم أقيم بالربهان عىل ثبوهتا‪ ،‬فالذي حيصل لنا هو اإلذعان والقبول‬
‫لتلك النسبة‪ ،‬وهو معنى التصديق واحلكم واإلثبات واإليقاع» (‪.)1‬‬
‫فظهر من هذا أن االختيار ليس ركنا من التصديق‪ ،‬بل حيصل بدونه كمن‬
‫وقع برصه عىل معجزة النبي فوقع يف قلبه أنه صادق فيها‪.‬‬
‫وقال التفتازاين‪« :‬ونقطع بأن هذا (أي التصديق) كيفية للنفس قد حتصل‬
‫بالكسب واالختيار ومبارشة األسباب‪ ،‬وقد حتصل بدوهنام(‪ ،)2‬فغاية األمر أن‬
‫يشرتط فيام اعترب يف اإليامن أن يكون حتصيله باالختيار عىل ما هو قاعدة املأمور‬
‫به(‪ ،)3‬وأما أن هذا فعل وتأثري من النفس ال كيفي ٌة هلا‪ ،‬وأن االختيار معترب يف‬
‫مفهوم التصديق؛ فممنوع‪ ،‬بل معلوم االنتفاء» (‪.)1‬‬

‫(‪« )1‬رشح العقائد النسفية» (ص‪ 159‬ط ‪ 1364‬مع حواش‪ ،‬وأعادت طبعه باألوفست‬
‫مكتبة املثنى بغداد د‪.‬ت)‪.‬‬
‫عرفه بحدّ ها بقوله‪ :‬كيفية للنفس‪ ..‬إلخ ‪،‬‬
‫(‪ )2‬وهذا تسليم بأن التصديق هو املعرفة؛ ألنه ّ‬
‫وهبذا وغريه تعرف أن تفريقاهتم بني التصديق العلمي واملعرفة جمادالت شكلية وهروب من‬
‫اإللزام؛ لكيال ينسبوا إىل اجلهمية املقطوع بضالهلم‪ ،‬كام فعلوا قري ًبا منه يف مسألة القرآن‪.‬‬
‫(‪ )3‬وعىل هذا فمن حصل له التصديق (أي إدراك صدق النبي واحلكم بثبوهتا) بدون اختيار‬
‫منه أو كسب ونظر وحتصيل باملقدمات املعروفة عندهم؛ ال يقبل منه وال يصح إيامنه‪ ،‬بل يكلف‬
‫بتحصيل التصديق العلمي‪ ،‬وهو تكليف بتحصيل حاصل وهو حمال وممنوع‪ ،‬ويلزم منه عدم‬
‫=‬

‫‪13‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫صحة إيامن العامي واملقلد‪ ،‬ومنه أخذوا أن أول واجب عىل العبد هو النظر املنطقي لتحصيل‬
‫هذا التصديق‪.‬‬
‫وهلذا قال مصطفى القسطالين املعروف بالكستيل (ت‪« :)901‬فيلزم أن ال يعترب تصديق‬
‫من شاهد املعجزة فانتقل ذهنه إىل صدق مدعي النبوة انتقاال دفعيا‪ ،‬وتكليفه بتحصيل ذلك‬
‫باالختيار حتصيل للحاصل؛ عىل أنه حصل له املعنى‪ ..‬فكيف ال يكون مؤمنا‪ ،‬فالصواب أن‬
‫التكليف باإليامن تكليف بتحصيله إن مل يكن حاصال‪ ،‬وبعدم مقابلته بالرد واإلنكار بعد‬
‫حصوله»‪( ،‬حاشية الكستيل عىل رشح العقائد النسفية ص‪.)159‬‬
‫وقال إسامعيل الكلنبوي (ت‪« :)1205‬لو كان مكلفا بعد ذلك بتصديق آخر اختياري لزم‬
‫تكليفه بام ال يطاق؛ إذ ال ينقلب تصديقه الرضوري إىل االختياري‪ ،‬وهو ظاهر‪ .‬وال ينضم إليه‬
‫تصديق آخر؛ الستلزامه اجتامع املثلني‪ ...‬يف حمل واحد‪ ،‬وهو حمال»‪( ،‬حاشيته عىل رشح الدواين‬
‫للعقائد العضدية ‪ ،290/2‬دار الطباعة العامرة ‪ 1317‬د‪ .‬م)‪.‬‬
‫وما اختاره الكستيل عكسه املرتىض الزبيدي فقال‪« :‬لو وقع العلم إلنسان دفعيا من غري‬
‫ترتيب مقدمات؛ احتاج إىل حتصيله مرة أخرى كس ًبا»‪ ،‬واستشهد بكالم التفتازاين هنا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«وظاهره عدم االكتفاء بحصوله دون كسب»‪«( ،‬إحتاف السادة املتقني برشح إحياء علوم‬
‫الدين» ‪ 392-391/2‬دار الكتب العلمية بريوت ‪ ،)1409‬وهذا ما عزاه التفتازاين إىل بعض‬
‫املحققني‪«( ،‬رشح العقائد النسفية» ص‪.)159‬‬
‫ووجه قوهلم أن التصديق الذي هو اإليامن عندهم تكليف مأمور به‪« ،‬والتكليف إنام يتعلق‬
‫باألفعال االختيارية»‪ ،‬كام قال اهليتمي (ص ‪ .)154‬فغري االختياري ليس هو املأمور به‬
‫املطلوب‪ ،‬فال يكون إيامنا‪ ،‬وصاحبه ال يكون مؤمنا‪ ،‬فيكلف بتحصيل اإليامن (التصديق) مع أنه‬
‫عنده! وحاول التفتازاين أن يعالج هذا اإلشكال َبأ ْن ّأول معنى كون التصديق املأمور به اختياريا‬
‫مقدورا إىل أن املراد هو صحة تع ّلق القدرة به وحصوله بالكسب واالختيار وإن مل يكن يف نفسه‬
‫حاصال بذلك‪«( ،‬رشح املقاصد» ‪.)428/3‬‬
‫وهذا مبني عىل مسألتني‪ :‬أن اإليامن املكلف به هو التصديق العلمي‪ ،‬وأنه جزء ال يتبعض‬
‫وال يزيد‪ ،‬وكلتامها باطلة‪.‬‬
‫واختلف األشاعرة يف كيفية حتصيل التصديق بالكسب واالختيار‪ ،‬أبمقدمات الربهان‬
‫املنطقي‪ ،‬فيلزمهم إخراج أكثر املسلمني من اإليامن مع أن التصديق قد حصل هلم قطعا! أم املعترب‬
‫=‬

‫‪14‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫وجوده مطلقا بأي وسيلة كان‪ ،‬فيدخل احلاصل بالرضورة أو احلدس؟ قال التفتازاين‪« :‬ال نزاع‬
‫يف وجوب النظر واالستدالل‪ ،‬بل يف أن ترك هذا الواجب يوجب عدم االعتداد بالتصديق‪ ،‬عىل‬
‫أنه ربام يقال‪ :‬إن املقصود من االستدالل هو التوصل إىل التصديق‪ ،‬وال عربة بانعدام الوسيلة بعد‬
‫حصول املقصود»‪«( ،‬رشح املقاصد» ‪ .)455/3‬وقال أيضا‪« :‬وأما املقلد فقد ذكر من نظر يف‬
‫الكالم وسمع من اإلمام (يعني الرازي) أن ال خالف يف إجراء أحكام اإلسالم عليه‪،‬‬
‫واالختالف يف كفره راجع إىل أنه هل يعاقب عقاب الكافر؟ فقال الكثريون‪ :‬نعم؛ ألنه جاهل‬
‫باهلل ورسوله ودينه‪ ،‬واجلهل بذلك كفر‪ ،...‬وقال بعض ذوي التحقيق منهم‪ :‬إنه وإن كان جاهال‬
‫لكنه مصدق(!)‪ ،‬فيجوز أن ينتقص عقابه لذلك»‪( ،‬السابق ‪.)457/3‬‬
‫وسئل السيوطي‪ :‬كيف صح التكليف باإليامن مع أن اإليامن يف الرشع هو التصديق بام جاء به‬
‫حممد ‪ ‬وكل تصديق فهو كيف‪ ،‬فاإليامن كيف وال يشء من الكيف بمكلف به فال يشء من‬
‫اإليامن بمكلف به‪ .‬أما الصغرى فواضحة‪ ،‬وأما الكربى فلام تقرر يف األصول من أنه ال تكليف‬
‫إال بفعل؟ فأجاب بقوله‪ « :‬أجاب عنه مجاعة منهم خامتة املحققني الشيخ جالل الدين املحيل يف‬
‫رشح مجع اجلوامع فقال‪ :‬التكليف بالتصديق وإن كان من الكيفيات النفسية دون األفعال‬
‫االختيارية املراد به التكليف بأسبابه كإلقاء الذهن أو رصف النظر وتوجيه احلواس ورفع‬
‫املوانع» (احلاوي للفتاوي ‪.)397 ،393/2‬‬
‫وقال ابن حجر اهليتمي‪ «:‬وتعلق التكليف هبا [أي باملعرفة] مع ثبوهتا قهرا يف قوله تعاىل‪:‬‬
‫﴿فاعلم أنه ال إله إال اهلل﴾؛ أريد به حتصيل أسباهبا من القصد إىل النظر يف آثار القدرة الدالة عىل‬
‫وجوده تعاىل ووحدانيته‪ ،‬وتوجيه احلواس إليها‪ ،‬وترتيب املقدمات املأخوذة من ذلك عىل الوجه‬
‫املؤدي إىل املقصود‪ .‬وظاهر كالم (رشح املقاصد) أنه ال يكتفى بذلك العلم القهري‪ ،‬بل ال بد‬
‫من حتصيله بعد بطريق االستدالل‪ ،‬ورد بأن حصول االستسالم الباطني بعد حصول العلم‬
‫القهري حصول للمقصود ٍ‬
‫مغن عن استحصاله بتعاطي أسبابه‪ .‬فالوجه‪ :‬االكتفاء بحصول‬
‫القهري املنضم إليه االستسالم‪ ،‬والتكليف بتعاطي األسباب إنام هو ملن مل حيصل له ذلك العلم‬
‫القهري»‪( .‬الفتح املبني ص ‪.)154‬‬
‫وقول الكستيل السابق‪( :‬وبعدم مقابلته‪)...‬؛ ذلك أن اإليامن عندهم يشء بسيط ال يتجزأ‪ ،‬وال‬
‫يقبل الزيادة والنقصان‪ ،‬فإذا حصل حصل بكامله فلم يبق يشء يكلف بتحصيله‪ ،‬وإن فقد فقد‬
‫من أصله‪.‬‬
‫=‬

‫‪15‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -2‬أن جعل االختيار ركنا يف التصديق الذي هو اإليامن يقتيض أيضا‬


‫التغاير بينه وبني التصديق اللغوي؛ فإن التصديق يف اللغة يكون باالختيار‬
‫وبدونه‪ ،‬وهذا التغاير ممنوع عندهم‪ ،‬بل يؤكدون دائام ويكررون أهنام بمعنى‬
‫واحد ومتحدان يف احلقيقة‪ ،‬وأنه ال جيوز النقل من املعنى اللغوي‪ ،‬وهذا أصل‬
‫ثابت عندهم‪ ،‬وله مقاصد ولوازم باطلة‪.‬‬

‫ومذهب السلف أن اإليامن له أجزاء ومراتب تزيد وتنقص‪ ،‬فهو قول وعمل‪ ،‬أي‪ :‬قول‬
‫القلب واللسان وعمل القلب واجلوارح‪ ،‬فهذه أربعة أجزاء لكل جزء منها مراتب متفاوتة‪ ،‬فمن‬
‫مل يكن عنده يشء منها فهو مكلف بتحصيلها‪ ،‬وكذا من عنده ما ال يدخل به يف اإلسالم كقول‬
‫القلب الذي هو املعرفة أو التصديق العلمي؛ فإن أهل الكتاب وكثريا من املرشكني كان عندهم‬
‫هذا اجلزء‪ ،‬وقال تعاىل هلم‪﴿ :‬فآمنوا باهلل ورسوله والنور الذي أنزلنا﴾‪ ،‬وقال النبي ‪« : ‬والذي‬
‫نفيس حممد بيده‪ ،‬ال يسمع يب أحد من هذه األمة هيودي وال نرصاين‪ ،‬ثم يموت ومل يؤمن بالذي‬
‫أرسلت به‪ ،‬إال كان من أصحاب النار»‪ ،‬رواه مسلم وأمحد‪ ،‬ويف رواية‪« :‬ثم ال يؤمن يب»‪ ،‬عند‬
‫النسائي يف الكربى والطياليس وأيب نعيم‪ .‬ومعنى احلديث عىل مذهب مجهور األشاعرة‪ :‬ثم ال‬
‫حيكم بصدقي وصدق ما جئت به‪ ...‬وهذا تكليف بتحصيل حاصل! وكذلك اآلية التي ذكرها‬
‫اهليتمي‪.‬‬
‫ومن دخل يف اإليامن فهو مكلف بتحصيل بقية أجزائه كعمل اجلوارح‪ ،‬ومن كانت األجزاء‬
‫عنده فهو مكلف بتكميلها‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ياءهيا الذين آ َمنوا آمنوا باهلل ورسوله والكتاب الذي‬
‫نزل عىل رسوله﴾‪ ،‬وهذه اآلية مشكلة عند األشاعرة كغريهم من املرجئة؛ ألنه إما أن يكون‬
‫عندهم اإليامن فال يكلفون به‪ ،‬أو ليس عندهم فال خياطبون به! أما عند أهل السنة فهم مؤمنون‬
‫مكلفون بتكميل إيامهنم‪ ،‬فاخلطاب يف هذه اآلية ويف التي قبلها ليس يف مورد واحد‪ ،‬وال إشكال‬
‫بحمد اهلل‪.‬‬
‫وإنام ذكرت هذا كله يف احلاشية؛ ألن االختيار ليس من حقيقة اإليامن (التصديق) عند‬
‫األشاعرة عىل ما رجحه التفتازاين وغريه‪ ،‬ونحن نتكلم عن حقيقة الكالم عندهم‪ ،‬وباقي الكالم‬
‫استطراد عليه‪.‬‬
‫(‪« )1‬رشح املقاصد» (‪.)429/3‬‬

‫‪16‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫قال القايض حممد بن الطيب أبو بكر الباقالين (ت‪:)403‬‬


‫«اإليامن هو التصديق باهلل تعاىل‪ ،‬وهو العلم‪ ،‬والتصديق يوجد بالقلب‪.‬‬
‫فإن قال‪ :‬وما الدليل عىل ما قلتم؟ قيل له‪ :‬إمجاع أهل اللغة قاطبة عىل أن‬
‫اإليامن يف اللغة قبل نزول القرآن وبعثة النبي ‪ ‬هو التصديق‪ ،‬ال يعرفون يف‬
‫لغتهم إيامنا غري ذلك‪.‬‬
‫ويدل عىل ذلك قوله تعاىل‪﴿ :‬وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقني﴾‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ما أنت بمصدق لنا (‪ ،)1‬ومنه قوهلم‪ :‬فالن يؤمن بالشفاعة‪ ،‬وفالن ال يؤمن‬
‫بعذاب القرب؛ أي ال يصدق بذلك (‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪« :‬أي ال تقر بخربنا وال تثق به وال تطمئن إليه ولو كنا‬
‫صادقني؛ ألهنم مل يكونوا عنده ممن يؤمتن عىل ذلك‪ ،‬فلو صدقوا مل يؤمن هلم»‪( ،‬جمموع الفتاوى‬
‫‪.)292-291/7‬‬
‫(‪ )2‬ال شك أن التصديق من معاين اإليامن يف اللغة‪ ،‬لكن ليس اإليامن هو التصديق فقط‪ ،‬بل‬
‫يشتمل عىل معنى زائد عىل جمرد التصديق‪ ،‬كام يدل عليه اشتقاقه من األمن واالئتامن‪ ،‬ولذلك‬
‫يطلق عىل الثقة والطمأنينة للمخرب واإلذعان خلربه‪ ،‬وقال الراغب األصفهاين يف‬
‫املفردات(ص‪« :)26‬اإليامن هو التصديق الذي معه أمن»‪ ،‬ورجح شيخ اإلسالم ابن تيمية‬
‫تفسري لفظ اإليامن باإلقرار القلبي الذي يتضمن مع التصديق عمال قلبيا كام يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ثم‬
‫أقررتم﴾‪ ،‬وقوله‪﴿ :‬أأقررتم﴾‪ ،‬وألن اإلقرار يتعدى بنفسه وبالباء وبالالم كاإليامن بخالف‬
‫التصديق‪ .‬انظر‪ :‬جمموع الفتاوى (‪ ،)636/7 ،637/2‬و«األمثال القرآنية القياسية املرضوبة‬
‫لإليامن باهلل» (‪ )183-179/1‬د‪ .‬عبد اهلل اجلربوع‪ ،‬ط اجلامعة اإلسالمية‪.‬‬
‫وقد أقر شيخ متأخري األشعرية ابن حجر اهليتمي‪ :‬أن اإليامن يف اللغة يأيت ملعنى االعرتاف‬
‫واإلقرار فيعدى بالباء‪ ،‬ويأيت ملعنى اإلذعان والقبول فيعدى بالالم‪ .‬انظر‪« :‬الفتح املبني برشح‬
‫األربعني» ص ‪ ،151‬دار املنهاج‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫فوجب أن يكون اإليامن يف الرشيعة هو اإليامن املعروف يف اللغة؛ ألن اهلل‬


‫غري لسان العرب وال قلبه‪ ،‬ولو فعل ذلك لتواترت األخبار بفعله‪،‬‬
‫عز وجل ما ّ‬
‫وتوفرت دواعي األمة عىل نقله‪ ،‬ولغلب إظهاره وإشهاره عىل طيه وكتامنه‪،‬‬
‫ويف علمنا أنه مل يفعل ذلك‪ ،‬بل أقر أسامء األشياء‪ ،‬والتخاطب بأرسه عىل ما‬
‫كان فيها دليل عىل أن اإليامن يف الرشع هو اإليامن اللغوي» (‪.)1‬‬

‫الوجه الثالث‪:‬‬
‫ورود آيات يف القرآن تفرق بني املعرفة واإليامن‪.‬‬
‫قال التفتازاين‪« :‬املذهب أنه (أي التصديق) غري العلم واملعرفة؛ ألن من‬
‫الكفار من كان يعرف احلق وال يصدق به عنادا واستكبارا‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كام يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون‬
‫احلق وهم يعلمون﴾‪ ،‬وقال‪﴿ :‬وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه احلق من‬
‫رهبم وما اهلل بغافل عام يعملون﴾‪ ،‬وقال حكاية عن موسى عليه السالم‬
‫لفرعون‪﴿ :‬لقد علمت ما أنزل هؤالء إال رب الساموات واألرض بصائر﴾‪.‬‬
‫فاحتيج إىل الفرق بني العلم بام جاء به النبي ‪ ‬وهو معرفته وبني التصديق؛‬
‫ليصح كون األول حاصال للمعاندين دون الثاين‪ ،‬وكون الثاين إيامنا دون‬
‫األول» (‪.)2‬‬

‫(‪« )1‬متهيد األوائل وتلخيص الدالئل» (‪ ،)389-388‬مؤسسة الكتب الثقافية بريوت‬


‫‪.1407‬‬
‫(‪« )2‬رشح املقاصد» (‪.)426/3‬‬

‫‪18‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫ثم ذكر الوجهني السابقني ومل يرتضهام‪ ،‬بل س ّلم أن التصديق هو املعرفة‬
‫فقال‪« :‬نعم‪ ،‬يلزم أن تكون املعرفة اليقينية املكتسبة باالختيار تصديقا (‪ ،)1‬وال‬
‫بأس بذلك؛ ألنه حيصل املعنى الذي يعرب عنه بكرويدن(‪ ،)2‬وليس اإليامن‬
‫والتصديق سوى ذلك» (‪.)3‬‬
‫وهذه اآليات التي ذكروها حجة عليهم؛ فإن اليهود كانوا يعرفون النبي‬
‫‪ ، ‬أي يعلمون صدقه‪ ،‬وينسبون إليه الصدق‪ ،‬ويقولون‪ :‬هو صادق‪ ،‬وهم يف‬
‫ذلك عىل يقني ال يشكون فيه‪ ،‬وهذا هو حقيقة اإليامن عند مجهور األشاعرة!‬
‫ولذلك أورد بعضهم إشكاال‪ :‬أن تعريف اإليامن بالتصديق غري مانع؛‬
‫لصدقه عىل مثل هذا مع احلكم بكفره وانتفاء اإليامن عنه‪ .‬ومل جيد له األشاعرة‬
‫جوابا ساملا (‪.)4‬‬
‫وقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ليعلمون أنه احلق من رهبم﴾ أي يقرون يف أنفسهم أن هذا‬
‫القرآن صدق وحق منزل من عند اهلل‪ ،‬فقد وقع يف قلوهبم صدق النبي ‪ ‬فيام‬

‫(‪ )1‬سبق أن االكتساب باالختيار رشط للتصديق وليس من ماهيته‪ ،‬والتصديق يكون يقينيا‬
‫وظنيا كام رجحه التفتازاين وغريه‪ ،‬وكذلك املعرفة‪ ،‬فحاصل كالمه أن املعرفة هي التصديق‪،‬‬
‫وذكره االختيار واليقينية حشو وإهيام!‬
‫(‪ )2‬كرويدن‪ :‬كلمة فارسية‪ ،‬يطلقوهنا يف املنطق بمعنى التصديق الذي هو مقابل التصور‪،‬‬
‫انظر‪« :‬رشح املقاصد» (‪ .)428/3‬والتصديق املنطقي هو أحد قسمي العلم والعلم هو املعرفة‪،‬‬
‫فتأمل !‬
‫(‪« )3‬رشح العقائد النسفية» (ص‪.)159‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪« :‬الفتح املبني» للهيتمي ص ‪. 153‬‬

‫‪19‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫أتى به‪ ،‬وذلك باختيار منهم ونظر واستدالل بربهان ما جيدونه يف كتبهم من‬
‫أمارات النبوة(‪ ،)1‬وهذا هو معنى اإليامن عند األشاعرة!‬

‫إيمان فرعون !‬
‫وفرعون حصل له أن موسى عليه السالم صادق فيام أتى به‪ ،‬وأنه من عند‬
‫اهلل‪ ،‬وذلك بنظره يف معجزات موسى واستدالله هبا؛ فإن موسى قال له‪:‬‬
‫﴿أولو جئتك بيشء مبني‪ .‬قال فأت به إن كنت من الصادقني﴾‪ ،‬فأتى موسى‬
‫باآليات واملعجزات وشاهدها فرعون فحصل له صدق موسى فيام جاء به‪،‬‬
‫فقال له موسى‪﴿ :‬لقد علمت ما أنزل هؤالء إال رب الساموات واألرض‬
‫بصائر﴾‪ ،‬أي حصل لك العلم بصدقي وأن ما جئت به ليس إال من عند اهلل‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬وجحدوا هبا واستيقنتها أنفسهم ظلام وعلوا﴾‪ ،‬فذكر تعاىل‬
‫أن فرعون ومأله حصلت هلم املعرفة اليقينية بصدق معجزات موسى‪ ،‬وذلك‬
‫هو حقيقة اإليامن عند األشاعرة‪ ،‬واجلحود ينايف االستسالم ال املعرفة‪،‬‬
‫واالستسالم عندهم ليس من حقيقة اإليامن‪ ،‬وإنام هو رشط له‪ ،‬كام يأيت‪.‬‬
‫وقد حكم أبو حامد الغزايل يف «قواعد العقائد»‪ :‬أن من صدق بقلبه‬
‫وساعده من العمر مهلة ومل ينطق بالشهادتني مؤمن غري خملد يف النار‪ ،‬قال‪:‬‬
‫«واإليامن هو التصديق املحض‪ ،‬واللسان ترمجان اإليامن‪ ،‬فال بد أن يكون‬
‫اإليامن موجودا بتاممه قبل اللسان حتى يرتمجه اللسان‪ ،‬وهذا هو األظهر‪...‬‬

‫املكون من املقدّ مات العقلية مل‬


‫ّ‬ ‫(‪ )1‬إال أن يقولوا‪ :‬ملا كان استدالهلم بغري الربهان املنطقي‬
‫يكن معتربا !‬

‫‪20‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫وال ينعدم اإليامن من القلب بالسكوت عن النطق الواجب‪ ،‬كام ال ينعدم‬


‫بالسكوت عن الفعل الواجب » (‪.)1‬‬
‫وذكر الزبيدي يف رشحه أنه استنبط من هذا الكالم ثبوت إيامن فرعون‪،‬‬
‫و َنقل عن الباقالين قوله‪« :‬إن قبول إيامنه هو األقوى من حيث االستدالل»(‪،)2‬‬
‫وعن ابن حجر اهليتمي قوله‪« :‬إنه ال قطع عىل عدمه (يعني إيامن فرعون)‪ ،‬بل‬
‫ظاهر اآلية وجوده» (‪.)3‬‬

‫(‪« )1‬إحياء علوم الدين» (‪ )140/1‬دار ابن اهليثم القاهرة د‪ .‬ت‪.‬‬


‫(‪ )2‬ينظر يف كتبه‪.‬‬
‫(‪« )3‬إحتاف السادة املتقني برشح إحياء علوم الدين» (‪ )385/2‬دار الكتب العلمية بريوت‬
‫‪.1409‬‬
‫ونص كالم اهليتمي مع متامه‪« :‬إيامن فرعون الذي زعمه قوم فإنه ال قطع عىل عدمه‪ ،‬بل‬
‫ظاهر اآلية وجوده‪ ،‬وألف فيه مع االسرتواح يف أكثره بعض حمققي املتأخرين من مشايخ‬
‫مشاخينا‪ ،‬ومما يرد عليه أن اإليامن عند يأس احلياة بأن وصل آلخر رمق كالغرغرة ‪ -‬وإدراك‬
‫الغرق يف اآلية من ذلك كام هو واضح‪ ،‬خالفا ملن نازع فيه ‪ -‬ال يقبل كام رصح به أئمتنا‬
‫وغريهم‪ ،‬وهو رصيح قوله تعاىل‪﴿ :‬فلم يك ينفعهم إيامهنم ملا رأوا بأسنا﴾‪.‬‬
‫وبام تقرر علم خطأ من كفر القائلني بإسالم فرعون؛ ألنا وإن اعتقدنا بطالن هذا القول‪ ،‬لكنه‬
‫‪ -‬وإن وردت به أحاديث وتبادر من آيات َأوهلا املخالفون بام ال ينفع ‪ -‬غري رضوري وإن فرض‬
‫أنه جممع عليه بنا ًء عىل أنه ال عربة بخالف أولئك؛ إذ مل يعلم أن فيهم من بلغ مرتبة االجتهاد‬
‫املطلق»‪( .‬حتفة املحتاج ‪ -‬كتاب الردة ‪.)88/9‬‬
‫وقال يف «الفتح املبني» ص ‪« :153‬واتفق القائلون بأن اإلقرار ال يعترب عىل اشرتاط ترك‬
‫العناد بأن يعتقد أنه متى كولب به أتى به‪ ،‬فإن طولب به فامتنع عنادا كفر‪ ،‬كام لو سجد لصنم أو‬
‫استخف بنبي أو بالكعبة ونحو ذلك من املكفرات»‪ .‬وهذا من تناقض فقهاء األشعرية‪.‬‬
‫وممن كان يقول بثبوت إيامن فرعون السيد حممد بن رسول الربزنجي املدين‪ ،‬وذكر الزبيدي‬
‫قصة طريفة حصلت بينه وبني أحد احلضارمة‪ ،‬فقال (‪« : )386/2‬ولقد حكى يل بعض من أثق‬
‫=‬

‫‪21‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫وذكر الزبيدي أن اإليامن هو التصديق باألمور اخلاصة باملعنى اللغوي(‪،)1‬‬


‫(‪)2‬‬
‫(وهو يف اللغة‪ :‬احلكم بصدق املتكلم أو نسبته إىل الصدق)‪ ،‬وأن املعرفة‬
‫واالنقياد الذي هو االستسالم يلزم خروجهام من مفهوم التصديق لغة‪ ،‬وكذا‬
‫ليسا جزءا من مفهومه رشعا‪ ،‬وإن كانا معتربين فيه من جهة أهنام رشطان‬
‫العتباره إلجراء أحكامه رشعا؛ ألن اعتبارمها جزءين من مفهوم التصديق‬
‫رشعا يستلزم نقل التصديق من املعنى اللغوي إىل معنى آخر رشعي‪ ،‬وهذا‬
‫النقل خالف األصل وال دليل عليه‪ ،‬ثم قال‪« :‬وإذا تقرر ذلك ظهر ثبوت‬
‫التصديق لغة بدوهنام مع الكفر الذي هو ضد اإليامن» (‪.)3‬‬
‫ومعنى هذا أن اإليامن الرشعي عندهم كذلك يثبت مع الكفر‪ ،‬والنتيجة‬
‫أن فرعون وأمثاله كانوا مؤمنني يف احلقيقة فال خيلدون يف النار؛ ألن االنقياد‬
‫واإلقرار باللسان (ومنه الشهادتان) ليسا عندهم إال رشطني إلجراء أحكام‬
‫اإلسالم يف الدنيا فقط‪.‬‬

‫به من السادة‪ :‬أن اإلمام العالمة الشيخ حسن بن أمحد با غرت احلرضمي‪ ،‬حيث وفد إىل املدينة عىل‬
‫ساكنها أفضل الصالة والسالم‪ ،‬فاوض مع املذكور يف هذه املسألة‪ ،‬وأن عدم إيامنه مما أمجع عليه‪،‬‬
‫فأول ما فاحته به أن قال له‪:‬‬
‫وطال بينهام الكالم إىل أن انفصال من غري مرام‪ ،‬فلام أصبح لقيه ّ‬
‫السالم عليك يا أخا فرعون! فتنغص السيد جدا‪ ،‬وانحرف مزاجه عىل املذكور‪ ،‬وعرف من‬
‫ذلك‪ ،‬وشكاه عند بعض الناس‪ ،‬فالموه فاعتذر هلم‪ :‬إين ما قلت شط ًطا‪ ،‬هو يقول بإيامن فرعون‬
‫ويثبته‪ ،‬واملؤمنون إخوة‪ ،‬فل َم يتأذى من أخوة فرعون وهو مؤمن عنده؟! فانقطعوا»‪.‬‬
‫(‪ )1‬وكذا قال التفتازاين يف «رشح املقاصد» (‪.)426/3‬‬
‫(‪ )2‬مل يذكر برها ًنا للتفريق بني تصديقهم ومعرفة اجلهمية‪.‬‬
‫(‪« )3‬إحتاف السادة املتقني» (‪.)392/3‬‬

‫‪22‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫فقد نص التفتازاين عىل أن معنى التصديق حاصل لبعض الكفار‪ ،‬وأن‬


‫إطالق اسم الكافر عليه من جهة أن عليه شيئا من أمارات التكذيب‬
‫واإلنكار(‪ ،)1‬مثل من صدق بجميع ما أتى به النبي ‪ ، ‬ومع ذلك َشد ُّ‬
‫الزنار‬
‫باالختيار أو سجد للصنم باالختيار! (‪.)2‬‬
‫وذكر اخليايل(‪« )3‬أن الكفر يف مثل هذه الصورة يف الظاهر ويف حق إجراء‬
‫األحكام‪ ،‬ال فيام بينه وبني اهلل تعاىل» (‪.)4‬‬
‫وذكر ابن حجر اهليتمي‪ :‬أن اإلقرار باللسان رشط إلجراء أحكام‬
‫الكف عن الدم واملال‪ ،‬دون النجاة يف‬
‫ُّ‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وأنه إنام رتب عىل القول‬
‫اآلخرة‪ .‬وقال‪« :‬وأما ما وقع يف رشح مسلم للمصنف [يعني النووي] من نقله‬

‫ً‬
‫حقيقة وإن أطلقنا عليه فيام يظهر لنا‪ ،‬ويلزم من هذا إثبات إيامن مجيع‬ ‫(‪ )1‬أي ليس كافرا‬
‫الكفار الذين كانوا حيكمون بال شك بصدق النبي ‪ ‬فيام أتى به‪ ،‬وذلك وصف أهل الكتاب‬
‫وكثري من املرشكني‪.‬‬
‫(‪« )2‬رشح العقائد النسفية» (ص‪ ،)153-152‬ونحوه يف «رشح املقاصد» (‪.)429/3‬‬
‫واستشكل بعضهم قول التفتازاين هنا بام ذكره يف «رشح املقاصد» (‪ )429/3‬أن الكفر قد يكون‬
‫« من جهة اإلباء عن اإلقرار باللسان واالستكبار عن امتثال األوامر وقبول األحكام واإلرصار‬
‫عىل التكذيب باللسان‪ ،‬إىل غري ذلك من موجبات الكفر مع تصديق القلب؛ لعدم االعتداد به مع‬
‫تلك األمارات‪ ،‬كام يف إلقاء املصحف يف القاذورات»‪ ،‬فهذا يدل عىل أن ذلك التصديق كالعدم!‬
‫وكالمه هنا يدل عىل أنه معتد به! واجلواب‪ :‬أن قوله (لعدم اعتداده) أي يف الدنيا‪ ،‬وال إشكال‪،‬‬
‫واقرأ كالم اخليايل أعاله‪.‬‬
‫(‪ )3‬هو أمحد بن موسى اخليايل‪ ،‬تويف سنة ‪. 860‬‬
‫(‪« )4‬حاشية اخليايل عىل رشح العقائد النسفية» (ص‪ )91‬مطبوعة بذيل حاشية الكستيل‪،‬‬
‫وذكر الكستيل يف حاشيته (ص‪ )153‬نحو كالم اخليايل‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫اتفاق أهل السنة من املحدثني والفقهاء واملتكلمني عىل أن من آمن بقلبه ومل‬
‫ينطق بلسانه مع قدرته كان خملدا يف النار؛ فمعرتض بأنه ال إمجاع عىل ذلك‪،‬‬
‫ٍ‬
‫عاص برتك اللفظ‪ ،‬بل الذي‬ ‫وبأن لكل من األئمة األربعة(‪ً )1‬‬
‫قوال إنه مؤمن‬
‫عليه مجهور األشاعرة وبعض حمققي احلنفية كام قاله املحقق الكامل ابن اهلامم‬
‫وغريه‪ :‬أن اإلقرار باللسان إنام هو رشط إلجراء أحكام الدنيا فحسب» (‪.)2‬‬
‫بل قال القايض أبو بكر الباقالين‪« :‬إن قال قائل‪ :‬وما الكفر عندكم ؟‬

‫(‪ )1‬مل ينقل عن األئمة ما خيالف عقيدة السلف الصالح‪ ،‬إال ما نقل عن أيب حنيفة من‬
‫إخراجه عمل اجلوارح من حقيقة اإليامن‪ ،‬لكنه مع ذلك يرى أن التلفظ بالشهادتني ركن من‬
‫اإليامن‪ .‬وقد ذكر اهليتمي قبل هذا ص ‪ :151‬أن «ما يروى أن اإليامن إقرار باللسان وعمل‬
‫باألركان واعتقاد باجلنان‪ ،‬إنام هو من كالم بعض السلف»‪ ،‬يعني أنه ليس مذهب كل السلف‪،‬‬
‫وهذه مكابرة؛ ألن كون ذلك مذهب السلف مقطوع به‪ ،‬ونَقل إمجاعهم عليه كثري من األئمة‪،‬‬
‫منهم اإلمام الشافعي ﭬ حيث قال‪« :‬وكان اإلمجاع من الصحابة والتابعني من بعدهم ممن‬
‫أدركناهم أن اإليامن قول وعمل ونية‪ ،‬ال جيزئ واحد من الثالثة باآلخر» (رشح أصول اعتقاد‬
‫أهل السنة واجلامعة لاللكائي ‪.)957/5‬‬
‫(‪« )2‬الفتح املبني» ص ‪ . 152‬وذكر حممد بن رسول الربزنجي أن حمققي أهل الكالم‬
‫يقولون‪ :‬اإليامن هو التصديق فقط‪ ،‬قال‪ « :‬وافرتقوا‪ :‬فقيل‪ :‬النطق باللسان رشط لصحته‬
‫واالعتداد به ظاهرا وباطنا‪ ،‬فال حيكم بنجاته ودخوله اجلنة إال به‪ ،‬وال حيكم عليه بأحكام الدنيا‬
‫كاإليامن يف الدنيا إال به‪ ،‬وهو الذي رجحه اإلمام (أي الرازي) والبيضاوي والنووي وغريهم‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه رشط إلجراء األحكام الدنيوية فقط‪ ،‬والنجاة يف اآلخرة منوط بالتصديق فقط‪ ،‬وهو‬
‫قول شيخي السنة أيب احلسن األشعري وأيب منصور املاتريدي‪ ،‬ورصح به الغزايل يف اإلحياء‬
‫وبسط فيه القول‪ ،‬واختاره املحققون منهم ابن اهلامم يف املسايرة‪ .‬قالوا‪ :‬فالنطق بالشهادتني رشط‬
‫إلجراء األحكام الدنيوية يف املناكحة والتوارث والصالة والدفن يف مقابر املسلمني ونحو ذلك»‪،‬‬
‫(مرقاة الصعود إىل فهم أوائل العقود [ ق ‪ 6‬أ ] )‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫قيل له‪ :‬هو ضد اإليامن‪ ،‬وهو اجلهل باهلل عز وجل والتكذيب به‪ ،‬الساتر‬
‫لقلب اإلنسان عن العلم به‪ ،‬فهو كاملغطي للقلب عن معرفة احلق‪ ....‬ومنه‬
‫سمي مغطي الزرع كافرا‪.‬‬
‫وقد يكون الكفر بمعنى التكذيب واجلحد واإلنكار‪ ،‬ومنه قوهلم‪ :‬كفرين‬
‫حقي؛ أي جحدين‪.‬‬
‫وليس يف املعايص كفر غري ما ذكرناه‪ ،‬وإن جاز أن يسمى أحيانا ما جعل‬
‫علام عىل الكفر كفرا؛ نحو عبادة األفالك والنريان واستحالل املحرمات وقتل‬
‫األنبياء وما جرى جمرى ذلك‪ ،‬مما ورد به التوقيف وصح اإلمجاع عىل أنه ال يقع‬
‫إال من كافر باهلل مكذب له وجاحد له» (‪.)1‬‬
‫وقال أيضا‪ « :‬فإن قال‪ :‬فلم قلتم إن الفسق الذي ليس بجهل باهلل ال يضاد‬
‫اإليامن؟‬
‫قيل له‪ :‬ألن الشيئني إنام يتضادان يف حمل واحد‪ ،‬وقد علمنا أن ما يوجد‬
‫باجلوارح ال جيوز أن ينفي علام وتصديقا يوجد بالقلب‪ ،‬فثبت أنه غري مضاد‬
‫للعلم باهلل والتصديق له‪.‬‬
‫والدليل عىل ذلك أنه قد يعزم عىل معصية الرسول ‪ ‬بقلبه من ال ينفي‬
‫عزمه عىل ذلك معرف َة النبي ‪ ‬وتصديقه له‪ ،‬وكذلك حكم القول يف العزم‬

‫(‪« )1‬متهيد األوائل وتلخيص الدالئل» (‪.)392-391‬‬

‫‪25‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫عىل معصية اهلل عز وجل‪ ،‬وأنه غري مضاد ملعرفته والعلم به‪ ،‬والتصديق له هو‬
‫اإليامن ال غري»(‪.)1‬‬
‫وقال بعض معارصهيم‪« :‬إن هاهنا مقامني‪ :‬حقيقة اإليامن‪ ،‬وعلمنا‬
‫بحصول هذه احلقيقة عند من آمن‪ .‬أما املقام األول‪ :‬فيكفي جمرد التصديق؛ إذ‬
‫ذاك حقيقة اإليامن عندهم (يعني مجهورهم)‪ .‬وأما املقام الثاين‪ :‬فال بد فيه من‬
‫النطق؛ ألنه الطريق إىل العلم باإليامن حتى يمكن إجراء األحكام الدنيوية عىل‬
‫ذلك املؤمن» (‪.)2‬‬
‫ورجح حسن أيوب من معارصهيم أن املصدق بقلبه ناج عند اهلل وإن مل‬
‫ينطق بالشهادتني (‪ ،)3‬ومال إليه حممد سعيد رمضان البوطي (‪.)4‬‬
‫وعىل هذا يكون إبليس من الناجني من النار؛ ألنه من املصدقني بقلوهبم‪،‬‬
‫وكذلك أبو طالب عم النبي ‪ ‬وغريهم كثري!‬
‫وقال أبو حممد ابن حزم‪« :‬اختلف الناس يف ماهية اإليامن؛ فذهب قوم إىل‬
‫أن اإليامن إنام هو معرفة اهلل تعاىل بالقلب فقط‪ ،‬وإن أظهر اليهودية والنرصانية‬
‫وسائر أنواع الكفر بلسانه عبادة‪ ،‬فإذا عرف اهلل تعاىل بقلبه فهو مسلم من أهل‬

‫(‪« )1‬متهيد األوائل» (‪.)396-395‬‬


‫(‪ )2‬حممد يوسف الشيخ يف تعليقه عىل «إحتاف املريد» (ص‪.)35‬‬
‫(‪« )3‬تبسيط العقائد اإلسالمية» (ص ‪. )32-29‬‬
‫(‪« )4‬كربى اليقينيات الكونية» (ص ‪.)196‬‬

‫‪26‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫اجلنة‪ ،‬وهذا قول أيب حمرز اجلهم بن صفوان وأيب احلسن األشعري البرصي‬
‫وأصحاهبام» (‪.)1‬‬
‫فهذه النصوص تدل بجالء أن حقيقة اإليامن عند األشاعرة هو التصديق‬
‫العلمي املرادف للمعرفة ‪.‬‬
‫وبام تقدم يظهر لنا أنه ال يوجد أي فرق بني التصديق الذي هو من باب‬
‫العلوم وعليه مجهور األشاعرة‪ ،‬وبني املعرفة عند اجلهمية‪ ،‬وأن أكثر األشاعرة‬
‫ال يدخلون أعامل القلوب يف اإليامن‪.‬‬

‫التعبير بالمعرفة والعلم مكان التصديق‪:‬‬


‫ومما يدل أيضا عىل ترادف التصديق واملعرفة عند األشاعرة‪ ،‬أهنم قد‬
‫يعربون باملعرفة عن التصديق‪ ،‬ويعرب اجلهمية بالتصديق عن املعرفة‪.‬‬
‫قال التفتازاين‪« :‬وكثريا ما يقع يف عبارات النحارير من العلامء مكان‬
‫التصديق‪ :‬تارة املعرفة‪ ،‬وتارة العلم‪ ،‬وتارة االعتقاد» (‪.)2‬‬
‫وقال أيضا‪« :‬وقع يف كالم كثري من عظامء امللة وعلامء األمة مكان لفظ‬
‫التصديق‪ :‬لفظ املعرفة واالعتقاد‪ ،‬فينبغي أن حيمل عىل العلم التصديقي املعرب‬

‫(‪« )1‬الفصل يف األهواء وامللل والنحل» (‪ ،)106|3‬وسبق التنبيه عىل أن األشعري رجع‬
‫عن هذا القول‪ ،‬لكن املنتسبني إليه بقوا عليه كام ترى‪.‬‬
‫(‪« )2‬رشح املقاصد» (‪.)421/3‬‬

‫‪27‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫عنه بكرويدن(‪ ،)1‬ويقطع بأن التصديق من جنس العلوم واالعتقادات‪ ،‬لكنه يف‬
‫اإليامن مرشوط بقيود وخصوصيات كالتحصيل واالختيار وترك اجلحود‬
‫واالستكبار(‪ ،)2‬ويدل عىل ذلك ما ذكره أمري املؤمنني عيل كرم اهلل وجهه أن‬
‫اإليامن معرفة (‪ ،)3‬واملعرفة تسليم‪ ،‬والتسليم تصديق» (‪.)4‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ « :‬وزعم جهم ومن وافقه‪ ...‬أن جمرد‬
‫معرفة القلب وتصديقه يكون إيامنا يوجب الثواب يوم القيامة بال قول وال‬
‫عمل ظاهر‪ ،‬وهذا باطل رشعا وعقال» (‪.)5‬‬
‫وذكر الزبيدي أن مذهب أيب حنيفة‪ :‬أن اإليامن هو التصديق بالقلب‬
‫واإلقرار باللسان‪ ،‬قال‪« :‬وكان جهم يكتفي بالتصديق» (‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬سبق أن كرويدن كلمة فارسية بمعنى التصديق املنطقي‪ ،‬والعلم التصديقي املنطقي هو‬
‫هترب !‬
‫املعرفة وال فرق بينهام فتأمل‪ ،‬فعدوله عن لفظ املعرفة إىل العلم ُّ‬
‫(‪ )2‬يشرتطون عدم اجلحود واالستكبار ال لثبوت حقيقة اإليامن وال الستدامته‪ ،‬بل ألنه‬
‫يلزم منهام عدم اإلقرار باللسان واالمتناع عن االمتثال مع املطالبة به‪ ،‬وهم يشرتطون اإلقرار‬
‫والعمل إلجراء أحكام اإليامن يف الدنيا‪ ،‬ومن حكم الرشع بكفره محلوه عىل أن معنى التصديق‬
‫انتفى من قلبه‪ ،‬وذلك ال يعلم إال بالوحي‪ ،‬وراجع ما سبق وما يأيت‪.‬‬
‫(‪ )3‬مل أجد من روى هذا عن عيل ﭬ ‪.‬‬
‫(‪« )4‬رشح املقاصد» (‪ ،)430/3‬وهلذه املقدمات نتائج منها‪ :‬أن املعرفة تصديق !‬
‫(‪« )5‬جمموع الفتاوى» (‪ .)121/14‬قال السجزي يف رسالته ص ‪« :334‬وكل من زعم أن‬
‫اإليامن قول مفرد‪ ،‬أو قول ومعرفة‪ ،‬أو قول وتصديق‪ ،‬أو معرفة جمردة‪ ،‬أو تصديق مفرد‪ ،‬أو أنه ال‬
‫يزيد وال ينقص‪ ،‬فهو مرجئ‪ ،‬وبعضهم جهمي»‪.‬‬
‫(‪« )6‬إحتاف السادة املتقني» (‪.)380/2‬‬

‫‪28‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫مذهب جهم وأتباعه‪:‬‬


‫ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ :‬أن جهم بن صفوان ومن اتبعه أخطؤوا؛‬
‫«حيث ظنوا أن اإليامن جمرد تصديق القلب وعلمه‪ ،‬ومل جيعلوا أعامل القلب‬
‫من اإليامن‪ ،‬وظنوا أنه قد يكون اإلنسان مؤمنا كامل اإليامن بقلبه (‪ )1‬وهو مع‬
‫هذا يسب اهلل ورسوله ويعادي اهلل ورسوله ويعادي أولياء اهلل ويوايل أعداء اهلل‬
‫ويقتل األنبياء وهيدم املساجد وهيني املصاحف ويكرم الكفار غاية الكرامة‬
‫وهيني املؤمنني غاية اإلهانة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وهذه كلها معاص ال تنايف اإليامن الذي يف قلبه(‪ ،)2‬بل يفعل هذا‬
‫وهو يف الباطن عند اهلل مؤمن!‬
‫قالوا‪ :‬وإنام ثبت له يف الدنيا أحكام الكفار؛ ألن هذه األقوال أمارة عىل‬
‫الكفر ليحكم بالظاهر‪ ،‬كام حيكم باإلقرار والشهود وإن كان يف الباطن قد‬
‫يكون بخالف ما أقر به وبخالف ما شهد به الشهود‪.‬‬
‫فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة واإلمجاع عىل أن الواحد من هؤالء كافر‬
‫يف نفس األمر معذب يف اآلخرة؛ قالوا‪ :‬فهذا دليل عىل انتفاء التصديق والعلم‬
‫من قلبه (‪ ،)3‬فالكفر عندهم يشء واحد وهو اجلهل‪ ،‬واإليامن يشء واحد وهو‬

‫(‪ )1‬تأمل هذا مع ما قرره الغزايل فيام تقدم‪.‬‬


‫(‪ )2‬تأمل هذا مع ما قرره الباقالين فيام سبق ‪.‬‬
‫(‪ )3‬قال عضد الدين اإلجيي يف فعل من صدق بقلبه وسجد للشمس‪« :‬هو دليل عىل عدم‬
‫التصديق‪ ،‬حتى لو علم أنه مل يسجد هلا عىل سبيل التعظيم واعتقاد اإلهلية‪ ،‬مل حيكم بكفره فيام بينه‬
‫وبني اهلل»‪ ،‬وكذا قال فيمن شد الزنار‪«( ،‬املواقف يف علم الكالم» ص‪ .)388-387‬وكذا قال‬
‫=‬

‫‪29‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫العلم(‪ ،)1‬أو تكذيب القلب وتصديقه؛ فإهنم متنازعون هل تصديق القلب‬


‫يشء غري العلم أو هو هو‪.‬‬
‫وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل يف اإليامن فقد ذهب إليه كثري من أهل‬
‫الكالم املرجئة‪ ،‬وقد كفر السلف كوكيع بن اجلراح وأمحد بن حنبل وأيب عبيد‬
‫وغريهم من يقول هبذا القول» (‪.)2‬‬
‫ثم قال شيخ اإلسالم‪ « :‬فهؤالء غلطوا يف‪ ...‬ظنهم أن اإليامن جمرد‬
‫تصديق وعلم فقط‪ ،‬ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة وحمبة وخشية يف‬
‫القلب‪ ،‬وهذا من أعظم غلط املرجئة مطلقا؛ فإن أعامل القلوب‪ ...‬كل ما فيها‬

‫تلميذه التفتازاين يف بغض النبي ‪ ‬وإلقاء املصحف يف القاذورات والسجود للصنم‪ :‬أهنا أمارة‬
‫عدم التصديق‪«( ،‬رشح املقاصد» ‪.)437/3‬‬
‫وذكر التفتازاين أن اإليامن إذا جعل اسام للتصديق فقط كام هو مذهبهم‪« :‬فإن اإلقرار (أي‬
‫باللسان) حينئذ رشط إلجراء أحكام الدنيا من الصالة عليه وخلفه والدفن يف مقابر املسلمني‪...‬‬
‫ثم اخلالف فيام إذا كان قادرا وترك التكلم ال عىل وجه اإلباء؛ إذ العاجز كاألخرس مؤمن وفاقا‪،‬‬
‫واملرص عىل عدم اإلقرار مع املطالبة به كافر وفاقا؛ لكون ذلك من أمارات عدم التصديق‪ ،‬وهلذا‬
‫أطبقوا عىل كفر أيب طالب وإن كابرت الروافض» (رشح املقاصد ‪.)421/3‬‬
‫ويظهر من هذا أن التصديق (أو املعرفة) إما أن يكون باقيا يف قلب الشخص فيكون مؤمنا‬
‫يف الباطن وإن كفرناه يف الظاهر‪ ،‬وإما أن ينتفي التصديق (املعرفة) من قلبه فيكون كافرا يف‬
‫الظاهر والباطن‪ ،‬وكل من نص الرشع عىل كفره محلوه عىل الثاين‪ ،‬وعليه محل التفتازاين كفر أيب‬
‫طالب كام ترى‪ ،‬وهذا مكابرة؛ فإن أبا طالب مات وهو يعلم أن حممدا ‪ ‬صادق فيام أتى به‪ ،‬ومل‬
‫يكن كفره عن جهل وعدم علم‪ ،‬كام هو معلوم عند من له أدنى اطالع عىل أخباره‪.‬‬
‫(‪ )1‬وقد سبق أن نقلنا عن الباقالين تقريره هلذا املعنى ‪.‬‬
‫(‪« )2‬جمموع الفتاوى» (‪.)189-88/7‬‬

‫‪30‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫مما فرضه اهلل ورسوله فهو من اإليامن الواجب‪ ،‬وفيها ما أحبه ومل يفرضه فهو‬
‫من اإليامن املستحب» (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق (‪.)190/7‬‬

‫‪31‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -4‬إدخال بعضهم أعمال القلوب يف التصديق‬


‫ذهب بعض األشاعرة إىل أن التصديق املعترب يف اإليامن هو االستسالم يف‬
‫الباطن واالنقياد املستلزم لإلجالل‪ ،‬وذلك أمر زائد عىل املعرفة‪.‬‬
‫وذكر التفتازاين أن بعض األشاعرة حصل عنده تردد يف معنى التصديق‬
‫املعترب يف اإليامن؛‬
‫‪ -‬فتارة يميل إىل أنه نوع من التصديق املنطقي ‪ -‬الذي هو أحد قسمي‬
‫العلم؛ ألن العلم عندهم ترص وتصديق‪ ،-‬لكنه مقيد باالختيار فيكون‬
‫التصديق املنطقي أعم منه؛ إذ هو حاصل باالختيار وبعدمه‪.‬‬
‫‪ -‬وتارة يميل إىل أنه ليس من جنس العلوم أصال‪ ،‬لكونه فعال قلبيا‬
‫اختياريا زائدا عىل العلم الذي هو كيفية نفسانية وانفعال (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬ثم اختار التفتازاين قوال ثالثا‪ ،‬وهو أن التصديق املعترب يف اإليامن هو بعينه التصديق‬
‫املنطقي وأنه مطابق له يف احلقيقة‪ ،‬ومستنده أن األشاعرة متفقون عىل أن التصديق املعترب يف‬
‫اإليامن هو التصديق اللغوي‪ ،‬وأن ابن سينا الذي هو القدوة يف فن املنطق رصح بأن التصديق‬
‫املنطقي هو بعينه التصديق اللغوي‪( .‬رشح املقاصد ‪.)428/3‬‬
‫ونازعه يف ذلك كال الطائفتني؛ أما أصحاب القول الثاين الذين يفرسون التصديق بأمر زائد‬
‫عىل العلم‪ ،‬ويدخلون فيه أعامل القلوب‪ ،‬فأمرهم واضح‪ .‬وأما الذين قالوا بأن التصديق اللغوي‬
‫املعترب يف اإليامن أخص من التصديق املنطقي فعارضوه من وجوه‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن التصديق اللغوي املعترب يف اإليامن ال يكون إال باالختيار بخالف املنطقي فقد‬
‫حيصل بال اختيار‪ ،‬وقد سبق مناقشة هذا‪ ،‬وأن التفتازاين وغريه جيعل االختيار رشطا للتصديق‬
‫خارجا عن حقيقته وماهيته‪.‬‬
‫=‬

‫‪32‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫ثم قال‪« :‬وعىل هذا األخري أرص بعض (‪ )1‬املعتنني بتحقيق معنى اإليامن‪،‬‬
‫وجزم بأن التسليم الذي فرس به اإلمام الغزايل التصديق ليس من جنس العلم‪،‬‬
‫بل أمر وراء معناه»(‪.)2‬‬
‫وقال أمحد األجهوري‪« :‬والصحيح أنه (أي اإليامن) التصديق التابع‬
‫للجزم‪ ،‬أي قبول النفس ورضاها بعد اجلزم» (‪.)3‬‬

‫الثاين ‪ :‬أن التصديق اللغوي املعترب يف اإليامن قطعي يقيني جازم بخالف املنطقي فقد يكون‬
‫ظنيا‪ ،‬وهذا هو املشهور عند مجهور األشاعرة‪ ،‬ولكن التفتازاين يرى أن املنطقي أيضا قطعي ال‬
‫يقبل الرتدد والتشكيك‪ ،‬وأيضا املختار عنده وعند شيخه العضد اإلجيي أنه يكفي الظن الغالب‬
‫الذي ال خيطر معه احتامل النقيض‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه يلزمه أن كل ما خرج عن التصديق اللغوي املعترب يف اإليامن أن خيرج عن‬
‫التصديق املنطقي فيكون من قسم التصور‪ ،‬كاملعرفة غري اليقينية واحلاصلة بال اختيار‪ ،‬والتفتازاين‬
‫يس ّلم أن املعرفة احلاصلة بدون إذعان للنسبة وإيقاع باالختيار داخلة يف التصور‪ ،‬وهلذا قال يف‬
‫هتذيب املنطق‪« :‬العلم إن كان إذعانا للنسبة فتصديق وإال فتصور»‪ .‬وكذلك املعرفة غري اليقينية‬
‫من التصور عنده؛ ألنه يمنع حصول يقني بدون إذعان‪ .‬واعرتضه بعضهم بأن منعه هذا مكابرة‬
‫للواقع‪ ،‬وخمالفة لرصيح اآلية‪﴿ :‬وجحدوا هبا واستيقنتها أنفسهم﴾‪.‬‬
‫وسيأيت توضيح هذه املناقشات أثناء ما يأيت‪ ،‬وانظر‪ :‬حاشية اخليايل عىل رشح التفتازاين‬
‫للعقائد النسفية ص‪ ،91‬وحاشية الكستيل ص‪ ،157‬وحاشية السيالكويت عىل حاشية اخليايل‬
‫(‪ ،)425/2‬ضمن «جمموعة احلوايش البهية عىل رشح العقائد النسفية» مطبعة كردستان العلمية‬
‫بجاملية مرص ‪.1329‬‬
‫(‪ )1‬يفهم من هذا التعبري أن أكثرهم ليسوا عىل هذا بل عىل األول‪ ،‬واملتتبع لكتبهم جيد صدق‬
‫هذا‪ ،‬وعليه فال فرق عند أكثرهم بني املعرفة والتصديق‪.‬‬
‫(‪« )2‬رشح املقاصد» (‪.)427/3‬‬
‫(‪ )3‬تقريراته عىل «حتفة املريد عىل جوهرة التوحيد» للباجوري (ص‪ )32‬مطبعة مصطفى‬
‫البايب احللبي بمرص ‪.1358‬‬

‫‪33‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫وقال حممد بن أمحد اهلاشمي اجلزائري األشعري‪:‬‬


‫«ال يتحقق التصديق إال بثالثة أمور‪ :‬أحدها‪ :‬املعرفة‪ ،‬ثانيها‪ :‬حديث‬
‫النفس‪ ،‬ثالثها‪ :‬االستسالم واالنقياد واإلذعان ملا جاء به رسول اهلل ‪، ‬‬
‫بمعنى قبول األحكام والرضا بتبعيته ‪.)1( » ‬‬
‫وقال حممد وسيم الكردستاين‪« :‬ومنشأ االضطراب يف هذا املقام هو أن‬
‫اإلذعان قد يطلق مرادفا للتصديق املنطقي‪ ،‬كام هو املشهور(‪ ،)2‬وقد يطلق‬
‫بمعنى التسليم وترك اجلحود واالستكبار‪ ،‬وهو املراد من اإلذعان املعترب قيدا‬
‫خلو تصديق السوفسطائي‬
‫يف اإليامن‪ ،‬وكذا هو املراد من اإلذعان الذي فرض ّ‬
‫وبعض الكفار منه‪ ،‬كام ال خيفى» (‪.)3‬‬
‫وقال بعض املعارصين من األشاعرة‪:‬‬
‫«واملراد بتصديق النبي ‪ : ‬اإلذعان ملا جاء به والقبول له‪ ،‬فهو التصديق‬
‫التابع للجزم(‪ )4‬املتمثل بقبول النفس ورضاها بام جزمت به‪ ،‬وليس جمرد وقوع‬

‫(‪« )1‬مفتاح اجلنة يف رشح عقيدة أهل السنة» (ص‪ ،)235-234‬مطبعة الرتقي مرص‬
‫‪.1379‬‬
‫(‪ )2‬يعني عند األشاعرة‪ ،‬وعليه مذهب مجهورهم‪ ،‬واإلطالق الثاين ال يقول به إال قلة‬
‫منهم‪ ،‬واختاره هو‪.‬‬
‫(‪ )3‬حاشيته عىل «تقريب املرام يف رشح هتذيب الكالم» (‪ )292/2‬املطبعة األمريية ببوالق‬
‫مرص ‪.1319‬‬
‫(‪ )4‬اجلزم‪ :‬التصديق املنطقي اجلازم أو املعرفة اليقينية‪ ،‬سواء حصل باالختيار أو‬
‫باالضطرار‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫نسبة الصدق إليه يف القلب من غري إذعان وال قبول‪ ،‬وإال لزم احلكم بإيامن‬
‫كثري من الكفار» (‪.)1‬‬
‫وذكر الزبيدي(‪ )2‬أن اهلل رتب عىل فعل اإليامن الزما ال يتخلف عنه وهو‬
‫سعادة األبد‪ ،‬ورتب عىل ترك اإليامن ضد الزمه أي شقاوة األبد‪ ،‬وهذا الزم‬
‫الكفر رشعا‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫«قد اعترب يف ترتيب الزم الفعل(‪ )3‬وجود أمور عدمها مرتتب ضده(‪،)4‬‬
‫كتعظيم اهلل تعاىل وأنبيائه وكتبه وبيته‪ ،‬وكاالنقياد(‪ )5‬إىل قبول أوامره ونواهيه‬
‫الذي هو معنى اإلسالم»‪.‬‬
‫ثم ذكر أن األشاعرة واحلنفية اتفقوا عىل أنه ال إيامن يعترب بال إسالم وال‬
‫إسالم يعترب بال إيامن(‪ ،)1‬فيمكن‪:‬‬

‫(‪ )1‬عبد الكريم تتان وحممد أديب الكيالين‪« :‬عون املريد لرشح جوهرة التوحيد»‬
‫(‪ )239/1‬دار البشائر دمشق ط الثانية ‪ ،1419‬بتقديم‪ :‬وهبي سليامن الغاوجي وعبد الكريم‬
‫الرفاعي‪.‬‬
‫والعبارة األخرية من قوله (وليس جمرد‪ )...‬هي يف األصل للسعد التفتازاين‪ ،‬اقتبسها رشاح‬
‫اجلوهرة وترصفوا فيها حتى وصلت إىل هذه الصيغة‪ ،‬ونصها يأيت مع رشحها عند ذكر‬
‫االعرتاض الثاين عىل كالم الغزايل‪.‬‬
‫(‪ )2‬وبعض كالمه مأخوذ من كالم ابن حجر اهليتمي يف « الفتح املبني برشح األربعني» ص‬
‫‪. 156‬‬
‫(‪ )3‬أي يف حتصيل الزم فعل اإليامن‪ ،‬وهو سعادة األبد‪.‬‬
‫(‪ )4‬أي عدمها يقتيض ضد األول‪ ،‬وهو شقاوة األبد‪.‬‬
‫(‪ )5‬عبارة اهليتمي‪« :‬واالستسالم باطنا»‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -1‬اعتبار التصديق بالقلب واإلقرار باللسان وعدم اإلخالل بام ذكر‬


‫(عمل القلب) أجزاء ملفهوم اإليامن(‪ ،)2‬فتنتفي السعادة عند انتفاء بعض‬
‫األجزاء‪ ،‬حتى وإن كان الباقي املوجود هو التصديق الذي اعتربناه جزءا‬
‫منها(‪.)3‬‬
‫‪ -2‬أو نجعل هذه األمور رشوطا العتبار التصديق‪ ،‬وهذا يقتيض أن ينتفي‬
‫التصديق بانتفائها؛ إذ الرشط يلزم من عدمه عدم املرشوط‪ ،‬أو يقتيض انتفاء‬
‫الالزم وهو السعادة مع قيام امللزوم وهو اإليامن (التصديق)‪ ،‬وثبوت ضد‬
‫الزم اإليامن وهو الشقاوة وهو الزم الكفر‪ ،‬فيثبت ملزوم األخري وهو الكفر‬
‫مع قيام ضده وهو التصديق‪ ،‬فيلزم اجتامع الضدين! (‪.)4‬‬
‫ونتيجة كل هذه الفلسفات أنه ال يمكن اعتبار أعامل القلوب وقول‬
‫جرهم إىل أن‬
‫اللسان جزءين من اإليامن‪ ،‬وال رشطني لثبوت السعادة‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫يقولوا بأهنا رشوط إلجراء أحكام اإلسالم يف الدنيا فقط‪.‬‬

‫(‪ )1‬معنى هذا كام قال اهليتمي‪ :‬أنه «ال يعترب رشعا يف اخلارج إيامن بال إسالم وال عكسه»‪،‬‬
‫(الفتح املبني ص ‪.)155‬‬
‫(‪ )2‬فاألقسام املذكورة ثالثة‪ :‬قول القلب (وهو ما عرب عنه بالتصديق)‪ ،‬وعمل القلب (وهي‬
‫األمور املذكورة من قبل)‪ ،‬وقول اللسان وهو اإلقرار‪ ،‬ومل يذكر عمل اجلوارح؛ ألهنم متفقون‬
‫عىل أنه ليس من اإليامن‪.‬‬
‫(‪ )3‬واألشاعرة متفقون عىل خالف هذا‪ ،‬فاإليامن عندهم جزء واحد‪ ،‬هو تصديق القلب‬
‫فقط‪ ،‬بل يرى بعضهم ومنهم الزبيدي أبعد من ذلك وهو أن التصديق يشء أدنى من العلم‪ ،‬كام‬
‫سيأيت‪.‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪« :‬إحتاف السادة املتقني» (‪.)390/2‬‬

‫‪36‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫كالم الجويني واعتراضاتهم عليه‬


‫استشهد ملن يدخل عمل القلب يف حد اإليامن بقول أيب املعايل اجلويني يف‬
‫واملريض عندنا أن حقيقة اإليامن التصديق باهلل تعاىل‪ ،‬فاملؤمن باهلل‬
‫ُّ‬ ‫اإلرشاد‪« :‬‬
‫من صدقه‪ ،‬ثم التصديق عىل التحقيق كالم النفس ولكن ال يثبت إال مع‬
‫العلم‪ ،‬فإنا أوضحنا أن كالم النفس يثبت عىل حسب االعتقاد» (‪.)1‬‬
‫وكذلك فرس الرازي التصديق بكالم النفس‪ ،‬كام يأيت‪.‬‬
‫قال الزبيدي‪« :‬وإليه ذهب مجاعة‪ ،‬ونقل صاحب الغنية عن األشعري يف‬
‫معناه» (‪ ،)2‬ثم ذكر عبارة أليب القاسم األنصاري شيخ الشهرستاين يف رشح‬
‫اإلرشاد‪ ،‬وهي قوله‪:‬‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل قواطع األدلة يف أصول االعتقاد» (ص‪ )158‬دار الكتب العلمية بريوت‬
‫‪ .1416‬وهنا تنبيهان‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن األشاعرة ابتدعوا ما يسمى بالكالم النفيس أو النفساين‪ ،‬وهو معنى قائم بالنفس‪،‬‬
‫وذلك حني أنكروا أن يكون هلل كالم مسموع‪ ،‬ثم اضطربوا يف مفهوم ما أثبتوه وحقيقته‪،‬‬
‫وظهرت عندهم مع ذلك مصطلحات أخرى عىل نسقه مثل‪ :‬احلكم النفيس أو النفساين‪ ،‬اخلرب‬
‫النفيس أو النفساين‪ ،‬الكذب النفساين‪ ،‬الصدق النفساين‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫يرصح هنا بأن كالم النفس ال يثبت إال مع العلم‪ ،‬وأنه إنام يثبت عىل‬
‫الثاين‪ :‬أن اجلويني ّ‬
‫حسب االعتقاد‪ ،‬وهذا ترصيح بأنه ال يكون مع عدم العلم‪ ،‬وال يكون عىل خالف املعتقد‪ ،‬وهذا‬
‫يناقض ما أثبتوا به كالم النفس‪ ،‬وادعوا أنه مغاير للعلم» (انظر‪ :‬الفتاوى الكربى لشيخ اإلسالم‬
‫ابن تيمية ‪.)189/5‬‬
‫(‪« )2‬إحتاف السادة املتقني» (‪.)391/2‬‬

‫‪37‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫«وأما مذاهب أصحابنا فصار أهل التحقيق من أصحاب احلديث‬


‫والنظار منهم إىل أن اإليامن هو التصديق‪ ،‬وبه قال شيخنا أبو احلسن‬
‫[األشعري]‪ ،‬واختلف جوابه يف معنى التصديق‪ ،‬فقال مرة‪ :‬هو املعرفة‬
‫بوجوده وقدمه وإهليته‪ ،‬وقال مرة‪ :‬التصديق قول يف النفس‪ ،‬غري أنه يتضمن‬
‫املعرفة‪ ،‬وال يوجد دوهنا‪ .‬وهذا مما ارتضاه القايض [الباقالين]؛ فإن الصدق‬
‫والكذب والتصديق والتكذيب باألقوال أجدر‪ ،‬فالتصديق إذ ًا قول يف النفس‪،‬‬
‫يعترب عنه باللسان‪ ،‬فتوصف العبارة بأهنا تصديق؛ ألهنا عبارة عن التصديق(‪،)1‬‬
‫هذا ما حكاه شيخنا اإلمام [الرازي] » (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬قال شيخ اإلسالم‪« :‬ال ريب أن النفس الذي هو القلب يوصف بالنطق والقول كام‬
‫يوصف بذلك اللسان‪ ...‬لكن هذا النطق والكالم الذي هو معنى اخلرب القائم بالنفس؛ هل هو‬
‫يشء خمالف للعلم يمكن أن يكون ضدا له‪ ،‬أو هو هو‪ ،‬أو هو مستلزم له؟ فدعوى إمكان‬
‫مضادته للعلم مما حيس اإلنسان بنفسه خالفه‪ ،‬ودعوى مغايرته للعلم أيضا فإن اإلنسان ال حيس‬
‫من نفسه بنسبتني جازمتني كل منهام يتناول املفردين إحدامها علم واألخرى غري علم‪.‬‬
‫وهلذا مل يتنازع يف ذلك ال املسلمون وال من قبلهم من األمم‪ ،‬حتى أهل املنطق الذين يثبتون‬
‫نطق النفس ويسموهنا النفس الناطقة‪ ،‬هم عند التحقيق يردون ذلك إىل العلم والتمييز‪ ،‬وهلذا ملا‬
‫أراد حاذق األشعرية املستأخرين أبو احلسن اآلمدي أن حيدّ العلم‪ ...‬قال‪ :‬هو صفة جازمة قائمة‬
‫بالنفس يوجب ملن قام به متييزا‪ .‬ومعلوم أنه إن كان يف النفس معنى للخرب غري العلم فهذا احلد‬
‫منطبق عليه‪.‬‬
‫وهلذا ملا قسم األولون واآلخرون العلم إىل تصور وتصديق‪ ،‬وجعلوا التصور هو العلم‬
‫باملفردات الذي هو جمرد تصورها‪ ،‬والتصديق العلم باملركبات اخلربية من النفي واإلثبات‪،‬‬
‫فسموا العلم بذلك تصديقا‪ ،‬وجعلوا نفس العلم هو نفس التصديق‪ ،‬ولو كان يف النفس تصديق‬
‫لتلك القضايا اخلربية ليس هو العلم لوجب الفرق بني العلم هبا وتصديقها‪.‬‬
‫=‬

‫‪38‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫قلت‪ :‬هنا تأيت أربعة احتامالت وهي أن كالم النفس‪ :‬هل هو يشء دون‬
‫العلم‪ ،‬أو فوقه‪ ،‬أو مثله‪ ،‬أو هو نفسه؟ ونفصل القول فيها كالتايل‪:‬‬

‫االحتمال األول‪ :‬كون كالم النفس شيئا دون العلم‬


‫وذلك أن كالم النفس يطلق ويراد به حديث النفس (‪ )2‬وهو ما يدور يف‬
‫نفس اإلنسان من اخلواطر واألفكار‪ ،‬وما جيول يف خلده من تقلبات اهلواجس‬
‫واألوهام (‪.)3‬‬

‫وال ريب أن هذا العلم والتصديق قد يعتقده اإلنسان فيعقله ويضبطه ويلتزم موجبه‪ ،‬وقد‬
‫ال يعتقده وال يعقله وال يضبطه وال يلتزم موجبه‪ ،‬فاألول هو املؤمن والثاين هو الكافر»‪ ،‬والزم‬
‫قول األشاعرة أن الثاين أيضا مؤمن‪ ،‬وبعضهم يلتزم هذا‪( .‬الفتاوى الكربى ‪.)201-200/5‬‬
‫(‪ )1‬نقله عنه شيخ اإلسالم يف «الفتاوى الكربى» (‪ ،)189/5‬وكالم األشعري نقله أيضا‬
‫الشهرستاين يف «هناية اإلقدام»‪.‬‬
‫(‪ )2‬املعروف يف لغة العرب هو التعبري بحديث النفس ال كالم النفس وال قول النفس‪ ،‬يقول‬
‫شيخ اإلسالم ابن تيمية‪« :‬والذي يقيد بالنفس‪ :‬لفظ احلديث‪ ،‬يقال‪ :‬حديث النفس‪ ،‬ومل يوجد‬
‫عنهم أهنم قالوا‪ :‬كالم النفس وقول النفس‪ ،‬كام قالوا حديث النفس‪ ،‬وهلذا يعرب بلفظ احلديث‬
‫عن األحالم التي ترى يف املنام‪ ،‬كقول يعقوب عليه السالم‪﴿ :‬ويعلمك من تأويل األحاديث﴾‪،‬‬
‫وقول يوسف ﴿علمتنى من تأويل األحاديث﴾‪ ،‬وتلك يف النفس ال تكون باللسان‪ ،‬فلفظ‬
‫احلديث قد يقيد بام يف النفس‪ ،‬بخالف لفظ الكالم؛ فانه مل يعرف أنه أريد به ما يف النفس فقط»‪،‬‬
‫(جمموع الفتاوى ‪.)136-135/7‬‬
‫(‪ )3‬يقول السعد التفتازاين‪« :‬من يورد صيغة أمر وهني أو نداء أو إخبارا واستخبارا وغري‬
‫ذلك جيد [ذلك] يف نفسه ويدور يف خلده‪ ،‬وال خيتلف باختالف العبارات بحسب األوضاع‬
‫واالصطالحات‪ ...‬هو الذي نسميه كالم النفس وحديثها‪ ،‬وربام يعرتف به أبو هاشم ويسميه‬
‫اخلواطر‪ ،‬ومغايرته للعلم واإلرادة سيام يف اإلخبار واإلنشاء الغري الطلبي [كالعجب والرجاء‬
‫=‬

‫‪39‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫فهذه أمور أدنى من العلم‪ ،‬بل ليست بيشء؛ ألهنا غري ثابتة وغري‬
‫معتدّ ة(‪.)1‬‬
‫وعليه فإن من حديث النفس كام هو معلوم ما يوافق عقيدة الشخص‬
‫وعلمه‪ ،‬ومنها أمور ال يعلمها وال يعتقدها وال يظنها‪ ،‬بل يعلم خالفها ويعتقد‬
‫نقيضها‪ ،‬وهذا جيده كل شخص من نفسه‪ ،‬فادعاء اجلويني أنه ال يوجد كالم‬
‫النفس إال مع العلم أو االعتقاد مكابرة‪.‬‬

‫والتمني والتساؤل‪ ]..‬يف غاية الظهور» (رشح املقاصد ‪ .)100/2‬فهذه اخلواطر هي التي‬
‫يسموهنا كالم النفس‪ ،‬وهي التي قالوا‪ :‬إهنا كالم اهلل سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫ومع أنه قرر هنا أن كالم النفس مغاير للعلم‪ ،‬نراه يتناقض ويقرر بعد ذلك أنه أعم من‬
‫العلم فيشمله ويشمل معه غريه‪ ،‬فيقول‪ « :‬فإن قيل قد ذكر إمام احلرمني واإلمام الرازي‬
‫وغريمها‪ :‬أن التصديق من جنس كالم النفس‪ ،‬وكالم النفس غري العلم واإلرادة ؟ قلنا‪ :‬معناه‬
‫أنه ليس بمتعني أن يكون علام أو إرادة‪ ،‬بل كل ما حيصل يف النفس من حيث يدل عليه بعبارة أو‬
‫كتابة أو إشارة فهو كالم النفس‪ ،‬سواء كان علام أو إرادة أو طلبا أو إخبارا أو استخبارا أو غري‬
‫ذلك‪ ،‬وليس كالم النفس نوعا من املعاين مغايرا ملا هو حاصل يف النفس باتفاق الفرق‪ ،‬وإال‬
‫لكان إنكاره إنكارا للتصديق والطلب واإلخبار واالستخبار وسائر ما حيصل يف القلب وليس‬
‫كذلك‪[ ،‬فإن من ينكر كالم النفس جيعل هذه األمور علوما وإرادات أو خواطر وأفكارا]‪ ،‬بل‬
‫إنكاره عائد إىل أن الكالم هو املسموع فقط دون [إنكار وجود] هذه املعاين»‪( ،‬رشح املقاصد‬
‫‪.)430/3‬‬
‫وقد أطال شيخ اإلسالم يف الرد عليهم وتفنيد ادعاءاهتم يف مسألة كالم النفس من عرشات‬
‫الوجوه يف الرسالة التسعينية‪ ،‬وهي موجودة يف املجلد اخلامس من «الفتاوى الكربى»‪.‬‬
‫(‪ )1‬ولذلك مل يكلف اإلنسان بمراعاهتا‪ ،‬وال يؤاخذ عليه هبا؛ ألهنا خارجة عن ترصفاته‪ ،‬قال‬
‫‪« : ‬إن اهلل جتاوز ألمتي عام حدثت به أنفسها ما مل تتكلم به أو تعمل به»‪ ،‬رواه البخاري وأهل‬
‫السنن‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫وهذا االحتامل وإن كان مستبعدا جدا؛ ألن الزمه أن كل من خطر يف باله‬
‫صدق النبي ‪ ‬فيام أتى به أنه مؤمن‪ ،‬ولو كان علمه واعتقاده عىل ضد ذلك‪،‬‬
‫إال أنه مذهب بعضهم ً‬
‫فعال‪ ،‬وإليك الشاهد‪.‬‬
‫فهذا العامل املرتىض الزبيدي يقول‪:‬‬
‫«األظهر أن التصديق قول للنفس غري املعرفة(‪)1‬؛ ألن املفهوم من‬
‫التصديق لغة هو نسبة الصدق إىل القائل وهو فعل‪ ،‬واملعرفة ليست فعال‪ ،‬إنام‬
‫هي من قبيل الكيف املقابل ملقولة الفعل (‪ ،)2‬فلزم خروج كل من االنقياد ‪-‬‬
‫الذي هو االستسالم‪ -‬ومن املعرفة عن مفهوم التصديق لغة‪ ،‬مع ثبوت‬
‫اعتبارمها رشعا يف اإليامن‪ ،‬وثبوت اعتبارمها له هبذا الوجه عىل ‪ -1‬أهنام جزءان‬
‫ملفهومه رشعا‪ -2 ،‬أو رشطان العتباره إلجراء أحكامه رشعا‪.‬‬

‫(‪ )1‬عند اهليتمي‪ « :‬واألظهر‪ ..‬أن التصديق قول للنفس مغاير للمعرفة وإن نشأ عنها»‬
‫(الفتح املبني ص ‪ .)155‬ومتام كالم الزبيدي مأخوذ عنه أيضا مع ترصف‪.‬‬
‫(‪ )2‬يالحظ هنا أن معنى مقولة الكيف‪ :‬الكيفية الراسخة يف النفس‪ ،‬ومنها العلم؛ ألنه شبح‬
‫للمعلوم راسخ يف النفس‪ ،‬ويوضح الشيخ صديق حسن خان ذلك فيقول‪« :‬ال نزاع يف أنا إذا‬
‫علمنا شيئا فقد حتقق أمور ثالثة ‪ :‬صورة حاصلة يف الذهن‪ ،‬وارتسام تلك الصورة فيه‪ ،‬وانفعال‬
‫أي هذه الثالثة؟ فذهب إىل كل منها طائفة‪ ،‬ولذلك‬
‫النفس عنها بالقبول‪ .‬فاختلف يف أن العلم ُّ‬
‫اختلف يف أن العلم هل هو من مقولة الكيف [عىل القول األول]‪ ،‬أو االنفعال [عىل الثالث]‪ ،‬أو‬
‫اإلضافة [عىل الثاين]؟ واألصح أنه من مقولة الكيف»؛ ألن الصورة العقلية مغايرة لذي‬
‫الصورة اخلارجية بالذات واالعتبار‪ ،‬وإنام هي شبح له مستقر يف النفس‪( ..‬أبجد العلوم ‪-34/1‬‬
‫‪ 35‬دار الكتب العلمية)‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫والثاين هو األوجه (‪)1‬؛ إذ يف األول يلزم نقل اإليامن من املعنى اللغوي إىل‬
‫منتف؛ ألنه خالف األصل‪،‬‬‫ٍ‬ ‫معنى آخر رشعي‪ ،‬وهو بال دليل يقتيض وقوعه‬
‫فال يصار إليه إال بدليل وال دليل‪ ...‬وعدم حتقق اإليامن بدون املعرفة‬
‫واالستسالم ال يستلزم جزئيتهام ملفهومه رشعا؛ جلواز أن يكونا رشطني‬
‫لإليامن رشعا‪ ،‬وحقيقته التصديق باألمور اخلاصة باملعنى اللغوي‪ ،‬وإذا تقرر‬
‫ذلك ظهر ثبوت التصديق لغة بدوهنام مع الكفر الذي هو ضد اإليامن»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬عبارة اهليتمي‪« :‬والثاين هو الراجح»‪ .‬فإذا كان هؤالء ينفون عن التصديق الذي هو‬
‫اإليامن عندهم أن يكون علام (معرفة) أو كيفية راسخة يف النفس‪ ،‬وينفون أن يكون هو‬
‫االستسالم الذي هو االنقياد أو العمل القلبي‪ ،‬مل يبق إال أنه يشء غري راسخ يف النفس فهو فكر‬
‫أو خاطر‪ ،‬لكن يشرتط إلجراء أحكامه رشعا العلم (املعرفة) واالستسالم (عمل القلب)‪ ،‬ومها‬
‫خارجان عن ماهيته وليسا داخلني يف مفهومه‪ ،‬وعدم حتقق التصديق بدوهنام ال يستلزم جزئيتهام‬
‫ملفهومه‪ ،‬بل مها رشطان له‪ ،‬هذا واضح من كالمهم‪.‬‬
‫ويدل عليه أيضا أن الزبيدي فرس التصديق املعترب يف اإليامن بحد التصديق املنطقي وهو‬
‫نسبة الصدق إىل القائل‪ ،‬والتصديق املنطقي قسم من العلم واملعرفة‪ ،‬ثم نفى أن يكون التصديق‬
‫املعترب يف اإليامن من املعرفة؛ ألهنا من قبيل الكيف‪ .‬فنفهم من هذا أن نسبة الصدق إىل القائل‬
‫ختطر يف النفس فتكون فكرة أو حركة وفعال نفسيا‪ ،‬ثم ترسخ وتستقر يف النفس‪ ،‬فبعد رسوخها‬
‫فيها هي التصديق املنطقي الذي هو أحد قسمي العلم‪ ،‬وتكون من مقولة الكيف‪ ،‬وقبل‬
‫رسوخها يف النفس هي التصديق الذي هو اإليامن عند األشاعرة عىل هذا القول‪ .‬فهذه هي‬
‫النتيجة املرة! ونقل التفتازاين عن مجهورهم‪« :‬أن التصديق ال يتوقف عىل ثبات االعتقاد بل‬
‫جزمه»‪( ،‬رشح املقاصد ‪.)452/3‬‬
‫(‪« )2‬إحتاف السادة املتقني» (‪ .)392/2‬وعبارة اهليتمي‪« :‬وأن هذا الثبوت يمكن جمامعة‬
‫الكفر له؛ إذ ال مانع عقال أن يصدّ ق ج ّبار نبيا ويقتله لنحو محق أو غلبة هوى‪ ،‬فقتله ال يدل عىل‬
‫انتفاء التصديق به من أصله كام ظنه بعض األئمة‪ ،‬بل عىل أن ما عنده من التصديق غري ٍ‬
‫منج له‬
‫رشعا من اخللود يف النار »‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫ومعنى كالم الزبيدي هنا مأخوذ من كالم ابن حجر اهليتمي (‪.)1‬‬

‫االحتمال الثاين‪ :‬كون كالم النفس شيئا فوق العلم‬


‫قال اهليتمي‪« :‬املراد بكالم النفس‪ :‬االستسالم الباطن واالنقياد لقبول‬
‫األوامر والنواهي‪ .‬وباملعرفة‪ :‬إدراك مطابقة دعوى النبي ‪ ‬للواقع‪ ،‬أي جت ّليها‬
‫للقلب وانكشافها له‪ .‬وذلك االستسالم إنام حيصل بعد حصول هذه‬
‫املعرفة»(‪.)2‬‬
‫وفرس الزبيدي كالم النفس باالستسالم الباطن أيضا‪ ،‬وذكر أنه ال بد مع‬
‫املعرفة من االستسالم الباطن (‪ ،)3‬وهبذا يفهم من كالمهام تفسري كالم النفس‬
‫بعمل القلب‪ ،‬لكنهام يرصحان بعكس هذا‪ ،‬وأن االستسالم خارج عن ماهية‬
‫التصديق الذي هو كالم النفس‪ ،‬كام سبق قبل قليل‪.‬‬
‫وقال حممد املفضايل‪« :‬اإليامن لغة مطلق التصديق‪ ..‬ورشعا‪ :‬التصديق‬
‫بجميع ما جاء به النبي ‪ ، ‬واختلف يف معنى التصديق بذلك ‪:‬‬
‫فقال بعضهم ‪ :‬هو املعرفة‪ ،‬فكل من عرف ما جاء به النبي ‪ ‬فهو مؤمن‪.‬‬
‫و َيرد عىل هذا التفسري‪ :‬أن الكافر عارف وليس بمؤمن (‪ ،)4‬وهذا التفسري أيضا‬

‫(‪ )1‬انظر‪« :‬الفتح املبني» ص ‪. 155-154‬‬


‫(‪« )2‬الفتح املبني» ص ‪. 154‬‬
‫(‪« )3‬إحتاف السادة املتقني» (‪.)391/2‬‬
‫(‪ )4‬وال ملجأ هلم من هذا اإليراد‪ ،‬وحاول الباجوري اجلواب عنه «بأهنم مل يبالوا بذلك؛‬
‫ألنه ال يتوهم عاقل أنه جيتمع إيامن مع كفر»‪ ،‬وهذا كالم ال قيمة له عىل التحقيق؛ فإنا إذا قلنا‪:‬‬
‫=‬

‫‪43‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫ال يناسب قول اجلمهور؛ أن املقلد مؤمن مع أنه ليس بعارف (‪ ،)1‬فالتحقيق‬
‫تفسري التصديق بأنه حديث النفس التابع للجزم»‪ ،‬ثم قال‪« :‬معنى حديث‬

‫اإليامن هو املعرفة فقد حصل هلم‪ ،‬فام معنى أهنم مل يبالوا به بعد ذلك؟ وما مقصود املباالة‬
‫املطلوبة يف حقيقة اإليامن التي ال ينعقد إال هبا؟! أما هم فلم يذكروا سوى املعرفة‪ ،‬فإن كان عند‬
‫الباجوري إضافة فيشء آخر خارج عن القول األول‪.‬‬
‫أما قوله‪( :‬ال يتوهم عاقل أنه جيتمع إيامن مع كفر)‪ ،‬فال أدري هل كالم الباجوري هذا ج ٍ‬
‫ار‬
‫عىل الفطرة؛ فإن املؤمن العاقل ال يتوهم صحة إيامن شخص باق عىل كفره‪ ،‬أم هو جمرد متويه؛‬
‫فإن مجهور األشاعرة يعتقدون هذا ويرصحون بأن من عرف صدق حممد ‪ ‬يف مجيع ما أتى به‬
‫وحكم يف نفسه بذلك‪ ،‬أنه يكون مؤمنا عند اهلل تعاىل‪ ،‬وإن بقي عىل عبادة األصنام وإهانة‬
‫الرسل! ما مل ينتف التصديق (املعرفة) من قلبه! وأن اإلقرار بالشهادتني وعمل اجلوارح إنام هي‬
‫رشوط إلجراء أحكام اإلسالم يف الدنيا فقط! والباجوري نفسه مال إىل هذا يف رشح اجلوهرة‪.‬‬
‫(‪ )1‬وحاول الباجوري اجلواب عن هذا «بأن التعريف إنام هو لإليامن الكامل»‪ ،‬وهذا حيدة‬
‫ومتويه؛ فإن الكالم هنا يف حقيقة اإليامن وماهيته‪ ،‬فمن يشرتط منهم اكتساب التصديق‬
‫ّ‬
‫ينفك عن هذا اإليراد‪ ،‬ومن ال يشرتط ذلك مل يلزمه هذا اإليراد‪ ،‬كام اختاره‬ ‫باالستدالل ال‬
‫الزبيدي (إحتاف ‪ ،)390/2‬ومال إليه التفتازاين (رشح املقاصد ‪ .)453/3‬وهذا الذي نقله‬
‫املفضايل عن اجلمهور هو ما يف رشح املقاصد (‪.)452/3‬‬
‫ومما يدل عىل كفر العوام عندهم‪ :‬أهنم اشرتطوا التصديق بالرسل والكتب واملالئكة تفصيال‬
‫فيام ورد به الرشع‪ ،‬قال اهليتمي‪ « :‬حتى إن من مل يصدق بمعني من ذلك فهو كافر» (الفتح املبني‬
‫ص ‪ ،)151‬ومعلوم أن أكثر العوام ال يعرفون ذلك التفصيل‪ .‬لكنه قال بعد قليل‪« :‬املختار الذي‬
‫عليه السلف وأئمة الفتوى من اخللف وعامة الفقهاء‪ :‬صحة إيامن املقلد‪ ،‬ونقل املنع عن إمام‬
‫السنة الشيخ أيب احلسن األشعري كذب عليه‪ ،‬كام قاله األستاذ أبو القاسم القشريي»‪ ،‬ثم ذكر أن‬
‫العامي آثم يف ترك االستدالل‪( ،‬الفتح املبني ص‪ .)165 -164‬واقرأ متام كالمه (ص ‪-165‬‬
‫‪.)166‬‬
‫وبعضهم نقل عن مجهورهم تكفري املقلد‪ ،‬قال عبد الرمحن بن عيل الشهري بشيخ زاده‪:‬‬
‫« وذهب مجهور مشايخ األشاعرة منهم الشيخ األشعري والقايض أبو بكر الباقالين واألستاذ أبو‬
‫=‬

‫‪44‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫النفس‪ :‬أن تقول (‪ :)1‬رضيت بام جاء به النبي ‪ ، ‬ونفس الكافر ال تقول‬
‫ذلك»(‪.)2‬‬
‫ففرس حديث النفس بالرضا وهو عمل قلبي‪ ،‬وذكر أنه يكون تابعا‬
‫للجزم‪ ،‬فهو أمر آخر بعد العلم يطلب منه الشخص‪.‬‬

‫إسحاق اإلسفرائيني وإمام احلرمني إىل عدم االكتفاء بالتقليد يف العقائد الدينية‪ ،‬كام يف رشح‬
‫اجلوهرة لإلمام اللقاين‪ ،‬ورشح أم الرباهني لإلمام السنويس‪ ،‬ورشح األمايل للشيخ عيل القاري‪.‬‬
‫ويف الرشح القديم لعمدة النسفي‪ :‬قال الشيخ األشعري‪ :‬رشط صحة اإليامن أن يعرف كل‬
‫مسألة بدليل فطعي عقيل‪ .‬ويف رشح أم ال رباهني نقال عن الشامل إلمام احلرمني‪ :‬أن من عاش‬
‫بعد البلوغ زمانا يسعه النظر فيه ومل ينظر مل خيتلف يف عدم صحة إيامنه»‪( ،‬كتاب «نظم الفرائد‬
‫ومجع الفوائد يف بيان املسائل التي وقع فيها االختالف بني املاتريدية واألشعرية يف العقائد مع‬
‫ذكر أدلة الفريقني» ص‪.)41-40‬‬
‫ثم ذكر أن املاتريدية استدلوا‪ -1 :‬بقبول النبي ‪ ‬وأصحابه إليامن األعراب‪ -2 ،‬وأن العامة‬
‫يدخلون اجلنة بالنص واإلمجاع‪ -3 ،‬وأن عند العوام القدر الكايف من املعرفة؛ فإن فطرهتم جبلت‬
‫عىل التوحيد‪ ،‬وإن عجزوا عن التعبري عنه باصطالح املتكلمني‪ ،‬والعلم بالعبارة علم زائد‪.‬‬
‫وذكر أن األشاعرة استدلوا‪ -1 :‬بأن العلم (اجلزم) ذايت للتصديق أو رشط له‪ ،‬وال علم‬
‫للمقلد‪ ،‬وسلم هلم أن املقلد ليس عنده كامل العلم‪ ،‬إال أنه قد حصل له العلم بوجه ما من حيث‬
‫هو مصدق‪( ،‬فعنده الظن الغالب) فيكتفى بذلك كاألعراب‪ -2 .‬وبأن اإليامن علم موقوف عىل‬
‫االستدالل‪ ،‬وأجيب بأن التصديق ليس موقوفا عىل العلم الكامل حتى يتوقف عىل االستدالل‪،‬‬
‫بل عىل العلم بوجه ما‪ ،‬وذلك حاصل للمقلد‪ -3 .‬وبأن اإليامن معرفة االعتقاد عىل وجه يؤمن‬
‫به من الشبه‪ ،‬وأجيب بأن هذا تسليم بأنه حصل له الدخول يف اإليامن حاال‪ ،‬وذا يكفي‪ ،‬ثم توقي‬
‫الشبهات يشء آخر بعد ذلك‪ .‬هذا ملخص ما ذكره‪ ،‬ويالحظ القصور يف جواب املاتريدية‬
‫لألشاعرة؛ نتيجة اتفاقهم يف أصول اإليامن كتفسريه باملعرفة‪.‬‬
‫(‪ )1‬أي‪ :‬أن تقول النفس‪ ،‬فهو حديث نفيس ال لفظي كام هو ظاهر‪ ،‬اهـ الباجوري‪.‬‬
‫(‪ )2‬حاشية الباجوري عىل «كفاية العوام يف علم الكالم» (ص‪ ،)79‬دار إحياء الكتب‬
‫العربية القاهرة د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫واجلزم هو العلم أو التصديق املنطقي‪ ،‬سواء أحصل بالدفع واالضطرار‬


‫أو بالكسب واالختيار‪.‬‬
‫وحيتمل كالمه أنه يقصد أن خيطر يف نفسه قوهلا‪ :‬رضيت‪ ...‬وهذا ليس‬
‫عمال قلبيا‪ ،‬وإنام هو فكرة وخاطرة كام هو معنى حديث النفس يف األصل‪،‬‬
‫وقوله‪( :‬ونفس الكافر ال تقول ذلك)‪ ،‬أي ال ترىض‪ ،‬ويبعد عقال أن يريد‪ :‬أن‬
‫نفس الكافر ال خيطر فيها مثل هذا‪ ،‬وإن كان ال يبعد هذا عند بعض األشعرية؛‬
‫فإنه يقول بمثله‪ .‬وإذا كان كذلك فإن هذا يعود إىل االحتامل األول‪ ،‬مع زيادة‬
‫رشط وقوع اخلطرة بعد العلم‪ ،‬وهو أصعب‪.‬‬
‫وحيتمل أن يريد حصول اخلطرة مع اجلزم‪ ،‬فيعود إىل االحتامل الرابع؛ فإنه‬
‫ما من تصديق إال ومعه خطرة‪ ،‬بل إن التصديق نفسه يكون أوال خطرة ثم‬
‫يرسخ ويثبت‪.‬‬

‫االحتمال الثالث‪ :‬كون كالم النفس شيئا مثل العلم‬


‫وذلك أن األشاعرة يزعمون أنه يوجد يف النفس كالم منه خرب غري العلم‬
‫وطلب غري اإلرادة‪ ،‬وغريهم من الطوائف يقولون‪ :‬إن اخلرب النفيس هو العلم‬
‫أو نوع منه‪ ،‬والطلب النفيس هو اإلرادة أو نوع منها‪ ،‬بل عامة الناس يقولون‬

‫‪46‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫هذا‪ ،‬فتقدير معنى للخرب ليس هو العلم وبابه باطل ممتنع (‪ ،)1‬إال أن يكون من‬
‫باب األفكار واخلواطر‪.‬‬
‫وإذا كان من األمور املسلمة أن التناقض مالزم للمذهب األشعري فهذه‬
‫املسألة من أوضح األمثلة عىل ذلك؛ فها هم «مل يكتفوا بأن جعلوا العلم ينايف‬
‫الكذب النفساين‪ ،‬حتى جعلوه يوجب الصدق النفساين؛ فيمتنع وجود العلم‬
‫بدون الصدق‪ ،‬فصار هذا مبطال ملا أثبتوا به اخلرب النفساين من أنه يمكن ثبوته‬
‫بدون العلم وعىل خالف العلم وهو الكذب‪.‬‬
‫وهم كام احتجوا بالعلم عىل انتفاء الكذب النفساين وثبوت الصدق‬
‫النفساين فقد احتجوا به أيضا عىل أصل ثبوت الكالم النفساين»‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن‬
‫العلم دال عىل الكالم الصدق؛ «إذ العامل باليشء ال خيلو عن نطق النفس بام‬
‫يعلمه‪ ،‬وذلك هو التدبري واخلرب‪ ...‬فقد جعلوا العلم مستلزما للكالم بنوعيه‪:‬‬
‫اخلرب والصدق‪ ،‬والتدبري الذي هو الطلب‪ ،‬وهذا إىل التحقيق أقرب من‬
‫غريه»(‪.)2‬‬
‫ويقال هلم أيضا‪ « :‬لو كان للخرب معنى ليس هو العلم ونحوه‪ :‬فإما أن‬
‫يكون العلم مستلزما لصدقه أو ال يكون‪:‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪« :‬الفتاوى الكربى» (‪ ،)185/5‬وقد سبق أن نقلنا بيان شيخ اإلسالم هلذا األمر يف‬
‫تعليق قبل ذكر االحتامالت‪ ،‬وسبق أيضا بيان تناقض التفتازاين يف كون العلم مغايرا لكالم‬
‫النفس أو جزءا منه يف تعليق أثناء االحتامل األول‪.‬‬
‫(‪« )2‬الفتاوى الكربى» لشيخ اإلسالم ابن تيمية (‪.)195-194/5‬‬

‫‪47‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -‬فإن كان مستلزما لصدقه مل يعلم حينئذ أنه غري العلم؛ إذ ال دليل عىل‬
‫ذلك إال إمكان تقدير الكذب مع العلم‪ ،‬فإذا كان العلم مستلزما للصدق‬
‫النفساين منافيا للكذب النفساين كان هذا التقدير ممتنعا‪ ،‬فال يعلم حينئذ ثبوت‬
‫معنى للخرب غري العلم ال يف حق اخلالق وال يف حق العباد‪ ،‬فيكون قائل ذلك‬
‫قائال بال علم وال دليل أصال يف باب كالم اهلل وخربه‪ ،‬وهذا حمرم باالتفاق‪،‬‬
‫وهذا بعينه يبطل ببطالن قوهلم‪ ،‬أي أهنم قالوا بال حجة أصال‪.‬‬
‫‪ -‬وإن مل يكن العلم مستلزما للصدق النفساين وال منافيا للكذب النفساين‪،‬‬
‫مل يكن هلم طريق إىل إثبات كالم نفساين هو صدق؛ ألن العلم ال يستلزمه وال‬
‫ينايف ضده‪ ،‬فال يستدل عليه بالعلم‪ ،‬وسائر ما يذكر غري العلم فيدل عىل أن اهلل‬
‫صادق يف اجلملة‪ ،‬وأن الكذب ممتنع عليه‪ ،‬وهذا مما ال نزاع بني الناس فيه‪،‬‬
‫ولكنهم ال يمكنهم إثبات كالم نفساين هو صدق‪ ،‬وقيام دليل عىل أن اهلل‬
‫صادق‪ ،‬كقيام دليل عىل أن اهلل متكلم‪ ،‬وهذا ال ينفعهم يف إثبات الكالم‬
‫النفساين الذي ادعوه منفردين به‪ ،‬فكذلك هذا ال ينفعهم يف إثبات معنى اخلرب‬
‫النفساين الصادق الذي انفردوا بإثباته من بني فرق األمة‪ ،‬وابتدعوه وفارقوا به‬
‫مجاعة املسلمني‪ ،‬كام أقروا هم هبذا الشذوذ واالنفراد‪ ،‬كام ذكره يف‬
‫املحصول»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق (‪.)196/5‬‬

‫‪48‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫االحتمال الرابع‪ :‬كون كالم النفس العلم نفسه ال غير‬


‫نقل التفتازاين عن بعضهم‪ :‬أن كالم النفس هو إيقاع النسبة اختيارا‪،‬‬
‫ويسمى عقد القلب (‪ .)1‬ففرس كالم النفس بالتصديق املنطقي احلاصل‬
‫باالختيار‪.‬‬
‫والتفتازاين نفسه أول املراد بكالم النفس إىل التصديق املنطقي الذي هو‬
‫من باب العلوم‪ ،‬واستبعد ما خيالف تأويله‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫« فالقول بأن اإليامن كالم النفس ال يكفي يف التقيص عن مطالبته‪ :‬أنه من‬
‫أي نوع من أنواع األعراض؟ وأية مقولة من املقوالت؟ [يعني أنه جممل؛ إذ‬
‫يدخل فيه العلم واإلرادة واخلواطر‪ ،‬ثم جعل يبني املراد هنا فقال‪ ]:‬وال حميص‬
‫سوى تسليم أنه من الكيفيات النفسية احلاصلة باالختيار اخلالية عن اجلحود‬
‫واالستكبار‪ .‬وليت شعري إنه إذا مل يكن من جنس العلوم واالعتقادات فام‬
‫معنى حتصيله بالدليل أو التقليد؟! وهل يعقل أن يكون ثمرة النظر‬
‫واالستدالل غري العلم واالعتقاد؟!» (‪.)2‬‬

‫(‪« )1‬رشح املقاصد» (‪.)427/3‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق (‪.)430/3‬‬

‫‪49‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫ر‬
‫واالعتاضات عليه‬ ‫ال‬
‫كالم الغز ي‬
‫واستشهد القائلون بإدخال أعامل القلوب يف التصديق أيضا بقول أيب‬
‫حامد الغزايل يف معنى اإليامن اللغوي‪« :‬واحلق فيه أن اإليامن عبارة عن‬
‫التصديق(‪ ،)1‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬وما أنت بمؤمن لنا﴾ أي بمصدق‪ ،‬واإلسالم‬
‫عبارة عن التسليم(‪ )2‬واالستسالم(‪ )3‬باإلذعان واالنقياد(‪ )4‬وترك التمرد واإلباء‬
‫والعناد‪ ،‬وللتصديق حمل خاص وهو القلب‪ ،‬واللسان ترمجان‪.‬‬
‫وأما التسليم فإنه عام يف القلب واللسان واجلوارح(‪)5‬؛ فإن كل تصديق‬
‫بالقلب فهو تسليم‪ ،‬وترك اإلباء واجلحود‪ ،‬وكذلك االعرتاف باللسان‪،‬‬
‫وكذلك الطاعة واالنقياد باجلوارح ‪.‬‬
‫فموجب اللغة أن اإلسالم أعم‪ ،‬واإليامن أخص‪ ،‬فكان اإليامن عبارة عن‬
‫أرشف أجزاء اإلسالم؛ فإذن كل تصديق تسليم‪ ،‬وليس كل تسليم‬
‫تصديقا»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬قال الشارح الزبيدي‪« :‬هو (أي التصديق)‪ :‬أن تنسب باختيارك الصدق إىل املخرب أو‬
‫املخرب عنه»‪( ،‬إحتاف السادة املتقني ‪.)366/2‬‬
‫(‪ )2‬قال‪« :‬هو ترك االعرتاض فيام ال يالئم»‪.‬‬
‫(‪ )3‬قال‪« :‬هو االنقياد الظاهر فقط والدخول يف السلم»‪.‬‬
‫(‪ )4‬قال‪« :‬أي االنجذاب بالباطن»‪.‬‬
‫(‪ )5‬يظهر أن التسليم عند الغزايل يدخل فيه‪ :‬قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل‬
‫اجلوارح‪ ،‬والتصديق هو قول القلب‪ ،‬وعىل هذا فهو جزء من التسليم‪ ،‬وهذا واضح يف كالم‬
‫الغزايل‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫وعبارة الغزايل هذه جمملة‪ ،‬ومع أهنا أقل احتامال من عبارة اجلويني‬
‫السابقة‪ ،‬إال أن االعرتاضات عليها أكثر‪.‬‬
‫فهذه العبارة يرد عليها احتامالن(‪ ،)2‬ومها هل التسليم يقصد به‪ :‬يشء فوق‬
‫العلم أو العلم نفسه؟ ونفصلهام كالتايل‪:‬‬

‫االحتمال األول‪ :‬كون التسليم شيئا فوق العلم‬


‫وذلك إذا كان املقصود بالتسليم‪ :‬التسليم للنبي واالنقياد له بالرضا‬
‫واملحبة ونحو ذلك من أعامل القلوب‪.‬‬
‫سبق ذكر ما نقله التفتازاين عن بعضهم‪ :‬أنه «جزم بأن التسليم الذي فرس‬
‫به اإلمام الغزايل التصديق ليس من جنس العلم‪ ،‬بل أمر وراء معناه» (‪.)3‬‬
‫وقال مصطفى الكستيل يف تعريف التسليم‪« :‬هو إذعان النفس ملا علم‬
‫وانقياد له وسكون النفس إليه واطمئناهنا به‪ ،‬وقبوهلا بذلك برتك اجلحد‬
‫والعناد وبناء األعامل عليه‪ ،‬وهو أمر زائد عن العلم» (‪.)4‬‬

‫(‪« )1‬إحياء علوم الدين» (‪ )138/1‬دار ابن اهليثم القاهرة ‪.1424‬‬


‫(‪ )2‬وفيه احتامل ثالث‪ :‬أن التسليم يشء دون العلم‪ ،‬ولكن هذا ضعيف وإن كان واردا‪ ،‬كام‬
‫يأيت‪.‬‬
‫(‪« )3‬رشح املقاصد» (‪ .)427/3‬وقوله‪( :‬وراء معناه) حيتمل أنه فوق معناه أو دونه‪،‬‬
‫ويرجح الثاين أنه أيده بعد ذكره بكالم اجلويني السابق‪ ،‬فتأمل!‬
‫(‪ )4‬حاشية الكستيل عىل رشح العقائد النسفية (ص‪.)153‬‬

‫‪51‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫وقال عبد السالم بن إبراهيم اللقاين‪« :‬واملراد من تصديقه ‪ : ‬قبول ما‬


‫جاء به مع الرضا؛ برتك التكرب والعناد وبناء األعامل عليه‪ ،‬ال جمرد وقوع نسبة‬
‫الصدق إليه يف القلب من غري إذعان وقبول له (‪ ،)1‬حتى يلزم احلكم بإيامن كثري‬
‫من الكفار الذين كانوا عاملني بحقية نبوته عليه الصالة والسالم وما جاء به؛‬
‫ألهنم مل يكونوا أذعنوا لذلك وال قبلوه وال بنوا األعامل الصاحلة عليه(‪،)2‬‬
‫بحيث صار يطلق عليه اسم التسليم‪ ،‬كام هو مدلوله؛ ألن حقيقة آمن به‪ :‬آمنه‬
‫من التكذيب واملخالفة وجعله يف امن من ذلك» (‪.)3‬‬
‫وقال املرجاين‪« :‬والتصديق امليزاين ال يعترب فيه اإلذعان وتسليم القلب‬
‫وربطه به‪ ،‬بخالف اإليامن؛ فإن املعترب فيه‪ :‬اإلذعان والقبول واالنقياد وتسليم‬
‫الباطن واخلضوع(‪ ،)4‬من قوهلم‪ :‬ناقة مذعانة‪ ،‬أي منقادة سلسة الرأس‪ ،‬واسم‬
‫التصديق يقع عىل كل منهام» (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬قوله‪( :‬له) إن كان الضمري يرجع إىل النبي ‪ ‬فاملعنى إثبات عمل القلب‪ ،‬وإن كان‬
‫يرجع لوقوع النسبة فهو التصديق املنطقي‪ ،‬وليس فيه إثبات عمل القلب‪ ،‬ويؤيد االحتامل الثاين‬
‫قوله بعد قليل‪( :‬مل يكونوا أذعنوا لذلك)‪ ،‬ثم بقية الكالم تؤيد االحتامل األول‪ ،‬وغالب كالم‬
‫األشاعرة يف هذا الباب إما جممل أو مضطرب‪.‬‬
‫(‪ )2‬علق بعضهم هنا (وهو حممد يوسف الشيخ األستاذ بكلية أصول الدين) فقال‪:‬‬
‫«الصواب ترك هذا؛ ألن األعامل غري معتربة يف اإليامن وحقيقته يف هذا املذهب»‪.‬‬
‫(‪« )3‬إحتاف املريد بجوهرة التوحيد» (ص‪ ،)33‬مكتبة القاهرة بالقاهرة ‪.1379‬‬
‫(‪ )4‬وهذه األمور قد يراد هبا أعامل القلوب‪ ،‬فيكون املرجاين من القائلني بإدخاهلا يف‬
‫التصديق‪ ،‬وقد يراد هبا التصديق املنطقي احلاصل باالختيار‪ ،‬وتعترب إلخراج التصديق املنطقي‬
‫احلاصل بال اختيار‪ .‬ويؤيد االحتامل الثاين أن كالم اجلرجاين هذا جاء بعد ما ذكر ما وقع بني‬
‫التفتازاين الذي جعل التصديق املعترب هو بعينه التصديق املنطقي‪ ،‬وبني مجاعة من األشاعرة‬
‫=‬

‫‪52‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫وقال حسن جلبي‪« :‬من حصل له تصديق بال اختيار إذا التزم العمل‬
‫بموجبه يكون إيامنا اتفاقا‪ ،‬ولو صدق النبي ‪ ‬بالنظر يف معجزاته اختيارا ومل‬
‫يلتزم العمل بموجبه فهو كافر اتفاقا‪ ،‬فعلم أن املعترب يف اإليامن الرشعي هو‬
‫االختيار يف التزام موجب التصديق ال يف نفسه‪ ،‬وهذا هو التسليم الذي اعتربه‬
‫بعض الفضالء أمرا زائدا عىل التصديق‪ ،‬فليتأمل» (‪.)2‬‬

‫االحتمال الثاين‪ :‬كون التسليم هو العلم نفسه‬


‫وذلك إذا كان املراد بالتسليم‪ :‬هو اإلذعان لوقوع النسبة وصحتها‪ ،‬وأكثر‬
‫األشاعرة من بعد الغزايل يفرسون كالمه هبذا املعنى‪.‬‬
‫ويرى التفتازاين أن التسليم يعود إىل معنى التصديق املنطقي‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫« ومن الناس من يكاد يقول بأنه (أي اإليامن) اسم ملعنى آخر غري املعرفة‬

‫الذين قالوا بأهنام متغايران؛ ألن التصديق الرشعي يعترب فيه االختيار‪ ،‬وإن كان هذا ال يقتيض‬
‫تغايرا؛ فإن املنطقي أيضا قد يعترب فيه االختيار باالتفاق‪ ،‬فيكون أعم من الرشعي املزعوم‪،‬‬
‫ويكون الرشعي نوعا من املنطقي‪ ،‬كام سبق‪.‬‬
‫(‪ )1‬أي عىل كل من عمل القلب وقوله (العلم)‪ ،‬أو عىل كل من األعم واألخص كام سبق‪.‬‬
‫(حاشية املرجاين عىل رشح الدواين للعقائد العضدية ‪ 288/2‬دار الطباعة العامرة ‪.)1317‬‬
‫(‪ )2‬حاشية جلبي عىل رشح الرشيف اجلرجاين للمواقف العضدية (‪ )246/3‬دار الطباعة‬
‫العامرة‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫والتصديق؛ هو التسليم‪ ،‬إال أنه يعود باآلخرة إىل التصديق عىل ما يراه أهل‬
‫التحقيق» (‪.)1‬‬
‫وقال التفتازاين أيضا‪« :‬جيب أن يعلم أن معنى التصديق‪ :‬الذي يقال له‬
‫بالفارسية‪ :‬كرويدن‪ ،‬وهو املراد بالتصديق يف علم امليزان عىل ما رصح به ابن‬
‫سينا‪ ،‬وحاصله أنه إذعان وقبول بوقوع النسبة أو ال وقوعها‪ ،‬وتسميته تسليام‬
‫زيادة توضيح للمقصود‪ ،‬وجعله مغايرا للتصديق املنطقي وهم‪ ،‬وجعل هذا‬
‫التصديق حاصال للكفار ممنوع!» (‪.)2‬‬
‫وقال التفتازاين أيضا‪« :‬وليس حقيقة التصديق أن يقع يف القلب نسبة‬
‫الصدق إىل اخلرب أو املخرب من غري إذعان وقبول(‪ ،)3‬بل هو إذعان وقبول‬
‫لذلك(‪ ،)4‬بحيث يقع عليه اسم التسليم(‪ ،)5‬عىل ما رصح به اإلمام الغزايل رمحه‬

‫(‪« )1‬رشح املقاصد» (‪ ،)420/3‬علام بأن التفتازاين يرصح بأن التصديق املعترب يف اإليامن‬
‫هو املنطقي بعينه‪ ،‬وانظر‪« :‬رشح العقائد النسفية» له (ص‪.)159‬‬
‫(‪ « )2‬نظم الفرائد ومجع الفوائد يف بيان املسائل التي وقع فيها االختالف بني املاتريدية‬
‫واألشعرية يف العقائد» (ص‪ )38‬املطبعة األدبية مرص ‪ .1317‬وانظر‪« :‬التلويح رشح التوضيح‬
‫عىل التنقيح» (‪ )317 /2‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫(‪ )3‬ألن ذلك الوقوع قد يكون من باب اخلواطر أو الشك‪.‬‬
‫(‪ )4‬أي لوقوع النسبة يف القلب‪ ،‬بحيث تستقر فيه وجيزم هبا الشخص‪.‬‬
‫(‪ )5‬ألن صحة هذه النسبة أصبحت عنده من املسلامت‪ ،‬وال ينفي هذا أن يكون معه جحود‬
‫ملن صحت له النسبة وعدم انقياد له الستكبار أو سفسطة‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫اهلل(‪ ،)1‬وباجلملة هو املعنى الذي يعرب عنه بالفارسية بكرويدن‪ ،‬وهو معنى‬
‫التصديق املقابل للتصور» (‪.)2‬‬
‫قال حممد بن أسعد جالل الدين الدواين‪« :‬واعلم أنه لو فرس التصديق‬
‫املعترب يف اإليامن بام هو أحد قسمي العلم فال بد فيه من اعتبار قيد آخر؛‬
‫ليخرج الكفر العنادي‪ ،‬وقد عرب عنه بعض املتأخرين بالتسليم واالنقياد‪،‬‬
‫أن يفرس التصديق بالتسليم الباطني‬ ‫(‪)3‬‬
‫وجعله ركنا من اإليامن‪ ،‬واألقرب‬
‫واالنقياد القلبي‪ ،‬ويقرب منه ما قيل(‪ :)4‬إن التصديق أن تنسب باختيارك‬
‫الصدق إىل أحد‪ ،‬وهو حيوم حول ذلك وإن مل يصب املحزة» (‪.)5‬‬
‫وع ّلق الكلنبوي عىل قوله‪( :‬واألقرب‪ )...‬فقال‪« :‬أي أقرب من تفسري‬
‫التصديق بالتصديق الذي هو أحد قسمي العلم مع االحتياج إىل قيد آخر‪،‬‬

‫(‪ )1‬ويدل عىل أن التفتازاين مل يرد هبذه الكلامت (اإلذعان والقبول والتسليم) سوى تعلقها‬
‫بالنسبة (فتكون من قول القلب ومن قبيل العلم) ال كوهنا ملن وقعت له النسبة (فتكون من عمل‬
‫القلب وأمرا زائدا عىل العلم)؛ أمران‪ :‬أ‪ -‬إشارته يف قوله (لذلك) فهو يشري إىل وقوع النسبة إذ مل‬
‫يذكر غري ذلك‪ .‬ب‪ -‬تفسريه بعد ذلك بالتصديق املنطقي‪.‬‬
‫(‪« )2‬رشح العقائد النسفية» (ص‪.)152‬‬
‫(‪ )3‬هذا يدل عىل أنه خيتار أمرا آخر خيالف تعبري البعض بالتسليم واالنقياد‪ ،‬وقد ال يظهر‬
‫كبري فرق بني اختياره وتلك العبارة‪ ،‬ولكن اللبيب يفهمه من قوله‪( :‬وجعله ركنا‪ )..‬كأنه ينكر‬
‫عليه‪ ،‬ثم تعقيبه اختياره بقوله‪( :‬ويقرب‪ ،)...‬والكلنبوي سيبني الفرق‪ ،‬كام يأيت أعاله‪.‬‬
‫(‪ )4‬والقائل هو صدر الرشيعة‪ .‬انظر‪ :‬حاشية اجلندي ضمن «جمموعة احلوايش البهية عىل‬
‫رشح العقائد النسفية» (‪ .)179/1‬وينظر‪ :‬التوضيح ملتن التنقيح مع التلويح (‪.)360/1‬‬
‫(‪« )5‬رشح الدواين للعقائد العضدية» مع احلوايش (‪ )291 ،288/2‬دار الطباعة العامرة‬
‫‪.1317‬‬

‫‪55‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫ومن تفسري القيد اآلخر بالتسليم واالنقياد ليكون اإليامن جمموع التصديق‬
‫القلبي والتسليم واالنقياد‪ :‬أن يفرس التصديق املأخوذ يف مفهوم اإليامن‬
‫بالتسليم الباطني واالنقياد القلبي‪ ،‬وإنام كان أقرب من التفسري بام هو أحد‬
‫قسمي العلم؛ ألنه مغن عن قيد آخر‪ ،...‬ومن تفسري القيد اآلخر هبام مع جعله‬
‫ركنا؛ ألن ذلك التسليم واالنقياد الباطنني ليسا بركن‪ ،‬بل رشط خارج» (‪.)1‬‬
‫وقد طال النزاع بني صدر الرشيعة ومعارصيه يف تفسري التصديق املعترب‬
‫يف اإليامن‪ ،‬فكان يقول هو باعتبار االختيار فيه‪ ،‬ولذلك ينفي أن يفرس‬
‫بالتصديق امليزاين‪ ،‬ووافقه بعضهم‪ ،‬وقد نقد كالمه التفتازاين وغريه (‪.)2‬‬
‫وكان نظام الدين عبد الرمحن اهلروي يقول باعتبار التسليم يف اإليامن‬
‫والصدر ينكر هذا‪ ،‬ولكن بامذا كان يقصد اهلروي بالتسليم؟‬
‫جييبنا املرجاين فيقول‪« :‬جيب أن يعلم أن مراد اهلروي ليس إثبات ركن‬
‫ثالث(‪ )3‬يف اإليامن‪ ،‬بل مراده أنه البد يف اإليامن أن يكون حصوله عىل سبيل‬
‫االختيار؛ ألنه رأس العبادات وأول الواجبات» (‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬حاشية الكلنبوي عىل رشح الدواين (‪ .)291/2‬ورشح الكلنبوي ظاهر من عبارة‬
‫الدواين ملن تأمله‪.‬‬
‫(‪ )2‬ونقاشهم هذا مل يكن يف إدخال أعامل القلوب يف التصديق أو عدمه‪ ،‬كام توهم بعض‬
‫املعارصين من أهل السنة‪ ،‬بل هم متفقون عىل أهنا ال تدخل فيه‪ ،‬ومتفقون عىل اعتبار االختيار‪،‬‬
‫وإنام اختلفوا يف كون االختيار ركنا من التصديق أو رشطا له؟!‬
‫(‪ )3‬يعني غري التصديق واالختيار‪.‬‬
‫(‪ )4‬حاشية املرجاين عىل رشح الرشيف اجلرجاين للمواقف (‪ ،)288/2‬وانظر‪« :‬نظم‬
‫الفرائد ومجع الفوائد» (ص‪. )38‬‬

‫‪56‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫وقال الدردير يف رشحه عىل (اخلريدة)‪« :‬واملراد من تصديقه عليه الصالة‬


‫والسالم‪ :‬اإلذعان والقبول ملا جاء به بحيث يقع عليه اسم التسليم من غري‬
‫تكرب وعناد‪ ،‬ال جمرد وقوع نسبة الصدق إليه يف القلب من غري إذعان وقبول‪،‬‬
‫حتى يلزم احلكم بإيامن كثري من الكفار الذين كانوا عاملني بحقية نبوته عليه‬
‫الصالة والسالم وما جاء به؛ ألهنم مل يكونوا أذعنوا لذلك وال قبلوه‪ ،‬بحيث‬
‫يطلق عليه اسم التسليم(‪.)1‬‬
‫وعىل هذا فاإليامن الرشعي هو حديث النفس التابع للمعرفة‪ ،‬أي اإلدراك‬
‫اجلازم‪ ،‬بناء عىل الصحيح من أن إيامن املقلد صحيح‪.‬‬
‫فاإلذعان والقبول والتصديق والتسليم عبارات عن يشء واحد‪ ،‬وهو‬
‫حديث النفس املذكور‪ ،‬فيكون اإليامن فعال من أفعال النفس(‪ ،)2‬وليس من‬
‫قبيل العلوم واملعارف‪ ،‬ويظهر من كالم بعضهم أنه الراجح»‪.‬‬
‫وقال بعض معارصهيم‪« :‬فرسوا التصديق باإلذعان والقبول والتسليم‪،‬‬
‫واملراد بذلك إدراك وقوع النسبة أو ال وقوعها‪ ،‬أي إدراك مطابقة ذلك‬
‫للواقع‪ ،‬إدراكا جازما ترضخ له النفس وتضطر إليه وال جتد منه مناصا» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬فهم بعض الباحثني من هذا أنه يثبت عمل القلب‪ ،‬واملتأمل لبقية الكالم يظهر له أنه ال‬
‫يريد شيئا زائدا عن اإلدراك سوى حصوله باالختيار‪ ،‬فهو يريد إيقاع النسبة يف القلب ال جمرد‬
‫وقوعها‪ ،‬فتأمل!‬
‫(‪ )2‬لكونه إيقاعا حيصل باختيارها‪ ،‬وليس من باب العلم الذي قد حيصل بال اختيار‪ ،‬هذا‬
‫الذي يظهر أنه املراد من جمموع كالمه‪ ،‬وهو املوافق لتقريرات األشاعرة وتفصيالهتم‪ ،‬كام يف‬
‫رشح املقاصد وغريه‪.‬‬
‫(‪ )3‬حممد يوسف الشيخ يف تعليقه عىل‪« :‬إحتاف املريد» (ص‪.)33‬‬

‫‪57‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫إنكار جمهور األشاعرة تفسير التصديق بالتسليم‬


‫مجهور األشاعرة يتأولون كالم الغزايل عىل ما ال يزيد عن املعرفة‪،‬‬
‫ويشنّعون عىل من فرس التسليم بأعامل القلوب التي هي يشء زائد عن‬
‫العلم(‪.)1‬‬
‫وشاهد ذلك ما ذكره السعد التفتازاين‪ :‬أن تفسري التصديق بالتسليم إنام‬
‫قال به بعض املتأخرين‪ ،‬وأن قوما شددوا النكري وأكثروا املدافعة عليه‪ ،‬ونسبوه‬
‫إىل اخرتاع مذهب يف اإلسالم‪ ،‬وزيادة ركن يف اإليامن؛‬
‫‪ -‬لزعم هذا البعض أن التسليم أمر زائد عىل التصديق‪ ،‬انكشف له بعد‬
‫حني من الدهر وصدر من العمر‪ ،‬ومل ينكشف ملن قبله من األذكياء‪.‬‬
‫‪ -‬وزعمه أنه ال يكفي جمرد املعرفة حلصوهلا لبعض الكفار‪.‬‬
‫‪ -‬وأنه اختذ لفظ التصديق مهجورا مع كونه بني األنام مشهورا‪.‬‬
‫‪ -‬وأنه يفهم من قوله أن التصديق والتسليم معنيان خمتلفان قد جيتمعان‬
‫وقد يفرتقان‪.‬‬
‫‪ -‬وزعمه أنه ال حظ ألهل التصديق دون التسليم من اإليامن‪ ،‬حتى أدى‬
‫ذلك إىل تكفري رؤساء الدين وعلامء امللة!‬

‫(‪ )1‬انظر ما سبق من إنكار صدر الرشيعة عىل اهلروي‪ ،‬قبل قليل‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫ثم اعتذر له التفتازاين بأن مقصوده بالتسليم والتصديق واحد عند‬


‫التحقيق‪ ،‬ثم دعا له باخلري (‪.)1‬‬
‫وهذا يدل بوضوح عىل أن القائلني من األشاعرة بإدخال أعامل القلوب‬
‫يف اإليامن رشذمة قليلة‪ ،‬ينكرون عليها ويدفعون قوهلا‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪« :‬رشح املقاصد» (‪.)432-431/3‬‬

‫‪59‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫فـائدة تصويرية مهمة‪:‬‬


‫الشخص بالنسبة للمعرفة والتصديق له أربع حاالت‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬أن يكون جاهال بسيطا بحيث ال يدرك النسبة بني الشيئني ال نفيا‬
‫وال إثباتا‪ ،‬ومثاله‪ :‬رجل يعرف معنى املعجزة‪ ،‬ويعرف حممدا‪ ،‬ولكنه ال يعرف‬
‫حصول املعجزة له أو عدم حصوهلا‪ ،‬فهو ال جيزم بنفي وال إثبات‪ .‬فاملعرفة‬
‫التي عند هذا الرجل تسمى التصور باالتفاق‪ ،‬وليس عنده تصديق‪ .‬وهذا‬
‫واضح‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬مثل رجل آخر حصل له التصور للمعجزة والتصور لشخصية‬
‫وقوعا‬
‫ً‬ ‫حممد‪ ،‬ثم رآه أتى هبا أو سمع أنه ادعاها فانقدح يف نفسه ووقع فيها‬
‫دفعيا معرفة أن حممدا صادق فيام أتى به معرف ًة يقينية أو ظنية‪ ،‬بحيث يقول يف‬
‫نفسه‪ :‬إن حممدا صادق فيام جاء به‪ ،‬فينسبه إىل الصدق‪ ،‬وحيكم بصدقه‪ .‬فهذا‬
‫حصل له إذعان للنسبة وقبول هلا وتسليم هلا وانقياد هلا واعتقاد لثبوهتا‪،‬‬
‫وحصل له التصديق املنطقي بال كسب وال اختيار‪ .‬وضد هذا التصديق عدم‬
‫التصديق وهو نوعان‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن ينقدح يف نفسه معرفة كذب حممد يف ادعائه املعجزة‪ ،‬بحيث‬
‫يقول يف نفسه‪ :‬هو كاذب فيها‪ ،‬فينسبه إىل الكذب وحيكم بكذبه‪ ،‬وهذا الذي‬

‫‪60‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫حصل له يسمى التكذيب أو اإلنكار أو اجلحود للنسبة (‪ ،)1‬وهو حاصل له‬


‫دفعيا بال كسب وال اختيار‪.‬‬
‫‪ -2‬أال ينقدح يف نفسه يشء من ذلك ال نفي وال إثبات‪ ،‬فريجع إىل ما‬
‫ذكرناه يف احلالة األوىل‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬مثل رجل آخر تصور املعجزة وحممدا‪ ،‬وسمعه أو رآه ادعاها‪ ،‬ثم‬
‫تشكك يف صدقه ويف صحة النسبة‪ ،‬فنظر يف الرباهني العقلية واملقدمات‬
‫املنطقية فعرف هبا معرفة يقينية أو ظنية وقوع النسبة وصحتها وأن حممدا‬
‫صادق فيام جاء به‪ ،‬فهذا حصل له التصديق املنطقي بالكسب واالختيار ال‬
‫بالدفع االضطراري وال بالتقليد‪ .‬وضد هذا كالسابق عدم التصديق‪ ،‬وذلك‬
‫بأمرين‪:‬‬
‫‪ -1‬أن ينتج له باملقدمات والرباهني ‪ -‬حسب زعمه ‪ -‬كذب حممد يف‬
‫ادعائه املعجزة‪ ،‬وعدم وقوع النسبة‪ ،‬واحلكم بكذبه فيها‪ ،‬وهذا يسمى‬

‫(‪ )1‬ورصح التفتازاين أن هذه املعرفة أو التصديق أو اليقني ال حتصل بدون إذعان‪ ،‬ويعني‬
‫اإلذعان للنسبة‪ ،‬كام قال يف (هتذيب املنطق)‪« :‬العلم إن كان إذعانا للنسبة فتصديق وإال‬
‫فتصور»‪ ،‬واهتمه بعضهم باملكابرة وخمالفة رصيح قوله تعاىل‪﴿ :‬وجحدوا هبا واستيقنتها‬
‫أنفسهم﴾‪ ،‬وهم خمطئون؛ فإن كانوا يدّ عون أن هذه املعرفة (معرفة أن حممدا صادق فيام أتى به)‬
‫حاصلة بدون إذعان للنسبة (نسبة الصدق إليه) فهم املكابرون‪ ،‬وإن كانوا يدّ عون أهنا حاصلة‬
‫بدون إذعان ملحمد (املدعي أو املخرب) واستسالم وانقياد له فهذا أمر آخر مل ينفه التفتازاين‪ ،‬وال‬
‫تكلم عنه؛ ألنه غري داخل يف حقيقة اإليامن عنده وعند مجهور األشاعرة‪ ،‬بل هو رشط إلجراء‬
‫األحكام يف الدنيا‪ ،‬أما اآلية فيأيت توضيحها‪ .‬وانظر‪« :‬جمموعة احلوايش البهية عىل رشح العقائد‬
‫النسفية» (‪.)425/2‬‬

‫‪61‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫التكذيب واإلنكار واجلحود = أي للنسبة‪ ،‬وهو أيضا عدم إذعان وقبول‬


‫وانقياد وتسليم = أي للنسبة‪ ،‬والفرق بني هذا والسابق يف احلالة الثانية‬
‫احلصول باالختيار ال غري‪.‬‬
‫‪ -2‬أال ينتج له يشء فال يتبني له صحة وقوع النسبة أو عدم صحته وال‬
‫صدقه فيها وال عدمه‪ ،‬فال حيكم بيشء ال نفيا وال إثباتا‪ ،‬فهذا متوقف وهو‬
‫راجع إىل احلالة األوىل أيضا‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬مثل رجل حصل له التصديق وصحة النسبة إما باضطرار أو‬
‫باختيار كام حصل يف احلالتني الثانية والثالثة‪ ،‬ثم استسلم ملحمد وأذعن وانقاد‬
‫له‪ ،‬وريض به وبام أتى به‪ ،‬وصار جي ُّله ويعظمه وحيبه‪ ،‬فهذا إذعان وتسليم‬
‫وقبول وانقياد = ملن حصلت له النسبة أو املدعي‪ ،‬وهو أمر فوق التصديق‬
‫املنطقي؛ فهو مكون من التصديق الذي هو (قول القلب)‪ ،‬ومن أمر آخر هو‬
‫(عمل القلب)‪.‬‬
‫وهذا األمر الزائد (عمل القلب) ضده املبارش هو اجلحود واإلنكار‬
‫والتكذيب والبغض = ملن حصلت له النسبة‪ ،‬أو عدم اإلذعان والتسليم له‪،‬‬
‫وال يوجد هذا األمر (عمل القلب) بدون التصديق (قول القلب)؛ ألنه مبني‬
‫عليه‪ ،‬وال أحد يعظم وحيب وينقاد لشخص ال يعرفه مطل ًقا‪ ،‬فقول القلب قد‬
‫يوجد بدون عمل القلب وال عكس (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬والتصديق املنطقي(الذي هو قول القلب) سواء أحصل بالكسب واالختيار أو بدوهنام‪،‬‬
‫وسواء أكان ظنيا أم يقينيا‪ ،‬هو إذعان للنسبة ووقوعها وحصوهلا فقط‪ ،‬ثم قد يكون معه إذعان‬
‫=‬

‫‪62‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫• إذا عرفت ما سبق فاعلم أن األشاعرة ‪:‬‬


‫‪ -‬اتفقوا عىل أن التصديق املعترب يف اإليامن هو التصديق اللغوي‪.‬‬
‫‪ -‬واتفقوا أيضا عىل أن احلال الثالثة املذكورة إذا كانت يقينية‪ ،‬أهنا تصديق‬
‫لغوي ومنطقي‪ ،‬وأهنا التصديق املعترب يف اإليامن‪.‬‬

‫وبغض له‬
‫ٌ‬ ‫ملن حصلت له النسبة وحب له وانقياد‪ ،‬وقد يكون معه جحود ملن حصلت له النسبة‬
‫وعدم انقياد له‪ ،‬كحال فرعون وأيب جهل‪.‬‬
‫وهبذا تعلم معنى قوله تعاىل‪﴿ :‬وجحدوا هبا﴾‪ ،‬فإهنم ما جحدوا وال أنكروا صدق موسى‬
‫َ‬
‫وصحة معجزته وصدقه فيها‪ ،‬بل أذعنوا هلذه النسبة‪ ،‬كام تدل عليه بقية اآلية‪:‬‬ ‫فيام أتى به‬
‫﴿واستيقنتها أنفسهم﴾ أي حصلت يف أنفسهم املعرفة اليقينية بصدق موسى فيام أتى به‪ ،‬ولذلك‬
‫قال موسى لفرعون‪﴿ :‬لقد علمت ما أنزل هؤالء إال رب الساموات واألرض بصائر﴾‪،‬‬
‫فاجلحود الذي حصل منهم هو عدم اإلذعان ملوسى عليه السالم وعدم االنقياد ألمره‪ ،‬وهذا أمر‬
‫زائد عىل املعرفة‪ ،‬فاإلذعان للنسبة وصدقها يشء (وهو من قول القلب‪ ،‬وهو املعترب يف اإليامن‬
‫عند مجهور األشاعرة)‪ ،‬وهو حاصل لفرعون وأمثاله‪ ،‬ولذلك جزم بعضهم بثبوت إيامنه‪،‬‬
‫واإلذعان للمخرب واالنقياد له يشء آخر (وهو من عمل القلب‪ ،‬وهو املعترب يف اإليامن عند أهل‬
‫السنة وبعض األشاعرة)‪ ،‬وهو غري حاصل آلل فرعون‪.‬‬
‫وكذلك السوفسطائي قد يس ّلم يف قلبه صدق املخرب يف خربه وحيصل له اإلذعان للنسبة‪ ،‬ثم‬
‫ال يذعن للمخرب وال ينقاد له‪ ،‬بل يكابر يف الظاهر ويعاند باللسان‪ ،‬أما إذا مل حيصل له اإلذعان‬
‫للنسبة فليس عنده معرفة وال يقني وال تصديق؛ ألن التصديق ليس إال اإلذعان للنسبة‪ .‬وهذا‬
‫كله بسط ملا قرره التفتازاين‪ ،‬وهو متناسق كام ترى‪ ،‬والذين انتقدوه مضطربون؛ إذ اختلط عليهم‬
‫نوعا اإلذعان ونحوه من األلفاظ السابقة‪ ،‬وكثريا ما حيصل االشتباه يف باب اإليامن وغريه بسبب‬
‫عدم حترير األلفاظ ومعانيها‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -‬ثم اختلفوا يف احلال الثانية املذكورة إذا كانت يقينية (االعتقاد اجلازم)‬
‫هل هي تصديق لغوي ومنطقي فتعترب يف اإليامن؟ أم هي تصديق منطقي فقط‬
‫وغري داخلة يف التصديق اللغوي املعترب يف اإليامن؟‬
‫أ‪ -‬فذهب مجهورهم إىل أهنا غري داخلة يف التصديق املعترب يف اإليامن؛‬
‫ألن حقيقته ال حتصل إال بالكسب واإلذعان للنسبة باالختيار‪ ،‬وزعم‬
‫السيالكويت أهنم اتفقوا عىل ذلك‪ ،‬ومل يصب(‪.)1‬‬
‫ب‪ -‬وذهب بعضهم كالتفتازاين ومن تبعه إىل أن التصديق اللغوي‬
‫املعترب يف اإليامن هو بعينه التصديق املنطقي‪ ،‬وأن االختيار ليس جزءا من‬
‫ماهية التصديق ال يف اللغة وال يف املنطق‪ ،‬بل غاية األمر أن يكون رش ًطا‬
‫للتصديق املعترب يف اإليامن‪.‬‬
‫وهذا كام أن مجيع األشاعرة يسلمون بأن التصديق املعترب يف اإليامن‬
‫أخص من التصديق اللغوي؛ ألن الثاين مطلق واألول مقيد من جهة أنه‬
‫ُّ‬
‫بأمور خمصوصة‪ ،‬ومل جيعلوا ذلك موجبا للمغايرة بينهام‪ ،‬بل يقولون‪:‬‬
‫التصديق اللغوي هو املعترب يف اإليامن‪ .‬فكذلك يقال‪ :‬التصديق اللغوي‬

‫(‪ )1‬وقال الزبيدي‪« :‬التصديق بالقلب‪ :‬هو قبول القلب وإذعانه ملا علم بالرضورة أنه من‬
‫دين حممد ‪ ‬من غري افتقار إىل نظر واستدالل‪ ،‬وهو املختار عند مجهور األشاعرة‪ ،‬وبه قال‬
‫اإلمام أبو منصور املاتريدي»‪ ،‬وقال مرة‪« :‬مسمى اإليامن هو جمرد ما عقد عليه القلب من‬
‫التصديق والقبول واإلذعان ملا علم بالرضورة‪( ،»...‬إحتاف السادة املتقني ‪.)378 ،375/2‬‬

‫‪64‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫املنطقي مطلق‪ ،‬وهو املعترب يف اإليامن لكن مع تقييده باالختيار‪ ،‬وهذا‬


‫التقييد ال يوجب املغايرة(‪.)1‬‬
‫(‪)2‬‬
‫‪ -‬أما احلال الرابعة التي ذكرناها ففيها أمر زائد عىل التصديق املنطقي‬
‫باالتفاق‪ ،‬وإنام تنازعوا يف كون هذا األمر الزائد (وهو عمل القلب) معتربا‬
‫يف حد اإليامن‪ ،‬والقائلون باعتباره قلة قليلة‪.‬‬

‫(‪ )1‬وزعم عبد احلكيم السيالكويت اتفاق األشاعرة عىل أن املعرفة احلاصلة بال اختيار‬
‫وكسب ليست من التصديق اللغوي‪ ،‬ثم زعم أن التفتازاين سلم ذلك وأخرجها من التصديق‬‫ٍ‬
‫أيضا وجعلها من قسم التصور‪ ،‬وهو خمطئ يف كال الزعمني‪ .‬ثم لو كان التفتازاين جيعلها‬
‫املنطقي ً‬
‫من التصور ملا نازع يف حصوهلا بدون إذعان للنسبة‪ ،‬كام الحظ بعض املعلقني عىل حاشيته‪.‬‬
‫انظر‪ :‬حاشية السيالكويت عىل حاشية اخليايل يف «جمموعة احلوايش البهية عىل رشح العقائد‬
‫النسفية» (‪.)425/2‬‬
‫(‪ )2‬واللغوي جزء منه أو مطابق له عىل ما سبق‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫ر‬
‫االعتاضات عليه‬ ‫صحة كالم شيخ اإلسالم يف المسألة ورد‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪« :‬إن الفرق بني معرفة القلب وبني جمرد‬
‫تصديق القلب اخلايل عن االنقياد الذي جيعل قول القلب؛ أمر دقيق‪ ،‬وأكثر‬
‫العقالء ينكرونه (‪.)1‬‬
‫وبتقدير صحته ال جيب عىل كل أحد أن يوجب شيئني ال يتصور الفرق‬
‫بينهام(‪ ،)2‬وأكثر الناس ال يتصورون الفرق بني معرفة القلب وتصديقه‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬إن ما قاله ابن كالب واألشعري من الفرق كالم باطل ال حقيقة له‪،‬‬
‫وكثري من أصحابه اعرتف بعدم الفرق(‪.)3‬‬
‫وعمدهتم من احلجة إنام هو خرب الكاذب‪ ،‬قالوا‪ :‬ففي قلبه خرب بخالف‬
‫علمه‪ ،‬فدل عىل الفرق!‬
‫فقال هلم الناس‪ :‬ذاك بتقدير خرب وعلم ليس هو علام حقيقيا وال خربا‬
‫حقيقيا‪ ،‬ولما أ ثبتوه من قول القلب املخالف للعلم واإلرادة إنام يعود إىل تقدير‬
‫علوم وإرادات ال إىل جنس آخر خيالفها‪.‬‬

‫(‪ )1‬وهذا تلطف من الشيخ رمحه اهلل‪ ،‬ولو قال‪ :‬وكل العقالء ينكرونه‪ ،‬ملا جانب الصواب‪،‬‬
‫ولكنه اعتربهم من العقالء‪.‬‬
‫(‪ )2‬وذلك ألن مجهورهم يقولون‪ :‬إن اإليامن هو تصديق القلب فقط ويشرتط له املعرفة أو‬
‫العلم‪ ،‬وعند التحقيق التصديق عندهم هو املعرفة‪.‬‬
‫(‪ )3‬ومنهم السعد التفتازاين كام سبق‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫وهلذا قالوا‪ :‬إن اإلنسان ال يمكنه أن يقوم بقلبه خرب بخالف علمه‪ ،‬وإنام‬
‫يمكنه أن يقول ذلك بلسانه‪ ،‬وأما أنه يقوم بقلبه خرب بخالف ما يعلمه فهذا‬
‫غري ممكن‪ ،‬وهذا مما استدلوا به عىل أن الرب تعاىل ال يتصور قيام الكذب‬
‫بذاته‪...‬‬
‫واملقصود هنا‪ :‬أن اإلنسان إذا رجع إىل نفسه عرس عليه التفريق بني‬
‫علمه بأن الرسول ‪ ‬صادق‪ ،‬وبني تصديق قلبه تصديقا جمردا عن انقياد‬
‫وغريه من أعامل القلب بأنه صادق»(‪.)1‬‬
‫وعىل هذا األساس نجد أن شيخ اإلسالم يصنف األشاعرة مع اجلهمية‬
‫عند ذكر مذاهب الطوائف يف اإليامن وال يفرق بينهام‪ ،‬فيقول مثال‪:‬‬
‫« وعند اجلهمية اإليامن جمرد تصديق القلب وعلمه‪ ،‬هذا قول جهم‬
‫والصاحلي واألشعري يف املشهور عنه وأكثر أصحابه» (‪.)2‬‬
‫وملا ذكر أهنم محلوا أنواع الكفر التي هي من أعامل القلوب كاإلباء‬
‫واالستكبار عىل أهنا إنام تكون كفرا الستلزامها عدم التصديق الذي هو‬
‫الكفر احلقيقي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫« وهو أصل قول جهم والصاحلي واألشعري يف املشهور عنه(‪ )1‬وأكثر‬
‫أصحابه كالقايض أيب بكر ومن اتبعه‪ ،‬ممن جيعل األعامل الباطنة والظاهرة من‬

‫(‪ )1‬جمموع الفتاوى (‪ .) 400-398/7‬وقد سبق أن مجهور األشاعرة عىل أن هذا التصديق‬
‫موافق للتصديق املنطقي الذي هو أحد قسمي العلم‪ ،‬وأن اختالفهم يرجع إىل كونه مطابقا له أو‬
‫أخص منه؛ ألن الذي يعتربونه يف اإليامن حيتاج إىل االختيار واليقينية‪.‬‬
‫(‪« )2‬منهاج السنة النبوية» (‪.)288/5‬‬

‫‪67‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫موجبات اإليامن ال من نفسه‪ ،‬وجيعل ما ينتفي اإليامن بانتفائه من لوازم‬


‫التصديق‪ ،‬ال يتصور عنده تصديق باطن مع كفر قط» (‪.)2‬‬
‫قال « واملرجئة ثالثة أصناف‪:‬‬
‫‪ -1‬الذين يقولون‪ :‬اإليامن جمرد ما يف القلب‪ ،‬ثم من هؤالء من يدخل فيه‬
‫أعامل القلوب‪ ،‬وهم أكثر فرق املرجئة‪ ،‬كام قد ذكر أبو احلسن األشعري‬
‫أقواهلم يف كتابه [مقاالت اإلسالميني]‪ ،‬وذكر فرقا كثرية يطول ذكرهم‪...‬‬
‫ومنهم من ال يدخلها يف اإليامن كجهم ومن اتبعه كالصاحلي‪ ،‬وهذا الذي‬
‫نرصه هو وأكثر أصحابه‪.‬‬
‫‪ -2‬والقول الثاين‪ :‬من يقول هو جمرد قول اللسان‪ ،‬وهذا ال يعرف ألحد‬
‫قبل الكرامية‪.‬‬
‫‪ -3‬والثالث‪ :‬تصديق القلب وقول اللسان‪ ،‬وهذا هو املشهور عن أهل‬
‫الفقه والعبادة منهم [أي‪ :‬من املرجئة]»(‪.)3‬‬
‫وقال رمحه اهلل‪ « :‬فهؤالء القائلون بقول جهم والصاحلي قد رصحوا بأن‬
‫كفرا‬
‫سب اهلل ورسوله والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كالم الكفر‪ ،‬ليس هو ً‬
‫يف الباطن‪ ،‬ولكنه دليل يف الظاهر عىل الكفر‪ ،‬وجيوز مع هذا أن يكون هذا‬
‫الساب الشاتم يف الباطن عار ًفا باهلل موحدً ا له مؤمنا به‪ ،‬فإذا أقيمت عليهم‬
‫ُّ‬

‫(‪ )1‬سبق التنبيه عىل أن أبا احلسن األشعري رجع عن هذا القول إىل قول أهل السنة‪ ،‬كام‬
‫قرره يف آخر كتبه كاإلبانة‪.‬‬
‫(‪ )2‬جمموع الفتاوى (‪.)535/7‬‬
‫(‪ )3‬جمموع الفتاوى (‪.)195/7‬‬

‫‪68‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫حجة بنص أو إمجا ع أن هذا كافر باطنا وظاهرا قالوا‪ :‬هذا يقتيض أن ذلك‬
‫مستلزم للتكذيب الباطن‪ ،‬وأن اإليامن يستلزم عدم ذلك» (‪.)1‬‬
‫هذا ما قرره شيخ اإلسالم رمحه اهلل‪ ،‬وهو خالصة التحقيق يف املسألة‪ ،‬وكام‬
‫سبق غري مرة فإن األشاعرة أكثر الناس اضطرا ًبا يف كثري من عقائدهم‪ ،‬مثل‬
‫عقيدهتم يف هذه املسألة ويف القرآن وأسامء اهلل احلسنى والقدر وغري ذلك‪،‬‬
‫وغري املتعمق يف كتبهم املتأمل ألقواهلم يستشكل مثل قول شيخ اإلسالم هذا‪،‬‬
‫وهذا ما وقع فيه بعض الباحثني‪.‬‬

‫االعتراض األول‪:‬‬
‫فهذا أحدهم يتساءل ويتجاوب فيقول‪ « :‬لكن هل ينطبق هذا عىل‬
‫متأخري األشاعرة؟ وهل يثبتون تصديقا جمردا من أعامل القلوب؟‬
‫واحلق أن الناظر يف كتب هؤالء املتأخرين يتبني له أهنم ال يثبتون تصديقا‬
‫جمردا عن أعامل القلوب‪ ،‬بل يدخلون يف التصديق‪ :‬اإلذعان واالنقياد والقبول‬
‫والرضا (‪ ،)2‬ويفرقون بينه وبني املعرفة التي أثبتها جهم (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬جمموع الفتاوى (‪ .) 557/7‬وقد سبق أن نقلنا عنهم ترصحيهم بأن التصديق حاصل‬
‫لبعض الكفار‪ ،‬وأن السجود للصنم ونحوه أمارات نحكم هبا كفره فيام يتعلق بأحكام الدنيا فقط‬
‫دون ما بينه وبني اهلل تعاىل‪.‬‬
‫(‪ )2‬وقد سبق أن هذه الكلامت‪( :‬اإلذعان والقبول واالنقياد والرضا ونحوها) ال يريد هبا‬
‫وكل ذي معرفة جازمة‬‫مجهورهم أعامل القلوب‪ ،‬بل بمعنى تعلقها بوقوع النسبة بني الشيئني‪ُّ ،‬‬
‫جيد نفسه تقبلها وتنقاد وترىض وتذعن إلثباهتا‪ ،‬وقد يكون مع ذلك يبغض مقتضاها‪ ،‬ويقاتل‬
‫=‬

‫‪69‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫كام أهنم يقررون كفر كثري من املرشكني وأهل الكتاب الذين كانوا يعرفون‬
‫احلق وال ينقادون له(‪.)3(»)2‬‬
‫وهذا كالم بعيد عن التحقيق‪ ،‬يبطله ما ذكره الباحث نفسه بعد قليل‪،‬‬
‫حيث قال‪:‬‬
‫« واحلاصل أن األشاعرة يشرتطون يف اإليامن‪ :‬اإلذعان واالنقياد‬
‫والقبول وترك العناد والتكرب‪ ،‬لكنهم جيعلون ذلك نفس «التصديق»(‪ ،)4‬ثم‬
‫يتكلفون يف إجياد الفرق بني «املعرفة» و«التصديق»‪.‬‬
‫ولو قالوا‪ :‬إن التصديق جيب أن يصحبه إذعان وانقياد وقبول(‪ ،)5‬لسهل‬
‫األمر‪ ،‬لكنهم يعلمون أن ذلك مبطل ألصلهم الذي بنوا عليه إخراج العمل‬

‫من جيزم أنه عىل احلق؛ ألغراض أخرى‪ ،‬كام كان اليهود وكثري من املرشكني‪ ،‬فهم ال يعنون هبذه‬
‫األلفاظ شيئا زائدا عىل التصديق املجرد‪ ،‬كام يعرتفون به هم‪.‬‬
‫(‪ )1‬سبق أنه ال يوجد فرق سامل بني تصديقهم ومعرفة اجلهمية‪ ،‬إال عند من يدخلون أعامل‬
‫القلوب يف اإليامن منهم‪ ،‬وهم رشذمة قليلة ينكرون عليها ويتربؤون منها‪.‬‬
‫(‪ )2‬مجهورهم يف هذا بني أمرين‪ :‬إما أن يثبتوا كفرهم مطلقا بناء عىل أن التصديق انتفى من‬
‫قلوهبم‪ ،‬وإما أن يقولوا‪ :‬هم كفار يف الظاهر ويف أحكام الدنيا ومؤمنون يف الباطن ويف أحكام‬
‫اآلخرة‪ ،‬وقد سبق تقرير هذا‪.‬‬
‫(‪« )3‬اإليامن عند السلف وعالقته بالعمل وكشف شبهات املعارصين» ملحمد بن حممود آل‬
‫خضري (‪.)251/1‬‬
‫(‪ )4‬مجهورهم بني أمرين‪ :‬إما أن يريدوا هبا أعامل القلوب‪ ،‬فيجعلوهنا رشوطا خارجة عن‬
‫حقيقة اإليامن كعمل اجلوارح‪ ،‬وإما أن يريدوا هبا نفس التصديق فيدخلوهنا يف حده‪.‬‬
‫(‪ )5‬يعني إذا كانوا يريدون هبا أعامل القلوب‪ ،‬وإال فهم يقولون هذا تأكيدا وتوضيحا‬
‫للتصديق فقط‪ ،‬وال يريدون به شيئا زائدا‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫من اإليامن‪ ،‬وهو‪ -1 :‬الزعم بأن اإليامن لغوي‪ ،‬وأن الرشع مل يغري معناه الذي‬
‫هو التصديق‪ ،‬ومل يترصف فيه‪ -2 ،‬وأن اإليامن يشء واحد‪.‬‬
‫وهلذا ملا نقل شيخ اإلسالم عن بعضهم القول بأهنم‪( :‬اختلفوا يف إضافة‬
‫ما ال يدخل يف مجلة التصديق إليه لصحة االسم‪ ،‬فمنها ترك قتل الرسول‪،‬‬
‫وترك إيذائه‪ ،‬وترك تعظيم األصنام‪ ،‬فهذا من الرتوك‪ ،‬ومن األفعال‪ :‬نرصة‬
‫الرسول‪ ،‬والذب عنه‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن مجيعه يضاف إىل التصديق رشعا‪ .‬وقال‬
‫آخرون‪ :‬إنه من الكبائر‪ ،‬ال خيرج املرء باملخالفة فيه عن اإليامن)‪.‬‬
‫علق شيخ اإلسالم بقوله‪( :‬قلت‪ :‬وهذان القوالن ليسا قول جهم‪ ،‬لكن‬
‫من قال ذلك فقد اعرتف بأنه ليس جمرد تصديق القلب‪ ،‬وليس هو شي ًئا‬
‫واحدً ا‪ ،‬وقال‪ :‬إن الرشع ترصف فيه‪ ،‬وهذا هيدم أصلهم‪ ،‬وهلذا كان حذاق‬
‫هؤالء كجهم والصاحلي وأيب احلسن والقايض أيب بكر عىل أنه ال يزول عنه‬
‫اسم اإليامن إال بزوال العلم من قلبه) ‪.‬‬
‫ثم نقل عن أيب املعايل اجلويني وأيب القاسم األنصاري شارح (اإلرشاد)‬
‫ما يفيد أن اإليامن هو التصديق بالقلب‪ ،‬إال أن الرشع أوجب ترك العناد‪،‬‬
‫وعليه فكفر اليهود العاملني بنبوة حممد ‪ ‬هو من هذا الباب‪ ،‬أي كفروا عنادا‬
‫وبغيا وحسدا‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم‪( :‬واحلذاق يف هذا املذهب كأيب احلسن والقايض ومن‬
‫قبلهم من أتباع جهم عرفوا أن هذا تناقض يفسد األصل‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال يكون‬
‫أحد كافرا إال إذا ذهب ما يف قلبه من التصديق‪ ،‬والتزموا أن كل من حكم‬

‫‪71‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫الرشع بكفره فإنه ليس يف قلبه يشء من معرفة اهلل وال معرفة رسوله‪ ،‬وهلذا‬
‫أنكر هذا عليهم مجاهري العقالء وقالوا‪ :‬هذا مكابرة وسفسطة»(‪.)1‬‬
‫نفس التصديق‪:‬‬ ‫ثم قال الباحث ‪( :‬بطالن مذهب من جعل َ‬
‫عمل القلب َ‬
‫قد تبني مما سبق أن متأخري األشاعرة أثبتوا عمل القلب‪ ،‬من القبول‬
‫واالنقياد واإلذعان‪ ،‬لكنهم جعلوا ذلك نفس التصديق‪ ،‬كام يف قول الدردير‪:‬‬
‫(فاإلذعان والقبول والتصديق والتسليم عبارات عن يشء واحد)‪ ...‬وأما‬
‫املتأخرون فقد وقعوا يف التناقض الذي أشار إليه شيخ اإلسالم‪ ،‬فأثبتوا العلم‬
‫والتصديق لكثري من املرشكني وأهل الكتاب‪ ،‬ونفوا عنهم اإلذعان واالنقياد‪،‬‬
‫مع قوهلم‪ :‬إن التصديق هو نفس اإلذعان واالنقياد! (‪ )2‬وهؤالء يلزمهم أن‬
‫يقولوا‪ :‬إن اإليامن الواجب يف القلب أمران‪ :‬التصديق والعمل‪ ،‬وأنه قد يوجد‬
‫التصديق من غري العمل)‪.‬‬
‫وأقول‪ :‬ال يوجد يف األشاعرة من جيعل عمل القلب نفس التصديق‪ ،‬لكنه‬
‫اغرت بألفاظ (اإلذعان واالنقياد والقبول ونحوها) التي جيعلوهنا نفس‬

‫(‪« )1‬اإليامن عند السلف» للخضري (‪ ،)251/1‬وكالم شيخ اإلسالم يف جمموع فتاواه‬
‫(‪.)147-145/7‬‬
‫(‪ )2‬هنا التبس عىل الباحث أمران‪ ،‬وذلك أن األشاعرة يرصحون أحيانا بثبوت العلم‬
‫والتصديق لبعض الكفار‪ ،‬وينفون عنهم (االنقياد واإلذعان والقبول ونحوها) ويعنون هبا أعامل‬
‫القلوب‪ ،‬وجيعلون من حصل له ذلك كافرا يف الظاهر مؤمنا يف الباطن‪ .‬وأحيانا جيعلون هذه‬
‫العبارات نفس التصديق‪ ،‬وهم ال يريدون هبا حينئذ أعامل القلوب‪ ،‬حتى يقال‪ :‬إهنم جعلوا عمل‬
‫القلب نفس التصديق‪ ،‬وهذه التفصيالت تقدم بياهنا يف البحث‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫التصديق‪ ،‬فظن أهنم يريدون هبا أعامل القلوب‪ ،‬وليس األمر كذلك‪ ،‬كام سبق‬
‫بيانه‪.‬‬
‫أما الذين يدخلون أعامل القلوب يف اإليامن منهم‪ ،‬وهم قلة‪ ،‬فيرصحون‬
‫بأهنا يشء زائد عىل التصديق‪.‬‬
‫وقد يوجد يف أقوال بعضهم ما يوهم هذا الذي ظنه الباحث‪ ،‬ولكنها عند‬
‫الرجوع إىل تفصيالهتم املبينة ملجمالهتم‪ ،‬يظهر لك ما بينته‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫االعتراض الثاين‪:‬‬
‫سبق أن التلفظ بالشهادتني عند مجهور األشاعرة ليس جزءا من اإليامن‬
‫وال رشطا لصحته‪ ،‬وإنام هو رشط إلجراء أحكام اإلسالم يف الدنيا‪ ،‬وأهنم‬
‫يفرسون الكفر باجلهل‪.‬‬
‫واعرتض الشيخ أمحد بن عطية الغامدي عىل هذا بكالم جلالل الدين‬
‫الدواين حيث قال‪« :‬والتلفظ بكلمتي الشهادتني مع القدرة رشط‪ ،‬فمن أخل‬
‫به فهو كافر خملد يف النار‪ ،‬و ال ينفعه املعرفة القلبية من غري إذعان و قبول؛ فإن‬
‫من الكفار من كان يعرف احلق يقينا‪ ،‬وكان إنكاره عنادا واستكبارا» (‪.)1‬‬
‫وخ ّطأ الغامدي من ساوى بني مذهب اجلهمية ومذهب األشاعرة يف‬
‫هذا‪ ،‬وهم ابن حزم وابن تيمية وغريمها‪ ،‬بل ذكر أن اخلالف بني األشاعرة‬
‫وبني السلف يف هذه املسألة لفظي فقط؛ ألن الكل متفق عىل رضورة اإلتيان‬

‫(‪ )1‬رشح الدواين للعقائد العضدية (‪. )286-285/2‬‬

‫‪73‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫بالعمل واإلقرار دون تفريط أو تقصري‪ ،‬واملقرص فيهام مؤاخذ عىل تقصريه‬
‫ومعرض للعقاب‪ ،‬وإنام اخلالف بينهم ينحرص يف الرشطية التي قال هبا‬
‫األشاعرة والشطرية التي قال هبا السلف‪ ،‬وذكر أن األشاعرة جيعلون العمل‬
‫واإلقرار رشطا لتحقق اإليامن وكامله (‪.)1‬‬
‫واعرتاضه هذا ليس بصواب؛ فإن تارك النطق بالشهادتني أو اإلقرار‬
‫باللسان عىل ثالثة أنواع‪:‬‬
‫األول ‪ :‬من تركه لعذر كاألخرس‪ ،‬فهذا إذا قامت قرينة عىل إيامنه كاإلشارة‬
‫املفهمة فهو مؤمن يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وال خالف فيه‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬من يرتكه إباء واستكبارا‪ ،‬بأن طلب منه النطق بالشهادتني فأبى‪ ،‬فهو‬
‫كافر فيهام‪ ،‬وال ينفعه اإلذعان بقلبه مطلقا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬من صدق بقلبه ومل يقر بلسانه ال لعذر منعه وال إلباء عند طلب‪،‬‬
‫فهذا عند مجهور األشاعرة مؤمن عند اهلل ومصريه إىل اجلنة‪ ،‬وغري مؤمن يف‬
‫أحكام الدنيا‪.‬‬
‫يقول الباجوري عند كالمه عن النطق بالشهادتني وأنه رشط لإليامن‪:‬‬
‫«أي خارج عن ماهيته‪ ،‬وهذا القول ملحققي األشاعرة واملاتريدية ولغريهم‪،‬‬
‫وقد فهم اجلمهور أن مرادهم أنه رشط إلجراء أحكام املؤمنني يف الدنيا‪...‬‬
‫ُّ‬
‫األقل أن مرادهم أنه رشط يف صحة اإليامن‪ ،‬وهذا القول كالقول‬ ‫وفهم‬

‫(‪« )1‬اإليامن بني السلف واملتكلمني» (ص ‪ ،)285 ،153-152‬مكتبة العلوم واحلكم‬


‫باملدينة ‪ ،1423‬وقد نسب كالم الدواين لإلجيي ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫بالشطرية يف احلكم‪ ،‬وإنام اخلالف بينهام يف العبارة‪ ،‬والقول األول هو‬


‫الراجح»‪.‬‬
‫ضعيف‪ ،‬واملعتمد أنه رشط‬ ‫(‪)1‬‬
‫ثم قال‪« :‬وكل من القولني املذكورين‬
‫إلجراء األحكام الدنيوية فقط‪ ،‬وإال فهو مؤمن عند اهلل تعاىل»(‪.)2‬‬
‫واستشهد عىل ضعفهام بأنه يلزم منهام‪ :‬أن من صدق بقلبه‪ ،‬ومل يتفق له‬
‫اإلقرار يف عمره ال مرة وال أكثر من مرة‪ ،‬مع القدرة عىل ذلك؛ ال يكون مؤمنا‬
‫ال عندنا وال عند اهلل تعاىل‪ ،‬وهذا باطل عندهم!‬
‫فقول الدواين الذي استشهد به هذا الباحث غري معتمد يف املذهب‬
‫األشعري‪.‬‬
‫ويشكل عليه أيضا أن الدواين فرس اإلسالم الصحيح الكامل بأنه االنقياد‬
‫الظاهري والتلفظ بالشهادتني واإلقرار بام يرتتب عليهام‪ ،‬ثم قال‪« :‬وأما‬
‫اإلسالم احلقيقي املقبول عند اهلل تعاىل فال ينفك عن اإليامن احلقيقي‪ ،‬بخالف‬
‫العكس» (‪.)3‬‬
‫ومقتىض هذا صحة انفكاك العكس‪ ،‬أي أن اإليامن احلقيقي املقبول عند‬
‫اهلل تعاىل ينفك عن اإلسالم احلقيقي الذي هو العمل الظاهر والنطق‬
‫بالشهادتني!‬

‫(‪ )1‬يعني القول بأن بالشهادتني رشط لصحة اإليامن‪ ،‬والقول بأنه شطر من اإليامن أي جزء‬
‫منه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رشح جوهرة التوحيد للبيجوري (ص ‪ ،)28-27‬ط عيسى البايب احللبي القاهرة‪.‬‬
‫(‪ )3‬رشح الدواين للعقائد العضدية (‪.)287/2‬‬

‫‪75‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫خاتمة فيها أهم النتائج ‪:‬‬


‫بعد جولة غري قصرية يف خضم كتب األشاعرة اتضح يل ما ييل‪:‬‬
‫‪ -1‬أن مذهب مجهور األشاعرة ‪ :‬أن اإليامن هو التصديق بالقلب فقط‪.‬‬
‫‪ -2‬أن اجلهمية فرست اإليامن باملعرفة‪ ،‬وقد يرصح به بعض األشاعرة‪.‬‬
‫‪ -3‬أن أكثر األشاعرة فرسوا التصديق بام يوافق املعرفة‪ ،‬ومل يذكروا فرقا‬
‫واحدا ساملا بينهام‪ ،‬وقد عرب بعضهم باملعرفة عن التصديق والعكس‪.‬‬
‫‪ -4‬أن النطق بالشهادتني والعمل برشائع اإلسالم عند مجهورهم رشط‬
‫إلجراء أحكام اإلسالم يف الدنيا فقط‪ ،‬دون اآلخرة‪ ،‬ودون ما بني الشخص‬
‫وبني اهلل تعاىل‪.‬‬
‫‪ -5‬أن من َعرف بقلبه صدق حممد ‪ ‬فيام جاء به وبقي عىل السجود‬
‫لألصنام وحماربة النبي ونحو ذلك‪ ،‬هو مؤمن غري خملد يف النار عند مجهور‬
‫األشاعرة(‪ )1‬إال أنه يف أحكام الدنيا يعامل معاملة الكفار‪.‬‬
‫‪ -6‬أن الكافر عندهم هو من انتفى من قلبه التصديق (الذي هو املعرفة‬
‫عىل التحقيق) فقط‪ ،‬والكفر احلقيقي عندهم هو اجلهل‪ ،‬وعىل ذلك محلوا‬
‫كفر كل كافر حتى الذين عرفوا بأهنم كانوا يعلمون احلق كأيب طالب وأيب‬
‫جهل وفرعون وإبليس ونحوهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬وبعضهم يقول‪« :‬التصديق وإن كان موجودا حقيقة‪ ،‬لكن ال اعتداد به رشعا‪ ،‬فهو يف‬
‫حكم العدم‪ ..‬مع تلك األمارات»‪ .‬مصطفى الكستيل يف حاشيته (ص‪.)153‬‬

‫‪76‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫‪ -7‬أن مجهور األشاعرة يشرتطون لإليامن حتصيل التصديق بالكسب‬


‫االختياري واالستدالل املنطقي‪ ،‬والزمه تكفري عامة الناس واملقلدين‪،‬‬
‫ويلتزم بعضهم هذا‪.‬‬
‫هذا ما أردت توضيحه وبسطه ‪ ،‬وأسأل اهلل تعاىل الثبات عىل احلق‪ ،‬واملوت‬
‫عىل السنة‪ ،‬وصىل اهلل وسلم وبارك عىل سيدنا حممد األمني‪ ،‬وعىل آله‬
‫وأصحابه أمجعني‪ ،‬وعىل من سلك سبيلهم واقتدى هبدهيم إىل يوم الدين‪.‬‬

‫وكتبه‬
‫حسن معلم داود حاج حممد‪ ،‬أبو الفضل السليامين‬
‫يف اجلامعة اإلسالمية باملدينة النبوية‬
‫في ‪ 2‬جمادى األولى ‪1431‬‬
‫ثم جرى عليه قلم التعديل يف جمالس خمتلفة‬
‫‪‬‬

‫‪77‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫قائمة الموضوعات‬
‫مقدمة ‪3 ....................................................................‬‬
‫‪ -1‬اختالف األشاعرة يف مفهوم اإليمان ‪5 ..................................‬‬
‫‪ -2‬هل تدخل أعمال القلوب يف اإليمان عند األشاعرة ؟ ‪8 .................‬‬
‫‪ -3‬أوجه التفريق بين التصديق والمعرفة عند جمهور األشاعرة ‪10 .........‬‬
‫الوجه األول‪10 .........................................................:‬‬
‫الوجه الثاين‪12 ......................................................... :‬‬
‫الوجه الثالث‪18 ........................................................ :‬‬
‫إيمان فرعون ! ‪20 .......................................................‬‬
‫التعبير بالمعرفة والعلم مكان التصديق‪27 .............................. :‬‬
‫مذهب جهم وأتباعه‪29 .................................................:‬‬
‫‪ -4‬إدخال بعضهم أعمال القلوب يف التصديق ‪32 ..........................‬‬
‫كالم الجويني واعرتاضاهتم عليه ‪37 .....................................‬‬
‫االحتمال األول‪ :‬كون كالم النفس شيئا دون العلم ‪39 ...................‬‬
‫االحتمال الثاين‪ :‬كون كالم النفس شيئا فوق العلم‪43 ....................‬‬
‫االحتمال الثالث‪ :‬كون كالم النفس شيئا مثل العلم ‪46 ...................‬‬
‫االحتمال الرابع‪ :‬كون كالم النفس العلم نفسه ال غير ‪49 .................‬‬

‫‪78‬‬
‫حقيقة اإليمان عند األشاعرة‬

‫كالم الغزالي واالعرتاضات عليه ‪50 .......................................‬‬


‫االحتمال األول‪ :‬كون التسليم شيئا فوق العلم ‪51 ........................‬‬
‫االحتمال الثاين‪ :‬كون التسليم هو العلم نفسه ‪53 .........................‬‬
‫إنكار جمهور األشاعرة تفسير التصديق بالتسليم ‪58 .....................‬‬
‫فـائدة تصويرية مهمة‪60 ................................................... :‬‬
‫صحة كالم شيخ اإلسالم يف المسألة ورد االعرتاضات عليه ‪66 .............‬‬
‫االعرتاض األول‪69 .................................................... :‬‬
‫االعرتاض الثاين‪73 .................................................... :‬‬
‫خاتمة فيها أهم النتائج ‪76 ................................................ :‬‬
‫قائمة الموضوعات ‪78 .....................................................‬‬

‫‪‬‬

‫‪79‬‬

You might also like